إلقاء اللوم على العلماء
الأمر السابع: هو أننا نلقي باللوم على العلماء.
فإذا رأينا ما رأينا، قلنا: أهل العلم، أو فلان ابن فلان، وقد يستشهد بعضنا بالحديث الذي رواه أبو نعيم عن ابن عباس: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء} فالأمر السابع هو العلماء، تجد أننا نحمل المسئولية العلماء، وكلما حصل شيء قالوا: فلان الله يهديه، فلان لم يقم بدوره، وفلان لم يؤد واجبه، وأحياناً نعمم فنقول: إن العلماء لم يقوموا بدورهم ولم يؤدوا واجبهم، ولست أنكر أن العلماء لهم دور أكثر من غيرهم، وهم رواد الأمه وقوادها وزعماؤها، الذين يجب أن تكون الأمة كلها وراءهم، لكن يجب أن نتفطن هنا إلى القضية الخطيرة؛ قضية دورنا نحن كأفراد، العالم لا يقوم بدوره إلا إذا كان وراءه أفراد كثيرون مثلنا، وكما كان يقول الفارس العربي: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ لو أن خلفي رجال أقوياء شجعان صناديد؛ لرأيتم كيف تكون بسالتي وشجاعتي ونكايتي في العدو، لكن خلفي أناس أعرف أنهم أول من ينهزم في المعركة، وأول من يهرب، ولذلك تأخرت الرماح فتأخرت أنا، ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ والمشكلة أن العالم -أحياناً- يكون كقائد بلا جنود، كما ورد في الحديث: {يا ويله من مسعر حرب لو كان معه رجال} أنت لو وضعت هذا الحب في أرض مبلطة هل تنتظر أن يثمر؟! لا، الحب قابل لأن ينبت الشجر، لكن بشروط: أن يوضع في تربة، ويسقى الماء، ويتعهد ويحمى من المؤثرات حتى يثمر، فالعالم بحد ذاته ممكن أن يحدث حركة ونشاط وعلم وأمر ونهي وتغيير، لكن بشرط: توفر وسائل وإمكانيات أخرى، بشرط: أن يكون وراءه أناس يعرفون قدره ويحفظونه، أما أن ننتظر من العالم أن يؤدي دوره، ونحن ممن يساهم في إسقاطه صباح مساء فهذا غير صحيح، كثير منا، خاصة أهل السنة -مع الأسف- أصبحنا من حيث نعي أولا نعي نقلل من أهمية العلماء، فإذا جلسنا قلنا: فلان من العلماء له أرض كذا وله مؤسسة في كذا، وعنده من الأموال كذا وراتبه كذا، وإذا كان ذلك كذلك، هل ما هو حلال لغيره أصبح حراماً عليه هو؟! من حق العالم أن يستغني، وأن يطلب الدنيا والرزق بما أباح الله تعالى له، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، كما ذكر الله تعالى: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] وهكذا سائر الأنبياء والمرسلين، وكفى العالم فخراً أنه يستغني عن الحرام، ويذهب إلى الحلال المباح الذي أحله الله تبارك وتعالى، ومطلوب منا جميعاً أن نساهم في تحريك اقتصاد الأمة الإسلامية، بأن يكون لكل فرد منا دور.
وإذا لم نجد للعالم شيئاً، وجدنا هذا العالم زاهداً في الدنيا ليس عنده شيء أبداً، أعرف بعض أهل العلم يعيشون في بيوت من الطين، لا يستطيع الواحد منا أن يجلس فيها ساعة أو ساعتين، ركضوا الدنيا بأقدامهم وجعلوها وراء ظهورهم، ومع ذلك ما يسلم منا هذا العالم، فإذا لم نجد عليه عيباً نذهب نبحث ونبحث، ونقول: أولاده غير صالحين ابنه فلان في كذا، وابنه فلان في كذا، يا سبحان الله! هذا إن كان صحيحاً فإنه: أولاً: كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] .
ثانياً: قد يكون من أسباب ما يقع فيه ولده؛ أن هذا العالم كان مشغولاً بما هو أكبر وأهم، كان يحمل قضية الأمة والمجتمع، فهو يذهب ويأتي آمراً ناهياً داعياً معلماً مرشداً مؤلفاً باحثاً، ولذلك انشغل عن القيام بتربية أولاده، أو قصر في ذلك بسبب انشغاله بما هو أهم، من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد.
أحياناً تجد طالب العلم ينال من العالم، فإذا خيل إليه أنه طالب وأصبح يعرف شيئاً من العلم، أصبح لا يجد مانعاً من أن ينال من أهل العلم، فيقول: فلان أخطأ في كذا.
وفلان كذا، وإذا وجد أحداً ينقل فتوى عالم من العلماء قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فنحن جميعاً نساهم في تقليص دور العالم وتأخيره، وبالتالي نقول: لم يؤدِ العالم دوره، العالم يجب أن يقول حينئذٍ: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ(186/21)
العادات الموروثة عن الآباء والأجداد
الأمر الخامس: هو قضية الطبيعة، والجبلة الموروثة، والأخلاق المأخوذة عن الآباء والأجداد.
فكثير من الناس يحتج بأن هذه طبيعة، أبي كان كذا وجدي كان كذا، وأنا أعترف أن هذا له رصيد من الواقع أحياناً، أقرب مثال: قضية الوسواس، الوسواس من أسبابه -أحياناً- أسباب وراثية، فتجده قد يكون في الجد فينتقل إلى الأب ثم الابن بصورة أو بأخرى، هذا قد يحدث، لكن -أيضاً- ليس صحيحاً أن الإنسان مجبور على ما هو مجبول عليه، أو على ما ورثه عن آبائه وأجداده، بل إن التهذيب وارد وممكن، ولذلك تجد الشرع أمر بأخلاق معينة، ونهى عن أخلاق معينة، وتجد أن التربية يمكن أن تصوغ الإنسان صياغة جديدة، وتغير مجرى حياته، وتبدل بعض الأخلاق الموجودة عنده، وتجدد فيه أخلاقاً أخرى حميدة، فليس صحيحاً أن الإنسان يقع أمام جبرية حتمية إلزامية، لا مفر منها، تجاه ما كسبه من آبائه وأجداده أو تجاه الطبائع الموروثة.
وإضافة إلى أن كل طبيعة أو جبلة فيها إيجابيات، أنت قد تكون ورثت عيوباً -مثلاً- عن أبيك وجدك، تقول -مثلاً- من طبيعتنا أن عندنا جبن وخوف، هذا لا نريده لكنه طبيعة.
لكن آباؤك وأجدادك عندهم كرم وأريحية وشهامة، فلماذا حاولت ألا تقلدهم في هذه الخصال الحميدة، فبرزت عندك الخصال الذميمة، واختفت عندك الخصال الحميدة؟!(186/22)
العادات الموروثة عن الشعوب
أما الأمر السادس: قضية الطبيعة فيما يتعلق بالشعوب، أحد المستشرقين الخبثاء اسمه " جيب " له دراسات عن المسلمين والأمة الإسلامية، فيحاول هذا الخبيث أن يوحي للمسلمين؛ بأن المسلمين يعيشون نوعاً من التخلف العقلي الموروث، يقول: طبيعة الشعوب الإسلامية فيها ضعف، وعدم قدرة على التخطيط، وليس عندها بعد نظر.
وهذا أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يريد أن يلقي للمسلمين بإيحاء مؤداه: لا تحاولوا، أنتم مخلوقون هكذا وإلا فهذا الأمر منقوض علمياً وتاريخياً.
لو أتيت بمخ من يسمونه " آنشتاين " صاحب نظرية النسبية، ومخ أي إنسان من المسلمين أو من غير المسلمين، قد لا تجد هناك فرقاً كبيراً، ولا تجد أن هناك شعوباً تتميز بذكاء عن غيرها من الشعوب، بل الأمر مشاع بين الخلق كلهم، أما من الناحية التاريخية: فالحضارة يوماً من الأيام كانت هنا، والتقدم العلمي كان هنا، والأسماء اللامعة في مجالات الاختراع والطب وغيرها كانت من الأسماء الإسلامية، وقد قام المسلمون بدورهم في بناء وتشييد العلم والتقدم والحضارة بما هو معروف، ولا زالت أوروبا تعيش على المناهج العلمية التجريبية الإسلامية.
فنحن قدنا البشرية يوماً من الأيام، وملكنا أقاليم البلاد، وأذعنت لنا الدنيا، وأثبتنا الجدارة في هذا الأمر، وجُربنا فنجحنا، وليست القضية كما يزعم " جيب " أو غيره من أعداء الإسلام.(186/23)
البيئة وانتشار الفساد
الأمر الرابع الذي نلقي عليه أخطاءنا هو: قضية البيئة والمجتمع وانتشار الفساد فيها.
وهذا كثيراً ما نتكلم عنه، فإذا كان هناك من يفعل عادة سيئة، كبيرة أو صغيرة، افترض أنه يدخن -مثلاً- لماذا؟ يقول: هذه عادة أخذناها من الوالد أو عن الزملاء أو عن الجيران، عادة تلقيناها.
وأصبح الواحد منا كأنه مجبور لا خيار له أمام هذه العادات المنتشرة، وكأن الإنسان حينئذٍ ليس له شخصية، ولا اختيار ولا رأي إنما هو إنسان يسمع ما يقوله له المجتمع وينفذ، وكأنه مرآة ينعكس عليها ما يقع في حال الناس.
وهذا -أيضاً- غير صحيح، بل نحن شاركنا في صنع هذه العادات من جهة وأوجدناها، ومن جهة أخرى استأثرناها وقبلناها.
كان هناك خطيب يتكلم على المنابر، وفي يوم من الأيام -على سبيل المثال- تكلم على قضية غلاء المهور، وكثيراً ما ينصح الناس، ويؤكد عليهم ويلومهم ويعاتبهم ويسوق النصوص، وكان عنده بنت فجاء رجل يخطبها، فطلب منه مهراً كبيراً، فقال له: أنت أمس كنت تتكلم عن الموضوع هذا.
قال: وهل تريد أن تكون بنتي أقل من بنات الناس؟! أين الذي كنت تقوله لنا بالأمس؟! يقول: هذه عادات الناس وهذا المجتمع، إذا غير الناس أنا أغير!! إذاً من يعلق الجرس من يبدأ بالتغيير؟ هنا أصبحنا ندور -كما يقال- في حلقة مفرغة، ونستأثر بالعادات والظروف الاجتماعية والأوضاع القائمة، وكأننا نعيش في جبرية لا مفر لنا منها.
وحتى في الأمور الأخرى على مستوى أوسع، عندما ننظر -مثلاً- إلى قضية الاتجاهات العلمية، الأمة بحاجة إلى علماء، إلى أطباء إلى مهندسين إلى مخترعين ومبتكرين واقتصاديين، يحملون هم الإسلام قبل ذلك وبعده، كثير من الناس لا يهتمون بهذه القضايا ولا يكترثون لها؛ لأنهم استوفوا اتجاهاتهم من خلال نظرة المجتمع.
ومن خلال واقع الناس، وغفلوا عن الأمر الآخر، حتى أنك قد تجده -أحياناً- متخصصاً ناجحاً في تخصصه، فيدع هذا التخصص ويتجه ليعمل عملاً يمكن أن يقوم به عشرون إنسان غيره، وهو يحمل تخصصاً نادراً لم يهتم به؛ لأن المجتمع لم يكترث لهذا الأمر ولم يلتفت له.(186/24)
الظروف والأوضاع (الزمان)
أمر ثالث نعلق عليه أخطاءنا: الظروف والأوضاع التاريخية الموروثة.
وهو ما يمكن أن نسميه بالزمان، كثيراً ما نتكلم عن الزمن والحال وتغير الزمن، وننسى أن الشمس التي تطلع علينا هي الشمس التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأن القمر الذي يطل علينا هو الذي كان يطل عليهم، وأن الأرض التي نسكنها هي التي سكنوها، والسماء التي تظلنا هي التي أظلتهم، فالأمور لم يتغير منها شيء، والكون هو الكون، والحياة هي الحياة والأجرام السماوية هي هي، والزمان هو هو، والليل والنهار هما هما، والأمر كما كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا نعيب زماننا والعيب فينا، ما هو الزمان؟ الزمان ليس له حقيقة إلا من خلال وجود إنسان يمر به الوقت، فيستخدمه في طاعة أو في معصية، في خير أو في شر، في صلاح أو في فساد، ولذلك تلاحظون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، كما في الحديث القدسي، في الصحيحين، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار -وفي رواية- لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} وليس المقصود أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى، كلا؛ وإنما بيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: فيما يرويه عن ربه عز وجل: {بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} أي: الدهر إنما هو مخلوق لله عز وجل، فإنه يمر على الناس ويتقلب عليهم بإرادة الله سبحانه وتعالى، والناس يجعلون في هذا الدهر ويملئونه بما شاءوا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: {فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} .(186/25)
القضاء والقدر
أولاً: القضاء والقدر.
فإذا نظرنا إلى المصائب التي تنزل بالأمة، نكبات، احتلال البلاد، تدمير، مشاكل تخلف، كل هذا بقضاء الله تعالى وقدره، وربما يذهب بعضنا إلى أن يستدل بالأحاديث الواردة في آخر الزمان، وما ينزل بالمسلمين والفتن وغربة الإسلام وما إلى ذلك.
إن القضاء والقدر لم يمنع الكفار من أن يتقدموا، بعد أن بذلوا الأسباب واستفرغوا الإمكانيات ومشوا في الطريق، لم يمنعهم القضاء والقدر من أن يتقدموا، ويمشوا خطوات، والإنسان هو الذي يصنع واقعه بنفسه، والقضاء والقدر غيب مكتوم لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهو سر لا يعلمه الإنسان المتخلف والمتأخر والمقصر، لم يعلم أن هذا قدره حتى نفذه، إنما عمله بنفسه، ثم بعدما وقع ما وقع احتج بالقدر، مثل ذلك تماماً: الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب وعلى المعاصي، فإذا كان الإنسان عاصي فاسق، هو بنفسه يخطو خطوات إلى الرذيلة، ويمد يده إلى الحرام، ويفتح فمه للقمة الحرام، ويلبس الحرام، ويركب الحرام، ومع ذلك إذا سئل لماذا؟ يقول: قضاء وقدر.
يا سبحان الله! قضاء وقدر! هذا شأن المشركين، كما قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] وقال: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] وقال أيضاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47] أربعة مواضع في القرآن الكريم، ذكر الله تبارك وتعالى فيها أن الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب والمعاصي، إنما هو شأن الكفار والمشركين.
أما المؤمن فيعلم أن القضاء والقدر واقع، وأن كل شيء بقضاء وقدر، لكن يجعل المسئولية مسئولية نفسه، كما قال أبونا آدم عليه الصلاة والسلام، عندما وقع في المعصية وأكل من الشجرة، لم يقل -هو ولا حواء- قضاء وقدر بل قال الله عنهم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ولذلك يقول بعض أهل العلم: من وقع في معصية فاحتج بالقضاء والقدر، ففيه شبه من إبليس، لأن إبليس لما رفض السجود احتج بالقدر، ومن وقع في المعصية فاستغفر وقال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23] ففيه شبه من أبيه آدم ومن يشابه أباه فما ظلم.
إذاً ليس صحيحاً أن يخطئ الإنسان ويحتج بالقدر، أو يقعد عن العمل ويحتج بالقدر، بل الواقع أن القدر غيب من غيب الله تعالى لا يعلمه إلا الله، والإنسان مطالب بأن يعمل ما ينفعه في عاجله وآجله في دنياه وآخرته، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.(186/26)
الشيطان
الأمر الثاني الذي نعلق عليه أخطاءنا هو: الشيطان.
والشيطان مسلط على بني آدم لا شك في ذلك، وقد نهانا الله تعالى عن أن نتخذه وليا، وأمرنا أن نعاديه فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لكن -أيضاً- الشيطان لم يكن ليبلغ فينا ما بلغ؛ لولا أنه وجد عندنا قابلية، أي أن جرثومة الفسق والانحلال والطاعة للشيطان كانت موجودة في نفوسنا، فلما نفث الشيطان وأرسل أشعته المفسدة المضلة؛ وجدت قابلية وامتصاص في قلوبنا، وبالتالي أفرزت وأثمرت انحرافاً وانحلالاً، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100] إذاً الشيطان لم يكن ليحقق فينا ما يريد، لولا أنه وجد عندنا استجابة، ولذلك الشيطان يوم القيامة يقوم خطيباً في أتباعه، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] انظر، الأمور يوم القيامة برحت وانكشفت وبانت، ولم يعد هناك مجال للتلاعب والتحايل واللف والدوران، أصبحت القضية مكشوفة {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] .
إذاً الذي يحتج بكيد الشيطان قد أصاب من جانب فالشيطان يكيد، لكنه غفل عن الجانب الآخر؛ وهو أن القابلية لهذا الكيد موجودة عنده تماماً، مثل الجراثيم التي تنتشر -أحياناً- في الهواء، هذا إنسان قد أخذ تطعيم ضد هذا المرض فلا يضره ولا يؤثر فيه، ولكن إنسان آخر جسمه ضعيف هزيل أصلاً، فوجد قابلية وبالتالي فعلت الجراثيم فعلها فيه، وقد تكون أمرضته أو أردته صريعاً ميتاً.(186/27)
علاج عدم شعور الفرد بقيمته
كيف نستطيع أن نشعر الفرد منا بقيمته؟ كيف نستطيع أن نحل هذه المشكلة؟ نستطيع أن نحلها بستة حلول أذكرها بإيجاز:(186/28)
إعطاء الفرد دوراً في النقد والتصحيح
خامساً: إعطاء الفرد دوره في النقد والتصحيح.
فالابن والتلميذ والشخص والمواطن، والداعية يعطى دوراً في النقد، كما كان عمر رضي الله عنه، من أقوى الشخصيات، كان الشيطان يخافه حتى أنه يهرب منه، إذا رآه في شارع {ما سلك عمر فجاً، إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه} الناس كانوا يهابونه، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يضطرب الواحد منهم إذا دعاه عمر، ومع ذلك كانوا يصححون له، ولعلكم تعرفون أمثلة كثيرة، مثل قصة الرجل لما قال عمر: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا.
قام واحد من الصحابة، وقال: لا يا عمر، لا سمع ولا طاعة.
قال: لم يرحمك الله؟ قال: عليك ثوبان وعلينا ثوب واحد لا نسمع ولا نطيع.
فقال عمر: أين عبد الله؟ فقال ابن عمر: ها أنا يا أمير المؤمنين.
قال نشدتك الله من أين لي هذا الثوب؟ قال: والله هو ثوبي أهديته لك يا أمير المؤمنين، فقال الرجل: الآن قل يا عمر نسمع ونطيع.
وتعرفون قصة المرأة -إن صحت- وقد حسنها السيوطي وغيره، لما وقف عمر، وقال: لا تغالوا في صدق النساء.
فقامت امرأة وقالت: أخطأت يا عمر، إن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء:20] فيروى أن عمر قال: أخطأ عمر وأصابت امرأة.
حتى على المنبر يعلنها ليس هناك مانع، لا ينقص من قدره، بالعكس مازالت الأجيال تتمدح.
وتتمجد بهذه الأعمال الجليلة والمواقف التي تدل على الثقة بالنفس وقوة الشخصية.(186/29)
عدم المبالغة في العقاب على الخطأ
سادساً: عدم المبالغة في العقاب على الخطأ، فإذا كان هناك داعية أو موظف أو ابن، أو أي نوعية من الناس لك به ارتباط ما، وقع منه خطأ؛ هنا يجب عدم المبالغة في العقاب على الخطأ، بالصورة التي تجعله في المرات القادمة يحسب ألف حساب، ويتولد لديه خوف شديد.
فمثلاً: الأب الذي يعود أولاده على أنه يضربهم بقوة على أي خطأ، تجد هؤلاء الأولاد دائماً عندهم تردد وخوف وهيبة، فلا يقدمون على شيء أبداً، ليس لديهم ثقة بأنفسهم، قد يكبر الواحد منهم وليس عنده ثقة بنفسه؛ لأنه تربى على هذا الأمر.
فينبغي أن نتنبه لهذه الأمور، وبعض هذه الأمور أمور تربوية يحتاج إلى أن تتربى عليها الأجيال، حتى يخرج عندنا أناس واثقون بأنفسهم.
وفي نهاية هذه المحاضرة أقول -كما قلت في عنوانها-: نحن جميعاً وبشكل فردي المسئولون، مسئولية كبيرة عما يحدث لنا كأفراد، وعما يحدث للأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(186/30)
تحقيق الشورى
ثانياً: من أهم الوسائل: تحقيق الشورى.
أن نحرص على تحقيق الشورى، والشورى لها أثر عظيم في إشعار الفرد بقيمته، وذلك لأنك إذا استشرت الإنسان جعلته أمام مشكلة يفكر فيها ويحس أنه طرف فيها، الشورى على كل مستوى، خذ مثلاً: أنت تريد أن تربي أولادك، استشرهم في أمورهم، إذا أردت أن تشتري له ثوباً أو حتى لعبة أو أي قضية؛ اجعل له رأياً في هذا الموضوع، عوده على أن يساهم في التفكير في هذه القضايا، وألا يتعود على أن هناك أشياءً تفرض عليه وتقدم له فقط، لابد أن ننفذ الشورى، كذلك الأستاذ مع طلابه، الداعية مع من يدعوهم إلى الله تعالى يربيهم على المنهج الصحيح يربيهم على الشورى، وأن يكون الأمر أمرنا جميعاً، هذا شأننا كلنا، حتى لو فرض وقوع خطأ فيما بعد نتحمله جميعاً، ولا نرجع فنقول: أنت المسئول لأنك فعلت شيئاً باستبداد دون رأي منا ولا مشورة، فنحن جميعاً تشاورنا وانتهينا إلى هذا الأمر، فإن كان خطأً فنحن جميعاً مسئولون عن هذا الأمر الذي وقع.
ولذلك لم يكن أحد أكثر مشاورة من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، مع أنه معصوم ومؤيد بالوحي من السماء، لكن ليعلم الناس أن من أهم وسائل إشعار الناس بقيمتهم؛ أن نشاورهم، ولذلك لا شيء يفقد قيمة الفرد مثل الاستبداد، إذا كان إنسان مفروض عليه كل شيء، حتى الثياب التي يلبسها، وحتى المدرسة التي يدخلها، والعمل الذي يقوم به، والكتاب الذي يقرؤه، والشريط الذي يسمعه، وكل شيء مفروض عليه وليس له فيه خيار، هنا يفقد الشخص قيمته كإنسان، ويصبح مجرد آلة.(186/31)
إشراك الناس في تحمل المسئولية
ثالثاً: أن نحرص على أن نشرك الناس في تحميلهم المسئولية، في كل شيء، في الدعوة، في التعليم، في قضاء الوقت، ونجعل للسمع والطاعة حدوداً.
المشكلة -أحياناً- أننا نخلط بين قضية السمع والطاعة، أو نجعل السمع والطاعة بديلاً عن تحميل الناس المسئولية، أنت في عمل معين، أستاذ أو مشرف في مركز صيفي، أو حلقة تعليم، أو في حلقة تحفيظ قرآن، أب في البيت -كما أسلفت- أي صورة من الصور، فرق بين أن يكون هم ك أن تعود من أمامك السمع والطاعة، لأن كثيراً من الناس يطيب له ويلذ له؛ أن يكون سيداً زعيماً إذا أشار قال الناس سمعاً وطاعة، يعجبه ذلك ويرتاح لهذا، لكن لا ينبغي أن ننساق مع هذا الأمر الذي نحبه.
ينبغي أن ندرك أنه يجب أن نربي أناس يكون لهم مشاركة حقيقية في تحمل المسئولية، هذا له كذا وهذا له كذا، ولذلك بعض العقلاء الفاهمين المدركين لأمور الإدارة؛ تجده إذا كان عنده عمل يوزعه بين مجموعة من الأفراد، أنت عندك كذا وأنت عندك كذا، وبالتالي هو مجرد مشرف يتابع ما حدث، مثلاً رحلة يريد أن يخرج بها مجموعة، بدلاً من أن يكون هو كل شيء من الألف إلى الياء، هو الذي يعد البرامج الثقافية والفنية، وهو الذي يأتي بالأطعمة، وهو الذي يأتي بالأواني، وهو الذي منه السيارة، وهو الذي يحدد المكان، وهو الذي يحدد الزمان، بل اجعل كل إنسان له دور، وهو له دور آخر يمكن يكون مع هؤلاء جميعاً.
فكل إنسان له جزء من المسئولية يتحملها.
وبالتالي برزت شخصيته، أصبح إنساناً يشعر بقيمته، وليس مجرد شجرة صغيرة نبتت في الظل، ليس فيها قوة ولا نماء ولا خضرة.
هذا لا يصح.
مما يتعلق بموضوع تحمل المسئولية والمشاركة في ذلك، في نفس مثال: موضوع التعليم، الآن في كثير من الأحيان تجد التعليم يعتمد على أن واحد يتكلم والباقون يستمعون ويسجلون، حتى في الجامعات وغيرها، أو أستاذ يلقي والطلاب يكتبون.
وفي النهاية يختبرون.
إذاً لم يعد للطالب دورٌ ولم يعد له مسئولية، لكن عند السلف على الأقل كان الطالب يحفظ ويقرأ، وبالتالي له دور في التعليم، يشارك في العملية، يتحمل قسطاً من المسئولية، فضلاً عن قضية إعداد البحوث، فضلاً عن التدريس -أحياناً- حتى الطالب يشارك في التدريس، كما كانوا يسمونه عند السلف معيداً؛ لأنه يلقي الدرس بالنيابة عن الشيخ، فيكون هناك مشاركة في تحمل المسئولية.(186/32)
التربية على الإقدام وعدم الخوف من الفشل
رابعاً: التربية على الإقدام ونزع الخوف من الفشل.
كثير من الأحيان، الإنسان يستطيع أن يعمل أشياء كثيرة، لكن يمنعه الخوف من الفشل.
مثال: تريد أن تتكلف أمام مجموعة من الناس نصيحة كلمة توجيهية، أول أمر يخطر بالبال هو أنه يمكن أن تفشل، عندما تقف تغلق الأبواب في وجهك فلا تستطيع أن تتكلم في شيء، يرتج عليك، أو تقول كلاماً خطأً أو ترتبك، إذاً خوف الفشل يدعوك إلى الإحجام، قل مثل ذلك أي عمل، علم دعوة تجارة، تجد الإنسان يمنعه الخوف من الفشل من الإقدام على هذا العمل، والواقع أن الإنسان يحتاج إلى قدر من الإقدام، والجرأة والشجاعة مع الضبط والحكمة والتخطيط السليم، والإعداد الجيد، حتى يبني نفسه بناءً صحيحاً، ويشارك في تحمل المسئولية مشاركة فعالة.(186/33)
الشعور الجماعي بالمسئولية
أولاً: إن من الضروري أن نشعر بالمسئولية جميعاً، وأن نحس بالمسئولية، وأقول: لو خرجنا من هذه المحاضرة وكل فرد منا يحس بأنه مسئول، أعتبر أن هذا مكسب عظيم ونتيجة جبارة، وهذا أمر واضح؛ لأن الأمر كما قرأت لكم {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدا} [مريم:93-95] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عمر وهو متفق عليه: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} فلم يستثن صلى الله عليه وسلم أحداً حتى المرأة، حتى الولد، حتى العبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، الجميع راع ومسئول عن رعيته، إذاً القضية الأولى: أن نشعر جميعاً بالمسئولية تجاه ما يقع في القريب أو البعيد ولابد من ذلك.(186/34)
من وسائل التعلم
القدوة أمرٌ هام في حياة طالب العلم الذي أصبح اليوم وكأنه لا قدوة له، وطلب العلم الذي يعد في عصرنا اليوم معلماً هاماً من معالم الحاضر ومؤشراً صحيحاً في طريق المستقبل استدعى جهوداً كبيرة من العلماء والمربين والمخلصين في هذا الاتجاه، والعلم ليس باباً واحداً يدخل منه وإنما هو أبواب وأشكال مختلفة له وسائله وضوابطه.(187/1)
الشباب وطلب العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا نجوماً يهتدى بهم في الظلمات، والذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، والذين حملوا مشعل الهداية للبشرية، فهدى الله بهم من الضلالة، وبصَّر بهم من العمى، وجمع بهم بعد الشتات والفرقة.
أيها الإخوة: إن هذا الإقبال الكبير على طلب العلم لدى شباب الصحوة الإسلامية في كل مكان، يحتم على طلاب العلم والموجهين والعلماء وغيرهم طرق هذه الموضوعات، والحديث عنها، وتبصير الشباب بالوسائل والسبل الصحيحة المؤدية إلى تحصيل العلم والمحافظة عليه.(187/2)
من وسائل التعلم الفطرية
أيها الإخوة: والوسائل للتعلم كثيرة: يروى عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يقول: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ثم يذكر هذه الست، ويقول: ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان وهذه الأشياء الستة ذكرها الإمام أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم بصيغة أخرى فنسب إلى بعض القدماء، أو بعض الأوائل، أنهم قالوا: لا ينال العلم إلا بستة أمور.
وذكر من هذه الأمور: الذهن الثاقب، وكثرة العمل، وطول الزمان، والأستاذ الحاذق وذكر بقية الستة المتعلقة بالبلغة، وشهوة العلم، هذه الأمور الستة المنقولة عن الإمام الشافعي، وعن الإمام علي بن أبي طالب أيضاً، والتي نسبها الإمام أبو هلال العسكري لبعض الأوائل يمكن أن نقسمها إلى قسمين: أشياء فطرية موهوبة، بمعنى أنها أشياء موجودة في فطرة الإنسان، تُخلق مع الإنسان وهي محض مِنَّةٍ، وهبة إلهية، وإن كان الإنسان قد يستطيع أن ينميها، لكن لا بد أن يوجد أصلها في فطرة الإنسان، وجبلته، وهي الذكاء، وقوة الذاكرة، والحرص، فهذه الأشياء الثلاثة هي في الغالب موهوبة.
والمقصود بالذكاء، أو ما عبر عنه بعض الأوائل بالذهن الثاقب: هو ما يمكن أن نعبر عنه بقوة الاستنباط، وسعة العقل، فإن الإنسان الذي يريد أن يحصل على العلم لابد أن يكون لديه قوة في عقليته، وقدرة على الاستنباط، هذه الأولى.
الثانية: هي ما عُبِّرَ عنها بالذاكرة، ويقصدون بها قوة الحفظ، وقد عبر عنها أبو هلال بكلمة الطبيعة -أي: الشيء الذي يطبع عليه الإنسان- فقوة الذاكرة لابد منها لطالب العلم، والفرق واضحٌ جداً بين قوة الاستنباط، وبين قوة الذاكرة، فقد يستطيع طالب العلم أن يحفظ نصوصاً كثيرة، وأن يستظهرها؛ ولكن ما لم يكن لديه قوة في الاستنباط، والفهم، والعقلية، بحيث يستطيع أن يجمع بين هذه النصوص، ويستخرج منها معنىً كلياً عاماً ويوفق بين مظاهره، وما تعارض منها ويستخرج منها معانٍ دقيقة قد لا يتفطن لها غيره، فإن هذه الأشياء التي حفظها لا تكون كافيةً في تحصيله.
والعكس بالعكس فقد يكون لدى الإنسان قوةً في استنباطه، لكن لا يكون لديه النصوص التي يستطيع أن يستنبط منها ويستخرج منها المعاني والأحكام، ويجمع بينها، ومع أن الذاكرة، أو قوة الحفظ هي محض امتنان، وتفضل من الله عز وجل، إلا أن الإنسان يستطيع أن ينمي ذاكرته.(187/3)
القصد والغاية من طلب العلم
أنت حين تتعلم الحلال والحرام، والحق والباطل ماذا تقصد من وراء ذلك؟! هذا السؤال أرجو أن يوجهه كل فردٍ منكم إلى نفسه، تعلُّم الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، ماذا يقصد من ورائه؟ إن كان يقصد من ورائه العمل والتعليم، من تعلِّمه أن تُعلِّم نفسك وتقبل على العبادة، وعلى الخلق الفاضل والتربية، فهذه ثمرة عظيمة من ثمرات العلم، فيجب ألاّ تشتط بنا النظرات وردود الفعل، فيصبح الإنسان أحياناً ينساق وراء بعض الأشياء دون تأمل، ولا تدبر، فالعلم معنى واسعٌ شامل.
فالتربية من العلم، وتعلم الخلق الفاضل، وتعلم العبادة والخشوع، وتعلم الحلال والحرام، وحفظ القرآن كل ذلك من العلم، والعمل بهذه الأشياء من العلم، والدعوة إليها من العلم.
ولو تأملت أسلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في تلقي العلم وتعليمه والعمل به لوجدت أمراً عجباً، يأتي الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، أو إلى مكة قبل الهجرة، فيجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فيسمع منه الآيات والأحاديث المعدودة ويحفظها ويفهم معناها، ويعمل بها، ثم يرجع إلى قومه منذراً لهم معلماً داعياً، ولا يعني هذا أنه توقف عند هذا الحد، بل يعود مرةً أخرى، وثالثة، ورابعة، ويتزود من العلم، ومنهم من يوقف نفسه على طلب العلم تعلمه وتعليمه، لكن لم يكن في ذهن هؤلاء الصحابة أن العلم شيءٌ والتعليم شيءٌ، والتربية شيء! لا، كل هذه الأشياء كانت عندهم شيئاً واحداً.
ولذلك تحفظون -جميعاً- كلمة أبى عبد الرحمن السلمي رحمه الله التي قال فيها: [[كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا عشر آيات حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً]] .
إذاً: العلم والعمل شيءٌ واحد، والعلم أصلاً ما شرف إلا من أجل العمل، خاصةً العلم العملي الذي يعمل به، وكذلك علوم العقائد شرفت بشرف المعلوم، ولأجل أن يعتقدها الإنسان، أما لو تعلم إنسان هذه العلوم فلم يعتقدها، ولم يؤمن بها، لكانت وبالاً عليه.(187/4)
ضرورة التوازن في شخصية طالب العلم
أيها الإخوة: وقبل أن أدخل في موضوع الوسائل التي يستطيع المسلم والشاب خاصةً، أن يحصل بها على العلم أحب أن أشير إلى قضية على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، ألا وهي: قضية ضرورة التوازن في شخصية المسلم، فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا من أجل أن نحصل المعلومات ونخزنها في عقولنا فحسب، والإنسان لا يرتفع قدره في الدنيا والآخرة بمجرد أن يكون واعياً، أو راوياً أو حافظاً، وقد قيل لأحد العلماء: إن فلاناً يحفظ كتاب القاموس المحيط في اللغة للـ الفيروز آبادي فلم يكترث ولم يأبه بذلك بل قال: وإذا حفظ فلانٌ كتاب القاموس المحيط في اللغة كان ماذا؟ زاد في نسخ القاموس نسخة!! إذاً: من الخطأ أن يكون همنا اليوم مجرد جمع المعلومات وخزنها وتحصيلها، وإذا كان هم الشاب اليوم مجرد جمع المعلومات، فإنه يُخشى أن يكون هذا لغير الله -نسأل الله السلامة- لأن الشاب يحب أن يفاخر في المجالس بمحفوظاته، أو أن يدل بها على غيره، أو أن يباهي بها العلماء، أو يماري بها السفهاء، أو يصرف بها وجوه الناس إليه، فيكون همه جمع هذه المعلومات، وأنت إذا قرأت في القرآن والسنة وكتب أهل العلم وجدت أن العلم عند السلف يختلف كثيراً عن مفهوم العلم عندنا اليوم، وفى أذهان الكثير منَّا ليس مفهوم العلم في القرآن والسنة، وعند العلماء هو مجرد كثرة المعلومات، والمحفوظات في ذهن الإنسان.
بل العلم في القرآن والسنة، وفي كتب السلف مفهومٌ واسعٌ يشمل تعلم علوم الكتاب والسنة، والتفقه فيها، والعمل بها، والخشوع والدعوة إليها، كل هذه الأشياء داخلةٌ في مفهوم العلم، ولو أردتُ أن أذكر لكم بعض الأمثلة من الآيات والأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين في هذا الباب لطال بنا المقام، ويكفي أن ترجع إلى كتاب من كتب أهل العلم لتجد هذا واضحاً جلياً: اقرأ -مثلاً- المقدمة التي وضعها الإمام الدارمي لكتابه الموسوم بالسنة، واقرأ كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله للإمام ابن عبد البر، وغيرها من الكتب الكثيرة التي تتحدث عن العلم والتعلم والفقه والتفقه، تجد أن العلم في القرآن والسنة وعند السلف لا يعني مجرد تحصيل المعلومات؛ بل يشمل معنى أوسع من ذلك، ومع الأسف الشديد كثير من الشباب اليوم حين يطلقون كلمة العلم لا يقصدون بها إلا مجرد حقن المعلومات في الأذهان.
يقول الشاب -مثلاً-: أنا لم أحصل من العلم على شيء، فإذا جئت إليه وجدته قد حفظ القرآن، ويقول: لم أحصِّل من العلم شيء، إذاً فما هو العلم إن لم يكن القرآن هو أساس العلم وأصله، وماذا يكون القرآن إن لم يكن علماً، ألم تقرأ قول الله عز وجل عن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] .
وكذلك تجد الشاب مقبلاً على العبادة، والخشوع، والصلاة، وقيام الليل، ويقول: لم أحصل على شيء من العلم.
وتجد شاباً ثالثاً يعيش في وسط مجموعة من قرنائه، وأصحابه الفضلاء يتلقى معهم التربية، وفن المعاملة، وأسلوب التخلق بالخلق الكريم، فيقول: لم أحصل على شيءٍ من العلم.(187/5)
القدوة لطالب العلم
وللشاب المسلم -وهو يسعى في طلب العلم اليوم- أسوة وقدوة بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والذين كان منهم شبابٌ في مقتبل أعمارهم قضوا حياتهم في طلب العلم وتحصيله والعمل به، ثم في أدائه ونقله إلى الآخرين.
يروي الإمام الدارمي في سننه وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على كتاب فضائل الصحابة، وابن سعد والبيهقي، والحاكم وغيرهم بسند صحيح، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى رجل من الأنصار، فطرقت عليه بابه وقلت له: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا العلم، فإنهم اليوم كثير.
فقال له هذا الأنصاري: واعجباً لك يا ابن عباس! أتظن الناس يحتاجون إليك، وفى الأرض اليوم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هذا الجم الغفير، قال: فتركته وذهبت أطلب العلم، وإنه ليُذْكر لي الحديث عند رجلٍ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأذهب إليه، فأجده نائماً وقت القيلولة، فأتوسد ردائي عند بابه، فتهب الريح فتسفي عليَّ التراب، فيقوم خارجاً ليصلي العصر، فيجدني نائماً عند بابه فيقول: ما الذي جاء بك يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقول له: ذُكرَ لي أن عندك حديث كذا وكذا، فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: فهلاّ أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: العلم أحق أن يؤتى إليه، قال: فتعلمت حتى مات كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتاج الناس إليَّ، فكان ذلك الرجل الأنصاري يمر بي والناس حولي يسألونني، فيقول لي: يا ابن عباس! كنت أعقل مني]] .
وللشاب المسلم اليوم أسوةٌ وقدوة بهذا الحبر الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنه، الذي لم تمنعه مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يمنعه علوُّ نسبه وعلوُّ قدرهُ ولم يمنعه تقديم الخلفاء له كما كان عمر رضي الله عنه يقدمه ويُجلسه في مجالس المهاجرين والأنصار، لم يمنعه كل هذا من طلب العلم، والتواضع في سبيل ذلك.(187/6)
وسائل تنمية الذاكرة وتقويتها
وقد ذكر العلماء قديماً وحديثاً وسائل كثيرة لتنمية الذاكرة، وتقويتها فمن هذه الوسائل مثلاً:(187/7)
رفع الصوت
ومن الوسائل المعينة على الحفظ -أيضاً- رفع الصوت بما تريد أن تحفظه، أو تقرأه، فإن رفع الصوت يجعل هناك أكثر من حاسة تشارك في عملية التعليم، فالبصر يشارك في القراءة، والأذن تشارك في السماع، وقد يكون انتباه الإنسان لما يرى ويسمع، أكثر من انتباهه لما يقرؤه قراءةً مجردة بدون رفع صوت.(187/8)
السهر
من الوسائل المعينة على الحفظ: السهر ولذلك من طريف ما يروون، أن أبا حنيفة رحمه الله سُئِلَ ما هو الشيء الذي يقوي الذاكرة؟ فبماذا أجاب أبو حنيفة؟ القدماء كان يشيع عندهم أقاويل قد لا تثبت للنقد الصحيح أنَّ -مثلاً- شُرب العسل، يقوي الذاكرة، وكذلك أكل ألوان معينة من الطعام، وأن ترك أشياء معينة من الطعام والشراب -أيضاً- يساعد على الحفظ، فيقولون: إن أكل التفاح -مثلاً- يضعف الذاكرة وكل هذه الأشياء تحتاج إلى دراسة طبية صحيحة، تثبت إن كانت هذه الأشياء حقيقية أم لا وقد تكون هذه الأمور نسبية، وقد يكون بعضها غير صحيح، فـ أبو حنيفة رحمه الله لما سُئِلَ ما الذي يقوي الذاكرة؟ أجاب بجواب طريف قال: الذي يقوي الذاكرة هو: البزر، والبزر هو نوع معين من النبات يستخرج منه الدهن، ويقصد أبو حنيفة رحمه الله هذا الدهن الذي توقد عليه السرج في الماضي، أي: الذي يقوي الذاكرة، هو السهر في طلب العلم، ولعله يقصد بهذا الجواب أمرين: أولاً: أن التكرار والتفرغ للقراءة يقوي الذاكرة.
ثانياً: ما أشرنا إليه قبل قليل أن استمرار الإنسان في الطلب يوسع من ذاكرته وعقليته كما أشار إلى ذلك الزهري، في كلمته السابقة.
إذاً: قوة الذاكرة، من الوسائل الموهوبة لتحصيل العلم.(187/9)
شهوة العلم
من الوسائل الموهوبة هي: شهوة العلم، أو ما عبر عنه الشاعر بالحرص على طلب العلم والحرص -أيها الإخوة- في غاية الأهمية ولذا يلاقيني -في واقع الحياة كثير- من الأشخاص يكون لدى الواحد منهم عقليةً ممتازة، وذاكرةً جيدة، حتى إنه قد يقرأ مثلاً رقم السيارة مرة واحدة فيحفظه بدون تكلف، وقد تجد الواحد منهم يحفظ مئات أو آلاف من أرقام التليفونات وغيرها، وتجد الواحد منهم يتمتع بقدرات قوية، جداً؛ لكن مع ذلك تجد هذا الشخص يعيش على الهامش -كما يقولون- ليس له قيمة ولا شأن فتبحث لماذا؟ فتجد أن: الشرط الأول: موجود عنده، وهو: قوة الاستنباط ووجود عقلية ممتازة لديه.
والشرط الثاني: وهو الذاكرة القوية موجودة عنده أيضاً.
ولكن اختفى عند هذا الشخص الشرط الثالث: وهو الحرص أو شهوة العلم.
والمقصود بشهوة العلم أن يكون لدى الإنسان رغبةً نفسية في الطلب والتحصيل، ولا شك أن الإنسان يستطيع أن يُنمَّي هذه الرغبة، وخاصة المسلم حينما يقرأ النصوص الواردة في فضل العلم والعلماء، ومكانتهم في الدنيا والآخرة، فتنمو لديه هذه الرغبة؛ لكن ما لم توجد الرغبة أصلاً فإن هذا الإنسان قد لا يواصل في طلب العلم، وقد لا يبلغ فيه مبلغاً عظيماً، فوجود رغبة فطرية في طلب العلم، شرطٌ أساسيُ وهذا الشرط يحقق لك فوائد عديدة منها: أنه يحقق لك سرعة التحصيل، لأن الإنسان إذا كان لدية شهوةً في تحصيل هذا الأمر، فإنه يصل إلى ذهنه سريعاً.
وأضرب لذلك مثلاً: لو اُفترض أن مسألة ما أشكلت عليك وأنت -مثلاً- تؤدي عبادة من العبادات، وقعت في خطأ أو في مشكلة لا تعرف كيف الخلاص منها، ولا تعرف حكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فهنا وجد ما يسميه علماء التربية، وعلماء النفس المعاصرون " بالدافع " وجد دافعٌ نفسي عندك للتحصيل ومعرفة الحكم؛ فهذه الشهوة لتحصيل العلم، تجعلك حين تعرف الحكم تحفظه، ولا تنساه؛ لكن لو سمعت كلاماً طويلاً عريضاً في موضوع لا يهمك فسرعان ما تنسى هذه المعلومات، وتضيع منك.
إذاً: فشهوة العلم والحرص الحقيقي للعلم يحقق لك أولاً: سرعة التحصيل.
ثانياً: ضبط وحفظ المعلومات الموجودة لديك، ولذلك فإن المعلم الناجح هو من يثير لدى الطالب الدافع الفطري للتحصيل، وأنتم تعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعمل هذا الأسلوب كثيراً، من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، وصيامِ، وصدقةٍ، وحجٍ، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار} .
مثال آخر حديث: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر} وهناك مثال آخر مشهور، وهو ما رواه الشيخان في صحيحيهما في قصة عبد الله بن عمر، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وسألهم قائلاً: {إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها مثلها مثل المسلم، أخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فوقع في نفسي أنها النخلة، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم، فاستحييت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة، قال: يقول عمر رضي الله عنه: والله لو أنك قلتها لكان أحب إليَّ من كذا وكذا} .
المهم أن إثارة الدافع لدى المتعلم من أهم الوسائل في التحصيل، فهذا من فوائد وجود شهوة العلم، والرغبة في التحصيل.
ومن الفوائد أيضاً: قدرة المتعلم على تجاوز العقبات، لأن العلم يعترض تحصيله عقبات كثيرة، منها: عقبات من داخل النفس، وعقبات من البيت، وعقبات من المجتمع، وعقبات كثيرة، فالإنسان يتحرك بقدر الدافع، فإذا كان الدافع قوياً يمكن أن يتحرك الإنسان في طلب العلم إلى الموت، ولذلك سُئل عبد الله بن المبارك رحمه الله، وكان يحمل الدفاتر وينقل ويكتب العلم طيلة عمره، فقيل إلى متى يا عبد الله؟ قال: إلى الموت لعل الكلمة التي سأستفيد منها لم أسمعها بعد.
وهذا تطبيق عملي لقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] إذاً هذه ثلاث وسائل، هي في أصلها موهوبة، وإن كانت تنمى وتقوى لمن كان معه أصلها.
ننتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي هي من عمل الإنسان وكسبه.(187/10)
توجيه الهم إلى شيء واحد
تفريغ الهم أو توجيه الهم إلى شيء واحد: بمعنى أن الإنسان إذا أراد أن يحفظ شيئاً عليه أن يحرص على توجيه فكره وهمه إلى هذا الشيء الذي يريد أن يحفظه، فلو أردت أن تحفظ وأنت مشغول البال -مثلاً- بأمرٍ يفرحك، أو أمرٍ يحزنك، أو يشغل بالك، أو في حالة غضب، فإنك لا تستطيع أن تحفظ، أما إذا كان مزاج الإنسان معتدلاً ونفسه مرتاحة، ثم فرغ نفسه من الشواغل، ووجه نفسه إلى هذا الشيء الذي يريد حفظه، أفلح في حفظه.(187/11)
التعود على الحفظ
ومن وسائل الحفظ وتنمية الذاكرة، تعويد الإنسان نفسه على الحفظ، فإن الذاكرة كأي موهبةٍ أخرى إذا اعتني بها نمت وإذا أهملها الإنسان ضمرت وضعفت، وهكذا كل الأعضاء التي عند الإنسان إذا نماها نمت، وإذا أهملها ضعفت، ولذلك كان الإمام الزهري رحمه الله يقول: " إن الإنسان ليطلب العلم وقلبه شعب من الشعاب، فما يزال في الطلب حتى يكون قلبه وادياً من الأودية، لا يوضع فيه شيءٌ إلا التهمه " أي أن القلب في بداية الطلب شعبٌ صغيرٌ من الشعاب، ومع استمرار الطلب، والحفظ، وتكرار الحفظ، وتعويد الذاكرة، ينمو قلب الإنسان، وعقله، وتتسع ذاكرته، ويصبح لديه قدرة على الحفظ.(187/12)
التكرار
سمعتُ كثيراً من الشباب يتبرمون من ضعف الذاكرة، ويظن الواحد منهم أن الذاكرة القوية التي يتمتع بها غيره هي ذاكرة جبارة على الدوام، وأن هؤلاء الموصوفين بسرعة الحفظ يسمع الواحد منهم النص مرة ثم يحفظه أبداً، وهذا قد يوجد لكن الغالب أغلبية كبيرة أن الموصوفين بالحفظ، إنما يكون عندهم نوعُ تميزٍ بالحفظ نمى هذا التميز بكثرة المحفوظات، وبتكرار ما يريدون حفظه.
هل تظن أيها الشاب أن قراءتك -مثلاً- لكتاب ما مرة واحدة يكفي لتفهم ما في هذا الكتاب! أقول: من الخطأ أن تظن ذلك وكبار العلماء والأدباء وغيرهم يؤكدون أن الشيء لا يُحفظ أو يُضبط بمرة أو مرتين أو ثلاث.
كان العقاد الأديب المشهور يقول: " لأن أقرأ كتاباً واحداً ثلاثة مرات أحب إلي من أن أقرأ ثلاثة كتبٍ مرة واحدة " لأن تكرار قراءة الكتاب أو النص تُعين على ضبطه، أو حفظه، ولا بد أن تدرك أن من أهم وسائل الحفظ تكرار ما يراد حفظه، والتكرار يختلف، فبعضنا قد يحفظ من عشر مرات، وبعضنا قد يحفظ من عشرين، وبعضنا يحفظ من أكثر من ذلك، وكل إنسانٍ عليه أن يكرر الشيء الذي يريد أن يحفظه حتى يحفظه.(187/13)
وسائل التعلم التي هي من عمل الإنسان وكسبه(187/14)
طول الزمان
طول الزمان، وهذه الوسيلة -أيها الشاب- يجب أن نقف عندها، فإني رأيت بعض الإخوة من حرصهم على العلم، وعلى التحصيل، وعلى دفع الجهل عن نفوسهم، ومن ملاحظتهم أن الناس من حولهم بدءوا يتعلمون، أصبح الواحد منهم لديه اندفاع غريب لتحصيل العلم، هذا الاندفاع تحطمت أمامه قضية التدرج وقضية عامل الوقت؛ بحيث أصبح الشاب يريد أن يجمع العلوم كلها في يوم وليلة، وقد نقل عن بعض الأذكياء أنه كان يقول: من أراد أن يحصل على العلوم كلها فيجب على أهله أن يداووه فإنما وقع في هذا التصور لشيء اعتراه، فهذا الرجل يصف الذي يحرص على تحصيل العلوم كلها في يوم وليلة، بأنه أقرب إلى الجنون، وأنه يجب على أهله أن يعالجوه من ذلك، وهذا المعنى يجب أن يفطن له الشباب، فلا بد من طول زمان لتحصيل العلم، والعلم الذي يأتي بسرعة يذهب بسرعة، ومن غير المعقول أن يحصل الشاب على ألوان وأنواع العلوم في أشهر، أو في سنوات، وإنما يتصور بعض الشباب هذا لسبب وهو جهلهم؛ فإن الإنسان الذي يجهل العلم يظن أن العلم أمراً يسيراً أما إذا تفتح الإنسان على بعض العلوم بدأ يدرك أن العلم بحر ليس له ساحل، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد معرفةً بجهله، كما قال الشاعر: وكلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي أي أن الإنسان إذا عرف أشياء بدأ يطلع على ما لا يعرف، فإذا قاس نسبة ما يعرف إلى ما لا يعرف، أدرك أنها ضئيلة جداً، فيكون لديه أولاً تواضع ومعرفة بأنه ليس بعالم، ومعرفة إلى أنه بحاجةٍ إلى وقتٍ طويل حتى يحصل على العلم الكثير.
إذاً: لابد أن تراعي -أخي الشاب- قضية التدرج، وطول الوقت، وأن العلم يثبت بالعمل، والتربية والتعليم، فتعلم شيئاً فشيئاً، وما تعلمته فانزل به في ميدان الواقع وطبقه، وأدع الناس إليه، وإذا مت في هذا السبيل، فأنت مجاهد إن شاء الله، أما أن يغلب عليك طابع جمع المعلومات، بل أحياناً في جانبٍ واحد من جوانب العلم، وهو: من أجل أن أفتِ الناس، أو من أجل أن أكون عالماً مرموقاً مشاراً إليه فنسأل الله السلامة من ذلك.
إخوتي الشباب: إن الوسائل التي سبقت هي أصول لابد منها، لكن هناك وسائل خاصة مهم أن أشير إليها في هذه العجالة.(187/15)
البلغة
والوسيلة الثانية هي: البلغة: والمقصود بالبُلغة هو أن يكون الإنسان منصرفاً إلى العلم غير مشتغل بالدنيا اشتغالاً يلهيه عن طلب العلم، وهذا يستلزم أن يكون لدى الإنسان وسيلة للعيش وللكسب توفر عليه وقته، وأصل ذلك هو أن يكون هم الإنسان واتجاهه إلى العلم فلا ينشغل مثلاً بالزوجة، ولذلك كان بعض السلف يقول: إن العلم يضيع في أحضان النساء، فالإنسان الذي يشتغل بزوجه، -مثلاً- ويطيل البقاء في البيت، ويأنس كثيراً بالجلوس إلى أهله يضيع كثيراً من عمره، وينسى كثيراً من علمه، وكذلك الإنسان الذي يشتغل بأمور الدنيا.
وهاهنا لابد من كلمةٍ سريعة: لو نظرنا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنهم كانوا يشتغلون بأمور دنياهم، وأمور مكاسبهم ومعايشهم التي يحتاجون إليها، بل قبلهم كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كذلك، ومن الأشياء التي كان المشركون يعيرون بها النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقولون: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] فليس المقصود بالبُلغة، أو الاشتغال بالعلم: الانقطاع عن الدنيا أبدا، وإنما المقصود ألا يكون الإنسان منصرف الهم إلى الدنيا، بمعنى أن الإنسان الذي يوجد لديه طموح لتنمية الثروة، وأن يكون من الأثرياء المرموقين، ويصرف وقته، في هذا الأمر غالباً لا يحصل على العلم، لكن ليس دائماً.
عبد الله بن المبارك رحمه الله من أئمة العلماء وجهابذتهم، ومع ذلك كان من كبار التجار وله في ذلك قصص وأخبار عجيبة.(187/16)
صحبة الأستاذ
بلا شك أن الأستاذ يؤثر تأثيراً بالغاً في طلابه، ولذلك فإن اختيار الطالب للأستاذ الذي يتلقى عنه العلم أمر في غاية الأهمية، وأقول: إذا عرفنا أن العلم ليس مجرد حقن للمعلومات في الذهن، أدركنا أن الطالب في الغالب هو صورة عن أستاذه، ولو تأملت لوجدت ذلك ظاهراً جلياً في العلماء، انظر في تلاميذ الإمام أحمد تجدهم صورةً مصغرة عن هذا الإمام، في العلم والزهد والورع، والاتباع، وانظر إلى تلاميذ الإمام ابن تيمية رحمه الله، كـ ابن القيم مثلاً، وابن عبد الهادي، والمزني وابن كثير إلى آخره تجد أيضاً التأثر الكبير بالشيخ والأستاذ، فبصمات الشيخ تظهر واضحة في التلميذ.
وأنت لو تأملت في الواقع، تجد أن الذين تتلمذوا على الأشياخ الأجلاء الكبار في هذا الزمان، صار الواحد منهم نسخةً عن أستاذه في كثيرٍ من الأشياء! يحدثني أحدهم: أن هناك شيخاً فاضلاً في أحد البلدان الإسلامية، كان فيه بحة في صوته فكانت هذه البحة تظهر لا شعورياً في كثيرٍ من طلابه، ومثال ذلك: حركة اليد فتجد كثيراً من طلابه يسلكون نفس الطريقة، وخاصةً حين يكون الشيخ ذا شخصيةٍ قوية مؤثرة في طلابه، فتجد هذه الشخصية منطبعة في نفوس الطلاب، وهذا يدعوك إلى أن تدرك أن قضية التتلمذ ليست قضية أخذ معلومات مجردة، بل قضية التتلمذ قضية تربية، وتعلم، وقضية تكوين شخصية التلميذ بإشراف الشيخ، وهذا يؤكد خطورة وأهمية الأخذ عن الشيوخ الذين يتميزون بالتكامل في شخصياتهم، ويؤكد أيضاً أن الطالب ينبغي أن ينوع من أشياخه.
ولذلك روى الدارمي عن أيوب السختياني أنه كان يقول: "إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فجالس غيره".
ومن الخطأ أن يكون التلميذ باحثاً عن عيوب الشيخ وليس المقصود ذلك، إنما الشيخ مهما يكن من الكمال؛ ففيه نقص، والنقص من طبيعة البشر، فإذا جالست هذا الشيخ، وذاك، وثالثاً، ورابعاً واستفدت منهم جميعاً فإنك تستطيع أن تتلافى، وتتخلص من الأخطاء الموجودة لدى كل واحدٍ منهم، أما لو اقتصرت على شيخٍ واحد، فإنك قد تتأثر بخطئه، وهذا لا يقصد به أبداً أن لا يتلقى الإنسان عن شيخٍ واحدٍ بصفةٍ أكثر مما يتلقى عن غيره، خاصةً قضية التربية.
وأنا أقول: -من وجهة نظري- وأعتقد أنها صحيحة وهي: أن التلقي عن الشيخ ينبغي أن يكون باختيار أحد أساتذتك سواء كان هذا الأستاذ معلماً في المدرسة أو مشرفاً في المركز، أو أستاذاً لحلقة تحفيظ القرآن في الحي -مثلاً- أو غير ذلك، بحيث تقترب منه، وتقتدي به في أعماله الخيرة الصالحة، وتأخذ عنه العلم، وتستفيد من رأيه وشخصيته، ومن علمه، وعبادته، وهذا هو المفهوم الصحيح للأخذ عن الشيوخ.
إذاً: فلابد من اختيار الشيخ أو الأستاذ، ولابد من مصاحبته، وبقدر تقصير الإنسان في الأخذ عن الشيوخ ينقص من علمه ومن تربيته.(187/17)
وسائل مهمة في طلب العلم
من الوسائل الخاصة التي يجب على الشاب أن يسلكها في تحصيل العلم:(187/18)
سؤال العلماء
ومن الوسائل المفيدة للتعلم: سؤال العلماء، فأنت حين تقرأ مثلاً، أو تسمع درساً أو محاضرة تدور في ذهنك أسئلة كثيرة جداً، فعليك أن لا تدع هذه الأسئلة تضيع، وإذا أشكل عليك أمر أو سؤال فسجله، ويا حبذا أن تكون الأسئلة مصنفة، فالفقه على حدة والتفسير ووهكذا، وهذه الأسئلة التي تسجلها احرص على أن تسأل عنها أهل العلم، سواءً بصفةٍ مباشرة، أو بواسطة الهاتف، وهو أيضاً من الوسائل التي يستفيد منها الطالب، وإذا حرص الطالب، على هذه الوسائل كلها فسوف يستطيع أن يحصل بإذن الله على علم كثير، مع أن فائدة العلم هي: في العمل، والانكسار، والتطبيق، والخشية.
ونسأل الله أن يجعلني وإياكم من العلماء العاملين، وأن يرزقني وإياكم الاحتساب في طلب العلم والصدق والإخلاص، وأن يوفقني وإياكم لصالح العمل، وأستغفر الله، وأصلي على عبده ونبيه ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.(187/19)
الاجتماع على العلم
فإن الاجتماع على العلم بركة، ومدارسة العلم مع مجموعةٍ تحرك الذهن والعقل، وتفيد الإنسان علماً جديداً، وهكذا كان السلف يوصون بتدارس العلم، وإثارته بالمساءلة والمناقشة، ومن السهل جداً على أي شاب منكم أن ينظر في مجموعةٍ من إخوانه في مسجده أو في مدرسته أو غير ذلك، ويلتقي معهم باستمرار، ويتدارس معهم ألواناً وألواناً من العلوم.(187/20)
الاستفادة من القدرات الشخصية
من الوسائل المهمة في تحصيل العلم: الاستفادة من القدرات الشخصية -أي الجهد الشخصي في طلب العلم- فقد شاع لدى كثيرٍ أن العلم لا يمكن تحصيله إلا عن طريق شيخٍ، ونحن نقول: لا شك أن صحبة الأستاذ من الشروط التي لابد منها في تحصيل العلم، لكن يجب أن نضع هذه الوسيلة في إطارها الصحيح، وفي موقعها الطبيعي، بمعنى أنك يجب أن تقوم بجهدك الخاص في طلب العلم بالقراءة، مثلاً وبالحفظ، وبسؤال العلماء وغير ذلك.(187/21)
الاستفادة من إمكانيات العصر
من الوسائل المهمة في طلب العلم الاستفادة من إمكانيات العصر، فهناك إمكانيات لم تتح لسابقينا، فلو تأملت الكتب -مثلاً- التي طبعت اليوم لوجدتها لم تتوفر في عصرٍ من العصور، ولو نظرت إلى الكتب التي توجد في مكتبة أي واحدٍ منا من صغار طلاب العلم، لربما وجدتها أكثر من الكتب الموجودة أحياناً لدى بعض العلماء المرموقين المشار إليهم بالبنان في الماضي، فهذه الوسيلة وسيلة مهمة جداً، وعلى الشاب أن يستفيد بكثرة الاطلاع على هذه الكتب، وكثرة القراءة، وتخصيص ساعات في اليوم للاطلاع والقراءة المتنوعة في الكتب القديمة، وفي الكتب الحديثة، وفي ألوان العلوم.
وكذلك من إمكانيات العصر: الأشرطة، وهي وسيلة مهمة جداً، فبإمكان الشاب أن يسمع مجموعة متكاملة من الأشرطة لعالم كبيرٍ كالشيخ ابن باز، أو ابن عثيمين، أو ابن جبرين، أو الألباني، أو غيرهم من جهابذة العلماء ويسمع مئات بل آلاف الأشرطة، وحين يكون هذا السماع منظماً أي تسمع كتاباً أو شرحاً لكتابٍ أو درساً متسلسلاً وتعيد أيضاً سماع الشريط فإنك تستفيد فائدةً عظيمةً جداً، والتجربة تؤكد ذلك، وهذا لونٌ من ألوان مواكبة ومتابعة دروس العلماء، حتى ولو لم يحضرها الإنسان بنفسه.(187/22)
الأسئلة(187/23)
التكبير المطلق والمقيد
السؤال
هناك بعض الناس لا يعلمون معنى التكبير المطلق والمقيد، فما حكم التكبير بعد الفريضة هذه الأيام؟ ويقول أيضاً: إنك تستغرب أن تجد من العوام من يحرص على التكبير، بينما من الشباب الطيبين هداهم الله من لا يحرص على ذلك فما تعليقكم جزاكم الله خير؟
الجواب
جزاكم الله خيراً للفت إخوانك إلى التكبير هذه الأيام، ومن المعلوم أن المشروع التكبير المطلق، أما التكبير المقيد الذي يكون في أدبار الصلوات والفرائض فهو يشرع في أوقات محددة، اختلف فيها أهل العلم والمشهور في المذهب أنها من صلاة الفجر ليوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(187/24)
طلب العلم وإخلاص النية فيه
السؤال
أنا حريص على العلم ولكن تأتيني هموم بأن طلبي العلم ليس لوجه الله، لذلك أبتعد عن القراءة سواء كنت فارغاً أو غير ذلك؟!
الجواب
كما سلف عليك أن تطلب العلم وتحرص على إخلاص النية، وكثير من علماء السلف كانوا يقولون: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، أما إن كان الإنسان يعرف في قرارة نفسه أنه اتجه لطلب العلم لغرض دنيوي بحت فهذا أمر آخر، لكن الواقع أن كثيراً من الناس الذين يطرحون مثل هذا السؤال أو يتشككون، يحرصون على وجود الإخلاص في قلوبهم، ويضايقهم وجود أدنى شائبة، أو أدنى وسوسه للشيطان، والشيطان يوسوس للإنسان، وقد يقول: أنت تطلب الدنيا، فعلى الإنسان أن لا يستجيب لوسوسة الشيطان، ويستعيذ بالله منه، ويحرص على إخلاص النية، ويعمل الوسائل الداعية في عمل الإخلاص، ويستمر في طلب العلم، ويعمل بكل ما علم حتى يحقق فعلاً أنه طلب العلم للعمل.(187/25)
الحصول على السعادة
السؤال
أنا شاب أجد النشاط في المراكز والمعسكرات والمخيمات -كمخيمنا هذا- ولله الحمد فاستفدت منه كثيراً، ثم تخور نفسي عند النهاية والبعد عن هذه المجالات؟
الجواب
بمواصلة صحبة إخوانك الذين استفدت منهم بعد نهاية هذا المخيم وهذا المركز، وأن تشارك في النشاطات التي يشتركون فيها سواء كانت في المدرسة، أو كانت في الحي، أو كانت في غير ذلك، وأن تحرص أن تتلقى منهم الخلق الفاضل، والسلوك المستقيم، وتحاكيهم وتقلدهم بأعمالهم الحسنة الجميلة، وتخلص المحبة لهم.(187/26)
محبة صاحب الخلق الحسن
السؤال
هل يجوز أن أكره مسلماً لسوء خلق فيه؟
الجواب
قد يكون هذا أمراً فطرياً، فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وقد قيل: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان ونحن لا ندعو إلى استعباد نفوس الناس، ولا تعبدها لغير الله، ولكن النفوس تحب صاحب الخلق الحسن، وتحب من أحسن إليها، وتكره من أساء إليها، وهذا أمر فطري لكن لا تكره لأنه يعمل الخير، أو يعمل السنن أو ما أشبه ذلك من الأشياء.
وينبغي لك أن تجاهد نفسك على محبته، فإن من أشرف وأنفس وأعلى المقامات التي يجب أن يغالي فيها المتنافسون في الخير هو أن تتخلص من كراهية قلبك لكل مسلم، إلا أن يكون من تكرهه لفسقه، ولمعصيته، ولإضراره بالمؤمنين وما شابه ذلك، وهذا مقام عظيم إن وصلت إليه فقد وصلت إلى خير كثير.(187/27)
ثقافة الخطاطين
السؤال
أنا شاب أحب قراءة الكتب ولكنني لا أقرأ، وإذا قرأت أجد نفسي بارتياح تام، ولكن طريقتي في القراءة هو أنني أقرأ من كل كتاب جزءاً قليلاً ثم أنتقل إلى كتاب آخر، وأجد تحصيلي الثقافي قليل، فبماذا تنصحني جزاك الله خيراً؟
الجواب
الإنسان الذي يقرأ من كل كتاب قدراً ثم يتركه إلى غيره، تكون معلوماته وثقافته ثقافة الخطاطين أشبه ما تكون خفيه متناثرة لا يجمع بينها جامع، ولا يؤلف بينها نافع، والشاب الذي يريد أن يتقوي في العلم الشرعي ويحصل على ثقافة إسلامية صحيحة عليه أن يقرأ بتركيز، وأن يختار الكتب المناسبة ثم يقرؤها مرة ومرتين وثلاث، بل ويلخصها إذا رأى أنها تستحق التلخيص، ويكتب عليها بعض الإشكاليات، والأسئلة التي دارت عليه، ويسأل عنها بعض من هم أعلم منه، وبذلك يستطيع أن يكون معلومات صحيحة، وعليه أن يستغل هذه النعمة الموجودة لديه وهي: الحرص على العلم والرغبة في القراءة.(187/28)
القراءة في أصناف العلوم
السؤال
أنا شاب في العشرين من عمري، وأنا أقرأ في جميع أصناف العلوم وأجد نفسي لا أستفيد كثيراً، ثم أخاطب نفسي وأقول: لو وجهتُ جهدي على نوعٍ واحدٍ من العلوم لاستفدت كثيراً، فما هو قول فضيلتكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الجمع بين الأمرين واجبٌ خاصةً في بداية عمر الشاب، لأن الشاب في بداية عمره قد لا يستطيع أن يحدد بالضبط ما هو العلم الذي يرتاح إليه، ويفيده، ولذلك فكون الشاب في البداية يؤسس معلومات منوعة فيقرأ في العقيدة، ويقرأ في التفسير، ويقرأ في الحديث، ويقرأ في الكتب الإسلامية الحديثة، ويقرأ في القصص، ويقرأ في التاريخ، قراءات مركزة حتى يتبلور لديه اتجاه محدد، ويشعر بأنه أميل إلى التحصيل في علمٍ معين، فيركز على هذا العلم الذي يرى أنه يفيد فيه أكثر من غيره.(187/29)
المفاضلة بين تعلم علم الحديث وعلم الفرائض
السؤال
أيهما أفضل: علم الحديث، أم علم الفرائض؟
الجواب
كلاهما فاضل ولا بد للمسلمين من كليهما، وعلى طالب العلم الذي يريد أن يتعلم الفرائض أن يتعلم المواريث من الكتاب والسنة أيضاً، فهما المصدر لتعلم الفرائض وغيرهما من العلوم، وأرى أن علم الفرائض على أهميته ليس تخصصاً دقيقاً يقضي الإنسان فيه عمره، بمعنى أن الإنسان قد يكون متقناً لعلم الفرائض بارعاً فيه، ومع ذلك يجد له وقتاً طويلاً لتعلم الحديث، والتفسير، والفقه، وتعلم التربية إلى غير ذلك، فعلم الفرائض على أهميته يمكن أن يتقنه في مدة معينة ثم ينتقل منه إلى غيره.(187/30)
طلب العلم للعلم به!
السؤال
وأنت تطلب العلم تجد أن هذا العلم ليس له حاجة في المجتمع ولكن الشخص يطلبه للعلم به وليس للعمل أو الحاجة، فما هو قول فضيلتكم؟
الجواب
رأيي أن هذا يحتاج إلى مثال حتى يتضح السؤال أكثر وأكثر، ولكن بصفة عامة أنصح نفسي وإخواني الذين أحبهم في الله ألاَّ يعتمدوا كثيراً على وجهات نظرهم الشخصية في طلب العلم، لأن الإنسان يخيل له أحياناً أن هذا العلم ليس مفيداً لا له ولا عليه، لكن غيره قد يخالفه ويقول له: لا، إن هذا العلم يفيد المجتمع، والشاب في أول فترة الشباب، أو في فترة المراهقة تكون موازينه في الغالب غير منضبطة تماماً، وقد يميل إلى ترجيح جانب على جانب، وقد يميل إلى التقليل من أهمية جوانب معينة، والشيء المهم جداً هو أن هذه الفترة التي هي فترة المراهقة تؤثر في عمر الإنسان كلها، وقد يتحدد مسار الإنسان، واتجاهه بناءً عليها في الغالب، فعناية الشاب بنفسه في هذه المرحلة، وحرصه على التوازن والاستفادة من آراء من حوله مهم جداً.(187/31)
العلم والسهر
السؤال
قلت في كلامك: إن السهر من عوامل تثبيت العلم، وهذا الشيء ينافي ما نحن عليه، فكثير من الناس إذا أكثر السهر فإنه لا يستطيع التفكير، وربما إن أكثر من السهر خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: ولبدنك عليك حقاً، فأرجو منك أن تبين أيهما أرجح: تثبيت العلم في السهر أم في النوم المبكر؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
قضية السهر لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكره الحديث بعد العشاء لكن صح استثناء المصلي، والذاكر والسهر في العلم محمود بلا شك، لكن لا يكون سهراً يؤثر تأثيراً سلبياً على الشاب، فالسهر يتفاوت، وقد يفهم إنسان أن السهر جلوس الساعات الطوال، وقد يفهم آخر أن يجلس بعد العشاء ساعة أو قريباً من ذلك بحسب إمكانية الشاب، ونحن نعرف أفراداً يكفي الواحد منهم في اليوم أربع ساعات في اليوم والليلة، وهذه نعمة يهبها الله من يشاء بحيث يستطيع أن يستفيد من نهاره ومن ليله، ومن الناس من قد يحتاج إلى أكثر من ذلك إلى عشر ساعات، فالإنسان عليه أن يكون منسجماً مع نفسه، وهو طبيب نفسه في هذه القضية، ولا يمكن أن نعطي فيها قاعدة مطردة.(187/32)
الصحوة الإسلامية قرة الفؤاد وهمُ الجميع
السؤال
كثيراً ما نسمع بكلمة الصحوة الإسلامية، فعندما نسمع هذه الكلمة لا يوجد لدينا حرص في الجهاد، وفي الدعوة إلى الإسلام، وتطمئن قلوبنا عندما نسمع هذه الكلمة، ولا يوجد لدينا دافع قوي بالنصح والدعوة والمحاضرات، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
أما كثرة سماعك لهذه الكلمة فهو صحيح، وهذا راجع إلى فطرة عند الإنسان أنه إذا أحب شيئاً أكثر من ذكره، والفرح الذي يغمر قلوب المؤمنين والدعاة وطلاب العلم هو الذي يدعوهم إلى تكرار الحديث عنها لكن وجود الصحوة الإسلامية لا يعني القعود، لأننا نتساءل جميعاً ما هو السبب من وجود هذه الصحوة؟ هل توافقون على ما يدعيه بعض الناس أن هذه الصحوة خرجت فجأة من غير مقدمات ولا جهود؟ في الواقع أن هذا غير صحيح؛ فقد خرجت هذه الصحوة نتيجة وجود جنود بعضهم معروفون، وبعضهم غير معروفين يضحون في سبيل الله، ويدعون إلى الله، ويدعون الشباب، ويحثونهم على الخير زمناً طويلاً.
ولذلك كانت هذه الصحوة نتيجة هذه الجهود، فإنه لا استمرار لها إلا باستمرار هذه الجهود، بل إن هذه الصحوة المباركة قد ينحرف مسارها، وقد يستفيد منها الأعداء، وقد تتجه اتجاهات غير صحيحة إذا لم نقم جميعاً بتوجيهها ورعايتها وإرشادها نحو الطريق الصحيح، وواجبٌ على كل فردٍ منا أن يسعى بالدعوة إلى الله عز وجل، وجلب الناس إلى الخير، وتعليمهم العلم الصحيح، وأن يحرص على أن يكون من نفسه شخصية تنفع المسلمين، وتخدم هذه الصحوة بأي وسيلة كانت.(187/33)
الاهتمام بما لا بد منه من علوم الشرع
السؤال
تعلمون كثرة الاستيعاب في الإسلام وكثرة أجزائها وتفاصيلها، وأنا شابٌ أدرس في مجال الدراسة الكيميائية: فيزياء، ورياضيات، وهذه المواد تتطلب المذاكرة الكثيرة، وهذا الاهتمام يجعلني أقلل من الاهتمام بكتب السلف بعض الشيء، لكنني -ولله الحمد- أحفظ أكثر من نصف كتاب الله؟ فبماذا تنصحني؟
الجواب
أنصحك أولاً: بمواصلة حفظ كتاب الله عز وجل، فإن هذا ذخرٌ ثمين.
وثانياً: بأن تتعلم ما لا بد لك منه من علوم الشرع، أي: أن تتعلم من العلوم التي يطالب المسلم بتعلمها لنفسه، وذلك مثل تعلم العقيدة الصحيحة، فلا بد أن تقرأ في كتب السلف، وتفهم العقيدة الصحيحة من القرآن والسنة.
ثالثاً: لا بد أن تعرف أحكام الطهارة، والصلاة، والعبادات التي تحتاج إليها في حياتك العملية، وإذا أشكل عليك أمر من ذلك فعليك أن تسأل أهل الذكر -كما قال الله سبحانه وتعالى-: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] .(187/34)
طلب العلم لكل إنسان
السؤال
هل يكفي للشاب أن يحفظ القرآن ويتعلم أمور العبادة فقط دون التوسع في العلم ويكتفي بسؤال المشايخ بما يشكل عليه؟
الجواب
الحقيقة هذا السؤال يتفاوت من شخص لآخر، فهل كلنا سوف نخرج علماء في الشريعة؟ الجواب لا، بلا تردد ولا إشكال، فالناس يتفاوتون قد يوجد من بيننا من يؤنس من نفسه الأهلية، ويحس بأنه يستطيع أن ينفع المسلمين من خلال تعلم العلم الشرعي، والعمل به، والتربية عليه، وتعليمه للناس، ولديه: قدرة، وذاكرة جيدة، وعقلية طيبة، ولديه رغبة وحرص، فهذا يمكن أن يتوجه إلى العلم الشرعي، ويركز جهوده عليه، ولو قصَّر في علومٍ أخرى، أو أهمل علوماً أخرى ليست من العلوم الواجبة الضرورية.
لكن قد يوجد إنسان آخر من بيننا لا يحس بالأهلية لمثل هذا الأمر، ويحس أنه يمكن أن يفيد المسلمين في علمٍ آخر: كعلم التاريخ، أو اللغة العربية، أو الطب، أو الهندسة، فهذه كلها علومٌ يستفيد منها المسلمون، وهي على أقل تقدير يمكن أن نقول: إنها من فروض الكفايات، لأن العلوم المباحة التي يحتاجها المسلمون هي من فروض الكفايات، فالذي يؤنس من نفسه القدرة على هذه العلوم أيضاً يتجه إليها، وقد يوجد من بيننا من ليس له مهنة في العلم وإنما هو يتجه نحو حرفة من الحرف، أو صناعةٍ من الصناعات، وقد تكلمت عن هذه النقطة في محاضرة بعنوان (التوازن في شخصية المسلم) .(187/35)
قراءة الكتب القديمة والحديثة
السؤال
أيها أحسن لطالب العلم المبتدئ: قراءة كتب السلف أم الكتب المؤلفة حديثاً، فهي عندي أسهل من كتب السلف؟
الجواب
لا تعارض بين هذا وذاك، بل الكتب المفيدة سواء، كانت قديمةً أم حديثة ينبغي للشاب أن يحرص على قراءتها، والاطلاع عليها، فهناك كتبٌ حديثة وموثقة ألفها علماء معتبرون، وتلقاها علماء ثقات بالرضا والقبول، فينبغي للشاب أن يقرأها ويستفيد منها.
على سبيل المثال: لو قرأ الشاب المبتدئ في بداية طلبه: العقيدة الطحاوية -مثلاً- وجد أنه أمام أسلوب قوي وعبارات لا يستطيع أن يفهمها، لكن لو قرأ كتاباً آخر مثل معارج القبول للشيخ/ حافظ الحكمي، لوجد أنه بأسلوبٍ سهلٍ، وعبارةٍ واضحة، ومن السهل عليه أن يفهمه ويضبطه.
فالكتب الحديثة المؤلفة من علماء موثوقين ينبغي أن تقرأ، والكتب القديمة التي يسهل على الشاب أن يقرأها -أيضاً- لا ينبغي أن نستبعدها، مثلاً: الكتب التاريخية، سواء كانت قديمة أو حديثة، أسلوبها لا يختلف فلو قرأت مثلاً في البداية والنهاية لـ ابن كثير، أو قرأت سير أعلام النبلاء للذهبي أو قرأت في غيرهما من الكتب، لوجدت أنك تفهم وترتاح مع هذه الكتب وتستفيد منها.
إذاً: نقول: إن الكتب قسمان: كتبٌ مفيدة، وكتبٌ ضارة، والكتب المفيدة: منها القديم ومنها الحديث، والكتب الضارة: منها القديم، ومنها الحديث، فالمهم أن تختار الكتاب المناسبُ وأوصي الشاب الذي يريد أن يقرأ أن يطلب من شيخه الذي يتتلمذ عليه، وأستاذه الذي يربيه أن يعطيه قائمة من الكتب التي يريد أن يقرأها ويستفيد منها، فإذا أنهاها طلب قائمة أخرى وهكذا.(187/36)
إخلاص النية
السؤال
أنا شاب أحث الناس على الإخلاص في النية في كثير من الأعمال، ولكن إذا نظرت إلى نفسي ومحاسبتها أجد أنني لا أخلص النية في جميع أعمالي، أرجو إخباري لأن هذا يقلقني كثيراً؟
الجواب
الحقيقة في مثل هذه الحالة على الشاب أن يستمر فيما هو فيه من حث الناس على الإخلاص؛ لأن هذا عمل طيبٌ ومشروع، والآيات في الحث على الإخلاص كثيرةٌ معلومة، وعليه أن يحرص على إخلاص نيته ما استطاع، وليحذر الشاب من وسوسة الشيطان الذي يقول له: دع أمر الناس بالخير لأنك لم تفعله، أو دع نهي الناس عن الشر لأنك واقع فيه، وهذه القضية تخفى على كثيرٍ من الناس، وعلى كثير من الإخوة وهي قضية مهمةٌ جداً، في باب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأريد أن أصوغها على شكل سؤال، وهو: الإنسان الذي يقع في المنكر هل يجب عليه أن ينهى الناس عن المنكر الذي يقع فيه نفسه أم لا ينهى عنه؟ الواقع والصحيح أنه ينهى، ويجب عليك أن تنهى عن المنكر ولو فعلته، ويجب عليك أن تأمر بالمعروف ولو تركته، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف، ولا شك في صحة هذا القول، لأن الإنسان مطالب بأربعة أشياء: مطالب بأن يفعل المعروف وأن يأمر به، وأن يترك المنكر وأن ينهى عنه، وإخلال الإنسان بواحد من هذه الأشياء الأربعة لا يدعوه إلى الإخلال بالأمر الثاني منها، وقد قيل: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد ولذلك نقل الإمام ابن عطية في تفسيره عند قولة تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] قال: وقال بعض الأصوليين: واجب على من يتعاطى الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً، أي المجموعة القاعدون لشرب الخمر يجب عليهم شرعاً أن ينهى بعضهم بعضاً حتى وهم يتعاطونه، وقال حذاق أهل العلم يأمرون بالمعروف وإن لم يفعلوه، وينهون عن المنكر وإن فعلوه، والدليل على ذلك قوله من القرآن: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] .
فأنت لو تأملت الآية وجدت أن الله عز وجل نسب ترك التناهي إلى الذين فعلوا المنكر أنفسهم، يعني وهم يفعلون المنكر كان يجب عليهم أن ينهوا ويتناهوا عنه، ولا شك أنه ملوم بكونه ينهى الناس ويقع فيه كما قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] لكنه ليس ملوماً لأنه نهى عن المنكر، بل ملوم لأنه فعله، وخاصة مع علمه بأنه منكر، فهذه القاعدة مهمةٌ جداً، فأمر الناس بالمعروف وحثهم على الإخلاص في العمل، واحرص على تزكية نفسك وأمرها على ما تأمر به الناس، ولا يمنعك شعورك بعدم الإخلاص في بعض عملك مما أنت فيه من الأمر والنهي، وحث الناس على الإخلاص.(187/37)
أبواب العلم متنوعة
السؤال
ذكرت أن العلم ليس فقط بالتلقي وحده، ونشاهد أن الذي لا يحفظ ويتلقى العلوم لن يكون عالماً، حتى ولو أكثر العبادة وتلقى التربية، فما هو تعليقكم على هذا؟
الجواب
تعليقي أن أقول: ما معنى أن يكون عالماً؟ فالسائل يقصد أن يكون عالماً مشاراً إليه بالبنان، وأقول: العلم أوسع من ذلك، قد يكون عالماً في جوانب معينة، قد يكون عالماً في مجال التربية والتوجيه والإرشاد مع وجود قدرٍ كافٍ من العلم الشرعي لديه، وهل يتصور أن يوجد إنسان لا يحفظ إطلاقاً؟ لا أعتقد هذا، إنما قدرته على الحفظ ليست قوية، ومع ذلك قد يصل إلى درجةٍ كبيرة في العلم من منطلق قدرته على التربية وعلى التعليم وعلى البناء، وأزيد هذا إيضاحاً بأن قيمة العالم تكون بأشياء: أولاً: بتأثيره في الواقع من خلال كثرة الناس المتأثرين به أو من يسمون بالتلاميذ، أو الذين استفادوا منه، وأنت تجد بعض العلماء الذين عنوا بالتربية، وبناء الشخصية بشكل متكامل أثَّروا في كثير من الناس مع أن هناك من هو أوسع منه في جانب المعلومات المجردة، ومع ذلك تأثيره أقل، هذا من ناحية، وقيمة العالم تكون -أيضاً- بما يخلفه بعد وفاته من المصنفات والمؤلفات، والإنسان الذي يكون لديه قدرة على البحث ومعرفة بأساليب البحث، وقدرٍ طيب من العلم الشرعي، يستطيع أن يكتب في أشياء كثيرة، وينفع الناس بها.
إذاً فالعلم مفهومه أوسع من مجرد المعلومات، وقيمة العالم تكون بقدر تأثيره في الواقع، سواء في حال حياته أو بعد مماته.(187/38)
الطالب بين المدرسة وطلب العلم
السؤال
أريد أن أترك المدرسة -إن شاء الله- من أجل طلب العلم على أيدي مشايخ، لكن أي المشايخ؟ أريد وصيتك؟
الجواب
أقول: لا تترك المدرسة من أجل أن تطلب العلم، إذ لا تعارض بينهما، بل إن بقاءك في المدرسة هو عون لك على طلب العلم من جهة ومن جهة أخرى فلنفترض جدلاً أن المدرسة لا تعينك في طلب العلم، مع أن هذا قولٌ غير صحيح لأن كل مدرسة لا تخلو من قوم صالحين ومن العلوم النافعة: كالقرآن والتفسير والحديث وغيرها، وفيها علوم مباحة توسع عقل الإنسان ومداركه، ولكن لنقول جدلاً: إن المدرسة لا تعينك، فإن الأمة بحاجة إلى من يقود الأجيال والأجيال.
أيها الشباب أين تتربى أجيال الأمة اليوم؟! هذا السؤال أريدكم أن تجيبوا عليه، أجيال الأمة في كل مكان تتربى اليوم في المدارس يدخل أو يتربى فيها إن لم نقل (100%) فعلى الأقل أكثر من (90%) من الأجيال، ووجود مدرسين اليوم وأساتذة وموجهين في المدارس كان هو السبب في إقبال طلاب المدارس على الإسلام، وتلقيهم العلم، ورغبتهم فيه، وربما كان تأثيره في ذلك أكثر من أي تأثير آخر فإذا كان هذا كذلك، فيجب على طالب العلم أن يحرص على مواصلة العلم في هذه المدارس، والتزود من العلم الموجود فيها، وعلى أن يتخرج منها، وعلى أن يدرس فيها ليقوم بتربية هذه الأجيال، من خلال هذه المدارس على الإسلام الصحيح، والعقيدة الصحيحة، وهاهم علماؤنا وجهابذتنا تخرجوا من هذه المدارس، ودرسوا فيها ولك فيهم أسوة وقدوة.
أما سؤالك أين العلماء؟! فإنني أقول: العلماء في المدارس التي تريد أن تتركها ففيها كثيرٌ منهم.
ثانياً: مفهوم المشايخ أو العلماء يتفاوت وطلاب العلم اليوم كثير، ويمكن أن يجتمع مجموعة من طلبة العلم مهما كان مستواهم فيتدارسوا كتاباً من الكتب في المسجد أو في البيت، وهذا نوعٌ من طلب العلم الجماعي، وعلى أيدي طلاب علمٍ أو مشايخ، وكذلك قراءة كتب المشايخ أو سماع أشرطتهم يعين على الحصول على علمهم، ثم إن المشايخ موجودون، وقد ذكرت منهم على سبيل المثال الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ/ عبد الله بن جبرين والشيخ/ محمد بن عثيمين، ويوجد علماء كثر في بلدان كثيرة.(187/39)
من للمسلمين
أوضاع المسلمين مؤلمة في كثير من البلدان مثل الصومال وغيرها، وهناك جوانب إيجابية ومبشرات بالخير، والحقد الصليبي يتحرك لشعوره بخطر الإسلام عليه.
وإسرائيل تتوسع على حساب المسلمين بينما إيران تنشر مذهبها الشيعي في ظل غياب الإسلام السني.
ورغم غنى المسلمين بالثروات إلا أنهم أفقر الشعوب ولا يتناصرون إعلامياً ولا اقتصادياً، فيجب علينا دعم المسلمين اقتصادياً وعلمياً ودعوياً، ولا نلتفت لما يثار من أن ذلك لا يصلهم أو أنهم لا يستحقون ذلك، أو ما إلى ذلك.(188/1)
التقارير الواصلة
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم أما بعد: فهذه الجلسة سوف تمر عبر العناوين التالية: أولاً: تقارير عن أوضاع المسلمين هنا وهناك.
ثانياً: جوانب إيجابية.
ثالثاً: الحقد الصليبي يتحرك.
رابعاً: اليهود يدافعون عن حقوقهم.
خامساً: إيران تنشر مذهبيتها ولغتها.
سادساً: أين المسلمون.
سابعاً: لماذا نحجم؟ ثامناً: ما هو الواجب؟ وأعجب أن كل الكلام الذي سوف أقوله لكم، والتقارير والمعلومات التي سوف أقدمها، أنها وصلت إلي خلال هذا الأسبوع، فأنا حين أتحدث عن موضوع ما، لا أتكلم عنه على سبيل الاستقصاء والحصر، وإنما أقدم لكم حصيلة أسبوع واحد مما وصلني، وأقول والله شهيد على ما أقول: أن الذي وصل إلي -سوف أقدم لكم بعضه- لم أسع في تحصيله ولم أبحث عنه، وإنما وصلت إلي عفواً من جهود الإخوة، وتقارير جاءت من هنا وهناك.(188/2)
التقارير الأسبوعية
لو أننا حرصنا خلال أسبوع، أن نجمع كل ما كتب، وكل ما قيل عن المسلمين، أو عن الموضوعات الأخرى التي سوف أتحدث عنها، بل كيف سيكون الموضوع لو أردنا أن نعالجه ونتحدث عنه بشمولية، ونذكر ما يتكلم عنه الإعلام، وما تتحدث عنه التقارير منذ زمن بعيد، لكان الأمر أكبر من طاقاتنا، وأكبر من إمكانياتنا، وأكبر من هذا الوقت المخصص لهذه المحاضرة.(188/3)
أوضاع المسلمين
النقطة الأولى: تقارير مجملة وسريعة عن أوضاع المسلمين في أكثر من مكان:(188/4)
التقارير الأخرى
أما التقارير عن المسلمين في إريتريا، وأفغانستان، والفلبين، والسودان، وفلسطين، والجزائر، ويوغسلافيا، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي، فهو أمرُ يطول ذكره، وسوف نتعرف على هذا -إن شاء الله- خلال الفقرات التالية، مع هذه الأوضاع العسيرة التي يعيشها المسلمون، والتي تنبئ عنها هذه التقارير التي أقول إنها اختيار عشوائي؛ لأنها حصيلة أسبوع فقط، وما خفي كان أعظم، وما هو ظاهر ولم يذكر فهو أكثر وأكثر!!(188/5)
الأكراد
وفي بلاد الأكراد خاصة هناك حصار آخر فرضه النظام العراقي نفسه، فضلاً عن الحصار المفروض على العراق ككل، جعل المسلمين الأكراد يعانون من مجاعة لا تكاد توصف، وفوق هذا فإن أزيز الطائرات وتفجير القنابل، يهددهم صباح مساء، ليس من العراق فقط، بل من العراق تارة، ومن تركيا تارة أخرى، فقد أصبح المسلمون الأكراد بين فكي كماشة، تركيا تضربهم من جهة، والعراق يضربهم من جهة أخرى، والحصار الاقتصادي مفروض عالمياً على العراق ومفروض محلياً من العراق على الأكراد، ولك أن تتصور وضع المسلمين الأكراد في مثل تلك الظروف الصعبة.
مما تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم {أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} وهذا حديث متفق عليه، فما بال، وما ذنب الأبرياء في العراق في بلاد الأكراد؟! لماذا يُمنعون من شرب الماء النقي؟! ولماذا يُمنعون من أكل الطعام الذي به قوام حياتهم؟! ولماذا يحرم أطفالهم من الحليب؟! ولماذا يحال بينهم وبين حق العيش، وحق الحياة؟! إن هذه الخطة الظالمة الآثمة التي يديرها الغرب الصليبي على المسلمين في العراق، وعلى كردستان، وفي كل مكان، أحلف بالله لو أن تلك الشعوب كانت شعوباً نصرانية لانتفض الغرب من أقصاه إلى أقصاه، والشرق معه، وقام ينادي بحقوق الإنسان، وأنه لابد من إطعام هؤلاء، وإغاثتهم ومساعدتهم!! ما ذنب الشعب العراقي؟ أن سُلط عليه حاكم طاغية، فهل يريد الغرب أن يقضي على الشعب العراقي، حتى ينتهي عن آخره؛ ليقول لطاغية العراق صدام حسين إنك تحكم دولة بلا شعب؟ لأن شعبك قد أفنى ودمر وقضي عليه؟ إن هذه الخطة وهذه الوثيقة الظالمة الآثمة، وثيقة المقاطعة، تستهدف ضمن ما تستهدف الشعب العراقي ذاته، ولأمرٍ ما نجد أن القوى الغريبة قد أوقفت الحرب عند حد معين، ورضيت أن يبقى هذا الطاغية على العرش العراقي، ليكون ذلك ذريعة لتضييق الخناق على المسلمين.
والعجيب أنهم يُعطونه فرصة لضرب الأكراد، ويمنحون تركيا فرصةً أخرى لضرب الأكراد، وليس لهم ذنب، إلا لأنهم مسلمون أولاً، وسُنة ثانياً.(188/6)
بورما
-أيضاً- هناك تقرير وخبر ثالث يتحدث عن قتل مجموعة من الجنود البورميين، للمئات من المسلمين، واحتجاز الآلاف منهم، في ولاية أراكان، وذلك في غضون الأسبوعين الماضيين، كما يتكلم ذلك الخبر.
وقد نشر في جريدة الشرق الأوسط، عن جرح خمسمائة على الأقل، وأنه تم تدمير ما يزيد على ثلاثة آلاف منزل عن طريق الإحراق.(188/7)
العراق
أخبار شفهية كثيرة تتحدث عن ما يعانيه المسلمون في العراق، من مجاعة، الله تعالى أعلم بها، حيث يموت آلاف الأطفالِ وكبار السنِ، جوعاً بسبب عدم توافر الحاجات الضرورية لهم.(188/8)
كشمير
وصلت إلي أيضاً مجموعة من التقارير عن كشمير، وكشمير تحتلُ جزءاً منها الهند، ويحتل الجزء الآخر منها الصين، أما الجزء الثالث فهو تابع لباكستان، وجنود الهند الذين يحتلون كشمير، يجدرُ القول أنهم يزيدون أضعافاً مضعّفة على عدد الروس الذين كانوا يحتلون أفغانستان، وهم من الهندوس، والسيخ، والبوذيين، وألوان الديانات الوثنية: التي تحمل روح العداوة للموحدين المسلمين، وترى أن قتلهم والقضاء عليهم وإفناءهم جزء من ديانتها التي تربت عليها منذ صغرها ونعومة أظفارها، فمن أعمالهم حرق المساجد، والمدارس، والمستشفيات، وحرق البيوت على أصحابها.
أحد الشباب أُحْرِقَ أمام والده الكفيف، الذي ليس له غيره، فصبوا عليه البنزين، ثم أحرقوه إلى جوار والده الذي لا يرى، ولكنه أحس بهذا المشهد، وأن فلذة كبده وابنه الوحيد الذي هو يعتمد عليه بعد الله في العيش والذهاب والإياب، وتأمين الحياة والمعيشة قد أُحْرِقَ أمامه، بعد أن صُب عليه البنزين، فعن التعذيب الوحشي حدِّث ولا حرج أجساد تمزق بالطلقات النارية، حتى أجساد الموتى لم تسلم فإحدى الجنائز لما مر بها المسلمون -وكانوا مجموعة- طلب منهم جنود الهند أن يبتعدوا، فلما رفضوا أطلقوا النار على من يحملون الجنازة وعلى الجنازة، نفسها التي أصيبت بثمان طلقات من الأعيرة النارية، وأحياناً يمنعون الإغاثة عنهم.
هناك مجموعة سقطوا في إحدى المحاولات التي قام بها المسلمون لإحداث نوع من المظاهرة، فضربهم الجنود واسقطوا منهم مجموعة، فلما جاء المسلمون لإغاثتهم هددوهم بالقتل، وقالوا: نحن لم نضربهم لكي تغيثوهم، وإنما ضربناهم لكي يموتوا، فإذا ماتوا شأنكم بهم.
أما التجمعات النسائية فإنهم يفرقونها بالقوة، ويستخدمون القوة لذلك إذا لزم الأمر، وهناك طعنات تمتد من أعلى العنق إلى أسفل البطن، وقد رأيت صوراً تعبر عن كل هذه الأشياء محفوظة في (ألبوم) ، موجودة يمكن الاطلاع عليها لمن شاء ذلك، فترى المسلم وقد شق بالسكاكين والخناجر من أعلى عنقه إلى أسفل بطنه مروراً بصدره، ثم قام المسلمون بعد ذلك بخياطته قبل أن يودعوه إلى قبره.
هناك ثلاثون امرأة تفننوا في تعذيبهن وقتلهن أمام أطفالهن، وهناك حفر موجودة لضحايا القتل الجماعي، وتدمير المنازل حتى أصبح جزء من الناس بدون مأوى، ومجموعة من النساء، -وأحياناً- من كبيرات السن والعجائز، وأحياناً من الفتيات الصغيرات، صرن ضحايا للاغتصاب الجماعي من قبل جنود الجيش الهندي، يتناوب على المرأة الواحدة عشرات من الجنود، وبعضهن كما ذكرت كبيرات السن، وبعضهن أصبحن حوامل، وبعضهن يحملن بين أيديهن أطفالاً من الزنا بالإكراه.
وفرض تحديد النسل على المسلمين، حتى ولاية كشمير في الهند احتلت رقماً قياسياً في تحديد النسل، أما ما يتعلق بتجهيل المسلمين في تلك الولاية، فيكون ذلك عن طريق منع تحفيظ القرآن، وتشجيع السفر ومنع ذبح البقر، من أجل ترسيخ قدسية البقر في نفوس المسلمين؛ لأن الهندوس يقدسون البقر -كما هو معروف- كذلك تشجيع شرب الخمور والفجور، وتأسيس السينما والملاهي والكازينوهات وغيرها، والحيلولة بين المسلمين وبين تعلم دينهم، وهذا لا يمنع من وجود مدارس إسلامية، ومراكز لتحفيظ القرآن، ونشر الكتب الإسلامية، ولكنها تتم بالرغم من جهود الهنود الذين يحاولون النيل من أي بادرة من بوادر التعليم الإسلامي هناك.
وتقول تلك التقارير إن من المقترحات لإنقاذ المسلمين في كشمير، دعم الجهاد إعلامياً، وإرسال وفود من قبل المنظمات الإسلامية، لكتابة تقارير حقيقية عن الوضع هناك، وتزويد المسلمين بها، وكشف ما يعانيه المسلمون هناك للمسلمين في كل مكان إضافةً إلى الدعم المالي والدعم الصحي.(188/9)
الصوماليون في كينيا وما حولها
أحد التقارير التي وصلت إلي، تقرير يتحدث عن أوضاع المسلمين اللاجئين من الصوماليين الموجودين في كينيا وما حولها، وتقام لهم هناك عدة معسكرات، قد يصل عدد المسلمين في المعسكر الواحد ستين أو سبعين ألفاً -أحياناً-، يسكن هؤلاء المسلمون في أكواخٍ مصنوعة من الكراتين، أو مصنوعة من الخرق البالية، وقد يسكنون في أوقات كثيرة تحت الأشجار بلا مأوى!! تنتشر بين هؤلاء المسلمين الأمراض الفتاكة كالسل والملاريا، وتتردى الأوضاع الصحية في تلك المعسكرات والمخيمات يوماً بعد يوم، وذلك في ظل نقص المياه النقية، حيث لا توجد المياه النقية، وفي ظل نقص التغذية، وفي ظل عدم وجود المراحيض الملائمة، وفي ظل غياب المراكز الصحية التي تعالج المرضى من الكبار والصغار والنساء والأطفال.
وهناك نقصٌ شديد في المياه، حيث لا توجد آبار في المعسكرات، وإنما يشرب هؤلاء المسلمون من نهر ملوث، يشرب منه الناس والأنعام، ويغتسلون ويتوضئون منه، ولذلك فهو أحد مصادر الأمراض التي تفتك بهم وتنتشر بينهم.
وتقرير سمعته بأذني، من إحدى الإذاعات الغربية، يقول معد التقرير: إنه رأى طابوراً طويلاً في انتظار جرة من الماء، يحصل عليها الواحد، فيكتفي بها طيلة اليوم مع أنها لا تكفي، ولا تعادل (25%) من حاجته الحقيقية، وأنه يضطر إلى الوقوف في هذا الطابور على مدى اثنتي عشرة ساعة، من أجل الحصول على قارورة ماء، أما التعليم فهو شبه مفقود، فلا مدارس، ولا خلاوي لتحفيظ القرآن، ولا كتب ولا أشرطة ولا غيرها.
أحد المعسكرات هناك تشرف عليه منظمة الصليب الأحمر الدولي، والآخر تشرف عليه السفارة الإيطالية، هرب المسلمون إلى هذه المعسكرات، والمخيمات فراراً من جحيم الحرب التي تدور رحاها في الصومال، ومنظمة الأمم المتحدة تتجاهل الأوضاع الصعبة، والسيئة التي يعيش فيها المسلمون هناك، ولا تعيرهم أي اهتمام، لأنهم من المسلمين أولاً، ولأنهم من السود ثانياً.
وإذا كانت المنظمة الدولية، وكذلك قوانين الغرب والشرق، لا تعترف صراحة بالتفريق العنصري على أساس اللون، أو على أساس الدين أو المذهب، فإن الحقيقة أن هذه الدول وهذه المنظمات تعترف بذلك من باب الاعتراف بالأمر الواقع، فلا ترقب في المسلمين إلا ولا ذمة.
يقول التقرير أيضاً أن احتياجات المسلمين الأولية، كإسعاف، لابد منه عاجلاً لضمان حياتهم، يتوافر فيما يلي: أولاً: ثلاثة آلاف كيس من الذرة يمكن تأمينها من كينيا كإسعاف أولي.
ثانياً: حفر ما لا يقل عن عشرة آبار بتكلفة البئر الواحد خمسة آلاف ريال.
ثالثاً: تعيين عشرة أطباء من الرجال، وعشر طبيبات من النساء، وقد يكون هؤلاء الأطباء موجودين أصلاً في تلك المخيمات، ولكنهم لا يستطيعون أن يباشروا عملهم في ظل الظروف الحالية، ويحتاج كل واحد منهم إلى مرتب، أقل ما يكون ألف ريال في قيامه بعمله، مع وجوب تأمين الأدوية والأجهزة الضرورية، كذلك تعيين عشرين داعية ومعلماً للقرآن الكريم، وبناء ثلاث مدارس ابتدائية، حتى ولو كان بناؤها من القش لحماية أبناء المسلمين، وبناء مساجد كافية بتلك المخيمات، وتكلفة المسجد تقارب، كما يقول التقرير ثلاثين ألف ريال، ويمكن أن يبنى المسجد من بنايات متواضعة -كما ذكرت- من القش، أو من الكراتين أو من الخرق البالية أو من غير ذلك، فتكون التكلفة أقل من ذلك بكثير جداً، وربما تُغطي هذه الثلاثون الألف بناء المساجد من هذه النوعية في جميع المخيمات.(188/10)
جوانب إيجابية
ومع ذلك فإننا لا نميل أبداً إلى النظرة التشاؤمية! بل ندعو إلى التفاؤل، والثقة بالله تعالى، وأن نعرض الصورة الإيجابية إلى جانب الصورة السلبية، هناك جوانب إيجابية لابد من الحديث عنها، ينبغي أن نعز الحديث ببعض انتصارات الإسلام، ليعلمَ الجميع أن تحقيق مكاسب لهذا الدين أمرٌ ممكن في جميع الظروف، وفي جميع البلدان، متى توافرت النية الصادقة، على سبيل المثال:(188/11)
الصين (ولاية سنكيانت)
المثل الآخر في الصين التي لا تزال تئن تحت تسلط الشيوعية وبالذات في ولاية سنكيانت، وهي ولاية إسلامية، وهناك مطالبة بالانفصال عن الشيوعية، وقد ذكرت عدد من الإذاعات أخبار تلك المطالبة، وما يسمى بالانتفاضة قبل ليلتين، وهذه الولاية التي يسمونها سنكيانت: هي ما كان يسمى في التاريخ الإسلامي بالتركستان، سكانها أكثر من خمسين مليون نسمة، أغلبهم من المسلمين على الرغم أن الحكم الشيوعي حاول أن يغير فيما يسمونه بديموجرافية الولاية، أي أن ينقل أفراداً وينقل شعوباً من أجناس وعناصر وديانات أخرى، ويسكنهم بالقسر والإكراه في الولاية نفسها حتى لا يجعل هذه الولاية، ولاية إسلامية، بل تكون ولاية من ديانات شتى، ومن أعراق مختلفة، ومع ذلك ظل المسلمون هم الأغلبية في هذه الولاية، وهي أكبر مقاطعة صينية، وكذلك فيها أكثر من (50%) من احتياطي الصين من النفط والغاز الطبيعي، ويعتقد -أيضاً- أنها غنية بالمعادن الأخرى كالذهب والفضة، كما أنها موقع للاختبارات النووية وللبرنامج الفضائي الصين، إذاً: هي أهم ولاية لدى الصين الشيوعية على الإطلاق، من حيث كثرة السكان، ومن حيث وجود احتياطي الغاز والنفط فيها، ومن حيث وجود الاختبارات النووية والبرنامج الفضائي، ومن حيث كثرة السكان المسلمين فيها، فهي ولاية إسلامية، وقد قامت انتفاضة هناك، وطالب زعيم الولاية الحكومة المركزية بإمداده بالجيش لتأديب المسلمين المتمردين هناك،
السؤال
قد نسمع اليوم، أو غداً عن ضرب المسلمين في سنكيانت بضراوة، من قبل الجيش المركزي في الصين، ومن قبل قوات الأمن الشيوعية، فالسؤال الذي يطرح نفسه ما هو موقف الغرب؟ لا نسأل عن موقف العرب، أو المسلمين فهو معروف سلفاً.
ويُقضى الأمرُ حِين تغيبُ تيم ولا يستأمرون وهم شهودُ فهم ليس لهم من الأمر شيء، ولا يتحدثون ولا يشاركون، لكن السؤال عن موقف الغرب، هل سيشبه موقف الغرب موقفهم حينما كانت نقابة توامن في بولندا، تواجه الحكومة الشيوعية هناك؟ تكلم الغرب عنها في أجهزة إعلامه، ودعمها دعماً منقطع النظير بالاتصال، وبالإمكانيات وبالصحافة والمدد، بل وبالمشورة والمعونة، وظل يناصرها حتى انتصرت، واعترفت بها الحكومة، ووصلت إلى السلطة، هل سيكون موقف الغرب من انتفاضة المسلمين في الصين الشيوعية مشابهاً لموقف الغرب، وبالذات أمريكا من انتفاضة الطلبة المنادين بالديمقراطية منذ سنتين في الصين نفسها؟ حيث واجهت أمريكا موقف الصين بشدة، وانتقدته بقوة، وعملت مجموعة من الإجراءات للضغط على الصين، بل فرضت نوعاً من المقاطعة على الصين بسبب شدتها في مقاومة وقمع ما يسمى بحركة المنادين بالديمقراطية.
هل سيكون موقف الغرب من انتفاضة المسلمين في سنكيانت ضد الحكم الشيوعي مشابهاً لموقف الغرب في روسيا، حينما قام الشعب ينادي بإسقاط الشيوعية؟ فرفض الغرب الاعتراف بالحكم الشيوعي أثناء الانقلاب وطالب بمراعاة رغبة الشعب، الذي قام في الشوارع ينادي بإسقاط الحكم الشيوعي، وقرر أن يستخدم كافة الوسائل والإمكانيات وكافة الضغوط الاقتصادية، والسياسية، وغيرها، من أجل إسقاط الحكم الشيوعي، وتنفيذ ما يعتبره الغرب أنه رغبة الشعب الروسي هل سيفعل الغرب الفعل نفسه؟! أم أنه سوف يتجاهل صيحات المسلمين لأنهم مسلمون، والغرب شاءَ أم أبى يتحرك وفق نظرة عنصرية عرقية دينية واضحة، طبعاً الجواب هو الثاني: أن الغرب سيتجاهل صيحات المسلمين الآن، كما تجاهلها من قبل في أكثر من مكان، وقد لا يجد الغرب في إعلامه مكاناً للحديث عن آلام المسلمين وهمومهم، وعلى فرض أنه وجد حيزاً ضيقاً للحديث عن تلك الآلام وتلك الهموم وتلك المعاناة، فإنه لن يُصغيَ أذنيه، ولن يقف مع المسلمين في حال من الأحوال.(188/12)
بريطانيا
نموذج آخر في بريطانيا، كما ذكرت جريدة السياسة، في آخر شهر شعبان اكتظت المساجد بالمصلين هناك، على عكس الكنائس التي أصبحت مقاعدها خالية، وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المسلمين قد زادَ مليوناً خلال خمسة عشر سنة، أي بنسبة130%!! على أن الكنائس أصبحت تفقد روادها يوماً بعد يوم ويتناقص الذين يجيئون إليها، بنسبة تزيد على10%!! ولذلك مردود كثرة المسلمين هناك، لها مردود سلبي عند النصارى يتكلمون عنه وسوف أشير إليه بعد قليل.(188/13)
الجمهوريات السوفيتية
نموذج ثالث من الإيجابية: الجمهوريات السوفيتية سابقاً التي تنتمي إلى أصل إسلامي، قد تنفست الصعداء، وأقبل المسلمون على الإسلام، وعلى تعلم اللغة العربية، بل قامت هناك أحزاب إسلامية في أكثر من موقع في تلك الجمهوريات، تنادي بالإسلام، وبتحكيم الإسلام، وهناك جهود كبيرة للمقيمين، وللمؤسسات الإسلامية، وقد عادت كثير من المساجد إلى المسلمين، وإن كانت صغيرة -أحياناً- ومهدمة ومدمرة -أحياناً أخرى- لأن الاتحاد السوفيتي قد احتلها، وظل أكثر من سبعين سنة يستخدمها كأماكن للهو أو مراقص أو مستودعات، أو نحو ذلك من الأغراض المختلفة، ولذلك يسعى المسلمون إلى إعادة بنائها وإعادة ترميمها، وإقامة علاقات مع إخوانهم المسلمين في كل مكان، مع ذلك هناك بعض السلبيات لا يمكن تجاهلها مثل الجهل فقد ظلوا سبعين سنة، أو أكثر وراء الستار الحديدي! وكانت حيازة المصحف جريمة تُعرض صاحبها للقتل والإعدام في نظر الحكم الشيوعي هناك، هناك السبق التنصيري والإيراني، فإن النصارى قد سبقوا وقدموا النصرانية كبديل عن الشيوعية، والسبق الإيراني الذي يعمل على تقديم المذهبية الإيرانية الشيعية كبديل عن الإسلام السُني الذي يدين وينتسب إليه معظم المسلمين في تلك الجمهوريات، وهناك أيضاً احتمال المواجهة بين بعض الأعراق الإسلامية بعضهم مع بعض على أساس عرقي.
المطلوب: كما تقول بعض التقارير تخصيص منح دراسية لبعض أبناء المسلمين من هناك في الجامعات العربية والإسلامية، إنشاء جامعة إسلامية، أو أكثر في تلك الجمهوريات بحيث تعلم الإسلام، وتستقبل أولاد المسلمين، وتكون حلقة الوصل بين العلماء والدعاة والأساتذة وبين طالبي العلم الشرعي هناك، كذلك نشر وترجمة الكتب والأشرطة الإسلامية إلى اللغة التي يتكلمها المسلمون هناك.(188/14)
يوغسلافيا
في يوغسلافيا هناك مسلمو البوسنة والهرسك، وقد نال المسلمون في يوغسلافيا في هاتين الولايتين حريتهم، وحصل حزب العمل الديمقراطي كما يسمونه وهو حزب المسلمين على أغلبية الأصوات هناك، وصار رئيسه الأستاذ علي عزت رئيساً للجمهورية، كما حصل المسلمون على عدة وزارات هناك، كوزارة الخارجية، والداخلية، والتعليم، والاقتصاد، والصحة، والبيئة وغيرها، ومع ذلك فإن المسلمين يواجهون مشاكل: منها: القلاقل الأمنية التي تهدد يوغسلافيا عن آخرها ومنها: الحصار الاقتصادي بسبب الحرب الدائرة ومنها: انتشار جنود الجيش في المدينة العاصمة وما حولها ومنها: مشكلة البطالة، حيث يواجه مليون وستمائة ألف عامل مشكلة البطالة ومنها: نقص التعليم هناك ومنها: احتمال عدم اعتراف الدول الغربية بجمهورية للمسلمين!! على رغم تصويت أكثر من (60%) لها بالاستقلال، ولكن هناك احتمال أن لا يعترف الغرب بهذه الجمهورية لماذا؟! لأنها جمهورية غالبية سكانها من المسلمين.(188/15)
الحقد الصليبي يتحرك
النقطة الثالثة: الحقد الصليبي يتحرك، ولم يتحرك الحقد الصليبي الآن، بل إنه يتحرك منذ زمن بعيد، والكتب المصنفة في قضية نصرانية أمريكا وأوروبا والغرب والشرق كثيرة وكثيرة جداً، بل لا أبالغ أن أقول: أنه ربما يكون كل أسبوع على الأقل يصدر كتاب يتحدث عن النعرة، والروح الصليبية التي بدأت تبدو في الغرب حكاماً ومحكومين، ويكفي أن نعلم أن حكامهم لا يبرمون عقد صلح، ولا يديرون حرباً، ولا يعملون شيئاً ذا بال، إلاَّ ويذهبون إلى الكنيسة ليصلوا هناك، ويستشيرون القساوسة، لكن أُعيد، وأقول: إن هذه الأمثلة السريعة التي سأقدمها لكم، هي حصيلة أسبوع مما وصل إلي، دون أن أتكلف البحث عنه، وإنما وصل إلي بشكل عفوي غير مقصود، والله على ما أقول شهيد، فانظر إلى هذه النماذج.(188/16)
بلغاريا
في بلغاريا حيث أعلنوا إن حرية الأديان مضمونة للديانات كلها بعد سقوط الحكم البائد فيها، والتصريحات الرسمية تقول: أن بلغاريا هي الجدار الصلب الذي يحول دون تمدد الإسلام إلى أوروبا، إذ هم يعلنون أنهم سيكونون جداراً يحول دون وصول الإسلام وامتداده إلى بقية الدول الأوربية.(188/17)
هولندا
مثلُ آخر: هناك تقرير نشر في أكثر من صحيفة منها صحيفة الشرق الأوسط -فيما أتذكر- تقرير لجهاز الاستخبارات في هولندا، يحذر من التطرف الإسلامي -كما يقول- في البلاد، باعتباره أول خطر حقيقي يهدد الأمن في هولندا، بعضهم يقول: إنه لما سقطت الشيوعية التي كانت خطراً يهدد الأمن هناك، خافوا من تسليح أعداد كثيرة من الجنود والعاملين، ولذلك أبرزوا الخطر الإسلامي كبديل عن الخطر الشيوعي خشية من تسليح هذه الأعداد الكبيرة من الجنود، ولكن يبقى الخطر، وتبقى النغمة الصليبية واضحة تدق ناقوس الخطر من الإسلام.(188/18)
السودان
آخر خبر سمعته البارحة، أثناء انتصارات الجيش السوداني النظامي على حركة العقيد جون قرنق، في الجنوب، لما انتصر الجيش السوداني على قوات النصارى بقيادة قرنق، كيف عبر الإعلام الغربي عن هذا الخبر؟! سمعتُ بأذني الإذاعات الغربية تقول: انتصارات الحكومة السودانية الإسلامية على الجيش الجنوبي المسيحي السوداني، فعملت على إبراز لفظ الإسلامية في الحكومة، وعلى إبراز لفظ المسيحي في الجيش، وكأنها بذلك تحرك مشاعر المواطن العادي في أمريكا وأوروبا وغيرها، إلى أن يتعاطف مع إخوانه النصارى في الجنوب ضد المسلمين الذين يحاربونه، وقد انتصروا عليه، وقد سمعت هذا في عدد من التقارير، بل في البارحة ذكرت إحدى الإذاعات مجموعة من التقارير لصحف أجنبية كثيرة، وأكثرها أبرزت هذا اللفظ، إذاً: هناك ما يسمى بالمسيحية السياسية، أو النصرانية السياسية، التي بدأت تبرز الآن بشكل واضح، تبرز في العالم الغربي، وتبرز في العالم العربي، ولعل أوضح وأقوى نموذج لها في العالم العربي في مصر، فقد بدأت تبرز المسيحية في اتجاه سياسي واضح، ولها رموز وشخصيات وكتب وصحف، وقد تكلم أحد الباحثين، وهو الدكتور فهمي هويدي في مقال له في جريدة الشرق الأوسط، عن هذه القضية بعنوان "الفاتيكان في الحلبة" أو عنوان قريب من هذا المقال، بغض النظر عن المتحدث، الكاتب نفسه بعض الإخوة ينتقدون لماذا يذكر اسمه، هذا لا يمنع من ذكر اسمه؛ المقال مفيد أنصح بالاطلاع عليه وقراءته.(188/19)
أذربيجان
على سبيل المثال: في مدينة قره باخ، حيث المعارك بين الأرمن النصارى، وبين الأذربيجين المسلمين، سكان أذربيجان، حيث المعارك الضارية، الغرب الصليبي يساعد الأرمن، وقد ضبط جنود يقاتلون إلى جوارهم، ضبطوا قتلى من جنسيات مختلفة، حتى من لبنان جنود يقاتلون إلى جانب الأرمن هناك فيما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، وضبطت مكالمات هاتفية كثيرة تدل على تدخل أطراف خارجية في هذه الحرب، ومن المعروف أن الأرمن قتلوا أكثر من ألف قتيل مسلم في قرية يسمونها قرية خوجالي، ودمروا هذه القرية عن آخرها، وقد حاول الإعلام الغربي أن يتجاهل هذه المجزرة، بل قالت بعض وسائل الإعلام الغربي: إن تلك الصور مفبركة أي مصنوعة ومختلقة، وفيها نوع من اللعب، وليست حقيقية.
تركيا، وهي المجاورة لهذه الجمهوريات، حيث الأغلبية الإسلامية، تركيا هددت وهنا الميت تحرك، تركيا العلمانية، من عهد أتاتورك، والتي يقوم نظامها على أساسٍ علماني، والذي أستطيع أن أقول من خلال متابعة ورصد جزئي أن اليقظة والصحوة الإسلامية فيها ما زالت أقل من المستوى المطلوب، وأن التغريب قد بلغ مداه على الشعب وليس فقط على الحكومة التركية، ومع ذلك كله، تركيا تهدد بأنها لن تقبل أن يقيس الغرب بمقياسين، تخاطب الغرب والغرب يرشح تركيا لتكون وكيلاً عنه في المنطقة، والغرب يؤيد تركيا على الأقل ضد إيران، وضد الأصولية الإسلامية في المنطقة الإسلامية كلها، فيعتبر أن تركيا بعلمانيتها جزءاً منه، ولهذا يضعها ضمن الحلف الأطلسي، ومن الممكن أن يتقبلها في أي نشاط اقتصادي، ويتعاون معها في مجالات عدة، ومع ذلك تركيا هددت بأنها لن تقبل أن يقيس الغرب بمقياسين، وأن يفرض عليها سياسة الأمر الواقع ثم ترددت تركيا، وقالت: لا تستطيع أن تتدخل إلى جوار المسلمين الذين يقتلون في أذربيجان، لماذا؟! قالت لأن المسلمين هنا يقتلون من قبل النصارى، ونحن الأتراك إذا تدخلنا لصالح المسلمين، فكأننا نحرض الغرب على أن يتدخل لصالح الأرمن، ومعنى ذلك، أن الأتراك العلمانيين يدركون أن الغرب يتحرك بدوافع صليبية، ويناصر النصارى في كل مكان، وأن تدخل تركيا الإسلامية سيدعو إلى تدخل الغرب الصليبي لصالح الأرمن.(188/20)
ظهور نزعات عنصرية في الغرب والشرق
ظهرت في الغرب والشرق نزعات عنصرية كثيرة تطالب بإبعاد الأجانب هذا موجود في أمريكا وموجود في بريطانيا، وموجود في فرنسا بشكل واضح جداً، وهم يقصدون بالأجانب المسلمين بالأخص، وهناك أحزاب كبيرة، أهم فقرة لها في البرنامج الانتخابي، تحاول أن تغري بها الناس: أنها تطالب بإبعاد الأجانب وتقليص حقوقهم، وتقليص الصلاحيات الممنوحة لهم، وهناك خبران مهمان أختم بهما ما يتعلق بهذه الفقرة.(188/21)
الحلف المقدس
الخبر الأول: نشرت مجلة تايم الأمريكية، معلومات مُثيرة جداً عما سمته هي بالحلف المقدس بين المخابرات المركزية الأمريكية، وبين الفاتيكان: التي هي الدولة التي ترعى شئون النصارى في الغرب، حيث ثبت أن هناك جهوداً قديمة منذ أكثر من عشر سنوات بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وبين الفاتيكان، ممثلة في البابا يوحنا بولس الثاني، من أجل إسقاط الشيوعية في بولندا، ثم إسقاط الشيوعية في العالم، واستلام التركة، وأن بابا الفاتيكان بعدما نجح في هذا العمل الكبير الجبار في التعاون مع الأمريكان في إسقاط الشيوعية، أنه يرشح للقيام بدور كبير على مستوى العالم كُلِهْ، ضُمْ إلى هذا الخبر خبراً صغيراً نشر في زاوية "افتتاح سفارة للفاتيكان في الكويت"!!(188/22)
الخطر الجديد على الغرب
الخبر الثاني: الذي ذكرته هو: كتاب ظهر في أمريكا عنوانه "صعود القوى العظمى وانحطاطها" مؤلفه رجل اسمه بول كندي، طبعاً يتكلم عن سقوط الشيوعية، ويقول: سقطت الشيوعية وسوف تسقط أمريكا بنفس الأسباب التي سقطت بها الشيوعية، ووضع قوانين وسنناً ونواميس لسقوط القوى العظمى وانحطاطها، وصعودها وسقوطها، وفي ظل الخوف من سقوط أمريكا خاصة، مع الركود والأزمات الاقتصادية التي تعانيها، ومع المشكلات كمشكلات البطالة والديون وغيرها، لم يرتح كثير من الساسة الأمريكيين لهذا الكتاب، فظهر كتاب آخر، أحدث ضجة كبيرة، وهو المقصود هنا وهذا الكتاب اسمه "نهاية التاريخ" مؤلفه رجل اسمه فوكوياما: هو أمريكي من أصل ياباني، خلاصة الكتاب يقول انتهى التاريخ، سقطت الشيوعية، وسقطت كل التحديات التي تواجه الغرب، وثبت الآن بما لا يدع مجالاً للشك أن ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية هي الخيار الوحيد أمام العالم، وبناءً عليه فإن الديمقراطية الليبرالية سوف تفرض سلطانها على العالم كله بدون مقاومة، وليس هناك تحديات حقيقية تواجهها، هذا خلاصة الكتاب ولكن الكثيرين لم يرتاحوا لهذا الكتاب، وما قاله، فردوا عليه ردوداً كثيرة جداً في الصحف والمجلات، بل صدرت كتب كثيرة تتكلم عن هذا الموضوع، وأحد الكتب صدر في فرنسا تحت عنوان "الانتعاش الديمقراطي" وأهم ما جاء في هذا الكتاب أنه أكد على أن الإسلام هو الخطر الحقيقي الذي يواجه ما يسمونه بالديمقراطية الليبرالية، وقال: الإسلام خطر حقيقي، وهو دين صلب، وغير متسامح، ولا يوجد مثال واحد على تسامح الإسلام، الأفراد الذين يظهرون المرونة معنا من المسلمين يعدون على الأصابع، وعد ثلاثة من المفكرين، من أمثال ابن جلون في المغرب، ومفكر مصري، وثالث وقال: هؤلاء ليس لهم أي تأثير، فهم منبوذون من مجتمعاتهم، أفكارهم وأطروحاتهم غير مقبولة يقول: لا تكمن المشكلة في المسلمين فقط لا، المشكلة تكمن في الإسلام ذاته، إنه دين صلب وصعب وغير متسامح، وهو مصدر الإرهاب الدولي العالمي الرسمي، ويستحيل أن يتخلى المسلم عن دمويته وعنفه، ومازال الكلام للمفكر الفرنسي يقول: والإسلام كان في الماضي خطراً خارجياً، يتمثل في الدولة العثمانية التي كانت تهدد أوروبا، أما الآن فالإسلام خطر خارجي وداخلي أيضاً، خارجي من خلال الأصولية الإسلامية العالمية، التي قامت حتى الآن في البلاد الإسلامية كالجزائر أكثر مما كان في الجمهوريات السوفيتية الإسلامية، وفي الصين وفي أي مكان، وهو أيضاً خطر داخلي يتمثل في المسلمين الذين يقيمون في أمريكا، وفي بريطانيا، وفي فرنسا، وفي هولندا، وفي أكثر من مكان من العالم الغربي، ويمكن أن تتزايد هذه الأعداد في تلك البلاد، وتشكل خطراً حقيقياً من داخلها، عموماً نغمة العودة إلى ما يسمى بالأصولية المسيحية تتزايد في الغرب، وهو يقدم المسيحية كبديل عن الشيوعية للروس، ويقدم المسيحية كسلاح في مواجهة الإسلام في المرحلة المقبلة، لأنه يعرف أنه لا يمكن أن يواجه الإسلام إلا بقوة عقائدية، ولا يملك قوة عقائدية إلا المسيحيون، ولذلك أقول: سوف تشهدون وتسمعون وترون إقبالاً من الغرب على النصرانية، ليس قناعة في النصرانية، ولكن من باب مواجهة الإسلام بقوة نصرانية، أعطيك مثالاً: في ألبانيا، الحاكم رامز علي، شيوعي، والشيوعية قد سقطت وانهارت، رامز علي وهو شيوعي استيقظت فيه آثار الإسلام السابقة فجاء للمسلمين، يقول لهم: الآن الشيوعية التي كنت أدعو لها وأتحمس لها، قد انهارت، وما بقي أمامي إلا طريقان: إما الإسلام، وإما النصرانية، وإذا كان الخيار بين الإسلام والنصرانية فأنا أفضل الإسلام، فتفضلوا تعالوا أنشئوا ما شئتم من المساجد والمدارس والمؤسسات، وأنا سوف أدعمكم وأساعدكم وأكون في صفكم، وقد بعث مندوبين من وزرائه إلى البلاد الإسلامية، وقالوا: قريباً من هذا الكلام، وقال هو هذا الكلام في أكثر من مناسبة.
إذاً: كما أن المسلم الذي تحول إلى شيوعي، لما انهارت الشيوعية وجد أن الإسلام هو البديل، ولو لم يكن مسلماً حقيقياً قد لا يكون مسلماً بالمصطلح الشرعي، بحيث لو أتيت تنظر هل هو مسلم فعلاً، قد تجد إنه ليس كذلك، ولكنهم سوف يكونون مؤيدين للنصرانية؛ لأنهم يواجهون خطر الإسلام والمسلمين.(188/23)
اليهود يدافعون عن حقوقهم
اليهود يتصلبون في مواقفهم مما يسمى بجهود السلام، كما هو واضح جداً، وذلك لأن اليهود لا يريدون أبداً أن يكون لهم في إسرائيل حدود يقفون عندها، يريدون أن يظلوا في توسع مستمر، وهم يدعمون كل من يساعدهم أو يعينهم، ويستقبلون الآلاف من المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي ومن غيره من بلاد العالم، ويحرصون على الإفادة من المتغيرات الدولية لصالحهم.
يعلن اليهود أنهم الدولة التي تدافع عن حقوق اليهود في العالم، فلو أصيب يهودي بمشكلة أو مأساة مثلاً في فرنسا لقام اليهود يدافعون عنه، ويقولون: إن هذه حرب ضد السامية، وأن هذه تفرقة عنصرية، ويشنونها حرباً إعلامية لا تهدأ، حتى يبلغوا ما يريدون.
إن الأحزاب الأصولية المتشددة في إسرائيل في تقدم مستمر، وبشكل عام، فإسرائيل دولة يهودية دينية، قامت على أساس ديني، وهي تدافع عن حقوق اليهود في كل مكان.(188/24)
إيران تنشر مذهبها ولغتها
إن إيران إحدى الدول التي تتحرك بقوة وبشكل غريب في المنطقة، فهي تتحرك في ظل الفراغ الكبير الذي أحدثته النقاط التالية:-(188/25)
السقوط والانهيار عند بعض الدول
رابعاً: السقوط والانهيار الذي تعيشه كثير من الدول التي ظهر ولاؤها للغرب، وارتماؤها في أحضانه، وحرصها على مصالحه، وسهرها عليه، وتحالفها -أيضاً- مع عدو الله والمؤمنين اليهود.
إيران تقدم مذهبيتها للمسلم السني الذي ظل أكثر من سبعين سنة وراء الستار الحديدي عنده عاطفة للإسلام، لكن لا يعرف عن الإسلام أي شيء إلا مجرد انتساب وولاء، ومجرد أن آباءه أو أجداده كانوا مسلمين، فماذا تتصور إذا فتح هذا المسلم عينيه على جهود إيرانية تقدم له التشيع؟! وتعلن له محبة الله، وتعلن له محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتعلن له محبة أهل البيت، وتعلن له شيئاً اسمه الإسلام، ثم تقدم له المذهبية الشيعية على هذا الطبق، هل تعتقد أن هذا المسلم سيتردد ولو لحظة عن قبول المذهب الشيعي، الذي أظنه أنه سيستقبله بكل سرور، خاصة وأن إيران تقدم مع ذلك الاقتصاد، فهي تقيم علاقات اقتصادية مع تلك الدول، وتدعم الدول دعماً اقتصادياً كبيراً، وتقدم الخبرات، وتقدم الإمكانيات التي تتمتع بها دولة كبرى مثل إيران، مع مراعاة وجود نوع من الاشتراك أصلاً في اللغة والتاريخ والثقافة، خاصة بين إيران وأذربيجان، التي تقطنها أغلبية شيعية، ولذلك فإن تلك الدول مهددة بغزو إيراني كاسح، ليس تلك الدول فقط، بل العالم الإسلامي كله مهدد الآن!(188/26)
مواقف مشرفة لإيران
إن إيران هي القيادة الإسلامية المرشحة في هذا الظرف، ومع الأسف الشديد إيران وقفت ضد الصلح مع إسرائيل، في حين وقفت كل بلاد العرب والإسلام مع الصلح سراً وعلانية، وأيدت اليهود ودعمتهم، بل الدول الغنية قدمت لهم المال لتمويل مشاريعهم، وبعض السفراء التقى بزعماء اليهود، وقال: ليس بيننا وبينكم شيء، ونحن مستعدون لدعمكم بالمال؛ لضمان مسير عملية السلام -كما يقول- فوقفت إيران ولو إعلامياً ومن باب المزايدة ضد عملية السلام.
إيران وقفت مع المسلمين المضطهدين في الجزائر، على الرغم من أن الدول الأخرى كلها وقفت ضدهم مادياً ومعنوياً، وساعدت عدوهم بالمال والرجال وبغير ذلك.
إيران تعلن دفاعها عن حقوق المسلمين في كل مكان، وفي العام الماضي في الحج وزعت إيران كتاباً من خمسين صفحة، تكلمت فيه عن كل قضايا المسلمين المضطهدين في العالم اللهم إلا قضية أفغانستان لم يمروا بها؛ لأنها قضية سنية بحتة واضحة، فمروا عليها مرور الكرام، ولم يذكروها بشيء.
هذا الأمر المؤسف.(188/27)
تهديد عقائد المسلمين
يهدد بتحول في عقائد المسلمين وضمائرهم على الأقل إلى الثقة والإعجاب بالعقيدة الشيعية التي تتبناها إيران أقل ما سيكون أن ما كان يشعر به المسلم من حاجز بينه -بكونه مسلماً سنياً- وبين تلك الجهود وتلك الدولة، وتلك المذهبية بكونها شيعة جعفرية أثنا عشرية: أن هذا الحاجز سوف يزول ويتهدم، ويتقبل المسلمون المذهبية الشيعية الإيرانية ويتأثرون بها.(188/28)
إيران قوة كبرى في المنطقة
-وعلى كل حال- فإيران تعد نفسها قوة كبرى في المنطقة، وهناك تقارير كثيرة نشرت في مجلة الأسبوع العربي عن التسلح النووي الإيراني، والتسلح النووي الإيراني ليس أكثر خطورة، عندنا من النفوذ السياسي، والعقائدي، والاقتصادي، والإعلامي، والأمني الكبير الذي تحظى به إيران اليوم في ظل غياب الإسلام السني، وغياب وجود من يمثله على المستوى الرسمي، وفي ظل غياب الاتحاد السوفيتي وانهياره، وفي ظل الأزمة التي يعيشها العراق، وفي ظل السقوط الذي تعيشها القيادات العربية والإسلامية.(188/29)
أزمة العراق
ثالثاً: الأزمة التي يعيشها العراق، فقد كان العراق يشكل نوعاً من التحدي لإيران، ويشكل نوعاً من توازن القوى، لكن في ظل الوضع الصعب الذي يعيشه العراق أصبحت إيران تتحرك بحرية أكثر.(188/30)
غياب الإسلام السني
أولاً: هناك غياب الإسلام السني، سواءً على صعيد الدول، أم على صعيد المؤسسات والمنظمات، ونقول بكل مرارة: لا توجد دولة تتبنى الدفاع عن حقوق المسلمين السنة في العالم، المسلمون ليس لهم بواقٍ، فالمؤسسات والمنظمات التي تتبنى الدفاع عن المسلمين وإغاثتهم ومساعدتهم لا تزال قليلة وهي دون المطلوب بكثير!(188/31)
سقوط السوفيت
ثانياً: سقوط ما يسمى بالاتحاد السوفيتي، ووجود الجمهوريات التي تركته وهي بأمس الحاجة إلى من يساعدها، ويأخذ بيدها، فتتنافس عليها مثل إيران وتركيا والغرب، أما المسلمون السنة فهم أصلاً ليسوا على مستوى أن يفكروا في هذا الأمر مما يظهر على المستوى الرسمي، أما على المستوى الشعبي فأمر آخر.(188/32)
أين المسلمون؟
أين المسلمون؟! أغنى منطقة في العالم هي المنطقة الإسلامية، وأفقر منطقة في العالم هي المنطقة الإسلامية.
ومن العجائب والعجائب جمة قرب الحبيب وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول(188/33)
على المستوى الاقتصادي
أما على المستوى الاقتصادي فالعالم الإسلامي -كما نعرف- مرتبط اقتصادياً باقتصاد الغرب الحر، وبالتالي لا يستطيع أن يفعل كبير شيء والكلام عن قضية السوق الإسلامية المشتركة وغيرها، يبدو أنه أقرب إلى الخيال -على الأقل في الوقت الحاضر- منه إلى الواقع، وكذلك الحال بالنسبة لما يتعلق بالجانب السياسي، فالقرارات السياسية: هي ظل وأثر للقرارات الغربية، وبالتالي لن تكون ذات تأثير.(188/34)
قلة دخل الفرد المسلم في هذه البلاد الإسلامية
بلاد النفط الذي تفيض نفطاً وسمناً وعسلاً وذهباً، هذه البلاد هي أفقر بلاد الدنيا، فالعالم الرابع: يمثل البؤس والتخلف الجهل والمرض، فأقل مستوى لدخل الفرد في العالم يوجد في بلاد الإسلام.
انظر مثلاً: في بلاد بنجلاديش وماذا تعاني؟ لقمة العيش لا يستطيع أن يجدها المسلم، ومع ذلك يواجهون مشاكل في الفيضانات، وما ينزح إليهم من بلاد أخرى، وفي أمور كثيرة.
مما يعانيه المسلمون في أفريقيا، اللاجئون الإريتريون مثلاً، واللاجئون الصوماليون، واللاجئون في السودان، وفي كثير من بلاد العالم، وفي كينيا مستوى فقر لا يوجد في أي مكان آخر في الدنيا، ولا يشابهه إلا ما يعانيه المسلمون في البلاد التي كانت شيوعية، كألبانيا مثلاً، حيث لقمة العيش لا يجدونها.
المال الإسلامي، والخبرة، والعقول الإسلامية، التي جعلت العالم الإسلامي هو أغنى منطقة في العالم لا تعدو أن تكون الآن سوى زبدة لخبز الغرب، والتجاهل الإعلامي لقضايا المسلمين شيء كبير.
وأيضاً- أعطيكم نماذج مما جاءني خلال هذا الأسبوع لم أسع في تحصيله لكنه جاءني عفواً من بعض الإخوة، نماذج من بعض القصاصات من صحفنا التي تمثل بلاد الحرمين، الصحف التي يتوقع المسلم أنه إذا صرخ المسلم في مشرق الأرض ومغربها، ساعدناه وأغثنا لكنه فوجئ أن الأمر كما قيل: رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم قصاصات من تلك الصحف، صحيفة تهتم بالشئون الرياضية، تكلمت عن فتاة من بوخارست، وقصتها أهم من أوضاع المسلمين في الاتحاد السوفيتي، هذا الخبر -معذرة على ما أسوقه من الأشياء التي تسوء مسامعكم في هذا المكان الطيب وفي هذا الشهر المبارك، نحن نريد أن نعرف واقعنا- فتاة جميلة انتحرت عن طريق تناول الحبوب المنومة، وجعلوها في المشرحة بعد أن ماتت، الحارس رأى تلك الفتاة فأعجب بها، فأراد أن يغتصبها، والعياذ بالله، ليفعل بها الفاحشة، فوجئ بأن هذه الفتاة استيقظت، وبدأت تدافع عن نفسها، ولكنه تغلب عليها وانتصر، وفعل بها فعلته، علم الأهل فأتوا، وأعطوا هذا الحارس جائزة، الذي كان سبباً في اكتشاف أن ابنتهم لم تمت، وأن التشخيص كان خطأً، القضاء حائر ماذا يصنع بهذه القضية، هل يعاقب الحارس أم يجازيه؟!! هذا هو الخبر الذي يهم جريدة رياضية من أوضاع المسلمين وأوضاع الناس في جمهوريات الاتحاد السوفيتي.
وصحيفة أخرى غير سياسية، صباحية تنشر مجموعة من الأخبار، -وما سوف أذكره لكم من عدد واحد أو عددين فقط- يهمها كثيراً: أن الرئيس الفرنسي قد اختير لرئاسة جمعية الحمير العالمية، وأحدهم ذكر سمى نفسه بالحمار الأكبر، وقال: إن الحمار هو أكثر الحيوانات صبراً وتضحية واستعداداً للبذل، ولذلك وصف نفسه بهذا الوصف، ومرة أخرى كتبت هذه الجريدة بخط واضح -مع الاعتذار- أن لبن الحمير مفيد لطفلك الصغير، وتكلمت عن الجرعات التي يمكن أن تعطيها الأم للطفل من هذا اللبن؛ حتى يستفيد منه صحياً وغذائياً، وقالوا: أنه أفضل من أي شيء آخر، هذا هو الذي يعنيهم ما يتعلق بأخبار الحمير.
أما الأمر الآخر الذي يعنيهم كثيراً، -وأقولها بكل مرارة وأسف- فهي أخبار الداعرات، وهل عرفتم صحيفة تصدر بلغة عربية وتمثل بلاد الحرمين الشريفين، ويكتب فيها أناس يحملون أسماءً إسلامية، كل همها الكلام عن موضوع الداعرات، من عدد واحد أنقل لكم: أيلونا، نجمة الخلاعة السابقة، تعلن نفسها لخوض الانتخابات، وقد كانت هذه المرأة طلقت من زوجها التي تأخذ عليه أنه كان شديد الغيرة، وأيلونا هذه نجمة للخلاعة -والخبر لا يزال لتلك الجريدة الصباحية- وفي غيابها حلت محلها نجمة أخرى على رأس حزب الحب، الذي يدعو إلى التحرر الجنسي، وإعادة فتح بيوت الرذيلة، لم تعلق الصحيفة على الخبر ولا بكلمة واحدة، بل نشرت خبراً آخر في نفس العدد، بل في نفس الصحيفة، خبراً عن نجمة من نجمات البلاي بوي وهي: شركة تعنى بقضايا الفساد الأخلاقي، والمجلات، والأفلام الخليعة وما يتعلق بها، هذا هو ما يهم هذا الإعلام الفاسد المهتري من أحوال وأوضاع، في الوقت الذي يذبح فيه المسلمون، وتراق دماؤهم ويموتون جوعاً وعطشاً وتملأ بهم السجون.
وأقول أيها الأحبة: هذا أحسن ما تنتظره من هؤلاء لماذا، لأنهم إذا تكلموا عن أحوال المسلمين فماذا يقولون؟! إذا تكلموا عن أحوال المسلمين، قلنا يا ليتكم كنتم مشغولين بالحمير، ويا ليتكم كنتم مشغولين بالكلام عن نجمات البلاي بوي، نجمات الخلاعة، عن الكلام في أوضاع المسلمين، لماذا؟! لأنهم إن تكلموا عن المسلمين وصفوهم بالأصوليين، والمتطرفين، والمتشددين، وأقبح النعوت، وكتبوا وقدموا التقارير التي تدينهم، وجندوا وحشدوا الكتاب الذين يعبرون عن رغبة هؤلاء الصحفيين، ورغبة من وراءهم من رجال الاستخبارات وغيرهم، في تشوية صورة المسلمين في بلاد المسلمين وغيرهم هذا على المستوى الإعلامي.
إذاً يعيش المسلمون غياباً كبيراً نحو إخوانهم المسلمين إعلامياً.(188/35)
أسباب تحجيم الدعم عن المسلمين
وهنا يأتي السؤال مادمت تقول هكذا! هل النفق مسدود؟ وهل الطريق مسدود أمامنا؟! أقول: كلا، إذاً: فماذا نفعل؟ هذا ما سنتحدث عنه، وهنا أطرح سؤالاً: لماذا نحجم نحن المسلمون عن دعم إخواننا في كل مكان؟ يعتذر بعضهم عن دعم المسلمين لأسباب:(188/36)
التشكيك في صحة الأخبار عن المسلمين
السبب الثاني: بعض المسلمين يشككون في صحة الأخبار الواردة عن إخوانهم المسلمين، وأقول أمامنا الآن تقارير مكتوبة بأقلام إسلامية، وعندي منها شيء كثير، -ذكرت لكم ما جاء خلال أسبوع فقط- وأمامنا صور، وعندي ألبومات صور تحكي كثيراً مما ذكرت لكم، رأيته مصوراً للعيان، يراه الإنسان بعينه، وهناك كثير من الأفلام -الفيديو-صورت مآسي المسلمين حتى إن أحد الأفلام ورد فيه تصوير لأعداد من المسلمين وقد قتلوا، وهدم عليهم المسجد الجامع في أحد المدن، أظن في سريلانكا أو غيرها.
هناك الأخبار المصورة، التي تنقلها وسائل الإعلام من الشرق والغرب، هناك الذين يذهبون إلى تلك البلد، ويطلعون على الأحوال بأنفسهم، وهم شهود عيان يتكلمون عما رأوا وشاهدوا وعاينوا.(188/37)
التشكيك في وصول الدعم إلى المسلمين
أعتقد أنه يمكن أن يحصل تضليل أحياناً، وبعض ضعاف النفوس قد يستغلون هذه الأوضاع، وقد يأتي إنسان يتكلم عن أحوال المسلمين وعن حاجتهم ولا يوصلها، ولكنه يحتجزها لنفسه أو لمصلحته، لكن وإذا كان ذلك كذلك، هل هذا يحول بيني وبين الإنفاق؟! لا.
نحن لا نتحرك وفق أذواقنا، نحن نتحرك ضمن التعليم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونرجع إلى التعليم النبوي، أليس ضمن التعليم النبوي: ما جاء في الحديث المتفق عليه -أيضاً- أن رجلاً غنياً خرج ليلة، وقال: {والله لأتصدقن الليلة، فأخذ مالاً فتصدق به، فلما أصبحوا، قالوا: تُصِدَقَ الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد على غني؟! -يعني ما بلغت محلها في ظني- لأتصدقن الليلة، فخرج الليلة الثانية فتصدق، فأصبحوا يتحدثون،:ويقولون تُصِدِقَ الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن الليلة، فأصبح الليلة الثالثة فتصدق فأصبحوا يتحدثون: تُصِدْقَ الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق! فقيل له: إنها كُتِبَتْ صدقة متقبلة، أما الغني فلعله يعتبر فينفق، وأما الزانية فلعلها س تستعف عن زناها، وأما السارق فلعله يكف عن سرقته} هب أنك أخرجت صدقة لوجه الله تعالى تنويها للمسلمين في مكان في الدنيا، ولنفترض جدلاً أنها وقعت في يد إنسان مغرض وأخذها لنفسه، أنت تريد الأجر، والأجر حصل والزكاة خاصة، هي أمر أوجبه الله تعالى عليك، وفرضه الله تعالى عليك، فهي حق للمسلمين مطلوب منك أن تخرجها، وتبذل الوسع لإيصالها إلى مستحقيها، لكن ليس من حقك، أن تقول: لا أخرجها لأني أخشى أن تضيع، هب أنها ضاعت بعدما تبذل كافة الاحتياطات الممكنة، على غنى على زانية على سارق، قد كتبت في الصدقة المتقبلة إن شاء الله، هذا جانب.
الجانب الثاني: أن هناك كثيراً من طلبة العلم، والمشايخ، والدعاة، والجهات الإسلامية، التي تقوم بجهود كبيرة في دعم المسلمين وإغاثتهم وإيصال الخير والبر والمعروف إليهم، يمكن أن يستفاد من هؤلاء جميعاً، وأنت إذا سلمت مالك لرجل تثق به، وقلت له: أرجو أن لا توصله إلى أي إنسان إلا بعد التوثق من حاجته، ولا تعطه أي وسيط إلا بعد أن تطمئن من أمانته وصدقه، هذا ما تستطيعه، وقد قمت به قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(188/38)
الانحراف والفساد وعدم الالتزام
من الأسباب التي يعتذر بها بعضهم، أنهم يقولون: إن المسلمين هناك يعيشون في جو من الانحراف والفساد، وأنهم غير ملتزمين بالدين، وكثير منهم -كما يقولون- بعضهم مسلمون بالاسم فقط، وأقول: هب أن الأمر كذلك، ألا تعرف أنه من ضمن تعاليم سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين أن امرأة بغي زانية سقت كلباً، فشكر الله لها، فغفر الله لها، {امرأة نزلت إلى بئر فشربت، ثم صعدت، فوجدت كلباً يلحس الثرى من شدة العطش، فقالت: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزعت خفها، ونزلت البئر وملأته ماءً، ثم عضته بفمها وصعدت، ثم سقت الكلب، فشكر الله لها، فغفر الله لها، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً، قال عليه الصلاة والسلام: في كل كبد رطبة أجر} المسلم المنحرف أليس ذا كبد رطبة؟! يا أخي لو سقيت الكلب، يجازيك الله خيراً، وهذا مسلم، إنسان، لا تسقيه يقول: إني جائع فأطعمني، إني عارٍ فاكسني، إنني عطشان فاسقني، ويقول -أيضاً-: إنني جاهل فعلمني، يا أخي، الفقر والجوع والعرى جو غير مناسب للدعوة إطلاقاً.
ثم ليس من اللائق أبداً، أن تقف على رأس إنسان يتضور ويتلوى من الجوع والعطش في ظل الهجير، أو في ظل البرد القارس، وتقول له لا أعطيك الماء حتى تكون كذا، وكذا، وكذا، ولا أطعمك حتى تلتزم بكذا وكذا وكذا، أبداً هذا غير لائق، ولا يأتي الدين بمثل هذا! اسقه وأطعمه واكسه، وانصره، ثم قل له: إن الإسلام هو الذي يجمع بيني وبينك، وهو الذي دعاني لأسقيك وأطعمك، وهو الذي يقتضي منك أيها المسلم أن تكون مستقيماً، صالحاً، مؤمناً، عابداً، تقياً، زاهداً، ورعاً، إلى غير ذلك.
وإذا لم تفعل أيها المسلم، وامتنعت عن دعم أخيك المسلم بحجة انحرافه، فإن مؤسسات التنصير، وهي كثيرة في الغرب جداً، والأوقاف التي توقفت لهم، ومساعدات البنوك الهائلة التي تصب في جيوب المنصرين، لن تتردد أبداً في دعم هؤلاء، وهي تقدم لهم الطعام، والشراب، والدواء، والكساء، بيد، وتقدم لهم الإنجيل والتنصير بيد أخرى، ولعلك تعلم أن مؤسسة واحدة، "مؤسسة فرانكلين" على ما اعتقد في بريطانيا طبعت من الإنجيل أكثر من ستمائة ألف نسخة، خاصة لمنطقة الخليج العربي خلال حوالي ثلاثة أو أربعة شهور فقط، هذا ومنطقة الخليج العربي: منطقة إسلامية بحتة، النصارى فيها عدد محدود جداً، فما بالك بالمناطق التي يوجد فيها الوثنيون، ما بالك بالمناطق التي يوجد فيها مسلمون جهلة، فقراء، ضعفاء، عراة، عطاش، والتنصير يشتغل على قدم وساق، رأيتُ بعيني عمارات فخمة في أرقى المواقع في أمريكا وغيرها، أوقاف خاصة بالمؤسسات التنصيرية، والبنوك ملزمة بأن تدفع للجمعيات التي يسمونها خيرية أموالاً ضخمة جداً، تلك المؤسسات والمنظمات تقدم لها تسهيلات غريبة في الغرب، أقلها أنها تُعفى من جميع الرسوم والضرائب؛ حتى تقوم بمهمتها خير قيام، إذاً: ليس وجود الانحراف عند المسلمين حجة تحول بيننا وبين دعمهم.(188/39)
ماذا يجب أن نعمل؟(188/40)
الدعم الاقتصادي
الأمر الآخر الذي يحتاجونه: الدعم الاقتصادي، أما على مستوى الدول، وسوق إسلامية مشتركة، وتبادل اقتصادي هذا أمل ومطلب، ولكن: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد إنما أتكلم على المستوى الشعبي، قضية التبرعات، والحاجة إلى التبرعات من الزكاة ومن الصدقات عند إخواننا المسلمين هناك، أن يجعل الإنسان جزءاً من زكاته إلى المسلمين في الخارج، ويتبرع -أيضاً- لهؤلاء المسلمين أداء لبعض حق الله تعالى في المال، إقامة المؤسسات الخيرية، هل يكفي أن يوجد عندنا مؤسستان أو ثلاث مؤسسات تتبنى أحوال المسلمين؟! أقول: لا، ثم لا، بل إنني أقول: إن من المهم جداً، بل من الضروري أن يكون لكل مهتم بأمور المسلمين، وكل معني، وكل داعية كبير، وكل طالب علم كبير، أو خطيب: أن يكون له مكتب في بيته أو مسجده يربطه بالمسلمين في كل مكان تصله التقارير، تصله الوثائق، تصله الصور، تصله الحقائق، وبالمقابل يبعث هو بنفسه الكفاءات التي تتحقق من الأوضاع، وتتقصى الأخبار، وتطمئن على الأوضاع، وتعرف حقيقة ما يجري هنا وهناك، ومن مهامه أيضاً: أنه يجمع الأموال من أثرياء المسلمين، وتجارها وعامتهم من الزكاة والتبرعات، ويقوم بإيصالها إلى المستحقين هنا وهناك.
والأمر الرابع الذي لا غنى عنه: أنه يقوم ببعث الدعاة وتنظيم جولاتهم، على سبيل المثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله، وأمد في عمره على عمل صالح، هذا الرجل أمة وحده، دعك من عمله الرسمي: الذي هو رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، له مكتب آخر في بيته، هذا المكتب يقوم بالإنفاق على آلاف الدعاة في أنحاء العالم، وصرف مرتبات شهرية لهم، ودعمهم بالمال وما يحتاجون إليه، وهذا ما يسمى بصندوق البيت -خاص بالشيخ- يقوم على نفقات المحسنين وتبرعاتهم وعطاياهم وهباتهم، وعلى الزكاة.
فلماذا لا يكون كل داعية أو طالب علم معتبر أو خطيب مشهور له جهد مصغر مماثل لجهد الشيخ؟! إذا كان الشيخ ينفق على آلاف الدعاة، فيكفيني منك أنت أيها الداعية الشهير أو الخطيب المعروف أن تنفق على عشرة دعاة في مكان ما من الأرض، أو تنفق على مركز إسلامي في مكان، أو تقوم بتتبع أوضاع المسلمين في إحدى الدول، فتكون قد كفيتنا إحدى هذه الثغرات، وكنت صلة الوصل بين المسلمين هنا والمسلمين هناك، عرَّفت المسلمين هنا ماذا يواجه إخوانهم هناك؟ ونقلت الإعانات والمعونات والخير من هنا إلى هناك.(188/41)
العلاج
الأمر الآخر الذي يحتاجونه هو العلاج، فمن أعظم ما يعانيه المسلمون قضية المرض والموت بالعشرات بل بالمئات، بل بالألوف، وفي عدد من البلاد يموت الأطفال -أحياناً- جوعاً، وأحياناً من المرض، وقد يكون لا يحتاج إلا إلى كوب من الماء، يكون معه شيء من الملح أو غيره، ولكن حتى هذا، ولو وجد لا يوجد من يذكر لهم هذه الوصفة، فيحتاجون إلى العلاج، وهذا العلاج يحتاج إلى الدعم الاقتصادي والمال، ويحتاجون إلى الأطباء، والطبيب يمكن أن يساعد في إجازته في إحدى تلك البلاد، يخفف من معاناة الشعب، ويمكن لتاجر أن يوفر مستشفى، أو يوفر بعض الأجهزة، أو يوفر بعض الأدوية التي يحتاجها المسلمون، أنا متأكد أن الموضوع قد طال أولاً ومتأكد ثانياً أنه ربما كان الصيام له أثر في الإلقاء، أرجو أن لا أكون أثقلت عليكم بهذا الموضوع.
وأسأل الله تعالى أن يكون هذا الموضوع بداية لأن يهتم المسلمون بأحوال المسلمين في كل مكان، وأن نعيش هموم أمتنا في مشارق الأرض ومغاربها، وأن نقيم الجسور معهم، وأن يوفقنا جميعاً لأن نرخي جيوبنا لدعمهم مادياً، ونبذل ونضحي لدعمهم دينياً وشرعياً، بإرسال الدعاة إليهم، وإرسال الكتب، وإرسال الأشرطة، وإرسال المناهج التعليمية، وإقامة المدارس، والمراكز والمؤسسات وغيرها.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً نستشعر معنى الأخوة الإسلامية التي تربطنا بهم، وأن نسرع في القيام بما أوجب علينا من نصرتهم، وأن نسرع في تلافي النقص الذي نعيشه الآن، لئلا نسأل أمام الله تعالى عنهم فلا نجد جواباً، يوم لا يكون ثمة مجالُُ إلا للحق.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً إلى بذل ما نستطيع لإخواننا المسلمين هناك والحمد لله رب العالمين.(188/42)
أولاً: التعليم والدعوة
المسلمون في حاجة إلى تعليمهم أمور دينهم، وعقيدتهم، وتصحيح مفاهيمهم، وتعليمهم عباداتهم، ومعاملاتهم، وربطهم بدينهم، وربطهم بالقرآن والسنة، والمنهج الصحيح، وهم أحوج إلى ذلك من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء، فهناك الحاجة إلى إقامة جامعات، ومراكز ومدارس إسلامية، وخلاوي لتحفيظ القرآن الكريم، والحاجة إلى نشر الكتاب الإسلامي، ونشر الشريط الإسلامي، وترجمة الكتب وطباعتها ونشرها، واستقبال الطلاب المسلمين في الجامعات العربية والإسلامية والمدارس وغيرها، وتكثيف المنح التي تمنح لهم بعثة دعاة إلى كافة أنحاء العالم، وهنا يأتي دور الخريجين، والمتعلمين، والدعاة عامة، وطلبة العلم، والخطباء وسواهم.
لماذا لا ينتدب مجموعة من شبابنا إلى أنحاء العالم ليذهبوا إلى هناك، إن التجار مستعدون أن يساعدوهم ويعطوهم رواتب، يذهبون إلى هناك يعلمون، ويهدون ضالاً، ويدعون كافراً، ويصلحون فاسداً، ويقومون معوجاً وفي الحديث: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} أنت هنا مجرد رقم تحضر محاضرة، أو تحضر درساً، لكنك هناك سوف تصبح بإذن الله موجهاً، وداعياً لأمة بأكملها، أو لدولة بأكملها، أو لمدينة بأكملها، فلماذا لا يذهب بعض الشباب، ولو لفترة سنة، أو سنتين إلى هناك؟، إذا قلت لي: لا، أقول لك: لماذا لا تذهب ولو في الإجازة؟ أيها الخطيب، أيها الداعية، أيها المعلم، أيها الشاب المهتدي، أيها المدرس في حلقة تحفيظ القرآن، أيها الخريج من الجامعة، أي جامعة إسلامية، أيها الغيور على دينك لماذا لا تقضي شهراً من إجازتك في أي موقع من العالم الإسلامي الذي يوجد فيه مسلمون، -وذكرنا نماذج منها؟ - الكلام الذي نقوله تراه عياناً، ربما تتحرك غيرتك، ربما تقوم بجهد كبير بدلاً من أن تكون الجهود محدودة وقليلة ومحجمة، يمكن أن تتحول إلى جهود كبيرة وجبارة؛ لأننا أصبحنا أمام أعداد من المسلمين لديهم الغيرة، ولديهم الحماس، ولديهم الحرقة؛ لأنهم رأوا بأعينهم، وما راءٍ كمن سمع أبداً.
نحن لما نقول: هناك أطفال ونساء وعجزة وفقراء هذه كلمة، لكن لو رأيت بعينك، ولو حتى في نشرة الأخبار المصورة، لو رأيت الطفل: وهو هيكل عظمي، أو رأيت الشيخ الذي على وجهه بانت آثار السنين، وتجاعيد الزمن، وهو يعيش آلام الفقر والمسغبة، يحرك فمه فلا يجد الطعام ولا يجد الشراب، سوف تتأثر لذلك أكثر مما تتأثر من محاضرات كثيرة، لا يكفينا منك أن تذم الأوضاع وتسبها إلى متى سنظل نحن المسلمين نتكلم فقط؟! إلى متى نظل تنتقص فقط؟! لماذا لا تتحرك خطوة واحدة عملية؟ نذهب إلى تلك المواقع، ينفر منا طائفة يعلمون الناس دين الله تعالى، يدعون الناس إلى الكتاب والسنة يكونون وسطاء بين التجار هنا وبين الفقراء هناك، بين العلماء هنا وبين الجهال هناك، بين الهدايات الموجودة عندنا وبين ما يحتاج إليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.(188/43)
الأسئلة(188/44)
أثر الحرب في يوغسلافيا
السؤال
ما هي طبيعة الصراع في يوغسلافيا، هل هناك نشاط من الصرب ضد المسلمين، وهل الحرب لها أبعاد وأضرار؟
الجواب
نعم لها أبعاد لأن المسلمين في البوسنة والهرسك في وسط يوغسلافيا، والحرب لها تأثير كبير على المسلمين.(188/45)
صرف الزكاة للوالدين
السؤال
هل يجوز أن تساق الزكاة لأحد الوالدين وهو غير ساكن عنده؟
الجواب
لا، الزكاة لا تجوز للوالدين، بل إن كان الوالد أو الوالدة، فيجب عليك أن تنفق عليهم من غير الزكاة.(188/46)
الخليج
السؤال
لماذا إيران تقول: الخليج الفارسي؟
الجواب
لأن لها مطامع، في الخليج ويريده أن يكون فارسياً في المستقبل.(188/47)
الواجب نحو تارك الصلاة
السؤال
ما حكم الدين في تارك الصلاة، بحيث إن ظروف عملي تجبرني أن آكل وأشرب وأعمل معهم ولم أقدر على تغيير شيء؟
الجواب
أقل ما يجب عليك أن تنصحهم، وتوصل إليهم بعض الكتيبات الصغيرة، وبعض الأشرطة التي تبين أهمية الصلاة وحكم تاركها.(188/48)
مجالس الذكر
السؤال
بعض مدارس البنات في هذه المدرسة تمنع مجالس الذكر بأعذار واهية، علماً بأن مجالس الذكر في هذه المدرسة تجد إقبالاً كبيراً، فأرجو توجيه كلمة في هذا الشأن؟
الجواب
الحمد لله فكل المؤسسات الرسمية، تدعم الأعمال الخيرية، والنشاط الخيري، سواءً مدارس البنين أم البنات، وهناك أنظمة وجهود رسمية في هذا المجال، فعلى كل مدرسة ومديرة، أو وكيلة أن تسعى إلى إقامة نشاط إسلامي في المدرسة، ودعم حلق الذكر، وإن لم تكن موجودة أقامتها سواءً قام على هذه الحلق بعض المدرسات، أم قامت بعض الطالبات المتفوقات، ولا مانع أن تكون المديرة مشرفة على هذه الحلق لتطمئن أنها مفيدة وطيبة، وليس فيها أمرُُ يضر، أما أنها تقوم بمنعها فهذا ليس بصحيح، والذي نظنه في المديرات وهو الأصل أن يكنَّ عوناً ودعماً للنشاط الإسلامي في مدارسهن.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،،، وأكرر شكري الكبير لكم، وامتناني بالحفاوة الكبيرة التي لا أقول تخصونني بها في بلدكم وبين أظهركم، كلا، بل تلاحقونني بها في أكثر من بلد، فأنا ممتنُُ لهذا الشعور الكبير الذي تحملونه في قلوبكم، وكل ما أستطيع أن أقوله لكم، هو أن أقول جزاكم الله عني خيراً، وأسأل الله تعالى أن يجعلني عند حسن ظنكم، وشكر الله لكم، وبارك الله تعالى فيكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.(188/49)
عاقبة المعاكسات
السؤال
لي صديقة تفعل معاكسات في شهر رمضان وغيره ماذا أفعل معها، وماذا أقول لها وهي تقول لي: لن أستطيع تركها؛ لأنني أشعر بالحنان والرقة، والنعومة عندما أحادث رجلاً في الهاتف؟
الجواب
إن هذا الرجل عبارة عن ذئب يريد أن يفترسها، وأنا أطلعت على فضائح كثيرة من هذا القبيل لأن كثيراً من الشباب يخدع الفتاة بالكلام الطيب، ووعود الزواج وغير ذلك، ويغريها ثم في الأخير يفترسها ويتركها تبكي، وهو يضحك، ويبحث عن غيرها، فعلى الأخوات أن يكنُّ منتبهات، فكثيرٌ من هؤلاء الشباب يسجلون المعاكسات في أشرطة، ويهدد البنت بها، يطلب منها المقابلة، وإذا لم تفعل هددها بنشر الشريط، وقد ينشر بين أصدقائه من باب المفاخرة، ولا يبالي بسمعة تلك الفتاة، ومن الممكن للأخت أن تعطي صديقتها رسالة إلى أصحاب المعاكسات، أو نحو ذلك وهناك أشرطة -أيضاً- في هذا الموضوع من الممكن أن تقدمه لها وتكثر من نسخه لعل الله تعالى أن يهديها.(188/50)
النصر بالرعب
السؤال يقول: مما أعطي الرسول صلى الله عليه وسلم، النصر بالرعب هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا، ليس خاصاً بالرسول، على الراجح بل هو عام لعامة الأمة، ولهذا نرى أن الغرب يدقون ناقوس الخطر من المسلمين، وما هذا إلا نصرُُ بالرعب، والمسلمون ليس بأيديهم شيء الآن.(188/51)
حكم المسافر المفطر في رمضان
السؤال
أرجو من فضيلتكم أن تفيدوننا هل يجب على المسافر إذا وصل إلى بلدة في نهار رمضان أن يمسك أم يقضي؟
الجواب
هذا فيه خلاف، لكن القضاء لا بد منه، وكذلك لا ينبغي أن يعلن بالفطر لأن بعض الناس قد يجهل سبب فطره.(188/52)
مقاطعة العمالة الكافرة
السؤال
إن الصين والهند والفلبين كلها دول تستفيد من العمالة الموجودة في بلادنا، بإمداد بلدانهم بالعملات الصعبة من تحويلات رواتب العمال، أفلا يكون أبسط دور نقدمه أن نقاطع العمالة الكافرة؟
الجواب
نعم، هذا أبسط دور، أن نقاطع العمالة الكافرة، وأن تختار حنيفاً مسلماً.(188/53)
انتشار الكتب والكتيبات لطلبة العلم
السؤال
انتشرت في الآونة الأخيرة العديد من الكتب والكتيبات لبعض طلبة العلم وبكثرة واضحة.
ما تأثير هذه الكتب على الصحوة الإسلامية؟
الجواب
ليست العبرة بكون الكثرة أو القلة، أو كونه كتاباً أو كتيباً، العبرة بمضمونه، فإن كان مضمونه خيراً، فكونه مختصراً صغيراً هذا أولى لسهوله قراءته، ويقرأه جمهور عريض من الناس، وهذا لا يغني عن بقية الكتب العلمية المتخصصة.(188/54)
نصيحة للنساء
السؤال
من الملاحظ ما تفعله كثير من النساء من التبرج والخروج ومزاحمة الرجال في الأسواق، وخصوصاً في شهر رمضان، وخصوصاً في العشر الأواخر، نرجو توجيه كلمة للنساء حول هذه الأعمال؟
الجواب
أنصح الأخوات المؤمنات أن يتقين الله تعالى في أنفسهن، ولا يكن سبباً في فتنة أنفسهن، أو فتنة غيرهن، كما أنصح أولياء الأمور بأن يهتموا بأهلهم، لأن الله جعلهن تحت أيديهم.(188/55)
انتقادات الناس
السؤال
كثيراً ما نواجهه نحن الخطباء -عندما نتكلم عن أحوال المسلمين- انتقادات من الناس وأن وظيفة المنبر هي ترشيد الناس ونحو ذلك.
فما هو الموقف من أمثال هؤلاء؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وخطب لما جاءه قومٌ من مضر، عراة متقلدي السيوف والعباء وقال: {تصدق رجلُُ من درهمه، من صاع ذره، من صاع تمره، -حتى قال-: ولو بشق تمرة} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] .(188/56)
دعوة المدرسات للإنفاق
السؤال
كثير من المدرسات ينفقن أموالهن في الأسواق، ويغفلن عن الصدقة والتبرع، أفيدونا في ذلك؟
الجواب
أوجه الأخوات المدرسات، والموظفات بشكل عام، إلى الحرص على أن يكون من راتب الأخت جزء لدعم المشاريع الإسلامية الخيرية والمساعدة في ذلك، بحيث كل شهر تخصص ولو مبلغاً معيناً تقدمه لأخراها، مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت.(188/57)
دعك من الصراعات الجانبية
السؤال
بناءً على ما قلت عن حقيقة الصراع العجيب بين النصراني والإسلامي من جانب والصراع بين الإسلام والشعب من جانب آخر، فماذا تنصح المسلمين الدعاة منهم، الذين ربما حصل بينهم من خلاف ما يحول بينهم وبين الوحدة والقوة وعدم التفرق؟
الجواب
الخلاف لا بد منه، لا يوجد أناس هنا وأناس هناك، لكن ينبغي على من وفقه الله تعالى، وفتح له باب الخير وباب الهداية، أن يسعى إلى إصلاح أوضاع المسلمين بقدر ما يستطيع، وأن يترك الاشتغال بالمعارك الجانبية، هب أن إنساناً اشتغل بسبك، وشتمك، وانتقدك، وانتقصك، إن كان ما قاله حقاً فخذ منه، وإن كان ما قاله خطأً لا ترد، حاول ألا تشتغل معه بالرد والأخذ والعطاء والقيل والقال، استمر فيما فتح الله عليك من باب الهداية والدعوة والخير، فدع هذا الإنسان وما هو فيه، قد يصحوا فيما بعد، وإن لم يصح فكلُُ ميسر لما خلق له، هناك أناس مهمتهم إثارة البلبلة والكلام والقيل والقال والتحرش بالآخرين، ولا يجدون لذة إلا في مثل هذا الأمر.(188/58)
واجبنا نحو إخواننا
السؤال
هل يليق بالمسلمين عامتهم وخاصتهم، بعد ما قدمت من معلومات؛ بأن يغفلوا عن واقعهم، بماذا تنصح الإخوة حتى يقوم كل بدور نحو إخوانهم، ولو بالمشاعر؟
الجواب
الواجب كبير، والتوعية بقضايا المسلمين، والتوعية بقضايا الحديث عنهم، والكلام الإعلامي، والمشاعر، والدعاء كذلك الدعم المادي، وذكرت نماذج -أيضاً- من الأشياء التي يمكن أن تساهم فيها.(188/59)
استخدام الكفار
السؤال
نرجو توجيه كلمة للذين يستخدمون كفاراً من البوذيين والهندوس ويفضلونهم على المسلمين؟
الجواب
هناك قضايا كثيرة، تثبت أن كثيراً من هؤلاء المستقبلين من البوذيين والهندوس يحملون مشاعر الحقد نحو المسلمين، فإن كانوا في مكان أو في مستشفى أو غيره، عبروا عن حقدهم؛ لمحاولة إيذاء هؤلاء المسلمين، والظلم الكبير لإخوانك المسلمين أن تستقدم الكفار وتتركهم.
هؤلاء الكفار قد يشتغلون بالمال الذي يأخذونه على إخوانك المسلمين، على الأقل يأتي المسلم إلى هنا، يأخذ بعض المال، فإذا أتى إلى هنا قد يهتدي، وقد يعرف أشياء كثيرة، وقد يتعلم، لكن أقول: مع الأسف الشديد، أن كثيراً من الناس قد يأتي مسلم هنا، فيأخذ صورة سيئة من سوء المعاملة، والقسوة، وتأخير الرواتب، والمضايقة، والظلم، والتزوير، وأشياء سوف أتحدث عنها مراراً.(188/60)
برنامج لنشر الإسلام
السؤال يقول: يعلم الله أننا عندما نسمع عن أحوال المسلمين؛ تتقطع قلوبنا حسرة وألماً، وسؤالي: هل هناك برنامج لنشر الإسلام، وتعليم قراءة القرآن والحديث في العطلة الصيفية يمكننا الاشتراك فيه، وكيف يمكننا الاتصال؟
الجواب
يمكن أن تكون هناك برامج كثيرة لإيصال الأموال، وإيصال الدعاة، إلى غير ذلك من الجهود، لكن بشرط: أن يوجد في كل بلد ومدينة على الأقل، داعية أو طالب علم يجعل من ضمن عمله ونشاطه هذا الأمر، يكون صلة تصل بين من يرغب بالمشاركة هنا وبين المسلمين هناك، ويقدموا الدعم، على الأقل أن يقدموا تذاكر السفر لمن يريد أن يسافر إلى هناك وتكاليف السفر.(188/61)
الجبهة في الجزائر
السؤال
كثر الكلام حول الجبهة في الجزائر، وموقف زعمائها، تارة يقولون: إنهم رافضة، وتارة يقولون عنهم: إنهم علمانيون، نرجو توضيح موقفهم؟
الجواب
يا أخي لا رافضة، ولا علمانيون، لو كانوا رافضة لما حصل ما حصل، ولو كانوا علمانيين ما حصل ما حصل وما جرى أبداً قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البروج:9] هم سنة، لا يوجد في صفوفهم رافضي أو علماني.
بل هم سلفيون في جملتهم وغالبيتهم، ومبادئهم سليمة، وهم يدعون إلى تحكيم الكتاب والسنة والله تعالى ناصرهم بإذنه تعالى.(188/62)
أخبار الأفغان
السؤال
إني أحبك في الله وأرجو أن تخبرنا عن المسلمين في أفغانستان وحال الجهاد فيها وأين نلقاك في مدينة الرس؟
الجواب
ليس لديَّ أي معلومات جديدة عن أحوال المسلمين في أفغانستان، إلا أنهم يعانون مشاكل كبيرة جداً بسبب انقطاع الدعم عنهم، من بلاد كثيرة.(188/63)
من لباب الكتب
حسن المعاشرة أمر حبب إليه الشرع وطالب العلم أحق بذلك من غيره لأنه من ورثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم تطرق الشيخ لذكر نفائس نادرة قل أن تجدها مجموعة في مكان واحد اقتطفها الشيخ من كتابي (تذكرة السامع لابن جماعة والعزلة للخطابي) وكثير منها متعلق بالعلم وتشمل غيره.(189/1)
عودة إلى الدروس التربوية
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أجمعين أرجع بعد طول غيبة عن تلك الدروس التي كنت أتحدث فيها عن بعض عيوب ومثالب الطلاب حتى يتقيها مجتهد ناصح لنفسه، وإن شئت فقل الحديث عن الآداب والأخلاق والشيم التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم والداعية إلى الله تعالى، ولعلي في هذه الليلة أنهي الحديث عنها لأنتقل -إن شاء الله تعالى- اعتباراً من الأسبوع القادم إلى لونٍ آخر من المعارف لا يخلو -إن شاء الله- من الفائدة والطرافة، وهي اختيارات من المصنفات، أقصد بعض الفوائد والفرائد التي تكون مبثوثة في بطون الكتب وقد لا يصل إليها الطالب أو لا يعلم بوجودها، فكنت خلال قراءتي لبعض كتب أهل العلم وهي قراءاتٍ قليلة أسجل بعض ما يمر بي من الفوائد التي أرى أنها مهمة، أسجلها على ظهر أول ورقة في الكتاب، أو على ورقة مستقلة، فاجتمع لي من ذلك فوائد متناثرة عديدة من كتب شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، فخطر في بالي أن أشرك إخواني في هذه الدروس المتواضعة، في هذه الفوائد مع التعليق عليها بالإيضاح أو ما يتطلبه المقام.
فإن شاء الله تعالى اعتباراً من الأسبوع القادم أبدأ معكم في هذه الفوائد، ومن الطبيعي أنها لم تكن مرتبة، وهذه قد تكون ميزة من ناحية إذ أنها ليست موضوعات متسلسلة؛ قد يكون فيها إملال أو إثقال، بل هي موضوعات متفرقة متباعدة من موضوع في السيرة والتاريخ، إلى موضوع في الأصول، إلى موضوعٍ في الفقه، إلى موضوعٍ في الحديث، إلى موضوعٍ في الإسناد، إلى موضوعٍ في المتن، إلى فوائد أخرى متفرقة.(189/2)
حسن المعاشرة
أما في هذه الليلة فقد أحببت أن يكون مسك الختام لآداب طالب العلم هو الإشارة إلى خصيصة مهمة وهي ما يتعلق بحسن معاشرة الناس وملاطفتهم، فإننا نعلم علماً يقيناً لا شك فيه أن من أهم المهمات التي بعث بها الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام -من أولهم إلى آخرهم- تحسين أخلاق الناس.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} هذاحديث ثابت، فحسن الخلق من الدين، وبه يبلغ العبد درجة الصائم القائم، ويعطي الله بحسن الخلق ما لا يعطي على غيره، كما ثبت ذلك في أحاديث عديدة عن أبي هريرة وغيره, ولو تأملنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنها التطبيق العملي لهذا الهدي العظيم، فكان صلى الله عليه وسلم حسن الخلق والمعاشرة متواضعاً مع الخاص والعام، والقريب والبعيد، ومع أهله، وفي السوق، والبيت والمسجد، وغيره.(189/3)
طالب العلم أحق الناس باتباع النبي صلى الله عليه وسلم
إنه ليس يجدر بطالب العالم أن يكون في قلبه شيءٌ من الكبرياء والأنانية التي تجعله قد يتعاظم نفسه، ويغتر بما يعامله بعض الناس به، كأن يحتفوا به في السلام، ويهشوا ويبشوا، وقد يقبلون رأسه، ويخدمونه، وربما يكون ممن يقدمون له نعليه إذا أراد أن يلبسهما، إلى غير ذلك من الأشياء التي قد تستخف عقول بعض الضعفاء.
فالإنسان عليه أن لا يغفل عن معرفة حقيقة نفسه، فالناس ليسوا أدرى بك من نفسك، فعليك أولاً ألا تحرص على مثل هذه الأشياء، ولذلك تجد الإنسان تلقائياً -أحياناً- إذا وجد مثل هذه الأشياء صار عنده نوع من الازورار عن الناس، والإطراق، وربما يأتيه الشيطان من جهة إظهار مثل هذه الأشياء حتى يزداد إعجاب الناس به وتقديرهم له.(189/4)
حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال
قال جابر بن سمرة في الحديث الذي رواه مسلم: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً أولى، ثم خرجت معه، فلقيه ولدان فجعل يمسح خد كل واحد منهم قال: أما أنا فمسح خديَّ فوجدت ليديه برداً وريحاً حتى كأنما أخرجهما من جبة عطارٍ} وماذا تكون رائحة العطر عند رائحة يدي محمد صلى الله عليه وسلم؟! إنها لا شيء.
وروى عبد الله بن الحارث بن جزءٍ كما في جامع الترمذي بسندٍ صحيح قال: {ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من الرسول صلى الله عليه وسلم} وسُئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري كيف يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: {كان يكون في مَهنة أهله -بفتح الميم يعني في حاجتهم وصناعتهم- فإذا أذن المؤذن توضأ وخرج إلى الصلاة} .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {كان لي أخٌ يقال له أبو عمير صبي صغير مفطوم -وهو فطيم في بعض الروايات- فكان له طيرٌ يسمى النغير -مصغراً- فكان يلعب به -ولا شك أنه لا يلعب به لعباً يؤذيه- قال رضي الله عنه: فمات هذا النغير فحزن عليه الصبي حزناً شديداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقلنا: مات يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الصبي: يا أبا عمير ما فعل النغير} يعني يلاطفه بذلك.
ولو أردتم أن أسوق أحاديث في هذا الباب لطال المقام ويكفيك أن ترجع إلى كتاب من كتب الشمائل، فإن شئت فاقرأ كتاب شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم للترمذي وإن شئت فاقرأ مختصر كتاب الشمائل الذي حققه الشيخ الألباني وحكم على أحاديثه، لترى كيف كانت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتواضعه، وتبسطه، وبعده عن التكلف، وكثرة تبسمه في وجه أصحابه، وممازحته لهم بما يطيب خواطرهم، ويوسع قلوبهم دون أن يكون في ذلك كذب، أو إثقال على أحد، أو خدش لشعور أحد.
وهذا الأسلوب النبوي والتطبيق العملي هو الخلق والمنهج الذي يجدر بكل مسلم -وأَخُصُّ طلاب العلم- أن يرتووا من هذا النبع الصافي، ويحرصوا على أن تكون حياتهم مع الناس تطبيقاً عملياً لهذا.(189/5)
التحذير من بعض مداخل الشيطان
ثم إنه يعتاد على مثل هذه الأمور حتى إنه قد يجد في نفسه على من لا يفعلها معه فيجد في نفسه على من لا يقبل رأسه -مثلاً- أو من لم يخدمه، أو من لم يقدمه في المجلس، وهذه -يا إخوة- من أمراض القلوب التي قد تهلك الإنسان وهو لا يشعر، والإنسان فيها لا مطلع عليه، ولا رقيب عليه إلا الله عز وجل.
ولذلك فإن أخطر ميدان من ميادين المجاهدة: هو المجاهدة في القلب؛ لأن الإنسان في الأمور الظاهرة غالباً يحصل عنده إما أن يجاهد نفسه فينجح، أو على الأقل يتصنع ويتكلف هذه الأشياء كما ذكر الحافظ ابن الجوزي في تلبيس إبليس، لكن الأشياء القلبية لا يطلع عليها إلا الله عز وجل.
افترض مثلاً إنساناً يصور نفسه جدلاً أنه في يوم القيامة، وهو في وسط الناس تكشف أسرار قلبه {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] ويبين للناس حقيقة هذا الإنسان وما قصده بهذا الفعل، وما نيته فيما أراد، وما هو شعوره في الموقف الفلاني، وما الذي أغضبه وأرضاه؛ حينئذٍ يشعر الإنسان فعلاً بمدى ما وقع فيه من خطأ، أو تقصير، أو غفلة عن مجاهدة النفس على إصلاح الأعمال القلبية التي هي أساس الأعمال، والتي أعمال الجوارح ما هي إلا ثمرة لها ونتيجة عنها.
فينتبه الإنسان لهذه المشاعر، هل فعلاً يستوي عندك إن كنت طالب علم أن يقبل الناس رأسك، أو لا يقبل، أو عندك أولاد لا يفعلوا، أما أنك تريد ذلك؟ وحتى لو فرض أنك ترفع رأسك وتتأبى عليهم وقد تفعل ذلك بنية صالحة، وقد يكون لإظهار التواضع والرغبة عن هذه المظاهر، والشيطان حريص ومسلط على بني آدم، فليكن الإنسان رقيباً على نفسه، ولا يُدخِل في معرفته لنفسه غيره، لا تغتر بثناء الناس أو كلامهم أو بمدحهم أو بمعاملتهم لك، بل انظر إلى حقيقة ما أنت فيه.(189/6)
التكلف في تقليد هيئة كبار الناس
ثم تجد الإنسان يتكلف نوعاً من الوقار تحس أنه ثقيل على النفس، لا يلتفت إلا بكل صعوبة، وإذا سلم أو خاطب أحداً يخاطبه وهو لا ينظر إليه بل يعرض عنه، وما أشبه ذلك من الأشياء التي قد يفعلها كبار الناس اعتياداً ولكثرة من يخاطبهم ويأخذ معهم ويعطيهم، وكثرة مجالستهم للعلماء، وكثرة قراءتهم للكتب، إلى غير ذلك من الأسباب.
لكن يأخذها البعض الآخر تقليداً في غير محله، فيكون حظ الإنسان من التعلم هو بعض المظاهر والشكليات -كاللباس مثلاً- أو طريقة المخاطبة وطريقة الذهاب والإياب؛ حتى طريقة المشي والدخول والخروج وما أشبه ذلك، ويرى الإنسان أن من مكملات شخصيته كطالب علمٍ ألا يمازح الناس، ولا يباسطهم، ولا يضاحكهم، ولا يبتسم في وجوههم، حتى تنظر لوجهه كأنه من وجوه الموتى، الابتسامة أحياناً قد تغتصب اغتصاباً.(189/7)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أتباعه
وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، {ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهو عليه الصلاة والسلام يقول: {تبسمك في وجه أخيك صدقة} ألا تعتقد أن إدخالك السرور على قلب أخيك المسلم بالتبسم في وجهه ومباسطته وملاطفته أنه أمرٌ تؤجر عليه.
أحياناً إذا قابلت إنساناً يكبرك، أو من أقرانك، أو في مثل سنِّك وحالك فهشَّ وبشَّ في وجهك، وابتسم لك، وبين الاهتمام بحالك، سبحان الله! كأن قلبك فتح ووضع فيه حُبُّ هذا الإنسان والعكس بالعكس، لو أتيت إلى إنسان تطلب منه حاجة مهما غلت وعزت فأعطاك هذه الحاجة؛ لكنه أعطاك بشيءٍ من الجفاء والغلظة، ولم يحيك التحية المطلوبة، فإن هذا الذي أعطاك لا يساوي عندك شيئاً، فحسن الخلق، والمعاشرة، والملاطفة للناس، والمباسطة معهم هي من أغلى ما يمكن أن تعطيه.
ولا شك أن هذا باب من أبواب الخير والقدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاصة طالب العلم والداعية الذي يريد أن يدعو الناس إلى الخير؛ لا بد أن يأتيهم من هذا الطريق، ولذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] آية عجيبة قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وهم الصحابة رضي الله عنهم عرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله الذي يبلغهم شريعة الله.
أقول: واسطة بهذا المعنى أي أن الوحي يتنزل عليه فيقرؤ عليهم -أما في أمور العبادات فلا واسطة بين الله وبين خلقه- وأنهم ما عرفوا الدين إلا من طريقه، وأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب، وحبه كذلك، وعرفوا ما في الجنة من النعيم وما في النار من العذاب والجحيم، ومع هذا كله قال الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وتركوك مع علمهم بما عندك من الحق والدين والشرع الموصل إلى الجنة المنجي من النار، فما بالك بمن ليسوا كذلك.
قد تكون أمام مسلم لا يرى أن عندك ما ليس عنده، ولا يرى أن ما أنت عليه حق وما هو عليه خطأ -مثلاً- حتى ولو كان في معصية أو في منكر، فإذا لم تتسلل إلى قلبه بالطريقة المناسبة، وتتلطف له حتى تستطيع أن تؤثر فيه وتكسبه، ثم تقنعه بما تريد؛ فلا سبيل لك إليه حينئذٍ، خاصة ونحن نعلم اليوم أنه ليس هناك إلا هذا الطريق في الدعوة إلى الله عز وجل، وما في يد الإنسان لا قوة ولا سلطة يُكره الناس على هذه الأمور، إنما الطريقة المناسبة المجربة في إقناع الناس ودعوتهم وتعليمهم وأمرهم ونهيهم في أن تأتيهم بالحسنى.
وقد دخل أحد العلماء على أحد الخلفاء فقسى عليه بالقول واشتد له فقال له هذا الخليفة: أرفق، أنت لست بأفضل من موسى وأنا لست أشر من فرعون وقد قال الله عز وجل لموسى وهارون حينما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] الإنسان وما اعتاد، وإنما الحلم بالتحلم، والخير عادة والشر لجاج.
فالإنسان يستطيع أن يُعود نفسه على حسن الخلق، واللطافة، والابتسامة في وجوه الناس، والحلم عليهم حتى يصبح ذلك ديدناً له.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، اللهم وفقنا لحب الخير، اللهم وفقنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(189/8)
التكلف في لبس اللباس الخاص بأهل العلم
مما يؤكد أن هذا قد يكون عند بعض الطلبة أنك تجد الطالب أحياناً وهو صغير السن يبدأ يتقمص هيئات وشخصيات الشيوخ فيخض في ثياب غير ثيابه، ويسابق في ميدانٍ ليس له، فتجده وهو شاب -أحياناً- ما خط شاربه يلبس البشت -مثلاً- وما هو لبس البشت! هل هو سنة؟! لا أعلم أن لبس البشت سنة، ولا ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ لكنه شعار صار يلبس في المناسبات، أو تلبسه طائفة من الناس، فلماذا يكون الإنسان حريصاً عليه، وقد يضطر إنسان إلى لبسه وإن كان لا يرى ذلك، حتى أذكر أنني تكلمت يوماً في أحد المساجد في محاضرة، ولم أكن لابساً لهذه العباءة فلحقني بعض الإخوان، وقالوا: إن كثيراً من الناس وخاصةً العامة عقولهم ضعيفة والمظاهر عندهم مهمة، ولبس العباءة لمثل هذه المناسبة أفضل لتحقيق المصلحة.
فكون الإنسان يلبسها لهذه المناسبة ولو لم يكن من أهلها له مسوغ على الأقل، وكونه من العلماء أو المشايخ أو طلاب العلم الكبار -أيضاً- لا بأس في ذلك، لكن كون الإنسان أول ما يبدأ في طلب العلم يلبس العباءة، لا أعلم أن له وجهاً إلا التشبه بالعلماء، وتقمص هذه الشخصيات، وأن يجري الإنسان في ثيابٍ غير ثيابه، ويسابق في ميدان ليس له.(189/9)
كتاب العزلة للخطابي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ونبيه محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنت قد وعدتكم في المجلس السابق أنه اعتباراً من هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى- سوف أبدأ بتقديم بعض الكتب إليكم على سبيل انتقاء وانتخاب بعض الفوائد والفرائد والشوارد التي قد لا يقف عليها الإنسان بسهولة وذلك -أولاً- حتى يستفيد الإنسان من هذه الأشياء، وحتى ينشط إلى قراءة هذه الكتب والاطلاع عليها، وهي فوائد متفرقة ومتناثرة لا يجمعها موضوع ولا عنوان، ومن الطبيعي أن تكون إحداها مشرّقة والأخرى مغرّبة، واحدة في الفقه، وأخرى في الأصول، وثالثة في التاريخ، ورابعة في الأدب وهكذا، لكن يجمعها رابط عام، وهو الفائدة إن شاء الله.
والكتاب الذي اخترته هذه الليلة هو كتاب العزلة للإمام الحافظ المحدث الأديب اللغوي أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي المولود سنة ثلاثمائة وسبعة عشرة والمتوفى سنة ثلاثمائة وثمانية وثمانون للهجرة.
والإمام الخطابي له مصنفات كثيرة جداً منها معالم السنن، التعليق على سنن أبي داود ومنها: غريب الحديث، ومنها كتاب الدعاء وغيرها، وهذا الكتاب هو أحد كتبه التي جمع فيها من النقول والنصوص والأشعار، بل وجمع فيها من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء الشيء الكثير حول هذا الموضوع، وهو موضوع العزلة.(189/10)
من قصص بعض العباد
هناك قصة أختم بها هذه المختارات ذكرها المصنف في صفحة [91] وهي تدل على ما يقع للعباد الذين يعبدون على غير علم ولا بصيرة، وكيف يستزلهم الشيطان ويستدرجهم، بل ذكر قصتين في ذلك: الأولى قال: كان الشافعي رحمة الله عليه رجلاً عطراً -أي: يحب الطيب- وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية -وهو نوع من الطيب- فيمسح بها الإسطوانة التي يجلس إليها الشافعي رحمه الله، وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية، وكان يسمي الشافعي: بالبطال -يعني يعتبر طلب العلم نوع من البطالة يقول: قال: فلما كان ذات يومٍ عمد هذا الرجل إلى شاربه فوضع الأذى ثم جاء إلى حلقة الشافعي، فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها، وقالوا: فتشوا النعال، فقالوا: ما نرى شيئاً يا أبا عبد الله، قال: فليفتش بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك الرجل، فقالوا: يا أبا عبد الله هذا، فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: رأيت تجبرك، فأردت أن أتواضع لله سبحانه وتعالى -والشافعي رحمه الله أبعد الناس عن التجبر، ولكن هذا ظن هذا الصوفي المتعبد على جهلٍ وضلالة- قال الشافعي: خذوه واذهبوا به إلى عبد الواحد، -هذا عبد الواحد مدير الشرطة- فقولوا له: قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت أن ننصرف، قال: فلما خرج الشافعي دخل إليه فدعى به فضربه ثلاثين درةً، قال: هذا إنما لأنك تخطيت المسجد بالقذر وصليت على غير طهارة.
وانظر إلى فقه الإمام الشافعي ما قال له: لأنك أهنتني، أو لأنك تعمدت إيذائي، ضربه ثلاثون درةً لأنه تخطى المسجد بالقذر وصلى على غير طهارة.
ثم ذكر المصنف القصة الثانية وهي أعجب من الأولى قال: أخبرني بعض أهل العلم قال: كان يختلف معنا رجلٌ إلى أبي ثور، وكان هذا الرجل ذا سمتٍ وخشوع، فكان أبو ثور إذا رآه جمع نفسه، وضم أطرافه، وقيد كلامه -يعني من باب الهيبة من هذا الرجل لئلا يلحظ على أبي ثور أمراً يخالف ما ينبغي له من الهدي والسمت والأدب، فكان أبو ثور يتحفظ إذا حضر هذا الرجل-.
قال: فغاب عن مجلسه مدة، فتعرف أبو ثور خبره، فلم يوقف له على أثر، ثم عاد إلى المجلس بعد مدة طويلة، عاد هذا الرجل بعد طول غياب وقد نحل جسمه، وشحب لونه، وعلى إحدى عينيه قطعة شمعٍ قد ألصقها بها، فما كاد يتبينه أبو ثور -أي ما كاد يعرفه لأنه اختلف عليه- ثم تأمله فقال له: ألست صاحبنا الذي كنت تأتينا؟ قال: بلى، قال: فما الذي قطعك عنا؟ قال: قد رزقني الله سبحانه وتعالى الإنابة إليه وحبب إليّ الخلوة، وأنست بالوحدة، واشتغلت بالعبادة -يعني الشيطان يستله من مجالس الذكر والعلم إلى أماكن أخرى يخلو بها فيه، ويملي عليه ما يريد كما ستلاحظون- قال له أبو ثور: فما بال عينك هذه؟ قال: نظرت إلى الدنيا فإذا هي دار فتنة وبلاء قد ذمها الله تعالى إلينا، وعابها، وذم ما فيها فلم يمكنني تغميض عيني كلتاهما معاً ورأيتني وأنا أبصر بإحداهما نحواً مما أبصر بها جميعاً -يعني أبصر بواحد مثل ما أبصر بالثنتين- فغمضت واحدة وتركت الأخرى -الأخرى يبصر بها ما لا بد منه- والثانية غمضها لئلا يرى فضول الدنيا، فقال له أبو ثور: ومنذ كم وهذه الشمعة على عينك؟ قال: منذ شهرين قال أبو ثور: يا هذا أما علمت أن لله عليك صلاة شهرين وطهارة شهرين، انظروا إلى هذا البائس - يقول أبو ثور - قد خدعه الشيطان فاختلسه من بين أهل العلم، ثم وكل به من يحفظه ويتعهده ويلقنه العلم -يعني الشيطان اختلس هذا الرجل من مجلس أبي ثور وتفرد به، فـ أبو ثور نبهه إلى أن عليه طهارة وصلاة شهرين لأنه توضأ وصلى على غير طهارة هذه المدة حيث لم يغسل ما تحت هذه الشمعة التي كانت على عينه- ثم وكل أبو ثور بهذا الرجل من يحفظه ويتعهده، ويلقنه العلم لئلا يجتره الشيطان مرة أخرى.
وفي الكتاب فوائد وفرائد كثيرة غير ما ذكرت ولكن هذا أبرز ما فيه.
أسأل الله أن يعلمني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(189/11)
من عيوب أصحاب الحديث
في صفحة [86] و [87] تطرق المصنف رحمه الله إلى بعض عيوب أصحاب الحديث، وأصحاب الحديث -كما قيل- هم على ما هم خيار القبائل، وأفضل أصحاب العلوم؛ لكن ليس من طائفة إلا فيهم عيوب، والتحذير من عيوبهم مطلوب.
فقد ذكر أن رجلاً رأى من أصحاب الحديث بدعة سيئة فلام أهل الحديث وقال: إنه لا يعلم علماً أشرف ولا قوماً أسخف منهم، وهذا يحمل على أنه قاله في حالة غضب وانفعال ولا يقبل من قائله.
وذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الواحد بن غياث يقول: سمعت أبي رأى رجلاً من أصحاب الحديث صلى لجنبه فلما سلم الإمام سلم -وكان قد فاتته ركعة- وأخذ دفاتره ولم يصل الركعة التي فاتته، يعني لانشغاله بالطلب غفل عن الركعة التي فاتته.
وذكر هاهنا قصة يقول: حدثنا مؤمل بن إيهاب قال: حدثني يحيى بن حسان، قال: كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محمل شيخٍ ضعيف فانتهبوه، ودقوا يد الشيخ، -أي ضروا الشيخ- وأخذوا بعض ما معه، فجعل الشيخ يصيح يا سفيان، لا جعلتك في حلٍ مما فعلوا بي؛ لأنه كان هذا في مجلسه بسبب الزحام، قال وسفيان لا يسمع، أي أن سفيان يسمع صوت الرجل؛ لكن لا يدري ماذا يقول؟ قال: فنظر سفيان إلى رجل من أولئك الذين صنعوا، بالشيخ ما صنعوا -رجل ليس من أهل الحديث لكنه ملصقٌ فيهم- فقال له سفيان: ماذا يقول هذا الشيخ، قال: يقول زدنا في السماع، يعني العكس، الشيخ يريد أن يسكت سفيان حتى يزول الزحام، فهذا قال: إن الرجل يقول يا شيخ يا سفيان زدنا في السماع.(189/12)
مداخل الشيطان في إفساد الإخوان
في صفحة [97] ذكر أبو سليمان -رحمه الله- قولاً مفيداً في بيان مداخل الشيطان قال: قال علي بن غنام: كلا طرفي القصد مذموم.
وأنشدنا أبو سليمان: تسامح ولا تستوف حقك كله وأبق فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقال: عن زيد بن سلمة عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: [[لا يكن حبك كلفاً، ولا يكن بغضك تلفاً]] .(189/13)
إخوان المصالح
ومن الفوائد التي ذكرها المصنف رحمه الله أنه ذكر إخوان السراء الذي يصاحبون الإنسان في حال غناه، فإذا احتاج إليهم هربوا منه وذكر من ذلك قول بعضهم: وإن من الإخوان إخوان كثرةٍ وإخوان حياك الإله ومرحبا وإخوان كيف الحال والأهل كله وذلك لا يسوي نقيراً متربا جواداً إذا استغنيت عنه بماله يقول إليّ القرض، والقرض فاطلبا فإن أنت حاولت الذي خلف ظهره وجدت الثريا منه في البعد أقربا(189/14)
مدح الموت
وفي صفحة [78] ذكر كلام بعضهم في مدح الموت، ولا شك أن تمني الموت لا ينبغي إلا إذا خاف الإنسان من الفتن، يقول: أنشدني بعض أصحابي لـ منصور بن إسماعيل: قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه وفراق كل معاشر لا ينصف ومما يعجب في هذا الكتاب أن المصنف -رحمه الله- ذكر كلمات في صفحة [89] أحدها قول سفيان الثوري [[: لأن أصحب فتى أحب إليَّ من أن أصحب قارئاً]] وذكر رواية قال: [[زار عبد الله بن المبارك رجلاً من أهل نيسابور ينسب إلى أهل الزهد والتقشف، فلما دخل عليه لم يقبل عليه الرجل، وابن المبارك.
هو إمام الدنيا ولم يقبل عليه الرجل، ولم يلتفت إليه، فلما خرج ابن المبارك أخبر الرجل بمكانه وأعلم أنه عبد الله بن المبارك فخرج إليه يعتذر ويتنصل، وقال له: يا أبا عبد الرحمن، اعذرني وعظني (اعذرني من التقصير في استقبالك، وعظني) فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، إذا خرجت من منزلك فلا يقع بصرك على أحد إلا رأيت أنه خيرٌ منك، وذلك أن ابن المبارك رآه معجباً بنفسه، ثم سأل عنه، فإذا هو حائك]] .
قال: وعن سفيان قال: [[من لم يتفتأ لم يتقرأ]] قال أبو سليمان [[: إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم بشاشة الوجه، وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة الأكثرين من القراء: الكزازة، وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة كان جديراً أن يتباقى معه ذلك الذوق وتلك الهشاشة، ومن تقرأ في صباه لم يخل من جفوةٍ، أو غلظة … إلى آخر ما قال]] .
والحقيقة أن هذا الكلام وإن كان ليس على إطلاقه، فلا شك أن في صغار طلاب العلم ما فيهم من لين العريكة، وسجاحة الخلق، والهشاشة، والبشاشة الشيء الكثير؛ إلا أن له رصيداً من الواقع، وإنما سقته حتى ينتبه الإخوة إلى هذا الأمر، ويباعدوا أنفسهم عن مثل هذه الخصال.(189/15)
تغير وفساد الناس في هذا الزمان
وفي صفحة [71] يشير المصنف إلى ما حصل من الفساد قال أبو سليمان وهو المصنف، وأنشدت هذه الأبيات: هذا الزمان الذي كنا نُحذَّره في قول كعب ٍ وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غِيرٌ لم يُبك ميتٌ ولم يفرح بمولود هذه الأبيات يحفظها الإنسان، ويتمثل بها في بعض الوقائع وخاصة في هذا الزمان المظلم، فكثيراً ما ترى أحداثاً وتسمع أخباراً تجعلك تردد هذه الأبيات.(189/16)
نصيحة الولاة والحكام
ومن الفوائد التي ذكرها المصنف في صفحة [95] ذكر كلاماً لبعض الحكماء ينبغي أن يعلم قال أبو سليمان: قال بعض الحكماء: إن الذي يُحْدِث للحكام التيه في أنفسهم -التيه هو العجب، والغرور، ورد النصيحة، وبطر الحق، وغمط الناس- والإعجاب بآرائهم كثرة ما يسمعون من ثناء الناس عليهم، ولو أنهم أنصفوهم فصدقوهم عن أنفسهم لأبصروا الحق، ولم يخف عليهم شيء من أمورهم.
وبذلك تعلمون أن الواجب على العلماء وطلاب العلم والجلساء، والندماء ليس المبالغة في المديح والتبجيل، وتصحيح الأعمال؛ بل هو النصيحة الخالصة التي لا يراد من ورائها دنيا.(189/17)
التواضع وفضله
زفي صفحة [70] ذكر المصنف أن سفيان بن عيينة قال: سمعت، أو قال: أخبرني ابن سعدويه، قال: حدثني إسحاق، قال: سمعت محمد بن عبد الأعلى يقول: خرج علينا سفيان بن عيينة ونحن جلوس على باب داره -طلاب العلم والحديث ينتظرون سفيان ليحدثهم- قال: فخرج علينا فقال: خَلَتِ الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد يعني يحزن سفيان بن عيينة أن الديار خلت من العلماء -كما يقول- فصار سيداً مع أنه ليس أهلاً لذلك في ظنه، ولا شك أن سفيان هو من هو في الفضل والعلم والسؤدد والمكانة، لكن هذا من فضله ونبله وتواضعه وهضمه لنفسه رحمه الله، فكيف لو خرج علينا في هذا الزمان! قال: وأنشدني إبراهيم بن فراس في نحو هذا -يعني في نفس الموضوع هذا- قول الشاعر: وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيدٍ لو يضفرون بسيد أي القوم الذين وضعوك سيداً عليهم يحتاجون فعلاً إلى سيد؛ لأنهم ما وضعوك في هذا الموقع إلا لفقرهم من السادة وقلة الأكفاء.
قال: وفي آخر: وما سدت فيهم أن فضلك عمَّهم ولكن هذا الحظ للناس يقسم ما كانت سيادتك لفضلك وكرمك وإنما هو قضاء وقدر.(189/18)
مميزات وفوائد كتاب العزلة للخطابي
ومن فوائد هذا الكتاب ومميزاته أنه تعرض لمباحث نفيسة: منها: مباحث في موضوع العزلة والخلطة، ومتى تكون العزلة أفضل، ومتى تكون الخلطة أفضل.
ومنها: الحث على اختيار الجلساء والأصحاب الصالحين.
ومنها: حسن المعاشرة، وذكر الصحبة وآدابها، وهو في ذلك يذكر قصصاً وطرائف وأشعاراً فيها المتعة والفائدة.
ومن مميزات الكتاب: الحديث عن الناس، وطبائعهم، وما جبلوا عليه، إلى غير ذلك.
لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الكتاب قد بالغ فيه الإمام الخطابي في ذم الخلطة والحث على العزلة، حتى قال في آخر الكتاب: إنني أخشى أن أكون بالغت في ذلك أو زدت عليه بما لا ينبغي، يقول: في آخر الكتاب في باب نجوم القصد، أي: رجع إلى الحديث عن القصد والاعتدال قال: قد انتهى منا الكلام في أمر العزلة، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسَّنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا جرينا ولا إياه أردنا فإن الإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين، وقد عاب الرسول صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق عز وعلا، والحملة على النفس منها ما يؤودها ويكّلها، فما ظنك بما دونها من التخلق والتكلف.
وهذه من أجمل ما في الكتاب فينبغي أن ينتبه لها فإن منهج الكتاب ليس مرضياً كله في مدح العزلة وذم الخلطة.(189/19)
الصداقة وحقوقها
من الفوائد الموجودة في الكتاب أن المصنف -رحمه الله- ذكر في صفحة [63] وأنا أتكلم عن الطبعة التي نشرها قصي بن محب الدين في المطبعة السلفية في مصر ذكر الخطابي أن أعرابياً كان في الكوفة وكان له صديق يظهر له المودة والنصيحة، فاتخذه هذا الأعرابي من عُدَده للنوائب، فأتاه فوجده بعيداً مما كان يظهر له، فأنشأ هذا الأعرابي يقول: إذا كان ود المرء ليس بزائدٍ على مرحباً أو كيف أنت وحالكا ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً فأفٍ لودٍ ليس إلا كذلكا لسانك معسولٌ ونفسك بشة وعند الثريا من صديقك مالكا وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قاتلتها شمالكا وهذه الأبيات رواها غيره، رواها ابن حبان أيضاً في نزهة الفضلاء وغيره، وفيها التحذير من قرناء السوء.(189/20)
كتاب تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة
بين أيدينا -أيها الإخوة- كتاب على حسب الطريقة التي ذكرتها في محاضرة سبقت، وهو كتاب مفيد لطالب العلم اسمه (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) لـ أبي إسحاق إبراهيم بن جماعة الكناني المتوفى سنة (733هـ) ، وأعتقد أنني سبق أن نوهت بهذا الكتاب في أكثر من موضع في هذه الدروس، وربما كنت سميت مؤلفها بالسمعاني غفلة مني، وإلا فقد كنت قرأت الكتاب.
وفي هذه الجلسة نأخذ ما يمكن من الفوائد المبثوثة في هذا الكتاب، وتلاحظون أن الفوائد التي سوف أسوقها نوعان: منها فوائد من صلب الكتاب، أي: للمؤلف، وأحياناً تأتي فوائد في التعليق، فإنه قد علق على الكتاب بحواشٍ كثيرة وطويلة أكثر من حجم الكتاب، ولم أعرف من هو معلقها؛ لأنه لم يذكر اسمه، فإذا مرت فائدة في الحاشية فإنني قد أذكرها أحياناً.(189/21)
أجود أوقات الطلب والنوم
في صفحة [72] ذكر المؤلف -رحمه الله- توجيهات في بيان أفضل الأوقات للقراءة يقول: أجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل، وهذا يدل على أنهم كانوا يعتنون باختيار الأوقات المناسبة وتخصيص كل وقتٍ لعمل.
وفي صفحة [78] إشارة إلى مقدار النوم الذي يمكن أن يحتمله طالب العلم فإن المؤلف يقول: من آداب الطالب أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عن ثمان ساعات، وهو ثلث الزمان فإن احتمل حاله أقل منها فعل وتحديد ثمان ساعات للنوم اتفق عليه الأطباء أو كادوا في كثير من الأزمنة، واشتهر عنهم حتى في هذا العصر أنهم يعتبرون أن ثمان ساعات هي الوقت المناسب للنوم، وإن كان هناك رأي لبعض الأطباء المتأخرين أن هذا يختلف بحسب جسم الإنسان وصحته، وبحسب الأوقات، فبعض الأجسام عندها قدرة على التحمل فقد يكفيها نوم ثلاث ساعات أو أربع ساعات، وبعض الأجسام قد لا يكفيها إلا تسع أو عشر ساعات وربما أكثر من ذلك، لكن يقال إن هذا في الأحوال المتوسطة أن الإنسان يكتفي بثمان ساعات.
وفي صفحة [79] ذكر المصنف آداباً وتعليمات قد تكون مستغربة على العلماء المتقدمين يقول: ولا بأس أن يريح -الطالب- نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلَّ شيئاً من ذلك أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات؛ بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمان، ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به، فقد قيل إنه ينعش الحرارة ويذيب فضول الأخلاط وينشط البدن.
وذكر المعلق أن بعض أهل العلم كانوا يجمعون أصحابهم في الأماكن والمتنزهات ويتمازحون فيما بينهم حتى إن المصنف نفسه في صفحة [82] ذكر أن بعض أكابر العلماء كان يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه ويتمازحون بما لا ضرر عليهم به في دين ولا عرض، وهذا فيه دليل على أن تنشيط الطالب إذا تيسر سواء في حال المذاكرة أو المدارسة، أو في حال الدرس والسماع بما يزيل عنه السأم والملل؛ أنه أمرٌ مطلوب ومناسب، خاصةً إذا طال المجلس وثقل على الطالب.(189/22)
صفات الجليس الصالح
في صفحة [84] ذكر المصنف -رحمه الله- صفات الجليس الذي ينبغي أن يختاره الإنسان قال: فليصحب صالحاً، ديناً، تقياً، ورعاً، ذكياً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم مدح أحدهم {أنه لا يداري ولا يماري} ما معنى قوله: لا يداري؟ المؤلف يقول: حسن المداراة، والرسول عليه الصلاة والسلام مدح هذا الشريك بأنه لا يداري ولا يماري، نعم، لا يداري من المدارأة وهي المدافعة، يعني ليس عنده مدافعة ومعاندة بخلاف المداراة: وهي أن يدرأ الإنسان ما قد يكون عند الآخر من شر بحسن خلقه وجميل معاملته، فهذا مطلوب.
إذاً يقول في صفات الجليس: حسن المداراة، قليل المماراة -يعني الجدل والخصومة بالباطل- إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبَّره.
ومما يروى عن علي رضي الله عنه: فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه فكم من جاهلٍ أردى حليماً حين واخاه يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ما شاه وكأن المصنف -رحمه الله- يريد من الإنسان أن لا يختار له صاحباً حين اشترط هذه الشروط الكثيرة، ولكن الواقع أن الإنسان يختار له من الأصحاب بحسب حاله وزمانه، ولا يعدم أن يجد صاحباً موافقاً له مناسباً يعينه على الخير ويستعين به، ويتعاونان معاً على طاعة الله، وطلب العلم النافع، والقيام بواجبات الشريعة، ولعل ما بقي من فوائد هذا الكتاب يكون موضوعاً أخيراً للحلقة القادمة إن اتسع له الوقت، والله أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ونبيك ورسولك محمد وأصحابه أجمعين.(189/23)
فائدة حول العلم
ومن فوائد هذا الكتاب أن المعلق يقول في صفحة [69] كلمة عن محمد بن الحسن مشهورة عنه، ومحمد بن الحسن الشيباني هو أحد أصحاب أبي حنيفة يقول رحمه الله: لو كان الناس كلهم عبيدي، لأعتقتهم وتبرأت من ولائهم؟ لماذا يقول هذه الكلمة، وما معناها؟ يوضح معنى هذه الكلمة بقيتها يقول: من وجد لذة العلم والعمل؛ قلما يرغب فيما عند الناس، أي: من قلة اهتمام محمد بن الحسن بالناس رضوا أم سخطوا، نفعوا أم ضروا؛ أنهم لو كانوا عبيده لأعتقهم وتبرأ من ولائهم لا يريد أن ينتفع منهم؛ لأنه استغنى بعلمه وعمله وعبادته وما يجد فيها من اللذة.
وفي صفحة [67] ذكر المصنف قول بعضهم: العلم صلاة السر، وعبادة القلب، وقربة الباطن، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته، عن خبائث الصفات، ومساوئ الأخلاق ورديئها.
وفي صفحة [71] تكلم المؤلف رحمه الله نفسه عن مسألة التفرغ لطلب العلم، فقال نقلاً عن الخطيب البغدادي في كتاب الجامع في آداب الراوي وأخلاق السامع عن بعضهم قال: لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، يقول المؤلف تعليقاً على هذه الكلمة لئلا يسمعها جاهل فيحملها على ظاهرها، قال: وهذا كله وإن كانت فيه مبالغة، فالمقصود به أنه لا بد فيه من جمع القلب، واجتماع الفكر على طلب العلم قال: ومما يقال عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لو كلفت بشراء بصلة لما فهمت مسألة.(189/24)
العناية والاهتمام بالطالب النجيب
وفي الصفحة [63] ذكر المصنف -رحمه الله- عناية السلف باختيار الطالب النجيب، يقول: (واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب من أهله إليه.
ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالبٌ واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر) .
ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة {: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له} ثم ذكر معنىً لطيفاً للحديث قال: وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم، أما الصدقة فإقراؤه إياه العلم وإفادته إياه، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في المصلي وحده: {من يتصدق على هذا} أي بالصلاة معه لتحصل له فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة، وينال بها شرف الدنيا والآخرة.
إذاً قوله: {صدقة جارية} المؤلف يرى أنها موجودة في طالب العلم، كأن الشيخ تصدق عليه بهذا العلم، وأما العلم المنتفع به فظاهره؛ لأنه كان سبباً في إيصال ذلك العلم إلى كل من انتفع به.
وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقر على ألسنة أهل العلم والحديث قاطبة الدعاء لمشايخهم وأئمتهم، وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم، وربما يقرأ بعضهم الحديث بسنده فيدعو لجميع رجال السند، فسبحانه من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل العطاء.
إذاً: المصنف خرج بأن الأمور الثلاثة: العلم المنتفع به، والصدقة الجارية، والولد الذي يدعو، كلها متحققة في طالب العالم إذا كان طالباً نجيباً.
ومن الفوائد التي ذكرها المعلق في صفحة [66] في ترجمة البويطي صاحب الإمام الشافعي قال: إن الشافعي قال له حين وفاته: قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة، قال: توفي أبو يعقوب في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين في القيد والسجن ببغدادقال الربيع وهو من أصحاب الشافعي: كتب إليَّ أبو يعقوب من السجن وقال: إنه ليأتي عليَّ أوقات لا أحس بالحديد أنه على بدني حتى تمسه يدي -أي: هذا من استغراقه في العبادة والتلذذ بالخلوة بالله عز وجل وفوائد العلم النافع تمر عليه أوقات ينسى أنه بالقيود حتى تلمسها يده- يقول: فإذا قرأت كتابي هذا فأحسن خُلقَك مع أهل حلقتك واستوص بالغرباء خاصة خيراً -أي: الذين كانوا يرحلون في طلب العلم- كثيراً ما كنت أسمع الشافعي رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت: أهين لهم نفسي لأكرمهم بها ولن تكرم النفس التي لا تهينها يقصد الطلاب عموماً، والغرباء خصوصاً.
وهذا النقل نقله المعلق من وفيات الأعيان الجزء الثاني صفحة (458) .(189/25)
في التدريس والعلم
وفي صفحة [46] ذكر المصنف -رحمه الله- بعض من يتصدرون للتدريس والإفتاء وليسوا أهلاً، وقد ذكرت هذه الأبيات لانطباقها على حالنا في هذا الوقت يقول: وقيل لـ أبي حنيفة رحمه الله: في المسجد حلقة ينظرون في الفقه، فقال: ألهم رأسٌ؟ قالوا: لا -يعني ليس لهم شيخٌ أو معلم- قال: لا يفقه هؤلاء أبداً.
ولبعضهم في تدريس من لا يصلح أبيات من الشعر يقول: تصدر للتدريس كل مهوسٍ جهولٍ تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس المقصود جمع كلية أو تثنية كلية.(189/26)
كلمات مرغبة ومثبطة في العلم
وفي هامش صفحة [48] ذكر كلمات مرغبة في العلم وكلمات مثبطة عن تحصيله، فيقول: ليس كلمة أحض على طلب العلم من كلمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[قيمة كل امرئٍ ما يحسن]] وهذه الكلمة نقلها عن صاحب الحث على طلب العلم العسكري وغيره ولا كلمة أضرت بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل: ما ترك الأول للآخر شيئاً.
لأن هذه الكلمة فعلاً مثبطة تشعرك بأنه ما تُرِك لك شيء، فلا داعي أن تتعب نفسك في الطلب والتحصيل والاستنباط.
والواقع والصواب أن يقال: كم ترك الأول للآخر!! فنحن نجد كثيراً من العلماء المتأخرين لهم تحقيقات واستنباطات في كثير من المسائل لم يسبق إليها، ولم يأت بها من كان قبلهم.
ولعلي أختم هذه الحلقة بما في هامش صفحة [50] عن الخليل بن أحمد رحمه الله أنه كان يقول: أكثر من العلم لتعلم، وأقلل منه لتحفظ، وهذا يعني أن الإنسان يجب أن يكون له قراءات واسعة، واطلاع شامل على كثير من الكتب والأقوال والآراء، لكن يختار منه شيئاً قليلاً يحرص على حفظه حتى يبقى معه هذا الشيء القليل.
ونواصل إن شاء الله الأسبوع القادم في هذا الكتاب.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه أجمعين.(189/27)
فوائد أخرى (التدرج في الطلب) وقواعد نفيسة
نواصل ما سبق في المجلس السابق من ذكر بعض الفوائد والشوارد الملتقطة من الكتاب المفيد الموسوم بـ (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) .
فأقول: إن من الفوائد التي ذكرها المصنف في صفحة [57] أنَّ نقل الطالب إلى ما يدل على جودة ذهنه يزيده انبساطاً، وإلى ما يدل على قصوره يقلل نشاطه أي: أن من أساليب التربية والتعليم أن تنقل الطالب من الأسهل إلى الأصعب بالتدريج، لأنك إذا رقيت الطالب في هذه العلوم بدأ يشعر يوماً بعد يوم أنه ازداد فهماً وعلماً، أما إذا كان ينتقل من الأصعب إلى الأسهل، فإن هذا يسبب فتوره وضعف نشاطه.
وفي صفحة [57] أيضاً ذكر المصنف رحمه الله أن من المهم للأستاذ أن يذكر للطلبة قواعد الفن المتعلقة به، إما القواعد المطلقة التي ليست لها استثناءات، أو القواعد الأغلبية فقال: أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرق إما مطلقاً كتقديم المباشرة على السبب في الضمان -يعني تقديم تضمين المباشر، على تضمين المتسبب- أو غالباً كاليمين على المدعى عليه إذا لم تكن بينة إلا في القسامة، والمسائل المستثناة من القواعد، وكقوله العمل بالجديد من كل قولين قديم أو جديد أي إذا وجد إمام له قولان مثل الشافعي.
وهذه ليست مقصورة عليه فكثير من أهل العلم له قولان في المسألة أحدهما قديم والآخر جديد- يقول: العمل بالجديد من كل قولين قديم وجديد إلا في أربعة عشر مسألة -ويذكرها- كل يمين على نفي فعل للغير فهي على نفي العلم -يعني أتى بهذه كقاعدة- (إلا من ادعي عليه أن عبده جنى فيحلف على البت على الأصح) يعني -هذا في رأي المصنف- أن الإنسان إذا حلف على نفي شيء أنه ما حصل كذا؛ يحلف أنه هكذا على حدود علمه إلا في هذه المسألة، (وكل عبادة يخرج منها بفعل ينافيها أو يبطلها.
مثل الصلاة يخرج منها لو فعل ما ينافيها كنقض الوضوء أو الضحك أو الأكل أو ما شابه ذلك، إلا الحج والعمرة فإنه إذا أفسده يمضي فيه، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وكل وضوء يجب فيه الترتيب -وهذا سبق تقريره- إلا وضوء تخلله غسل الجنابة) وهذه سائدة أن الوضوء يعني الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر، فإذا اغتسل الإنسان من الجنابة أجزأه هذا عن الوضوء، ولم يحتج أن يتوضأ إلا أن ينتقض وضوؤه وأشباه ذلك.(189/28)
في الدعاء وقول (والله أعلم)
وفي صفحة [35] ذكر أيهما أولى أن يدعو الإنسان لنفسه ثم للآخرين، أو يدعو للآخرين ثم يدعو لنفسه؟ كثير من الناس يدعو للآخرين ثم يدعو لنفسه، يقول المصنف: وكان بعضهم يؤخر ذكر نفسه في الدعاء عن الحاضرين تأدباً وتواضعاً -وهذا موجود حتى تجدون مثلاً في بعض الكتب كما في مقدمة ابن الصلاح يقول: اعلم أرشدك الله وإياي، فقدم الآخرين على نفسه في الدعاء.
وهذا من باب التأدب والتواضع كما ذكر المصنف لكن تعقب المصنف ذلك- فقال: لكن الدعاء لنفسه قربة، وبه إليه حاجة، والإيثار بالقرب وما يحتاج إليه شرعاً خلاف المشروع، ويؤيده قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] وقال صلى الله عليه وسلم: {ابدأ بنفسك ثم بمن تعول} وهناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعاء بدأ بنفسه، فالأولى أن يبدأ الإنسان لنفسه فيقول: وفقني الله وإياك -مثلاً- وما أشبه هذا.
وفي صفحة [44] تعقب المصنف ما يقع من بعض الناس من كونهم يختمون الدرس بقولهم: (والله أعلم) فيقول: جرت العادة أن يقول المدرس عند ختم كل درسٍ (والله أعلم) وكذلك يكتب المفتي بعد كتابة الجواب، ولكن الأولى أن يقال قبل ذلك كلام يشعر بختم الدرس كقوله: وهذا آخره، ونحو ذلك ليكون قوله (والله أعلم) خالصاً لذكر الله تعالى، ولقصد معناه، كما يستفتح (بسم الله الرحمن الرحيم) فيكون ذاكراً لله في بداية الدرس وخاتمته، أي أنه لو قال: والله أعلم دون مقدمات قد يكون إشعاراً لأن الدرس انتهى، فيكون معنى (والله أعلم) انتهى الدرس، فلا تكون ذكراً في هذه السورة، لكن لو قال: (هذا ما تيسر والله أعلم) أو (هذا آخر ما أردت والله أعلم) وما أشبه ذلك صارت كلمة (والله أعلم) ذكراً خالصاً كما ذكر المصنف.(189/29)
في فضل العلم والعلماء
ففي صفحة (6) من صلب الكتاب ذكر المؤلف رحمه الله فائدة طريفة في فضل العلم والعلماء، فإنه قال رحمه الله: وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال تعالى في آخر سورة البينة: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة} [البينة:7] إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]-فأخذ المصنف رحمه الله من هاتين الآيتين أن العلماء هم خير البرية- قال: فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية، فينتج أن العلماء هم خير البرية؛ لأن الله وصفهم بأنهم الذين يخشون الله فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] .
ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] قال المصنف: فمن مجموع الآيتين يؤخذ أن العلماء هم خير البرية.(189/30)
العلم أفضل من النوافل
وفي صفحة [11] نقل المصنف عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- كلمة كثيراً ما نسمعها وقد لا ندري من قائلها، وقد رأيت الإمام ابن القيم استشهد بها في غير موضع دون أن ينسبها لقائل، قال المصنف: قال الفضيل بن عياض عالمٌ معلم يدعى كبيراً في ملكوت السماء.
في صفحة [13] ذكر المصنف رحمه الله في صلب الكتاب أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، قال رحمه الله: وقد ظهر بما ذكرناه أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام، وتسبيحٍ، ودعاء، ونحو ذلك؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس، -يعني نفعه متعدٍ- والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها، ولأن العلم مصححٌ لغيره من العبادات، فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه؛ وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة.
ذكر ستة أوجه تميز العلم وتفضله على نوافل العبادات، هي: 1- نفع العلم متعد، أما العبادة فنفعها مقتصر على صاحبها.
2- أن العلم يصحح العبادة فهي تفتقر إلى العلم، ولو تعبد إنسان على جهل فلربما ابتدع، والعلم لا يفتقر إلى هذه النوافل.
3- أن العلماء ورثة الأنبياء، وليس ذلك للمتعبدين.
4- أن العلم يبقى أثره بعد الموت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {وعلم ينتفع به} في حديث أبي هريرة.
5- أن في بقاء العلم إحياء الشريعة.
6- أن العالم طاعته واجبة في العلم، وليس كذلك المتعبد، لذلك لما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] كان أولو الأمر هم العلماء والأمراء، فطاعة العالم في أمور الدين واجبة، وهذه فائدة تقتنص.(189/31)
طلب العلم لغير الله والاستشفاء به
من ذلك أنه في المتن في الصفحة [14] يقول: عن حماد بن سلمة رضي الله عنه، ورحمه الله أنه قال: [[من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به]] أي: أن الله تعالى قد يفضحه ولا ييسر له تحصيل العلم، وقد يسوء حاله، وهذا لا يدعو الإنسان إلى ترك طلب العلم والحديث؛ لأن هذا من مداخل الشيطان، لكنه يدعو الإنسان إلى أن يصر على طلب العلم والحديث، ويصر أيضاً على مجاهدة القلب على إصلاح النية، ودفع الواردات التي تعكر صفاء نيته.
وفي صفحة [18] ذكر المصنف أن سفيان الثوري كان يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده، وأن أبا عبيد كان يمشي إلى علي بن المديني يسمعه غريب الحديث.
وهذا فيه إشارة إلى التواضع وأنه لا بأس أن يأتي الإنسان إلى من هم أفضل منه يسمعهم بعض الشيء أو من يكونون أسن منه، وإنما يصان العلم عن الإتيان عمن ليسوا كذلك.
وفي صفحة [27] ذكر المصنف رحمه الله الاستشفاء بالعلم قال: كان بعضهم لا يترك الاشتغال بطلب العلم بعروض مرض خفيف، أو ألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم ويشتغل بقدر الإمكان كما قيل: إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس والإنسان ينتكس أي: وتعود عليه العلة بعد مفارقته.(189/32)
من آفات القراء
العلم فضيلة وأي فضيلة، لكنه قد يؤدي بصاحبه إلى الإعجاب أو الكبر ونحو ذلك، وقد ناقش علماء الإسلام ذلك في كتب متعددة، وفي هذا الدرس خلاصة مهمة لأهم الآفات التي قد تصيب طالب العلم.(190/1)
توطئة فيمن تكلم عن نفس الموضوع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، وإمام الدعاة والمعلمين والمرشدين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فموضوع هذه المحاضرة كما قرأتم وسمعتم هو (من آفات القراء) وهذا العنوان ليس جديداً لا لفظاً ولا معنى فأما في اللفظ فإنني قد استعرته من الإمام المحدث اللغوي أبي سليمان الخطابي رحمه الله، وذلك في كتابه العزلة حيث عقد فيه فصلاً بعنوان (آفات القراء) وقد أعجبني هذا العنوان فاقتبسته منه.
وأما من حيث الموضوع فهو -أيضاً- موضوع مطروق، أعني به الحديث عن آفات طلاب العلم -وليس القراء إلا طلاب العلم- فقد كتب وتكلم في هذا الموضوع عدد غير قليل من الأئمة منهم: الخطابي -كما أسلفت- والإمام ابن قتيبة، والإمام العسكري في غير واحد من كتبه.
وكذلك: الإمام الذهبي في رسالة له عنوانها "بيان زغل العلم" إضافة إلى كتابات ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم.
وهؤلاء العلماء الذين تكلموا عن هذا الموضوع قد أشبعوه بحثاً، في حين أنني لا أستطيع في هذه العجالة إلا أن أشير إلى جوانب سريعة من هذا الموضوع الواسع المهم.(190/2)
أسباب الحديث عن الموضوع
وقد يسأل بعض الإخوة عن السبب في اختيار هذا الموضوع، ومن المعلوم أن آفات الناس كثيرة؛ فلماذا نختار القراء منهم للحديث عن آفاتهم؟! فأقول: إنما اخترت الحديث عن آفات القراء بالذات؛ لأسباب منها: السبب الأول: أن هؤلاء القراء هم كالثوب الأبيض النقي ما إن يقع عليه شيء من الدنس حتى يبين فيه، فيحتاج إلى غسل وتنظيف، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أنه كان يدعو بين التكبير والقراءة بقوله: {اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} أما غيرهم من الناس فهم كالثوب الأسود، وقد تقع فيه الأوساخ ويقع فيه الدنس؛ فلا يبين فيه.
السبب الثاني: أن القراء هم -كما سماهم ابن المبارك وغيره- ملح البلد؛ لأن الناس إذا فسدوا ينتظر أن يصلحهم طلاب العلم والموجهون والقراء، فإذا فسد هؤلاء فغيرهم من باب أولى.
كان الإمام عبد الله بن المبارك يقول: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد وقد نقل هذا المعنى عن عيسى ابن مريم عليه السلام كما في كتاب الزهد لـ ابن المبارك.
السبب الثالث: أن مثالب القراء وعيوبهم وآفاتهم أحياناً تتزيا في زي محاسن، ويتدسس بها الشيطان إلى نفس القارئ أو الطالب على أنها حسنة وفضيلة يقتبسها ويتقمصها، فهي أحوج ما تكون إلى البيان والكشف والتعرية؛ حتى يحذرها القارئ وطالب العلم.
أما عن الآفات التي سأتحدث عنها، فسأتحدث باختصار حتى لا أطيل عليكم عن عدد من هذه الآفات.(190/3)
الكبر وخطره على القراء
أولها: الكبر: وهي أهم آفة وأسؤها يمكن أن يبتلى بها الإنسان؛ حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح كما في الصحيحين وغيرهما: {أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر} .
وسئل -كما في صحيح مسلم- فقيل له: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} ونحن لو نظرنا في سيرة إمام الأئمة، وعالم العلماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لوجدنا أنه كان يتحلى ويتجمل بالتواضع؛ حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يضاحك الصبيان ويباسطهم ويمازحهم، ويجلس مع أصحابه على الأرض، ويركب كما يركبون، ويمشى على قدميه كما يمشون، ويخصف نعله، ويرفع ثوبه ويفلي رأسه إذا أصابه القمل أو غيره، ويباشر شئونه بنفسه.
وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها سَئَلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يكون في بيته، فقالت: {كان يكون في مهنة أهله، أي: في شغلهم، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة} .
وفى الشمائل للترمذي وغيره وفى الصحيحين عن أنس {أن امرأة قالت: يا رسول الله لي إليك حاجة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: كوني في أي طرق المدينة شئت -أو نحو ذلك- فكانت المرأة تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتحدثه في بعض شئونها} .
والنبي صلى الله عليه وسلم -في ذلك- بعيد عن التكبر أو التجبر، وقال عليه الصلاة السلام: {آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد} وكان ينهى عن صفات المتكبرين.(190/4)
انتظار الإجلال والأجر من الناس
من آثار الكبر وثماره المرة: أن يصبح طالب العلم ينتظر من الناس التقدير، والإجلال والتكرم، فإذا حضر مجلساً انتظر أن يصدروه ويجعلوه في صدر المجلس، وإذا سلم عليه أحد تجد بعضهم قد يطأطئ رأسه وكأنه ينتظر القبلة على رأسه، وربما يرى أن من وسائل كسب احترام الناس وهيبتهم أن يَزورَّ عنهم ولا يباسطهم، ولا يحرص على الحديث معهم، ومفاتحتهم في أمورهم الخاصة وغيرها، حفظاً لوقاره وهيبته عن أن ينالها هؤلاء، -وكما أسلفت- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً عن هذه الأشياء يجالس الكبار والصغار يتحدث معهم في شئونهم الخاصة والعامة، وهذا الداء داء الكبر إذا وجد عند أحد من القراء فإنه خطير خطير، لأنه يؤدى بالإنسان إلى أن يكون مجموعة من المثالب والعيوب في الوقت الذي يظن هو فيه أنه بلغ درجة الكمال، وهو لا يستفيد من أحد ولا يسمع من أحد -أيضاً- ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الكبر: {الكبر بطر الحق وغمط الناس} وبطر الحق يعنى: رده؛ لأن المتكبر يرى أنه ليس فيه عيوب حتى ينبه إليها، ورحم الله من قال: {رحم الله املءاً أهدى إلينا عيوبنا} وهكذا يكون الكمال في الرجال أن الإنسان مهما بلغ من العلم والسؤدد والفضل والمكانة يرى أنه لا حظ له في ذلك، إنما ما كان فيه من خير فمن الله، لم يكسبه بكد يمينه.
ولذلك يقول الشاعر في ذكر نعم الله، وإن كل ما عند الإنسان فهو نعمة: إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر فإذا كنت تعتقد أن ما بك من نعمة كنعمة العلم -مثلاً- إنها نعمة من الله تعالى، فحينئذٍ أنت تعلم أن هذه النعمة يجب شكرها بنشرها والدعوة إليها وتعليمها، ولا يأخذك في ذلك عجب ولا اغترار، وهذا الشكر لنعمة العلم يتطلب منك شكراً آخر، وهكذا حتى يظل الإنسان في شكر متجدد لنعم الله عز وجل المتجددة.(190/5)
إعجاب المرء بنفسه وتعامله بغير علم
من آثار الكبر وثماره السيئة: مشاهدة الإنسان نفسه، وأعني: أن الإنسان يرى نفسه (طالب العلم) شيئاً ذا بال؛ فتجده في مظهره ومخبره وحديثه وأسلوب معاملته للناس مختالاً مزوراً معرضاً عنهم؛ لما يرى في نفسه من فضل عليهم؛ وهذا قد يظهر على فلتات لسانه تجد بعض الناس، إذا تحدث - وهذا موجود في كثير من الناس في جميع طبقات الناس- لكن الحديث الآن عن آفات القراء: تجد من القراء إذا تحدث، أو كتب يستخدم عبارات العلماء وكأنه عالم فحل يشار إليه بالبنان، فيقول: -مثلاً- (وأنا وأنا) ويكثر من هذه "الأنا" القاتلة، أو تجده يكثر من كلمة (عندي) عندي أن الأمر كذا وذلك في حديثه أو في تصنيفه وتأليفه، أو يكثر من: (ولي من المصنفات كذا، ولي من الأعمال كذا وكذا) .
وما أجمل الكلمة التي قالها الإمام ابن القيم رحمه الله -في آخر صفحة من الجزء الثاني من زاد المعاد -حيث قال وهو يتحدث عن الحذر من الألفاظ المكروهة والممنوعة، ختم حديثه بقوله: وليحذر كل الحذر من طغيان: أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون، وقارون، فأما إبليس فقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] .
وأما فرعون فكان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] وأما قارون فكان يقول: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] قال رحمه الله: وأفضل ما وضعت فيه هذه الألفاظ في نحو قولك: لي الذنب، ولي الجرم، ولي الإثم، ولي الذل.
وأفضل ما وضعت فيه (أنا) نحو قولك: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحو ذلك.
وأفضل ما وضعت فيه (عندي) اللهم اغفر لي خطئي وهزلي وعمدي وجدي وكل ذلك عندي، وهذه الكلمة مقتبسة من الحديث المتفق عليه عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومن الألفاظ التي يجدها القارئ اليوم في بعض الكتب التي انتشرت في هذا الوقت: أن كثيراً من الطلاب قد يكون بإمكانه أن يحقق كتاباً، أو يؤلف بحثاً في موضوع ما، وهذا الأمر أصبح ميسوراً لتوفر الكتب والدراسات، فإذا عرف الإنسان طريق البحث والتخريج واستطاع أن يجمع عدداً من المخطوطات -مثلاً- ويحققها، ويخرجها للناس، ويعلق عليها بتعليقات مفيدة، لكن الشيء المنتقد ليس هذا! لكن أن تتسرب إلى بعض هذه المؤلفات عبارات -إن كانت لائقة بالعلماء فليست لائقة بالقراء- مثلاً كما يقول بعضهم بعد أن ينقل أقوال العلماء: (قلت) وكأنه الإمام أحمد أو أبو حاتم الرازي أو أبو زرعة الرازي أو الدارقطني وغيره.
بل إن منهم من ينقل أقوال هؤلاء العلماء ويعقب عليها بقوله: (قلت: أخطأ فلان وأخطأ فلان) وقد يسوق لك أقوال عدد من العلماء أذكر منهم في أمثلة واقعية، -مثلاً- إماماً كـ الدارقطني إمام من أئمة الدنيا في معرفة الحديث وعلله وأسانيده، فتجد الواحد ينقل كلام الدارقطني فيقول: الدارقطني بشر، يخطئ، ويصيب، فيخطئه.
وبعضهم يعبر ويقول: أخطأ الدارقطني، ونحن لا نقول إن الدارقطني لا يخطئ فهو بشر، لكن! هذا ليس أسلوباً وإن فرض -فعلاً- أن الدارقطني خالف غيره من العلماء في مسألة يرد عليه بكلام أهل العلم، ويقال: الدارقطني إمام ولكن خالفه من هو أعظم منه وأعلم منه وهو فلان.
وتجد بعضهم يستعملون ألفاظاً فخمة: قرأت في أحد الكتب -مثلاً- أن محقق هذا الكتاب يمدح عالماً من علمائنا في هذا العصر ويثني عليه، حتى يقول: ولو حلفت بين الركن والمقام أنه لم تر عيني مثله ولم ير هو مثل نفسه لرجوت ألا أحنث!! معقول أن يقول الذهبي مثل هذه الكلمة في ابن تيمية لكن من غير المناسب في نظري أن يقولها طالب علم، وإن كان له مكانة في العلم، وعنده شيء من التمكن؛ لأنه كم رأت عينك من العلماء الفطاحل الذي تقول: ما رأت عيني مثل فلان منهم ولا رأى هو مثل نفسه، أو يقول -مثلاً- وما أسفت على شيء أسفي على أنني فاتني لقيا فلان وفلان من العلماء، حيث ماتوا قبل أن يلقاهم، وكأنه قد لقي الشيوخ وجمع الأسانيد والتقى بأعداد كثيرة من العلماء.
وهذه الأساليب قد تنم عن نوع من التعالم كما سماه الشيخ الدكتور الباحث بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه المفيدالتعالم وأثره على الفكر والكتاب، فمثل هذه العبارات تنم عن نوع من تعجل التصدر والتمشيخ، وشعور الإنسان بأنه أصبح شيئاً يرى، وكلما استطاع طالب العلم أن يتحرر من هذه الألفاظ كان أجدر.
وهذه الأمثلة التي ذكرت لست أعني بالضرورة من استعملوها؛ لأن الإنسان قد يلاحظ أن بعض هذه العبارات تتسلل دون علم الإنسان؛ لأنك إذا قرأتها في كتاب وربما يكون من أشرت إليهم جاءت على لسانهم عفواً دون أن يقصدوا.
ولذلك أحببت التنبيه إليها، حتى يتجنبها الطالب وينتبه إليها.(190/6)
ازدراء الناس وتتبع أخطائهم
كثير من المتعلمين قد يصابون بشيء من الكبر: وهو سبب لكل داء، فمن الأدواء التي تترتب على الكبر ازدراء الناس واحتقارهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -في تفسير الكبر أنه-: {بطر الحق وغمط الناس} .
وفى رواية: {غمص الناس} ومعنى غمط الناس: أي بخسهم حقوقهم وازدراؤهم واحتقارهم فهذا مظهر من مظاهر الكبر، وأنت تجد المصاب بهذا الداء يشتهي دائماً أن يقع في عيوب الناس وأخطائهم، وخاصة من ينافسونه في عمله -من العلماء وطلاب العلم- فتجده يقول: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، والكتاب الفلاني فيه كذا.
فلا يذكر عنده شخص أم كتاب أم عمل إلا حاول أن يجد فيه عيباً، ويبخسه حقه ببعض اللمزات والكلمات، وكأن لسان حاله يقول: أنا المتفرد بالصواب والسلامة من الأخطاء، أما فلان فقد أخطأ في كذا وفلان أخطأ في كذا، والكتاب الفلاني فيه من الأخطاء كذا وكذا، وكتبي هي وحدها السالمة من الأخطاء والعيوب؛ فهذا ليس مقاله؛ بل لسان حاله.
فلو بحثت في نفسيه من يكثرون من الوقوع في طلاب العلم والعلماء وتشهير أخطائهم، ومحاولة البحث عن زلاتهم لإذاعتها ونشرها، لوجدت أنهم ينطلقون من نفسية مصابة بداء الكبر! ومن عايش مثل هذه النوعيات من الناس، يجد أن القضية عندهم ليست قضية نقد وتقويم؛ لأننا -معشر المسلمين- عندنا مبادئ للنقد والتقويم عرفناها من القرآن والسنة، وورثناها من سلفنا الصالح: وهى أصول واضحة لا يمنع أن يقوَّم العالم فيبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية؛ لكن! مع حفظ حقه.
إذاً: من هو الذي لا يخطئ مرة أو عشرة أو مائة؟!.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وأي كتاب ليس فيه خطأ إلا كتاب الله تعالى؟! أما ما عداه فلا يسلم من نقص يقول بعضهم: إلا صحيح البخاري ومسلم.
وأقول: مع الاعتراف بأن جميع ما في البخاري ومسلم من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه صحيح؛ إلا أنه من حيث أنه كتاب لا يمكن أن نصفه بالكمال المطلق.
مثلاً البخاري -رحمه الله- أحياناً يقول: باب ثم لا يضع تحته حديثاً، لماذا؟ قد نقول أنه أتته المنية قبل أن يضع أحاديث!! وقد يقال أي شيء آخر، المهم: أن الخطأ والنقص في التبويب، والترتيب، والتصنيف، وفي التقديم، والتأخير، هذا واردٌ على كل كتاب، ولا يمكن أن نصف كتاباً بالكمال المطلق إلا كتاب الله عز وجل، مع تسليمنا بأن ما في الصحيحين من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتصلة؛ أنها صحيحة!! فأقول: هناك فرق بين مبدأ النقص والتقويم المنصف، وبين شهوة ازدراء الناس والحط من أقدارهم.
فالتقويم: يحفظ الناس حقوقهم، فأنت تبين -مثلاً- أن هذا العالم له من الفضائل كذا وكذا، وله من المصنفات كذا وكذا، ثم لا يمنع أن تبين مع جلالة قدره، فإن الله عز وجل أبى أن تكون العصمة إلا لرسله، فهذا العالم انتقد في كذا وكذا وهذا لا ينقص من قدره؛ بل كفاه نبلا أن تعد معايبه.
فرق بين هذا الأسلوب في النقد والتقويم الذي يضع الأمر في نصابه، وبين الذي يفرح بكل زلة لعالم حتى يحط من قدره.
فهل يستوي عنده أكابر العلماء وصغار الطلاب؟ لأننا نعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة فإن كانت هذه الزلة سوف تسقط هذا العالم، معناه: أنه لم يبق لنا أحد من العلماء نأخذ عنه ونقتدي به، فهذا هو بطر الحق، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر وقارن بين صورتين في هذا الموضوع.
الصورة الأولى: ما ذكره ابن عساكر [[عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يأخذ بركاب زيد بن ثابت الأنصاري تعظيماً له وتوقيراً، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا]] وابن عباس وهو من هو في جلالة قدره وسعه علمه وفقهه في الدين، ومع ذلك يأخذ بركاب زيد بن ثابت، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا، فهذه صورة المتواضع في معاملة العلماء من شيوخه أو أقرانه، أو من هم دونه.
ويقابل هذه الصورة صورة أخرى ذكرها الخطابي -في الموضع الذي أشرت إليه في بداية المحاضرة- قال: إن عبد الله بن المبارك رحمه الله زار رجلاً من أهل نيسابور -كان يوصف بالعلم والزهد والتقشف- فلم يلق هذا الرجل لـ عبد الله بن المبارك ولم يلتفت إليه، فلما خرج عبد الله بن المبارك من عنده، قيل لهذا الرجل: أتدري من هذا الرجل الذي دخل عليك؟! قال: لا، قيل له: هذا عبد الله بن المبارك فتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعرفه، ثم خرج ولحق به، وقال: سامحني! فإنني لم أكن أعرف أنك عبد الله بن المبارك، فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، قال هذا الرجل: عظني، قال: أعظك إذا خرجت إلى السوق فلا تقابل رجلاً من المسلمين إلا وظن أنه خير منك؛ لأن عبد الله بن المبارك لمح في هذا الرجل شيئاً من الغطرسة والكبر فأدبه بهذا الأدب، حتى يعالج هذا الكبر الموجود في نفسه.
فطالب العلم يحتاج إلى أن يعرف للرجال حقوقهم وأقدارهم وفضلهم، وألا يكون وقوع الخطأ عند عالم منهم مدعاة إلى سقوطه من عينه وهذه قضية تحتاج إلى أن يكون الإنسان فيها متوازن، فلا يتابع الإنسان الآخرين على أخطائهم -من باب التوقير والإجلال- لا ولكن! لا يكون وقوع الخطأ من أحدهم مدعاة إلى التشهير به، والحط من قدره وازدرائه وبخسه ماله من الفضائل والمكارم.(190/7)
من الآفات التجرؤ على جميع العلوم
الآفة الثانية: أنك تجد بعض القراء إذا بدأوا في طلب العلم وتحصيله، وحصلوا من ذلك قسطاً لا بأس به، خيل للواحد منهم أنه قد احتقب العلم بحذافيره، فأصبح يتكلم في دقيق العلوم وجليلها كلام العالم المتبحر وينبغي أن نفرق في هذه المسألة أيضا بين نوعين: الأول: أنه من الممكن أن يقوم زيد من الناس ببحث مسألة من المسائل -أياً كانت- خاصة المسائل الموجودة في الكتب، مسألة ففيهة -مثلاً- أو عقائدية أو لغوية، ويرجع إلى المصادر المعتمدة في هذه المسألة، ويجمع أقوال أهل العلم وأدلتهم، ويرجح، فيصل بعد الترجيح إلى نتيجة معينة، وهذه النتيجة قد يعرضها على بعض أهل العلم فيرتضونها ويقرونه عليها، حينئذٍ قام هذا الطالب وعرض هذه النتيجة على الناس لا بأس بذلك، لكن بعد هذه المرحلة وفى هذه المسألة بالذات، فرق بين هذا وبين إنسان لا يترك مسألة إلا هجم عليها، ولا يسأل عن سؤال إلا أجاب بخطأ أو صواب.
ولعلكم جميعاً تعرفون القصة التي يذكرها بعض اللغويين وغيرهم؛ بل وبعض المتكلمين في الآداب والأخلاق يزعمون -وهي أسطورة، ولكن بعض الأساطير لها تعلق بالواقع- يزعمون أن رجلاً لغوياً كان لا يسأل عن كلمة إلا بين معناها واستدل عليها بأحاديث، وبأبيات من الشعر، وأقوال العلماء وغير ذلك، فشعر تلاميذه بأن هذا الرجل ليس دقيقاً فيما ينقل، وأنه قد يختلق بعض الأشياء وينسبها إلى غيره، فاتفق التلاميذ على أن ينحتوا كلمة مختلقة ليس لها معنى موجود في اللغة العربية ويسألونه عنها، فاجتمعوا وتبرع كل واحد منهم بحرف فألفوا من ذلك كلمة كانت هذه الكلمة هي كلمة "الخنفشار" فجاء أحدهم إلى هذا الشيخ، وقال له: يا شيخ! ما هو الخنفشار، قال الشيخ: بعد أن حمد الله وأثنى عليه " الخنفشار" هو نبات ينبت في أطراف اليمن وفيه كذا، وفيه كذا ألم تسمعوا إلى قول الشاعر: لقد عقدت مودتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يكفي هذا يا شيخ بارك الله فيك! ما دام المسألة وصلت إلى حد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ أوقفوه وبينوا له الأمر.
فأقول: كون الإنسان يهجم على كل مسألة وكل شيء هذا ليس بلائق، ومن إعانة الناس -فأحياناً- الناس هم الذين قد يفسدوا العالم أو طالب العلم؛ لأن طالب العلم يسير سيراً معتدلاً فيقبل الناس عليه ويصبحون يسألونه عن كل شاذة وفاذة، وشاردة وواردة.
فمن الصعب جداً على الإنسان أن يقف أمام الناس فيسأل عن عشرين سؤالاً أن يقول عن عشرة منها على الأقل: لا أدرى أو الله أعلم، فهذه قد حدثت مع الإمام مالك حين رحل إليه رجل بأربعين مسألة، فأجابه عن ثماني مسائل منها، واعتذر عن اثنتين وثلاثين مسألة، فقال له السائل: ماذا أقول للناس؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك: الله أعلم، لا أدرى!! فالناس أحياناً: قد يخرجون طالب العلم عن طوره، بكونهم يضعونه في غير موضعه، ولذلك قال بعض السلف: "إن وقع الأقدام خلف العالم، مزلة لعقول الحمقى" أي: إذا صار العالم يمشي وطلابه خلفه يسيرون؛ كان هذا سبباً في استخفافه إذا كان أحمق، وخروجه عن طوره، أما العالم الرباني: فإنه يعلم قدر نفسه، ولا يغتر بإقبال الناس أو ثنائهم عليه أو كثرة ماءلتهم له، ومما ينبغي أن يعرف في هذا الباب: أن مجرد الإطلاع على المسائل والكتب لا يكفي وحده في تحصيل العلم؛ بل لابد من شروط فطرية عند الإنسان، ولذلك تعجبني كلمة ذكرها الإمام الجويني في كتابه الذي سماه "غياث الأمم في التياث الظلم" ذكر في هذا الكتاب ضمن فوائده الغزيرية كلمة سماها (فقه النفس) : وهو التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، -كما يعبر- وهو أنفس صفات علماء الشريعة، والذي أظن أنه يقصد في فقه النفس: أولاً: وجود ملكة للاستنباط عند القارئ أو المتفقه؛ بحيث إن عنده عقلية جيدة قابلة للتفقه والتعلم.
ثانياً: التمرس والتدرب على الترجيح والاستنباط بحيث يتدرب الإنسان على الاستنباط في ظل بعض العلماء الذين يصححون له، حتى يشب عن الطوق، ويصبح لديه إمكانية الاستقلال في الاستنباط والاستخراج والترجيح والتصحيح وغير ذلك.(190/8)
العزلة عن المجتمع
أخيراً فإن من آفات القراء: العزلة عن المجتمع وشئونه وشجونه، فإن الإنسان قد يجد لذة كبيرة في المعاملة مع الكتب، كما كان الشاعر يتمدح بذكر الكتب ويقول: لنا جلساء لا نمل حديثهم الباء مأمونون غيباً ومشهداً والآخر يقول: وخير جليس في الزمان كتاب المعاملة مع الكتب مريحة، إن شئت تقرأه وإن شئت تدعه، إن قبلت منه شيئاً وإلا رددته، فهو أصم، ولذلك قد يرتاح طالب العلم في المعاملة مع الكتب والقراءة والبحث، ويغفل عن مهمته في واقع الحياة والمجتمع؛ لأن كل علم إنما ثمرته العمل به والدعوة إليه.
فإذا كان حظ الطالب من العلم هو تحصيله في نفسه فيموت هذا العلم بموته، فحينئذٍ لم يحقق ما يتطلبه منه العلم.
فالجدير بطالب العلم أن يختلط بالناس؛ ليس اختلاط الإنسان الذي يريد فقط أن يتبسط مع الناس، أو يمزح معهم، أو يسري عن نفسه، لا.
اختلاط الإنسان الواعي الذي يريد أن يؤثر في الناس ويوجههم ويعرف عيوبهم ليتقيها ويحذر منها، أي قد يتحدث اليوم اثنان من الناس عن عيب من العيوب، أو عن أمر من الأمور الشرعية، فيتحدث أحدهما حديثاً شرعياً يذكر الآيات والأحاديث، وأقوال أهل العلم، وفوائد هذا الأمر أو مضاره وينتهي، فيكون حديثه على فائدته غير مرتبط بالواقع.
ثم يأتي إنسان آخر: يعيش الواقع فتجد أنه يربط حديثه بمشكلات الناس، وواقع زمانه، وما يعانونه، فيجد الناس البلسم والشفاء لمشاكل حياتهم في مثل هذه الأحاديث.
وطالب العلم ينبغي أن لا يحكم طوق العزلة على نفسه وعن المجتمع؛ بل يجعل ما يواجهه في المجتمع مادة للتوجيه والحديث وربط القضايا الشرعية بواقع الأمة.
وما أحوج الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها إلى من يجمع بين العلم الشرعي المتمكن، وبين المعرفة القوية الدقيقة بالواقع بحيث يستطيع أن يحل مشكلات الواقع على ضوء الكتاب والسنة!! ويستطيع أن يطبق نصوص الكتاب والسنة على واقع الناس فما يستطيعون أن يفعلوه، ما أحوج الناس إلى مثل هذا العالم! وقد ذكرت كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم في واقع حياته؟! كان عليه الصلاة والسلام يعرف أوضاع الناس؛ بل ربما أقول أوضاع العالم السياسية وغيرها، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة مهجراً لأصحابه؛ لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد، كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره وهو صحيح.
وكان يعرف ما يقع في فارس والروم ومصر وغيرها، ولذلك راسلهم، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسري وإلى قيصر وإلى المقوقس وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل، وليس فقط النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل يعرف حتى القضايا الأدبية والشعرية؛ لأنه كان يغشى الناس في أسواقهم في عكاظ ومجنة وذي المجاز.
ويعرف كثيراً عن أوضاعهم الاجتماعية، وبالمقابل كان يعرف صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبعثه الله عز وجل يعرف شيئاً مما كان عليه الأنبياء السابقون والله أعلم.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا حج قبل البعثة، تقف قريش يوم عرفة بالمزدلفة، لأن قريشاً يقولون: لا يمكن أن نقف مع الناس ونحن أهل البيت وسدنته، فكانوا يقفون بالمزدلفة، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير وثبير) هو: جبل معروف بالمزدلفة، والناس يقفون بعرفة، فكان صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس، ولذلك قال عبد الله بن عدي كما في الحديث الصحيح في جامع الترمذي وغيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة، فقال: {هذا من الحُمْس} والحمس: لفظ يطلق على قريش لتحمسهم في دينهم، {هذا من الحمس، فما باله واقفاً هاهنا} لماذا لا يقف مع قريش بالمزدلفة.
وكذلك في صحيح البخاري وغيره أنهم لما كانوا يبنون البيت كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة على كتفه، فتأثر كتفه فأمره العباس بن عبد المطلب أن يرفع إزاره ليقي كتفه من الحجارة، فرفعه فبانت عورته عليه الصلاة والسلام وسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رؤى متعرياً بعد ذلك قط، وقد يقال: إن هذا أمر هيئه الله تبارك وتعالى له لما كان يعد له من أمر الرسالة.
المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف واقع الناس الذين يريد أن يدعوهم، وهكذا ينبغي أن يكون المقتدون به.
وفي الختام: حين أذكر هذه الآفات: فإنها ليست إلا قطرة في بحر فضائل القراء وحسناتهم، فإن هؤلاء القراء هم خير الناس، وقد قيل لبعض الأئمة: ألم تر إلى أهل الحديث؟ كيف هم، وكيف فسدوا؟! فقال: هم على ما هم خيار القبائل.
وأمر عمر بن عبد العزيز بتولية الفقهاء، فقال له بعض من حوله قد وليناهم فوجدناهم خونة؟ فقال: ويحك، ولهِّم فإن كانوا خونة فغيرهم أخون، ونحن جميعاً -إن شاء الله تعالى- ندين الله بحب أهل العلم، وأهل القرآن والحديث خاصة، ونعتقد أن هذا قربة وطاعة لله تبارك وتعالى، وأن حبهم دين وإيمان، وأن بغضهم نفاق، لكن هذا لا يمنع من التناصح فيما بيننا، وإن يبين كل إنسان منا ما يعلمه في إخوانه من العيوب، والمؤمنون نصحة وكما قيل: وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(190/9)
التوقر المبكر
الآفة الثالثة: هي آفة التوقر المبكر؛ حيث قد يدب الشعور بأهمية التوقر، ولبس لباس العلماء والتزيي بزيهم في غير أوانه، وإلا فهذا الشيء في أوانه مطلوب، والعلماء ممن يجب أن يقتدى بهم ويتشبه بهم، وكما قيل: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح ولكن وضع الشيء في غير أوانه ليس بجيد، ولذلك كان السلف يرغبون لطالب العلم أن يجالس الفتيان ليأخذ عنهم حسن الخلق، ولين العريكة، وسلامه الطبع، يقول سفيان الثوري: لأن أصحب فتى أحب إليَّ من أن أصحب قارئاً، ويقول: في كلمة أخرى له: من لم يتفتى لم يتقرأ، يفسر الإمام الخطابي في كتاب العزلة معنى كلمة سفيان والفرق بين الفتى والقارئ تفسيراً جيداً وذا علاقة كبيرة بما نحن بصدده، فيقول:: إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم بشاشة الوجه، وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة كثير من القراء -هو قال الأكثرية -في الواقع-؛ لكن لعلهم ليسوا الأكثرية وإنما هم كثير- الكزازة، وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة كان جديرا أن يتباقى معه ذلك الذوق، وتلك الهشاشة، ومن تقرأ في صباه لم يخل من جفوة أو غلظة، وهذا ليس على إطلاقه وإنما يوجد عند طائفة، بل إنني أقول حتى أكون دقيقا طائفة قليلة من القراء، ولكن القراء -كما أسلفت- هم كالثوب الأبيض؛ كل ما كان فيه من دنس فإنه يشين مهما قلَّ ودق.
فينبغي للإنسان أن يحرص على مخالطة الناس، حتى يستفيد من أخلاقهم وتبسطهم، ويحفظ نفسه عن الكبر والتجبر، ويحتفظ بقدر من التواضع وحسن المعاملة لهؤلاء الناس، والبعد عن التوقر في غير أوانه.(190/10)
الاكتفاء بقدر معين من العلم
من آفات القراء: الوقوف عند مستوى معين في العلم، فتجد الإنسان يشعر في مرحلة من مراحل العمر أنه وصل إلى درجة كبيرة من العلم؛ فأصبح اهتمامه بالعلم والتحصيل أقل، ومن المعلوم أن العلم في حركة مستمرة لا يتوقف، حتى لو نظرنا إلى العلم الشرعي، لوجدنا أنه تطبع عشرات؛ بل مئات من الكتب الإسلامية في سائر أنواع العلوم والفنون مما لم يكن للناس به عهد، ولم يكن لهم عليه اطلاع، ولذلك تسنى لكثير من العلماء المتأخرين من الاطلاع على أنواع العلوم لم يتسن لمن قبله؛ لتيسر الوصول إلى الكتب والظفر بها.
فلا ينبغي للإنسان أن يقف عند حد معين، واليوم الذي يشعر الإنسان فيه أنه قد وصل إلى مستوى الكمال هو اليوم الذي ينتهي فيه الإنسان، يعتبر هذا الإنسان فيه انتهى ومما يجمل أن يساق في هذا الصدد ما ذكره ابن عساكر عن أبى القاسم الصوفي -أحد العلماء- أن أحد تلاميذه كان يقول: إن أبا القاسم هذا كان من أكثر الناس حرصاً على جمع الفوائد وتقييدها، قال: فسافرت معه للحج فكنا إذا دخلنا مدينة أخذ المحبرة والمقلمة والدواء والورق وقال: يا فلان هلم بنا نسمع الحديث، فلا يدع أحداً يُعلِّم ويروى ويقرئ إلا جلس إليه وأخذ عنه، فإذا جلس في البرية أخرج المحبرة والمقلمة والورق قال حتى إنه لما جاء إلى رمل وادي محسر والناس يتخففون من أمتعتهم؛ أخرج القلم والمحبرة والورق، فقلت له يا فلان رحمك الله! حتى في هذا الموضع! وماذا تصنع بها؟ قال: لعلي أسمع فائدة من إنسان أو جمَّال أو غيره فأقيدها!! لم يكونوا يقفون عند مستوى معين من العلم.(190/11)
التعصب للرأي
من آفات القراء: التعصب للرأي -سواء رأي الإنسان، أو رأي شيخه- وضيق الأفق عن سماع ما عداه، ولعل من أهم أسباب هذه الآفة: أن القارئ يتربى على رأي واحد منذ نعومه أظفاره وهو لا يسمع إلا رأياً واحداً، هذا الرأي يصحح له ويدلل عليه، ويضعف وينتقد ما سواه، فنشأ وشب على حب التقليد والتمسك بهذا الرأي، وأصبح يجزع حين يسمع نقداً لهذا الرأي، أو يسمع رأياً آخر مخالفاً له.
فلعل من المناسب أن يتربى طالب العلم والقارئ على ما يسمى بالفقه المقارن، خاصة إذا تقدم مستواه في العلم وأصبح أهلا لذلك، أن يسمع في المسألة أقوال عديدة اسمع قول الشافعي وإلى جواره قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وسفيان الثوري والطبري وغيرهم من الفقهاء، واختر من هذه الأقوال ما يعضده الدليل على الأقل.
فإذا عرفت هذه الأقوال، ومن قال بها صار عندك شعور أن المسألة ليست مسألة إجماع، وأنه كما تعتقد أنت إنما قاله فلان هو الصواب! غيرك يعتقد أن ما قاله غيره هو الصواب! فيتربى الطالب على أنه يتعصب للحق وحده ولا يتعصب للرجال أياً كانوا وهؤلاء الرجال أنفسهم كانوا ينهون عن تقليدهم، ويعلنون أنهم إذا صح الحديث فهو مذهب أحدهم، الإمام أحمد مثلاً يقول: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان -يعني سفيان الثوري - والله عز وجل يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .
ففرق بين تعظيم العلماء وتقديرهم وإجلالهم والدعاء لهم، وبين تقليدهم في كل مسألة، فإن من المعلوم قطعاً أنه لا يمكن أن يقال: أن الحق كله محصور في قول إمام من الأئمة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما قاله عليه الصلاة والسلام فهو حق، أما سائر الأئمة فكل واحد منهم يأخذ من قوله ويترك- كما قال الإمام مالك -رحمه الله- فإذا تربى الإنسان على ذلك سَلِم من نزعة التعصب، سواء للإمام المتبوع أو للشيخ أو للنفس.
فالتعصب للنفس مشكلة؛ لأنه أحياناً ينشأ التعصب عن بحث المسألة، فربما يكون التعصب لهذا الرأي؛ لأن القارئ وطالب العلم بحث المسألة وجمع الأقوال والأدلة والأحاديث وصحح ونقح، فتوصل إلى أن الحق هو كذا وكذا، فصار يتعصب له.
ولكن الإنسان الذي تدرب على قراءة أقوال العلماء غالباً يسلم من ذلك -إن شاء الله- ولهذا كان السلف يوصون بالاطلاع على أقوال العلماء حتى أن بعضهم يقول: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.(190/12)
الأسئلة(190/13)
من كتب في آفات القراء
السؤال
لا شك أن لآفات القراء كتباً قد عالجت هذا الأمر، أرشدونا إلى أهم تلك الكتب قديمها وحديثها؟
الجواب
من هذه الكتب كتاب العزلة للخطابي، وقد أشار إشارة خفيفة وليست كبيرة، ومنها: كتب الخطيب البغدادي ككتاب "الفقيه والمتفقه" و"الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" و"شرف أصحاب الحديث" وغيرها، ومنها: كتاب الإمام الحافظ ابن عبد البر " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي روايته وحمله" ومنها: ما كتبه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"؛ لأنه تكلم عن تلبيسه على طلبة العلم، وأطال النفس في ذلك.
وعموماً: الكتب التي تكلمت عن آداب طالب العلم تتعرض لتلك الآفات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وقد كتب الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد كتابين مفيدين في هذا المقام أحدهما بعنوان " التعالم وأثره على الفكر والكتاب" والثاني بعنوان "حلية طالب العلم " وهما كتابان مفيدان في هذا الباب.
والصلاة والسلام على خير المرسلين.(190/14)
الفرق بين الكبر وعزة النفس
السؤال
أرجو إيضاح الفرق بين الكبر المنهي عنه والعزة المأمور بها؟
الجواب
الكبر المنهي عنه عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {بطر الحق وغمط الناس} وهو شعور الإنسان بنفسه بأعظم مما هو عليه؛ بحيث يرد الحق ممن جاء به، ويبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم، وفضائلهم، وله آثار سيئة ذكرت طرفاً منها.
أما العزة: فهي أن يكون الإنسان بعيداً عن الذل والمهانة وانحطاط النفس؛ بحيث يتجنب كل ما فيه خدش لمروءته وإنسانيته من الأخلاق والأعمال والأقوال، فيلتزم في ذلك بحسن الخلق، وبالمواقف السليمة، وبالكلام الطيب، وبتجنب المشاكسة مع السفهاء وغيرهم! حتى يحفظ لنفسه مكانتها وعزتها.(190/15)
استعجال الطالب في التأليف
السؤال
يلجأ بعض طلاب العلم إلى التحقيق والتأليف وهو صغير السن، وهو في مقتبل العمر ولم يحفظ القرآن ولم يجرد المطولات، ولم يلم بالمهمات من كتب أهل العلم، ويعتني بذلك اعتناء شديداً، فما المحاذير التي يقع فيها أمثال هؤلاء؟ وما رأيكم يضيعهم ونصيحتكم لأمثالهم؟
الجواب
اليوم نعيش ظاهرة -ربما لمحت إليها- وهي: أن المكتبات الإسلامية تزخر يومياً بعشرات، وربما بمئات الكتب في ألوان العلوم الإسلامية، وكثيرٌ من هذه الكتب محقق؛ لكن التحقيق يختلف، فهناك تحقيق علمي بذل فيه الباحث جهوده والتزم شروط التحقيق العلمي- مثلاً-: نفترض أنه يحقق مخطوطة تجده يبحث عن نسخها على الأقل نسختين أو ثلاث نسخ منها إن وجدت، ويقارن بينها، ويثبت النص الصحيح، ويرجع النصوص إلى مواضعها، يترجم ولو باختصار للإعلام المغمورين، يوضح الكلمات الغريبة، يضع مقدمة للأشياء المهمة؛ تجده عملاً طيباً مهماً كان هذا الشخص غير معروف، أنت لا تحكم على الشخص تحكم على هذا العمل بأنه عمل طيب ومفيد، لكن في المقابل تجد ركاماً من الكتب ليس لها من التحقيق إلا أنه مكتوب على طرف الكتاب وغلافه (حققه فلان بن فلان) حتى أنني وجدت كتاباً مكتوب على ظهره وهو لـ ابن قيم الجوزية -رحمه الله- اسمه " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " مكتوب على غلافه حققه "جماعة من العلماء"، (انظر كيف فخامة العبارة) وفي داخل الكتاب تجد في أحد الهوامش: (لم نعثر على هذه الآية ولعله حديث قدسي) -والجنون فنون كما يقال- فجماعة من العلماء لا يعرفون هذه الآية ولا يفرقون بين كلام الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم!! بعض الإخوة: قد يتسرعون فيشتغلون -مثلاً- بموضوع التحقيق أو البحث دون استكمال آلته، والواقع أن البحث من أهم وسائل التعلم، ولذلك تفرض الكليات والجامعات على طلابها بحوثاً في كافة السنوات، لكن هناك فرق بين أن أبحث، وأن أنشر، ففي رأيي أن الطالب الذي لا يأنس من نفسه القوة والكفاءة، إذا بحث أو حقق لا يعتمد على نفسه؛ بل يتكئ على غيره، ويطلب من أحد العلماء المعروفين أن يقرأ له هذا البحث ويصححه، ويصلح أخطاءه وينصحه فيه، أحد كبار العلماء ذكر أن طالباً من الطلاب قدم له بحثاً في موضوع من العبادات قد استقصى فيه أحكام عبادة من العبادات، كالصلاة مثلاً أو الحج، وجاء فيه بآراء غريبة؛ لأنه أحياناً الطالب قد يتبنى بعض الآراء التي فيها شذوذ، مثلاً يقرأ رأي ابن حزم، وابن حزم إمام جليل أوتي فصاحة وبلاغة، وقوة عبارة، وشدة على الخصوم، فالطالب إذا قرأ عبارة ابن حزم يشعر بأنه أسير لـ ابن حزم، وغالباً قد يقتنع بقوله، ثم إن ابن حزم يستعمل ما يسميه بعض المعاصرين بقياس الإحراج، وهذه -تسمية على مسمى- يعني: أنه يحرج الخصوم بتناقضاتهم.
فيقول: الحنفيون، قالوا: وهم في المقابل، قالوا: كذا، إذاً: هم تناقضوا.
ويأتي كذلك الشافعية والمالكية وغيرهم، ويظل يأتي لهؤلاء يحرجهم بقياسات من هذا النوع؛ حتى يشعر الطالب أو القارئ أن ابن حزم أصاب في هذه المسألة، وقد يكون له رأي خاص وابن حزم معذور؛ لأنه عالم مجتهد، لكن أنت لست معذوراً حين تأخذ رأي ابن حزم وتتشبث به كأنه رأيك الخاص.
فيقول: إن هذا الطالب جمع فيه آراء غريبة، لكن الغريب أنه في مقدمة الكتاب وفي الصفحة الأولى عدد من الأخطاء ما بين أخطاء نحوية ولغوية وإملائية، فالطالب الذي ما تمكنت لديه الآلة وليس عنده علم بالقرآن الكريم -حفظ القرآن- ومعرفة باللغة العربية، ومعرفة بالأساليب، فلا ينبغي أن يتعجل في نشر هذه البحوث.(190/16)
موقف الطالب من شيخه
السؤال
نقع في الحرج الشديد أثناء تعاملنا مع شيوخنا في معاقل التعليم، حيث إننا نريد أن نقدرهم ونخدمهم ونعاملهم بالحسنى، غير أننا نخشى أن يكون هذا وسيلة منا لنيل أعالي الدرجات، أو يكون سبباً في عطف قلب الشيخ علينا فيما لتناب في رفع درجاتنا، فما موقفنا الصحيح من ذلك؟
الجواب
الموقف الصحيح: أن الإنسان ينبغي أن يتحلى بالخلق الفاضل مع شيوخه، بتوقيرهم وتقديرهم واحترامهم وإعطائهم ما هم له أهل، وهذا خلق ينبغي أن يتحلى به الإنسان، وهو حق شرعي لهذا العالم.
وحين يكون هذا دأب طالب العلم مع شيخه، يصبح أمراً عادياً طبيعياً لا يتميز به هذا الطالب بذاته؛ بحيث يكون مدعاة إلى رفعة الدرجات أو ما شابه ذلك، ثم إنه إذا كان قصد الطالب حسناً؛ فلا يضيره ما حدث بعد ذلك؛ لأنه إن وقع أن أعطي الطالب درجة بسبب هذا الخلق، فإما أن نقول: إن هذه درجة يستحقها؛ لأن الخلق يتعلم كما يتعلم العلم، وليست التربية -وأنتم أدرى مني بموضوع التربية- هي ليست مجرد حشو المعلومات في أذهان الطالب، تربية الطالب على معايشة الأمور العملية والتربي بالأخلاق الفاضلة هي من أهم مهمات المعلم، وإلا إن كان الطالب لا يستحقها يقال: إن هذا أمر وقع فيه المدرس باجتهاده والطالب لم يقصد ذلك، ولم يطلبه، ولم يسع إليه؛ لكن يحذر الطالب من الوسيلة المباشرة التي يقصد من ورائها هذا الغرض، مثلاً: قد يسأل طالب، يقول: أنا أحب أن أهدي لأستاذي كتاباً، أو كتباً، أو ما شابه ذلك، نقول هدايا العمال غلول، ربما يكون هذا نوع من الغلول، فأنت تهدي للأستاذ -مثلاً- أو الشيخ بقصد أن تستميل قلبه، وحتى لو فرض أن الأستاذ أو الشيخ من الثقل، وعدم التأثر بمثل هذا في محل رفيع إلا أن هذا العمل منك أنت يعتبر خطأ.(190/17)
معاملة الشيخ للطالب
السؤال
في المقابل بعض المدرسين يشكون من هذه الشكوى ونخشى نحن المدرسين عند إظهار التسامح مع الطلاب والتواضع لهم من ازدرائهم لنا ما الطريقة التي تحفظ لنا وقارنا مع تواضع وتسامح؟
الجواب
الحقيقة: ربما يكون كثيراً من الإخوة أرسخ مني قدماً في ميدان التعليم ومعايشة الطلاب؛ ولكن ما دام طلب المشاركة فأعتقد -والله أعلم- أن الأستاذ إذا تميز بانضباط الشخصية؛ فإنه يستطيع أن يجمع بين الأمرين، فيتبسط مع الطلاب -مثلاً- في معاملته معهم بصفة فردية في بداية المحاضرة في مشاركتهم إذا كان هناك نشاط أو غير ذلك، ويشعرهم بأنه على قرب منهم، وبحنوه وشفقته عليهم، فإذا جد الجد يكون جاداً بعيداً عن كل ما قد يدعو إلى حدوث فقدان الهيبة، أو فوضى، أو ما شابه ذلك، بحيث يستطيع أن يجمع الجدية في التدريس، وإلقاء الدروس، وتحضير المعلومات وإيصالها إلى أذهان الطلاب، ومحاسبتهم عليها، وبالمقابل يحرص على التلطف مع الطلاب في الأوقات المناسبة لذلك، لكن قد يقول إنسان: إنه لا يستطيع الجمع بين هذين الأمرين، لأنه إن تبسط مع الطلاب فقد هيبته، وتعدى الطلاب حدهم وطورهم في ذلك، فحينئذٍ إن كان الأمر كذلك بالنسبة لبعض الشيوخ، ففي نظري: أن الأولى في هذه الحالة أن يكون جاداً ليحفظ مكانته ويستطيع أن يؤدي مهمته ورسالته، ومن المعلوم أن المصالح إذا تزاحمت، يقدم الأهم فالأهم، وكذلك المفاسد إذا تعارضت يدفع منها الأشد فالأشد.(190/18)
الفتوى وكتمان العلم
السؤال
يقول: يطلب أحدنا العلم الشرعي فيدرك شيئاً من العلم، فهل هذا يؤهله بأن يفتي العامة ويقوم بتوجيههم، أم يترك ذلك فيقع في حرج من كتمان العلم؟
الجواب
الإنسان ينبغي أن يُعَّلِم ما عَلمِ، ويبلغ ولو آية، وفي هذا الصدد يلاحظ أنه في الوقت الذي قد يتسارع فيه كثير من المبتدئين، وطلاب العلم الصغار إلى توجيه الناس وإرشادهم، تجد أن كثيراً من طلاب العلم الكبار المتمكنين قد تخلو عن الموقف، وهذا هو الذي دعا غيرهم إلى المشاركة، ربما يكون مشاركة غيرهم ضرورة؛ لأنه وجد الميدان خالياً فرأى أن سده بمثله على ما يعرف من نفسه من نقص أو تقصير؛ إنه أفضل من ترك الأمر بلا شيء.
ولذلك أنا ذكرت في نهاية الحديث أهمية الاختلاط بالناس، بحيث يوجههم ويعلمهم ما علم؛ لكن فيما يتعلق بالفتيا لابد وأن يكون متثبتاً، لأنه إن أفتى العامي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه، وكم من إنسان تسرع في مناسبة حج أو عمرة فسئل سؤالاً فأعطى فتيا جاهزة تم عض إصبع الندم بعد فوات الأوان، وأين هذا الذي أفتاه حتى يبين له أن هذه الفتيا خطأ؟ فعلى الإنسان -إن لم يكن متثبتاً من الفتيا- ألا يفتي بها، يقول له: انتظر، ويراجع الكتب أو يسأل أهل العلم، ثم يرد له الجواب.(190/19)
مدح بعض العلماء أنفسهم
السؤال
نجد جمعاً من علماء السلف -رحمهم الله تعالى- كأمثال ابن الجوزي، رحمه الله أو السيوطي رحمه الله، يقوم أحدهم بمدح نفسه وإطرائها المدح الشديد، والاغترار بنفسه وهو أهل لذلك، فهل يقتدى به في ذلك؟ وهل لمثل هذا محمل؟ وهل هو ممدوح أم مذموم؟!.
الجواب
أما مديح العلماء السابقين لأنفسهم، فله أحوال لا يمكن أن ينزل كله على منزلة واحدة؛ لأن العلماء منهم من يكون في موقف يتطلب أن يذكر نفسه بشيء من المديح-ومن ذلك مثلاً- ما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية حين قام عليه العلماء وعاتبوه وناظروه، فإنه قام وتكلم عن جهوده في خدمة الإسلام، ومن قام بالإسلام حين تخلى الناس عنه، ومن فعل كذا وكذا، ويشير إلى جهوده -رحمه الله- ليس على سبيل الإطراء والاغترار، لكن؛ لأن له مناسبة، وهؤلاء علماء غمطوه حقه وجحدوه، فناسب أن يتكلم بهذا الأسلوب أمامهم، ولم يستطيعوا أن ينكروا ذلك عليه أو يردوه.
فمثل هذا إذا دعا المقام إليه؛ فلا بأس به، ولعلكم تعرفون جميعاً أن موسى عليه السلام سئل: من أعلم الناس؟ فأجاب: أنا.
فعتب الله عليه إذ أنه لم يرد العلم إليه، وأوحى إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، وقصة رحلته في طلب العلم معروفة ذكرها الله تعالى في كتابه، وكذلك نجد أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قد يذكرون علمهم في بعض المناسبات، كما كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه يقول: [[أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله]] وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له ودعائه له، حيث قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فإن كان لهذا الغرض، فهذا غرض لا بأس به؛ بل قد يكون الأنسب أن يتكلم الإنسان في بعض ذلك -أحياناً-.
أما إن كان على سبيل الإطراء المحض، فالذي يظهر أنه لا داعي له إن صدر من عالم، فالإمام السيوطي -مثلاً- كما عبر أو مثل السائل له كلام في الثناء على نفسه، أذكر منه قوله في قصيدته التي ذكر فيها المجددين ووصل إلى القرن التاسع، قال: وهذه تاسعة المئين قد جاءت ولا يخلف ما الهادي وعد وأرجو أن أكون أنا المجدد إذا أن فضل الله ليس يجحد وكذلك حين ترجم لنفسه في كتاب (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) استطرد في الثناء، ولم يكن هذا من عادة أهل العلم، لكن على الإنسان أن يعرف أن هذا ليس موضع قدوة؛ بل يقتدى بالإمام السيوطي وغيره في الحرص على العلم، وجمعه، والتصنيف، والتأليف، والعبادة، والزهد، وغير ذلك.
وما كان من الأمور التي وقعت منهم وقد يكونون معذورين بها، أما لأن الإنسان يواجه كلاماً من الناس أو صراعاً مع أحد أو غير ذلك، أو تكون زلة ويغفرها الله لهم.
المهم: أن الإنسان لا يتخذ مثل هذه الأشياء حجة في مديح نفسه والثناء عليها وإطرائه!!(190/20)
ترك الاجتهاد مخافة الإعجاب
السؤال
أنا من طلبة العلم في إحدى المدارس، وأنا -ولله الحمد- من الطلبة المتفوقين في تلك المدرسة، وأحس ذلك من مظاهر عزة الشاب المسلم، ولكنني أخشى أن يؤدي بي ذلك إلى الكبر، فهل أترك التفوق ومجاله أم ماذا أفعل أفيدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه الشكوى كثيراً ما تثار اليوم، ليس فقط في مجال التعلم والتعليم؛ بل في مجال العمل الصالح عموماً تجد شاباً يشتكي أنه إن بادر إلى الصلاة، أو جهر بقراءة القرآن، أو تفوق في ميدان من ميادين العلم النافع أو العمل الصالح، خاف من العجب والرياء، فربما دعاه ذلك إلى ترك العمل.
فلا أعتقد أن هذا هو الأسلوب الصحيح؛ لأن الشيطان يكسب حينئذٍ كسباً كثيراً إن كان كل ما شوش على واحد منا عمله ترك هذا العمل؛ بل الأجدر بالإنسان أن يستمر على عمله، ويزيد منه، ويفتح جبة جديدة في ميدان المجاهدة مع الشيطان ألا وهي مجاهدته في ميدان القلب، ومدافعة هذه الخواطر والوساوس بحيث لا تستقر في قلبه، وكثرة الاستغفار منها، ونهي النفس عنها، ودعاء الله عز وجل أن يخرجها من قلبه، وإذا استمر الإنسان بهذه الطريقة فإنها تزول.
فالإنسان قد يشعر بهذا في أول الأمر؛ لكن بعد فترة يصبح هذا الأمر عادياً لا يلفت النظر بالنسبة له، ولا يدعوه إلى الشعور بالرياء أو خوف العجب أو الغرور.(190/21)
العزلة
السؤال
يقول ذكرتم في مقدمة كلامكم كتاب العزلة للإمام الخطابي فما رأي فضيلتكم فى العزلة وفي الكتاب ذاته؟
الجواب
العزلة: لها أحوال تختلف من شخص إلى آخر ومن وقت لآخر، والأصل الخلطة، وجماهير أهل العلم على أن الخلطة أفضل من العزلة، وهذا هو الصحيح، وهو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله علهم وسلم، قال: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} [رواه الترمذي وأحمد وغيرهما] وهو حديث صحيح، فالأصل المخالطة، مخالطة الناس للداعية الموجه المعلم الناصح.
إنما تشرع العزلة في أحوال: تشرع في أزمنة الفتن، كأزمنة القتال بين المسلمين التي لا يميز الإنسان فيها المخطئ من المصيب، وهذا متواتر عن جمع من الصحابة أنهم تركوا القتال في تلك الفتن، واعتزلوا الناس منهم: سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وجماعة كثيرة من الصحابة.
العزلة عند فساد الناس؛ لأنه قد يقول قائل: إن الناس فسدوا، ومسألة الفساد والصلاح مسألة نسبية، وعلى حسب اعتدال الشخص في مزاجه، وعلمه يستطيع أن يحكم على الناس، بعض الناس قد يقول: الآن -الحمد لله- الأمور بخير، والناس في خير، والإسلام في خير، ويبالغ في التفاؤل، وبعض الناس على العكس، فيبالغ في التشاؤم، وسب الواقع حتى كأن الواقع لا خير فيه.
وهذا -كما يقال: إذا وُضع أمام اثنين كأس فيه ماء إلى منتصفه، فإن المتشائم منهم يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، أما المتفائل فيقول: هذا الكأس نصفه مملوء، وهذا المثال: ينطبق -فعلاً- على واقع الناس، فتجد بعض الناس من ينظر إلى الجانب الإيجابي فيبالغ فى مدح الواقع؛ وبعضهم ينظر في الجانب السلبي فيبالغ في ذم الواقع، وبعضهم يعتدل فينتظر نظرة متوازنة فيذكر ما في الواقع من إيجابيات وما فيه من سلبيات.
فعند فساد الزمان الضابط في ذلك: فإنه على حسب ما يظهر -والله أعلم- إذا فسد الناس فساداً يصبح الإنسان إذا دعا لا يستجاب له، أي: أن المجتمع كله غير قابل للإصلاح -والواقع اليوم يشهد بأن الدعاة يستجاب لهم- إذا دعوا الناس أجابوهم إلى دعوته؛ بل وسارعوا.
الحالة الثالثة: أن يكون الإنسان نفسه، عنده إحساس مرهف شديد، وشدة تأثر بالواقع؛ فإذا احتك بالناس واختلط بهم ورأى أقل منكر؛ فإنه يتأثر بذلك تأثراً لا يستطيع دفعه.
فإما أن يكون تأثره بحيث يضعف وقد يقارف هذه المنكرات، أو يكون بحيث ينفعل انفعالاً شديداً ويغير هذه المنكرات بطريقة خاطئة تضاعف من المنكر، وجرب من نفسه هذا الأمر، وأنه لا علاج له، ورأى أن العزلة أنفع له من الخلطة، ففي هذه الحالة العزلة أفضل، أما ماعدا ذلك، فالأصل الاختلاط بالناس.
أما ما يتعلق بكتاب العزلة: فالواقع أن الكتاب مفيد، وفيه كثير من القصص والأخبار والفوائد التي لا يستغني عنها طالب العلم، لكن أشير إلى ملاحظة ذكرها الخطابي نفسه في آخر الكتاب، حيث أشار في آخر الكتاب إلى لزوم حالة القصد، وقال: إنني سقت من الحكايات والأخبار -معنى قوله- ما خشيت أن أكون معه قد خرجت عما أردت عن حد القصد، وبدء يذكر أن المطلوب من الإنسان الاعتدال.
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفى قصد الأمور ذميم فهذه السلبية ينتبه لها في الكتاب، فقد بالغ في ذكر ذم الناس وعيوبهم وأخطائهم، وهذه هي طريق الأدباء إذا صنفوا في موضوع ذكروا كل ما يتعلق به من الآيات والأحاديث والقصص والأشعار والأخبار وغيرها.(190/22)
مقياس الربح والخسارة
الحياة صورٌ يومية، ربحٌ وخسارة، أشكالٌ مختلفة من الآلام والآمال ولا يدري الإنسان ما هو الربح فيهما وما هي الخسارة، فرب محنة تحمل منحة، وليس ذلك إلا لأن الدنيا لا تصلح مقياساً لمعرفة الربح والخسارة، فتأمل في هذه الأشكال وتعرف على مواطن الربح بصبرك وامتثالك لأوامر الشرع ومرضاة الله سبحانه وتعالى.(191/1)
صور من حياة الناس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد: فيا أيها الأحبة إنها لفرصةٌ طيبة أن ألتقي بوجوهكم المشرقة بنور الإيمان؛ وأن أتبوأ معكم هذا المجلس، الذي يتنسم منه الإنسان عبق الخير والتقوى، فأسأل الله أن يجعلني وإياكم من المتحابين فيه، وأن يجعلنا من المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
عنوان هذه المحاضرة (مقياس الربح والخسارة) وهي تنعقد في هذه الليلة، ليلة الحادي عشر أو الثاني عشر من شهر شعبان لسنة 1413هـ في هذا المسجد العامر، جامع الإسكان بجدة، وفي مقدمة هذا الحديث مجموعة من العناوين:(191/2)
فتاة اشترت الآخرة
وتلك الفتاة التي باعت الدنيا واشترت الآخرة، وقاومت إغراء الفتنة وضغط المجتمع المحيط، فتحول ضعفها إلى قوة لا يملكها أشد الرجال، وإلى عزيمة لا تنثني وحزم لا يلين، وشقت طريقها وهي تقول -كما قالت امرأة فرعون- {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] أكانت صفقتها خاسرة أم كانت بيعة رابحة.(191/3)
طاغيةٌ مستبد
وأخيراً: ذلك الطاغية المتأله المستبد، الذي يقول: "أنا" ولو هلكت الأمة، والذي استأجر الكرسي من الأجنبي باقتصاد بلاده يضخه في بنوكهم، وأعرب عن صدق ولائه؛ بزج عشرات الألوف من المخلصين، والغيورين، والخبراء والعلماء في السجون والمعتقلات، وتعليق آخرين على أعواد المشانق، ومحاربة أي بادرة تغيير أو إصلاح، وتعهَّد بجعل بلاده بلاداً فقيرة متخلفة مستهلكة لضمان سيرها الدائم في ركاب الكافرين؛ فباع الآخرة واشترى الدنيا قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] وباع الحرية واشترى الذل والعبودية، وقد تعس عبد الدرهم، وتعس عبد الدينار، وتعس عبد القطيفة، وتعس عبد الكرسي، أو المنصب، وباع الأمة بثمنٍ بخس دراهم معدودة، فصادر حريتها وكرامتها وإنسانيتها، وجعلها أشباحاً هائمة لا تدافع عن دين، ولا تنفع في دنيا، ولا تحسن إلا الأكل والشرب والجماع، حياةً كحياة البهائم.
ثم يعيش حياته تلاحقه الأشباح؛ أشباح المنكوبين، وهب أنه عاش ما عاش، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207] أتراه ربح أم خسر؟ وما مقياس الربح والخسارة!!(191/4)
شابٌ ودع حياة الترف
بل ذلك الشاب الذي ودع حياة الترف، والنعيم والرفاهية، ورغد العيش، وقضى زهرة صباه في وادٍ، ثم انتقل منه إلى وادٍ آخر، قضى زهرة صباه بين عواصم الفساد والرذيلة في العالم، راكضاً وراء الشهوة، قاطفاً من اللذة ما استطاع، وسط حفاوة الأهل والأصدقاء والمعارف والأحباب، ثم أحس بعد ذلك بنور الإيمان يشرق على قلبه، فودع ذلك كله وتركه، وترك زينة الحياة الدنيا، وصحا على نداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] سمع هذا النداء، فانطلق إلى جبال أفغانستان، أو إلى سفوح البوسنة، أو إلى أدغال إفريقية يبحث عن الموت أو القتل مضانه، نديمه الكلاشنكوف، وأمنيته الموت في سبيل الله، وحبيبه المسلم الشجاع، وأسوته ذلك المقاتل الذي يتشحط في دمه، بل ربما علق على أعواد المشانق؛ لأنه قال "لا إله إلا الله" ورفض أن يقول: لا إله والحياة مادة، وغادر الدنيا في زهرة شبابه وريعان صباه، مخلفاً وراءه أباًً هدته السنون، أو أماً ثكلى، وربما زوجة مجروحة، أو أطفالاً فراخاً صغاراً غراراً أبرياء يتساءلون عن أبيهم الذي فقدوه صباح مساء! يقولون: أين أبي؟ متى يأتي أبي؟ هل يأتي إلينا ومعه الهدية؟! فينكئون بذلك جراحاً كلما اندملت.
أفتراه حينئذٍ رابحاً أم كان من الخاسرين؟! ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنت البيت والحرما أنت الهنا والمنى أنت العنا وأنا على ثراك وليد قد نما وسما أماه أماه هذا اللحن يسحرني ويبعث اليأس بي والهم والندما ما زال طيفك في دنياي يتبعني أنى سريت وقلبي يجحد النعما حتى وقعت أسير البغي فانصرفت عني القلوب سوى قلب يسيل دما أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلب ضعيف ويغزو الصحو والحلما ويدخل السجن منسلاً فيدهشني إذ يستبيح من الطغيان شر حما فإن رآني في خير بكى فرحاً وإن رآني في سوء بكى ألما فلتغفري لي ذنبي يا معذبتي أو حاكميني وكوني الخصم والحكما(191/5)
جامع الحلال
بل وذلك الثري الذي جمع المال من الحلال، وتعب في تحصيله مما أذن الله تعالى به؛ ثم أنفقه في الزكاة والصدقة وأعمال الخير والبر، ومشاريع الدعوة، والبذل والجهاد وغيرها، أتراه خاسراً وهو ينفق هذا المال الذي يحبه حباً جما، وهو يحبه حباً شديداً فيدل هذا الإنفاق على صدق التقوى والإيمان، ويبرهن على إيثاره الآخرة على الدنيا، أتراه كان رابحاً بالإنفاق؟ أم كان رابحاً لو ادخر المال وحفظه؟!(191/6)
الداعية المعذب المحاصر
وذلك المصلح أو الداعية الذي رضي بحياة الشظف والعناء والتضييق، ورضي بالحصار الإعلامي على صوته، وعلى كلمته وعلى دعوته، والحصار الاقتصادي، قال تعالى: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] والحصار الوظيفي، الذي يشترط -في كثيرٍ من البلاد- على الموظف أن يعلن الولاء ليس لله ورسوله والمؤمنين، بل أن يعلن الولاء للأنظمة العلمانية والدعوات اللادينية.
هذا الداعية الذي ترك ذلك كله، وترك زخرف الدنيا، ورضي عنه بما عند الله تعالى، واستبدل بذلك ما يدخره ليوم الحساب، ولسان حاله يقول: خذوا كل دنياكمُ واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً بل ربما رضي بحياة السجن، وسلب حريته؛ ليس حريته فقط بالحديث والكلام؛ بل ولا حريته في الاجتماع مع الناس فقط، بل ربما قيدت خطواته في بضعة أمتار يذرعها جيئةً وذهاباً، وربما هو أقل من ذلك، وحيل بينه وبين الناس، لا يأخذ منهم، ولا يعطيهم، ولا يملك دعوتهم، ولا تكاد تسمع أذنه إلا وقع الأقدام، ورنين السلاسل والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ عبثت بهن أصابع السجان من كوةٍ في الباب يرقب صيده ويعود في أمن إلى الدوران أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني فلربما وهو المروع سحنةً لو كان مثلي شاعراً لرثاني أو عاد من يدري إلى أولاده يوماً تذكر صورتي فبكاني لكنه إن نام عني لحظةً ذاق العيال مرارة الحرمان(191/7)
تاجر ترك الربا
إن الإنسان دائماً وأبداً يبحث عن الربح، ويتجنب الخسارة، ولكن! أين الربح وأين الخسارة؟! ذلك التاجر الذي أثري من الربا، والكسب الحرام وجمع المال وعدده، وهو يعد نفسه أو يعده الناس من أعظم الرابحين؛ هل تراه -في مقياس الصدق والعدل والحق- رابحاً أم خاسراً؟! ثم هو حين يتوب إلى الله تعالى، ويتخلى عن أمواله الطائلة وقوفاً عند قول الله عز وجل: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] دون مقابل، حتى الأجر ربما لا يرجوه، لأنه يتخلص من مالٍ حرام، وكل ما يرجوه هو السلامة من مغبة هذا المال! والنجاة من حوبه يوم الحساب! ينظر إليه الكثيرين نظرة رثاء وإشفاق، ويتأسفون على تلك المبالغ الخيالية، والأرقام الفلكية التي واصل الليل والنهار في جمعها، ثم تخلى عنها في طرفة عين، قال تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] .(191/8)
قاعدة قرآنية
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] .(191/9)
التواصي بالحق
ثم قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] والتواصي بالحق هو أيضاً من العمل الصالح، فهو من القول باللسان، وقول اللسان عمل، فهو داخلٌ في قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] ولكنه نص عليه تعالى، تنويهاً لأهميته، وتخصيصاً له، وتذكيراً بفضله، لأن الإنسان لا يستطيع أن يستقيم على الحق بذاته، حتى يكون معه من يوصيه بالحق ويأمره بالاستقامة عليه، ويذكره كلما غفل أو نسي، ويأمره كلما قصر أو فرط، ولهذا قال: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) فلا يستقيم أمر الإيمان، وأمر العمل الصالح، وأمر الأمة، إلا بمجموعة الناس الذين تحالفوا على الإيمان، واجتمعوا عليه، وتواصوا بالحق.(191/10)
التواصي بالصبر
ثم قال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] والصبر من الحق، فالتواصي بالحق هو أيضاً تواصٍ بالصبر، ولكن الله تعالى نص على الصبر بالذات، لأن الإنسان يحتاج إلى الصبر، فهو قد يؤمن، لكن لا يصبر على الإيمان، فيضيع أو ينحرف بعد الهدى، أو يفتر بعد الإيمان، ولهذا استعاذ عليه السلام: {من الحور بعد الكور} وقال: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} وكم من إنسانٍ عاش ردحاً من زمنه في بحبوحة من الإيمان والتقوى، والعلم النافع والعمل الصالح؛ ثم كان أمره كما ذكر الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175-176] إذاً العبرة بالاستقامة قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل آمنت بالله ثم استقم} وقال تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فالعبرة بالثبات، والعبرة بالخواتيم، والأعمال بالخواتيم.
وقد يعمل الإنسان الصالحات لكنه لا يصبر عليها، فتثقل عليه ويعجز عنها، وينوء بحملها؛ فيتخلى عنها تدريجياً، حتى أنه ربما قصر في الفرائض، أو صار لا يأتي الصلاة إلا دبارا، ولا يقيم الفرائض إلا في تثاقلٍ عظيم، فهو يحتاج في الإيمان إلى الصبر، ويحتاج في عمل الصالحات إلى الصبر، ويحتاج في التواصي بالحق إلى الصبر؛ فربما أوصيت إنساناً بالحق فلم يقبل منك، فتعجز عند ذلك وتستيئس، وتترك أمره ونهيه لا! عليك أن توصيه بالصبر، وتوصي نفسك بالصبر أيضاً، فلا بد من الصبر في كل هذه الأمور كلها.
وذكر الصبر هو إشعارٌ وإرهاص بأن الطريق طويلٌ وشاق، ومليء بالأشواك والعقبات والمصاعب، وإشعارٌ أن الإنسان لا يستطيع أن يجتاز هذه المراحل الطوال إلا بالصبر، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: {ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر} .
فهذه السورة العظيمة التي دلت على هذه المعاني، هي مقياس الربح والخسارة في الدنيا والآخرة.(191/11)
إشارة الإيمان
الإيمان يشمل عمل الصالحات، ويشمل التواصي بالحق ويشمل كل شيء، فالإيمان معنىً يهيمن على كل الحياة، وهو عقيدةٌ في القلب، وهو قولٌ في اللسان -بالذكر والتسبيح والتهليل، وغير ذلك- وقوامه وأصله الشهادتان، وهو حركة في الجوارح في الصلاة، والحج، وسائر العبادات التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالإيمان هو الشعار، والدائرة الأعظم والأوسع.(191/12)
العمل الصالح
ثم ذكر بعد ذلك سبحانه مع الإيمان: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] وعمل الصالحات هو من الإيمان، لكن الله سبحانه وتعالى خصه ونبه عليه؛ تنويهاً لذكره، وتعظيماً لشأنه وحثاً للمؤمنين عليه، لأن عمل الصالحات هو الذي يصدق إيمان العبد، فكثيرون يدّعون الإيمان؛ ولكن العمل الصالح هو الذي يصدق هذه الدعوى أو يكذبها.(191/13)
حقيقة السورة عند الصحابة ومن تبعهم
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا لقي بعضهم بعضاً قالوا: اجلس بنا نؤمن ساعة، ثم قرأ أحدهم على الآخر سورة العصر، ثم انصرفوا وقد تجدد إيمانهم وتعمق يقينهم، وصحت عزائمهم، وعادوا إلى حياتهم الإيمانية من جديد.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كلاماً معناه: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم، وفي لفظ: (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لوسعتهم) ولمَ كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يختارون هذه السورة بالذات على غيرها؟ ولمَ قال الشافعي في هذه السورة ما قال؟ إن السر واضح في معنى هذه الآية؛ فهي حكم إلهي رباني قاطع، أقسم الله تعالى عليه بالعصر؛ وهو الزمان، الذي هو سر الوجود وسر الحياة، والله تعالى يقسم بما شاء، وإنما يقسم على الأمور العظام الجليلة، تنويهاً لمكانتها وأهميتها.
أقسم سبحانه على أن جنس الإنسان في خسر، ولو كان غنياً، ولو كان صحيحاً، ولو كان سيداً، ولو كان شريفاً، ولو كان حاكماً، ولو كان ما كان، هو في خسرٍ، وهذا هو الأصل في بني آدم إلا من استثني قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فأنت تلحظ أن هذه الأمور الأربعة يدخل بعضها في بعض.(191/14)
وقفات سريعة(191/15)
الدنيا ليست مقياساً للربح والخسارة
الوقفة الأولى: إن الدنيا لا تصلح مقياساً بحال، فالذي يفقد ماله في سبيل الله هو الغني، والذي يموت في سبيل الله هو الحي، قال تعالى: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] والذي يذل نفسه لله تعالى هو العزيز، قيل للعز بن عبد السلام: لو قبلت رأس السلطان لربما عفا عنك، فضحك وقال: " يا قوم أنا في وادٍ وأنتم في واد، والله ما أقبل أن يقبل السلطان رأسي، فضلاً عن أن أقبل رأسه" وقيل لـ ابن عباس رضي الله عنه أصابك العمى، فقال: إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور عقلي سديد وعلمي لا خفاء به وفي فمي صارمٌ كالسيف مشهور هذه هي القضية الأولى أن الدنيا لا تصلح مقياساً للربح والخسارة.(191/16)
المسؤولية مشتركة
الوقفة الثانية: إن المسؤولية عن الدين مشتركة؛ فهي ليست حكراً على السلطان، ولا على العالم؛ بل الراعي الذي ينعق بغنمه مسؤول عن الدين، والفلاح في حقله مسؤول، والمرأة في بيتها مسئولة، بل والصبي في كتَّابه شريكٌ في المسؤولية، فما بالك بأستاذ الجامعة، وما بالك بضابط الجيش، وما بالك بمسؤول الأمن، وما بالك بالموظف الكبير، وما بالك بالتاجر الشهير، لقد آن الأوان أيها الأحبة أن نرفع شعار لا مكان بيننا للمتفرجين.
إنَّ أهون الأعذار التي قد تقدمها أن تقول: لا أستطيع، أو يقول زميلك: هذا مستحيل، لكن هذا لا يكفينا ولا يغنينا.(191/17)
كن لبنةً صالحة
الوقفة الثالثة: نحن نرحب باهتماماتك الإسلامية، ويسرنا روحك المتوقدة، ومتابعتك لآلام الأمة، ولكن هذا منك أيضاً لا يكفي ولا يشفي، نريدك لبنةً صالحةً في المجتمع، بعمل الصالحات، وبالإيمان وبالمحافظة على الصلوات، وبصلة الرحم، وبالإحسان إلى الناس، أين أمرك بالمعروف؟ أين نهيك عن المنكر؟ لماذا نرى لسانك في وادٍ وعملك في واد آخر؟ أفصحيحٌ ما بلغنا عنك أنك إذا استيقظت لصلاة الفجر تدير قرص المذياع لسماع الأخبار، قبل أن تفتح الصنبور لتتوضأ للصلاة؟! أفلا تحب أن تكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر؟!(191/18)
معرفة الحق ليست حكراً على أحد
الوقفة الرابعة: أن الحق ليست معرفته حكراً على أحد، مهما كبر وعز وعظم؛ ولهذا سئل علي رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيحين: {هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء يا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً أوتيه رجل في كتاب الله عز وجل} إذاً: هذا الفهم ليس مقصوراً، أو محكوراً على أحد، وقد أدرك ابن عباس رضي الله عنه -على صغر سنه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له- ما لم يدركه أكابر المهاجرين والأنصار، ونحن -أيها الأخ الحبيب- لا ننتظرك بفارغ الصبر لتكون مقلداً تتفنن في محاكاة الأصوات والحركات، أو تتحمس لآراء فلانٍ أو علان، لا! بل يجب أن تعد العدة وتنزل للميدان، ميدان العلم لا ميدان التقليد، وميدان الاستقلال لا ميدان التبعية، وميدان التجديد لا ميدان الموافقة وهز الرءوس.
إننا يجب علينا جميعاً أن نتطلع إلى اليوم الذي يكون فيه كل فردٍ في الأمة بأمة قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] فردٍ في الأمة بأمة! فيجب أن نتطلع إلى اليوم الذي يصبح فيه كل فرد في الأمة بأمة، وأن يزول ذلك الزمن الذي اختزلت الأمة كلها في رجلٍ واحد، فأصبحت الأمة كلها رجلاً، وفرقٌ عظيم بين أن يصبح الرجل وحده أمة، وبين أن تصبح الأمة كلها فرداً واحداً، ولهذا قال الله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] .
إن الحق بضاعتنا جميعاً، وقد يوجد في الأنهار ما لا يوجد في البحار، وربما جاءت الحكمة من غير فقيه، وقد باح بالسر أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فصاح بأعلى صوته: [[رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا]] وحسب علمي، فإنه لا يوجد ناطقٌ رسمي باسم الإسلام أو باسم الكتاب والسنة، ولا يوجد في الإسلام كهنوت، ولا رجال دين؛ بل أبواب طلب العلم مفتوحة، وأبواب الدعوة إلى الله مفتوحة، وأبواب النصيحة والوعظ مفتوحة، وهي لا تغلق بمرسوم ولا بقرار ولا بخطاب، ولا يغلقها أحد حتى تطلع الشمس من مغربها.(191/19)
كلمة في الدعوة ننتظرها منك
الوقفة الخامسة: الكلمة التي ننتظرها منك، أنت شخصياً، ليس شرطاً أن تكون جديدةً لم تسبق إليها، ولا ابتكاراً لم يتفطن لها أحد، ولا معنى غاب عن ذهن فلانٍ وفلان، هذا ليس بلازم؛ بل من الممكن أن تذكِّر أنت بالشيء المعروف، فتوصي العالم أو الداعية، أو المسلم العادي بالإيمان، أو بالتقوى أو بالصبر، أو بالإخلاص لله تعالى في عمله، أو تحذره من الظلم أو من الانحراف، أو من العجب أو من الغرور، أو من العجلة والطيش إن هذا هو الذي يصنع الرأي العام في الأمة حقاً، وما ظنك بإنسانٍ -أي إنسان- وصلته مائةُ رسالة كلها ليس فيها إلا: اتق الله ودع ما تصنع، وتذكر الإخلاص لله تعالى فيما تعمل، أو فيها انتقاد على قول أخطأ فيه، أو على فعلٍ أو موقف اتخذه، لابد أن يعرف هذا الإنسان عيوبه ويراجع موقفه؛ فإن كان فعله عن اجتهاد؛ محِّصِ الرأي من جديد، وإن كان فعله عن هوى، فربما ارتدع عن هواه.(191/20)
متى بداية العلاج
رابعاً: متى نبدأ بالعلاج؟ إنني أعتقد أن الأمة الآن في مرحلة الشعور بالمرض، ولكنها لم تصل بعدُ إلى مرحلة معالجة هذا المرض، والبدء الحقيقي بإزالته.
كتب إلي أحد الإخوة -بالأمس القريب- رسالةً يشكو فيها أنه في إحدى المحاضرات: خرج الرجال والنساء فاختلط بعضهم ببعض، وكان هناك بعض السفور، وبعض التجاوزات من بعض الأخوات الحاضرات، فينتقد الأخ الكريم أنه لم يسمع من أحدٍ من الشباب أمراً بالمعروف، ولا نهياً عن المنكر ولا حثاً على الحشمة، ولا نهياً عن السفور، نعم! هذا الأخ لعله -وليسامحني- واحدٌ من الذين مروا بالموقف، وما أمروا ولا نهوا، لكنه اكتفى بأن كتب سؤالاً في إحدى المحاضرات، وربما كان الشعور الذي عنده عند آخرين كثيرين، لكن لم يجرؤ أحدٌ على أن يقول: هذا حرام أو هذا لا يجوز، أو يأمر بمعروفٍ، أو ينهى عن منكر.
إذاً: هذا شعورٌ بالمرض، وهو مرضُ السلبية -منا جميعاً- ولكن لم ينتقل الأمر إلى المعالجة، وربما كلٌ منا يقول -مع الأسف- لم أر أحداً أنكر، ولم أسمع أحداً تكلم، وهو المتحدث نفسه جزءٌ من المشكلة.
والمشكلة لا تنحصر في هذا المثال الذي ضربته، فهذا مثالٌ وقع أمس، المشكلة أعوص من ذلك، وأهول وأطول.(191/21)
التفاعل مع قضايا الأمة
أيها الأخ الكريم: هل صحيحٌ أن الأمة لا تملك شيئاً؟! وما هي الأمة إن لم أكن أنا وأنت وفلانٌ وفلان؟ إنه لا يجوز للمسلمين أن يقروا هذه الحواجز السياسية، والحواجز العرقية بينهم، بل يجب أن يتفاعلوا مع قضاياهم القريبة والبعيدة، كلٌ على طريقته الخاصة، فالمهم أن تتعامل مع هذه القضية، وتحسب لها حساباً فأنت مثلاً تقول لي: ما أصابهم بسبب ذنوبهم، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] أقول لك: نعم! وقرة عين، نريدك أن تجهر بهذا الكلام، وترفع صوتك به، وتحذر الذين لم يصابوا بعد من أن يصابوا بذنوبهم، أن يصيبهم الله تعالى ببعض ذنوبهم، وتحذر أولئك الذين وقع لهم ما وقع من مغبة المعاصي، وتذكرهم بوجوب التوبة إلى الله تعالى، لماذا لا ترفع صوتك بهذا الكلام؟! وهناك آخر قد ينتقل خطوةً عملية أخرى في طريق الإصلاح، فيذهب بنفسه هنا وهناك داعياً إلى الله، ومعلماً ومرشداً وفقيهاً بقدر ما يستطيع، وهناك ثالثٌ أخذته الحمية؛ فانتقل إلى ميدان الجهاد في صفوف إخوانه، ولعمْرُ الحق ما هو بملوم، فإن الدفاع عن النفس مشروعٌ في كل شرائع السماء، بل وفي كل قوانين الأرض، والمسلمين كلهم كنفسٍ واحدة، فالدفاع عن النفس يعني أن يدافع المسلمون عن أنفسهم أبيضهم وأسودهم، عربيهم وعجميهم قريبهم وبعيدهم، فالمسلمون نفس واحدة، أو كنفسٍ واحدة، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] .
إن المسلم -لو استطاع- مطالبٌ برفع الظلم حتى عن الكافرين المظلومين، فكيف بإخوانه المسلمين، ولو كانوا مقصرين أو مفرطين، كيف بهم وهم يقتلون أو يشردون، كيف بنساءٍ تنتهك أعراضها! بل وصل الأمر إلى حد أن تجهض المرأة المسلمة الحامل، ويزرع في رحمها أجنة الكلاب!! لإجراء التجارب أو للنكاية بالمسلمين -كما ذكرت ذلك صحفٌ ألمانية عما يجري للمسلمات في البوسنة والهرسك -وانتقل داء الاغتصاب الجماعي- من المسلمات في البوسنة، حيث اغتصب ما يزيد على خمسٍ وثلاثين ألف امرأة مسلمة، ما بين ست سنوات إلى سبعين سنة إلى بلاد الهند، ثم إلى جمهوريات آسيا الوسطى.(191/22)
وجود رأي عام للمسلمين
إن مشكلة الأمة أمام هذه الملمات العظام، هي ذاتها مشكلة ذلك الأخ الذي يقول: لم يتكلم أحد ولم ينكر أحد، وكلنا نقول ذلك، لقد شعرنا بالمرض، ولكننا لم ننتقل بعد إلى العلاج، فلا بد من تكوين رأيٍ عامٍ في الأمة يتعاطف مع قضايا المسلمين جميعاً، ويحس بآلامهم، بل لا بد من رأي عامٍ يعرف المعروف ويأمر به، ولابد من رأيٍ عامٍ ينكر المنكر وينهى عنه، ولابد من رأيٍ عامٍ يقول للمحسن: أحسنت، ولابد من رأيٍ عامٍ يقول للمسيء: أسأت بغض النظر عمن يكون، وحينئذٍ تمتنع الأمة من الظلم فلا تقره ولا تقبله، وتمتنع من الاستبداد فلا ترضاه، وتمتنع من عدوها الكافر فلا تهادنه ولا تداهنه، ولهذا مدح عمرو بن العاص رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لما ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} قال: [[إن فيهم خمس خصال -ثم قال بعد ذكرها- وخامسة حسنة جميلة وهي: وأمنعهم من ظلم الملوك]] أي أنهم أمنع الأمم من ظلم الملوك، يمتنعون من الظلم والعدوان فلا يقرونه، ولا يقبلونه، ولا يطمع فيهم أحد، ولا يظن أحد أنه يملك قيادهم فيهجنهم ويدجنهم.
إن الظلم الذي تعانيه الأمة الإسلامية اليوم ليس مسئولية الحاكم وحده، فهاهو فرعون استخف قومه فأطاعوه، ولكنه أيضاً مسئولية الشعوب التي استناخت لهم فركبوا، وسكتت فأمعنوا، قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِي * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:54-55] تأبى عقيدتنا تأبى أصالتنا أن يصبح العرب أجيالاً وقطعانا فلا لشرق ولا غرب نطأطؤها بل ترفض الجبهة الشماء إذعانا(191/23)
أحوال الأمة ونكباتها
لقد مرت الأمة بنكباتٍ عظيمة، فالمسلمون في فلسطين مثلاً يقاسون ألوان التشريد على يد اليهود منذ عشرات السنين، ويحاربون في دينهم، وأرزاقهم، وأخلاقهم، وبلادهم، ويضيق عليهم، ويعيشون في غياهب سجون اليهود أوضاعاً مأساوية، ضجت منها منظمات حقوق الإنسان الشرقية والغربية، وأفغانستان ظلت أربع عشرة سنة تعيش حرباً ضروساً ضد الشيوعية، أتت فيه هذه الحرب على الأخضر واليابس، ودمرت البلاد كلها، ومصر ظلت منذ عهد جمال عبد الناصر تتسامح مع كل أحد، إلا مع من تسميهم بالأصوليين، والمتطرفين، وقد يقبض على جاسوس إسرائيلي، فسرعان ما يطلق سراحه، أما المنتقبات من الأخوات المؤمنات، أو الملتحون من الشباب المؤمنين، فقد أصبحوا مغامرين بحياتهم هناك.
وفي بلاد المغرب هناك تحالف اختلف على كل شيء، واتفق على حرب الصحوة، وسرقة اختيار الأمة للإسلام، وصارت البلاد هناك تعيش في تعتيمٍ رهيب، وعزلةٍ عن العالم الإسلامي، بل عن العالم كله، بل وفي الفلبين هناك حصار بعشرات الألوف على المناطق الإسلامية، وقد عزم راموس -وهو الرئيس الجديد- على طمس المسلمين هناك مهما كلفه الثمن، وفي جمهوريات آسيا الوسطى دماءٌ تسيل في طاجكستان وفي الأنقوش، وفي أذربيجان، وقد رحلت الشيوعية هناك عن جميع البلاد إلا عن بلاد المسلمين، فما زال فيها لها أثر كبير، وتحالف الغرب الصليبي مع بقايا الإلحاد هناك لمقاومة الخطر المتمثل بالأصولية.
وفي البوسنة والهرسك تطهيرٌ عرقي لا يستثني أحداً، وفي إرتيريا، وفي الصومال موتٌ يأخذ بالناس كقعاص الغنم، وفي كشمير دماءٌ تسيل، وفي الهند عنفٌ طائفي كاسح ضد المسلمين والله المستعان! في بلاد الأفغان جرح عميق نازف يستجيش كل ضميري وعلى أرض مصر مليون جرح وبكل الدنيا نداء مستجيري ربما ملَّ الناس من تكرار هذه القصة، وترديد هذا الشريط الذي يبدأ ولا ينتهي! وكل يومٍ تجددون لنا المأساة بمصيبةٍ جديدة، وحق لهم ذلك، خاصةً حين يقول أحدهم -وهو يقلب كفيه- ماذا أملك وماذا أستطيع؟ هل أنا طرف في القضية؟!(191/24)
أرباحٌ أم خسائر؟!
والبعض جبلوا على أنهم يريدون الأشياء الطيبة ولكن دون عناء وكلفة، فهم يعيشون أحلاماً لا رصيد لها من الواقع، وأمنيات مجردة لا تشبع جائعاً ولا تروي عطشاناً.
وإذا كنا نسلم بأن واقع الأمة واقعٌ مريض، لا أقول: منذ سنوات بل ربما منذ قرون، أفلا يحق لنا أن ندرك أن التغيير يتطلب كثيراً من التكاليف وكثيراً من الآلام؟ حين قام الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته في أنحاء مكة، أما عد المشركون -عمله هذا ودعوته إلى التوحيد- تمزيقاً للوحدة الوطنية، وتشتيتاً لكلمة القبيلة، وتمهيداً لحرب أهليةٍ ضروس قامت فعلاً في بدر، فالتقى القرشي مع القرشي، بل التقى الأخ مع أخيه، والقريب مع قريبه، وابن العم مع ابن عمه، والأب مع ولده، نعم! هي حربٌ أهلية؛ لكن بين من ومن! بين الإسلام والكفر، بين التوحيد والشرك، بين الإيمان والجاهلية؟! أما قال المشركون: إن هذا سعيٌ في قطيعة الرحم، على الرغم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا بصلة الأرحام؟! أما اعتبروا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فتنةٌ تهدد سيادتهم على العرب وعلى الجزيرة العربية؟ بلى! لقد قالوا ذلك وأكثر منه، قالوا: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:30-34] ولا بأس أن نقضي بعض الوقت مع بعض الأمثلة المهمة:(191/25)
سقوط الشيوعية
المثال السادس: ولعله يبدو غريباً بعض الشيء، سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، يقول بعضهم ويتساءلون: ربما كان بقاء ذلك الاتحاد على الرغم -مما فيه- ضماناً للأمن في تلك الديار، وحفظاً للنظام العام، وسلامةً من الحروب المدمرة، وكلما حصلت مصيبةٌ من هذا القبيل، وانهدت مثل هذه الدولة العظيمة أو الإمبراطورية الواسعة؛ انتشرت الزعازع، واتسعت الحروب الأهلية، ودامت المصادمات بين الدول، بل وُجد ما يشبه التحضير لمعارك -طويلة الأجل- وطويلةَ المدى، وربما كانت في نظر بعضهم منطلقاً لشرارةٍ حربٍ واسعة النطاق، خاصةً مع ظهور نشاط ما يسمونهم هناك بالقوميين.
فهل صحيح أن سقوط الشيوعية لم يكن خيراً؟ لقد نسي هؤلاء أن الشيوعية أغلقت جميع الطرق في وجه الإسلام، جميع الطرق بلا استثناء، وأن الإسلام رابحٌ من سقوط الشيوعية بكل حال، لأنه لا يتصور للإسلام والمسلمين في روسيا، -بل ولا في البلاد التي تهيمن عليها- وضعٌ أسوء من الوضع الذي كان الإسلام والمسلمين فيه أيام الشيوعية، فكل وضعٍ بعده فهو خيرٌ منه، وأهون منه، وكل مصيبةٍ بعده فهي جلل أي: هينة، ففي ظل دكتاتورية الشيوعية وهيمنتها؛ فقد المسلمون كل شيء، فأي تغيير هو -والله تعالى أعلم- في صالح الإسلام، ثم هب أن حرباً واسعة النطاق شبت، ودخلت فيها أطراف دولية كما يقال، ألا تدري أن الإسلام هو أقل المتضررين من حرب كهذه، لأنه أيضاً هو أقل المنتفعين بإنجازات الحضارة المادية المعاصرة! وإذا لحق بالعدو ضررٌ جسيم عظيم؛ ولحق بي وبك ضرر قليل؛ فربما كانت النتيجة لمصلحتي ولمصلحتك، وليس الأمر كما يتوقع بعض الدارسين، أن سقوط الحضارة المادية الذي نتمناه ونبشر به، وننتظره وعداً من رب العالمين، ليس معنى ذلك التدمير الكامل للحضارة، والقضاء على كل التيسيرات المادية وكل الخدمات التي انتفع بها الإنسان، هذا ليس بلازم، ولكن الصورة المتوقعة -والله تعالى أعلم- هي أن تنكفئ تلك الدول الكبرى على نفسها، وتنشغل بهمومها وتنهمك بمعالجة اقتصادها أو أمنها، أو مشاكلها الداخلية عن التدخل الخارجي، وعن التدخل في بلاد الإسلام والمسلمين بالذات، هذا مع أن الأدلة القريبة والقرائن كلها، توحي -والله أعلم- بأن الحرب الأهم والأقوى سوف تكون حرباً اقتصادية.
- انهيار الاقتصاد الأمريكي: إذا كان الاقتصاد هو أحد الأسباب المهمة التي عجلت بسقوط الاتحاد السوفيتي، فإن الدراسات الاقتصادية المتخصصة تبشر بانهيار الاقتصاد الأمريكي أيضاً، حيث بلغت مديونيته الآن ما يزيد على ثلاثة ونصف تريليون، وهذا رقم فلكي كبير، وتقول الدراسات إن من المتوقع أن تقفز هذه المديونية في نهاية القرن إلى ما يزيد على اثني عشر تريليوناً، وسيضطر الأمريكان إلى أحد ثلاثة حلول: الحل الأول: هو أن يعلنوا عجزهم وإفلاسهم، وهذا لن يتسبب في انهيار الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل سيتسبب في انهيار الاقتصاد الأمريكي، وانهيار اقتصاد جميع الدول التي ربطت نفسها بأمريكا، وبالاقتصاد الأمريكي، وبعملة الدولار.
الحل الثاني: هو أن يعالجوا الوقف؛ بطبع المزيد من الورق النقدي دون رصيد يغطيه، وذلك لتغطية العجز الحاصل، وهذا قد يؤخر علمية الانهيار؛ فبدلاً من أن تأتي بسرعة، فإنها تأتي بصورةٍ تدريجية.
الحل الثالث: هو التدخل في المناطق الغنية من العالم كأوروبا، ودول النفط الخليجية، وإيران، وبعض المناطق الإفريقية التي تدل التقارير على وجود النفط فيها، وتحذر تلك التقارير -وهي تقارير مهمةٌ وخطيرة- تحذر من الارتباط بالاقتصاد الأمريكي، كما هو الحاصل في الدول العربية الغنية، ومغبة ذلك على اقتصاد البلاد.
إذاً: من الصعب ونحن نتحدث عن التجربة الشيوعية، وأنَّ سقوطها كان خيراً، بالرغم مما ولده ذلك من وجود حروب، ومشاكل بين الدول المتجاورة، واحتمال أن يحدث انفجارات متعددة وطويلة، على رغم ذلك كله فلا شك أن سقوط الشيوعية كان خيراً للإسلام، وكان خيراً للمسلمين، وقد تنفس المسلمون الصعداء على الرغم -أيضاً- أن ثمة مشاكل واجهوها -كما أسلفت- ففي طاجكستان قتل منهم قبل أيام ما يزيد على خمسة عشر ألف إنسان وجرى نهر جيحون لساعات دماً أحمر من دماء المسلمين، وفي الأنقوش حيث دفن منهم ما يزيد على ثلاثة آلاف من الكبار والصغار والنساء والأطفال، وفي أذربيجان وفي غيرها؛ لكن مع ذلك كله، فهذا الوضع بكله وبتناقضاته، وبسلبياته هو أفضل عشرات المرات من الوضع الذي كان يعيشه المسلمون في ظل جحيم الشيوعية في دائرة الستار الحديدي.
إذاً: فمن الصعب أن يحكم الإنسان على تجربة ما من خلال النظر إلى فترة محدودة من الزمان ولا بد أن يستكمل الصورة من أولها إلى آخرها.
إن استتاب الأوضاع واستقرارها في روسيا، أو في غيرها ليس هو المطلب الوحيد للإسلام، لا!.
المطلوب أن تستتب الأوضاع في ظل نظام يحكم بالإسلام، أو على أقل تقدير أن تستتب الأوضاع في ظل نظامٍ يكون أفضل للإسلام مما عداه، وأي خير أصاب الإسلام والمسلمين من قوة القبضة البعثية في بلاد الإسلام المرتبطة بالشرق أو قوة القبضة العلمانية في البلاد الإسلامية المرتبطة بالغرب، سواى استخدام الآلة العسكرية، والآلة الأمنية والآلة الإعلامية في محاربة الإسلام والمسلمين.
أيها الأحبة: إن الكثير من العقلاء يتطلعون إلى الإصلاح بألوانه، فيتطلعون إلى الإصلاح العلمي والتعليمي؛ ولكن لا قدرة لهم على تحمل الرد، والنقد والمناقشة والتخطئة، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح الاجتماعي؛ ولكن لا قدرة لهم على تحمل قالة الناس، ونقد المجتمع، واستنكار القوم، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح الدعوي، لكن لا قدرة لهم على الجهر بذلك، وتحمل تبعاته، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح السياسي، ولكن لا قدرة لهم على تحمل الآلام والمتاعب التي سيلقونها، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح الاقتصادي، والإداري وغير ذلك؛ ولكن أين المستعدون لتحمل التبعات؟ إنهم قليلون! إن المستعدين للصبر على التضحيات وتحمل الآلام أقل من القليل وأقل منهم -أيضاً- أولئك المستعدون لتحمل مسئولية الخطأ -إذا تبين أنه خطأ- وليس بد من أن يقع الخطأ مع الاجتهاد، ومع بذل الوسع والطاقة فإن الإنسان بشر {وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} كما نطق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وكما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
إذاً: فمقياس الربح والخسارة، ليس وجود ردة الفعل، أو الاستجابة العكسية، بل على قدر أهمية العمل وجديته وفاعليته وقوته وتأثيره تكون عداوته، والصراع أمرٌ فطري لابد منه، فإن كان ثمة حيلة في تأجيل الصراع، أو في تقصيد الصراع، فإنه لا حيلة أبداً في دفعه والله تعالى وحده هو المستعان.(191/26)
جهودٌ بشرية
ندعو المثال الثالث: مثالٌ دعوي: فالتجارب الإسلامية في بلاد الإسلام، هي جهود بشر يصيبون كثيراً ويخطئون قليلاً، ويجب تقويمها على هذا الأساس.
فمثلاً: الدعوة في الجزائر قامت وفق معايير واضحة، وعبر طرقٍ نستطيع أن نقول عنها بلغة المعاصرين أنها طرق مرخصة، وطرقٌ يعبرون عنها أنها أيضاً قانونية، ودخلت كما يقال في اللعبة الديمقراطية، ولكن! ما الحيلة أمام فئاتٍ لا تريد للإسلام أن يحكم مهما كلف الأمر، حتى ولو دخل من البوابة الرسمية.
ومثال آخر: في تركيا -الآن- هناك حزبٌ قديمٌ جديد: اسمه "حزب السلام" أو "حزب الرفاه" يعلن أن برنامجه برنامجٌ إسلامي وأنا في الواقع لم يتح لي الاطلاع على برنامج هذا الحزب كاملاً، سوى ما يكتب عنه في الصحف، وهي كتابات عامة على كل حال، المهم: هذا الحزب يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه، أما العلمانيون والكماليون في تركيا؛ يصرون على تحويل تركيا -إذا أوشك هذا الحزب على الانتصار- إلى جزائر أخرى.
وقد ارتفعت نسبة التأييد لهذا الحزب إلى نسبة عالية أخافت العلمانيين هناك، حتى قال قائلهم: نحن ندرك أن الإسلام سيعود إلى تركيا، وربما الخلافة؛ ولكن لا نريد أن نرى هذا بأعيننا، نعم ليراه أولادنا وأحفادنا، أما نحن فلا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] .
ليست الخسارة -أيها الأحبة- في الجزائر، أو تركيا، أو في أي بلد إسلامي، أو تونس، أو في مصر، ليست الخسارة أن يودع المسلمون السجون، ولا أن يصادر بعض نشاطهم، ولا أن يقتل بعضهم، أحضروا لي في الدنيا كلها مذهباً بشرياً واحداً أو مذهباً إنسانياً أو مذهباً أرضياً لا يمت إلى السماء بسببٍ ولا صلة، هذا المذهب يمكن له أن يجامل ويمكن له أن يتنازل، ويمكن له أن يتخلى ويمكن له أن يساوم، هاتوا لي مذهباً من هذه المذاهب -على رغم ذلك كله- قام على غير التضحيات الجسام، كم عدد الذين يموتون في سبيل الشيطان، وفي سبيل الطاغوت، وفي سبيل الكفر؟ كم عدد الذين ماتوا من أجل الشيوعية؟ بل كم عدد الذين يموتون بسبب البرد وكم الذين يموتون في الزحام في المباريات الرياضية، وكم الذين يموتون بحوادث السيارات؟ بل كم الذين يموتون بالمخدرات؟! ومع ذلك ليسو سواء، قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، وقد قال الشاعر: الفتى من حتفه لا يفرُّ قدر قَدْ خُطَّ والخلق ذَرُّ ملك أشار كونوا فكانوا ما لحي بعده نهي وأمر هم كما يشاء في إصبعيه جحدوه كلهم أو أقروا في غدٍ يهيب بالعير حادٍ والجنى يطيح حلو ومر وتدك الأرض دكاً وكل من بنيه وأخيه يفر فكلا الحزبين يسعى لدار ماله في غيرها مستقر بأبي محمديين صاروا في طريق الحصى فيه جمر عشقوه وهو منهم خضيب والنحور والسرابيل حمر لو أرادوا الملك كانوا ملوكاً لكنِ الدنيا سرابٌ يغر نعم أيها الأحبة: نحن لا ندعو إلى المجازفة، ولا ندعو إلى الخطأ في الحسابات، ولا ندعو إلى التعجل في المواقف، ولا ندعو إلى أن يتعرض الناس من البلاء لما لا يطيقون، بل إن هذا كله من الدين أن يصبر الإنسان، وألا يعرض نفسه من البلاء لما لا يطيق، ولا لما لا يقدر عليه، والمسألة مسألة مصالح شرعية.
ولكنني أقول: مجرد القتل، أو السجن أو المنع ليس مقياساً للربح والخسارة، قد أقول: هذا العمل على خطأ، لأن الدليل على خلافه، أو لأن الواقع لا يقتضيه، ولكنني لا أستطيع أن أقول: إن هذا العمل خطأ؛ لأن فلاناً سجن، أو فلاناً قتل، أو فلاناً أوذيَ، أو ما أشبه ذلك.
- قصة الغلام المؤمن: هاأنت ترى قصة الغلام المؤمن -التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم- وهي في صحيح مسلم وغيره، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذا الغلام قال للملك -بعد أن عجز عن قتله-: إنك لا تستطيع أن تقتلني، حتى تصلبني في جذع نخلة، ثم تجمع الناس في صعيدٍ واحد، ثم تخرج سهماً وتصوبه إلي، وتقول: "بسم الله رب الغلام" ثم ترميني، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، ففعل الملك ما أمره الغلام! وقتله، نعم! مات هذا الغلام، وقتل بهذه الطريقة التي لقنها لهذا الملك، والله تعالى أعلم.
هذا الغلام لم يكن يجزم ويقطع بأن نتيجة قتله، أن تسلم الأمة كلها، لكن غلب على ظنه أن ذلك سيقع، وقد وقع هذا فعلاً، وصدق الله ظنه، فقالت الأمة كلها: آمنا برب الغلام، ماتَ واحدٌ وأُحييت أمةٌ بأكملها، موت فرد حياة أمة، لقد استطاع أن يبلغ حجة الله تعالى إلى الأمة كلها، من خلال هذا الموقف العظيم، ورأى أن إراقة دمه بهذا السبيل هي العز وهي الحياة.
ثم ماذا صنع هذا الملك؟ لقد أتى بالأمة كلها، وحفر لها الأخاديد، وأوقد لها النيران، وأحرق هذه الأمة وشواها عن آخرها، أفتظنهم خسروا كلا!! لقد ربحوا أعظم الربح، إنهم انتقلوا إلى جناتٍ ونهر كما قال تعالى: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] فسماه الله تعالى فوزاً؛ لأنه غايةُ الربح، وغاية المكسب، وغاية ما يطلبه الإنسان، أما الذين خسروا -حقيقيةًَ- فهم أولئك الذين قاموا بهذا العمل، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا، لقد ذهبوا بخيبة الدنيا والآخرة، فأصابهم في الدنيا ما أصابهم، وبقي ذكرهم بالسب والعيب إلى يوم القيامة، وأما في الآخرة فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، جزاءً وفاقاً.
- الدجال ورجل من أهل المدينة: مثلٌ آخر من هذه الأمة المباركة، لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال حين يخرج آخر الزمان، ويفتتن الناس به، يخرج إليه رجل من أهل المدينة والحديث في صحيح البخاري يخرج إليه رجل من أهل المدينة، فيتجاوز مسارح الدجال وجنوده، والكمندوز المحيطين به، والقوة البشرية التي تحرسه، والمستعدة لكل حادث، يتجاوز هؤلاء كلهم، ثم يقف أمام الدجال، ويقول له: أتشهد أني أنا الله، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيقتله الدجال ويمشي بين قطعتيه، ثم يقول له قم، فيستوي حياً بإذن الله تعالى، فيقول: أتشهد أني أنا الله، فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيريد أن يقتله فلا يسلط عليه!! وعندئذٍ يبدأ نجم الدجال ينحدر، ويبدأ العد التنازلي له، فكانت تلك الكلمة الصريحة المدوية القوية، كانت هي السهم الأولى، ثم تتابعت السهام بعد ذلك، فالدجال يخرج من المدينة يجر أذيال الخيبة صوب الشام، ليلقى حتفه هناك على يد نبي الله عيسى عليه صلوات الله وسلامه، فهذه الكلمة القوية، المدوية، المجلجلة الصريحة، كانت هي أعظم شهادةٍ يوم القيامة عند رب العالمين.
نعم أيها الأحبة: التبصر لا خلاف عليه، ووضوح الأساليب المطلوبة في العمل واجب، ومراجعة المسيرة بين حينٍ وآخر ضرورة، وليس شرطاً -أيضا- أن يكون كل درسٍ تأخذه بثمنٍ نبذله إما قتلٌ، أو سجنٌ، أو إيذاء ليس شرطاً هذا، بل يجب أن نأخذ دروساً نحتمي بها -بإذن الله تعالى- من الفشل، ومن الوقوع في الخطأ بقدر ما نستطيع وإن كان البشر لا يسلمون من الخطأ، وأعظم الأسباب فيما يصيبنا جميعاً، هو نقص التقوى ونقص الإخلاص، ومخالفة أمر الله عز وجل كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] سبحانه: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] .
المهم: أن ندرك أن المنع والحصار والسجن والقتل، ليس مقياساً للربح أو الخسارة، فهو ليس مقياساً للربح، وليس دليلاً على الصواب ضرورة أن يلقى الإنسان ما يلقاه، ولكنه أيضاً ليس مقياساً للخسارة؛ لكن لتنظر! كم حقق هذا العمل للإسلام، وماذا ستكون الحال لو لم يوجد هذا العمل، ويقوم -على رغم ما فيه من أخطاءٍ وسلبيات؟ - ثم هل اكتملت التجربة، التجربة الإسلامية في الجزائر -مثلاً- هل اكتملت، وانتهى أمرها، أم في تركيا أو في أي بلد؟ أم نحن الآن نعيش فصلاً من فصولها، وربما نحتاج لبعض الوقت حتى نتمكن من الحكم على نتائجها ونهاياتها.
ثم إنك -أحياناً- قد تعد العمل ضرراً بذاته، ولكنه خيرٌ باعتبار أنه كان أهون الشرين، وأخف الضررين، وأسهل المصيبتين، وأن الله تعالى دفع به عن الأمة والملة ضرراً أعظم وأهول وأطول وهذا مما لا يدركه إلا أولوا الألباب والبصائر.(191/27)
القتال بحجمه الطبيعي
المثال الرابع: وهو مثال جهادي، حيث قتال المسلمين في البوسنة والهرسك، يتساءل الكثيرون هل من الممكن إقامة دولة الإسلام في أرض البوسنة والهرسك، على الرغم أن الوجود النصراني الكثير، وجود الكروات، ووجود الصرب، والمسلمون أغلبية، ولكن بنسبة قليلة في وسط أوروبا، وأوروبا ستعتبر أن قيام دولة إسلامية في عمقها خطرٌ يهددها، إذاً لنحدد الهدف، هل من الضرورة أن يكون القتال لإقامة دولة إسلامية؟ لماذا لا تنظر إلى القتال بحجمه الطبيعي لا تضخمه لكن لا تهون من شأنه، فهو دفاعٌ عن النفس وعن العرض والأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن بل بين أن من قتل دون نفسه، أو ماله فهو شهيد -كما في الصحيحين- ألم تعلم أنه قتل من المسلمين في الأرض نفسها في البوسنة أيام الحرب الكونية قتل منهم مثل ما قتل اليوم أو أكثر دون أن يطلقوا هم ولا رصاصة واحدة؟! هل تعلم أن إستالين قتل من المسلمين في الاتحاد السوفيتي ما يزيد على عشرة ملايين، دون أن يجد مقاومة تذكر؟! إذاً القتل حاصل حاصل، لكن كما قال الشاعر: وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا على الأقل اقتل من قتلك، واثأر لنفسك، قبل أن تموت على أقل تقدير، ثم هب أن المسلمين استسلموا، وأعطوا الصرب القيادة، وتركوا السلاح، ماذا ترى الصرب فاعلين؟ هل كانوا سوف يحتضنون المسلمين، ويلبون تطلعاتهم؟ أم كانوا سوف يسحقونهم ويبدلون دينهم، ويستحيون نسائهم ويقتلون رجالهم؟ وهذا هو أخطر ما يتوقعه إنسان، أو يخافه! إنك اليوم في عالمٍ لا يحترم إلا منطق القوة: منطق القوة يحيا منطقاً يحمل الجُلَّ ولا يرضى الشنار أما المبادئ الإنسانية وقيم العدل، وكلمات الشرعية؛ فهذه عبارات يدبجون بها نشرات الأخبار لا غير! ثم هذا المسلم القتيل لا تدري لعله شهيدٌ في سبيل الله، قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاء} [آل عمران:140] والشهيد له عند الله أعلى المنازل، حتى تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يموت شهيداً، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: {وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل} وفي الصحيحين قال: {وددت أني أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل} .
وسؤالٌ أخير: هذا المسلم أيضاً الذي نضج بالقتال، وتعلم الشجاعة، وعاد إليه الإيمان، أصبح قريباً من الآخرة بعيداً من الدنيا، وأنت تراه يصلي الصلوات الخمس، ويذكر الله تعالى، ويستعد للقاء الله، لأن الجهاد صنع الأمة فعلاً، أو شارك في صناعتها، لكن لو لم يكن ذلك، ماذا ترى هذا الإنسان؟! لربما وجدت الكثير منهم في حياة اللهو والدعة والترف، بعيدين كل البعد عن دينهم وإيمانهم، ألا ترى ماذا جنى الترف على هذه الأمة؟! ألا ترى كيف تسبب الغرق في الشهوات والولوغ فيها، والولوع فيها في موت القلوب، وضعف الهمم، وقلة الشجاعة وكثرة المخاوف، إن الجهاد يبني الأمة، ويغرس فيها معاني العزة والشجاعة والكرامة، ويعيدها إلى مجدها وقوتها ورجولتها، وما ترك قومٌ الجهاد في سبيل الله تعالى إلا ذلوا.(191/28)
الذين أخرجوا من ديارهم
المثال الخامس: وهو مثال سياسي يتعلق بقضية أولئك الإخوة المبعدين من الإخوة في فلسطين، الذين أخرجوا بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، يزيدون على أربعمائة وعشرين شخصاً، من العلماء، والخطباء، وأساتذة الجامعات، ورجال العلم والدعوة، معظمهم يخرجون من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، لقائل أن يقول: قتلنا جندياً إسرائيلياً واحداً فأخرج مقابل ذلك أربعمائة من خيرة الرجال، هذا ثمنٌ باهض! وينسى هذا الإنسان أنه هكذا يكتب تاريخ الأمم وقبل سنوات ليست ببعيدة، أخرجت بريطانيا من فلسطين ما يزيد على أربعمائة يهودي وبأسباب مشابهة، وبعد زمن ليس بطويلٍ عاد اليهود إلى فلسطين واحتلوها كما ترون وتشاهدون.
وهكذا أيها الأحبة تبدأ الانتصارات الصغيرة بتضحياتٍ جسام، وهل تعتقد أن اليهود كانوا سيدعون هؤلاء لو لم يقتل ذلك الجندي الإسرائيلي؟ أم كانوا ينتظرون أي حدث للتخلص منهم؟ وهل تعتقد أن اختيارهم جاء في يوم وليلة وبصورةٍ عشوائية؟ كلا، ثم هل كان إخراجهم شراً محضاً؟ ربما تضرروا هم أو أولادهم، لكن لا تستبعد أن يخلفهم في الساحة ضعفهم، ممن تحركت عواطفهم، والناس دائماً يتعاطفون مع المظلوم ومع المضطهد، ومع المضيق عليه، ويحس كل إنسان أنه لابد أن يقف معه، ويقف في موقفه.
ولقد ظل هؤلاء في مخيمهم في مرج الزهور، لقد ظلوا على مدى الأيام الطويلة الماضية، قضيةً عالميةً ساخنة تحرج اليهود، وتحرج أمريكا، وتحرج الأمم المتحدة، وتحرج بعض دول المنطقة على السواء، وهب أن هؤلاء نفوا إلى أي مكانٍ في الأرض، هل انتهوا؟! هل عطاء المسلم محدود بمكانٍ أو بزمان؟ لماذا لا تتصور أنهم ربما بدأوا حياةً جديدة، ومشواراً جديداً، وهم أقوى عزيمةً وأقوى مضاءً وأقوى تصميماً وأكثر فاعليةً، وإنتاجاً وإخلاصاً لله تعالى؛ ويكفي أن هؤلاء أبرزوا مسألةً: إسلامية القضية الفلسطينية على السطح، اضطر الجميع على التعاطف معهم على الأقل علانيةً على الرغم أن هؤلاء موسومون بما يسمى "التطرف" والتطرف اليوم هو الإختيار رقم واحد للمحاربة من قبل الجميع.
إذاً: ليس الربح والخسارة بترك الديار، والتعرض للأخطار، فهكذا الحياة، وكم عدد الذين فارقوا الدنيا بحثاً عن العيش، أو بحثاً عن الوظيفة، أو فراراً من مشكلة، أو طلباً لدراسة أو ما أشبه ذلك!(191/29)
الدعوة إلى اتباع الدليل الشرعي
المثال الأول: مثال علمي: فالدعوة إلى اتباع الدليل الشرعي المجرد، من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ما أجمعت عليه الأمة وسلفها، والدعوة إلى التحرر من التقليد غير المستنبط، والدعوة إلى الاختيار من أقوال الأئمة دون الالتزام لواحد منهم هذا المطلب! لك أن تتصور كم سوف يثير، من المشاكل وكم سيقال عمن يحملونه: إنهم دعاةُ فتنة، وقد يقول قائل: هؤلاء خارجون على الأئمة، مخالفون لما جرت عليه الأمة، وهؤلاء منتقصون لأكبر العلماء، وهؤلاء دعاة تفريقٍ للصف، وهؤلاء كما قال أحدهم: صغارٌ يتعلمون يوم السبت، أو يولدون يوم السبت، ويتعلمون يوم الأحد، ويفتون يوم الاثنين، ويناظرون يوم الثلاثاء.
سخريةٌ مُرَّة! نعم! نحن ندعو إلى الانضباط، وندعو إلى الأناة، وعدم العجلة، وألا يقول الإنسان على الله ما لا يعلم، بل عليه أن يتعلم ويتحرى ويبحث عن الدليل، ولكن دون شكٍ، فالمطلوب تحرير الأمة من التعصب المذهبي، إلى جو اتباع الدليل بغض النظر عمن قال بهذا القول، وهذا الكلام الذي يواجهه الدعاة، أو الداعون إلى اتباع الدليل، ليس دليلاً على فشل هذه الدعوة، ولا مقياساً للخسارة، بل ربما كان مقياساً للربح؛ لأنه من الإيمان، ومن العمل الصالح، ومن التواصي بالحق، ومن التواصي بالصبر على ذلك كله.
وإنما جاءت هذه الأشياء نظراً لقوة هذه الدعوة، وفاعليتها وتأثيرها وتهديدها لبعض الرءوس، التي انتفعت بجو التبعية وجو التقليد، فلا تريد أن تفقد مكانها.
فهذا مثال يدلك على أن أي لونٍ من ألوان العلاج، أو الإصلاح، أو التعديل، يتطلب الكثير من الآلام، والكثير من التضحيات والكثير من التكاليف، ولكن! كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .(191/30)
المحامون عن قضية المرأة
المثال الثاني: وهو مثالٌ اجتماعي: المحامون عن قضية المرأة في مجتمعٍ يحتقر المرأة ويزدريها، فلا ينطق باسمها ولا يورثها، ولا يحسب لها حساباً، ولا يقيم لها وزناً ولا اعتباراً، ولا يسمح لها أن تبدي رأيها، بل يهينها ويذلها، وهذا موجودٌ في مناطق كثيرةٍ من العالم الإسلامي، خاصةً تلك المناطق البعيدة عن مراكز العلم، صحيحٌ أن هناك وعياً، ولكن لا يزالُ هذا الأمر قائماً في عدد من المجتمعات! فالذين يطالبون بالعدل في قضية المرأة، وأن يقام حكم الله في هذا الشأن، وأن تنصف النساء، وتعطى المرأة حقها كاملاً غير منقوص، لا يتعدى بها قدرها، ولا تعطى ما ليس لها، وليست دعوةً قوامها مخاطبةُ مشاعر المرأة، أو استثارتها، بل هي دعوةٌ تستهدف تعديل الميزان، وإصلاح المجتمع، وحمايته من تلك القنابل الموقوتة التي من الممكن أن تنفجر في أي لحظة.
تلك المرأة المظلومة المكلومة لو سمعت صوتاً ينادي بتحريرها، ويطالب بحقوقها، وهو صوتٌ غير إسلامي قادم من بعيد من بلاد الغرب، لربما هشت لهذا الصوت وبشت وأيدته، لماذا؟! لأنها تشعر أنه يرفع من معاناتها ويقف مع قضيتها، فلماذا لا يكون الصوت المدافع عن قضايا المرأة المطالب باحترامها أماً كانت أو زوجة، أو بنتاً أو مرأةً في المجتمع، وإعطائها حقها الشرعي كاملاً غير منقوص، دون أن يتعدى بذلك حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ لماذا لا يكون هذا الصوت صوتاً شرعياً إسلامياً؟ المهم أن هذا الصوت كلما ارتفع، سيجد المعارضة، لأنك تدعو إلى تغيير العادات والتقاليد، وتدعو إلى مخالفة السنن الموروثة، وتدعو إلى تحريض النساء على الرجال، والمرأة ليس لها إلا كذا، ولا يجوز أن تسمع إلا كذا، ولا ينبغي أن نتكلم مع المرأة إلا بالحديث عما يجب عليها، أما ما يجب لها فكلام لا تسمعه، هكذا ستواجه مثل هذه الدعوة وهكذا يقول بعضهم.
إذن الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي سواءً في المرأة، أو في مجالِ تربية الأطفال، أو في مجال العلاقات الاجتماعية في مجتمعات وقع فيها خطأٌ من هذا القبيل سوف تواجه بحرب ضروس لا يهدأ لها قوام.(191/31)
الأسئلة(191/32)
الشهادة العلمية ما جدواها؟
السؤال يقول: كثيرٌ من الشباب والشابات يعتقدون أن الربح في هذه الحياة الدنيا، هي الشهادة، والعلوم التي يدركونها في الوقت الحاضر، وينسون أن هذه قد تكون خسارة؛ لأنهم يبتعدون عن العلم الشرعي والدعوة إلى الله تعالى، فهل من كلمة توجيهية؟
الجواب
إذا كانت هذه العلوم التي يدرسونها علوماً مباحة، وهم يتوصلون بها إلى أمرٍ مباح؛ فلا يمكن أن نصفها بأنها خسارة، لكن إن أحسنوا فيها النية والقصد، وعمدوا إلى خدمة الأمة، وسد الفراغ والمساهمة، والمشاركة والدعوة، فهم مأجورون، وإن كان الأمر خلاف ذلك، فاستغلوا ما وهبهم الله في المعصية والإثم، فهم على ذلك آثمون مأزورون.
أما العلم الشرعي: فهو أفضل العلوم وتاجها ولبها، ومن يرد الله بها خيراً يفقه بالدين، فأي خير أعظم من هذا الخير.(191/33)
رأس المال والربح
السؤال
كنت أملك عدداً من الأسهم في الشركات التالية: شركة سابك، وشركة مكة، شركة النقل لبري، وقد بعت هذه الأسهم إلى أحد مكاتب الأسهم بمبلغ يزيد حوالي سبعة أضعاف رأس مال هذه الأسهم، فبماذا تنصح أن أفعل بهذا المال؟
الجواب
أنصحك أن تأخذ رأس هذا المال، ثم تعمد إلى هذا الربح فتقسمه إلى نصفين، النصف الأول تأخذه، والنصف الثاني تخرجه إلى سبل الخير وأبواب الخير.(191/34)
الكتب المعادية للإسلام
السؤال
هناك بعض الكتب والمؤلفات التي يدس فيها السم الزعاف للإسلام والمسلمين، فقمت بشراء بعضها لكي أبين ما فيها في المجتمع الذي أعيش فيه، لكني أحتفظ بها حتى أرد عليها عندما يحين الوقت، وبعض هذه المؤلفات بداخلها صورٌ، مثل الكتب الشعرية، والفكرية، فنصحني أحد الإخوة بعدم شرائها، وحجته في ذلك كيف لو شاهدها بعض الشباب غير الملتزمين معي، أرجو البيان في ذلك؟
الجواب
إذا كان هدفك أن تقوم بالرد عليها، ومعرفة ما فيها، فلا حرج عليك! بل ينبغي وهذا فرض كفاية أن يوجد من المؤمنين من يرد على هذه الأشياء التي إذا عظم ضررها، وانتشرت وشاعت بين الناس، فلا حرج عليك في ذلك، ولا بأس أن تحذر من أن يطلع عليها بعض من لا يعرفون الأمر، أو قد يحدث هذا في قلوبهم ريبة.(191/35)
إما الحق وإما الباطل
السؤال
ماذا نقول للمسلم الذي يظن أن الوصول إلى الشرف والعلو، لا يكون إلا ببغض الحق وأهله باسم الوسط، وسب الله ورسوله باسم الأدب، وإعطاء الفرصة للباطل باسم المشاركة، والولاء لغير المؤمنين وأهل الحق باسم المصالح المشتركة؟
الجواب
هؤلاء أنواع: منهم المسلم ولكنه ضعيف الإيمان، فهو يداري ويخاف ويجبن، ولا يستطيع أن يواجه أو يقاوم الواقع، وهذا يرجى له إن شاء الله تعالى أن يستيقظ قلبه، ويدرك ولو بعد حين، أن المسألة لا مثنوية فيها، ولا توسط، ولا يصلح إنسان وسط بين الجنة والنار، ليس هناك مرحلةٌ وسط بين الكفر والإيمان، ولا مرحلة وسط بين الحق والباطل، ولا مرحلة وسط بين الهدى والضلال، إما الجنة وإما النار، إما الهدى وإما الضلال، إما الكفر وإما الإيمان، ولهذا نعى الله تعالى عن المنافقين أنهم يريدون أن يتخذوا سبيلاً وسطاً، فيقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا.
وهناك فئة من هؤلاء، هم -في الحقيقية- في قلوبهم مرض الريب ومرض النفاق، ولكنهم ربما لا يبوحون به؛ فيتظاهرون للمؤمن بشيء، ويتظاهرون لغيره بشيء آخر، فإذا جاءهم المؤمنون قالوا لهم كلاماً، إذا انتصر المؤمنون قالوا: ألم نكن معكم، وإذا انتصر الآخرون وغلبوا، قالوا: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين.(191/36)
نشر الكتاب والشريط الإسلامي
السؤال
أنا شاب ملتزم إن شاء الله وأدرس حالياً بالثانوية، وأحب طلب العلم وتحصيله، ولكن عندما أذهب إلى المكتبة أو التسجيلات أرى كتاباً، أو شريطاً طيباً أبادر بشرائه، وكأني سأقرأه وعندما أصل إلى المنزل أضعه في دولاب الكتب والأشرطة، وربما لا أقرأ منه إلا صفحةً واحدة لا أدري لماذا؟! ويوجد بحوزتي حالياً ما يزيد على ثمانيين كتاباً، ومائة وخمسين شريطاً، بالنسبة للكتب لم أختم إلى الآن إلا مجلداً واحداً، وبالنسبة للأشرطة لم أسمع منها إلا شيئاً يسيراً فما هو الحل في نظركم؟
الجواب
أولاً مجرد اقتنائك للكتاب أو الشريط مساهمة منك في نشر الكتاب، وفي نشر الشريط، وعليك أن تسعى إلى إعارتها لأهل البيت ولأقاربك ولزملائك ولجيرانك، بقدر ما تستطيع، وهذا من زكاتها، ولا أقول واجباً عليك.
أمر آخر: افرض أنك ورثت هذه الكتب لأولادك ولو بعد سنين، هذا خيرٌ وهو من خير ما تورثه لهم، لكن بقينا فيك أنت! فيجب عليك أن تقرأ وتختار من الكتب ما يناسبك، أن يكون صغير الحجم، وأن يكون سهل الأسلوب ومبسط يناسب مستواك العلمي والثقافي، فلا تملَّ منه، فربما إذا قرأته شعرت بانتصار لختمك لهذا الكتاب، فتتطلع نفسك إلى قراءة كتاب آخر، ولا بأس أن تستعين بآخر يحدد لك أو يختار لك الكتب التي يمكن أن تبدأ بها.(191/37)
تقييم الأمور بميزانٍ دنيوي
السؤال
يقول لقد انقلبت الموازين عند كثيرٍ من الناس، حتى عند من يحسبون على الخير، أو على الأقل عند بعض المصلين، فتراهم يقيمون الأمور بميزان دنيوي بحت، فعندما تكلمهم في موضوع -مثلاً- توظيف غير المسلمين مثل الهندوس، والنصارى، أو غيرهم يقول: إن المسلم لا ينتج مثل ذلك الهندوسي أو النصراني، وبعضهم لا يضع للدين أي اعتبار، ويقدم العمل على الدين؟
الجواب
نعم هذه أحد الموازين، الله تعالى يقول: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] فلا يعجبنك من هذا الكافر، أو المشرك قوة عمله وإنجازه وخبرته، لماذا؟ لأن كثيرٌ منهم إنما كسب هذه الخبرة، وهذا العمل وهذه الدقة حينما وظفه المسلمون، خذ على سبيل المثال "التمريض" يقول لي بعض الإخوة الذين ذهبوا إلى هناك، يقول: فعلاً وجدنا أن كثيراً من المسلمين ليس لديهم خبرةٌ سابقة، لماذا؟ لأن الذين يذهبون إلى هناك يأتون بغير المسلمين فيكسبون الخبرة، ويأخذون المال، فإذا أعلن عن طلب ممرضين جاءوا وفي أيديهم شهادة سابقة عن خبرة كسبوها في بلادنا،.
إذاً: اطلب المسلم ولا مانع أن تعمل له دورات تدريبية ترفع من مستوى أدائه، ثم هو يكسب الخبرة من خلال العمل، أما إذا أهنته ولم تعطه دوراً ولا مجالاً ولا مكاناً، أو استبعدته ولم تأت به أصلاًً، فمن أين يستطيع المسلم أن يكسب الخبرة؛ خاصةً إذا تصورنا أن المسلمين في كثيرٍ من البلاد ولو كانوا أكثرية؛ فإن الحكومات في بلادهم تحول بين المسلم والوظيفة، وبينه وبين التعليم، وتجعل التعليم حكراً على الطبقة الموافقة للحكومة، نصارى أو بوذيين أو ما أشبه ذلك.(191/38)
علاقات الشباب مع بعضهم
السؤال يقول: كيف تكون علاقات الشباب بعضهم مع بعض، من حيث أُخوتهم، ومحبتهم في الله وكيف يكون مقياس الربح والخسارة؟
الجواب
هذا بينه الله تعالى، فقال: {إِلاَّ الْذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أنت وحدك لا تكفي، لأنك لا توصي نفسك بالصبر، أو غيره، أو بالحق إلا أن يكون معك غيرك، فلا بد من التعاون على البر والتقوى، وأن تضع يدك في يدي، تأمرني بالمعروف وآمرك، شرط بشرط، وتنصحني وأنصحك، ليست علاقة مجاملة، ولا تصنع ولا مؤانسة فقط، وإن كان هذا كله مطلوباً، والإنسان لا بد له في بيداء الحياة؛ ممن يخفف عنه من وقع الهجير، ولفح السعير؛ ولكن مع ذلك كله لابد من الدعوة، ولابد من إنكار المنكر، ويجب أن تكون العلاقة معتدلة، فلا تغلو إلى عواطف مشبوبة، وصلةٍ محمومة، وتعلقٍ دائم، ربما خرج عن كونه محبةً في الله إلى كونه نوعاً من التعلق المذموم.(191/39)
أسباب الفوز في رمضان
السؤال
شهر رمضان على الأبواب؛ فهلا ذكرتنا بأسباب الفوز والربح بنفحات هذا الشهر؟ وهل الدعاء لإخواننا بالنصر من الله تعالى لهم يعذرنا عند الله ويكفي؟
الجواب
أما نفحات هذا الشهر فهو بابٌ يطول، ولابد أن الإخوة في مكتب الدعوة سوف ينظمون محاضرات، لتوعية الإخوة بهذا الأمر، وهو على كل حال من مواسم الخيرات، وأسباب الفرص التي ينبغي للإنسان أن لا يفرط فيها، فما ظنك لو كان الواحد منا -ونسأل الله أن يكون كذلك- ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: {رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له} إنها مصيبة عظمى! من لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر له؟!! ومن لم يتب في هذا الشهر فمتى يتوب؟! أما مسألة الدعاء للإخوان المضطهدين، فهي أحد الواجبات التي ينبغي على كل مستطيع أن يفعلها، بل ينبغي أن توصي العجائز في بيوتهن، وكبار السن، والأطفال الصغار الذين لم يتلطخوا بالمعاصي بعد، وأهل التقوى والاستقامة، وأهل الصلاح والدعاة، نوصيهم بالدعوة الصالحة، كذلك المرضى والمعوقين، والفقراء، وأهل المال الحلال الذين لا يأكلون الحرام، نوصيهم بالدعاء للمسلمين في كل مكان.(191/40)
فكرة عن حفظ السنة النبوية
السؤال
هلا طرحت فكرة عن موضوع حفظ السنة النبوية بجدة والحث عليها؟
الجواب
هذه فكرة طبقت سابقاً في القصيم، ولعل أشرطتها وأخبارها وصلتكم، وفيها منشورٌ كتب مقدمته سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، وهناك أيضاً ملحقٌ آخر يقوم بعض المشايخ بإعداده، وسوف يطبع منه إن شاء الله كمياتٌ كبيرة، ونوصل به إلى الإخوة وسنبعث إلى مكتب الدعوة بشيءٍ من ذلك لتعليم طريقة، أو شرح طريقة مقترحة لحفظ السنة النبوية.(191/41)
أحوال المسلمين والطريق إلى معرفتها
السؤال يقول: كيف يمكن للفرد منا معرفة الأخبار الموثوقة لأحوال المسلمين في العالم، والإعلام لا يصدق في هذا؟
الجواب
لا شك أنّ هذه مشكلة ومأساة، لكن أين الإعلاميون من الإجابة عن هذا السؤال؟ ليس هناك جهةٌ قادرة إعلامية تصل إلى كل المسلمين وهي توافي بالأخبار الدقيقة أولاً بأول، إنما هناك بعض المجلات التي تعتبر إسلامية، ونافعة، وينبغي للإنسان أن يستفيد منها كمجلة المجتمع أو الإصلاح، أو غيرهما من المجلات التي تتابع قضايا المسلمين في الجملة.(191/42)
تحقيق المصلحة الشرعية
السؤال
يقول: هل مقياس الربح والخسارة مرتبط بالنتائج، أم أنه مرتبط بالامتثال لأوامر الله تعالى؟ لأن بعض الإخوة يقوم بإنكار المنكر على رئيسه، أو ربما على رجلٍ صاحب منصبٍ وجاه، ثم يلحقه ضرر على إثر ذلك، ويفعل هذا محتسباً لله تعالى؛ فيأتي كثيرٌ من أهل الخير ويلقون باللوم عليه، ويقولون: إن الصحوة تخسر بتصرفاتٍ كهذه، فما هو الضابط في هذه المسألة؟
الجواب
الضابط في هذه المسألة "تحقيق المصلحة الشرعية" فإن كان هذا الإنكار لا يضر الإنسان شيئاً أو يضره، لكن لا يضر غيره، فعليه أن ينكر ما دام محتسباً، وهو على خيرٍ وإلى خير، وينكر بالأسلوب الحسن والكلمة الطيبة والخلق الفاضل، ولا ينتصر لنفسه فإذا غضب عليه هذا الرئيس، أو سبه، أو شتمه أو طرده؛ فعليه أن يقابل ذلك كله بهدوء الأعصاب، وهدوء البال، والدعوة له بالهداية، والصبر عليه، ولا ييأس منه أبداً، ولو لقي في سبيل ذلك ما لقيه، فإنه يحتسب ذلك في ذات الله تعالى، أما إن كان هذا العمل الذي قام به يترتب عليه أضرارٌ أخرى عظيمةٌ كمنع الدعوة مثلاً، والحيلولة بينها، أو طرد الأخيار كلهم، وأضرار عظيمة ملموسة متحققة، أو شبه متحققة، فنعم، لكن هذا في الواقع بعيد، فقد يصيب الضرر هذا الإنسان، لكن من البعيد أن يصيب الضرر غيره؛ بسبب أمرٍ بمعروفٍ قام به هو، ملتزماً بالضوابط الشرعية.(191/43)
دور المرأة تجاه قضايا الأمة
السؤال
يقول لقد اقتصر عمل المرأة تجاه الأمة، وما يحدث منها هو الدعاء والتبرعات، ففي نظركم ماذا يمكن للمرأة أن تعمل غير ذلك؟
الجواب
لا للمرأة دورٌ عظيم يمكن أن تعمله، فهذا الجيل الذي يعيش اليوم، ويتعاطف مع قضايا المسلمين، ويأخذ منها ويعطي، من الذي رباه؟ لقد رباه -في الغالب- أمهاتٌ فاضلات دينات، وإن كان يوجد فيهن الجهل، وكان غالب بلاد المسلمين لا تتعاطف مع بعضها، ولا يسمع بعضهم بمصاب الآخرين، ولم يكن هناكَ تعليمٌ ولا تفقيه بالدين، ولا تربية على العقيدة الصحيحة، فحين نظفر بأمهاتٍ في البيوت، تحمل على عاتقها إعداد أولادها، ليس إعدادهم ليكونوا دنيويين فقط، أو يظفروا بأعلى المناصب والوظائف، بل إعدادهم ليكون عملهم ووظيفتهم وتخصصهم وقفاً لله تعالى، ولخدمة دينه، وأن يبذل الواحد منهم حتى روحه إذا لزم الأمر، فإن هذه الأم تكون قدمت للأمةِ أعظم ثروة الإنسان، الذي به تصلح الأمور، وبه تقوم الدعوة وبه يعلن صوت الجهاد، وعلى أكتافه ينتصر الإسلام، قدمت هذا العملة النادرة، الإنسان الذي تربى في بيتٍ صالح.
أمر آخر: حماية ظهر زوجها، ومساعدته، وتوجيهه، وتثبيته، إن كان داعيةً تقول له: سر فإن معك امرأةً ستقوم مقامك، وتحفظه في نفسها وفي ماله، وفي ولده وفي بيته، وفي سمعته وفي عرضه، وتكون له خير معين، كما كانت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً! إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق]] ثم دور الأخت في الدعوة إلى الله مع بنات جنسها في: توزيع الكتاب، وتوزيع الشريط، وإقامة درس تحفيظ القرآن، ودرسٌ خيري، ودرس علمي، ودرسٌ في الفقه، وفي الحديث، وفي التفسير، وفي العلم الشرعي، ودعوة نساء الحي، والتأثير في المدرسة إن كانت مُدَرسة أو موجهة، فهي مسئولةٌ كالرجل.(191/44)
مفاتيح الخير
تحتوي هذه المادة على مفاتيح الخير ومغاليق الشر، وضرب أمثلة من الواقع من الذين كانوا كذلك؛ وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، وعبد الله بن المبارك، وابن تيمية، وابن باز، ثم تكلم عن الأعمال التي هي مفاتيح الخير، وذكر بعض أخبار البوسنة والهرسك ثم أجاب على الأسئلة.(192/1)
الراحل الشيخ حمود التويجري
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته سلاماً عاماً لكم أنتم أيها الأحبة الذين مشت أقدامكم إلى هذا المسجد الذي هو بيت من بيوت الله تعالى، وأسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته ألا تمشي أقدامنا ولا أقدامكم إلى النار.
أيها الأحبة حديثي إليكم في هذه الليلة هو بعنوان "مفاتيح الخير"، وقبل أن أدخل في هذا الحديث, فإنني أجد نفسي محتاجاً إلى كلمة أقولها وقد رزئت الأمة في هذا اليوم بفقد عالم من علمائها، وفذ من أفذاذها، ورجل من رجالات العلم والدعوة والإصلاح فيها، ذلكم هو سماحة شيخنا ووالدنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله تعالى, لقد واريناه التراب في هذا اليوم، في وسط جو من الحزن عظيم لدى كل من عرف الشيخ أو أحبه, أو تتلمذ على يديه أو سمع به, فإن الرجل رحمه الله تعالى ممن جعل الله تعالى له ذكراً حسناً بين الناس, وتلك عاجل بشرى المؤمن.(192/2)
مواقف تتكرر
أيها الأحبة: إن مثل هذه المواقف هي مواقف تتكرر يومياً، ففي كل يوم بل في كل ساعة نحن نفقد قريباً أو حبيباً أو جاراً أو معروفاً أو غير ذلك, ولكن العبرة هي بماذا خلف الإنسان بعد موته، فإن الناس يتفاوتون بذلك تفاوتاً عظيماً وما بالك بإنسان يكون فقده وتكون رزيته على الأمة كلها, ليس على بيت، ولا على بلد، ولا على حي بل على الأمة كلها.
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد فذ يموت بموته خلق كثير إن العالم يحيي الله به قلوب العباد بالعلم والذكر والهداية ونور الوحي وغير ذلك.
يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا فالعلماء أحياء وإن وسدوا في قبورهم, وإن وروا التراب, وإن فقدت شخوصهم, إلا أنهم أحياء بعلمهم وبتراثهم، وبتلاميذهم، بجهودهم، وبآرائهم، وباجتهاداتهم، وبأعمالهم التي كلما ذكرت ذكروا, فأثنى الناس عليهم خيراً, وترحموا عليهم، بل وكرهوا البقاء بعدهم.
عفاءٌ على أرض تقيم بغيرها فليس بها للصالحين معرج لمن تستجد الأرض بعدك زينة فتصبح في أثوابها تتبهرج وليس البكا أن تسفح العين إنما أحر البكائين البكاء المولج فرحم الله فقيدنا رحمة واسعة, اللهم ارفع درجته في المهديين, واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين, اللهم افسح له في قبره ونور له فيه, اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة, اللهم اجعل هذه الليلة خير ليلة تمر عليه منذ أن ولدته أمه, اللهم اجعلها خير ليلة تمر عليه, اللهم عوض المسلمين خيراً مما فقدوا.(192/3)
الفأل الحسن
ولعل من الفأل الحسن -إن شاء الله تعالى- أن أقول لكم: إنني زرت سماحة الشيخ رحمه الله في مرضه مرات, وآخر مرة زرته فيها قبل أيام, فحدثني فيها رحمه الله تعالى رحمة واسعة بالحديث المسلسل بالأولية وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء} , وقد حدثني بهذا الحديث من روايته مشافهة عن الشيخين الفاضلين رحمهما الله تعالى, الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري والشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان رحمهم الله تعالى, فقد روى الشيخ هذا الحديث عنهما بالإسناد إلى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم إنه أجازني رحمه الله بسائر مروياته وكتبه, فلعل الله أن يتغمده برحمته، ولعل الله أن يجعله من المرحومين, اللهم ارحمه رحمة واسعة يا حي يا قيوم, اللهم ارفع درجاته اللهم تجاوز عن سيئاته، اللهم احفظ البقية الباقية من علماء المسلمين.
أما بعد: فأمامي في هذا العنوان "مفاتيح الخير" ويندرج تحته عدة عناوين:(192/4)
لماذا الحديث عن مفاتيح الخير
أولها لماذا نقف هنا؟ لماذا نتحدث عن مفاتيح الخير؟ هذا أحد الموضوعات التي باتت الحاجة إليها ملحة وماسة، مع تنامي الوعي الشرعي لدى مختلف الفئات في هذه الأمة المباركة.(192/5)
دعوة لمن يركب في قافلة الصحوة
أما أولئك القاعدون المترددون فقد آن لهم أن يتوبوا إلى الله تعالى توبة صادقة نصوحاً، يغسلون بها وضر الذنب والمعصية، توبة من وصمة القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقعود خلاف المؤمنين، وأن يكفروا بعمل صالح رشيد فإن الحسنات يذهبن السيئات كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ومازالت الكلمات للعلماء والدعاة والخطب والمحاضرات تدندن حول مطلب المشاركة.
يا عباد الله: إن الشريعة ما نزلت لطائفة، ولا خصت بها فئة، بل نزلت لكل الناس قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] .
فيا عباد الله إلى متى نقصر مهمتنا على أن نقول: هذا أصاب وهذا أخطأ، دون أن نخمل أنفسنا مسئولية تعزيز الصواب ودعمه وتأييده، بل والتضحية في سبيله، أو مهمة تصحيح الخطأ ورده بالأسلوب المناسب، إنه من أجل هذا وذاك كان هذا العنوان وكانت هذه المحاضرة.(192/6)
من فوائد الصحوة الإسلامية
لقد أصبحت الصحوة الإسلامية ذات وجود عميق عريض مؤثر في كل مجال, وشهد الناس عودة إلى الدين وإلى التعبد وإلى العلم الشرعي, وإلى السعي إلى خدمة هذا الدين، كلٌ في موقعه وكلٌ بحسب طاقته.
إننا نعلم علم اليقين أن في عامة الناس وخاصتهم، وفي الطلاب والأساتذة، وفي الرجال والنساء، وفي التجار وغير التجار، وفي المدنيين والعسكريين, بل وفي رجال الأمن من الشرط وغيرها، وسائر الأجهزة الحكومية وغير الحكومية أن في هؤلاء أعداداً من الناس مخلصةً لدينها، حريصةً على حمايتها, وحماية علمائها, بل من هؤلاء من يتشبه بموسى عليه الصلاة والسلام الذي أعلنها صريحة مدوية بكلمة الحق.
ومنهم من لا يملك ذلك ولكنه يتشبه بمؤمن آل فرعون فيستغل موقعه للذب عن المؤمنين، ونفي قالة السوء عنهم، والتخذيل لعدوهم.
ومنهم من يتشبه بأصحاب الفلك في المحاماة عن يونس بن متّى عليه الصلاة والسلام, ومنهم من يتشبه بذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21] .
ومنهم من يعزز الدعوة ويبين محاسنها وفضائل أعمالها.
ومنهم من يتشبه بذلك الرجل الصالح الذي استأجر موسى ثماني حجج قال له: فإن أتممت عشراً فمن عندك, فيبحث عن الرجل القوي الأمين الدِّين بعمله أو تجارته ليغني الله به فقيراً أو يعين به محتاجاً أو يهيئ له سبيل تحصيل خبرة لطالبها.
ومنهم من يتشبه بالحواريين إذا قالوا لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حين قال كما حكى الله عنه: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52] .
ومنهم من يتشبه بـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ سمع دعوة الحق لأول وهلة فتقبلتها نفسه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، وقالت له قريش: كذبت, فسمي من يومئذٍ بـ الصديق قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] .
ومنهم من يتشبه بـ عمر الذي ما إن عرف الحق حتى أعلنها مدوية في شوارع مكة, ومنهم ومنهم ومنهم من يقلب كفيه، وينظر في عطفيه، ويقدم رِجلاًَ ويؤخر أخرى, ويقول: عسى ولعل وليت.
ليت وهل تنفع شيئاً ليت ليت شباباً بوع فاشتريتُ ولهؤلاء الذين قدموا وعملوا وصبروا وجاهدوا واقتدوا بالصالحين, ولأولئك الذين ما زالوا يترددون ويرقبون الميدان، لهؤلاء وأولئك لا بد من حديث.
فأما الحديث عن الأولين فهو أنه لا يكفي منهم مشاركة مجملة وعطاء قليل, بل ينبغي أن يفجروا ينابيع الخير في نفوسهم، وأن يحسنوا كما أحسن الله إليهم, فمن أعطى لدينه ودعوته في مجال واحد, فلينظر نطاقاً آخر يعمل فيه, فإن المؤمن لا يشبع من خير أبداً حتى يكون منتهاه الجنة.(192/7)
المباركون أينما كانوا
كنت أبحث في القرآن الكريم عن معنى من المعاني يثني الله تعالى فيه على أولئك الأشخاص الذين ينفعون في كل ميدان, ويخدمون في كل مجال, فكل من دعاهم إلى خير أجابوه, وكل من سألهم شيئاً مما يستطيعون أعطوه مما هو مباح في شريعة الله تعالى, فهم يمنحون العلم للطالب, والمال للسائل, والجاه للمحتاج, والرأي والمشورة للمستشير والمستخرج, ولا يترددون أبداً في تحقيق خدمة الناس في كل ما يملكون, حتى يصبح هذا الأمر جزءاً من شخصياتهم ومن تكوينهم، يُعْرَفُونَ به ويُعْرَفُ بهم, ولا يجدون أنسهم وراحة بالهم وقرة عيونهم وسرورهم إلا بذلك, كنت أبحث عن هذا المعنى في القرآن الكريم, حتى لفت نظري أحد الإخوة من طلبة العلم إلى قول الله عز وجل على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:31] إلى آخر الآيات.(192/8)
العلماء والدعاة المباركون
وهكذا العلماء المباركون والدعاة المباركون في هذه الأمة يجب أن يكونوا كالسابقين ينفعون بعلمهم وهديهم وميراثهم للأمة كلها, ويمهدون لظهور آخرين يحملون الهدي والعلم من بعدهم, ويحرصون على إيصال الخير للناس في سائر أمور دينهم وسائر أمور دنياهم على حد سواء, فهم لا يرون الاقتصار على النفع الديني حتى يضيفوا إليه النفع الدنيوي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
إنه إرث من إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ينبغي أن يوجد في هذه الأمة من يقوم به وينشره ويحييه.(192/9)
عيسى عليه السلام مباركاً أينما كان
إذاً: عيسى عليه السلام ذكر أن الله تعالى منَّ عليه بأن جعله مباركاً أينما كان, ولذلك جاء في حديث خرجه الإسماعيلي وابن مردويه وابن النجار في تاريخه وغيرهم, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رفع هذا الحديث نظر, قال: { {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْت ُ)) [مريم:31] , قال: جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت} وذكر هذا المعنى وهذا الحديث الطبري في تفسيره, وابن كثير عن مجاهد , وجاءت رواية عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: {أن عيسى كان معلماً مؤدباً حيثما توجه} , وفي رواية عن ابن مسعود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {معلماً ومؤدباً أينما كنت} .
إذاً: هذا هو المعنى الذي نبحث عنه، ففرحت به وكأنما وقعت ووقفت على كنزٍ ثمين, ثم وجدت في كلام الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا المعنى حول تفسير هذه الآية.
إن الذي يتأمل سيرة عيسى عليه الصلاة والسلام يعرف شيئاً من قوله ذاك, فقد كان عليه الصلاة والسلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله, وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم, وكان يحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وكان يصدق ما بين يديه من التوراة ويبشر بما يأتي بعده من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته.
ومن أبرز الصفات في شخصية عيسى عليه الصلاة والسلام ما يلي: أولاً: أنه صلة للأنبياء السابقين وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم, فهو حلقة في سلسلة متصلة أولها آدم عليه السلام, فقد كان نبياً معلماً مكلماً, ثم نوح، وآخرها وخاتمها محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] .
ثانياً: أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان نفعه عاماً بأمور الدين والدنيا, فمن نفعه في أمور الدنيا أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى، ويشفي الله تعالى به المريض بإذنه عز وجل, ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وهذا من علم الغيب الذي لا يعمله إلا الله أو من أطلع عليه من خلقه {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] .
أما الأمور الدينية فمثل ذلك: الدعوة إلى العقيدة وتصحيحها، وإخراج بني إسرائيل من رق المادية وعبودية الشهوة، وعبودية العجل إلى العبودية لله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد, ومثله أنه جاء محيياً ومجدداً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، فكان نفع عيسى نفعاً دينياً ونفعاً دنيوياً.
ثالثاً: أن عيسى عليه السلام كان مشهوراً باللطف والسماحة، والبعد عن اللجاج والمساخطة والمغاضبة، وكان عفاً في قوله ولسانه وحديثه, ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن عيسى عليه السلام رأى رجلاً يسرق, فقال له: سرقت؟ قال: لا والله الذي لا إله غيره ما سرقت, فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: آمنت بالله وكذبت عيني} .
ودعوته عليه السلام إلى حسن الخُلُقِ والملاينة والملاطفة والحلم على الناس والصبر عليهم أمر مستفيض، وإن كان يوجد في التوراة المحرفة من ذلك الشيء الكثير, إلا أنه دخله كما دخل غيره التحريف والتبديل.(192/10)
نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان
إن كل فضيلة للأنبياء السابقين فإن لإمامهم سيدنا وإمامنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها أوفر الحظ والنصيب, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم -أيضاً- مباركاً أينما كان وقد أفاض الله تعالى عليه من جليل الأخلاق وكريم الطباع وعظيم الجود والكرم والسخاء ما لا يوجد في غيره من بني الإنسان أبداً.(192/11)
كرمه في علمه صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم كريماً في علمه, قد بذل علمه للناس كلهم، فأعطاهم وعلمهم حتى تخرج على يديه العلماء والجهابذة، والحفاظ والأساتذة الذين كانوا أئمة في علوم الدنيا وفي علوم الدين, وتخرج على يديه أولئك الذين كانوا رعاة الغنم وكانوا غارقين في صحرائهم, فتحولوا إلى أئمة يهدون بأمر الله عز وجل, لما تتلمذوا في هذه الجامعة الإسلامية المحمدية، ونهلوا من معين النبي المختار عليه صلوات الله تعالى وسلامه.
فتخرجوا أساتذة وعلماء ومجددين، وحملة علم وحفاظ شريعة، وكانوا آية من آيات الله تعالى في ذلك كله, ويكفي أن يعلم الإنسان أنه لم يكن على ظهر الأرض جيل منذ خلق الله تعالى الإنسان وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها, لم يكن على ظهر الأرض جيل مثل ذلك الجيل, من حيث العلوم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {خير القرون قرني} , وكل قرن يحاول أن يقتبس من علمهم ويأخذ من هديهم ويسير على طريقهم, ولكنه يظل بعيداً بعيداً عن تلك المنارة الرفيعة، وعن تلك القمة السامقة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبذل علمه لكل أحد, فلا يحتقر أحداً ولا يزدري صغيراً، ولا يستهين بإنسان عبداً أو حراً، شريفاً أو وضيعاً، أو عربياً أو أجنبياً، عالماً أو جاهلاً، كبير السن أو صغير السن, قديم الإسلام أو حديث الإسلام, كان يعطيهم العلم صلى الله عليه وسلم، بل ويعطيهم أكثر مما سألوا، ويصبر عليهم، ويتلطف معهم حتى حملوا علمه عليه الصلاة والسلام.(192/12)
كرمه في عطائه صلى الله عليه وسلم
وكان كريماً في عطائه بالمال صلى الله عليه وسلم, فكان يعطي غنماً بين جبلين عطاء من لا يخشى الفقر، وكان صلى الله عليه وسلم لا يُسأَلُ شيئاً إلا أعطاه, حتى إن الإنسان ربما سأله ثوبه الذي على جلده ولا يملك غيره فيدخل صلى الله عليه وسلم بيته ويخلعه ويبعث به إلى فلان الذي سأله.
وكان صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس: {كان أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة} , أعطى رجلاً مائة من الإبل، وأعطى أكثر من ذلك، وأعطى غنماً بين جبلين, وما جاءه أحد إلا أعطاه.
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد أضحت لائه نعم(192/13)
كرمه في جاهه صلى الله عليه وسلم
وكان صلى الله عليه وسلم كريماً في جاهه, يبذل جاهه وشفاعته لكل أحد، وفي كل أمر دق أو جل, عظم أو صغر, حتى إنه صلى الله عليه وسلم شفع لرجل لما رفضته زوجته وهي بريرة وكان مغيث يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زوجته التي طلبت الفسخ منه, فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: {يا بريرة لماذا لا تعودين إلى مغيث؟ فتقول: يا رسول الله! أتأمرني؟ قال: لا، إنما أنا شافع, قالت: لا حاجة لي به} وشفع صلى الله عليه وسلم وتوسط في أمور كثيرة, وبذل جاهه ومكانته في مسائل عديدة حتى إنه كان يشفع للعبد عند سادته أن يرفقوا به، أو أن يضعوا من خراجه، أو لا يكثروا عليه العمل، أو يحسنوا معاملته, بل بلغ الأمر أن الحيوان شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يلقاه من سوء المعاملة.(192/14)
كرمه في نصحه صلى الله عليه وسلم
وكان كريماً صلى الله عليه وسلم في نصحهِ؛ فإنه لا يبخل بالنصح على أحدٍ أبداً, وينصح لكل أحد, ما رأى منكراً قط إلا أنكره, ولا رأى معروفاً متروكاً إلا أمره به, ولا وجد إنساناً إلا أحسن إليه، إما بماله أو بقوله أو بفعله أو بخلقه أو بدعوته، أو بفتيا أو بنصيحة أو بمشورة، أو بغير ذلك مما كان يستطيعه عليه الصلاة والسلام.(192/15)
كرمه في وقته صلى الله عليه وسلم
وكان كريماً في وقته صلى الله عليه وسلم, فإنه ما بلغ الستين من عمره حتى كان معظم صلاته جالساً في الليل في النوافل, وذلك بعد أن حطمه الناس, فإن معظم وقت النبي صلى الله عليه وسلم كان مع الناس, يذهب معهم ويأتي معهم، ويسافر معهم، ويحج معهم، ويجاهد معهم، ويعتمر معهم، وهو معهم في المسجد، ومعهم في السوق، ومعهم في المقبرة، ومعهم في كل مكان، في الحل والترحال والظعن، والسلم والحرب، والخوف والأمن وفي كل حال، كان صلى الله عليه وسلم يجلس مع هؤلاء الناس ويبذل لهم من وقته ما يستطيع.(192/16)
كرمه بنفسه صلى الله عليه وسلم
وكان من كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم أنه كان كريماً بنفسه, فكان شجاعاً لا يَهَابْ, ربما خرج أهل المدينة على سماع حسةٍ أو صوت خائفين وجلين, فعندما يشرفوا على مشارف المدينة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل من جهة الصوت على فرس قال: {لن تراعوا لن تراعوا ما رأينا من شيء وإن وجدنا لبحراً} أي: ليس هناك من خوف.
وكان صلى الله عليه وسلم يخوض المنايا ولا يهاب ولا يبالي, ففي معركة حنين فر أصحابه -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم- من حوله وبقي النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً ثبوت الجبال الرواسي لا يتراجع، وهو يقول بصوت معلن: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} نعم! رجل مستهدف تريده قريش وهوازن؟ وغيرهم من فنون المشركين يريدون أن يقتلوه صلى الله عليه وسلم ويبحثون عنه, يبحثون عن موقع القيادة أين هو؟ فما استخفى صلى الله عليه وسلم ولا استتر ولا اختفى, وإنما أعلنها بصوت عالٍ: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} , ثم أمر العباس أن ينادي أصحاب الشجرة، فانجفلوا إليه صلى الله عليه وسلم وحاموا دونه حتى انتصروا.
فكان صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان، والله تبارك وتعالى يقول لنبيه ومصطفاه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] , ليس للعرب خاصة، ولا لجنس ولا لون، ولا لفئة ولا لأمة وإنما للعالمين, الذين كانوا في عصره والذين جاءوا بعد عصره إلى قيام الساعة, من العرب والعجم، قال الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3] .
فكان النبي صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان, الخير معه، والنور في صدره, والبركة في يده, ولهذا أحبه الناس, وتحول أعداؤه إلى أصدقاء {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] .
ودانت الجزيرة العربية للإسلام، وتربى هؤلاء الرجال الأفذاذ على مثل ذلك الأستاذ الكبير العظيم صلى الله عليه وسلم.(192/17)
الرجل المبارك عبد الله بن المبارك
ميراث النبوة عند ابن المبارك , إنني لا أريد أن أستعرض لكم الآن أسماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وماذا عملوا؟ فإن مجرد ذكر الأسماء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير وسائر المبشرين بالجنة وغيرهم, إن مجرد ذكر الأسماء يدعو إلى الأذهان كثيراً من الأعمال الجليلة، والصفات النبيلة، والجهاد الذي بذلوا, والمال الذي أخرجوا, والصبر الذي صبروا, والخُلُق الذي تعلموا وعلموا.
ولكنني أريد أن أنتقل نقلة بعيدةً شيئاً ما في التاريخ, إلى إمام من الأئمة الذين تلقوا بالإسناد المتصل البركة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلعل من المستطرف المستظرف الإشارة إلى إمام مبارك من رجالات هذه الأمة، وهو من المباركين أينما كانوا, ولك أن تحرز وتحدث نفسك من هو هذا الإمام؟ هو المحدث الثقة الحجة، حتى كان يكثر الجلوس في بيته في دراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ألا تستوحش؟! قال: كيف أستوحش وأنا أعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ وروى عنه المئات من الأئمة, وروى هو عن المئات, وكان إماماً ثقة ثبتاً حجةً حافظاً لا يشق له غبار, حتى لو قيل لك: إن هذه فقط هي صفته، لقلت كفى بهذا فخراً وكفى بهذا مدحاً.(192/18)
بركة شعر ابن المبارك
كيف إذا انتقلت وعرفت أنه كان هو الشاعر الجزل الذي سخر شعره لخدمة الدين والدعوة والذب عن الحياض, فها هو يخاطب بعض الرواة الذين دخلوا على السلطان, فخشي عليهم من الفتنة يقول: يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين أين رواياتك فيما مضى بترك أبواب السلاطين إلى آخر القصيدة ويقول مخاطباً عابداً من العباد ترك الجهاد وتفرغ للعبادة والصلاة في الحرم المكي فيخاطبه: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب(192/19)
بركة كرم ابن المبارك
فإذا تصورت هذا قلت هذا يكفيه أن يكون ذلك الشاعر الفحل المحنك, لكن كيف إذا عرفت أنه أضاف إلى هذا أنه كان الغني السمح الجواد المفضال الذي يكفي أن تعرف قصة واحدة من قصص كرمه وجوده, كان يحج بأهل مرو وهي بلدته, فيجمع نفقاتهم كلها ويجعلها في صندوق ويقفل عليها, ثم يكتري لهم ويخرج بهم من مرو إلى بغداد, فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ويلبسهم أحسن اللباس, ثم يخرج بهم من بغداد بأحسن زي وشكل وهيئة, وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقول لكل واحد منهم: ماذا أمرك أهلك وماذا أمرك أولادك أن تشتري؟ فيقول: أمرني أشتري كذا وكذا وكذا , فيذهب ويشتري لهم كل حاجاتهم, ثم يخرج بهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم, قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من مكة ومتاعها؟ فيشتري لهم ما أرادوا ثم يخرج بهم من مكة, فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو, فيجصص بعدُ بيوتهم -أي: يعيدها ويرممها ويزينها- وأبوابهم, فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة عظيمة, وكسا كل واحد منهم, فإذا أكلوا وسروا ولبسوا دعا بالصندوق وفتحه وأعطى كل واحد منهم الصرة التي فيها ماله وكان عليها اسمه.(192/20)
بركة حافظية ابن المبارك
فتظن أنه يكفي أنه جواد من الأجواد السمحاء الذين يُكتب ذكرهم في التاريخ.
لكنه أيضاً هو الحافظ الذي ينظر في الكتاب مرة واحدة، فما اشتهاه وأعجبه من هذا الكتاب وقع في قلبه وعلق به فلا ينساه أبداً, ويحدث به وكأنه يقرأه من الكتاب.(192/21)
بركة زهد ابن المبارك
وهو أيضاً الزاهد التقي النقي الذي لما قرء عليه كتاب الرقائق كان يبكي من خشية الله تعالى, حتى كأنه كما يقول ابن معين: [[ثور يخور من شدة البكاء, ولا يستطيع أحد أن يسأله, فإن سأله أحد عن شيء دفعه وهو على مثل هذه الحال]] .
فإذا رأيته وقرأت قصصه في هذا قلت يكفي أن يكون هذا هو الزاهد الذي لا يقاس إليه زهد إبراهيم بن أدهم أو غيره.(192/22)
بركة شجاعة ابن المبارك
فكيف إذا عرفت أنه كان شجاعاً مقاتلاً محارباً في سبيل الله؟ برز له رجلاً من الروم, فقال: من يقاتل؟ فخرج رجل من المسلمين فقتله الرومي نصفين, فخرج آخر ففعل به مثل ذلك، وثالث، ورابع، حتى فزع المسلمون من هذا الرجل الشجاع أشد الفزع! فخرج إليه رجل ملثم فطعنه وقتله فازدحم الناس عليه وكان ملثماً فجرّ أحدهم لثام وجهه فنظر فإذا هو عبد الله بن المبارك.
فتعجب عبد الله بن المبارك وضاق بذلك ذرعاً؛ لماذا تكشفون سري؟ ثم قال لمن جرّ لثامه: حتى أنت يا أبا عمر تشنع علينا تفضحنا عند الناس بمثل هذه الأعمال؟ إنما فعلناها لله عز وجل.(192/23)
ابن المبارك مستجاب الدعوة
وكان هذا الرجل مستجاب الدعوة، حتى إنه مر من عند رجل أعمى, فقال له الرجل الأعمى: أسألك بالله أن تدعو الله لي أن يرد عليّ بصري, فقام عبد الله بن المبارك ودعا الله تعالى, فرد عليه بصره, يقول الراوي: وأنا أنظر.(192/24)
ابن المبارك صادع بالحق
وكان الرجل قوالاً بالحق كما قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته, سواء في شأن العلماء أم شأن السلاطين، سواء في الشعر أم النثر كما هو معروف محفوظ في سيرته, إنه الإمام المبارك عبد الله بن المبارك.
قال العباس بن مصعب: جمع عبد الله بن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس -أي: المغازي والسير- والشجاعة والسخاء والكرم والتجارة والمحبة عن الفرق.
وقال الحسن بن عيسى: اجتمع جماعة من العلماء مثل الفضل بن موسى ومخلد بن الحسين، فقالوا: تعالوا نعد خصال عبد الله بن المبارك من أبواب الخير ما هي؟ قالوا: العلم، الفقه، الأدب، النحو، اللغة، الزهد، الفصاحة، الشعر، قيام الليل، العبادة، الإنصاف، الغزو، الحج، الشجاعة، الفروسية، القوة، ترك الكلام فيما لا يعنيه، قلة الخلاف على أصحابه، قال حبيب بن الجلاب: سألت عبد الله بن المبارك: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: غريزة عقل أن يكون عاقلاً, قال: فإن لم يكن؟ قال: حسن أدب, قال: فإن لم يكن حسن الأدب ولا عاقلاً؟ قال: أخ شفيق يستشيره ولا يستبد برأيه, قال: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل يسكت, قال: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل.
مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظاً وليس بناطق وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنياً وبالشيب الذي في مفارقي ولكن أرى الذكرى تهيج عاقلاً إذا هي جاءت من رجال الحقائق إن عبد الله ابن المبارك من رجال الحقائق.(192/25)
الرجل المبارك شيخ الإسلام ابن تيمية
المباركون أينما كانوا بعد ذلك كثير, ولا بد أن نمر مروراً سريعاً عاجلاً على رجلٍ كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى, وكيف أن حياته كلها كانت بلاءً وجهاداً؟ حتى إنه قضى حياته كلها لم يتزوج ولم يشتغل بدنيا ولا بتجارة, كان كل شغله إما في حلقة علم، أو في مجلس وعظ، أو في مناظرة، أو في جهاد أو غزو، أو في سجن في سبيل الله تعالى، يوماً في الشام ويوماً في مصر ويوماً هناك ويوماً هناك, وهو منتصب للناس كلهم ينفعهم بيده ولسانه وقلمه حتى أحبه الناس, كما ذكر ذلك الذهبي وابن رجب وغيره من مترجميه.
وكان أمثاله في ذلك الوقت من العلماء قليل، ولهذا أقبل الناس عليه وأحبوه وتعلقوا به, لأن الرجل كان حريصاً على إيصال الخير لكل أحد, لا يحسد أحداً على نعمة آتاه الله تعالى إياها, ولا يحقد على أحد، ولا يحمل في قلبه بغضاً على أحد, ولا يدخر خيراً عن أحد, بل كان حريصاً على نفع المسلمين بكل ما يستطيع.(192/26)
الرجل المبارك سماحة الشيح ابن باز
وهكذا ظلت هذه الراية ترفع، كلما مات إمام خلفه آخر، حتى وجدنا أن الأمة في هذا العصر قد ظفرت وحظيت بحمد الله تعالى بعدد من الأئمة والعلماء الذين هم مباركون أينما كانوا.
ولعلي أذكر تاجهم وإمامهم ومقدمهم في ذلك، وهو سماحة الوالد الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(192/27)
لماذا اخترت ابن باز؟
نعم، إن المعاصرة حجاب كما يقول بعضهم, فربما لا يدرك الكثير فضائل بعض علماء العصر؛ لأنهم يرونهم ويشاهدونهم ولا يحصل من التأثر بهم والقبول كما يحصل للعلماء التاريخيين الذين يقرأ الإنسان عنهم.
فالمعاصرة بالنسبة للبعض حجاب, ولهذا ينبغي أن يشاد بمثل هذا الإمام, ثم إننا نريد أن يعلم الناس أن هذه النماذج التي نتحدث عنها, من أولئك العلماء والدعاة والمصلحين, أنها ليست نماذج تاريخية انتهت، نتسلى نحن بذكرها, بل هي ميراث يتجدد ولا تعدم الأمة رجالاً بعد رجال يحيون هذا الإرث, وذكر هذا الإمام العلم لا يعني بخس حقوق غيره, ولا يعني تنقصهم، وهل يلزم من ذكر المتحدث لأحد أن يذكر كل أحد؟ كلا.(192/28)
بعض صفات ابن باز
إنني ألحظ في الشيخ -حفظه الله- مجموعة من الصفات أذكر منها باختصار: 1- التعليم للعامة والخاصة، والصغير والكبير, بلا ملل ولا كلل, على رغم كبر السن وكثرة المشاغل والصوارف والملهيات, فلا يخلو مجلس من مجالس الشيخ من ذكر أو قراءة، أو علم أو تعليم، أو أسئلة أو ما أشبه ذلك.
2- الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، بالكتاب والمحاضرة والدرس والشريط والمراسلة والاتصال وبكل وسيلة ممكن.
3- القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أكمل ما يستطاع, وما يكاد يوجد منكر في الأرض من المنكرات الشهيرة المعروفة, فيراه راءٍ إلا قال: أخبروا فلاناً يكتب به أو ينكره أو يسعى في تغييره.
4- التعاون مع أهل الخير من الدعاة والمحسنين والعلماء في كل الأمصار, وحسن الأدب معهم, وطيب المعشر وسعة البال, وهو يتعاون مع الجميع, فإن رأى خيراً أيد وسدد ودعا, وإن رأى خطأً صوب وصحح ونصح بلهجة المحب الناصح الحنون, الذي يريد الخير للناس كلهم.
5- حسن الخلق وطيب الكلام، والعفة في اللسان والصبر على الناس, وهو في ذلك -أقولها بحق- إمام يحتذى, يعامل الناس كلهم بالحسنى، ويلاطفهم كباراً وصغاراً من يعرف منهم ومن لا يعرف, ويسأل كل أحد عن نفسه وأهله ووالديه وأولاده وعمله وما كان من أمره ولا يسأم من ذلك أبداً, على رغم كثرة من يطرقه وكثرة مشاغله وكثرة الصوارف التي ربما تحول بين الكثير وبين مثل هذا الأمر.
6- الكرم بكل صوره وأشكاله, في مساعدة أعمال الخير ودعمها, والإنفاق عليها, والكرم مع الناس, فإن الرجل لا يأكل طعامه وحده منذ ما يزيد على ثلاثين سنة, ولا يأنس إلا أن يأكل طعامه في ملأٍ من الناس, وربما أتاه شاب في مقتبل العمر فسلم عليه وقال: أنا فلان أتيتك من بلاد كذا، فحياه ورحب به ولزم عليه بالغداء أو بالعشاء, فإذا جاء وقت الغداء أو العشاء قال: أين فلان؟ هل حضر فلان؟ لا ينسى ذلك حفظه الله تعالى.
7- ملازمة السنة قولاً وعملاً، وكثرة ذكره لله تعالى في قيامه وقعوده، واغتنامه اللحظات والساعات في التسبيح والذكر والقراءة، فإن لسانه رطب بذكر الله عز وجل.
8- بذل الجاه لكل أحد, في الشفاعة، والمساعدة، والتوسط في أعمال الخير لعامة المسلمين, سواء في الأمور الدينية أو الأمور الدنيوية, وقلما يحتاج إنسان إلى شيء أو تعسر عليه أمر أو تلبد شأن معاملة إلا ذكر اسم الشيخ ليكون وسيطاً فيها.
وبالجملة فلا يخرج من الشيخ أحد إلا بشيء، هذا بفتوى، وهذا بنصيحة، وهذا كتب له ورقة أو رسالة إلى فلان, وهذا وعده خيراً, وهذا أعطاه كتاباً وهذا وهذا , وأقلهم حظي من الشيخ بالابتسامة والدعاء, والدعوة إلى الغداء أو العشاء، والتلطف والسؤال عن الحال.
إنه نموذج للعالم الشمولي, الذي أوسع الناس بحسن خلقه وبسطة كفه وبذله أغلى ما يملك وهو الوقت للناس, هذا وهو ابن الثلاث والثمانين من عمره التي قضاها كلها في الميدان مع الناس, لم ينتظر منهم شيئاً قط, ولا يؤاخذهم على شيء، ولا يجد في نفسه حرجاً عليهم, أو يقول: قصروا في حقي, أو بخسوني أو أساءوا معاملتي أو ما أشبه ذلك: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] .(192/29)
مفاتيح ومغاليق
إن من الناس والرجال سواء من العلماء، أم من العامة، أم من الكبار، أم من التجار من يكون مفتاحاً للخير, مغلاقاً للشر, ومنهم من يكون على ضد ذلك مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر.
مفاتيح للجلى مغاليق للردى لهم في ذرا الإسعاد أعلى المناصب يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أنس بن مالك: {إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر, وإن من الناس مغاليق للخير مفاتيح للشر, فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه, وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه} والحديث رواه ابن ماجة، وابن أبي عاصم، والبيهقي في الشعب وهو حديث حسن صحيح، وله شاهد أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(192/30)
معنى كون الإنسان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر
إن معنى كون الإنسان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر: أنه لا يذكر له خير إلا سعى إليه, ولا يذكر له شر إلا سعى إليه, سعى إليه مغيراً منكراً، ولا يشترط أن تكون البداية من عندك دائماً، أو أن تكون الفكرة فكرتك، أو أن تكون عن قناعتك الخاصة, إنما المهم أنه خير فهو -مثلاً- عالم ينشر العلم، ولا يقصر جهده على هذا, بل يقدم لهذا نصيحة اجتماعية ويقدم لهذا مساعدة مادية، أو يكون وسيطاً بين الأغنياء والفقراء في المال، ويحل لهذا مشكلة، ويكتب لهذا تزكية، ويراجع لهذا كتاباً, وهو على هذا المشروع مساعد ومعين، ومع هذا المركز وإلى هذه المؤسسة وحول هذه المدرسة يعطي هذا شريطاً وهذا كتاباً وهذا نصيحة وهذا كلمة طيبة، فلا يخرج من عنده أحد إلا بشيء.
فإذا مات فقده الناس، وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون, فدخلت مصيبة فقده على كل أحد، وترحموا عليه، بخلاف ذلك الإنسان الذي إن حضر لم يعرفه أحد ولا يثني عليه أحد ولا يدعو له أحد, وإن مات -أيضاً- لم يفقد لأنه لم يقدم للناس خيراً.
إنه يحسن المساعدة وليس يحسن التخلص من الناس، وبينهما فرق كبير، فهناك إمكانية أن تتعلم حسن التخلص فكل من جاءك بشيء تتعلم أنك تتخلص منه، فإن طلب منك مالاً، قلت: لا أقدر, وإن طلب مساعدة، قلت: لا أستطيع, وإن طلب منك رأياً قلت: ليس عندي وقت استمع لمشكلتك, وإن طلب منك أن تذهب معه إلى هنا أو هناك، قلت: أنا مشغول ولا أستطيع, فتتعلم حسن التخلص من الناس, وهذا نوع.(192/31)
تربية النفس أن يكون مفتاحاً للخير
أما النوع الذي نطلبه ونريده فهو أن يتعلم الإنسان حسن المساعدة، وأن يربي نفسه على ألا يتخلص من أحد جاءه في خير أو يطلب منه أمراً يستطيعه, هذا طالب حاجة يجب أن يساعد عليها, وهذا سائل تجيبه بغض النظر عن مستواه وعن غرضه بما لا مدخل عليك فيه ولا ضرر عليك منه, وهذا يعرض مشكلة فتعينه عليها برأيك، وليس عليك بأس أن تسمع منه وترى ماذا يعاني وماذا يواجه من المشكلات، وربما لا تستطيع إلا أن تترحم معه وتتوجع له وهذا أحياناً نوع من التنفيس وكما قيل: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع ولا تتضايق من كونه أكثر من سرد التفاصيل وأفاض إلى ما لا حاجة إليه, فهذا إنسان يعاني هذا الهم ويعيش هذا الأمر، فلا بد أن تعطيه فرصة ليتنفس من خلال الحديث معك, وهذا طالب مساعدة يظهر منه حاجة مادية فتساعده بغض النظر عن حقيقة الأمر، ولا تبالغ في التحري فهذه المساعدة هي في محلها، وربما تصدقت على غني فاعتبر أو على فقير أو على سارق أو على زانية، وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل تصدق فأصبحوا يتحدثون: تُصِدق اليوم على غني! فقال: اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن الليلة, ثم خرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصِدق على سارق! فقال: اللهم لك الحمد، على سارق! ثم قال: لأتصدقن بصدقة، فوضعها في يد زانية! فأصبحوا يتحدثون: تُصِدق على زانية! فقال: اللهم لك الحمد, على غني وعلى سارق وعلى زانية! , فقيل له: إنها وقعت محلها, أما الغني فلعله أن يعتبر فينفق, وأما السارق فلعله أن يستعف عن سرقته, وأما والزانية فلعلها أن تستعف عن زناها} .
وكذلك طالب الشفاعة, إذا جاء يطلب شفاعة في غير باطل، فلا تتردد في دعم هذه الشفاعة له، فليس من شرط الشفاعة أن تقبل ولا أن تؤثر، ولكن كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى: {اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما أحب أو ما شاء} وأحياناً مجرد منحك له بعض الوقت والتبسط معه والابتسامة في وجهه والصبر عليه، وألا تكفهر ولا تعرض عنه ولا تجر يدك منه وتستفهم أموره وتوحي له بالاهتمام, هذا ربما يغني ويكفي ولا يحتاج الأمر بعد ذلك إلى شيء.
وهذا يعرض عليك مشروع جهاد في بلد من بلاد الإسلام, وهذا يعرض عليك مشروع دعوة, وهذا يعرض عليك مشروع تحفيظ للقرآن الكريم, وذاك يعرض عليك مشروع لتحفيظ السنة, وهذا يعرض عليك مشروع تجارة رابحة, وهذا وهذا(192/32)
ما المرء إلا حيث يجعل نفسه
إذا أراد الإنسان تفريق الناس عنه فعلوا, وفاته من ذلك خير كثير, ويكفي الناس أن يفترقوا ويبعدوا عنك, بل وربما رجموك بالقول والفعل، يكفي في ذلك الجفاء في القول والتجهم في الوجه.(192/33)
عدم تحقير الذات
وعلى المرء ألاَّ يحقر نفسه أبداً, وإياك إياك أن يخيل إليك أنك عاجز عن كل شيء وجرّب تجد, جرب مثلاً أنه إذا حدثك شخص عن منكر في مكان كذا, بدلاً من أن تهزّ رأسك وتقول: الله المستعان.
وإنا لله وإنا إليه راجعون, فهزّ رأسك وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن اكتب لي هذا الذي رأيته بالتفصيل في ورقة، ثم أنت خذ هذه الورقة ممن كتبها، واكتب عليها ورقة أخرى من عندك إلى فلان, تصبح حينئذٍ معاملة تتعلق بمنكر موجود في مكان معين, ثم ابعث بهذه المعاملة إلى أحد العلماء، إلى جهة من الجهات التي تقوم على الاحتساب وإنكار المنكر, وكرر ذلك وستجد التجاوب، وستجد الرد أحياناً بشكل أو بآخر, وهذا بحد ذاته يعتبر نوعاً من التجاوب.
وهكذا السائل الذي سأل ليس شرطاً أن تعطيه من مالك بعدما تتثبت من حاجته, فإذا لم تقدر أن تعطيه من مالك فتحقق من حاله واطلب تزكية من أشخاص معروفين ثم اكتب معه, أو اذهب بها إلى فلان القادر أو فلان التاجر أو فلان المحسن وأنت شريك في الأجر وطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر.(192/34)
نفع الناس بكل ما أمكن
أما إن أراد نفعهم بماله أو علمه أو عقله أو جاهه فإنه يستطيع ذلك, وتتوسع له الآفاق وتفتح له المجالات, فالجاهل الذي علَّمته، تسبب في آخرين دلّهم عليك، فأتوا إليك وسألوك واستفادوا من علمك وأعجبوا من حسن تعليمك, والفقير الذي ساعدته تسبب في فقراء آخرين جاءوا إليك فبذلت لهم كما بذلت لغيرهم, وطالب الشفاعة وطالب المشورة وطالب الفتوى وطالب التزكية وهكذا يمتلئ عمرك بجلائل الأعمال، وما عليك أن يجعلك الله تعالى مفتاحاً للخير وأن تقتدي في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] .
ولا تظن أن الوقت يضيق أو أن الهمة تفتر أو أن النفس تتبرم: {فإنما المعونة على قدر المئونة} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح, فمن تصدَّى للأعمال وجعل نفسه لها وبذل ما يستطيع فإن الله تعالى يمده بمدد من عنده، ويرزقه من الصبر والحلم والتعلم الشيء الكثير الذي لم يكن يستطيعه قبل ذلك, وليست هي معجزة لا تقبل التكرار أن ترى رجلاً في واقع الحياة امتدت أعماله إلى وجوه الخير كلها, وامتدت روافده وجداوله إلى كل ميدان فله في كل بضاعة سهم, إن جهاداً أو علماً أو دعوة أو أموراً دينية أو أموراً دنيوية أو غير ذلك.
وعماد ذلك كله الخلق الطيب من طلاقة الوجه، وبسطة الكف، وعفة اللسان، وسلامة القلب، فهي جماع الخير كله: {إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسطة الوجه وحسن الخلق} والحديث هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة وفيه ضعف، وقد جاء من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها، وجود إسناد الحديث الإمام المنذري رحمه الله تعالى.(192/35)
مع الخير حيث كان
رأيي ورأيك ليس شرطاً لكي تكون مفتاحاً للخير، لا تعتبر رأيك الشخصي في كل مسألة هو المقياس, ولا حتى اجتهادك الخاص في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد، ولا تجعل ميولك الخاصة أيضاً تتحكم في مواقفك، وليكن شعارك "مع الخير حيث كان" حتى لو خالف رأيك ما دام يحقق في الجملة خيراً في الأمة، هو على الأقل أكثر وأعظم من الضرر الحاصل أو الضرر المتوقع, حتى لو خالف اجتهادك، فقد يثبت الاجتهاد الذي خالفك في مواجهة واقع من الواقع جدواه.
وليس شرطاً أن يكون الجميع على رأي واحد، أو اجتهاد خاص في مسألة، وقد تشتهي بعض النفوس شيئاً، وتميل نفوس أخرى إلى شيء آخر.
فالعناية بالجانب الخيِّر الجانب الإيجابي في حياة الناس وأفعالهم وإبرازه والثناء عليه والاستفادة منه هو خلق النجباء، وهو من أسرار تأليف القلوب على مفاتيح الخير من الرجال, فمن سيما مفاتيح الخير أن تأتلف عليهم القلوب وتجتمع عليهم المشارب والمذاهب لسعة صدورهم وسعة عقولهم وحلمهم وصبرهم على الناس، وعدم إلزامهم بآرائهم الخاصة لغيرهم ممن يحمل رأياً كرأيه واجتهاداً كاجتهادهم.(192/36)
دعم النشاط الطيب
إن بوادر النشاط الطيب في العالم الإسلامي كله من الممكن أن تؤيد وتدعمه وتناصره وتكون بداية لعمل يرضي الله تعالى، ويحقق للمسلمين عزاً ونصراً وتمكيناً, ومن الممكن أيضاً أن يقع العكس فيقاطع هذا النشاط أو ذاك, بحجة عدم وضوح المنهج، أو عدم استبانة الرؤية، أو عدم سلامة الطريق, وهذا أهون الأمور وأسلمها، ولكنه لا يحقق المراد.
إن الحل الذي هو عدم التأييد وعدم المشاركة حل سهل, ولكن المشاركة بصدق وإخلاص، بالقول والمال والرأي وبكل الوسائل الممكنة، واستكبار هذا التأييد وهذا الدعم في التعديل والنصيحة والمشورة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصحيح الخطأ سواء أكان خطأًَ في الاعتقاد، أم في التعبد، أم في السلوك، أم في المنهج، فإن هذا هو المراد وهو المقصود, وليس يحزننا أبداً -والله الذي لا إله غيره- بل يسرنا كل السرور أن يكتب الله تعالى النصر لهذا الدين على أيدي غيرنا وأن يعز الإسلام بجهد سوانا, فنحن رابحون بكل حال، وليس دين الله تعالى بضاعة خاصة لفئة نحجبها نحن ونستأثر بها دون بقية المؤمنين.(192/37)
خذ وطالب
إن من اليسير أن يعتني المرء بإبراز جوانب العيوب، والجوانب السلبية في أعمال غيره وجهودهم وجهادهم، ويضخم هذه الأشياء ويجعلها ذريعة وحجة في ترك المشاركة وترك المناصرة وترك التأييد وترك العمل! لا, لكن من الممكن أن تعكس الأمر وتأخذ بالمبدأ الذي يقول: (خذ وطالب) .
فاقبل الخير الموجود عند فلان، أو عند هذه الفئة، أو عند هذه الطائفة، أو في هذا المركز، أو في هذه الجماعة، أو في أولئك المجاهدين مثلاً, خذ الخير الموجود عندهم وطالب بالمزيد، وكن عوناً لهم على طاعة الله عز وجل، زاجراً لهم عن معصيته، إن دعوك للخير تجبهم، وإن أحسنوا تحسن معهم، وإن أساءوا تتجنب إساءتهم وتنصحهم: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91] .(192/38)
الأعمال الصالحة مفاتيح للخير
مفاتيح الخير من الأعمال: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وأوائله وأواخره} والحديث رواه الطبراني والحاكم عن أم سلمة، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال العراقي في تخريج الإحياء: في إسناده عاصم بن عبيد الله لا أعلم روى عنه إلا موسى بن عقبة , ويشهد له حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [[أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الخير وخواتمه وفواتحه]] والحديث رواه ابن ماجة أيضاً بإسناد صحيح.
فكما أنه من الناس رجال وأقوام: علماء، أو دعاة، أو تجار، أو عامة، هم مفاتيح للخير لا يأخذ أحد بأيديهم إلى خير أو بر أو معروف أو إحسان إلى ذهبوا معه وسارعوا ولسان حال أحدهم يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] , فكذلك من الأعمال أعمال جعلها الله تعالى مفاتيح للخير ومغاليق للشر, وأعمال أخرى جعلها الله تعالى مغاليق للخير مفاتيح للشر.(192/39)
الجهاد مفتاح العزة والكرامة
مثل ذلك أيضاً ما يتعلق بالجهاد, فإن الجهاد مفتاح العزة والكرامة وما ارتفع شأن الأمة إلا بالجهاد, وما استطاعت الأمة اليوم أن تفرض على الغرب لوناً من التفكير، أو رأياً في الأحداث، أو موقفاً معيناً مبنياً على احترام الإنجاز الإسلامي إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى.
إن من الأمثلة القريبة الأحداث في البوسنة، فلقد ظن العالم كله أن المسلمين في أرض البوسنة فئة قليلة مغلوبة على أمرها، لا تملك القوة ولا السلاح، ولا صلة لها بالعالم الإسلامي، وأن من السهل أن يُقضى عليهم خلال شهور، بل ربما أسابيع وربما أيام.
وكيف لا يقضى عليهم وهم يواجهون رابع جيش في العالم؟ يملك مئات الطائرات وآلاف الدبابات ومئات الآلاف من القطع، وأكثر من ثلاثمائة ألف جندي من الصرب, وهذا الشعب معروف في أوروبا كلها بالقوة والشراسة والعناد والصبر والشجاعة، فظنوا أن المسلمين سوف يكونون طعمة للآكلين في لحظة أو لحظات, ولكن تنادت الأمة الإسلامية من المشرق إلى المغرب، حتى كان منهم من ذهب بنفسه, ومنهم من ذهب إلى الدعوة إلى الله، ومنهم من ساعدهم بماله، ومنهم من ساعدهم بالدعاء وقنت المسلمون لهم وصبروا, وما زالت قضيتهم حارة ساخنة على كل صعيد، حتى عزوا بإخوانهم وصبروا وأصبح عندهم قوة ورباطة جأش وشجاعة وصبر.
بل إنني أتابع أخبارهم بدقة، وخلال الثلاثة الأسابيع الماضية كانت تتوالى بحمد الله تعالى ألوان من الانتصارات والبشارات بإخواننا المسلمين هناك.
إن القوات المسلمة في البوسنة والهرسك ربما لا تزيد على ستة أو سبعة آلاف مقاتل فحسب، منهم بضع مئات من العرب، ولكنهم أرعبوا الصرب بل أرعبوا الغرب، وكانوا يهاجمونهم في المعارك، يقول لي أحد الإخوة: يظنون أننا خمسة آلاف، ونحن لا نتجاوز خمسة أفراد, وتحقق للمسلمين من التقدم عشرات الكيلومترات، وما زالت الأخبار تنقل لنا كل ما يبهج النفس ويسر القلب بحمد الله وتوفيقه, حتى إن من آخر الأخبار أن المسلمين تقدموا قرب إحدى المدن وأظنها مدينة سرافينك أكثر من أربعين كيلو متراً، ثم قتلوا من الصرب ما يزيد على مائتين أو ثلاثمائة، ثم سيطروا على قطار تابع للأمم المتحدة, فوجدوا أن هذا القطار ينقل الأسلحة إلى الصرب تحت علم ومظلة الأمم المتحدة, فسيطر عليه المسلمون وغنموه، وكان فيه بضع دبابات وكثير من الأسلحة الخفيفة والثقيلة.
ولقد رأيت بعيني قبل يومين شاباً جاءني وهو يقول: أنا طالب في مجالس العلم، وأطلب العلم عند العلماء ولكن قتل بعض إخواني في الجهاد هناك, فأنا كل ما تذكرتهم دمعت عيني واهتز قلبي وعظم حزني، أريد أن ألحق بهم, ثم -والله- رأيته وقد قطب وجهه، ثم دمعت عيناه, لماذا يدمع؟ يدمع شوقاً إلى الشهادة في سبيل الله، وشوقاً إلى لقاء إخوانه الذين سبقوه بهذا السبيل.
وقد رأيت من المسلمين من يتخلى عن بعض ثيابه ليتبرع بها لإخوانه هناك, رأينا في إحدى دول الخليج شاباً لا يملك المال ليتبرع به، فيأتي ويتبرع بالدم لبعض المختبرات التي يعطونه مقابل التبرع بالدم، ليأخذ عشرين درهماً لا يملك غيرها فيتبرع بها للبوسنة, يقول: إذا كان إخواني يستشهدون هناك، وتنزف دماؤهم تروي ثرى تلك البلاد، فلا أقل أن أتبرع بمحجمة من دمي لإخواني المسلمين هناك.
فهذا التناصر وهذا التأييد مهما كان، ولو لم يكن من ثمرته أن يقيم دولة للإسلام كما يتوقع بعضهم هذا ليس شرطاً أن يحدث, قد يحدث اليوم، أو بعد سنة، أو بعد مائة سنة، أو متى شاء الله تعالى, لكنه جعل الغرب يرتعد خوفاً أن تتحول جزيرة البلقان كلها إلى منطقة حرب، وأن تتطور الأمور، وأن تتدخل الدول المجاورة كتركيا أو روسيا أو ألبانيا وغيرها, وهناك مسلمون في ألبانيا وكوسوفو وفي السنجر وفي غيرها من الممكن أن يتحول الأمر إلى حمام دم كما يقال.
بل تخوف الغرب أن تكون هناك دولة أصولية في تلك المناطق, ولذلك أصبحنا وأصبحتم تسمعون في الأيام القليلة الماضية أن الحديث بدأت نبراته ترتفع، وبدأت حدته تعلو للتدخل في أرض البوسنة والهرسك من قبل الأمم المتحدة أو من قبل البلاد الغربية, يوم قتل عشرات الألوف، ويوم شرد مئات من العجائز والنساء والأطفال, وعُملت الجرائم واعتدي على أعراض أكثر من عشرة آلاف فتاة مسلمة باغتصاب قصري بشع وحشي من جنود الصرب, لم يتحركوا وكانوا يرون أن الأمر خطير وأن التدخل صعب, أما اليوم فقد بدءوا يتحدثون بشكل أوضح عن إمكانية التدخل لإيقاف تلك الحرب.
إن هذا يؤكد لنا أن المسلمين مهما ضعفوا يستطيعون إذا صدقوا الله تعالى وتناصروا أن يصنعوا شيئاً, ليس شرطاً قيام دولة تحكم بالإسلام، فقد لا يتحقق هذا بالسرعة التي يتمناها المسلم، أو على الأقل قد لا يحدث هذا في مثل تلك الظروف الحالية, ولكن تفكير الغرب بالتدخل هو نتيجة للصحوة الإسلامية؛ وخشية أن يتطور الأمر لصالح المسلمين, فهذا غلب جانب التدخل على رغم المخاطر الكبيرة على الدول الغربية, فإن قتل عشرة أو مائة أو حتى ألف من المسلمين إنه بآجالهم فمن مات منهم قبل يومه فهم شهداء في سبيل الله تعالى إن شاء الله.
وقد بعثوا في الأمة روح العزة والشوق للجنة, وقد ذكرت لكم ما قد رأيت من هؤلاء الشباب, والله تعالى يقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] .
إنني أعلم أيها الإخوة أن الذين ماتوا (بالتطعيس) عندنا في القصيم على مدى أسبوعين، يزيدون على سبعة شباب, أما الذين ماتوا (بالتفحيط) فهم أكثر, ولو عملنا إحصائية للذين ماتوا بحوادث السيارات لوجدناهم أكثر بكثير من أولئك الذين ماتوا في المعارك دفاعاً عن الحرمات وذباً وذوداً عن الإسلام والمسلمين, وهؤلاء لم يعلم بهم أحد ولم يتخذ إجراء مثلاً لمنع (التطعيس) ؟؟ ولا منع الآباء أبنائهم من ممارسته أو ممارسة التفحيط, بل اعتبروه أمراً عادياً, فلماذا نمتنع أو نمنع غيرنا إذاً من الجهاد في سبيل الله: وممارسته والتدريب عليه، وإزالة حاجز الخوف أو الوهن أو التعلق بالدنيا في النفوس؟ إن إصابات كرة القدم في الملاعب تعد شيئاً كثيراً، وأعتقد أنها تُقارن ببعض الإصابات في المعارك.
الكثير يتساءلون: ماذا استفدنا مما جرى في البوسنة والهرسك؟ أو ماذا استفدنا مما جرى في فلسطين؟ وإخراج أربعمائة وثلاثين من خيرة أبناء هذه الأمة من العلماء والخطباء وأساتذة الجامعة والدعاة والمراجع العلمية الذين صاروا في مثل هذا الوضع.
إنني أقول: ليس بهذه الصورة توزن الأمور، إن الأحداث التاريخية كلها لا تخضع أبداً لهذا المعيار حتى أولئك الذين نستطيع أن نقول قتلوا في بعض المعارك, هم يوم كانوا أحياء ماذا قدموا؟ ماذا استفادت الأمة منهم؟ هم في بلادهم ماذا نفعوا؟! إن الكثير لم ينفعوا شيئاً لكنهم لما سلكوا طريق الجهاد نفعوا كثيراً وقدموا لأمتهم خيراً كثيراًَ.
فإن طريق الأمة إلى العزة والكرامة لا بد أن تمر بالتضحيات الجسام, ولو لم يأتِ إلا غرس الجدية والشعور بالذات والإحساس بالقدرة على فعل شيء ما لكفى!.
إن شعور الأمة بالاستسلام المطلق والعجز التام هو من أخطر الأمراض, وليس علاجه أن تشعر الأمة بأنها تقدر أن تفعل كل شيء؟ لا, لكنها ما دامت حية فهي قادرة على أن تفعل شيئاً.
فمثلاً: وجود استعمار أو تدخل في بلد إسلامي, ليس شرطاً في مقاومة المسلمين له أن يسقطوا تلك الدولة التي استعمرت بلادهم, أو حتى أن ينتصروا عليهم انتصاراً مطلقاً, لكنني أجزم وأعلم أن قتل ثلاثين من رجالات تلك الدولة، ولو في مقابل أضعافهم من المسلمين في ظل الوضوح الإعلامي القائم اليوم أنه سوف يغير مفاهيم الكثير من رجال السياسة الغربية, أو أصحاب القرار الذين هم أحياناً مترددون، أو هم غير متحمسين للفكرة لكنهم غير معارضين لها, فهل كتب على المسلمين أن يظلوا هم فقط باقون تحت التسليم والخضوع والخنوع والاستسلام؟! لا تقولوا المسلمون انهزموا أمة المختار في حرز الصمد إنما تلك مسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجد فإذا ذلت لباغ فكما يعبث الفأر بتمثال الأسد محمد هل لهذا جئت تسعى وهل لك ينتمي همل مشاع أإسلام وتغلبهم يهود وأساد وتقهرهم ضباع أيشغلهم عن الجلى نزاع وهذا نزع موت لا نزاع شرعت لهم طريق العز لكن أضاعوا مجدك السامي فضاعوا عطفاً أيها الأحبة وتعليقاً سريعاً على ما ذكرت، لقد ذكرتني الجنائز التي صلينا عليها الآن وبعد صلاة المغرب, بخاطر خطر على بالي حينما صلينا في ظهر هذا اليوم على شيخنا الشيخ حمود رحمة الله عليه, لقد صُلِّي في الوقت نفسه على أناس آخرين فتذكرت سبحان الله كيف أن الإنسان الفاضل الخير يكون خيراً على من يصحبه حياً أو ميتاً, فصلي على جميع الذين ماتوا وقدموا في ذلك المسجد من قبل جمع غفير، ربما يقدرون بعشرات الألوف ونالتهم بإذن الله تعالى بركة الدعاء، ونسأل الله تعالى أن يشفع فيهم جميعاً هؤلاء المؤمنين الداعين, فهذا يكشف للإنسان أن صحبة الأخيار تنفع الأحياء والأموات، ونقول: اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم يا أرحم الرحمين.
أمر آخر في قراءة الإمام حين قرأ قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] هذا يؤكد المعنى الذي ذكرته قبل، وهو أن الجهاد مفتاح الجنة, فإن الله تعالى قال للمؤمنين {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران:142] أي كيف ظننتم أنكم تدخلون الجنة قبل أن تبتلوا وتجاهدوا وتصبروا؟ ويظهر للعيان ما علمه الله تعالى من حال فلان وفلان؟(192/40)
مفتاح الجنة عند ابن القيم
وقد عقد الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- باباً في كتابه "حادي الأرواح" فيه مفتاح الجنة، وذكر فيه شيئاً كثيراً من هذا الموضوع، مثل قوله: أبواب الجنة هي الشهادة ثم السيف -أي الجهاد والقتال- وكذلك لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها من أبواب الجنة, ومفتاح الصلاة الطهور, ومفتاح الحج الإحرام, ومفتاح البر الصدق, ومفتاح الجنة التوحيد, ومفتاح العلم حسن السؤال وحسن الإصغاء, ومفتاح الصبر النصر, ومفتاح المزيد الشكر, ومفتاح الولاية المحبة والذكر, ومفتاح الفلاح التقوى, ومفتاح الإجابة حسن الدعاء, ومفتاح كل خير الرغبة في الله تعالى والدار الآخرة, ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل ثم قال رحمه الله: وهذا باب عظيم من أبواب العلم، وهو معرفة أبواب الخير ومفاتيح الشر, ولا يوفق لمعرفته إلا من عظم الله تعالى حظه وتوفيقه.
المهم نعود إلى المثال وهو موضوع الشهادة, فإن الشهادة هي مفتاح الجنة بهذا الاعتبار، بمعنى أن كل عمل يعمله الإنسان فهو مفتقر إلى التوحيد وإلى الشهادة, فإذا صح إيمان العبد وصح توحيده فإن الله تعالى يدخله الجنة على ما كان من العمل, كما في حديث عتبان رضي الله تعالى عنها وهو في الصحيح: {من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من عمل} وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أحاديث أخرى.
المهم أن كل عمل من أعمال الشريعة مفتقر إلى أصل التوحيد وأصل الإيمان؛ ليكون مقبولاً عند الله تعالى نافعاً في الدار الآخرة, أما إذا فقد الإنسان الأصل فلا ينفعه بعد ذلك ما عمل, ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان، وكان كريماً يصل الرحم، ويعتق العبيد الأرقاء، ويحسن إلى الضيوف وإلى الناس: أفينفعه ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: {لا يا عائشة إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} فذكر أنه لا ينفعه ذلك؛ لأنه لم يحقق أصل التوحيد وأصل الإيمان.(192/41)
لا إله إلا الله مفتاح الجنة
فمثلاً مفتاح الجنة هو التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والصلاة, ولذلك جاء في المسند عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مفتاح الجنة لا إله إلا الله} , وروى البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز, أن وهب بن منبه قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة, قال: بلا، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.
إن لا إله إلا الله مفتاح الجنة؛ وذلك لأنها أساس قبول الأعمال، فإن الله تعالى أغلق باب الجنة على كل إنسان لا يشهد لله تعالى بالوحدانية ولا يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة, كما قال الله تعالى في شأن الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فلا ينفع مع الشرك عمل مهما كبر, ولذلك أيضاً فإن الله تعالى أمرنا بهذه الكلمة العظيمة فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] .
فإن أساس الأعمال في الدنيا وأساس قبولها في الآخرة هو هذه الكلمة, وهذه الكلمة ليس المقصود بها مجرد التلفظ فحسب؛ فإنها كلمة تحمل معنىً عظيماً لا بد أن يدركه الناطق بها وهو معنى إفراد الله تعالى بالعبادة, ألا يعبد إلا الله تعالى, وألا يعبد الله تعالى إلا بما شرع, فلا يعبد إلا الله على وفق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وقال الله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال الفضيل بن عياض: أحسن عملاً أخلصه وأصوبه، قيل له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً -يعني لله تعالى- ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل, فلا يقبل حتى يكون خالصاً لله تعالى صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويجب أن نعلم أنه لا عز للأمة ولا اجتماع ولا رفعة ولا قوة ولا تغلب على عدوها، ولا خلاص لها من أمراضها التي تعانيها كمرض التفرق والشتات، ومرض الخوف والجبن والذل والهوان والجهل, بل وسائر الأمور المادية والمعنوية, لا خلاص للأمة ولا نجاة لها مما تعانيه أبداً إلا أن تجتمع على هذه الكلمة, فهماً لها وإيماناً بها ودعوة إليها وتحقيقاً لها في واقعها وسلوكها على مستوى الفرد والأسرة والجماعة والدولة بل وعلى مستوى الأمة كلها, فلا إله إلا الله بهذا الاعتبار هي مفتاح الجنة.
ومثله أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث أن مفتاح الجنة السيف, والمقصود -والله تعالى أعلم- الجهاد في سبيل الله تعالى, فإن الجهاد من أعظم أبواب الجنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: {واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف} كما هو عند النسائي وسنده صحيح.
إذاً مفتاح الجنة يكون بالإيمان بالله وتوحيده والإقرار له بالألوهية والربوبية، ومعرفته حق المعرفة بأسمائه وصفاته بقدر ما يستطيع الإنسان ويطيق, ثم الجهاد في سبيل الله تعالى.(192/42)
الأسئلة
أجيب عليها باختصار:(192/43)
طلب دعاء للمستضعفين
السؤال
ما يمر به إخواننا في البوسنة والهرسك من حرب وبرد وجوع، فإني أطلب الدعاء والنصر القريب المبين, وأن تحث الحاضرين على الإنفاق؟
الجواب
نسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا في البوسنة والهرسك وفي مصر وفي الجزائر وفي فلسطين وفي أفغانستان وفوق كل أرض وتحت كل سماء، يا رب فرج عن إخواننا في كل مكان, اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تفرج عن المسلمين في كل مكان, اللهم عجل بنصر الإسلام.
لقد دعوتم وأسأل الله أن يستجيب, وأطلب منكم أن تتبرعوا بما تستطيعون لإخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك, فإنهم في أمس الحاجة إلى ذلك, وهذا جمع طيب وقد جاءت أوراق كثيرة تطلب التبرع, فأنا أطلب من الإخوة من بعض الشباب أن يقوموا بجمع التبرعات وإيصالها إلى مقدمة المسجد, ومن استطاع أن يأتي بالتبرعات بنفسه أيضاً فجزاه الله خيراً: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272] .
ثم إني أشكركم على حضوركم وعنايتكم وحرصكم ومحبتكم، شكر الله لكم جميعاً وأخص منكم المشايخ وطلبة العلم وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن فنتوخ جزاه الله تعالى خيراً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(192/44)
الحكمة في الدعوة
السؤال
بعض الشباب الذين يقتنون أفلام محرمة، ماذا عليّ من النصح لهم؟ وماذا أفعل هل أفضحهم؟ أم أن أنصحهم؟
الجواب
عليك أن تنصحهم وتبذل الوسع في هدايتهم، ومع ذلك فلا يمنع إذا لم يستجيبوا أن تحاول أن تتصل ببعض الجهات التي يمكن أن تقوم بمصادرة هذه الأفلام ومنعها ومراقبة مقتنيها.(192/45)
هجر العاصي
السؤال
لنا أقارب أولاد عم لا يصلون ويسمعون الأغاني ويشاهدون الأفلام المنافية للشرع ونساء كاشفات، فإذا لم نزرهم هل نعتبر أننا قاطعي رحم, مع العلم أننا نصحناهم وقدمنا لهم بعض النصائح؟
الجواب
أما إن كان هؤلاء لا يصلون بالكلية لا في الليل ولا غيره، ولا في رمضان، ولا جمعة ولا جماعة مطلقاً مقاطعون للصلاة بالكلية طيلة حياتهم, فلا شك أن هؤلاء لا ينبغي أن يتصل بهم، إلا أن يتصل بهم على سبيل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإقامة الحجة عليهم وبذل النصح المستطاع لهدايتهم, وفي الصحيح من حديث سالم بن سعد: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} .
أما إن كانوا يصلون ويتركون، ويفرطون ويقصرون، ويصلون في البيت وما أشبه ذلك, وعندهم بعض المعاصي فإنهم يزارون وينصحون ويكثر عليهم ولا تملوا, كم دعوتهم؟ مرة واحدة, لكن نحن نريد عشراً ومائة وألفاً واصبر عليهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فهم محل للدعوة، وهذا نوح عليه السلام يقول الله تعالى عنه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] .(192/46)
التعليم الديني إلى أين يسير
السؤال
هل من كلمة حول تعديل المناهج الدينية في المراحل الدراسية وما أثرها المستقبلي؟
الجواب
نعم, المناهج لا شك أن الجميع عرفوا وسمعوا وقرءوا التعديل الخطير والكبير الذي جرى فيها, وغالب هذا التعديل يتعلق بمناهج اللغة العربية والمواد الشرعية والعقيدة والتوحيد والفقه والحديث والتفسير وما أشبه ذلك, وكذلك مواد التاريخ والجغرافيا.
ومن الواضح أيضا أن هذا التعديل يستهدف تقليل تأثر الطالب بكثير من المعاني الشرعية، أو محاولة أن ينسى بعض هذه الأشياء، ولا شك أن هذه مسئوليتنا جميعاً, فليست مسئولية لجهة فقط.
ينبغي علينا جميعاً أن نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر, وهنا يأتي دور هذه الأمة, أنت ولي أمر، لك أولاد تعرف بالضبط منهم ما هو الشيء الذي حذف, ثم ترى بعينك، ثم تلاحظ، ثم تكتب على ضوء ذلك, تكتب إلى مدير المدرسة تكتب لمدير التعليم، تكتب لتطوير المناهج، تكتب للتطوير التربوي، تكتب لوزير المعارف، تكتب للعلماء وتبذل جهدك.
أمر آخر: أن تعمل على تكميل النقص الموجود في المناهج بنفسك بتربية ولدك ومراقبته وتعليمه، وألَّا تقتصر على مجرد المادة التي تعطى له.
أمر ثالث أيضاً: أن يقوم الغيورون كما طلب أحد الإخوة قبل قليل حينما طالب بإيجاد مستشفيات نسائية وهذا مطلب سليم وحميد, وينبغي أن يوجد في كل البلاد أيضاً، وأن يكون هناك تنادٍ وتداعٍ وحرص على إيجاد مدارس أهلية تراعي مع المناهج الدراسية المفروضة أو المقررة من قبل الوزارة أن يكون هناك مناهج ودروس وعناية وتربية لهؤلاء الشباب على المعاني الإسلامية القوية، وإخراجهم إخراجاً صحيحاً, وتربيتهم على الدعوة والعلم والعبادة والجهاد.(192/47)
هدم المسجد البابري
السؤال
ما تعليقكم على الهندوس في الهند لهدم المسجد البابري هناك وواجبنا نحوهم؟
الجواب
ذكرت تعليقاً على ذلك في مناسبة وهي بعنوان "أحاديث غير عابرة" فبإمكانك مراجعته, أما مسألة واجبنا فإنه يجب على المسلمين أن يحاربوا الهندوس، وأن يعلنوا الحرب على جميع العمال الموجودين من الهندوس في هذه البلاد.
وهم في الغالب محاربون وحربهم معلنة صريحة على الإسلام وحاقدون أشد الحقد, حتى إنهم في بعض المستشفيات -وقد وقفت بعيني على هذا- يقومون بأعمال خاطئة أثناء العمليات الجراحية تؤدي بالوفاة، حتى لو كانت العملية عادية، لا يوجد خطر بالمقاييس البشرية, وقد حصل حالات وفاة بمثل هذه الأسباب.
فينبغي على المسلمين أن يقوموا بإبعاد الهندوس من المؤسسات سواء كانت مؤسسات أهلية أم شركات أم مقاولات أم غيرها, وأن لا يستخدموا إلا المسلمين بقدر ما يستطيعون.
وبالمناسبة في موضوع الهندوس توجد فتوى للشيخ عبد الله بن جبرين أرجو من الإخوة السعي لنشرها وتوزيعها.(192/48)
من مشاريع الخير
السؤال
إن من المعلوم أن الاختلاط أمر يرفضه الشرع المطهر, وحتى الطبع السليم، ولهذا فهناك حلم ولا يزال يراود الغيورين والمخلصين من أبناء المسلمين يأملون في تحقيقه في أقرب وقت ممكن, ألا وهو إنشاء مستشفيات متكاملة بكل التخصصات غير مختلطة, بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى, أليس من الأفضل جمع التبرعات لهذا المستشفى أو عمل شركة مساهمة لبناء مستشفى متكامل ويكون رجعه للمساهمين؟
الجواب
في الواقع هناك بدايات جيدة في الرياض، هناك مستشفيات نسائية وفي جدة وفي مكة وفي القصيم هناك ثلاثة مستشفيات قامت، وبوادرها طيبة ومشجعة وعلينا دعم هذه المستشفيات بكل ما نستطيع والإقبال عليها ومحاولة تلافي الأخطاء فيها.
أما جمع التبرعات لهذا العمل فلا أعتقد أنه مناسب؛ لأنه عمل تجاري, ويتطلب مجهوداً كبيراً، وهاهنا نأتي إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر, هذا الاقتراح منك يعتبر مشاركة في الخير, ولكن هذا الطبيب الذي يسمع وهو يملك أن يرسم مخططاً وأن يقوم بهذا العمل هو مسئول مسئولية كبرى, وذلك التاجر الذي يستطيع أن يتبنى هذا المشروع ويدعمه ويستفيد منه حتى من الناحية المادية ولكنه يساهم بصورة عملية في ستر عورات المسلمين والمحافظة على نسائهم وعلى أخلاقهم, وينبغي أن نثبت للمسئولين في الصحة وفي غيرها أنه من الممكن إيجاد مستشفيات نسائية خاصة بجهود أفراد فضلاً عن جهود وزارات بأكملها.(192/49)
معجزة عيسى عليه السلام
السؤال
ما معنى قولك: أن عيسى يحي الموتى، وأنه لا يحيي إلا الله؟
الجواب
هذا ما ذكره الله تعالى في كتابه على لسانه قال: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49] فإن الله تعالى هو المحيي، ولكنه أقدر عيسى؛ لأن قومه كانوا بصراء في الطب, فكانت معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام من جنس العلم الشائع في زمنهم، ولكن أضيف إليها ما لا يقدرون هم عليه؛ ليكون ذلك آية بينة على صدق نبوته ورسالته, وكذلك أن القوم الذين بعث فيهم وهم اليهود كانوا ماديين غلبت عليهم المادة والشهوة والتعلق بالأسباب, فأراد الله تعالى أن ينقطع ذلك عن أتباع الدين الصحيح.(192/50)
جهاد الأفغان
السؤال
لقد نسينا الجهاد الأفغاني وقضيته ولا نعلم ما هو السبب؟ ونريد آخر أخبار جهاد الأفغان؟
الجواب
في الواقع أن هناك عدة أمور منها: أولاً: وضع الحكومة في كابل: فإن هناك خلافاً كبيراً بين الأحزاب المختلفة على تشكيل الحكومة وطريقتها وطريقة اختيار الحاكم وما أشبه ذلك.
والحقيقة ينبغي أن نلوم أنفسنا أيضاً كما نلوم إخواننا هناك؛ فإنني أتساءل أين العلماء والدعاة والمصلحون بل وعامة المسلمين الذين وقفوا مع الجهاد الأفغاني على مدى أربعة عشر عاماًَ مضت, لماذا سكتوا الآن؟ أين نحن من خلاف المجاهدين هناك؟ لماذا لا نخاطبهم ونراسلهم ونكتب لهم ونتصل بهم ونقول لهم: احذروا أن يعاقبكم الله تعالى وأن تسقطوا من عيون المسلمين، وأن تكونوا سبباً في خذلان الناس، وفي تأخر الناس، وفي عدم قبولهم بأمر الجهاد بسبب الخلاف الجاري بينكم.
يجب أن تتفقوا ويجب أن تصطلحوا ويجب أن تتواضعوا على أمر سواء, وأن تتخلوا عن حب الدنيا وعن المغانم، وعن حب الرياسة وعن غير ذلك, وأن تجعلوا الدين ومرضاة الله تعالى وإيثار الآخرة نصب أعينكم وهذا واجب علينا جميعاً, وهو يدخل فيما ذكرته قبل قليل: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر, أي واحد منا وليس شرطاً أن يكون عالماً أو داعياً أو شهيراً؛ لا, حتى ولو كان من عامة الناس.
وقد بعث إليّ بعض الشباب وهم من المرحلة الثالثة المتوسطة بورقة بعدما فتحت كابل فيها تهنئة بالنصر وحمداً لله والشكر, وفيها دعوة المجاهدين لتوحيد الكلمة وإلى مراقبة الله ومخافته، وطلبوا مني أن أوصلها إلى زعماء المجاهدين, فلما رأيتها تعجبت منها أشد العجب وفرحت بها أشد الفرح، ثم قمت ببعثها إلى زعماء المجاهدين هناك, ليعلموا أن الأمة المسلمة تتابعهم وتعرف ماذا يفعلون، وتريد منهم أن يكونوا على مستوى المسئولية وعلى مستوى حسن الظن بهم, إن هذا واجبنا جميعاً.
كما أن هناك مسألة دخول أعداد غفيرة من المسلمين من طاجيكستان، يزيدون على مائة ألف، هربوا من جحيم الحرب الدائرة هناك بين المسلمين والشيوعيين، ودخلوا إلى حدود أفغانستان, وهذه مشكلة جديدة.(192/51)
مصير المترفين
مما يوقظ اللهُ عز وجل به الأمَمَ هو إهلاك الجيران كما أهلك الأمم السابقة لنعتبر بها، والأخذ بالشدة والبأساء والضراء، وتنوع الأحوال من قحط إلى مطر والعكس، وظهور بوادر العذاب والاستدارج.
والترف: هو الإغراق في النعم والاسترسال معها حتى تصبح كل هموم الإنسان -لا زينة الثياب والتزين والتجمل- والمترفون هم أعداء الرسل وهم سبب هلاك الأمم.
ومن نتائج الترف: الغفلة، وعبادة الشهوة، والصراع على المكاسب، والعقوبات التدريجية وضياع الدنيا والآخرة.(193/1)
الطرق التي يوقظ الله بها الأمم
دعوة لمعاونة الدعاة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لقد وافقت هذه الدعوة الكريمة التي تقدم بها الإخوة في مكتب الدعوة إليَّ لزيارة هذا البلد الكريم وافقت شغلاً في وقتي، ولكنني لم أكن لأستطيع أن أعتذر وأنا أسمع ما يقوم به الإخوة من جهد مبارك في هذا البلد، وما يبذلونه من أوقاتهم وجهودهم وإمكانياتهم في مجال الدعوة إلى الله والعلم والتعليم، وتحفيظ القرآن الكريم، وجمع الشباب على الكتاب والسنة، فرأيت أن مشاركتي في هذه الزيارة، وإن كانت مشاركةً محدودة، إلا أنها لا تعدو أن تكون تعبيراً عن ضرورة التعاون على البر والتقوى، ودعم مسيرة هؤلاء الإخوة.
وإنني أقول بهذه المناسبة: إن من واجبكم -أيها الإخوة- أن تضعوا أيديكم في أيديهم، وأن تعينوهم على ما هم بصدده، وأن تدركوا أن من علامات المجتمع الصالح أنه يبارك ويوالي كل مجهود يبذل في سبيل الله عز وجل، وهذا بحمد الله ما لمسناه وسمعناه من الإخوة في تعاون إخوانهم معهم، ومدهم لهم بما يحتاجون وشدهم لأزرهم، وليس هذا بغريب، فإن أمة الإسلام هي التي حملت مشعل الإسلام أول مرة، وهي التي تفزع، وتقوم كلما نزلت بالإسلام نازلة، فتشمر عن سواعد الجد، وتبذل ما تستطيع.
أما عن مصير المترفين؛ وهو موضوعنا في هذه الليلة، فإن الكلام فيه يطول، وأرجو الله عز وجل أن يوفقني لإيجازه بما ينفع ولا يخل.
إن الدنيا دار ابتلاء وامتحان يبتلي الله عز وجل فيها الأمم، والأفراد بأنواع الابتلاءات؛ ليعلم الله عز وجل من يشكر ممن يكفر؛ ومن رحمته وحكمته جل وعلا أنه يوقظ الأمم والأفراد من غفلتهم، بشتى الوسائل والطرائق.(193/2)
الاستدراج بالنعم
قد يستدرج الله تبارك وتعالى بعض عباده بالنعم بعد هذا كله، إذاً: الله تبارك وتعالى أهلك جيرانك وبدل عليكم الألوان، والأحوال من قحط إلى رخاء، ومن مرض إلى صحة، واستخلفكم عن غيركم، وصرف لكم الآيات ثم لم يعتبر المعتبر، ولم يتعظ المتعظ، هنا تأتي النهاية- ولننظر كيف تكون النهاية.
النهاية: هي أن الله تبارك وتعالى يمد لهؤلاء القوم في الرزق، وينعم عليهم بأنواع النعيم؛ يستدرجهم من حيث لا يعلمون، كما قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56] وقال: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] أمليت لها وهي ظالمة.
ولذلك قال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يملي للعبد، وهو مقيمٌ على معصيته، فاعلم أن هذا استدراج.
هذا هو المقياس: إن رأيت النعم تزداد والطاعة تزداد، فهذا من بركات الله تعالى، ومن بركات السماء والأرض، أما إذا رأيت النعم تزداد والمعاصي تزداد فاعلم أن ذلك استدراج قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] وقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] فيأخذهم الله عز وجل بالتدريج، حتى يسترسلوا مع هذا النعيم، فيأخذون أغفل ما كانوا، وأن الله عز وجل يأخذ الأمم على غفلة ولا يأخذ الأمم وهم في حالة صحو ويقظة، فيأخذهم إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم يلعبون، لأنهم في ألوان النعيم، كل ما يريدونه متوفر، ومع ذلك استرسلوا مع هذا النعيم، وانجروا وراءه وغفلوا، وماتت قلوبهم، أو كادت أن تموت، فأصبحت النذر من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحتهم، ومع ذلك قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فأصروا وأقاموا على ما كانوا عليه، فحينئذٍ يأخذهم العذاب، وهم أغفل ما كانوا، إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحىً وهم يلعبون، فهكذا مكر الله، وتأمل هذا مما يخيف العاقل؛ لأن الأمم إذا مرت فيها النذر كلها، واستنفذت الأسباب كلها، ولم تعتبر ولم تتعظ لم يبق إلا العذاب والعياذ بالله، فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يوقظ قلوبنا حتى يكون هذا وقاية لنا من عذابه.
الدنيا لا تساوي شيء: روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فالمرحلة مرحلة إملاء، فيملي، ويمد له ويمهله، ويعطيه الدنيا، والدنيا لا تساوي شيئاً عند الله عز وجل، وفي السنن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء} ويقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين {لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ويقول: {لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب} فالدنيا من آدم إلى قيام الساعة لا تساوي شبراً في الجنة، ولا تساوي جناح بعوضة.
إذاً: ذلك لا يمنع أن الله عز وجل أن يملي ويمهل، حتى إنه يعطي الكافر، فتأتي إلى الكافر فتجده منعم، أصح مما كان، وأغنى مما كان وأقوى ما كان، ومع ذلك يكون، والعياذ بالله مثل الشجرة العظيمة التي إذا انجعفت وسقطت سقطت مرة واحدة لا عهد له بالسعادة، ولا بالنعيم من يوم أن يغادر هذه الدنيا وهو في شقاء أبدي سرمدي على النقيض من المؤمن فإنه قد يجد في هذه الدنيا بعض الكدر، لكن إذا غادر الدنيا فارق الأذى.
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، كانت فاطمة رضي الله عنها، تقول: كما في الصحيح: {واكرب أبتاه} ترى الرسول صلى الله عليه وسلم يتغشاه الكرب وتفصد جبينه من العرق، ويغطي وجهه بخميصة، فإذا أغتم كشفها، فتقول: {واكرب أبتاه فيقول لها صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيكِ كرب بعد اليوم} فهذا آخر ما عليه، وبعدها، ينتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل الآلام، وبعدها لن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا السعادة والنعيم والسرور والفرح والروح والرضا، وإذا كنت تعلم أن عمرك في الدنيا سبعون، أو خمسون أو ستون سنة لكن لو افترضنا أنك عشت الدنيا من آدم إلى قيام الساعة كم الدنيا؟ بعضهم يقول: سبعة الآلاف سنة، ولكن هذا غيب عند الله، لكن لنفترض أنها كذلك عشرة آلاف سنة، أو عشرين ألف سنة، فقس الدنيا كلها إلى الآخرة، موقف الحساب فقط مقداره خمسون ألف سنة قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فما بالك بالآخرة.
إذاً: الدنيا لا تساوي عند الله شيء، ولذلك قد يمد للإنسان، ويعطيه، وينعم الله ويوسع عليه بألوان الرزق وإن كان عليه ساخطاً، فإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولذلك قد تجد الكافر منعماً وقد تجد المؤمن كذلك، وقد تجد الكافر صحيح الجسم والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر غنياً والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر يملك السلطان والجاه والمنزلة والبلاد العريضة وقد تجد المؤمن كذلك، فهذه الأمور ليست مقياساً، يعطيها الله تعالى المؤمن والكافر، والتقي والفاجر، لكن إذا أخذ الله الظالم لم يفلته، فهذه هي المشكلة: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فيخشى الإنسان إذا أملي ومد له، يخشى من هذا الأخذ، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .
الغفلة عند هذه الأمة: ويا أحبتي -مرة أخرى- أقول: أليس من المحزن والمخيف أن هناك أناساً كثيرين لا يسمعون هذا الكلام ويعتقدون أن المقصود به غيرهم من الناس، نحن نريد أن نتحادث، فنحن الموجودين في هذا المسجد، كم واحداً منا يشعر أنه المقصود بهذا الكلام؟ هذا هو الأمر الذي يجب أن نفكر فيه، أما أن نعتقد أن المقصود بهذا أناس آخرون غيرنا، وكأن هذا الكلام لا يعنينا، هذا معناه أننا غافلون، والغفلة هي من أسباب العذاب بياتاً وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون، فينبغي للعاقل أن يدرك أنه هو المقصود بهذا الكلام قبل غيره، وأن عليه أن يتعظ بغيره، قبل أن يتعظ به غيره، فاللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا.
أخرج الترمذي في سننه، وحسنه، وأخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: [[أن رجلاً قال والله لأجدن عهداً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولأكلمنهم، فذهب إلى المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فوجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرين في المدينة فسلم عليهم، وصافحهم وسألهم، وسمع منهم، ثم فقد عبد الرحمن بن عوف، فقال: أين عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: هو بالجرف -الجرف: مزرعة لـ عبد الرحمن بن عوف هو مقيم فيها- فذهب إليه، فلما جاء إليه وجد عبد الرحمن بن عوف قد خلع رداءه وهو يزين الأرض، ويقود الماء بمسحاته، فلما رأى هذا الرجل استحيا منه، فتناول رداءه فلبسه، ثم جاء إليه فسلم عليه، فقال له هذا الرجل: جئت أريد أن أسأل عن أمر؛ فرأيت أمراً أعجب منه، قال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال له: يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل سمعتم ما لم نسمع نحن أو علمتم ما لم نعلم، قال: لا، قال: فإذا لم نسمع إلا ما سمعتم ولم نعلم إلا ما علمتم فما بالكم تزهدوننا في الدنيا، وأنتم ترغبون فيها، وترغبوننا في الجهاد وأنتم لا تخفون إليه، بل ربما تثاقلتم، وأنتم أشرافنا وسادتنا، وأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وأئمتنا، قال له عبد الرحمن بن عوف: والله ما سمعنا إلا ما سمعت، ولا علمنا إلا ما علمت، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم يضع الحجر على بطنه أياماً من شدة الجوع كانوا يعتقدون أنهم أحسن منهم حالاً يوم أن فتحت عليهم الدنيا، ويوم أن كان -كما ذكر عتبة وسعد وغيرهما- أن الواحد منهم كان في بعض الأحوال يأتي لقضاء حاجته، فإذا حرك الأرض بيده سمع قعقعة شيء، فأخذه، فإذا يبس يأخذه ويحرقه على النار، ثم يستقوي ويشرب عليه الماء، فيستقوي عليه أياماً من شدة الجوع، ويوم أن كان صياح الأطفال، وصراخهم يسمع من وراء الشِعب من الجوع والحرمان، كانوا يحسون أنهم أقوى منهم من يوم أن فتحت عليهم الدنيا ووسع الله تعالى عليهم الرزق، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من تواضعه، وقوة؛ إيمانه كان يقول: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] وهم رضي الله عنهم لم يغيروا ولم يبدلوا، لكن كانوا يحسون بأن ذروة إيمانهم في حال الشدة كانت أقوى وأعظم.
ولذلك -أيضاً- يذكر عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أنه في مرة من المرات قُرِّبَ له عشاؤه، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم وكان فيه من ألوان الطعام ما فيه، فلما قرب إليه وضع خده على يده ثم تأمل قليلاً، ثم أجهش بالبكاء حتى رثى له من حوله، وقالوا له: ما لك يرحمك الله؟ فلم يستطع أن يخبرهم، وأمر برفع المائدة، فلما رفعت، وعادت إليه نفسه، قال: إني تذكرت أخي مصعب بن عمير رضي الله عنه كان خيراً مني، ومع ذلك مات ولم يأخذ من أجره شيئاً حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه فيه حين مات إلا بردة لا تكاد تستره، إن غطوا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطوا رجليه ظهر رأسه، يقول: فأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
فهو يخشى أن الله عز وجل لم يقبل منه هذا العمل، فرده عليه، وأنعم ع(193/3)
بوادر العذاب ومقدماته
السبب الرابع الذي يوقظ الله عز وجل به عباده: أن الله تعالى قد يظهر لهم بوادر العذاب ومقدماته وأوائله لعلهم يعتبرون، ولعلهم يرجعون ويخافون، ثم يكشف عنهم ذلك، كما قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:135] أي أنهم لما نزل بهم العذاب والرجز دعوا ربهم وقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف:134] أن يكشف عنهم الرجز والعذاب، فلما كشف الله عنهم الرجز، نكثوا عهدهم وميثاقهم ووعدهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، وهذا -والعياذ بالله- أمر قد تبتلى به -أيضاً- الأمم المنتسبة إلى الإسلام، فكم من إنسان إذا نزلت به مصيبة؛ بكى وصرخ ووعد الله عز وجل أن يتوب، فإذا مد الله تعالى له في العمر ووسع له في الرزق نسى ما كان يدعو إليه من قبل، وعاد إلى ما كان عليه من الفساد والانحراف، وكذلك الحال بالنسبة للأمم والشعوب، ولا أدل على ذلك من أن هذه النكبة التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام لما حدثت وجدت من الناس بعض الإقبال إلى الله عز وجل؛ لأنهم اعتبروها بداية عذاب، وبادرة لما بعدها، فعاد بعضهم إلى الله عز وجل، وزاد عدد المصليين في المساجد، وأصبح بعض الناس يتساءلون هل لنا من توبة، ومنهم من أحرق ما عنده من الصور المحرمة، والأشرطة الفاجرة، ومنهم من تاب من أكل الربا، ومنهم من تاب من العقوق، ومنهم ومنهم، فلما عادت الأمور واستقرت بعض الشيء رجع كثير منهم إلى ما كانوا عليه.
إن هذا في الواقع من التشبه بالكفار والمشركين؛ لأنهم هم الذين لا يعتبرون ولا يتعظون، كما قال الله عز وجل عنهم، لما ذكر عنهم أنهم إذا عذبوا بالنار ورأوا الجحيم، قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] يقول الله عز وجل: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] تصور كيف قسوة القلوب وكثافتها وغلاظتها وجبروتها: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] أي أن قلب إنسان يرى النار بعينيه، ويوقف عليها، ويسمع صوتها وزفيرها، ويرى لهبها يتقطع، ويرى سلاسلها وأغلالها، ويوقف عليها رأي العين وليس خبراً، فيقول: يا ليتنا نرد، فلو رد لعاد لما كان عليه قال تعالى: {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] .
ثم إن الله عز وجل قد يستخلف أمة بعد أمم هالكة حتى يعتبروا بمن كان قبلهم من الأمم، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] أي استخلفكم بعد أمم أهلكها ودثرها؛ لينظر كيف تعملون، أتعتبرون بخبرهم أم لا تعتبرون؟! وهذه الجزيرة -مثلاً- كم عاش فيها من الأمم، وكم قام فيها من الحضارات، وكم وجد فيها من الشعوب قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:6-9] وقال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17] كل هذه الأمم وغيرها عاشت في هذه البلاد، وعصوا وأخذهم الله عز وجل واستخلفكم في الأرض من بعدهم لينظر كيف تعملون، بل ما لنا نذهب بعيداً، ونحن نذكر أن هذه الجزيرة نفسها، وقبل سنين وقرون ليست بالطويلة أنها عاشت حياة من الفقر والرعب والخوف والشتات، كانت مضرب المثل فيه، وكان المعروف عند أهل هذه البلاد، أنها تلد ولا تطعم، فإذا ولد فيها المولود؛ ذهب ليأكل في السند أو الهند أو الشام أو مصر أو في غيرها من الفقر والجوع، ومن الخوف والشتات، حتى إذا أنعم الله علينا بهذه النعم، وأسرع إلينا بكل خير، ورزقنا رغد العيش، وأخرج لنا هذه الثروات من باطن، الأرض وأنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واستتب لنا الأمن إذا بقوم منا ينسون ويعرضون، فالله عز وجل يقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] ويقول أيضاً: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26] .
إذاً: هنا كل أرض وطأتها؛ قد مشى فيها قبلك أمم وأجيال وقرون وشعوب كانوا مثلكم، أو أشد منكم قوة، وأكثر منكم صحة، وأمتع منكم في الدنيا، تمتعوا واستمتعوا، أو أكلوا وشربوا وناموا ودرجوا ثم انتهوا وبادوا.(193/4)
تنوع الأحوال على الأمم
الأمر الثالث: هو أن الله عز وجل قد ينوع الأحوال على الأمم، أي أنه يغير حالهم من قحطٍ إلى جدب ومن قحطٍ إلى مطر، ومن مطرٍ إلى جدب، ومن غنى إلى فقر ومن فقر إلى غنى، ومن صحة إلى مرض ومن مرض إلى عافية، وهكذا ينوع الله عز وجل على ابن آدم.
لأن بعض الناس إذا ألفوا حالاً لا يعتبرون، حتى الشدة -والعياذ بالله- إذا ألفها الناس لم يعودوا يعتبرون، ولذلك يقول بعض الخبراء: أن الله عز وجل أصاب بلداً من بلاد الغرب المشهورة بالفجور والدعارة بالزلزال، فكان الزلزال يضرب في جنوب البلد، وأهل الشمال مواصلون فيما هم فيه من اللهو واللعب والخمر والرقص والفساد والفجور، فبعض الناس إذا استمرت عليه الحال حتى ولو كانت حال شدة قسا قلبه، فكيف إذا استمر عليه الرخاء فيقسو قلبه أكثر، ولذلك يغير الله عز وجل الحال على عباده، فيصيبهم بقحط، ثم برخاء، ويصيبهم بنعيم ثم بؤس، ويصيبهم بمرض ثم عافية؛ لعلهم يرجعون، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168] بالحسنات والسيئات، الحسنات: جمع حسنة وهي ما يصيب الإنسان مما يحبه من الخير والرخاء والنعيم والسرور والصحة والعافية والسلامة، والسيئات: هي ما يكرهه الإنسان من القحط والجدب والجفاف والمرض والفقر والبؤس والهزيمة فأحياناً هكذا وأحياناً هكذا.
قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95] سبحان الله، الناس إذا قست قلوبهم كأنه لا حيلة فيهم، حتى حينما يغير الله عز وجل ما بهم، ويبدل أحوالهم حالاً بعد حال، ماذا يقولون؟ يقولون: هذا أمر طبيعي! قد مس آباءنا الضراء والسراء، ما هذه سنة الحياة وطبيعة الحياة، وهذا شأن الأولين، كما قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:137-138] فيقولون: حتى آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء.
تنوع الأحوال وتبدلها ليس خاصاً بنا، فمثلاً: تأتي إلى إنسان قد بُدِّلَ نعيمه بشقاء وبؤس وعذاب، فتقول: يا أخي! تذكر، اتق الله، عد إلى الله، فيقول: يا أخي! هذا أمر طبيعي، الأمر الذي أصابني أمر طبيعي، قد مس آباءنا من قبل، قد أصاب أبي وجدي ما أصابني.
إذاً: لا داعي لأن اعتبر واتعظ، فهذا الأمر الذي وقع لي قد وقع لغيري، والأمر الذي وقع لهذا الجيل قد وقع للجيل الذي قبله وهم يقولون: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95] (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:137-138] .
ولذلك يقولون: لا علاقة لهذا الأمر بطاعة، أو كفر، وهذا -مع الأسف الشديد- أصبح نغمة نسمعها اليوم، فأصبحنا نسمع كثيراً من ضعفاء الإيمان أو المنسلخين عن الدين يشككون في أن المعاصي هي سبب ما أصابنا وما أصاب الأمم من حولنا، ويعجزون عن ربط هذا الأمر بقضية الذنوب والمعاصي، يقولون: ما علاقة كون الناس يصلون أو يصومون باحتلال بلد آخر لهم؟! ما علاقة تعاطي الربا بالعقوبات التي تنزل من السماء، أو تخرج من الأرض؟! وهذا الكلام في الواقع لا يقوله الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، لأنك لو كنت تعلم أن الله عز وجل بالمرصاد، فإنه لا غرابة أن القوم إذا أطاعوا الله عز وجل وكانوا له على ما يريد فإن الله عز وجل يكون لهم بكل خير أسرع، فيدر عليهم عيشهم، ويبسط لهم رزقهم، وينعمهم في الدنيا بألوان النعيم، وإذا عصوه وخالفوا أمره وتمردوا على رسله فإن الله عز وجل يؤدبهم بألوان المصائب والنكبات، لا غرابة في ذلك، عندما يؤمنون بالله عز وجل، لكن من لا يؤمن بالله؛ فإنه يفسر الأمور كلها تفسيراً مادياً بحتاً، ولا قدرة لعقله على أن يتجاوز حدود هذه الدنيا لينظر فيما وراءها، فهم محجوبون بحجاب كثيف عن معرفة ما عند الله عز وجل، أما المؤمنون فيقرءون القرآن، فيجدون من خلاله أن هذه المصائب والنكبات إنما هي بذنوبنا وبما كسبت أيدينا قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] .(193/5)
الأخذ بالمحنة والشدة والبأساء والضراء
السبب الثاني: هو أن الله عز وجل قد يأخذ الناس بالمحنة والشدة والبأساء والضراء لعلهم يتذكرون ويرجعون إلى ربهم كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42-43] وقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} [الأنعام:42] البأساء من البؤس، وهي الشدة والفقر وقلة ذات اليد، والضراء من الضر والآفة والمصيبة والمرض وما شابه ذلك، فأخذهم الله عز وجل بالفقر، والشدائد، وبالآفات والأمراض، لعلهم يتضرعون ويشعرون بحاجاتهم إلى الله عز وجل، فينكسرون بين يديه، لكنهم لم يفعلوا بل قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، ويقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] فهكذا سنة الله عز وجل في كل القرى والأمم، وفي كل الشعوب إذا أصروا وكذبوا؛ عاقبهم الله عز وجل بالبأساء والضراء، وهذا من رحمته بهم، أنه لا يعاجلهم بعقوبة تستأصلهم وتنهيهم، كلا.
ولا يمهل لهم، ويملي لهم في النعيم منذ البداية حتى يغتروا، كلا.
بل البداية أن الله عز وجل قد يأخذ جيرانهم، فإذا لم يتعظوا، أظهر الله عز وجل لهم بعض الشدة وبعض البأساء لعلهم يضرعون.
يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] والسنين جمع سنة: وهي القحط والجدب والسماء لا تمطر، والأرض لا تنبت حتى تموت الزروع والضروع والحيوانات، ويصيب الناس القحط والجفاف هذه السنين: {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130] بسبب القحط والجدب، وبسبب نزع البركة، فتنقص الثمرات عندهم: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130] ويقول في آية أخرى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] هذا نموذج مما أخذهم الله به من الآفات: {وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] ولكن مع ذلك كله استكبروا فهذه هي المسألة الثانية التي يأخذ الله عز وجل بها الأمم لعلهم يتضرعون، لأن هذا ليس عقاباً نهائياً ليبيدهم ويستأصلهم عن آخرهم، بل هذا عقاب مؤقت لعلهم يرجعون، ويتذكرون، فإذا أصروا واستكبروا، كما استكبر الذين من قبلهم، كما فعل قوم فرعون وسواهم، فإن الله عز وجل يعاملهم بأسلوب آخر.
فإن الله عز وجل، قد يبتلي الأمم بالأمراض، وكم من أمة ظهر فيها من الآفات والأمراض ما لم يكن يظهر فيمن قبلهم، ولو نظرنا في واقعنا الآن لوجدنا أن الناس أصبحوا يتسامعون بأمراض لم يكن الأولون يعرفونها.
ما يسمى بالجلطة: التي تصيب الإنسان وهو نائم أو قاعد أو يأكل أو يشرب في لحظة فينقل مغمى عليه، ثم غالباً ما يخرج من سرير المستشفى إلى نعش الموتى، كذلك لم يكن الناس يسمعون بالسرطان ولا يسمعون بالهربس والإيدز وغيرها من الأمراض الجديدة التي وقف الطب حائراً أمامها.
فهذه ألوان من الآفات والمصائب، والمحن التي يأخذ الله بها الناس في كل زمن، ولها سبب كما سوف يتضح، وأحياناً يأخذ الله عز وجل الأمم بنقص البركات والثمرات، وهذا -أيضاً- مشاهد.
والأمم الإسلامية اليوم بالذات تعيش تأخراً وتراجعاً في مسألة الاقتصاد، في يوم من الأيام كان عند الناس ما يسمى بطفرة اقتصادية، ولذلك كثير من الناس قاموا بمشاريع ومؤسسات وشركات، وأسسوا وعمروا وبنوا، لكن تأخر ذلك وتراجع كثيراً، وأنت لو تأتي إلى إنسان اقتصادي لقال لك: ذلك بسبب أمور، وذهب يعدد لك أسباباً كثيرة، وقد تكون هذه الأسباب صحيحة لكن نحن نقول وراء هذه الأسباب كلها السبب الشرعي قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] إذاً: تراجع الاقتصاد، والأمراض، والمصائب، واختلال الأمن كل ذلك من الأمور التي ينبه الله تبارك وتعالى بها عباده لعلهم يرجعون.(193/6)
إهلاك الجيران للعبرة بهم
فمن الطرق التي يوقظ الله بها الأمم، والأسباب التي يدفع بها عنها النقم أنه عز وجل يهلك جيرانهم حتى يعتبروا بهم، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] فانظر إلى هذه الأمم والدول والشعوب التي أهلكها الله عز وجل، وتبصر بسبب هلاكهم حتى تتجنب هذه الأسباب، فالسعيد من وعظ بغيره، ولذلك كان من دعاء بعض الصالحين، أنه كان يقول: اللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا، لأنه كما أن الله عز وجل يهلك غيرنا لنعتبر، فلا مانع أن يهلكنا الله عز وجل، ليعتبر بنا غيرنا، فإنه ليس بين الله عز وجل وبين خلقه سبب إلا التقوى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] وهذا السبب من الأمور التي قد رفعها الله عنا حتى الآن، فإننا نعلم في هذه الأزمنة المتأخرة أن هذه البلاد لا تزال محفوظة من المصائب العامة، والنكبات الشاملة على حين أن الأمم تتخطف من حولنا وكل يوم نسمع عن نكبة.
فلسطين: قبل عشرات السنين سمعنا مأساة فلسطين، وكيف أن اليهود احتلوها ودخلوها، وشردوا أهلها ومزقوهم كل ممزق، وفعلوا بهم الأفاعيل حتى أصبح الفلسطينيون في أنحاء الدنيا، لا وطن لهم، ولا مستقر لهم بل هم مشردون، إما في أنحاء الدنيا، وإما مشردون في خيام ومخيمات تجود بها عليهم المنظمات العالمية، وشأنها كما قيل: في خيمة من نسيج الوهم لفقها ضمير باغٍ على الإسلام يأتمر أوهى وأوهن خيطاً من سياسته لو مسها الضوء لافقدت به الستر تعدوا الرياح بها نشوى مقهقهة كأنها بشقوق الرمل تنحدر لا شيء يقيهم من الحر والقر، والريح ويتكففون هذه المنظمات العالمية أن تمدهم بما يحتاجون إليه من الكساء أو كسرة الخبز أو غيرها.
أفغانستان: وبعد ذلك سمعنا بمآسي المسلمين في بلاد أخرى، كما سمعنا بمأساة المسلمين في أفغانستان، وكيف فعل بهم الروس وعملاؤهم من أهل البلد الأصليين، وكيف أن أكثر من مليوني مهاجر خرجوا هائمين على وجوههم لا يدرون إلى أين، أكثر من مليونين في باكستان، وربما عدد كبير في إيران، ودع عنك أعداداً غفيرة من الأفغان الموجودين في أنحاء الدنيا، حيثما يممت من بلاد الله وجدت ذلك المسلم الأفغاني لا مستقر له، ولقد ألتقيت بأحد كبار قادتهم منذ زمن ليس بالقصير في مناسبة الحج، وهو من الشيوخ، فكان يقول لي: والله إننا نعلم أنه ما أصابنا الذي أصابنا إلا بسبب تقصيرنا في أمر الله، وتركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لبنان: بعد ذلك جاءت، بل قبله وبعده ومعه، جاءت قضية لبنان، وتسامع الناس كيف أن الله تعالى أحرقها بنار الحرب التي لا تبقي ولا تذر، واستمرت على مدى أكثر من عشر سنين، حرب ضارية طاحنة أتت على الأخضر واليابس، وهذا البلد الذي كان ميداناً للسياحة بالأمس، وكان الناس يذهبون إليه في الاصطياف وللعلاج ولغير ذلك، وكانت مكان طباعة الكتب والتصدير إلى غير ذلك، هذا البلد أحرقتها الحرب، فأصبحت قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، ولا تزال الحرب تفعل فعلها في هذا البلد، ومثل ذلك في كشمير وغيرها، ولعل آخر العنقود وليس بالأخير هو ما جرى لـ الكويت.
ومن كان يظن أن ما جرى للكويت كان يجري، لو كان بالقياس العقلي، والنظر المجرد أن يقال لك: أن أهل الكويت وهم فيما هم فيه من النعيم والرفاهية والقصور الفارهة والأموال الكثيرة والأمن والأمان والرخاء ورغد العيش؛ لو قيل لك قبل أسبوع من الحادثة أن ما جرى سوف يجري لعددته ضرباً من المحال، ومن الطريف أنه في اليوم الذي يتلو، بل في اليوم الذي حصلت فيه الأزمة صلى معي رجل من الناس، فقال لي: هل سمعت ما جرى في الكويت؟ قلت له وماذا جرى؟ قال لي: إن العراق قد اجتاح الكويت، وطرد حكومتها وأهلها واحتلها، فوالله الذي لا إله غيره إني ما تجرأت على نشر الخبر أياماً، إلا أنني قلت: أن هذا أمرٌ فيه بعد، وأخشى أن يكون الذي أخبرني لم يتثبت، فلا أحب أن أتسرع بنقل الأمر، وقد لا يكون صحيحاً، لأن الأمر كان في غاية الغرابة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] فهذا سبب من أسباب إيقاظ الله عز وجل للأمم لعلهم يرجعون.(193/7)
الترف
ومن هنا أنتقل إلى مسألة أخرى، أو نقطة أخرى وهي: ما معنى الترف إذاً؟ أقول: معنى الترف باختصار كما سمعتم الآن، ورأيتم: أن الله عز وجل قد يوسع على الناس ويمدهم ويستدرجهم بالنعم؛ فحينئذٍ إذا وسع الله على الناس من الرزق انقسموا إلى قسمين: قسم شكروا هذه النعم، وعرفوا قدرها، فعبدوا الله تعالى بها، وصرفوها فيما يرضيه سواء كانت مالاً، أو سلطاناً أو منصباً أو جاهاً أو ديناً أو غير ذلك، فهؤلاء لهم الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص: {نعم المال الصالح للعبد الصالح} فهؤلاء سعداء في الدنيا بما آتاهم الله عز وجل وسعداء في الآخرة.(193/8)
المترفون سبب هلاك الأمم
إن هؤلاء المترفين هم الذين يصرون على كفرهم، ويعارضون دعوة الأنبياء والمرسلين، ويحذرون -أيضاً- الناس من ذلك كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:33-34] وهم -أيضاً- سبب هلاك الأمم والشعوب وذلك لأنهم يكفرون ويتسلطون كما قال الله عز وجل {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] في الآية ثلاث قراءات القراءة الأولى، أَمَرْنَا مترفيها، قيل معنى أمرنا: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وبالتقوى ففجروا، وبالإيمان فكفروا؛ فاستحقوا العقوبة فدمرهم الله عز وجل، نُقِلَ هذا القول عن ابن عباس وغيره، وقيل معنى أمرنا يعني أمرناهم أمراً قدرياً بالفسق والفجور، أي أن الله تعالى كتب عليهم ذلك، لما علمه منهم من أنهم متأهلون للفجور والفساد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] حتى إذا حق عليهم القول بالمعصية والفجور دمرهم الله تبارك وتعالى تدميراً، أمرنا مترفيها، وفي قراءة أخرى أمّرنا مترفيها وهذه قراءة أبي العالية رحمه الله فإنه قرأها أمّرنا مترفيها، أي جعلناهم أمراء وسلاطين وحكاماً ففسقوا في هذه القرى فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا.
إذاً إذا أراد الله عز وجل إهلاك أمة أو شعب أمّر مترفيها وولاهم وسلطهم، حتى يفسدوا ويفسدوا فحينئذ يحق القول عليهم وعلى الأمم التي جارتهم، فدمرهم الله تدميرا، لأن الله لم يهلك الظالمين فقط بل قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] القرية بأكملها حتى الفلاح والمزارع، وحتى التاجر، وحتى الكبير والصغير، والرجل والمرأة والطفل كلهم، بل حتى الحيوانات، وهذه سنة من سنن الله عز وجل: أن الله إذا أهلك قوم أهلكم عن آخرهم ثم يبعثون على نياتهم، لماذا ذلك؟ لأن الله تعالى يهلك الأمم لأنها تستسلم للمترفين، لماذا لم تقاوم؟ لماذا لم تقم بالواجب؟ لماذا لم تأمر بالمعروف؟ لماذا لم تنته عن المنكر؟ إن الله يسلط لا المترفين على الأمم؟ إلا إذا كانوا ظالمين، فإذا ظلمت الشعوب، سلط الله تعالى عليها من هو أظلم، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] أي نجعل بعض الظالمين أولياء، ولاة على بعض؛ بما كانوا يكسبون.
كما تكونوا يولى عليكم: لما كانت الأمم المصرية في عهد الفراعنة الأولين أمماً ظالمة فاجرة كافرة، فيها أمثال قارون وهامان وسائر المجرمين، سلط الله تعالى عليهم مثل فرعون الذي يسومهم سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويستحي نسائهم، ويأخذهم بالقهر والغلبة والتسلط، ولما كانت الأمم فيها أمثال عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، قيض الله تعالى لهم أمثال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يسوسونهم بسنة الله تعالى وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ الحق لضعيفهم من قويهم {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] ففرعون، إنما كان فرعون لأنه حكم قوماً ظالمين، كما قال الله عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ولذلك جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: ما شأن الناس اتفقوا على أبي بكر وعمر واختلفوا عليك، فقال: لأن أبا بكر وعمر كانوا يحكمون مثلي وأنا أحكم مثلك، فلذلك اختلف الناس عليَّ.
إذاً بينهم ترابط وعلاقة وشيجة {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] القراءة الثالثة بالمد {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] أي كثرناهم كما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأبي الدرداء، ونقل -أيضاً- عن ابن عباس وعكرمة: أن معنى أمرنا وآمرنا أي كثرنا مترفيهم، أي: أن الترف لم يكن في فئة خاصة، ولم يكن في القصور فقط، ولم يكن في الأغنياء فقط، إنما صار الترف شأناً عاماً للأمة، كما حصل في قرون كثيرة من التاريخ كما حدث للرومان -مثلاً- وكما حدث للمسلمين في الأندلس وكما حدث للأمم الإسلامية في هذا العصر خاصة، وفي الدول التي وسع الله عز وجل عليها، وأغناها بالمعادن وسواها، فإن هذا الترف لم يعد مقصوراً على جهة خاصة، أو طبقة خاصة، بل تحول الترف إلى ديدن للشعوب كلها، فأفسد الشباب والفتيات، وخرب الضمائر، وأمات القلوب، وأفقد الناس الرجولة والشهامة والمروءة والإنسانية التي كانت توجد عند الإنسان العادي، حتى ولو كان إيمانه غير قوي، وكل هذه المعاني المذكورة في الآية محتملة، فالمهم أن الترف هو سبب هلاك الأمم والشعوب، والمترفون: هم الذين يقودون ركب الأمم إلى هاوية الفساد والضياع والانحراف.(193/9)
المترفون
صنف آخر من الناس كفروا بهذه النعم واستعملوه بما يغضب الله عز وجل، واسترسلوا معها ونسوا حق الله فيها واغرقوا، فهؤلاء هم المترفون.
إذاً الترف ليس مظهراً فقط، ليس الترف أن تأكل حسناً، أو تلبس حسناً، أو تركب حسناً أو تسكن حسناً لا ليس هذا هو الترف، ولذلك في الحديث الصحيح، الذي رواه أهل السنن وغيرهم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشعث الرأس عليه ثياب بذلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {من أي المال آتاك الله، فقال له: من كل المال يا رسول الله! من الإبل والبقر والغنم والورق والذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} فما دام أن الله أعطاك من أصناف المال، أظهر هذا، والبس حسناً واجعل نعلك حسناً، وثوبك حسناً، ومركوبك حسناً، وهيئتك حسنة، وفي صحيح مسلم: {أن أصحاب النبي سألوا وقالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله جميل يحب الجمال} .
إذاً ليس الترف أن يكون ثوبك جميلاً أو سيارتك فارهة، أو فخمة، ليس هو بذاته الترف بل الترف، ما وراء ذلك.
فالترف هو: الإغراق في النعيم والاسترسال معه حتى إنه يصبح همك هو النعيم، يعني الذي سيارته فارهة لكنه يستخدمها في الطاعة ذهاباً وإياباً في طاعة الله عز وجل، فهذا جعلها بمنزلة الحمار الذي يركبه ويطؤها بقدمه، ويستخدمها ولا يخدمها، لكن الذي سيارته أصبحت كل همه، فهو من حين تطلع عليه الشمس، وهو يشتغل في السيارة وفي تغسيل العجلات، وتصليحها، وكل يوم يخرج بطريقة جديدة واليوم ستائر للسيارة وتغسيلها، ولو حسبت الوقت الذي يقضيه في تغسيل السيارة يمكن يقدر على الأقل خمس ساعات في اليوم، أذكر أنني ما مررت من عند شاب من أمام بيته إلا وهو يغسل سيارته، إما في العجلات أو في الزجاج أو في السيارة أو في المقدمة أو في المؤخرة، هكذا أصبحت السيارة ليست مجرد آلة، أو وسيلة يستخدمها فيما يرضي الله، لا! بل أصبحت هماً يهيمن عليه، وهذا موجود عند كثير من الشباب أي التفاخر بالسيارات وألوانها، ومراكبها والدوران بها، واستخدامها في معاصي الله عز وجل، فهذا يدلك على جانب من الترف، وهو أن تصبح الدنيا وأن تصبح النعم هدفاً ويسعى إليه الإنسان، يسعى في تحصيله بكل ما يستطيع، فهؤلاء هم المترفون وهذا هو الترف.(193/10)
المترفون هم المعارضون للرسل
لم يرد الترف في الكتاب والسنة، إلا على سبيل الذم، أما في السنة: فإن الترف لم يذكر إلا قليلاً، أما في القرآن الكريم فقد ذكر الترف كثيراً بأنه من صفات الكافرين والمكذبين، فالمترفون في القرآن الكريم هم المعارضون لدعوة الرسل، وهم المعارضون للحق والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟! لأنهم يريدون أن يسترسلوا فيما هم فيه من النعيم، ولا يريدون أحداً أن يكدر عليهم شيئاً من عيشهم، ولذلك قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فالمترفون يتمسكون بعوائد الآباء والأجداد، ويرفضون دعوة الأنبياء والمرسلين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] فالمترفون الأغنياء الذين يفتخرون بأموالهم، أو جاههم أو سلطانهم أو منزلتهم أو ما وهبهم الله عز وجل، يرون أن هؤلاء الذين يدعونهم إلى الله وإلى الدار الآخرة، أنهم مجرد أفراد عاديين لا قيمة لهم ولا شأن، فكيف نحن نطيع هؤلاء؟! ولذلك يتهمون الرسل بأنهم بشر مثلهم فيقولون: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:34] .
إن الرسل فعلاً بشر، لكن هل هم بشر مثلهم؟ لا! ليسوا مثلهم، هم مثلهم في الأجساد، لكنهم يختلفون عنهم اختلافاً كبيراً في القلوب والعقول والأفهام والإدراك، فهم ليسوا مثلهم كثيراً، لكنهم يقولون: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون:33] بل هم يقولون أكثر من هذا: يأكل مما تأكلون، -بعض ما تأكلون- وأنتم أحسن أكلاً من هؤلاء، هذا يأكل الخبز اليابس، أو يأكل ما يقيم أوده وأنتم تأكلون ألوان الطعام وأطايبه، وكذلك الشرب هو يشرب الماء البارد القراح، وأنتم تشربون من ألوان المشروبات الجائزة والمحرمة ما لا يستطيع هذا الحصول عليه.
فلذلك المترفون دائماً هم المعارضون لدعوة الأنبياء والمرسلين، وهذا يدلك على خطورة الترف وأثره في حياة الأمم والشعوب، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:45-46] الحنث العظيم: هو الشرك بالله، وهو أكبر الذنوب، سئل النبي صلى الله عليه وسلم: {أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك} .
إذاً أعظم الذنوب هو الشرك بالله عز وجل، وهو الحنث العظيم، فالذين يصرون عليه هم المترفون؛ لأنهم يظنون أنهم باقون، سبحان الله! قست القلوب، والله إن الإنسان يعجب أن الدنيا لم تشهد غيرنا، ولم تشهد قروناً وأجيالاً وأمماً عظيمة، كانوا أشد منا قوة، وأكثر أموالاً وأولاداً، ووسع الله عز وجل عليهم، بعضهم عاشوا مئات السنين، وبعضهم عاشوا في القصور الفارهة التي لا نستطيع أن نصنعها اليوم، والأموال الطائلة التي لا عهد لنا بها، ومع ذلك أخذهم الله عز وجل، فكيف يغفل الإنسان؟! كيف يظن أنه مخلد؟! {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:38-39] أنت تعلم من أين خلقت؟! هل تعلم أن أصل الخلقة التي ركبت منها تسوِّغ وتهيئ لك أنك ترزق النعيم في الدنيا وفي الآخرة بدون عمل أبداً، مخلوق من شيء معروف، خلق من ماء دافق، من مني يمنى، مخلوق من شيء ضعيف وأنت تعود إلى ضعف -أيضاً- إذاً لا قوة لك إلا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.(193/11)
نتائج الترف في الأمم
وأنتقل إلى نقطة ثالثة وهي: نتائج الترف في الأمم، أقول: لا شك أن للترف نتائج خطيرة على نفسيات الأفراد وعلى واقع الأمم والشعوب والمجتمعات ومن ذلك:(193/12)
ضياع الدنيا والآخرة
ثم الأثر والنتيجة النهائية الخامسة هي: ما يتلخص في ضياع الدنيا والآخرة على أولئك المترفين، هذا مصيرهم فوات الدنيا والآخرة، إذا نظر في يديه لم يجد فيهما شيئاً، الدنيا كلها ضاعت والآخرة كذلك لحقتها، أما ضياع الدنيا فيكون بأحد أمرين: إما أن يسلب الإنسان دنياه، وهو صحيح يرزق، فيأخذ الله عز وجل ما أعطاه من مال أو جاه أو سلطان أو منصب أو قوة أو صحة أو شباب، يأخذ الله عز وجل ذلك منه ويعوضه عنه بفقر أو بمرض أو بضعف أو بخوف أو بذل أو بسجن أو بغير ذلك، فيسلب الله الدنيا من هذا الإنسان ويبقى بلا دنيا، وهذا كثير، وإما أن يبقى الإنسان، ثم يسلبه الله عز وجل من دنياه، أي أن يسلط الله عز وجل عليه الموت، فيأخذه من بين أهله وولده وحشمه وأعوانه وإخوانه، ويبقى في قبره وحيداً فريداً، ليس معه إلا عمله الصالح، ولابد من أحد الأمرين إما أن تفارق الدنيا أو تفارقك الدنيا وكلاهما أمر -كما يقال- أمران أحلاهما مر، خاصة بالنسبة للمتعلق بالدنيا.
حكايات عن ضياع الدنيا: أما مسألة الموت، فيحكى أن ملكاً من الملوك بنى قصراً وشيده وزينه، وقال: لجنوده من عاب منه شيئاً فأصلحوه، وأعطوه درهمين، أي إنسان يقدم ملاحظة على هذا القصر، فأصلحوا الملاحظة، وأعطوا هذا الإنسان درهمين على أنه دلنا على عيب في القصر، فجاء رجل فقير ضعيف في آخر الناس، فقال: هذا القصر ليس فيه إلا عيبان فقط، قالوا: ما هما، قال: إن هذا القصر يتهدم ويموت صاحبه -فالقصر يتهدم وصاحبه يموت- والبقية تمام ما شاء الله تبارك الله، فأتوا للملك وأخبروه، فبكى الملك، وذكر حاله، وخرج من هذه الدنيا؛ حتى كان من الزهاد العباد المعروفين.
ومما يحكى في ذلك -أيضاً- أن رجلاً من الصالحين العباد مر على باب ملك من الملوك، مشيد مزين فنظر إليه، وقال: باب حديد، وموت عتيد، ونزع شديد، وسفر بعيد، هذا إذا كان المال حلالاً، فما بالك إذا كان المال حراماً، ما بالك إذا كان من حظوظ اليتامى والفقراء والمساكين، أو كان مال شبهة، أو كان ربا أو سرقة، أو غصب أو غش أو نهب؛ كيف ترى يكون العقاب؟ ويحكى أنه لما رجع محمد محمود بن الملك شاه، وكان قد حاصر بغداد وهو حاكم قوي جبار فحاصر بغداد، وآذى أهلها واعتدى عليهم، ثم رجع إلى همذان، فأقام بها فأصابه مرض السن ولم ينج من هذا المرض، وتوفي في ذي الحجة، وقبل وفاته بأيام: طلب أن يجمع عنده كل ما له من الخدم والحشم والأعوان والجيش وغيرهم، فجمع له الجنود بكامل هيئتهم وزينتهم وسلاحهم، وجمع له عبيده، وجمع له الجواري الحسان وجمع له الأولاد وجمع له الأموال جمعوا كلهم له في صعيد واحد فلما نظر إليهم صفق بيديه وبكى، وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] لو كنت أستطيع أن أفتدي ملك الموت بعبيدي لأعطيتهم إياه، أو بمحظياتي لأعطيتها إياه، ولو كان يقبل مني ملكي لسلمته له، لكن لا حيلة في ذلك، ثم بكى، وأخرج كثيراً من هذه الأموال، ثم قدم إلى ما عمل.
هكذا الإنسان في لحظاته الأخيرة، يظهر على حقيقته أصغر بكثير مما يتصور الإنسان، يكبر في عين نفسه -أحياناً- فينتفخ ويعظم نفسه ويعظمه الناس، ويرى أنه، وأنه، وأنه، لكن في النهاية يجد أنه لا شيء، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] يقول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون:64-65] إذاً: المترفون لهم موعد، وذلك الموعد إما أن يأتوه هم، أو يأتيهم هو لا محاله، وقد يسلب منهم الأمر؛ حتى وهم في حال الحياة، فيبتليهم الله عز وجل بزوال ذلك، كما يروى أن بنت النعمان -وهو ملك الحيرة- دخلت على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال لها: أخبريني عن حالكم كيف كنتم وكيف صرتم، فقالت: أطيل أم أقصر؟ فقال لها: بل اقصري -اختصري أوجزي الكلام- فجعلت تقول: لقد أمسينا وما حي من أحياء العرب إلا وهو يرجوا برنا، ويخاف منا، فأصبحنا وما من حي من أحياء العرب إلا ونحن نرجوه، ونخافه، لأنه ليس بأيديهم شيء، لا مال، ولا قوة، فأصبحوا يرجون الناس ويخافون من الناس أيضاً هذا حالهم باختصار ثم أنشدت تقول: وبينا نسوس الناس في كل بلدة إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف فبعد أن خرجت الدنيا من يدها، تأفف على الدنيا، وهذا يذكرنا بما كان يقوله المعتمد بن عباد لما سلب، وكان في سجنه، وفي قيده، ورأى بناته في الذل كان يقول: من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالآمال مغروراً لا تغتر بدنياك، بما لك، بكلام الناس، بالسمعة، بالجاه، بالمنزلة كل هذه الأشياء والله الذي لا إله غيره إن لم تغادرك هي، فإنك سوف تغادرها أنت، مالك إلا أحد حلين، فانظر -بارك الله فيك لنفسك، واحتفظ لنفسك، واعمل لنفسك عمل العقلاء العارفين.
حال كثير من أصحاب الأموال: ونحن نجد اليوم كثيراً من أصحاب الأموال الهائلة الطائلة الذين كانوا يعدون ممن يسمون بالملايرة -مليونير- يملك أموالاً هائلة، وبعد ذلك تصيبه نكبة، فتاتي على كل ماله -يجتاح ماله- وقد يموت في السجن لأنه مطالب بأموال هائلة لا يستطيع سدادها وكم نجد من كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها، من الشاهات والرؤساء والسلاطين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود:102-103] فهذا ضياع الدنيا، وثقوا أيها الإخوة إن الذي يشرب الماء البارد، ويأكل كسرة الخبز في ظل ظليل، ثقوا أنه أسعد في دنياه، وأحلف بالله الذي لا يحلف إلا به على ذلك، إنه أسعد بدنياه من كل هؤلاء الذين يخيل إليك أنهم سعداء بأموالهم، وجاههم ومنزلتهم، لكن يجد الإنسان في نفسه من العناء والشقاء والركض وراء الدنيا وحطامها؛ ما لا يجده ذلك الفقير المتواضع القانع بما أعطاه الله عز وجل قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] .
ربنا ظلمنا أنفسنا، واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(193/13)
العقوبات التدريجية
والأثر الرابع من أثار النزف هو: العقوبات التدريجية، وهي من آثار الماضي، ومن آثار الزنا والربا، والشهوة والتنافس على الدنيا، وعبادة المادة، فمن آثارها بداية العقوبات التدريجية، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أصحابه تحذيراً صريحاً، قوياً، واضحاً، صحيحاً من ألوان العقوبات، ففي الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وهو حديث صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: {يا معشر المهاجرين خمس خصال إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن} ما هي هذه الخصال الخمس؟ {لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا} والفاحشة، والزنا، واللواط والشذوذ الجنسي بألوانه إلا ظهرت فيهم الطواعين والأوجاع، الطواعين: الهربس، الإيدز، أمراض الزهري، السيلان، ما يسمى بالأمراض الجنسية، وهي من أخطر وأفتك الأمراض الموجودة اليوم، وهي أخطر من جميع الأمراض الموجودة التي عرفتها البشرية، فهذه آثار الفواحش والإعلان بالفواحش وقال: {ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان} نقصوا المكيال والميزان -هذا أيضاً- من النزف، أي كون الإنسان أظهر الفاحشة هذا من النزف، كونه أنقص المكيال والميزان هذا من شدة تعلقه بالدنيا؛ لأنه مع أن الله عز وجل وسَّع عليه تجده بخيلاً، شحيحاً بالمال لا يخرجه إلا في الحرام، ولا ينشط في إخراجه إلا في الحرام على مائدة قمار، أو مكان خمر أو لهو، فقد ينفق الأموال الطائلة لكن تطلب منه مائة ريال لجمعية خيرية، أو لمساعدة مجاهد، أو لأسرة محتاجة، أو لعمل طيب؛ لربما بخل بها أو أعطاك إياها وهو يمن عليك بذلك، فهذا من آثار النزف والبخل والشح والتعلق بالدنيا، حتى ينقص الإنسان المكيال والميزان فيعامله الله بنقيض قصده، فيبتلى بشدة المؤنة والسنين {إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عز وجل عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم} يعني من الأرض، من المال، من الناس وهذا حاصل الآن بالنسبة للمسلمين، كما هو معروف، مشاهد، {وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله عز وجل بأسهم بينهم} وهذا الحديث: ناطق بما عليه واقع المسلمين اليوم في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وفيه دليل على العقوبات التي يبتلي الله تعالى بها هذه الأمة إذا أعرضت عن كتاب الله عز وجل، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن زينب {أن النبي صلى الله عليه وسلم نام يوماً ثم استيقظ فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب، قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث} انتشر النزف بين الناس، واظهروا الفاحشة، وبخسوا المكيال والميزان، وحكموا بغير كتاب الله، ومنعوا زكاة أموالهم، ونقضوا عهد الله وعهد رسوله، حينئذ حقت عليهم عقوبات الله عز وجل ما دام قد فشت فيهم هذه الأمور، وإن كان فيهم قوم صالحون قليل، ولذلك يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] هذان شرطان: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] يعني ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم موجود فهو أمنة لأمته، فإذا مات بقيت سنته، فما دامت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة في الأمة فهي آمنة لها من العذاب، ما دام الناس يعملون بالكتاب والسنة هذا أمنة لهم، ما كان الله ليعذبهم وهم يعملون بالكتاب والسنة، ولذلك أنصح إخواني بالحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في أدق أمورنا: في صلاتنا، في ثيابنا، في هيئاتنا، في أشكالنا في دخولنا في خروجنا نحرص على أن تكون السنة خير رفيق لنا في كل هذه الأمور، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أكثر من قول {استغفر الله وأتوب إليه، ربي إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} بما يدفع الله تعالى عنا العقوبة والعذاب؟ باستغفار الصالحين قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} لكن ما بالك إذا أهمل الناس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهملوا العمل بها وبالقرآن، ثم مع ذلك لجوا في طغيانهم يعمهون، حتى إنهم لا يستغفرون ربهم عز وجل، قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] حينئذٍ يحق عليهم عذاب الله لا محالة، وإن وجد فيهم الصالحون، وإن وجد الأخيار، وإن وجد الذين يقومون الليل، ووجد الذين يصومون النهار فإن عذاب الله عز وجل إذا نزل أخذهم جميعاً، ثم يبعثون على نياتهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة وغيره.(193/14)
عبادة الشهوة
النتيجة الثانية من نتائج الترف: هي قضية عبادة الشهوة، سواء في ذلك شهوة البطن، أم شهوة الفرج، وهذه القضية ظاهرة جداً، فإننا نجد أن المترفين من الرومان القدماء، واليونان كانوا يهتمون أشد الاهتمام بشهوات البطون والفروج، حتى إنني قرأت في بعض الكتب أنهم من شدة نهمهم وشهوتهم إلى الطعام كانوا يأكلون أنواع الطعام، ثم يتقيئونها من أجل أن يتلذذوا بأكل ألوان الطعام الطيب، وقل مثل ذلك بالنسبة لتلذذهم بالمشاهد المحرمة والفواحش والشهوات وغيرها، وأما في هذا العصر، فإنك ترى من مشاهد عبادة الشهوة، سواءً شهوة البطن والفرج أو غيرها الشيء العظيم.
شهوة البطن:- حتى إننا نجد الأمم الرومانية الكافرة اليوم أصبحت قضية الطعام قضية أساسية عندهم، أي: التفنن في ألوان الطعام، وصناعة الطعام وطهيه، وألوان المأكولات والمشروبات، وأشياء لا تخطر على بال حتى أصبح هذا فناً قائماً بذاته، وله جامعات تقوم بدراسته، وتربية الناس عليه، وفيه قصص وأخبار في غاية الطرافة، فيما يصنعونه في مطاعمهم التي تستقبل الناس، وتقدم لهم ألوان الأطعمة بصورة غريبة جداً.
شهوة الفرج: وأما فيما يتعلق بشهوات الفرج، فإنهم يتلذذون بألوان الإباحة الجنسية في بلاد الغرب بشيء كبير وعظيم، حتى إنهم أفضوا بذلك إلى الشذوذ، وألوان الشذوذ مثل: كون الذكر والعياذ بالله مع الذكر، والأنثى مع الأنثى، حتى الصبيان الصغار من أبناء سبع وثمان وعشر سنوات يدربونهم على هذه الأمور، حتى الحيوانات ويحرص على تقديم ذلك للناس، وهم أشد حرصاً على نقل مثل هذا الوباء، وهذه التعاسة، وهذا الانحلال إلى الأمة الإسلامية بكل وسيلة؛ لأنه يسوءهم جداً أن يروا أناسا يتطهرون -يعني: المسلمين- فهم لا يريدون أن يجدوا في بنات المسلمين فتاة تتزوج وهي عفيفة مثلاً، ولذلك لما قامت بعض الغربيات بإعداد دراسة في بعض المناطق القريبة منا، ووجدت -أن أكثر النساء إن لم يكن كل النساء- محافظات على بكارتهن أعدت تقريراً في غاية الذهول، لماذا؟ لأنهم في بلادهم الكافرة لا يعرفون للكرامة ولا للشهامة، ولا لحماية العرض معنى، ولا يمكن أن تجد امرأة منهم تتزوج وهي بكرٌ أبداً، حتى تكون قد ارتكبت فاحشة الزنا مع صديق لها، ويتلذذون بذلك ويتمتعون به ويتوسعون فيه حتى أصبحت -أيضاً- قضية الإباحة الجنسية، قضية في غاية الأهمية عندهم، ولها أجهزتها المتخصصة، وقنواتها المتخصصة وصحفها ومجلاتها وأماكن ممارستها بل وأسواقها إلى غير ذلك، يتوسعون في هذه الشهوات وهذا أمر طبيعي بالنسبة لهم لماذا؟! لأن غاية أمرهم هي هذه الحياة الدنيا، فلسان حالهم يقول: خذ من الدنيا بحظ قبل أن تنقل عنها فهي دار لست تلقى بعدها أطيب منها هذا منطقهم، وهذا لسان حالهم، لا هم لهم إلا الدنيا، والآخرة عليهم والجنة عليهم حرام، ماتوا وهم فيما هم فيه من الكفر.
فلذلك يحرصون على أن يعبوا عباً من شهوات الدنيا ولذائذها، ويغرقوا غرقاً في ألوان ترفها؛ لأنه لا حظ لهم إلا هذه الدنيا.
وأذكر أن الأستاذ سيد قطب رحمه الله ذكر في كتابه الذي لم يطبع أمريكا التي رأيت ونقل هذا في كتاب آخر له الإسلام ومشكلات الحضارة، يقول: إنه رأى معلمة تعلم الطلاب والطالبات على ألوان الرذيلة والفاحشة، وكان من ضمنهم بنت عمرها أربع عشرة سنة، فيقول: قلت لها -ويريد أن يعرف السر- لماذا أنت تحرصين على هذه البنت التي عمرها أربع عشرة سنة تمارس الفاحشة والرذيلة، أليس الوقت بالنسبة لها مبكراً؟! قالت: لا، أبداً لأن الحياة قصيرة، وغير صحيح: أن الولد أو البنت يظلون جزءاً كبيراً من عمرهم لا يستمتعون بالشهوات؛ لأن العمر قصير، نعم العمر قصير بالنسبة لهم، لأنه ليس لهم آخرة، لهم النار في الدار الآخرة، ولذلك هم يأخذون من الدنيا بقدر ما يستطيعون؛ لأنهم يعلمون أنه لا حظ لهم في الآخرة، فهم عبيد لهذه الشهوات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} فسماه عبداً لهذه الأشياء، عبداً للمال وعبداً للفرج، وعبداً للقمة العيش، وعبداً للكرسي، وعبداً للمرأة؛ لأنها أصبحت كل همه، حتى كان الشاعر يقول عن حبيبته، أو معشوقته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي كما أن المؤمن يشرف بعبوديته لله عز وجل، ويفخر بذلك، ويقول كما قال عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا كذلك المشرك الذي أصبح لا يعبد الله، بل يعبد ليلى، ولبنى، وسلمى، ونجوى، هذا المشرك الذي عبد هذه التماثيل وهذه النساء أصبح يقول: لا تدعوني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي وعلاقة ذلك بالنزف واضحة كما أسلفت، ولذلك جاء في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والقصة أصلها في البخاري ومسلم لكن في مسند أحمد بن حنبل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {مر على جبار منزف} -هكذا الحديث في المسند- ومعه زوجته، وكانت زوجته حسناء جميلة فلما علم الملك الجبار المنزف بها دعاها، وهو يريد أن يقع عليها، فدعت الله عز وجل، فشلت يده} والقصة معروفة، والمهم أن المترفون ليس عندهم مانع، وليس بينه وبين الشهوة إلا أن يريدها، فليس عنده مقياس، مثلاً الشرع يمنعك من هذا، ليس عنده مقياس، الحلال والحرام ليس له وجود في قاموسه، قاموسه هل يريد أو لا يريد؟! فهو يفترض إذا أراد حصل له ما أراد، مثلاً: إذا رأى امرأة جميلة ليس هناك ما يمنعه منها في ظنه ونظره، لماذا؟! لأنه يملك المال والقوة والقدرة فما الذي يمنعه؟! إذا رأى ما تطمح إليه نفسه أراده! فإذا أراده فلابد أن يحصل له في زعمه وظنه! ولذلك إذا منع منه أصابه من الهم والغم والكمد الشيء العظيم، لأنه يتحسر على فوت هذا الأمر، وعلى فقده، وعدم تحصيله.(193/15)
الصراع على مكاسب الدنيا
والأثر الثالث من آثار ونتائج النزف هو: الصراع على مكاسب الدنيا الدنيئة، المال والأرض والجاه والسلطة والمنزلة والصراع على هذه الأشياء، لأن تصبح هم الإنسان وغاية مقصوده، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على حماية أصحابه، وأمته من هذا الأمر ولذلك في الصحيحين عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أتي بمال من البحرين -جزية جاءته من البحرين- فعلم بذلك الأنصار، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلوا معه صلاة الفجر، جاءوا فسلموا عليه، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، حين رآهم، وقال: أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين، قالوا: نعم يا رسول الله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} إذاً: بسط الدنيا يتبعه غالباً التنافس عليها ثم الهلاك من أجلها، ويذهب الإنسان صريع الدنيا، وشهيد الهوى، وليس في سبيل الله عز وجل، فهذا مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر منه أمته.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال: عبد الرحمن بن عوف نقول كما أمرنا الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك، تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون} حتى إنه جاء في الحديث الآخر {أن يحمل بعضكم السيف على رقاب بعض} فهذا من شؤم التنافس على هذه الدنيا، ولذلك فإن الحل: يكون في الإعراض عن الدنيا في ذات النفس والأخذ بنصيحة الإمام الشافعي: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها خذ بهذه القاعدة، والإمام الشافعي رضي الله عنه، كان يستقرء منهج القرآن والسنة، وكان يذكر لك تجارب الأولين في هذا الأمر، هذا بالنسبة لي ولك، أما الدنيا بالنسبة للكافرين، فإننا يجب أن نصارعهم عليها لأننا مطالبون بإنقاذ الأرض من الكفر وحمايتها، وأن نحكم الأرض باسم الله، وكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نعمل على ألا يكون للكفار سبيل على المؤمنين، بل ولا على غيرهم، وكذلك نحن مطالبون بأن نكون أقوى من غيرنا عدداً وعدة، مطالبون بأن نكون أقوى منهم اقتصاداً، وأقوى منهم تسليحاً، وأقوى منهم صناعة، وأقوى منهم تخطيطاً، وأقوى منهم علماً كل هذا نحن مطالبون به شرعاً لحماية ديننا، والتمكين له وليس لخظوظ أنفسنا.
أما التنافس على مكاسب الدنيا: فإنه يفضي -والعياذ بالله- إلى عقوبة الله عز وجل، ولذلك جاء في مسند الإمام مسند الإمام أحمدو أبي يعلى، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقوبة الله عز وجل} وقبل قليل ذكرت لكم مسألة عبادة الشهوة، فهذا الزنا عبادة الشهوة، فأصبح الإنسان همه شهوته، هذا الزنا وبعد ذلك، المسألة ليست مسألة حالة فردية، واحد استتر في بيته ووقع في معصية، ثم تاب، لا! بل ظهر وفشا وانتشر وأصبح معروفاً، وأخباره تتلى فلان فعل، وفلان فعل، وفلان فعل، بل قد يتطور الأمر إلى أكثر من ذلك: أن يصبح في بعض بلاد المسلمين، والعياذ بالله، أماكن للفحش والبغاء والدعارة - نسأل الله السلامة والعافية- أو تصبح هذه المظاهر بينة على الأرصفة في الشوارع، أو على شواطئ البحار أو ما أشبه ذلك هنا ظهر الزنا والربا.
فالربا هذا نموذج للتنافس على الدنيا، والصراع على مكاسبها الذميمة؛ بحيث إن الإنسان أصبحت الدنيا همه وغاية مقصده بحلال أو بحرام، لا يهمه إلا أن يحصل عليها، {ما ظهر الربا والزنا بقوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله} وقد يقول بعضهم: أين عقاب الله؟! فأقول، كما قال أحد الباحثين المعاصرين، يقول: لا أعلم عقاباً أعظم من العقاب الذي نحن فيه الآن، إلا أن ينزل الله تعالى علينا صاعقة فتحرقنا، هكذا يقول، وأقول: أسأل الله عز وجل أن يدفع عنا وعن المسلمين جميعاً عقوبته وأن يرزقنا التوبة النصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح.(193/16)
الغفلة
فمن أهم نتائجه وأعظمها الغفلة، لأن المال ينسي ويلهي، وكذلك الصحة تلهي، والشرف يلهي، والجاه يلهي، فيغفل الإنسان عن مصالحه الدينية وعن مصالحه الدنيوية، ولذلك يعتذر الأغنياء والمترفون عن الأعمال الجليلة العظيمة بسبب الانشغال بمالهم وأهلهم، كما قال المخلفون من الأعراب: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] انشغل بماله، وانشغل بأهله عن أعظم عمل يدعى إليه، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، فليس عنده وقت للجهاد، وإن كان الجهاد عن نفسه، وعن عرضه وعن ماله، فإنه يقول: شغلتنا أموالنا وأهلونا، يشتغل بماله، حتى يأتي العدو، فيأخذ منه ماله كله، ويجهز عليه -أيضاً- وقد ينتهك عرضه، لكن الإنسان إذا غفل لا يكاد يكون فيه حيلة إلا ما شاء الله، ولذلك كان العلماء والعقلاء والمدركون يتعهدون الأمة خوفاً أن تنشغل بالترف والمال عن الآخرة وعن جلائل الأمور.
قصة أحد علماء الأندلس:- ويروى أن المنذر بن سعيد البلوطي رحمه الله، وهو أحد علماء الأندلس، رأى أن أحد أمرائها، وهو عبد الرحمن الناصر، كان مشغولاً ببناء مدينة فخمة هائلة عظيمة، لا تزال آثارها ورسومها ومعالمها باقية، وتعرف بالزهراء، ولها خبر عجيب معروف في التاريخ، فالمهم أنه كان يقوم بنفسه بالإشراف على بناء هذه المدينة حتى إنه تأخر يوماً من الأيام عن الجمعة بسبب انشغاله ببناء هذه المدينة، فلما جاء، وكان المنذر هو الخطيب فتكلم عليه، وتلا عليه آيات من القرآن الكريم، كما في قول الله عز وجل: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:128-135] وتلا عليه قول الله عز وجل {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77] وتلا عليه قول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109] وتلا عليه قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] وقال له يا أمير المؤمنين: كيف أنزلت نفسك منازل الكافرين، وآثرت الدنيا على الدين؟! ومازال يتكلم عليه ويوبخه، والناس قد خشعوا وبكوا، والخليفة مطأطئ رأسه، يتصبب جبينه عرقاً حتى إذا انتهت الصلاة، خرج الخليفة من المسجد وهو متأثر يمسح دموعه، دموع الندم، وبعدما هدأ دخل عليه ولده الحكم، فقال له: يا ولدي أسمعت ما قال الخطيب المنذر بن سعيد؟ قال: كذا، وكذا، ووبخني أمام الناس وقد ثقل ذلك عليَّ، وإن كان كلامه حقاً، ولكني أريد أن أعاقبه، قال يا أبت، وبماذا تعاقبه، قال والله لا صليت وراءه أبداً، هذه هي العقوبة، ما فكَّر أنه يفصله عن المنبر مثلاً، ولا أن يودعه في السجن فضلاً عن أن يهم بقتله، كلا، ولكنه قال والله لا صليت وراءه أبداً بعد الآن، ولن أصليَّ معه، فسوف أذهب لأصلي خلف خطيب آخر، فقال له: يا أبت ألا أبعدته عن المسجد، فقال له: يا ولدي والله لا أظن أننا نجد مثل هذا الرجل، وإني استحيي من الله عز وجل، أن يكون بيني وبينه غير المنذر، أي يقول: استحي أن أصلي خلف واحد غيره، إلا أنني قد حلفت على ذلك، فأريد أن أبر قسمي، ولماذا فعل المنذر بن سعيد هذا الموقف؟! لأنها بادرة خطيرة أن ننهمك في الدنيا حتى ننشغل عن صلاتنا، وننشغل عن جهادنا في سبيل الله، ننشغل عن جلائل الأمور ومعاليها.
الانشغال بالدنيا: ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد، وهو حديث صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله تعالى عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} تبايعتم بالعينة؟ لماذا تبايعتم بالعينة بالربا! لأن كثرة الأموال تجعلتني أشعر أنه لابد أن يكون عندي أموال هائلة طائلة وصفقات تجارية لا يمكن أن أفرط فيها، فضعف عندنا الخوف من الربا ومحاذرته، لأننا مشغولون بجمع الأموال، وليس مهماً من أين تجمع الأموال؟! المهم أن يكون عندك رصيد ضخم، {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع} رضيتم بالزرع، وقد لا يكون الزرع أحياناً للمال فقط بل يصبح الناس يتباهون في المزارع والأموال الطائلة والأراضي الواسعة التي قاموا بزراعتها، لمجرد المتعة والمفاخرة بذلك، فضلاً عما يصيبهم من ورائها من الأموال والمغانم الدنيوية، {وتركتم الجهاد} فهذا الإنسان المشغول بصفقاته التجارية ومزارع وشهوات ليس من أهل الجهاد، إنما أمره مع الجهاد، كما قال الشاعر: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد ما عنده وقت للجهاد! إلا الجهاد من أجل المرأة الحسناء ومن أجل المال ومن أجل الدرهم والدينار.
لهذا تلحظون أيها الأحبة أن الأمة الإسلامية تعيش اليوم فترة تلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تعيش فترة تلهية لا يعلمها إلا الذين يقتربون من الشباب، وقد اقتربت من كثير من الشباب، خاصة الشباب الذين يعيشون بعيداً عن مجالس الذكر، وبعيداً عن المساجد، وبعيداً عن حلقات القرآن، فتسأل هؤلاء الشباب ما همومهم؟ ما هي الأشياء التي تشغل بالهم؟ ما أمانيهم؟! ما تفكيرهم؟! ما نظرتهم فتجد أنه مشغول في مجال ضيق يتراوح بين الكرة والرياضة ومتابعة المباريات ومتابعة دوري كرة الطائرة والقدم والبطولة للكبار والصغار والناشئين وغيرهم!! لا ينتقل عن ذلك إلا إلى متابعة الفنانين، والحصول على إنتاجهم الجديد، الحصول على إنتاجهم أولاً بأول، سواء عن طريق محلات الغناء، أم عن طريق زملائه وأصدقائه، ولا ينتقل عن ذلك إلا إلى الكرة، إلا إلى سيارة فارهة فخمة، تكون معه -كما أسلفت قبل قليل- أو يتمناها على أقل تقدير، وهكذا مع شغل الوقت ومع الشغل بالتدخين، ومشاهدة البرامج والأفلام التي لا خير فيها ولا قيمة لها.
فالمهم أن هذه حركة تلهية، واشغال كامل للأمة في أعز ما تملك، في شبابها لأنه إذا لهى الشاب، من الذي سوف يقوم على الثغور؟! ومن الذي سوف يصلح الأمور؟! ومن الذي سوف يحقق للأمة اقتصاداً متقدماً؟! ومن الذي سيحقق للأمة صناعة متقدمة؟! ومن الذي سوف يعود بالأمة إلى سواء السبيل؟! ومن الذي سوف يدفع عن الأمة شر الأعداء؟! والعمدة في ذلك كله بعد الله تعالى على شباب الأمة؛ فإذا لهى الشباب ضاع كل شيء، وقد يقول قائل أن الاشتغال بالرياضة يناسب تقوية الأجسام، خاصة ونحن في حال حرب مع عدونا الآن، فلا بأس من تكثير المباريات والدوريات وغيرها، حتى يتقوى الناس، ونقول: نعم لو كان الناس فعلاً يتقوون، لكن كم عدد الذين يلعبون في المباريات الرياضية؟ قل عشرة! عشرين، ثلاثين، أربعين! لكن البقية من الجماهير الهائلة محتشدة على مقاعد المدرجات لا هم لها غير الصفير والتصفيق والهتاف لفلان أو علان، وبعد ذلك تثور المعارك بينهم، ويخرجون وقد شحنت قلوبهم بالحب لفلان، والبغض لفلان، والمعارك، وإلى غير ذلك، وإيذاء الآخرين إلى ما سوى هذا.
والانشغال الكبير بمثل هذه الأمور التي لا تعود على الأمة بخير أبداً، هذا هو اللهو، فهذه الرفاهية في الكرة والفن أشغلت الشباب عن قضايا الأمة وألهتهم عنها، وإنني لأتعجب حين أقرأ قصة ذكرها السيوطي في كتاب حسن المحاضرة عن الشهيد نور الدين، يقول: إن الفرنجة لما حاصروا بلداً في مصر وحاصروا دمياط وآذوا المسلمين ومنعوا عنهم المؤن وقتلوا منهم من قتلوا، وهتكوا بعض الأعراض، فحزن لذلك نور الدين حزناً شديداً وبعث صلاح الدين قائده يدفع الإفرنج ويصدهم عن هذه المدينة، فأثناء ما كان صلاح الدين يذهب إلى الفرنج ليقاتلهم، كان نور الدين في حالة من الهم والحزن لا يعلمها إلا الله عز وجل، حتى إنه يوماً من الأيام كان عنده طلاب يقرءون الحديث، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه فمن ضمن ما قرأوا حديثاً مسلسلاً بالضحك، ومعنى الحديث المسلسل أي يعني أن رسول الله تبسم، وقال: يا معاذ إني أحبك! -مثلاً-، وكذلك مثال: فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول كذا وكذا، فالراوي عن معاذ قال: هذا، والثاني، والثالث، والرابع، فهذا يسمى حديث مسلسل بقول: إني أحبك، وآخر مسلسل بالتبسم؛ لأن كل راوٍ تبسم، ثم روى الحديث، وكذلك أول الحديث، وكذلك أول حديث ليقال: هذا مسلسل بالأولية إلى آخره، هذا معنى المسلسل، فالمهم أن هذا الحديث كان مسلسلاً بالتبسم، فكل راوٍ يروي الحديث ويتبسم، فيقول: حدثنا فلان ويتبسم، فلما حدثوا نور الدين بهذا الحديث المسلسل بالتبسم، رغبوا إليه أن يبتسم حتى يكتمل التسلسل يقال مثلاً: حدثنا نور الدين قراءة عليه ثم تبسم، فما تبسم قالوا له: رحمك الل(193/17)
الأسئلة(193/18)
حكم الأسابيع التي تشارك فيها المدارس
الفقرة الأخيرة من سؤال هذا الأخ: يسأل عن حكم الأسابيع التي تشارك فيها المدارس كأسبوع الشجرة، وأسبوع النظافة، وأسبوع المساجد، ويقول هل هي بدعة؟ وما يصنع الإنسان تجاهها؟
الجواب
لا أستطيع أن أعطي رأياً خاصاً، لأنني لم أبحث المسألة بحثاً مستفيضاً يمكنني من إعطاء رأيي، لكن أذكر أن هناك فتاوى في هذا الموضوع لكبار العلماء، يمكن للأخ أن يراجعها، إنما أعلق على الموضوع بشكل عام، أنه خاصة الأشياء المتعلقة بالجوانب الشرعية كأسبوع المساجد -مثلاً- نحن نقول إن السنة كلها يجب أن تكون سنة عناية بالمسجد، وليس فقط أسبوعاً واحداً، لأن المسجد هو مدار الراحى بالنسبة لحياة المسلمين، فهو مكان أداء الصلاة، وتعلم العلم، وإقامة حلقات تحفيظ القرآن، والعبادة وغيره.
حتى إن المسجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأزمان المسلمين الأولين لم يكن يخلو طيلة الليل والنهار، من مصل، أو ذاكر، أو قائم، أو قاعد، أو عابد، أو مسبح، أو طالب علم أو ما شابه ذلك، ولهذا كانوا إذا جاءوا بأسير ربطوه في سارية من سواري المسجد، لأنه لا يمكن أن يفك، فالمسلمون يراقبونه أربعاً وعشرين ساعة، وكذلك بيت المال لما أسسه عمر رضي الله عنه، جعله في قبة المسجد لأنه لا يمكن نقبه والحالة هذه.
فالمسجد هو مدار الراحى في حياة المسلمين، وينبغي بالمناسبة أن نحيي رسالة المسجد، ليس فقط بالاحتفالات، أو لوحات أو ما شابه ذلك، لا، بل نحييه إحياءً حقيقياً، كثرة دروس تحفيظ القرآن الكريم، والدروس العلمية، فكل واحد يشارك بما يستطيع قل، أو كثر، أحيي الأثر، لا يموت دور المسلم، تشارك بموعظة، بكلمة، بخطبة، حتى لو لم يكن في أهل المسجد طالب علم، فينبغي أن يجتمعوا في دبر الصلوات ويقرءوا في كتاب، ربع ساعة، أة ثلث ساعة، أو أقل، أو أكثر، ثم يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرفون.
المهم أن نجعل للمسجد دوراً، نحيي فيه الحلقات والدروس، فنجعل المساجد مفتوحة دائماً وأبداً، لكل من أراد ذكراً، أو علماً، أو خيراً، أو براً.(193/19)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
هذا سائل يبين أنه مسرور جداً، بمقدمكم إلينا، ويقول: أن قلوبنا تخفق فرحاً بكم، ويسأل، ويقول: هل يقف واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر المقرر على العلماء تجاه الحكام عند حد التبليغ وتكراره، أم لا بد من قيادة العمل باليد للقيام بهذا الواجب؟
الجواب
هذا دور علماء الأمة، وهو دور مشترك في الواقع؛ لأن العالم قد لا يستطيع أن يقوم بدوره مفرداً إلا أن تكون الأمة معه، وكذلك أفراد الأمة لا يستطيعون القيام بهذا الدور، ما لم يكن لهم قيادة علمية شرعية من علماء أهل السنة والجماعة، فالدور مشترك، الواجب الذي علينا نحن؛ أن نلتف حول علمائنا، لأن أهل السنة والجماعة -أحياناً مع الأسف- قد يتخلون عن علمائهم، فيخذلونهم، فيصبح العالم ليس له لسان، لا يستطيع أن يقوم بما يريده فعلينا أن ندرك جيداً ما هو الدور الذي يجب أن نقوم به.(193/20)
أغاني عن أحداث الأمة
السؤال
نقرأ عن قيام بعض الفنانين بإنتاج عديد من الأغاني، وذلك لمواجهة المرحلة التي تمر على الأمة هذه الأيام، سؤالي: ما رأيكم في ذلك؟ وما هو موقفنا الصحيح تجاه أولئك الأشخاص؟
الجواب
الله المستعان، كل ينفق مما عنده!!(193/21)
التكلم في العلماء
السؤال يقول: يا فضيلة الشيخ إني أحبكم في الله، ونرجو منك تكرار الزيارة إلينا في هذه البلدة لنستفيد مما أعطاك الله، ثم يقول: ما رأيك عمن يتكلم في العلماء بالسب وغير ذلك، بسبب الفتوى الذي يفتي بها بعض العلماء التي لا توافق رغبته؟
الجواب
أحبك الله، أما الكلام في أهل العلم، فهذا من علامة أهل البدعة؛ إذا رأيت الرجل يقع في أهل العلم وأهل السنة، فأعلم أنه أقرب إلى الهوى، ولا يحق للإنسان أن يتكلم في عالم، وأقصد بالعالم، العالم الحق، الذي يخشى الله عز وجل، والوقوف عند حدود الله، والتي أذعنت له الأمة ودانت لعلمه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أنتم شهود الله في أرضه، من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار} فإذا تكلمت الأمة بلسان واحد، وأثنت على عالم، فهذا العالم له قدره ومكانته، ونرجو له الخير عند الله عز وجل.
وأما كون الفتوى توافق الإنسان أو لا توافقه، فهذا أمر آخر، فإن مسائل الاجتهاد مما لا ينبغي فيها التعنيف على من خالف، وإن اجتهد وأصاب فله أجران، وإن أجتهد وأخطأ فله أجر واحد، فلا تعنف على من خالف ما ترى، هذا إذا كنت أنت طالب علم، أو معتمداً على قول عالم آخر، أو طالب علم آخر، أما إذا كان لمجرد نظرة شخصية، فهذا لا يصلح، بل على الإنسان أنه لا ينتقل من عالم إلا إلى عالم، أي أنه لا تنتقل من عالم لتأخذ برأيك الشخصي، لا، ممكن أن تنتقل من عالم وتأخذ برأي عالم آخر في مسألة أنت مقتنع بأن قول هذا العالم: هو الصواب، وأعمق، وأبعد، وأدق نظراً، هذا حسن؛ لأن العالم ليس معصوماً من الخطأ، وليس نبياً يتبع في كل شيء، بل هو يجتهد بحسب وسعه، وهو مأجور عند الله عز جل ما دامت نيته صالحة، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.(193/22)
شكر النعم
السؤال
هل يكفي لشكر النعم أداء الفرائض، واجتناب المعاصي بقدر المستطاع، مع الاستغفار، أم لا بد من أمور أخرى سواء في المعاملة أم في الأعمال الصالحة الأخرى؟
الجواب
يقول الله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] إذاً الشكر ليس كلمة تقال باللسان، لا! الشكر ثلاثة: بالقلب واللسان والجوارح: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجب فقبل لسانك، ينبغي أن يكون قلبك ساجداً لله عز وجل، منكسراً بين يديه، مذعناً له، محباً، خائفاً، راجياً، وأعمال القلوب هي أجل الأعمال وأشرفها، ومع ذلك قل من الناس من يهتم بها، ثم يفيض القلب على اللسان كلمات الشكر لله جل وعلا، ثم يفيض على الجوارح، أن تصرف قوتها وقدرتها في طاعة الله، وتصرف ما وهبها الله عز وجل من النعم في مرضاته.(193/23)
اقتناء التلفاز
السؤال يقول: بعض الناس تهاونوا في اقتناء جهاز التلفاز، فأرجو من فضيلتكم التنبيه على هذا الأمر وإذا تاب الإنسان من اقتناء أمثال هذه الأجهزة أيجوز له بيعها، والاستفادة من ثمنها، أم لا بد من إتلافها؟
الجواب
الحقيقة أنا لا أرى للرجل الغيور، والحريص على نفسه وأسرته، أن يقتني في بيته تلفازاً لأسباب: أولها: أن هذا الجهاز فيه الغث والسمين، وغالب ما فيه الغث، وهذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن الذي يقول: أريد أن أراقب هذا الجهاز لا يستطيع، لأنه من غير المعقول أن يصبح عبارة عن بواب! يغلق الجهاز متى شاء ويفتحه متى شاء، وظيفته، وظيفة مراقب أبداً، هو سيأتي ويذهب ويعود ويخرج ويبقى في البيت الأهل والأولاد والصغار والكبار، فيستخدم الجهاز فيما لا يرضي الله عز وجل.
أما كيف يتخلص منه؟ فلا ينبغي له أن يبيعه، وأن يستفيد من قيمته، بل ينبغي أن يستعيض بالله عز وجل، وما يرزقه الله عز وجل خير وأبقى، ويتخلص منه بإتلافه.(193/24)
دورنا تجاه فلسطين
السؤال
يقول: ما هو دورنا تجاه قضية فلسطين إذا تخلى أهله عن الجهاد؟
الجواب
هي ليست قضية فلسطينفحسب، بل عندنا قضايا كثيرة، الأمة اليوم في أنحاء الأرض، في مشارق الأرض ومغاربها تعيش أزمات وأحداث، وقد استأصلت بقاع كثيرة من بقاع المسلمين ووقعت في أيدي الأعداء، كفلسطين، والفلبين، وأفغانستان، وإرتيريا، وغيرها، بل وقبل ذلك بلاد الأندلس، أسبانيا وغيرها، وهناك بلاد وقعت في أيدي الكفار، وهناك بلاد وقعت في أيدي المنافقين، ليس عن طريق القوة العسكرية المسلحة، لكن أخذوها بالمغالبة، وبأساليبهم الخفية، وحكموها بقانون الكفار، وغيروا معالم الإسلام فيها، وقضوا على آثاره، كل هذه البلاد -الله المستعان- لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه.
وقد تسمع الأذان في بعضها، لكن لا تكاد تجد من يصلي! وإن وجدت من يصلي لا تجد من يصلي على السنة! وإن وجدت من يصلي على السنة، لم تجد القلب الذي يحترق لقضايا المسلمين، ولا يعمل على إعادة الإسلام إلى الواقع، -فالله المستعان- شكر الله لفضيلة الشيخ هذه الكلمات ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجعل هذه في موازين أعماله يوم القيامة، وأن يبيض وجوهنا ووجوهكم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(193/25)
الإسراف في المباحات
السؤال يقول: فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل الإسراف والإغراق في المباحات مع عدم ارتكاب المحرمات، يعتبر من الترف الممنوع شرعاً أم لا؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
ما دام سميناه مباحاً، معناه أن الإنسان غير ملوم بالوقوع فيه، سواءً كان مأكولاً أو مشروباً أو غير ذلك؛ لأنه مباح ليس بحرام، لكن قال كثير من السلف: إن فضول المباح ذريعة إلى المكروهات، كما أن المكروهات ذريعة إلى الحرام، فإن إغراق الإنسان في فضول المباحات، ولا شك سوف يحرمه من كثير من الطاعات والأعمال الصالحات، مثلاً إذا أكثرت من الأكل في الليل، ما الذي يحصل؟ يحصل أن الإنسان إذا أكثر الأكل أكثر النوم، فإذا أكثر النوم أصيب بالكسل، لا أقول لا يقوم الليل، بل ربما نام عن صلاة الفجر.(193/26)
استفادة الأعداء من الأحداث
السؤال
يقول: نشكرك على تحملك مشقة السفر، والحضور إلى هذه المنطقة ونسأل الله جل وعلا أن يوفقك في الدنيا والآخرة وأشهد الله عز وجل على حبك، وبعد، سؤالي عن مدى استفادة أعداء الإسلام من الأحداث الجارية الآن؟
الجواب
أما استفادة أعداء الإسلام من الأحداث، فإنهم يرقصون الآن؛ لأنهم مستفيدون من كل الأحداث، لا شك أن الأحداث استفاد منها أعداء الإسلام، وصنعوا كثيراً منها، ونجحوا في مخططاتهم وفيما يريدون، ولكن مع ذلك نقول كما قال الله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] لهم يوم قادم، ونقول: مهلاً يا يهود، جيش محمد سوف يعود، عليه الصلاة والسلام، فجنود رسول الله، وحملة دين الله، لم يموتوا، بل هم أحياء، ولن يموتوا إلى أن يرسل الله ريحاً طيبة في آخر الدنيا فتقبض أرواحهم، فهم باقون ببقاء هذا الدين، محفوظون بحفظ الله عز وجل له، والأحداث تصنعهم، فهي كالنار التي توقد على الذهب، فيبقى خلاصته وصافيه وإبريزه، ويذهب غشه ودخنه.(193/27)
جريدة المسلمون
السؤال
يسأل عن جريدة المسلمون التي نجد فيها بعض الكتابات لكم فما رأيكم فيها؟
الجواب
أما جريدة المسلمون، فهي: إحدى مطبوعات الشركة العربية المعروفة، وهي بلا شك في الأصل ذات هدف مادي تجاري، لكن لا يمنع أن هذه الجريدة مخصصة للقضايا الإسلامية، واستكتاب الدعاة والمشايخ والعلماء، ولست أرى حرجاً في المشاركة فيها أو في غيرها، أمراً بالمعروف أو نهياً عن منكر، أو دلالة على خير، أو تحذيراً من شر، وإن كنت لا أذكر لي كتابة في هذه الجريدة، إلا قبل أكثر من سنة، نشروا فصولاً من كتابي حوار مع الغزالي، اللهم إلا أن يكونوا نشروا لي شيئاً هذا اليوم فأنا لم أطلع عليه.(193/28)
صحة حديث: (تصالحكم الروم …)
السؤال يقول: روى ابن ماجة في باب الملاحم، وأبو داود عن النبي صلى الله عليه آله وسلم أنه قال: {تصالحكم الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، فتنتصرون وتسلمون، ثم ينصرفون إلى مروج ذي ثلول، فيرفع رجل من أهل الصليب الصليب فيقول غلب الصليب الخ} ما صحة هذا الحديث؟ وهل لفضيلتكم رأي في علاقة هذا الحديث بالأحداث الراهنة؟
الجواب
الحديث رواه أبو داود وسنده صحيح، من حديث ذي مخبر، بل وفي صحيح مسلم ما يشهد له من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
أما علاقته بالأحداث -حتى لا أكرر الكلام أو أطيل- بينت رأيي في هذا الحديث وغيره، من أحاديث الفتن في محاضرة، موجودة بعنوان نظرة في أحاديث الفتن.(193/29)
تصفيق الرجال
السؤال
يقول: إني أحبكم في الله، وأرجو من الله، ثم منكم الإجابة على هذه الأسئلة المحيرة: السؤال الأول: ما هو قولكم، ونصيحتكم لمدرسي التربية الرياضية الذين يكلفون الطلاب في التمارين الصباحية، بالتصفيق في كل تمرين؟
الجواب
أحبك الله، وأحبنا وإياكم جميعاً، وجعلنا وإياكم من المتحابين فيه، الذين يحشرون يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه على كل شيء قدير، أخي مدرس التربية الرياضية: لا أعلم في مناهج إدارة التعليم، أو وزارة المعارف نصاً يعتبر التصفيق جزءاً من برنامج التربية الرياضية، والتصفيق بالنسبة للرجال ممنوع من وجهين: أولاً: أنه تشبه بالنساء، كما في الصحيحين: {إنما التصفيق أو التصفيح للنساء} .
وثانياً: إنه من عادات الكفار، إنهم إذا رأوا ما يعجبهم، ألهبوا تصفيقهم، فهذا قد يقال بتحريمه ولذلك أقول: يجب أن تمنع الطلاب منه، ولا تلزمهم بالتصفيق، لكن تدربهم على التمارين الرياضية التي تقوي أجسامهم وتنفعهم.(193/30)
للنساء فقط
لقد حفظ الله عز وجل الدين رغم هجوم الأعداء، وحفظ المرأة المسلمة رغم دعاة التحرر والسفور، وهناك دور يجب على المرأة المسلمة القيام به.
هذا ما استعرضه الشيخ في هذا الدرس.(194/1)
حفظ الدين
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصل اللهم وسلم وبارك على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أخواتي المؤمنات: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
الحديث -في هذه الأيام- عن المرأة ذو شجون -كما يقال- إن من نعمة الله عز وجل علينا وعلى الناس، أنه كتب الحفظ لهذا الدين، وحفظ الله عز وجل لهذا الدين هو أمر تكفل به سبحانه ولم يكل حفظه إلينا فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .
وليس حفظ الدين فقط بحفظ القرآن والسنة من التحريف، والزيادة، والنقصان، وإن كان هذا جزءاً من حفظه لهذا الدين؛ لكن حفظ الدين يكون -مع ذلك- بأن الله عز وجل يقيض في كل زمان وفي كل مكان، من يقوم من الناس -رجالاً ونساءً- بأمر هذا الدين، ويعمل به في خاصة نفسه، ويدعو إليه غيره، ويواجه حملات المغرضين والمشككين، من الكفار المعلنين بكفرهم: كاليهود، والنصارى، والشيوعيين، ومن المنافقين الذين يتسترون باسم الإسلام، وحقيقة قصدهم: طعن الدين خفية وتقية من الداخل: والمدعون هوى الإسلام سيفهم مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به وما له منهم رفد سوى الخطب(194/2)
وضع المرأة في المملكة
في هذه الأوقات بلغ السيل الزبى -كما يقال- وغضب العدو -غضبةً كبيرة- أن هذه البلاد ما زالت متمنعة، وما زالت تحارب تقاليد الغرب، وتحافظ على أخلاقيات الإسلام، خاصة فيما يتعلق بالمرأة.
والعدو منذ زمن طويل، هو يخطط، وقد درس مجموعة من الفتيات في بلاده، وزرعهن هنا؛ للدعوة إلى العلمانية والتغريب، والتخريب، وإخراج المرأة من بيتها، وتشويه تعاليم الإسلام؛ حتى وجدنا منهن من تعتبر أن تعاليم الإسلام تعوق مسيرة المرأة نحو التقدم، ووجدنا من تسخر من العلماء، ومن تسميهم برجال الدين؛ وتسخر من أئمة الدعوة إلى الإسلام في هذه البلاد وفي غيرها، وتنادي بما تنادي به أخواتها في الشرق والغرب -من تحرير المرأة- ووجدنا في أعلى وأرقى المستويات في هذه البلاد من يدندن على هذه النعرة الجاهلية التي سمعناها منذ قديم.
ولا شك أن هؤلاء النسوة أثرن في طبقة من الفتيات؛ لكن يبدو أن العدو لا يروق له أبداً أنه يعمل على خطوات بطيئة؛ كأنه نفد صبره، وجن جنونه؛ إنه على رغم تلك الجهود الجبارة كانت الثمرات قليلة، وأقل مما يريد.
ولذلك بدأت أجهزة الإعلام الغربي تضرب على هذا الوتر، وتتكلم بجراءة، ووقاحة عن وضع المرأة في السعودية، وأنه وضع لا يطاق، وأن المرأة ما زالت تعيش ما يسمونه بعصر الحريم، حيث لا يرى من المرأة شيء، ولا بيدو منها شيء، وأن المرأة منعزلة عن الرجل في كل شيء، حتى في المنزل، فضلاً عن السوق، فضلاً عن المدرسة، والجامعة، ومكان العمل.
فبدأت أجهزة الإعلام الغربية تتكلم بصورة مذهلة عن وضع المرأة هنا! وتركز على أن الجيل الجديد من النساء، وأن المرأة الجديدة في المملكة تريد أن تتمرد على هذه التعاليم؛ لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك؛ بسبب ضغوط المجتمع، وبسبب الأنظمة المرعية القائمة، المعمول بها هنا فظلوا يضربون على هذا الوتر، ويتكلمون بهذه اللهجة؛ وكأنهم يحرضون مجموعة من صنائعهم في هذه البلاد، على أن يقمن بحركة قوية لإماطة اللثام عن الخطة التي يعملون بها، وأن ينتقل عملهم من السر إلى العلن، ومن كونه عملاً بطيئاً، إلى كونه عملاً سريعاً.(194/3)
هجوم الأعداء على المرأة المسلمة
أختي المسلمة: الله عز وجل يصنع، والبشر يحاولون فيفشلون لقد هجم أعداء الإسلام على المرأة المسلمة منذ زمن بعيد هجموا على المرأة المسلمة في تركيا يوم قام مصطفى أتاتورك ينادي بالعلمانية، ويمنع الالتزام بأحكام الإسلام، ويعتبر أن دخول المرأة المسلمة إلى الجامعة بالحجاب مناقض لتعاليم العلمانية التي نادى بها، فتمنع المرأة المسلمة من ذلك، وتبعه على ذلك رموز العلمانية في مصر، وبلاد المغرب العربي، والشام، وأخيراً في عدد من دول الخليج كالكويت وغيرها.
فسارت المرأة على الركاب، واختلطت بالرجل في مكان العمل، والمدرسة، والجامعة، وفي كل مكان، وأصبح التزام المرأة بالحجاب هناك -خاصة في أماكن العمل والدراسة- مناقضاً لأنظمة الدول التي تنادي بالعلمانية وتفرضها ولكن بلاد الإسلام في هذه الجزيرة ظلت حافظة للأمانة، ممتنعة على هجمات الأعداء الغربيين والمستغربين.(194/4)
الغرض من مظاهرة قيادة المرأة للسيارة
عندما جاءت تلك المحاولة المعروفة لقيادة المرأة للسيارة، وبصورة مظاهرة -كما هو معروف- ولم يكن المقصود هذا المظاهرة بذاتها، وإنما كان في الأمر أمرٌ وراء ذلك وفوق ذلك، كان المقصود من ذلك أمور أولها:(194/5)
بداية حقيقية لتحرير المرأة
والأمر الآخر الذي كانوا يحلمون به هو أن تمر هذه الحركة بسلام، أو بردود فعل ضعيفة، فتكون بداية حقيقية لأن يعملوا علانية في تغيير وضع المرأة في هذه البلاد.
فكانوا وما زالوا يعتبرون هذه نقلة نوعية في عمل تحرير المرأة في السعودية، ولذلك يقولون إن يوم الثلاثاء الذي تمت فيه تلك المظاهرة، سوف يظل يوماً تاريخياً مجيداً، وسوف يظل ذكرى تحييها الأجيال -كما يتوقعون- وتعتبرها بداية حقيقية لتحرير المرأة، وظهورها على الشوارع تقود السيارة، وتتمرد على تلك التعاليم الجائرة تلك أمانيهم، وهذه مطامعهم، وهذا ما كانت تمليه عليهم رغباتهم الفاسدة، وظنونهم الكاذبة، وجهلهم بالمجتمع الذي يتحركون فيه.(194/6)
رفع راية للنساء
-كما يقولون- إلقاء حجر في هذا الماء الراكد؛ لتحريك وضع المرأة، وحياة المرأة، وحالة المرأة، وإثارة المعاني والمشاعر عند كل من يوجد في قلبها مرض كأنهن يردن بهذا العمل رفع راية تلتف حولها النساء الراغبات في التحرر -كما يقال- في كل مكان.
ولذلك: لا غرابة أن تجد أصواتاً منكرة هنا وهناك تنادي بما نادت به أولئك النسوة، أو تنادي بأمر قريب منه، أو شبيه به، وإن كانت أصواتاً قليلة، وأصواتاً هزيلة، وأصواتاً هي شذوذ يثبت القاعدة ويؤكدها ويحققها، إلا أن هذه الأصوات إنما ظهرت وارتفعت، يوم سمعت بذلك الصوت المنكر من تلك الفئة الباغية التي تنادي بقيادة المرأة للسيارة، ومن وراء ذلك تنادي بالحرية، وهي إنما تقصد أن ترفع راية تلتف حولها النساء الداعيات إلى التحرر.
وقد اتصل بي عدد من الطلاب من أمريكا يتكلمون عما يفعله الإعلام الغربي بعد هذه الحادثة الكبيرة، وكيف أنه أصبح ينفخ في نار الفتنة، ويحاول أن يبرز الشذوذات الموجودة في مجتمعنا، ويرسم نماذج للنساء المنحرفات والفاسقات، وماذا يطالبن به؟! ويعمل المقابلات مع أعداد كبيرة من هؤلاء النسوة، حتى البالغات إلى غاية الشذوذ ممن يطالبن بالرذيلة علانية، وإتاحة الفرصة للفساد وللفجور، ويطالبن بذلك بشكل صريح، وألفاظ لا تحتمل اللبس ليبرز مثل هذه الشذوذات، ويحاول أن يصور أن المجتمع أو أن الجيل الجديد من المرأة السعودية يطالب بذلك -يطالب بكل تعاسة الغربيين، حتى ممارستهم للجنس قبل الزواج- لا يمانع في ذلك فيحاول الغرب، وإعلامه أن يبرز المرأة في هذه البلاد على أنها كذلك، وإنما يمنعها من ذلك العادات والتقاليد، والأنظمة المفروضة بالقوة.
هكذا يريد الغرب أن يصور لنا واقع الفتاة المسلمة، وواقع الجيل الجديد من المرأة السعودية -كما يقول.
فهذا هو الأمر الأول الذي تريده أولئك النسوة، أن يلتف حولهن عدد من الأصوات المنافقة، الأصوات التي تربت على موائد الغرب، وعلى مدارسه، وتخرجت من جامعاته، وعاشت فيه؛ حتى ترتفع هذه الأصوات في كل مكان؛ فتحدث خلخلة في المجتمع، يصعب تلافيها أو إسكاتها هذا من أهم مقاصدهم.(194/7)
نعم الله على بلاد الجزيرة
لكنني أقول: إن من نعمة الله عز وجل على هذه البلاد بالذات بلاد الجزيرة أمور منها: أن الصحوة الإسلامية -سواء في أوساط البنين، أم في أوساط البنات- سبقت تيارات الفساد، فإننا نجد في كثير من البلاد الأخرى أن تيار الفساد سبق، ومضى، وتغلغل، وتمكن، سواءً في مجال الإعلام، أم في مجال التعليم، أم في مجال الأنظمة المرعية في البلاد، أم في مجال الأمور الاجتماعية بشكل عام، فلما بلغوا نهاية الفساد والانحطاط؛ بعد ذلك: بدأ الناس يتململون من ذلك، ويعملون على الرجوع إلى دينهم، وإلى ربهم، ومن هنا بدأ ما يسمى بالصحوة في تلك البلاد.
بدأت عندما ارتمى المجتمع في أحضان الفساد والرذيلة، وبعد أن بلغ الشر مبلغه، فبدأت الصحوة نوعاً ما متأخرة، ولذلك كان العدو متمكناً من الإعلام، متمكناً من التعليم، متمكناً من الأنظمة والنظم، متمكناً من الدوائر الحكومية؛ فصار يحاول أن يحصر الصحوة الإسلامية في زاوية ضيقة، ويعمل على نقض جهودها بكل وسيلة يستطيعها، أو يؤلب عليها العدو من الداخل والخارج.(194/8)
تأخر حركة الفساد
الميزة الثانية -وهي مهمة أيضاً-: إن حركة دعاة تحرير المرأة، وإفساد المرأة، وتخريبها، وتغريبها في بلادنا، جاءت متأخرة عن حركة إخوانهم في البلاد الأخرى، وهذا أفادنا إفادات كثيرة منها: أنه كشف لنا خططهم، فقد أصبحنا خبراء نعرف كيف يعملون، قرأنا في التاريخ عملوا في مصر؟! وقبل ذلك، ماذا عملوا في تركيا! وماذا عملوا في بلاد المغرب العربي! وما عملوا حتى في الكويت! وهذه الكتب شاهدة تذكر ما يسمونه بـ"معركة الاختلاط في الجامعات"، وكيف سعوا إلى فرض الاختلاط في الجامعات، وفي عدد من البلاد! وكيف سعوا إلى إخراج المرأة من الحجاب! وكيف سعوا إلى إتاحة الفرصة للمرأة لتؤدي دورها من خلال السينما ومن خلال أجهزة الإعلام! وكيف؟! وكيف؟! أصبحنا نقرأ هذا من خلال كتب تؤرخ لما يسميه بعضهم تحرير المرأة في عدد من البلاد الإسلامية، وهذه المعلومات التي عرفناها عن مؤامراتهم في تركيا، وفي مصر، وفي بلاد المغرب العربي، وفي الشام، ودول الخليج جعلتنا ندرك مخططاتهم، ومؤامراتهم، ونستطيع أن نكشف للناس ماذا يريدون أن يعملوا -قبل أن يعملوا! - فيعلم الناس خطرهم ودورهم، فإذا سمعوا ما يقولونه أو رأوا ما يفعلونه؛ قالوا: نعم! هذا الأمر الذي نحذر منه، هذا الذي وقع في مصر، هذا الذي وقع في تركيا، هذا الذي وقع في بلاد المغرب العربي يحاولون أن ينقلوا تعاستهم إلى بلادنا؛ فحينئذ يعيش الناس درجة كافية من الوعي بمخططات أعداء الإسلام، وهذا مكسب كبير.
الأمر الثاني: أنهم بدءوا يطالبون -صراحة وعلانية- بتحرير المرأة في هذه البلاد، في الوقت الذي بدأت فيه البلاد الأخرى تعود أدراجها إلى الفضيلة ولعله من المضحك والمبكي والمدهش! أنه في الوقت الذي نسمع فيه في بلادنا الطاهرة بلاد الحرمين مثل هذه الأصوات المنكرة؛ أننا نسمع في البلاد الأخرى أخباراً سارة عن العودة الصادقة خاصة في أوساط الفتيات إلى الله عز وجل.(194/9)
الصحوة بدأت مبكرة
أما في هذه البلاد، فإن من نعمة الله عز وجل أن الصحوة بدأت مبكرة، بل سبقت تيار الفساد، ولا شك أن حجم انتشار الخير، والفضيلة، والدين، والتقوى، والعلم، والصلاح، والإصلاح في بلادنا؛ أكبر بكثير من حجم انتشار الفساد صحيح أن المجتمع في الماضي كان مجتمعاً بعيداً عن كل هذه الأمور، كان مجتمعاً أقرب إلى العادية.
لكن المجتمع -لا شك- يسير كما ورد في بعض الآثار أن الناس سيتميزون إلى معسكرين: معسكر إيمان لا نفاق فيه، ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، ولذلك بدأنا نلاحظ أن المجتمع فعلاً بدأ يتميز، فأصبح يظهر في مجتمعنا نماذج عفنة من المنحرفين من دعاة الرذيلة، دعاة النساء، ودعاة الانحلال الفكري، والانحلال الخلقي، وفي مقابل ذلك بدأ يظهر في مجتمعنا نماذج مشرفة، وكثيرة، وكبيرة، وقوية، من طلبة العلم، والدعاة، والعلماء، والمؤمنين، والمجاهدين، والمتمسكين بالإسلام عن وعي، وبصيرة لاعن تقليد ووراثة وهذا النوع يبرز في أوساط الرجال كما يبرز في أوساط الفتيات سواء بسواء.
إذاًَ: تيار التدين، وتيار الاستقامة، وتيار الصلاح، تيار الصحوة في بلادنا، سبق تيار الفساد، ولم يكن رد فعل لتيار فسادٍ عرض في مجتمعنا؛ بل هو أصالة لهذا المجتمع، فهذا المجتمع لم يشهد حالات من التعاسة الخلقية غامرة تغطيه كله، ثم بعد ذلك شهد انتفاضة ورجوعاً إلى الله عز وجل.
كلا! بل هو مجتمع لا يزال يعيش أصالة الإسلام، والالتزام بهذا الدين، والمحافظة على الأعراف، والمحافظة على الأخلاق، وإن وجدت فيه بوادر كثيرة من الانحراف؛ لكن تيار التدين والصحوة سبق الانحراف في مجتمعنا بكثير هذه واحدة، وهي لا توجد في أي بلد آخر على الإطلاق.(194/10)
المطالبة بالعودة إلى الحجاب(194/11)
الالتزام بالحجاب في أمريكا
ولقد رأيت بعيني في مركز الحضارة الغربية، ومهدها في أمريكا أعداداً كبيرة من الفتيات سواء من السعوديات، أم من الماليزيات بصفة خاصة، أو من الجنسيات الإسلامية الأخرى، رأيتهن ملتزمات بالحجاب في بؤرة الرذيلة، وحولهن العالم يعصف بألوان التبرج، والسفور، والعري والانحلال تجدين الواحدة منهن كالريحانة في وسط النتن، الجو من حولها صاخب، صاخب بالكفر، صاخب بالرذيلة، صاخب بالفساد، صاخب بالانحلال، وهذه الفتاة قد أحكمت الحجاب على رأسها، وربما أيضاً على وجهها أحياناً، وكأنها لا تعبأ بهذا المجتمع المنحل المتهالك من حولها.(194/12)
الالتزام بالحجاب في فرنسا
وما قصة الفتيات المغربيات الثلاث في فرنسا عنا ببعيد، وهي قصة معروفة للجميع حيث أصرت هذه الفتيات على أن لا يدخلن المدرسة إلا بالحجاب، واستطعن أن يتحدين المجتمع الفرنسي بأكمله في هذا الموضوع.
فأقول: من نعمة الله عز وجل أن دعاة تغريب المرأة، وتخريبها، وانحلالها في هذا البلاد ما استطاعوا أن يجهروا بهذه النعرة الجاهلية، ويصرخوا بهذا الفحيح الذي هو فحيح الأفاعي إلا بعد أن بدأ العالم يشهد عوداً حميداً إلى الإسلام.(194/13)
احتراف دعوة تحرير المرأة
ولذلك نقول لهم: أوراقكم محترقة، لا مكان لكم في هذه البلاد، ولا مكان لدعواتكم المضللة بين فتياتنا المسلمات، فتياتنا المؤمنات، أعلنها صريحة أنهن مع الإسلام، ومع الحجاب، ومع عدم اختلاط المرأة بالرجل، ومع التزام تعاليم الإسلام في كل صغيرة وكبيرة، حتى في هذه البلاد أكثر الفتيات الآن -وفي الجامعات أيضاً- لا تخرج إلى الجامعة إلا وقد غطت قدميها وذراعيها وكفيها وجميع بدنها، وهى تعتقد أنه لا تعارض أبداً بين أن تدرس في أعلى المستويات، وتخدم أمتها في جميع المجالات، وتمارس كل الأمور التي تناسب المرأة من الأعمال، ومع ذلك تظل محافظة على تعاليم الإسلام، فلا تخلو برجل، ولا تسافر بمفردها، ولا يرى الناس شيئاً منها، ولا تكلم الرجال إلا بقدر حاجتهم وحاجتها، ولا تعتقد أن هناك أدنى تناقض بين هذا وذلك.(194/14)
مطالبة بالحجاب في الجزائر
كل الناس سمعوا بالمظاهرة الصاخبة التي حصلت في الجزائر، وقادتها مجموعة من النساء، وبلغ العدد فيها ما يزيد على مئات الألوف، وهي تطالب بالحجاب، وتعترض على التعاليم الغربية المناقضة لتعاليم الإسلام.
إذاً: نقول لدعاة العلمانية في بلادنا: "صح النوم" بعد أن بدأ العالم يعود إلى تعاليم الإسلام، وبعد أن بدأت المرأة المسلمة ترجع إلى ربها، وترفض الجاهلية، وشعارات الجاهلية؛ نجد في مجتمعنا الطيب الطاهر نغمة تنادي بتحرير المرأة، إن هذا لشيء عجاب!!(194/15)
قرار في تركيا يسمح بالحجاب
ولعل من الغريب، العجيب، والمضحك، المبكي، وهو مفرح أيضاً: أن نقرأ في الأخبار -قبل أيام ليست بالبعيدة- أنه في تركيا مركز العلمانية، ومنطلق العلمانية، وأول دولة إسلامية حُكِمَتْ بالعلمانية على يد اليهود يهود الدونما، وزعيمهم المعروف مصطفى أتاتورك: الذي لمعه الغرب ليؤدي دوره في هدم الإسلام، أن نسمع في هذه البلاد خبراً يقول: "صادق البرلمان التركي على قرار يسمح بدخول الطالبة المحجبة الجامعة"، وأقر رئيس الدولة هذا القرار بحيث يصبح ساري المفعول، وبناءً على هذا القرار الذي يسمح للطالبة المحجبة بدخول الجامعة -وهذا هو الغريب في الأمر-: رجع عشرة آلاف طالبة تركية إلى الجامعات.
فعشرة آلاف طالبة تركية رفضن الدراسة في الجامعة لأن الجامعة تفرض عليهن السفور، وتمنعهن من الحجاب، فلما انتصر القرار الذي يسمح -يسمح فقط- بلبس الحجاب للطالبة الجامعية، رجعت عشرة آلاف طالبة إلى الجامعة، أي أن عشرة آلاف طالبة مستعدات للتضحية بالدراسة، وبالجامعة، وبما يسمونه "المستقبل"؛ من أجل المحافظة على الحجاب، ولك -أختي المسلمة- أن تتصوري أيضاً، كم من ألف طالبة تتمنى أن تتحجب لكنها لا تضحي بالدراسة فتذهب إلى الجامعة غير محجبة، مكرهة، وهي تتمنى أن يتاح لها الفرصة لأن تتحجب.
لا شك أن هذا يعد، لا أقول بعشرات الألوف، بل بمئات الألوف من الطالبات، ومعنى ذلك أن الجامعات في تركيا سوف تشهد توجهاً كبيراً نحو التزام الحجاب، وهذا ما جعل العلمانيين في تركيا يسخطون، ويمتعضون، ويقومون بالمظاهرات احتجاجاً على الإذن بالحجاب، وبعضهم أضرب عن التدريس ودخول الفصول.
ولعل مما يفرح المؤمن أن مجموعة من العلمانيين في تركيا في ذلك اليوم ذهبوا إلى قبر أتاتورك زعيمهم اليهودي الهالك، ووضعوا أمام قبره الورود والزهور، والرياحين، وقالوا كلمات معناها: يا أتاتورك، لقد تنكر المجتمع التركي لمبادئك العلمانية الكافرة.
إن المجتمع التركي يشهد عوداً إلى الدين.
إن من الغريب أنه في الوقت الذي نجد الجامعات المصرية تمتلئ بالطالبات المحجبات، وأصبح الحجاب أمراً عادياً، بل من العجيب، والغريب أنه في الوقت الذي وجدنا الفتيات المؤمنات، حتى في بلاد الغرب يلتزمن الحجاب؛ أن نجد من يطالب بخلعه هنا.(194/16)
دور المرأة المسلمة
إن هذه الدعوات التي ينادون بها هي دعوات محترقة، دعوات ميتة قبل أن تولد في هذه البلاد، ماتت قبل أن تولد، ماتت في مهدها، ووئدت في مهدها، ولكن هذا كله لا يعفيكن أيتها الفتيات المؤمنات من مسؤولية كبيرة في مواجهة الخطر الداهم الذي يهدد الأمة، الخطر من وجود هذه الفئة داخل مجتمعنا، والخطر الآخر: أن هذه الفئة عادة ما تتحالف مع العدو الخارجي، تتحالف مع اليهود، ومع النصارى، ومع الشيوعيين في سبيل الهيمنة على هذا المجتمع، وهنا يأتي دور الفتاة المسلمة ليس مهماً أن تتكلم كثيراً عما جري وماذا سيجري؟! الهم الأكبر هو أن يعرف كل فرد منا -رجلاً أو امرأة- ما هو الدور الذي يجب أن يؤديه، هل دوركن أيتها الفتيات يقتصر على مجرد ردة فعل من تصرف أهوج بإرسال برقية، أو اتصال هاتفي؟ أو إعراب عن الامتعاض، والغضب، والسخط، بوسيلة معينة؟ هذا مطلوب لا شك، ولا اعتراض عليه، وهو أقل الواجب! لكن! هل دورنا يتوقف عند مجرد ردة فعل؟ أقول: كلا، وألف كلا.
إن دوركن أيتها الفتيات أكبر من ذلك دوركن يتمثل في عدة أمور:(194/17)
مقاومة المنكرات
الأمر الثالث: وهو أمر -لا شك- مهم! ولست أقلل من شأنه، لكنه ليس الأصل، هو: أن تقوم المرأة المؤمنة بدورها في مواجهة تيارات الفساد، وفي مقاومة صور الانحراف والانحلال التي توجد، هذه يمكن أن تقول أنها ردود فعل، كأن توجد في مجتمعنا -مثلاً- جهات، أو جمعيات، أو مؤسسات تدعو إلى الفساد، تعلنه، أو تسره هنا يأتي دور المرأة سواء في فضح هذا الفساد، من خلال وثائق -بقدر المستطاع- ومن خلال معلومات مؤكدة، وإيصال ذلك إلى المختصين، وإلى أهل العلم والمشايخ والدعاة، حتى يقوموا بدورهم في الإنكار، أو الجهات المعنية، كجهات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من خلال مخاطبة المسئولين ومكاتبتهم، أو من خلال مخاطبة الأشخاص القائمين بالفساد أيضا، والإنكار عليهم، وتحذيرهم، وتذكيرهم بأيام الله عز وجل، وهذا مطلوب، وهو دور مكمل للدور الثاني.(194/18)
خلاصة ما سبق
إذاً: خلاصة ما أود أن أقوله للأخوات المؤمنات في هذه الكلمة، هو أننا ننتظر من الفتيات المؤمنات القيام بدورهن المنتظر على ثلاثة محاور: المحور الأول: أن تكون الفتاة معبرة بسلوكها الشخصي عن التزامها الكامل بتعاليم الإسلام، ورفضها الكامل لكل دعوات التغريب، والتخريب.
المحور الثاني: أن تنزل الفتاة المسلمة إلى الميدان، ولا تهرب من الواقع، ولا تقول: المدرسة الفلانية فيها كذا، والمكان الفلاني فيه كذا، والحفل الفلاني فيه كذا، ثم تهرب، لا، الهروب لا يصلح، إنما تأتي وتشارك، وتعمل على الإصلاح والتغيير بقدر ما تستطيع، فإذا استطاعت أن تزيل المنكر؛ تزيله، فإذا لم تستطع؛ تزيل بعضه وتخفف منه، وإذا استطاعت أن تأتي بالمعروف كله الذي يحتاج إليه؛ أتت به، وإذا لم تستطع؛ تأت بما يمكن منه، و {سددوا وقاربوا} .
المهم أن تنزل للميدان، وتكون فعالة إيجابية بناءة مصلحة فنحن نحتاج -والقضية مهمة جداً- إلى فتيات يرفعن الراية وتقول كل واحدة منهن: أنا لها أنا لها؛ لأنك إذا رفعت راية الدعوة؛ سوف تجدين كثيراً من الفتيات يتجمعن حولك، ويقمن بمثل ما تقومين به، ويشاركن معك، ويعرضن خدماتهن عليك، وهذا خير كثير لا شك.
الأمر الثالث: هو مقاومة المنكرات والفساد، والتيارات الداعية إلى الرذيلة، ومواجهة دعاة الفساد في مجتمعنا.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يحفظ المسلمين -رجالاً ونساء- من كيد أعدائهم الظاهرين والمعلنين، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .(194/19)
النزول إلى الميدان
ونريد منك ثانياً: النزول إلى الميدان، النزول إلى الساحة: لقد أصبحت الأدلة كافية الآن على أن هناك مخططاً مبيتاً لهذه البلاد، وللمرأة المسلمة في هذه البلاد؛ فماذا ننتظر يا أختي؟! أن نبتعد عن المجالات المهمة، مجالات التأثير ونتركها لغيرنا، أبداً! نريد منك أن تكوني: مدرسة، وموجهة، ومديرة، وإدارية، ودارسة، ومشاركة في كل مجالات العمل النسائي، التي تستطيعين أن تؤثري من خلالها.
إذاً: نريد للمرأة المتدينة، نريد للفتاة المسلمة حضوراً، ووجوداً حقيقياً، نريد المشاركة لماذا؟ لأنه ليس صحيحاً أبداً أن يكون دورنا هو الشكاوى والامتعاض وردود الفعل فإذا حصل في المكان الفلاني مشكلة، أو منكر؛ كتبنا برقية، كتبنا أخباراً، كتبنا كذا، بلغنا، لكن عجزنا؛ لأن المنكرات يمكن أن تكثر، وستكثر وتكثر، وهذا لا شك فيه؛ لأن من خطط العدو: أن يغرقنا بكم هائل من المنكرات، تمطر علينا من كل مكان، يظن بذلك أنه سوف يحبط جهودنا، ويجعلنا في حيرة من أمرنا؛ لأننا لا ندري بماذا نبدأ؟ ويكون أمرنا كما قيل: فلو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث فهل صحيح يا أختي المؤمنة: أن يكون دورك ودورنا جميعاًُ فقط: أنه إذا حصل منكر ننكره وإذا حصلت مشكلة نعالجها، ونشتكي أنه في المكان الفلاني يوجد كذا، وفي المكان الفلاني يوجد كذا، وفي المدرسة الفلانية امرأة تنادي بنزع الحجاب، وفي الجامعة الفلانية امرأة تنادي بقيادة السيارة، وفي الموقع الفلاني امرأة تسعى إلى جر البنات إلى الرذيلة والفساد -مثلاً- هل صحيح أن يكون دورنا هو الشكاوي فقط؟! وإعلان رفضنا لمنكرات معينة؟! لا أبداً، ينبغي أن يكون دورنا إيجابياً وبناءً، يتمثل بأن ننزل إلى الميدان، فتنزلين للميدان، أعني: أن يكون عند الفتيات هم المشاركة في الحياة الاجتماعية النسائية؛ من خلال التدريس، ومن خلال التوجيه، ومن خلال الإدارة، ومن خلال الدعوة إلى الله عز وجل ومن خلال المشاركة في الأعمال الخيرية، وفي دورات تحفيظ القرآن الكريم مثلاً، ومحاضرات خاصة للنساء، ومشاركات واجتماعات للنساء، ونشاط في أوساط المرأة بكل صعيد، كنشر الكتاب، ونشر الشريط، والدعوة إلى الأعمال الخيرية، والتأثير في النساء، وإرسال النصائح عبر الهاتف، أو عبر الرسائل، أو عبر المحادثة الفردية.
المهم: نريد مجموعة كبيرة من الفتيات يكون هم الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هماً مسيطراً عليهن يقعدهن ويقيمهن، ولا يحول دونهن ودون هذا الهم شيء -فمثلاً-: لا يحول الزواج دون هذا الهم، فإننا نجد أن من الفتيات في مجتمعنا من تكون قبل الزواج شعلة متحركة من النشاط لله؛ لكن إذا تزوجت خمدت وانتهي دورها، وهذه مشكلة؛ لأن الزواج أمر طبيعي بالنسبة للمرأة، فهل كل من تزوجت قعدت عن العمل والمشاركة؟! لا.
نجد نماذج في المجتمع الآن، حتى بعد أن تزوجت، وأصبح لها أولاد، لا تزال تؤدي دورها على أكمل وجه، سواء من خلال موقعها الرسمي، كمدرسة في مدرسة مثلاً، أو معيدة، أو محاضرة في جامعة، أو دكتورة، أو حتى من خلال الأعمال الخيرية، كنشاط جمعيات البر، أو جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، أو غيرها من المجالات، أم من خلال جهودها الشخصية، وصلاتها الشخصية بالنساء بالقريبات، وبالبعيدات، وبصديقاتها إلى غير ذلك من المجالات.
إذاً: نحن ننتظر منك -أيتها الأخت المؤمنة- أن تنزلي إلى الميدان وتمارسي دوراً فعالاً، ليس الدور الذي ينتظر حصول منكر حتى ينكره، أو حصول فساد حتى يغيره، كلا! بل الدور الذي يقوم ابتداءً بالدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح، وتربية النساء على الخير، والإيمان، والفضيلة، وتحذيرهن من الفساد قبل أن يوجد الفساد، وقبل أن تصل إليهن أصوات المفسدين، هذا أمر نحتاجه بشكل كبير، وهو من أهم الأشياء التي تنتظرها.(194/20)
التعبير العملي لا القولي
الأول: أن تعبر كل واحدة منكن تعبيراً عملياً، لا تعبيرا قولياً: عن رفضها لكل دعاوى أعداء الإسلام بالتحرر، وخروج المرأة، وسفور المرأة.
تعبر عنه عن ذلك الكبير الشامل بالحجاب الشرعي الحجاب الشرعي الحقيقي، وليس الحجاب التقليدي، وليس الحجاب الوراثي الذي تظهر فيه الفتاة، وكأنها ملزمة بتغطية وجهها مثلاً، فتغطي رقعة وجهها، وتظهر عينيها وذقنها، ونحرها، أو تظهر رقبتها، أو عنقها، أو كفيها، أو تظهر شيئاً من ذراعيها، وتتبرج، وتتعطر، فيقول الناس هذا حجاب إنما ألزمت به إلزاماً، وليس حجاباً ينبع من إيمانها ويقينها ودينها.
إذاً نحن نطلب منك أيتها الأخت الكريمة أولاً: أن تعبري للناس كلهم بالفعل لا بالقول، على أنك ملتزمة بالحجاب الشرعي الكامل، من منطلق إيمانك بهذا الدين، لا من منطلق أنه أمر يفرضه عليك المجتمع، حتى تقولي لكل من رأى هذا أن يقول: والله لا أعتقد أنه يمكن بحال من الأحوال، أن مجتمعاً هذا وضع نسائه، يمكن أن يتقبل مثل هذه الدعوات الداعية إلى التغريب، والتخريب، والتحرر.
هذا أمر مهم جداً، ولست أعني به فقط الحجاب! أعني به أن تكوني بكل تصرفاتك نموذجاً لما يدعوا إليه الإسلام بكل شيء، فالخلوة والاختلاط بالرجال أو كثرة الحديث معهم بغير حاجة، أو كثرة الخروج إلى الأسواق، إلى غير ذلك من الأشياء التي نريد من الفتاة المسلمة أن تقول لنا فيها كلمتها، لا بلسانها فقط بل بفعلها! تعبر عن أن هذا المجتمع أصيل، وفتيات هذا المجتمع أصيلات، ولا يمكن أن تنطلي عليهن ألاعيب الشرق أو الغرب.
هذا مهم جداً عندنا! وكم سرني وأثلج صدري حين حدثني بعض الشباب: أن بعض هؤلاء النسوة اللآتي قمن بذلك العمل الشائن دخلت يوماً ما على طالباتها قبل المظاهرة بأيام في الجامعة، فأجرت لهن استفتاءً كم واحدة منكن ترغب قيادة السيارة؟ فلم تجد منهن إلا طالبتين فقط يوافقنها على هذا الكلام، ولا شك أن هاتين الطالبتين ربما وافقنها بسبب تأثيرها عليهن، أو مجاملة لها؛ فكانت تقول: يا خسارة لا يوجد إلا اثنتين.
إذاً: المجتمع يعبر عن رفضه وسخطه لمثل هذه الدعوات المشبوهة الموءودة في مهدها، من خلال سلوك عملي تمارسه الفتاة المسلمة في كل ميدان، وفي كل مجال، هذا نريده منك أولاً؛ لأن هذا أبلغ من كل تعبير والله إن خروج امرأة متحجبة حجاباً كاملاً، أبلغ أحياناً من عشرات المحاضرات عن حجاب المرأة، ووجوب الحجاب وغير ذلك.
إذاً: نريد منك أولاً: أن تكوني أنت تعبيراً عملياً صادقاً عن تعاليم الإسلام، بدلاً من أن نتكلم كلاماً كثيراً، نريد امرأة عندما تظهر أمام زميلاتها، أو حتى تظهر في المجتمع لحاجتها، يعلم الناس أن وضع المرأة المسلمة وضع جيد، ويبشر بخير كثير.(194/21)
الأسئلة(194/22)
صلة رحم
السؤال
هل يجب علي صلة بنت أخت زوجي؟
الجواب
ليس هذا بواجب؛ لكن ينبغي للمرأة أن تحفظ زوجها في أقاربه، بإكرامهم، والإحسان إليهم، ومودتهم، وإيصال الخير إليهم بقدر ما تستطيع.(194/23)
مساواة أقارب الزوج بالأم
السؤال
هل يجب علي مساواة خالة أو أخت زوجي بأمي بالصلة سواء بالزيارة أم بالمال، علماً أن المال لزوجي؟
الجواب
أما مال الزوج، فإنه يخرج بإذنه ورضاه؛ وأما الأم فلا شك أن الأم لها من الحقوق ما ليس لغيرها، لا لأم زوجها، ولا لخالة زوجها؛ لكن كما ذكرت تحرص المرأة على أن تحفظ زوجها في أقاربه، وهذا من أهم الوسائل في تحبيب المرأة إلى زوجها.(194/24)
حكم قص المرأة شعرها
السؤال
هذا سؤال عن قص الشعر؟
الجواب
قص الشعر فيه كلام والأظهر عندي: أن قص الشعر للمرأة جائز بشروط: الأول: ألا يكون فيه تشبه بالرجال، فبعض الفتيات تقص شعرها قصاً شديداً، تنهكه، حتى كأنه شعر ولد، وبعضهن يسمينها قصة ولادية؛ فهذا لا يجوز.
الأمر الثاني: ألا يكون فيه تشبه بالكافرات، فالقصات الغربية أياً كان اسمها مثلاً: قصة الكابريه، أو الأسد، أو الفرنسية، أو السنبلة، أو غيرها؛ كل هذه القصات مما لا يجوز؛ لأنها قصات مأخوذة عن الغرب.(194/25)
اتهام العلماء
السؤال
هل نصدق ما نسمعه عن بعض المشايخ من سب واتهامات؟
الجواب
لا يجوز تصديقه؛ فالاتهام موجود، اتهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فأتباعهم يُتَهمون -أيضا- ولهم أعداء قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] خاصة في هذا الوقت، وهناك جهود جبارة لمحاولة تشويه صورة العلماء وطلبة العلم، فيجب أن نكون مستيقظين وواعين لما يقال، وإذا سمعنا شيئاً أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم.(194/26)
تبرع للمجاهدين الأفغان
السؤال
نرجو الإعلان عن وجود تبرع للمجاهدين الأفغان؟
الجواب
بالنسبة للمجاهدين -لا شك- تعلمن أيتها الأخوات مدى حاجتهم، خاصة في هذا البرد القارس، وهم يعيشون الآن ظروفا صعبة، ونحن أيضاً نعيش ظروفاً صعبة، فنحن نرجو الله عز وجل أن يدفع عنا العذاب، والبلاء، والنقمة بإعانتنا، ومساعدتنا لإخواننا المؤمنين المجاهدين، وهذا ليس تبرعاً في الواقع؛ بل هو واجب، وجزء من الواجب الذي يجب علينا أن نبذله.
لا أقل من أن تساعدي إخوانك المجاهدين بما تستطيعين: {تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، -حتى قال صلى الله عليه وسلم-: ولو بشق تمرة} وفي حديث ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء، وحثهن على الصدقة حتى بدأت النساء يتصدقن قال عليه الصلاة والسلام: تصدقن ولو من حليكن} فبدأت النساء يأخذن قرطهن، وأشياءهن، ويضعنها في حجر بلال رضى الله عنه وأرضاه، فالأخوات ليس كثيراً أن تخرج الأخت شيئاً من حليها، أو مالها، وتخرجه في سبيل الله عز وجل قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] .
فانفقي -أيتها الأخت الكريمة- مما تحبين، ولا تعتقدي أن هذا تبرع، اعتقدي أن هذا جزءٌ من الواجب الذي يجب عليك تجاه إخوانك المؤمنين، وقد يدفع الله عنك، وعن أمتك، وعن بلدك البلاء بمثل هذا العمل الطيب.(194/27)
ظهور الدعاة في التلفاز
السؤال
أنتم يا دعاة الخير تأمرون بترك التلفزيون وترك مشاهدته، وأنتم تظهرون فيه، أي في بعض برامجه، فهل يدخل هذا في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ؟
الجواب
أولاً: بالنسبة لي أنا لم أظهر في التلفزيون مطلقاً -والحمد لله- ولم يسبق لي أن شاركت في برنامج أقدمه بنفسي، فلعل الأخت واهمة، أو التبس عندها الأمر بغيري.
هذه واحدة.
الثانية: أنه حتى لو فرض أن أحد الدعاة يشارك في التلفزيون، ويأمرنا بإخراجه هل يكون مخطئاً؟ لا، ليس بالضرورة أن يكون مخطئاً، لأنه يقول: أنا أخرج التلفزيون، فأخرج مجموعة من الناس عندنا التلفزيون، ووافقوا على هذا الطلب، بقي مجموعة من الناس لم يخرجوه، أصروا على إبقائه، هل نتركهم لهذه البرامج السيئة؟ هل نتركهم للأغاني؟ وهم أكثر الناس خاصة في المناطق الأخرى.
لا يمنع أن ينتدب بعض الصالحين، ممن لا يرى حرجاً في ذلك أن يقدم بعض البرامج المفيدة؛ لملئ وقت فراغ الناس الذين أصروا على اقتناء هذا الجهاز، مع أنني أعلم أن عدداً من طلبة العلم والعلماء الذي يظهرون في التلفاز في برامج، أن بيوتهم تخلو من هذا الجهاز.
إذاً: لم يأمروا الناس بالبر ونسوا أنفسهم، أمروا الناس بالبر وفعلوه، لكنهم عملوا على سد الذريعة، وتقليل الشر بقدر المستطاع، على كل حال: أنا أنصح دائماً بتجنب التلفاز، وإخراجه من البيوت؛ لأن أكثره شر، والذي يدخله في بيته لا يستطيع أن يكون بواباً يمنع المواد الفاسدة، ويحافظ على أهله، وأولاده، وبناته من مشاهدته.
تنبيه: ورد كثير من الأسئلة الفقهية الخاصة بالنساء، وهذه الأسئلة يمكن تنبيه الأخوات على الاتصال بأهل العلم من المشايخ عند الحاجة! بمعنى: أنه ليس صحيحاً أن تتأخر المرأة عن السؤال بعد وقوع ما تحتاج إليه، بل إذا احتاجت ينبغي عليها أن تسأل حالاً، وتتصل بمن يكفيها ويشفيها ويفتيها فيما تريد.
وما يتيسر من الإجابة عليه؛ نجيب عليه الآن.(194/28)
المرأة وحفظ الوقت
السؤال
تطرقت إلى تعليم المرأة فارجو الإجابة على التالي: كيف توفق المرأة بين عملها في مجال التعليم، وبين بيتها بشرط الاستغناء عن الخادمات؟
الجواب
تستطيع المرأة أن توفق بين عملها في التعليم وبين بيتها وبين دعوتها إلى الله عز وجل بأمور منها: حفظ الوقت: فإن الوقت فيه بركة كثيرة لو حفظناه بشكل جيد، ووضعنا برنامجاً دقيقاً للوقت وحتى نكون واقعيين يمكن لكل واحدة أن تأتي بورقة وقلم، وتكتب: كم من الوقت في اليوم والليلة تستطيع الحفاظ عليه، وكم يضيع منه؟ ستجدين -أختي المؤمنة- أن جزءاً كبيراً جداً من الوقت يضيع دون طائل، ودون جدوى؛ يضيع في جلسات فارغة يضيع في نوم طويل لا فائدة منه يضيع في أشياء من الكماليات التي أغرقنا فيها، واستغرقنا فيها، واستهلكنا فيها وقتنا وجهدنا وطاقتنا.
فلو أن المرأة حسبت كم تجلس أمام المرآة؟! -أحيانا- قد تجلس ساعات في اليوم، للتسريح! والتجميل! والمكياج! إلى غير ذلك! أنا لا أدعو إلى ترك التجميل، فهذا أمر فطري مطلوب خاصة للزوج، والزوج يريده، ويطالب به، ومن حقه ذلك، لكن الاقتصاد والاعتدال في كل شيء مطلوب.
كم من الوقت نقضيه في النوم الذي لا فائدة منه؟! كم من الوقت نقضيه في جلسات لا جدوى من ورائها؟! إذاً: نستطيع أن نعمل الشيء الكثير من خلال حفظ الوقت، وهذه ليست معجزات!! أمامنا شواهد عملية رجال ونساء أوقاتهم مملوءة، وحافلة بأشياء جليلة، وعندهم من المشاغل مثلما عند الواحد منا عشر مرات، ومع ذلك تجدين عندهم أوقات فراغ، لماذا؟! لأن الوقت محفوظ عندهم.
لكن كون الإنسان ينام في الصباح -أحياناً- في أيام الخميس والجمعة حتى الساعة العاشرة، ويقول: ليس عندي فراغ، كيف يكون هذا؟! أو يجلس في جلسة ساعتين، أو ثلاث ساعات عندما ينتهي ما فائدة هذه الجلسة؟! وما هو الجدوى منها؟! وما هي الفائدة منها؟ يقول: أبداً والله! تسلية وقضاء وقت فقط.
هذا ليس بصحيح!!(194/29)
حكم الاستعاذة عند التثاؤب
السؤال
هل صحيح بأن قول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" عند التثاؤب من البدع؟
الجواب
التثاؤب من الشيطان، كما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، في الحديث المتفق عليه {التثاؤب من الشيطان} لكن لم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند التثاؤب.(194/30)
استهزاء بقضية
السؤال
بعض الأخوات يستهزئن من قضية النساء التي حدثت ولا يعطينها حقها.
الجواب
لا أدري كيف يكون الاستهزاء؟! فإن كان الاستهزاء بهؤلاء النسوة، فهن فعلاً مثار سخرية؛ ولكن ينبغي أن ندرك أن الأمر جد، وأنه خطير، وأن وراء الأكمة ما وراءها.(194/31)
الذهاب مع زوج الأخت
السؤال
هل يجوز الذهاب مع أختي وزوجها من بلد إلى بلد؟
الجواب
إذا كان الذهاب سفراً، مما يعد سفراً في عرف الناس؛ فلا يجوز؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تسافر إلا مع ذي محرم، إما إذا كان الذهاب إلى مكان قريب لا يعد سفراً في عرف الناس، وليس هناك خلوة، كالذهاب داخل المدينة مثلاً، فلا حرج في ذلك.(194/32)
التحجب من الأعمى
السؤال
نرى بعض الفتيات هداهن الله إذا جاء رجل دين فاقد البصر، لا يتحجبن بحجة أنه أعمى، فهل في حجتهن خلل؟ مع أن هناك حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
هناك حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه!} وهذا الحديث صححه بعض أهل العلم، وضعفه آخرون، والذي أراه أنه لا يجب الحجاب من الرجل الأعمى، ما دام أنه لا يرى مطلقاً؛ لأن المرأة ولو تحجبت، فإنها ترى الرجل الأعمى، ولو تحجبت؛ فإنه يجوز لها أن تلبس النقاب عند الحاجة إليه، ومنه ترى ما أمامها، وقد ثبت أن عائشة رضى الله عنها كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد.
المهم أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر بشهوة، بمعنى أنها تحدد النظر في وجوه الناس، وتميز بينهم هذا حسن الخلقة، وهذا غير حسن، وهذا، كذا، وهذا كذا، فهذا مدعاة للفتنة -ولا شك- أنه لا يجوز.(194/33)
الصور والصلبان في الملابس
السؤال
ما حكم الملابس التي عليها صور وعليها صلبان؟
الجواب
لا ينبغي لبسها، بل ينبغي إما إتلاف الصورة، وإما إتلاف الثوب كله.(194/34)
الملابس القصيرة للأطفال
السؤال
ما رأيك في أن بعض النساء تلبس بناتها الصغار ملابس قصيرة، وتقول: إنهن صغيرات؟
الجواب
الصغر مراحل، فإذا كانت طفلة صغيرة؛ فالأمر يسير؛ لكن إن كانت الفتاة قد شبت عن الطوق -أحياناً- فقد تكون الفتاة عمرها فمان أو تسع أو عشر سنوات، وخاصة إذا كان شبابها قوياً؛ تصبح كأنها امرأة.
فينبغي تعويد الفتيات على لبس الملابس الفضفاضة، الملابس الكافية وكم هو جميل ومفرح أن تري أحياناً طفلة صغيرة، وقد لبست ثوباً يغطي بدنها كله، ويغطي ذراعيها، ويغطي ساقيها، ويغطي جميع بدنها! وهذا تعبير عن أن المجتمع المسلم -كما قلت قبل قليل- يصر على أنه لا يرضى بغير الإسلام بديلاً.(194/35)
الهواجس في الصلاة
السؤال
أحاول أن أطمئن في صلاتي، لكن تكثر على الهواجس أثناء الصلاة، بماذا تنصحني، فهذا شيء يؤلمني؟
الجواب
أسباب الخشوع في الصلاة كثيرة منها: أولاً: تنقية القلب، لأن القلب الذي تصلين به إذا كان مشغولاً بالحياة، بأشياء كثيرة وهموم كبيرة، بدأت هذه الهموم تهجم عليك أثناء الصلاة، بل تجد الفرصة المناسبة وقت الصلاة فلابد أن تنقي القلب من الهموم، وتجعلي الهم هماً واحداً، ولذلك بعض الصالحين قد ينشغل في صلاته، لكن بماذا ينشغل؟! ينشغل بما هو خير، ينشغل بهم المسلمين، وهم الإسلام، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والتفكير في مشاكل الأمة، وهذا خير لا بأس به.
ولذلك عمر -رضى الله عنه- كان يقول: [[والله إني لأجهز الجيوش وأنا في الصلاة]] والرسول صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام صلى العصر، فلما سلم قام مسرعاً ودخل بيته حتى فزع الناس! فلما رجع قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ذكرت شيئاً من تبر كان عندنا} يعني: تذكر شيئاً من الذهب كان موجوداً في البيت، فقام وأمر بلالاً أن يفرقه في المحتاجين.
إذاً: كون الإنسان يفكر في صلاته أحيانا بهموم المسلمين، وأمور الأمة، ومشاكل الأمة، وأحزان الأمة، هذا قد يكون أحياناً أمراً طبيعياً، لكن المشكلة أن تفكر في صلاتك بأمور دنيوية، أو مشاكل عادية، وقضايا لا قيمة لها ولا أهمية! هذا غبن كبير وخسارة لا تعوض.
إذاً: أولاً: طهري قلبك، واملئي قلبك بهموم الإسلام بحب الله ورسوله بالإقبال على الله وعلى الدين؛ بحيث يكون هذا همك، وأنت في الصلاة، ولذلك لاحظ الفرق: الآن بعض المؤمنين يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر- رجل قلبه معلق بالمساجد} يعني: همه الصلاة، تجدين أنه يبيع ويشتري، وفكره في المسجد: وكذلك المرأة: قد تكون تدرس، تُعْلِّم، تتكلم، تشتغل في بيتها، وفي منزلها: ومع ذلك قلبها مشغول بقضايا الدين والآخرة، والخير، لماذا؟! لأن القلب قد أقبل، فحتى حين تشتغل الأبدان بالأمور الدنيوية يكون القلب مشغولاً بالأمور الأخروية.
والمصيبة أن كثيراً منا -الآن- على العكس من ذلك؛ حتى حين يشتغل البدن بالأمور الدينية مثل الصلاة، يكون القلب مشغولاً بالأمور الدنيوية مثل قضايا زوجية، أو قضايا منزلية، أو قضايا ملابس، أو أشياء، أو مشاكل لا علاقة لها بالدين، وليست من أمر الآخرة.
فالمطلوب هو العكس هذا أولاً.
الأمر الثاني: هو أن تعمل الأخت على إزالة كل الأسباب التي تصرفها عن الخشوع مثلاً: لا تصلي وهي في حالة انشغال، أو ارتباك تزيل المشاغل قبل أن تصلى، لا تصلى وفي قبلتها شيء يصرفها أو يلهيها لا تصلى وهي تسمع أصواتاً تزعجها وتلهيها عن صلاتها، ولذلك نهى الرسول عليه الصلاة السلام عن أن يصلى الإنسان -مثلاً- وهو بحضرة طعام؛ لأنه يكون مشتاقاً إلى الطعام فلا يقبل على الصلاة ولا وهو يدافعه الأخبثان -أي: يريد أن يقضي حاجته- لأنه حينئذ لا يقبل على الصلاة -أيضاً- كما يجب وكما هو مطلوب، ومثل ذلك إذا كان الإنسان بحضرة أناس يتحدثون، أو كان في قبلته أشياء تلهيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {اذهبوا بانبجانيتي هذه إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي} .
لكن ينبغي أن تعلمي: أنه لابد أن تقطعي شجرة الغفلة عن الله من قلبك يضرب بعض العلماء مثالاً يقول: لو كان هناك شجرة مغروسة، وهذه الشجرة فيها عصافير كثيرة جداً وطيور، ورجل تحت الشجرة نائم -فهذا رجل أراد أن ينام- لكن أصوات العصافير؛ وصياحها جعله لا يستطيع أن ينام، قام هذا الرجل، وأخذ حجراً وضرب به هذه العصافير فطارت وتفرقت في كل مكان، فرجع ووضع رأسه لينام؛ فلما بدأ النوم يداعب عينيه؛ بدأت العصافير ترجع، ترجع، ترجع حتى كثرت، ثم بدأت تصيح حتى لم يستطع أن ينام.
هذا بالضبط الذي نعمله نحن -أحياناً- في مدافعة الهواجس والوساوس ونحن نصلي شجرة الغفلة موجودة، فالشيطان يتسلل إلى قلوبنا، قد ندفع الشيطان، ثم يعود، ندفعه ثم يعود، لكن ولو قطعنا هذه الشجرة، لو أن هذا الرجل النائم قام وقطع هذه الشجرة؛ لأراح واستراح، ولما وجدت العصافير شيئاً تأوي إليه كذلك أنت! لو قطعت شجرة الغفلة عن الله، والانشغال بالدنيا من قلبك لم وجد الشيطان في قلبك مكاناً يأوي إليه.(194/36)
الحد الكافي في تعليم الفتاة
السؤال
لدي بنات في السنوات الأولى من دراستهن، ولما حدث ما حدث من سفور تلك الفتيات، أصبح عندي هبوط في العزيمة في تعليم الفتيات خوفاً مما حدث -عافانا الله وذرياتنا من ذلك- فما هو الحد الكافي في تعليم البنت في رأيكم؟
الجواب
القضية: ليست مشكلة تعليم البنت وإلى أي حد، الآن ينبغي أن نركز على قضية التربية اجعلي -وكذلك بالنسبة للرجال- يجعلون البنات يدرسن في المدارس؛ لا مانع، ولا مانع أن تدرس إلى الدراسات العليا؛ لكن المهم هو التربية لا تتركين البنت فقط في المدرسة فيجب على الأب والأم أن يتعاونوا في التربية، وأن يكون البيت محضناً، فإذا كانت المدرسة تأتي بخير نضيف في البيت خيراً آخر لما جاءت به المدرسة، وإذا كانت البنت قد تتعلم في المدرسة -أحياناً- أشياء ليست بجيدة، فإننا نمسح في البيت هذه الأشياء الرذيلة، ونبدلها بأشياء حسنة، ونجعل عند البنت معرفة، وتمييز، نميز به الخير من الشر، والنافع من الضار.
إذاً: الدراسة مهما كان الأمر ولو منعت أنت بناتك لم يمنعهن غيرك، فالأمر المهم: هو أن نعمل على أن نجعل من بيوتنا محاضن لتربية البنات، وإذا صلحت البنت، واستقامت، واهتدت؛ حينئذٍ لا مانع أن تدرس ابتدائي، ومتوسط، وثانوي، وجامعي؛ بل نحن بحاجة إلى دراسات عليا، نحن بحاجة إلى من يحملن دراسات عليا، وشهادات عليا، ويكن متمكنات من العلم الشرعي الصحيح، متدينات، قانتات، تائبات، عابدات، خاشعات، متصدقات، مؤمنات، داعيات إلى الله عز وجل.
هل صحيح أننا نوافق على أن تكون المدرسات في الجامعات من المنحرفات؟! هل نقبل بذلك؟! هل نرضى به؟! لا، إذاً: هل ستغلق هذه الجامعات، لا.
إذاً: لابد أن يكون في همنا أن يوجد من بناتنا المتدينات المؤمنات؛ نساءٌ يدرسن أرقى الدراسات، وأدق التخصصات التي يحتاج إليها، ويكن مع ذلك نموذجاً مشرفاً للفتيات المؤمنات المتدينات، نريد أن نقول للناس: ليس صحيحاً ما تدعونه: من أن هذه الأمور وقف على نوعية معينة من النساء، لا، أبداً! الفتاة المؤمنة أثبتت أنها تستطيع أن تدرس أرقى التخصصات، وأدقها، ومع ذلك تظل ملتزمة بتدينها، وحجابها، وإسلامها، وعفافها، وخلقها.(194/37)
خروج المرأة متعطرة
السؤال
ما حكم خروج المرأة متعطرة؟
الجواب
خروج المرأة متعطرة لا يحتاج أن أفتي فيه، فقد أفتي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، عن أبي هريرة رضى الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت، فمرت على رجال ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا، قال: زانية} فهذا زنا، أو نوع من الزنا، {العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش أو اللمس، والفم يزني وزناه الكلام أو القبلة، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} .
إذاً: خروج المرأة من بيتها متطيبة متعطرة يعتبر نوعاً من المقدمات الممهدات للزنا، لأن المرأة حينئذ تفتن نفسها، وتفتن غيرها بذلك.
فلا يجوز للمرأة إذا تطيبت، ومست طيباً أن تخرج، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {أيما امرأة أصابت بخوراً، فلا تشهد معنا العشاء} أي: لا تخرج بالليل للصلاة ما دامت قد تبخرت وتطيبت فما بالك أختي الكريمة: إذا كانت تمر بالرجال، وخرجت لغير الصلاة، وربما أصابت طيباً غير البخور، ربما يكون -أحياناً- من العطور الفرنسية النفاثة التي تشم على مسافة أمتار، وربما على مسافات بعيدة.
فهاهنا يطمع الذي في قلبه مرض، فتكونين وقعت في الفتنة، ودعوت غيرك إلى الوقوع فيها، فليس صحيح أن الإنسان يبني قصراً، ويهدم مصراً فقد تخرج المرأة المسلمة للصلاة مثلاً، أو تخرج لمحاضرة، أو تخرج لدرس تريد الخير، ولكنها كسبت من الآثام، والذنوب، وتسببت في إثم غيرها، فلا ترجع بالكفاف، ولا ترجع بالسلامة.(194/38)
من منكرات الأعراس
السؤال
نعلم جميعاً: أنه يجوز ضرب الدف في حفلات الزواج للنساء، ولكن الناس أسرفوا في ذلك.
رجاءً الإجابة على الأسئلة التالية: ما حكم دفع أموال طائلة لأولئك النساء؟
الجواب
إن كان دفع المال دفعاً فيه إسراف، وتبذير، ومبالغة، فإنه محرم، فالإسراف بكل صورة محرم، والتبذير محرم قال الله عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] وقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرا} [الإسراء:26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] .
السؤال: إذا كان الغناء ماجن؟ الجواب: إذا كان الغناء ماجناً، فإنه يحرم النطق به، ويحرم سماعه، ويحرم إعطاء المال أيضاً لمن ينطق بهذا الغناء الماجن فكل أغنية لها ضربات خاصة بها، والراقصة تؤدي حركات في جسمها تناسب تلك الضربات.
السؤال: إذا كان الضرب بدون غناء، ولكن أولئك النساء يرددن الأغاني الماجنة؟ الجواب: إذا كان الضرب على الدف فقط، وبدون غناء، أو بغناء ليس فيه مجون، وإنما هو غناء عادي، وبعيداً عن سماع الرجال أصوات النساء، وفي مناسبته؛ فإن هذا جائز.(194/39)
تقصير الثوب للمرأة ولبس القفازين
السؤال
أرى بعض النساء تقصر ثوبها قليلاً أو العباءة، وتخرج يدها مع الكمين من العباءة، وتلبس الشراب الصوف في اليدين والرجلين ماذا في ذلك؟ الرجاء ذكر حديث يدل على لبس شراب في اليدين السود؟
الجواب
أما حديث يدل على لبس الشراب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين} فدل على أن لبس القفازين كان معروفاً في أوساط النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنعت منه المرأة المحرمة خاصة، وأما كون المرأة تقصر ثوبها، وعباءتها فلا شك أن هذا محرم من وجهين: أولاً: يترتب عليه ظهور القدمين، وبعض الساقين (خاصةً إذا مشاق) .
الأمر الثاني: أنه من التشبه بالرجال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجال بالتشمير، وأن يرفعوا أثوابهم فوق الكعبين، ونهى عن الإسبال فقالت أم سلمة: {يا رسول فالنساء -النساء ما حكمهن- قال: يرخين شبراً -يعني من الكعب ترخى المرأة شبراً- قالت يا رسول الله: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: يرخين ذراعاً، ولا يزدن على ذلك} .(194/40)
زكاة الذهب الملبوس
السؤال
هل يزكى عن الذهب الذي يلبس، ولا يتاجر به، ومقداره تقريبا سبعة آلاف ريال، أو عشرة آلاف ريال؟
الجواب
-على كل حال- موضوع الحلي الذي يستخدم، فيه خلاف طويل كبير بين أهل العلم: فالأئمة الثلاثة على أنه لا زكاة فيه، والإمام أبو حنيفة يذهب إلى وجوب الزكاة فيه، والمسألة خلافية، والعلماء فيها مختلفون قديماً وحديثاً؛ وزكاته أحوط، أما متى تزكيه؟ فتزكيه إذا بلغ النصاب، ونصاب الذهب إحدى عشر وثلاثة أسباع الجنيه، وهذا يمكن معرفته من خلال قياس الذهب ووزنه، وأنا لا أعرف قيمة الذهب بالريال السعودي.(194/41)
طلب العلم الشرعي للمرأة
السؤال
هل يتعين على المرأة المسلمة طلب العلم الشرعي؟ وكيف توفق بينه وبين التزاماتها الأخرى؟
الجواب
نعم يتعين على المرأة المسلمة طلب العلم الذي تحتاج إليه في ذات نفسها، أي أن المرأة لابد أن تعرف العلم الذي يخصها؛ لابد أن تتعلمه؛ لكن لا يتعين على كل امرأة أن تتعلم تفاصيل العلم الذي لا تحتاج إليه؛ إنما نحتاج إلى فئة من النساء يندبن أنفسهن لتعلم العلم الشرعي، إضافة إلى ما يحتجن إليه، بل ما تحتاجه الأخريات، حتى يكن نبراساً يهتدي به الآخرون.(194/42)
موقف المسلمة من دعاة تحرير المرأة
السؤال
ما موقف المرأة تجاه اللاتي يدعين إلى التحرير، ويحاولن إفساد زميلاتهن في الدراسة؟
الجواب
أولاً: لابد أن تقوم بجهد مضاد -كما ذكرت أثناء الكلمة- بالدعوة إلى الخير والفضيلة.
ثانياً: تقوم بواجب النصيحة لهؤلاء النساء سواء للداعيات أو للمدعوات.
ثالثاً: إذا لم تمتثل هؤلاء النساء؛ ينبغي فضحهن والإبلاغ عنهن، وعما يقمن به، ومحاولة إيجاد وثائق تدل على هذا الجهد الذي قمن به، حتى يتم إيقافهن.(194/43)
دخول المعاهد الصحية
السؤال
ما رأيكم في التسجيل بالمعاهد الصحية التي خصصت للنساء؟
الجواب
أرى أن التسجيل في هذه المعاهد ليس بجيد، وأنصح الفتيات بالبعد عنها؛ وذلك لأننا نعرف ما هو التمريض في مستشفياتنا، نعرف الاختلاط، نعرف التبرج فيه، نعرف التطيب، ويصعب على الفتاة المؤمنة أن تلتزم بالالتزامات الشرعية في مثل تلك البيئات، وقد اتصل بي كثير من الفتيات من تلك المعاهد، أو من المتخرجات، يذكرن أشياء كثيرة مما يعانيها من يعمل في مثل هذه المجالات.(194/44)
تغطية الرأس
السؤال
هل الأحسن للمرأة المسلمة أن تغطي شعر رأسها إذا كانت في المدرسة أو في أي مكان غير بيتها، أم الأمر سواء؟
الجواب
أما إن كانت في مجتمع نسائي -مجموعة من النساء- فليس في الأمر لزوم أن تغطي رأسها، أو لا تغطية؛ أما بالنسبة للمجتمعات الرجالية فلا شك أن الأمر معروف أن المرأة تغطي شعر رأسها، وتغطي بدنها كله.
وأما فيما يتعلق بالصلاة: لا شك أن العلماء مجمعون على وجوب تغطية المرأة شعر رأسها إذا كانت في الصلاة.(194/45)
خروج المرأة
السؤال
هل في خروج المرأة لزيارة المريض، أو صلة رحم من حرج؟
الجواب
ليس في ذلك من حرج، ما دام أن خروجها لحاجة، كزيارة مريض، وليس في ذلك فتنة ولا تبرج، ومثله إذا كان ذلك لصلة رحم.(194/46)
تربية المسلمة لنفسها
السؤال
كيف تربي المرأة المسلمة نفسها بنفسها؟
الجواب
لا شك أن المرأة أولاً: تحتاج إلى غيرها، ومن الصعب أن تربي نفسها بنفسها، فالإنسان محتاج إلى غيره، وإنما تربي نفسها من خلال: أولاً: صلتها بأخواتها المتدينات، المؤمنات اللاتي يكن عوناً لها على طاعة الله عز وجل؛ بالوعظ، والتذكير، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، من خلال الدروس، والمحاضرات، والجلسات الأخوية، ودروس تحفيظ القرآن وما شابه ذلك من النشاط الخيري.
الأمر الثاني: أن هناك -ولله الحمد- وسائل كثيرة، أصبح بالإمكان أن تفيد المرأة كثيراً، مثلاً: الكتيبات ففيما يتعلق بالمرأة هناك كتيبات كثيرة جداً، ورسائل صغيرة مفيدة، مثلاً: كتاب الأستاذ محمد قطب حركة تحرير المرأة وكتاب الأستاذ الدكتور: ناصر العمر فتياتنا بين التغريب والعفاف، -كتيبات كثيرة جداً- وكتاب التبرج لـ نعمت صدقي، كذلك رسائل منهاإليك أختي المسلمة للأستاذ عبد العزيز المقبل، إلى غير ذلك من الكتيبات، والرسائل الصغيرة، المفيدة التي يمكن للأخت أن تقرأها، وتقرئها غيرها أيضا.
الوسيلة الثانية -غير الكتاب-: مسألة الشريط، وهو ممكن جداً حتى لغير المتعلمة، وحتى للمشغولة تسمع الشريط وهي تعمل في المنزل -مثلاً- أو وهي بأي حالة من الأحوال والأشرطة التي تعالج وضع المرأة المسلمة كثيرة وكثيرة جداً، وبعض محلات التسجيل قد أصدرت قائمة، أو كشف بأسماء الأشرطة المتعلقة بالمرأة، والأسرة المسلمة.
فضلاً عن أن المرأة المسلمة، تجاهد نفسها في عبادة ربها، وفي قيام الليل، وفي قراءة القرآن، وفي طاعة الله عز وجل، وفي كثرة الذكر، والتسبيح، والتهليل، والتحميد إلى غير ذلك.(194/47)
عوامل تَمَيُّز المرأة المسلمة
السؤال
ما هي العوامل التي تساعد المرأة المسلمة على أن تكون متميزة معتزة بإسلامها؟
الجواب
في الواقع هناك عوامل كثيرة، تكلمت عن جزء منها في محاضرة: مصدر عزة المسلم، لكن من أهم العوامل التي أشير إليها الآن هو: أن يكون التزام المرأة بإسلامها ليس التزاماً تقليدياً، بمعنى ألا تكون فتاة ورثت الإيمان عن أم وجدة، وأخذته بالعادة، والتقليد، والوراثة فقط! لا، بل أضافت إلى ذلك الالتزام بالإسلام عن علم، وبحث، ومعرفة، وقراءة، وإدراك، فأصبحت -مثلاً- تملك من الثقة بدينها، والاعتزاز به ما يجعلها رافعة الرأس، حتى حين تكون في وسط مجموعة من الفتيات المنحرفات لا تشعر بالضعف، أو الخجل أمامهن، بل تشعر بالقوة، وتشعر بالوضاءة وبالإشفاق عليهن، وهذا -لا شك- من أهم الوسائل التي تجعل هذه الفتاة تقبل دعوتها، وتؤثر في غيرها.
لأن البنات إذا رأين فتاة رافعة الرأس، قوية، معتزة، لا تخجل منهن لأنها متمسكة؛ بدأن يعدن النظر في حساباتهن، ويحاولن تقليدها لكن إذا كانت فتاة خجولة، تستحيي من تدينها، وتستحي من تمسكها بدينها، ويمكن أن تعتذر أحياناً بل أحياناً، يمكن أن تجامل وتدعي أنها تعمل أشياء لا تعملها، لمجرد مجاملة الفتيات المنحرفات من حولها، فهذه ليست موضع قدوة، بل على العكس! قد تزيد المنحرفات انحرافاً، وتغريهن بالانحراف.
إذاً: نحن نحتاج إلى فتاة تمسكها بالإسلام ليس عن طريق: أنها ورثت الإسلام عن أمها وجدتها، إنما لأنها قرأت عن الإسلام، وعرفت ما هو الإسلام؟ وأدركت فضل الإسلام على الرجل والمرأة في الدنيا والآخرة، وأدركت واقع الغرب وما يعانيه من انحراف، وما يريد أن يجرنا إليه عملاء الغرب من فساد، وتعاسة، وشقاء، وميل عظيم في الدنيا والآخرة، فتمسكت بدينها عن علم ووعي وبصيرة؛ وعلم بالدين نفسه، وعلم بما يعارضه ويخالفه.(194/48)
مصدر عزة المسلم
عزة المسلم تحصل بمجرد إسلامه، ومن جوانب العزة: الإيمان وله عدة جوانب: العقيدة الصحيحة، والإيمان بالله ورسوله، وملائكته واليوم الآخر، والإيمان بأن المستقبل لهذا الدين، وعلينا صنعه بأيدينا.
أما الجانب الثاني للعزة فهو وضوح الهدف ومعرفة العدو من الصديق.
والجانب الثالث: هو نقاء الصف من المنافقين وفضحهم.
والجانب الرابع والأخير: هو معرفة السنن الربانية في الصراع والمدافعة، وإحباط الله لعمل المفسدين، وقرب النصر، وتأييد الله لعباده بجنوده التي لا تحصى.(195/1)
عزة المسلم تكتسب بمجرد إسلامه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، قادنا إلى الهدى، وقادنا إلى العزة والكرامة، ونقلنا الله عز وجل به من درك الغواية، والذل والتفرق إلى قمة العز والمجد والوحدة، فجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
عزة المسلم أيها الإخوة ليست مما يحتاج إلى تأكيد، فإن نصوص القرآن والسنة حافلة ببيان عزة المسلم، وأنه هو الأعلى بمجرد كونه مسلماً، من دون إضافة أي شيء آخر، بمعنى أن العزة للمسلم تنبع من ذاته، لا من الأشياء التي يمتلكها، فليست عزته بشبابه، أو قوته، أو صحته، أو منصبه، أو ماله، أو غير ذلك كلا، بل عزته تنبع من إسلامه، فإذا كان مسلماً، كان عزيزاً، ولذلك قال الله عز وجل {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] بغض النظر عن أي شيء آخر، وعن أي مواصفات أخرى، وهذا هو الذي فهمه المسلمون الأولون.(195/2)
قصة أسامة بن زيد
وأكتفي هنا بضرب مثل واحد لكم، وهذا المثل حديث صحيح رواه الحاكم وغيره، في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه: {حينما ذهب حكيم بن حزام رضي الله عنه إلى السوق، فوجد حلة تباع -أي: ثوباً يباع- فقال: لمن هذا؟ قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك من ملوك اليمن، فاشتراها بخمسين ديناراً، ثم جاء بها إلى حبيبه وصديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهداها إليه، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر بها، فما رؤي من ذي حلة أجمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، ثم خلعها صلى الله عليه وسلم -لأنه كان معرضاً عن الدنيا- وألبسها أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فلبسها أسامة ومشى بها في السوق، فمر من عنده حكيم بن حزام قبل إسلامه، فتعجب وقال: أسامة بن زيد رجل كان أسمر دميم الخلقة، صغير السن، وأبوه كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا فيه، ومع ذلك يلبس حلة ذي يزن! فقال له أسامة بن زيد: نعم! والله لأنا خير من ذي يزن، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه} .
إذاً: أسامة الشاب الذي لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره يشعر على قلة ذات يده أنه أعظم منزلة من ذي يزن ملك اليمن، لا لشيء، إلا لأن أسامة مسلم وهذا كافر، هذا هو الفارق بينهما، وهذا هو مصدر العزة بكل اختصار.(195/3)
ربط العزة بقضية الإيمان
ولا شك أن هناك جوانب يمكن أن نلقي عليها الضوء بشكل أكبر، وأكثر، وأوسع، وسأتحدث عن قضية الإيمان التي ربط الله عز وجل العزة بها.
فلا شك أن من شروط الإسلام أن يؤمن الإنسان بأن هذا الدين الذي يدين به هو الحق ولا حق سواه.(195/4)
الإيمان باليوم الآخر
إذا نظرنا إلى الإيمان باليوم الآخر، نقول: مد نظرك لا تقتصر على الدنيا، هل تفاخرنا أن الروس مكنوا خمسين سنة، أو الأمريكان ستين، أو مائة سنة، أو مائتين سنة، تفاخرونا بهذا! نحن نفترض لك بأنهم مكثوا في الدنيا كل الدنيا، أليس عندنا الآخرة؟! أنا لا أدعو إلى ترك الدنيا والغفلة عنها؛ لأننا متعبدون بالجهاد في هذه الحياة، متعبدون بإقامة دين الله عز وجل على هذا الوجود، متعبدون بقيادة البشرية كلها، هذا لا شك فيه، لكنني أريد أن ندرك أن مصدر العزة ليس مجرد كوننا متقدمين، أو متحضرين، أو كوننا نمتلك الصناعة، والتقنية، لا، مصدر العزة أمر وراء ذلك، فإذا كانت لهم الدنيا -جدلاً- فإن لنا الآخرة، ويجب أن نحرص نحن المسلمين على أن تكون لنا الدنيا والآخرة، هذه هي الأصول.
أولاً: قضية الجهاد: إنَّ قضية الجهاد في سبيل الله عز وجل تدخل في موضوع الإيمان بالآخرة، لأن المؤمن يجاهد فيفقد آخر ما يملك في الدنيا، ومع ذلك تجده يقدم نفسه بكل بسالة وإقدام، وكثيراً ما أقف -أيها الإخوة- وأتعجب من قصة حرام بن ملحان التي رواها البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أوردها من باب الحب: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع فهذا الصحابي الجليل يطعنه رجل من خلفه بالخنجر، فيفور الدم من بطنه، فماذا صنع؟ الزوجات، والإماء، والأموال، والأملاك، والدنيا، والعمر، كلها راحت، هل فقد العزة؟ هل ندم؟ أرأيتم أي إنسان مثلاً شيوعي، أو علماني، أو بعثي، إذا فقد الدنيا ماذا بقي له؟ ما بقي له شيء لأن كل همه على هذه الدنيا، ولهذا يقول: خذ من الدنيا بحظ قبل أن ترحل عنها فهي دار لست تلقى بعدها أطيب منها أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، لكن المؤمن يموت وهو يبتسم، كما قال الشاعر: آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي فـ حرام بن ملحان رضي الله عنه لما طعن استقبل الدم بيديه، ثم رشق الدم على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة الله أكبر]] وفي بعض الروايات أن الذي قتله هو جبار بن سلمى، وقيل إنه عامر بن الطفيل، المهم إن كان جبار بن سلمى، فتقول بعض الروايات: أنه بدأ يفكر في معنى: فزت ورب الكعبة، فاز بماذا؟! إن الرجل قد مات وانتهى، وهذا ليس تمثيل الآن، فالرجل يتكلم عن صدق وحقيقة، فهداه هذا إلى الله عز وجل فأسلم.
وكيف لا يكون الأمر كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين أيضاً في أحاديث كثيرة مثلاً: {موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {قاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين المشرق والمغرب- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} ما رأيك في الذي يؤمن بهذه المعاني، هل يخسر شيئاً إذا فقد الدنيا؟! ولذلك انظر كيف يسارع المؤمنون إلى الموت، وكأن الواحد منهم سيلقي حبيباً عزيزاً طالما اشتاق إلى لقائه: [[واهٍ لريح الجنة، إني لأجد ريحها من دون أحد]] يقطع إرباً إرباً وهو يبتسم، إنَّ هذه معجزة، هذه آية من آيات الله عز وجل لا يملكها شيوعي، ولا علماني، ولا حداثي، ولا يهودي، ولا نصراني، لأن هؤلاء القوم ليس عندهم غير هذه الحدود الأربعة، أو الستة، ليس عندهم شيء وراء هذه الدنيا، ولذلك يغرقون في اللذة؛ لأنه ليس عندهم غيرها، المؤمن يمكن أن يؤجل لذة الدنيا؛ لأنه يطمع في لذة الآخرة، وأنتم تعلمون أن الله عز وجل أباح من اللذات من الحلال ما يغني عن الحرام، لكن ما دام أن نساء الجنة بالشكل الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد آمنا به وصدقناه، وشهدنا بأن ما جاءنا به حق {أنه لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -الخمار والطرحة إن صح التعبير- خير من الدنيا وما فيها} من يوم خلقت الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(195/5)
الإيمان بمستقبل الإسلام
من مصادر العزة فيما يتعلق بموضوع الإيمان أيضاً قضية الإيمان بمستقبل الإسلام، مع أن هذا كله من مصادر العزة، وهي أمور ترتبط بالآخرة، وبالإيمان بالله عز وجل وملائكته، وكتبه، ورسله، مع ذلك فإن من مصادر العزة إيماننا بأن المستقبل لهذا الدين، بأن المستقبل للإسلام، أما المستقبل الأخروي -فكما ذكرت لكم وأسلفت- لكن حتى المستقبل الدنيوي هو للإسلام، وليس بالضرورة حين أقول المستقبل للإسلام أنه أنا أو أنت لا بد أن نرى هذا بأعيننا، هذا ليس شرطاً، لأننا لسنا نحن الذين نملي ما يجب أن يكون، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] المهم أن الدين الذي نحمله هو الغالب المنتصر، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] فحتى المستقبل في هذه الدنيا هو للإسلام، ولهذا الدين.
في آخر الدنيا هناك البشارات النبوية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، من نزول عيسى ابن مريم، وخروج المهدي، وجهاد المؤمنين معهم، وقبل ذلك هناك بشائر وبشائر، وبشائر كثيرة، وقد ذكرت لبعض الإخوة موقفاً -أيضاً- من المواقف التي يجب أن نقف عندها.
ففي الصحيحين، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام، في حديث ابن عمر: {تقاتلون اليهود، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} هذا حديث متفق عليه، لكن هناك رواية في هذا الحديث في غاية العجب، ذكرها الطبراني والبزار وأبو نعيم وغيرهم عن نهيك بن سريج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا المشركين على نهر بالأردن، أنتم شرقي النهر وهم غربيه، حتى يقاتل بقيتكم المسيح الدجال} على نهر بالأردن، إذاً: هناك تحديد، وهذا حديث حسنه الهيثمي والغماري، ومن ضعف الحديث فما أصاب، لأن هذا الحديث ضعفه ليس شديداً، والواقع يقويه، وينطق بأنه حديث صحيح بلا شك، ولا ريب، لأن الراوي يقول: [[ولم أكن أدري أين الأردن يومئذٍ]] إذاً هناك جولة قادمة منتصرة، هذه والله الذي لا إله غيره نقول ولا نستثني: إنها آتية، ولكن لا يمنع -أيضاً- أن هناك جولات، وجولات، وجولات يكون الإسلام فيها هو الغالب المنصور، وكم كاد الأعداء، وحاولوا فكان كيدهم في مصلحة الإسلام، وهذا أمر معروف على مدى التاريخ، كانوا يكيدون ويضعون التدابير والمكر بدون أن تأتي النتائج، وهذا المكر كله كان في مصلحة الإسلام والمسلمين.
ثانياً: اختيار الله لأمة العرب: في موضوع مستقبل الإسلام هناك النصوص العامة، قال تعالى: {الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] وقال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] إلى غير ذلك، وكذلك الأحاديث، وقد نتحدث عنها في مناسبة خاصة.
ولكن هناك أيضاً نصوص خاصة أرى أن من المهم أن نتحدث عنها، خاصة في هذه الظروف التي تعيشها بلادنا في هذه الأيام، فإن الله عز وجل يخلق ما يشاء، ويختار من الأمم من يشاء، ويختار من البلاد ما يشاء، فلا نشك في أن الله عز وجل اختار أمة العرب وفضلها، وهذا الكلام يجب أن يكون موضع اتفاق، نحن نقول العرب لا لأنهم عرب، لكن لأن الله عز وجل جعل الرسالة فيهم، ولو تخلو لاختار الله عز وجل من غيرهم من يقوم بهذه الرسالة، قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] لكن الأمة العربية التي بعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من أكثر الناس إخلاصاً لهذا الدين ودعوة إليه، ولا يزال المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يكنون لهذا الجنس من الاحترام والتقدير ما لا يكنونه لغيره، ولذلك قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كما في سنن أبي داود: [[والله يا معشر العرب، إن لم تقوموا بهذا الدين، لغيركم أجدى أن يقوم به]] فضلاً عن أن الرسول عليه الصلاة والسلام خص قبائل بأسمائها وأعيانها، أنَّ لهم دوراً تاريخياً مشهود.
ثالثاً: جزيرة العرب هي جزيرة الإسلام: أذكر منها قصة بني تميم لما قال أبو هريرة رضي الله عنه أن فيهم خصالاً ثلاثاً: لا أزال أحبهم بعد ثلاث سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: {أنهم أشد أمتي على المسيح الدجال} .
إنَّ هذه الأمم، وهذه الشعوب، وهذه القبائل، وهذه الأجناس التي أخلصت الولاء للإسلام في الماضي، هي نفسها مخلصة للإسلام في الحاضر والمستقبل، لا شك في هذا ولا ريب، فالله عز وجل قد اختارها لهذا الدين، وكذلك هذه البقاع التي تقطنها تلك الأمم، وتلك الشعوب، وتلك الأجناس، وتلك القبائل، هي بلاد الإسلام، منها بدأ وإليها يعود.
والكلام فيه أحاديث كثيرة، أذكر منها -مثلاً- قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة، كما في حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالحزورة لما أخرج من مكة، فالتفت إلى مكة وقال: {والله إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] الدجال حين يخرج لا يدخل مكة ولا المدينة، الجزيرة العربية كم فيها من النصوص؟ {إن الدين ليأرز بين المسجدين} يأرز أي: كلما ظلم الدين في الدنيا كان مرجعه بين المسجدين، يتردد بين المسجدين، بين مكة والمدينة، حتى إن أهل العلم أو بعضهم لما ذكروا البيت العتيق، قالوا: إنما سمي البيت العتيق بهذا الاسم؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط، وهذا هو التاريخ ينطق، حتى أنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} هذه جزيرة الإسلام، هذه أرض الإسلام، وهذه هي القضية التي أود أن أركز عليها دائماً وأبداً، وأن تكون عقيدة مستقرة في نفوسنا، وأن نملأ مجالسنا، نملأ أفواهنا، ومنابرنا، ومجالسنا، وكتبنا، ومحاضراتنا، بالحديث عنها، يجب أن يدخل أعداء الإسلام في جحورهم، لا مكان لهم في هذه الجزيرة، فإن أحبوا أن يكونوا مع المسلمين في استقامتهم وصلاحهم ودينونتهم لله عز وجل فأهلاً بهم وسهلاً، وأما إذا أصروا فعليهم أن يخنسوا، ويدخلوا في جحورهم، فإن هذه الجزيرة لم تخلق لغير الإسلام.
ثالثاً: راية التوحيد في الجزيرة مرفوعة: تصفح تاريخ هذه الجزيرة منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يوجد وقت إلا وتجد في هذه الجزيرة لا أقول راية، بل رايات مرفوعة تنادي بالتوحيد الخالص، تنادي بالإسلام الصحيح، تنادي بالدعوة إلى الكتاب والسنة، وتجمع الناس على كلمة الحق، هذه جزيرة الإسلام منها بدأ وإليها يعود، وأهل هذه البلاد هم أهل الإسلام، والأحداث تثبت هذا، فإن أهل هذه البلاد يحملون بحمد الله من صدق العواطف، وقوة الغيرة، والغضب لله ولرسوله، الشيء الكبير، ولست أُهوِّن من شأن غيرهم، ففي كل بلاد المسلمين خير كثير، ولكن الواقع الذي أجد نفسي مضطراً أن أقوله في هذا الوقت، ومحتاجاً أن أقوله، إن كثيراً من البلاد قد فعل فيه الاستعمار فعله، ووجد من أبناء تلك البلاد من يجعلهم صنائع، -طابوراً خامساً يقومون بالنيابة عنه بتنفيذ مخططاته- أما في بلادنا فقد فشل، وأصبح هؤلاء الذين -أحياناً- يربيهم الأعداء في جامعاتهم، ومؤسساتهم، إذا عادوا عادوا إلى أصالتهم، عادوا إلى جذورهم، -كما يقال- استقاموا على الطريقة، نبذوا تلك الأفكار، وصاروا ينظرون إلى تاريخهم الأسود الماضي نظرة ازدراء واحتقار، أما الذين أصروا على ما هم عليه، فلا يزال الناس ينظرون إليهم بريبة وشك، وينتظرون اليوم الذي يفضحهم الله تعالى فيه على رءوس الخلائق، لتبين حقيقة الدعوات التي ينادون بها.
الجزيرة العربية أرض الإسلام، لن تحكم هذه الجزيرة بغير الإسلام، يجب أن نشيع هذا؛ حتى يدرك الجميع أن الخطر ليس على الإسلام، فهذا دين الله عز وجل والله تكفل به، ومنذ أربعة عشر قرناً تحطمت على صخرة الإسلام حركات ودعوات وأمم وتيارات، أين التتار، والمغول، والصليبيون، وغيرهم من الأمم التي كانت أشبه ما تكون بالسيول الجارفة.
رابعاً: للدين رب يحميه ولكن! هذه جزيرة الإسلام، منها بدأ الإسلام وإليها يعود: {وإن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} وهاهو التاريخ يشهد، هذا أبرهة يأتي إلى الكعبة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1-5] لمن ترك الله عز وجل أمر الدفاع عن البيت؟! هل تركه لـ عبد المطلب ومن معه من قريش؟! لا أبداً، لم يتركه لهم، وهم رغم أنهم كانوا كفاراً كانوا يعرفون هذا، ولهذا كان عبد المطلب مشغولاً بقضية شخصية، أخذتم إبلي، ردوا علي إبلي، قالوا: هذا البيت الذي هو تراثك، وتراث آبائك، وأجدادك، قال: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، ينبغي أن يكون عندنا هذا الشعور، للدين رب يحميه، لا يجب أن نخاف على الإسلام، لكن يجب أن نخاف على أنفسنا من أن نقصر في واجبنا، أو ن(195/6)
الإيمان بالعقيدة الصحيحة
أولاً: يعتقد المسلم بأن اليهود على حق -مثلاً- أو النصارى على حق، أو الشيوعيين على حق، أو أي أمة، أو طائفة أخرى على حق، حينئذ يخرج من دائرة الإسلام، ويدخل في دائرة الكفر، فهذا اليقين العميق الراسخ بأن المسلم هو على الحق، وأن من عداه على الباطل، يجعله في موقف العزة التي لا تقبل الشك، ولا تقبل التردد، ولذلك تجد أن المؤمن من هذا المنطلق يشعر بالعزة في كل الظروف.
أ- قصة موسى مع فرعون: إنَّ موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من أتباعه من بني إسرائيل، لما كان فرعون يطاردهم ويحاربهم، وكانت معه الجيوش الجرارة، والقوى الهائلة، والمؤمنون المسلمون مع موسى لم يكونوا يملكون من القوة إلا النزر اليسير، مع ذلك يقول الله عز وجل له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] لا تخف يا موسى من قواهم، وإمكانياتهم، وبطشهم، ووسائلهم المادية، لأنه ما دام الله تعالى معك، فكل شيء ممكن، حتى الخوارق يمكن يجريها الله عز وجل لك، فمتى ما كنت متحققاً بهذا الشرط الإيماني {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:68-69] وكما قال الشاعر: إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر فهم يكيدون، ويخططون، ويجمعون، ويتألبون، ويتنادون، ويتداعون، ويرسمون، ويدرسون، ويفعلون، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:14-17] .
ب- قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: هذه القوة والعزة يشعر بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يلقى في النار؛ لأن الإيمان في قلبه راسخ رسوخ الجبال الراسيات، فلا يبالي بهم ويقول: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] قوة، إمكانيات مذهلة، النار تتأجج، حتى يلقى إبراهيم في النار، أي إنسان عنده تردد، أو تلجلج في إيمانه، قد يخشى لأنه الآن يلقى في النار، يوضع في المنجنيق، ليقذف في النار، لم يبق شيء، وضعفاء الإيمان حينئذ قد يتساءلون لماذا لم تتدخل القدرة الإلهية؟! لكن ربك عز وجل حكيم عليم يجري قدره متى شاء، ويلقى إبراهيم في النار في تلك اللحظة، فيأتي قدر الله قال تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فيكونون هم الأخسرين الأسفلين، ويكون إبراهيم هو القوي العزيز بإذن الله تعالى، قال الشاعر: خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم جـ- محمد صلى الله عليه وسلم: محمد عليه الصلاة والسلام يقوم ليعلن دعوته في قريش، يا صباحاه، يا صباحاه، فيجتمع إليه الناس فيقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدنيا كلها معسكرين، الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليس معه إلا أناس لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، والدنيا كلها في معسكر آخر، تحالف عالمي، الفرس والروم والهند، والسند، والصين، وكل الدنيا، بل حتى قريش والعرب التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي مع المعسكرات الغربية والشرقية ضد نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يدير الله عز وجل أمور الكون، وينقل نبيه صلى الله عليه وسلم من نصر إلى نصر، ومن عز إلى عز، ومن تمكين إلى تمكين، حتى لم يمت عليه الصلاة والسلام، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] .
د- امرأة فرعون وماشطة ابنة فرعون: قد يقال هؤلاء الأنبياء، فنقول وأتباع الأنبياء أيضاً، هذه امرأة فرعون، امرأة في قصر الطاغية فرعون تعرض عن زينة فرعون، ودنياه، وجاهه، وماله، ومنصبه، وترفع رأسها إلى السماء، قال تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] وأعجب من ذلك ماشطة بنت فرعون، ولها قصة، رواها ابن عباس وغيره، وهي عجب من العجب، أن ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله، فرفعت البنت رأسها، وقالت: أبي، الله أبي، قالت: لا ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، فقالت: أخبر والدي بهذا، قالت: أخبريه، فجاءت إلى أبيها وقالت: الماشطة تقول كذا وكذا، فدعاها فقالت: نعم، ربي وربك الله، امرأة تتحدى أكبر طاغية في التاريخ!! وما انتهى التحدي عند هذا الحد كان لها أطفال، فأحضر الطاغية الجبار قدراً نقره من نحاس وأوقد عليه حتى أصبح جمرة تتلهب محمرة، ثم أخذ ابنها من على كتفها ليلقيه في هذا القدر، فينحلس فيه كما تنحلس الحبة، وما هي إلا لحظة حتى يتجمع ويتمزق وينتهي، ويصبح فحمة سوداء، فتقول له بكل ثبات: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟ قالت: أن تجعلني وأولادي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ليس هناك مانع، ثم يأخذ الآخر، ويجره وقد أمسك بثوبها، فيلقي به -أيضاً- في القدر، أي صبر هذا؟! ثم يأخذ الثالث ليلقي به على أثره قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14] وأدرك فرعون شؤم هذه الفعلة الشنعاء، وما ماثلها من الأفعال الشنيعة التي تجلى فيها طغيانه، فإذا الله عز وجل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .
هـ- قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن: قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن، وهي في الصحيح، الغلام يكون على كتف أمه، فلما ترددت بعض التردد أن تلقى في هذه النار، يقول: يا أماه اصبري، فإنك على الحق، فتصبر ويلقى بها وبولدها في هذه النار، وفي النهاية يكتب الله عز وجل لهم النصر، فكانوا منتصرين، وسر انتصارهم هو أنهم يموتون على الإسلام.
إنَّ النصر الدنيوي المادي -أيها الإخوة- قد يتحول إلى هزيمة، والمنتصر الغالب اليوم قد يهزم غداً، لكن هذا النصر الذي حققته ماشطة بنت فرعون، أو امرأة فرعون، أو حققه المؤمنون الذين ألقوا في الأخدود، بالله عليكم هل هذا النصر يمكن أن يتحول إلى هزيمة يوماً من الأيام؟! كلا والله، لقد أصبحوا معالم على مدى التاريخ، تقول للناس: إن العقائد الراسخة العميقة في النفوس والضمائر، لا يستطيع الحديد والنار أن يفلها بحال من الأحوال، هذا هو النصر، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51-52] .
و قصة خبيب بن عدي: ومن هذه الأمة والأمثلة من هذه الأمة كثيرة: خبيب بن عدي رضي الله عنه حين أمسك به المشركون من قريش، وأسروه، ثم جاءوا به ليقتلوه ويصلبوه على جذع نخلة في مكة، تلفت فلم يجد حوله إلا شانئ معارض مبغض، وهو رجل وحيد أعزل، مكبل بالقيود ليضرب الآن بالسهام فما الذي فعل؟! هل ضعف؟ أبداً، استأذنهم أن يصلي ركعتين فصلى ركعتين، ومن ذلك سن صلاة ركعتين عند القتل، ثم قام، وتلفت إليهم، يقول وهو ينظر إليهم: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدي العدواة جاهد عليَّ لأني في وثاق بمضيع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع يتفرجون على هذا المشهد: إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هملت عيناي من غير مجزع ما بكى خوفاً من الموت، أبداً: وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذاري جَحْمُ نار ملفع ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع ولست بمبد للعدو تخشعاً ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي ز- عزة المسلم على مدار التأريخ: من الذي أثبت صلابته على مدى التاريخ؟! هذا تاريخ الدنيا مكتوب كله، قولوا لنا أي أمة، أي شعب، أي ملة من الملل، تملك من البطولات، وتملك من الصبر، وتملك من التضحية، وتملك من الجهاد، مثلما يوجد في رصيد هذه الأمة؟! نتحدى الدنيا كلها من يتحملون عقائد، وملل، ونحل، وينتحلون مذاهب من العلمانية، والقومية، والحداثية، والشيوعية وغيرها، لكن هؤلاء ما أسرع ما يدخلون في جحورهم ويهربون، أما المؤمنون فهم أصبر الناس عند المصيبة، وأكثرهم تحملاً لما يلقون في ذات الله عز وجل، لأن العزة تنبع في قلوبهم، فلا حيلة في دفعها.
وكيف لا يكون المؤمنون أعزة، وهم يملكون هذا الإيمان الراسخ العميق بدينهم، في الوقت الذي تجد أصحاب الأديان، والملل، والنحل الأخرى، والمناهج الأرضية، يعيشون غيابة الفكر، في يوم من الأيام اكتسحت الناصرية الأمة العربية، وفي يوم آخر اكتسحت القومية، وصار المنادون بها كثراً، وصدرت الكتب والمجلات، وعقدت المؤتمرات والقيل والقال، لكنهم لما جاءوا ليتحدثوا عن القومية -مثلاً- عقدوا مؤتمراً لبحث القومية ما هي القومية، وفي النهاية عجزوا، فمن الطرائف والنكت أن واحداً منهم، قال لهم: القومية شيء جيد كثيراً، هذه هي القومية، إذن ليس عندهم فكر يجمعون الناس عليه، ليس عندهم تصور صحيح يلتئمون حوله، أحياناً تجمعهم الأهداف والمط(195/7)
الإيمان بالله ورسوله
من جوانب الإيمان التي تغرس العزة في المسلم: إيمان بالله عز وجل يجعله يستقي من مصدر العزة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] كذلك إيمانه بالمرسلين مثلاً يجعله أيضاً يحس بأنه في موكب قادته هم قادة البشرية، فهو من أتباع موسى، وعيسى، ونوح، وآدم وغيرهم من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهو على نهجهم، وعلى طريقتهم، وملتهم، ودينهم، وعقيدتهم واحدة لا تتغير.(195/8)
الإيمان بالملائكة
حين تنظر إلى قضية الملائكة، فإن الملائكة مصدر عزة، فإن كنتم تكاثروننا بالبشر، وتقولون -مثلاً- أمريكا كذا مائة مليون، أو روسيا كذا مائة مليون! فعندنا نحن رصيد من الملائكة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو قائم} فإذا كانت القضية قضية عدد، فهؤلاء الملائكة من يحصيهم؟! والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ثم ليس هؤلاء مجرد أرقام، هؤلاء ملائكة، وهم مسخرون بالدعاء للمؤمنين، قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] إلى آخر الآيات، أما هؤلاء الأرقام التي تفاخروننا بها من الروس، والأمريكان، واليهود، والنصارى، والبعثيين، إلى آخره، فهؤلاء أرقام بلا رصيد، فهم مثل الأصفار، أرأيتم لو أن إنساناً جمع أصفار الدنيا كلها، هل تصل إلى أن تصبح رقماً واحداً صحيحاً؟! أبداً، فلو ملأتم الدنا ما عدلتم مؤمناً، فالصفر صفر، وليس هناك فائدة في كثرة العدد إذا كانت أصفاراً لا تنفع.(195/9)
حماية الجبهة الداخلية (المرأة)
قضية ما يسمى بحماية الجبهة الداخلية، وأعني بها المرأة، فالمرأة أصبحت هدفاً في هذه البلاد لسهام الأعداء، وإذا كان الأعداء من العلمانيين، ومن اليساريين، وبشكل أعم من المنافقين المندسين في هذا المجتمع، وهم قوة ضاربة في هذا المجتمع، وفي كل مجتمع، حتى في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا موجودين، وقد هددهم الله عز وجل، قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:60-61] .
فهم كما قال الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] ويتناصرون في هذا الأمر، ولهذا قال (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) يعني هم عبارة عن شبكة، أو حزب، أو تنظيم سري.
إن المنافقين اجتمعوا لا على هدف، كما ذكرت في البداية، ولا على مبدأ، إنما اجتمعوا على الحرب للإسلام، ومحاولة إزالة التميز الذي يتميز به هذا المجتمع، إزالة الخاصية التي هي الإسلام، وجعل هذا المجتمع نمطاً من أنماط المجتمعات الغربية أو الشرقية.(195/10)
إبراز قضايا تافهة للأمة
وهم الآن ينتقلون خطوة ثالثة إلى زرع العداوات، وإبراز خصوم الإسلام في المجتمع الواحد، وهذا لا شك أنه محاولة لإنهاك المجتمع، وإلهائه بمشكلة داخلية، وإلا فما معنى أنه بالذات في هذا الوقت الذي الأمة أحوج ما تكون فيه إلى جمع الكلمة، ووحدة الصف، والتوجه نحو الأعداء الخارجيين وما أكثرهم! أن يشغل المجتمع وتشل حركته بحركة طفولية تافهة تصرخ وتنادي وتطالب بقيادة المرأة للسيارة؟ هل يعتقدون أن الأمة مشغولة بهمومها الكبرى عنهم ولهذا سوف تمرر مخططاتهم، وألاعيبهم؟! هل يعتقدون هذا؟! أم إن الغرب الذي يتربص بهذه الأمة يحاول أن يحرك هذه الأحجار على رقعة الشطرنج؛ لتمارس دورها في تمزيق الأمة، وتشتيت وحدتها، وإشغالها وتلهيتها بأمور تافهة، ولا تعجب إذا وجدت أن المطالبة بقيادة المرأة للسيارة أيضاً تربط بأن المرأة جبهة داخلية، والرجل يذهب للجبهة على الحدود، والمرأة جبهة داخلية، ولذلك نطالب بقيادة المرأة للسيارة، إن هذا لشيء عجاب!!(195/11)
الإسلام هو المنتصر
أقول: ومع ذلك فهذه الجزيرة أرض الإسلام لا محالة، ولذلك المخططات فاشلة، وأقولها بملء فمي: فاشلة، إنَّ الأمة ترفض مثل هذا النوع من الفكر الدخيل، الأمة قالت كلمتها بوضوح وبصراحة، لا نريد إلا الإسلام، لا نريد إلا الإسلام، لتسقط رموز العلمانية، والبعثية، والشيوعية، واليسارية، والقومية، والناصرية كلها.
الأمة لا تريد إلا شعاراً واحداً، وإلا راية واحدة، هي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، لقد قالت الأمة كلمتها بلهجة واضحة، صريحة لا غموض فيها، فالحمد لله الذي أرانا بأعيننا بوادر النصر الحقيقي لهذا الدين في قلوب هذه الأمة، لأن النصر الحقيقي يصنع في القلوب أولاً، وقد رأينا من تأثر الناس وانفعالهم وغليانهم ما لم يكن يخطر لنا على بال، هذه الأمة تعبر عن هويتها في مثل هذه المواقف، لأنها تشعر أنها مستهدفة، وإن كانت هذه حركة قد يكون لها ما وراءها، وليست مجرد عمل انتهى، فهؤلاء القوم من سنين طويلة وهم يتغلغلون، ويخططون، ويعبثون بأعز ما نملك، وأغلى من كل ثروة، يعبثون بالعقول البشرية، طالما عبثوا بعقول بناتنا وأولادنا، وطالما سمموا هذه العقول من خلال المنابر التي تسللوا إليها في غيبة الرقيب، فأساءوا استخدامها، وقد صحت الأمة، وأدركت أن هؤلاء يجب أن يعودوا إلى جحورهم، أو يتوبوا إلى ربهم.(195/12)
المنافقون والمرأة
لا شك أن المرأة أصبحت اليوم هدفاً كبيراً، وذلك لأن المنافقين يدركون أنهم متى نجحوا في اقتحام حصوننا من داخلها، وتفتيت الجبهة الداخلية، وتخريب البيوت، نجحوا في نزع العزة الإسلامية، لأن الرجل الذي يجد وراءه في المنزل امرأة لا يثق بها، لن يكون شجاعاً بحال من الأحوال، لأنه يخشى أن تخونه في نفسها، وفي ماله، ويخشى أن تسيء تربية ولده، لكن إذا وجد امرأة، إذا ظهر لها منه بعض الضعف، أو التردد قالت له: اذهب إلى الجهاد، فإن وراءك رجلاً وليس امرأة، فإنه يندفع حينئذٍ، وإذا وجد وراءه امرأة تودعه عند باب المنزل، وتقول أسأل الله عز وجل أن ألتقي بك في خيمة من خيام الجنة، فإن هذا الرجل سوف يجد من القوة والاندفاع الشيء الكبير.(195/13)
المنافقون وتمزيق الأمة والمجتمع الواحد
إن المنافقين يدركون أنهم يستطيعون أن يؤثروا في عزة المسلم من خلال تحطيم الجبهة الداخلية، من خلال تفتيت هذه الجبهة، ولا شك أنه كما يقول الشاعر العربي: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند إذا كان الإنسان يعيش مشكلة في بيته، مع أخته، مع زوجته، مع بنته، هذا الإنسان كيف يواجه الناس؟! سيقول كيف أحارب في الخارج وبيتي في الداخل يحاربني؟! أنا أحوج أن أحارب في الجبهة الداخلية، وهذا نوع من المشاغلة -أيضاً- مشاغلة المؤمنين بأوضاعهم الخاصة، وهمومهم القريبة عن العدو الخارجي المتربص، ولذلك كانت خطط التغريب والتخريب في هذا المجتمع ذات أهداف بعيدة لتمزيق المجتمع وتفتيته، وجعله طوائف، وأمماً، وتجمعات، وعداوات، وهذا خطر ينبغي أن ندركه، فإننا مستهدفون في هذا الوقت بالذات، وكأن خططهم تتجه إلى محاولة تمزيق المجتمع، بعد أن زرعوا العدوات بين الدول انتقلوا إلى زرع العداوات بين الشعوب.(195/14)
ثانياً: وضوح الهدف
بناءً على ذلك الإيمان، فإن المسلم يملك هدفاً واضحاً، لماذا تقاتل مثلاً؟ لماذا تشتغل؟ لماذا تعمل؟ فعند المسلم هدف واضح، إنما أريد ما أريد لله، فهدف المسلم أنه يريد في الدنيا العزة للإسلام، ويريد في الآخرة الجنة، حتى لو ترتب على هذا أن يذل نفسه كفرد، المهم هو عز الإسلام ولو قتلنا، فالمهم أن يحيا الإسلام، فالمؤمن لديه هدف واضح، فهو يعرف من يعادي، ومن يوالي، ليس العداء والولاء، والحب والبغض، بالنسبة للمسلم قضية مصلحة، أو قضية عاطفية، أو قضية دنيوية، أحب هذا لأنه ينفعني، أو يدفع عني، أو لأنه قريبي، أو جاري، لا، أنا أحب هذا لأنه ولي لله، وأبغض هذا لأنه عدو لله، وهكذا الأمة تعرف أعداءها الحقيقيين، فتحاربهم، وتعرف أصدقاءها الحقيقين فتواليهم وتقربهم، ويوم تختلط الأوراق، فيتحول العدو إلى صديق، ويتحول الصديق إلى عدو، حينئذٍ تكون الأمة في فترة من أحلك فترات تاريخها.
فالأمة المسلمة تملك منهجاً واضحاً تعرف به العدو من الصديق وأعظم محك يميز العدو من الصديق هي الشدائد، كما قال الشاعر: جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي فالأمة تعرف أعداءها الحقيقيين على ضوء كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإنها تعرف كيف تتعامل مع هؤلاء، ومع أولئك، لا تتعامل مع العدو على أنه صديق، ولا تتعامل مع الصديق على أنه عدو، لا نقرب هذا ولا تبعد ذاك.(195/15)
وضوح الهدف يضمن عدم الفشل
وهذا الأمر الذي هو المنهج الواضح، والهدف الواضح، يضمن للأمة عدم الفشل، يضمن للأمة وحدة الصف، لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] ولو استقرأنا التاريخ لوجدنا أن كل فشل أصاب الأمة كان بسبب تفرقها، وتمزقها، في الوقت الذي تجد العدو فيه يطرق أبوابها، وما دول الطوائف عنا ببعيد، كيف كان النصارى يأكلون هذه الدول، ويلتهمونها دولة دولة، وهم مشغولون بعضهم ببعض، حتى إن منهم من قد يستنصر بعدوه على أخيه، كما قال الشاعر: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فإن التنازع والفشل بين المؤمنين، بين الدعاة، بين طلبة العلم، بين الأمة كلها، هو من أقوى أسباب الفشل، ونفوذ العدو، والأمة ينبغي أن تعتصم بالوحدة، وحدة الهدف، ووحدة الصف، من مثل هذه الفرقة، والشتات التي ينفذ من خلالها العدو.(195/16)
ثالثاً: نقاء الصف
السبب الثالث من أسباب العزة هو نقاء الصف، وتمحيصه من أولئك المنافقين، وهذا جانب من قضية من نعادي ومن نحارب، لأن المنافقين من أعداء هذه الأمة، -كما هو معروف- كما قال الله عز وجل {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] لكن في كثير من الأحيان قد يلتبس أمر المنافقين، لأنهم يظهرون بمظهر الصديق، ويلبسون مسوح الضأن، وأسماؤهم وألوانهم مثلنا، فيصعب تمييزهم، فحينئذ تحتاج الأمة إلى تمحيص الصف، وإخراج المنافقين وتعريتهم وفضحهم حتى تستفيق الأمة، وتدرك من قياداتها الحقيقية، ومن هم رجالها الحقيقيون، ومن هم أبناؤها المخلصون، وتدرك من يريد بها شراً، أو يضمر لها سوء.(195/17)
ظهور المنافقين
ومتى يظهر المنافقون؟ يظهر المنافقون عندما يجدون الفرصة المواتية لهم، وخاصة إذا انشغلت الأمة بأمر من الأمور، انشغلت بعدو، حينئذ يظهر المنافقون ليحققوا أهدافهم، فإذا كانت الأمة تملك شيئاً من القوة، فإن المنافقين حينئذٍ مضطرون إلى أن يتمسحوا بالإسلام، وهذا دليل على عظمة الإسلام، لأنه حتى عدوه يخطب وده، وإذا أراد أن يصيب المسلمين بشر، لا يقول: هذا الدين لا نريده، وهذا دين عتيق، وهذا تراث، وهذا تاريخ مضى، لا، يقول على ضوء تعاليم شريعتنا السمحة، وديننا الحنيف، وتقاليدنا المرعية، فهذه أصبحت ماركة مسجلة، لا مانع عندهم أن يتمسحوا بها في سبيل الوصول إلى أهدافهم، وهو دليل من جهة على أنهم وجدوا الأمة مشغولة بهمومها الكبرى، فرفعوا رءوسهم، ودليل من جهة أخرى على أنهم يدركون أن لهذا الإسلام في هذه الأمة عمق لا يمكن تجاهله، ولذلك يتمسحون بهذا الدين، ويعلنون الولاء له، وإن كانت قلوبهم قلوب الأعاجم، نشأوا في ديارهم، ورضعوا من لبنهم، وجاءوا لينفذوا المخطط بالنيابة عنهم.(195/18)
افتضاح المنافقين
وافتضاح هؤلاء المنافقين هو بداية عز الإسلام، لأن وجودهم بداخل الصف من أسباب الخذلان، يقول الله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] فدورهم معروف أنهم يحاولون تمزيق الصف، وإيجاد الخبال والضعف، والتردد، والتثبيط في صفوف المؤمنين، ويتحركون من خلال المؤمنين لا لتقوية العزائم، بل كما قال تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] ولهذا كان مما كانوا يقولونه مثلاً: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] على حين أن المؤمنين كانوا يقولون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] مثلاً يقولون: محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لقضاء الحاجة، بهذا الشكل يحاولون أن يوجدوا نوعاً من التخلخل في نفوس المؤمنين وقلوبهم، ولذلك فإن المنافقين في كل أمة وعصر، وفي كل تاريخ من تاريخ هذه الأمة، يشكلون طابوراً خامساً يعده العدو؛ ليكون بديلاً جاهزاً لتنفيذ مخططاته، ويجب أن يكون المؤمنون واعيين لهذه الأدوار.(195/19)
معرفة السنن الربانية
إن مما يمنح المسلم عزة كبيرة بهذا الدين، هو قضية معرفة المسلم بسنن الله عز وجل الربانية، والسنن كثيرة، لكن معرفة المؤمن بها تجعله على يقين، لأن بعض الناس إذا رأوا قوة العدو -مثلاً- رأوا تفكك المسلمين، رأوا السلبيات الموجودة، ربما داخلهم نوع من اليأس، حتى ربما يميل بعضهم إلى العزلة، ويرى بعضهم أن هذا زمن الفتن، وكف اللسان، والإعراض، وأمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك، وليسعك بيتك، وكذا إلى آخره، لماذا؟! لأنه رأى أمراً لم يكن يخطر له على بال، لكن تفطنه إلى السنن الألهية يجعله يعيد الحسابات.(195/20)
تأييد الله للمؤمنين
السنن الإلهية التي ينبغي أن تكون لنا على بال، تأييد الله عز وجل، سنة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] لماذا تفكر وكأن القدر خاضع لعقلي وعقلك؟ صحيح أنا وأنت أحياناً لو آتيك بمسألة رياضية ممكن تعجز عن حلها، إذاً عقل الإنسان يمكن أن يعجز عن التحليل، ممكن أن يقول لك الإنسان الأمر كذا، لكن والله ما عندي تعليل، كيف يحدث هذا؟ كيف هذه ليست عندي، هذه إلى الله عز وجل، الكيف هذا عند الله تعالى، لكن أنا أستطيع أن أقول لك: إن هذا هو المستقبل، أما كيف؟ لا أدري، لكن الذي أعرفه كل الذي أعرفه أن الله عز وجل له جنود لا يعلمها إلا هو، حتى نحن لا نستطيع أن نعد الجنود، مثلاً: من جنود الله الرعب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} وهذا له ولأمته على أعدائه، يُقذف في قلوبهم، وما هو الذي جعل الغرب والشرق يتحالف ويحلم بما يسمى بالنظام العالمي الجديد إلا الرعب من الإسلام، وهم يدقون نواقيس الخطر من الإسلام، هذا من الرعب، فالرعب من جنود الله عز وجل، ومن جنود الله عز وجل الملائكة، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] يمدنا الله عز وجل بملائكة من عنده، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون قتيل الملائكة من غيره، لقد كانوا يقاتلون إلى جوار المسلمين، هذه حقيقة واقعية، وليست مجرد تثبيت معنوي، هذه حقيقة صدح القرآن الكريم بها، جبريل عليه السلام يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري بعد ما انهزم الأحزاب يقول: {وضعت السلاح فوالله ما وضعنا السلاح بعد} يعني الملائكة معهم أسلحة أيضاً، أما نؤمن بهذا؟! ما يؤمن بهذا غير المؤمن {ما وضعنا السلاح بعد، اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهب إليهم ومزلزل بهم} إذاً هناك شيء يسبقه إلى عدوه يزلزله، فالملائكة من جند الله عز وجل، وقد ذكرت لكم كثرتهم، لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم جل وعلا، من جنود الله عز وجل الريح، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} الريح يسلطها الله على الأعداء، فينهزمون أو يهلكون، ويسخرها الله عز وجل للمسلمين فتكون سبباً في نصرهم: {نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور} .
- الزلزلة: ومن جنود الله عز وجل الزلزلة، سواء كانت زلزلة معنوية، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح البخاري: {اللهم مجري السحاب، هازم الأحزاب، منزل الكتاب، اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم} دعا عليهم، ولذلك البخاري رحمه الله بوَّب (باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة) فإذا زلزلت قلوبهم فليس هناك إمكانية أنها تواصل، المهزوم من الداخل ليس له حيلة، لقد ضاع وانتهى، وقد يكون المقصود الزلزلة الحقيقية، زلزلت الأرض من تحت أقدمهم، كما قال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45-47] فهل أمنوا هذا، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] فلا يأمن المؤمن من مكر الله عز وجل به إن عصى، وهو أيضاً ينتظر هذا المكر بالكافرين، والفاسقين والخاسرين.
- الخسف: من جند الله عز وجل الخسف، كما ذكرت لكم وهناك رواية أخرى في الحديث الذي ذكرته قبل قليل: {يعوذ عائذ بالبيت، فيغزوه جيشٌ، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم} ولعل هذا هو الخسف الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم -والله أعلم- يكون خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب.
المهم هذه جنود الله، وهل هذه فقط جنود الله، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] إنَّ الله عز وجل يسخر هذه الجنود عند اللزوم لتكون في صالح المسلمين ضد أعدائهم، كل هذه السنن الكونية، إذا امتلأ بها قلب المؤمن أدرك أننا حين نقول المستقبل للإسلام، بل والمستقبل القريب للإسلام، أننا ننطلق من معرفة بسنن الله عز وجل وعلماً بشرعه، ومن إدراك للواقع الذي يضطرب الآن، وكأنه سوف يتمخض عن وضع جديد، سيكون بكل تأكيد بإذن الله عز وجل في مصلحة الإسلام والمسلمين.
- خاتمة: اللهم اجعلنا من أصحاب دينك، اللهم اكتب مستقبل الإسلام على أيدينا، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رحمتك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم أنزل على قلوبنا الإيمان والسكينة واليقين، اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص فيك يا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا يارب العالمين، اللهم اهزم الكافرين أهل الكتاب والمشركين الذين يكذبون رسلك، ويحادون أولياءك، ويعبثون بدينك يا حي يا قيوم، اللهم افضح ألاعيب المنافقين ومؤامرتهم على المسلمين، اللهم افضحهم في قعر دارهم، اللهم اكشف للمسلمين عوراتهم، اللهم اكشف للمسلمين عوراتهم، اللهم يا حي يا قيوم من أراد هذه الأمة بسوء فاشغله بنفسه، اللهم من أراد هذه الأمة بسوء أياً كان من داخلها، أو خارجها فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم إنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم.(195/21)
ألا إن نصر الله قريب
ولذلك أنتقل إلى سُنَّة ثالثة من السنن الإلهية: متى يأتي نصر الله؟ أحوج ما كان المسلمون إلى النصر، وأشد ما كانوا فيه من حالة الضعف، والشعور بقوة العدو، فهو وقت النصر، انظر هذه السنة في القرآن الكريم: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] لاحظ متى جاءهم نصرنا، أما استيأس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، والآية الأخرى يقول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] هنا يكون نصر الله قريب، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بالنصر يوم الأحزاب، تجمعت قريش، وغطفان، واليهود، وكل الأمم، تجمعت عليه، قوة ضاربة، أحاطت بالمدينة، وأصبح المنافقون يخافون أن يتخطفهم الناس، ما الذي حدث؟ حينئذٍ الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه يفقه هذه السنن، ومؤيد بالوحي، كان يضرب بالمعول، فإذا برق النور قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطيت مفاتيح كسرى، مرة أخرى قيصر، مرة ثالثة فتحت لي اليمن، في هذا الوضع بالذات حين تجمعت الأحزاب، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبشر البشائر، ليست بشائر بلا مقابل أبداً، انظروا الأحزاب لما تجمعوا حول المدينة، هل عندهم أكثر من هذا؟! ما عندهم أكثر من هذا؟! فكانت هذه مواجهة نهائية، قال تعالى: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] ماذا بقى؟ هل يمكن أن يعيدوا المحاولة؟! أبداً، أقصى ما في جعبتهم بذلوه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب: {الآن نغزوهم ولا يغزونا} الآن انتقلنا من مرحلة الدفاع، إلى مرحلة الهجوم، لأن العدو بذل أكثر ما عنده وفشل، فسقط، وتمرغت سمعته في التراب، هنا بدأ نجم الإسلام يطلع ويرتفع، وبدأت مرحلة الهجوم على الأمم الوثنية المشركة، في الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية.
أصحاب موسى عليه السلام ماذا حصل لهم لما لحق بهم فرعون، وأتبعهم فرعون وجنوده؟ نظر أصحاب موسى فإذا البحر أمامهم، والعدو خلفهم، وهم قلة فماذا قالوا؟ قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أي: وقعوا في الفخ الآن، ليس هناك فائدة، فقال موسى عليه السلام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} [الشعراء:62-63] هنا جاءت المعجزة الإلهية، لأن المعجزات أو الآيات جاهزة موجودة، كما سيأتي في النقطة الرابعة والأخيرة في موضوع تأييد الله للمؤمنين الصادقين، المهم أن المؤمنين حين قالوا إنا لمدركون هنا يأتي دور: أولاً: أهل العلم والدعوة في التثبيت، وثانياً: أن يعلم الناس أن هذه هي بدايات النصر، هنا يبدأ النصر، هنا يولد.
- العالم اليوم: ولذلك أستطيع إن أقول لكم، وكلي ثقة بما أقول: إن العالم اليوم يعيش لحظة حمل أو حالة مخاض، سوف يتولد عنها أوضاع أخرى مختلفة على مستوى العالم كله، وهذه الأوضاع نقول بكل ثقة: إنها سوف تكون أوضاعاً في صالح الإسلام، وفي مصلحة الإسلام، وستكون بداية نصر حقيقي للإسلام، وهذا الكلام الذي أقوله ليس مجرد عواطف ندهده بها نفوسنا، ولا مجرد كلام نقوله لنسلي به أنفسنا، والله إننا لنقوله وقلوبنا مليئة بأن مستقبل الإسلام الحقيقي بدأ يولد الآن، وأن القرن القادم هو قرن الإسلام، وأن هذا الارتباك الذي يعيشه العالم هو لحظة مخاض سوف يتولد عنها أوضاع مهما تصور السذج والمغفلون أن هذه الأوضاع تسيء إلى المسلمين، إلا أن هذه الأوضاع سوف تكون بإذن الله عز وجل هي النار التي ينضج عليها واقع المسلمين الصحيح، حتى يكونوا جديرين بخلافة الأرض والتمكين فيها، وهذا الكلام يجب أن يتحول من مجرد عواطف إلى عقيدة راسخة في قلوبنا، لأننا لا نتكلم من فراغ.
الآن الشيوعيون، لما كانوا يقولون: إن المستقبل للشيوعية، ويعدون العالم بجنة فردوس موعود، فكانوا يتكلمون بلا رصيد، ويتكلمون من منطلق عقيدة هم أول من نقضها، وتبين الآن فشلها، لكن المسلمين: أولاً: يتكلمون من تاريخ، نحن نملك لا أقول أربعة عشر قرناً، نحن نملك التاريخ كله.
الأمر الثاني: أننا ننطلق ونملك الأدلة الشرعية والسنن والنواميس الإلهية.
الأمر الثالث: أننا نملك الواقع الغربي المتهالك المنهار الذي يؤذن بالانهيار في أي لحظة من ليل أو نهار.(195/22)
قانون المدافعة والصراع
وأضرب لكم أمثلة للسنن الألهية التي يجب أن نعيها، مثلاً قانون المدافعة والصراع قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] الكون كله مبني على دفع الله الناس بعضهم ببعض، بين الخير والشر صراع دائم، والشر نفسه لا يمكن أن يتوحد بحال من الأحوال، ولذلك كم تحالفت أمم، ثم تمزقت هذه الأحلاف.
يتحدثون -أيها الإخوة- اليوم في بلاد العالم عما يسمونه بالنظام العالمي الجديد، والذي يريدون أن يوحدوا فيه الأمم كلها تحت حضارة واحدة، وبزعامة دولة مستبدة واحدة، يريدون أن يقضوا على أي نمط حضاري آخر، وعلى أي دين، وعلى أي تجمع يدين بدين معين، أو يتمذهب بمذهب خاص، فيتحدثون عن هذا النظام، وأقول: إن مثل هذا الحديث؛ هو معارض لسنن الله تعالى في الكون، فإن الكون كله مبني على قانون الصراع، أو كما هو التعبير القرآني: قانون الدفع، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] فكلما جمعوا وحزموا انفرط الحبل، ورجعت الأمور من جديد، وكلما رتبوا وخططوا فوجئوا بوضع يتغير عليهم، لأن المسلم أحياناً يقول كيف؟ أين المفر؟ أين المخرج؟ أين النافذة التي منها يتحقق نصر الإسلام؟ هنا يتذكر الإنسان أن مثل هذا الوضع الذي يتحدثون عنه، ومثل هذه الأشياء التي يرسمونها، هم يرسمونها من منطلق أسبابهم المادية، ونظراتهم القاصرة، ووفق خططهم، صحيح أن لهم عقولاً وتخطيطاً وترتيباً، لكنهم يبقون بشراً، ويبقى عنصر المفاجأة دائماً جاهز، فالذي يعمل ويقدر حقيقة هو الله عز وجل، فالتدبير في السماء حقيقة، إنما هؤلاء يترسمون على وفق ما يتصورون، وكم فوجئوا بأمور لم تخطر لهم على بال، قلبت حساباتهم رأساً على عقب.
إذاً: علينا أن ندرك أن مثل هذا الكلام، كلام يخالف السنن الإلهية، وأننا نتوقع، وننتظر أن يكون هناك تمزق في هذه الأحلاف العالمية، يكون من خلاله نصر للإسلام وللمسلمين، كما علينا أن ندرك -أيضاً- أن التهديد الدائم الذي يواجه به المسلمون وغيرهم، هو سبب لاستفزاز الطاقات وتوحيدها، إنَّ الكون مبني هكذا، هذه هي حكمة الله عز وجل أمم كثيرة بينها صراع، هذا الصراع هو من أسباب بقائها، لأن هذه الأمة تشعر بأنها مستهدفة، فتجمع طاقاتها وقوتها، وتظهر ما لديها، لكن إذا شعرت أمة من الأمم بأن الأمر قد استتب لها، وسلمت القيادة لها، وانتهى كل شيء، حينئذ لم يوجد هناك ما يدعو إلى بذل الطاقة، لم يوجد هناك ما يدعو إلى الاستماتة، لم يوجد هناك ما يدعو إلى بذل الجهد، وهذا يتعارض مع طبيعة السنن التي وضعها الله عز وجل في هذه الحياة.(195/23)
إن الله لا يصلح عمل المفسدين
من السنن الإلهية -أيضاً- أن الله لا يصلح عمل المفسدين، الذين يعتدون على سلطان الله عز وجل في الأرض، سواءً بأن يحكموا بغير ما أنزل الله عز وجل، بأن يحكموا البشرية بأنظمة من وضع البشرية، حكم الشعب بالشعب كما يقولون، الذين بلغت بهم الوقاحة وقلة الأدب أن يقولوا كما قال أسلافهم من قبل.
فرعون قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:25] كل من حاول أن يعتدي على سلطان الله عز وجل، أو جهل قدر الله تبارك وتعالى وعظمته، فإن الله تعالى له بالمرصاد يأخذه أخذ عزيز مقتدر، هذه -أيضاً- سنة إلهية.
قريش: لما قالوا: هل يسمع الله ما نقول، كما في صحيح البخاري: {أنه اجتمع نفر، كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقالوا: هل يسمع أو لا يسمع، قال بعضهم: يسمع، وقال بعضهم: لا يسمع، وقال بعضهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أسررنا، فقال الله عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] } فلذلك أيضاً نصر الله عز وجل المؤمنين عليهم، وأُخذ هؤلاء القوم، ورأوا الذل بأعينهم في دنياهم قبل الآخرة.
اليهود: لما قالوا {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وعاقبهم الله عز وجل وكتب عليهم الذل منذ أوجدوا وقالوا ما قالوا، انحرفوا إلى يومنا هذا، قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112] وقد قلت في بعض المناسبات: إن مما يثير العجب أن اليهود إلى الآن على رغم أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، هل تتذكرون معركة تاريخية فاصلة خضناها مع اليهود باستثناء المعارك في هذا العصر، خضنا معارك شهيرة مع المشركين الوثنيين، وخضنا معارك شهيرة مع النصارى الصليبيين، وخضنا معارك مع الفرس، أما اليهود فحتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك معارك حقيقية معهم، حتى خيبر، كثير من أهل العلم يقولون فتحت صلحاً، أو بعض حصونها فتحت صلحاً، ولم يكن هناك قتال يذكر، ليس عندنا معارك تاريخية مع اليهود، لماذا؟ لأن اليهود يشتغلون في الخفاء، مثل إخوانهم من المنافقين، يعملون في الخفاء، يعملون في الظلام، فهم مثل الخفافيش لا تعيش في النهار، يحرقها النور، إنما تعيش في الظلام وتشتغل في الخفاء، المهم أن هؤلاء اليهود، وهم أعدى أعدائنا، مع ذلك معاركنا معهم محدودة، وهذا يعني ذلهم، وعجزهم، وجبنهم، وأنهم لا يتجرءون على مواجهتنا، فقد ضرب الله عز وجل عليهم الذل من يوم أن قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وتعرضوا للذات الإلهية بالتنقص، فما بالكم كيف يصنع الغرب اليوم مع الله جلا وعلا؟ لقد كفر الغرب أشد الكفر، وقال الغرب: الإنسان يقوم وحده وليس بحاجة إلى الله، وقال الغرب: إن الإنسان هو الذي يصنع ربه والعياذ بالله وحتى أهل الكتاب الذين يُفترض أنهم يدينون بأديان سماوية، ويعبدون الله عز وجل فيما يزعمون، حتى هؤلاء أصبحوا يتكلمون عن ربهم كلاماً لا يمكن أن يتكلموه عن رئيس من رؤساء دولهم، حتى إنني قرأت في بعض التقارير أنهم يتكلمون عن هذه الثروة البترولية، وكيف صارت في هذه البلاد الإسلامية، ويقولون: إننا لا بد أن نفكر بطريقة وأستغفر الله وأتوب إليه من إيراد مثل هذا الكفر، لكن كما ذكر الله عز وجل في كتابه كفر اليهود والنصارى، لأن هذا مما يؤكد السنة الإلهية التي ذكرت يقولون: يجب أن نصحح خطأ الإله، الذي وضع البترول عند قوم لا يستحقونه، إلى هذا الحد بلغت بهم الوقاحة، وبلغ بهم الكفر، فهل ترى يترك الله عز وجل من يعتدي على قدره سبحانه، وقد أرانا بالأمم السابقة الغابرة، وبالمعتدين، من أعاجيب صنعه جل وعلا ما يجعل المؤمن يقطع بأن الله تعالى سوف يأخذ هؤلاء أقوى ما كانوا، وأخبث ما كانوا، وأكفر ما كانوا، وأزهى ما كانوا، وأعظم ما كانوا، اغتراراً بأنفسهم، وشعوراً بالغنى عن ربهم جل وعلا.
يجب أن ننطلق من منطلقات عقدية صحيحة واضحة، أنَّ هذه سنة إلهية، أن الله لا يصلح عمل المفسدين، لأنهم يكيدون، لا أقول: إنهم لا يكيدون، إنَّ عندهم أجهزة استخبارات، وعندهم مؤسسات، وعندهم مراكز دراسات، وعندهم خطط، وعندهم الدراسات المستقبلية الآن، تشتغل بطريقة غريبة، لكن اسمع الله عز وجل يقول: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] ويقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ويقول: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:50-52] ويقول: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10] إذاً مكرهم وكيدهم في ضياع، وتباب، وهلاك، يبذلون جهوداً كبيرة لكن النهاية لا بد أنها عليهم، هذا فرعون نفسه ماذا يقول عن موسى ومن معه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54-56] حاذرون هذه هي التي تشغل العالم الكافر اليوم، الحذر من المسلمين، فكل مؤسساته، ومراكزه في حالة استنفار، قلقاً من هذا الخطر الجديد، أي خطر؟! الأصوليون، الإسلام، هم يقولون في الغرب إنا لجميعٌ حذرون، كما قال زعيمهم الأول فرعون، لكن ما هي النتيجة، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:57-58] وقال تعالى: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:27-29] إذاً {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] هذه قالها فرعون، وقالها هؤلاء، وكما أهلك الله عز وجل طاغيتهم الأول، فإن الله تعالى يهلكهم، ويضيع كيدهم، وخططهم، ومؤامرتهم هباء! والله عز وجل إذا أراد أمراً يسر أسبابه، لا تقل: كيف؟ فإن الله عز وجل يضع ما لا يخطر لك على بال.(195/24)
الأسئلة(195/25)
دعوة تحرير المرأة في منطقة الرياض
السؤال
تعلمون ما حصل في منطقة الرياض وغيرها من الدعوة إلى تحرير المرأة، فهلاَّ بيان في هذا الموضوع فيما يتعلق في أبعادها المتقدمة والحاضرة واللاحقة؟
الجواب
اختصاراً للوقت، فقد سبق أن تحدثت في هذا الموضوع بشيء من الاستفاضة والتفصيل في محاضرة خاصة اخترت أن يكون عنوانها (لسنا أغبياء بدرجة كافية) وأنا أقصد من وراء هذا العنوان أن خصومنا من العلمانيين يصورون أن المعركة بيننا وبينهم على أنها معركة على قيادة السيارة، وهل تقود المرأة السيارة أو لا تقودها؟! وهذا في الحقيقة نوع من المغالطة، لأنهم يجروننا إلى الميدان الذي يختارونه، ميدان الخصومة في مسألة قيادة المرأة للسيارة، وأقول: إن الذي بيننا وبينهم أعظم وأربى من قيادة المرأة لسيارة تكون أو لا تكون، الصراع بيننا وبينهم عقائدي أصولي مبدأي، وقد ذكرت شواهد في هذا الموضوع، وحفظاً للوقت كما أسلفت أدع التفصيل في هذه المناسبة.(195/26)
مواجهة المجتمع لقضية تحرير المرأة
السؤال
كيف يواجه المجتمع المسلم قضية تحرير المرأة على جميع المستويات والطبقات؟
الجواب
هو هذه الحادثة وغيرها، فأولاً: يجب أن لا نكون عاطفيين، ومُيِّزنا نحن المسلمين أننا لا زلنا نشتغل بالعواطف، كيف؟ يمكن أن يحدث اليوم حدث رهيب، لكنه بطريقة ذكية، يمكن أن يمر علينا دون أن يلفت نظرنا، وعندما يحدث هذا الحدث بهذا الشكل المكشوف يستفزنا جميعاً حتى تختلط عندنا الأوراق فنشغل.
لا بأس بالإنكار كما فصلته في المحاضرة المشار إليها، الإنكار باللسان، وبالخطبة، وبالموعظة، وبالكلمة، وبمناصحة العلماء، وبالكتابة، وبالبرقيات، وبالاتصال بهؤلاء النساء، بتذكيرهن بالله عز وجل، وبتخويفهن، وبالاتصال بأولياء أمورهن وبمناصحة المسئولين، بالهاتف، بالزيارة، وبكل وسيلة وارد، لا أقول: وارد بل واجب، وهو الدور الذي يمارسه المجتمع، وأستطيع أن أقول باطمئنان كامل: إن المجتمع قد قام بهذا الدور خير قيام، لا مزيد على ما قام به المجتمع في هذا الجانب، ويجب أن يقف عند هذا الحد، وكأنني أتصور أننا أحياناً نشاهد مسرحية، المشهد الأول: مجموعة لا أقول من الفتيات، بل من المسنات، يتظاهرن بالشوارع، ويقدن السيارات، ويفعلن ما يفعلن من هذا العمل الفوضوي الذي هو مرفوض بجميع المقاييس.
والمشهد الثاني: أخشى أن يكون هذا العمل مخططاً من قبل أعدائنا لاستفزاز المسلمين بالقيام بأعمال غير مناسبة، ولا تخدم الدعوة في هذه المرحلة، ولذلك أحذر الإخوة وخاصة الشباب من القيام بأي عمل يتعدى الأعمال التي ذكرتها، نقول لك: تكلم بملء فمك، تحدث، ارصد تاريخ هؤلاء القوم، اكشف أعمالهم، تابع أمورهم، اتصل بالمسئولين، راسلهم، هاتفهم، اتصل بالعلماء، كل هذا لا غبار عليه، بل هو جزء من واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي لا يعذر منا أحد رجل أو امرأة، بالكتابة فيه، وأقول للنساء بخاصة: إن عليهن مسئولية كبيرة في هذا الجانب، حتى نثبت للأمم كلها أن هؤلاء لا يمثلون بعداً في المجتمع، وأنهم ليس لهم جذور في الأمة، وإنما هم يحاولون أن يفرغوا ما لديهم من خلال استيلائهم على بعض المنابر، تسللهم على بعض المواقع الإعلامية وغيرها، وإلا فالواقع أن المجتمع يرفضهم، والله لم أرَ في حياتي حدثاً هز الناس في مثل هذه الأمور، وجعل المصيبة تدخل كل بيت، كل من رأيت كأنه يعيش في مأتم والعياذ بالله، شيء عجيب! أفلحوا في صرف أنظار الأمة عن الأمور العظيمة، والقضايا الخطيرة، إلى هذه القضية، لا أقول إنها سهلة ولكنها قضية داخلية، مع الأسف فأصبح هؤلاء مع عدونا في خندق واحد: وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحر بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحدا شيوعيون جذر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب فأقول: هذه هي الطريقة المثلى في مقاومة هذا المنكر، ويجب أن لا نكون عاطفيين، نغضب بسرعة، ونرضى بسرعة، نثور بسرعة ونهدأ بسرعة، ينبغي أن يكون الإنسان متعقلاً لا يندفع، وكذلك ينبغي ألا يكون كل شيء يجعله يحس أنه قد حقق كل ما يريد، لأن القضية ليست قضية هؤلاء النسوة فقط، بل من وراء هؤلاء النسوة، التاريخ، أليست هؤلاء النسوة منذ سنين طويلة وبناتنا أمانة في أيديهن، فنريد أن نتساءل ماذا فعلنا ببناتنا؟ هل نأمن أن يكون هؤلاء النسوة قد خرَّجن لنا من بناتنا ذوات عقول ممسوخة؟ هل نأمن بأن هذه المرأة التي قامت بهذا العمل المشين، كانت تعمل طيلة الوقت على استغلال منصبها، وموقعها، في اضطهاد الفتيات المؤمنات، ومحاصرتهن؟ لا.
وكأنهن يحاولن جرهن جراً إلى ما يسمى بالتطرف من خلال الضغط والمضايقة والاتهام، حتى على صفحات الجرائد والمجلات، وقد قرأت لإحداهن مقالاً في مجلةٍ هنا، تتهم طالباتها المتدينات بالتطرف، بالإيماء والإشارة، لكن لسنا أغبياء لهذه الدرجة.(195/27)
صائمون ولكن
الصيام من أعظم العبادات التي يتقرب بها الإنسان من خالقه عز وجل، وسر هذه العبادة هو الإخلاص الذي يرتبط بصيام الفرض ارتباطاً أوثق منه بصيام النفل، والصوم من مكارم الأخلاق فهو يربي الإنسان على مجموعة من الصفات الحميدة كالإنفاق والصبر والحلم والشجاعة، وهو مما يستغل بأمور عديدة منها: قراءة القرآن وكثرة الصلاة والبعد عن جوارح الصيام كالغيبة والنميمة وأكل الحرام كالربا، وينبغي على المرأة المسلمة الاهتمام بالصيام كالرجل تماماً مع ملاحظة الأمور والآداب الخاصة بها.(196/1)
أولاً: فاعبدوا الله مخلصين له الدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً0 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
جزاكم الله خيراً يا أهل الفايزية، وجعلنا الله وإياكم من أهل الجنة {َأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20] وسائر إخواننا الحاضرين، بل وجميع المسلمين والمؤمنين والمسلمات، إنه على ذلك قدير، وهو على كل شيء قدير.
جزاكم الله خيرا ًحين كنتم السبب في عقد هذا المجلس المبارك في مستهل هذا الشهر الكريم، الذي نسأل الله تعالى أن يجعله شهر مغفرة لنا جميعاً، عنوان هذه المحاضرة "صائمون ولكن" في هذا المسجد الكبير -جامع الفايزية- في مخطط ب، في هذه الليلة -ليلة الأحد الثلاثين من شهر شعبان من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة-، وعندي في هذا المجلس عدة موضوعات:(196/2)
أهمية الإخلاص
إن الإخلاص في كل العبادات أساس لابد منه، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً أريد به وجهه، وعمل على سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:2-3] وقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فالإخلاص واجب في كل العبادات، وإذا زال الإخلاص عنها تحولت العبادة إلى عمل لا يؤجر عليه صاحبه، بل يذم ويعاب ويعذب في الدار الآخرة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] .(196/3)
الصوم عبادة السر
والصوم من بين هذه العبادات كلها: هو عبادة السر، فهو عمل بين العبد وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه أحد من الخلق، أتم صيامه أم نقصه أم نقضه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: {كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزي به} وإنما قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي؛ لأنه لا يطلع على حقيقة العبد إن كان صام صياماً شرعياً حقيقياً أم أفطر بينه وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا الله، حتى إن العبد لو نوى الفطر نية جازمة صادقة ثابتة فإنه يفطر بذلك، ولو لم يتناول شيئاً، كما ذهب إليه جمع كثير من الفقهاء، أنه إذا قطع نية الصيام ونوى الفطر أفطر ولو لم يأكل شيئاً، فدل ذلك على أن سر الصيام: هو في الإمساك عن المفطرات بنية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
إذاً: فلابد من التعبد، وإرادة وجه الله تعالى في الصيام، وألا يكون الإنسان صام مجاراةً للمجتمع، أو سيراً على تقليد الناس، أو خوفاً من البشر، وإنما صام رجاءً فيما عند الله، وخوفاً من عقابه، وأنت تجد من الناس اليوم من لا يستشعر نية الصيام، ولا يصوم إلا مجاملة لمن حوله، فهو يخشى الناس ولا يخشى الله، يخشى الناس أن لو أفطر لانكسر جاهه عندهم، وسقطت منزلته، أو يخشى أن يتحدث الناس عنه: أن فلاناً أفطر ولم يصم، أو يخشى أن يعاقب من بعض الناس على فطره، فيصوم لهذا.
وربما لو أتيح له أن يفطر سراً لفعل، ومنهم من لا يخشى إلا هذا، ولا يراقب الله تعالى في عمله، وحينئذ فإن هؤلاء ممن لو اقتضاهم الأمر أن يفعلوا ضد ذلك لفعلوا، فأنت تجد هذا في صوم الفريضة.(196/4)
الفرق في الإخلاص بين صوم الفرض والنفل
أما بالنسبة لصوم النفل: فإن الأمر يختلف، ففي صوم الفريضة أغلب الناس إنما يصومون ابتغاء وجه الله، ومراقبة لله تعالى، وخوفاً منه، ويقل المراءون في صوم الفريضة؛ لأن كل المسلمين صائمون.
فالإنسان لا يشعر أنه بصيامه فعل شيئاً عظيماً فاق فيه الناس كلهم أو خالفهم، أو أتى فيه من العبادة بما لم يأت به غيره، فغالب الناس يصومون الفرض لله تعالى، وقليل منهم من يصوم لغير الله.
أما بالنسبة لصوم النافلة: فإن الأمر يزيد عن ذلك، فمن الناس من يصوم النفل ويشيع عند الناس أنه كثير الصيام، فإذا كان بينهم في مناسبة أو أكل أو شرب فإنه يمسك عن الأكل والشرب ولو كان مفطراً؛ خشية أن يخيب ظن الناس فيه؛ لأنهم ظنوه صائماً، فلو قالوا له: تفضل يا فلان، أم أنك صائم؟ لاستحى؛ وقال: نعم، أنا صائم، أو ربما تكلف أن يتظاهر بالصوم، ويتظاهر -أيضاً- بأنه يريد أن يكتم الصيام، فإذا قالوا له: تفضل يا فلان! أم أنت صائم؟ قال لهم: لا أريد أن آكل، ورفض الأكل، ولم يبح بالصيام؛ لأنه يريد أن يظنوا أنه صائم، وهو في الواقع لم يكن صائماً!! ومنهم من يخبر بأنه صام فيقول: منذ عشرين سنة وأنا أصوم، أو منذ كذا وأنا أصوم الإثنين والخميس، ومنهم من عادته أن يصوم الاثنين والخميس، فإذا دعي إلى غداء في الاثنين أو الخميس قال: اليوم خميس، وهو لو قال: أنا صائم بنية الرياء لربما كانت هذه بلية، فكيف إذا كان قال: اليوم خميس، وهو يريد أن يقول لهم: أنا أصوم كل أثنين، وأصوم كل خميس، ومنهم من ينظر إلى الناس بعين الازدراء والاحتقار؛ لأنه صائم وهم مفطرون.
إذاً على العبد أن يحرر نيته لله تعالى، فإنه كبير -أَيّ كبير- أن يجهد الإنسان ويتعب، ويحرم لذات ما أحل الله تعالى في هذه الدنيا من طعام وشراب ونكاح بصيام نفل أو غيره، ثم لا يكتب له من ذلك شيء، بل ربما كانت عليه آثاماً؛ بسبب أنه ما أراد بها وجه الله، وإنما عمل ما عمل رياءً وسمعة، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] قال الفضيل بن عياض: أي أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً.
فحرر نيتك، وراقب قلبك، واعلم أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، ويقول سبحانه: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك} كما في الصحيح.
إن الناس ينظرون إلى الظاهر، أما القلوب فشأنها عند علام الغيوب، فكما تجهد في إصلاح ظاهرك وتحسينه وجعله على الكتاب والسنة، فعليك أن تجهد -أيضاً- في إصلاح باطنك، ألا يعلم الله من نيات قلبك ومقاصده أنك لا تريد غيره، ولا تقصد سواه.(196/5)
ثانياً: من مكارم الأخلاق(196/6)
تربية الصيام الإنسان علىالإنفاق
إن من حكم الصيام: تربية العبد على الجود والإنفاق.
فمثلاً الجوع -وهو جزء من الصيام- يذكر الإنسان بحال الفقير والمسكين والجائع؛ ولهذا كان الشاعر يقول بعد أن جاع زماناً طويلاً ثم أغناه الله تعالى، فكان ينفق ويتصدق فقالت له زوجته: ارفق بالمال، قال: لعمري لقد عضني الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً فحين يجد الإنسان مس الجوع؛ فإن ذلك يدعوه إلى السخاء والكرم والإنفاق، ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} رواه البخاري من حدين ابن عباس.
إن جوده صلى الله عليه وسلم كان دائماً، فقد أعطى غنماً بين جبلين، وأعطى مائة من الإبل، حتى أنه سئل الثوب الذي يلبسه فأعطاه صلى الله عليه وسلم ولبس غيره، وإنما كان جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان لأسباب: أولها: أنه شهر الصيام، والصيام يدعو إلى الإنفاق والبذل والكرم والسخاء.
وثانيها: أنه شهر تضاعف فيه الحسنات.
وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر فيه من قراءة القرآن، والقرآن يدعو إلى الإنفاق (ِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245] {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] إلى غير ذلك.
حتى أنه صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئا قط فقال: لا.
كأنك في الكتاب وجدت أن (لا) محرمة عليك فلا تحل فما تدرى إذا أعطيت مالاً أيكثر في سماحك أم يقل إذا حضر الشتاء فأنت شمس وإن حضر المصيف فأنت ظل إن المسلم الحق يستعلي على وعد الشيطان {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] فلا يمنعه ذلك أن ينفق من فضل الله تعالى، وأن يتصدق على العباد خشية الفقر، ومن منع ما في يده خشية فقر؛ فالذي فعل هو الفقر، فإن كل يوم له رزق جديد يأتي به الله تعالى، وإن منعت ما عندك منعك الله تعالى ما عنده.
ورزق اليوم يكفيني وإني بيومي جد مغتبط سعيد فلا تخطر هموم غد ببالي فإن غداً له رزق جديد 1- الاندهاش من شيخ كبير السن: إنني أندهش من ابن السبعين، وابن الستين، وابن الثمانين، الذي يملك الملايين، ويملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ثم تشح يده بقليل المال ينفقه في سبيل الله، حتى على نفسه، أو على ولده، أو على زوجه، يدخر هذا المال لماذا؟! إنه أمر لا تفسير له قط إلا الانسياق لألاعيب الشيطان، وإلا فإن نفسك التي تبخل عليها لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، ولم يبق من عمرك إلا كالشمس على رءوس الذوائب، فأنت لا تدري أيصبحك الموت أم يمسيك.
أما أولادك الذين تبخل عليهم وزوجك؛ فهم الذين سيرثون هذا المال من بعدك، وها أنت الآن تبخل عليهم وتمنعهم، وربما قصرت في النفقة الواجبة، وليس معقولاً أبداً أن تجمع المال لهم، وتقول أريد أن يكونوا من بعدي أغنياء ولا يكونوا عالة يتكففون الناس، وها أنت تمنعهم في حياتك بعض الواجب عليك لتلقى الله تعالى بآثام تلك الرعية، التي تقول لمن تتركنا؟ وللنفس تارات تحل بها العري ويسخو عن المال النفوس الشحائح إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه أقل إذا ضمت عليك الصفائح بأية حال يمنع المرء ماله غداً فغداً والموت غادٍ ورائح يا أخي! ويا أختي! لقد دعاكما الداعي إلى الإنفاق، دعاكما إلى الإنفاق في أبواب الخير وهي كثيرة، دعاكما إلى الإنفاق في حلقة تحفيظ القرآن، أو إلى الإنفاق في حلقة تحفيظ سنة، أو دعاكما إلى الإنفاق على إطعام جائع، أو كسوة عار، أو إغاثة ملهوف، أو كفالة يتيم مات أبواه، أو إلى الإنفاق في مشروع دعوة توزيع كتاب، أو توزيع شريط، أو تجهيز غاز في سبيل الله، وأراك أخي! وأراكِ أختي! لا زلتما مترددين!!.
2- علل واهية في عدم الإنفاق: أراك يوماً تتعلل بخوف الفقر، وأنت الذي تملك الملايين التي لو أنفقت بيديك طيلة عمرك ما نقص ذلك منك إلا القليل، وأراك يوماً آخر تحتج بأنه ليس لديك سيولة نقدية؛ وأقول لك: الحاجة أم الاختراع، وليس ضرورياً أن تكون الصدقة التي ندعوك إليها مالاً ودراهم وورقاً نقدية؛ بل قد تكون الصدقة أرضاً، أو مزرعةً، أو سيارةً، أو عمارةً توقفها في سبيل الله للمحتاجين وأبناء السبيل! وأراك يوماً تحتج بخوف ألا تصل الصدقة إلى مستحقيها، وقد وجدت طرقاً موثوقة! ولكنني مع ذلك أقول لك: لماذا تصم أذنيك عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في الصحيح: {تصدق على زانية، ثم على غني، ثم على سارق، وقد كتبت كلها في الصدقة المتقبلة؛ أما الغني: فلعله أن يعتبر فينفق، وأما السارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها أن تستعف عن زناها} .
وأحياناً نناديك لإغاثة المسلمين الفقراء في إفريقيا فتقول: فقراء الداخل أحوج! وفي الإسلام لا يوجد داخل وخارج، فالمسلمون سواسية، تجمعهم كلمة التوحيد والإخلاص، وتجمعهم الصلاة، يتجهون بها لرب العالمين، ويستقبلون البيت العتيق، ويجمعهم الصوم الذي يمسكون فيه لرب العالمين، وتجمعهم بطاح مكة التي يضحون فيها لله تعالى، فلا يوجد داخل ولا خارج.
ما بيننا عرب ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا خلوا خيوط العنكبوت لمن هم مثل الذباب تطايروا عميا وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا تقول: فقراء الداخل أحوج! فإذا قلنا لك: تصدق على فقراء الداخل -كما تسميهم- قلت: أريد بناء مسجد؛ لأن أجره دائم، فإذا قيل لك: هذا مسجد فأنفق على بنائه، قلت: أريد شراء أرض لبناء مسجد، فإذا قيل لك هذه أرض يبنى عليها مسجد.
قلت: هذه الأرض غالية، والمساجد حولها كثيرة لقد تحير فيك الأطباء!!.
إن المال -أيها الأخ الكريم- هو العنصر المفقود في معظم الأعمال الخيرية الإسلامية، فقد وجدنا المسلمين قادرين -بإذن الله تعالى- على أن يقوموا بالدعوة، ونشر الخير، والأمر بالمعروف، وإحياء الجهاد، ولا ينقصهم لذلك كله إلا المال، والمال قد جعلك الله تعالى خازناً وأميناً عليه، أفيسرك أن يكوى به جنبك وجبينك وظهرك يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!! إذاً: الخلق الأول الذي يعوده الصيام للصائمين: هو خلق الجود والكرم والإنفاق.(196/7)
تربية الصيام الإنسان على الصبر
الخلق الثاني: الصبر.
والصوم نصف الصبر، ومعنى الصبر في الصوم ظاهر، فإن الإنسان يكلف نفسه عناء الإمساك عن الشهوات والملذات المستطابة التي يتوق إليها القلب، وتشرئب إليها النفس، ويحبها الإنسان بطبعه، فيمسك عنها طيلة نهار رمضان؛ لوجه الله رب العالمين، وهو من الصبر على طاعة الله، وهو أيضاً من الصبر عن معصية الله، ولهذا أمر الله تعالى بالصبر في كتابه فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف:28] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ومدح الله تعالى أيوب عليه السلام فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص:44] والله تعالى يحب الصابرين كما أخبر، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر} .
والغريب أن الناس يتكلمون عن الصبر ويفيضون في الحديث عنه، بل ويسمعون كلاماً كثيراً، ويقرءون ما جاء فيه في الكتاب والسنة، ولكن إذا نزلت بهم الملمات والمهمات، واحتاجوا إلى الصبر حتى يطبقوه في سلوكهم وخلقهم وأقوالهم وأعمالهم؛ بدوا كما لو كانوا لم يسمعوا يوماً من الأيام آمراً بالصبر، ولا ناهياً عن ضده، ولا محرضاً عليه، ولا مبيناً لفضل أهله، فإذا احتاجوا إلى الصبر في مواقعه نسوا هذا كله كأنهم لم يسمعوه؛ وهذا يدل على أن الإنسان يحتاج في تعليمه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة، ويحتاج إلى التربية الواقعية؛ ومواجهة الأمر حقيقة، وقد يظن الإنسان نفسه صابراً وهو جزوع، وقد يظن نفسه حليماً وهو غضوب، قال عمر -رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]] .
إن الحياة بالصبر تبدو وتغدو جميلة بكل ما فيها من المحن والمصائب والمشاكل، بل إن الصبر هو الإكسير الذي تتحول به الآلام -بإذن الله تعالى- إلى نعم، وتتحول به المحن إلى منح، وكم من إنسان نزلت به ملمة جليلة عظيمة فلما واجهها بالصبر وجد برد اليقين في قلبه، ولذة السكينة في فؤاده، ورضي بالله تعالى؛ فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.
خليلي لا والله ما من ملمة تدوم على حي وإن هي جلت فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت فكم من كريم قد بلي بنوائب فصابرها حتى مضت واضمحلت وكم غمرة هاجت بأمواج غمرة تلقيتها بالصبر حتى تجلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت فقلت لها يا نفس موتي كريمة فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت إن المرء قد يسمع عن السجن والسجناء فيخيل إليه أن الأمر عادي، وأنه لو حبس لصبر، ووجد في ذلك فرجاً من مجاملة الناس ومجالستهم ومحادثتهم، والصبر على أذاهم، لكنه لو حبس ساعة فربما فقد الصبر وتململ، وهذا يوسف عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ولما أتاه الداعي ما تلقاه عند الباب ولا أسرع إليه، وإنما قال له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] .
لقد سمعت أمس عن خروج داعية من دعاة الإسلام من سجون بلاد الشام، وقد مكث فيها ما يزيد على عشر سنوات؛ الله أكبر! عشر سنوات ولد فيها مواليد، وشبوا وكبروا ودخلوا المدرسة، ومات فيها أموات، حيا فيها أناس، ومات فيها آخرون، وقامت فيها دول، وزالت فيها دول أخرى، وتغيرت فيها أشياء كثيرة، وهؤلاء قد حيل بينهم وبين الدنيا.
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا يحكى أن أبا أيوب الكاتب حبس خمس عشرة سنة حتى كاد ييأس، فكتب إليه صديق يعزيه ويقول له: صبراً أبا أيوب صبر ممدح فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها صبراً فإن الصبر يعقب راحة ولعلها أن تنجلي ولعلها صبرتني ووعظتي وأنالها وستنجلي بل لا أقول لعلها ويحلها من كان صاحب عقدها كرماً به إذ كان يملك حلها فكتب إليه أبو أيوب يقول له: فلم يمكث إلا أياماً حتى جاء الكتاب بإخراجه من السجن، فخرج معززاً مكرماً.
مشاكل ليس لها إلا الصبر: إنك لا تحصي النساء اللاتي يشكين أزواجهن لسوء المعاملة، أو قسوة الخلق، أو غلظ الطبع، أو كثرة التهديد والوعيد، أو عدم الاستقامة في الدين، أو منعها عن أهلها، أو التقتير عليها في النفقة، أو تعييرها، أو عدم العدل معها إن كان لها ضرة، أو ارتكاب المعصية في بيتها، أوما أشبه ذلك من ألوان المآسي التي توجد في البيوت، وربما ترامى إلى مسمعك صوت ضعيف، صوت أنثى تشتكي ما تعاني، وهي لا تجد لها مخرجاً، وقد ارتبطت مع هذا الرجل بعقد، وأنجبت منه أولاداً وأصبحت أسيرة قعيدة في بيته، لا تملك حلاً ولا عقداً، فأي دواء لهذه الأنثى إلا الصبر.
وأنت -أيضاً- لا تحصي من يتبرمون من أحوالهم، فهذا موظف يتبرم من عمله، وهذا تاجر يتبرم من تجارته، وهذا رجل تحت مسئول ظلوم أو حاكم غشوم، أو تحت ضغط اجتماعى لا يراعيه، أو يعاني مشكلة تلاحقه وتؤرقه، أليس في الدنيا مشكلات قد لا يملك الناس لها حلاً؟ ولكن حلها عند من عقدها وهو رب العالمين.
إن هناك أموراً إنما يكون حلها بالموت، بالدار الآخرة؛ ولهذا كان ذكر الموت أحياناً سبباً في التفريج عن الإنسان، فإن الموت ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا ذكر عند سعة إلا ضيقها، فهو من أسباب التنفيس، فهب أن هذه المشكلة ظلت معك حتى الموت، أليس في الموت فرج؟ قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه وفراق كل معاشر لا ينصف هذا مع أن فرج الله تعالى للصابرين قريب، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} .
وإذا كنا اليوم وكل يوم نأسى لمصاب امرأة في عقر بيتها وعقر دارها، أو لموظف صغير تحت مسئول قاس، أو لرجل يعاني من مشكلة اجتماعية، فإن الأولى بمزيد الأسى هي تلك الشعوب المسلمة، والأمم الموحدة التي تسام الهوان في دينها، ولا تملك الانتصاف من ظالمها، ولكن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .(196/8)
تربية الصوم الإنسان على الحلم
الخلق الثالث: الحلم.
وهو: مقابلة الإساءة بالإحسان، والعفو عن الجاهل، والإعراض عنه، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله كما في الصحيح: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً قال: يا رسول الله أوصني ولا تكثر عليَّ أو قال: -كما في رواية أخرى-: يا رسول الله! مرني بأمر وأقلله علي؛ لكي لا أنساه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب} والصوم سبب لتربية الإنسان على الحلم، والصفح عن الجاهل، والعفو عن المسيء؛ لأنه عبادة يتلبس بها الإنسان، والعابد قريب من الله تعالى بعيد عن نزغات الشيطان، بعيد عن إغراءات النفس الأمارة بالسوء، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الصوم باب "من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم" ورواه أبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} والله تعالى غني عن العالمين، فليس لله حاجة أن يدع هذا طعامه وشرابه، كما أنه ليس لله تعالى حاجة أن يدع غيره أيضاً ممن ترك قول الزور والعمل به؛ فالله تعالى غني عن هؤلاء وغني عن أولئك، وليس بحاجة إلى هؤلاء ولا إلى غيرهم، وكل البشر ليس تعالى في حاجة إلى أحد منهم.
ولكن المعنى -والله تعالى أعلم- أن الصوم إنما هو للعبد، لتربية العبد وتهذيبه، وحمله على كريم الطباع، وجميل الأخلاق، والنأي والبعد به عن قول الزور، وعن العمل بالزور، وعن شهادة الزور، وعن الظلم، وعن الفحش، وعن السب، وعن الشتم، وعن الجهل، فإذا لم يترك ذلك فإن الصوم يكون حينئذ لم يفعل فعله فيه.
ولماذا يصوم مثل هذا؟ علام يصوم إذا لم يصم لنفسه؟ إن لله تعالى غني عنه، ولهذا قال تعالى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فهو سبحانه غني عن هؤلاء الذين كفروا وأعرضوا عنه، وهم لا يضرونه شيئاً، كما أنه سبحانه غني أيضاً عن المؤمنين، ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] .
فكفر العبد هو على نفسه، وفسقه على نفسه، وارتكابه للزور هو على نفسه قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ولهذا أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن الله تعالى قال: {يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً} .
فالله تعالى لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، إنه سبحانه غني عن العالمين، وإنما الصائم يعمل لنفسه فيمسك عن الطعام والشراب من أجل أن يربيه ذلك على أن يدع قول الزور وأن يترك العمل به، فإذا لم يدع قول الزور ولم يدع العمل به فلماذا صام إذاً؟ هل صام لله تعالى ومن أجل الله؟ الله تعالى ليس له حاجة إلى أن يترك هذا الإنسان طعامه وشرابه.
مقابلة الإساءة بالإحسان: وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصائم إلى هذا الخلق الكريم فقال في الحديث المتفق عليه: {إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم} يقابل الإساءة بالإحسان، فإذا عصى الله تعالى فيك فعليك أن تطيع الله تعالى فيه.
إنه لا يليق بالمسلم عامة ولا بالصائم خاصة أن يوزع ألفاظ السباب والشتائم على من حوله، فإن قصرت الزوجة في طهي الطعام أو كنس البيت أو كي الثياب أو العناية بالأطفال أو صناعة الشاي سبها، وسب أباها وأمها، وعيرها وهددها، وملأ البيت صراخاً وضجيجاً! إنه ليس من المروءة والكمال أن يكون الرجل في بيته امبراطوراً، إذا تكلم سكت الجميع، وإذا ظهر تجمد الكل، فلا ينطقون ولا يتكلمون، بل قد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً صبوراً رقيقاً حتى مع أهله، وربما رفعت عليه زوجه صوتها، وربما هجرته إحداهن إلى الليل.
فليس مناسباً إن قصر زوجك أن تغلظ له في القول، أو أفسد بعض الأطفال أثاث المنزل، أو مزقوا أوراقاً، أو نثروا طعاماً فربما شتمهم، وربما شتم نفسه معهم أيضاً، وفي صحيح مسلم: {سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يلعن بعيره أو ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تصحبنا ناقة ملعونة} فتركها صاحبها، فكانت تمشى بمفردها بعيداً عن الناس؛ استجابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.
وإن أطال مراجع على هذا الموظف في النقاش، أو تحدث معه، أو ألح عليه أغلظ له في القول، وربما افتعل هذا الإنسان مشكلة مع إمام المسجد أو مع الجار أو مع صديق أو مع زميل في العمل، وعذره في كل ذلك أنه صائم، ونفسه -كما يعبرون- واصلة.
والواقع أن الصوم يجب أن يكون جنة تمنع العبد مما يسخط الله، وحاجزاً يحول بينه وبين الغلط في القول أو في الفعل، لا، بل أقول لك: حتى أولئك الذين يبدأونك بالسب والشتم، أو يعيرونك، أو يسبونك، أو يغلظون لك في القول، أو لا يراعون شعورك، أو لا يحترمون مقامك، عليك أن تقابل ذلك كله بالإعراض، عليك أن تقابل ذلك كله بالصفح كما قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] .
ليس القول كالعمل: ما أسهل هذه الكلمات! أن نقولها، وما أصعب أن تمسك نفسك عن الغيظ فلا تنفذه، وأن تحجزها عن الغضب فلا تستجيب له، وأن تردها عن الانتصار للنفس فلا تقبله، قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:34-35] والصوم من الصبر، فتعلم الحلم في الصيام، وقال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] .
وقال سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] .
فإن القول البذيء السيئ الجارح من أعظم أسباب فساد القلوب، وتغير النفوس، واختلاف الصفوف، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أنس بن معاذ الجهني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه؛ دعاه الله تعالى يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء} .
قال الأحنف بن قيس: ما عاداني أحد قط إلا أخذت فيه بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان أقل مني حفظت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.
وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى الكبير الذي ذكره سيد من سادات الحلماء وهو الأحنف بن قيس فقال: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الجرائم فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دوني فأحلم دائماً أصون به عرضي وإلا فلائم وأما الذي مثلى فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم(196/9)
تربية الصيام الإنسان على الشجاعة
الخلق الرابع: الشجاعة.
ولقد كان أشجع الناس هم أهل العفة؛ العفة في طعامهم وشرابهم، والعفة في نكاحهم، فإن الشهوة تضعف القلب، والمنهمكون في الدنيا من غير تمييز بين حلالها وحرامها وحقها وباطلها دائماً هم جبناء! جبناء في المعارك! وجبناء في قول كلمة الحق! وجبناء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن قلوبهم ضعيفة، ونفوسهم رديئة، والشهوات قد نبتت عليها أجسامهم، ومصالحهم أصبحت مرتبطة بهذه الدنيا الدنية؛ فهم يحامون عن مصالحهم والراكضون وراء الوظائف والمناصب من غير تقوى هم -أيضاً- من الجبناء.
إن الصوم يكشف للإنسان عن جانب من حقيقة الحياة الدنيا، وأنها زخرف ولغو ولهو وباطل وزينة، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنه لا يركن إليها إلا المغفلون.
إن الصوم ينتزع الإنسان من الإغراق في الملذات ليفطمه عن هذه الدنيا، ويهزه هزاً عنيفاً ليقول له: نعم هذه هي الدنيا، وأنت فيها كالحالم الذي يجب أن يصحو، نعم، هذه هي الدنيا، ولكن هناك الدار الآخرة، أنت الآن تصوم عن الدنيا لا لأنك سوف تكسب من وراء الصوم مالاً، ولا جاهاً، ولا رتبة، ولا وظيفة، ولا سلامة دنيوية، ولا صحة في بدنك، فكل ذلك قد يأتي، ولكنك لا تصوم من أجله، وإنما تصوم؛ لأنك توقن أن هناك آخرة تعمل لها، وأن ثمة موتاً وبعثاً ونشوراً وجزاءً إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى فكرت في الدنيا وعالمها فإذا جميع أمورها تفنى وبلوت أكثر أهلها فإذا كل امرئ في شأنه يسعى أسنى منازلها وأرفعها في العز أقربها من المهوى ولقد مررت على القبور فما ميزت بين العبد والمولى أتراك تدرك! كم رأيت من الأحياء ثم رأيتهم موتى إن أدنى مراحل الشجاعة إذا لم تقل الحق؛ ألا تقول الباطل، وألا يتلفظ لسانك بما يسخط الله تعالى، وإذا لم تكن مع أهل الإيمان فلا أقل من ألا تكون ضدهم، وإذا لم يكن لسانك في صالحهم، فلا أقل من أن يسلموا منك، وإذا رأيت في نفسك هلعاً وجبناً ورخاوة فتأمل ما السبب؟! ربما تكون آكلاً للربا! أو الحرام فنبت جسدك على سحت! وربما تكون مرتكباً لما لا يحل لك من الفواحش والذنوب؛ فهذه عاقبتها في الدنيا!!(196/10)
ثالثاً: العمر يفوت
نعم، وأنت تطويه كطي الثوب.
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا وهذا الشهر الكريم هو مضاعفة للعمر، ففيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما بالك بالشهر كله! إنه حري بالمسلم الصائم أن يستدرك أيام هذا العمر ولياليه فيما ينفع.(196/11)
الأمر الأول: قراءة القرآن
أول ذلك: القرآن الكريم، وله بكل حرف عشر حسنات، لقد أنزل هذا القرآن في هذا الشهر قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] وكان جبريل عليه السلام يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان مرة، وعارضه في السنة التي توفي فيها بالقرآن مرتين إيذاناً بدنو أجله صلى الله عليه وسلم، وهذا كان أصل مشروعية ختم القرآن في شهر رمضان.
فجدير بك أيها المسلم! وبك أيتها المسلمة! أن تخصص لنفسك ورداً من القرآن الكريم طيلة العام ولو قل، ثم في هذا الشهر -خاصة- أجدر وآكد، وعليك أن تسرح طرفك في القرآن، وأن تعمل فكرك فيه، فلا يكون همك آخر السورة، أو آخر الوجه، أو آخر الجزء، أو آخر القرآن أن تختمه؛ بل أن تقرأ وتتأمل قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] .
فهذا خير تؤمر به، وهذا شر تنهى عنه، وهذا خبر ماضٍ من أخبار السابقين تعتبر به، وهذا خبر مقبل تتهيأ له وتستعد قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] .
وهذا حق على الجميع، على جميع الناس، أئمة ومأمومين، فليس جديراً بالإمام أن يهذ القرآن كهذ الشِعر؛ لأنه يقول: أريد أن أختم قبل نهاية الشهر، أو أريد أن أختم، ثم اذهب إلى العمرة في آخر الشهر، بل عليه أن يترسل في قراءة القرآن، ولا بأس أن يردد بعض الآيات، ويرقق بها القلوب، ويتغنى بالقرآن.
ففي صحيح البخاري مرفوعاً: {من لم يتغن بالقرآن فليس منا} عليه أن يحرك به القلوب، ويدمع به العيون، ويستدر به العواطف والمشاعر، ويطرق به النفوس، كما أن على القارئ مثل ذلك، وعلى المرأة مثل ذلك، بل حتى الصغار يجب أن يربوا على هذا.(196/12)
الأمر الثاني: الصلاة
قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وقال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] .
ففي مواضع كثيرة من كتابه الكريم أمر الله عزوجل بالصلاة فرضها ونفلها، وهي الفيصل بين المسلمين والكفار؛ ولهذا قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} .
وفي الحديث الآخر: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وهذا المعنى يعرفه حتى الكفار.
يقول أحد المؤرخين البريطانيين-وهو توماس أرنولد - في كتاب له اسمه "العقيدة الإسلامية" يقول: هذا الفرض المنظم -أي: الصلاة- من عبادة الله تعالى هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيراً ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد المشرق ما لكيفية أداء الصلاة من التأثير في النفوس.
ويقول أحد القسس النصارى -وهو الأسقف لوفرو - يقول: لا يستطيع أحد خالط المسلمين لأول مرة إلا أن يندهش، ويتأثر بمظهر المسلمين في عقيدتهم حينما يكبرون ويصلون، فإنك حيثما كنت في بلاد المسلمين، في شارع مطروق، أو في حقل، أو في محطة سكة حديد، أو في غير ذلك أكثر ما تألف عينك مشاهدةً أن ترى رجلاً ليس عليه أي مسحة من الرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يترك عمله الذي كان بيده كائناً ما كان ذلك العمل، ثم ينطلق في سكينة وتواضع لأداء الصلاة في وقتها المعين.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقى الأرض جاماً أحمرا جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا محمود مثل إياس قام كلاهما لك في الوجود مصليا مستغفرا العبد والمولى على قدم التقى سجدا لوجهك خاشعين على الثرى {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36-37] .
الناس والصلاة في رمضان: الفريضة في رمضان وفي غير رمضان يصليها المسلم، ولكن بعض المسلمين لا يعرف المساجد إلا في رمضان، أما في غيرها فإنهم يصلونها في بيوتهم، أو يؤخرونها عن وقتها؛ بل ومنهم من لا يصليها في غير رمضان، فإذا جاء رمضان ازدحمت المساجد بالمصلين، خاصة أول الشهر، وخاصة صلاة المغرب وصلاة الفجر.
وبعض الناس قد يكون مصلياً في رمضان فإذا جاء الشهر نام عن صلاة الفريضة؛ لأنه مشغول بالدوام، وفي الليل يسهر، فإذا جاء من الدوام نام ربما عن صلاة العصر فلم يصلها إلا بعد غروب الشمس.
وآخرون قد يقصرون في النوافل من القيام، والتراويح، وغير ذلك، منشغلون بالجلوس مع بعضهم في أحاديث لا تنفع ولا تضر، بل ربما كانت ضارة، أو في مشاهدة التلفاز -مثلاً- أو في لعب الكرة، أو في التسوق والانتقال من محل إلى محل، ومن معرض إلى معرض، ويذرعون الشوارع جيئة وذهاباً.
أين المصلون؟ أين الذين كانت الصلاة قرة أعينهم، وسرور قلوبهم، ونداوة أرواحهم، وبهجة نفوسهم؟!!(196/13)
الأمر الثالث: الإحسان
ينبغي الإحسان إلى الفقير والمسكين وابن السبيل، فإن هذا شهر المواساة، {ومن فطر صائماً فله مثل أجره} كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] .(196/14)
الأمر الرابع: العمرة
العمرة في رمضان كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري {تعدل حجة معي} ولا يلزم من العمرة طول البقاء، فإن من ذهب إلى البيت العتيق، وأحرم بالعمرة، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ثم حلق أو قصر فقد أدى عمرة، وهي بالنية الصالحة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنما وقفت معه بعرفة، وبت معه بمزدلفة، ورميت معه الجمار، وطفت معه بالبيت، وسعيت معه بين الصفا والمروة، وبت معه بمنى، ووادعت معه عليه الصلاة والسلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ولو لم تستغرق منك هذه العمرة إلا بضع ساعات.
إن البعض ممن يطيلون البقاء في رمضان في مكة المكرمة، وربما قضوا الشهر كله هناك، يحصلون أيضاً على خير كثير، فإن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهي في مسجده عليه السلام بألف صلاة، وهي في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة؛ المهم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وهذا فضل عظيم، وأجر كبير من الله عز وجل ولكن أيضاً ينبغي للإنسان ألا يهمل أهله، فلا ينبغي أن يذهب إلى هناك ويترك أهله لا يجدون من يطعمهم، أو يتفقد شئونهم، أو يقضي حاجاتهم، أو يراقبهم، بل أن يذهب بهم إلى هناك ويدعهم، وربما جلس في المسجد يصلي، ويجلس حتى تطلع الشمس، وينام في المسجد ولا يخرج للبيت إلا للوضوء أو لقضاء بعض حوائجه، أما أهله أين هم؟ أين يذهبون؟ ماذا يصنعون؟ ماذا يفعل أولاده؟ ماذا تفعل بناته؟ فإن ذلك كله ليس منه في قبيل ولا دبير.
بل من الناس من يذهب بأطفاله، ويذهب معه بخادمه، وتكون أحياناً كافرة، وقد كتب إلي بعض الإخوة أن أسرة من هذه المنطقة -بالذات- ذهبت معها بخادمه كافرة، فلما أقيمت الصلاة؛ قالت المرأة العجوز للخادمة: اخرجي، اخرجي؛ فقامت الخادمة سريعاً وخرجت من الحرم، فقال ناسٌ لهذه المرأة العجوز: لماذا أمرت الخادمة بالخروج؟ فقالت: لأنها نصرانية، ولا أريد أن تجلس في المسجد وقت الصلاة! سبحان الله إلى هذا الحد! الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] والمرأة هذه لم يجعلوا الأمر بالنسبة لها قرباناً للمسجد فقط، بل دخلت إلى المسجد بذاته، ومتى؟ في الشهر المبارك ثم تخرج وقت الصلاة، لم تعلم الدين ولا الإسلام، ولا ربيت على العقيدة، ولا دعيت إلى دين الله عز وجل وهذه من المصائب الكبار.(196/15)
رابعاً: الصائمون عن الحرام
نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام.(196/16)
أولاً: الربا
نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام.
حري بك أن تصوم عن الربا، وذلك الرصيد الضخم الذي نعرفه لك في البنوك الربوية التي قامت على محاربة الله تعالى ورسوله، وأعلنت ذلك، واحتلت أفضل المواقع وأرفعها وأعظمها، فهي قلاع حصينة، وكأنها معدة لمحاربة الله تعالى ورسوله، رصيدك في تلك البنوك لابد أن نأخذ منك وعداً قاطعاً بأن تخرجه، ولا تسمح لهؤلاء المرابين أن يستفيدوا من مالك، ويستعينوا به على معصية الله، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] .
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] .
ويقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:275-276] .
فتعاملك بالربا، أخذك الفوائد البنكية التي يسمونها فوائد وهي في الواقع لون من الربا المحرم، وتعاملك بالمعاملات المحرمة.
ومضاعفتك للدين وقلبك للدين على المدين، واستخدامك لمسألة العينة، وغيرها من المسائل التي جاء الأمر أو النص بتحريمها، أو نطق العلماء بذلك؛ ماذا يعني؟ لماذا تصوم عما أحل الله لك من الطعام والشراب، ولا تصوم عما حرم الله عليك من المال الحرام؟(196/17)
ثانياً: الغيبة والنميمة
إن اللسان نعمة من نعم الله تعالى، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] .
وكان الجدير بالإنسان أن يستخدم لسانه في ذكر الله، أو دعائه، أو استغفاره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلام الطيب، والنصيحة، وما أشبه ذلك، ولا حرج عليك أن تتكلم في المباح، فإن هذا من شأن الإنسان وطبيعته، فعلت وأكلت وشربت وذهبت وأتيت، وما أشبه ذلك من ألوان المباحات.
لكن أن يتحول الأمر إلى أن تستخدم نعمة الله تعالى في معصيته، في الغيبة، والوقوع في أعراض الناس، والتدخل في شئونهم، فلان فيه! وفلانة قالت! وفلانة فعلت! وما أشبه ذلك! وقول الزور، ونقل الكلام، والنميمة، والتحدث بين الناس ونقله على جهة الإفساد، وإشاعة الباطل والإثم والزور، وما أشبه ذلك.
فإن هذا من أعظم الذنوب والمعاصي خاصة وأنت صائم، فعليك أن تمسك عن ذلك كله.
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الغيبة: {ذكرك أخاك بما يكره قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} .
وقد قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] وقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:10-13] وقال الشاعر: فاحفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءه الشجعان وقد ورد في هذا الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم {جيء بامرأتين غلبهما الصيام إليه، فقال لهما: قيئا، فقاءتا قيحاً ودماً عبيطاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هاتين المرأتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله} أي: الغيبة والنميمة، وهذا الحديث رواه أحمد والطيالسي وغيرهما، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، وإن احتج به الإمام أبو محمد بن حزم وغيره رحمه الله تعالى.(196/18)
ثالثاً: النظر الحرام
ومن الأشياء التي يجب على العبد أيضاً أن يصوم عنها من الحرام: الصوم عن النظر إلى الحرام، سواءً أكان هذا النظر إلى امرأة، أم إلى التلفاز، أم إلى تمثيليات، أم أفلام محرمة، أم ما أشبه ذلك، مما يعلم هو في قلبه أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضاه.
فإن هذا كله من مقدمات الزنا، وأسباب الفاحشة التي تفضي بالعبد إلى ما حرم الله عز وجل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وهذه الآية هي نهي عن الزنا، ولكنها أيضاً نهي عن النظر الحرام، ونهي عن القول الفاحش، ونهي عن الخلوة بالأجنبية، ونهي عن كل قول أو فعل يكون سبباً في القرب والدنو من الزنا، ولهذا قال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا) .(196/19)
خامساً: المرأة الصائمة(196/20)
أولاًً: المرأة شقيقة الرجل
المرأة جزء من المجتمع، وهي شقيقة الرجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما النساء شقائق الرجال} والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] ويقول سبحانه: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] فالمرأة شقيقة الرجل، وهي مثله بأصل التكليف، ونظيرته في أصل الخلقة، وهي تنعم إن أطاعت، وتعذب إن عصت، ولذلك ينبغي أن يدرك المسلم أن من واجبه أن يحترم المرأة، سواءً كانت أماً له، أم أختاً، أم بنتاً، أم زوجةً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم} .
وكثيراً ما يتكلم الناس والرجال خاصة عن النيل من النساء والوقيعة فيهن، وكأنهم يبرئون أنفسهم ويتهمون المرأة، حتى إن بعض الشعراء يقول: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين وهذا خطأ عظيم فإن في النساء مريم التي اصطفاها الله تعالى، وفي النساء عائشة، وفي النساء خديجة، وفي النساء آسيا امرأة فرعون التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وفي النساء أمهات المؤمنين، وفي النساء الصحابيات الجليلات، وفي النساء من المؤمنات الفاضلات التقيات من هي أهل للخير، ولا يجوز لمؤمن أبداً أن يطلق مثل هذه الألفاظ.
وآخر سمعته يقول: إذا رأيت أموراً منها الفؤاد تفتت فتش عليها تجدها من النساء تأتت وهذا أيضاً غلط، فإن الشر ليس من النساء فقط، بل الشياطين مسلطون على بني آدم ذكورهم وإناثهم، والرجال أيضاً لهم في ذلك نصيب، نعم قد يكون الخطأ في النساء أكثر، وهو عليهن أغلب، ولهذا في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: {تصدقن يا معشر النساء، فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة وقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير} .(196/21)
أمور مهمة للمرأة الصائمة
المرأة المسلمة الصائمة عليها أمور: أولها: حفظ وقتها؛ فيجب عليها أن تشغل وقتها بما ينفعها من قراءة القرآن، وذكر الله، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وغير ذلك من الصالحات.
ثم عليها -أيضاً- أن تشغل وقتها بالأعمال النافعة التي تحتاجها في شئونها الدنيوية، وفي منزلها، وفي أولادها، وفي شأن نفسها، أو ما أشبه ذلك.
ثم عليها أن تحفظ وقتها من الغيبة، والنميمة، والقيل والقال، سواءً أكان ذلك من خلال المجالس مع الأخريات، أم من خلال المجالس التي تكون في مدارس البنات، أم من خلال الهاتف، أم ما أشبه هذا!! كذلك عليها أن تحفظ وقتها عن مشاهدة التلفاز والأفلام المحرمة، والتمثيليات الهابطة، فإن هذه تدمر الأخلاق، وتقضي على الحياء، وتربى الإنسان على قيم ومبادئ مخالفة لما جاء به المرسلون عليهم الصلاة والسلام، ومخالفة لما توارثه المسلمون في مجتمعاتهم وبيئاتهم المتدينة.
ثم عليها أن تحفظ نفسها عن الخروج لغير الحاجة، وعن التبرج، وعن التطيب وإظهار الزينة، وعن الانسياق وراء المغريات التي قد تعرض لها في حياتها، وأن تحفظ زوجها في نفسها، وأن تطيع الله تعالى فيما ائتمنها عليه من أمر نفسها.
ثم عليها أن تحفظ مالها عن الإسراف؛ فإن كثيراً من الأخوات تملك مالاً كثيراً وقد تكون معلمة، تأخذ راتباً يقدر بعشرة آلاف ريال أو أكثر من ذلك، ثم هي ترى أن هذا الراتب لا قيمة له إلا أن تجدد الأثاث في كل عام، وتشتري ألوان الملابس والأحذية، وغير ذلك لها ولأولادها، وتقول: الأمر هين؛ لأن هذا مال لها ليس لها فيه حاجة.
والواقع أن هذا من الإسراف الذي لا يحبه الله والله تعالى يقول: {وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ويقول: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:26-27] عليها أن تحفظ هذا المال ولا تنفقه إلا في حق مما تحتاجه في أمر دنياها من الملابس التي تحتاجها وتريدها هي، فضلاً عما يشتري لها زوجها، وإلا زوجها مطالب بالإنفاق عليها حتى لو كانت غنية أو ما أشبه ذلك.
ثم عليها أن تحفظ بقية المال، وإن استطاعت أن تنمي هذا المال فهو حسن، وإن استطاعت أن تصرفه حاضراً أو مستقبلاً في أعمال الخير والبر والإنفاق فهذا أعظم ما يدخر له المال، فإنما يفرح بالمال-والله العظيم- لينفق في وجوه الخير وفيما يرضي الله تعالى.
وعليها كذلك أن تحفظ زوجها بالإحسان إليه، والصبر عليه، وتحمل الأذى منه، وحسن القول له، وحسن التبعل له، وأن تتزين له ما استطاعت، وتحرص على أن تكون سبباً في إعفافه، إعفاف فرجه، وغض بصره عن الحرام، وتستعد له في نفسها ولباسها وتزينها ومنزلها وأطفالها؛ حتى لا تقع عينه منها على قبيح، ولا يشم منها إلا أطيب ريح.
وعليها أيضاً أن تحفظ أطفالها، تحفظهم عن الشارع فلا يخرجوا إلى قرناء السوء، أو يقعوا ضحية المخدرات، أو يتعلموا التدخين، أو يقعوا أيضاً ضحية حوادث السيارات أو الدراجات، أو ما أشبه ذلك مما يقع كثيراً.
وعليها ألا تخرج وتدعهم في البيت إذا خافت عليهم، فقد يقعون في حريق أو في مصاب، أو يقع على أحدهم شيء وهي بعيدة عنهم وقلبها معهم؛ بل إذا كان الأمر كذلك فعليها أن تصلي في بيتها، وقد قال الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} وقال صلى الله عليه وسلم: {وبيوتهن خير لهن} فالرجل لا يجوز له أن يمنع زوجه عن المسجد؛ إذا كان ذلك لا يضر بها ولا يضر بأولادها.
ولكن المرأة أيضاً عليها أن تعلم أن صلاتها في البيت ما قدر لها مفردةً أو مع أحد إن كان في البيت أحد أنه خير لها من أن تخرج، وخاصةً إذا كان يترتب على خروجها إهمال لزوجها أو بيتها أو أطفالها، أو تبرج بالزينة، أو ما أشبه ذلك.(196/22)
سادساً: نصائح متفرقة(196/23)
ثالثاً: البرنامج اليومي للأسرة.
البرنامج للأسرة يقوم أولاً: على رب الأسرة، على الأب، فإن الأب هو بيت القصيد فيها.
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ويعديهم داء الفساد إذا فسد يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد فعلى الإنسان أن يكون قدوة صالحة لأهل بيته في خلقه، وفي محافظته على الصلوات، وطيب كلامه، وبعده عن الحرام، ثم عليه في رمضان -خاصة- أن يتجنب السهر الطويل، وأكثر الناس يغيرون برنامجهم، فيسهرون إلى الفجر، ثم ينامون بعد ذلك، ويترتب على ذلك تضييع العمل المنوط بهم دراسة أم عملاً أم وظيفةًً، ويترتب على ذلك ترك الصلاة -أحياناً- ويترتب على ذلك الإغراق في النوم.
وإذا كانوا يسهرون الليل في أمور أحسن الأحوال أنها مباحة، فإنه يترتب على ذلك أن يضيع عليهم أكثر الشهر الكريم في أمور لا تحمد ولا تمدح.
ثم إن كثيراً من الناس يشتغلون في رمضان بلعب الكرة، ويجلسون في ذلك خارج البلد، أو داخله إلى الفجر؛ بل بعضهم حتى بعد صلاة الفجر يتجمعون لما يسمى بالتفحيط أو التطعيس أو ما أشبه ذلك، وهذه أشياء نأنف بشبابنا أن يشغلوا أوقاتهم في الأيام العادية فيها فضلاً عن هذا الشهر الكريم.
وواجب علينا -خاصة معشر الدعاة، والمهتدين، وأهل الخير، وطلبة العلم- أن نتجه إلى هؤلاء، ونجالسهم، ونحادثهم، ونتآلف قلوبهم على الهداية، وننشر بينهم الكتاب المفيد، والشريط المفيد، ونلقي كلمة قد لا تستغرق خمس دقائق، ربما ينفع الله تعالى بها ولو واحداً منهم، {ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} .
بل إنه جدير بنا أن نحول تلك التجمعات إلى ظاهرة إيجابية، فبدلاً من أن يجتمعوا على محرم -على طبل مثلاً أو على غناء، أو موسيقى، أو يجتمعوا على أمور مباحة- بدلاً من ذلك نجمعهم على ذكر الله، وعلى المناقشة في الأمور المفيدة، ونربطهم بقضايا الإسلام، وقضايا الدعوة، وقضايا العقيدة.
كما أن من الأمور التي يجب التفطن لها في موضوع البرنامج: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكثر من الاشتغال والانشغال بالأمور المفضولة، ويترك الأمور الفاضلة فضلاً عن أن يشتغل بالأمور المحرمة -كما أسلفت-.
إن بعض الناس قد يجد تجارته فيما حرم الله عز وجل عليه في هذا الشهر الكريم، فمن يبيعون الدخان -مثلاً- أو ما فوقه، ومن يبيعون الأغاني والأشرطة، ومن يبيعون أشرطة الفيديو، ومن يبيعون الأجهزة المحرمة عليهم أن يتقوا الله تعالى ويتوبوا من ذلك كله.(196/24)
النصيحة الثانية: نصيحة للمتهاجرين والمتقاطعين
فإن كثيراً من الناس يوجد بينهم خصومات في أموال أو مواريث، أو بسبب الأطفال، أو بسبب مشاكل، أو أعمال، أو غير ذلك قد تؤدي إلى القطيعة بينهم، ومع الأسف الشديد أن القطيعة أكثر ما تكون بين الأقارب، وربما وجدت أباً لا يكلم ولده منذ ثلاث سنوات، أو ولداً لا يكلم والده -والعياذ بالله من مثل ذلك-، أو أخاً لا يكلم أخاه، أو يمنع أولاده من تكليم جدهم أو قريبهم أو خالهم أو عمهم أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من الباطل وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث} وهجر المسلم سنة هو كسفك دمه، فكيف إذا كان هذا المسلم قريباً أو ذا حق عليه كأب أو عم أو جد أو ما أشبه ذلك.
إن رمضان فرصة لأن يعود المتهاجرون حتى يحظوا بمغفرة الله تعالى، فإن الأعمال تعرض على الله تعالى في كل اثنين وخميس، فيغفر لكل موحد لا يشرك بالله شيئاً إلا المتهاجرين يقول: {انظرا هذين المتهاجرين حتى يصطلحا} .(196/25)
نصيحة حول الإعلام
التلفاز الذي يحفر في العقول، يغرس المعاني الذميمة في النفوس، ويهدم كثيراً من مكارم الأخلاق من خلال ما يعرض وما يقدم، ومن خلال السياسة العملية التي يتبعها.
أيها الأحبة إن آخر ما واجهنا به التلفاز أنه أصبح يقدم لنا الفتاة السعودية في التمثيليات، فيشترط إعلامياً لأي تمثيلية عربية حتى نقوم نحن هنا بشرائها أن يشارك فيها ممثل سعودي، وهذا أسلوب لإجبار الممثلين السعوديين على المشاركة في الأعمال الأخرى، ولإجبار العاملين في مواقع أخرى أن يشاركوا ببعض الممثلين السعوديين، حتى ولو كانوا عن غير معرفة ولا جدارة، المهم حتى يحوز هذا العمل على موافقة وزارة الإعلام.
ثم بدءوا يظهرون فتيات سعوديات من الحجاز، ومن الشرقية، ومن نجد يظهروهن في تمثيليات سعودية، وتكون الفتاة متزينة، متجملة، متبرجة، بل تخرج بالبنطلون الضيق الذي يصف جسدها وهي مع رجل، وقد يكون هذا الرجل يظهر في المسرحية أو التمثيلية كما لو كان زوجاً لها، فهو يحدثها حديثاً هامساً، حديث الزوج إلى زوجته، ويتحدث معها، ولك أن تتصور أولاً نفسية وعقلية تلك الفتاة وهي تقوم بهذا المشهد وهذا الدور.
ثم لك أن تتصور - وهذا هو الأخطر؛ لأنه لا يهمنا الجانب الفردي بقدر ما يهمنا الجانب الاجتماعي- لك أن تتصور كم ستؤثر مثل هذه المشاهد في عقول بناتنا، وأخواتنا، ونسائنا وهن يدرسن دائماً وأبداً أن المرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة؛ ثم ترى هذه المرأة التي تدرس أنها عورة، وهي تظهر على التلفاز بأبهي زينة.
وتقرأ في القرآن الكريم: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فتشاهد هذه الفتاة التي تحملق في زميلها في التمثيلية بكل عيونها.
وتقرأ قول الله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ثم تشاهد تلك الفتاة وقد تبرجت ليس أمام عشرة رجال ولا مائة ولا ألف، بل أمام ملايين المشاهدين، لا أقول في داخل المملكة، بل في داخل المملكة وخارجها.
فواجب علينا جميعاً أن ننكر هذا المنكر ونحاربه، ونعترض عليه، ونتصل بقدر ما نستطيع بوزارة الإعلام وبغيرها، وبالعلماء، سواءً عن طريق الهاتف، أم بالمراسلة، أم بالاتصال، أم بالزيارة.
وعلينا أيضاً أن نكون دائماً وأبداً حرباً على كل المنكرات التي تغزونا في بيوتنا، وتهددنا في أخلاقنا، وقيمنا، وعقائدنا.
وعلينا أن نحارب هذا التلفاز، ذلك الجهاز الذي لا يربي في الناس -غالباً- إلا مثل هذه المعاني.
الخطر الثاني: الدشوش: وهي خطر كبير، وقد قرأت في جريدة الحياة أن عدد الدشوش سيصل في منطقة الخليج العربي خلال العام القادم إلى ما يزيد على ثلاثمائة ألف دش، بعضها يستقبل أكثر من مائة قناة، قنوات إيطالية، وقنوات من جنوب شرق آسيا، وقنوات من فرنسا، وقنوات من إسرائيل، وبعضها مخصص للدعارة، وبعضها مخصص للتنصير، نعم، لا أنكر أن ثمة قنوات علمية، وقنوات تعليمية، وقنوات اقتصادية، إلى غير ذلك، لكن أي مستوى من الوعي والمتابعة يوجد في المجتمع حتى لا يكون الانهماك في متابعة الدشوش إلى هذا الحد؟ إن الكثيرين لا يعتنون أصلاً بمتابعة هذه الأشياء -أعني الأخبار- ولا بتتبعها، ولا بمعرفتها، وإنما ذلك لأغراض أخرى في غالب الأحيان، فعلينا أن نكون حرباً على ذلك.
وأعلم أن في هذا المجتمع بالذات في منطقة القصيم العدد يتزايد، وعندي أسماء ومواقع من يمتلكون هذه الدشوش، وواجب علينا جميعاً أن نناصحهم، جيراناً كانوا لنا أو أقارباً أو معارف، أو حتى لو لم يكن يربطنا بهم إلا رابطة الإسلام، فواجب علينا أن ننصحهم، ونكثر عليهم، ونظل ندندن حول هذا الموضوع حتى يمتثلوا.
الخطر الثالث الإعلامي: الصحافة: والصحافة ذات تأثير بليغ، وهي في كل بيت، وفي كل بقالة، وفي كل مدرسة، وفي كل مؤسسة حكومية.
وأقول علينا أن نكون واعين في تناولنا للصحافة، فلا نقبل كل ما ينشر فيها، بل أن نميز الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، وأن نكون على حذر مما ينشر فيها، وأن نحرص على حماية عقولنا وأولادنا ونسائنا من آثار تلك الصحف والمجلات، وأن نحرص على مقاطعة أكثرها شراً وإثماً وسوءاً.
ولقد صحت وناديت مرات ومرات ومرات بمقاطعة خضراء الدمن "الشرق الأوسط"، وأفيدكم أنه وصلت إلي معلومات موثقة تدل على أن هذه الجريدة قد أصابها من جراء المقاطعة ضرر، ولذلك زادت في حجم صفحاتها، وبذلت جهداً لذلك، ومع مازالت الجريدة مصرة على سياستها، فأنا أناديكم وأطالبكم سواءً كنتم مسئولين في دوائر حكومية، أو في فنادق، أو في مؤسسات، أو في مدارس، أو أفراداً، أو غير ذلك أن تبذلوا قصارى جهدكم في مزيد من الضغط على هذه الجريدة.
وقد يقول بعضهم: لماذا هذه الجريدة بالذات؟ ولماذا لا نقاطع غيرها؟ نعم، وغيرها أيضاً مما نعلم أنه ينشر الشر والفساد، ولكنني أعتقد أن التركيز على هذه الجريدة المتميزة بهذا الجانب أنه سيكون سبباً في نجاح الحملة عليها أولاً، وبالتالي سيكون سبباً في أن يقلع غيرهم، ويدرك أن جمهور الناس متدينون ولله الحمد، وحريصون على الخير، وغيورون على الدين، وأنهم لو قاطعوا مطبوعاته لكسدت ولم تجد من يشتريها.(196/26)
الأسئلة(196/27)
إخراج زكاة المال قبل الحول
السؤال
ما حكم من أخرج زكاة أمواله ولم يحل عليها الحول؟
الجواب
على أي حال، إذا أخرج الزكاة في وقت معين ولم يحل عليها الحول فهذا حسن ولا شيء فيه، فقد عجل الزكاة حينئذٍ، ثم يخرج الزكاة في العام الثاني بعد مضي سنة من إخراجه زكاته أول مرة.
وعلى سبيل المثال: لو ملك مالاً قبل رمضان بوقت، وأحب أن يخرج الزكاة في رمضان، فأخرجها قبل أن يحول عليها الحول فحسن؛ ليكون شهر زكاته رمضان، فكل ما جاء رمضان أخرج زكاة ماله.(196/28)
الدعاء عند الإفطار
السؤال
ما هو الدعاء الشامل الجامع الذي يقال عند الإفطار؟
الجواب
جاء فيها أدعية منها "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" وهذا فيه ضعف.
وأصح ما ورد {الحمد لله، ذهب الضمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى} وإن دعا بما يحب فإنه يرجى أن يكون للصائم عند فطره دعوة مستجابة، فيدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة، ومن أجمع الدعاء وأفضله "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".(196/29)
مجاهدة النفس
السؤال
ما رأيكم فيمن يكون في بداية رمضان نشيطاً في الأعمال الصالحة وفي العبادات ثم ما يلبث أن يضعف شيئاً فشيئاً؟
الجواب
هذا من تلاعب الشيطان بابن آدم، وعليه أن يجاهد نفسه، لا أقول أن يكون طيلة الشهر كذلك، بل أن يكون طيلة عمره هكذا.(196/30)
مراعاة الإمام للمأمومين
السؤال
ما رأيكم في مراعاة الإمام للمأموم في إطالة الصلاة وقصرها؟
الجواب
نعم، ينبغي للإمام أن يراعي حال المأمومين، ولا شك أن اجتماع أمر جماعة المسجد على الحق وعلى كلمة واحدة خير من تفرقهم وتشتتهم وانتشار القالة فيما بينهم، فإذا كان المأمومون يريدون شيئاً مثل أن لا يطيل الصلاة إطالة شديدة ولكن أيضاً لا يخل بالصلاة ولا يخل بطمأنينتها، ولا يستعجل، ولكن لا يطيل إذا كانت الإطالة تشق عليهم.
ومثله -أيضاً- لو كان جمهور المأمومين يرون أن يصلي أكثر من خمس تسليمات وأكثرهم على هذا، وهو أرفق بهم، فراعى حالهم في ذلك، فلا حرج عليه في ذلك كله إن شاء الله تعالى، وإلا فالأصل أن يراعي الإنسان السنة الواردة فيصلي بهم خمساً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: {ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة} وفي رواية {على ثلاث عشرة} والحديث في الصحيح، وكذلك أيضاً أن يطيل الصلاة بقدر معتدل.(196/31)
دعوة المرأة في رمضان
السؤال
في كيفية استغلال المرأة رمضان من ناحية تعليمها أمر دينها.
أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم، هذه فرصة مهمة، فإن كثيراً من النساء يجتمعن في رمضان في المساجد لصلاة التراويح والقيام، وهي فرصة لأئمة المساجد والدعاة والمصلحين بتوجيه الوعظ والحديث إلى النساء، وتخصيص أيام لذلك، لمعالجة القضايا التي تحتاجها المرأة، وتعليمها أمور دينها، وعقيدتها، والصلاة، وأحكام الحيض، وأحكام النفاس، وآداب المعاشرة الزوجية، وكيفية تربية الأولاد، وما يتعلق بلباس المرأة، وغير ذلك، وآداب الدخول والخروج، والمخاطر التي تهدد المرأة.
وعلينا جميعاً أن نستغل هذه الفرصة في توزيع الكتب والأشرطة على النساء في المساجد وفي غيرها من تجمعات النساء، وأن نجتهد في ذلك بقد المستطاع.(196/32)
الصلاة في المسجد البعيد خلف حسن الصوت
السؤال
الذين يقومون بأداء صلاة التراويح في مساجد غير مساجدهم بحجة أن القارئ الفلاني أفضل من إمامهم بصوته، والجزء الآخر يقول: القارئ الفلاني أفضل من إمامنا في تدبر الآيات.
أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
على كل حال، الأصل أنه لا حرج على الإنسان أن يصلي في أي مكان شاء، وذهابه إلى مسجد يرى أنه يكون فيه أكثر خشوعاً أو أكثر تدبراً أو ما أشبه هذا لا حرج عليه فيه، ولكن ينبغي ألا تهمل المساجد، وأن تعمر المساجد كلها بصلاة التراويح والقيام، وإن حصل أن يكون الإنسان في مسجده فهو أولى في نظري، خاصة إذا كان يحتاج إليه في أن ينوب عن الإمام، أو يفتح عليه إذا أخطأ أو سهى، أو يحدث الجماعة أو ينصحهم، أو يقوم ببعض المشاريع الدعوية في المسجد، أو ما شابه ذلك.(196/33)
دعوة الشباب التائه في رمضان
السؤال
بقدوم شهر رمضان تمتلئ الشوارع والاستراحات بالشباب الذين نسأل الله عز وجل أن يردهم إلى الحق رداً جميلاً وإلى سلوك طريق الحق والبعد عن ترهات الأمور، السؤال: من لهؤلاء الشباب، ما هو دور الشباب الملتزم تجاه ذلك؟ أتمنى أن ينظر الشباب الملتزم بعين العطف ويحرص على كسر تلك الحواجز؟
الجواب
نعم، هذا الكلام نكرره كل عام، من لهؤلاء إلا الله ثم أنا وأنت، فعلينا أن نذهب إلى هؤلاء.
أولاً: ندرب أنفسنا على الدعوة، فقد يكون الكثير منا لا يعرف كيف يدعو الناس، فيحتاج إلى أن يتدرب عملياً.
ثانياً: أفلا يسرك أن تكون موسوماً بوسام الدعوة، وأن تكون خليفة للأنبياء عليهم السلام، وأن تكون من أهل القول الحسن {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فكن من أهل هذه الآيات، واذهب إلى هؤلاء، اجلس معهم، واصبر عليهم، وتلطف معهم، واحرص على أن تواجههم بالكلمة الطيبة والابتسامة، وأن لا تعجل عليهم، بل تألف قلوبهم بذلك كله، في اليوم الأول وزع عليهم كتاباً واذهب، وفي اليوم الثاني وزع عليهم شريطاً واذهب، وفي اليوم الثالث سوف يحتشدون عليك ويسلمون فاستأذنهم أن تلقي قصيدة أو كلمة أو شرح آية أو شرح حديث أو موعظة أو تذكرة لهم، أو ما أشبه ذلك، فالأسلوب الذي تعتقد أنه يناسبهم أبداً به، وبعد ذلك ستجد أنهم استفادوا منك فائدة عظيمة، وأنك أنت أيضاً لم يخرج هذا الشهر إلا وقد أضفت إلى خبرتك خبرة جديدة، وإلى حسناتك أيضاً -بإذن الله تعالى- أجوراً عظيمة لمن هداهم الله تبارك وتعالى على يدك.(196/34)
صحة حديث {من أفطر رمضان}
السؤال
ما صحة الحديث "من أفطر رمضان من غير عذر لم يجزه صيام الدهر ولو صامه"؟
الجواب
هذا الحديث رواه أهل السنن، وذكره البخاري تعليقاً وليس بالصحيح، فإن فيه عللاً منها أبو المطوس عن أبيه وهو مجهول، وفي الحديث انقطاع وفيه اضطراب، فهو لا يصح، كذلك الحديث الطويل الذي جاء فيه " شهر رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار" فهذا الحديث ليس صحيحاً بل هو شديد الضعف، وينبغي لمن قرأه أن ينبه على ذلك.(196/35)
أهمية الأذان في رمضان
السؤال
هل أمسك في الأذان الأول أم هل أمسك قبل أذان صلاة الفجر؟
الجواب
أما الأذان الذي يؤذن به قبل صلاة الفجر، فهذا ليس لإمساك الصائم، وإنما هو ليقوم النائم، ويقعد المصلي لتناول طعام السحور، وإنما مطلوب الإمساك بالأذان الذي هو أذان الفجر الذي فيه (الصلاة خير من النوم) الأذان الثاني، وهذا الأذان هو الذي يكون بعد طلوع الفجر، لكن السائل قد يقصد: هل أمسك مع أول أذان أسمعه أم أمسك مع آخر مؤذن؟ أقول: العبرة بطلوع الفجر فالله تبارك وتعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {إذا أدبر النهار من هاهنا وأقبل الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم} إذاً الصوم والفطر يكون معلقاً بالليل والنهار، فإذا طلع الفجر أمسك الصائم، وإذا غابت الشمس أفطر الصائم، وإنما الأذان أمارة وعلامة سواء أذن الفجر للإمساك أم أذن المغرب للإفطار.
فإذا كان هناك مؤذن مأمون فعليك أن تصوم وتفطر على أذانه، وإن شك الإنسان فلا حرج عليه أن يحتاط في ذلك، فيمسك مع أول المؤذنين ولا يفطر حتى ينظر إلى أن الشمس قد غربت، خاصة أن بعض المؤذنين لا يضبطون ذلك، وهذا ينبغي التنبيه عليه أيضاً، فإن المؤذنين مؤتمنون ويجب عليهم أن يرعوا هذه الأمانة، هي أمانة عظمى يتعلق بها شعيرتان من أعظم الشعائر: صلوات المسلمين وصيامهم، فما بالك أيها المؤذن إذا صلت المرأة صلاة الفجر على أذانك قبل أن يطلع الفجر وقبل دخول الوقت، إنك أنت الآثم حينئذ، وما بالك إذا أفطر المسلمون على أذانك قبل أن تغرب الشمس.
بعض المؤذنين يقول: أحتاط، ولا ينبغي الاحتياط في هذه المسألة؛ لأن الاحتياط فيها يتسبب في ضرر آخر، بل على الإنسان أن يؤذن على الوقت تماماً، سواءً أذان الفجر أم أذان المغرب، لئلا يترتب على ذلك أن يصلي الناس قبل الوقت، أو يمسكوا قبل الوقت.
فقد يقوم إنسان ويسمع أول أذان قبل دخول الوقت، قبل طلوع الفجر فيمسك وعنده حاجة إلى أن يتسحر، أو يشرب ماءً، أو يتناول دواءً أحياناً فيتركه لأنه ظن الفجر قد خرج، والسبب هذا المؤذن الذي أذن قبل الوقت.
فعلى المؤذنين أن يتقوا الله تعالى ويراقبوه في أمر الوقت، فلا يتقدمون ولا يتأخرون، وإذا كان المؤذن لا يطيق ذلك ولا يستطيعه أو لا يعرفه فبإمكانه أن يجعل غيره يتولى عنه أمر هذه الأشياء.(196/36)
دلوني على سوق المدينة
التكسب وطلب الرزق الحلال وظيفة المؤمن أياً كان وله في ذلك وفي سبيله وسائل متعددة ومتنوعة يحدوه في ذلك إرضاء الله تعالى وأمله الاستغناء عن الناس والتوكل على الله شعاره، والإسلام لا يبيح العجز والكسل بل هو دعوة للعمل.(197/1)
أهمية موضوع: دلوني على سوق المدينة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته،،، أيها الإخوةُ الأحبةُ الكرام: هذا الدرس الثامن والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، بالجامع الكبير ببريدة، في هذه الليلة ليلة الإثنين (18 ذي القعدة، لسنة 1413هـ) .
وعنوانه: (دلوني على سوق المدينة) .
وقد كنت أعلنتُ عن هذا الدرس على مدى أسبوعين، ثم تأجل لأسبابٍ طارئة، وهذا أوان الوفاء بما كنت قد وعدتكم به، ومما هو جديرٌ بالذكر، أنني علمت بعد أن ذكرت لكم عنوان الدرس، أن أخي فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري خطب خطبةً ووضع لها هذا العنوان وهو "دلوني على السوق".
وحقاً لم أعلم بذلك إلا بعد أن غادرت المسجد، فكان هذا محض اتفاقٍ وقدر، والحمد لله على ذلك، فإنه يدل على أن هذه الفكرة التي نتحدث عنها، وندعو إليها، هي همٌ مشترك بين مجموعات من طلبة العلم.(197/2)
العصر الذي نعيشه عصر صراعٍ في مجالات عدة
إن هذا العصر الذي نعيشه، هو عصر صراعٍ في مجالاتٍ عدة، منها المجال الاقتصادي، سواء على مستوى الدول أم غيرها، فأمريكا وأوروبا مثلاً، تعيشان صراعاً تجارياً واقتصادياً كبيراً، وكذلك الحال بالنسبة لأمريكا مع اليابان، أو مع الصين، أو مع الدول النفطية التي أصبح الغرب يضغط عليها، ويفرض عليها الضرائب، وآخر ذلك ضريبة النفط، التي تصل إلى ثلاث دولارات على البرميل الواحد، وقد تزيد إلى عشرة دولارات على مدى سنوات.(197/3)
الاقتصاد من أهم أسباب قيام الدول أو انهيارها
هذا الاقتصاد الذي نتحدث عنه، هو من أهم أسباب قيام الدول أو انهيارها، وعلى سبيل المثال: فإن الدول الشيوعية التي تهاوت كما تتهاوى أوراق الخريف، كان من أسباب سقوطها الفشل والانهيار الاقتصادي، ولم ينفعها وقد انهار اقتصادها، أن تملك أكثر من ثلاثمائة ألف رأس نووي، بل أصبحت هذه الرءوس النووية، وتلك الملايين من الجنود، عبئاً على اقتصادها، وساهمت في مزيدٍ من تفككها وانهيارها.(197/4)
الرجل الغربي مثقلاً بالديون
فإن مما يلحظه الدارسون لأوضاع المجتمعات، أن الرجل الغربي اليوم، أصبح مثقلاً بالديون إلى رأسه، وأصبح كل مرتبه يصرف في سداد ديونٍ عليه، فدينٌ بسبب السيارة، ودينٌ للمنزل، ودينٌ بسبب أعمالٍ خاصة يقوم بها، وهكذا بحيث يُقدَّر أن هذا الرجل يموت وهو في سداد الدين، وهذا من الظواهر الخطيرة التي تنذر بانهيار تلك المجتمعات الغربية الضالة والشاردة عن سواء السبيل.(197/5)
المسلمون اليوم هم الأغنى والأفقر
إن المسلمين اليوم هم الأغنى، وهم الأفقر في الوقت نفسه، فبلاد الإسلام وهبها الله تعالى الخيرات الاقتصادية، والثروات الطبيعية المختلفة، التي أصبح الغرب بأمسِّ الحاجة إليها، وليس النفط إلاَّ واحداً منها، ومع ذلك فإن أكثر من (60%) من فقراء العالم، ومشرديه، ولاجئيه هم ممن ينتسبون إلى هذه الرقعة الإسلامية، وذلك يدل على تقصيرهم في استثمار ما وهبهم الله تعالى من الخيرات، والبركات.(197/6)
المال عصب الحياة
وأخيراً: فإن المال كما يُقال عصب الحياة، وهو سرٌ من أسرار النجاح، للفرد والجماعة والأمة، فالاقتصاد يجب أن يوظف لخدمة الدين، والدعوة إلى الله عز وجل، وإغناء المسلمين عن الكافرين، والإفادة مما وهب الله تعالى في هذه الدار، قال سفيان الثوري رحمه الله: ما كانت العِدة أو العُدة في زمانٍ أصلح منها في هذا الزمان، والأثر رواه أبو نعيم.
ومعنى كلام سفيان -رحمه الله-: أن إعداد المال، واقتناءه ربما كان محتاجاً إليه في كلِّ وقت، لكن في زمانه على سبيل الخصوص زادت الحاجة!! لأن به يحفظ الإنسان عن إراقة ماء وجهه فيما لا يحل، أو التعرض للسؤال، أو الضعف، أو الحاجة إلى من بيدهم المال، فإذا كان هذا الكلام في زمان سفيان، فما بالكم بوقتنا هذا الذي يتنافس العالم فيه، في مجالِ الاقتصاد وفي مضماره.
إننا محتاجون إلى أن نتحدث طويلاً عن هذا الهم؛ الهم الاقتصادي، وهذا الدرس هو الدرس الثاني بعد الدرس الأول، الذي كان بعنوان (دعوةٌ للإنفاق) وهناك إن شاء الله تعالى، مجموعةٌ أخرى أسأل الله تعالى أن يوفقنا إليها.(197/7)
سُنةً مأثورة
ثانياً: سُنةٌ مأثورة:(197/8)
عبد الرحمن بن عوف والكسب الحلال
روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن أنسٍ قال: [[قدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد بن الربيع: اختر إحدى "زوجاتي" فأنزل لك عنها، واختر من مالي ما شئت!! فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك، ومالك، دُلوني على السوق]] .
لا يريد أن يأخذ شيئاً من مال أخيه، ولا من أهله؛ ولكن دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئاً من أقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيامٍ وعليه وضرٌ من صفرة، عليه طيبٌ خلوف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مهيم يا عبد الرحمن! (ما الخبر، ما القصة؟) قال: تزوجت يا رسول الله امرأةً من الأنصار، قال: فما أصدقتها؟ قال: وزنَ نواةٍ من ذهب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أو لم ولو بشاةٍ} نعم، أنت تلحظ روح الاحترام عند عبد الرحمن بن عوف، وهو رجلٌ من أهل مكة من المهاجرين، ومكة كانت مركزاً تجارياً في الجاهلية، ثم صارت بعد ذلك في الإسلام يجيء إليها العرب في المواسم، وفي الحج، والعمرة، وفي غيرها، فيأتون بألوانٍ من الخيرات، كما قال الله تعالى ممتناً على أهل هذا البلد: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] وفي الآية الأخرى قال: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] .
فكانت مكة مركزاً تجارياً وزراعياً على مستوى الجزيرة العربية كلها، ولذلك كان أهلها خبراء ومحترفين في التجارة، فكان عبد الرحمن بن عوف لأنه مكيٌ مهاجريٌ، من أول ما نزل المدينة قال: "دلوني على السوق"، وبخبرته نزل السوق، ولم يكن معه قرشٌ ولا ريالٌ، ولا درهمٌ ولا دينار؛ ولكنه ضاربَ وما هي إلا أيام، حتى ربح شيئاً من إقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، ثم على مدى أسبوعٍ تزوج عن غِنى، ولم يكن محتاجاً إلى لجنةٍ خيرية، ولا إلى محسنٍ متصدق، ولكن أغناه الله تعالى بالضرب في الأسواق، والسبق فيها بما أحل، حتى استغنى وأغنى بإذن الله عز وجل.(197/9)
الدعم النبوي لأصحابه بالتجارة
فأنت تلحظ ذلك، ثم تلحظ الدعم النبوي من الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن عوف، ولسائر المهاجرين والأنصار، الدعم النبوي لهم بالتجارة، ولذلك دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، بارك الله لك، وأمره أن يولمَ ولو بشاةٍ ليطعم المهاجرين والأنصار، من طيّب الطعام، بما أفاء الله عليه من المال، وبما أنعم عليه من الزوجة: {أولم ولو بشاة} .
وهذا يذكرنا أيضاً، بقصة عروة بن الجعد الأزدي البارقي رضي الله عنه وله قصةٌ شهيرة، هي في صحيح البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً وقال: اشترِ لي شاةً، فذهب واشترى شاتين، ثم باع إحداهما بالثمن نفسه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بماله وبشاته، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يُضارب في صفقةٍ، إلاَّ ربِح فيها، حتى اعتقد الصحابة رضي الله عنهم أنه لو باع التراب لربح فيه} فأنت تلحظ هنا أيضاً، روح الاحترام عند عروة البارقي، والخبرة في التجارة، والتعرف على الأسباب، والبحث عن الفرص، ثم تلحظ دعماً نبوياً من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يكونوا أغنياء عن الناس، فقراء إلى الله رب الناس جلَّ وعلا.
إنها جزءٌ من حياة الجيل الأول كلهم، لا تخطئك في أي واحدٍ منهم، وعلى سبيل المثال: أبو بكر رضي الله عنه خرج تاجراً إلى الشام وإلى البصرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الزبير بن بكار في الموفقيات، ولم يمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وحب الجلوس معه من ذلك، ولا منع النبي صلى الله عليه وسلم محبة أبي بكر والحرص على صحبته من الإذن له بالتجارة إلى البصرة، أما عمر رضي الله عنه ففي الصحيحين في قصة أبي موسى رضي الله عنه لما استأذن عليه، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فطلب عمر البينة على ما قال أبو موسى، فجاءه ببعض الأنصار فشهدوا له، فقال عمر رضي الله عنه: [[خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفقُ في الأسواق]] .
وحقيقةً كان عمر كثير الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: {ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، جئت أنا وأبو بكر وعمر، وهما السمع والبصر} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر وعمر: {هذان السمع والبصر} وقلما تركه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن خفيت عليه هذه السنة، فرجع يلوم نفسه ويعاتبها، ويقول: ألهاني عنه الصفق في الأسواق، أي: الشغلُ بالتجارة.
أما علي رضي الله عنه فقد ذكر عنه الخلال كما في كتابه، الحث على التجارة، ذكر أنه كان على علي إزارٌ غليظ، اشتراه بخمسةِ دراهم فقط، أمير المؤمنين عليه إزارُُ غليظ، قيمته خمسة دراهم فقط! ثم يقول رضي الله عنه: [[اشتريته بخمسة دراهم، لو أربحني فيه رجلٌ درهماً واحداً لبعته عليه]] .
إذاً هو مستعدٌ أن يتاجر حتى في ثوبه الذي على جلده، ولو أربحه فيه إنسانٌ درهماً واحداً! هذه روح التجارة لمثل هؤلاء الرجال الفضلاء، وهكذا كان سائر الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
ولقد قدم المهاجرون المدينة بالمئات، ثم بالألوف، جم غفير، فهل عانت المدينة يا ترى أزمةً اقتصاديةً بسبب هذا العدد الكبير، الذي نزل فيها، ولم تكن فرص العمل مواتية؟!! وهل عانت المدينة أزمةً في الوظائف الحكومية؟! كلا!(197/10)
السلف الصالح والتجارة
بل قد كان المهاجرون والأنصار، يعملون في الزراعة، أوفي التجارة أو في الحطب، أو في الاستيراد، أو في غير ذلك، وكلهم كانوا مثل عبد الرحمن بن عوف، حتى نتج عن ذلك نشاطٌ اقتصاديٌ واسعُ النطاق، وكان الأنباط يتبادلون السلع والبضائع مع المدينة، كما هو معروفٌ في قصة كعب بن مالك وهي في الصحيحين، في قصة النبطي الذي كان يسأل عن كعب بن مالك.
ولهذا كان أهل العلم، والجهاد، والدين، يتواصون بالعمل في التجارة، لا أقول أهل الدنيا، ولا أقول أهل المال، ولا أقول أهل السلطة، وإنما أقول أهل العلم، والدعوة، والجهاد، كانوا يتواصون بذلك.
وهذا أبو قلابة رضي الله عنه يوصي أيوب السختياني، فيقول له: الزم السوق، فإن الغنى من العافية، وهذا الأثر رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم وسنده صحيح.
وهذا إسحاق بن يسار يمر بالبزازين الذين يبيعون الثياب، فيقول لهم: يا معشر البزازين! الزموا تجارتكم.
هل تراه وقف عليهم ليقول لهم: القوا ما أنتم فيه، واتركوا ذلك، واذهبوا إلى الكهوف والمغارات لتعتزلوا فيها؟! كلا بل يقول: يا معشر البزازين، الزموا تجارتكم فإن أباكم إبراهيم عليه السلام كان بزازاً، أي: يبيع الثياب، وهذا الأثر رواه أبو نعيم وسنده جيد.
وشعبة رضي الله عنه وهو من أتباع التابعين، يقول لتلاميذه يربيهم على العلم، وعلى العبادة، وعلى الخير والجهاد، ومن ضمن كمال التربية أنه يعطيهم تعليماتٍ صريحة يقول لهم: الزموا السوق، وهذا الأثر مروي في الجعديات، وسنده صحيح.
وقال رجلٌ للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: إني رجل غني، وذو كفاية، فماذا ترى لي؟ قال له الإمام أحمد: الزم السوق، تصلُ به الرحم، وتعودُ به على عيالك، وهذا الأثر رواه الخلال وابن الجوزي، رحمه الله تعالى.
أما سفيان الثوري -رحمه الله- فيقول لك: عليك بعمل الأبطال.
ونحن نعرف أن الأبطال يخوضون المعارك، وأن الأبطال يقولون كلمة الحق، ونعرف أنهم يموتون في سبيل الله؛ ولكن سفيان يقدم لك تعريفاً جديداً للأبطال، وهو صحيحٌ أيضاً.
(عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال) .(197/11)
الأثرياء من الصحابة
لعل من المناسب أن أعرض لكم كشفاً بحساب بعض العشرة المبشرين بالجنة، لتدرك أن جمع المال لا يناقض الزهد، ولا ينقض الطمع فيما عند الله عز وجل، فهؤلاء الذين منحهم النبي صلى الله عليه وسلم شهادةً صادقةً مصدقةً بدخول الجنة: {أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي ٌ في الجنة} الخ.
فهؤلاء العشرة كان أكثرهم من أصحاب الأموال الضخمة، ومن أغنى أغنياء المسلمين، وقد رأيت أن أعرض لك بعضهم، لأن الوقت لا يتسع لجميعهم.(197/12)
عبد الرحمن بن عوف
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه باع على عثمان أرضاً له، بأربعين ألف دينار، وقسم ذلك بين فقراء بني زهرة، وفقراء المهاجرين، وأمهات المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن عبد البر رحمه الله: كان عبد الرحمن بن عوف، وهو صاحب "دلوني على سوق المدينة" قال ابن عبد البر: [[كان مجدوداً أي "محظوظاً" بالتجارة، خلَّف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاه، ومائة فرس، وكان يزرع بالجرف -وهو موضع، على مسافة ثلاثة أميال من المدينة تقريباً إلى جهة الشام- وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضح]] .
وهكذا سعد بن أبي وقاص، كان من الأغنياء المشتغلين بالزراعة، ولما حصلت الفتنة، ترك البلاد، وذهب إلى مزرعته يشتغل فيها وأعرض عن الناس.(197/13)
طلحة بن عبيد الله من أثرياء الصحابة
أما طلحة بن عبيد الله - طلحة الفياض - فقد كان كريماً جواداً وسمي بالفياض، وغلةُ طلحة يومياً ألف دينار، هذه أرباحه يومياً في مثل ذلك العصر، الذي لم يكن يعرف الملايين والمليارات.
ولما مات طلحة رضي الله عنه خلف من الأموال الشيء الكثير، سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه موسى بن طلحة، ولده، فقال له: كم ترك أبو محمد، أي كم خلف من الأموال؟ فقال له: ترك ألفي ألف درهم، ومائتي ألف درهم، هذا من الفضة، أما من الذهب فخلف مائتي ألف دينار، فقال معاوية رضي الله عنه: [[عاش حميداً سخياً شريفاً، ومات شهيداً]] .(197/14)
الزبير بن العوام من أثرياء الصحابة
الزبير بن العوام رضي الله عنه كان له ألف مملوك، يؤدون إليه الخراج، فلا يدخل بيته من ذلك الخراج شئ، ولما مات نادى ولده عبد الله بن الزبير في موسم الحج، أربع سنوات، كل سنةٍ ينادي: من كان له على الزبير دينٌ أو شيءٌ فليأتنا لنقضه، فلما مضت السنوات الأربع، قسم ميراثه على ورثته.
وكان للـ زبير أربع زوجات لهنَّ الثُمن، ربع الثُمن هو نصيب كلّ زوجةٍ فقط، وكان ذلك بعدما رفع ثلث المال الذي كان وصية أوصى الزبير بها أي: رفع الثلث كان بعد أن قضى الديون كلها، ثم رفع الثلث، ثم وزع الميراث، فالذي أصاب الزوجة، يعادل 24:1 من تركة الزبير رضي الله عنه أي: أصاب كل امرأةٍ ألف ألف ومائة ألف، قال: فجميع ماله، يعني حسبت المال فوجدته يزيد عن خمسين مليوناً ومائتي ألف، وأثر الزبير أصله في صحيح البخاري.(197/15)
أبو بكر من أثرياء الصحابة
فهذا أبو بكر رضي الله عنه، تقول عنه عائشة رضي الله عنها -كان أبو بكر أتجر قريش، حتى دخل في الإمارة، والأثر رواه الخلال بسندٍ صحيح، نعم.
كان تاجراً حتى دخل في الإمارة فافتقر، وليس العكس!! كان أتجر قريشٍ، لأنه يشتغل بالبز، وبالتجارة، وكان يذهب إلى الشام وإلى غيرها، ويسبق في الأسواق، فلما تولي الخلافة رضي الله عنه افتقر، وأصبح ليس عنده إلا ما يقوم ببيته من المال الذي جعله له المسلمون ولـ أبي بكر أمر الخلافة، وجعلت الأمة كلها أمرها في عنق أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فيا ترى! ماذا فعل هذا الإمام المقدم العظيم، الذي يفاخر به المسلمون عبر التاريخ؟ روى ابن سعد ٍ بسندٍ موصول بالرجال الثقات أن أبا بكر لما استخلف، أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رأسه أثواباً يتاجر بها كالعادة، حمل الأثواب والبضائع وغدا إلى السوق، يبيع ويشتري! فلقيه في الطريق عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فقالا له: [[كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين]] ؟! قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[فمن أين أطعم عيالي]] ؟! قالا له: [[نفرض لك، ونجعل لك مرتباً يومياً، أو أسبوعياً، أو شهرياً، تستغني به عن التجارة]] .
فماذا يا ترى فرضوا له؟ فقط نصف شاةٍ يومياً، هذا راتب الخليفة رضي الله عنه وهو مقابل أموالٍ ضخمة كان يكسبها من التجارة، حتى إنه كان أغنى أغنياء قريش قبل أن يلي أمر الخلافة.(197/16)
عثمان بن عفان من أثرياء الصحابة
الرجل الثاني: عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يتح لي أن أسجل إحصائيةً بالمال الذي يملكه عثمان، ولكني وجدت الخبر عن مناسبة واحدة تصدق فيها عثمان ببعض المال، وهي تدل على مدى ما لديه من المال.
فقد روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة قال: [[جاء عثمان رضي الله عنه يوم العسرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينارٍ، وذلك حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر عثمان ُ إليه، ثم قال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم]] قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريب، وهو كما قال.
الأثر الثاني: عن عبد الرحمن بن خباب رضي الله عنه وهو عند الترمذي -أيضاً- قال: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تجهيز جيش العسرة، قال عثمان: {يا رسول الله! عليَّ مائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشاركة، فقال: يا رسول الله! عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم مرةً ثالثة، فقال: يا رسول الله! عليَّ ثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها} .
هذا ما أنفقه عثمان ُ في مناسبةٍ واحدة، فما بالك بمجموع ما أنفقه طيلةَ عمره!! وما بالك بمجموع أموال الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.(197/17)
أين الزهد إذاً؟(197/18)
حقيقة الزهد
إن الزهد ليس هو الفقر، وليس هو أن تُعرض عنك الدنيا، فتعرض عنها؛ ولكن الزهد أن لا يكون المال في قلبك، ولو كان المال في يدك.
ولهذا الإمام أحمد وغيره من السلف، قالوا في الزهد: أن يكون عندك المال، فلا يستبد بك الحزن إن نقص، ولا يستبد بك الفرح إن زاد، بل إن زاد المال أو نقص فالأمر عندك سواء، وهؤلاء هم كبار الزهاد من الصحابة رضي الله عنهم، قد رأيت أموالهم، فهل رأيتهم أنهم جزعوا على فائتٍ من الدنيا؟ كلا، بل كان الواحد منهم وهو على فراش الموت يقول: لا أفلح من ندم، غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه صلى الله عليه وسلم فهم ما أسفوا على الدنيا كلها يوم زالت، بل كانوا يخوضون المعارك، ويتعرضون للموت أو القتل، رجاءَ نيلِ الشهادةِ في سبيل الله، ما ألهتهم تلك الأموال عن المجاهدة، وهذا هو سر العظمة، والنبوغ والكمال، الذي وجد في ذلك الجيل، ولم يوجد فيما بعدهم إلاَّ قليلاً!، نعم وجدنا من بعدهم أناساً إما أن يكونوا أغنياء، معرضين عن الآخرة، أو أن يكونوا من أهل الآخرة؛ ولكنهم ليسوا من الدنيا في قليلٍ ولا كثير، ولا قبيلٍ ولا دبير.
إذاً هذا الوضع الذي تعيشه أنت، في قلةِ ذات اليد، أتراه زهداً، أم أنه الكسل، وحب الراحة، والخرق كالعمل؟ سَمِّه أيَّ شيءٍ أحببت، بارك الله فيك؛ لكن إياك أن تسميه زهداً!! وكيف تسميه زهداً! وأنت تترك الكسب الحلال، وتذهب إلى مكاسب وطرق مذمومةً شرعاً.
إن كون الإنسان يتعرض للتجارة والبيع والشراء، خير من أن يأخذ من الناس أُعطياتهم، أو أن يتعرض لسؤال واحدٍ منهم.(197/19)
العمل في الأسواق لا يتعارض مع طلب العلم أو الجهاد
قد يقول قائل: إذاً أين الزهد وما معناه؟ وقد يختلف الأمر على الكثير، فيرون أن الزهد، أو الاشتغال بالدعوة، أو العمل في الجهاد، أو طلبَ العلم، أو حفظَ القرآن، لا يتلاءم مع الصفق في التجارة، والعمل في الأسواق، وهذا خطأٌ في الفهم.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، وابن حبان، وغيرهم بسندٍ صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عمرو بن العاص أول ما أسلم، فقال له: {يا عمرو خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني، فقال عمرو: فأتيته صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فصعَّد فيَّ النظر، ثم طأطأه، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيشٍ فيسلمك الله ويُغِنمكَ، أي: تسلم وتغنم، وأرغب لك من المال رغبةً صالحة، أو ورغب لك من المال رغبةً صالحة، وفي رواية: وزعب لك، خذ لك من المال أخذةً صالحة، فقال عمرو: يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال!! إنما أسلمت رغبةً في الإسلام، وحباً في أن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ المال الصالح للمرء الصالح} والحديث كما أسلفت، قال الحاكم على شرط مسلم، وقال مرة على شرطهما، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان وغيره.
وقد أثنى الله تعالى على ناسٍ في القرآن فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] إذاً هم يتاجرون ويبيعون ويشترون؛ ولكن لا يلهيهم ذلك عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فكان الواحد منهم، إذا وضع الشيء في كفة، وأراد أن يضع في الكفة الأخرى ما يقابله، ثم سمع المؤذن، ترك الميزان وذهب إلى الصلاة!! لا يقول: أزن هذه السلعة، أو هذه البضاعة ثم أذهب، بل يترك ذلك ويصلي فأثنى الله عليهم بأنهم لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة.
فهذا هو الضابط أن الإنسان لا يشتغل عن الدين بالدنيا، ولا تلهيه التجارة والبيع عن ذكر الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والدعوة وطلب العلم والجهاد؛ ولكن يعمل هذا وهذا، ويوظف ما آتاه الله في سبيل الله، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] .
قال قتادة كما رواه البخاري في كتاب البيوع عند تلك الآية، قال: كان القوم يتبايعون، ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حقٌ من حقوق الله لم تلههم تجارةٌ، ولا بيع حتى يؤده إلى الله.
إن مرابطة العنصر المتدين في الأسواق، والتجارة، والبيع والشراء، وفي سائر المؤسسات المالية، في بلاد الإسلام، حمايةٌ من الغش، والتزوير، والكذب، واستغلال بساطة الناس وطيبتهم، ومن المتاجرة بالحرام، وفرض البضائع الفاسدة على المسلمين، فأنت تجد أحياناً أن الإنسان يبحث عن الثوب، الذي يلتزم بالمواصفات الشرعية، لزوجته أو لطفلته فلا يجد لماذا؟! لأن العنصر المتدين غائب، وأحياناً تجد أن الإنسان يبحث عن اللحم الحلال، الذي يطمئن إليه فلا يجد لماذا؟! لأن العنصر المتدين غائب.
وهكذا، وهذه لا تعد إلا أن تكون نماذج يسيرة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كما ذكرت أم سلمة: [[أنه كان يدعو بعد صلاة الفجر، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً طيباً، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً]] والحديث رواه أحمد والنسائي في عمل اليوم والليلة والطبراني وعبد الرزاق وغيرهم، وهو حديثٌ صحيح.(197/20)
من فوائد التجارة(197/21)
فرصة لإقامة أنواع من العبوديات لله سبحانه
إن التجارة فرصة لإقامة أنواع من العبوديات لله عز وجل، لا تتم إلا بذلك، فلو نظرت على المستوى الفردي، إلى صلة الرحم، أو بر الوالدين، أو الإنفاق في سبيل الخير، أو اصطناع المعروف، أو الإحسان إلى الناس، أو تيسير الأسباب لهم، أو إنظار المعسر والتجاوز عنه، لوجدت ذلك كله مما لا يفعله إلا الأغنياء، ولهذا قال الصحابة: رضي الله عنهم: [[ذهب أهل الدثور بالأجور]] وفي رواية قالوا: [[ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلا والنعيم المقيم]] والحديث معروفٌ، هذا على المستوى الفردي؛ لكن لو نظرنا إلى الحياة كلها، وإلى مستوى المجتمع، لوجدنا أن مثل ذلك العمل يحقق للمجتمع عبودياتٍ أخرى كثيرة، مثل الالتزام بالشرع في المأكل، والملبس، والمشرب، والمركب، وغير ذلك.
فلو أن المسلمين مستقلون بصناعتهم، وبزراعتهم، وبتجارتهم، وببنوكهم، وباقتصادهم، لاستطاعوا أن يجعلوا هذه الأشياء كلها تحقق جانباً من العبودية لله، بترك الربا مثلاً، والحرام، وبترك أكلِ كل ما لا يوافق الشرع، مثل الأطعمة المجلوبة من بلادٍ كافرة، أو من بلادٍ شيوعيةٍ مثلاٍ، أو الملابس التي تكون كاشفةً للمرأة، أو الملابس التي تربي الأطفال على خلاف ما يرضي الله عز وجل، ومثل ذلك أنواع أخرى من أمور الحياة التي يرتفق فيها الجميع، فضلاً عن إيجاد الأمن للمجتمع، والاكتفاء الذاتي، الذي يجعل المسلم، مستقلاً بذاته غير محتاجٍ إلى الكفار في أموره اليومية، خاصةً ونحن نرى الكفار اليوم يستخدمون ما يسمى بمبدأ الحصار الاقتصادي على المسلمين، كما فعلوه على المسلمين في العراق، وكما يفعلونه الآن بالمسلمين في ليبيا، ويفعلونه بالمسلمين في السودان، ويفعلونه بالمسلمين في البوسنة، وغير ذلك.
لو أن المسلمين كانوا مستقلين باقتصادهم، وبصناعتهم، حتى بصناعة السلاح لما أبهوا بالكفار، بل لكان الكفار هم الذين يذعنون وينصاعون لنا، لأن عندنا البترول، ولو قطعناه عنهم لتوقفت مصانعهم، وأسواقهم، ومعاملهم، وتجارتهم، خلال مدةٍ وجيزة.
إن مثل هذا النوع من العمل، هو وقاية وحماية من الغزو الأجنبي، الذي يستخدم كل وسيلةٍ لترويج الفساد، والانحلال، وتضليل المسلمين عن دينهم، وكمثال صغير، أنت لا تكاد تجد بضاعةً اليوم إلا وفيها نجمة سداسية، وهي شعار اليهود، وقد أتاني عددٌ من الاخوة بملابس من هذا البلد، وأتوني بحقائب نسائية، وأحذية، وأشياءَ كثيرة، فيها نجمةٌ سداسية، أو يكون فيها صليبٌ وهو شعار النصارى، أو يكون فيها صورةُ فتاةٍِ عارية، أو شبه عارية، أو يكون فيها علاقةً بين صديقين، رجلٌ وامرأة، أو يكون فيها كلماتٌ بذيئة، حتى لعب الأطفال ضبطوها بحيث تُربي الطفل والطفلة على الاختلاط، وعلى حب النصارى، والتعلق بهم، وعلى بعض العادات والطقوس والتقاليد النصرانية أو اليهودية، فلم يتركوا شيئاً دقَّ أو جلَّ إلا وتسللوا من خلاله.(197/22)
المشتغل بالتجارة عضوٌ نافعٌ في المجتمع
إن المتدين إذا اشتغل بالتجارة، والمجموعة المتدينة إذا فعلوا ذلك، أصبحوا جزءاً مهماً من المجتمع، يلتفت إليه، وينظر إليه، فقدرته حينئذٍ على إنكار المنكر وإزالته كبيرة، بل إن قدرته على التأثير في القرارات كبيرة؛ لأن القرار يراعى فيه خاطر ذلك التاجر، الذي يؤثر في مجريات الأحداث.(197/23)
تحقيق الأمن الاجتماعي للمسلمين
تحقيق الأمن الاجتماعي للمسلمين والاقتصادي والغذائي، كما أسلفت، وينبغي أن نعلم أيها الإخوة أن الأمة التي لا تملك اقتصادها، لا تملك قرارها، فالدول الغربية أحياناً تقع رهينةً للشركات الكبرى، حتى الولايات المتحدة وغيرها تقع رهينةً للشركات الكبرى، وقد تُصدر قرارات مراعاةً للشركات، فقد تصدر قراراً ببيع بعض الطائرات، مع أن هذا القرار لا يخدمها سياسياً؛ ولكنه لضغوطٍ من شركات تصنيع الطائرات، إلى غير ذلك.
فتصبح القرارات السياسية رهينةً لإرادة ورغبة الشركات الكبرى، وهكذا الأمر بالنسبة لمجتمعات المسلمين، فالذي يملك التجارة يؤثر في الناس، ويضغط عليهم، ويستطيع أن يؤثر في اتجاهاتهم، ونحن جميعاً نذكر القصة التي رواها مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، وهي قصة ثمامة بن آثال الحنفي رضي الله عنه الذي أسلم، وقال لقريش: [[والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]] .(197/24)
الاستغناء عن الناس
أولاً: من فوائدها الاستغناء عن الناس، وهو بابٌ عظيم، فإن العبد يسأل ربه أبداً، ألا تكون حاجته عند الناس، بل أن يغنيه عن خلقه، أو عن شرار خلقه، وفي المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وعز المؤمن استغناؤه عن الناس} وفي حديثٍ آخر رواه البزار والطبراني، وصححه العراقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استغنِ عن الناس ولو بشوص السواك} ولو سُئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا قال أحيحة بن الجلح الشاعر المعروف: استغنِ أو مت فلا يغررك ذو نشبٍ من ابن عمٍ ولا عمٍ ولا خالِ إني أظل على الزوراء أعمرها إن الحبيب إلى الإخوان ذو المالِ فالناس يحبونك إن كنت غنياً، ولو طلبتهم ثم طلبتهم، لثقُل ذلك عليهم، ولو كانوا أقرباء، فلا تغتر بذي المال، ولو كان قريباً، فضلاً عن أن يكون بعيداً، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث حكيم بن حزام: {اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي الآخذة أو المتعرضة للسؤال} إن في السؤال والتعرض للناس، وقبول أعطياتهم مذلة، وإراقةً لماء الوجه، وقد كان كثيرٌ من السلف يرد ذلك، ومن أشهر من كان له في ذلك قدمٌ راسخةٌ معروفة، الإمام أحمد رضي الله عنه، فقد كان يرد الأعطيات التي يبعث بها أصحابه إليه، ويشتغل هو بشيءٍ آخر إما أن ينسخ كتاباً، أو يشتغل بشيءٍ، أو يبيع شيئاً، أو ما أشبه ذلك، أو يؤجر نفسه، حتى يكسب المال، الذي يستغني به عن الناس، ومع ذلك حصل له من العلم، والعبادة، والصبر، والجهاد والبلاء، والسابقة في الإسلام، ما لا يخفَ أمره.(197/25)
الاستغناء عن الأموال الرسمية
الفائدة الثانية: الاستغناء عن الأموال الرسمية على سبيل الخصوص، فإن هذه الأموال هي أموالٌ لعامة المسلمين، يتعلق بها نفس كلُ أحدٍ منهم، والظلم فيها ظلمٌ عظيم، لا يتعلق بشخصٍ، بل إنه ظلمٌ للأمة كلها، ومن أخذ منه قليلاً، أو كثيراً بغير حقٍ، فإن الأمة كلها يوم القيامة خُصماءُ له أمام الله عز وجل، في يومٍ لا درهم فيه، ولا ديناراً ولا متاعاً، وإنما هي الحسنات والسيئات, فما بالك بإنسانٍ تكون الأمة كلها خصماً له، أخذ المال بغير حق، أو استغل موقعه، أو مكانه، أو منصبه، في أخذ أموالٍ، أو بعض الخصائص، أو الصلاحيات، أو بعض المخصصات، التي لا تتاح لغيره.
وهكذا بالنسبة لطلبة العلم، والدعاة، المصلحين، بل وسائر الناس، فإن الاستغناء عنها مهما أمكن هو الأولى والأفضل، ولذلك قال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: إن عامة من داخلها هؤلاء، أي: الأمراء والسلاطين، إنما دفعه إلى ذلك العيال والحاجة، فكثرة العيال وشدة الحاجة، تجعل الإنسان يتخلى عن بعض المبادئ التي يقرها ويقول بها، ويتخلى عن بعض المثاليات التي ربما دعا إليها يوماً من الأيام؛ لكن إذا كان مستغنياً بما أغناه الله تعالى، بكسب يمينه، أو بعرق جبينه، فإنه لا يكون مضطراً إلى ذلك ولا محتاجاً إليه.
ومما يدخل في ذلك أيضاً الوظائف الحكومية، وهذه الوظائف لا حرج فيها، إذا أدَّى الإنسان حق الله تعالى فيها، وقام بما عليه، بشكلٍ عام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما جاءك من هذا المال، وأنت غير مستشرفٍ فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك} لكن ينبغي للإنسان وهو يقارن بين الوظيفة وبين العمل الحر، ألا يغفل عن أمور.
أولاً: الوظيفة تضعف التوكل على الله: الوظيفة تضعف التوكل على الله عز وجل، بخلاف الضرب في الأرض، فإنه يقوي التوكل، فالضرب في الأرض نوعٌ من المخاطرة وفيه قد يكسب الإنسان وقد يخسر، وقد يستغني وقد تركبه الديون، ولذلك يكون قلب العبد حينئذٍ أقرب إلى الله تعالى، لأنه يدري أنه محتاجٌ إلى الله في هذه الصفقة، وفي هذا البيع، وفي هذا الشراء، فتجده يضارب وهو يدعو الله، ويسأل الله، فإذا جاءت الصفقة أكثر وأحسن مما توقع، تهلل وجهه، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: "هذا من فضل الله"، وإذا جاءت الأخرى وكان مؤمناً حمد الله وشكره، وقال: "الحمد لله على كل حال".
أما الوظيفة فأيامٌ معلومة، ومرتبٌ يخرج في يومٍ معين ومقدارٌ معلوم لا يزيد ولا ينقص، ولذلك يخلد الإنسان إليه، ويتوكل على الأسباب بدلاً من أن يتوكل على الله رب الأرباب.
ثانياً: الوظيفة تقتل الطموح، وتدمر الإبداع: الوظيفة تقتل الطموح، وتدمر الإبداع، وتقضي على روح الاحتساب، والغيرة في إنكار المنكر عند المؤمن في بعض الحالات، حتى لا أكون معمماً، وذلك أن الإنسان يعمل عملاً روتينياً مألوفاً، مكرراً يقوم به يومياً لا يتغير ولا يتبدل، وربما كان هذا العمل غير متوافقٍ مع طبيعة هذا الإنسان، ولا متلائم مع ظروفه، ولذلك يقتل عند الإنسان روح الطموح والإبداع، والتفكير في الجديد، ولهذا أيضاً نجد أن العنصر الجديد في مثل مجتمعاتنا اليوم، الخريج من الجامعة، أو من غيرها، تجده بدلاً من أن يقول قول عبد الرحمن بن عوف (دلوني على سوق المدينة) ماذا يقول لنا؟! يقول: دلوني على مكتب أو ديوان الموظفين!! ابحثوا لي عن الوظيفة الجديدة، ابحثوا لي عن ميدان العمل، إذاً قد تربىَّ الكبير والصغير، على أن سبيل الرزق هو الوظيفة، والوظيفة فحسب! فقتلنا في روح الشباب الإبداع، والطموح، والابتكار، والمواهب، المتميزة، التي قد يقوم بها أيٌ منهم.
وإنني أذكر لكم بهذه المناسبة، قصةً قرأتها في بعض الصحف، وهي قصةٌ قد لا تكون لائقةً بالنسبة للشباب، لكن لا بأس أن نضرب الأمثال بالخصوم، قد تكلمت الصحف، والمجلات، والجرائد، ووسائل الإعلام، عن شابٍ جزائري يسمونه شابٌ خالد.
ما هذا الشاب؟ ما قصته؟ هذا الشاب أجاركم الله مُغنيِّ، أغنياته أعجبت الغرب، فتبنته فرنسا وقدمته في وسائل إعلامها، ثم أمريكا، وبريطانيا، وصار هذا الشاب ينتقل من بلدٍ إلى آخر، يتكسب بحنجرته وصوته، وتعرضه وسائل الإعلام بما في ذلك وسائل الإعلام العربية، وبما في ذلك وسائل الإعلام التي تستقبل في هذه البلاد، تعرض أغنياتٍ له فيها كثيرٌ من المجون، والخلاعة، والبذاءة، والاختلاط بين الرجال والنساء، بل والنساء العاريات، ومرةً وجدتُ كلاماً مع هذا الشاب، يسألونه ويقابلونه، ويعتبرونه نموذجاً للإنسان المثالي، المضحي، فيقول: إنه كان في أول عمره يشتغل في ورشة للسيارات، ثم اكتشف هذه الموهبة، فأصبح هذا الرجل بتلك المنزلة، وإنني أقول: إن مثل ذلك الشاب الذي ينتمي إلى ذلك البلد الطيب، الطاهر، أرض الجزائر، أرض الإيمان، وأرض المسلمين، والمجاهدين، والعلماء، وجمعية العلماء، إنه جديرٌ بهذا الشاب، أن يُصغي لصوت الحق، الذي يقول له: درهمٌ من حلال، خيرٌ من مليارات من حرام، والذي يقول له: عد إلى الله عز وجل، وكان بإمكانه أن يستخدم ما أعطاه الله عز وجل في غير هذا، ولو كان في غيره كان قربى إلى الله عز وجل.
فأنت ترى هذا الصوت، الذي يُعصى به رب العالمين, ترى آخر يطيع الله تعالى به، فيترنم بالقرآن، ويتغنى به، فيلين قلبه، ويلين قلوب الناس بذلك، فيحفظ القرآن، ويقبل عليه تعلماً، وتعليماً، ودعوةً، وقراءةً، وتدبراً، وتفسيراً.
فأين هذا من هذا؟! وإنما أقول، المقصود أن العبد يملك مواهب، هذه المواهب، قد تجعله غنياً في الدنيا، وقد تجعله غنياً في الآخرة، وقد يكون الأمر على النقيض من ذلك، وكل إنسانٍ في الموقع الذي يختاره.
وما المرء إلا حيث يجعلُ نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل الصفة الثالثة: الوظيفة تقتل الرجولة في الإنسان: فيما يتعلق بالوظيفة، أنها أحياناً تقتل الرجولة في الإنسان، وتميت الشخصية، وتضيع الغيرة، وكم من إنسانٍ يكون في وظيفةٍ، وفي عملٍ، ولكنه يرى المنكرات، فلا يستطيع أن يقول شيئاً، بل يلاحظ أن مسئوله عن العمل يغش، أو يأخذ من حرام، أو لا يقوم بالواجب، أو يكذب، أو يزور، ولكنه لا يستطيع أن يقول شيئاً، بل قد يساهم في هذا العمل، ويوقع عليه، ويكون جزءاً منه، لماذا؟! لأنه يريد أن يرضي رئيسه، حتى يحصل على العلاوةِ مثلاً، أو حتى تستمر هذه الوظيفة له، أو خشية أن يكتب عليه تقرير سيء، أو ما أشبه ذلك، وكم من إنسانٍ قال ما لا يعتقد، وعمل ما لا يرضى، وسكت عن أمرٍ يجب عليه أن يتكلم فيه، وما ذلك إلا محافظةً على الكرسي أو الوظيفة.
أذلَّ الحرص أعناق الرجالِ، وأنني ما رأيتُ في هذا الزمنِ تحرراً يعدل التحررَ من رِقِّ الوظيفة.
لا أعني بالضرورة أن التحرر من رق الوظيفة هو أن تتركها، هذا ليس ضرورياً، ولكن أن تكون غنياً عنها.
بحيث تصغر الوظيفة في عينك، فلا تبالي جاءت أم ذهبت، بقيت أم زالت، ولا تُبالي رُفعت، أم لم ترفع، لأنك تبحث عن رضى الله عز وجل، فلا يهمك رضا المخلوقين، وقد استغنيت بدنياك، في نفسك وأهلك، وولدك، فلا تحتاج إلى أحدٍ من الخلق، ولا تُبالي بذلك، إن من سوء حظ الدعوة، بل من سوء حظ الأمة ألا تجد أنه في يومٍ من الأيام، كانت أيَّ بلدٍ من البلاد الإسلامية، في جميع الأعمال والوظائف الدينية الشرعية، كان مرجعها العلماء والدعاة والمصلحون، ولذلك انضبطت بضوابطِ الشرع، وراعتْ ما يحبه الله ورسوله ويرضاه، فخطبت بالحق، وهتفت به، ودعت إليه، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، أما حينما يكون الجميع مجرد موظفين، فإن الواحد منهم لا شك مضطرٌ إلى أن يراعي خاطر رب العمل، ويبحث عن رضاه، ويداهنه ولو ببعض الأمر، وهذا مدخلٌ من أخطر المداخل على الدعوة إلى الله عز وجل، فينبغي أن تحرر الدعوة على الأقل من رق العبودية للمنصب والوظيفة.
الأمر الرابع: الوظائف قد تقل وتشح: إن الوظائف قد تشح أحياناً وتقل، فيضطر الخريج إلى ارتكاب ما حرم الله، كما أسلفت في المثال السابق، ومن الملاحظ في هذا البلاد أن الخريج الآن يبحث عن الوظيفة فلا يجدها، فيضطر إلى ذلك في زعمه -وليست هذه ضرورةٌ في الواقع- إلى أن يعمل في ينكٍ ربوي، أو في شركةٍ يعلم أنها تتعامل بالربا، أو تجمع أموال الناس بحجة المضاربة، أو المساهمة، والاستثمار، ثم تضعها في البنوك ثم تسافر هذه البنوك إلى بلادٍ أجنبية يستفيد منها الأعداء، أما نحن فإن ما نأخذ منها فائدةً معلومةً شهرية، وهذه الفائدة المعلومة من الربا المحرم، ولو سموها بغير اسمها، وقد يعتقدون أن هذا من باب الضرورة، وليس كذلك، فلئن يعمل الإنسان أي عملٍ يغنيه، بل لو أخطر الإنسانُ إلى أن يسأل الناس، لكن ذلك خيراً له من أن يعمل في حرام.
خامساً: عدم كفاية الرواتب: فإن الراتب معلوم، وربما يكون من يقبض عشرة آلاف ريال، أو أكثر شهرياً، يجد أن راتبه لا يكفي، وأنه يستدين إلى جانب الراتب أحياناً، وذلك لسبب أن هذا المبلغ مبلغٌ محدودٌ مقطوعٌ لا يزيد ولا ينقص، والظروف قد تتغير، وقد تعرض للإنسان الحاجة، وقد تنزل به النازلة، وتركبه الديون بسبب ذلك، وربما كان من أسباب عدم غنى المرتبات أيضاً التقصير في العمل، بحيث لا يقوم الإنسان بما أوجب الله تعالى عليه في الوظيفة، ولا يؤدي عمله كاملاً غير منقوص، فننزع البركة من هذا المال، الذي يقبضه في نهاية الشهر.
إذاً من فوائد العمل في التجارة الاستغناء عن الأموال العامة.(197/26)
قواعد عامة في التجارة(197/27)
تجنَّب المعصية
ومن القواعد أيضاً: تجنب المعصية، فإن المعصية من أهم أسباب حرمان العبد من الرزق، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان، الذي رواه أحمد، وابن ماجة، والحاكم قال: {إن العبد ليحرم الرزق بذنبٍ يصيبه} .(197/28)
لا تشغلك التجارة عن ذكر الله
وأخيراً: وهذه هي القاعدة الأخيرة، أتوج بها تلك القواعد، ألا تشغلك التجارة، ولا الصفق في الأسواق عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والدعوة، وطلب العلم، والجهاد، بل عليك بالاعتدال في ذلك كله، وأن تكون أسوةً حسنة، فإنه استقر في أذهان بعضهم، أن الاشتغال بالتجارة يعني الإعراض عن الآخرة، حتى لو رأينا واحداً من أصحابنا، وربعنا قلنا إنا لله وإنا إليه راجعون، فلانٌ قد تغير!! ما الخطب؟! قال: والله رأيته يتاجر، هذا عمل مباح، بل مشروع، إذا أراد به وجه الله عز وجل، ولا بد للأمة من مثل ذلك.
أما تلك الأفكار المستقرة في نفوسنا، التي تجعل الواحد يتهيب، ويخجل، ويستحي، فينبغي أن نزيلها، أما شدة الرقابة على النفس، والملاحظة، وألا يتحول الإنسان إلى عبدٍ في الدنيا يركض وراءها، فلا شك أن هذا من أهم ما ينبغي السعي إليه، والحرص عليه ومن الطريف أنني حينما أعلنت عن هذا الدرس، جاءتني عدد من القصاصات، من بعض الإخوة، يقولون: نخاف ونخشى أن يتحول الأمر!! على كل حالٍ يا أخي إلى الآن ما بدأنا حتى تخاف وتخشى، من المفروض أن ينزل الناس إلى السوق، وإذا نزلوا إلى السوق، نقول لهم بارك الله فيكم انتبهوا، لا تلهيكم التجارة والمال عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
ولا تغفلوا عن حفظ القرآن، ولا عن حفظ السنة، ولا عن الجهاد، ولا الخ، أما قبل ذلك، وأن يكون هذا الأمر حاجزاً لنا عن العمل، فلا ينبغي.(197/29)
التوكل على الله
التوكل على الله عز وجل، هو سر النجاح في كل شيء، وهو أن تتوكل على الله، وتفوض الأمر إليه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3] وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12] وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] .
{ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، بل قل قدر الله وما شاء فعل} واعلم أن السبب لا يمنع رزقاً، ولا يأتي به، وإنما هو أمرٌ جعله الله تعالى وكلف العباد به، وإلاَّ فالإنسان مكتوبٌ له كل شيء، حتى رزقه وأجله وعمله، وشقيٌ أم سعيد، ويدخل في ذلك حسن النية والقصد، بحيث يعلم الله تعالى من قلبك، أنك إن كسبت المال صرفته في أبواب الخير، وسبله وأسبابه، وأنك لا تغفل بهذا المال عن طاعة الله تعالى وعبادته والتقرب إليه.(197/30)
الصبر والآناة
الصبر والآناة، وعدم التعجل أو المغامرة، فإن بعضهم يأتي وهو يريد أن يصبح تاجراً بين يومٍ وليلة، بل ربما في ساعة، ثم تراه بعد ذلك قد فشل وأخطأ، بسبب عنصر العجلة، فإما أن يتخفى ويتهرب من وجوه الغرماء الذين يصبحونه ويمسونه، أو يقضي بقية حياته في السجن، بسبب هذه الديون التي ركبته.
ومن الصبر ألاَّ يغتر الإنسان بربحه، فيندفع أكثر مما هو مطلوب، ومن الصبر ألاَّ يغيِّر الإنسان عمله الذي تعب في إعداده بسرعة، فأنت ترى بعضهم وقد أثث مكانه وجهزه، وأعده وتعب فيه، وبذل كل ما لديه، فإذا عمل فيه فترةً زمنية، قال: هذا العمل وجدته لا يصلح، ثم تركه فخسر بذلك شيئاً كثيراً، ومن الصبر أن يدأب الإنسان في العمل، ولا يعجل أو يستبطئ الرزق، والعوام يقولون: إذا غلبوك بالفلوس فاغلبهم بالجلوس.(197/31)
الاعتدال في النفقة
إن الكثير من الشباب، إذا جاءه بعض المال، يهتم كثيراً بمظهره، ويتوسع في الكماليات، ويعشقها كثيراً، فيضيعُ ماله بهذا السبب، ولا يجتمع عنده ما ينتفعُ به، ولذلك قال المتلمس، قال: قليلُ المال تصلحه فيبقى ولا يبقى الكثيرُ مع الفسادِ وحفظ المالِ أيسر من بغاه وسير في البلادِ بغير زادِ (قليل المال تصلحه فيبقى، ولا يبقى الكثير مع الفسادِ) فالشاب ربما كسب في صفقة؛ ولكنه جعل هذا المكسب في سيارةٍ فارهة، لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي، ومكانته، وماله، ثم كسب في أخرى، فجعلها في ملابس له ولزوجته وأولاده، ثم كسب في ثالثة، فجعلها في بيتٍ ضخمٍ مشيد مشارٍ إليه، ثم كسب في رابعة، فجعلها في المناسبات، والولائم، وأحياناً في الأسواق، والمطاعم، والمتاجر، وغيرها حتى ينتهي ما عنده، وتركبه الديون، فالاقتصاد سرٌ من أسرار النجاح، وأنت ترى كثيراً من الأثرياء والتجار، معتدلاً في إنفاقه على نفسه، يأكل كغيره من الناس، ويشرب ويلبس ويسكن ويركب كغيره، هذه هي العظمة الحقيقية، ألا يستفزك المال إلى المبالغة في العناية بالكماليات والمظاهر.(197/32)
اغتنام الفرص
ومن القواعد أيضاً اغتنام الفرص، فإن الفرص تظهر ثم تذهب، ويقول أحد الحكماء: إن الثروات تنشأ من الفرص التي أتيحت لكثيرين؛ ولكن رجلاً واحداً هو الذي رأى هذه الفرص، واستطاع أن يغتنمها، فعلى الإنسان أن يكون قنَّاصاً للفرص، يغتنمها ويهتبِلها بالطريقة الصحيحة، وذلك يتطلب من الإنسان يقظَةً، وجُهداً، وعنايةً، ومشاركةً، ومجالسة، ويتطلب منه أيضاً مشورةً لمن سبقوه في هذا المضمار، بحيث يكتشف تلك الفرص ويغتنمها.
وعليه أيضاً أن يدرك أن الفرص تتطلبُ عملاً، ولذلك يقول المثل الإنجليزي: (الفرصة تأتي متنكرةً في ثياب العمل الشاق) يعني تتطلب الفرصة منك مرابطة، واجتهاداً، ويقظة، ومشاورة، وجهداً كبيراً، بل على الإنسان إذا لم يجد الفرصة أن يسعى إلى إيجاد الفرصة واصطناعها، ولذلك قال أحدهم: الرجل الناجح لا ينتظر الفرصة، بل يسعى في إيجادها، فقد يستطيع الإنسان أن يغتنم بعض الفرص، أو يستفيد من بعض الإمكانيات المتاحة الموجودة التي لم يتفطن إليها من قبله، فالنزول للسوق، حتى ولو بدون مالٍ، يطرح كثيراً من الفرص للإنسان، وعلى العموم فعلى الإنسان أن يبذل وسعه، وليس عليه أن تتم النتيجة.
لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم العواقبُ عليَّ طلابُ العز من مستقره ولا عيب لي إن خالفتني المقادرُ(197/33)
التعامل بالأخلاق الشرعية
ومن القواعد: التعامل بالأخلاق الشرعية، وهذه ضرورةٌ لابد منها، فإننا حينما نندبك إلى أن تنزل للسوق، نريد أن تكون نموذجاً للمؤمن الصادق، الذي لا يغير القرش والريال من أخلاقه ودينه شيئاً، ولا يستفزه إلى ارتكاب ما حرم الله، فالتاجر المتدين، يجب أن يكون متميزاً في أقواله، وأعماله، وشرف الكلمة التي يقولها، والصدقُ في كل شيءٍ، وأن يعلم الناس منه، أنه نموذجٌ لذلك، وكثير من الناس قد يتحدثون عن ذلك، لكن أمام رنين الدرهم والدينار، تذوب كثيرٌ من الأخلاق، والقواعد الشرعية فالصدق بالكلام، والأمانة في المال، وعدم الحسد للآخرين على ما رزقهم الله عز وجل، وعدم التبرم والضيق، بما قُدِّر على الإنسان، هذا كله من الأخلاق التي ينبغي أن يتعامل بها الإنسان.(197/34)
لا تنظر إلى جانب الربح بقدر ما تنظر إلى الجانب التربوي
ومن القواعد: ألا تنتظر في أول الأمر ربحاً عاجلاً، بل لا تنظر إلى جانب الربح، بقدر ما تنظر إلى الجانب التربوي، والجانب التوجيهي، ليس على نطاقك كفرد، فقد يقول أنا فردٌ لا أقدم ولا أؤخر، لكن على نطاق المجتمع، أو على الأقل نطاق الشباب؛ وشباب الصحوة، فلو نظرت إلى هذا الأمر، لوجدت أنه يحدث عندهم أمراً، ليس باليسير، نعم عندما كان المسلمون يشيدون مسجدهم في المدينة المنورة، ويحملون الِلبَن، ويقولون: لا يستوي من يعمر المساجدَا ومن يبيت راكعاً وساجدا يدأب فيها راكعاً وساجدا ومن يكر هكذا معاندا وقائماً طوراً وطوراً قاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا وقال الشاعر: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة يحملون اللبن على أكتافهم، وهم ينشدون هذه الأنا شيد، والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، يقول مالك بن نبي -رحمة الله عليه-: [[لو نظرت إلى تلك الرقعة؛ رقعة المسجد ببساطتها وقلة شأنها، لربما ابتسمت]] ؛ لكن أليس هنالك تلقى بُنَّاءُ الحضارةِ دروسَ الجِد والعمل! نعم أولئك الذين كانوا يبنون المسجد بالأمس، تلقوا دروس العمل والجد، إنهم قومٌ عمليون، لا مكان عندهم للقيل والقال، بل دأبهم، وهمهم، وشأنهم العمل الصالح الذي يرضي الله عز وجل، ويقيم الحياة الدنيا على أساسٍ من الدين والشريعة الربانية، ولذلك كان بناةُ المسجد، هم بناةُ الحضارة في كل مكان، وهم قادة الإنسانية، تحولوا من رعاة غنم إلى قادة أمم.
وأنت تلحظ على سبيل المثال، جانب التقليد من الأبناء للآباء، فالآن الابن الذي يجد أن والده لا يعدو أن يكون موظفاً لا غير، ترسخ في ذهنه أن يكون هو كأبيه فلو سألته ماذا تحب أن تكون، قال: أكون كوالدي.
وأيضاً، قد تجدٌ اثنين يخرجان من بلدٍ واحدٍ، وبمواهب متقاربة، إلى بلد آخر غريب، فأحدهما يتحول في سنة إلى تاجر، يدير الصفقات الكبرى، ويشارك فيها، أما الآخر فيتحول إلى عامل يبحث عن قوت يومه.
وما هو الفرق؟ ليس هناك فرقٌ إلا التربية، وما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم.(197/35)
طرق الكسب
طرق الكسب كثيرة أيها الأحبة والمهم فيها هو المباح، والبعد عن الحرام، فبعضهم يعيشون كما عبرَّت قبل قليل، يعيشون حساسيةً من بعض الأعمال، وكراهيةً في نفوسهم بسبب الإرث الاجتماعي، أو التقليد الموروث، ويخجلون أن يراهم الناس على هذه الأعمال، وهذا ليس من الرجولة في شيء، ولا من الدين.
قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: باب ما قيل في الصواغ، باب ذكر القين والحداد، باب الخياط، باب النساج، باب النجار، باب اللحام والجزار، باب العطار وبيع المسك، باب ذكر الحجام، ليس حسناً ولا جيداً أن تُلهي الشاب، نظرةٌ إلى هندامه، وتأملٌ في عطفيه، وعنايةً في ملبسه، وتكريسٌ لمكانته عند الناس، على حساب مصلحته الدينية والدنيوية، بل على حساب مصلحة الأمة كلها.
وها أنا أذكر لك الآن بعض الأمثلة السريعة فيما يتعلق بالتجارة.(197/36)
استغلال المواهب
خامساً: استغلال المواهب التي أعطاك الله عز وجل، فمثلاً أنت رسام، تستطيع أن تستخدم جودة يدك، وهذا الفن في تعبيرٍ شرعي عن بعض المعاني، وفي لوحات تراعي فيها الضابط الشرعي، فلا تصور ذوات الأرواح، ولا تصور ما حرم الله، ولا تضلل عقول المشاهدين، أو المتذوقين للرسم في المعاني الباطلة، بل يكونُ في ذلك تربيةً على المعاني الحسنة، والإنسان إذا رأى الشيء الحسن سواء رآه على الطبيعة في الأرض، أم رآه في صورةٍ، فإن ذلك يؤثر فيه، بل إن بعض الأشياء الواردة، لو أن الإنسان استطاع أن يعبر عنها بصورةٍ مباحة يراها الناس، لكان في ذلك تحريكاً لقلوبهم ومثل ذلك الخط، وذلك بأن يخط الإنسان الحكم، والمعاني المفيدة، والأوامر، والنواهي، والتوجيهات، التي ينتفع الناس بها، ومثل ذلك القدرات اليدوية، وهي كثيرةٌ جداً، فيكون عند الإنسان صنعةٌ في يده، تكون أماناً له بإذن الله تعالى من الفقرِ أياً كانت هذه الصنعة، ومما يدخل في ذلك أيضاً قدرات بعض الفتيات، كقدرتها على الخياطة مثلاً، أو النسيج، أو ما أشبه ذلك، مما يحتاج الناس إليه، وتكون هي فيه مبرَّزة، وتستغني به عن الحرام.(197/37)
تكوين الشركات الصغيرة
سادساً: تكوين الشركات الصغيرة: كزوجٍ مع زوجته، فالزوجة لها مرتبٌ ضخمٌ، وهي لا تدري ما تصنع به، فما الذي يمنع أن تقوم بشركة، تكون باسم هذه الزوجة، ويكون منها المال، وتكون أنت قائمٌ على هذه الشركة، فمنك الجهد، ومنها المال، ولا حرج في ذلك، ولو كان لك منها نصيب ونسبة من الربح أو أخٌ مع أخته، فإن هذا ممكنٌ، خاصةً إذا كان الإنسان موظفاً أيضاً، وهو لا يريد أن يكون العمل باسمه، ويمكن أن يقوم بهذه الشركة، وتكتب باسم غيره، ممن يكون مشاركاً له، رجلاً أو امرأةً، ويكون المال منهما معاً، أو من أحدهما، ومن الآخر الجهد، أو الإدارة، أو ما أشبه ذلك، وألوان الشركات في الشريعة معروفة، وهي كثيرةٌ جداً، ويتحقق بذلك مصلحة للطرفين، ولا أرى حرجاً أن يشارك الإنسان في مثل هذه الأعمال التجارية، ولو كانت يسيرة، كمحلات تموينية مثلاً في الحي، يمنع فيها بيع التدخين، ويمنع فيها بيع المجلات الخليعة، ويمنع فيه كل المحرمات، وتباع فيه الأشرطة المفيدة، والكتيبات، ويحرص على بيع الحلال فيها، وعلى توجيه الناس، وهذا العملُ يستفيد منه أيضاً فائدة دنيوية.
ولا مانع أن يعمل ولو كان موظفاً، وإذا كان النظام يمنع أن تكتب هذا العمل باسمك، فلا مانع أن تكتبه باسم غيرك؛ لكن ينبغي أن يكون غيرك هذا شراكةٌ في العمل، أما أن تكتب العمل باسمه ولا علاقة له، فلا أرى ذلك سائغاً، والله تعالى أعلم.
ومن ذلك أيضاً ما يتعلق بالشركات أو يشبهها، العمل مع الوالد سواء أكان الوالد مزارعاً، تعمل في حقله، أو في دكانه، أوتاجراً تعمل في تجارته، أو ما سوى ذلك، والعمل مع الوالد ينبغي أن يلتفت الشباب إليه، فإن فيه مصالح عدة.
أولها: البر بالوالدين، وفيه ما فيه من الفضل العظيم.
ثانيها: الخبرة فإن الإنسان الذي لا يعمل لا يكتسب الخبرة أبداً، ولو ظل يسمع الكلام طول عمره، إنما تنضج الخبرة، وتنضج المعلومات على محكِّ الواقع.
الفائدة الثالثة: أنه يكتسب المال، وعلى الآباء أيضاً أن يساعدوا أولادهم على تكوين أنفسهم بشكلٍ صحيح، فالأب ينبغي أن يعلم أنه يوِّرث ماله من بعده إلى الورثة على حدٍ سواء، وهذا الإنسان الذي عمل ليس كمن لا يعمل، فينبغي أن يجعل له مرتباً شهرياً، لقاء عمله، أو نسبةً من الربح، أو ما أشبه ذلك، حتى لا يضيع عمله بغير فائدةٍ عاجلة.(197/38)
الأشرطة الإسلامية
النموذج السابع: الأشرطة الإسلامية، والشريط اليوم أثره عظيمٌ، وفائدته جمة، وقد أصبح يحاصر في كل مكان، فما الذي يمنع أن يكون الإنسانُ نبيلاً، فيشتري جهازاً، لا يزيد على أربعة آلاف ريال، وهناك محلاتٌ يمكن أن تبيعه إليك بالتقسيط أيضاً، فتشتري هذا الجهاز، ثم تشتري أشرطة فارغة، فستجد أنك لو صرفت بعملية حسابية ساعتين ونصف يومياً في التسجيل، سواء سجلت ذلك بنفسك، أم أُمك، أم أختك، أم زوجتك، أم أحد من أهل البيت، لأن العملية سهلة، لو قاموا بتسجيل الأشرطة الإسلامية حينئذٍ لمدة ساعتين ونصف يومياً، لكان من جراء ذلك خمسين شريطاً يومياً، ويبيعها الإنسان بمبلغٍ ضخمٍ، يزيد على ثلاثمائة ريال يومياً، وربما حصل الإنسان على مبلغٍ يقارب أربعة آلاف ريال شهرياً، بل يزيدُ مقابل هذا العمل السهل اليسير ومع ذلك هو مساهمٌ في نشر الخير، وفي إزالة العقبات والضغوط، التي تفرض على الشريط الإسلامي، مع أنه لا يحتاج إلى كثيرٍ من الزبائن، لأنه يستطيع أن يجعل هذه المجموعة التي يقوم بإعدادها لزملائه في العمل، أو في الدراسة، أو جيرانه، أو أصدقائه، أو قرابته، ويستطيع أن يسجل هؤلاء في ورقةٍ بحيث يكونون معروفين، فهم الذين يتعاملون معه، ويتعامل معهم، وفي ذلك خيرٌ كثيرٌ ونشرٌ للدعوة، وكسبٌ للإنسان، بمالٍ لا يستطيع أن يكسبه من الوظيفة، فإن أربعة آلاف ريال وخمسمائة ريالٍ، يكسبها الإنسان شهرياً خلال ساعتين ونصف يوميا في العمل، إنه لا يستطيع أن يحصل عليها حتى في الوظيفة التي يجلس فيها سبع أو ثماني ساعات، ثم ينبغي أن يراعي في ذلك نشر المفيد النافع، الذي ينتفع الناس به، ويستفيدون منه في دينهم، مما يعرفهم دينهم، والحلال والحرام، أو يبين لهم واقعهم الذي يعيشونه، وما ينبغي عليهم إزاءه، أو أحوال المسلمين، أو واجبهم في الدعوة إلى الله، أو حقوق بعضهم على بعض، أو ما أشبه ذلك مما يحتاج إليه، وينتفع به ثم قد يقول بعضهم: ماذا بقي للتسجيلات الإسلامية؟ فأقوال: التسجيلات -إن شاء الله- على خيرٍ، وفيها خيرٌ كثير، وأمامها مضمارٌ واسعٌ للمنافسة، وأيضاً تستطيع التسجيلات الإسلامية نفسها أن تستخدم ذلك، أي أن تجعل مجموعة من الشباب، يقومون بهذا العمل، عن طريقها فتضع عند عشرةٍ من الشباب مثلاً، عند كل واحدٍ منهم جهازاً في بيته، هو للتسجيلات، ويقوم هذا الشاب بالتسجيل بالطريقة السابقة، ويقوم أيضاً بتسويق ما يسجل بالطريقة السابقة أيضاً، ويكون له جزء من الربح، وللمحلات جزءُ من الربح، بحيث يوفق في ذلك بين أهمية بقاء التسجيلات الإسلامية، ودعمها للمجهود الكبير، الذي تقوم به، وبين الفائدة للآخرين، وبين إمكانية نشر الأشرطة، دون وجود بعض القيود التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ومن ذلك أيضاً قضية آلة التصوير، فقد تجد آلة تصوير بأربعة آلاف ريال، وهذه الآلة لو وضعتها في بيتك، مع الورق، ثم قمت بتصوير بعض الفتاوى المفيدة النافعة، التي لا توجد في الكتب، ولا يعلم الناس بها، ويحتاجون إليها، وقمت بتصوير بعض المذكرات، وبعض الكتيبات الصغيرة، التي قد تنفذ من الأسواق، أو لا توجد، أو قد تمنع بغير حقٍ أيضاً، ثم قمت بتصويرها وإيصالها إلى بعض الناس، فإنك تستفيد من ذلك فائدة دنيوية بالمال، وفائدة دينية بنشر الخير والدعوة، والمساهمة في ذلك.
ولو أن كل إنسان، بل لو أن مجموعةً من الشباب نذروا أنفسهم لذلك لانتشر الخير، وعمَّ، وأصبحت محاصرته، أمراً في غاية الصعوبة، ومع ذلك استغنوا بحلال الله تعالى عن الحرام.
ومن ذلك أيضاً أن يكون عند الإنسان سيارة للأجرة، وهذه السيارة لو فرضنا أنه قام بها فنفع نفسه، لاستفاد كثيراً، فهو يتعرف على الناس، ويعرف كيف يتعامل معهم، وكيف يخاطبهم، ويعرف أخبارهم وأحوالهم، يعظهم، وينصحهم، ويوصل إليهم الخير، ويعطي هذا كتاباً، وهذا شريطاً، ومع ذلك يستفيد فائدة دنيويةً ظاهرة، ونحن نرى اليوم أن محلات الليموزين، أساءت إساءةً كبيرةً لوجود بعض غير المسلمين فيها، وحمل النساء بلا محارم، بل وجود تجاوزاتٍ كثيرة، ليس هذا المجال مجال الحديث عنها، فنستطيع أن نغني المجتمع عن مثل ذلك.
فهذه الأمثلة التسعة التي ذكرتها لا تعد أن تكون أمثلةً خفيفةً سريعةً للشاب المبتدئ، الذي يريد أن يضع قدمه في أول الطريق، وأمام دعاة الإسلام، والمفكرين، والخبراء، وأهل الاقتصاد، وأرباب التجارة وأنصارها، أمامهم مجالات واسعة جداً، لخدمة دينهم ودعوتهم، ويستفيدون منها ديناً ودنياً، أذكر هذه المجالات الآن لمجرد السرد تكاملاً للموضوع.
من ذلك الإعلام الإسلامي بشكل عام، كالصحافة الإسلامية، وكذلك الإذاعة الإسلامية، فإن مثل هذه المجالات؛ مجالاتٌ خصبةٌ جداً من الناحية الاقتصادية، وهي مجالاتٌ ذات قيمة بالغة في إيصال الدعوة إلى الآلاف، بل إلى ملايين من الناس في أنحاء العالم.
من ذلك أيضاً التصنيع؛ فالتفكير في الصناعات المختلفة وحاجة الناس إليها والقيام بها.
ومن ذلك أيضاً خدمات الكمبيوتر، وهي خدمات جليلة متطورة يحتاج الناس إليها.
ومن ذلك أيضاً الخدمات الصحية، بإيجاد المستشفيات والمستوصفات، خاصةً من ذلك التي تخص النساء دون غيرهن، ويكون كل الطاقم من النساء، ويراعى فيه جانب الأخلاق، وهذه أمورٌ ينبغي أن ندعمها ونشجعها ونحرض على إنجاحها بقدر المستطاع، أو غير ذلك من الخدمات الصحية التي يحتاج المجتمع المسلم إليها.
والأمثلة في ذلك كثيرة أكتفي منها بما سبق.
وسيكون هناك إن شاء الله دروسٌ أخرى، كما وعدت في هذا الموضوع.(197/39)
الإيجارة
الطريقة الثالثة: الإيجارة، والله تعالى يقول: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وموسى عليه السلام عمل كما في هذه الآية، عمل مع ذلك الرجل في كفايته، وفي رعاية غنمه، كما هو معروف، وقد رواه وأخرجه البيهقي بسندٍ صحيح عن عمر قال: {كان موسى يعمل مع ذلك الرجل الصالح، في كفايته ورعاية غنمه} بل كل الأنبياء رعوا، كما قال النبي صلى الله عليه سلم، فيما رواه أبو هريرة: {ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله! قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة} والقراريط هي مبالغُ زهيدةً من المال، وقيل مكانٌ معروفٌ بمكة، كما ذكره إبراهيم الحربي، ولكن الراجح أن القراريط جمع قيراط، وهو مبلغٌ يسيرٌ من المال، والحديث في الصحيح فقد اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم بل كل الأنبياء صلى الله عليهم جميعاً وسلَّم، بمأجرةِ أنفسِهم على الرعي، على مبلغٍ محدودٍ من المال، ومن الإجارة السمسرة، ولذلك البخاري -رحمه الله- قال: ولم ير ابن سيرين، وعطاء، وإبراهيم، والحسن بأجر السمساري بأساً، وقال ابن عباس رضي الله عنه: لا بأس أن يقول للرجل، بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، يعني من قيمته، وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا، فما كان من ربحٍ فلك، أو بيني وبينك فلا بأس به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {المسلمون عند شروطهم} وذلك مثل أن يأخذ الإنسان من بياع الجملة شيئاً، ثم يبيعه لهم، ويروجه، ويصل به إلى أهله، فيحقق عدة مصالح، فيستغني بنفسه، وينفِّق هذه البضاعة ويروجها، ويختار الأجود والأفضل، وكذلك قد يترتب على ذلك استغناء كثير من الناس عن الدخول في الأسواق، وما فيها من الهيشات، والمشاكل، والمنكرات، وألوان الإجارة من ذلك كثير جداً.
ومثله أيضاً أن يقوم الإنسان بعملٍ نيابةً عن غيره، كقضاء ديونٍ، ومتابعة أصحابها، أو النيابة عن بعض النساء في الأعمال التي لا يتمكنَّ من القيام بها، أو الوكالة في وقفٍ أو غيره.(197/40)
الجهاد
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد كما في حديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} إن الجهاد في سبيل الله عز وجل، من أوسع أبواب الرزق، نعم، لا يجوز للإنسان أن يذهب للجهاد من أجل الدنيا، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المتفق عليه: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ؛ ولكن أيضاً لا ينبغي أن تشغلنا التجارة، عن الجهاد في سبيل الله، بل الجهاد في سبيل الله تعالى، هو من التجارة، ولا يزال الله تعالى يرزقهم حتى تقوم الساعة!!(197/41)
الزراعة
عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرٌ، أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقة} فأنت لو لم يكن لك إلا هذا لكفاك، بل بلغ من شدة تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على الزرع، أن قال كما في الحديث الذي رواه أحمد والطيالسي وهو صحيح عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: {إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر} فالساعة سوف تقوم! وهذه الفسيلة لم تكبر! ولم تنبت! فلك أنت تتعبد بزرع هذه الفسيلة في الأرض، لأن ذلك نوعٌ مما يحبه الله عز وجل، بالنية الصالحة، وكان صلى الله عليه وسلم يحدث يوماً وعنده رجلٌ من أهل البادية، فقال عليه الصلاة والسلام: {إنَّ رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع أن يزرع، فقال الله عز وجل ألستَ فيما شئت، -أي: من الخير والنعيم- قال: بلى يا ربِّ، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر الرجل، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، في طرفة عين، فكان أمثال الجبال، فقال الله عز وجل: دونك يا بن آدم، خذ فإنه لا يرضيك، أو لا يشبعك شيء، فقال هذا الرجل من أهل البادية: والله يا رسول الله، لا تجد هذا ُالرجلَ إلا قرشياً، أو أنصارياً، أما فإنهم أصحاب زرع، أمَّا نحن أهل البادية فلا نشتغل في الزرع، فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم} والزراعة أخي الحبيب لو نظرت إليها من الناحية الشرعية، لوجدت أنها تقرب القلب إلى طاعة الله تعالى، وإلى مراقبته، ومشاهدة صنعه في الأرض، فالزارع يبذر الحب، وينتظر المطر من السماء، ويسأل الله عز وجل، ثم يشهد صنعه الحكيم العليم، في خروج النبات من هذه الحبة، فهو يتعامل مع صنعة الله تعالى مباشرةً، فعنده التوكل والإيمان بالله، ولهذا تجد الفلاحين دائماً أقرب إلى المحافظة والتدين من غيرهم!! أما الصانع مثلاً فهو يتعامل مع الآلة، مع صنعة الإنسان نفسه، وبينه وبين صنعة الله تعالى واسطة، هي ذلك الإنسان، فيضعف إيمانه بالله، ويقوى إيمانه بالإنسان، ويقوى إيمانه بالأسباب، ولذلك أيضاً تجد المجتمعات الصناعية يكثر فيها الفساد، والإلحاد، والانحراف، بخلاف المجتمعات الزراعية كما أسلفت، مع أن هذه ليست قاعدةً مطردة؛ لكنها ظاهرة ملحوظة على الأقل في العصر الحاضر.
الزراعة والاشتغال بها يحقق للمجتمع الأمن الغذائي، ووقايته من المساومة، أو الإذلال من القوى الأجنبية والخارجية، ولقد عاش الناس في هذه الجزيرة بالذات، زمناً طويلاً على الزراعة، ولم يكونوا محتاجين إلى غيرهم ومن الممكن أن يقوم الإنسان بالزراعة في عمله مع والده، وفي عمله مع مجموعة يقومون على مزرعة ويتدربون عليها، في مشاركته بأعمالٍ زراعية محدودة، يكون متقناً لها، إما عن طريق الدراسة، أو عن طريق الخبرة والتمرين، حتى ولو لم يجد، إلاَّ أن يشتري مجموعةً من النخيل، ويضعها في بيتٍ أو مكان خاصٍ له، أو قطعة أرضٍ صغيرة، ثم يسقيها ويبيع ثمارها، وفِراخها لكان له من ذلك خيرٌ كثير.(197/42)
استغلال المواسم
النموذج الرابع: استغلال المواسم بشيءٍ نافع مفيد للجميع، والتفكير الاقتصادي، ينبغي أن يكون وارداً في مناسبة! فالحج مثلاً: يتطلب أن يفكر الإنسان بأمرٍ فيه ربحٌ اقتصادي، ويكون له هدفٌ تعليمي، ودعوي، وإصلاحي، فلو أن الناس مثلاً اشتغلوا بتوزيع المناسك، وبيعها بأسعارٍ معقولة على الحجاج، وإيصالها إليهم، خاصةً تلك التي يكون فيها أدعية صحيحة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكان في ذلك فضلاً عن الهدف الاقتصادي، توعية للحجاج، وإغناء لهم عن بعض المناسك، التي تكثر فيها المخالفات والبدع والأدعية التي لا أصل لها، ومع ذلك هي في أيدي الناس كثيرةٌ جداً، بسبب نشاط من يتاجرون بها ويبيعونها.
ومثل ذلك أيضاً التقويم على رأس السنة، فهذا التقويم فيه مصالحٌ شرعية، مثل العناية بالتقويم الهجري، ومثل العناية بالكلمات التي تكتب في التقويم، من آياتٍ وأحاديث وحكمٍ وأشعار، ومثل البعد عن المحرمات والصور والرسوم المغرضة التي توجد في ألوان التقويم، ومع ذلك هي سبيل ووسيلة إلى الاستفادة منها في مصالحٍ لبعض الشباب، مثل ذلك أيضاً الجداول الدراسية، يستفاد منها أيضاً في وضع كلماتٍ، وتوجيهات وإرشادات، وعناوين مهمةً للشباب، وأرقام وما أشبه ذلك، ومع ذلك يمكن أن يستفاد منها سواء على المستوى العام، في المدارس، والمكتبات، أم على مستوى الطلاب.
مثل ذلك أيضاً الكروت للمناسبات المختلفة، وإعدادها وتجهيزها، ومراعاة ما سبق فيها ومثل ذلك أيضاً الأدعية للسفر أو الدخول، أو كفارة المجلس أو غيره، وأن توضع في لوحات، أو أوراق، أو خرق، يستفيد الناس منها في تعلم هذه الأشياء، والتعرف عليها، وتذكيرهم بما ينبغي أن يقال فيها.
فإن هذه إذا كانت وسائل للإيضاح، والتعليم، ففي رأيي الخاص أنه لا بأس بها، إن شاء الله، وعموماً أيضاً حملات الحج والعمرة، سواء كانت حملاتٌ كبيرة، أم صغيرة، فيها فوائد شرعية ودينية في التعليم، والتفقيه، والإرشاد، والرعاية، والفصل بين الرجال والنساء، ومع ذلك فيها مصالح مادية، وفيها أيضاً تربية لمجموعةٍ ممن يذهب بهم الإنسان، حتى لو أن الإنسان أخذ مجموعةً من العمال، ولو كانوا عشرة، ليس شرط أن تكون حملةً ضخمة مرخص لها، لو أخذت عشرة عمال، وذهبت بهم، وأخذت أجرتك، وهذه مصلحةٌ دنيوية، ومع ذلك لو صبرت عليهم، وتسامحت معهم، وعلمتهم ماذا يقولون، وحججت بهم حجاً شرعياً، كان من وراء ذلك مصلحةً دينيةً كبيرةً لك أنت، ثم لهم، فتجمع في ذلك بين المصلحة الدينية، والمصلحة الدنيوية.
ومن الفرص أيضاً الفرصة التي يعيشها الناس في هذه الأيام فرص الربيع، والمطر والغيث وإخراج الأرض زينتها، فإن ذلك فيه فوائد كثيرة، وأنت تعلم أن الناس يحتاجون إلى ذلك، وأن هناك مما يخرج من الأرض، ما يُشترى بأغلى الأثمان، حتى الحطب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سبعةٍ من الصحابة، وهو حديثٌ صحيح؛ بل في صحيح البخاري أنه عليه السلام أرشد الرجل إلى أن يأخذ أحبله فيحتطب، يأتي بحزمةٍ من الحطب ويبيعها، وهذا خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، ومثل ذلك -أيضاً- المواسم الزراعية، واغتنامها بالبيع في ألوان الزراعة المختلفة بالتمور، وبالفواكه، وبالخضار، وفيما سوى ذلك! ومثله مواسم الإجازات، فإن الإنسان يستطيع أن يستفيد منها، في أن يقوم بعملٍ مؤقت خلال تلك الإجازة، يغنيه، ويجعله يستطيع أن يتزوج مثلاً، ويستغني عن الناس، ويعتمد على الله تعالى، ولا يعتمد على ما يأتيه من فلانٍ أو علانٍ، فهناك فرصٌ قد تكون للناس بها حاجة، فأنت لا تستغل حاجة الناس، أو تضغط عليهم، ولكنك تغتنم هذه الفرصة، لتقدم للناس خدمةً، وأنت مستفيدٌ ديناً ودنيا.(197/43)
الأسئلة(197/44)
طريق الدعوة صعب
مائة وخمسين سؤالاً، كلها تسأل عن حال الشيخ إبراهيم بن محمد الدبيان، نسأل الله تعالى أن يعجل فرجه، وأن يفك أسره، وعلينا بالصبر والاحتساب، وأن نعلم أن هذا طريقُ الدعوة، وأنه ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو مفروشٌ بالصعوبات والمتاعب، ولكن ليس عنه بديلٌ، وينبغي أن نردد: أخي أنت حرٌ وراء السدود أخي أنت حرٌ بتلك القيود إذا كنت بالله مستعصماً فماذا يضيرك كيد العبيد؟ أخي ستبيدُ جيوش الظلام ويشرق في الكون فجرٌ جديد فأطلق لروحك أشواقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد أخي هل تُراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهليك السلاح فمن للضحايا يواسي الجراح ويبعثُ رايتها من جديد أيها الإخوة، إنني أعجب مني ومنكم، هذا الطريق طريق الله عز وجل، طريقٌ فيه مصاعب، لقد سجن من الأنبياء من سجن!! سجن يوسف عليه الصلاة والسلام، بل لبث في السجن بضع سنين، وقتل من الأنبياء من قتل، وطرد منهم من طرد، وأخرج من بلده، وضرب منهم من ضُرب، وضرجوا بالدماء فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، حتى أتاهم نصرنا، فالذي يريد أن يدعو ولكنه لا يريد أن يقال له شيء، ولا أن تخدُش أذنه كلمةٌ خشنة، ولا أن يوقف ساعة أو ساعتين، ولا أن يسجن يوماً أو شهراً أو سنة، ولا أن يضيق عليه في رزقه، ولا أن يؤذى، ولا أن تحاصر كلمته.
هذا الإنسان عليه أن يكبر الوسادة، ويجلس في عقر داره، فليس هذا طريق الدعوة؛ طريق الدعوة معروفٌ، والكلام الذي كنت تسمعه نظرياً بالأمس، ينبغي أن تطبقه عملياً اليوم، فلا يضر الإنسان أن يؤذى في ذات الله عز وجل، بل يكفي الإنسان شرفاً وفخراً أن يؤذى في الله، فإن الله عز وجل يصطفي الأخيار للابتلاء والاختبار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يبتلى الرجل على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه صلابة، زيد في بلائه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي في الأرض ما عليه خطيئة} كفى بالبلاء فخراً أن يصاب الإنسان فيدعو المؤمنون له، فتجد العجائز، والأطفال، والكبار، والصغار، والرجال، والنساء، كلهم على ما نعلمه ونراه، يدعون للشيخ إبراهيم بالفرج ويدعون له بالصبر، ويتحسبون الله تعالى على من اعتدى عليه أو آذاه، كفى بالأذى فخراً أنه يرفع درجات المسلم عند الله عز وجل، كفى به أنه يكفر عن المسلم سيئاته، كما أنه هو المحك الذي يبين عليه صدق الإنسان، كما قال الله عز وجل {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] .
لقد ادعى أقوامٌ الإيمان، وأنهم أهل الإسلام، وحُراس الدين، ثم لم يبتلوا، فعبر هذا ودلَّ على أنهم ما صدقوا في تلك الدعوة، إنما نجد اليوم كثيراً من الإخوة في هذا البلاد قد أصابهم ما أصابهم، وفي الوقت الذي سجن فيه الشيخ، نسأل الله تعالى أن يعجل له بالفرج، وقد سجن قبلها مرات، نجد أن هناك مجموعة من الشباب في مناطق متعددة، قد تعرضوا لمثل هذا الأذى بغير حق، وبغير جرم ارتكبوه، ومثل هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه الأعمال، أو يحرضون عليها، أو يتسببون فيها، أو يكتبون التقرير، ويشوهون صورة المؤمنين، هم في الحقيقة من الذين في قلوبهم مرض، ويريدون أن يتمزق المجتمعُ شرَّ ممزق، وأن يتحول المجتمع إلى فئات يضرب بعضها بعضاً، ويحارب بعضها بعضاً.
وهل تريد أشد مما وقع في بلادٍ إسلامية مجاورة، حيث أصبح المجتمع يُدمر بعضه بعضاً، وأصبحت طاقات الشباب البناءة التي كان من الممكن أن تبني دولةً من الدول الكبرى، وأن تضارع وتواجه أقوى دول العالم في الصناعة والاختراع والابتكار، أن تصبح تلك ضحيةً لمثل هذا الخصام النكد، نعم، أنتم تعرفون، وهذا جاء في بعض الأسئلة، وله علاقةٌ بالموضوع، أنه في مصر قامت شركات إسلامية كبيرة، كالريان مثلاً، أو سلسبيل وهي شركة للكمبيوتر، من أنجح الشركات، وأعظمها، ولها إبداعٌ وتفوقٌ عظيم، فلم يجد هؤلاء أمام نجاحها إلا أن يلصقوا بها تهمة الإرهاب والتطرف، ثم يصادروها ويقوموا بالقضاء عليها، ومثل ذلك كثيرٌ جداً، لقد أصبح التطرف اليوم ليس هو كما كان، ويقولون بالأمس الاعتداء على السائحين مثلاً، أو تفجير الممتلكات العامة والجسور وغيرها، كلا! أصبح التطرف اليوم هو تدريس القرآن الكريم! وأصبح التطرف هو توزيع الكتب والأشرطة الإسلامية! وأصبح التطرف أن تلبس البنات العباءة أو الحجاب! وعلى سبيل المثال هذه مقالةٌ كتبها أحمد الجار الله، بعنوان صوفيا لورين، تختار إنقاذ الإنسان، والمتطرفون يختارون قتل الإنسان، فهو يقارن بين ما يسميهم المتطرفين، الذين همهم القتل كما يزعم الكاتب، وبين صوفيا لورين، التي تُغني من أجل أطفال البوسنة، ويقول: أين هؤلاء؟! لقد رأينا النصارى ورأينا الغربيين يقدمون الخدمات للمسلمين في الصومال، وما رأينا هؤلاء المتطرفين، الذين نظرتهم إلى الدين أنهم اختاروا الهروب من الأجر.
فأحدهم يقول: متى تنام؟ ومتى تستيقظ؟ وماذا يجب أن تشاهد؟ وماذا ينبغي أن تأكل في الفطور والغذاء والعشاء؟! فأنت كافرٌ، يقول: فأنت كافرٌ إذا لم تستغل يومك بثلاثِ بلحات، وأنت ملحدٌ إذا نمت في سريرك على الجانب الأيسر، وأنت زنديق إذا شاهدت الـ CNN، وأنت آثم إذا تم ضبطك متلبساً بالاستماع لـ أم كلثوم، تشدو بالأطلال وأنت عمري.
هذا هو منهج المتطرفين ومسلكهم، وأقول: قولوا كما تشاءون والدهر دول، والله تعالى ناصرٌ دينه، ومعلٍ كلمته، ولتعلمن نبأه بعد حين، وسوف تعلم هذه الأمة، بل قد علمت منهم المخلصون لها، الواقفون في المواقف معها، الذين يستميتون في الذب عنها وحمايتها، ويواجهون عدوها.
لقد بَرِح الخفاء، وانكشف الأمر، حينما رأينا الغرب يحاربون الأصوليين كما يسميهم، عن قوسٍ واحدة، لأنه يعلم أنهم حربٌ على مصالحه، وأنهم هم المتدينون الحقيقيون، وهم الوطنيون الحقيقيون، ومصلحة الوطن هي في مصلحة الدين، والغرب يحارب الإسلام، لأنه دين الله، كما يحارب الإسلام أيضاً، لأنه يعلم أنه حربٌ على مصالحه في بلاد الإسلام.
نسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأن يغني المسلمين من فضله إنه على كل شيء قدير.(197/45)
حتى تغيروا ما بأنفسكم
لا يحصل للأمة خير ولا شر إلا بسبب عملها وتصرفها -كأمة- وهذه قاعدة شبه مطردة في الفرد أيضاً، ولذلك فإن التغيير من الله سبحانه وتعالى لا يكون إلا بأن تغير الأمة حالها.
والأمة المسلمة وجدت لتبقى؛ لأن فيها عوامل للنجاح أعظمها المبدأ الصحيح الذي تفتقده -بشكله الكامل- جميع الأمم والمجتمعات الأخرى، وكذلك فدين هذه الأمة دين عملي؛ يؤدي بها إلى الرقي والتقدم، هذا بالرغم من سلبية الكثير من أفراد هذه الأمة وقلة الرجال الفاعلين فيها.(198/1)
الشر بسبب الذنب والخير بسبب الطاعة
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وحياكم الله تعالى في هذه الليلة المباركة، وهي ليلة الخميس، التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول لعام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة.
إن عنوان هذه الكلمة أو المحاضرة: "حتى تغيروا ما بأنفسكم"، وأستغفر الله عز وجل فإنني ما قصدت بهذا العنوان حكاية كلام الله تعالى, وإنما قصدت به عنواناً أنشأته من عند نفسي, واقتبست معنى الآية الكريمة العظيمة فيه, ألا وهي قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] .
وإنما جعلت العنوان خطاباً (حتى تغيروا) لأني لاحظت أمراً في غاية الخطورة نعانيه نحن المسلمين, ألا وهو أننا في كثير من الأحيان نتحدث عن غيرنا أكثر مما نتحدث عن أنفسنا.
نعيب غيرنا، ونحمل المسئولية غيرنا، ونلقي بالتبعة على غيرنا, ونجعل الأسباب من غيرنا, وإذا سمعنا أحداً ينتقد, أو ينصح أو يوجه؛ خيل إلينا أنه يتحدث عن أمة أخرى أو شعب آخر أو أناس آخرين, لكن قلّما يسمع الواحد منا الحديث، وهو يحس أنه هو بذاته وباسمه وشخصيته المخاطب قبل غيره, ولذلك يقل الانتفاع من الكلام، لأن كل واحد يعتقد أنه ليس مخاطباً ولا مقصوداً, فاخترت أن يكون العنوان خطاباً "حتى تغيروا ما بأنفسكم" لدفع هذا المعنى الموجود في نفوسنا.
وسوف تكون هذه الكلمة في سبع نقاط أو سبع وقفات، الوقفة الأولى عبارة عن مقدمات لابد منها.(198/2)
تعجيل العقوبة للعبرة والعظة
كم من إنسان كان يقوم على تعذيب المسلمين وإيذائهم والزّج بهم في السجون, وإذا استنصروا بالله عز وجل، قال لهم كما قال بعض زبانية التعذيب في أرض الكنانة في وقت من الأوقات, لما رأوا إنساناً يصرخ: يا الله، قالوا: لو جاء الله لجعلناه في هذه الزنزانة والعياذ بالله وما هي إلا أزمنة قصيرة حتى يأخذهم الله عز وجل بشكل غريب, حتى إن أكبر زبانية التعذيب الذي كان يعذب بعض العلماء والدعاة, كان من ضمن وسائله في التعذيب أنه يمنعهم من الذهاب لقضاء الحاجة, زماناً طويلاً, ودار الدهر دورته, فإذا بهذا الرجل يفقد سلطانه وأبهته ومكانته, وإذا به يصاب بصعوبة التبول حتى إنه يجال به في مستشفيات الدنيا، يصرخ صراخاً شديداً حينما يريد أن يقضي حاجته, ثم مات بهذا المرض, ولما سمع بعض ضحاياه بهذه القصة، وكان في الحرم المكي الشريف خر لله تعالى ساجداً.
إن الله عز وجل يعجّل لمن يشاء العقوبة في هذه الدنيا, وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار عمل, وهذا الجزاء الذي يظهره الله عز وجل إنما هو من باب العبرة والعظة, التي يبينها الله جل وعلا لعباده.
ولقد حشد القرآن الكريم الكثير من الآيات والقصص السابقة، التي تبين أن هذا هو الطريق, فلا تنتظر أبداً أن يكون التغيير بواسطة ملك يهبط من السماء, كلا, ولا بواسطة شيء يخرج من الأرض، إنما التغيير بواسطة الإنسان، فالإنسان هو مدار التغيير بإذن الله جل وعلا, فالله جعل النواميس في هذا الكون خاضعة لتغيير الإنسان، كما قال قتادة رضي الله عنه: [[من الإنسان التغيير، ومن الله تعالى التيسير]] الإنسان لا يمكن أن يغير بنفسه القدر: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده فربما يقوم إنسان بسيط تفكيره بسيط، يفتح بقالة أو متجراص متواضعاً وتبدأ أمواله تكثر، فتأتي بعد عشر سنوات ويصبح من أصحاب رءوس الأموال, ثم تجلس معه تتحدث، هل تميز ذلك الإنسان بذكاء عن غيره؟ لا، بماذا تميّز؟ هذا من توفيق الله عز وجل, يهب ذلك لمن يشاء, وقد تجد إنساناً صاحب تفكير وتخطيط، وعنده لجان وعنده مستشارون، وعنده خبرات ودراسات وتحاليل وتقارير وأشياء, ويقوم بمشاريع وفي النهاية تنهار، ويصبح هذا الإنسان منكسراً لا مال له.
فالأمور لا شك مرتبطة بقضاء الله وقدره, وإذا لم يعن الله العبد فأول ما يجني عليه اجتهاده.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده لكن ينبغي أن ندرك أن التغيير يبدأ من الإنسان, لا تتصور أن التغيير يبدأ من المصنع, بعض الإخوة -مثلاً- يقول: إن الطريق إلى تقدم العالم الإسلامي هو الاهتمام بالصناعة نحن لسنا نشك أن العالم الإسلامي لكي يصبح عالماً متقدماً، لابد أن يملك الصناعات سواءً الصناعات الحربية أم غيرها, وما دام يستورد من غيره فلن يتقدم لأن حاجاته بيد عدوه، يفرج عنها متى شاء ويمنعها ويحجبها متى شاء, هذا ليس فيه شك ولا نجادل فيه, لكننا نقول المهم: هو الإنسان, إذا أفلحنا في صناعة الإنسان -إن صح التعبير- في إيجاد الإنسان الفعال المؤثر القوي صاحب الهمة, ثقوا أن الأمور كلها ستتبدل، سيأتي المصنع والمتجر, وسوف تأتي القوة والتنظيم وكل شيء، إذاً ينبغي أن ندرك أنه -كما يقولون- حجر الأساس في موضوع التغيير هو الإنسان.(198/3)
التغيير من عند أنفسنا
إنَّ الله عز وجل ربط التغيير بفعل الناس, فإذا كان الناس في حال خير وانتقلوا إلى حال سيئة, فلا ينبغي أن يقولوا: من أين جاء هذا؟ لأنه يقال لهم حينئذٍ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] وكما قال الله عز وجل في سورة الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] .
أمة من الأمم عزيزة منيعة الجانب قوية قاهرة غالبة ممكنة في الأرض, ثم يؤول الأمر بها إلى انهيار وانهزام وتصبح في ذيل القافلة, وتصبح أمة لا قوام لها ولا اعتبار لها ولا شأن لها, تسمى كما يقولون في لغة العصر الحاضر "العالم الثالث"، والآن أخرجوا مصطلحاً جديداً يسمونه "العالم الرابع"، وهو الذي فيه تخلف التخلف, الذين لا يجدون لقمة يأكلونها, وكلهم أو جلّهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون, والمرض يسري فيهم سريان النار في الهشيم إلى غير ذلك من مظاهر التخلف, فيما يسمونه بحزام البؤس أو العالم الرابع، وهي دول من أمم المسلمين.
يجب هنا أن يتساءل الإنسان، أو أن يفكر أن هذا المصير الذي آلت إليه تلك الأمة العزيزة المنيعة, إنما هو من عند أنفسها وبسبب ذنوبها, وكذلك العكس فهذه الأمة أو غيرها التي تعيش في وضع سيئ متردٍ، وتريد الخروج؛ منه أن عليها أن تفكر أن البداية تأتيها من عند نفسها، لا تتصور أبداً أن الخروج من هذا المأزق، ومن هذه الأزمات، ومن هذا التخلف، ومن هذا الجهل، يأتي بشيء يقدمه لها أعداؤها، فهذا لا يتأتى أبداً كما يقول الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا(198/4)
الحياة صراع بين الحق والباطل
الحياة صراع، والذي لا يملك وسائل القوة والصراع والسباق, يهزم ويصبح في آخر الركب وفي ذيل القافلة, فمن كان على حال سوء يطمع في الانتقال إلى حال حسنة, يجب أن يعرف أن البداية تأتي من عنده هو, أن يغير ما بنفسه فيغير الله تعالى ما به، وهذا يصدق على حال الأمة وعلى حال الفرد.
أما بالنسبة للأمة فهي قاعدة مطردة, أما بالنسبة للفرد فقد يظهرها الله عز وجل في كثير من الأحيان بشكل أو بآخر, قد تجد إنساناً اليوم يظلم ويعتدي ويأخذ بغير حق, اصبر لا تتعجل الأحداث، لا تقل: ولماذا الله تعالى لم يعاقبه على ما فعل؟! يقول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله عز وجل ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] } .
إذاً لا تتعجل، يوماً أو شهراً أو سنة إن الأمور في ميزان الله غير الأمور في ميزاني وميزانك أنت, نحن إذا رأينا الباغي والظالم مكث شهراً أو سنة وما انتقم الله عز وجل منه, استبطأنا الأمر وتعجّلنا، لكن اصبر فمن الممكن أنك تموت وما رأيت النتيجة, ويراها ولدك أو أخوك الأصغر, فكم من إنسان ظالم أو معتدٍ أو منحرف، أو مستهزئ بالدين، أو ساخر بالمؤمنين، أمهل الله له وأملى له, ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر.(198/5)
الله حرم الظلم على نفسه وعلى غيره
إن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، كما قال جل وعلا: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود:101] في أكثر من موضع من القرآن الكريم, وقال: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] وقال: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70] وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] وفي الحديث القدسي في صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً, فلا تظالموا} ومن عدله جل وعلا؛ أنه جعل الجزاء في الدنيا والآخرة مترتباً على فعل الإنسان وعمله.
فأهل الجنة يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] {هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ؛ وأهل النار كذلك إنما دخلوها بذنوبهم وبخطاياهم وأعمالهم.
وكذلك الجزاء الدنيوي، إنما يناله من يناله, إن كان خيراً فبعمله الخير, وإن كان شراً فبعمله الشر, ولذلك قال الله عز وجل: {يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} فمن عدله جل وعلا أن كل أمر يحصل للإنسان في الدنيا أو في الآخرة فهو بسبب عمله، وما ظلمه الله تعالى شيئاً.(198/6)
مصائب الأمة بفعل البشر
نحن نعلم جميعاً أن الجزاء الأخروي حق, وهناك في الآخرة جنة ونار, وهذا من أصول العقيدة الإسلامية، كذلك يجب أن نعلم أن الجزاء الدنيوي واقع أيضاً.
صحيح أن الدنيا ليست دار جزاء, ولكن الله جعل في هذه الدنيا نواميس وسنناً تجري على العدل والاستقامة, فكل ما يصيب الأمم دعك من الأفراد، مثلاً: كون فلان أصابه مرض، أو حادث سيارة، أو كان عنده مؤسسة وفشلت فاترك هذه جانباً.
دعنا نتكلم في المصائب العامة: فمثلاً: أمة من الأمم أصابها جدب وقحط, وهلكت الأموال والزروع والمواشي, أو أصابها فقر شديد, أو أصابتها هزائم عسكرية أو سياسية أو هزائم اقتصادية, أو نكبات عامة, فالقرآن الكريم صريح في أن هذا بفعل البشر، بسبب فعل الناس، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] .
ولما جاءت معركة أحد وانهزم المسلمون, وكانوا يتصورون أنه ما دام ألهم المسلمون وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ويقابلون جيشاً مشركاً يعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى, كانوا يعتقدون أنَّ النصر لهم حتماً, فأصابتهم المصيبة وقتل منهم من قتل, وجرح من جرح, حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت حلق المغفر في وجنتيه, وشج رأسه, وكسرت رباعيته, وسقط صلى الله عليه وسلم في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق -الذي كان يسمى بـ الراهب - حتى أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل, فهنا دهش المسلمون وتلفتوا يقولون: أنّى هذا؟! كيف يحصل هذا؟! فجاءهم الجواب بياناً مفصلاً في سورة آل عمران، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] إذاً كما أن الجزاء الأخروي حق, فكذلك الجزاء الدنيوي حق, قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50-51] .
فالمصائب في الدنيا -المصائب العامة- بسبب الذنوب, والسعة في الرزق والمال والأهل والمتاع الطيب هو أيضاً بسبب الطاعات, هذه هي القاعدة العامة وكل قاعدة لها استثناءات, البشر قد لا يستطيعون أن يطبقوا القاعدة في كل ظرف وفي كل حال, لكن هذه القاعدة ربانية قرآنية لا كلام فيها.(198/7)
هذه الأمة خلقت لتبقى
هذه الأمة التي نحن جزءٌ منها، بلا شك لا نعتبرها، الأمة العربية؛ لأننا لا ندل أو نفخر بعروبتنا, فإن هذه الأسماء لا قيمة لها، كما قال الشاعر: خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذبابات تطايروا عمياً المسلم وطنه بلاد الإسلام وجنسيته الدين, وإن كان عربياً أو غير عربي، فهذه الأمة التي نحن منها أمة الإسلام, خلقت لتبقى, وهذه قضية يجب أن تستقر في نفوسنا, ما خلقت لتؤدي دوراً ثم تنتهي, مثلما هو الحال بالنسبة للأمم الأخرى, خلقت لتبقى حتى آخر الزمن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتبقى أيضاً قوية عزيزة، ويكفيك أن تتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال} فالأمة خلقت لتبقى، ولذلك لا تتصور أن هذه الأمة أمة مؤقتة أو زائلة، بل هي أمة أخرجها الله رحمة للعالمين, أخرجها للعباد يقيمون الحجة على الناس، فهذه الأمة باقية، بعز عزيز أو بذل ذليل، شاءوا أم أبوا.(198/8)
عدم التشاؤم من النكبات
علينا ألاَّ نتشاءم من هذه المصائب والنكبات والأزمات التي تمر بالأمة, بل علينا أن ندرك أنه هنا يأتي نصر الله عز وجل تماماً كما حصل حين جاءت الأحزاب، قال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] ولذلك كان المنافقون في غزوة الأحزاب، يقولون: الواحد منا لا يستطيع أن يذهب لقضاء الحاجة, ويقولون: إن بيوتنا عورة, ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول غير هذا، لما اشتدت عليهم الصخرة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وضربها بالمعول، قال: {الله أكبر! فتحت لي كنوز كسرى} ضربها مرة أخرى, قال: {الله أكبر! فتحت لي كنوز قيصر} ضربها مرة ثالثة, فقال: {فتحت لي اليمن وإني أرى قصور صنعاء} .
إذاً: الواثقون من نصر الله عز وجل -وهم المؤمنون- في أشد الظلام وحلكة الليل, يدركون أنه حينئذٍ يولد الفجر, أشد ما يكون الليل ظلاماً قبيل الفجر، ثم يبزغ الفجر بعد ذلك، وإن كان هذا يذكرني بقضية وهي: أن الأمة وجودها يتفاوت، ولذلك لاحظوا أننا الآن -مع الأسف الشديد- إذا أردنا نضرب الأمثلة, بمن نضرب الأمثلة؟ هل نضرب الأمثلة بفلان الحي الموجود بين أظهرنا؟ قلّما يحدث هذا, وإنما نضرب الأمثلة بالماضين, كأن الأمة تحتاج الآن إلى الرجال, ما كانت الأمة في زمن أحوج منها في هذا الزمن إلى الرجال.
فنحن الآن -بكل صراحة- ابن تيمية يؤثر في واقعنا أكثر مما يؤثر كثير من طلبة العلم الأحياء, الذين يمشون على أقدامهم.
يا رُبَّ حيٍّ رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا إذا جاءتنا مشكلة علمية وجدنا لـ ابن تيمية رحمه الله سبق فيها, وإذا جاءتنا مشكلة عملية -المشكلة العلمية معقولة، كقضية في الفقه أو في التفسير- لكن حتى مشكلة عملية يمكن أن نستفيد من ابن تيمية أكثر مما نستفيده من غيره.
مثلاً: هناك طائفة من الطوائف لا نعرف الحكم عليها, هل هذه الطائفة مسلمة أو كافرة؟ داخل في الإسلام أو خارجة منه؟ يجب قتالها أم لا يجب؟ قد نتردد وقد نحتار في ذلك، وقد لا نجد من يعطينا الجواب, لكن إذا رجعنا إلى فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين، وجدناه تكلم عن ذلك بكل وضوح, ووضع النقاط على الحروف -كما يقال-.
وإذا وجدنا مشكلة قائمة أيضاً ربما تختلط عندنا الموازين ونشك ونرتاب، ولا ندري كيف نتصرف، وإذا رجعنا إلى الكلام الذي كتبه ابن تيمية في مثل هذه المناسبة تعجبنا, وقد سبق أنني قرأت على بعض الإخوة في إحدى المناسبات كلاماً ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو فصل طويل يزيد على عشرين صفحة في الفتاوى, تكلم فيه ابن تيمية للأمة بمناسبة غزو التتر, وما أصاب الأمة من رعب وخوف وفزع، حيث بدءوا يرتحلون من الشام, يسافرون خوفاً على أنفسهم وأولادهم, ويأخذون أموالهم، الكبار والصغار والعالم وغير العالم، خوفاً من هذا السيل الذي يخشون أن يكتسحهم, فتكلم ابن تيمية بكلام عظيم، وربط القضية بقضية الأحزاب، وأنا أدعوكم للرجوع تجدون -والله الذي لا إله إلا هو- كأن ابن تيمية يتكلم عن اللحظات التي نعيشها الآن, وقلت في تلك المناسبة أنني اكتشفت الكلام الذي كان يجب أن نقوله، وأن يقوله طلبة العلم للناس في مثل تلك المناسبات, اكتشفته من خلال قراءتي لما كتبه قلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(198/9)
النكبات هي التي تصنع الرجال
ولا تنظر -يا أخي العزيز- إلى هذه النكبات التي تحل بالأمة، نظرة خاطئة, لا تعتقد أنها هي التي تدمر الأمة, بل أقول من منطلق نظرة قد تكون شخصية, لكن أعتقد أنها صائبة: إن هذه الأزمات والنكبات هي التي تخرج الرجال, والأمة التي تمر بحياة هادئة رتيبة ليس فيها أمر جديد ولا مثير, تجد هذه الأمة كأنها أمة ميتة, لكن إذا حصل أمر يهز الناس، ظهرت حقائق الرجال وبانت المعادن.
وخذ على سبيل الأمثلة الإمام أحمد -مثلاً- متى ظهر؟ وكيف ظهر؟ ولماذا كسب هذه الشهرة العظيمة والمكانة سواء في عصره أم إلى اليوم؟ إنما ظهر لما واجهت الأمة سيل العقلانيات والفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتقديس العقل من دون الله عز وجل, فقام الإمام أحمد يدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة والاعتصام بهما, وتصحيح العقيدة، وإخراج هذه اللوثات التي دخلت إلى عقول المسلمين.
مثال آخر: ابن تيمية -رحمه الله- كيف ظهر ابن تيمية؟ ومتى ظهر؟ صحيح أن الأمة كانت في زمن ضعف وانهيار, لكن كان ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في وقت وجد فيه التتر ووجد فيه الضعف, واكتسحت حملات التتر بلاد المسلمين, فظهر ابن تيمية , كيف ظهر ولماذا؟! ظهر في البداية من منطلق الحرقة التي في قلبه -كما سيتضح- كان يحترق من الداخل على واقع الأمة, ومشكلات الأمة ومصائب الأمة, ثم بدأ يحاول أن يحول هذا الاحتراق الداخلي إلى عمل خارجي, ما اكتفى بمجرد الحسرة والألم، بل أدرك أنه لابد أن يقوم بخطوات فعّالة, فصار يقوم ويجمع العلماء ويتحدث معهم، ويثبت السلاطين والحكام ويأمرهم ويقوي عزائمهم، ويحث الناس على القتال وهكذا, حتى استطاع ابن تيمية -رحمه الله- أن يعمل تعبئة كاملة للأمة ضد التتر, وانهزموا بإذن الله عز وجل.
العز بن عبد السلام -رحمه الله- كيف ظهر ومتى ظهر؟! ظهر في ظروف مشابهة كانت الأمة تعاني فيها من الحملات المختلفة للتتر وغيرهم أيضاً, وتعاني من التمزق والانقسام الداخلي, فكانت أحوج ما تكون إلى بطل، ليس بالضرورة بطل بالسيف, بل بطل باللسان وبالكلمة الجادة الشجاعة الصادقة, فكان العز بن عبد السلام يصعد أعواد المنابر، ويقول كلمة الحق صريحة مدوية, ويأتي هنا وهناك، ويتكلم لدى العام والخاص والكبير والصغير والعالي والنازل بالحق, ويجهر به ويجمع الناس عليه, حتى تحقق نصر الأمة.
إذاً نصر الأمة ما تحقق على يد السلطان المملوكي أو غيره, إنما تحقق في الواقع على يد العلماء الذين كانوا وراء هذا الانتصار الذي حققته الأمة.
وقل مثل ذلك في أسماء كثيرة، ظهرت بسبب الأزمات التي حلت بالأمة, وفي ذلك يقول أحد المؤرخين البريطانيين واسمه " أرنولد توينبي " له نظرية في تفسير التاريخ، يسميها: "التحدي والاستجابة" يقول: إن أي مصيبة تنزل بالأمة هي عبارة عن تحدٍ، هذا التحدي يورث عند الأمة استجابة، يثير في النفوس دوافع معينة، تجعلها تفكر كيف تقدم خدمة لهذا الدين, كيف تخرج من هذه الأزمة؟ فيظهر الرجال حينئذٍ.(198/10)
تحطم المؤامرات أمام الإسلام
كم تحطم على صخرة هذه الأمة من مؤامرات؟ الأمة لها ألف وأربعمائة سنة, كم تحطم على صخرتها من مؤامرات! منذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤامرات السرية تشتغل، وكل أمة نكبت بالإسلام، صارت تشتغل ضده -مثلاً- اليهود فقدوا موقعهم بالإسلام, كانوا يعتقدون أن يكون النبي منهم، فقدوا موقعهم وصاروا يشتغلون بالمؤامرات، والفرس والمجوس فقدوا مواقعهم وفتح المسلمون بلادهم, وصاروا يتآمرون, والنصارى فتحت بلادهم وصاروا يشتغلون كذلك بالمؤامرات, وهكذا تحالفت كل أمم الدنيا على رغم ما بينها من تفاوت وحرب وصراع, تحالفت ضد الإسلام، وصارت أمواجاً كاسحة.
لو تذكرت مثلاً مؤامرات الصليبيين: كم من حملة صليبية حاولت أن تكتسح العالم الإسلامي! وجاؤوا في فترة الضعف، وبقوة هائلة رهيبة بمئات الألوف, وأجهزة وأسلحة فتاكة وتحطموا على صخرة الإسلام.
جاء التتار، أمة متوحشة قاهرة غلابة وأمم هائلة، وتعودوا على البداوة وشظف العيش, وجاؤوا واكتسحوا الدنيا كلها، مثل السيل لا يقف في وجهه شيء, وتحطموا على صخرة الإسلام.
جاء الاستعمار واحتل بلاد المسلمين، وكان في عهد ضعف وذل للمسلمين, فماذا صنع المسلمون؟ صنعوا البطولات، صحيح أنهم ما قاموا بعمل منظم ضد الاستعمار، وهذه قضية يجب أن نستفيدها من التاريخ، بمعنى أنه يضمن خروج الاستعمار ورجوع حكم الله ورسوله وحكم الإسلام، لكنهم قاموا بعمل بطولي، يشبه تماماً ما يقوم به الإخوة المجاهدون في أفغانستان, بطولات وتضحيات، قتل وقتال, استبسال ومعارك طاحنة, وأخبار مدهشة, وهذا بحد ذاته دليل على أصالة هذه الأمة وبقائها.
وكما تسمعون وتعلمون أنه في الجزائر -مثلاً- عدد الذين قتلوا لمقاومة الاستعمار الفرنسي, كانوا مليون شهيداً, ولذلك يسمونها بلد المليون شهيد, ونرجو الله أن يكونوا شهداء في سبيله.
من كان يقوم بحملات التحرير ضد الاستعمار؟ يقودها المشايخ, في الجزائر -مثلاً- جمعية العلماء وغيرها, وفي المغرب الخطابي وغيره, وفي ليبيا عمر المختار , وفي فلسطين عز الدين القسام، وهكذا في بقية البلاد الإسلامية.(198/11)
عوامل النجاح في الأمة
نقطة ثالثة: عوامل النجاح في الأمة وهي تتلخص في جانبين:(198/12)
أمتنا تملك الحق
الجانب الأول: ما يمكن أن يسمى بالجانب النظري أو العقدي, وهو وجود مبدأ صحيح لدى الأمة, يعني وكون الأمة تملك مبدأ صحيحاً تقوم عليه، وهذا نحن المسلمين نملكه بلا شك, الإسلام عقيدة وشريعة, وكل إنسان يشك في صلاحية الإسلام وأنه هو الحق, فهذا ليس لنا معه كلام؛ لأنه بشكّه هذا خرج من دائرة المسلمين, وأصبح منسلخاً عن الأمة, وأصبح في عداد الكافرين.
إنما نتكلم عمن يؤمنون بهذا الدين وبهذا الإسلام, وأنه الحق من ربهم, فهؤلاء يؤمنون قطعاً لا شك فيه، بأن الأمة تملك -نظرياً- تملك الحق المتمثل في هذا الإسلام.
ولا شك أن الإسلام الذي هو الحق، يحتاج إلى أن نوضحه للناس, نبلغه للناس, ونزيل ما تعلق به من خرافات ألصقها به الصوفية أو الشيعة، أو المبتدعة على مختلف مذاهبهم وطوائفهم, هذا جانب آخر.
إذاً الجانب الأول، أو العام الأول من عوامل النجاح: كون الأمة تملك الحق، وهذا موجود عند المسلمين بخلاف الأمم الأخرى، ليس هناك أمة تملك الحق إلا المسلمين.(198/13)
ديننا دين عملي
الجانب الثاني: الجانب العملي، وهو جانب التطبيق جانب الفاعلية, ما معنى أن يكون المسلمون يملكون الحق ثم يغلبهم غيرهم في أمر دينهم يأمرهم به؟! أضرب مثلاً لذلك: الإسلام دين يحث على العمل ويأمر به, وكما قلت لكم في أول الكلمة: أهل الجنة دخلوها بعملهم وأهل النار دخلوها بعملهم, مع ذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث صحيح عجيب، يقول: {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، واستطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها، فليغرسها فله في ذلك أجر} الساعة تقوم الآن, وبيدك نخلة صغيرة تريد أن تغرسها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اغرسها فلك بذلك أجر, والحديث صحيح, لأنك مأجور هذا عمل تؤجر عليه، فالإسلام دين العمل.(198/14)
مقارنة الإسلام بالأديان الأخرى
ومع ذلك عندما تقارن المسلمين بأمة أخرى, ودعونا نقارن المسلمين بأمة وثنية, لأن آخر ما يخطر في بالك الوثنية، البوذيون في اليابان ماذا صنعوا؟ قرأت قصة عن أحد الطلاب المبتعثين إلى الغرب، لنقل ما يسمونه بالتقنية والخبرة الصناعية إلى اليابان, قرأت مقالة له أو قصة له- يقول: لما ذهب إلى بريطانيا وحاول أن يتعلم ما استفاد ورجع, ذهب مرة ثانية إلى ألمانيا وتعلم على يد أحد الأساتذة أو الدكاترة؛ فكان هذا الأستاذ يعلمه كلاماً نظرياً دائماً، يقول: فجلست زمناً طويلاً فهمت كل شيء بعقلي, لكن حين أجلس أمام الآلة أو "الموتور" أحس بأنني أمام لغز لا أعرف شيئاً, وذكر كيف جمع من راتبه واشترى موتوراً وفكه في البيت, ويسهر حتى أنه لا ينام في اليوم والليلة إلا ساعات محدودة, ولا يأكل إلا وجبة واحدة, فظل على هذا سنوات, بعدها استطاع أن يصنع موتوراً, ويعود إلى بلده لا بشهادة دكتوراة لكن بهذه الصناعة، وكانت أخباره تنتقل إلى بلده أولاً بأول, فلما رجع إلى بلده قالوا: إن رئيس الدولة يريد مقابلتك تكريماً لجهدك, قال: لا، ما أستحق، حتى إذا صنعنا أول موتور ياباني صناعة يابانية، في ذلك الوقت أنا آتي إليه! وجلس تسع سنوات حتى أفلح في تكوين مصنع، وكنت أتعجب من كلامه, يقول في ضمن القصة: وأنا بوذي والعمل الذي أقوم به يقرب إلى بوذا، إنه وثني, ومع ذلك يعمل بروح، وأي عمل يقوم به يقربه إلى معبوده ووثنه! أليس المسلمون أولى وأحق بهذه الروح الوثابة التي تدعو إلى العمل والإنتاج؟!(198/15)
الصد عن سبيل الله عند عدم التطبيق
المسلمون الأوائل، أخذوا خير ما عند الأمم الأخرى خلال فترة وجيزة, فكيف يحصل هذا؟! يحصل بسبب الانشطار بين النظرية والتطبيق، عندكم دين صحيح وحق ولا مرية فيه, لكن التطبيق في واد آخر, وربما تكون الأمم الأخرى سبقتكم إلى بعض مميزات هذا الدين, وهذا من وسائل الصد عن سبيل الله عز وجل.
كثير من الكفار إذا دعوا في بلادهم أسلموا، فإذا جاءوا إلى البلاد الإسلامية ارتدوا والعياذ بالله، وأذكر أنني قرأت قصة منذ ما يزيد على عشر سنين, وكان وقت قراءتي لها هو وقت حدوثها، أن أحد الطلبة الشباب كان في أوروبا، فدعا رجلاً إلى الله عز وجل, وعرض عليه الإسلام، فاسلم وصار يقرأ في الدين حتى امتلأ قلبه إيماناً بالله ورسوله, ولما انتهى هذا الشاب وأراد أن يعود إلى بلاده, قال له ذلك المسلم: أريد أن أعود معك، فرجع معه, ولمّا رجع يقول: جلس فترة ليس عنده عمل, فلاحظ سلبيات، السفور الموجود في أسواقهم أي: في أسواق المسلمين، والتبرج الموجود ومظاهر التخلف الموجودة عند المسلمين وليست موجودة في بلادهم, نظر بعد فترة وجد أنه ضاقت عليه الأسباب, ما وجد بيتاً يسكن فيه, ولا أحد يطعمه, ولا أحد يؤويه.
بعد ذلك يقول: جاءني يوماً متأثراً حزيناً محمر العينين, يقول لي: أين أبو بكر؟ أين عمر؟ الذي كنت تخدعني بقصص عدله -هكذا يقول له- ألا تعلم أنني منذ أيام لا أجد ما آكل؟ لا أدري أين أسكن؟! أين الإسلام الذي كنت تقول لي؟ أين العدل؟ فكان هذا الشاب يكتب الرسالة بكل حرقة؛ يشتكي فيها هذا الوضع الذي حصل, ويقول: إن الرجل ارتد عن دينه وتخلى والعياذ بالله بهذه الصورة البشعة, فمن الصد عن سبيل الله أننا نملك الحق ولا نطبقه.
وأذكر أنني قرأت -أيضا- كلمة للأستاذ سعيد شعبان، وهو أحد الكتاب القدامى المصريين -يقول: إنه عقد مؤتمر في أحد البلاد الإفريقية عن الإسلام, وحل الإسلام لمشكلات الحضارة ومشكلات الناس, وتكلم في هذا المؤتمر عدد من العلماء، وحضره عدد من الصحفيين الأوروبيين من الرجال والنساء, يقول استمر المؤتمر أسبوعاً، وبعد نهاية المؤتمر جاءتنى امرأة وناقشتني عما قيل في المؤتمر, وهل هو صحيح أم غير صحيح؟ فقالت لي بعد ذلك: اسمع مني وانقل عني: "إذا كان ما تقولونه لنا في هذا المؤتمر عن الإسلام صحيحاً, فانقل عني أنكم أيها المسلمون مجرمون في حق البشرية كلها, لأنكم تملكون الحق والحل, ثم لا تقدمونه للناس, البشرية تبحث عن هذا الأمر الذي تقولونه لنا في هذا المؤتمر".(198/16)
السببية سنة في الحياة
نقطة رابعة: وهي موضوع السبب أو ما يسمى بالسببية.
لا شك أن الله قادر على تحقيق ما يريد بقوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
فالله عز وجل قادر على أن يجعل كل الناس مؤمنين بكلمة كن, وقادر على أن ينصر الإسلام بكلمة كن, ولكن الله عز وجل شاء غير هذا, وجعل الدين للناس يطبقونه من خلال جهدهم وعملهم وتضحيتهم, حتى الرسول صلى الله عليه وسلم -كان مثلاً يحتاج إلى أن يتعب، يخرج من مكة مهاجراً مختفياً, إن الله تعالى قادر على أن يرسل له البراق الذي ذهب به إلى بيت المقدس, ثم صعد به إلى السماء أن يرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يركب عليه من مكة إلى المدينة، وتكون رحلة هادئة مأمونة ليس فيها خطر, لكن الله عز وجل شاء غير هذا، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وجلس في الغار والمخاوف حوله، ويقف المشركون على رأس الغار، إلى آخر القصة.
فالله تعالى أراد أن يتحقق الدين من خلال الأسباب, ومعلوم أن الله عز وجل يعين المسلمين بوسائل لا يملكونها كإعانتهم بالملائكة مثلاً, لكن بعد أن يستفرغوا وسائلهم وأسبابهم التي يملكونها، فإذا حصل منهم تقصير بعد ذلك يسدده الله تعالى عن طريق أمور قد لا يستطيعونها هم، فيمدهم بالملائكة والعون، وهزيمة عدوهم بالريح، إلى غير ذلك: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] .
فالله تعالى جعل السببية ناموساً وسنة في هذه الحياة, حتى الدين جعله تعالى منوطاً بجهد الناس(198/17)
فاعلية الإنسان
إذا حصل خلاف بين أهل العلم حتى في مسألة فقهيه أو غير فقهية, فإنه يتم معرفة الصواب، أو معرفة الراجح من المرجوح بجهد الإنسان؛ يبحث حتى يصل إلى النتيجة, وليس هناك ملك يننزل يشير إلى هذا الإنسان أنه هو المصيب وهذا الإنسان هو المخطئ, لا يكون هذا أبداً فحتى معرفة الصواب من الخطأ وتمييز الخطأ من الصواب، وإبعاد الخرافات التي تعلق بالدين, إنما تتم بجهود الناس أنفسهم وبواسطة الأسباب التي يبذلونها.
إذاً فالقضية كلها أيها الأحبة تدور على نقطة يمكن أن نعبر عنها بقضية فاعلية الإنسان, أن يكون الإنسان فعّالاً مؤثراً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن: {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام} لماذا أصدقها حارث وهمام؟ لأن الإنسان لكي يحقق إنسانيته لا بد أن يكون هماماً, أي صاحب هم وهمة, يفكر أن يعمل كذا وكذا, وكذلك هو حارث صاحب حرث لا يكتفي بالتفكير, بل ينتقل من التفكير إلى العمل, فيرفع هذا ويضع هذا، ويشتغل ويقدم ويؤخر ويعمل ما في وسعه.
فالإنسان من أبرز خصائصه أنه فعّال مؤثر صاحب قوة وصاحب إرادة, فرجعت المسألة إلى هذا الأمر، ولكن لا معنى حينئذٍ للتمنيات والأحلام المعزولة عن الفعل, فالإنسان لا بد أن يفعل السبب.
إنسان -مثلاً- يريد الجهاد, هذا الجهاد هم, أولاً: هل عندك هم الجهاد في سبيل الله؟ تقول: والله ما عندي هم للجهاد, هنا نقول: أنت سقطت من أول اختبار, ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم {من لم يغز أو يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق} فهذا يموت على شعبة من النفاق, لأنه حتى الهم غير موجود عنده, ما حدث نفسه بالجهاد, وآخر قال: والله أنا حدثت نفسي بالجهاد وهممت به, نقول: ننتقل إلى السؤال الثاني, أنت نجحت في المرحلة الأولى, وتبقى المرحلة الثانية: هل أعددت للجهاد شيئاً؟ يقول: لا والله ما أعددت شيئاً, مجرد خواطر في النفس, هنا نقول له: كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] .
إذاً كل إنسان يدعي أنه يريد ولا يستعد, فهذا فيه شبه بالمنافقين, يدعون أنهم أرادوا الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد، ومع ذلك ما أخذوا الأهبة ولا الاستعداد.(198/18)
تنقية الدين من الخرافية
من الممكن أن يعلق بالدين خرافات كثيرة, ولعلكم سمعتم في بعض المناسبات أن بعض الناس تحول الدين في أذهانهم إلى خرافة كبيرة, بعضهم صاروا يعطون إقطاعات في الجنة ويمنحون صكوك الغفران, مثلما كانت عند النصارى, وقد ذكرت في إحدى المناسبات، كتاباً مكتوباً أو صكاً مكتوباً من قبل أحد شيوخ الطرق الصوفية, يبيع فيه بستاناً في الجنة على أحد الأشخاص في هذه الدنيا، بستان يحده شرقاً جنة عدن، وغرباً جنة المأوى، وشمالاً جنة الفردوس، وجنوباً جنة النعيم, وشهد على ذلك فلان وفلان والله تعالى خير الشاهدين, وتزعم الرواية أن الرجل الذي اشترى البستان في الجنة، لما مات رآه بعض الصالحين, وكان هذا الرجل الميت يقرأ: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} [الأعراف:44] في حس هؤلاء تحول الدين إلى خرافة, فلكي ينقى الدين من الخرافة, لم يجعل الله عز وجل الملائكة ينزلون ويقولون للناس هذا حق وهذا باطل.(198/19)
ضرورة إيجاد الإنسان الفعال
النقطة الخامسة: ما معنى الفاعلية؟ هنا نجد أن الموضوع رجع وعاد إلى مسألة واحدة, وهي: وجود الإنسان الفعال, فلكي نغير ما بالأمة, من تخلف شرعي وديني أو دنيوي, فإن علينا أن نسعى إلى إيجاد الإنسان الفعال المؤثر, فما معنى كون الإنسان فعّالاً؟ معناه أن الإنسان فيه إمكانيات ومواهب وملكات كثيرة, لا بد من استثمار هذه الإمكانيات والملكات والمواهب فيما يرضي الله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] .
نحن نضرب مثالاً مادياً يدركه الجميع, هذا إنسان عنده مائة مليون ريال فزكاة هذا المبلغ هل هي مثل زكاة واحد آخر عنده عشرة آلاف ريال؟ هل مقدار الزكاة واحد؟ قطعاً يختلف، ويتفاوت بحسب كثرة المال وقلته, هذا أمر كل واحد منا يعرفه, وقد يوجد إنسان ما عنده نصاب, فهذا لا تجب عليه الزكاة, هذا مثال مادي.
لكن عندما ننتقل لمثال آخر معنوي، أكثر الناس يمكن أن يتشكك ويتوقف, هذا إنسان ذكي عبقري مفكر صاحب عقل كبير, وهذا إنسان آخر فيه سذاجة وبساطة وغفلة, هل حسابهم عند الله تعالى واحد يحاسبون بدرجة واحدة؟ لا, كل واحد يحاسب بقدر ما أعطاه الله عز وجل, فالله تعالى يحاسب الذكي بقدر العقل الذي أعطاه, أعطاك الله عقلاً بنسبة (90%) , ماذا صنعت به؟ تحاسب على ذلك, واحد آخر أعطي عقلاً بنسبة (60%) يحاسب على ما أعطي.
مثلما أن صاحب المال الكبير يحاسب بقدر ماله، وصاحب المال القليل يحاسب بقدر ماله, إذاً {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] .
فكر الآن نحن المجموعة الموجودة بالمسجد لو أدرنا استبياناً، ورقة كل واحد منا يكتب ما هي الأشياء التي يمكن أن يعملها, سنجد أن كل عمل في الدنيا فينا من يحسنه، هذا خطاط, وهذا رسام, وهذا خطيب, وهذا داعية, وهذا حافظ, وهذا عنده قدرة واقعية على ربط العلاقات الاجتماعية مع الناس, وهذا عنده تفكير, وهذا عنده اهتمامات علمية شرعية, وهذا عنده اهتمامات وهذا كاتب وهذا وهذا إذاً كل هذه المواهب وزعها الله تعالى علينا وسوف يحاسبنا عليها قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] وهي درجات رفع الله بها بعضنا فوق بعض, هذا أحسن منك في الخطابة, وأنت أحسن منه في الكتابة, وثالث أحسن منكما في المال ينفقه في سبيل الله, وهكذا , وقل مثل ذلك بالنسبة للمجتمع بشكل عام المكون من هؤلاء الأفراد.(198/20)
الفاعلية حصانة للأمة
وجود الفاعلية في الأمة، وكون الأمة مكونة من مجموعة أفراد فعالين مؤثرين ليسوا بسلبيين، وجود هذه الفاعلية هو الحصانة للأمة ضد الانهيار, سواء أكان الانهيار داخلياً أم خارجياً, ولذلك يقول أحد المفكرين الغربيين: إن السبب الحقيقي لأي انهيار؛ سبب داخلي وليس خارجياً، ليس علينا أن نلوم الرياح إذا أسقطت شجرة متآكلة نخرة، وإنما علينا أن نلوم الشجرة نفسها.
فوجود هذه الفاعلية، كون الواحد منا إيجابياً هذه ضمانة وحصانة ضد الانهيار الداخلي, وهي حصانة ضد الغزو الخارجي, سواء كان غزواً عسكرياً أم غزواً فكرياً, ويعجبني في هذا المجال أن أستشهد بما قاله عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما رواه مسلم - لما سمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} قال عمرو بن العاص: أما إنهم على ذلك ففيهم خمس خصال، فذكر خصالهم الخمس وأخيراً قال: {وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك} أي: أن الروم فيهم صفة, وهي أن فيهم امتناعاً عن ظلم الملوك, والغريب أن ما وصفهم به عمرو بن العاص موجود الآن كما نلاحظ في بلادهم، الامتناع من ظلم حكامهم وزعمائهم, لأن فيهم فاعلية وفق عقائدهم ومناهجهم ودينهم, في الشر؛ لكنهم فعالين لا تجد واحداً سلبياً يقول: لا أستطيع!(198/21)
إنسان فعال وآخر غير فعال
يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] , هذا المثل الأول، هذا مثال لإنسان فقد الفاعلية, فما هو فعّال، إنسان سلبي أبكم لا يتكلم, لا يقدر على شيء، مشلول وهو كلٌّ على مولاه, أي أنه عبء على سيده, يحتاج أن يوفر له الطعام والشراب والكساء إلخ، ولا يأتي بخير، أينما يوجهه لا يأتِ بخير, مثل إنسان لا يفهم، ترسله يشتري لك بضاعة؛ يأتيك بأسوأ ما في السوق وبأغلى ثمن, المرة الثانية لا ترسله إلى هذا العمل, تطلب منه شيئاً آخر يفسده عليك, وهكذا , وفي الأخير تقول: لا نريد منه شيئاً نسلم منه، لا نريد منه خيراً، من خيره أن يكف شره عنا، هذا مثال لإنسان سلبي لا يقدم شيئاً.
يقابل ذلك كما قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76] هذا الإنسان الإيجابي الفعال المؤثر، الذي هو في كل شيء أو مناسبة أو طلب، يقول أنا لها أنا لها، بقدر ما يستطيع يشارك، يحرص أن يكون شعاره دائما المشاركة, أي مشكلة تنزل، لا يقول: هذه لا تخصني, بل يشارك فيها بقدر ما يستطيع.
وهذه القضية قضية الإيجابية، أو كون الإنسان فعالاً، قضية ترجع في الأصل إلى جانب فطري، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل {من أكرم الناس؟ والحديث معروف في الصحيحين، قال: الكريم ابن الكريم, ثم قال: أكرم الناس أتقاهم, قالوا: ليس عن هذا نسألك, قال: فعن معادن العرب تسألوني، قالوا: نعم, قال صلى الله عليه وسلم: تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية؛ خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} خذ مثالاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عمر في الجاهلية كان رجلاً قوياً شديداً, فلما جاء الإسلام بقيت القوة والشدة، لكن بقيت في مجال آخر.
ومثلاً: الخوف غريزة عند الإنسان, فالإنسان في جاهليته يخاف من الناس, ويخاف من الموت, والمرض, ويخاف من العدو, ويخاف من الجن, والشياطين, لكن إذا اهتدى وآمن؛ فالخوف باقٍ عنده كغريزة, لكن توجه الخوف لجهة أخرى، فصار يخاف من الله عز وجل, ويخاف من عقاب الله بذنوبه, وما أشبه ذلك, ولا يخاف مما سبق, كذلك قوة عمر رضي الله عنه في الجاهلية، صرفت في الإسلام إلى مجالها الطبيعي الصحيح، وخذ مثل ذلك خالد بن الوليد كان شجاعاً.
وحين تنتقل إلى المجتمع تجد نفس الكلام, المجتمع العربي اختاره الله اختياراً ليكون هو الذي يحمل رسالة الإسلام إلى الناس, لخصائص علمها الله في هذا الشعب كانت تميزه عن غيره, ولذلك فالله عز وجل رد على صنفين من الناس, رد على اليهود الذين كانوا ينتظرون النبوة فيهم, فلما جاءت النبوة في العرب رفضوها وردوها, فالله تعالى رد عليهم وبين أنه أعلم حيث يجعل رسالته، ورد أيضا على العرب الذي انتقدوا بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بالذات، حيث قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] كانوا يعتقدون أن يكون المبعوث رجلاً آخر غير الرسول صلى الله عليه وسلم, لأن مقاييسهم مادية، فرد الله على هؤلاء, وهؤلاء وهذه المواصفات الفردية الإنسانية في الفرد وفي المجتمع، الله تبارك أعلم بها والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته.(198/22)
السلبية وأسباب وجودها
سادساً: لماذا لا نعمل؟ ما سبب فقدان الفاعلية عندنا؟ ودعونا نكون صرحاء، أي واحد منا الآن، لو أتينا بنموذج عشوائي لأي شخص من الشباب الحاضرين, وقلنا ما رأيك بما يجري في الأمة من مصائب ونكبات قريبة أو بعيدة؟ هل لك فيه دور أو سبب؟ يقول: لا، أنا برئ, أنا إن تكلمت لا يسمع لي, وإن قلت لا يسمع قولي, وحتى في بيتي الوالد والوالدة هداهم الله لا يتقبلون مني, زملائي في الفصل يسخرون مني, أصبحت محاصراً وما بقي فقط إلا أن أستعين بالله عز وجل, وإلا في الواقع ليس لي أي دور.(198/23)
الاحتجاج ببعض المفاهيم الخاصة
وأخيراً: إن بعض الناس يهربون إلى الاحتجاج ببعض المفاهيم الخاطئة, مثلاً يقف بعض الشباب عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة} وقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه سعد بن أبي وقاص: {إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي} فيقول: يا أخي نؤثر العزلة والخمول، والبعد عن القيل والقال والكلام, تدعوه أن يلقي كلمة، يخطب في الناس، يتحدث ويعلم ويدرس, يقول: لا يا أخي، دع هذه الأشياء, لأنه وجد نصوصاً فسرها تفسيراً خاطئاً وحاول أن يستخدمها في هذا المجال.
لكنه نسي نصوصاً أخرى تحكم عليه, نسي قول يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] صاحب موهبة لا توجد عند غيره, يعلن عن نفسه أنا أستطيع أن أفعل كذا.
ونسي قول عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه -فيما رواه أهل السنن- وهو حديث صحيح {قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي -لأنه يطلب منصباً دينياً ليس منصباً دنيوياً- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} إذاً لا تأخذ جانباً واحداً أن تؤثر العزلة والخمول وألا يُعْرَفُ الإنسان أبداً، قد يكون في أوقات كثيرة تتطلب أن يشهر الإنسان نفسه, يعلن نفسه ويتكلم ويُعرف, ولا يترتب على ذلك بعض المضار التي يشعر بها في قلبه.(198/24)
التوقف بحجة زمن الفتنة
خامساً: من المهارب التي نهرب إليها: أننا نتوقف بحجة أن هذه أزمنة الفتن, نحن في أزمنة الفتن، وننسى أن الفتنة نفسها هي ثمرة انحراف في الأمة, وإنما جاءت الفتنة بسبب الانحراف في الأمة، ولذلك ما جاءت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا في عهد أبي بكر , ولا في عهد عمر , إنما جاءت في عهود المتأخرين، وكلما تقادم الزمان كثرت الفتن.
إذاً الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا تتصور أنها كمطر السوء، العذاب الذي يمطر على الناس من السماء, بل إن الفتن تخرج من واقع الأمة أيضاً، بسبب أخطاء الناس ومعاصيهم وذنوبهم وظلمهم لأنفسهم تأتيهم الفتن, فإذا نظرنا إلى الفتنة ووجدنا أنها أمر حتمي لا بد منه, بحكم أن الأسباب وجدت, لكن لو نظرنا إلى الأسباب، هل الأسباب التي أدت إلى الفتن وهي الذنوب والمعاصي -حتمية- وكان لابد أن نعصي الله عز وجل؟! كلا، كان بإمكاننا أن نطيع الله عز وجل في ظاهرنا وباطننا، على المستوى الفردي والجماعي والرسمي والشعبي، فنسلم من هذه الفتن, لكن وقعنا في المعاصي، فجرتنا إلى هذه الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.(198/25)
تعطيل الجهود بالكلام
المهرب الرابع الذي نهرب إليه أحياناً: هو تعطيل جهود البناء اليومي القريب، بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة، نعطل بها حركة التاريخ، بدعوى أننا ننتظر الساعات الخطيرة والمعجزة الكبيرة, نحن مشغولون بالأهم, ولذلك لا نبذل ولا جهوداً صغيرة, لعل المثال الذي ذكرته يصلح أيضاً هنا: فلو كان عندك عشرة ريالات، فممكن أن تساهم في حل مشكلة كبيرة للمسلمين في أي بلد, لكن أنا عندي عشرة والآخر عنده عشرة، كل واحد يقول: عشرة لا تساوي شيئاً, هذه تحتاج إلى أمور كبيرة.
ونفس الكلام مع كثير من الناس اليوم عندما تحدثه عن منكر موجود في المجتمع, يقول: يا أخي المجتمعات تحتاج إلى حل جذري, هذه لا بد من وجود قوة تقوم على هذه المنكرات وتزيلها، بخطاب أو بمرسوم أو بجرة قلم مثلاً, لكن دعنا من هذا الكلام العام وهذه الأحلام, لماذا لا نحاول إزالة المنكرات بإمكانياتنا البسيطة وبقدر ما نستطيع؟! ومثل ذلك: القضية التي يدندن حولها بعض الإخوة أحياناً، عندما يأتي بعض الشباب يتكلمون في قضايا فرعية، منكرات، مثلاً: مثل شاب عنده معصية، إما في طول ثوبه, وإما في شعره, أو سماع الغناء, أو شرب الدخان, المنكرات القريبة الموجودة المتداولة، التي قل من يسلم من بعضها, يأتي إنسان يتكلم في بعض هذه الأشياء, يأتي آخر يقول: يا أخي الأمر أعظم من ذلك، أنت مشغول في هذه الأمور البسيطة.
والأمر الأعظم من ذلك, إذاً الأمر الأعظم هو قضية الإسلام والمسلمين ومصائبهم ومشاكلهم وبلاياهم، ويبدأ يسرد لك سلسلة من آلام المسلمين.
نحن لا نعارض، نحن نقول: من لم يتألم لآلام المسلمين فلم يحقق الإسلام الحقيقي, لأن المسلمين كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص, لكن هذا الإنسان الذي صرفك عن الاشتغال بقضية جزئية في وقت محدد, هل دفعك فعلاً إلى الاشتغال بالقضية الكبرى؟ أم شغلك عن هذا الأمر اليسير، ثم جعلك لا تعمل شيئاً، بحجة أنك تفكر بالمعجزة الكبيرة، وأنك مشغول بالأهم.(198/26)
تسهيل الأمور
ثالثاً: ننتقل بعد ذلك إلى العكس, يأتي واحد ويقول: لا يا إخوان، ليست المشكلة بهذه الخطورة, ولا بهذا التعقيد, ولا بهذه الضخامة, ويبدأ يبين لنا أن المشكلة لها حلول، فإذا استأنسنا مع كلام هذا الإنسان، أخذنا الموضوع إلى الطرف الثاني, تقول: إذاً الموضوع بسيط لا يحتاج حلاً, ما دام أن الموضوع بهذه الصورة, هو أبسط من أن نشتغل فيه.
إذاً الموضوع إما أن يكون خطيراً لا نستطيع التفكير فيه, وإما تافهاً بحيث لا يحتاج إلى أن نفكر فيه, ولذلك تجد الإنسان متفائلاً أكثر من اللازم أحياناً, تذكر له مصائب الناس ومشاكلهم، يقول: أمة محمد صلى الله عليه وسلم بخير، إذاً الواقع بناءً على ذلك لا يحتاج إلى عمل.(198/27)
أسباب وجود السلبية
لماذا توجد هذه السلبية عندنا؟ هذه مسألة تطول ولكن أذكرها باختصار:(198/28)
تحميل الآخرين الأخطاء
السبب هو: أننا دائماً نؤثر الدفاع عن أنفسنا, وأننا دائما على صواب, وأن نحمل التبعة غيرنا، وأحياناً نحتج بالقدر, وأحياناً نحتج بالماضي, وأحياناً نحتج بالمجتمع, وأحياناً نحتج بالشيطان، أن هذا من فعل الشيطان إلى غير ذلك, وقضية المسئولية هذه تكلمت عنها في محاضرة مستقلة عنوانها: "نحن المسئولون"، يمكن مراجعتها في هذه النقطة.
إذاً نحن دائما نتبرأ من المسئولية وندافع عن أنفسنا, ونلقي باللوم على غيرنا, أحيانا نلقي باللوم على العلماء, أو على الحكام, المهم أن نخرج نحن من الدائرة أبرياء, وبعد ذلك لا يهمنا من المسئول.(198/29)
تهويل الأمور وتضخيمها
النقطة الثانية التي تجعلنا لا نعمل: هي أننا -أحياناً- نهول الأمر بحيث يبدو أن هذا الأمر وكأنه فوق الحل, عندنا مشكلة فتجد أننا نبالغ في وصف المشكلة وتضخيمها وتعقيدها وتشابكها, حتى يخيل إلينا أن هذه المشكلة ليس لها حل, إلا من عند الله عز وجل، فهي معقدة والبشر لا يملكون حلها, إنما ننتظر الحل من عند الله عز وجل! وهذا ينم عن وجود تشاؤم عند الناس أو عند بعض الناس, يقول الزم بيتك ودع عنك هذه الأمور, وهذه لا حل لها, مشكلة ليس لها من دون الله كاشف.
إذاً العمل غير مجدٍ ولا فائدة منه, لماذا يقول هذا؟! لأنه لا يريد أن يعمل.
المسلم -للأسف الشديد- تعود اليوم على الكسل, أي شيء يخلصه من العمل يحرص عليه بكل وسيلة, فمن الوسائل أن يلقي بالتبعة على غيره, ومن الوسائل أن يضخم الأمر حيث يبدو الأمر فوق الحل.
مثال بسيط -إنسان صار عنده أزمة اقتصادية, وفشل في مشاريع, أو جمع أموالاً في الخير وضاعت عليه… إلخ, المهم تحمل (حمالة) وصار عليه مبالغ طائلة ملايين كثيرة, أراد أن يجمعها وجاء إليك، أنت حينئذٍ تضخم المشكلة عند هذا الإنسان، بحيث أن المبلغ كبير ولا يكفي المبلغ الذي أملكه, إذاً فالموضوع فوق الحل, ادع الله عز وجل، لكن إذا جاء أمر خارق للعادة، أمر غير متصور يحل لك هذه المشكلة، إذا نحن نهول الأمر.
وقل مثل ذلك في مشاكل الأمة العامة, المشاكل العسكرية, والتخلف الصناعي إلخ, نهولها إلى حد أنه ليس لها حل.(198/30)
علاج السلبية
ما هو الحل؟ وهذا هو بيت القصيد، كيف ننتهي من هذه السلبية؟ وكيف نغير هذا الواقع؟ هناك عدة مراحل وعدة نقاط: وضع أقدامنا على الطريق الصحيح: أولاً: المطلوب البدء وليس النهاية، هذه قضية يجب أن تكون واضحة في أذهان الشباب، ليس المطلوب أننا ننهي مشاكل المسلمين، لأن مشاكل الأمة لا تنتهي بجرة قلم، إنما المطلوب البداية أو أن نطمئن أننا وضعنا أقدامنا في الطريق الصحيح، وهناك مثل يقول: " رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة ".
خذ مثالاً: قضية الربا؛ اليوم يقوم عليه اقتصاد العالم كله، فهل تتصور أنت، أن قضية التخلص من الربا تتم بقرار؟! ليس كذلك بالضرورة لكن يكفيني أن أطمئن إلى أن هناك نواة لبنوك شرعية لا ربوية بدأت توجد؛ لأنني أثق حينئذٍ أن البنوك الأخرى ستغلق أبوابها لأنه وجد البديل الصحيح، وكل مسلم لا يمكن أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويترك الحلال إلى الحرام.
مثل آخر: القضايا الإعلامية والمواد الإعلامية، الإعلام في العالم الإسلامي كله، إعلام -بلا شك- ليس على مستوى الإسلام ولا على مستوى المعركة التي يعيشها المسلمون، إذاً كيف التخلص؟ مجرد قرار لا يكفي ولا يحل المشكلة، إذاً القضية تبدأ من خلال خطوات معينة، فأنا حين أطمئن إلى أنني بدأت بتقديم مواد إعلامية صحيحة للناس، أطمئن إلى أنه مع ازدياد هذه المواد واتساعها، تملأ الساحة حتى تغنى عما سواها، وهذا الكلام من الممكن أن يقال على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي، بشرط: عدم ربط أحدهما بالآخر، بمعنى أنه لا يجوز أن نرجع مرة أخرى ونضيع القضية بيني أنا وبينك، أنا لا أعمل شيئاً، لماذا تقول: لا أعمل شيئاً؟ أقول لأنه لا توجد فائدة: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم أنا فرد في مجتمع وأنا ترس في آلة، وما دام أن المجتمع كله ضدي! أنا لا أعمل شيئاً، فصرت أجلس وأعلق المسئولية على المجتمع بوسائله وقنواته المختلفة.(198/31)
خطوات علاج الأمة والرفع من قيمتها
إن المجتمع من خلال مؤسساته وقنواته ووسائله لا يعمل شيئاً، لماذا لا تعملون؟ لماذا لا تغيرون؟ لماذا لا تعدلون وتصلحون؟ قالوا: والله يا أخي هذه حاجة الناس وهذه رغبة المواطنين، هذه خطابات وهذا كذا، الناس يريدون هذا المنكر أن يبقى.
إذاً لا يجوز أن تضيع القضية بين الفرد وبين المجتمع، بين الأمة وبين أفرادها ومؤسساتها، بل ينبغي أن نقول: الفرد يجب أن يعمل، والمجتمع بمؤسساته وقنواته وأجهزته التعليمية والإعلامية وغيرها يجب أن يعمل، ولا نربط أحدهما بالآخر، وفي حالة وجود تقصير من أحدهما لا يعذر هذا، ولا يبرر للآخر أنه يقصر فيما عليه، الخطوات تقريباً ست خطوات التي اقترحتها، ومن الممكن أن تساهم في حل هذه المشكلة التي يعانيها المسلمون:(198/32)
إعداد رجل العقيدة
النقطة الخامسة: إعداد رجل العقيدة، لأن القيادة هذه، تحتاج إلى جمهور وتحتاج إلى جنود وأتباع، فهنا نحتاج إلى رجل العقيدة، ورجل العقيدة باختصار: هو الذي أصبحت العقيدة همه، فإذا استيقظ يعمل من أجل العقيدة، وإذا نام فأحلامه تدور في قضية العقيدة، أصبحت الفكرة همه، تقيمه وتقعده، وهى منطلق حركته ونشاطه، ليست القضية مجرد كلام في مجالس أحاديث، قضية هم، هل أنت تحمل هم الإسلام؟ هل تتقلب على فراشك عند النوم؛ حزناً على ما واقع المسلمين؟ هل كلما فكرت في نفسك في أي حال كنت، وجدت أنك تفكر في أوضاع وأحوال المسلمين في كل مكان؟ أم أن القضية لا تشغل عندك حيزاً من الفراغ.(198/33)
ترتيب الأولويات في كل شيء
النقطة السادسة: قضية ترتيب الأولويات في كل شيء، مثلاً في القضايا الشرعية وغير الشرعية، هناك أمور ضرورية بالدرجة الأولى، تأتي بعدها أمور حاجية وبعدها تحسينية، فلا بد من ترتيب الأولويات، ففي المجال الشرعي مثلاً العناية بتوجيه الهم للأصول الشرعية وبيانها وبيان ما يتعلق بها، لا شك أنه أولى من العناية ببيان الجزئيات والسنن والمكروهات، وهذا لا يغني عن الاشتغال بهذا، تشتغل بهذا وذلك، ولكن تعطى كل شيء بحسبه، هذا لا بد منه في المجال الشرعي.
وحين تنتقل إلى المجال الدنيوي، تجد الكلام نفسه -فمثلاً- في عالم الصناعات، هل الأمة التي تريد أن تبدأ بالتصنيع، مطلوب منها أن تبدأ بتصنيع -مثلاً- الآلات الموسيقية وأدوات التجميل؟ أم مطلوب منها أن تبدأ بالضروريات بالتصنيع الحربي، التقنية العسكرية، التي تحتاج إليها، في وجودها وقوام حياتها ومدافعة أعدائها؟ لاشك أنها تبدأ بالضروريات، وهناك أشياء حاجية، وهناك أمور تحسينية مخالفة للشرع أصلاً لا يجوز البداءة بها، ولا التفكير بها أصلاً.
إذاً الأمة التي تبدأ بأمور الترف تكون انتهت من حيث بدأت، وقتلها الترف قبل أن توجد، لأن الترف يوجد في النهاية، لأن الأمة تبدأ قوية وبعد عشر سنين أو مائة سنة أو مائتي سنة يبدأ الترف يدب إليها ثم يقتلها فالترف يكون في النهاية وهو قاتل.
فما بالك بأمة تبدأ بالترف؟ هذه أمة حكمت على نفسها بالزوال قبل أن توجد، لا يمكن أن تكون البداية بالترف، ولكن لابد من الجدية والأمور الضرورية اللازمة.
نرجع في النهاية ونقول يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118] .
التغيير يبدأ من عند الإنسان، والحمد لله رب العالمين.(198/34)
من يغير هذا الواقع
النقطة الثالثة: القناعة بأن هذا التغيير للواقع يمكن أن يتم على يدي ويدك، وأني أنا وأنت، والثاني والثالث بإذن الله تعالى وعونه نستطيع أن نصنع شيئاً كثيراً، بمعنى: أن بعض الناس مقتنع أن الواقع فاسد -واقع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها فاسد، ومقتنع أن هذا الواقع للمسلمين يمكن أن يغير، لكنه يقول: ليس أنا ولا أنت يمكن أن نغيره، لكن ننتظر جيلاً قادماً، وقد ذكرت في بعض المناسبات، أن هناك مثلاً عجيباً يقول: "المشكلات التي يعيشها جيلنا الحاضر هي من إنتاج الجيل السابق، وسوف يحلها الجيل اللاحق".
إذا نحن خرجنا من المسئولية، مشاكلنا هذه موجودة في الماضي، وإن شاء الله تحل في المستقبل، أما نحن فمتفرجون.
إذا لابد أن يكون عندك قناعة بأن هذا التغيير يمكن أن يتم على يدي ويدك كلٌّ بحسبه، تغير في نفسك أولاً، أول شيء غير في نفسك، حتى يغيروا ما بأنفسهم، غير بيتك، غير الحي الذي أنت فيه، غير البلد الذي تعيش فيه، والتغيير لا يتم في يوم وليلة وتختفي المنكرات، ويكون كل الناس في المساجد يصبحون عباداً وزهاداً صالحين، ليس هذا بالضرورة، هذه أمور بالتدريج والأسباب كما ذكرت من قبل.(198/35)
وجود القيادة الربانية
النقطة الرابعة: ضرورة وجود القيادة الربانية، التي تملك الصدق والشجاعة وتضرب المثل للناس، لأن الناس في الغالب مقلدون، وهذا كلام إلى حد ما حق، الناس مقلدون، فلو سألناك -مثلاً- البيت الذي بنيته على أي أساس فصَّلت البيت، ووضعت تصميمه وتخطيطه؟ ما ابتكرت تخطيطاً من عند نفسك، إنما وجدت الناس يصنعون شيئاً فصنعت مثلهم، الثياب التي تلبسها -سواء الرجل أم المرأة- على أي أساس لبسها، واختار هذا القماش وفَصَّل، إنه لم يبتكر شيئاً من عنده، إنما وجد الناس وفعل مثلهم، فغالبية الناس مقلدون، ولذلك بعضهم يدور حول بعض، وتنتشر بينهم العادات سواء حسنة أم قبيحة.
فما أحوج الناس خاصة في هذا العصر إلى قيادة ربانية تملك خصالاً من أهمها: الصدق والشجاعة، قد يوجد إنسان صادق لكنه جبان والجبان لا يعمل شيئاً، قال الشاعر: يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك سجية الطبع اللئيم فالجبان لا يصنع شيئاً لأنه خائف فالناس حينئذٍ يصرفون النظر عنه، والآخر قد يكون شجاعاً، لكنه شجاع بالباطل، فهذا أيضاً لا ينفعنا ولا يغنينا شيئاً.(198/36)
القناعة بانحراف الواقع
النقطة الأولى: القناعة بانحراف الواقع، لأن الإنسان الذي يقول عن الواقع: ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم بخير، وأمورنا الآن على ما يرام، هذا ليس فيه فائدة، لأنه لا يغير واقعاً، يرى أنه جيد، هذا بالعكس يقول: الحمد لله عسى أن يبقى الواقع كما هو، إذاً لابد أن يكون الإنسان الذي يفكر بتغيير الواقع، وبتغيير نفسه مقتنعاً أن الواقع منحرف يحتاج إلى تغيير.(198/37)
الاقتناع بإمكانية تغيير الواقع
يلي ذلك نقطة ثانية: وهي أن يكون مقتنعاً بإمكانية تغيير الواقع قد يأتي إنسان يقول لك: الواقع والعياذ بالله فيه كذا وكذا، ويقدم لك تقريراً أسود عن فساد الواقع، مما هو صحيح وليس بصحيح، وقد يكون فيه بعض المبالغات وبعض الحق، ثم بعد ذلك تقول: ماذا تريد أن تعمل؟ يقول لك: أبداً ليس في الإمكان أن أعمل شيئاً، ولا مجال للإصلاح، ولابد أن ننتظر إما عذاباً من السماء أو الساعة أو الدجال …إلخ، فالذي ليس لديه قناعة بإمكانية تغيير الواقع هذا نسقطه من الحساب أيضاً.(198/38)
الأسئلة(198/39)
مصاحبة الإيذاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
ما رأيك بالذي يكون لديه حرقة في داخل نفسه، لكن لا يستطيع أن يفعل شيئاً، وإذا فعل شيئاً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوذي وسكت عن فعله، ماذا يكون دوره إذن؟ أرجو الإجابة!
الجواب
علينا أن نلغي كلمة: (لا يستطيع أن يعمل شيئاً) هذه يجب أن نلغيها من قواميسنا، هو يستطيع أن يفعل شيئاً، والدليل: أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأوذي وهذا طبيعي، فالذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعتقد أنه لا يؤذى فهو واهم.(198/40)
النصر الرخيص
السؤال
ذكرتم في مقدمة كتاب البشائر، جملة أرجو شرحها وهي نصاً: (النصر الرخيص لا يجئ وإن جاء لا يدوم) ؟
الجواب
نعم النصر الرخيص لا يأتي، أي أن النصر الذي بدون جهد وبدون تحصيلٍ للأسباب، هذا لا يأتي، وإذا جاء فإنه مؤقت لا يدوم ولا يستمر بل يزول.(198/41)
تنمية الشعور بهمِّ الإصلاح
السؤال
كيف نستطيع تنمية الشعور بهم الدعوة الإصلاح؟
الجواب
أولاً: نم هذا الشعور في نفسك، لأنه إذا نما في نفسك فإنه سوف ينمو في جلسائك بالعدوى، العدوى الطيبة، فالأمور الطيبة تعدي، مثلاً طالب علم في مجالسه وفي حديثه وفي دروسه يحاول أن يضرب على هذا الوتر، يحرك همم الناس وعواطفهم، ثم هم يحركون هذا في غيرهم، وهكذا ينتشر الأمر في الأمة.(198/42)
جهاد المنافقين قبل جهاد الكفار
السؤال
إني أحبك في الله، وأنا شاب أريد أن يرزقني الله الشهادة في سبيله، قد حدثت نفسي بالجهاد، عمري (17) تقريباً، إذا قلت لأهلي عن الجهاد؛ لم يأخذوا كلامي، لأنهم يعتبرون أني صغيراً، والحمد لله دفعت بعض الأموال للمجاهدين؟
الجواب
أنا أرى أن مجرد الهم في نفسك هذا أمرٌ مما نريد، هذا نريده نحن، نريدك ونريد أمثالك ممن يحبون أن يرزقهم الله الشهادة، لكن ينبغي أن لا يكون همك فقط أن تذهب إلى أفغانستان لتموت هناك، فكر لعل الله أن يرزقك الشهادة -إن شاء الله- بعد ثمانين سنة تقضيها كلها في جهاد المنافقين، جهاد أعداء الله، في نشر العلم والتعليم والدعوة، أليس هذا هو أفضل؟ ما رأيكم أيهما أفضل: أن واحداً يموت وعمره (17) سنة شهيداً، أو أن يموت وعمره (80) سنة شهيداً، بعد ما أمضى ثمانين سنة في الدعوة إلى الله والإصلاح والتعليم وبذل ما يستطيع، لا شك أن الآخر أفضل، فاحرص على أن تكون الثاني وإن كانت الأمور بيد الله تعالى.(198/43)
أنواع إعداد العدة
السؤال
كيف يكون إعداد العدة في الوقت الحاضر؟
الجواب
العدة في كل شيء، على الأقل الإعداد المعنوي والإعداد النفسي، الإعداد النفسي هذا من العدة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التدرب على إزالة الهيبة والخوف والرهبة، حتى العدة بالعلم والعمل والعبادة والتقوى وكل هذا من العدة، كذلك من العدة تدرب الإنسان على الأسلحة وفنون التسليح.(198/44)
أنواع الجهاد
السؤال
هل الجهاد مقتصر على النفس؟
الجواب
الجهاد شامل، الجهاد بالنفس، الجهاد بالمال، والجهاد باللسان، كل ذلك من الجهاد.(198/45)
البداية الصحيحة وترك العجلة
السؤال
أخبركم بما يجول في عقول كثير من الشباب، من الرغبة في الدعوة والجهاد في سبيل الله، لنصرة دين الله، ولكن أين السبيل والطريق؟ والكل ينادي بذلك ويوهمك أنه يسعى إلى تحقيق ذلك، ولكن من يصدق قوله عمله؟ هذا ما يحيرني ويحير كثيراً من الشباب، فما هو الحل السليم لتلك الأعمال، واختيار الطريق الصحيحة؟
الجواب
أعتقد أن سبب هذه الحيرة التي عبر عنها الأخ، يعود إلى قضية موجودة عندنا وهي: أننا متعجلون.
المشاكل يا أحبتي، والأمراض الموجودة في الأمة منذ مائة سنة ومائتي سنة، لا تُزَالُ بين يوم وليلة، والنصر لن يأتي بيوم وليلة أبداً، لكن ينبغي أن ترجع إلى السؤال الذي طرحته أثناء المحاضرة، وهو: هل بدأنا أم لا؟ والله لا يؤسفنا، لو لم تأت النتائج إلا بعد خمسين سنة، إذا اقتنعنا أننا بدأنا بداية صحيحة وبتفكير منطقي سليم، وبدأنا بالأمور المهمة وأعطينا كل ذي حقٍ حقه، وكل إنسان عرف دوره، وكانت هناك جهود متظافرة يكمل بعضها بعضاً، بذلك نطمئن.
لكن المصيبة إذا كانت أعمالنا كلها عشوائية ارتجالية، مثل ما يقول المثل العامي: (مثل حرث الجمال، يطأ بعضه بعضاً) هذا يهدم ما عمل ذاك، وهذا يقوم ضد هذا، وهذا يعمل بطريقة وهذا يعمل بطريقة أخرى، فالأمور كلها أمور ارتجالية، هذه المشكلة، المهم كيف نبدأ، فإذا بدأنا بعد ذلك لا يضر، فلا تأتي الأمور بيوم وليلة، لا تعتقد أن الفرج يأتي اليوم أو غداً، الأمور بيد الله عز وجل.
والحمد لله رب العالمين.(198/46)
الاتجاه إلى العلوم غير الدينية
السؤال
مع حاجة الأمة إلى ما يغنيها عن أعدائها؛ إلا أن هناك من يصرف الشباب عن العلوم التجريبية، وأنا لا أعلم إلا العلم الشرعي، وأنه لا علم إلا العلم الشرعي؟
الجواب
هذا من الأخطاء، فالأمة محتاجة إلى كل العلوم المباحة التي تحتاج إليها في دنياها، ويجب أن يتجه من الأمة من تقوم بهم الكفاية.(198/47)
واجب الفرد
السؤال
نرى في أمتنا الخور والضعف ونرى هذا بأعيننا، ما واجب المسلم بصفته فرداً ليس بيده شيء؟
الجواب
واجبه أولاً: أن يقتنع أنه ليس بصحيح هذا الكلام، أنه ليس بيده شيء، بل بيده شيء وبيدك أن تعمل، وبيدك أن تدعو، وتفكر، وبيدك أن تحل ما يتعلق بك شخصياً -فأنت جزء من الأمة- وما يتعلق ببيتك وبزملائك، وتبذل ما تستطيع، وإياك إياك أن تكون سلبياً تقول: ليس بيدي شيء.(198/48)
النعيم للمؤمن في الدنيا
السؤال
ذكرت أن النعم والصحة بسبب الطاعات والأعمال الصالحة، فكيف اتفق ذلك مع الآيات التي في سورة الزخرف {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف:33] ؟
الجواب
الكلام في هذا الموضوع يطول، لكنني أقول كما قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] وقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] والكلام في هذا الموضوع يطول يحتاج إلى درس خاص، وأعتقد أني سبق وأن تحدثت عن هذا أيضاً.(198/49)
بداية التغيير
السؤال
نريد أن نعرف كيف نكون فعالين في مجتمعنا الإسلامي، ونحب أن نكون دعاة للإسلام؟
الجواب
هذا السؤال جميل، والله يا إخواني أعظم شيء نفخر به ونفرح هو أن ترد مثل هذه الأسئلة الكثيرة؛ لأن مجرد السؤال يدل على أننا نريد أن نصنع شيئاً، وهذا بحد ذاته بداية طيبة، معناه أننا بدأنا: بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم وفينا الكرامة مهجورة كمحصنة لوثتها التهم وفينا وفينا، لكننا بدأنا.(198/50)
الاستفادة مما لدى غيرنا
السؤال
لقد تكلمت عن الحماس الذي أداه ذلك الرجل الياباني، ونحن نشاهد الشعب الياباني لديه حماس عجيب في المنافسات الصناعية، مع ما عملته فيهم الحرب، وأما المسلمون فلا نجد فيهم ذلك مع كثرة الكتب والخطباء والدعاة، فما هو السبب؟
الجواب
السبب والله تعالى أعلم: أن اليابان الآن أمة فتية، بدأت من الصفر، وبدأت من جديد، مع أنها ضربت بالقنبلة الذرية وحطمت؛ لكنها بدأت بداية جيدة، والآن تنافس في التقدم العلمي والصناعي بشكل جيد، وقد استطاعت، كما قال مالك بن نبي رحمه الله: في البداية أن تكون تلميذاً للتقدم الغربي، أما نحن المسلمين ما استطعنا أن نكون تلميذاً للتقدم الصناعي، وإنما استطعنا أن نكون زبائن، وفرق بين التلميذ والزبون، التلميذ تلميذ اليوم وغداً يصبح مدرساً، ولكن الزبون يظل زبوناً.(198/51)
تغلب الأمة على أعدائها عبر التاريخ
السؤال
ما رأيكم بمن يجلب اليأس بالتخاذل لنفسه وللناس في هذه الأزمة، أرجو أن تناصحونا وتعطونا الحل الناجع لهذا المرض؟
الجواب
مساكين نحن يا إخوان، نظن أن الأمة أزمتها هي الأزمة التي نعيشها الآن، بل إن الأمة مرت بأزمات كهذه كثيرة، هذا تاريخ الأمة، هذا قدر الأمة منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في مصاولة ومجاولة ومناولة مع الأعداء، إذا خرجت من معركة دخلت في معركة أخرى، هذا تأريخ أمتنا، ونقول: الأزمة هذه وما سبقها هي بإذن الله تعالى بداية العافية للأمة، لأنها التحدي الذي سوف يثير الاستجابة في نفوسنا، سوف يحرك الأمة إلى أن تفكر كيف تخرج من هذه الأزمات، كيف تحل مشاكلها، كيف تتغلب على أعدائها، كيف تستغني عن أعدائها، وهذه بداية الحل، لكن علينا ألا نيأس.(198/52)
متى نستحق النصر
السؤال
هل نحن بواقعنا المعاصر أهل لنصرة الله عز وجل مع وجود المعاصي جهاراً بيننا؟
الجواب
لا شك أن الله عز وجل يؤتي النصر من يشاء، ومن يستحق، ومن العجيب: أن الله عز وجل لما ذكر النصر عبر بتعبير لو فكر الإنسان فيه لوجد العجب العجاب، قال الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] ثم بيَّن من هم الذين ينصرون الله، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] ونكون أهلاً للنصر إذا علم الله أننا إذا انتصرنا ثبتنا وصبرنا ووفينا، وإلا فقد تجد إنساناً يصوم ويصلي ويدعو، لكن لو نصره الله عز وجل لخان الأمانة، وتراجع وانخذل، فهذا لا يعطيه الله سبحانه وتعالى النصر.(198/53)
وجود أسباب النصر الكافية
السؤال
نحن أمة فينا التقي المصلح وفينا المفسد، ويوجد بعض الصحوة التي نحن بحاجة إلى إنمائها، السؤال: هل يوجد عندنا أسباب النصر الكافية، علماً أننا بحاجة إلى سنين للدعوة إلى إصلاح الأمور، وابتلينا بحرب على الأبوب؟
الجواب
لا شك أنه لا توجد أسباب نصر كافية عندنا، لكن يجب أن نسعى إلى تحصيلها.
وفي الواقع أن الله عز وجل إذا كتب للأمة العز والتمكين؛ فإنه ربما تأتي العافية بأقل مما نتصور، إذا بدأنا بداية صحيحة فإن الله عز وجل يقيض لنا إمكانيات وقوى لا تخطر لنا على بال، لكن المشكلة حتى الآن أننا لم نبدأ بداية صحيحة، أعمالنا كلها أعمال ارتجالية عشوائية غير مدروسة، نعمل لكن أعمالاً مرتجلة.(198/54)
التغيير الفعلي
السؤال
أخي في الله، ألا تعتقد أن من أولويات التغيير في نفوسنا؛ تغيير مراكز القوى في نظرتهم للواقع، وقيادة الشباب للتغيير الفعلي، بدلاً من التسويف والتعليق على شماعة عدم إثارة الفتن؟
الجواب
نعم هو كما ذكرت بارك الله فيك، نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته.(198/55)
الدعوة في الأماكن المختلفة
السؤال
أعيش في بلد معظم سكانه من المسلمين، الذين تجد لديهم حمية للدين، حتى لو لم يؤثروا ذلك، لكن الذين يتقلدون أزمة الأمور في ذلك البلد ينتمون إلى الإسلام اسماً والله أعلم بما يعملون، ويصعب أن يظهر الإنسان دعوته خوفاً من هؤلاء، فما السبيل إلى الدعوة مع مثل هؤلاء؟
الجواب
إن الإنسان يستطيع أن يدعو في كل مجتمع، وفي أحلك الظروف وأسوأ المجتمعات تستطيع أن تدعو إلى الله عز وجل، لكن عليك أن تفكر بماذا تبدأ وكيف تبدأ وأين تبدأ؟ فكر بهذه الأسئلة.(198/56)
مفهوم التضحية
السؤال
نسمع بالتضحية فما هي؟
الجواب
التضحية هي أن يبذل الإنسان نفسه أو ماله في سبيل الله عز وجل.(198/57)
من أنواع التضحية
السؤال
كيف يضحى الإنسان؟
الجواب
يضحي الإنسان بحسب الحال وبحسب ما يملك، قد يضحي بالوقت، قد يضحي بسمعته في سبيل الله عز وجل، ومكانته عند فلان أو علان، وقد يضحي بماله وقد يضحي بنفسه.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود(198/58)
إلغاء المستحيل
السؤال
كيف يكون الإنسان فعالاً؟
الجواب
يكون فعالاً بأن يعمل أي شيء، يلغي من قاموسه كلمة (لا أستطيع) أو كلمة (مستحيل) هذه يضرب عليها، ويضع بدلها كلمة حاول، هكذا يستطيع أن يكون فعالاً.(198/59)
التقصير في العبادة بسبب الانشغال بالدعوة
السؤال
قد يكون للإنسان نشاط في مجالٍ معين ويفيد في مجتمعه، لكن مقابل ذلك يحصل تقصير من ناحية نفسه من ناحية عبادته وزاده الروحي، ومهما حاول التوفيق لا يستطيع فما هو الحل؟
الجواب
ابذل ما تستطيع في تقويم نفسك، وتزويد نفسك بالزاد الروحي والعبادة، وإذا حصل تقصير، بسبب انشغالك في الدعوة إلى الله وإصلاح أمر الناس، فلا تأسَ على ذلك؛ فإن النفع أو العمل المتعدي أعظم أجراً من العمل اللازم، أي: العمل الذي للناس أعظم أجراً من العمل الذي يخصك، فالذي يشتغل بالتعليم والدعوة والإصلاح أعظم أجراً من الذي يشتغل بالعبادة.(198/60)
دعوة الكفار
السؤال
أنا أعيش ساعات الدوام الرسمي في مستشفى وهو مقر عملي، لكني لا أتكلم الإنجليزية، فكيف أدعو الكفار إلى دين الله، وهل عليّ دور في دعوة النساء الكافرات، وما رأيكم في أشرطة الكاسيت والفيديو الدينية، أرجو إفادتي؟
الجواب
نعم يمكن أن تستفيد من الأشرطة في دعوة هؤلاء، وبعض النشرات والمطويات المفيدة التي تطبع وتوزع من خلال مكاتب الجاليات وهي موجودة في عنيزة وغيرها، تدعوهم بواسطتها، كما أنك تدعوهم إلى الله عز وجل بالخلق الحسن، وبالقدوة الحسنة وبالإخلاص في عملك، وأنت مطالب أن تدعو جميع هؤلاء بقدر ما تستطيع.(198/61)
عدم منع الابن من الذهاب للإعداد
السؤال
لي ابن يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة يرغب في الذهاب إلى التدريب في الأفغان، فهل يحق لي منعه من الذهاب؟
الجواب
أبداً لا تمنعه من الذهاب، ولماذا تمنعه؟ هل تريد أن ينشأ شاباً يخاف من ظله، ويفرق من كل شيء، دعه يتربى على معاني الرجولة والفداء، وإن قتل شهيداً في سبيل الله فهذا خير لك، فالشهيد يشفع لسبعين من أهل بيته.(198/62)
التنظير بدون عمل
السؤال
كما نرى ونسمع أن الأمة تمر بأزمات مختلفة، ما رأيكم بمن همه التحدث عنها وليس مقصده الحل والعمل؟
الجواب
هذه من المشكلات كما قلت في أثناء الكلمة أن كثيراً من الشباب أصبح منظراً، كأنه مفكر كبير أو فيلسوف، يذكر لك الأسباب والأحداث والخلفيات والنتائج والتحاليل، لكن ماذا فعل؟ لا شيء.(198/63)
إلقاء المسئولية على الآخرين
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول لن أغير إلا إذا كبرت وصار لي مركز، أو لا أستطيع أن أغير إلا إذا كنت عالماً وكان عندي علم؟
الجواب
المشكلة أن هذه هي قضيتنا وهذا عيبنا، أنا تكلمت عن هذا، لكن لا أدري ربما بسبب العجلة لأنني استطلت الموضوع، وخشيت أن ينتهي الوقت قبل أن أنتهي؛ فربما ما بينت الأمور بشكل كامل، فهي مشكلتنا الأساسية، أنه عندما تأتي إلى أي مستوى تجده يلقى باللوم على غيره، تأتي مثلاً إلى الشاب المتدين يقول لك: يا أخي هذا على طلبة العلم، تأتي إلى طالب العلم يقول لك: يا أخي هذا على العلماء، تأتي إلى بعض العلماء، يلقي بالمسئولية على من هو أعلم منه، وقد تأتي إلى الأعلم فيلقي بالمسئولية على الحاكم وهكذا، فلم تعد هناك مسئولية إذاً وهذا خطأ، إن كل واحد منا مسئول.(198/64)
طلب المنصب للدعوة
السؤال
كيف يمكن أن نجمع بين أن أتولى منصباً أو مركزاً لكي أقوم بالدعوة إلى الله، وبين أن الإنسان إذا طلب منصباً وكل إليه؟
الجواب
الواقع أن الإنسان إذا طلب الشيء لذاته من أجل الدنيا فإنه يوكل إليه، أما إذا طلبه للآخرة فإنه يؤجر على ذلك، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنكر على عثمان بن أبي العاص لما قال: اجعلني إمام قومي؛ لأنه طلب منصباً دينياً شرعياً لوجه الله عز وجل، ما كان يأخذ راتباً أو أي شيء، أو ينتظر أن يثني الناس عليه، وإنما قصده أن ينال الأجر.(198/65)
الاشتغال بالفرضيات
السؤال
أنت قلت: يجب أن لا ننشغل بالأمور الكبيرة عن الصغيرة في الإسلام، فما رأيك في قول أحد الأفاضل والمسلمون يقتتلون حولهم: إذا نبتت للمرأة لحية هل تحلقها؟
الجواب
على كل حال أقول: لا شك أن المسلمين ينبغي أن يعطوا كل ذي حقٍ حقه، ولا شك أن الاشتغال بالفرضيات غير لائق، خاصة في مثل هذه الظروف التي نعيشها.(198/66)
التقاعس عن القيام بالدور المطلوب
السؤال
ما رأيك بمن لديه قدرات ومواهب، ويستطيع أن يقود الشباب بإذن الله ويتقاعس عن ذلك بحجة أنه ليس أهلاً لذلك؟
الجواب
هذا ممن قصدتهم بمثل هذا الحديث، وبمثل هذه المحاضرة، وطالما عانت الأمة من مثل هذا الأمر، من هذا الزهد البارد، الزهد العجمي الميت، الذي يؤثر الخمول والعزلة والبعد عن الساحة، بحجة أنه ليس أهلاً وأن هناك من هو أكفأ منه، يا إخواني آن الأوان، ليس بعد هذا شيء، عليك إن كنت شاعراً أن نقرأ قصائدك الجميلة في دواوين، وفي مجلات، وفي جرائد، وإن كنت ناثراً أن نقرأ كلامك الجميل في هذه المجالات، وإن كنت خطيباً أن نسمع صوتك المدوي على أعواد المنابر، وإن كنت داعياً مؤثراً أن نراك وقد قدت جحافل الشباب وجمهورهم إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة، انزل فهذا وقتك وهذا أوانك، إذا لم تنزل الآن فربما يسبقك الركب ويتعداك، وربما يعاقبك الله عز وجل، وهذا والله الذي لا إله إلا هو واقع رأيته بعيني، ربما يعاقبك الله أنك إذا أردت نفسك يوماً من الأيام لا تجد نفسك، فالموهبة الآن يمكنك أن تستخدمها، لكن إذا أهملتها وتريد أن تعود؛ وجدت نفسك وقد تغيرت عليك، أنت الآن خطيب ولم تستفد من هذه الموهبة، فبعد خمس سنوات إذا أردت أن تخطب وجدت أنها قد تغيرت الأمور، وجدت ضعفاً، ثم تخليت وأدركت أن الركب قد فاتك.(198/67)
الحفظ في طلب العلم
السؤال
أنا طالب، لكن لا أحفظ المسائل العلمية إلا نادراً، فهل أترك طلب العلم وأنه لا يصلح لي وألتمس مجالاً غيره؟
الجواب
لا تترك الطلب، ولا يوجد شيء مستحيل من هذه الأشياء، ليس في هذه الأشياء مستحيل، والإنسان إذا دأب فإنه يحظى بما يريد: أًخْلِق بذى الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا(198/68)
غياب الوعي
السؤال
نلاحظ كثيراً من الأوقات في الإعلام العربي، حين يكون هناك قضية لشخصٍ ترى أنه قد أتى بكل تاريخه السابق؟
الجواب
نعم، هذه من الملاحظات والأخطاء، التي أصبحت الصحافة تتكلم عنها بشكلٍ واضح، والأمة أصلاً حتى أنا وأنت، لماذا ما اكتشفنا الخطأ إلا الآن؟ هذا ينم عن أن الأمة كلها تعيش في حالة غيبوبة، العيوب لا تظهر إلا بالمناسبات وبالأزمات، حتى أنت أيها السائل وأنا، لماذا الخطأ ما ظهر عندنا إلا الآن؟ لأنه ما كان عندنا وعي حقيقي بالواقع في الماضي.(198/69)
التعامل مع زملاء غافلين
السؤال
طالب ملتزم بشريعة الله، ولله الحمد لكن له زملاء يهتمون بالكرة على الرغم مما يمر بالأمة من أزمات وفتن، أرجو أن تبين هل عليّ شيء إذا تركت بينهم وبين ما يشتهون وأعتزلتهم؟
الجواب
لا ينبغي المبالغة في الاهتمام بالكرة ولا بغيرها، سواء في هذا الظرف أم سواه، بل ينبغي إذا اشتغل الإنسان بهذه الأعمال أن يقتصد فيها، وأن لا تكون الغالبة عليه، فإن غلبة هذه الأشياء على الإنسان مذمومة في الأحوال العادية، فضلاً عن مثل في هذه الظروف، أما أنت فموقعك تقدره أنت بحسب ما ترى، إن رأيت في بقائك مصلحة، تقليل للشر، وتكثير للخير، وجرهم إلى الطيبات؛ فتبقى، وإن رأيت غير هذا فتعمل ما ترى أن فيه مصلحة.(198/70)
تقدير الأمور البسيطة بقدرها
السؤال
قلتم أنه يجب الاهتمام بالمعاصي التي يقال إنها بسيطة، مثل: الدخان والإسبال، لكن بعض الإخوان يجعلون الاهتمام بالأشياء التي هي الحد بين الكفر والإيمان.
الجواب
أنا أحذر من هذا، أرى أن نعطي كل شيء حقه، لا تقل هذه قشور وتتركها، وأيضاً لا تجعل هذه الأمور هي لب حياتك ودعوتك، وكل جهدك منصب عليها.(198/71)
العاطفية تجاه الأحداث
السؤال
في هذه الفترة التي عادت فيها أجيال المسلمين إلى ربها، ونحن نرى هذه الأمواج والأفواج المسلمة مستقيمة على أمر ربها، وهذا مما يثلج الصدر، لكن هناك ملاحظة سائدة وهي طغيان العاطفة على كثير من الشباب، حيث أن كثيراً منهم تغلبهم العواطف الجياشة، دون الروية والتعقل والاعتماد على منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك أصبح ديدن أعداء الإسلام في كل فترة، كثيراً ما يشغل المسلمين ويجعلهم ينسون المهمات التي يجب معالجتها؟
الجواب
هذا فعلاً سؤال في محله، نحن المسلمين الآن قد نعمل، لكن كثيراً من الشباب إذا خرج من السلبية وأصبح فعالاً، كان هنا العمل الذي يقوم به ليس عملاً مدروساً مخططاً، ولكنه عمل مرتجل، وعمل قد يكون بطولياً من وجه، لكنه ليس مثمراً من وجه آخر، وأنا أضرب بذلك مثلاً، وقد يكون هذا المثل غريب على كثير من الإخوة: قد يكون من أعظم الأعمال وأجلها التي قام به الشباب المسلم في هذا العصر: قضية الجهاد الأفغاني، عمل جميل يكفيهم فخراً أنهم عشر سنوات يرفعون فيه السلاح، ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، هذا عمل جليل، بطولات، كرامات، جهاد، تضحية، دماء، فهذا العمل بهذا المقياس لا كلام فيه، وفيه إيجابيات لا شك فيها، لكن عندما تنظر إلى أي مدى كان هذا العمل الذي قمنا به عملاً مدروساً مخططاً له؛ ليؤتي ثماره التي تكافئ وتقابل التضحية التي بذلناها، هنا أعتقد أننا إذا أردنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا؛ سنجد أن الأمر أقل مما يجب، وقل مثل ذلك في جهود دعوية وفي مشاريع وفي أعمال، لأن أعمالنا عاطفية، أي نركض وراء الحدث ولسنا نسبق الحدث، أقول لا ليس بالضرورة أن نعمل لليوم، بل نعمل لخمس عشرة سنة في المستقبل ولعشرين سنة، الإنسان الذي يريد من الأمور أن تنتهي اليوم لا يفعل شيئاً، لكن إنسان يقول: المشاكل الموجودة موجودة لا أزيلها بيوم وليلة لكن -على الأقل- أستعد لإزالة المشاكل التي سوف تقع بعد عشر سنين وخمس عشرة سنة؛ هذا قد يستيطيع أن يغير من واقع المسلمين الكثير.(198/72)
ترك التهور
السؤال
تتجاذبنا الآراء وتعصف بنا الأفكار، وذلك من جراء الأحداث التي اجتاحت الأمة الإسلامية، ولم نستطع تحديد موقفنا مما حدث، لأننا إن دافعنا عن مقدساتنا وجدنا في ذلك صعوبة، إلى جانب بعض المشاكل والأشياء التي لم تتضح، إلى غير ذلك؟
الجواب
مثل هذا وهو مسألة تجاذب الآراء، على المؤمن أن يعتصم بالله عز وجل، ويعتصم بالعقل الراجح عند ورود مثل هذه الأشياء المشكلة، ولا تجذبه العاطفة كما سبق في السؤال السابق، فبعض الإخوة يقول: لا أقف مكتوف الأيدي، لا بد أن أقاتل، لا بد أن أقاوم العدو الذي اكتسح بلاد المسلمين، وآخر يقول غير هذا، فأقول: ينبغي للإنسان أن لا يكون ضحية تعجل أو طيش، بل عليه أن يفكر ويدرك أنه ليس له إلا نفسٌ واحدة إن ذهبت لا تعود، فينبغي أن يضعها في موضعها الطبيعي، وأنا أنصح الشباب بالإقبال على العلم الشرعي، ومعرفة واقع المسلمين، والسعي في حله، وجمع الناس على الكتاب والسنة، ونشر المذهب الصحيح، والحرص على التربية، والاشتغال بذلك في البيوت والمدارس والمساجد وحلق العلم وغيرها، وأن يطيلوا النفس في ذلك، فإن هذا هو الطريق إلى عزة المسلمين.(198/73)
الاستشهاد بأقوال الغربيين
السؤال
لاحظت أنك قد استشهدت مراراً بأقوال مفكرين غربيين، فهل من الصواب الاستشهاد بذلك؟
الجواب
نعم الحكمة ضالة المؤمن، إذا أصاب بعضهم؛ لا بأس أن تستشهد بما قال إن كان حقاً.(198/74)
طرق تغيير الفرد نفسه
السؤال
كثيرون يعبرون عن محبتهم لي فجزاهم الله خيراً، أحبهم الله تعالى وجعلني الله وإياهم من المتحابين فيه، يقول السائل: كل إنسان عنده معاصٍ وذنوب صغيرة وكبيرة، والكل يسعى نحو الأصلح، ما هي الطرق والوسائل التدريجية المعينة على التغيير دون أن يكون هناك نوازع منفرة، حيث لا يخفى عليكم أن النفس لا ترغب التغيير المفاجئ؟
الجواب
من أهم الوسائل: أن يصحب الإنسان صحبة طيبين يعينونه على الخير، ومنها: أن الإنسان إذا كانت عنده خصلة طيبة فليعمل على تنميتها، مثلاً قد يكون عندك معصية لكن في المقابل عندك خصلة طيبة، وهي: أنك تحب الإنفاق في سبيل الله، فأنفق في سبيل الله وسارع إلى ذلك، لأن هذه الخصلة الطيبة إذا كبرت وتضخمت، أصبحت كالشجرة التي بسقت فروعها فغطت على غيرها، كذلك الأصحاب الطيبون الصالحون يأمرونك بالمعروف وينهونك عن المنكر ويعينونك على نفسك، فاحرص على صحبتهم.(198/75)
إعداد النفس للجهاد
السؤال
ذكرت قبل قليل أن الإنسان يجب أن يعد نفسه للجهاد، فأنا قد حدثت نفسي بالجهاد لكن لم أعد شيئاً له سواء الدعاء أو الإنفاق بالمال، فهل هذا هو المقصود؟
الجواب
نعم هذا هو المقصود يجب أن تعد، أولاً: ادعُ لإخوانك المجاهدين، جاهد بمالك إن استطعت، جاهد بالكلمة، جاهد بالدعوة، جاهد بالتربية، جاهد نفسك، جهز نفسك، افترض أنه قامت دعوة صادقة ولو بعد سنين، كن مستعداً لذلك.(198/76)
تأخير إنكار بعض المنكرات
السؤال
أرى كثيراً من الدعاة لم يتفقهوا في الدين، قد يذهبون إلى الأماكن التي فيها منكرات بنية الدعوة، ويقول: من الحكمة ألا ننكر عليهم لئلا ينفروا منا ويكرهوا الدين، وضح ذلك؟
الجواب
هذه أمور تختلف بحسب الحال المسئول عنها، وبحسب نوعية الفاعل والشخص الذي ذُهِب إليه، فهي تختلف من حالٍ إلى آخر، فإذا ذهب فعلاً بنية الدعوة وإنكار المنكر ثم وجد مجموعة منكرات، وقال: لا يمكن أن أبدأ بها كلها، مثلاً وجدت إنساناً عنده سبعة منكرات، لا يمكن أن أعطيه قائمة بها سبع منكرات، فقد يرد عليك ويقول: أصبحت أنا كلي منكرات ومعاصٍ، إنما رأيت أن أبدأ بمنكر وأتقدم بلطف، واترك الباقي إلى زيارة أخرى، لا حرج في ذلك إن شاء الله.
أما كونه يقول: والله أريد أن أذهب وأتفسح معه وأتبسم وأتندر معه، وبعد ما أنشئ صداقة وعلاقة، وبعد شهرين أو ثلاثة أو سنتين أو ثلاث، أبدأ تغيير المنكرات، فهذا لا يصح.(198/77)
الاشتغال بالخلافيات
السؤال
مع هذه الفتن المظلمة الحالكة التي تمر بها الأمة، ألا ترى أن بعض الشباب ما زالوا يتناحرون في مسائل اجتهادية؟
الجواب
هذا صحيح، فكثير من الشباب يشتغلون في قضايا فرعية جزئية، وأنا لا أنهى عن الاشتغال بها؛ لأنني ممن يشتغلون بها أيضاً، لكنني أنهى عن الإغراق فيها، اعطِ كل ذي حقٍ حقه، المسائل الفرعية الاجتهادية اعطها (10%) لا مانع (15%) بحسبه، واعطي المسائل التي هي أكبر منها نسبة أكبر، وهذا من العدل الذي أمر الله تعالى به ورسوله.(198/78)
ترك السلبية في الرحلات
السؤال
نظراً لكلامك عن السلبية، هنالك شاب إذا دعي للخروج في رحلة مع شباب الحي، اعتذر بأنه لا يجد الدافع الداخلي في نفسه، وأن هذا طبعه وغريزة في عائلته، مع أنه طالب علم ولا تؤثر على طلبة هذه الرحلة، حتى إنه يقول: إنه يكون غير مشغول في وقت الرحلة، فأرجو منكم الحل؟
الجواب
هذا قد يكون من طبيعته أنه يوجد لديه نوع من الانعزالية، فهذا يُعالج بأمور، منها: الاختلاط، لأن اختلاطه بالناس قد يزيل هذه العزلة أو العقدة الموجودة عنده، ومنها: أن يحاول أن يكون مشاركاً، فإذا خرج مع هؤلاء في الرحلة ربما يحس أنه دائماً ساكت، ولذلك لا يحرص على الخروج مرة أخرى، فنقول حاول أن تشارك، أعد بحثاً معيناً أو كلمة تقرؤها على زملائك بعد الصلوات، تأمرهم بمعروف وتنهاهم عن منكر، تذكرهم بشيء، تشارك حتى في أعمال الطبخ، وتقديم الطعام وما أشبه ذلك من الأعمال التي يحتاجونها؛ حتى تحس بأنك شخص فعال مؤثر، ويدعوك هذا إلى المشاركة الدائمة.(198/79)
الظلم عند الأوروبيين
السؤال
ذكرت أن العالم الأوروبي اليوم لا يقع فيه ظلم للشعوب، فهل هذا دقيق؟
الجواب
ليس المقصود أنه لا يقع فيه ظلم للشعوب مطلقاً، لكنهم يمتنعون من الظلم العام الغالب، وإلا فالظلم موجود في كل زمان ومكان.(198/80)
التقديم بين يدي الله ورسوله
السؤال
يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ويقول سبحانه وتعالى {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات:2] نرجو توضيح كيف تقبل الصحابة رضوان الله عليهم في هذه الآيتين أوامر الله سبحانه وتعالى؟ وكيف حالنا نحن المسلمين مع آيات القرآن في هذا الزمن؟
الجواب
نعم، لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، المعنى أن المؤمن ما كان له -ذكراً أو أنثى- إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة من أمره، فإن المؤمن من يوم آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإنه قرر أن تكون الكلمة الأخيرة لله ولرسوله في أي أمر من الأمور، فهذا هو معنى الآية، فليس للإنسان حق أن يختار شيئاً غير ما اختاره الله له في شرعه، وقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجهرِ بَعضكم لبعض} [الحجرات:2] هذا أدبٌ أدب الله تبارك وتعالى به المؤمنين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.(198/81)
انتقال الصفات الشخصية
السؤال
يقول: إني أحبك في الله، وأسأله أن يجمعنا في الجنة وإخواننا الحاضرين، ذكرت أن الصفة التي تكون في الشخص في الجاهلية تكون معه في الإسلام، فهل هذا ينطبق على الشاب عندما يكون ملتزماً وغير ملتزم؟
الجواب
أقصد بذلك الصفات الفطرية الطبيعية، مثل إنسان شجاع في حال جاهليته، كان -مثلاً- يقوم بمغامرات وأعمال وأشياء وأمور كثيرة، فإذا هداه الله عز وجل تجد هذه الصفات غالباً تبقى معه، لكنها تتدين وتصرف إلى المجالات الخيرية.(198/82)
غرس الفسيلة مع قيام الساعة
السؤال
ذكرت الحديث الصحيح العجيب، أنه عند قيام الساعة {من كانت معه فسيلة فليغرسها} هل هناك تعارض بينه وبين حديث {لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس} ؟
الجواب
سؤال طريف، يقول: كيف نجمع بين الحديث {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها} مع حديث {أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس} وكأني فهمت أن السائل يقول: لماذا يوجهنا الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه، مع أن الذين تقوم عليهم الساعة هم شرار الناس، وممن لم يفهم الشرع ويلتزم بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فأقول: إن الحديث {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة} ليس على ظاهره، أنه سيكون رجل عنده نخلةً يريد أن يغرسها فقامت الساعة، ليس بهذه الصورة، هذه قد لا تحدث والله أعلم، لأن الساعة يسبقها أحوال، مثل طلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك من العلامات التي تجعل الناس ينصرفون عن الدنيا.
إن المقصود من التمثيل أن الإنسان عليه أن يبذل وسعه بكل حال، مثلاً: قامت ساعتك أنت عند الموت، كل إنسان إذا مات قامت قيامته، فعند الموت إن استطعت أن تعمل خيراً اعمله، لا تقل: والله لا فائدة وفات الأمر، هذا غير صحيح، ولذلك عمر رضي الله عنه في مرضه، جاءه شاب مسبل، فلما ولى قال: [[عليّ بالغلام، فقال: يا ابن أخي ارفع إزارك]] كلمة خير تقولها ولو بقيت خمس دقائق على الموت قلها، كذلك عمر رضي الله عنه قال في مرض الموت: [[وددت أني رأيت في الكلالة رأياً إن رأيتم أن تتبعوه]] فقال له عثمان رضي الله عنه: [[إن نتبع رأيك فهو خير وإن نتبع رأى الشيخ قبلك فنعم الرأي كان]] هذا مثال.
مثال آخر: قد يعمل إنسان عملاً ويقتنع بأن هذا العمل غير مثمر، لا نقول له: لا تعمل لا توجد فائدة، بل نقول له: اعمل، فلا يمكن أن نقول: إن هناك إنساناً لا فائدة من أمره بالخير، بل نقول: مُره، لأنك إذا أمرته بالكلمة الطيبة أنت أول المستفيدين، سُجِّلَ في سجل حسناتك أجر، وهذا بحد ذاته مكسب، وأمر آخر: صارت عندك مناعة ضد المنكر، لأن الإنسان إذا سكت عن المنكر اليوم؛ قد يفعل المنكر غداً، لكن عندما ينهى عنه، تتولد لديه قناعة ومقاومة على الأقل، فاسلم بنفسك، أمر ثالث: قد يستجيب لأنك لا تعلم الغيب.
وفي الحديث معانٍ أخرى كبيرة، يستحق الحديث موضوع محاضرة خاصة.(198/83)
دور الفرد
السؤال
كثير من الشباب مقصر في المسئولية التي على عاتقه، حيث يقول: ما هو دوري؟ وأنا واحد لا أستطيع التغيير، فأرجو توجيه كلمة للشباب؟
الجواب
هذا هو مجال المحاضرة كلها، أن الإنسان شاباً أو شيخاً، يجب أن يتخلى عن السلبية وإلقاء التبعية على الآخرين، ويترك التنظير ويعمل، إن أي واحد تأتي به، يمكن أن يحل لك مشاكل الناس بالكلام النظري، ويقول كان يجب أن يُفعل كذا وكذا ويحلل أموراً كثيرة، لكن عندما تقول له: ماذا صنعت؟ إنه لم يصنع شيئاً، فلا نريد التنظير.
نحن الآن مثل قوم يمشون في سفينة؛ فبدأت السفينة تجاذبها الرياح، ذات الشمال مرة وذات اليمين مرة أخرى، والأمواج تلطمها هنا وهناك، فهل يصح حينئذٍ أن يصبح ركبان السفينة يتناقشون ويجادلون: كان المفروض أن نأتي من هنا، وكان المفروض كذا وكذا، وكل واحد يعطينا مخططاً أو خريطة للبحر وطريقه، وما أشبه ذلك، هذا لا يصح، إنما نقول: اعمل ما تستطيع في تهدئة السفينة الآن، وتوجيهها إلى الطريق المستقيم، وإزالة المخاطر التي تعاني منها، وبعد ذلك فكر كما تريد.(198/84)
جبهة المجتمع
السؤال
إن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ألا تعتقد أن سبب البعد عن الحق عند عامة المسلمين، هو عدم تطبيقهم لشرع الله المبني على مبادئ أهل السنة والجماعة؟
الجواب
هذا هو السبب، لكن السؤال كيف نستطيع أن نوصل المسلمين إلى تطبيق شرع الله عز وجل؟ وإلى الالتزام بمبدأ أهل السنة والجماعة؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نشغل أنفسنا به، لأنه انتهينا الآن من القضية، نحن الجميع موافقون -كما قلت في البداية أن أي واحد ليس موافقاً على هذا فهو خارج الإسلام وخارج الدائرة، أي واحد ليس موافقاً على أن الحق منحصر في الإسلام، الحق الشرعي الرباني هو الإسلام، وأن ما عدا الإسلام باطل، الذي لا يعتقد بهذا كافر مرتد بلا خلاف بين المسلمين، إذاً نحن متفقون على أن الإسلام هو الدين الحق، وأن نجاة المسلمين في دنياهم وأخراهم باتباع هذا الدين.
ننتقل إلى النقطة الثانية كيف نستطيع أن نوصل المسلمين ليكونوا على مستوى الإسلام؟ هذا هو الذي يجب أن نبحث فيه.(198/85)
بعض أخطائنا في التربية
تعرض الشيخ لأهمية التربية في حياة الجيل مفصلاً للأزمات التربوية التي يعاني منها المربون وأسباب تلك الأزمات، مع بيان ما ينتشر من أخطاء تربوية، مع ذكر حلولها وعلاجها.(199/1)
افتقار الأمة إلى العلماء والمصلحين
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة الكرام! فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته أيها الأحبة إن الإنسان لا يكون أحقر في عين نفسه ممن هو في مثل هذا الموقف, فإن هذه الأعداد الكبيرة منكم التي أسرعت وأحسنت الظن، فجاءت لتستمع إلى مثل هذه الكلمات؛ إنها تنبئ عن فقر عظيم في هذه الأمة؛ فقر إلى الرجال الأكفاء, وفقر إلى العلماء, والمصلحين.
وإلا فأي معنى لأن تتهالك هذه الأمة على كل متحدث, وكل قائل, وكل مُبيِّن أو متكلم، لمجرد أنه ألقى درساً أو قام بمحاضرة, أو أنه تكلم! إن ذلك لدليل على فقر الأمة إلى الرجال الأفذاذ الحقيقيين, وأنها تعيش فعلاً في فترة من أحلك فتراتها.
وإنني أقولها لكم صريحة -ويعلم الله تعالى حقيقة ما أقول حسبما أعتقده- إننا على يقين أن الله تعالى لا يدع الصحوة, ولا يدع الدعوة لأمثالنا من المقصرين والمسرفين على أنفسهم؛ بل إن الله تعالى يختار لها من الصادقين المخلصين من يكون فيهم الرشد والكفاية, إلا أن يصلح الله تعالى الأحوال ويتدارك بمنه وفضله {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] , أما بعد: فحديثي إليكم هذه الليلة هو عن بعض أخطائنا في التربية, وهذه ليلة الجمعة الخامس من شهر جمادى الأولى من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة, وهذا جامع الراجحي بالرياض.(199/2)
أهمية التربية
التربية -أيها الإخوة- لها مفهوم أوسع وأعمق، إن التربية هي: الحياة بكل تفاصيلها، وبكل أشخاصها، وبكل مؤسساتها, والحياة تعني وجود الإنسان من يوم أن ظهر على ظهر الأرض, وإلى أن يغادرها, فهي تبدأ مع الإنسان بشهادة الميلاد، وتنتهي مع الإنسان بشهادة الدفن.
وإذا عرفنا أن التربية هي: المعنى الشامل للإنسان من يوم أن ولد إلى يوم أن يموت, أدركنا أن الحياة هذه أو التربية ليست أمرا مقصوراً على وجود الإنسان في منزله, أو بيته, ولا وجوده في مدرسته, أو حارته أو حيه أو مسجده, بل هي وجود الإنسان في الحياة كلها بكل مؤسساتها: من بيت، ومدرسة، ومسجد، وإعلام، وصحة، وغير ذلك, بل وجود الإنسان من خلال الأَنَاسِيِّ الذين يقابلونه في حياته, بكل تناقضهم، فهذا يحييه ويسلم عليه, وذاك يعيره ويشتمه, وهذا يحادثه, وهذا يبايعه أو يشاريه, وهذا يعلمه أو يتعلم منه, وهذا يوافقه, وهذا يخالفه, وهذا يمدحه, وهذا يذمه.
فالتربية تشمل الحياة كلها, وإذا أدركنا هذا أيضاً، أدركنا أنه لا يمكن أن يستقل جهاز من الأجهزة، أو مؤسسة من المؤسسات بتربية الإنسان, فإن الإنسان كائن مؤثر متأثر, ولا يمكن أن نستهين بشيء يواجه الإنسان, فالجو العام في المجتمع مثلاً هو عبارة عن تيار كتيار الماء أو تيار البحر يجتاح الإنسان -وأحياناً- يكون الإنسان مخالفاً للتيار, فيكون كأنه يسبح ضد الموج, يتقدم بقوته الضعيفة أمتاراً ثم يدفعه الموج إلى الوراء عشرات الأمتار.
ولهذا جاء الشرع بتحميل الإنسان مسئوليته الفردية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجاء الشرع أيضاً بتحميل المجتمع مسئولية القيام بالحسبة, كأمة مؤمنة لا يميزها إلا الإيمان بالله تعالى، الذي عليه اجتمعت, ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الذي به قوامها وبقاؤها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ويقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] الآية, ولذلك فإن الإنسان محتاج إلى المجتمع كله من حوله, ليتأثر بهم، وينتفع منهم، وينظر ما عندهم من خير فيقتبسه, أو خطأ فيجتنبه، أو نصيحة يعمل بها, ثم هو محتاج أيضاً إلى المؤسسات الموجودة في المجتمع، والتي يتربى من خلالها, فهو يتربى قاعداً في المسجد ينتظر الصلاة, ويتربى وهو في مدرسته, ويتربى وهو في سوقه, ويتربى وهو في بيته, حتى والإنسان في متجره هو يتربى.
يتربى على الأخلاق الإسلامية في المعاملة، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وغير ذلك, وحين يفسد الزمان، وبمعنى أصح وبالاصطلاح الشرعي، ينحرف الناس، يؤمر الإنسان باعتزالهم, حتى يسلم من شرهم، أو يسلمهم من شره, كما في الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس خير؟ قال: {مؤمن مجاهد في سبيل الله تعالى بماله ونفسه, قيل ثم أي؟ قال: مؤمن في شِعْب من الشعاب معتزل يعبد ربه، ويَدَعُ الناس من شره} .
فإنه إنسان غير قادر على التربية، لا يستفيد من الناس علماً وعملاً وأخلاقاً, ولا يستفيد الناس منه أيضاً, فهذا كان الأجدر في حقه أن يعتزل الناس ويدع الناس من شره, ليس من الناس إلا في خير.
فالتربية إذاً: عملية ضخمة وكبيرة, تبدأ مع الإنسان من يوم ولد, لا بل أقول تبدأ قبل الميلاد.
ومن الطرائف والنكت أن رجلاً جاء لأحد العلماء, فقال له: أنا قد تزوجت, وحَمَلَتْ زوجتي وهي في الشهر الرابع, وأريد أن تعطيني بعض التعليمات في أسلوب تربية هذا الطفل, فقال له: هذا الطفل قد فات عليك مادام في الشهر الرابع, لكن أعطيك تعليمات للطفل القادم, وهذه لا شك نكته, ولكنها لها دلالتها ولها معناها.
والمقصود أن التربية تبدأ حتى من يوم اختيار الزوجة, فإن الزوجة هي المحضن السليم المناسب الذي ينشأ معه الطفل, ويتربى في أحضانها, ويقتبس من أخلاقها, فهي تبدأ قبل أن يولد الإنسان وفى صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان} .
فالشيطان يفر من ذكر الله تعالى, والتربية تبدأ مبكرة جداً, إنها تبدأ من هذا الأوان ولا تنتهي إلا بأن يموت الإنسان قال الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] , أي: الموت, ثم هي ليست عملية مقصورة على جانب واحد من جوانب النفس الإنسانية, فهي تربية تتعلق بالخلق, وتتعلق بالعقيدة, وتتعلق بالعلم, وتتعلق بالعمل, وتتعلق بالجسم, وتتعلق بالعبادة.
وهي أيضاً ليست مسئولية جهة بعينها فحسب, فالبيت وحده لا يمكن أن يستقل بالتربية, والمسجد وحده لا يستقل بها, والمدرسة وحدها لا تستقل بها, والزملاء والأصدقاء والصالحون أيضاً, وإنما المجتمع كله بكل مؤسساته، وكل أفراده، وكل أجهزته هو مسئول عن التربية.(199/3)
الإنسان موضوعاً
لقد بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام, وأنزلت الكتب من السماء إلى البشر, من أجل تقويم هذا الإنسان, من أجل أن يترقى حتى يتأهل لجنة عرضها السماوات والأرض, بل حتى يتأهل لرؤية الله تعالى في جنة عدن.
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] , فهي تتمتع بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم في جنة عدن.
إن الإنسان يترقى بالتربية حتى يتأهل لهذا المستوى الرفيع: وقد ينحط حتى يصبح حطباً ووقوداً لجنهم مع الحجارة, وشبيها بالأنعام، قال الله عز وجل: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] , وقال سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] , وفي آيه أخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] .
إذاً بالتربية: يرتقي الإنسان حتى يصبح أهلاً لرؤية الله تعالى في الجنة, وبنقص التربية أو تضييعها ينحط حتى يصبح حطباً لجهنم.
إذاً: بناء الإنسان -أيها الأحبة- هو محط الاهتمام، وهذه القضية الكبرى التي يجب أن نرفع شعارها, ونتحدث عنها, ونملأ بها مجالسنا, هي قضية الإنسان, إن بناء الإنسان أهم من بناء الجسور, وأهم من تعبيد الطرق, وأهم من تشييد العمارات الشاهقة, وأهم من توفير الخدمات, مع أنني لا أهون من بناء الجسور وتعبيد الطرق وتشييد العمارات وتوفير الخدمات, ولكن لا قيمة لهذه الأشياء كلها في ظل غياب الإنسان.
إن هذه الأشياء كلها لا تعدو أن تكون تيسيرات وتسهيلات للإنسان, فقل لي بربك أي معنى للإنسان، حسن البزة، حسن الثياب، جميل الهيئة، بهي الطلعة، ممتلئ الجسم، معتدل الصحة، ولكنه يرسف في قيوده، في أسره وسجنه؟! وأي قيمة لإنسانٍ هذا شأنه إذا كان بلا عقل؟! وأي قيمة لإنسانٍ هذا شأنه إذا كان بلا دين، ولا خلق، ولا عقيدة؟!.
إن الإنسان هو المقصد الأول من الوسائل التربوية كلها, ولا قيمة لإنسان لا يعبد ربه, ولا يسجد لله تعالى, ولا يُمَرِّغُ جبهته خضوعاً لرب العالمين, ولا يسبح بحمد ربه عز وجل, إنه في دنياه يعيش الشقاء بكل صوره وألوانه, وفي آخرته إلى نار لا يخبو قرارها {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] .
إن تحقيق وجود الإنسان بالمعنى الشرعي تحقيقٌ لكل المكاسب الأخرى, فلنفترض -مثلاً-: أننا أمة فقيرة, ليس همنا أننا نطلب المال, لأن بناء الإنسان الصالح سيجعله قادراً بإذن الله تعالى على تحصيل المال, لنفترض أننا أمة متأخرة في المجال الصناعي والتقني، كما هو الواقع فعلاً, إن بناء الإنسان الصالح العاقل العالم الرشيد هو السبيل إلى تطويع الصناعة, وإلى الحصول على أسرار التصنيع، وإلى الوصول إلى أعلى المستويات في الحضارة المادية, لنفترض أننا أمة متخلفة في كافة مجالات الحياة الاجتماعية، والمالية، والاقتصادية، وغيرها.
فإن الإنسان إذا بُنِىَ وأُصْلِح وأُعِدَّ إعداداً صحيحاً، فإنه هو الذي يستطيع أن يخطو تلك الخطوات التي تحتاجها الأمة، فهو الذي يحصل على المال, وهو الذي يبني ويصنع ويفكك أسرار العلم, ويستطيع أن يُطَوِّعَها بإذن الله عز وجل.
إذاً المخرج من كل أزماتنا ومصائبنا التي نعيشها وتعيشها الأمة معنا, هو بناء الإنسان، تتعدد الحلول ولكنها تتفق على أن الذي يمكن أن يتولى تمثيل هذه الحلول هو الإنسان ذاته.
وأقولها لك صريحة: لن يحصل الإنسان على كرامته الحقيقية, إلا بالتزامه بدين الله تعالى, وذلك بسبب واضح تزيدنا به الأيام بصيرة, وهو: أن الإسلام هو كلمة الخالق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] , على حين تعترف كل الدراسات النفسية والتربوية في هذا العصر، تعترف بجهلها بحقيقة الإنسان, وعجزها عن إدراك خفاياه وأسراره, وأنها تبحث في ميدان مجهول, أما الشرع فنزل من عند حكيم حميد، يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.(199/4)
أزمات تربوية
أما حديثى الرابع: فهو بعنوان "أزمات تربوية" وهذه الأزمات أزمات عامة ليست أزمات في البيت فحسب, ولا في المدرسة، بل تستطيع أن تقول: إنها أزمة في أزمة في الأمة كلها, تبدأ من البيت وهو الدائرة الصغيرة، وتنتهي بالأمة في وجودها العام.
وهذه الأزمات متعددة لها أسبابها ومظاهرها ونتائجها, وأذكر شيئاً منها دون استيعاب.(199/5)
أزمة غياب الثقة داخل الأمة
هناك أزمة نستطيع أن نعبر عنها بأزمة الثقة, غياب الثقة داخل الأمة، فهناك أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم، تبادل المخاوف والشك والظن وعدم الثقة.
هناك أزمة ثقة بين الطالب والمدرس, هناك أزمة ثقة بين الناصح والمنصوح, بين جيل الشباب والشيوخ, بين الرجل والمرأة, بين المدير والموظف وهكذا.
وكل هذه الأزمة مبنية على سوء الظن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] , جعلت الأمة تتمزق إلى طوائف شتى, وإلى فرق مختلفة, وإلى طبقات متناحرة, لا يثق بعضها في بعض, ولا يتعاون بعضها مع بعض.
وترتب على ذلك تعطيل المهارات والكفايات وقدرات الأفراد, وأصبحت هذه الأزمة, أزمة الثقة، تكبل الفرد عن الإبداع والإنتاج والاجتهاد والتعاون, وهذا مصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لـ معاوية: {لا تتبع عورات الناس، فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم} .
إن تتبع العورات من قبل المدرس -مثلاً- الذي يتتبع عورة الطالب, أو الابن الذي يتتبع عورة أبيه, أو الحاكم الذي يتتبع عورات الرعية, أو الرجل الذي يتتبع عورة المرأة, أو العكس في ذلك كله, إنه دليل على فقدان الثقة, بحيث أصبح الإنسان يبحث عن العيوب, وإذا لم يجدها حاول أن يصطنعها ويختلقها، وهكذا يقع الفساد العريض في المجتمع.(199/6)
أزمة غياب القدوة
نموذج آخر: أزمة القدوة, القدوة التي لا يمكن أن تحقق التربية إلا بوجودها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] , فهذه هي القدوة العظمى، الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي هو المثل الكامل في هديه وأقواله وأفعاله وأخلاقه وعبادته عليه الصلاة والسلام, ثم ما دون ذلك من القدوات، التي يمكن أن تحرك الإنسان فقط إلى عمل صالح متفق عليه، كما يومئ إلى ذلك حديث جرير -وهو في الصحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} هو لم يأت بشيء من عنده, إنما أحيا سنة قد أميتت، وأثارها، وحركها، ودعا الناس إليها بقوله وفعله, فاقتدوا به، واندفعوا إليه بصدقة, أو إلى جهاد, أو إلى علم, أو إلى عمل, بسبب أنهم رأوا فلاناً فعل فقلدوه وحاكوه في ذلك، وذكرهم بما كان غائباً عن وجدانهم.
أزمة القدوة: القدوة الحية -التي هي أصل التربية والسلوك- لم تعد تتوافر في المجتمع, فأحياناً لا توجد القدوة في المنزل عند الأب بالنسبة للولد, أو عند الأم بالنسبة للبنت, لا توجد في الإعلام، فالإعلام قد يقدم -مثلاً- الفنان على أنه قدوة, أو يقدم اللاعب على أنه قدوة, أو يقدم الوجيه والثري على أنه قدوة, أو يقدم الشخصيات المرموقة اجتماعياً بغض النظر عن كفاءتها, وبغض النظر عن موقعها في دين الله عز وجل, وبغض النظر عن التزامها في السلوك والأخلاق.
ولهذا أنت لو أمسكت بأصغر طفلٍ, وقلت له: ماذا تتمنى أن تكون؟ ما كان له إلا أن ينطق بأولئك الأشخاص الذين يبجلهم المجتمع، ويفرح بهم ويعظمهم ويقدرهم ويوقرهم, فهو يحب أن يكون مثلهم.
التعامل والسلوك في المدرسة لا تقدم القدوة الصالحة -أحياناً- بل تتوفر على النقيض من ذلك ألوان من القدوات السيئة في هذه المرافق وفى غيرها, وهنا فراغ الساحة من القدوة، يعني: انعدام العمق التربوي لدى الأفراد, وتنازع الفرد بين أكثر من نمط من الأنماط الغازية, فهو في ذهنه فلان وفلان وفلان, وكل هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يكونوا قدوة حسنة وغاب عنه أولئك الرجال الأفذاذ.(199/7)
أزمة غياب الحوافز
ومن الأزمات: أزمة الحوافز.
الحوافز التي تدعو الإنسان أن يعمل, وإلى أن يضحي, وإلى أن يبذل, وإلى أن يشارك, وأنت تجد في شريعة الله تعالى أولاً: الأجر والثواب {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] فهذا من الحوافز والأجر عند الله للأعمال الصالحة.
أما العقوبة عند الله تعالى على الأعمال السيئة, وكنموذج -أيضاً- حين تنظر إلى عمل كالجهاد وما فيه من نزيف الدماء, وإطاحة الرءوس, وعقر الجواد, وفقدان الحياة, تجد أن الشرع جعل للإنسان حوافز في هذا العمل, منها حوافز شرعية في فضل الجهاد والمجاهدين, وما أعد الله تعالى لهم في الدار الآخرة.
حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: {إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} , وبالمقابل هناك حوافز دنيوية سريعة أيضاً مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في غزوة حنين وغيرها-: {من قتل قتيلاً فله سلبه} أي: له ما معه من السلاح والعتاد, -كما هو معروف- في تنفيل السرايا، وإعطائها جزءاً من الغنيمة: الربع أو الخمس، على ما هو معروف تفصيله.
إن هذا نموذج من الحوافز, ولابد أن يكون للمجتمع حوافز, فالمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من أزمة, يعني نقصاً حاداً, وأحياناً غياباً كاملاً, فالحوافز التي تدعو الإنسان إلى العمل، إلى الجهاد، إلى الدعوة، إلى النصيحة، إلى البذل, لابد من حوافز للعلماء والمبدعين تدعوهم إلى ذلك, حوافز للمربين والمدرسين, حوافز للمجتهدين, حوافز للمخترعين والباحثين, حوافز لكل أصحاب المواهب؛ بل لا أقول إن المجتمعات الإسلامية تخلو من الحوافز, إنما -أحياناً- نجد المسلمين في كل بلادهم ربما لا يميزون المبدع عن الخامل, أو عن النائم, ولا تتوافر لديهم أساليب لضمان حقوق أولئك الأشخاص, سواء كانت هذه الحقوق مالية أو معنوية أو غيرها.(199/8)
أزمة غياب الحقوق الشرعية
ومن ألوان الأزمات: أزمة الحقوق الشرعية أو ما يعبر عنها بعضهم في العصر الحاضر: بأزمة الحرية, وهذا الاصطلاح غير وارد بهذا اللفظ بالمعنى المقصود, فالأولى أن يعبر عنه بأزمة الحقوق الشرعية, إنه لا عمل في الدنيا بدون تشجيع, ولا إبداع في الدنيا بدون حرية, -كما يقول بعضهم- والحرية يعنون بها: الحق الشرعي المنضبط الضمانة الصحيحة لتصحيح الأخطاء وتلافي العيوب, وهي إشعار للإنسان بآدميته وكرامته التي بينها الله عز وجل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] .
إن أخطر ما تعانيه المجتمعات الإسلامية الحرية العوراء, الحرية الناقصة، التي تمنح لفئة من فئات المجتمع, على حساب فئات أخرى, أو تعطى لاتجاه دون آخر، خاصة حين يكون أولئك الذين منحت لهم الحرية, وأعطوا الحق كاملاً، هم من الفئات المنحرفة, التي تحمل أفكاراً مخالفة للأسس التي قامت عليها هذه الأمة, كالأفكار العلمانية مثلاً, أو الأفكار الحداثية, أو الأفكار الإلحادية, فيكون للإنسان الحرية في طرحها والحديث عنها، وترويجها بالكتاب، والمجلة،،والتلفاز والإذاعة، والنادي، والمنتدى، والأمسية وغير ذلك على حين لا يملك أصحاب الحق الشرعي, وأصحاب العلم, وأصحاب الدعوة, وأصحاب التوجيه, وأصحاب الريادة, وحملة الهدي السماوي, لا يملكون الحق ذاته.
ومن نتائج فقدان الحرية، أو فقدان الحق الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من آثار ذلك الكَبْتُ والانطواء، والعزلة، والنكوص، وعدم التأقلم مع المجتمع, بل وربما يترتب على ذلك نمو مجتمعات داخل المجتمعات الإسلامية, مجموعات ترفض هذا الواقع وتحاربه, فضلا عن فُشُو الكراهية والبغضاء بين الناس.(199/9)
أزمة غياب الإتقان والإحسان
ومن ألوان الأزمات: أزمة الإتقان والإحسان {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] , {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] أي شيء هو الإحسان؟ إنه الإتقان، كما عند البيهقي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} , وفي الحديث الآخر -حديث شداد بن أوس وهو في الصحيح-: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} هذا من الإحسان! حتى المقتول الذي يغادر الحياة تقتله قتلاً حسناً, {وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} .
إن من عدم الإتقان ضعف الإنسان في العبادة، مثلاً: تأخير الصلاة, أو التقصير فيها, أو التقصير في الطهارة, أو عدم الصلاة مع الجماعة, أو التفريط فيها, أو التفريط في الصيام, أو في الحج, أو في غير ذلك من العبادات التي أمر الله تعالى بها, ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك} فما بالك بعبد يعبد ربه وكأنه ينظر إلى الله عز وجل, ويراه بعينه فيكون مقبلاً عليه، معرضاً عما سواه صادقاً خاشعاً، لا يلتفت إلى المخلوقين طرفة عين, فهذا هو الإحسان في عبادة الله تعالى.
وهناك لون آخر: وهو فقدان الإحسان فيما يتعلق بحقوق العباد, مثل عدم إتقان الأعمال المنوطة بك أيها الإنسان! إهدارها وتضييعها، والحرص على شكلية العمل ومظهريته، دون حقيقته، ومعناه: نمو الخواء أساليب التحايل والغش والخداع، والنقص في العمل, وعدم الحرص على إنجاز الأمور, أي أنك حريص على ألا تساءل عن عملك، لا يعاتبك المدير -مثلاً- على أنك تأخرت, ولا يعاتبك المسئول على أن هذه المعاملة ما نزل عندك ولكن ما وراء ذلك، فإنك لا تلتفت إلى أحد، وهناك آلاف الأساليب والطرق التي يستطيع الإنسان فيها بالحيلة أن يتخلص من العتاب من الآخرين, ومن المسئولية، ومن المحاسبة, ولكنه يعلم في قرارة نفسه أنه ما قام بالواجب.(199/10)
أزمة غياب الكفاءة والمحسوبية
أزمة الكفاءة، أو المحسوبية، أو الطبقية، أو التميز القبلي بين الناس، أو التميز العنصري, وعدم جعل المعيار في التقويم والتقديم والتوظيف والرعاية, عدم جعل المعيار هو المعيار الشرعي, {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] , فالقوة والأمانة، القوة في الدين، والقوة في العلم، والقوة في الخلق، والإتقان والأمانة, هذا من أزمة الكفاءة, ومنه: إبعاد الجادين والمصلحين والصادقين, لصالح الأقرباء والأصدقاء، وبني العم وبني الخال، والزملاء والجيران وسكان البلد أو المنطقة التي أنا منها.
ومن آثاره إهدار الثروات العظيمة التي على رأسها الإنسان وإثارة البغضاء والشحناء بين الناس, وتضييع الأمانة بإيكالها إلى غير أهلها, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -لمن سأله عن الساعة-: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة, قيل: ومتى إضاعتها؟! -قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح-: إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله, فانتظر الساعة} .(199/11)
أزمة غياب التخطيط
أزمة التخطيط: والتخطيط مطلب شرعي، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتمده كثيراً، وحادثة الهجرة مثلٌ ذلك في هذا المجال, ومثل -أيضاًَ- لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم قال: -كما في صحيح مسلم- {أحصوا لي من يلفظ بالإسلام} وهو من حديث حذيفة , فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عملية إحصائية لعدد المسلمين, وهذا كله يتعلق بموضوع التخطيط، ومحاولة الإعداد للمستقبل, التخطيط لحل المشكلات التي يمكن أن تنجم, التخطيط لتنمية المجتمع, التخطيط لبناء النفس, التخطيط للوقاية من الأخطاء والأخطار المقبلة.
ونحن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتخوفون وهم في المدينة من غسّان، حتى أن رجلاً لما طرق على عمر خرج إليه عمر، وقال له: ما لك؟ قال: افتح، حصل أمر عظيم! قال: ماذا، هل جاءت غسان؟! قال: كنا نتسامع أنهم ينعلون الخيل لحربنا, وقد امتلأت قلوبنا منهم رعباً, قال: لا، الأمر أعظم من ذلك, طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، والحديث طويل معروف.
والشاهد: أن تَوَقُع الأخطار المستقبلية والاستعداد لمدافعتها وإزالتها جزء مما هو مطلوب من المسلم, ولكن انعدام الشعور الصادق بالمسؤولية, وانعدام المؤسسات والدراسات والاستطلاعات, وعدم توفر البيانات الصادقة الضرورية للعمل, وإبعاد الكفاءات المخلصة, واستيراد المخططين الأجانب من خارج دائرة المنتفعين والمستفيدين, بل من خارج أبناء الأمة كلها, كل هذا أوجد أزمة في التخطيط على مستوى الأمة، في كل مدنها، ودولها، ومناطقها, وأنتج ذلك عواقب منها: استمرار التخبط, وعدم انتظام الأمة, وعدم تحقيقها لما تطمح إليه وتصبوا إليه, ومثله أن الأمة أصبحت تتعرض دائماً وأبداً لمفاجآت غير محسوبة, ونكبات لم تكن تنتظرها, وأهدر المال والجهد في أشياء لا تنتفع الأمة في حاضرها ولا في مستقبلها, وكم ندمت الأمة على مالٍ بذلته, أو علاقة بنتها, أو خطة رسمتها, أو غير ذلك من الأشياء!(199/12)
أزمة غياب الأمن
أمن الإنسان على نفسه، أو على مستقبله، أو على دينه -قبل ذلك كله- أو على فكره، أو على ماله، أو على ولده، أو جاهه، أو منصبه، أو مكانه، أو كرامته، أو سمعته، إلى غير ذلك, ويجب أن نعلم أن الخائف لا يعمل شيئاً، ولا ينتج شيئاً، ولا يتعاون مع أحد, ولا يوجد أمن للإنسان دون وجود حدود فاصلة له- واضحة وواقعية- تبين ما للإنسان فيه حق فيفعله, وما ليس للإنسان فيه حق فيتركه, وما لم توجد الإجراءات الكافية لحفظ حقوق الإنسان، إذا ظلم، أو إذا اعتدي عليه، أو قصر في حقه، كائن من كان هذا الظالم، ومهما كان حجم الواقع عليه.(199/13)
أزمة غياب المنهج
الأمة كثيراً ما تغيبت عن وعيها, ولا تعرف هويتها وحقيقتها وانتماءها, أو تغيبت عنها قبلتها التي أمرت أن تتجه إليهاصحيح! يعلم الناس أن الكعبة هي البيت الحرام فيصلون إليها في أحيان كثيرة, لكنهم قد لا يعرفون إلى أين يتجهون في تفكيرهم! وإلى أين يتجهون في اقتصادهم! وإلى أين يتجهون في سياستهم! وإلى أين يتجهون في إعلامهم! والإسلام دين جاء ليهيمن على الحياة كلها, ولتدور في فلكه كل الأعمال والأفكار والتصورات والمواقف.
لقد ظل جزء من الأمة يركض وراء الشيوعية حتى فوجئ بسقوطها, ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تركض وراء التغريب, ووراء النظام الدولي الجديد, ووراء أمريكا بنظمها وسياساتها وخططها وأفكارها ومناهجها, ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تنادي بالعلمانية وفصل الدين عن الحياة وعن كل المجالات العلمية المثمرة.
ومثل ذلك: التبعية لبعض المذاهب أو النظريات القديمة, ولو كانت موجودة في تاريخنا أو تراثنا, فإن تاريخنا يوجد فيه الآراء المنحرفة آراء الفلاسفة, وآراء الجهمية, وآراء المعتزلة, آراء الأمم الكثيرة التي نقلها بعض المسلمين وترجموها وتأثروا بها, فلا بد من تحرير التبعية، وأن يكون المعيار في المنهج للقرآن الكريم والسنة النبوية -لا غير- {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
إن هذا المقياس يقضي على كل صور التناقض في الأمة, فما وجدناه موافقاً للحق الوارد في القرآن الكريم والحديث الصحيح أخذنا به، بغض النظر عن مصدره, وما وجدناه مخالفاً رفضناه، ولو كان ظهر من بيننا ومن بلادنا.
من مظاهر انعدام المنهج أو ضعفه أو أزمته تذبذب الشباب وترددهم، وانعدام الانسجام الفكري والثقافي، وأزمة الثقة أيضاً بين الشباب.(199/14)
أزمة غياب التدين
وأخيراً من الأزمات: أزمة التدين: بل لعلها أهم الأزمات, ولذلك جعلتها هي الأخيرة، أزمة غياب مراقبة الله عز وجل وغياب الخوف من لقائه, وأي معنى لحياة إنسان غاب عنه الإيمان بالدار الآخرة؟! قال تعالى عن بعض عباده المخلصين {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] , فذكر الدار الآخرة واعتبارها في عمل الإنسان وقوله وفعله، هو الذي يضبط المعيار والميزان في نفسه, يجعله يقبل الخير بطواعية, ويعرض عن الشر بطواعية.
فهذا يوسف عليه الصلاة السلام تتيسر له كل الأسباب في بيت امرأة العزيز , وهي سيدة البيت، وقد أغلقت الباب، وفي خلوة، وقالت {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] وفى قراءة (هئتُ لك) , {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] .
فالخوف من الله والتدين -أمر عظيم- يجعل الإنسان يعرض عن الحرام، حتى ولو كان في متناول يده, ويفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه وعطبه.
أولئك الذين يخوضون المعارك, وتتساقط رءوسهم, هل كانوا يجهلون ذلك المصير؟ كلا.
ما جاء إنسان للمعركة وهو يعتقد أنه ذهب إلى نزهة أو سياحة, لقد عرف أنه ذاهب إلى ميدان حرب, ولكنه يعلم أن تلك الضربة التى يطير بها رأسه إن كان صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر, هي التي يدخل بها الجنة، برحمة الله عز وجل وإذنه.
إن أزمة: غياب التدين، وضعف مراقبة الله تعالى، وعدم الخوف منه, لهي أهم من كل ما سبق؛ بل هي السبب الرئيس في كل ما سبق, فذلك المسئول الذي فَرَّطَ في عمله، أو المدرس، أو الطالب، أو الأب، أو الزوج، كل هؤلاء ما فرطوا إلا بسبب ضعف التدين, وهذا السبب له نتائج: من مظاهرها: جفاف الإنسان في روحه, في محبته لله، وفي إيمانه وفي إشراق قلبه، وتوقده, وإيمان الكثيرين بالماديات حتى كأنها كل شيء, فأنت حينما تحدث الإنسان التاجر -مثلاً- عن البركة يلوي رأسه كأنه لا يؤمن بذلك, إنما يؤمن بالحسابات والدراسات الاستشارية, والأمور المبنية على حقائق عملية لها نتائج, وينسى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] .
فينزل الله تعالى البركة على عباده المؤمنين إذا صدقوا وآمنوا واتقوا.
ومن نتائج ذلك: اضمحلال النية الصادقة في عمل الإنسان، وفي أموره كلها, فلا يعمل إلا ما يرى أن له فيه مصلحه دنيوية عاجلة.
ومن أثار ذلك: ضعف الإذعان لأمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم, فأصبح الكثيرون يسمعون الأوامر ثم يخالفونها, ويسمعون النواهي ثم يأتونها, لماذا؟! لأن ذلك القلب المندفع إلى الطاعة قد ضعف فيه الدافع والحافز.
ومثل ذلك نسيان حقوق الله تعالى كلها, بل نسيان حقوق العباد، أيضاً.(199/15)
أسباب حدوث الأزمات التربوية
النقطة الخامسة لماذا يحدث هذا؟ لماذا تزداد الأخطاء؟! ولماذا تتعقد المشكلات؟! ولماذا لا نجد لها حلاً؟! ثمة أسباب عديدة، أذكرها بسرعة كسباً للوقت: السبب الأول: الرضا والقناعة الموجودة لدينا رضينا بالواقع، لا ندرك مشكلاتنا بشكل صحيح, وننكر وجودها -أحياناً- ونرى أنه ليس في الإمكان أن أبدع أكثر مما كان, وكل أمورنا مبنية على الكمال والتمام, ليس لدينا إحساس بحجم الفارق بيننا وبين غيرنا, والبعض منا يرغبون في الركود وعدم التجديد بحال من الأحوال.
السبب الثاني: عدم إيماننا بوجود المصارحة والمناصحة فيما بيننا, وعدم الوضوح والصراحة والمكاشفة في تعاملنا مع واقعنا, وعدم مناقشة أمورنا ومشكلاتنا بصورة صحيحة، وذلك لأننا نرغب -أحياناً- -كما نظن- في عدم الإثارة, أو اتقاء الفتنة, أو المساس بالمكاسب، أو غير ذلك, وننسى أنه لا يمكن تجنب الإثارة، واتقاء الفتنة، والحفاظ على المكاسب، إلا من خلال منهج واضح صحيح للنقد والمعارضة والمكاشفة, يكون مبنياًَ على الحقوق المتبادلة بيننا جميعاً, بين الزوج وزوجته, وبين الوالد وولده, وبين المدرس والطالب, وبين الحاكم والمحكوم, وهكذا السبب الثالث: عدم تحديد المشكلات بدقة, -فأحياناً- نحن نعزل كل مشكلة على حدة، كما لو كانت مخلوقاً مستقلاً منفرداً، ونحاول أن نبين أسبابها، ونقترح الحلول لها، وندرس هذه الحلول، ونخلص إلى نتائج نهائية، دون أن نربط بين ذلك وغيره من الأمور.
السبب الرابع: عدم الثقة بالعلم, وعدم البحث العلمي، واعتماد الأساليب العملية في الوصول إلى تحديد المشكلة وأساليب حلها, وتسخير العلوم الممكنة لهذا الأمر.
السبب الخامس: ضيق الأفق لدى البعض, أو الركود والتعصب للمألوف والعادات, والانطلاق من بعض المسَلَّمَات والبديهيات الخاصة، التي ليس لها سند شرعي ولا عقلي, فالكثيرون يقولون لك: هذا الأمر لا يتجادل فيه اثنان, ولا ينتطح فيه عنزان! أو يقولون لك: هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار, لمن أنار الله بصيرته, ولكن الواقع أن هذا الأمر ليس سوى أمر مألوف ومعروف, وهذا الضيق النفسي والعقلي الموجود لدى البعض يعميه ويصمه عن التقدم خطوة واحدة نحو التعرف على الأخطاء, وتعديل السلوك وحل القضايا والمشكلات.
السبب السادس: اعتقاد البعض أن مشكلاتنا تحل عن طريق الأساليب العقيمة, فمثلاً: الجدل والتراشق بالألفاظ، والتعصب، والتحيز الواضح لفكرة معينة, أو استيراد الحلول الجاهزة -أحياناً- أو ترك المشكلة اعتقاد أن الزمن كفيل بحلها, أو إلغاء الأسباب والنتائج, أو إلقاء المسئولية على الآخرين، وانتظار الحل منهم, أو التعامل مع المشكلات بالعواطف, كل ذلك قد يسكن الألم -أحياناً- ولكنه لا يوقف النزيف على المدى الطويل.
السبب السابع: هو عدم استصحاب النية الصالحة في نفع الناس, وبذل الوسع في التعامل مع القضايا والمشكلات, ونسيان الموضوعية في غمار التعصب, وعدم الإنصاف والتأني إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن يتميز بها كل باحث عن الحقيقة.(199/16)
أخطاء وحلول
أما النقطة السادسة والأخيرة وهي بيت القصيد فهي بعنوان "أخطاء وحلول".(199/17)
التوازن المفقود
خامساً وأخيراً: التوازن المفقود: إن التوازن مطلب شرعي، والله تعالى يقول {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] .
وفي الحديث المتفق عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: {إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، -بل- ولزورك عليك حقاً، فآت كل ذي حقٍ حقه} , وإن أي زيادة في جانب أو غلو يقابلها نقص وتفريط من جانب آخر.
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم والمقياس في الزيادة والنقص هو النص, إما آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح, أو إجماع من أهل العلم قائم ثابت.
قد يهتم الإنسان -أحياناً- بأمر من الأمور؛ لأن جِبِلَّتَه وتكوينه ومَلَكَتَهُ تقتضي ذلك, دون أن يلزم غيره بهذا أو يعاتبه على ما سواه، فلا حرج في ذلك, فأنت -مثلاً- اهتماماتك علمية لا حرج عليك ولا بأس, وآخر اهتماماته جهادية, وثالث اهتماماته دعوية, ونحن نعلم أنَّ في الصحابة رضي الله عنهم أبا ذر الغفاري، الذي لم يكن فوق الأرض ولا تحت السماء من ذي لهجة أصدق منه، ولا أزهد ولا أورع في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه لم يكن من أهل الولايات والإدارات, وفيهم خالد بن الوليد الذي كان سيفاً من سيوف الله تعالى، كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث في الصحيح.
في معركة مؤتة، الذي كان قوياً شجاعاً مقداماً باسلاً, ما هُزِمَ في معركة قط، ولَكِنَّ خالداً بن الوليد انشغل بالحرب والجهاد, فلم يتفرغ لنشر العلم والفتيا في أصحاب محمد ومن بعدهم.
وفيهم ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {اللهم فَقِّهْهُ في الدين وعلمه التأويل} وكان له قلب عَقُول ولسان سئول, وكان من المفتين والعلماء في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، في ملأ منهم، كـ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم.
وفي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من جمع الفضل والمجد من أطرافه كـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: {من أصبح منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من تصدق على مسكين؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من عاد مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من تبع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا, قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة} , وفيهم أمثال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
إذاً لا بد من الاعتدال مع مراعاة المواهب والتخصصات والملكات, المهم أن الإنسان يحرص على قدر من الاعتدال.
ومن الاعتدال: الاعتدال في بناء الشخصية, فيتوسط الإنسان بين الاندفاع وراء العاطفة الجياشة التي لا تنضبط, أو التوقف بحجة العقل والدراسة والنظر.
فإن الإنسان كُلُّ لا يتجزأ, وله عقل وعاطفة، ولولا وجود العاطفة لما استطاع الإنسان أن يتعامل مع الناس, ولا يأخذ ولا يعطي, ولا يتفهم أمورهم ولا يحبهم أو يحبونه, أو يتعامل معهم, فلا بد من الاعتدال في النظر بين العقل والعاطفة.
ومثله -أيضاً- الاعتدال في تقويم الرجال، فلا غلو ولا جفاء, وقد كان الصحابة -رضى الله عنهم- يربون الناس على ذلك, قال علي رضي الله عنه: [[إنه لعهد عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تهلك فيّ فئتان: فئة غلت, وفئة جفت]] وهكذا حدث فعلاً، فإن ممن بعد علياً رضي الله عنه من غلو فيه, حتى ادعوا له لا أقول: الولاية والإمامة، فهو كان أميراً للمؤمنين رضي الله عنه, لكن ادعوا له والعياذ بالله الألوهية، وكان يقتلهم ويحرقهم بالنار, وهم يقولون له: أنت أنت! يعني يزعمون له الألوهية، وهو يقول لهم: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا فكان يحرقهم رضي الله عنه.
وهلكت فيه فئة أخرى هي: التي فرطت في حقه وقصرت، ونسبته إلى شيء مما لا يليق بقدره ومقامه رضي الله عنه إن المقياس كما أسلفت هو النص، وفى صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: [[أقرأُنا أُبي ٌ وأقضانا علي]] , فحكم أمير المؤمنين بأن أبياً هو الأقرأ, وأن علياً هو الأقضى يعني: الأعلم بالقضاء, ثم قال عمر: [[وإنا لندع من قول أبي -يعني نترك بعض ما يرويه لنا أبي بن كعب رضي الله عنه- وذلك أن أبياً يقول: لا أدع شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]] ] فانظر إلى عمر، كيف اعترف لـ أبي ٍ بأنه هو الأقرأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, ثم بين أننا مع ذلك نرد بعض قوله، لا بالتشهي، ولكن بالنص الشرعي, فقال: [[إن أبياً يقول كذا وقد قال تعالى ((مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) [البقرة:106] فقال: نرد بعض ما قاله أبي بالقرآن الكريم، وليس بمجرد التشهي]] .
إن الأمة التى تغلو في شخص, لا بد أن تقصر فيه فتعظمه, حتى لا تتصور أن يخطئ، فيقع في الخطأ، فتجحف في حقه, ولا ترى له قدراً أو مكاناً, وهناك أمة تبالغ في شأن شخص، إهداراً لكرامته, ويبالغ آخرون في رفع اعتباره وقيمته ومنزلته.
إذاً فالاعتدال والحق فضيلة بين رذيلتين, إن من الاعتدال: الاعتدال في معاملة المرءوسين, وهناك من يحمل من تحت يده ما لا يطيق, سواء كانوا أولاده، أو طلاباً أو مرءوسين أو مربين، أو الأمة كلها -أيضاً- بشعوبها وأممها, هناك من يُحَمِّلُهم مالا يطيقون, فينقطعون ويَدَعُون العمل, أو يدعوهم ذلك إلى الإعجاب والغرور بأنفسهم، وبما أنجزوا وعملوا فيستكبرون.
ثم قد يهمل آخرون بحجة أنهم ليس لديهم مواهب.
فقراء في مواهبهم, ليس لديهم إبداع؛ فيترتب على ذلك تحطيم لهم، وإثارة مشاعر السخرية والكراهية والبغضاء في نفوسهم.
وكل إنسان صغر أم كبر؛ هو مزود بملكات وقدرات إبداعية, ولكن الشأن فيمن يكتشف هذه الملكات ويعرفها؛ ثم يوظفها توظيفاً صحيحاً.
إن من الاعتدال: التوسط في ملاحظة النفوس وطبائعها, فهناك المربي الذي لديه حساسية شديدة, فهو يتردد في كل شيء خشية أن يجرح فلاناً, أو يُغْضِب فلاناً, وهناك على الطرف الآخر من لا يَأْبَهُ بالآخرين حتى كأنهم عنده بشر بلا مشاعر ولا أحاسيس, فقد يرأس الصغير -مثلاً- على الكبير، ويحتج بـ أسامة بن زيد , أو يعاتب بشدة ويحتج بموقف نبوي, أو يفضل أحداً على أحد بوضوح، ويحتج بـ أبي بكر وعمر وهكذا, وينسى أن الأمر يتفاوت والموقف يختلف.
ومن الاعتدال: الاعتدال في النصيحة والتوجيه، فليس من الحكمة حرمان الناس من النصيحة، والنقد البناء الهادف الذي -يكون بأسلوب الحكيم المناسب- بحجة الخوف من ذلك, وليس من الملائم تربية الناس على الصفاقة وقلة الأدب وغياب الخلق، بحجة تربيتهم على قول كلمة الحق, أو عدم المجاملة في دين الله تعالى.
ومن الاعتدال -أيضاً-: الاعتدال في تربية النفس وتربية الآخرين, فلا ينبغي للإنسان أن ينشغل بنفسه عن غيره, ولا ينشغل بغيره عن نفسه, بل الاعتدال الاعتدال، وكما قيل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم(199/18)
من زرع الشوك لا يحصد العنب
الخطأ الثالث: إنك لا تجني من الشوك العنب! إننا جميعاً نعاني من الإهمال التربوي, ومع ذلك ننتظر نتائج طيبة, وأضرب لك أمثلة: الحكومات التي تريد الحفاظ على أبنائها وشعوبها, تجد أنها تتعاهدهم بالرعاية والعناية والخدمة والملاحظة, كما يتعاهد الإنسان غرسه ونبته صباح مساء, وتجد أنها تسعى إلى كسب ولائهم وتضع الخطط التربوية الناجحة للتأثير عليهم.
الأسر التي تريد الحفاظ على أبنائها -أيضاً- تجد أنها تحرص عليهم وتراقبهم مراقبة دقيقة, وتبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس.
أما المشكلة فهي الإهمال التام عندنا لأولادنا، وأسرنا، وبيوتنا، وشعوبنا, ثم ننتظر نتائج إيجابية، وأحياناً نندهش ونفاجأ حينما تخيِّب ظننا الأمور.
الأب مشغول بالتجارة, والآخر مشغول بالمزرعة, والثالث مشغول بالوظيفة, دوام صباحي ودوام مسائي, ورابع مشغول بالسفر في الإجازات، وفي الخميس والجمعة, ومشغول مع أصدقائه في بقية الأيام, أو مشغول بالزوجة الجديدة، التي أخذت عقله ولبه وقلبه ووقته, وأصبح كل همه ووجهه إليها, أو حتى قل: مشغول بالدعوة إلى الله تعالى, ومشغول بالعلم، ومشغول بالتعليم، وهي خير ما يشغل به الإنسان, لكن لا ينبغي أن ينشغل بهذا أو بذاك عن مسئوليته المباشرة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {ابدأ بمن تعول} .
يقول الولد: لمن تتركنا؟! وتقول الزوجة ويقول القريب: -أحياناً- حتى مجرد الجلوس مع الأولاد، أو الأكل معهم، أو المزاح، أو سؤالهم عن أحوالهم أو دراستهم وأوضاعهم، لا يكاد يتحقق من بعض الآباء المشغولين, وهذه مصيبة.
يقول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تَخَلَّتْ أو أباً مشغولا ليس هذا فحسب, فليست المشكلة فقط أن هؤلاء لم يجدوا من يربيهم!! بل إن المشكلة أن هناك وسائل بديلة قامت بتربيتهم.
فمثلاً: الإعلام أوالتلفاز الذي يستلم الطفل أو الشاب أو الزوج، من أول ما يدخل المنزل حتى ينام, بكل برامجه وصوره، وخيره وشره.
ثم يأتي دورالفيديو الذي يكمل نقص الإعلام، ويستطع الإنسان أن يحصل على ألوان من آلاف الأفلام التي تصور له أوضاع الشعوب الأخرى, فهذا يصور لك كيف يعيش الناس في المجتمع الأمريكي الكافر؟! وآخر يصور لك معيشتهم في المجتمع البريطاني الكافر! وثالث في المجتمع الفرنسي الكافر! ورابع يتحدث لك عن أوضاعهم الاقتصادية! وخامس عن الأمور الفنية! وسادس! وسابع! وهكذا! إذاً: هذا الإعلام بصورة واضحة وصريحة يقدم للناس هدياً وشريعة بديلين عن هدى الله تعالى وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم! فهو يعلم الكبير والصغير، كيف يدخل, وكيف يخرج, ويقعد وينام؛ بل كيف يخاطب, وكيف يُحَيْيِّ الناس, وكيف يتعامل معهم, فتتعلم منه البنت كثيراً من الأخلاق السيئة المنحرفة, ويتعلم منه الابن والفتى والصغير والكبير.
إذاً: فرض أن في أجهزة الفيديو والأشرطة الموجودة نقصاً، وليس موجوداً في تصوير ألوان التعاسة، التي تعيشها المجتمعات الغربية, فإن البث المباشر الذي أصبح يطل علينا الآن سيكمل هذا النقص على كل حال! وأنت تجد إعلانات -أحياناً- عن بعض الألوان من الأقراص، التي تستقبل ما يزيد عن أربع وتسعين قناة -ومع الأسف الشديد- أصبح يمكن لهذه في بلاد المسلمين, وتباع علانية, بل وتنتشر الدعايات حتى في صناديق البريد, دون تشهير ولا نكير, فضلا عن الصحف والمجلات.
إذاً الجانب الإعلامي: إذا غفلت أنت فهو ليس بغافل.
الجانب الرياضي الذي يهتم ببناء الأجسام دون بناء العقول، ودون بناء الأخلاق ودون بناء الروح والعلم, هذا أيضاً لا يغفل, فهو يبنى لك ولداً قوياً في جسمه ولكنه خواء في عقله وعلمه ودينه.
وأنا لا أقول: إن كل من يعمل في هذا المجال هو كذلك, ونحن نعلم أن من الرياضيين قوماً صالحين والحمد لله تعالى, ولكننا نحذر من مثل هذا المصير, فضلاً عن الجو الصاخب الهائج الذي يحدث أثناء المباريات, أو المنتديات أو غيرها، فضلاً عن تلك النوعيات المتفاوتة, من الكبار والصغار, ومتفاوتون في تعليمهم وأخلاقهم وسنهم، وفي غير ذلك.
إذا غفلت أنت فلن يغفل قرناء السوء من ضحايا المخدرات, أو محترفي الإجرام, أو هواة المغامرة, الذين هم من سن ولدك، وهم قادرون على التأثير عليه, وعلى إقناعه بصحبتهم ومشاركتهم في مغامراتهم وأنشطتهم.
والشارع بكل ما فيه: فإن أقل ما نقوله فيه: أنه ليس مكاناً للتلقي والتربية والتوجيه, وتغيب فيه الرقابة سواء من الوالدين أو من غيرهم, فإذا غفلت فلن يغفل الشارع.
وأيضاً العناصر الدخيلة, السائق -مثلاً- الذي يذهب مع البنات إلى المدرسة والسوق، وإلى مكان الترفيه، وإلى مدينة الألعاب وإلى غيرها دون أن يكون هناك أي قدر من التوجيه ولا من الرقابة, والثقة في ظن الكثيرين موجودة, ونحن نعلم أن كل أب يثق في بناته تلقائياً, ويثق في أولاده تلقائياً, لماذا؟ لأنه يذكرهم منذ الصغر ويذكر ما فيهم من البراءة, والبعد عن هذه المعاني, ويرى -أيضاً- ما عندهم من الخجل والحياء، الذي يجعلهم لا يتكلمون أمامه بشيء, فيظن الأب أن أولاده وبناته أبرار أطهار, ولا يتوقع أن المشاعر المتأججة التي قد تثور في نفس أي شاب, تثور عند ولده أو تثور عند بنته, فيضع مع هذه الأمور سائقاً مع بناته مثلاً، أو يضع خادمة مع الأولاد في المنزل, ويعتقد أن الثقة موجودة ولا شك أن هذا من أخطر الأمور.
وكذلك المدارس الأجنبية أو المدارس الخاصة، التي تعتبر -أحياناً- نوعاً من الوجاهة لا غير, فيكفيني أن أقول أن ولدي يدرس في مدارس خاصة, وأفاخر بأنه يحسن اللغة الإنجليزية؛ بل إن بعض هذه المدارس تبعث شبابنا للتزلج على الجليد في سويسرا وغيرها, وبعضها تبعث بهم إلى بريطانيا ليقضوا الإجازة الصيفية عند أسر نصرانية كافرة, بحجة أنهم يتعلمون اللغة الإنجليزية, بل إن بعضهم يذهبون بأولادهم إلى الخارج ويقيمونهم في فنادق خاصة بالأطفال, كما أعلنت عنها عدد من الإذاعات ووسائل الإعلام تستلم، الطفل والأب مشغول؛ مشغول بدنياه, أو بتجارته وبصفقاته, وقد يكون مشغولاً بغير ذلك مما لا نبوح به, فيدع أولاده في فندق في بلد غربي, هذا الفندق لا يسمح للأب بأن يأتي إلى ولده إلا مرة في الأسبوع ليطمئن عليه, وهم يستلمونه بعد ذلك ليربوه على أخلاقيات معينة, وعقائد معينة, ومفاهيم وسلوكيات معينة, ولك أن تتصور أي مستوى من الدين والأخلاق والشيم سوف يتربى عليها أطفالنا في مثل هذه البيئات! إذاً: الجو العام يؤثر تأثيراً كبيراً, والبيئة التي يعيشها الطفل، الإسكان -مثلاً- والسفر والغربة والفندق والزملاء والمدرسة إلى غير ذلك, فأنت إذا غفلت هم لا يغفلون.
ولا شك أن هذه جوانب سلبية في مجتمعنا, ولا يعني أن المجتمع يخلو من وسائل التربية الإيجابية, كلا! فنحن ندرك -مثلاً- أن هناك مدارس كثيرة تعتبر التربية فيها تربية إيجابية, فيها مدرسون ناصحون، ومدراء مخلصون, ومسئولون حريصون على مصلحة الطلاب, سواء كانت مدارس رسمية أو كانت مدارس أهلية.
هناك -أيضاً- المساجد, التي هي منطلق التربية ومصدر الإشعاع, وهي الجو الطبيعي لتربية المسلم على مكارم الأخلاق ومعانيها, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش معظم وقته مع أصحابه في المسجد, حلقات للتعليم للعبادة، للصلاة، للسؤال، حتى إن الرجل الجاهل يأتي فيدخل المسجد، فيجد الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فيقف ويقول: أيكم محمدٌ؟ فيشيرون إليه, ويقولون: هو ذا, فيسأله عما أشكل عليه من أمر دينه أو دنياه.
القرناء الصالحون: وهم -بحمد الله تعالى- موجودون وهم كثيرون, وينبغي الحرص عليهم وأن يضع الأب ولده في دائرتهم.
الحلقات والدروس العلمية: سواء كانت حلقات تحفيظ القرآن الكريم, أو لتعليم العلم الشرعي من فقه، وحديث، وتفسير، وفرائض، ولغة، وغير ذلك , ومجالس الذكر التي يؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر, وترقق فيها القلوب, وتحرك فيها المشاعر, كل ذلك من وسائل التربية.
أيضاً الوسائل العلمية النافعة المفيدة مثل الكتب المفيدة , والأشرطة الإسلامية النافعة, مع أنها أصبحت اليوم -مع الأسف- تحاصر ويقلل من انتشارها وشأنها وأهميتها.
ومنها المجلات الإسلامية المفيدة إلى غير ذلك؛ المهم أن الأم والأب والمسئول لهم دور في وصل الناس بهذه الوسائل التربوية المفيدة, ومنعهم وإبعادهم عن تلك الوسائل الضارة.
وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس, والتكاليف ثقيلة, والشيطان مسلط, فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية، وحزم وتشجيع.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم أين الأب المدرك لمسئوليته في تربية ولده؟! أين الذي يتصور قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] , فهو يراقب ولده منذ نعومة أظافره؟ ومنذ طفولته! وهو يسأل الله تعالى أن يحقق فيه أمنيته, أن يجمعه معه في الجنة, وأن يرفعه إلى رتبته حتى يسعد به.
أين الأب الذي يتصور قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {} .
إن أعظم ما تخلفه من بعدك! ليس المال فهو لورثتك! ولا الشهرة والجاه، فهي لا تنفعك وأنت موسد في قبرك, وإنما العمل الصالح، ومنه العمل الدائم الباقي الذي لا ينقطع, أو ولد صالح يدعو لك.
ومن ألوان الإهمال -أيضاً- ليس فقط إهمال الأب: إهمال إمام المسجد في حيه عن توجيه الناس وتعليمهم أمور دينهم, وحثهم على المحافظة على الصلوات, وحثهم على مكارم الأخلاق, ومراقبة المتخلفين عن الأعمال الصالحة ونصحهم وإرشادهم, والقيام بالأعمال الخيرية، وتتبع المحتاجين الفقراء المعوزين المعدمين, ومراقبة الشباب والقيام باتصالات معهم, ومحاولة إقامة نشاطات: دروس علمية، ودروس تحفيظ القرآن الكريم، ومسابقات ثقافية، وتوزيع أشرطة إلى غير ذلك من الأعمال, مثله -أيضاً- المدرس في مدرسته، والمسئول في إد(199/19)
الشكل أم المضمون؟
الخطأ الثاني: الشكل أم المضمون: إن الإغراق في الشكل على حساب المضمون, أو في الكم على حساب الكيف, من أعظم أمراضنا! مثلاً: الرجل يهتم بملابسه وبغترته وبحذائه, والمرأة كذلك , بل أشد، فتجد كل موديل جديد لدى المرأة, وتجد لديها ألواناً من تلك المجلات والكتب التي تسمى بالبوردات, فاليوم من فرنسا، وغداً من تايلاند، وبعد غدٍ.
وهكذا , وتجد لديها عشرات، بل مئات من الملابس والثياب، ربما لم تلبس منها شيئاً إلا قليلاً، وبعضها مرة واحدة أو مرتين!.
وكذلك الحال بالنسبة للطفل، فنحن معنيون جداً بملابسه وجماله وحذائه وغير ذلك, هذا بلا شك إذا كان في حدود الاعتدال، فهو مطلوب، ولا بأس به, لكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب العناية بصلاح الإنسان، بقلبه وأخلاقه، ودينه، وعمله، وثقافته، وعبادته، وتربيته, مثل ذلك قصات الشعر -مثلاً- والتسريحات، وبالأمس كنا نحسبها للنساء فقط.
فالمرأة اليوم تقص قصة وغداً تقص قصة أخرى, وأصبحت الفتاة تتابع التسريحات في العالم أولاً: بأول, ليس هذه المشكلة فقط؛ بل تطور الأمر وأصبح هذا حتى بالنسبة للشباب, فأنت تجد تلك الصالونات التي كثرت، أصبحت تعتني بقصات الشعر وتتخصص فيها, وربما جلس الشاب أمام المرآة وقتاً طويلاً من أجل تسريح شعره, لكن لو تجاوزت هذا الشعر قليلاً إلى ما يوجد في داخل، الرأس معلومات، وعقل، وثقافة، واهتمامات، ربما تجد خواء في خواء.
ومثلاً الأثاث المنزلي: كثيرون منا يهتمون بالأثاث المنزلي، وتجديده وتنويعه وتناسقه في ألوانه إلى غير ذلك, ومن الضروري أن يكون جهاز التلفاز موجوداً أو جهاز الفيديو, وغرف النوم الفخمة إلى غير ذلك! الكثيرون يهتمون بهذا ولكن! الاهتمام بقيام المنزل على أساس السعادة الزوجية -مثلاً-, وقيام المنزل على المسئولية المشتركة, وقيام المنزل على أساس شرعي، هذا ربما لا يكون قائماً في اهتمام البعض! ومثله -أيضاً- مسألة الترفيه والرياضة فأنت تجد الأمة تحتفل احتفالاً كبيراً بالترفيه, والرياضة لون من ألوان الترفيه, ولكنها أخذت من وقتنا وعمرنا واهتمامنا, وأخذت شبابنا وفلذات أكبادنا, فأصبح الطالب حتى وهو في أيام الاختبار -مثلاً- مشغولاً بمتابعة دوري ما، أو مشغولاً بمتابعة الرياضة على الشاشة أحياناً, وأصبح يحفظ أسماء أندية العالم، وألوان ملابس هذه الأندية، وأسماء المدربين، وغير ذلك، ويتابع أولاً: بأول, وليس ذلك فقط، بل يبذل من عواطفه ومشاعره واهتماماته الشيء الكثير في هذا السبيل.
ومثله -أيضاً-: الجانب الترفيهي: الذي أصبح يأخذ وقت الكثيرين من الناس, ولو أنهم أعطوا الناحية الشرعية أو العقلية أو الثقافية أو العلمية جزءاً من ذلك: لنتج عنه خير كثير.
اهتمام الأمة عامة بالمباني والجسور والطرق والمعالم الحضارية -كما تسمى-, اهتمام المدير في المدرسة بحضور المدرسين, أو اهتمام الموظف بحضور مرءوسيه وقت الدوام، وألا ينصرفوا إلا في الوقت نفسه, دون أن يهتم بالعطاء وهل أنجزوا ونجحوا وأدوا مسئوليتهم، أم أن الواحد فقط! يحضر ثم لا يقوم بعمل؟! اهتمام الأب ببقاء أولاده في البيت, لكن يبقون لماذا؟! هل ليتعلموا؟! هل ليحفظوا القرآن؟! هل ليتربوا على مكارم الأخلاق؟! هل ليقوموا بعمل دنيوي ومفيد؟! لا يعنيه ذلك، أم أنهم جلسوا أمام التلفاز، أو أمام الفيديو، أو أمام أشياء قد لا تكون في مصلحتهم.
اهتمام المدرس بالمنهج، المهم أن ينتهي من المنهج مع نهاية العام الدراسي، وليس المهم عنده -أحياناً- هو بناء الطالب وإعداده، وتنمية علمه وعقله، وتأهيله للنزول إلى ميدان الحياة, وخدمة الأمة.
اهتمام الأمة -في تعليمها- بعدد الدارسين! فنحن نجد أن التعليم متاح للجميع، وأي طالب لا يتعلم يعتبر ناقصاً، ليس فقط للمستوى المتوسط أو الثانوي؛ بل لا بد أن يأخذ الجامعة, وإني أعرف البعض من الطلاب قد يجلسون زماناً طويلاً في الجامعة لأنه مشغول عنها مشغول بأمور البيت وبتجارته وبأعماله الأخرى, ولكنه مع ذلك مُصِرُّ على هذا الأمر، وكأنه ليس له أهلاً أو ليس له مناسباً, لماذا؟ لأن هذه التقاليد فرضت علينا، أن هذا الروتين لا بد أن يتم, ولا بد لكل الجيل أن يتعلم, وكأنه لا يمكن أن يخدم إلا من خلال هذه القناة, مع أن الإنسان الذي يكون فاشلاً في دراسته -مثلاً-, قد يكون ناجحاً جداً في ميادين أخرى، إذا اتجه لها وانبرى لها, لكن هذا القانون السائد جعله يهتم بهذا الجانب دون رعاية هذه النوعية! حتى في دراساتنا العليا، لما يطالب الإنسان أن يحضر رسالة ماجستير أو دكتوراه, تجد أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً: كم صفحة رسالته؟! كم مجلد؟! لكن قلما نسأل ما هي النتائج التي توصل إليها, هل كان عميقاً في بحثه؟! هل وصل إلى نتائج جديدة؟! إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتعلق بالمضمون.
مثل ذلك الإعلام: تجد أن الإعلام العربي كله في بلاد الإسلام -أيضاً- تجد هذا الإعلام يهتم بساعات البث والإرسال أن تكون مستمرة, لكنه لا يهتم بنوعية ما يشاهده الناس, أو نوعية ما يستمعون, هل هو ينفعهم أو يضرهم؟ هل يبني أو يهدم؟ هل هو على حساب الأخلاق والدين، أم يقوي ويعزز جانب الأخلاق والدين؟!.
ومثله -أيضاً- الجوانب العسكرية في العالم الإسلامي: فقد تجد -أحياناً- توفيراً لبعض الأجهزة، أو عناية بعدد الجنود, ولكن! لا تجد الاهتمام بكفاءتهم وقدراتهم, فضلاً عن أن تجد الاهتمام بإخلاصهم ومعرفتهم للهدف الذي من أجله يتدربون, ومن أجله يقاتلون, ومن أجله يتربون, لذلك اليوم الذي يفترض أنهم يربون له، ألا وهو مقاومة أعداء الإسلام, والدفاع عن الحرمات، وعن الدين، وعن الأخلاق، وعن مكتسبات الأمة الإسلامية.
إذاً: تتلخص اهتماماتنا كثيراً بالمادة على حساب الإنسان, حتى اهتمامنا بالإنسان حين نهتم به, نهتم به من الناحية المادية فحسب.
فنحن قد نعامله كرقم في الإحصاء -مثلاً- نعده إنساناً ونعطيه رقماً, ولكننا نكتفي بهذه المعاملة الرقمية العددية أو الآلية, وننسى الكرامة التي هي سِمَتُه, والابتلاء الذي ألقي على كاهله, {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] , وننسى التكليف الذي حمله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] .
إن من أعظم ذلك: الاهتمام بالظاهر على حساب الباطن, وفي الشريعة الإسلامية والقرآن والسنة لا يوجد أصلاً, ولا يتصور تفاوتاً بينهما, فكما قال: عليه الصلاة والسلام كما في الحديث المتفق عليه {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .
فصلاح الظاهر -حقيقة- يدل على صلاح الباطن, وصلاح الباطن لا بد أن يثمر صلاح الظاهر, لكن مما ينبغي أن نعلمه -دائماً وأبداً- أن العقيدة هي الأصل.
فالأمور العلمية الاعتقادية, كمعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة اليوم الآخر، والإيمان به والملائكة والكتاب والنبيين, هذه الأشياء أصول ينبغي أن تغرس في النفوس، وتبنى عليها التربية, ثم الأعمال القلبية -أيضاً-, كمحبة الله تعالى وخوفه ورجائه، والرغبة فيما عنده، والخشوع له، والرهبة والإنابة إليه، وغير ذلك من المعاني العظيمة, هي أمور يجب أن تغرس في القلوب.
ثم تأتي بعد ذلك الأعمال الظاهرة كالعبادات، وهي مبنية على الباطن, ولهذا لو صلى من غير نية لم تكن صلاة مقبولة {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] .
ومثله: العبادات كلها, وكذلك الاهتمام بالشكل المظهري للإنسان، كالعناية -مثلاً- بملابسه، وبشكله، وبشعره، وبمشيته، ودخوله، وخروجه, وموافقة ذلك كله للشريعة.(199/20)
لا نامت أعين الجبناء
رابعاً: (لا نامت أعين الجبناء) : إن الشجاعة معنى كبير, وسر خطير, وقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها, إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة, وطاغوت العرف, ويَتَحَدَون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم من قلة الناصر والمعين, وكثرة المعاند والمخالف, وعلى رغم التلبيس والتدليس.
فما الذي جعل رجلاً كموسى عليه السلام يقف أمام طاغية متألهٍ متجبر كفرعون! ويقول له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] .
ما هو الذي جعل رجلاً نبياً مختاراً -كإبراهيم عليه الصلاة والسلام- يحطم الأصنام وهو يعد فتىً في مقتبل العمر! ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] .
ما الذي جعل رجلاً -كمحمد صلى الله عليه وسلم- يجمع قومه، وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف والملأ من المستكبرين، ثم يقف بين أيديهم منذراً محذراً {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} .
ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم، ويجاهدوا ويعلنوها صريحة قوية مدوية؟! لماذا وقف عمر بن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة في بني أمية، الذين كان واحداً منهم وينتسب إليهم, وكانوا يخشون أن يغير ملكهم, أو عادتهم وميراثهم, فيقف عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- نصيراً للحق مدافعاً عنه, قائماً على الظلم, محارباً له, راداً للحقوق إلى أهلها, لا يأمر بخير إلا فعله, وكاد الأمر أن يتم؛ لولا السم.
ما الذي جعل رجلاً -كالإمام أحمد بن حنبل - يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن! ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين, ويصابر عليها, ويرضى بالسجن والجلد، والتعذيب والمطاردة والتضييق والحرمان من التدريس، من التعليم، من المحاضرات، من الإفتاء ومن غير ذلك, حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن، حتى أنه -رحمه الله- كان يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية.
ما الذي جعل رجلا -كالإمام ابن حزم - يقف ويتحدى من حوله, ويصبر ويصابر! فإذا قيل له: يا رجل تَحَفَّظ ولا تتعجل! أنشأ يقول: قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنوا وإنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن قالوا: له أحرقوا كتبك ومزقوها ومنعوا من تداولها, وحذروا الناس منها, ووصفوها بأبشع الأوصاف, فأنشأ يقول: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أَنزل ويدفن في قبري دعوني من إحراق رق وكاغَدٍ وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري وإلا فعودوا للكتاتيب بدأة فكم دون ما تبغون لله من ستري كذاك النصارى يحرقون إذا علت أكفهم القرآن في مدن الثغر ما الذي جعل رجلاً كالإمام ابن تيمية -رحمه الله- يصبر ويجهر بكلمة الحق، ويتحمل الأذى في سبيلها! فيسجن لمرات ويؤذى بل ويضرب أحياناً في الشارع، وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبداً.
ما الذي جعل رجلاً كالإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه, والبدع والخرافات, والكهنة, والسحرة وغير ذلك, وألوان المخالفات! فيقوم جاهراً بكلمة الحق، مجاهراً صابراً في ذات الله عز وجل، حتى نصره الله تعالى، وأصبح ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب من الحق هو الظاهر، كما قال الله عز وجل: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] .
ما الذي جعل رجلاً كالإمام الشوكاني -مثلاً- ينتصر للحق ويناضل في سبيله, ويلقى ما يلقى فيموت هو, ويبقى ذكره في الآخرين! وهكذا إن الشجاعة قوة في القلب, تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق, ولا ينفر من الوحدة, ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات, ولا ينافق ولا يجامل أو يحابي أو يداهن في دين الله عز وجل, إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبداً, فإن الناس يركلونهم ويركضونهم، ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس، وتتطلع إليه القلوب, وقد قال الله عز وجل {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] .
إن من أبرز أخطائنا أن نغرس في نفوس أبنائنا, الخوف من كل شيء, نحرمهم من التجارب والمحاولات، بحجة أن هذا قد يودي بحياتهم.
فمثلا: نحن قد نخيف الولد الصغير من الكهرباء, أو من السيارة أن تصدمه وهذا صحيح ولا شك فيه؛ لكن! ما معنى أن تربية الجدة على الخوف من السحالي! فلا تذكر سالفة أو قصة إلا ذكرت فيه تلك السحاليات التي تأكل الأحياء من البشر, وتلتهمهم وتفعل بهم وتفعل.
ما الذي يجعلنا نخوف أولادنا -دائماً وأبداً- من تلك الأقراص الحامية التي نزعم أنها تنزل من السماء بأدنى سبب, حتى لو لم يكن مخالفة شرعية ولا معصية, مع أن فيه من الكذب والافتراء على الله عز وجل ما فيه؟! ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا -أحياناً- من رجال الشرطة, حتى نقول للطفل الصغير: إن مجرد إشاراتك بالإصبع إلى رجل الشرطة يعني أن تقطع أصبعك؟! ما الذي يجعلنا نخوف أولادنا، بل ونساءنا وكبارنا -أحياناً- من الجن, وكأن الجن والعياذ بالله يستطيعون أن يفعلوا كل شيء؟! أو من العين والسحر, وننسى أن نربيهم على التوكل على الله عز وجل, والثقة به, والاعتماد عليه, وكثرة الأوراد والقراءات والأدعية التي تحفظ العبد -بإذن الله تعالى- من شر شياطين الجن والإنس.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة} .
فالبيت الذي فيه ذكر الله, وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفيه التربية على مكارم الأخلاق, لا مكان فيه للشيطان ولا مكان فيه لأولياء الشيطان من الجن والإنس, وفي الدائرة الأوسع، حينما نتجاوز دائرة البيت, ودائرة الطفل نجد أن هناك تخويفاً عالمياً من أولياء الشيطان، من الكفار، من اليهود -مثلاً- الذين أصبحنا نتحدث عن أسلحتهم التي يملكون, وخططهم التي يدبرون, وقدراتهم والتمكين لهم, أو النصارى وما يملكونه -أيضاً- وغيرهم من أمم الكفر، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] يعني إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أنتم من أوليائه.
يكبر أولياءه في قلوبكم حتى ترهبوهم, فلا تقوموا بعمل, ولا بدعوة, ولا بجهاد, لأن الإنسان الذي يخاف لا يعمل ولا ينتج, لماذا نربى أنفسنا وشعوبنا وأممنا على الخوف من الدول العظمى وجيوشها الجرارة، وأجهزتها الضخمة، وأعدادها الرهيبة؟! بل لماذا نربى أنفسنا ومن تحت أيدينا من الشباب والطلاب وغيرهم على الخوف من أجهزة الأمن، ومن رجال المباحث، ومن المخابرات؟! حتى يتخيل الإنسان -أحياناً- أن هذه الأجهزة تدخل إلى جوفه مع الشهيق وترسل التقرير في الزفير كما يقول أحدهم, ويصبح الإنسان يخاف من ظله.
حتى صدى الهمسات غشاه الوهن لا تنطقوا إن الجدار له أذن.
! مثل ذلك -أيضاً- من ألوان الخوف وفقدان الشجاعة: الخوف من الفشل, والخوف من الخطأ, والخوف من الإخفاق.
إن من المؤسف أننا لا نحترم اجتهاد الإنسان, ولا نقدر عمله, بل -أحياناً- نعاقبه على اجتهاده عقاباً يحرمه ويحرم غيره في المستقبل حتى من مجرد التفكير في العمل, إنها منطقة محرمة والسلامة لا يعدلها شيء، والكثيرون يؤثرون أن يسلموا -لا لهم ولا عليهم- على أن يغامروا وقد تكون النتيجة غير مأمونة.
إن ذلك قتل للمواهب، ووأد للطموح، وقضاء على الإبداع, ويجب أن نعلم أن الذي لا يخطئ لا يمكن أن يصيب أبداً, ولكي نربي الشجاعة في نفوسنا، ونفوس من تحت أيدينا من الأولاد والبنات والرجال والنساء والأمم والشعوب, يجب احترام شخصية الإنسان، واحترام رأيه منذ الصغر, وفي كافة المراحل وعلى كافة المستويات, فأنا أقول لك: أي معنى لأن تولى ولدك أعمالاً، ثم تسفه رأيه فيها! وإذا قال لك: فلان، قلت: فلان لا يهمني, لا يهمك, ألأنه ولدك الذي تعرفه؟ لا! ينبغي أن تحترم شخصيته، ورأيه، واجتهاده، وعمله, وتسلم له تخصصه, وأي معنى لأن تفترض على ولدك كل شيء، ولا تعطيه مجالاً للاختيار والتفضيل أبدا؟! فالثوب أنت تختاره، والحذاء أنت تختاره, واللعبة أنت تختارها, والكتاب أنت تختاره, وكل شيء أنت تختاره, لماذا لا تعطي ولدك أو أخاك أو من تربيه فرصة في الاختيار؟! حتى المعلم أو الأستاذ أو الشيخ, لماذا لا يعطي تلميذه فرصة في اختيار الكتاب الذي يقرؤه, أو الطريقة التى يتعلم بها؟ أليس الشرع جاءنا بالشورى؟ والله تعالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] .
فيأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي من السماء ويقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] في وصف المؤمنين، ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضى الله عنه، وكثيراً ما كان الصحابة أبو بكر أم عمر ومن بعدهم يقف ويقول: أشيروا عليّ أيها الناس، فالولد مع أبيه في عمله وتجارته وزراعته, والطالب مع مدرسه في طريقة التدريس، في أخذ المنهج وفي(199/21)
التركيز على الأخطاء
الخطأ الأول: فأين الصواب إذاً؟ وأعني بهذا الخطأ: التركيز على الأخطاء, ولعل لقائل أن يقول: إن محاضرتك نفسها عنوانها (بعض أخطائنا في التربية) فأقول: نعم حتى التركيز على الأخطاء في موضوع أو درس أو محاضرة ينبغي أن يكون بقدر معتدل.
إن التركيز على الأخطاء والانحرافات لا يبني أبداً, بل الأصل هو وضع المعيار الصحيح، وتمكين الإنسان أن يكتشف الخطأ بنفسه, مع الثناء عليه إذا أصاب, وتوجيهه إذا أخطأ.
مثلاً: الواعظ والخطيب: إنما هو مربٍّ فينبغي له أن لا يركز على الأخطاء, ويجعل كل خطبه ودروسه ومحاضراته هي عبارة عن سياط يلهب بها ظهور الناس, فيخرجون منه كل يوم وقد حميت ظهورهم من أثر هذا الكلام الذي انحى به عليهم لا, ينبغي أن يكون -أحياناً- هناك حديث عن الصواب، ليعمله الناس دون تعريض للخطأ, -وأحياناً- يكون هناك ثناء على بعض الظواهر الإيجابية حتى تنمو وتكبر, وأحياناً يكون هناك تنبيه إلى بعض الأخطاء، بالأسلوب الشرعي المناسب.
المدرس أو المدَرِّسَة -أيضاً- هم من المربين فكون المدرس أو المدَرِّسة يركز على أخطاء الطالب فإذا أخطأ وأبرز الخطأ وعلق عليه، وأكد على هذا الخطأ, فإن هذا يحطم الطالب، ويجعله لا يفكر في المحاولة مرة أخرى, لا, ينبغي أن يبرز الجانب الآخر.
جانب الصواب الذي أصاب فيه, الجانب الإيجابي عند الإنسان.
ومن القصص المشهورة التي تبين لك أن الإنسان يستطيع أن يؤدي المعلومة بأكثر من أسلوب: أن خليفة رأى في المنام أن أسنانه قد سقطت, فطلب رجلاً يعبر الرؤيا, فقال له: يا أمير المؤمنين! يموت أهلك كلهم، وتبقى أنت بعدهم! فأمر به فجلد حتى أغمي عليه, ثم قال: ارفعوه عني.
فدعا بِمُعَبِّرٍ آخر, فقال له: يا أمير المؤمنين! أنت أطول أهلك عمراً، فأعطاه جائزة!!.
إن الإنسان يستطيع أن يعبر عن التوجيه والإرشاد والنصيحة بأسلوب غير مباشر أحياناً، وبأسلوب مباشر أحياناً أخرى, ويمتدح الصواب في بعض الأحيان, ويمتدح فلاناً لأنه أصاب وهكذا والأب -أيضاً- مربي، فكون الأب لا يحسن إلا سب أولاده وشتمهم، والدعاء عليهم وتعييرهم وفلاناً فعل وابن فلان فعل وأنتم فيكم وفيكم هذا لا شك لن يبني أولاداً صالحين قط, بل سيجعل هؤلاء الأبناء يفقدون الثقة بأنفسهم, ويعيشون إحباطاً, وقد يؤدي إلى كراهيتهم لأبيهم, لكن بدلاً من أن تقول: أنت أخطأت قل: هذا العمل لا يعجبني، لا يناسبني، أو لا يصلح, ولو قلت له هذه المرة أخطأت, المرة الثانية: لا بد أن تثني على الصواب, من الممكن أن تستخدم معه أساليب متعددة؛ بل أقول كل إنسان في مسئولية، فهو يتناول ويتولى جزءاً من مسئولية التربية, حتى الحاكم الأعظم أو الإمام أو الخليفة أو السلطان هو أيضاً مربٍ على نطاق أوسع، ومسئوليته في عدم تتبع الأخطاء, وعدم تتبع العورات, واضحة جليه.
إذاً لا بد أن تكون الأخطاء موضوعة بصورة معتدلة إن الإنسان الذي يلاحق أخطاء الناس, ويكثر من الحديث عنها، ربما يكون لديه شعور بالكمال, ولذلك فهو -دائماً وأبداً- يبحث عن الزوايا المظلمة, والمناطق القاتمة في الناس ليتحدث عنها.(199/22)
الأسئلة(199/23)
واجبنا نحو المتساقطين على الطريق
السؤال
تحدثت عن عدم التدين وعن ترك الزمن ليحل المشاكل, ما رأيكم فيمن يلتزم شهوراً أو سنوات، ثم بعد ذلك تراه قد ضل السبيل وانحرف عن الطريق الصحيح, وما عملنا تجاهه؟ أنترك الزمن ليحل هذه المشكلة, وما نصيحتكم؟
الجواب
أما مسألة الانحراف، وكون أن هناك بعض الناس ينكصون على أعقابهم, فهي سنة إلهية، قال الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] .
إذاً هذا أمر لا حيلة فيه ولا بد منه, لكن حينما تقف أمام ظاهرة أو حدث معين، أن فلاناً حصل منه تأخر، أو تقهقر أو حور بعد الكور، فعليك أن تبذل وسعك في تربيته وإعادته إلى سواء السبيل, وينبغي أن تراعي أن فلاناً هذا عارف بالأمور.
وربما يكون لديه ملاحظات, أو واجه مشكلات معينة, أو أصابه خطأ من أحد, فينبغي أن تكون واسع الصدر معه, حليماً، مناقشاً له, تعطيه فرصة أن يعبّر عما لديه, وتناقشه بالحكمة، ويكون لديك استعداد أن تعترف بالخطأ, إذا كان وقع خطأ تجاه هذا الإنسان, وتسعى في إصلاحه، وتبين له أن المسئولية يوم القيامة مسئولية فردية, {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] , {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:5-10] , فهو لا يسأل عن أحد, ولا يسأل عنه غيره, لا تكلف إلا نفسك، وتذكره بمسئوليته الفردية وضرورة الاستقامة على الحق, ودعوة الناس إليه.(199/24)
النكت والطرائف
الطرائف والنكت أمر منتشر بين الناس حتى صار اليوم فناً يدرس، والبعض قد يقدح في الدين بطرفة وبعضها مكذوبة، وبعض الطرائف والنكت أحياناً مطلوب، وبعض العلماء الأجلاء كتبوا فيها ما بين حكاية وأعجوبة، والمسلم بحاجة لضبط نفسه بالشرع، وحكم تصرفاته بما يوافقه، وهذا الدرس يبين لك ذلك.(200/1)
النكت والمزاح
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أحبتي وإخوتي الأكارم: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذا هو الدرس الرابع عشر في سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الثامن من شهر الله المحرم، لعام (1411هـ) .
موضوع الدرس في هذه الليلة، هو صلة الحديث عن موضوع (المباح وغير المباح من المزاح) وعنوان هذا الدرس بالذات هو: (النكت والطرائف) وقد كنت تحدثت فيما مضى عن موضوع المُزاح والمحمود منه والمذموم، والجائز منه وغير الجائز، وبينت نماذج من هذا وذاك، وتكلمت عما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والأئمة المشهورين من ذلك.
ولا شك أن النكت والطرائف هي جزء من المزاح، فقد يتساءل البعض ولماذا نفردها بالحديث؟ فأقول: لا شك أنها جزء منه، وإن كانت جزءاً متميزاً؛ لأن النكت والطرائف هي -غالباً- عبارة عن روايات، وقصص صغيرة أو قصيرة يتناقلها الرواة، ويتداولونها على سبيل الإضحاك، فهي جزء من كل، وعلاقتها بموضوع المزاح علاقة الجزئية، فهي جزء من الموضوع العام، لكنها حظيت بمزيد من الاهتمام، وأصبحت في هذا العصر فناً خاصاً له أصوله، ومدارسه، وطرائقه، وأساليبه وكتبه وأهله، إضافة إلى أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة كثير من الناس، بل غلبت على كثير من الناس وأصبحت هي أهم جزء في حياتهم.(200/2)
ماهية النكت
النكت والطرائف: النكت: جمع نكتة، فمن أين اشتقت النكتة في اللغة العربية؟ هذه دردشة خفيفة حول الأصل اللغوي، من خلال قراءتي لكتاب لسان العرب وما ذكر فيه ابن منظور، وجدت أنه يمكن أن نقول: إن النكت مشتقة من أحد ثلاثة معان: إما أن تكون مشتقة من (النَّكْت) وهو الضرب في الأرض بعود أو غيره بحيث يؤثر فيه، جاء في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان ينكت الأرض بعود في يده} يعني يضرب به الأرض فيظهر أثره على الأرض، وإذا كان اشتقاقها من هذا المعنى فهو دليلٌ على أن الأصل في النكت أنها مذمومة، لأنها تؤثر في القلب وفي النفس، كما يؤثر هذا العود في الأرض، فيحدث فيه ندوباً وآثاراً، فكذلك بعض النكت أو كثيرٌ منها تحدث في النفس نكتاً وندوباً وآثاراً، فلذلك سميت بالنكت.
ويحتمل أن تكون مشتقة من (النَّكْت) وهو الطعن في الناس، يقال: هذا رجل نكات إذا كان طعاناً في الناس، وأيضاً إذا كان اشتقاقها من هذا المعنى؛ فذلك لأن كثيراً من النكت يكون المقصود بها الطعن في فلان أو فلان، أو العائلة الفلانية، أو القبيلة الفلانية، أو البلد الفلاني، أو ما أشبه ذلك، فتكون مذمومة على هذا الاشتقاق إجمالاً أيضاً.
أما الاحتمال الثالث: وهو الأقوى والأظهر والأرجح، فهو: أن تكون مأخوذة من (النَّكْت) وهو النقط، يُقال: نكت بمعنى نقط، ويُقال: نكتة أي نقطة، فهي النقطة في الشيء التي تكون مخالفة للونه، للون أرضه وعامته وغالبه، ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في حديث حذيفة: {تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً -وفي رواية- عَوْداً عَوْداً فأيما قلبٍ أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء} فقوله نكتت أي: نقطت ووضعت فيه نقطة سوداء أو نقطة بيضاء.
وعلى هذا الاشتقاق؛ فإن هذا يدل على أن النكت ينبغي أن تكون قليلة، كما سبق في موضوع المزاح تكون كالملح في الطعام، فتكون مثل النقط المنتشرة المغايرة للون الأصل، بمعنى أن الأصل فيك يجب أن يكون هو الجد، والكلام المفيد، وأما النكت فهذه استثناءات عارضة مخالفة للون الأصل الذي أنت عليه، فالأصل عندك الجد، ولكنك تمزح أحياناً بهذه النكت كما سبق.
الجد شيمته وفيه دعابة حيناً ولا جدٌ لمن لا يهزل أما الطرائف: فهي أخف شأناً، وأظهر من حيث الاشتقاق اللغوي، فإنها جمع طرفة، وهي تحتمل أيضاً معنيين أو أكثر، ومن مراجعتي أيضاً لكتاب تهذيب اللغة للأزهري، تبين لي أنه من الممكن أن تُرجع إلى أحد معنيين: أولهما: أن ترجع إلى الطَّرف، والطرف هو النظر أو البصر، ولذلك يقول الناس: طرفه، يعني إذا أصيبت العين، إذا ضرب إنسان آخر بيده أو بثوبه أو بشيء، يقال طَرَفه أي: أصاب طرفه، ويقال طُرفة: أي: إصابة العين تسمى طرفة، ويقال: رجل مطروف، وهذا معروف، إذاً على هذا الاشتقاق أيضاً تكون الطرفة الأصل أنها مذمومة، لأنها قد تؤثر فيمن تقال له، كما تؤثر الإصابة في العين، فإما أن تصيبها بالعمى، أو قد تصيبها بالاحمرار وغير ذلك من العوارض.
الاحتمال الثاني: وهو الأرجح والأصح والأقوى؛ أن تكون الطرفة مشتقة من قولهم: فلان ما له شيء طارف ولا تليد، ويعنون بالطارف الجديد، وبالتليد القديم، تقول: هذا من طريف مالي أي: من جديده ومستحدثه، وهذا من تلاده أي: من قديمه وموروثه، فالطارف عند العرب أو الطريف: هو الجديد، ومنه قول الإمام الأزهري في تهذيب اللغة يقول: سمعت أعرابياً يقول لآخر وقد قدم من سفر: هل وراءك طريفة خبر تطرفنا؟ فقوله: طريفة خبر يعني خبراً جديداً تتحفنا به، ومن ذلك أيضاً قولهم في المثل: (هل عنده من مغربة خبر) أي: من خبر غريب جديد، لكن الطريف مثل قولهم: أطرف فلاناً بكذا إذا أعطاه شيئاً جديداً ليس عنده، مثل لو أتيت لإنسان -مثلاً- بحلوى لم يتعود أن يشتريها، تقول: هذه طرفة أهديتها له، ويقول الناس: فلان قد أطرف فلاناً، أي: أعطاه طرفة وشيئاً جديداً غريباً غير معتاد، وهو هذه الحلوى التي يأكلها أو ما أشبه ذلك.
وهذا معروف عند العامة -عندنا- فيوم كان اللحم قليلاً عند الناس لا يكاد يوجد، كانوا إذا أتى أحدهم باللحم يسميه طريفة، أي: شيئاً طريفاً قليلاً لا يكاد يوجد إلا في الشهر مرة أو في الشهرين مرة، فهو أمر نادر عندهم، وجديد وغريب، وهو محبوب لهم أيضاً ولذلك سمي طريفاً، ومن هذا تشتق الطرفة وذلك: أولاً: لأنها خبر فيه غرابة وعجب، وكذلك هو جديد على الإنسان يطرق سمعه لأول مرة، فلهذا وذاك سميت طرفة.
هذا مرور سريع على الجانب اللغوي في الموضوع، وهو لا يخلو -إن شاء الله- من فائدة.(200/3)
أسماء الطرفة والنكتة عند الناس
النقطة الثانية: ما هي أسماء الطرفة أو النكتة عند الناس؟ إضافة إلى هذين الاسمين، فإن لهما أسماء متداولة عند الناس منها: النوادر، فيقولون: نوادر فلان، أو يقولون: نوادر القضاة، نوادر العلماء، نوادر السلاطين، نوادر المجانين، نوادر المغفلين، وغير ذلك، فيسمونها (نوادر) وهي جمع نادرة وهو الأمر الغريب، يقال: هذا شيء نادر أي: قليل؛ لأنه ليس كل كلمة تقال تستثير الناس وتعجبهم، إنما يعجبهم الكلمة بعد الكلمة، والعادة في الناس أن يكون فيهم ثقل وعقل ووقار، فليس يضحكهم كل شيء، إنما يضحكهم الأمر الذي يستدعي الضحك، وإلا فإنه يلام الإنسان فيقال: يعجب من غير عجب، ويضحك من غير سبب، فإذا كان الإنسان مضحاكاً لا يكاد يسد فمه عن ضحك، فإن هذا يعتبر عيباً فيه، وقلة في عقله، ودليلاً على جهله، ولهذا سميت بالنوادر.
وقد يقال لها: المُلَح أيضاً، وهي جمع مُلحة بضم الميم وهي كسابقتها.
وقد تسمى اللطائف: جمع لطيفة وهو الشيء الغريب، الذي يتسلل إلى النفس وإلى القلب: والعرب تسمي النكت واستخدامها تسميه إحماضاً، وهذه التسمية لها دلالة قوية، كان ابن عباس رضي الله عنه يوماً جالساً في ملأٍ من أصحابه فقال لهم: [[أحمضوا أحمضوا]] معنى أحمضوا: أي اتركوا الجد وقتاً، وانتقلوا إلى شيء من الهزل.
وليس بالضرورة أن الهزل يعني النكت، قد يكون الهزل شعر العرب في الجاهلية، أو قصصاً، أو أخباراً، أو ما أشبه ذلك مما يذهب السآمة والملل عن النفس.
فقال لهم: (أحمضوا) والإحماض كما قالوا: بأنهم إذا أفاض الناس أو القوم فيما يؤنسهم من الكلام سمي هذا إحماضاً، وهو مشتق من إحماض الإبل، الحمض الذي ترعاه الإبل نوع من النبات، إذا رعت الإبل النباتات المعهودة التي تحبها تمل منها وتسأم، فتأخذ شيئاً يسيراً من الحَمض، فإذا أكلته رجعت إلى ما كانت تعهد من النبات، كان شيئاً يسيراً لا تكثر منه الإبل.
وهكذا الإحماض أن الإنسان ينتقل إلى التسلية وإلى المرح وإلى الدعابة أحياناً يسيرة، ثم يعود إلى ما هو عليه من الجد، لا يوهن ويسترسل في موضوع الطرائف والنكت حتى تكون هي الغالبة عليه، وإنما ينتقل إليها شيئاً يسيراً حتى يقوي عزيمته ويجددها، ثم يعود إلى ما كان عليه، هذه بعض أسمائها.(200/4)
نماذج من ملح النبي صلى الله عليه وسلم
النقطة الثالثة في الموضوع: هي نماذج من ملح النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى العلماء من ذلك شيئاً كثيراً، لكن أحببت أن أقتصر منها على بعض ما اشتهر على ألسنة الناس، وكثيرٌ مما سأذكره صحيح، وما كان سوى ذلك سأتكلم عليه، وسأبين وجه ضعفه.(200/5)
أبو الورد
وأخيراً فيما يتعلق بما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الطرائف، ما ذكره أبو الورد قال: {رآني النبي صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً أحمر -كان الرجل شديد الحمرة- فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أنت أبو الورد} والحديث رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، والبغوي في شرح السنة، أيضاً وفي سندهما جبارة بن المغلس وهو من شيوخ ابن ماجة وهو ضعيف، ولكن للقصة طريق أخرى أخرجها ابن مندة وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة.(200/6)
كلُّّي قال: كلُّك
من النكت التي قالها النبي أو قيلت بحضرته صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: {أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة حمراء من أدمٍ، فقلت: يا رسول الله أأدخل؟ قال: ادخل، قلت: كلِّي؟، قال: كلُّك} .
وإنما قال ذلك لأن القبة كانت صغيرة، والحديث في سنن أبي داود وأصله في الصحيحين بدون موضع الشاهد (قوله: كلي، قال: كلك) أصله في الصحيحين أنه قال: فدخلت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: {اعدد ستاً بين يدي الساعة} فهو في أشراط الساعة، لكن الشاهد ليس في صحيح البخاري ولا صحيح مسلم فيما أعلم، وإنما هو في سنن أبي داود فحسب، أنه قال: أأدخل كلي يا رسول الله؟ قال: كلك وهذه أيضاً نكتة.
من ذلك ما رواه زيد بن أسلم أيضاً، أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن زوجها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: {زوجك الذي في عينه بياض، فقالت المرأة: عقرا -تدعو على نفسها- ومتى رأيته يا رسول الله؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما من إنسان إلا وفي عينه بياض} فهدأ روعها.
وفي رواية: أنها ذهبت لزوجها، فبدأت تنظر إليه وتحملق في عينيه، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في عينك بياضاً.
قال: أوما ترين بياض عيني أكثر من سوادها؟ الرجل عرف الأمر فقال: أوما ترين بياض عيني أكثر من سوادها؟ والحديث رواه الزبير بن بكار في كتاب المزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سهم الفهري، وفيه اختلاف كما يقول العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، وقد جاء من طريق آخر مرسلاً عن زيد بن أسلم رحمه الله، وهذه المرأة هي أم أيمن بركة الحبشية، وهي غير أم أيمن المعروفة المشهورة، فقد فرق بينهما جماعة من الذين كتبوا في السير، كالحافظ ابن حجر وغيره.(200/7)
لا يدخل الجنة عجوز
مثل آخر: ما رواه الترمذي -أيضاً- في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن البصري رحمه الله {أن امرأة عجوزاً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت يا أم فلان أن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت وهي تبكي وتولول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم انطلقوا إليها فأخبروها أنها تعود بنتاً بكراً، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35-38] } فأخبروها بذلك فهدأ روعها وزال ما فيها، والحديث -كما ذكرت لكم- رواه الترمذي في الشمائل وسنده عنده ضعيف.
أولاً: لأنه مرسل عن الحسن البصري كما ذكرت.
وثانياً: لأن فيه مبارك بن فضالة وهو مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث.
لكن للحديث شاهد آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ذكره ابن الجوزي وسنده أيضاً ضعيف، كما ذكر العراقي، وله شاهد ثالث عن عائشة رضي الله عنها عند الطبراني في الأوسط والبيهقي وغيرهما، وهو حديث حسن.
إذاًً فالحديث إجمالاً ثابت، أن الرسول عليه السلام قال لهذه للمرأة: {إن الجنة لا يدخلها عجوز} وهذه المرأة اختلف فيها، قيل هي صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا جزم به غير واحد، وقد جاء في بعض روايات الحديث أنها امرأة من الأنصار، وعلى هذا لا تكون صفية، لأن صفية ليست من الأنصار، إلا إن كان المقصود الأنصار بالمعنى الأعم.(200/8)
ولد الناقة
فمما هو مشهور مأثور من مُزاح النبي صلى الله عليه وسلم وطرائفه: {أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام كما في حديث أنس بن مالك فقال: يا رسول الله، احملني في المعركة -يريد أن يعطيه بعيراً أو غيره ليركبه- فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا حاملوك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله، وما أصنع بولد الناقة؟ -لأنه فهم أن ولد الناقة لابد أن يكون صغيراً- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق} أي: البعير الذي سوف أحملك عليه هو ولد ناقة في النهاية.
والحديث رواه أبو داود والترمذي في سننه، وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه أيضاً الترمذي في شمائله في الكتاب المخصص للشمائل، ورواه الإمام أحمد في مسنده، والبغوي والبخاري في كتاب الأدب المفرد، والحديث سنده صحيح على شرط البخاري.
وفيه جانب من دعابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الطرفة أو النكتة التي قالها لهذا الرجل يمازحه ويباسطه فيها.(200/9)
فوائد النكت والطرائف
نقطة رابعة في موضوع النكت والطرائف: ما هي فوائد النكت والطرائف؟ هل لها من فوائد؟ نعم، إذا كانت النكت والطرائف في حدود الاعتدال، فلها فوائد عديدة منها:(200/10)
تدفع الغضب
من فوائد النكتة، إذا كانت في حدود الاعتدال -أيضاً-: أنها قد تدفع غضباً، والغضب قد يودي برأس الإنسان، وقد يودي بماله، وقد يكون سبباً في السخط عليه، فربما غضب السلطان، أو غضب حاكم أو أمير، فأمر بقطع رأس هذا، أو سجن هذا، أو ضرب هذا، أو أخذ مال هذا، بسبب موقف غضب منه، فإذا كان الإنسان حاضر البديهة، سريع الذهن وقّاداً، فإنه سرعان ما يأتي بنكتة أو موقف معين، يزيل غضب هذا الإنسان، ويدفع عنه غائلته وشره وغضبه.
ومما يذكر في هذا الباب، ما ذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء: [[أن عمر رضي الله عنه وأرضاه، بلغه أن أحد ولاته أو عماله الذين ولاهم على بعض الأمصار، وهو رجل من بني هاشم أو من غيرهم، يتغنى ببيت من الشعر ويقول: اسقني شربة ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام اسقني شربة ألذ عليها، ظاهر القصة أنها شربة خمر، فغضب عمر رضي الله عنه وقال: هاتوه لي، فجاءوا به -كالعادة أمير المؤمنين ليس عنده أنصاف حلول، إنما هو رجل لا تأخذه في الحق لومة لائم- فلمَّا جئ بهذا العامل قال: أتدري لِمَ أشخصتك إليَّ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: سمعتك تقول: اسقني شربة ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام قال نعم يا أمير المؤمنين: عسلاً بارداً بماء سحاب إنني لا أحب شرب المدام فأتى على البديهة ببيت ثان في الحال، عسلاً بارداً، صارت الشربة عسلاً فالناس ظنوها خمراً وأنا أقصد العسل، يقول: عسلاً بارداً بماء سحاب إنني لا أحب شرب المدام قال: فعفى عنه عمر وردّه إلى عمله]] هكذا يقول ابن الجوزي، وفي نفسي شيء من هذه القصة؛ لأن الذي يعهد من سيرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أنه كان قوياً في الحق، لا يقبل عنه تنازلاً بحال من الأحوال.
وأذكر قصة مغايرة لهذه: [[ولىَّ عمر رضي الله عنه أحد عماله، فجاءه رجل وقال: أتدري ماذا يقول فلان بن فلان؟ قال: لا، قال إنه يقول: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها بنعمان يسقى في زجاج وحنتم أي خمر وليس له حقيقة، إنما يتغنى به.
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم فلما سمع عمر رضي الله عنه هذا الكلام قال: نعم والله إنه ليسوؤني، ثم دعا هذا الرجل فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وإنما هو كلام كنت أقوله، فقال: والله ما وليت لي عملاً قط]] وجرده من مناصبه رضي الله عنه وأرضاه، فالذي يظهر لي أن الرواية التي ساقها ابن الجوزي، رواية عرجاء لا يصح سندها عن عمر رضي الله عنه.
على كل حال هناك قصص أخرى كثيرة تدل على التخلص من الغضب بالمزاح، أذكر بدلاً عنها: قصة رجل في عهد عبد الملك بن مروان، رجل خرج على عبد الله بن مروان وقاتله فقبض عليه، وكان مع مجموعة قاتلوه، فلما قُبض عليه أتى به عبد الملك ليقص رأسه، فقال: أتفعل بي هذا يا أمير المؤمنين وقد فعلت لك ما فعلت؟ قال له أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: وماذا فعلت لي؟ قال: والله ما خرجت مع هذا الأمير إلا من أجلك؛ لأنني رجل مشئوم لا أكون مع قوم إلا ويهزمون، فخرجت معهم حتى يهزموا!! فضحك عبد الملك بن مروان وعفا عنه.
وهذه القصة إن صحت مما يحمد للرجل؛ لأنها كانت سبباً في العفو عنه، وسبباً في سلامة عبد الملك بن مروان من دم هذا الرجل، الذي لو قتله لكان مسئولاً عنه لاشك يوم القيامة، فيم قتلت هذا؟! إن كان لا يستحق القتل، فقد يسلم الإنسان من موقف غضب بسبب نكتة كهذه.(200/11)
تلبي حاجة فطرية ورغبة غريزية
الفائدة الرابعة من فوائد النكت: أنها تلبي حاجة فطرية، ورغبة غريزية عند الإنسان، فإن الإنسان كما هو مجبول على البكاء أحياناً إذا سمع ما يُحزن أو يُبكي أو يحرك الشجون، كذلك هو مجبول على الضحك إذا سمع ما يُسِر أو يُفرِح أو ما يُضحكه، فالضحك غريزة في الإنسان فطرة، ولا تجد أحداً لا يضحك، حتى الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، وهم قادة الموكب، وهم القدوة والأسوة، تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير التبسم، حتى قال جرير: [[ما حجبني منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم]] وكان عليه السلام يتبسم حتى تبدو لهواته، ويضحك من صنيع بعض أصحابه كما سبق من ذلك شيء كثير.
وفي كتب السنة من ذلك ما يطول ذكره، فهي ناحية فطرية غريزية، لكن هذا لا يعني أن الإنسان يسترسل معها ويطيل بها، وإنما يقتصد منها على القدر المطلوب فحسب.(200/12)
شحذ الذهن وتنشيطه
الفائدة الثانية: أن هذه النكت والطرائف متى كانت في حدود الاعتدال، تشحذ الذهن وتجدد نشاطه، وتقوي الهمة، فيعود الإنسان بهمة جديدة وبعزيمة قوية، ولذلك يقول الإمام الأصمعي ويروى عن هارون الرشيد، أنه كان يقول: النوادر تشحذ الأذهان وتفتح الآذان.
تشحذ الأذهان أي: تشحذ العقل لتلقي العلم، وفهمه وحفظه وضبطه، وتفتح الآذان: فبدلاً من أن الإنسان معرض تجعل أذنه مفتوحة للعلم، وربما نكتة أو طرفة قالها إنسان، فكانت سبباً في سماع الموعظة والإقبال عليها، ولذلك تجد الناس الآن -مثلاً- لو بدأ شخص ما حديثه بنكتة أو طرفة، أو كتب مقالاً أو كتاباً، فكان أول ما فيه عبارة عن قصة، تجد أن كل إنسان يقرأ هذا الكتاب كاملاً، لأنه بدأ بحكى، أو قال، أو روي، أو كنت، فإذا عرف أن البداية تتعلق بقصة أو خبر؛ تجده انشدَّ وقرأ، فإذا قرأ القصة انساق مع ما بعدها.
وهذه من الحيل اللطيفة التي يتحايل بها العالم، أو الداعية أو المرشد أو الواعظ؛ للوصول إلى قلوب الناس، حيث تشده إلى المقصود، أو تتحيل عليه بطريقة حسنة.
وهذا من الأمور التي هي موجودة الآن في المدارس الغربية في التربية، حدثني أحد الشباب الذين درسوا في تلك المدارس، يقول: كان الأستاذ إذا دخل لابد أن يبدأ درسه بنكته، فإذا كانت النكتة باردة، أو لم تنفتح لها نفوس الطلاب؛ أتاح لأحد الطلاب أن يقدم لزملائه نكتة، فإذا انبسطوا وابتسموا بعد ذلك بدأ درسه، فتكون القلوب مقبلة نشطة، وإذا شعر بالملل توقف ثم جدد وهكذا.(200/13)
تزيل الملل
أولاً: أنها تزيل الملل والسآمة، فإن القوم قد يطول عليهم الحديث والكلام، أو الوعظ، أو التذكير، أو العلم، أو ما أشبه ذلك، فتمل قلوبهم وتسأم، ويثقل عليها الجد، فتحتاج إلى إزالة السآمة والملل ببعض الطرائف والنكت، وهذا كان يستخدمه بعض العلماء السابقين.
قال الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، فيما رواه عنه الخطيب البغدادي، في كتاب التطفيل، ورواه البغوي أيضاً في شرح السنة، أنه قال: [[إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة، أو طرف الحكمة]] بمعنى أن الإنسان إذا أطال الوقوف أو أطال الجلوس يمل، فإذا طال بالإنسان الجلوس وأراد أن يرتاح يقوم واقفاً، أو يتمشى يقول: أريد أن أرتاح من طول الجلوس، أو طول النوم هذا يحدث أحياناً، فكذلك القلوب تمل من كثرة الجد وإطباقه، فتحتاج أن يزال عنها هذا الملل وهذا السأم بشيء من الطرائف.
وكذلك قال قسامة بن زهير: [[روحوا القلوب تعِ الذكر]] أي: من أجل أن يعي القلب ويعقل ويستجم، يروح عنه ببعض الهزل وبعض النكت، ومما يشبه ذلك: ما رواه مسلم من حديث حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب، وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} والحديث سبق ذكره بتفصيله في غير هذا الموضع، وأقتصر منه الآن على موضع الشاهد {ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} يعني ساعة هكذا وساعة هكذا، ساعة جد وساعة هزل.(200/14)
ما يعاب من النكت والمزاح
أول ما يعاب منها:(200/15)
الإكثار من النكت والطرائف
الأمر الخامس مما يعاب: الإكثار من النكت والطرائف: وذلك أن النكتة -كما سلف- وسيلة وليست غاية، ولهذا ينبغي أن تكون كالملح في الطعام، يقول الإنسان منها قدراً مقتصداً، ليس مطلوباً من الإنسان أن تُرى أسنانه مبتسماً، هذا ليس من الأخلاق المحمودة في الشرع، وليس المطلوب من الإنسان أن يكون كلامه هزلاً كله، ونكتاً وطرائف لا يقصد منها إلا الإضحاك المجرد.
فالمحمود من هذه النكت والطرائف: هو ما سلم من المحاذير، والمآخذ الشرعية التي أسلفت سابقاً، وما كان وسيلة وليست غاية، وهذا ضابط جيد؛ أن تكون النكتة وسيلة، فأنت -مثلاً- تريد أن توصل علماً إلى الناس، أو توصل دعوة، أو تأمر بخير، أو أن توجه، لكنك تستخدم النكتة -أحياناً- لإزالة السأم والملل، أو لشيء من الترفيه، ثم تعود إلى ما أنت فيه.
أما أن تكون النكتة مقصودة لذاتها فهي مذمومة، فمثلاً مجموعة من الشباب يجتمعون، ثم يبدأ كل واحد يأتي بنكتة، ويتنافسون أيهم يأتي بنكتة أحسن، فيأتي بهذا وهذا حتى يضحك الجميع، وتتقطع أكبادهم من شدة الضحك، ويستلقون على ظهورهم، ويجلسون ساعات على هذا النمط، ثم يقومون ويأوي كل واحد منهم إلى فراشه صفر اليدين، إلا من الإثم وضياع العمر فيما لا يفيد، وهذا مذموم لاشك فيه؛ لأن الإنسان لا ينبغي له أن يعبث بحياته بهذه الصورة.(200/16)
أثرها السيئ على القلب
أمر آخر من آثاره السيئة: أنه أحيانا يؤثر في قلوب من يقال فيهم، ولاشك أن الإنسان بشر، ليس كل إنسان عنده قوة في نفسه بحيث لا يبالي لو سخرت منه أو ضحكت به، هناك من الناس من لا يكترث بذلك؛ لكن غالب الناس يزعجه ذلك ويؤثر فيه، فكيف إذا قلت مثل هذا الأمر بحضرته فنلت منه، أو من أهل بلده؟! لا شك أن هذا يعتبر جرحاً له، ومواجهة له بما يكره، فعلى الإنسان أن يتجنب ذكر ذلك، وأن يحرص على أن لا ينقل مثل هذه الأشياء في المجالس، لئلا يؤذي أحداً من الحاضرين دون أن يشعر، ولو لم يكن نقله على سبيل الجد، كأن ينقل ما يقوله الناس، لكن مع ذلك فإن هذا يؤذي.
أمر ثالث: أنه قد يؤثر فيمن يقال فيهم، أن يصدقوا هذا الأمر عن أنفسهم أيضاً، فيخلد بهم إلى نوع من تصديق ما يقال، وأعني بتصديق ما يقال أنه إذا نقل عن أهل بلد أنهم بخلاء، واستفاض هذا الأمر عنهم واشتهر؛ أصبحوا لا يأنفون من أن يوصفوا بالبخل، فلذلك أصبحوا راضين بالبخل فصدقوا ما يقال عنهم فصاروا بخلاء، وهذا يجعل الناس يقولون: إذاً ما يقال عنهم صحيح، فصارت القضية تلازماً وتناسباً، وذلك كما سبق في مبحث الأسماء، أن الاسم -أحياناً- له تأثير على المسمى، للإنسان من اسمه نصيب.
وقلما أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلا ومعناه في اسم منه أو لقب فإذا قيل عن أهل بلد: إنهم بخلاء، وشاع هذا الكلام حتى وصل إليهم، إن الناس يقولون عنكم: إنكم بخلاء، قالوا: إذاً ماذا يمكن أن يقول لنا الناس أكثر من هذا، دعهم وما وصفونا به، فاستقر الأمر فيهم، وصار عندهم نوع من البخل، ليس موجوداً أصلاً، وإنما بسبب ما أشاعه الناس، وكذلك الشأن في المواصفات الأخرى، إذا أُشيع عن أهل بلد ما أنهم أغبياء وفيهم غفلة، تغابوا: ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى قيل أني جاهل وقعدوا عن إدراك المعالي، والوصول إلى المراقي أو بعضهم، بسبب هذه الإشاعات الباطلة، فهذه من مفاسد ومثالب التركيز على طبقة أو قبيلة أو بلد معين.(200/17)
المتعلقة بتنقيص أو هزل بالدين وأهله
إن كثيراً من النكت التي يتداولها الناس، وتذكر في الكتب مما يتعلق بالدين، وبعض النكت فيها حط من مقام ربنا جل وعلا وعظمته وجلاله، وفيها إضحاكٌ في هذا الأمر الذي لا يجوز أن يتعرض له بهزلٍ، بل ولا يجد إلا فيما نقل عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم إن الله عز وجل لا يجوز أن يتكلم الإنسان عن ربه بإثبات اسم أو صفة، إلا بما ورد عن الله، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يتكلم الإنسان عن ربه -جل وعلا- بالهزل، أو بنكت، أو طرائف تتعلق به، أو بأسمائه، أو صفاته، أو ما أشبه ذلك؟! ومثله الأشياء المتعلقة بالدار الآخرة، هنالك نكت تتعلق بالآخرة، والجنة والنار والصراط والميزان والحوض، هذا لا يجوز أيضاً، أو بالرسل عليهم الصلاة والسلام، سخرية برسل الله، أو بالملائكة، أو بالقرآن الكريم وآيات الله جل وعلا، أو بالبرزخ وحياة الناس في قبورهم وما يتعلق بذلك، أو بالصالحين من الناس، كالصحابة والتابعين والعلماء والفقهاء والقضاة والوعاظ والمحدثين، وإنما سميت هؤلاء؛ لأن هؤلاء مما يكثر الأدباء من ذكر النكت والطرائف حولهم.
فيقول: باب نوادر القضاة، ثم يأتي بالقضاة ويصورهم على أنهم كذا وكذا ويذكر أشياءً لا تليق، ثم يقول: ما يذكر عن المحدثين، ويذكر عن المحدِّثين نكتاً وطرائفَ يريد أن يرميهم فيها بالغفلة -كما ستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك- هذا كله لا يليق؛ لأن هؤلاء من الصلحاء الذين ينبغي أن تحفظ أعراضهم، ويثنى عليهم بخير، ولا يسمح بالنيل منهم بوجه من الوجوه، وإن التصق بهم من ليس منهم فحصل منه ما حصل؛ فلا ينبغي أن يطال بذكر ذلك، وتؤلف فيه الكتب، وتوضع فيه الأبواب والفصول، ويكثر من الحديث عنه.
وكذلك النكت المتعلقة بالأحكام الشرعية، كم من نكتة تتعلق بالصلاة مثلاً، أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج، أو ببعض الشعائر، أو بالطلاق، أو بالنكاح، أو بغير ذلك من الأحكام الشرعية، فإن هذا كله لا يجوز، وإذ أقول: إن هذا لا يجوز؛ فلا أرى إلا أنه يسعني أن أذكر لكم أمثله، ولكنني سوف أذكر لكم بعد قليل بعض الكتب، فلو راجعها إنسان لرأى مما ذكرته حمل بعير من النكت التي يرويها بعض الناس ويترخصون، وقد يكونون من العلماء أحياناً، أو من طلاب العلم، ولكن هذا لا يعني أن ما يفعلونه جائز، فإن الإنسان بشر يخطئ ويصيب، فالنكت المتعلقة بهذه الأمور مما لا يجوز روايته بحال، وينبغي أن نكون مدافعين عن الإسلام والدين، فإذا تبودلت مثل هذه النكت التي يكون الحط فيها صريحاً، ينبغي أن يكون لنا موقف وألا نسمح بذكرها، وأن ننبه على أن مثل هذا مما لا يسوغ.(200/18)
المتعلقة بالخُلُق وقلة الأدب
النوع الثاني من النكت المذمومة: نكت فيها وضيعة في الخُلق.
والخلق جزء من الدين، وقد أفردته أيضاً لأسباب: لأن كثيراً من النكت التي يتبادلها الأدباء والشعراء والهازلون، فيها حط من الأخلاق، فمثلاً هناك قسم كبير جداً من النكت يتعلق بالقضايا الجنسية، علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة المرأة بالرجل، وصفات النساء، وصفات الرجال، وفلان قال، وفلانة قالت، وذكر أشياء من هذا القبيل مما تشمئز منها النفس، ويكرهها الطبع السليم، ويأباها الذوق، وترفضها الفطرة، ويمنعها الدين أيضاً، فهذه الأشياء مما لا ينبغي أن تقال ولا تذكر، وينبغي أن يستحي الإنسان من الكلام في مثل هذه الأمور، وإذا كان الإنسان يستحي -أحياناً- حتى من السؤال عن أمر يتعلق بقضايا الجنس، والعلاقات الزوجية، والعلاقة بين الرجل والمرأة، حتى يحتاج إلى أن يقال له: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] اسأل عما بدا لك، اسأل عما تحتاج من أمر دينك، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بنكت أو طرائف.
بل إن من أعظم مفاسد هذه النكت والطرائف، أنها تجرئ الفتيات والشباب من الجنسين على الكلام في مثل هذه الأمور المذمومة، فإن الرجل قد يخجل أن يبدأ الكلام في مثل هذه القضايا، وكذلك المرأة إذا كانوا أجانب عن بعض، لكن إذا ساق نكتة فإنها تفتح له الباب على مصراعيه، أن يلج في الكلام القذر الوقح البذيء، الذي لا يسوغ ولا يليق، يقوله من خلال نكتة.
ولذلك أهل الفساد والريب الذين يعاكسون ويؤذون المؤمنين والمؤمنات، يستخدمون بعض هذه النكت كمدخل، ثم يصلون من ورائها إلى ما يريدون، ويقحمون في كلامهم البذيء القذر، قال ابن عباس، وقال ابن سيرين، وقال الحسن البصري، وهم يقصدون من وراء ذلك مقاصد ومعاني ذميمة.
وكذلك الفحش مما يدخل في الوضيعة في الخلق، الفحش بألوانه، والسب، والشتم، واللعن، وما أشبه ذلك، فإن هذا كثير في النكت والطرائف المسطرة في الكتب، والمنقولة على الأفواه.(200/19)
المتعلقة بأعيان الناس
القسم الثالث -مما يعاب-: النكت المتعلقة بأشخاص -بأعيانهم- وهذا كثير سواء في الكتب أو في الواقع، في أشخاص معروفين ليسوا مجرد رموز، قد يقول قائل جحا، فهو أصله مشكوك، هل هو شخصيه حقيقية أم شخصية أسطورية؟ لكن أحياناً تجد أشخاصاً معروفين، قد يكونون في الواقع يتنقلون بيننا ويذهبون ويجيئون، وقد يربط بهم نكت تحط من قدرهم، أو تنزل من مكانتهم، أو ترميهم بما هم منه أبرياء، ولاشك أن هذا لا يجوز متى كان الأمر كذلك، إذا كان في هذا حط من قدرهم، أو اتهام لهم بما هم منه برآء، فإن اتهام الأبرياء بالعيب ليس من أخلاق المؤمنين ولا من خصالهم.(200/20)
التركيز على فئة معينة
الرابع: وهو خطير جداً ومتفشٍ: أن بعض النكت بل كثيراً منها، يعمد أصحابها إلى التركيز على فئة معينة، أيَّ فئة -مثلاً- طبقة من طبقات المجتمع، القضاة، العلماء، المحدِّثين، الفقهاء، الوعاظ، وكم من نكتة يصطنعها الخبثاء من العلمانيين وأعداء الإسلام، ويلصقونها بالقضاة -مثلاً-!! قرأت مرة في جريدة تصدر في هذه البلاد، قصة مختلقة: أن قاضياً اسمه فلان بن فلان، جاءه إنسان يشهد في قضية، فقال: هاتوا واحداً مترجماً، ثم جاء الشاهد، أراد أن يُزكَّى الشاهد ثم يزكَّى المترجم، ثم مزكياً يزكي المزكي، ونسج قصة يقصد من ورائها الحط من قدر هذا القاضي، وأنه معقد، وأنه يطول الأمور، طبعاً ليس المقصود قاضياً بعينه، إنما هم يريدون أن يسقطوا ثقة الناس بالقضاة مثلاً.
وقد يقولون مثل هذا الكلام عن عالم، عن داعية، عن مصلح، فيلصقون مثل هذه النكت ويجعلونها تتداول بين الناس لأنها سهلة التداول، من أجل النيل من هؤلاء العلماء، أو القضاة، أو المحدثين، أو المفتين، أو الوعاظ، أو المرشدين، أو طلاب الدراسات الشرعية، أو ما أشبه ذلك.
وقل مثل ذلك أيضاً في أي طبقة أخرى من طبقات المجتمع، أحياناً قبيلة معينة، يلصق الناس بها مجموعة من النكت، أو بلد معين، أو منطقة معينة، وهذا أمر مشهور.
مثلاً: من الأشياء المتداولة في مصر، كثيراً ما يلقون بالنكت على أهل الصعيد، وذلك أنهم يتصورون أن أهل الصعيد يتميزون بشيء من السذاجة والغباء، فتجد أن نكتهم تدور حول: (هناك صعيدي قال كذا وفعل كذا) ونصف نكتهم في أهل الصعيد، نصف النكت تبدأ بكلمة هناك صعيدي.
وهذا الشيء موجود في كل بلد، عندنا في السعودية مثلاً هناك مناطق معينة -لا أريد أن أسمي- الناس يديرون النكت حولها.
ومرة من المرات جاءني واحد منهم على سبيل المزاح، هو رجل أريحي ليس منزعجاً من هذا لكنه يمزح، وقال لي: أنا من بلد كذا عرفني بنفسه، ثم قال أنا من بلد كذا، والناس يلصقون بنا تهماً كثيرة ونكتاً وطرائفاً ويزعمون أن فينا وفينا وفينا، فذكرت له بعض ما يقول فيهم الناس، فضحك، وقال: حتى أنت وصلت إليك هذه الأشياء، قلت: نعم وصل إلي منها شيء كثير، لكننا نمررها كما جاءت ولا نصدقها.
وهذه الأشياء لها أثر سيئ جداً أيها الإخوة- تُفَرِّق المؤمنين، وإن كانت مزاحاً فحتى الجاهلية فيها مزاح جاهلي؛ لأنك إذا سمعت مائة نكتة مثلاً عن أهل البلد الفلاني بأنهم جفاة، وقال لك واحد حصل لي معهم قصة كذا، وقصة كذا، وقصة كذا مع كثرة تداول هذه القصص وتناقلها، استقر في ذهن جمهور الناس إن ما يقال له أصل وأنه صحيح.
فإذا جاء الواحد إلى هذا البلد، بدأ ينتظر أين يجد الجفاء، فإذا وجد أي بادرة جفاء قال هذا مصداق ما سمعته، فأخذ الانطباع، وقرره وأكده.
وإذا سمعت عن بلد آخر أن أهله أغبياء، سذج بله، وفيهم وفيهم وفيهم، وقيل عنهم، بعد ذلك استقر هذا الأمر في ذهنك، فإذا ذهبت إلى هذا البلد بدأت تتلمس أين الغباء؟ فإذا صادفت أن وجدت رجلاً غبياً، وتصرف تصرفاً فيه رعونة وغفلة، قلت هذا مصداق ما يقوله الناس! فاستقر الأمر في نفسك، وأصبحت أنت تقول: نعم، الأمر له أصل، الشيء له أصل، أنا بنفسي رأيت كذا وكذا.
وإذا سمعت عن بلد ثالث أن أهله بخلاء، ذهبت إلى هذا البلد فأي بادرة بخل نسبتها وقلت هذا مصداق ما يقال، أو استضافك إنسان فلم يقم لك بحق الضيف، فسألت ممن؟ فقيل من بلد كذا، قلت: إذاً لا غرابة، هذا مصداق ما كنا نسمعه عن أهل هذا البلد.
وهكذا أصبحت هذه النكت مدعاة للتفرقة بين المسلمين، وكون أهل كل منطقة يتكلمون عن منطقة أخرى بخصلة ذميمة، وينسجون حولها القصص والأساطير، وعلى فرض وجود أصل يسير في هذا الأمر، فقد ضخمناه ونسجنا حوله أشياء كثيرة، وأقمنا هالة من القصص والحكايات والمرويات، حتى أصبح هذا الأمر عندنا أكبر من حجمه الطبيعي -على فرض أن له حجماً- أضعافاً مضاعفة، فينبغي أن نكون متفطنين لهذا، لأنه من كيد الشيطان الخفي الذي يتدسس به إلى القلوب ليفرقها.(200/21)
المصنفات في النكت والطرائف
هذه المصنفات لست أذكرها على سبيل إشاعتها وترويجها؛ لأن من المؤسف أنها من الشيوع بحيث لا تحتاج إلى دعاية لها، فربما تكون موجودة في كل بيت، ويقرؤها كل إنسان، وتباع في كل مكتبة؛ لأن الناس يقبلون عليها -مع الأسف- أو كثير منهم؛ أكثر مما يقبلون على الكتب الجادة المفيدة، وهذا ليس مؤشراً محموداً، لكنني أردت أن أعتذر به عن ذكر هذه الكتب؛ لئلا يقول لي قائل لماذا ذكرتها؟ فأقول له: لهذا.
وسأتحدث عن جانب منها، أو عن شيء منها.(200/22)
كتاب جحا ونوادره وما فيه من الضلال
كتابٌ آخر معاصر، أحب أن أنهي الموضوع ثم أنتقل إلى الأسئلة، هناك كتاب موجود في المكتبات، وهو كتاب من كتب كثيرة، الكتب المعاصرة مئات، اخترت منها كتاباً واحداً، سلمني إياه بعض الشباب اسمه كتاب جحا ونوادره للدكتور فاروق سعد، مجلد واحد، مع الأسف مزود أيضاً بصور، وفيه مقدمة وهي دراسة عن جحا لا تعنينا، بعد ذلك فيه أشياء.
أولاً: قصص سخيفة المعنى ممجوجة، ليس فيها شيء حتى الضحك غير موجود فيها، يقول جحا: إذا مت فادفنوني قائماً قال الناس: لماذا؟ قال: من أجل إذا قام الناس أكون قائماً دون مشقة يوم القيامة، فهي باردة، لا دين ولا دنيا ليس لها أي معنى.
النوع الثاني: فيه قصص كثيرة فيها سخرية بالملائكة، مثل منكر ونكير إذا جاءوا للميت في قبره -سخرية بهم- يقول مثلاً: وقال: ادفنوني في مقبرة ميتة من أجل ماذا؟ من أجل أن يلبس على الملائكة يقول أنا ميت من زمان، وسبق أن اختبرت.
فهل يجوز أن يتصور الناس، أو الأطفال أو غيرهم بأن الملائكة بهذه الصورة؟ طبعاً لا شك أنه لا يحسب حساب لمثل هذه الأمور، أقصد الذي أخرج الكتاب، ونشره على الناس وروج له.
القسم الثالث: وهو سخرية بجناب الله جل وعلا، لا يليق أن أذكرها ولا شيئاً منها.
القسم الرابع: وهو سخرية مقصودة بالوعظ والوعاظ، حتى إنني وجدت أو ظننت؛ أن الرجل يختلق -هو المؤلف- بعض هذه النكت، وينسبها إلى هذا الرجل المشهور بهذا القصد؛ لأن فيها أشياءً غير مقبولة، أذكر مثلاً من ذلك: يقول: إن الرجل جحا مرض ولده وصار يبكي في الليل، فقالت زوجته: اذهب وهات رقية نعلقها على الولد، أي: حرز أو تميمة نعلقها عليه، فذهب وأتى بالكتاب الذي كان يقرأ فيه في المسجد، هكذا يقول، فقالت له: ما هذا؟! قال لها: اسكتي، هذا الكتاب الذي أقرأ فيه على الناس الأصحاء الكبار في المسجد فينامون، فعلى هذا الطفل لابد أن ينام.
أنا ألمس في هذه القصة أثر الصنعة وأنها مكذوبة، للنيل من الدعاة والعلماء الذين يحدثون الناس في المساجد ويعظونهم، وأن وعظهم يجلب النوم والسأم والملل للناس، وهذا أمر نعرفه عند المعاصرين أكثر من غيرهم.
إضافةً إلى أن في الكتاب تهاويل، وأكاذيب مزورة، تساق دون تعليق، من ذلك: أنه ساق قصة يقول: الواقع أن جحا موجود له قبور في أكثر من بلد، في مصر، وله قبر في تركيا، وفي بعض البلاد يزار قبره ويطاف حوله، وتعقد عنده عقود الزواج، من باب التبرك به، ولله في خلقه شئون!! بلغ بالمسلمين الحال من الضعف إلى أنهم صاروا يزورون جحا، ومعلوم أن الزيارة مشروعة للقبور، لكن الطواف بالقبور، والصلاة عندها، وقصدها بالدعاء هذا لا يجوز، بل هو مدعاة إلى الوقوع في الشرك، لكن المسلمين ما اقتصروا على هذا فقط، بل تعدوا حتى قبر جحا أصبح يزار.
يقول: إن حارس القبر بعد ما مات الرجل بمائتي سنة، رآه على حماره وعليه ثيابه المعتادة، وهو يقول للناس إذا لم يأتوني الآن يعني الذين يقيمون في المسجد، فسوف أصنع بهم وأصنع ويهددهم، قال: فجاء الحارس إلى جماعة المسجد، وقال لهم: بسرعة الحاج نصر الدين خواجه يستنجد بكم ويدعوكم، قال: فخرجوا كلهم وجاءوا إليه، فلما خرجوا لم يجدوا شيئاً فرجعوا، فوجدوا المسجد قد انهدم، قال: فهذه كرامة له.
كذب وتلفيق، وكلام ليس له رصيد من الواقع، وفيه تأثير على قلوب قرائه، ومن يسمعون مثل هذا الكلام كثير منهم مغفلون، سذج، جهلة، أطفال، ناس ليس لديهم معرفة بالشرع ولا بالدين، فتنطلي عليهم مثل هذه الأشياء.
هناك بعض الكتب خصصت أجزاءً منها لذكر بعض النكت والطرائف، وهي كثيرة جداً، ككتب الجاحظ مثلاً، أو بلوغ الأرب للنويري، أو المستطرف للأبشيهي، فيه باب خاص بهذا، أو نثر الدر للآبي، وهو شيعي فيتفطن له، وهذه الأشياء ينبغي للإنسان ألا يحرص عليها، لكن من كان عنده شيء من ذلك فليتفطن إلى ما فيها من المثالب والمعايب.
أما فيما يتعلق بالأسئلة فسأختار منها ما يتعلق بالموضوع، وأترك الباقي إلى الأسبوع القادم، مع بعض ما مضى من الأسئلة الموجودة عندي -إن شاء الله تعالى- سوف أبحث لها عن حل.(200/23)
كتاب الحمقى والمغفلين
الكتاب الثاني: الحمقى والمغفلين، بدأه بذكر المُلح ومن يحبها، ومن يكرهها، والتمس عذراً في إيرادها، ثم ذكر في بعض الملح التي تتعلق بالشرع، بل بالقرآن، بل بالله جل جلاله، وذكر ملحاً أخرى تتعلق بالسخرية بالمحدثين، أو بعضهم وما فيهم من الغفلة، وبأصحاب اللحى، وبالزهاد، ومع الأسف هذه الأشياء قد يتناقلها أحياناً بعض الفساق، ويتداولونها فيما بينهم.(200/24)
كتابا الأذكياء والحمقى
كتاب آخر، كتاب الأذكياء لـ ابن الجوزي.
ولـ ابن الجوزي -غفر الله لنا وله ورحمنا الله وإياه- مقام طويل في هذا الباب، له كتابان: الأول: كتاب الأذكياء.
والثاني: كتاب الحمقى والمغفلين.
وعجبي من الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى وغفر الله تعالى لنا وله -يطول، وهو أعظم بمراحل من العجب من الإمام الخطيب البغدادي؛ لأن ابن الجوزي استرسل في ذلك استرسالاً عظيماً، وكم كنت أود ألا تثبت صحة الكتاب لـ ابن الجوزي.
لكن الظاهر من خلال التحقيق العلمي والأدلة العلمية، أن كلا الكتابين ثابت له رحمه الله تعالى لكن يمكن أن نقول لعل تصنيف الكتابين كان في مطلع عمره، وقبل أن يبلغ ما بلغ، وهذا احتمال لا أستطيع الجزم به.(200/25)
كتاب الأذكياء وما فيه من فوائد وما عليه من مآخذ
في كتاب الأذكياء لـ ابن الجوزي، ذكر في مطلعه: العقل، وفضل العقل وما ورد فيه، واستطرد فيه بذكر نقول عن المتقدمين والمتأخرين في قوة الفطنة والذكاء، ثم ذكر بعد ذلك الحيل وأنواع المحتالين، وهذا فيه بعض الفوائد، والأشياء التي لا تخلو من فائدة، أي بعض الحيل التي تفتقت عنها بعض الأذهان يستفيد منها الإنسان.
ومن طريف ما ذكر في ذلك، أن أبا الحسن بن السماك، كان واعظاً في المدينة في الجامع، ولكنه كان من المتصوفة، وكان واعظاً على طريقة المتصوفة، ليس عنده من العلم والفقه شيء، قال: فيوم من الأيام كان على المنبر فدفعت إليه رقعة -سؤال من الأسئلة دفع إليه من أجل أن يقرأه- فتعجل وقرأ فإذا فيها: فضيلة الشيخ الإمام العالم؛ رجل توفي وترك وراءه فنظر فإذا المسألة مسألة فرضية، والرجل ما عنده في هذا باع، ولا يستطيع أن يقسم مسألة من المسائل، فما أسرع ما تخلص من ذلك! وقال: أيها الناس، أنا أتكلم على مذاهب قوم إذا مات الميت منهم لا يترك وراءه شيئاً.
يقصد الصوفية، الصوفية يتظاهرون بالزهد في الدنيا، ولا يجمعون الأموال، فإذا هلك الهالك منهم خلف وراءه بنتاً، وبنت ابن، وزوجة، وأماً، وعشرين ولداً ذكراً، لكن لم يخلف وراءه مالاً يقسم، وبالتالي لا يسأل عن مسائلهم؛ لأنه لم يخلف وراءه شيئاً يقسم، فقال: أنا أحدثكم على مذاهب أقوام إذا مات الميت منهم لم يخلف وراءه شيئاً.
وأقول: مذاهب هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم مذاهب مذمومة غير محمودة، وكفى بهدي الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين هدياً، فإننا نجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أغنياء أكابر، بل منهم من العشرة المبشرين بالجنة، كـ عثمان، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، كانوا من كبار الأثرياء والأغنياء، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم خلف وراءه شيئاً بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وحتى فقراء الصحابة خلفوا وراءهم شيئاً، لكن المقصود ظاهر من مثل هذه الطرفة.
ومن ذلك ما فعله المهدي الخليفة، فقد كان في مجلسه القاضي شريك، وفي مجلسه وزيره عيسى بن موسى، فأراد المهدي أن يوجد بينهما خصومة، فقال للقاضي: لو شهد عندك وزيري عيسى بن موسى بشهادة، هل تقبلها؟ وأراد أن يوقع بينهما، فما أسرع ما تخلص القاضي، وقال للخليفة: مثل هذا الوزير لا يزكيه إلا الخليفة، فإن زكاه الخليفة قبلت شهادته.
فنجح القاضي في التخلص من الموقف، ونجح في جعل القضية تقع بين الخليفة ووزيره؛ لأنه إن زكاه أو ما زكاه صارت القضية بينهما، فرمى الكرة في ملعب الخليفة، فهذا من التخلص المحمود أيضاً، وليس فيه حرج إن شاء الله ولا ذم ولا عيب.
وفي كتاب ابن الجوزي من الفوائد: أنه قد يُعلم بعض الآداب -أحياناً- ونحن مأمورون بالإنصاف، فإذا كان في الكتاب فوائد ولو قليلة نذكرها، بل نبدأ بها، ومن ذلك أنه ذكر القصة المشهورة عن العباس لما قيل له: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا أسن منه، وهو أكبر مني.
هذا من حسن الأدب، تلطف في العبارة، ما أَحبَّ أن يقول أنا أكبر من رسول الله، لأن هذا من الممكن قد يحمل على كبر الشأن والمنزلة، والقدر، فقال: أنا أسن منه، وهو أكبر مني، أي: أعظم شأناً مني.
وفي ابن الجوزي من الأشياء مالا غاية فيه إلا الإضحاك، أشياء المقصود فيها الضحك فقط، منها مثلاً يقول: إن رجلاً قال لصاحب له يهدده: لئن لطمتك لطمة لأبلغن بك المدينة المنورة: فقال لعلك تثني بأخرى عسى الله أن يكتب لي الحج على يديك.
هذه من أجل الضحك، لكن هل فيها فائدة تعليم؟ ليس فيها شيء.
وفي نهاية الكتاب أخبار ونكت عن الأطباء، والمتطفلين، واللصوص، والصبيان، والنساء، ومن يسميهم بعقلاء المجانين.
وفي الكتاب في الواقع تساهل كثير، وقصص وطرائف ونكت، أستطيع أن أقول: إنها سخيفة، وسمجة، وباردة، وقل ما شئت، وليست لائقة بهذا الكتاب، وينبغي الحذر منها، وبعض الإخوة قد يتساهل، ويقول: قد أوردها ابن الجوزي وهو إمام.
نعم إمام لكن لا يتابع فيما زل فيه، نحن نلتمس له العذر، فإن لم نجد له عذراً قلنا: غفر الله لنا وله، ولكن لا يتابع فيما زلت به قدمه، فالإنسان بشر.(200/26)
ميزات كتاب البغدادي
وهي باختصار: أولاً: كتاب مسند يروي بالأسانيد، ولذلك يمكن تمييز صحيح الروايات من ضعيفها من موضوعها.
ثانياً: إنه سرد بعض الأحاديث النبوية المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعللها، بين صحيحها من معلولها.
ثالثاً: إنه ذكر بعض آداب الطعام، وإن لم يكن ذلك كثيراً فيه.
رابعاً: إنه ذكر بعض الحكايات المعتدلة، التي لا بأس من إيرادها، يعرفها الإنسان ويوردها في وقتها المناسب، من هذه الحكايات المعتدلة التي لا بأس من إيرادها: أنه يقول: جاء رجل طفيلي إلى أهل وليمة فقالوا له: يا فلان لماذا جئت ولم ندعك؟ قال: إذا أنتم لم تدعوني وأنا لم آتِ يحصل بيننا وحشة.
فهذه لا بأس بها، وليس فيها ضير.(200/27)
المآخذ على كتاب الخطيب
أما ما أخذ على الكتاب: فالحقيقة أن الإنسان -لا أكتمكم- أنني أتعجب حينما نجد مثل هؤلاء العلماء الأجلاء الفضلاء الأكابر حقاً، ثم تجد في بعض ما ذكروه وساقوه أموراً تستكثر من مثلهم، أقل ما يقال فيها، أنها تستكثر من مثلهم، ففي بعض النكت التي ذكرها عن الطفيليين، جعلوا القرآن الكريم لغير ما أنزله الله عز وجل يقول: جاء الحسن بن الصباح إلى جعفر بن محمد فقال له جعفر: ما رأيك في -ذكر له حلوى- ما رأيك فيها؟ الفالوذج أو غيرها فقال: أنا لا أستطيع أن أحكم على غائب أحضروها وأحكم عليها، فأحضروا منها قدراً كبيراً فقال: (وإلهكم إله واحد) فأعطاه واحدة، ثم قال (أرسلنا إليهم اثنين) فأعطاه ثانية، (فعززنا بثالث) فأعطاه الثالثة.
وهكذا بدأ يأتي بآيات فيها رقم ثم يعطيه بقدر ذلك، لاشك أن هذا فيه استخدام للآيات القرآنية لغير ما أنزلها الله فيه.
وأقل ما يقال: إن مثل هذا لا يليق ذكره ولا حكاياته، حتى على سبيل الاستطراف ولو بالإسناد أيضاً؛ لأن القرآن ما أنزل لمثل هذا، وينبغي صيانة كلام الله عز وجل عن مثل ذلك؛ لأن في آخره أيضاً بذاءة أكثر، يقول: فلما وصل إلى إحدى عشرة بعد ذلك قال: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، يقول: فألقاها في يده، وقال: ما بقي شيء، قال والله لو لم تؤتني لأتيتك بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] .
لاشك أن هذا ليس لائقاً، ولا أنزل القرآن من أجل أن نضحك من مثل هذه المواقف، فهذا مما يؤخذ على هذا الكتاب، ونسأل الله -جل وعلا- بمنه، وكرمه أن يغفر لنا، وللإمام الشيخ أبي بكر الخطيب البغدادي، ويتجاوز عنا وعنه إنه جواد كريم، فليس المقصود النيل منه، فإن هذا الرجل كما قال بعض الصالحين، لما ذكر له عيوب بعض الفضلاء، قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث.
فهذا الرجل إن -شاء الله- قد جاوز القنطرة، وإن شاء الله هذا يضيع في بحر حسناته، وإنما المقصود تنبيه القارئ حتى يتفطن لها إن وقع عليها.
ومما يؤخذ على الكتاب: أن فيه -أحياناً- استخفافاً ببعض الصالحين لا يليق، وسآتي بأخف ما هناك، أما الثقيل فلا أستطيع أن أذكره، فمن أخف ما ذكر في هذا، أو مما ذكر في هذا، إن شئت قل مما ذكر في هذا أنه قال: قيل لطفيلي أتحب أبا بكر وعمر؟ قال: ما ترك حب الطعام مكاناً في قلبي لأحد.
هذا أيضاً ليس بلائق؛ لأن محبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما دين، يجب أن يدين به كل إنسان، ولا ينبغي أن تكون مجالاً لنكتة أو طرفة، يتناقلها اللاحق عن السابق.
المأخذ الثالث: أن فيه بعض ما أشرت له سابقاً، من ذكر اللعب والسب والشتم، وما يخالف الأدب المطلوب.(200/28)
كتاب التطفيل للخطيب
المؤلفات في النكت والطرائف كثيرة جداً، لكن أذكر بعض المشهور منها، فمن المشهور منها: كتاب التطفيل وحكايات الطفيليين ونوادرهم وأخبارهم، وهذا للإمام الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد، وهو من المحدثين المشهورين، والأئمة العلماء الموثوقين، وهذا الكتاب رسالة صغيرة طبعت عدة طبعات، ذكر في مقدمتها الدافع إلى تأليف الكتاب، ثم فوائد ذكر بعض الطرائف، ثم ذكر معنى التطفيل والطفيليين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذم التطفيل وعابه، ومن حمده واستحسنه، ثم ذكر وصاياهم وأشعارهم، ثم سمى رجلاً من الطفيليين يقال له بنان الطفيلي، وذكر واستطرد في ذكر وصاياه وأشعاره ونوادره وأخباره، إلى نهاية الكتاب.
الطفيليون أتعرفون من هم؟ ما معنى طفيلي؟ معروف كما هي مستخدمة عند العوام، فلان طفيلي أي: هو يأتي للمناسبات بدون دعو، يبحث عند المطابع عن الأعراس، أو في قصور الأفراح مثلاً، ثم يأتي بحجة أو بأخرى، وأحياناً يأتي ويتدخل ويتظاهر بأنه من أهل الزواج، ويقول للطباخ: افعل وارفع وانزل وكذا وكذا.
يقول -هذه من وصاياهم- يقول: اجزم ولا تنظر إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، أهل الزوج يظنون أنك تبع أهل الزوجة، وأهل الزوجة يظنون أنك تبع أهل الزوج، ادخل في المجموعة ويكتب لك الله عز وجل عشاء تلك الليلة أو غداءها.
هذا معنى الطفيليين، وهؤلاء الذين قصدهم الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه هذا، يقول النويري، صاحب كتاب بلوغ الأرب، يقول: إن بناناً هذا كان نقش خاتمه: مالكم لا تأكلون؟ هذه من النكت التي نقلها، كل واحد ينقش في خاتمه ما يناسبه، وهذا نقش ما يناسبه.(200/29)
الأسئلة(200/30)
سؤال عن نكت مكذوبة سبقت عن شخص
السؤال
يقول: سبق أن أصدرت عدة نكت وألصقتها بشخص معين، دون أن يكون لهذه النكت أصل، وأنا الآن نادم على ذلك فما العمل؟ هل التوبة والرجوع للحق يكفي؟ السؤال: أولاً: تتوب، وتكثر من الاستغفار لهذا الإنسان الذي نلت منه، ثم إن كان هذا الإنسان ممن يتحملون، وفي نفوسهم قوة، فإنك تخبره بذلك حتى يصفح عنك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري: {من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه} .
فعلى الإنسان أن يتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، أما إن خشيت أن هذا يؤثر في نفسه، وقد يورثه حقداً عليك أو بغضاً لك، فلا تخبره لكن أكثر من الاستغفار له.(200/31)
المحبة في الله
السؤال
هذا أخ يقول: إنه وإخوة من السابقين- جزاهم الله خيراً- يحبونني في الله، ويشهدون الله على ذلك؟
الجواب
فأنا أيضاً أحبكم في الله، وأرجو الله تعالى أن يجعلنا من المتحابين فيه، وأن يكتب لنا الثبات على ذلك حتى نلقاه، وأن يجمعنا في رضوانه وجنته، إنه على كل شيء قدير.
وأشكر للأخ وللإخوة الآخرين هذا الشعور الطيب الحفي.(200/32)
الترجمة بذكر العيوب في المترجم له
السؤال
يقول: يذكر بعض المترجمين ومؤلفي كتب السير، عيوباً في المترجم له، وأستغرب ذلك من المؤلف خاصة عندما يكون من ذوي المكانة في العلم، وأذكر مثالاً لذلك -يقول: أرجو عدم قراءته على الحضور- إذاً ما ليس هناك داعٍ أن نقرأه عليكم، فهل من تعليق حول هذا؟ وما الداعي لذكره؟
الجواب
فعلاً هناك كثير من القصص والأخبار، تذكر عن بعض المترجمين، ليس لها فائدة ولا لها معنى، وإنما ينقلها إنسان ثم يتداولها من جاء بعده، ويتناقلونها كابراً عن كابر، وهي غير لائقة أحياناً، فيها وضيعة للمترجم، وقد يكون إماماً جليلاً، وفي نفس الوقت ليس لها فائدة.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(200/33)
التكلم عن ذكاء شخص طرفة
السؤال
هل يكون من الحسن أن يتكلم عن ذكاء شخص معين، وهو من الطرائف، مثلما يشاع عن بعض الأشخاص في طريقة التخلص؟
الجواب
نعم لا حرج في هذا، إذا كانت في حدود ما سبق من الضوابط، فقد يشيع عند الناس أن شخصاً معيناً شديد الذكاء، وجد في مجتمع وصار يضحك بهم، ذكي أكثر منهم له مواقف معينة، فإذا كانت في حدود معقولة ومعينة، وفي الضوابط الشرعية التي أسلفتها، فلا يعتبر هذا ذماً للشخص أو غيبة له.(200/34)
للنكتة أحوال وظروف
السؤال
هل يمكن أن يقال: للنكتة مواضع وظروف تحين في وقتها؟
الجواب
نعم كل شيء في وقته حسن، لها وقتها المناسب، فالجد في موضع الهزل مذموم، كالهزل في موضع الجد.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى(200/35)
النكت الخيالية
السؤال
النكت التي يرويها الناس حول الحيوانات، التي هي من صنع الخيال؟
الجواب
هذه ذكر ابن الجوزي طُرَفاً كثيرة، منها في كتاب الأذكياء، ولها كتب مخصصة، ككتاب ابن المقفع كليلة ودمنة وغيرها، وهي أنواع، فيها أشياء تذكر لا تخلو من فوائد معينة تجري مجرى الأمثال للإفادة، وبعضها لمجرد التسلية ولا فائدة من ورائها.(200/36)
كتاب عقلاء المجانين
السؤال
ما رأيك في كتاب عقلاء المجانين؟
الجواب
هذا أيضاً من الكتب، التي سرد فيها مؤلفها مجموعة من القصص التي تتعلق بمجانين لهم مواقف يكونون أشبه فيها بالعقلاء، وبعضهم أصيبوا بالجنون بسبب الوله والعشق، الذي ابتلوا به أو غير ذلك، والكتاب الذي ذكره الأخ فيه قصص وطرائف أكثرها مما لا فائدة فيه.(200/37)
تقليد الوعاظ
السؤال
هل يجوز تقليد بعض أصوات الخطباء بكلامهم بين زملائي، بين لنا ذلك مأجوراً؟
الجواب
نرجو الله تعالى أن يكون كذلك، أما موضوع التقليد: فإن كان على سبيل التقليد للسخرية والإضحاك، فلا أرى أنه يسعك ذلك، أما إن كان سيتدرب على الخطابة، فهذا أمر آخر، ولكن لا يلزم لذلك أن يقلد صوت الخطيب، بقدر ما يقلد نبراته وطريقة الإلقاء وقوة العبارة، والأسلوب وما أشبه ذلك.(200/38)
حكم الضحك من النكت المحرمة
السؤال يقول: يسمع أحدنا طرفة من التي لا تجوز روايتها بآيات الله أو رسله أو غير ذلك، فلا يملك نفسه إلا أن يضحك، فهل يأثم بذلك؟
الجواب
أقول: يجب أن يغضب، وإن كان واضحاً فيها؛ لأن بعض الأشياء ليس فيها هذا واضحاً، إنما يحتاج إلى ضرب من التأويل، فينبغي على الإنسان إذا سمع من القصص أو النكت أمر يتعلق بالدين، أن يغضب وينكر ويحتسب على صاحبها، ولا يجامله في ذلك بحال من الأحوال، ينبغي أن تغضب لله.(200/39)
الضحك عند الحسن البصري
السؤال
ذكرت أن الضحك وجد عند الأنبياء والصالحين، وقد قرأت عن أحد الصالحين كـ الحسن البصري أنه كان ينكر على من يضحك، ويعتبر هذا من الغفلة، فكيف نحل هذا الإشكال؟
الجواب
في الواقع أن بعض ما يروى لا يكون صحيحاً هنا وهناك، وأحياناً يكون صحيحاً لكن الإنسان تكون له أحوال مختلفة، فقد يمر الحسن البصري -مثلاً- على أناس يضحكون في غير أوان الضحك، فيلومهم ويعاتبهم؛ لأن هذا ليس وقت الضحك، وقد يمر بقوم يعلم أن من شأنهم أنهم يكثرون من الضحك ويسترسلون فيه، فيعيبهم وهذا مطلوب.
أنت لو أتيت إلى مجموعة من الشباب جالسين في مكان، وهم يتبادلون النكت والطرف، ثم يضحكون، ثم يتبادلونها، ثم يضحكون، وضحكاتهم تتعالى في الهواء لحظة بعد أخرى، هنا ينبغي أن تتحدث معهم، وأن هذا لا يليق بكم، ولا يتناسب مع مثل المهمات المنوطة بكم، وأنتم فيكم وفيكم، والله عز وجل أمركم بعبادته وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وتورد عليهم من المعاني ما يحفز هممهم إلى الاشتغال بمعالي الأمور، والإقبال على الجد، وألا تكون حياتهم كلها هزلاً، ولكن لو أتيت إلى إنسان هو جاد بطبعه، ربما لا مانع أن تسوق له أنت بنفسك -وقد كنت تعاتب قبل قليل هؤلاء- تسوق له ما يمكن أن يجعله أن يبتسم، أو تسري هماً في نفسه، فالإنسان يكون موقفه بحسب الأحوال.(200/40)
ابتداء الدرس بنكتة
السؤال
أثناء كلامك ذكرت أن هناك مدرساً يبدأ بنكتة، فهل تنصح بأن يقدم الأستاذ لدرسه بذلك؟ وهل هذا محمود؟
الجواب
إذا احتاج إلى ذلك فلا بأس به.(200/41)
الشباب ومجالس العامة
السؤال
هناك بعض إخواننا من الشباب لا يقبلون على المجالس التي لا يكون فيها دعوة وذكر، حتى وإن لم يحدث فيها ما يخالف الشرع، حتى كرههم العامة وعابوهم.
فبماذا تنصحوهم؟
الجواب
ينبغي للإنسان أن يأخذ نفسه بالجد ما استطاع، أما إن كان حوله أحد يحتاج إلى مراعاة بقصد استصلاحه وتأليف قلبه، فيراعيه في حدود ما أباح الشرع.(200/42)
الضحك بالقرآن
السؤال
من الطرائف التي تذكر أحياناً: ما يقال بشيء من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نحو {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] إلى غير ذلك {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145] وما أشبه ذلك، فما رأيكم؟
الجواب
أقول: إذا كان في ذلك سخرية، أو تعريض الآية للضحك منها، فأرى أن هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنها إذا تداولت عند الناس ربما إذا سمع الإنسان الآية تذكر النكتة فضحك، بدلاً من أن يتذكر معنى الآية فيبكي، وهذا بلا شك تغيير لما أنزل القرآن من أجله، أما إن كان استخداماً للفظ القرآني في معنى صحيح، ليس على سبيل الهزل مثل (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) فهذه ليس فيها هزل فلا بأس بذلك.(200/43)
نسبة كتاب الأذكياء لابن الجوزي
السؤال
يقول: ضعفت القصة التي ذكرها ابن الجوزي في كتابه الأذكياء، والتي تدل على تنازل عمر عن شيء، ألا يكون هذا دليلاً واضحاً على أن نسبة كتاب الأذكياء لـ ابن الجوزي فيها نظر؟
الجواب
لا، ليس دليلاً واضحاً ولا غير واضح، في الواقع ليس دليلاً أصلاً، لأن ابن الجوزي رحمه الله، كتابه هذا فيه سماعات، وفيه أدلة ثابتة كثيرة، بل هو ذكره في كتبه الأخرى أو في بعض كتبه.(200/44)
نصيحة للشباب
السؤال
إن كثيراً من الشباب هداهم الله يقضون جل وقتهم الثمين في الهزل والنكت، وربما غلب هزلهم على جدهم، فما نصيحتكم؟
الجواب
نصيحتي ما سبق، والله تعالى يحب العدل، والعدل وضعُ كل شيء في موضعه، ويكره الظلم، والظلم وضعُ الشيء في غير موضعه، فمن الظلم أن تجعل الهزل يغلب على حياتك، وأن تكون النكتة والطرفة مقصودة لذاتها، وهدفاً بذاته عندك، هذا لا يليق بعاقل فإنك لم تخلق لهذا.(200/45)
النكت ونسبة الكذب فيها
السؤال
يقول: لم تتطرق في كلامك عن النكت من أنها أو غلبها كذب وافتراء، ولم تذكر في تلك حكماً؟
الجواب
في الواقع أنني لا أرى أنها تدخل صراحة في باب الكذب؛ لأنه ليس يقصد من ورائها الخبر الصريح، بقدر ما يقصد من ورائها ذكر رواية، أو سرد قصة قرأها الإنسان أو سمعها، دون أن يكون ملزماً بتوثيق هذه الرواية، أو تضعيفها، ودون أن يكون يقصد الإخبار بقدر ما يقصد الإضحاك، أو إنقاذ موقف، أو ما أشبه ذلك من المقاصد، فليس مما يصح فيما يظهر لي أنه كذب صراح.(200/46)
ذكر نكتة عن شخص دون تعيينه
السؤال
ما حكم عرض نكتة حصلت لشخص دون ذكر اسمه؟
الجواب
إن لم يكن هذا الشخص معروفاً للسامعين؛ فلا حرج في ذلك.(200/47)
الدفاع عمن يُضْحَك عليه
السؤال
بعض الناس يركزون بالضحك على شخص من الحضور، لدرجة الخجل لهذا الشخص، فهل يجوز أن أدافع عنه؟
الجواب
بل ينبغي أن تدافع عنه، لكن بحق، ودون أن تنال من غيره، ولا ينبغي للآخرين أن ينالوا من إنسان بما يؤذيه ويسوؤه ويخجله، لا ينبغي أن يكون هذا.(200/48)
التخلص من كثرة الإضحاك
السؤال
كيف توجهون شخصاً مصاباً بداء التنكيت ومعروفاً بين الناس، وهو يرغب في التخلص من ذلك؟
الجواب
رغبته في التخلص هذه بداية حسنة؛ لأن بداية الخير الهم به، فأنت الآن ترغب في التخلص فعليك أن تسلك الطريق، ومن ذلك أن تغير سمعة الناس عنك، فإن الناس -كما سبق أثناء المحاضرة- إذا سمعوا بشيء عظموه، وضخموه، وتناقلوه، حتى يصبح وإن كان خيالاً كأنه حقيقة، فتحاول أن تغير تصور الناس عنك بالإقبال على الأمور الجادة والمفيدة، وحضور مجالس الذكر والعلم، والبعد عن المجالس التي تجرك إلى الهزل والنكتة، وإن كان لك أصدقاء يجرونك جراً إلى النكتة والهزل، فتجنبهم بقدر ما تستطيع.(200/49)
النبي مزح فيكون جداً
السؤال
أليس الهزل أو المزاح يعتبر جداً في حد ذاته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر حجة؟
الجواب
الهزل هزل، وينبغي أن تسمى الأشياء بأسمائها، لكن إن كان لغرض صحيح فلا حرج كما سبق، وفي حدود الاعتدال، وهذا هو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم.(200/50)
نكت الكاريكاتير
السؤال
ما رأيكم في النكت التي يكتبها أصحاب الرسم (الكاريكاتيري) وهل تجوز قراءتها؟ علماً بأنها بدأت تنتشر على شكل كتب مستقلة تباع في المكتبات مصحوبة بالصور المنوعة، أفيدونا؟
الجواب
أولاً: يجب أن يعلم أن تصوير ذوات الأرواح باليد، مما لا يجوز، ولا أعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، فتصوير صورة إنسان كامل، أو حيوان كامل باليد لا يجوز، ولا أعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، وهذا مما يقع فيه أصحاب الرسوم الكاريكاتورية، بعض الرسوم يكون فيها المحاذير السابقة، كالسخرية بالعلماء أو الصالحين، أو حتى بالأنبياء كما سبق أن أشرت إلى شيء من ذلك، فهذا يجب الحذر منه ومحاربته، وبعضها إذا سلم من التصوير، وسلم من المحاذير السابقة، قد يكون فيها إرشاد إلى أمر محمود، أو تحذير من أمر مذموم.(200/51)
طلب دروس للنساء
السؤال
يقول: أرجو ويرجو معي كثير من الإخوة والأخوات، أن تخصص بعض الدروس للنساء وذلك لتعم الفائدة، مع وضع الإعلانات المناسبة للدروس حتى تحضر النساء.
الجواب
في الواقع إنه ليس في المسجد الجامع الآن مكان مخصص ومناسب للنساء، وهذا هو السبب فيما ذكرت، وإلا فهناك موضوعات كثيرة فيما ذكره الأخ، وقد بلغني أن هناك جهوداً من قبل بعض المسئولين -جزاهم الله خيراً- وبعض الناس المحتسبين لإقامة مكان مخصص للنساء، يكون منعزلاً عن الرجال، وبعيداً ومجهزاً ومناسباً، ولذلك إذا وجد هذا فيحصل ما أشار إليه بإذن الله تعالى.(200/52)
انتقاد
السؤال
يقول: ألا ترى أن طرح موضوع الطرائف والمزاح ليس ذا فائدة أو جدوى كبيرة؟ ألا ترى أن هناك مواضيع أخرى أولى بالمناقشة، مثل مشاكل الشباب وظاهرة السفر إلخ؟
الجواب
في الواقع أن المشاكل كثيرة، مشاكل الشباب، وهناك موضوعات كثيرة مهمة أيضاً، لكن كل طبقة من الشباب لهم أمور معينة تهمهم ويبحثون عنها، وهذا الموضوع يهم، وأستطيع أن أقول: إن لم يهم كل إنسان فهو يهم الشباب خاصة، وهم فيه ما بين مُفْرِط ومُفَرِّط، فضلاً عن أنني لا أذكر أنني سمعت أو اطلعت على أن هناك محاضرة في هذا الموضوع، يمكن أن يتداولها الناس ليعرفوا فيها الحسن من القبيح، والجيد من غيره، فلذلك أفردتها بالحديث.(200/53)
تعقيب
السؤال
هذا السؤال صدقني فيما ذكرت، يقول: يشاهد ويلاحظ أن الناس وطلاب العلم بين طرفي نقيض، فمنهم من يكون كل مجالسهم نكت وضحك بحجة الترويح، أو ترغيب الفساق، وبالمقابل من الناس من يكون عبوساً حتى لو مر عليه بعد طول مجلس مع إخوانه نكتة حسنة، فإنه يواجه ذلك بالغضب والتحقير لصاحبها مما يؤدي إلى التنفير.
الجواب
لاشك أن هذا صحيح، وهي ملاحظة في مكانها والله تعالى يحب العدل.(200/54)
هل تنصح بقراءة النكت
السؤال
هل تنصح بقراءة النكت التي تكون في الصحف اليومية؟
الجواب
أنصح بقراءتها لغرض واحد فقط، من أجل إذا كان في هذه النكتة أمر مذموم، فإنك تحتسب على أهل هذه الصحيفة أو الجريدة، وتتصل بهم أو تراسلهم، وتنكر عليهم ما فعلوا.(200/55)
ساعة وساعة
السؤال
يقول: ما رأيك في بعض من يقول ساعة لربي وساعة لقلبي، حينما يذكر وينصح، ما رأيك في ذلك؟
الجواب
هذه الكلمة ليست مناسبة؛ لأن العبد ينبغي أن يكون قلبه خالصاً لله عز وجل، بمحبة الله، وخوفه، ورجائه، وأن تكون حياته كلها لله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] فالعابد حتى حين يكون في بعض الأمور التي فيها أنس أو تسلية أو ترويح، فإنه لا يحس بأنه بعيد عن الله عز وجل، ولا بأنه يخالف ما أمر به الله تعالى، فإن هذا ما أمر الدين بتنظيمه ورعايته.(200/56)
الغالب الجد في حياة النبي
السؤال
يقول: مما يلاحظ من ذكرك من مُلح الرسول صلى الله عليه وسلم أنها قليلة، وذلك لأن أكثر المرويات فيها ضعف وغيره، فهل يستدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر حاله الجد؟ أم أنك اقتصرت على بعضها؟
الجواب
في الواقع أنني ذكرت أكثر ما وجدت من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوع النكت والطرائف، لكن أكثر ما ذكرته صحيح، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان الجد أغلب عليه، كيف يقارن جده صلى الله عليه وسلم بهزله؟ وقد كان يقوم في الليل أحياناً بسورة البقرة، وآل عمران والنساء، في ركعة واحدة، وكان يصوم حتى يقال لا يفطر، وكان عليه الصلاة والسلام كثير الأسفار؛ للجهاد والقتال وغير ذلك من المقاصد الشرعية، إضافة إلى تعليمه، ووعظه، وخطابته عليه الصلاة والسلام فلاشك في هذا.(200/57)
توجيه لمدرس
السؤال
يقول: أنا شاب مقبل على مرحلة جديدة من حياتي وهي المرحلة العملية (التدريس) وأرجو توجيهي بكلمة في بداية المرحلة هذه، خصوصاً أنك صاحب تجربة وممارسة، ومما أعرفه أن الأدباء يفردون أبواباً في نوادر المعلمين، لذا أرجو أن يزول خوفي؟
الجواب
أحسنت هذه من مفاسد قراءة الإنسان لبعض هذه الكتب دون وعي؛ لأنهم يفردون فعلاً نوادر المعلمين، ويسخرون بهم، ويستهزئون بهم، فيخاف الإنسان من هذه النوادر، ويخشى أن يقع في بعض ما وقعوا فيه.(200/58)
المباح وغير المباح من المزاح
المزاح هو الدعابة وهو نقيض الجد من قول أو فعل، وله أهداف منها: التسلية والتعليم والتربية والتخلص وغير ذلك، وهو مباح ولا ينبغي المبالغة فيه حتى تذهب الهيبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه وزوجاته ويضحك عند مزاحهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يمزحون مع بعضهم، وكذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يمزحن مع بعضهن، وكذلك هناك مزاح مذموم وهو ما كان فيه هزل واستهزاء بالله أو برسوله صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن أو أذية للناس.(201/1)
تمهيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: في ليلة الإثنين، السادس والعشرين من شهر شوال، ينعقد -بحمد الله تعالى وتوفيقه- هذا المجلس، وهو الثاني عشر من مجالس الدروس العلمية العامة، وموضوع هذه الحلقة -كما كنت نوهت لكم في المجلس السابق- هو: الكلام عن المباح وغير المباح من المزاح.
وأحب أن أقول للإخوة: إن هذا الدرس سيكون هو الدرس الأخير قبل إجازة الامتحانات، وإن كنت وعدتكم في المجلس السابق أن آخذ رأيكم، لكني فكرت في الموضوع، فوجدت عدة أمور تدعو إلى إيقاف الدرس في هذه الفترة الوجيزة، منها أن عدداً من الإخوة الطلاب -لا بأس بهم- من الحضور، وهم يطلبون ويتمنون الإيقاف حتى لا يفوتهم شيء.
ومنها -وهذا هو السبب الثاني-: أن الإخوة في خارج هذا البلد ممن يتابعون هذه الدروس -أيضاً- تفوتهم متابعتها أثناء الاختبارات؛ لأنهم لا يوجد لديهم وقت لاقتناء الشريط أو سماعه فيفوت عليهم، والسبب الثالث: هو أن عندي أعمالاً كثيرة، من تحرير بعض المسائل، وتصحيح بعض الكتب، ومراجعة بعض الأمور.
وكنت أؤجل وأسوف؛ رجاء أن توجد الفرصة، فرأيت أن فرصة الامتحانات يمكن أن أستفيد منها في بعض هذه المسائل؛ ولذلك سيكون هذا الدرس -كما قلت- هو الدرس الأخير، أما استئناف هذه الدروس فسيكون -بإذن الله تعالى- في ليلة الإثنين، الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة.
وفي مثل هذه الأمسية بعد صلاة المغرب، سوف ينعقد المجلس الثالث عشر، وسيكون موضوع ذلك المجلس -إن شاء الله تعالى- حول حكم النكت والطرائف وما يتعلق بها، وهو يعتبر مكملاً ومتمماً لهذا موضوع، ولكن هذا الموضوع مستقل وذاك موضوع مستقل، ليس لأحدهما ارتباط ضروري بالآخر، وإن كانا من حيث الموضوع متكاملين.
وفي موضوع: ما يباح وما لا يباح من المزاح، سوف أتحدث في عدة نقاط.(201/2)
العرب تحب المزاح وتكره الاكفهرار
وضد المزاح والتبسم: العبوس والتقطيب والجد والصرامة.
والعرب كانت تمتدح بالأول، وتذم بالثاني، فإذا أرادت العرب أن تمدح شخصاً قالت: فلان بسام الثنايا، طلق الوجه، بشوش للضيف، ويعتبرون هذا مما يمدح به الإنسان؛ لأنه يدل على كرم أخلاقه، وحسن معشره وطيب معاملته، وقد يذمون بالآخر وهو الاكفهرار والعبوس.
فيقولون: فلان عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجه، كأنما وجهه بالخل منضوح، أي: كأنما وضع الخل على وجهه فلشدة حموضته قطب واكفهرت أساريره، وكأنما أسعط خيشومه بالخردل، أي: كأنما وضح الخردل في أنفه سعوطاً فكان مقطباً: فالعرب تمدح بالأول وتذم بالثاني.
ولاشك أن العرب يقصدون الأمر المعتدل من ذلك، وإلا فإن المزاح -كما سيأتي- إذا زاد وتعدى كان مهانة وذلاً وضعةً من قدر صاحبه، كأن يجرئ عليه الصبي الصغير، والسفيه والأحمق والجاهل، فإنما يقصد العرب من ذلك: ما يكون على حد الاعتدال والتوازن، لا إفراط ولا تفريط؛ ولذلك يقول أبو تمام -يمدح رجلاً-: الجد شيمته وفيه دعابة طوراً ولا جد لمن لا يلعب فبين أن الجد هو شيمة هذا الإنسان -الأصل عنده الجد- لكن ليس دائماً، ففيه دعابة وفيه فكاهة، (طوراً) أي: حيناً، ولا جد لمن لا يهزل، فإن الإنسان إذا داوم شد الحبل على نفسه فإنه ينقطع، وهذا حتى في سياسة النفس ينبغي أن يتفطن إليه، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[يعجبني أن يكون الرجل في بيته صبياً]] .
وكان عمر رضي الله عنه وهو الخليفة أحياناً يكون في بيته فيتغنى بأبيات من الشعر، يقرؤها بلحون العرب، كما يردد الواحد منا بيتاً في بيته -أي: بيتاً من الشعر- فربما طرق أحد الباب فسمع عمر وهو يردد هذا البيت من الشعر أو ذاك.
وحتى الجبابرة والمتسلطون يقع منهم ذلك، سئل الحجاج يوماً عن موقفه ومعاشرته مع أهله، فقال: والله ما تعدوننا إلا شياطين، والله لقد رأيتني وأنا أقبل رجل إحداهن.
أي: رجل إحدى زوجاته، فهذه الأشياء لابد منها لكل إنسان، وهي جبلة فطر عليها المرء، ولا مفر له منها، لكن ينبغي أن يكون -كما أسلفت- على حد القصد والاعتدال، لا يخرج إلى إفراط ولا إلى تفريط.(201/3)
تعريف المزاح
المزاح: هو الدعابة، وهو نقيض الجد من قول أو فعل، والمزاح أمر جبل عليه الإنسان في أصل طبيعته، ويستخدمه الإنسان لأغراض شتى.(201/4)
من أهداف المزاح
فمن الناس من يمزح بقصد التسلية، لأنه إذا كثر عليه الجد وثقل عليه، فإنه يمل ويكل، فيلوذ ويلجأ إلى شيء من الدعابة والمزاح، وهذا جاء في حديث حنظلة بن الربيع، ففي صحيح مسلم {أن حنظلة بن الربيع الأسيّدي رضي الله عنه قال لـ أبي بكر: نافق حنظلة، إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات ونسينا كثيراً.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لكذلك، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة، وفي الأخير قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} .
أي: ساعة تعبد وجد وإقبال، وساعة يجلس الإنسان فيها مع أهله ومع أولاده، ويستمتع بما أباح الله تعالى له من أمور الدنيا، ويدخل في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأصحاب والأحباب وغير ذلك.
وقد يكون من أهداف المزاح أحياناً: التعلم.
فإن التعلم يكون باللعب كما يكون بالجد، وأنت ترى أن الله -جل وعلا- فطر الصبيان الصغار على اللعب بأشياء مما يحتاجونها في كبرهم، فأنت تجد الطفلة الصغيرة تأتي إلى وسادتها، وتحزمها وتعدها بنتاً لها وتسميها، وتحملها وتضعها على حجرها، وتقبلها وتضمها وتغضب إذا أوذيت، وهذا يتناسب مع الجبلة التي خلقت من أجلها المرأة.
وكذلك الصبيان يجلسون فيصنعون البيوت ويصنعون الأشياء، ويتدربون على الأعمال التي سوف يعانونها في الكبر، فالمزاح واللعب -أحياناً- يكون للتعلم، كما يكون التعلم بالجد.
وقد كشف في وسائل التربية الحديثة: أن المعلم يحتاج إلى أن يُدخل على طلابه -أحياناً- نوعاً من الطرف ليبعد عنهم السآمة والملل، وهذا كان موجوداً عند علمائنا السابقين، فكان بعضهم يستخدم مع طلابه أساليب للتعليم، مثل أن يسألهم، أو يجعل لهم لغزاً يسمونه "المعاياة" يعاييهم فيه -أي: يعجزهم في الجواب عنه- إلى غير ذلك من الأشياء التي تطرد السآمة والملل، وتعين المتعلم على ما هو بصدده.
وقد يكون المزاح واللعب -أحياناً- للتخلص من الخوف أو القلق أو الغضب أو غيرها، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، وهذا يقوله العلماء المعاصرون، لكن في هدى النبي عليه الصلاة والسلام ما يشبه هذا.
ففي الحديث المتفق عليه، حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول رضي الله عنه: {فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب} .
إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب.
وقد يكون المزاح -أحياناً- للتخلص من موقف صعب، فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك.
فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها.
وقد يكون المزاح على سبيل الملاطفة والملاينة، وتطييب خاطر من يقابلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإنك إذا تبسمت له، تعرب له عن محبتك وسرورك بمقدمه، وأن قلبك لا يحمل له إلا الود والحب، فهذه بسمة يعبر فيها الأخ المسلم عن حبه لأخيه حين يلقاه، فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات، كأنك أخذت مالاً وأعطيته إياه؛ لأنك تدخل السرور على قلبه بذلك.
ولهذا يقول جرير رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم} متفق عليه فكان يبتسم له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحبه، ويقول: عليه مسحة ملك.
وكان لا يثبت على الخيل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، وأمره أن يذهب إلى ذي الخلصة -وهو صنم كانت تعبده العرب في الجاهلية- فيهدمه، ففعل رضي الله عنه وأرضاه.(201/5)
مزاح سيد المرسلين
أما النقطة الثانية في هذا الدرس فهي: مزاح سيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في كل أمر، وكان عليه الصلاة والسلام يعاني من أمور الدعوة والتبليغ، والإصلاح، والأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، ما لا يعانيه غيره، فلا أحد يستطيع أن يقول إنه مشغول أكثر مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً، ولا جاد أكثر مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً، ولا ورع أكثر من ورعه صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة في ذلك كله.
ولاشك أن الرسول عليه السلام كان الغالب على حياته الجد، وقد بان الشيب على مفرقه عليه الصلاة والسلام قبل أوانه، فقيل له شبت يا رسول الله! فقال: {شيبتني هود وأخواتها، وقال: حم، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت} وهذا حديث ورد من طرق كثيرة صححه بها بعضهم، وإن كان بعض أهل العلم أعلَّوه بالاضطراب، لكن معناه صحيح.
وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غالب صلاته في آخر عمره وهو قاعد بعد ما حطمه الناس} أي: من كثرة دخول الناس وخروجهم عليه وسؤالهم له وحاجتهم؛ حَطَمُوه فتأثر بذلك وأسرع إليه الشيب صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان له مزاح يسلي به أصحابه، ويسري به عن القريب والبعيد.(201/6)
الأحاديث والأخبار الواردة في ضحكه وتبسمه صلى الله عليه وسلم
أما الأحاديث والأخبار التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم، فيضحك أو يتبسم بعض من حوله من أصحابه، فهذا كثير جداً، لو جمع لكان في مجلد، لكنني أذكر نماذج سريعة منه.
فمن ذلك: حديث أبي ذر في صحيح مسلم {أن الله تعالى يدني عبداً من عباده يوم القيامة، فيقول له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ ويقول لملائكته: اذكروا له صغار ذنوبه ونحو عنه كبارها، فيذكرون له الذنوب الصغيرة، حتى إذا انتهت قال الله عز وجل: فإني قد أبدلتها لك حسنات -لأنه قد تاب منها، فأبدلها الله تعالى له حسنات-.
فهذا الرجل قال: يارب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} أي: أن هذا الرجل عندما كانت الذنوب الكبائر مستورة عنه وكانت عليه سكت ولم يثر الموضوع، لكن لما عرف أنها صارت في صالحه، وأنها بدلت حسنات، صار يطالب بها، ويقول: عملت ذنوباً لا أراها هنا، أين الكبائر التي عملتها؟ لأنه يعلم أنها ستبدل إلى حسنات!!.
ومن ذلك -أيضاً- ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع -يريد أن يزرع- فقال الله عز وجل: ألست فيما أغنيتك به يا عبدي؟! قال: يا رب، ولكني أحب أن أزرع.
قال: فيأذن الله تعالى له بذلك، فيكون بذره وزرعه ونماؤه ونضجه وحصاده في لحظة واحدة، فقال رجل من الأعراب -كان حاضراً عند الرسول صلى الله عليه وسلم-: والله يا رسول الله، لا تجد هذا الرجل إلا قرشياً أو أنصارياً، أما نحن فلا حاجة لنا في الزرع؛ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} وله من ذلك شيء كثير -كما أسلفت-.(201/7)
نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم
وأذكر نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: كثرة تبسمه وممازحته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما سبق في حديث جرير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه إلا تبسم} .
وقد روى الترمذي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، وهو حديث حسن، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، أنه قال: {ما رأيت أكثر تبسماً من النبي صلى الله عليه وسلم} .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنهم قالوا: {يا رسول الله، إنك تداعبنا -أي تمازحنا- فقال: نعم، لكني لا أقول إلا حقاً} رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وقد جاء عن ابن عمر عند الطبراني، وسنده حسن -أيضاً- وجاء عن بكر بن عبد الله المزني وغيرهم {إنك تداعبنا.
قال: نعم، ولكني لا أقول إلا حقاً} .
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخاطب خادمه أنس بن مالك فيقول له: {يا ذا الأذنين} وهذا الحديث رواه الترمذي في الشمائل، وهو كما قال الترمذي: حديث صحيح غريب.
و (يا ذا الأذنين) مزاح؛ لأن كل إنسان له أذنان، فقوله لـ أنس: {يا ذا الأذنين} هذا على سبيل الممازحة.
ومن ذلك -أيضاً- قوله لأخي أنس من أمه: {يا أبا عمير ما فعل النغير -وكان له نغر يلعب به، فمات هذا النغر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو عمير كسيف حزين- فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ -العصفور- فقال: مات يا رسول الله} وكان هذا على سبيل الدعابة والممازحة له.
ومن ذلك: ما رواه أنس -أيضاً- {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: احملني يا رسول الله -أي أعطني شيئاً أركب عليه للغزو والسفر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد الناقة -ففهم الأعرابي: أن ولد الناقة هو الجمل الصغير- فقال: وما أفعل بولد الناقة يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!} .
والحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده.
ومن ذلك: حديث أنس -أيضاً- الذي رواه الترمذي في الشمائل، وسنده صحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له رجل من الأعراب اسمه زاهر الأسلمي، فكان هذا الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهدايا مما يستطرف من هدايا البادية، من الأقط والسمن وغيرها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي له أيضاً، فيقول عليه السلام: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فوجد زاهراً يبيع في السوق ولم يعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتسلل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه واحتضنه وقال: من يشتري العبد من يشتري العبد؟ فالتفت زاهر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إذاً تجدني كاسداً يا رسول الله.
قال: لكنك عند الله لست بكاسد} .
وفي رواية قال: {لكنك عند الله غالٍ} والحديث -كما أسلفت صحيح- وفيه ما كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من البساطة والممازحة، وتطييب أصحابه بما يناسبهم مع عدم الكذب، فإن زاهراً كان عبداً لله عز وجل ولا شك.
والحديث قال عنه ابن كثير أيضاً: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه على ذلك الشيخ الألباني، وقال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح.
ومن ذلك: ما رواه الترمذي والبيهقي عن الحسن البصري مرسلاً، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند الطبراني والبغوي في تفسيره، وهو حديث حسن: {أن امرأة عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن أكون من أهل الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة عجوز، فكأن هذه المرأة خافت ووجلت.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35-38] فذهب ما بها وعرفت مراده صلى الله عليه وسلم} .
هذه نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته مع أصحابه.(201/8)
مزاح بعض الصالحين
أنتقل إلى النقطة الثالثة وهي: مزاح بعض الصالحين.(201/9)
مزاح عمر بن الخطاب
عمر رضي الله عنه على جلالة قدره وجده، كان له مزحات معينة، ولكنها كانت مزحات مقصودة يريد بها أن يربي من وراءه -كما سلف للتعليم-[[جاء أعرابي يوماً فصلى في المسجد ركعتين خفيفتين جداً، وكأنه أخل بالصلاة، ثم قال في آخر صلاته: اللهم إني أسألك الحور العين في الجنة.
فلما سلم قال له عمر رضي الله عنه: لقد أسأت النقد وأعظمت الخطبة]] أي: المهر الذي دفعته قليل والخطبة عظيمة، تريد الحور وصلاتك بهذه الصفة، لا تتم قيامها ولا قعودها ولا ركوعها ولا خشوعها وكان هذا منه رضي الله عنه على سبيل التعليم كما سبق.(201/10)
مزاح عمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يُذكر أنه لم يمزح بعدما ولي الخلافة إلا مرتين، أما فيما عدا ذلك فكان جاداً، لم يكن في حياته وقت إلا للجد، إحدى هاتين المرتين: يروى أن هناك رجلاً كان اسمه حُميد، وكان يسكن في قرية اسمها أمج قريبة من المدينة المنورة، وكان حُميد هذا رجلاً فاسداً فاسقاً يشرب الخمر، وكان يقول في شعره -يحدث عن نفسه: حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع يحدث عن نفسه، فبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي ذات يوم كان عمر بن عبد العزيز في مجلس -بعد زمان طويل- فسلم عليه رجل ثم قال: أتعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا حميد، فقال عمر بن عبد العزيز: حميد الذي أمج داره؟ -فهو يذكره بذاك البيت- فتبسم الحضور واكفهر هذا الرجل وضاق صدره، وحزن لذلك حزناً شديداً.
وقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها منذ عشرين سنة، لأن هذا فيه تعريض بأنه كان يشرب الخمر؛ لأن آخر البيت أخو الخمر، ففيه تعريض بشرب الخمر، قال: والله يا أمير المؤمنين، ما شربتها منذ عشرين سنة.
فقال له عمر بن عبد العزيز: إنما أردت أن أباسطك بهذا، ولم أرد أن أسوءك، وهكذا أيضاً يكون المزاح في قصد التعليم.(201/11)
قصة خوات بن جبير
ومما ورد من المزاح الذي يقصد منه التعليم قصة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواها جماعة من الأئمة المحدثين الحفاظ، عن خوات بن جبير رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلع عليه يوماً من الأيام، في أول عهده بالإسلام، أو لعله قبل أن يسلم، وكان جالساً مع بعض النساء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أجلسك هاهنا يا خوات؟ قال: يا رسول الله، بعير لي شرد فأردت من هؤلاء النسوة أن يصنعن له عقالاً أو نحو ذلك.
فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف من عنده ورجع وهو على حاله فقال: أما زلت على تلك الحال؟! فقام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقيه قال له: ما فعل بعيرك الشارد أو ما فعل شراد بعيرك؟ فكان يستحي بعد ذلك، ولا يحب أن يقابل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ خشية أن يذكره بذلك، حتى جاءه يوماً وهو يصلي فذكره بذلك.
فقال: يا رسول الله عقله الإسلام، أو والله ما شرد منذ أسلمت} وهذه كلمة معبرة يفهم ما وراءها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقصد منها النصيحة والتعليم، بالأسلوب الذي يناسب كل إنسان.(201/12)
مزاح الشعبي
أما فيما يتعلق بالتابعين والأئمة، فإن من قصصهم وأخبارهم في المزاح شيء كثير، يطول ذكره -كما أسلفت- ولعلي أكتفي بأمثلة ونتجاوز ما عداها.
من ذلك الشعبي، والشعبي إمام جليل، كان قاضياً لـ عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة حافظاً، حتى إنه كان يقول: والله ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت حديثاً فاحتجت أن أكتبه، أو احتجت أن يعيده علي صاحبه مرة أخرى.
وكان الحسن البصري يقول: [[كان قديم السلم -أي: قديم الإسلام- كثير العلم، عظيم الحلم]] فكان من أئمة التابعين وثقاتهم، لقي خلقاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال له رجل: ما لي أراك نحيلاً؟ -وكان ضئيل الجسم- فقال: لقد زحمت في الرحم، وكان ولد هو وأخ له آخر من بطن واحد.
وسأله رجل عن اسم امرأة إبليس فقال: ذاك نكاح ما شهدناه، وجاءه رجل وهو جالس مع زوجته، فقال: أيكما الشعبي؟ فأشار إلى زوجته، وقال: هذا.(201/13)
مزاح الأعمش
وكذلك الأعمش، كان من أكثر الظرفاء، وهو من أئمة الحديث الثقات، وله في ذلك طرائف كثيرة، منها: أنه حج، فغضب على الجمال فضربه حتى شج رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: من تمام الحج ضرب الجمال.
والغريب أن الذين صنفوا في الأحاديث الموضوعة ذكروا هذا! على أن بعضهم ظن أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الأحاديث الموضوعة (من تمام الحج ضرب الجمال) ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الأعمش.
وكذلك جاءه حائك يسأله هل تقبل شهادة الحائك؟ قال: نعم، تقبل إذا كان معه رجلين.
فقال هذه وعدمها سواء.
وهو أراد أن يتندر بذلك.(201/14)
مزاح القاضي شريح
القاضي شريح، وهو قاض أيضاً [[جاء إلى حي من همدان فقاموا إليه وسلموا عليه وأكرموه وبجلوه، فقال لهم: يا معشر همدان، إني لأعرف أهل بيت منكم لا يحل لهم الكذب.
فقالوا: من هم يرحمك الله؟ قال: ما أنا بمخبركم، ثم قام من عندهم فلحقوا به ميلاً، وهم يركضون وراءه ويقولون: أخبرنا رحمك الله.
فلما أبى رجعوا، وهم يقولون: ليته أخبرنا من هم.
]] ومن المعروف، أن كل الناس لا يحل لهم الكذب، وإنما أراد أن يمازحهم ويباسطهم في ذلك.(201/15)
مزاح نعيمان
ومن أكثر، بل لعله أكثر الصحابة اشتهاراً بالمزاح، رجل اسمه نعيمان وهذا له ذكر في صحيح البخاري، في كتاب الوكالة فيما أذكر، وكان يشرب الخمر، ففي صحيح البخاري {أنه جيء به في البيت شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فضرب، قال الراوي: فكنت فيمن ضربه} .
وورد في موضع آخر {أن رجلاً جيء به قد شرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فقال رجل من الحضور: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: لا تعن الشيطان على أخيك، وقال: إنه يحب الله ورسوله} ويحتمل أن تكون القصة وقعت لشخص واحد، ويحتمل أن تكون لشخصين والله تبارك وتعالى أعلم.
المهم أن نعيمان هذا من أكثر المزاحين، {كان إذا وجد في السوق شيئاً يباع -عسلاً أو شيئاً طريفاً يباع- اشتراه، وقال للبائع: أذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: هذا لك هدية، وبعد قليل يأتي البائع إلى للرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه الثمن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذه إحدى هنات نعيمان، وكان هذا يحدث كثيراً فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما حملك على هذا؟ يقول: يا رسول الله، رأيت شيئاً حسناً أحببته لك، ولم يكن معي ما أشتريه به} .
ونعيمان وردت له قصص كثيرة، في صحتها نظر، لكن من أصح ما ورد: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة رضي الله عنها، ورواه أيضاً الطيالسي وابن ماجة وغيرهم، بسند فيه رجل يقال له زمعة بن صالح، وزمعة بن صالح هذا فيه مقال، وإن كان مسلم خرج له في الصحيح، ولكن فيه ضعف يسير.
والحديث له شاهد آخر عند الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح: {أن أبا بكر رضي الله عنه خرج في تجارة إلى الشام، إلى بصرى، قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنة.
وكان معه نعيمان هذا، ومعه رجل اسمه سليط بن حرملة، وكان سليط بن حرملة هو المسئول عن التموين في تلك السفرة، فجاء إليه نعيمان يوماً، وقال له: أطعمني، فقال له: لا، حتى يأتي أبو بكر، فألح عليه فقال: لا، حتى يأتي أبو بكر، فقال: لأسوأنك، فمر قوم من العرب، فجاء إليهم نعيمان وقال: هاهنا عندي عبد فاره قوي جيد، أتريدون أن تشتروه مني؟ قالوا: نعم، قال: هاهو، ولكنه رجل لسن -لسانه طويل- فإذا شريتموه سيقول: أنا حر، أنا ابن عمه، أنا كذا أنا كذا، فإذا كنتم ستطلقونه فلا تفسدوا عليَّ عبدي، قالوا: لا، نحن نمسك به، فاشتروه منه بعشر قلائص -عشر نوق- فأخذها نعيمان.
ثم جاء إلى سليط، فقال: هذا هو فأمسكوا به ووضعوا العمامة في عنقه وجروه، فقال: أنا حر، هذا يضحك عليكم، هذا يريد أن يسوءني، هذا ابن عمي، هذا كذا هذا كذا، قالوا: لا، قد أخبرنا أمرك.
وذهبوا به، فلما جاء أبو بكر رضي الله عنه، أخبره بالخبر فلحق بهم وأطلقه ورد إليهم قلائصهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يضحكون من هذه القصة حولاً كاملاً وهم يضحكون من هذا الخبر} .
ولـ نعيمان قصة مع مخرمة بن نوفل عجيبة جداً، ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وفيها: [[أن مخرمة بن نوفل كان رجلاً فقد بصره في آخر عمره -عمي وفقد بصره، أو ضعف بصره جداً- فكان في المسجد، فقام في يوم من الأيام ليقضي حاجته، فأمسك به نعيمان ودار به في المسجد، ثم أجلسه في ناحية منه، فلما قعد قام إليه الناس، وقالوا له: أنت في المسجد.
فقال: من الذي جاء بي إلى هنا؟ قالوا: نعيمان، قال: لأفعلن به ولأفعلن -يهدده- فكان نعيمان يتهرب منه يوماً بعد يوم، حتى نسي مخرمة رضي الله عنه الخبر.
فجاء إليه في يوم من الأيام وقال له: هل لك في نعيمان؟ -غيّر صوته- قال: أين هو؟ قال: هاهو في المسجد، قال دلني عليه بارك الله فيك.
وكان هذا في عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وكان عثمان بن عفان يتنفل في المسجد، فجاء حتى أوقفه على رأس عثمان، وقال له: هو هذا، فأمسك مخرمة بعصا كانت معه بيديه وضرب بها عثمان رضي الله عنه، فلما سلم عثمان التفت، فإذا هو مخرمة.
فعرف أنه ضرب عثمان فقال: من دلني عليك؟ قالوا: نعيمان قال: لا جرم، لا تعرضت له بسوء أبداً]] .
وهذه القصة -كما قلت- ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وأنا في شك منها، أظن أنها لا تصح عنه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن فيها تجاوزاً ومخالفة، يبعد أن تصدر منه، وإن كان البشر قد يخطئون، لكن الذي يظهر لي أنه ليس لها سند يعتمد عليه ويوثق به.
المهم أنه كان من أشهر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دعابة، وله قصص كثيرة جداً أُعرض عنها لطولها -كما ذكرت- ولأنه لا جدوى من الإطالة بها والاستطراد وراءها.(201/16)
التبادح بالبطيخ
ولا شك أن الصالحين إذا ذكروا فحيهلاً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أصلح الناس بعد الأنبياء، وكانوا يتمازحون، ولعل من عجيب وغريب تمازحهم، مما قد تستغربه النفوس ولا تألفه، ما رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، بسند صحيح رجاله ثقات: {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال} .
كانوا يتبادحون أي: يحذف بعضهم بعضاً بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال.(201/17)
تذاكر أمور الجاهلية
والحديث الآخر الذي رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أمر الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم فيضحكون، وربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم} .
والحديث جاء في صحيح مسلم بلفظ قريب من هذا {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر في المسجد، فيذكرون أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم} وفي بعض الروايات {أن أحدهم كان يكون في ذلك، فإذا أريد أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه} فإذا أريد على دينه أي: ساومه أحد على دينه، أو رأى منكراً لا يرضي الله عز وجل؛ "دارت حماليق عينيه" أي: تحرك وغضب، وظهر أثر الغضب في وجهه.(201/18)
عائشة وسودة
من مزاح أصحابه رضي الله عنهم: ما جاء عن عائشة وسودة رضي الله عنهما {أنهما كانتا في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صنعت عائشة طعاماً خزيرة، فقربتها، وقالت لـ سودة: كلي، فقالت: لا أشتهيه، فأمرتها بأن تأكل وإلا عاقبتها، فلم تأكل سودة؛ فأتت عائشة ومسحت وجهها، وكان عليها أثر الطعام، فأرادت سودة أن تقتص منها، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ففعلت بـ عائشة مثل ما فعلت عائشة بها، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك} .
وهذا الأثر رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح قال الحافظ العراقي: وسنده جيد.
وممن اشتهر بالمزاح: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة وأبي بن كعب، فإن كثيراً من هؤلاء كانوا مشهورين بالمزاح، وفي كتب الأدب والسير من ذلك شيء كثير يطول ذكره.
وهناك كتيب اسمه المراح في المزاح، للغُزِّي، ذكر طرائف وأشياء من هذا القبيل، وبعضها مما أستغربه وأستبعده، وأظن أنه مفترى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأَبْعدُ أن يصدر منهم.(201/19)
أنواع المزاح
أنتهي إلى النقطة الرابعة والأخيرة والمهمة وهي: قضية أنواع المزاح أو ضروب المزاح.
والمزاح -أيها الأحباب-ضربان:(201/20)
الإكثار من المزاح
والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- فيكون شخصاً طبيعته المزاح، قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه.
الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرداً، أي أنك تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيتاً أو مزرعة، أو -أحياناً- دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها.
ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة، إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب، ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم.
ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: من الكذب، والنميمة، والغيبة، والاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته، أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح ولابد.
فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط.
هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها.
وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثيراً من الإخوة يفضلون -قدر المستطاع- أن يكون كل موضوع في درس؛ ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب.
والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- يكون شخص طبيعته المزاح قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح مزاحاً في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه.
الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرد، يعني تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيت أو مزرعة أو أحياناً دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها، ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب.
ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم، ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: في الكذب، في النميمة، في الغيبة، في الاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح ولابد.
فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط.
هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها.
وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثير من الإخوة يفضلون قدر المستطاع أن يكون كل موضوع في درس ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب.(201/21)
المزاح المذموم
ما الضرب الثاني فهو: المزاح المذموم، أكثر مزاح الناس عبر العصور، يدخل في باب المزاح المذموم.
والمزاح المذموم أنواع: منها: ما كان فيه هزل بشيء من ذكر الله تعالى، أو القرآن والحديث، أو العلم والعلماء، أو الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وقد ذم الله تعالى من فعل ذلك وهزل به، بل كفرهم، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] .
ولهذا قال أهل العلم: من هزل بشيء فيه ذكر الله تعالى أو الرسول أو القرآن فهو كافر، ولا فرق في ذلك بين الخائف والجاد والهازل إلا المكره.
وقد جاء عند الطبري في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه {أن قوماً كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقالوا يسخرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
قال ابن عمر: فلقد رأيت أحدهم متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه قالوا: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فلا يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول لهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65-66] } .
فالمزاح والهزل بشيء فيه ذكر الله تعالى، أو الرسول أو القرآن أو العلم أو العلماء، هذا مما يجب أن يتقيه الإنسان.
وما أكثر ما يتساهل فيه، ولو فتحت أي كتاب من كتب الأدب كتاب البيان والتبيين، أو رسائل الجاحظ أو بلوغ الأعراب، وكتب المحاضرات إلى غير ذلك؛ لوجدت كثيراً منها مليئة بالقصص والطرائف والأخبار والنوادر، التي تتندر بالأنبياء أو بالمرسلين أو بالقرآن، -ومع الأسف- أن بعض الناس قد يقرؤها ثم ينقلها ويرويها، دون أن يتفطن إلى تحريم ما فيها، فينبغي أن تكونوا حذرين -أيها الإخوة- من حكاية أي نكتة أو قصة أو طرفة، أو المزاح بشيء فيه ذكر الله تعالى أو الرسول أو القرآن.
ولذلك كان أهل العلم والخلفاء وغيرهم، أشد الناس في هذه الأمور، كان عند أحد الخلفاء إنسان يمازح ويسمى نديم، يدخل السرور عليه، ويسمى مضحك أو حاكي، فكان يضحك الخليفة، ولكن كان الخلفاء -مع ذلك- إذا تعدى هذا المضحك حدوده أوقفوه بشدة، كما يروى أن هارون الرشيد كان يقرأ شيئاً من القرآن، من سورة "يس"، أظن أنها قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22] أو نحو ذلك.
المهم قام المضحك وقال له: لا أدرى لماذا تفعل هذا؟ (أو نحو ذلك) ! فهو جاء بنكتة بمناسبة الآية، فغضب الرشيد وهدده وتوعده إن كرر مثل ذلك بأن يسوءه، ويلحق به الذل والمهانة، فكان الخلفاء ومن دونهم من العلماء وغيرهم، يمنعون الناس من أن يهزلوا بشيء يتعلق بالدين والوحي والشرع، فينبغي أن تصان هذه الأشياء.
وبعض الصحفيين -أحياناً- ينقلون مثل هذه الأشياء، أو يقولونها من عند أنفسهم، ويقولون: موجودة في كتب الأدب.
وهل كتب الأدب حجة؟!! وقد أعطاني بعض الشباب -ولعل هذا يكون مجال للحديث عنه في الدرس المخصص للنكت والطرائف كما ذكرت لكم كتاب نوادر جحا، يباع في الأسواق في مجلد يمكن أن يشتريه الواحد بأربعين ريال، أو ثلاثين ريالاً!! فإذا فيه من ذلك شيء كثير، لا يجوز أن يقال، ولا ينبغي أن يوجد في مكتبات المسلمين وبيوتهم وأسواقهم.
ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ويل للرجل يكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له} والحديث رواه الترمذي وسنده حسن، فتوعد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان الذي يكذب ليضحك القوم بشيء من الدين والشرع بالويل.
النوع الثاني: ما كان فيه أذية لأحد من الناس.
وفي أنواع الهزل المذموم: ما كان من الهزل فيه أذية لأحد من الناس.
ولذلك يقول خالد بن صفوان رحمه الله عاتباً على طريقة بعض الناس في المزاح: يصك أحدكم أخاه بشيء كالجندل -أي كالصخور الصلبة- وينشقه أحرق من الخردل- والخردل نبات لبذره طعم حار- ويفرغ عليه أحر من المرجل -أي الماء المغلي المطبوخ-.
ثم يقول: كنت أمازحك! وهذا واقع كثير من الناس، فهو يصك أخاه بأشد من الجندل، وينشقه في أنفه أحرق من الخردل، ويصب عليه أحر من المرجل ويقول: أنا أمزح.
فيأتي بكلمة حارة قاسية، أو يأتي بنكتة ثقيلة، أو يأتي بمزحة في غير محلها، فبعض الناس قد يضع صاحبه في موقف حرج، فقد يكون الرجل في مناسبة زواج، فيتفق مجموعة من زملائه على أن يفعلوا له -كما يسمونه هم- مقلباً يسبب له الإحراج في تلك الليلة، وقد يترتب عليه أضرار، حتى أني أذكر مجموعة من الشباب استطاعوا أن يخرجوا شاباً من عند عروسه في ليلة العرس بحجة من الحجج الواهية، ثم يتوعدهم هذا الشاب بأنه سوف ينتقم منهم ويقتص منهم، وبعد فترة يخطط ليوقع بهم مثل ما أوقعوه فيه.
وقد يأتي إنسان لصاحبه، وهو يريد أن يسافر، وقد يكون حاجزاً علي طائرة أو ما شابه ذلك، مستعجلاً، فيجعل له موقفاً معيناً على سبيل الممازحة، يكون سبباً في تأخره، وقد يكون -كما ذكرت- موقف حرج، أعصابه مشدودة، ويقولون: على سبيل المزاح! وقد يكون الإنسان يريد أن يغتسل، أو يتوضأ في يوم شديد البرد، فيوقعونه في حرج عظيم، وربما يترتب على بعض هذا المزاح -أحياناً- موت كما حدث فعلاً، أو ضرر عظيم للإنسان، أو تلف لبعض أجزاء بدنه، أو تأثر في نفسه، أو رعب يصيبه، وأقل ما يمكن أن يحدث فزع يكون سبباً في القطيعة بين هؤلاء الإخوان.
ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الإنسان نعل أخيه جاداً ولا هازلاً فقال: {لا يأخذن أحدكم} لأنه عندما لا يجد نعله، قد لا يتصور أن هناك أحد يمزح معه؛ فيصاب بخوف إذا فقد نعله ويحزنه ذلك، فما بالك بما يفعله كثير من الشباب من أنواع المزاح الثقيل؟! الذي لا يمكن أن يتقبله شخص عاقل بحجة أنه مزاح، وهو مزاح ولكنه كالمزاح الذي تحدث عنه خالد بن صفوان رحمه الله.
وهذه الأنواع من المزاح محرمة بلا شك، بل قد يترتب عليها من الأضرار أضعاف ما ذكرت.
النوع الثالث من المزاح المذموم: ما كان فيه كذب، كما سبق: {ويل للذي يكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له} وقد ذكرت أنه رواه الطبراني والصحيح أنه رواه الترمذي بسند حسن، فالكذب في المزاح لا يجوز.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق: {نعم، غير أني لا أقول إلا حقاً} .
ويلاحظ أن بعض الشباب في اجتماعاتهم وجلساتهم، كل مجموعة من الشباب يكون لهم -أحياناً- شاب يعتبرونه نجماً للمزاح والدعابة، وهذا الإنسان هو المضحك، لا يمكن أن يسافروا أو يذهبوا إلا ويكون بينهم؛ لأنه يلقي بالمزاح والنكت والدعابة فيهم باستمرار، ويجعل لهم أشياء من هذا القبيل، وهذا الإنسان يجره الموضوع إلى ارتكاب ما حرم الله، والوقوع في الكذب والاختلاق، وهذا -لا شك- أنه محرم، ولا يجوز كما سيأتي مزيد من البسط لذلك.
النوع الرابع من المزاح المذموم المحرم: وهو ما كان فيه إكثار يتعدى حد الاعتدال إلى حد التفريط.
والإكثار من المزاح، حتى يعرف به إنسان ويصبح علامة عليه -مذموم كما سبق وأشرت إلى شيء من ذلك- ويؤثر في شخصية الإنسان؛ فيصبح إنساناً هازلاً، ولا شك أن الإسلام ليس بحاجة إلى الهازلين واللاعبين والمضحكين، إنما هو بحاجة إلى الرجال الجادين الصادقين، الذين تعلموا الجد في طلب العلم، وفي الدعوة، وفي الجهاد، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا يمنع أن يمزح الإنسان -أحياناً- للتسلية، أو لغير ذلك من الأغراض السابقة، أما كون الإنسان همه الإضحاك فهذا لا ينفع في دنيا ولا في دين.
ولذلك لا ينبغي أن يكثر الإنسان من المزاح حتى يُضحَك به، ويروى - أن امرأة كانت تمزح بمكة، -كانت مزاحة- فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، جاءت هذه المرأة إلى المدينة، ثم جاءت إلى عائشة رضي الله عنها، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: على من نزلت؟ فقالوا: على فلانة، فذكروا امرأة في المدينة مزاحة معروفة بالمزاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف} .
والحديث رواه أحمد في مسنده، وأصله -كما هو معروف- في الصحيحين.
وعلى هذا النوع من المزاح يحمل حديث: {لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده عدة فتخلف} مع أن الحديث ضعيف، والحديث رواه الترمذي عن ابن عباس، وسنده ضعيف؛ فلا يحتج به.
وفي المثل يقولون: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن كثر خلافه طابت غيبته.
فإن الإنسان إذا كثر مزاحه لم يهبه أحد، وإذا كثر خلافه وجدله ومماراته؛ استحسن الناس غيبته وفرحوا بفقده.(201/22)
المزاح المحمود
وهذا المزاح المحمود هو ما كان على سبيل الاعتدال، لا يشوبه شائبة مما كره الله عز وجل أو حرم، ولا يكثر فيكون دليلاً على خفة عقل صاحبه أو حمقه، أو يكون سبباً لإهانته ومهانته وذلته وزوال هيبته، أو يكون حطاً من قدره، بل ويكون على سبيل الاعتدال، كما قال أبو الفتح البستي رحمه الله، وهو الشاعر الناظم الحكيم المعروف، صاحب القصيدة النونية المشهورة في الحكم والأمثال، قصيدة "عنوان الحكم" يقول أبو الفتح البستي في بعض شعره: أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح أفد طبعك المكدود بالجد راحة يعني إذا كثر عليك الجد فحاول أن تغير بشيء من المزاح؛ يجم: أي: تعود إليه قوته ونشاطه، وعلله بشي من المزح، "ولكن إذا أعطيته المزاح فليكن بمقدار ما يعطي الطعام من الملح": فإن الملح إذا زاد ضر -كما هو معروف- وكان سبباً في فساد الطعام.
ومن المزاح المحمود المعتدل المزاح مع النظراء والإخوان بقصد التسلية وإزالة الهم عنهم، وإدخال السرور عليهم، كالتبسم إليهم والمباسطة والملاينة، وغير ذلك من الشيء الحسن، كما سبق من ضروب ذلك، وقد كان بعض الصالحين يكون كما كان إبراهيم بن أدهم وغيره، مع أصحابهم يمازحهم ويباسطهم ويلاينهم، فإذا جاء رجل غريب أعرض وانقبض وقال: هذا جاسوس، ثم ترك معه المزاح؛ وذلك لأن المزاح مع من لا تعرف قد يكون سبباً في المهانة؛ لأنه ربما يظن أن هذا دليلاً على خفة العقل أو الطيش أو قلة الفهم وهو كذلك.
فلا ينبغي للإنسان أن ينطلق بالمزاح إلا مع من يعرف، أما من لا يعرف، فينبغي أن يبتسم في وجهه ويلين له القول، لكن لا يتسرع بشيء من المزاح لأنه يكون دليلاً على خفة عقله وقلة فهمه ونبله.
ومن ذلك أيضاً المزاح مع الأهل والزوجة {فالرسول عليه الصلاة والسلام سابق عائشة فسبقته في المرة الأولى، فلما كثر وثقل بها اللحم سبقها، فقال عليه الصلاة والسلام هذه بتلك} وقصته في ذلك معروفة.
ومنه: حديث أم زرع، وهو في صحيح البخاري، وهو حديث طويل، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً على كثرة مشاغله، وعائشة رضي الله عنها تقص له قصة حديث أبي زرع، وهو حديث طويل وفيه طرائف، وعبر وعجائب، وأنصحكم بأن تعودوا إليه وتقرءوه، وفيه من غريب الألفاظ وجميلها وبليغها مالا ينقضي منه العجب.
وأصل الحديث: {اجتمعت إحدى عشرة امرأة في الجاهلية، فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فقالت الأولى: زوجي العشنق إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، وقالت الثانية: زوجي مالك.
وما مالك؟ له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك} وقالت الثالثة، والرابعة -كل واحدة تذكر عن زوجها الزين والشين، وهو حديث عجيب-.
والشاهد أن عائشة قالت في آخره: قالت الحادية عشر أم زرع تقول: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ فذكرت أبا زرع وصفاته، ثم قالت: {أم أبي زرع، وما أم أبي زرع؟ -وذكرت صفات أمه-.
ثم قالت: ابن أبى زرع مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة.
ثم قالت: ابنة أبي زرع ما ابنة أبي زرع؟ غيظ جارتها، وطوع أبيها وأمها المهم، قالت أم زرع: إن أبا زرع خرج من بيتها، فوجد امرأة جميلة، فنكحها وطلق هذه، قالت: فتزوجني رجل آخر فأناخ علي من النعم والإبل وكذا وكذا، وقال لي: كلي أم زرع وميري أهلك -كلى وأرسلي لأهلك- قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر إناء من آنية أبي زرع -لأن الحب للحبيب الأول-.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أنا لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} هذا الحديث جاء في صحيح البخاري، وجاء في رواية: {أنه طلق وأنا لا أطلق} .
من مباسطة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أيضاً لأصحابه قصته المعروفة مع عائشة حين قامت على كتفه تنظر إلى الحبشة في يوم العيد، وهم يلعبون في المسجد حتى سئمت ثم انصرفت رضي الله عنها.
وكذلك كما في الصحيحين: {لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً تزوج فقال له: بكراً أم ثيباً؟ قال: يا رسول الله بل ثيب قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك} .
وفي رواية لـ مسلم قال: {أين أنت من الجارية ولعابها} ولعابها أي: ملاعبتك لها، وذلك لأنه يكون بين الزوجين من المباسطة والملاعبة ما بيَّن الله تعالى في كتابه حيث قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] .
وقد كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بالبنات، كما في الصحيحين، وكان معها صواحب لها، فإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتقمعن -أي: يستحين من الرسول عليه الصلاة والسلام- وتخرج عائشة قالت: {فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليها} أي: يجعلهن يذهبن إليها رضي الله عنها- فلا بأس أن يكون للإنسان وقت يباسط فيه أهله، ويطيب خواطرهم، ويلاينهم ويمازحهم.
ولكن -وتفطنوا لما بعد لكن- كم هو مؤسف أن يكون الكثير منا ربما يقوم بهذا الواجب خير قيام، لكن لو نظرنا إلى الواجب الآخر، الذي سبق التنويه إليه في غير مناسبة، وهو تعليم الأهل وتفهيمهم، وأمرهم ونهيهم، وترغيبهم فيما عند الله، وحثهم على الخير؛ لوجدت الكثيرين مقصرين في هذا الأمر، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يكون الإنسان قائماً بواجبه بقدر ما يستطيع هنا وهناك.
ومن المزاح المحمود أيضاً المزاح مع الأولاد، ومن قصص النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين وغيرهما من ذلك الشيء الكثير، مما لا أريد أن أذكره؛ وذلك لأنني سوف أخصص -إن شاء الله- درساً عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، بعنوان: (أطفال في حجر رسول) فأدع الحديث عن هذا لتلك المناسبة إن شاء الله.
ومن ذلك: ممازحة الإنسان في الأمور التي ليس فيما إثم ولا ضرر، ولا إفراط ولا غلو، ولا زيادة، فهذا مزاح محمود كما سلف.(201/23)
الأسئلة(201/24)
السيئة في الحرم
السؤال
هل السيئة في الحرم تضاعف أم لا؟
الجواب
السيئة في الحرم لا تضاعف، فإن الله تعالى من عدله أنه لا يضاعف السيئة بل السيئة بمثلها، لكن السيئة في الحرم أعظم من حيث كيفيتها من السيئة في غير الحرم، وإلا فهي لا تضاعف، بل هي سيئة واحدة، لكنها أعظم من السيئة في غير الحرم.(201/25)
المزاح بالصدق
السؤال
تدل الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمزح ولا يقول إلا حقاً أو صدقاً.
فما رأيك في قوله لـ زاهر الأسلمي: من يشتري العبد؟
الجواب
زاهر الأسلمي كان عبداً لله عز وجل كما سبق.(201/26)
التشميت بعد الثلاث
السؤال
عن أبي هريرة {شمت أخاك ثلاثاً، فإن زاد فهو زكام} رواه أبو داود فقال: لا أعلمه إلا رفعه.
وعن سلمة قال صلى الله عليه وسلم: {يشمت العاطس ثلاثاً، فما زاد فهو مزكوم} هل معنى أنه لا يشرع للإنسان أن يشمت أخاه العاطس أكثر من ثلاث؟
الجواب
هذا الأظهر، أنه إذا كان فيه زكام.
ويكثر من العطاس، فيشمته المرة الأولى والثانية والثالثة، ثم بعد ذلك يدعو له بالعافية، كأن يقول له: عافاك الله وما أشبه ذلك.(201/27)
حديث أم سلمة
السؤال
يسأل عن حديث أم سلمة {علمني الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، وحضور صلواتك، أسألك أن تغفر لي} وقال الترمذي: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وحفصة بنت كثير لا نعرفها ولا أباها، والحديث رواه أبو داود عن أم سلمة؟
الجواب
الحديث ضعيف كما هو معروف، وقد أشار الترمذي لضعفه -أيضاً- في قوله: حديث غريب.
فإنه يطلق غريب على الحديث الضعيف.
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يجعل خير أعمارنا خواتيمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راض عنا.
اللهم اغفر لنا سرنا وعلانيتنا، ظاهر أعمالنا وبواطنها، ما علم الناس وما لم يعلموا، إنك على كل شئ قدير، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين.(201/28)
لعب الأطفال
السؤال
تسأل الأخت أيضاً عن لُعب الأطفال؟
الجواب
لعب الأطفال أنواع، فإذا كانت هذه اللعب من التماثيل الواضحة الصارخة الموجودة الآن، فالأظهر منعها وتحريمها، أما إن كانت لعب بسيطة، ليس فيها شكل محدد ولا علامات واضحة ولا تقاسيم بارزة.
بل هي أشبه باللعبة الساذجة، مثلما كانت عائشة رضي الله عنها عندها لعبة، ومثلما كان موجوداً في السابق، كانت البنت تأتي بالساجة، ثم تعصب رأسها وتضع ساجة عرضية أخرى كيدين، وتعتبرها بنتاً لها مثلاً أو ما أشبه ذلك، فهذا وما أشبهه من اللعب التي تكون فيها سذاجة لا حرج فيها.(201/29)
وقت صلاة الضحى
السؤال
متى وقت صلاة الضحى؟
الجواب
يبدأ بارتفاع الشمس قدر رمح، بعد طلوع الشمس بعشر دقائق أو ربع ساعة، وينتهي بالزوال.(201/30)
أوراق المسابقة
السؤال
ما حكم اللعب في هذه الورقة الجديدة التي توجد في المكتبات، وفيها أسئلة دينية وثقافية، وأسئلة عن المعارك التي خاضها المسلمون، وأفعال الصحابة وقصصهم؟
الجواب
هي ليست لعبة، بل مسابقة فيها أسئلة، والذي أعرف أنه ليس فيها إلا مجرد أسئلة وأجوبة فقط، أي: اختبر ذكاءك ومعلوماتك، اسأل نفسك وأجب ثم تجد الجواب في صفحة أخرى، فلا حرج فيها.(201/31)
زكاة ما شري بالذهب
السؤال
عندي ذهب وأزكي عليه كل سنة -والحمد لله- لكني فكرت أن أبيعه وأشتري بثمنه قطعة أرض، تكون لي وقت الحاجة أنا وأولادي وإخوتي وأخواتي، ولن أبيعها أو أتاجر بها مهما كان الثمن، إلا إذا لحق بي دين، فهل أزكي عليها؟
الجواب
إذا اشتريت الأرض، ونويت أنها للقنية والسكنة، فلا زكاة فيها.(201/32)
تقليد أصوات العلماء
السؤال
من باب الحب في الله لمشايخنا -وفقهم الله- تقلد أصواتهم عند الإلقاء أو الإفتاء.
فما حكم ذلك وفقكم الله؟
الجواب
لا أرى في الواقع تقليد أصوات العلماء وغير ذلك.
إلا إن كان هذا أمراً طبيعياً، لأن بعض الشباب تقمصه لشخصية شيخه تجده لا شعورياً، يقلده في حركته، وفي صوته، وفي حركات يديه، وفي مشيه من غير قصد الإيذاء له، وإنما بشكل طبيعي عفوي.(201/33)
رد السلام من قبل المصلي
السؤال
هل ترد السلام على من سلم، وأنت تصلي؟
الجواب
لا، لا ترد عليه بالكلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ابن مسعود كما في صحيح مسلم قال: {إن في الصلاة لشغلاً} وإنما تشير بيدك هكذا بأصابعك لرد السلام، فإذا سلم وأنت تصلي فتشير بيدك هكذا بنية رد السلام عليه.(201/34)
المزاح بالكذب والاستهزاء
السؤال
كثير من الشباب يسألون عن واقع بعض الشباب من كثرة المزاح، والتعليق على شخص معين، وأن بعضهم يصل به المزاح إلى الكذب، وبعضهم يصل به إلى الاستهزاء بشيء؟
الجواب
هذا كله أشرت إلى أنه محرم، وأنه يجب تجنبه.
وأقول: أنه إذا كان هناك مجموعة من الشباب التقوا على مثل هذا المزاح، ولم يستطيعوا أن يتخلصوا منه، فينبغي أن يفض هذا الاجتماع الذي هو اجتماع على غير طاعة الله تعالى، ويبحث كل واحد منهم عن قوم يعينونه على طاعة الله ويقتصدون في المزاح.(201/35)
مزاح مدرس على حساب الدين
السؤال
ما نصيحتك لمدرس يمزح في الفصل عند الطلاب على حساب الدين، مثل ذكره لبعض الفنانات في داخل الفصل وغير ذلك، خاصة أن الطلاب في فترة المراهقة والعياذ بالله؟
الجواب
هذا مفسدة ولا يجوز له ذلك، وقد جمع مفاسد عديدة منها: عدم رعاية الأمانة بالنسبة للطلاب، فهم أمانة بين يديه، ومنها: تربية الطلاب على ما حرم الله عز وجل، فضلاً عن أنه أسقط هيبته بهذا المزاح الممقوت المذموم، فعليه أن يتق الله تعالى ويخافه، وأن يربي الطلاب على محاكاة الطيبين والصالحين، فيكثر من سرد قصص الأنبياء، وقصص الصحابة والشهداء والعلماء والعظماء، حتى يتربى عليها الطلاب، فضلاً عن أن مثل هؤلاء الشباب في مثل فترة المراهقة، ينبغي تجنب الأشياء التي تثيرهم، حتى ولو كانت مباحة فضلاً عن أن تكون محرمة.(201/36)
مزاح الصحابة في المسجد
السؤال
ذكرت مزاح الصحابة رضوان الله عليهم في المسجد بعد صلاة الفجر، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، هل يجوز مثل هذا في المسجد؟ وما صحة حديث {المساجد لما بنيت له} ؟
الجواب
نعم {المساجد لما بنيت له} حديث صحيح، والمزاح في المسجد، لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يقصدون أن يجتمعوا للمزاح، كانوا يجلسون في المسجد بعد صلاة الفجر يذكرون الله تعالى.
ولكن قد يمزحون، ويذكرون أمور الجاهلية من باب التحدث بنعمة الله تعالى عليهم الذي منَّ عليهم بالهداية بعد الضلال، فيذكرون هذه الأشياء ويضحكون، ويتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم.(201/37)
الكلام في الجماع
السؤال
هل يدخل الكلام في الجماع، في المزاح الغير مباح، إذا كان من غير تشبيب بأحد، أطال الله عمرنا وإياكم، مع حسن العمل وحسن الخاتمة؟
الجواب
مع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس يكثرون من الكلام في الجماع، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ووصف من يتكلم عن حاله مع أهله بمثل شيطان لقي شيطانة، فتسافدا في قارعة الطريق، فلا ينبغي للرجال أن يفعلوا، ولا ينبغي للنساء أن يفعلن؛ أن يتحدث الرجل عما يفعل مع أهله، أو تتحدث المرأة عما تفعل مع زوجها.
وكذلك الكلام في مثل هذه القصص والإطناب بها لا ينبغي الاسترسال فيه، وخاصة إذا كان هناك شباب غير متزوجين، فإن هذا يضرهم ويسوؤهم، وقد يكون سبباً في ارتكاب بعضهم للمعاصي، وتكون أنت سبباً في ذلك.(201/38)
شرح الأربعين النووية
السؤال
هذا يقترح شرح الأربعين النووية ضمن هذا الدرس.
الجواب
سترٍد جلسات -إن شاء الله- نخصصها لبعض الأحاديث النبوية على سبيل العموم.(201/39)
مزاح الداعية مع المدعو
السؤال
إذا أراد الداعية أن يبتدأ بدعوة أناس جدد، فإنه يجعل الغالب على طبعه الهزل والفكاهة وعدم الجدية.
فهلا صوبت هذا الفعل يرحمك الله؟ إن كان حقاً فمزيداً من التوجيه، وإن كان خطأً فتعليماً للصواب؟
الجواب
ينبغي القصد والاعتدال، لا بأس بالمزاح في حينه، ولمناسبة معينة والتدرج في ذلك، لكن إذا زاد، فإن هذا الشاب الجديد -الذي تريد أن تدعوه- يتعلم المزاح، وقد رأينا وجربنا أن بعض الشباب -وإن كانوا موغلين ومغرقين في الفساد والرذيلة-.
وإذا وجدوا ومن يجرهم بقوة إلى الخير فإنهم ينجرون، فكما أن المزاح والتلطف من أسباب الدعوة، كذلك الجد الصارم -أحياناً- من أسباب الدعوة، وعلى الإنسان أن يعتدل ويقتصد في ذلك.(201/40)
قصة نعيمان والشعبي
السؤال
في بعض ما سقت من القصص في المزاح الكذب، من ذلك قصة نعيمان مع صاحب الطعام في قوله: إنه عبد.
وكذلك قصة الشعبي عندما قال له: أيكما الشعبي قال هذا؟
الجواب
بالنسبة لقصة نعيمان -إذا صحت- القصة رواها الإمام أحمد كما ذكرت، وغيره كـ الطيالسي وابن ماجة بسند فيه زمعة بن صالح -كما أسلفت- ولكن لها طريق أخرى ذكرها ابن حجر في الإصابة عن كتاب الفكاهة والمزاح للزبير بن بكار، فإن كانت الطريقة الأخرى مستقلة؛ فبها يكون الحديث حسناً إن كانت حسنة أو ضعيفة ضعفاً منجبراً.
فإذا ثبتت فإن نعيمان لا يحتج بفعله، وقد ورد أن نعيمان رضي الله عنه، وقعت منه أخطاء، وعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلا يحتج بهذا الفعل، مع أن قوله إنه عبد، في حد ذاته ليس كذباً، فهو عبد لله تعالى، لكن لا يحتج على كل حال بفعله.
أما الشعبي، فإنما قصد توبيخ هذا الرجل على هذا السؤال الذي هو في غير محله، لأن قوله: أيكما الشعبي؟ لا معنى له.(201/41)
المزاح مع غير المسلمين ومع قاطع الصلاة
السؤال
ما رأيكم في المزاح مع من علمت بأنه لا يؤدي الصلاة، وكذلك الأجانب من غير المسلمين بقصد الدعوة؟
الجواب
الإنسان الذي لا يؤدي الصلاة مطلقاً، أي أنه مجانب للصلاة بالكلية هذا فعله كفر مخرج من الملة؛ ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يمازحه، بل ينبغي أن يدعوه إلى الله تبارك وتعالى بالتي هي أحسن، فإن أصر فإنه ينبغي الرفع به وهجره.(201/42)
المزاح بالتنابز بالألقاب
السؤال
هل لي أن أمزح مع بعض الإخوان بتذكيره باسم يقال له، أو يكنى به كالتنابز بالألقاب -مثلاً- أو صفة يتصف بها، لكنه لا يرضاها؟
الجواب
إن كان لا يرضاها فلا ينبغي أن تذكره بذلك.
أما احتجاج الأخ بقصة عمر بن عبد العزيز: حميد الذي أمج داره، فقد ذكرت أن عمر بن عبد العزيز ربما قصد التعليم والنصيحة في ذلك.(201/43)
نصيحة
السؤال
قبل أن يفتح الله على قلبي كنت شاباً مرحاً معروفاً باللعب وخاصة في المراكز، والآن وبعد هذه النعمة -والحمد لله- أريد أن أغير من حالتي تلك، فبماذا تنصحني؟ أريد أن أفارق هذه العادة المذكورة.
الجواب
أنصحك بالإقبال على الجد، والقيام بالأعمال التي تغير تصور الناس عنك، فحاول أن تقوم بإعداد البحوث والأعمال الطيبة الصالحة، والأشياء المفيدة والنصيحة والدروس وطلب العلم وغير ذلك؛ حتى يغير الناس التصور الذي حملوه عنك.(201/44)
تنقية السنة
السؤال
هذا يتكلم عما تفعله جريدة المسلمون، التي تعقد الآن ندوة حول تنقية السنة من الأحاديث الصحيحة؟
الجواب
الحقيقة أن في هذه الندوة كلاماً مزعجاً جداً، ومؤذياً لمشاعرنا نحن المسلمين، أن تصبح السنة النبوية مجالاً لتلاعب الناس واستخفافهم، ومجالاً لكسب المال الحرام عن طريق الإثارة في أمور واضحة وصريحة، وأقول: مؤسف لكل مسلم أن يحدث هذا.
ولذلك أطالب الإخوة من الشباب وغيرهم بمقاطعة هذه الجريدة أولاً، حتى وإن تكلمت عن قضايا، لأنهم يريدون أن يشتريها الناس فصاروا يتكلمون عن الأحاديث الصحيحة، وضرورة تنقية السنة من الأحاديث الصحيحة، والأحاديث الصحيحة تعيق التقدم، وكلام فارغ.
فينبغي أن نقاطع هذه الجريدة، والإخوة الذين اشتروها، أقول: عليكم واجب أن يكتب كل واحد منكم رسالة للجريدة يعاتبها على إيذائها لمشاعر المسلمين بمثل هذا الأسلوب، وإذا لم يفعل على أقل تقدير فيتصل هاتفياً، ويقول: إذا أردتم الإثارة فبغير هذا الأسلوب، ولا تجعلوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مجالاً للأخذ والرد؛ لأن الجريدة يقرؤها العوام.
ولو كانت الجريدة لا يقرؤها إلا طالب العلم لهان الخطب، لكن يقرؤها العوام، فالعامي الآن إذا عرف أن هناك أحاديث ضعيفةً -أحياناً- يبدأ يشك، فيكف إذا عرف أن هناك أحاديث صحيحة وليست صحيحة!! ما هذا الكلام؟! بالتالي أصبح العامي لا يثق بشيء.
وقد سمعت أحدهم يقول -قبل أسبوع-: الله أعلم بعد فترة يبدءون يشككون في القرآن الكريم.
وأنا أقول: إذا دامت الأمور على هذا فالخطب عظيم، فينبغي أن نقوم بواجبنا في هذا الأمر.(201/45)
المزاح مع المتنفل
السؤال
رجل يدخل المسجد ومعه أصحابه، فيقول لرجل يتنفل: إنك صليت ركعة واحدة وهو صلى ركعتين، ولكنه يريد أن يأتي بثالثة ليضحك معه.
هل يعتبر هذا من المزاح؟
الجواب
لا شك أن هذا محرم؛ لأنه مزاح يتعلق بأمور العبادة كما ذكرت.(201/46)
لقد بلغت من الكبر عتياً
السؤال
هل يجوز أن أقول: لقد بلغت يا فلان من الكبر عتياً؟
الجواب
إذا كان الأمر صحيحاً، فلا حرج في ذلك، لا على سبيل الضحك بنصوص القرآن.(201/47)
التركيز على شخص معين في المزاح
السؤال
بعض الشباب يركزون في المزاح على شخص معين في طرح النكت؟
الجواب
إذا زاد هذا فهو خطأ؛ لأنه يسيء إلى هذا الشاب، ويحوله إلى شخص هازل، فيقع في الإكثار من المزاح كما سبق.(201/48)
المزاح مع الطفل
السؤال
المزاح مع الأطفال لابد منه.
فبماذا تنصح في طريقة المزاح؟
الجواب
الطفل يمازحه الأب، أو الأخ بما يناسبه.(201/49)
المزاح بالسب والضرب
السؤال
المزاح في السب وبالضرب هل هو جائز؟ وأنا أراه أنه المزاح الذي هو سبب العداوة؟
الجواب
لا شك أن المزاح بالسب لا يجوز، السب محرم بجدٍ أو هزل.
أما المزاح بالضرب، فإن كان ضرباً يسيراً لا يضر ولا يؤذي فلا حرج، أما إذا تعدى وزاد فلا ينبغي.(201/50)
الضحك في المسجد
السؤال
ما حكم الضحك إذا كان في المسجد، خاصة إذا كان في أمر الدنيا، وقد ورد في الحديث تحذير من ذلك، وورد أن الصحابة يتكلمون في المساجد في أمر الجاهلية ثم يضحكون؟
الجواب
إذا كان الإنسان في المسجد وجاءت مناسبة، كأن تكون في درس علم أو جلسة أو ما أشبه ذلك، فصار هناك ما يدعو إلى التبسم، فتبسم أو ضحك فلا حرج في ذلك، أما أن يتخذ المسجد مهرجاناً يجتمع الناس فيه ليتضاحكوا، فلا شك أن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت المساجد لما بنيت له.(201/51)
المطارحة
السؤال
هل المطارحة من المزاح؟ ونريد أن ترشدنا إلى شروط نفعلها في المزاح؟
الجواب
المطارحة تعني المصارعة -كون أحدهما يطرح الآخر- هي من المزاح، لكن ينبغي للشباب أن يتفطنوا إلى شروط هذه المطارحة، فإن بعض الشباب يتطارحون، فيدخل الشيطان فيوقع بينهم، خاصةً إذا كانوا شباباً صغار الأسنان، وخاصة إذا كان فيهم وسامة وجمال.
فإنني أحذرهم من كل هذه الأنواع من المزاح، وينبغي أن يتحفظوا، ويتفطنوا إلى أن الشيطان يكون حاضراً في مثل هذه المناسبات، وقد وقفت بنفسي على أشياء من هذا القبيل كثيرة.(201/52)
طلب نصيحة
السؤال
نحن شباب كثيراً ما نجلس سوياً، واعتدت أنا على المزاح معهم بكثرة، ولكني الآن أريد أن أغير من وضعي، فماذا أفعل؟
الجواب
أرى أن تغير الصورة التي أخذها عنك هؤلاء الشباب، وذلك بأن تحرص على أن تكون سباقاً إلى الخيرات، فتقدم لهم الدروس، وتكثر من الجد في حياتك، وأكثر من قراءة القرآن الكريم وقراءة الكتب النافعة، وسماع الأشرطة المفيدة، والتبكير إلى المسجد، وحفظ القرآن إن استطعت، وما أشبه ذلك من الأمور التي تتحول فيها شخصيتك إلى شخصية جادة، وكذلك حاول أن تنفعهم بأشياء كثيرة.(201/53)
موضوعات مهمة
السؤال
ألا ترى أن الموضوعات التالية جديرة بالطرح: العدل وأثره في حياة الفرد والمجتمع، والبكاء من خشية الله، غزوة تبوك وفتح مكة وما فيهما من العبر؟
الجواب
بالنسبة للسير؛ هناك وقفات مع السيرة، وبالنسبة للبكاء من خشية الله أيضاً هو أحد الموضوعات المسجلة، وكذلك الضحك وأحكامه، وإن شاء الله تعالى إن أعطانا الله تعالى القوة ومد في العمر، فأرجو الله تعالى أن تسمعوا هذه الأشياء.(201/54)
الغناء وكشف الوجه
السؤال
هناك من يستدلون على جواز الغناء وكشف الوجه، بقصة لعب الحبشة كما في الحديث، حيث أنهم يلعبون ولم ينهوا عن ذلك، حيث شاهدتهم أم المؤمنين، أرجو التوضيح؟
الجواب
أما بالنسبة للغناء فلم يذكر أنهم يغنون، إنما ذكر أنهم يلعبون بالحراب، ليس في الحديث ذكر الغناء.
أما كشف الوجه، ففي الحديث {أن الرسول عليه الصلاة والسلام، -كان يستر عائشة -} ومن المعلوم عند جميع أهل العلم، حتى الذين يقولون بكشف الوجه؛ أنهم يرون الحجاب على أمهات المؤمنين، فليس في الحديث دليل لهم بوجه من الوجوه.(201/55)
ضرب الوجه في المزاح
السؤال
يقول ما رأيك ببعض الشباب إذا انتهوا من أكل البطيخ، يضرب بعضهم بعضاً غير ضرب المزاح المذكور، كأن يضرب أحدهم وجه أخيه؟
الجواب
هذا لا يجوز؛ لأنه قد يؤذي الإنسان، وقد يكون سبباً في أن يفقأ عينه أو يضره؛ ولذلك {نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخذف} .(201/56)
تبسم الداعية
السؤال
ما رأيك في بعض الذين يرون أن الشخص المستقيم ينبغي أن يكون غير متبسم ولا يضحك؟
الجواب
التوقر ينبغي أن يكون في حدود، والرسول عليه الصلاة والسلام -كما سبق- كان أكثر الناس تبسماً، قال جرير: {ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم} وقال عليه الصلاة والسلام: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} .(201/57)
التندر بأفعال الكفار
السؤال
بعض الظرفاء يتعمدون التفكه ببعض المواقف كشدة خوف أبي جهل من النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرها من القصص؟
الجواب
لا بأس بالتندر بمواقف الكفار، مثل خوف أبي جهل، فإنه لا حرج في التندر من أفعال سيئة فعلها الكفار.(201/58)
كتابا ابن الجوزي في الطرائف
السؤال
ما رأيك في كتاب الحمقى والمغفلين لـ ابن الجوزي وكذلك كتاب الأذكياء؟
الجواب
الحقيقة هذا سؤال جيد، وكنت أود أن أشير إليه ولكنني غفلت وذهلت عن ذلك.
كتابا ابن الجوزي الحمقى والمغفلين والأذكياء أولاً: هما لـ ابن الجوزي، دلت الدراسات والتحقيقات على أن الكتابين لـ ابن الجوزي، فلا سبيل لإنكار نسبتهما إليه.
ولكن في الكتابين من القصص والطرائف المذمومة الممقوتة ما ينبغي للإنسان أن يحذره ويتجنبه، وقد يكون ابن الجوزي نقل ذلك، وقد يكون ألفه في زمن الشباب، وقد تكون زلة حصلت منه والإنسان يخطئ، لكن لا ينبغي أن تقول: أوردها ابن الجوزي، إذاً لا بأس بإيرادها.
فإن في هذين الكتابين من القصص ما يصح أن يدخل فيما ذكرت في آخر المحاضرة، من أنه من النكت والطرائف التي لا يجوز إيرادها.(201/59)
المرأة المسلمة أسئلة ومشكلات
تحتوي هذه المادة على بيان العلاقة بين النساء والرجال في الدنيا والآخرة وتناقش بعض قضايا المرأة من جهة لباسها وتسريحاتها واختيار الزوج، يعقب ذلك عرض سريع لأهم الأمور والجوانب لتحقيق الحياة السعيدة.(202/1)
أهمية تخصيص الحديث عن المرأة وشئونها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه ليلة الجمعة، الثالث عشر من شهر رمضان، لعام ألف وأربعمائة وأحد عشر للهجرة، وقد جاءتني طلبات عديدة من أكثر من واحد من الإخوة والأخوات؛ يطلبون تخصيص الحديث في هذه الليلة عن المرأة، وهذا مطلب عادل، لأن المرأة نصف المجتمع كما يقال.
بل هي أكثر من نصف المجتمع من الناحية العددية، فإن عدد النساء في كل مجتمع يفوق عدد الرجال، أحياناً يفوقه بأكثر من النصف، ففي بعض المجتمعات كل مائة رجل يقابلهم مائة وخمسون أو مائة وستون امرأة، وهذا يكشف عن جانب من سر التشريع في إباحة الإسلام تعدد الزوجات، لأن عدد النساء في الدنيا أكثر من عدد الرجال إجمالاً.
كما أن عدد النساء في الآخرة أيضاً أكثر من عدد الرجال، فالنساء في النار أكثر من الرجال، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {تصدقن ولو من حُليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار} وكذلك في الجنة، النساء فيها أكثر من الرجال، وهذا سرٌ يجب أن يعلم، بل ليس بسر، فكل رجل من أهل الجنة على الأقل له زوجتان، ومنهم من يكون له سبعون زوجة من الحور العين كما هو الحال بالنسبة للشهيد، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً من الشهداء في سبيله.
المهم أن النساء في الجنة أكثر من الرجال بكثير، وكذلك الحال في النار، فالنساء في الآخرة أكثر، والنساء في الدنيا أكثر أيضاً، ولهذا فإن تخصيص الحديث عن المرأة -ولو لبعض الوقت- هو مطلب عادل، وخاصة مع توفر النساء في مثل هذا الشهر الكريم في المساجد، وهي فرصة لا تتكرر ولا تعوض.(202/2)
مثال على بعض ما يخص الرجال دون النساء
أما إذا ورد دليل خاص فيعمل به -فمثلاً-: الجماعة، ورد دليل على أن صلاة الجماعة واجبة على الرجال، لكن جاءت نصوص أخرى ووقائع كثيرة، تؤكد أن هذا الحكم ليس عاماً للنساء، بل إن الأولى للمرأة أن تصلي في بيتها، ولو صلت مع الرجال والنساء منعزلات في مكان خاص؛ لكانت صلاتهن صحيحة وجائزة -أيضاً- بلا شك.
من هذا أجمع أهل العلم على أن الجماعة ليست بواجبة في حق النساء، وكذلك ذهب جماهير العلماء، بما في ذلك الأئمة الأربعة، إلى أن الأفضل للمرأة أن تصلي في بيتها، لكن لو صلت في المسجد فإنه لا حرج عليها، سواءً الفريضة أم النافلة.
وقل مثل ذلك فيما يتعلق بقضية الإقامة، فقد عُرف من نصوص الشرع أن الأذان والإقامة للرجال، لأن الأذان نداء إلى الصلاة لحضور الجماعة، وما دام أن وجوب الجماعة خاص بالرجال، فكذلك الأذان خاص بالرجال ولا تدخل فيه النساء، ومثله الإقامة، فإن المرأة ليست مطالبة بأن تقيم الصلاة، لأن الإقامة أيضاً دعوة من المقيم للحاضرين لأن يقوموا إلى الصلاة، فهي دعوة للرجال وليس للنساء.
لكن لو أن امرأة أقامت الصلاة؛ لم يكن عليها في هذا مأخذ أو حرج، لأن الإقامة ذكرٌ لله تعالى وثناءٌ عليه، فلا حرج فيها، ولكنها ليست مشروعة في حقها.
لكن من المعلوم -أيها الإخوة- أن نصف ساعة نخصصها للحديث عن النساء لا تكاد تغني شيئاً، اللهم إلا اليسير.(202/3)
الشريعة تخاطب الرجال والنساء إلا ما خصص
ومن المعلوم أن الحديث العام يشمل الرجال والنساء، فنحن حين نتحدث -مثلاً- عن التسبيح، والتهليل والذكر، أو عن عثرات اللسان، أو الاستغفار، أو الصدقة، أو عن غير ذلك من الأعمال، فإن هذا الحديث يشمل الرجال والنساء.
وكل شريعة في الإسلام، فالأصل أن المخاطب بها الرجل والمرأة على حد سواء، فما خوطب به الرجال خوطبت به النساء، ولا تحتاج المرأة إلى دليل خاص للإيجاب أو للتحريم، إلا إذا ورد دليل يخصص الرجل أو يخصص المرأة فهنا نقف عند الدليل.
وإلا فالأصل العموم، فمثلاً قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] هذا نص عام يشمل الرجل والمرأة على حد سواء، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو حكم عام للرجل والمرأة، ولا نحتاج دليلاً خاصاً يخاطب المرأة بوجوب الصلاة، أو يخاطب المرأة بوجوب الزكاة، وهكذا بقية الأحكام.(202/4)
شروط لباس المرأة المسلمة
من الموضوعات التي سأتحدث عنها: قضية اللباس، وهي من المعضلات والمشكلات بالنسبة للمرأة، بل تكاد أن تكون من أعظم القضايا، فمن المعلوم أن اللباس مظهر ولكنه نعمة قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] فهو نعمة للجنسين على حد سواء.
وبالنسبة للمرأة بصفة خاصة، فاللباس يشكل جزءاً مهماً من حياتها، وتجد أن المرأة تقضي جزءاً غير قليل من وقتها في العناية بلباسها، سواء في اختيار الملابس، أو بخياطتها، أو بتصليحها، أو بشرائها إلى غير ذلك.
فاللباس يشكل بالنسبة للمرأة -بطبيعتها- جزءاً مهماً من حياتها، ولهذا لابد من الوقوف عند اللباس، ولن نتحدث عن التفاصيل لأنه كثيراً ما ترد أسئلة عن لباس المرأة، كأين تضع المرأة جيبها؟ من الأمام أم من الخلف؟ وما صفة اللباس؟ وهل يجوز أن تلبس المرأة كيت وكيت؟ نريد أن نحدد شروطاً عامة، وكل ما توافرت فيه هذه الشروط فهو جائز، وما اختلت فيه هذه الشروط فهو محرم، فبالنسبة للباس المرأة المسلمة يشترط:-(202/5)
ألا يكون اللباس لباس شهرة
الشرط السابع: هو ألا يكون الثوب لباس شهرة.
وما معنى شهرة؟ أن يكون الإنسان قصد بلبس الثوب أن يشتهر ويتكلم الناس عنه في المجالس، مثل أن تلبس الفتاة ثوباً غالياً جداً، بحيث يصبح حديث المجالس، حديث النساء: فلانة بنت فلان لابسة ثوباً شكله كذا، وصفته كذا، وخياطته كذا، وتفصيله كذا، وسعره كذا.
فهذا ثوب شهرة.
وكذلك لو كان الثوب فيه أي مدعاة للشهرة، مثلاً: بعض النساء يكون الثوب تفصيله ملفتاً للنظر بشكل واضح وغير طبيعي وغير عادي، حتى إن بعض الناس يهمهم أن يذكروا ولو بالقبح، فهذا أيضاً ثوب شهرة، حتى لو كان هذا الثوب ثوب بلغ من البساطة مبلغاً عظيماً، بمعنى لو أنك تريد أن تظهر التواضع والزهد، فتلبس ثوباً بسيطاً جداً حتى يتحدث الناس عنك، فيقولون: فلان الزاهد لابس ثوباً من الأثواب البالية الرديئة جداً، وهذا -أيضاً- ثوب شهرة.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة، وهو حديث حسن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من لبس ثوب شهرة ألبسه الله تعالى يوم القيامة ثوب مذلة، ثم ألهبه عليه ناراً} وهذا -أيضاً- دليل على أن هذا من الكبائر، فلبس ثياب الشهرة التي يقصد الإنسان من ورائها؛ أن يذكر في المجالس ويكون هو مجالاً لحديث الناس، فلانة لابسة ثوباً طوله كذا، وعرضه كذا، وشكله كذا.
أيها الإخوة والأخوات، إن من المشكلات: فقدان الأمة المسلمة -رجالها ونسائها- للهوية الإسلامية المتميزة، بحيث أصبحت مجتمعات المسلمين -كما قلتُ- باباً مفتوحاً لرياح التغريب، والتخريب، والتنصير، والعادات الغربية، يهودية أو نصرانية أو وثنية، أصبحت تفد إلينا من خلال رموز وشعارات وملابس وعادات وتقاليد، قد نفعلها نحن بدون وعي، لكن مع الوقت تصبح جزءاً من حياتنا، وجزءاً من تقاليدنا.(202/6)
ألا يشبه لباس المرأة لباس الكافرات
الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الكافرات.
وفي سنن أبي داود ومسند أحمد من حديث ابن عمر بسند جيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالصالحين فهو منهم، من تشبهت بـ أسماء وخديجة وعائشة وحفصة فهي منهنَّ وتحشر معهن يوم القيامة.
ومن تشبهت بالكافرات والفاجرات والفاسقات، من عارضات الأزياء والممثلات والمغنيات والراقصات، فهي منهن وتحشر معهن يوم القيامة {من تشبه بقوم فهو منهم} وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: {رأى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال لي: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها} فدل على أن التشبه يكون في كل شيء حتى في الثياب.
إذاً: هل صحيح أن بعض الأخوات المؤمنات الطيبات تذهب بنفسها، أو ترسل أخاها الصغير حتى يشتري لها ما يسمى بالبردة، وما هي البردة؟ يطلق النساء هذا اللفظ على مجلات الأزياء، وعلى المجلات التي يكون فيها صور للنساء، قد تكون جاءت من فرنسا، أو من تايلاند، أو حتى من بعض البلاد الإسلامية اسماً، والتي تأخذ تفصيلات الثياب عن الغرب وعن الأجانب، فتخيط المرأة أو تأمر أن يخاط ثوبها على نمط هذه الثياب بما فيه من فتحة واسعة للصدر، وبما فيه من عدم وجود الأكمام، بما فيه من قصر، بما فيه من ضيق، بما فيه من إبراز لمواضع الجمال في المرأة والفتنة، إلى غير ذلك، وكأن بيوت المسلمين وأسواقهم ونساءهم أصبحن أسواقاً مفتوحة لكل تقاليد الغرب وعادات الغرب، دون أن يكون لنا تميزنا نحن المسلمين.
وهذه في الواقع كارثة كبرى، فلم نعد أمة مستقلة، وأمة متميزة، حتى في هذه الأشياء العادية، أصبحنا نأخذها عن عدونا، وأمس البارحة، أتاني بعض الشباب بألوان من الثياب يلم الواحد منا رأسه إذا رآه، ثوب مرسوم عليه صواريخ (باتريوت) يا سبحان الله! وكتابات بلغات مختلفة.
وأعظم وأعجب من ذلك ثوب آخر، مرسومة عليه -إضافة إلى رمز معركة درع الصحراء- مرسومة عليه أعلام الدول الكافرة، أمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، وأعلام دول الكفر المعروفة كلها، فضلاً عن بعض الدول الإسلامية، ومنها علم المملكة بطبيعة الحال.
وموضوعة على صدر الفتاة، أو على صدر الفتى.
فأعلام الكفار التي تمثل بلادهم يلبسها المسلم على صدره، وكأنه يقول إن قلبه أصبح مفتوحاً لهؤلاء ولهذه العادات، ولهذه الشعارات التي ما خرجت من بلاد الإسلام، ولا رفعت راية الإسلام يوماً من الأيام، وإن كان من بينها بعض شعارات الدول الإسلامية، لكن معظمها شعارات كافرة، فكيف يكون هذا؟! وغداً -وليس بالبعيد- ستجد الثياب نفسها، وعليها صور لرجال رؤساء تلك الدول وزعمائها وكبرائها، ويلبسها الرجال وتلبسها النساء، ولماذا نستغرب هذا، ونحن نذكر أن هناك ملابساً كانت تأتي عليها صور مغنيين ومغنيات، أو فنانين أو فنانات، أو عليها كلمات مكتوبة باللغة الإنجليزية، وقد يلبسها الفتى أو تلبسها الفتاة، وهم لا يفقهون معنى الكلمة، وقد يكون معناها بذيئاً أو ساقطاً لكن لا يعرفون.
بل معناها هناك عبارات أحياناً قد تدل على نوع من الفساد، مكتوبة على الثوب ويلبسها الإنسان وهو لا يعرف معنى هذه الكلمة، أو قد يعرف أحياناً.
فلا يجوز أن يتشبه الرجل المسلم أو المرأة المسلمة، بلباس الكفار بحال من الأحوال.(202/7)
ألا يكون اللباس مشابهاً للباس الرجل
الشرط الخامس: هو ألا يشبه ثوب المرأة المسلمة لباس الرجال، ولهذا في صحيح البخاري عن ابن عباس: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، كما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء} وفي مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا يدخلون الجنة، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم: العاق، والمترجلة من النساء -التي تتشبه بالرجال- والديوث} فهؤلاء لا يدخلون الجنة بمقتضى موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أقل ما يدل عليه، ويدل على أن هذا العمل من كبائر الذنوب وليس محرماً فقط.
فتشبه المرأة بالرجال لا يجوز.
وكيف يكون التشبه؟ التشبه هو: أن تلبس المرأة ثوب الرجل، أو يلبس الرجل ثوب المرأة، فمثلاً لو أن المرأة لبست طاقية، نقول: هذا تشبه، لأن الطاقية معروفة، أو غترة بيضاء أو حمراء فهذا تشبه، لأن هذه معروفة من ثياب الرجال، ومثله لو أن الرجل لبس ثوباً مخصصاً معروفاً للنساء، مثل الثياب المطرزة.
فليست القضية في الألوان، ليست المشكلة ما لون الثوب أبيض أو أحمر أو أسود أو غير ذلك المشكلة: لمن خصص هذا الثوب في المجتمع؟ إن كان خصص للنساء فيحرم عليكم أن تلبسوه معشر الرجال، وإن كان مخصصاً للرجال حرم عليكنَّ أن تلبسنه معشر النساء، فلا يجوز أن يكون الثوب الذي تلبسه المرأة المسلمة مشبهاً لباس الرجال.(202/8)
ألا يكون اللباس شفافاً
الشرط الرابع: ألا يكون الثوب شفافاً يبين ما تحته.
وذلك لأن الثوب الشفاف لا يتحقق به مقصود الشارع في الستر، ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي رآهن في النار فقال كما في صحيح مسلم: {صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، وذكر: نساء كاسيات عاريات} فهن كاسيات من جهة، عاريات من جهة أخرى، وأحسن وأصدق ما ينطبق عليه هذا الوصف، هي المرأة التي تلبس الثوب -كما قال الإمام ابن عبد البر - وغيره: الثوب الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات في الاسم عاريات في الحقيقة، عليها ثوب لكنه ثوبٌ شفاف خفيف.
بل إن هذا الثوب الشفاف -أحياناً- يكون أكثر لفتاً للنظر من كون العضو نفسه مكشوفاً، ولهذا الذين يتفننون في الإثارة من اليهود، الذين يقفون أمام ووراء بيوت الأزياء الموجودة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، ويصدرون الأزياء التي يقصدون من ورائها؛ أن تكون المرأة سلعة لمجرد متعة الرجل وقضاء شهوته ووطره، يحرصون على تصدير هذه الثياب الشفافة إلى نساء العالم، وبالذات إلى نساء المسلمين؛ لأنهم يعرفون مدى قدرة هذه الثياب الشفافة على تلميع وتجميل المرأة.
إذاً: لا يجوز أن تلبس المرأة المسلمة ثوباً شفافاً يبين ما تحته، وليس بالضرورة أن يكون الثوب كله شفافاً، فقد يكون بعض الثوب، فبعض النساء -مثلاً- يكون الثوب شفافاً من عند أعلى الكتف إلى أسفل الذراع، أو إلى نهاية اليد، فيكون هذا القدر من الثوب شفافاً يبين ما وراءه، وقد يبين جزءاً من صدرها، أو يبين ساقيها أو جزءاً منهما، هذا كله لا يجوز.(202/9)
ألاَّ يكون اللباس ضيقاً
الشرط الثالث: ألا يكون اللباس ضيّقاً يصف الجسد.
فبعض النساء قد تلبس ثوباً طويلاً، وليس زينة في نفسه، ساتراً لجميع البدن، لكن هذا الثوب ضيق جداً، يصف حجم عظام المرأة، ويصف تقاطيع بدنها، ويلفت النظر إليها، وقد أتى حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ثوباً فلم يره عليه، فقال له: أين هو؟ قال: يا رسول الله، كسوته زوجتي فلانة.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: مرها فلتجعل تحته غلالة، فإني أخاف أن يصف حجم عظامها} والحديث رواه أحمد والبيهقي وضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة وصححه، وهو كذلك.
فقال: {مرها فلتجعل تحت الثوب غلالة} والغلالة بلغتنا الدارجة هي: الشلحة التي تلبسها المرأة تحت ثيابها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تجعل تحت الثوب غلالة تقيها، بحيث لا يصف هذا الثوب حجم عظام المرأة، ولا يصف تقاطيع بدنها.
أما إذا كانت المرأة عند الرجال الأجانب، أو ستمر بأجانب، فلا شك أن كونها تلبس ثوباً ضيقاً يصف بدنها، أن هذا مدعاة الإثارة والفتنة، لكن حتى لو كانت عند محارم أو أقارب ليسو أجانب عنها، كالأخ والعم والخال أو كانت عند نساء، فإنه جدير بالمرأة المسلمة ألا تلبس هذا الثوب الضيق لأسباب، ولهذا أقل ما يقال فيه الكراهية، بل بعض العلماء أطلق عليه التحريم في مثل هذه الحالة: أولاً: لأن هذا مدعاة لأن يقلدها بعض النساء، فيظهرن بهذا الثوب أمام المحارم وأمام الأجانب على حد سواء، كما أنه حتى عند المحارم ينبغي للإنسان أن لا يسترسل في الحديث والانطلاق في هذه الأمور، ولست بحمد الله ممن يبالغون في التخويف من فساد الواقع، بل نحن ندعو دائماً إلى الاعتدال، وأن يرى الإنسان الفساد ويرى الخير والصلاح إلى جانبه فلا يبالغ.
لكنني أحدثكم عن معايشة، وقد اتصل بي كثير من الشباب، وبعضهم كتبوا إليَّ رسائل يرتعد الإنسان منها ويتعجب أشد العجب، أن من الشباب من يفتتنون بمحارمهم!! ومنهم من يقع معهن بما لا يرضي الله عز وجل بل بما يسخطه! ومنهم من ينظر -وهذا ليس بالقليل- إلى محارمه نظرة إعجاب ونظرة شهوة! وقد تكون أخته أو عمته أو خالته أو قريبته ممن لا تحتجب منه.
ومع ذلك إذا تزينت وتجملت أثارت غريزته وشهوته وفضوله، فربما نظر إليها بشهوة، وربما اقترب منها، وربما حصل ما لا تحمد عقباه، لا أبالغ في هذا، ولا أقول إن هذا موجود في كل بيت، لكنني أقول إنه موجود حتى في بعض المجتمعات النظيفة.
فلا تتساهل المرأة مع المحارم أو مع النساء، كما أن النساء مع النساء قد يحدث من ذلك أشياء وأشياء.
إذاً المرأة ينبغي أن تتحفظ، حتى في مثل المجتمعات البعيدة عن الرجال الأجانب، ولا تسترسل في لبس الثياب الضيقة أو الثياب القصيرة التي لا تستر.(202/10)
ألا يكون اللباس زينة في نفسه
الشرط الثاني: ألا يكون اللباس زينة في نفسه.
بمعنى أن هناك بعض الملابس قد يستر البدن، ولكنه بنفسه زينه، وهو مثير وملفت للأنظار، وهو يستدعي فضول الرجال أكثر مما لو كان العضو مكشوفاً، وهذا كثيراً ما يوجد، ففي الآية السابقة يقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] وليس معقولاً أن تستر المرأة الزينة من بدنها بزينة أخرى، هي أكثر مدعاة للإثارة وجلباً للفضول.
مثلاً: كثيرٌ من النقوش والزخارف الموجودة في الثياب ملفتة للنظر، بل إن كثيراً من الألوان ملفتة للنظر، أو كون الثوب مكوناً من ألوان عديدة فاقعة ولماعة وجذابة، هذا الثوب يكون زينة في نفسه.
كذلك العباءة، فالعباءة ستر ولاشك، مطلوب من المرأة أن تستر ثيابها بالعباءة، وهي الجلباب قال الله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] هذه العباءة قد تكون -أحياناً- مطرزة بتطريزات، وموشاة بألوان من الرسوم والزخارف والنسيج، الذي هو أكثر إثارة مما لو ظهرت المرأة بثيابها دون أن تلبس العباءة، ومثل ما يسمونه بـ"الكاب" وقد تلبسه بعض النساء بديلاً عن العباءة.
وقد أتاني عدد من الشباب الإخوة العاملين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -جزاهم الله خيراً- بنماذج من هذا الكاب الذي يباع في الأسواق وتشتريه النساء، فرأيت في ذلك عجباً، من ألوان التطريز والتجميل والجاذبية التي هي في حد ذاتها مدعاة للإثارة، فمثل هذا لاشك أنه لا يحقق الغرض المقصود من لبسه؛ لأن المرأة حين تلبس الكاب أو العباءة، إنما لبسته لمزيد من التستر، فما بالك إذا كان هو يدعو إلى مزيد من الفضول ولفت الأنظار.
وقل مثل ذلك بالنسبة لغطاء الوجه، فالمرأة مأمورة أن تغطي وجهها بالغطاء، أو بالخمار الذي تستر به وجهها وشعرها، حتى لا ينظر الرجال إلى وجهها فيفتتنوا به، لأن الوجه هو مجتمع محاسن المرأة، ومظهر من أهم مظاهر جمالها، والناس إذا وصفوا المرأة بجمال أو غيره، فإنما يصفون غالباً وجهها، فأمرت بستر وجهها بغطاء، فما بالك إذا كان هذا الغطاء نفسه جمالاً، قد يستر بعض عيوب المرأة ويظهر جمالها.
مثل أن تلبس المرأة حجاباً خفيفاً شفافاً، يظهر الجمال ويستر القبيح، فهذا لا شك أن عدمه خير من وجوده، وهو أولى بالتحريم من كشف الوجه.
أو أن تلبس المرأة ما يسمى بالنقاب أو البرقع، فيكون هذا النقاب قد فتحت المرأة لعينيها فتحتين كبيرتين جداً، يظهر منهما العينان بكمالهما، ويظهر شعر الحواجب، ويظهر جزء غير قليل من الخدين.
فيكون مدعاة للإثارة، ويستر ما قد يكون في المرأة من نقص أو عيب، لاشك أن هذا أيضاً هو زينة في نفسه.
فيشترط في لباس المرأة المسلمة وسترها؛ ألا يكون زينة في نفسه، لأن الزينة نفسها مأمور بعدم إبدائها، كما قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] فكيف تستر الزينة بزينة أخرى؟ هذا لا يصلح ولا يسوغ!!(202/11)
أن يكون اللباس ساتراً للبدن
الشرط الأول: أن يكون اللباس ساتراً لبدن المرأة عند الأجانب.
يقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] ثم يقول بعد ذلك: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وابن خزيمة: {المرأة عورة} إذن لابد أن يكون اللباس الذي تلبسه المرأة ساتراً لبدنها.(202/12)
الشعر سر من أسرار الجمال في المرأة
وأنتقل إلى نقطة ثانية وهي: قضية الشعر.
الشعر أيضاً سر من أسرار الجمال في المرأة، ومع أنه سر من أسرار الجمال توارثته العصور والأجيال، إلا أن مسخ الفطرة في هذا العصر ما ترك شيئاً حتى الشعر، فقد أصبحت بعض الفتيات -كما بلغني ذلك بأسانيد رجالها ثقات- قد يكون لها شعر طويل جداً، فتقوم بقصه قصاً شديداً ولا تبقي إلا شعرات واقفة، قد يكون طول الشعرة مجموعة من السنتيمترات فقط، ويصبح هذا الشعر منفوشاً كأنه شعر شيطان، كأنها أحد الشباب، فتتخلص من هذا الشعر الذي أكرمها الله -تعالى- وميزها به عن الرجال وجملها به، وقصها لشعرها بهذه الصفة ليس لأن هذا يزيدها جمالاً كلا والله لكن لأن هذه رسوم الموضة تقتضي هذا، وحمى التقليد جعلتنا نفقد ليس فقط اعتزازنا بديننا وكرامتنا، بل حتى تقاليدنا، لقد جعلتنا نفقد اعتزازنا بكل ما يمت إلينا بصلة، حتى ولو كان هو الجمال.
وتسريحات الشعر يكثر السؤال عنها، وأيضاً -هنا- لا أريد أن أقول: إن هناك تسريحة معينة تصلح وتسريحة لا تصلح، إنما نذكر شروطاً، متى توافرت هذه الشروط فإن التسريحة تكون محرمة أو ممنوعة.(202/13)
حكم تسريح الشعر على سبيل التشبة بالكافرات
تسريح الشعر على سبيل التشبه بالكافرات لا يجوز -كما سبق قبل قليل- وكثير من التسريحات التي تنتشر عند الفتيات، هي نفسها تسريحات منقولة من الغرب، حتى إن إحدى النساء أسلمت من بلاد أوروبية وجاءت إلى هذا البلد تدرِّس في كلية التربية، فكانت تتعجب، وتقول: إن وضع البنات في الكلية هو نفسه وضع البنات هناك بالنسبة للشعر، نفس الصورة التي تركتها في جامعات أوروبا ووجدتها في بعض الجامعات الإسلامية، لا أقصد من كل ناحية، لكن من حيث تسريحات الشعر، وذلك لأن الإعلام بصحافته وتلفزته ووسائله المختلفة؛ أصبح ينقل لنا ما يولد هناك أولاً بأول، حتى إن التسريحة تولد الليلة وتبتكر في دور التسريحات في الغرب، وتنقل صباحاً إلى جميع البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، ويتعاطاها الناس وتتعاطاها النساء.
فكل تسريحة تكون مأخوذة من الغرب لا تجوز، كقصة الأسد، أو قصة ميعاد -كما تسميها النساء- أو قصة الديك التي انتشرت عندهن أخيراً، إلى غير ذلك مما أتى أو سيأتي اليوم أو غداً، من هذه التسريحات المأخوذة عن الغرب، حتى بأسمائها أحياناً كقصة ديانا وغيرها، فإن هذا لا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب، أقل الأحوال أنه من كبائر الذنوب: {من تشبه بقوم فهو منهم} .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، بل ظاهره أنه يقتضي كفر المتشبه بهم، فلتحذر الأخت المسلمة أن ترتكب جرماً عظيماً وإثماً كبيراً، بالتشبه بالكافرات في تسريحة الشعر.(202/14)
حكم تسريح الشعر على سبيل التشبه بالرجال
والشرط الثاني: الذي لا يجوز الإخلال به هو: عدم التشبه بالرجال كما أسلفت قبل قليل.
فإن بعض التسريحات هي تسريحة للرجال وليست للنساء، ومع الأسف حتى الرجال هم الآخرون لهم تسريحات خاصة بهم، -أيضاً- منقولة عن الغرب، وقد حدثني بعض الشباب ممن يأتي إلى شباب قد جلسوا عند الحلاق، يجلس الواحد منهم ساعات بين يدي الحلاق يلعب بشعره ويصففه بطريقة -نسأل الله العفو والعافية- وهذا هو نهاية المسخ.
الشاب المفروض أن يحمل السلاح ويقاتل عدوه، والمفروض أن تكون فيه كل صفات الرجولة والكمال، أما اليوم فقد أصبح همه كيف يسرح الشعر بطريقة معينة، ثم يضع الغترة بشكل بحيث إنه لو هب النسيم غير وضع الغترة فإنا لله وإنا إليه راجعون! والطاقية لا تصلح لأنها تغير من طبيعة التسريحة، ولا يستطع أن يلتفت يمنة أو يسرة، هذا فضلاً عن أن يصلي ويركع ويسجد.
والمرأة هي الأخرى وقعت فيما وقع فيه الرجل، فقد وقع الجميع في شراك تقليد الغرب، والمرأة أيضاً وقعت في شراك تقليد الرجل، فأصبحت تقلد الرجل حتى في شعره، ومن تقليد الرجل أن تبالغ في قص شعرها حتى كأنه شعر ولد، وتسميها النساء قصة ولادية، بل بلغ الحال ببعض النساء والعياذ بالله من مخالفة سنة الله تعالى، ومخالفة الفطرة، أنها قد تميل إلى مشابهة الرجال في كل شيء حتى في الاسم، وهناك معلومات كثيرة في هذا الصدد، لا أرى أن من حقي أن أكدر مسامعكم ومسامع الأخوات بمثلها.(202/15)
قضية خروج المرأة من المنزل وضوابطه
النقطة الثالثة، هي: قضية الخروج من المنزل.
والأصل بالنسبة للمرأة هو القرار في البيت، ففي محكم القرآن يقول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فالأصل هو القرار في المنزل وعدم الخروج من البيت، لكن الخروج يكون لحاجة، فإذا احتاجت المرأة أن تخرج لعلاج, ولزيارة قريب، ولصلاة، أو لصلة رحم، أو لطلب علم، أو لأي شيء نافع لها في دينها أو دنياها، أو حاجة دنيوية لا تجد من يقضيها فذهبت هي لقضائها، فإنه لا حرج عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن} لكن هذا الخروج يجب أن يكون بضوابط:(202/16)
عدم مخالطة الرجال
والشرط الرابع: هو البعد عن مخالطة الرجال ومحادثتهم.
فإن كثيراً من النساء تخرج فتسترسل مع الرجال في الحديث والكلام والقيل والقال، بل منهن من تضحك مع الرجال دون أن يكون هناك حاجة، حتى لو فرض أنها خرجت لشراء حاجة، فتقول: بكم هذه السلعة؟ فإذا أعجبها السعر وإلا تركته.
أما كونه أخذ وعطاء وحديث طويل واسترسال، فالله عز وجل قد ربى وأدَّب وهذَّب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، خير نساء العالمين، في قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] .
فهذا تأديب لـ عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فيمن يطمع؟! يطمع في عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة!! فما رأيك أيتها الأخت الكريمة، بك أنت وأختك وقريبتك من النساء، اللآتي لم يرد لهن تزكية أبداً، والفتنة محتملة لكل إنسان، والناس لا يعرفون الطيب من غيره.
فإذا كان مظهر المرأة فيه بعض ما يدل على تفريطها أو تكاسلها أو تقصيرها، ثم مع ذلك استرسلت في الحديث واختلطت مع الرجال وحدثتهم، وربما ابتسمت أو ضحكت أو لانت في القول، فإن هذا مدعاة إلى فتنة وشر كبير، ليس شراً للرجل فقط، بل حتى شراً للمرأة.
ولهذا يقال يوم القيامة: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] فالمرأة لا تفتن الرجل فحسب بل تفتن نفسها؛ لأنها قد تقع هي الأخرى في شراك رجل، قد تنظر إليه وتحادثه وتسترسل معه في الحديث، فيطمع قلبها وتتحرك نفسها، والغريزة موجودة عند الرجل وموجودة عند المرأة على حد سواء، مع أن المرأة إذا احتاجت إلى الخروج فينبغي أن يكون بمعية الزوج، أو الأخ، أو الأب، ممن يحفظ كرامة المرأة، ويحافظ عليها، ويطرد عنها الذئاب المسعورة، والأعين النهمة، ويساعدها في حاجتها، يحمل عنها ما تحتاج حمله، يحملها في سيارته.
وليس هذا لأن المرأة عندنا متهمة -كما يقول بعض خصومنا- كلا، لكن لأن المرأة عندنا درة مصونة فتحفظ من كل سوء، تحفظ حتى من النظرات الجائعة، والكلمات البذيئة، والحركات الخاطفة، فيكون معها زوجها أو أبوها أو أخوها، يحفظها ويخدمها أيضاً، وأي تكريم للمرأة أكثر من هذا! -والله العظيم- لو أن نساء الغرب والشرق رأين مثل هذا؛ لما رضين عن الإسلام بديلاً، لأن فيه من حفظ كرامة المرأة وتقديرها وتكريمها؛ ما لا يمكن أن تحظى به المرأة في أي مجتمع، ولا في أي دين، ولا في أي حضارة، ولا في أي بيت من البيوت.
والحقيقة بقي عندنا أمور: منها قضية اختيار الزوج والزوجة، وقضية العلاقات الزوجية، لكن الوقت قد انتهى الآن، فأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً ذكوراً وإناثاً إلى طلب مرضاته، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل، وأن يصلح ظاهرنا وباطنا، وسرنا وعلانيتنا، إنه على كل شيء قدير، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] والحمد لله رب العالمين.(202/17)
مراعاة الحشمة عند الخروج
الشرط الثالث في خروجها بعد ترك التزين وترك الطيب هو: الحشمة.
أن تلبس ثياباً محتشمة غير ضيقة ولا قصيرة، وألا تكون من العباءة التي تصف جسد المرأة، أو كما قلت قبل قليل أن تلبس الكاب، والكاب يعرفه أكثركم أو كلكم، فهو يلبس غالباً على الكتفين، ويظهر من خلاله رأس المرأة كاملا بتقاطيعه وتفاصيله وكتف المرأة، وهو يكون مفصلاً غالباً على قدر بدنها، وذلك يحدد بدنها أكثر من غيره، ويكون فيه في كثير من الأحيان تطريز، وشيءٌ ملفت للأنظار، فلا بد من مراعاة الحشمة عند الخروج.(202/18)
ترك التزين عند الخروج
منها: ترك التزين والتجمل.
فليس صحيحاً أن المرأة إذا كانت أمام زوجها؛ لبست أسوأ ثيابها ولم تكترث له، فإذا أرادت أن تخرج تجملت ولبست أحسن ثيابها، أو الفتاة التي لم تتزوج بعده تلبس أجمل ما لديها وتخرج للسوق، لماذا؟! من أجل أن تشتري سلعة أو تبيع سلعة.
كيف يكون هذا؟ أقول: هذا عرض أزياء وليس لغرض، فلا يجوز أن تقصد المرأة وتختار أجمل ثيابها وتلبسها إذا أرادت أن تخرج للسوق، وكم رأينا ورأى غيرنا -على قلة ما رأينا ورأى غيرنا- من ألوان التجمل التي تفعلها النساء عند الخروج إلى الشارع والسوق!!(202/19)
ترك التطيب عند الخروج
ثم مع هذه الثياب الجميلة التي تلبسها، وقصر العباءة، وكون الثياب ضيقة وملفتة للنظر بشكلها وبلونها وبضيقها إلى غير ذلك، مع هذا تضيف المرأة أمراً آخر، وهو: قضية الطيب.
فتجد بعض النساء طيبها يعصف من مسافة بعيدة، فإذا كان الثوب جميلاً والطيب ينادي، ما معنى ذلك؟! معنى هذا أن المرأة تقول للرجال: انظروا.
تعالوا انظروا إلي.
نحن لا نقول: إنها تريد الفساد بالضرورة، لكن هذا في حد ذاته فساد، خروج المرأة بثياب جميلة هذا فساد، وخروجها بالطيب لمجتمعات الرجال هذا فساد.
وكم هو مؤسف أن تجد هذا عند بعض المتزوجات، التي يشتكي منها زوجها أنها لا تستعد له بالجمال كما يجب، ولا تستعد له بالتطيب كما يجب، فتجد أن الرجل قد يعزف ويعرض عن امرأته بتقصيرها في حقه، وهي إذا أرادت أن تذهب إلى السوق، أو حتى إلى مناسبة عرس أو وليمة، لبست أجمل ما لديها، ولبست حليها، وتطيبت بأحسن ما يكون من ألوان الطيب.(202/20)
الأسئلة(202/21)
مراقبة الخادمات في البيوت لابد منه
السؤال
سائلة تسأل عن الخادمات الموجودات في البيوت في كثير من الحالات، وتقوم الساعة السادسة لتغسل الملابس، وقد تفعل شيئاً مثل الإطلال من النوافذ، أو الخروج إلى عمال العمارة أو أهل البيت، وما أشبه ذلك؟
الجواب
هذا الأمر، الأخت تلفت إليه نظر القائمين على البيوت، وأصلاً وجود الخادمة في المنزل يجب أن يكون مضبوطاً بضوابط، منها: أن تكون الخادمة مسلمة، وأن تأتي معها بمحرمها، كأبيها أو أخيها أو زوجها، إذا كان ولا بد من استخدامها، والمحرم ممكن يعمل عندك أعمالاً أخرى، كأن يكون سائقاً لك وليس سائقاً للنساء في المنزل، أو يقوم بأعمال خارج المنزل، ولا تحتاج أنت إلى أن تبذل له شيئاً، لكنه يقوم بهذا الواجب الذي هو مصاحبة محرمه، ومع هذا يجب المحافظة على المرأة، والانتباه إليها لكي لا تستخدم الهاتف بصورة غير صحيحة، أو تخرج من المنزل أو تطل، إلى غير ذلك.(202/22)
ضياع الأبناء سببه ضياع الآباء
السؤال
وهذه رسالة طويلة: امرأة تشتكي إلى الله زوجها ثم إلى من زوجها، فزوجها مهمل لأولاده الصغار، ولا يأمرهم بالصلاة، ولا يسأل عنهم إذا ذهبوا إلى أي مكان، وتطلب منه ذلك فلا يلتفت؛ لأنه مشغول بقرناء السوء الذين يدخنون، إلى غير ذلك، وترجو تقديم النصيحة لهذا الزوج؟
الجواب
الواقع أن الأولاد في ذمة أبيهم في الدرجة الأولى، فيجب أن يهتم بهم ويعتني بهم ويحرص على تربيتهم وتنشأتهم، وكم يشعر الإنسان منا بالحزن والحرقة لأولئك الصبيان الصغار الأبرياء، حين يرى في عيونهم براءة الأطفال، وينظر إلى آبائهم شاردين في لهوهم، أو تجد أباه واقعاًَ في شلة من قرناء السوء، أو تجد أباه مبتلىً بالمخدرات والمسكرات، وهو يخرج من السجن اليوم ليدخل فيه غداً، وهذا الطفل يُخشى أن ينشأ على ما كان عليه والده، وينبغي للمرأة أيضاً أن تحرص قدر المستطاع، وتستميت في تربية أطفالها ورعايتهم وعنايتهم، وتسدد النقص الذي تجده على والدهم.(202/23)
دور المرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
كيف تأمر المرأة بالمعروف وتنهى عن المنكر علماً بأنها في بيتها؟
الجواب
تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي: إذا رأت معروفاً متروكاً أمرت به، وإذا رأت منكراً مفعولاً نهت عنه بقدر ما تستطيع، هذا هو واجبها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من رأى فقال: {من رأى منكم منكراً فليغيره} أما من لم يرَ ولم يطلع ولم يعلم، فإنه ليس عليه من ذلك شيء.(202/24)
المرأة وخوفها من الموت
السؤال
لماذا المرأة تخاف من الموت أكثر من الرجل؟
الجواب
ربما يكون هذا بسبب أن المرأة فيها طبيعة الضعف التي علم الله تبارك وتعالى بحكمته ورحمته وعلمه أنها أليق بالمرأة، لأن المرأة إنما خلقت للمنزل، خلقت لإسعاد زوجها، وتربية أطفالها، وهذا يحتاج إلى حنان ورقة وقد جبلها الله تعالى على ذلك، بخلاف الرجل فقد جبل لمقاسات الحياة والحرب والضرب، ولذلك كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول(202/25)
حكم لبس ثوب الزوجة من باب المزاح
السؤال
ما حكم لبس ثوب الزوجة من باب المزاح؟
الجواب
إذا لبس الرجل ثوب زوجته من باب المزاح لمدة وجيزة فهذا لا يصلح، حتى وإن كان من باب المزاح، فإن كل شيء له حدود والمزاح له حدود، فلا يسوغ للرجل أن يلبس ثوب امرأته، ولا للمرأة أن تلبس ثوب زوجها.(202/26)
حكم لبس القفازين
السؤال
ما حكم من لم تلبس شراب اليدين أثناء خروجها للأسواق، أو بين الرجال في البيت غير محارمها؟ وهل كان شراب اليدين ملزماً به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
كلا، لم يكن ملزماً به في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ملزماً في هذا الزمان، وإنما لبس المرأة لشراب اليدين (القفازين) هو أحفظ ليديها، وأستر لها، وأقل كلفة لها من كونها تضع -مثلاً- جزءاً من ثوبها أو من عباءتها على يديها.(202/27)
الجهل في النساء أكثر منه في الرجال
السؤال
يوجد كثير من النساء يجهلن أحكاماً من الدين، وأموراً تختص بهن نظراً لحيائهن، أو عدم توافر المشايخ عند هن، فما رأيكم في جعل وقت في رمضان للأجوبة على الأسئلة منهن؟
الجواب
هذا هو الوقت وقد خصص، وأرجو أن يخصص وقت أطول من ذلك.(202/28)
حكم المداعبة بين الزوجين في نهار رمضان
السؤال
ما حكم المداعبة في نهار رمضان بين الزوجين؟
الجواب
الرجل الذي يطمئن ويملك نفسه، يملك إربه، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: [[كان أملككم لإربه]] أي: لحاجته، يطمئن أن لا يجره الأمر إلى محرم، أو إلى الوقوع في الجماع، أو إلى الإنزال -مثلاً- فلا بأس أن يداعب زوجته.
أو يقبلها، ولكن عليه أن يقتصر في ذلك حتى لا يجره إلى غيره، وإن ترك الأمر بالكلية لوقاية صومه وحمايته والبعد عما يريب إلى ما لا يريب، كان هذا أولى به وأحسن.(202/29)
الصدقة عن الوالدين
السؤال
هناك شخص في كل سنة يتصدق لوالديه، فهل الأفضل يطعم عنهم أو يدفع نقوداً؟
الجواب
الأفضل هو الأحسن للفقراء، فإن كان النقود أفضل للفقراء أعطاهم نقوداً، وإن كان يعتقد أن النقود لا تنفعهم، وقد يحتاجون إلى من يستأجرونه للشراء لهم، فاشترى لهم أرزاً أو لحماً أو غيره وتصدق به عليهم، كان هذا أفضل، ويوزع هذا في البلد الذي هو فيه.(202/30)
حكم اعتزال النساء في العشر الأواخر من رمضان
السؤال
هل اعتزال النساء في العشر الأواخر من رمضان من السنة؟
الجواب
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعتزل النساء في العشر الأواخر من رمضان، لأنه كان يعتكف في رمضان، وقد اعتكف في العشر الأول، ثم الأواسط ثم اعتكف في العشر الأواخر، فمن اعتكف شرع له أن يعتزل النساء، سواء في العشر الأواخر أم في غيره، بل يجب عليه ذلك.(202/31)
حكم المكياج في رمضان
السؤال
وهل يفطر المكياج أم لا؟
الجواب
لا يفطر، لأن المكياج يكون على ظاهر البشرة، وليس يدخل إلى الحلق أو إلى الجوف.(202/32)
المجلات وفساد البيوت
السؤال
تعلمون ما للمجلات من شيوع في جميع المنازل والدخول إليها بمبرر وبغير مبرر، فهل لي الحق أن أقوم بمنع دخولها؟ كذلك كيف يكون؟ كذلك تفصيل الثياب بحيث تكون موافقة للشرع؟ مع أن الوالد لا يهتم بقدر كاف لهذا الموضوع؟
الجواب
مادام الوالد لا يهتم، فأنت يا أخي الكريم مسئول عن الاهتمام بهذا الجانب، فمنع المجلات من حقك، بل واجب عليك أن تمنع المجلات، والمقصود المجلات السيئة التي تتاجر بالمرأة، أو تتاجر بالأفكار التي تدعوا إلى خروج المرأة وسفورها وتبذلها.(202/33)
حكم تسوية صفوف النساء
السؤال
سائلة تقول: ما حكم تسوية الصفوف بين النساء وهن في الصلاة قائمات؟
الجواب
نعم، المرأة مطالبة بتسوية الصف كالرجل.(202/34)
حكم تربية شعر الرأس بالنسبة للشباب
السؤال
ما هي الطريقة الصحيحة لتربية شعر الرأس والسنة في ذلك؛ لأن هناك من الشباب من يربي شعر رأسه ويقول: أنا اقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
بالنسبة لتربية شعر الرأس، إذا كان ربَّى شعر رأسه اقتداءً بالرسول عليه الصلاة والسلام فهذا مباح، إذا كان رجلاً متديناً ملتزماً بالسنة، معفياً للحيته، محافظاً على الجماعة، ملتزماً بالسواك، وكذلك قال: ألتزم بتربية شعر الرأس فهذا جائز، وبعض العلماء يقول: سنة.
لكن الأظهر أنه جائز، ولا يدخل في باب القدوة والاقتداء؛ لأنه من العادات التي كانت معروفة عند العرب.
أما أن يترك الإنسان كل سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يأخذ إلا تربية شعر الرأس، فهذا لم يأخذها عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما أخذها تقليداً لبعض الغربيين أو الشرقيين، من أصحاب الموضات التي تغزونا يوماً بعد يوم.(202/35)
عندما تموت الغيرة
السؤال
ما حكم من يذهب بنسائه إلى السوق ويذهب ليصلي التراويح؟
الجواب
نعم هذا كثير، يذهب الرجل يضع بناته وهن في سن الشباب، بل أحياناً في سن المراهقة، يدعهن في السوق ويذهب إلى صلاة التراويح، وتظل هؤلاء الفتيات ينتقلن من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان.
وقد رأيت بعيني في العام الماضي، وقد أتيت لشراء بعض الحاجيَّات في وقت متأخر، كنت أظن أني لن أجد في الشارع أحداً، ربما في الساعة الواحدة ليلاً أو قريباً من ذلك، فإذا بي أجد مجموعة من الفتيات عند رجل، وهن يتنقلن في الدكان من مكان إلى مكان وبصورة ملفتة ومثيرة، فإذا بي أريد أن أحادث صاحب الدكان عن بعض الحاجيات، لكن الرجل ليس لديه وقت لأمثالي، فوجدت نفسي مضطراً للانصراف، ومع هؤلاء النساء صبي صغير لا يعقل من أمر الحياة شيئاً.
أين أولياء أمورهن في ساعة متأخرة من الليل، ينتقلن من دكان إلى دكان ومن مكان إلى مكان، وربما يكون الأب ذاهباً إلى الصلاة، أو جالسا في انتظار صلاة القيام؟!(202/36)
السفر مع غير المحرم
السؤال
ما حكم ذهاب المرأة مع أخ زوجها، مع وجود محرم وهي بنت الزوج؟
الجواب
إذا سافرت المرأة فلا يجوز لها أن تسافر إلا مع ذي محرم، كل شيء يسمى سفراً في الشرع، لا يجوز إلا مع محرم، وأخو الزوج بلا شك ليس محرماً، كما أن زوج الأخت ليس محرماً، أما إذا كان هذا داخل المدينة فذهبت من بيت إلى بيت مع أخ زوجها، ومعهم امرأة أخرى كالزوجة -مثلاً- أو امرأة ثالثة، فإن هذا لا يعد خلوة.(202/37)
صوت المرأة
السؤال
يقول: بعض الناس ينكر على المرأة إذا سمع صوتها الرجال، ويقولون: إن صوت المرأة عورة حتى لو كان في الهاتف -مثلاً- فما القول الحق في ذلك؟
الجواب
القول الحق أن صوت المرأة بذاته ليس بعورة، والحديث الوارد في هذا لا يصح، إنما الشيء الذي لا يجوز، هو أن المرأة تخضع بالقول وتلين الكلام، وتأتي بمعسول الحديث الذي تضعف أمامه قوى الرجال، فإن هذا لا يجوز حتى لو كان في سبيل أمر ديني.
وبالأمس جاءتني رسالة من إحدى الأخوات تشتكي بعض قريباتها حتى ممن لبسن لبوس التدين، ولكنهن يهوين الحديث مع الرجال، وبحكم التدين فإنها لا تستطيع أن تتحدث غالباً إلا مع المتدينين، فتطيل في الحديث، وتخضع في القول، وتلين في الكلام، وتسترسل بما يشبع رغبة في نفسها، والله تعالى هو المطلع على الأسرار والخفايا، فصوت المرأة إذا كان لحاجة، كحديث أو سؤال أو استخبار، أو ما أشبه ذلك، فهو جائز دون أن يكون فيه خضوع بالقول أو لين في الحديث، أما إذا كان لغير هذا فلا يسوغ ولا يصلح.(202/38)
محاذير تقع فيها المرأة
السؤال
يقول: تنبيه إلى أمر خطير ولكنه مع الأسف أصبح مألوفاً، وهو ما نشاهده في من وقوف المرأة في بعض محلات الأزياء الوقت الكثير، والتحدث مع الرجل من خلال نافذة صغيرة دون محرم وعلى انفراد؟
الجواب
هذه مشكلة، والمشكلة أن بعض هذه المحلات قد يكون فيها صور لمجلات خليعة، ويكون فيها ألوان من هذه الكتب التي تحتوي صور النساء والأزياء، وقد يكون ثمة فرصة لإقامة العلاقات بين رجل وامرأة، وفي الحديث: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فإذا لم يكن عند المرأة رادع من دينها، ولا خوف من ذي سلطان يقوم عليها، فإن أبواب الشر حينئذٍ تكون مفتوحة، وعلى الرجل أن يقوم بخدمة المرأة في هذه المجالات، فييسر لها أسباب الحصول على الثياب التي تريد، والتفصيل الذي تريد، ويقوم هو بهذا العمل بدلاً من ابتذال المرأة في مثل هذه الأمور.(202/39)
نصائح تحقق السعادة بين الزوجين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه ليلة السبت، الرابع عشر من شهر رمضان لعام (1411 هـ) ، وقد تحدث إلي بعض الإخوة، وطلبوا أن يكون موضوع حديثي في هذه الليلة حديثاً في الرقائق وتليين القلوب، وإني أعتذر إليكم عن ذلك؛ لأن هذا الحديث إنما يجيده ويحسنه أصحاب القلوب الحية القريبة من الله عز وجل وليس كل أحد يحسن أن يحرك القلوب ويهيجها.
ثم طلب إلي إخوة آخرون في أوراق أو بالاتصال؛ أن أكمل حديث البارحة المتعلق بالمرأة أسئلة ومشكلات، فوافق هذا الطلب هوىً في نفسي، ولذلك أزمعت أن أكمل في هذه الليلة حديثي إليكم الليلة الماضية، وقد تحدثت البارحة عن جوانب من حياة المرأة، وفي هذه الليلة سوف أكمل جوانب أخرى أهمها موضوع الزواج.
والزواج سنة إلهية، كما قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] وقد جعل الله تعالى لرسله وأنبيائه أزواجاً وذرية.
قال بعضهم: خير هذه الأمة أكثرها نساءً، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والزوجان يكمل أحدهما الآخر، فمن تزوج فقد استكمل شطر دينه من الذكر والأنثى، وإن كان كما يقال: إن أجمل ما في الزواج هو الأماني والأحلام، أكثر من الواقع الذي يعيشه الإنسان بعد زواجه.
فعلى كل حال: لا يخلو هذا الأمر من جوانب وأمور تحتاج إلى الحديث عنها، لتحقيق السعادة بين الزوجين، وما أكثر ما يشتكي الناس من سوء العلاقات الزوجية، هذا السوء الذي قد يؤدي إلى الطلاق في كثير من الأحوال، وإن لم يؤدِ إلى الطلاق، فإنه يؤدي أحياناً إلى ما هو شر من الطلاق.
وقد تتبعتُ عدداً من الحالات التي يحصل فيها انحراف وفساد لأحد الزوجين، فوجدتها تحصل غالباً من رجل لم يوفق ولم يسعد في زواجه، فذهب يبحث عن اللذة والمتعة الحرام، أو امرأة لم توفق ولم تسعد في زواجها فذهبت مثله، وقد يظل الزوجان مرتبطين بحياة غير هنيئة وغير سعيدة، فيكون في ذلك من المتاعب الشيء الكثير، ولهذا لابد من التركيز على بعض النصائح، التي من شأنها أن تحقق السعادة الزوجية بقدر المستطاع، وباختصار أقول: إن من أهم هذه النصائح ما يلي:(202/40)
العاطفة
النصيحة الثامنة: العاطفة.
فإن العاطفة هي التي تجدد الحيوية والنشاط لكلٍ من الزوجين، وإذا فقد البيت العاطفة فإنه فقد الأساس الذي يقوم عليه في كثير من الأحيان، فالزوجان في بداية حياتهما ولسنوات طويلة، ليسا كالشيخين الكبيرين الهرمين، الذَين ليس بينهما من العلاقة إلا صبحك الله بالخير ومساك الله بالخير، فلابد أن بينهما عواطف موصولة بين قلوبهما، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فالزواج هو علاقة بين القلوب بالمودة والرحمة والسكن، قبل أن تكون علاقة بين الأجسام.
وعلى ضوء هذه الأشياء التي قصدت أن أقدم بها وأجعلها في البداية كنصائح عامة للعلاقة بين الزوجين، أنتقل إلى نقطة أخرى وهي: تحديد شروط الزوج الصالح.(202/41)
الواقعية وعدم المطالبة بالمثالية
النصيحة الرابعة: هي الواقعية وعدم المطالبة بالكمال.
لا تتصور أنك أمام امرأة كاملة، أو تريد امرأة كاملة، أو تتصور المرأة أنها تريد رجلاً كاملاً مظهراً ومخبراً، وديناً ودنياً، وحسباً ونسباً، وكمالاً وجمالاً، هذا لا يكون أبداً.
إذا كنت تريد هذا فانتظر للجنة، انتظر للحور، اعمل عملاً صالحاً حتى تجده، ولذلك يذكرون أنه جاء رجل خاطب يريد أن يتزوج، فقال الخاطب: أريد امرأة صفات كذا وكذا وكذا؟ قال: قد وجدتها لك، قال: أين هي رحمك الله؟ قال: أكثر من صيام النهار، وقيام الليل، هذه المرأة التي تصفها توجد في الجنة، أما في الدنيا فلا، فنساء الدنيا لابد فيهن من نقص، ومع ذلك إذا كنت أنت الزبير فابحث عن أسماء، وإذا كنت أنت علي بن أبي طالب فابحث عن فاطمة.
أما إذا كنت فلاناً الذي تعرف نفسك، فيك من العيوب الخَلْقية والخُلُقية الشيء الكثير، فيجب عليك أن تتصور أن من العدل؛ أن الله تعالى قد يرزقك بامرأة من جنسك تماثل ما أنت فيه، أو أحسن منك أو أقل منك قليلاً، وكما يقال في المثل: الطيور على أشكالها تقع.
إذاً كن واقعياً، وتوقع أن تجد في المرأة نقصاً، كما أن المرأة يجب أن تتوقع أنه يوجد في الرجل نقص.(202/42)
التسامح واللين بين الزوجين
النصيحة الخامسة: التسامح واللين.
التسامح واللين بمعنى: أنك حين توقعت الخطأ، وقع الخطأ فعلاً من المرأة، فهي أخطأت عليك، حتى ولو كان خطأً كالشمس في وقت الضحى، فلا بد من الأخذ والرد، الخطأ واضح، ولكن خذ مبدأ التسامح واللين، وادفع بالتي هي أحسن، وحاول قدر المستطاع أن تتحمل ما كنت تستطيع التحمل، وأن تلين بأيدي الطرف الآخر.
وليست الرجولة هي أن الإنسان يستأسد لأقل سبب، ويجعل البيت في هيجان وصاخب لأتفه الأسباب، لا.
إنما الرجولة هي: أن يكون الرجل بطيء الانفعال والثوران، ولا يتحرك.
وتثور أعصابه إلا لأسباب وجيهة وحقيقية.
أما المؤسف أن كثيراً من الناس قد لا يغضبون حتى للأمر الديني، فقد يأتي والمرأة لم تصل الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فيكون موقفه بارداً جداً.
وقد يأتي والأولاد لا يصلون، فلا يتأثر ولا ينفعل، وقد يأتي ويجد في البيت ما لا يرضي، من صور أو مجلات أو وسائل لهو وغير ذلك، فتجد أن هذا الرجل بارد كل البرودة، لكن لو جاء والغداء لم يجهز، أو العشاء لم يجهز، أو الثوب لم يتم كويه، أو ما نظف المجلس، غضب وأرغى وأزبد وثار، لماذا هذا المقياس المقلوب؟!(202/43)
عدم الغيرة
والنصيحة السادسة: عدم الغيرة.
فإن الغيرة وحش قادر على تحطيم الحياة الزوجية، والغيرة ليست من المرأة فقط، فالرجل قد يغار على زوجته أو من زوجته، والمرأة قد تغار على زوجها، ليس من زوجة أخرى أو بالضرورة من النساء الأخريات.
بل قد تغار المرأة على زوجها من أمه، أو من أخواته، أو من قريباته، فإذا رأت أنه يهتم مثلاً بأمه، أو خالته، أو عمته، أو أخواته، غضبت الزوجة، وقالت: أنا وأنا أم أولاده لا أرى هذا الاهتمام، ويعرض عني، وإذا طلبت يماطل.
وقد ذكرنا أن الإنسان بطبيعته قد يحترم الأباعد أحياناً أكثر من الأقارب، لأن البعيد فيه شيء من المجاملة، فالعمة إذا جاءت يوماً في الأسبوع إلى البيت وطلبت طلباً، ما يليق بالزوج الذي هو ابن أخيها أن يرفض طلبها، لكن الزوجة التي هي مع زوجها طيلة الوقت، قد تطلب طلباً اليوم ولا يلبيه إلا بعد أسبوع أو شهر، هذا طبيعي.
فالغيرة وحش قادر على تحطيم الحياة الزوجية، ولا يمكن أن تزول هذه الغيرة؛ إلا إذا عرف الزوجان أن أحدهما لا يمكن أن يمتلك الآخر امتلاكاً تاماً، مهما كان هذا الأمر مُرٌ على النفس، لكن ينبغي أن يعرفه الرجل وتعرفه المرأة، فالرجل ليس ملكاً لها، وهي أيضاً ليست مِلكاً له تماماً، حتى إن بعض الآباء لو اهتمت المرأة بأطفالها اهتماماً زائداً شعر بشيء في قلبه، لأنه يرى أن الاهتمام يجب أن ينصب إليه هو دون غيره، وعلى الأقل إذا كان هو يرى ذلك، وقل مثل ذلك بالنسبة للمرأة.
فلابد إذاً من أن يدرك كل من الطرفين رعاية الآخرين واحترام حقوقهم، وأن هذه الغيرة من أهم أسباب تقويض الحياة الزوجية.
أما إذا كان هناك أكثر من زوجة، فهذه الضرة حدث ولا حرج، وإذا وجدت غيرة فمعناه أن مثيرات الغيرة سوف توجد يوماً بعد يوم، وأن الحياة سوف تصبح جحيماً لا يطاق.(202/44)
المشاركة في الآمال والآلام
النصيحة السابعة: المشاركة في الآمال والتطلعات.
لا يكون كما قيل: سارت مشرقةً وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب الرجل -مثلاً- همومه تتعلق بالإسلام، ونصر الإسلام، وإعزاز دين الله عز وجل والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصيحة الناس وتوجيههم، أما المرأة فاهتماماتها لا تتعدى جسدها، الثياب والطيب والمكياج والشعر، أنا لا أقول كل النساء، لكن هذا مثال.
أو قد تجد العكس -أحياناً- تجد امرأة دينة صينة داعية، همها حضور المحاضرات، والدعوة إلى الله عز وجل ونصيحة أخواتها في الله، ونشر الخير والبر بقدر ما تستطيع، أما الزوج فهو في واد آخر، يسخر من هذه الأمور ولا يكترث لها.
فهنا التطلعات والهموم والآمال والآلام مختلفة تماماً، ولهذا تكون الحياة فيها شئ من الصعوبة، اللهم إلا بتوفيق من الله عز وجل فقد تجد وئاماً، وأن الزوج انسجم مع وضع امرأته وأصبح يساعدها، أو الزوجة انسجمت مع الزوج وأصبحت تساعده، ولو لم يحمل نفس الهموم.(202/45)
الصدق وتجنب الخداع
النصيحة الثانية: الصدق وتجنب الخداع.
فلو اكتشف الزوج أن زوجته تكذب عليه، فهذا معناه فقد الثقة، ويصبح يشك في كل ما تقوله من معلومات حتى لو كانت صحيحة، وكذلك الحال بالنسبة للزوجة عندما تكتشف أن الرجل كذاب، ولهذا يتسامح الناس كثيراً في قضية الكذب على الزوجة وهذا جاء في حديث، أي الترخيص في أن الرجل يكذب على زوجته.
لكن ليس هذا مطلقاً، فالكذب محرم في جميع الشرائع السماوية، فقد قال تعالى: {لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ولذلك فإن الكذب على الزوجة هو لا يعدو أن يكون لمصلحة فقط، مثل امرأة العلاقة بينها وبين زوجها توشك -فعلاً- أن تنهار أو تنتهي، فاضطر أو احتاج الرجل إلى أن يلاطف المرأة بكلمة طيبة لتسهيل العلاقة بينهما، كأن يقول لزوجته: إنني -والحمد لله- أشعر بمحبة وارتياح لكِ، وهو لا يشعر في قلبه بهذا كما تفهم الزوجة، وإنما على سبيل الملاطفة، وتهدئة ما في نفسها وتطييب خاطرها.
هذا -إن شاء الله- فيه خير، لكن كون الرجل يبني أساس التعامل مع الزوجة على الكذب، فلا يصدقُها في شيء قط، فإن المرأة ليست غبية، تكتشف الكذب، وبالتالي لا تصدقه في شئ حتى لو كان صادقاً.(202/46)
الاحترام المتبادل بين الزوجين
النصيحة الثالثة: الاحترام بين الزوجين.
ومن الملاحظ أن الإنسان -أحياناً- قد يحترم البعيد لكن لا يحترم القريب، فالبعيد -لأن العلاقة بينك وبينه علاقة مجاملة- تجد أنك تتبسم له وتتهلل وترحب، وتحاول أن تعامله بلطف وحسن رعاية، لكن القريب قد زالت المجاملات بينك وبينه، فأصبحت المعاملة فيها كثير من الجفوة والضعف، وزال الاحترام المطلوب، وبذلك تكونت مشكلات ليست كبيرة لكنها كثيرة.
ومن الملاحظات الصحيحة تماماً أن الذي يهدم العلاقات الزوجية، ليست مشكلة كبيرة يترتب عليها الانفصال، هذا في حالات قليلة، أكثر ما يترتب عليها الطلاق -وأقول هذا عن ملاحظة لحالات كثير من الأسر- أكثر أسباب الطلاق مجموعة من المشكلات الصغيرة، تكونت حتى تكون منها جبل من مجموع حصى صغار، كلمة غليظة ما قبلها الزوج، أو تصرف فيه رعونة، أو جفوة غير مناسبة وهكذا، تجمعت هذه الأشياء حتى كونت في نفس الزوج حملاً كبيراً من الزوجة أو العكس.
فترتب على ذلك شعور كل من الطرفين بأن معايشة الآخر مستحيلة، فوصل الزوج إلى قناعة وهو أن عيشته مع هذه المرأة غير ممكنة؛ لأنه أصبح يجد مشكلة في كل ساعة، وبالتالي قرر التخلص منها.
ومن أمثلة ذلك: قضية كثرة النقد، أو قضية كثرة مدح الآخرين أمام الطرف الثاني، امرأة تريد أن توجه زوجها، كيف توجهه؟ توجهه عن طريق أن تمدح رجالاً عنده، حتى ولو كان من الناحية الدينية، وتكثر وتقول: فلان ما شاء الله عليه، فيه كذا وكذا، وتجلس تمدح في فلان، وفلان رجل أجنبي عنها وتمدحه مرة وأخرى أمام زوجها، ماذا يشعر هذا الزوج؟ يشعر بأن زوجته تمدح فلاناً أمامه بهذه الطريقة! لا يصلح هذا! فينشأ عنده غيرة وكراهية للزوجة، خاصة إذا كثر هذا الأمر.
ومثل ذلك: المرأة إذا أكثر زوجها مدح نساء أخريات أمامها، ولو كان يقصد بذلك أن يكن قدوة لها رجلاً! إنما ينبغي أن يقتصد الإنسان في ذلك.
وعلى كل حال فالمشكلات الصغيرة الكثيرة هي التي تكون غالباً سبباً في الطلاق، أما المشكلات الكبيرة فقد تنحل، وقد تكون سبباً في حالات قليلة.(202/47)
التفاهم والمواصلة بين الزوجين
أولاً: ما يسمونه بالتفاهم والمواصلة بين الزوجين، أي: أن يستطيع كل أحد منهما أن يحسن الاستماع والإنصات إلى الآخر، كما يحسن الحديث إليه، والتفاهم في كل أمر، التفاهم في معرفة ما عند الآخر من مشكلات، والتفاهم في معرفة هموم الطرف الآخر، والتفاهم في معرفة ماذا يريد، التفاهم في تعبير كل من الطرفين للآخر عن مشاعره تجاهه.
كما أن التفاهم يكون في قضية الطلبات، كيف تطلب المرأة من زوجها؟ وفي أي وقت تطلب؟ فكم من امرأة ألحت على زوجها وألحت حتى كان طلاقها بسبب هذا الإلحاح، والأول يقول: خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب خذي ما جاء بسهولة ويسر، ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب، أي: لا تأتي والرجل في شدة انفعاله وغضبه لسبب من الأسباب، فتقولي: أنت ما أتيت بحاجيات هذا اليوم، ولا اشتريت للأولاد ملابس، ولا فعلت ولا فعلت، فيزداد الرجل غضباً إلى غضبٍ، وقد ينطق بكلمة الطلاق في ساعة من ساعات الغضب والانفعال.
ولا تضربي بالدف وجهي مرة فيجفوك قلبي والقلوب تقلب فإني رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب حتى لو حظيت المرأة بحب زوجها وارتياحه إليها، إذا رأى الزوج منها الأذى، بالكلام والإلحاح أو كثرة الطلبات وعدم مراعاة ظروفه ومضايقته، فإن هذا مدعاة إلى أن يتقلب ويتغير قلبه عليها، كما أن قضية التفاهم والمواصلة تكون في موضوع الأولاد، فكثيراً ما تقع المشاكل بين الزوجين بسبب الأولاد، الأب -مثلاً- يريد أن يربي أولاده والأم تعترض، أو قد يكون الأب مهملاً والأم تطالبه بذلك، أو قد تختلف طريقة التربية بين الأبوين، فربما الأب يريد أن يؤدب الولد فتقف الأم في وجهه، وهو في ثورة الغضب والانفعال.
ولذلك فإن المرأة الحكيمة، إذا رأت الزوج غاضباً منفعلاً، حتى لو ضرب الولد ضرباً لا يضره ولا يترتب عليه آثاراً بدنية ضارة بالولد، فإنها لا تستجيب لعواطفها مع ولدها فتقف في وجه الوالد، فقد يكون الغضب ينزل بها هي بدلاً من أن يكون الغضب بالولد.
كما أن من قضية التواصل والتفاهم بين الزوجين موضوع التوجيه، فالزوج يريد أن يوجه زوجته كيف يوجهها؟ هل يوجهها عن طريق تهديدها بسيف الطلاق؟ افعلي وإلا، اذهبي وإلا، حافظي على كذا وإلا، كما هي معروف أي: إذا ما فعلتِ معناه الفراق هذا ليس أسلوب تربية، ولا شرع الله تعالى الطلاق ليكون سيفاً مسلطاً على رقبة المرأة.
إنما ينبغي أن يربي الزوج امرأته ويعلمها بمثل ما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل مع زوجاته وبناته، يخوفهم بأيام الله، يخوفهم بالله عز وجل، ويذكرهم بالله، ويقرأ عليهم القرآن، ويبين لهم الحلال، ويبين لهم الحرام، ويأتيهم بالأسلوب المناسب الحكيم.
كما أن الزوجة -أيضاً- أكثر حساسية إذا كانت ستوجه زوجها، فقد يكون الزوج -أحياناً- مبتلىً ببعض المعاصي والمنكرات، والزوجة قد منَّ الله عليها بالهداية، فماذا تصنع في التربية، في توجيه الزوج؟ هذه قضية فعلاً ومشكلة تحتاج إلى يقظة؛ لأن كون المرأة وهي بطبيعتها في موقف دون الرجل والله يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] هل تتخذ موقف التوجيه للرجل، إنه يجب عليك أن تتبع كذا وكذا، ويكون دائماً أسلوبها أسلوب التوجيه المباشر؟ هذا قد يثير في الرجل بعض صفات الأنفة والرجولة، التي تجعله يغتاظ من المرأة ولا يقبل منها، وقد ينفخ فيه الشيطان، فلا يقبل من المرأة شيئاً حتى لو كان ما تقوله حقاً.
ولهذا فالمرأة الحكيمة إذا أرادت أن تواصل زوجها بالتوجيه؛ تسلك الأسلوب المناسب، من اختيار الوقت اللائق الذي يكون الزوج فيه مرتاحاً هادئ النفس، فتعطيه كلمة توجيه، وإرشاد، أو كتاباً، أو شريطاً، أو نصيحةً، أو شيئاً من شأنه أن يدخل إلى قلب الرجل، ويتسلل إليه شيئاً فشيئاً، حتى يقبل منها وتستطيع أن تؤثر فيه.
إذاً: النصيحة الأولى هي: قضية التواصل والتفاهم بين الزوجين، وأن يجيد كل واحد منهما فن الاستماع إلى الآخر، وفن التحدث مع الآخر.(202/48)
شروط الزوج الصالح
الزوج كلمة تطلق في اللغة العربية على الذكر والأنثى، فالرجل زوج المرأة، والمرأة زوج الرجل، هذا هو الأفصح، ويجوز أن تقول للمرأة زوجة، لكن الأفصح أن تسمى المرأة زوجاً للرجل، ويسمى الرجل زوجاً للمرأة.
إذاً نحن عندما نقول: شروط الزوج الصالح، نقصد المرأة والرجل على حد سواء، وهي كثيرة، أهمها -أيضاً- بما يتناسب مع ضيق الوقت:(202/49)
التقارب في الطبائع
الشرط الخامس: هو التقارب في الطبائع.
فأحياناً قد تنظر للزوج بمفرده فتجد أنه رجل فاضل ليس عليه مأخذ، وقد تنظر للزوجة بمفردها؛ فتجدها امرأة فاضلة وليس عليها مأخذ، لكن سبحان الله العظيم! الذي خلق الخلق، وقسم بينهم أخلاقهم وأرزاقهم وطبائعهم، فقد تجد طبائع الرجل لا تركب مع طبائع المرأة أو العكس.
وبالتالي هو يطالبها بشيء لا تطيقه، وهي تطالبه بشيء هو لا يطيقه، والسر هو أن الطبائع غير منسجمة، ولذلك ينبغي للرجل أن ينظر في إخوة المرأة، ما مدى تقارب طبائعهم مع طبائعه وانسجامه؟ هذا مهم، كذلك يسأل عن بيتها، وعن أخوالها.
وكذلك المرأة تتأكد من هذا الجانب، مدى تقارب وتوافق الطبائع، وكل هذه الأمور ليست عقبات توضع، لكن يضعها الإنسان في اعتباره.(202/50)
الصفات الجسمية
الشرط الثالث: الذي يبحث عنه الرجال: الصفات الجسمية.
وهذا لا يحتاج إلى كلام، فإن الرجل يبحث عن الجمال في المرأة، والاعتدال، وهذا أمر لا عيب فيه أن يطلبه الإنسان، بل من الطبيعي أن يطلبه؛ لأنه لا يمكن أن نقول للناس: ابحثوا عن الدين والخلق ولا تبحثوا عن الجمال، فقد يبحث الرجل عن امرأة ذات دين وخلق ولكنه يعزف عنها؛ لعدم إرضائها له، وعدم إشباعها لتطلعه، فيسيء إليها وهي امرأة ذات دين وخلق.
ولهذا يروى أن بعض الأئمة كالإمام أحمد كان إذا أراد أن يتزوج امرأة سأل عن جمالها قبل أن يسأل عن دينها، لماذا؟ لأنه يقول: إذا عرفت أنها امرأة تناسبني في الجمال؛ سألت بعد ذلك عن دينها، فإن ناسبني الدين قبلت وإلا رددتها بسبب الدين، أما كوني أسأل عن دينها، إذا عرفت أنها امرأة متدينة ينبغي أن أقبلها، فجعل الكلمة الأخيرة للدين، وبالتالي جعل الشرط الأخير الذي يسأل عنه هو الدين، حتى يكون يقبوله أو رفضه بناءً على كونها متدينة أو غير متدينة.
وعلى كل حال أيضاً الاعتدال في قضية الجمال مطلوب؛ لأنك لو نظرت في النساء وجدت أن غالب النساء وسط، ليست بالجميلة الجمال الذي يوصف ويذكر، ولا بالدميمة الدمامة التي تعاب بها، وإنما هي وسط بين بين، هذا غالب النساء، فلا تطمع بغير هذا، وقد تجد قسماً قليلاً من النساء من تتميز بجمال، وقد تجد قسماً آخر يتميز بنقص ظاهر في الجمال، فينبغي أن يكون الإنسان معتدلاً في هذا الجانب.
وينبغي ألا يشغلك النظر إلى الجمال الجسدي عن الجمال المعنوي، جمال الباطن -والله الذي لا إله غيره- إنني أقول لكم -أيها الإخوة- عن كلام سمعته من أعداد لا أحصيهم من الشباب الذين جربوا زيجات غير مناسبة، أن كثيراً من هؤلاء قد يكونون عنوا بالبحث عن الجمال، لكن ما عنوا بالبحث عن الجمال الباطن الذي يتمثل في أخلاق المرأة، وسماحة المرأة، وخفة المرأة، فقد يجد امرأة جميلة في الصورة لكنها قبيحة في الباطن، أو ثقيلة في معاملتها، تصبح على نفس الرجل أثقل من جبل، ويتمنى الخلاص منها.
إذاً ليست القضية في المرأة هي مقياس جمال الشكل فحسب، بل ينبغي أن ينظر الإنسان إلى جمال الباطن، وأعظم جمال الباطن؛ هو أن تتزين المرأة بالحياء والدين والخلق.(202/51)
التقارب في المستوى العلمي والاجتماعي
الشرط الرابع: هو التقارب في المستوى العلمي والاجتماعي.
والتكافؤ في هذا الجانب، فإن كثيراً من الناس -أحياناً- يكون عندهم نوع من الأفكار التي قد تكون خيالية أو مثالية، ليست قريبة من الواقع، فيريد أن يحطم كل شيء، ويريد أن يقضي على كل العادات وكل الأمور، وهذا أمر قد يكون فيه صعوبة في كثير من الأحيان، فينبغي أن يحرص الإنسان على وجود نوع من التقارب.
مثلاً: كونها امرأة متعلمة، يتزوجها شاب أمي أقل منها بكثير في المستوى الدراسي والعلمي، هذا خلاف الأصل، لأن الأصل أن الزوج أعلم من المرأة وأعلى مستوى من المرأة، أو على الأقل مساو لها، فكونه يقل وينقص عنها بكثير.
حتى إنني سمعت من بعض النساء الفاضلات التي يندر وجود مثلهن، ومع ذلك تشتكي من هذا الجانب، الذي ربما لم تهتم به هي ولا الزوج وقتاً من الأوقات، لكن مع الوقت بدأ يظهر؛ لأن الزواج في السنوات الأولى؛ كونه جديداً هذا يغطي كل عيوبه، لكن بعد سنتين أو ثلاث تبدأ العيوب تظهر.
إذاً: على الإنسان أن يدرك أن زواجه -إن شاء الله- مدى العمر، ويرجى أن يكون حتى في الجنة إن شاء الله كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] فالله تعالى يجمع المؤمنين وأزواجهم في الجنة، ولهذا فهي حياة طويلة في الدنيا -وإن شاء الله- في الآخرة، وليست مجرد متعة مؤقتة يقطعها الإنسان لأيام أو أسابيع أو شهور.
وكذلك التقارب في المستوى الاجتماعي، مثلاً: فكون الفتاة من بيت غني جداً تتزوج بشاب فقير هذا مدعاة لأن لا يستمر الزواج غالباً.(202/52)
قضية الخلق
الشرط الثاني وإن كان جزءاً من الشرط الأول لكنه مهم، وهو: قضية الخلق.
اسأل عن خلق المرأة، مثلاً:- قضية التواضع هل هي متواضعة أم مستكبرة؟ كثير من الناس قد يجد امرأة في غاية الجمال، لكن غالباً الجمال في المرأة يكون مصحوباً بشيء من الكبرياء والغطرسة والغرور، هذا الذي يهدم، ولذلك العوام يتناقلون كلمة مؤداها: أن المرأة ذات الجمال غالباً لا توفق في زواجها، والمرأة الدميمة أو العادية قد توفق، لماذا؟ لأن المرأة الجميلة، إذا لم تجد تربية في صغرها قد يصيبها نوع من الإعجاب والغرور.
وبالتالي تكون مستكبرة فلا يستطع الزوج أن يتحملها؛ لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء، فإذا شعر الرجل أن المرأة تحتقره أو تزدريه أو تستكبر عليه، رفضها ولا يطيقها بأي حال من الأحوال، إذاً لابد أن تتأكد من أن المرأة متواضعة تعرف قدر نفسها.
خلق آخر قضية السماحة.
وألا تكون المرأة حادة دائماً وأبداً تطالب، بل فيها سماحة، وفيها لين ويسر وهدوء، وليس فيها شدة انفعال، أو غضب، أو ثوران أعصاب لأتفه الأسباب.
صفة ثالثة: قضية الصمت وتجنب الثرثرة، فإن كثرة الكلام مفتاح لكل شر، فإن المرأة التي تكثر من الثرثرة تضايق زوجها في كثير من الأحيان، وتضايقه أمام النساء الأخريات، وتفشي أسراره، إلى غير ذلك، ولا حيلة لأن هذه الأمور إذا تركبت في المرأة وتربت عليها؛ يكون فطمها عنها في الكبر أمراً فيه صعوبة.
فلابد إذاً من التأكد من أخلاق المرأة بشكل عام، من لطف المرأة، وسماحتها، وهدوءها، وتواضعها، وصمتها، وحيائها، فبعض النساء امرأة مسترجلة تجد صوتها كأنه صوت رجل، يسمع على مسافة عدة بيوت، والرجل في المسجد يسمع صوت المرأة يدوي في المنزل، تضرب الولد هذا، وتتكلم على هذا، وتنادي فلان.
حتى أن الرجل -أحياناً- تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتكون هذه المرأة كما يقال: برزة، أي: كثيرة الظهور إلى الرجال، لا تستحي من الرجال، ولا تبالي أن تقف أمامهم، وتفتح الباب وتكلمهم، هذا ليس لائقاً، ليست هذه صفات المرأة، كلما كانت المرأة أكثر انقباضاً وأكثر حياءً، وأكثر بعداً عن الرجال، وأكثر انخفاضاً في الصوت، كان هذا أكثر دلالة على صحة أنوثتها وملاءمتها لزوجها وراحته وسعادته.(202/53)
قضية الدين
قضية الدين: وهذه هي الأساس، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أفضل من نصح لأمته: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} اظفر بذات الدين، الدينة؛ لأن المرأة الدينة تحفظك في نفسها، ومالك، وولدك، وتحفظك في سمعتك، فكم من رجل يكتشف أن في بيته معاصي لا ترضي الله عز وجل بسبب امرأة تخونه، أو رجل يكتشف أن ماله ينقص ولا يدري أين يذهب، فيكتشف أنه يؤخذ من داخل المنزل، أو رجل قد يقعده عن الجهاد في سبيل الله الخوف على أطفال صغار، يقول: أنا لا أثق بأمهم أن تربيهم، لأنها ليست الأم التي يمكن أن تقوم فعلاً على تربية الأولاد، ليست دينة ولا صالحة.
كم من إنسان تلطخت سمعته في الخارج، وعلى الأقل افتضحت أسراره، فيأتي الرجل فيجد أن الناس في المجالس يتكلمون عن أسراره في داخل المنزل، لماذا؟ لأنه ما بحث عن المرأة الدينة، والدين كله خير، وكل خير هو في الدين، فحين نقول الدينة، لا نقصد أنها تصلي وتصوم فقط هذا من الدين، لكن أيضاً من الدين أشياء كثيرة: فالخلق من الدين، والحياء من الدين، والمروءة من الدين، والعلم من الدين، وكتمان السر من الدين، والمحافظة على العبادات هو من أهم الأدلة على ذلك، لأن من حافظ على ما بينه وبين الله، وأدَّى الأمانة مع الله عز وجل بالصلاة والصيام والقيام والذكر والتسبيح، فهو -غالباً- أحرى أن يحفظ ويؤدي الأمانة مع العباد.(202/54)
نصيحة للشباب والشابات
ولذلك أقول لكم: كلمة من ناصح لكم، بعد تجارب اطلعت عليها من أعداد غير قليلة من إخوانكم الشباب: أقول: إن أخطر وأهم مرحلة في الزواج؛ هي مرحلة البحث عن الزوجة ولو طالت هذه المرحلة، بعض الشباب إذا هم بالزواج يريد خلال شهر أن يكمل الزواج، وهذه أخطر مرحلة؛ لأن كثيراً من حالات الطلاق، والطلاق مع الأسف الشديد تفشى في مجتمعنا، وقد سألت الإخوة العاملين في الهيئة في أكثر من مدينة؛ فوجدنا أن معظم حالات الفساد التي تكتشف، ممن يقع فيها نساء أو رجال من أهل هذه البلاد؛ تكون من نساء مطلقات أو رجال مطلقين.
إذاً: الطلاق ضرر عظيم، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر في صحيح مسلم {إن الشيطان ينصب عرشه في البحر ويبعث سراياه، فإذا رجعوا إليه كل واحد منهم يقول: ما زلت به حتى وفعل كذا وفعل كذا، فعل كذا، فيقول: ما فعلت شيئاً، سيتوب ويستغفر، حتى يأتي أحدهم فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيقربه ويدنيه ويقول: أنت أنت} أي: أنت الذي فعلت شيئاً كبيراً؛ لأنك فرقت بين الرجل وبين زوجته.
لماذا يحرص الشيطان على التفريق بين الزوجين؟ لأنه يعلم أضرار ذلك، أضراره على الزوج، وأضراره على الزوجة، وعلى الأولاد وعلى المجتمع، وأضراره على الأقارب وعلى الأباعد، ولهذا قضية الطلاق من القضايا التي يحرص الإسلام كل الحرص ألا تتم.
وأنا أقول: إن من أعظم أسباب الوقاية من الطلاق هو أن يحسن الإنسان البحث عن الزوجة الصالحة، وكذلك المرأة تحسن الموافقة على الزوج الذي يناسبها ويلائمها، ولو طالت هذه المدة، فإن العجلة غالباً هي بسبب عدم التجربة، وأن الإنسان لا ينظر في الزواج إلا إلى الجانب الجسدي فحسب، جانب اللذة والمتعة، وينسى أن الزواج بناء بيت جديد، يرفرف عليه -إن شاء الله- الإيمان والتقوى وطاعة الرحمن جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .
فإذا حصل الزواج ثم لم يحصل هناك وئام، فإن كلاً من الطرفين قد تورط مع الآخر، تورطا بعقد، وتورطا بتكاليف وبعلاقات، وأحياناً بأولاد، وبأمور كثيرة، ولم يكن الطلاق مجرد قرار يُتخذ وتنتهي المشكلة، لكن قبل الزواج الخيار بيدك فتريث وانتظر وتربص وتحرى، وكذلك المرأة تفكر في الأمر جيداً.
إذاً: نصيحة ذهبية، أختم بها هذا الحديث للطرفين: هي أنك بكل ما أوتيت من قوة؛ احرص على أن تكون فترة البحث عن الزوج فترة كافية، وأن تكون خلال هذه المدة -أيضاً- واقعياً لا تبالغ، ولا تطلب الخيال أو المحال، لكن أيضاً لا تتعجل وتنظر إلى الجانب المادي أو الجسدي فحسب، فإن الزواج أبعد وأكثر من ذلك.
وختاماً أدعو لنفسي وإخواني بما أوصانا الله تعالى به، وذكر عن عباده أنهم يدعون به فقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وأدعو بما ذكر الله تعالى عن عباده -عباد الرحمن- أنهم يدعونه به فقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65-66] .
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح ذراري المسلمين، اللهم أصلح ذراري المسلمين، اللهم أصلح شبابهم ونساءهم وشيوخهم وعلماءهم وحكامهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم أصلحنا في الآخرة والأولى، واهدنا إلى سواء السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(202/55)
المرأة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد جعل الإسلام للمرأة مكانة رفيعة فيه فالنساء شقائق الرجال، وحفظ لها شرفها وكرامتها، ولكن كثيراً من اليهود والمغرضين يطعنون في معاملة الإسلام للمرأة وفي هذا الدرس يطوف القارئ طوفة سريعة مع معاملات الإسلام للمرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مجالات مختلفة.(203/1)
مكانة المرأة من النبي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد … فيا أيها الإخوة: إن حكمة الله تعالى اقتضت أن يجعل الإنسان من زوجين ذكرٍ وأنثى، وأن يجعل النساء شقائق الرجال، كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سليم: إنما النساء شقائق الرجال} أي: أن المرأة والرجل نظيران في هذه الحياة في أمورٍ كثيرة في التكليف، والجزاء، والقيام بالواجبات الشرعية الملقاة عليهما، كما أن المرأة خلقت من ضلع الرجل، فهي مشتقة منه، ولذلك فقوام الحياة هو بصلاح الرجل والمرأة واستقامتهما، ووجود العلاقة الشرعية بينهما، وإذا انحرف الرجل أو انحرفت المرأة فسدت الحياة، ودب إليها الضياع والفناء، وموضوعنا الذي نتحدث عنه في هذه الليلة -كما سمعتم- هو عن المرأة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو بشرٌ من البشر، ولكنه نبيٌ مختار عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] ولذلك فقد ولد صلى الله عليه وسلم كما يولد غيره من أبوين من ذكرٍ وأنثى، فكان أبوه عبد الله بن عبد المطلب، وكانت أمه آمنة بنت وهب، ولعل من العجيب أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم في حجر عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري} أي أنها كانت تسنده إلى صدرها صلى الله عليه وسلم قالت: {كان عليه الصلاة والسلام إذا مرض تعوذه بعض نسائه} أي: أنَّ عادته صلى الله عليه وسلم إذا مرض أن ترقيه بعض زوجاته، وتقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتنفث، أو ما شابه ذلك، قالت: {فذهبت لأرقيه أو لأعوذه، فسمعته يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} .
أي أنه اختار جوار الله عز وجل بعد أن خيره الله تبارك وتعالى، بين الحياة الدنيا ونعيمها والخلد فيها ثم الجنة، وبين لقاء الله تبارك وتعالى والموتِ ثم الجنة، فاختار الرفيق الأعلى فقالت: {فسمعته يقول بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى} قالت رضي الله عنها: {ومر عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه جريدة رطبة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليها فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها من أخي عبد الرحمن فقضمت رأسها، ولينته، ثم نفضته، فأعطيته النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فاستن به - أي: استاك به- فما رأيته استن استناناً أحسن منه، عليه الصلاة والسلام ثم قضى صلى الله عليه وسلم، قالت: فخالط ريقي ريقه، عليه الصلاة والسلام في آخر يومٍ من الدنيا وأول يوم من الآخرة} .
فهكذا كان النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، يولد من آمنة بنت وهب، ويموت في حجر عائشة رضي الله عنها، وهذا معبرٌ عما كان للمرأة من مكانة في حياته صلى الله عليه وسلم، وفي نفسه، وفي هديه وسنته، كما سيتضح بعض ذلك، من خلال الحديث.(203/2)
طريقة سير الدرس
وسأتحدث عن هذا الموضوع، في نحو خمس نقاط: الأولى: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم، أٌماً.
الثانية: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم بنتاً.
الثالثة: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم زوجةً.
الرابعة: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم متعلمةً ومدعوة.
الخامسة: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم في الجملة، وذكر بعض التوجيهات العامة المتعلقة بالنساء.(203/3)
مكانة الجزيرة في تاريخ الإسلام
هذه الجزيرة لها مكانةٌ خاصة، ومنزلةٌ خاصة، وكما أن الله عز وجل أمر شرعاً ألا يجتمع في جزيرة العرب دينان كما جاء ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد قدر وقضى أن تكون هذه الجزيرة هي عاصمة الإسلام أول مرة، وفي آخر الزمان كما سمعتم في الحديث.
ولذلك فإن هذه الجزيرة اليوم هي آخر قلعة من القلاع التي ما زال للإسلام فيها بعض الأثر وبعض القوة، وما زالت المجتمعات في هذه البلاد بحمد الله تتمتع بشيء من التمسك بالدين، وشيءٍ من الحفاظ على الأخلاق الإسلامية، وما زالت المرأة المسلمة في هذه البلاد محجبةً في الجملة، محفوظةً مصونةً مكرمة، ممنوعةً عن الاختلاط بالرجال، أو عن ممارسة الأعمال التي لا تتناسب مع أنوثتها، وهذا ما يغيظ أعداء الإسلام من الشرق والغرب، فيحرصون على محاولة إخراج المرأة من بيتها، ومن مجتمعها الخاص لتعمل مع الرجل جنباً إلى جنب، ولتختلط مع الرجل، ولتمارس الأعمال التي يمارسها الرجل، ومع الأسف الشديد، فإن الذين يقومون بهذه الدعوات، ويطالبون بما يسمونه بحرية المرأة تقليداً لإخوانهم من اليهود والنصارى، الذين دعوا إلى هذه الدعوة التي غذاها الاستعمار في مصر ثم في سائر بلاد العالم الإسلامي؛ مع الأسف أن الذين يدعون إلى هذه الدعوة بين أظهرنا يحرص أعداء الإسلام على أن يكونوا من بني جلدتنا، وأن يتكلموا بلغتنا، حتى يكون تأثيرهم أبلغ، ووقعهم أقوى، وقد قال بعض المستشرقين: (إن شجرة الإسلام لا تجتث إلا بغصنٍ من غصونها) فيحاول الاستعمار، ويحاول أعداء الإسلام أن يوجدوا في المجتمعات الإسلامية، من ينادي بتحرير المرأة، هكذا يسمونه وإلا فهو في الواقع استعباد المرأة، وجعل المرأة مجرد متاع يتمتع به الرجل، جعل المرأة وسيلة للدعاية في الإعلانات، جعل المرأة وسيلة للترفيه عن الرجل في مكان العمل، جعل المرأة ألعوبة بيد الرجل، يعبث بها حتى إذا قضى منها حاجته، ألقى بها كما يلقي بنوى التمر غير آبهٍ بها.
فهي في الحقيقة استعبادٌ للمرأة وإن سموه تحرراً، هذه الدعوة التي يحاول أعداء الإسلام أن ينادي بها أبناءٌ من بني جلدتنا وممن يتكلمون بلغتنا، لابد أن نحصن أنفسنا، منها بأن نعطيهم الصورة الصحيحة، التي أراد الله بها تكريم المرأة، وهي الصورة التي كان عليها النبي صلى الله عليها وسلم، وأصحابه، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد قال في حديث الفرقة الناجية وهو يبين من هي الفرقة الناجية: {من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي} فإننا بحاجة إلى أن نعرف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه في شأن معاملة المرأة، وماذا كانت مكانة المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم.(203/4)
دواعي الحديث عن المرأة في حياة النبي
الحديث -أيها الإخوة- عن موضوع المرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، مهم لأسبابٍ عديدة، أذكر منها سببين: السبب الأول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو موضع القدوة والأسوة، وكل مسلم ينبغي له أن يعرف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة والعامة؛ فيحرص على التأسي به ما استطاع، وبهذا نستطيع أن نتخلص من كثيرٍ من الأمراض والأخطاء الموجودة في معاملة الرجل للمرأة في هذا المجتمع وفي كل مجتمع، فلهذا السبب كان الحديث عن المرأة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أمراً مهماً.
السبب الثاني: إننا نسمع اليوم في هذه البلاد التي شرفها الله تبارك وتعالى واختارها وجعلها مهداً للإسلام أول مرة؛ حيث انبعثت منها أنواره، وجعلها موئلاً يرجع إليها الدين في آخر الزمان كما في الحديث الذي رواه مسلم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وإن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها} أي أنه يحَنُّ ويرجع إلى هذه البقاع، فهذه البقاع بقاعٌ اختصها الله وشرفها واختارها، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} وقال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وكانت هذه من الوصايا التي رددها وهو في مرض الموت عليه الصلاة والسلام، فكان يقول: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} كما في الصحيحين وغيرهما، فقد أراد الله عز وجل شرعاً أن تكون الجزيرة العربية خالصةً للإسلام، لا يزاحمه فيها غيره، ولا ينافسه دينٌ آخر، ولا ينافس المسلمين طائفةٌ أخرى، لا من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غيرهم من أهل الأديان المنحرفة، سواء أكانت أدياناً سماوية محرفة، أم كانت مذاهب بشرية مختلقة من عند الناس ما أنزل الله بها من سلطان.(203/5)
المرأة كأم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
فأما في ما يتعلقُ بمعاملته صلى الله عليه وسلم للمرأة باعتبارها أماً: فإن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يموت والدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرك، وقبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان من الشرائع التي أنزلت عليه؛ وهي شريعةٌ موافقة للفطرة منسجمة معها، جاءت بها جميع الديانات السماوية الأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما أحياءً وأمواتاً، عرفاناً بفضلهما وجميلهما المتقدم للإنسان، ومقابلةً لمحبتهما، لابنهما، وعطفهما عليه، وشفقتهما عليه.
فروى الإمام مسلم في الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه وقد قبرت أمه بالأبواء زار قبر أمه صلى الله عليه وسلم فبكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حوله، وقال لأصحابه: استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن استغفر لها فلم يأذن لي} وقد ورد في طبقات ابن سعد وغيرها أنه صلى الله عليه وسلم بكى رقةً لها، ورحمةً لما يؤول إليه أمرها، حيث ماتت على الشرك، وحيث نهي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، وورد في أمه نصٌ خاص، كما سمعتم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم، {واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي} .
وهكذا كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لمن أحسن إليه في الصغر كحضانته، ومنهن حليمة السعدية، ومنهن الشيماء بنتها، فقد جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلها، وفرش لها رداءه، وأجلسها عليه، وهكذا كانت معاملته لـ أم أيمن، وكانت حاضنةً له صلى الله عليه وسلم في حياة أمه وبعد وفاتها، فكان يحبها ويقدرها ويحسن إليها، ويتعاهدها بالزيارة صلى الله عليه وسلم، ولذلك عندما مات صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق لـ عمر بن الخطاب كما في الصحيح: [[انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزروها، فلما دخلا عليها وجلسا عندها بكت، وكان المسلمون حديثي عهد بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا لها، ما يبكيك؟ أما علمت أنما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما إني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء، فأخذا يبكيان معها]] .
وهكذا أدركت هذه المرأة المؤمنة أمراً عظيماً وخطباً جللاً في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس مجرد فقد شخصه عليه الصلاة والسلام، وإن كان هذا فيه من الحزن العميق، على من عاشوا معه، وسافروا معه، وجلسوا معه، وصلوا خلفه، وسمعوا كلامه، وأمنَّوا على دعائه؛ إن كان في فقد شخصه عليه الصلاة والسلام خطباً جسيماً إلا أن هناك ما هو أعظم من ذلك وهو فقدانهم نزول الوحي من السماء، وهذا ما أدركته أم أيمن رضي الله عنها، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يزور قبر أمه، ويحسن إلى حاضناته -كما سبق- فهذا دليل كبير على مكانة المرأة كأمٍ وكحاضنة ومرضعةٍ، وكمربية في حياة النبي عليه الصلاة والسلام حين يهتم بإبراز هذا الجانب بشكلٍ عملي، فإنه يعطي المسلمين الأسوة والقدوة في ذلك.
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يعرفوا هذا الأمر وقد تفككت روابط الأسر في كثيرٍ من البلاد، وأصبح الابن في البلاد الكافرة لا يعرف أباه ولا أمه، ولا يهتم به، ولا يحسن إليهما، ولا يهمه أمرضا أم شقيا، أعاشا أم ماتا، اغتنيا أم افتقرا، وأصبح الابن في كثيرٍ من الأحيان قد يسيء إلى والديه ويعتدي عليهما، وذلك بسبب نغمة الحرية التي ينادون بها، فهم يزعمون أن من الحرية أن يفعل الابن ما يشاء، وتفعل البنت ما تشاء، ويفعل الأب والأم ما يشاءان ولا علاقة لأحد بأحد، ولا أمر لأحدٍ على أحد، حتى إن الابن مثلاً ولو كان صغيراً في مقتبل عمره، لو أدبه أبوه وضربه فإنه يرفع سماعة التلفون ويتصل بالشرطة أو بالبوليس، فيحضر إلى البيت ويأخذوا الأب ويحققوا معه، وقد يدينونه بالاعتداء على ابنه، وهذا ليس خيالياً أو كلاماً يقال، هذا والله واقع في كثير من البلاد الكافرة، وقد تسربت عدواه إلى بلاد المسلمين.
ولعل من أهم أسبابه: تقصير الأبوين في العناية بأبنائهما- كما سيأتي في فقرةٍ قادمة- ولكن المقصود أن الأبناء بحاجةٍ إلى تذكيرهم بحقوق الأبوين ومكانتهما، ووجوب الإحسان إليهما، وتحمُّل ما قد يصدر منهما من التصرفات التي لا تعجب الأولاد، وهذا الولد هو الآن ابن، وهو بعد وقتٍ غير طويل أب أو أم، كما يفعل لأبويه سيُفعل معه، وكما يريد أن يكون أبناؤه معه فيجب أن يكون كذلك مع والديه.(203/6)
المرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بنتاً
أما النقطة الثانية في هذا الموضوع، فهي: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع بناته، أو المرأة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتبارها بنتاً: وقد ولد للرسول صلى الله عليه وسلم أربع بنات، هن: زينب ورقية وفاطمة وأم كلثوم، وقد بقيت فاطمة وحدها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أشهراً ثم قبضت كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، {أن فاطمة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فسارَّها بشيءٍ فبكت ثم سارها بشيء فضحكت، قالت: فسألتها بعد فقالت: أخبرني أنه يموت صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا فبكيت، ثم أخبرني أنني أول من يلحق به من أهله فضحكت} نعم ضحكت فرحاً بلقاء محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن أحزنها فراقه ستة أشهر، فحين أخبرها أنها أول من يلحق به، ضحكت، وفي رواية أخرى أنه أخبرها أنها سيدة نساء العالمين، أو سيدة نساء أهل الجنة فضحكت، وكلاهما في الصحيح.
أما بقية بناته صلى الله عليه وسلم فقد متن في حياته عليه الصلاة والسلام، وذاق النبي صلى الله عليه وسلم الحزن لفقدهن، وكيف لا يحزن صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب القلب الحنون العطوف، الممتلئ بالحب لأولاده، الممتلئ بالرحمة لهم ولغيرهم من المؤمنين، بل وللدواب وغيرها! وقد ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام، ذهب إلى أبي سيف القين، وكان عنده ابنه إبراهيم، وكان يجود بنفسه، فحمله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فاضت روحه الطاهرة، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معه رجالٌ من المؤمنين منهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: تفعل هذا وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} .
نعم كان صلى الله عليه وسلم يحزن لفراق أولاده وموتهم، ومع ذلك فقد ذاق آلام فراقهم جميعاً إلا فاطمة رضي الله عنها، وهذه حكمة لله تبارك وتعالى، وللمؤمنين به في ذلك ومن يفقدون أولادهم أو أحداً من أولادهم خير أسوةٍ وقدوة، وفي ما يتعلق بمعاملته صلى الله عليه وسلم لهؤلاء البنات، أشير إلى ثلاثة جوانب:(203/7)
رعايته لبناته صلى الله عليه وسلم
الجانب الثالث: في موضوع معاملته لبناته صلى الله عليه وسلم، هو موضوع التربية والتأديب والتعليم، فإنه لابد مع العطف والحنان، ومع الرعاية الاهتمام بالمصالح، لا بد من التربية والتعليم والتأديب.
ففي القصة السابقة، ظهر جلياً أن النبي صلى الله عليه وسلم يرشد فاطمة رضي الله عنها إلى هذا الأدب، وهذا الذكر، وأنه خيرٌ لها من خادم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن هذا الذكر مجرب في منح الإنسان الذي يزاول الأعمال القوة والقدرة على ما يعانيه من الأعمال ذكراً كان أو أنثى، فمن حافظ على التسبيح، والتحميد والتكبير كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، كان هذا سبباً في قوته ونشاطه، وقدرته على القيام بالأعمال، والمرأة المسلمة ينبغي لها أن تتعلم هذا الأدب الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته، لتحرص على التسبيح والتحميد والتكبير.
المثال الآخر في هذا الموضوع: فهو ما رواه النسائي في السنن الكبرى، وأبو داود، بإسنادٍ فيه راوٍ صدوقٌ له مناكير فلعله أن يكون حديثاً حسناً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: {أنهم حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم جنازة، فلما صلوا عليها ذهب النبي عليه الصلاة والسلام معهم، فدفنوها ثم رجعوا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم عند بابه، فإذا بامرأة مقبلة، فلما دنت منه إذا هي فاطمة رضي الله عنها، فقال لها: من أين أقبلتِ؟ قالت: يا رسول الله ذهبت إلى أهل هذا الميت، فعزيتهم بميتهم، ورحمت على ميتهم، قال عليه الصلاة والسلام، لعلك بلغت معهم الكدى، والكدى المقصود بها المقابر، لأن الناس يضعون قبورهم في الأرض الصلبة التي إذا حفرت لا تنهد، لعلك بلغت معهم الكدى، قالت: لا، يا رسول الله، كيف أفعل وقد سمعت ما قلت} أي: من التشديد في منع النساء من زيارة المقابر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله زوارات القبور، فقالت: لا، وكيف أفعل وقد سمعتك تقول ما قلت؟ {فقال عليه الصلاة والسلام: لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك} وجد أبيها من المشركين الذين كانوا في الفترة والله أعلم، فالمقصود أنها لو فعلت لما دخلت الجنة وهذا وعيدٌ شديد وإن كان لا يقتضي كفر من زار المقبرة من النساء بلا شك، وإنما يقضي أن هذا ذنبٌ يعاقب عليه بالتعذيب في النار مدةً ثم يخرج المعذب من النار متى شاء الله، ولا يقتضي هذا الخلود فيها، فأنت إذا نظرت إلى هذه القصة، وجدته صلى الله عليه وسلم أولاً، يستغرب ويستعظم على بنته أن تخرج من البيت، ولذلك سألها ما الذي أخرجك من بيتك؟ يستغرب خروجها، وهذا دليل على أن الأصل أن تقر المرأة المسلمة في بيتها أسوةً بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسوةً بنساء المؤمنين، واستجابةً لأمر الله تبارك وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:3] .
فالأصل للمرأة القرار في بيتها، وخروجها من البيت لا يكون إلا لمصلحة أو حاجة، كأن تخرج لما لا بد لها من حوائجها، أو لتعلم علمٍ ينفعها، أو لزيارة مريض، أو لصلة رحم، أو لخيرٍ، أو لحاجة دنيوية لا بد لها منها، وإلا ففي ما عدى ذلك، فالأصل في المرأة القرارُ في بيتها.
ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة ما الذي أخرجك من بيتك؟ ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لعلك بلغت معهم الكدى} دليل على أنه يحرص عليه الصلاة والسلام على معرفة تصرفات بناته، وماذا عملن حتى في غيبته، وحتى فيما لم يطلع عليه ليطمئن على ذلك، فأين هذا اليوم مما نجد من كثير من الأولياء؟ وقد أطلقوا العنان لبناتهم، وتركوا الحبل على الغارب، فالبنت تخرج من بيتها تخرج ليس للمدرسة -مثلاً- ولا لحضور محاضرة أو علم، ولا لزيارة قريب، وإنما تخرج للسوق، وربما تخرج بصفة مستمرة تخرج يوماً لتشتري حاجة، ثم تخرج اليوم الثاني لترد هذه الحاجة لأنها غير مناسبة طويلة أو قصيرة أو لونها غير مناسب أو ما أشبه ذلك، فلابد من تغييرها وتخرج في اليوم الثالث لتشتري حاجة لبيت الجيران، وفي اليوم الرابع والخامس وهكذا، حتى أصبحت مسألة التسوق -وهي كمثال- أمراً عادياً عند الكثيرين، وأصبح كثير من الآباء يرون أن من العيب أن يراقبوا تصرفات بناتهم، وذلك من باب حسن الظن في بعض الأحيان والغفلة، فتجد أن الأب لأنه يعرف أولاده منذ الصغر، ويحسن الظن بهم يفسر تصرفاتهم على أحسن المحامل دائماً.
وعلى سبيل المثال يأتي الأب -أحياناً تأتيه- فاتورة التليفون فيجد فيها مكالمات طويلة عريضة، ومبالغ ضخمة، والبيت مملوء ببناته ممن لم يربهن ولم يعلمهن العلم الشرعي، ولم يحرص على توجيههن، بل تركهن لغيره، فربما يذهب ذهن الأب إلى أن هذه الكميات الكبيرة من المكالمات خطأ من المسئولين في الهاتف أو ما أشبه ذلك، لكن لا يذهب ذهنه إلى أن هناك احتمالاً أن يكون هناك مكالمات في داخل البيت لم يعلم هو بها، مثال آخر يوجد في كثير من البيوت تجد أن الأب يأتي بسائق في البيت، وهذا السائق شاب في غالب الأحوال، وبشر وإنسان مهما يكن الأمر، فتجد هذا السائق يذهب بالبنات إلى المدرسة ويرجعهن منها، وإلى السوق، وإلى الأقارب، وإلى كل مكان بلا حسيب ولا رقيب، وكأن هذا السائق ليس إنساناً، وأن بناته لسن نساءً يجول في خواطرهن وضمائرهن ما يجول في ضمائر غيرهن، فالرسول عليه الصلاة والسلام حين يسأل ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، يسألها: ما الذي أخرجك من بيتك؟ ولنا في ذلك أسوة وقدوة أن الأب يراقب تصرفات أولاده ذكوراً وإناثاً، وأيضاً أن الولد ذكراً كان أو أنثى لا يجد غضاضة أن يسأله أبوه أين كنت؟ ومن العجيب يذكرون أن رجلاً عمره يفوق الستين شيخ من إحدى البلاد الإسلامية وكان مسئولاً كبيراً في ذلك البلد، وكيلاً في وزارة، فكان يقول: بلغ عمري ستين سنة، وكان أبي شيخاً كبيراً في البيت، فكنت إذا دخلت منذ طفولتي وإلى تلك السن إذا دخلت يسألني: أين كنت؟ ومع من؟ حتى اعتاد على هذا الأمر فكان يقول له في الكبر يا أبي أنا الآن كبرت وأصبح أولادي لهم أولاد، فقال له اسمع يا ولدي هذان السؤالان لابد منهما أين كنت؟ ومع من كنت؟ فالكثير من شبابنا اليوم وفتياتنا يجدون غضاضة أن يسألهم أبوهم، أو تألهم أمهم، أو يسألها أبوها، أو تسألها أمها: أين كنت، وليس في هذا من غضاضة.
الأمر الثالث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يقول لبنته: {لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك} تحذير من الخطأ الذي لم يقع معه حذراً مما قد يقع، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن بنته لم تبلغ الكدى ومع ذلك وجهها هذا التوجيه، ولذلك فعلى الأب أو المربي أو الموجه ألا ينتظر حصول الخطأ حتى ينبه عليه، بل أن يسبق الأحداث ويحرص على أن يوجه أولاده ومن ولاه الله أمرهم قبل أن تقع منهم الأخطاء، فكما يقال (الوقاية خير من العلاج) .
هذا فيما يتعلق باهتمامه صلى الله عليه وسلم ببناته.(203/8)
نموذج آخر
أما النموذج الآخر والذي يدل أيضاً على اهتمامه بشئونهنَّ فهو ما رواه أبو داود أيضاً، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: {إن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام -وكانت تحته، كانت زوجته- إنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وطبخت حتى أثر فيها} بنت من؟! بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم بهذه الأعمال المنزلية من الكنس، والطبخ، والطحن، والعجن، والخَبز، وغيرها من الأعمال، وتمارس وتعاني هذه الأشياء بكل سرور وارتياح، ولا تجد في ذلك غضاضة، أنها بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فهي كغيرها من المسلمين، بل ربما يجد غيرها من المسلمين من السعه أكثر مما تجد.
فسمع علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه رقيق، أعبُدٌ، عبيد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالخبر، وفي روايةٍ أن فاطمة جاءت فلم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدت عائشة فأخبرتها بالخبر، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت عائشة رضي الله عنها له ذلك، فجاء إلى علي وفاطمة وقد أخذا مضاجعهما في الليل، فقعد بينهما صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {ألا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من خادم، إذا أويتما إلى مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فإنه خيرٌ لكما من خادم} والحديث بهذه الرواية رواه أبو داود، ولكن أصل أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالتسبيح، مخرجٌ في الصحيحين: {إذا أويتما على مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثاً وثلاثين، فإنه خيرٌ لكما من خادم} .
هكذا كان صلى الله عليه وسلم، في اهتمامه بشئون بناته، وحرصه على رعايتهن.(203/9)
نموذج من الرعاية
حصل لـ أبي العاص قصةٌ أخرى تشبه هذه ذكرها أهل السير كـ ابن إسحاق وغيره، ذكروا أن أبا العاص بعثت معه قريشٌ بأموال وبضائع إلى الشام، وكان أبو العاص يتعاطى التجارة، فلما قفل أبو العاص من الشام صادف أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية بأمه زيد بن حارثة، وهي تسمى سرية العيص، فأخذوا ما جاء به أبو العاص من الأموال والبضائع، وأفلت منهم أبو العاص وهرب إلى المدينة وكان مشركاً آنذاك، وهذه السرية قيل إنها بعد خيبر أخذ المسلمون أمواله أما هو فأفلت منهم وجاء مسرعاً إلى المدينة، ودخل على زينب رضي الله عنها دون أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبر زينب زوجته بالخبر، فلما كبَّر النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، وكبر المسلمون صاحت زينب بأعلى صوتها لتسمع المسلمين وقالت: [[ألا إني قد أجرت أبا العاص]] فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {أسمعتم ما سمعت} قالوا: نعم، فقال: {والله ما كان لي علمٌ بشيءٍ من ذلك حتى سمعتُ ما سمعت} .
أي: أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بمقدم أبي العاص، ولا بأن زينب كانت تريد أن تجيره، ولكن يجير على المسلمين أدناهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فقبلوا جوار زينب له، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لها -كما تقول هذه الرواية- وهي روايةٌ فيما يظهر أنها مرسلة رواها ابن إسحاق عن أبي بكر بن حزم؛ قال لها صلى الله عليه وسلم: {أحسني إليه، ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له} لأنه مشرك، وهي مسلمة.
فلما رأى المسلمون ذلك أجاروه وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في هذه الرواية- {إن أبا العاص منَّا حيث قد علمتم، وذكر سابق إحسانه، فإن رأيتم أن تردوا إليه ماله} فرد المسلمون جميع ما بأيديهم حتى القليل القليل من الخيط أو غيره، استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو العاص هذه الأموال جميعها، وذهب بها إلى أهل مكة، وسلمهم أموالهم، وردَّ إلى كل واحدٍ منهم ماله وربحه، فلما انتهى قال: [[أبقي لأحدٍ منكم شيء؟ قالوا: لا، وقد أحسنت إلينا فجزاك الله عنا خيراً، فقال: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكنني لم أسلم في المدينة، خشية أن تظنوا أني أسلمت طمعاً في أمواله، أو أني أخذت شيئاً من أمواله، أما وقد وصلت إليكم أموالكم، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله]] .
ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا نموذج من عنايته صلى الله عليه وسلم ببناته.(203/10)
الاهتمام والرعاية
الجانب الثاني: هو جانب الاهتمام والرعاية: فأنتم تجدون أن بعض الناس -أحياناً- قد يحب أولاده، ويعطف عليهم، لكنه لا يهتم بهم ولا يربيهم، ولا يحرص على جلب المصالح لهم، ولا على دفع المفاسد والمضار، والمساوئ عنهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المثل الأعلى في جميع ذلك.
انظر إلى موقفه صلى الله عليه وسلم، مع ابنته زينب، التي سبق أنها كانت مع أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكان كافراً مشركاً في مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، كانت زينب عند أبي العاص في مكة، ولما وقعت غزوة بدرٍ وأسر المسلمون من أسروا من المشركين كانوا يطلبون منهم الفداء، وكان من ضمن الأسرى، أبو العاص، زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه المسلمون الفداء، كما يطلبون من غيره من الأسرى، فأرسلت زينب -زوجه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- من مكة بقلادة لتكون فداءً لزوجها، وكانت هذه القلادة لها تاريخ مؤثر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثير هذه القلادة ذكرى في نفسه عليه الصلاة والسلام ليست بالهينة، فكانت هذه القلادة لـ خديجة رضي الله عنها، المرأة التي كان لها أبلغ الأثر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد وضعت خديجة هذه القلادة في عنق زينب حين أهدتها وأدخلتها على أبي العاص، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم، لعله تذكر خديجة وما كان من شأنها، ورقَّ لبنته رقةً شديدة حتى بكى صلى الله عليه وسلم وقال للمسلمين: {إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا} لا يأمرهم أمراً، إنما يلتمس منهم التماساً، فقال المسلمون: نعم، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، ورد القلادة إلى زينب واشترط على أبي العاص مقابل إطلاقه بلا مقابل أن يرد زينب إلى المسلمين ويرسلها إلى المدينة، فلما وصل أبو العاص إلى مكة، بعث بـ زينب إلى المدينة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً معه وأمرهما أن يستقبلاها ويحملاها إلى المدينة، والحديث رواه أبو داود في سننه.
فانظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقتصر على حب زينب والعطف عليها، بل كان حريصاً على إيصال الخير إليها بكل وسيلة، ودفع الشر عنها بكل وسيلة، حتى لتدمع عيناه ويرق رقةً شديدة حين يرى هذا المنظر، ويرى القلادة قد بعثت من قِبَلِ زينب لتكون فداءً لـ أبي العاص.(203/11)
الحنان والعطف
الجانب الأول: جانب الحنان والعطف: فقد كان قلبه عليه الصلاة والسلام معموراً، بحبهن، والعطف عليهن، والرفق بهن، والحرص على إدخال السرور إليهن بكل وسيلة، فقد روى أبو هريرة كما في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي وكان عنده الأقرع بن حابس التميمي، فتعجب الأقرع، وكان رجلاً من الأعراب، فقال: إني لي عشرة من الولد، والله ما ما قبَّلتُ أحداً منهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ} وفي لفظٍ قال عليه الصلاة والسلام: {أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك!!} أن يكون لك عشرة من الولد فلا تقبلهم، ولا تشمهم، ولا نفرح، ولا تطرح بهم، من يفعل هذا الإعراض، فالرحمة منزوعة من قلبه، ومن لا يرحم لا يُرحم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان هذا شأنه مع الحسن أو مع الحسين، فشأنه مع أمهما، ومع خالاتهما، بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى، فحب الولد أعظم من حب ولد الولد، وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حاملٌ أمامة، وأمامة هذه هي بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوها هو أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكان صهراً للنبي صلى الله عليه وسلم، مدحه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: {وعدني فوفاني، وأثنى عليه خيراً} وَحَمْلْ النبي صلى الله عليه وسلم لـ أمامة بنت بنته ربما يكون -والله أعلم- بعد وفات أمها، حيث أشفق عليها، وحنَّ عليها صلى الله عليه وسلم بعد فقد أمها، فخرج بها أو كان يخرج بها معه إلى الصلاة، فيصلي وهو حاملها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، وهذا الحديث كما سبق في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهو عجبٌ من العجبْ، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان وقته كله معموراً بالعلم والتعليم والجهاد والدعوة، ما بين سفر وإقامة، واستقبال وفود وإرسال سرايا أو بعوث، وخروجٍ في مغازٍ، ونزول الوحي، وتعليم وصلاة وقراءة، هذا النبي المختار صلى الله عليه وسلم، على رغم امتلاء وقته بهذه الأعمال الجليلة لا يغفل عن هذه الصبية الصغيرة، أمامة بنت بنته، فيعزيها عن فقد أمها بأن يحملها على كتفه صلى الله عليه وسلم وهو خارج إلى الصلاة بالمسلمين، وكأن هذا إعلان أمام المسلمين كلهم بأن الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يأمر بالعطف على الأولاد، والرفق بهم، والحنو عليهم.
وقد يقول قائل: إن هذا الأمر أمرٌ جِبِلَّيْ أو عاطفي عند كل أب، فالواقع أن هذا أمرٌ صحيح، فقد ركز في قلوب الآباء العطف على الأبناء حتى الحيوانات، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: {إن الله عز وجل خلق مائة رحمة، أو جعل مائة رحمة، فأنزل منها رحمةً واحدةً في الأرض، فبها يتراحم الناس والدواب، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه} إلى هذا الحد.
لكن تعجبون أيها الإخوة إذا علمتم أن القوم الذين تنكبوا هدي الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، قد مسخت فطرهم، التي فطروا عليها، والتي ما زالت تتمتع بها الحيوانات، قد مسخوا وتغيروا، ولذلك ذكرتُ فيما سبق أنهم في البلاد الكافرة لا يحنو الأب على ابنه، ولا يعطف عليه، وإن حنا عليه في طفولته وصغره بعض الحنو، إلا أنه بعد ما يبلغ سن الحادية عشرة أو الثالثة عشرة، أو الرابعة عشرة، ذكراً كان أو أنثى، يفقد الأب عطفه عليه، فيخرجه من بيته، ويأمره أن يقوم بإعالة نفسه، وأن يدبر شئونه بنفسه، ويبين له أنه ليس لديه استعداد أن ينفق عليه، أو يعيله، ولا يأويه في البيت إلا بمقابل الأجرة، وقد لا يلقاه إلا في الشهر مرة، أو في الشهرين مرة، فيشير له بيديه هكذا بالسلام، وهو ماشٍ في عرض الطريق لا يقف، ولا يسائله عن حاله.
وهذه الأمور الموجودة عندهم من مسخ الفطرة وانحرافها يمكن أن تتسرب إلى المسلمين إذا لم يهتموا بمراجعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة أن يكون عطفهم على أولادهم، وحبهم لهم، وشفقتهم عليهم، مع كونه فطرياً أن يكون أيضاً بنية واحتساب حتى يثاب عليه الإنسان، ويزيد منه.
ولم يكن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالأولاد الصغار، -ذكوراً كانوا أو إناثاً- مقصوراً على بناته عليه الصلاة والسلام، أو على بنات بناته، بل كان شاملاً لأطفال المسلمين كافة، فكان المسلمون إذا ولد عندهم ولد، جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحنكه، ويبرك عليه، وربما بال الصبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بشيءٍ من الماء فرشه عليه.
وقد روى البخاري في صحيحه: {عن أم خالد بنت خالد -وهي كانت صبيةً صغيرة- أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته ثياب، فكان فيها ثوبٌ أخضر صغير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ترون نعطي هذا؟ يستشيرهم، فسكت الناس!! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، بـ أم خالد بنت خالد هذه -نفسها- فجيء بها محمولة -وكونها محمولة يدل على صغرها- فألبسها النبي صلى الله عليه وسلم الثوب بيده!! وقال لها: أبلي وأخلقي، وفي بضع النسخ، أبلي واخلفي} فقوله أبلي وأخلقي، يعني من الأخلاق، وكأنه يدعو لها أن يطول عمرها، حتى إخلاق هذا الثوب، فهو دعوةٌ بطول العمر، وأما واخلفي، فالمعنى دعاءٌ بأن يخلف الله عليها غيره إذا بلي هذا الثوب، أخلف الله عليها غيره، قال لها: أبلي وأخلفي.
وكان في هذا الثوب خطوط وأعلام خضر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يشير إليها ويقول: {هذا سنا يا أم خالد} وكلمة (سنا) معناها في لغة الحبشة: أي حسن جميل، هذا جميل!! فانظر في هذا الحديث، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف حتى أطفال المسلمين، فيسأل عن صبية اسمها أم خالد، ثم يدعو بها، ثم يلبسها الثوب بيده صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو لها بأن تبليه، وتخلف غيره، أو يخلف الله عليها غيره، ثم يضفي على هذا الثوب صفة الجمال والحسن الذي يفرح به الصبي الصغير إذا قيل له: إن هذا الثوب الذي عليك ثوبٌ حسنٌ جميل، ثم يكنيها صلى الله عليه وسلم بـ أم خالد، وكل هذه الوقفات تدل على أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الصغار، وعطفه عليهم، ولطفه بهم، ومحبته لهم، وهذا كان منه صلى الله عليه وسلم، أولاً: أمرٌ جَبَلَهُ الله عليه، لأنه صاحب قلبٍ كبير، يسع محبة المؤمنين جميعاً، حتى من يخطئون عليه، ولا يعرف الحقد، أو الحسد، أو البغضاء، أو الكراهية إلا أن تكون في ذات الله عز وجل، فكان قلبه قلباً كبيراً يتسع لمحبة هؤلاء، وحتى الأطفال.
ثم كان هذا -ثانياً- تعليماً منه صلى الله عليه وسلم لأمته كيف نعتني بالأطفال، وكيف ندخل السرور عليهم، وقد يظن بعضهم أن في هذا شيئاً من المشغلة، أو إضاعة الوقت.
والواقع الذي يشهد به التاريخ، وتشهد به الحياة القائمة اليوم، وتشهد به العلوم التربوية التي درسها العلماء في هذا العصر أن مرحلة الطفولة تؤثر تأثيراً كبيراً في شخصية الإنسان في جميع مراحل حياته بعد ذلك، فالإنسان الذي تلقى في طفولته العطف والحنان والحب والرحمة؛ تجد أنه بعدما يكبر يكون إنساناً عطوفاً، حنوناً، محباً، رحيماً، مشفقاً، محسناً إلى الناس، والإنسان الذي حرم من العطف والحنان، وعاش حياة فيها جفاء، وفيها قسوة، وليس فيها عطف، ولا لطف؛ تجد أنه حين يكبر لا يعرف العطف، ولا يعرف الحنان، ولا يعرف المحبة، وتجد أنه شخصٌ قاسٍ غليظ على الآخرين.
ولو نظرتم في بعض الجبابرة الذين عرفهم التاريخ، وسجل لهم الأعمال السيئة من القتل وسفك الدماء، وتخريب الديار، وتحطيم المجتمعات لوجدتم أن غالبهم إن لم يكن كلهم من الذين فقدوا العطف والحنان في طفولتهم، فشعروا بالحقد على المجتمعات، فما إن كبروا وصار بأيديهم شيءٌ من القدرة على ذلك حتى حطموا ما استطاعوا، ولو نظرتم إلى الناس الذين أحدثوا آثاراً حميدة في الحياة، وأحسنوا إلى عباد الله ما استطاعوا، ونفعوا الخلق بما قدروا، لوجدتم أنهم جميعاً أو غالبهم من الذين تلقوا في طفولتهم ومطلع حياتهم تربيةً حسنة، ورعاية من أبويهم، أو ممن يقوم مقام الأبوين، فكم من يتيم -يتيم الأبوين أو يتيم الأب- ومع ذلك كان له من الأثر في التاريخ الشيء العظيم، لأنه لقي من يحسن إليه ويتعاهده بالرعاية في طفولته، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت أبوه وهو حملٌ في بطن أمه، ثم تموت أمه وهو صبيٌ صغير، فيقيض الله عز وجل عمه أبا طالب، فكان يعطف عليه ويقدمه حتى على أولاده.
فالمهم أن من وفق في طفولته للرعاية والحنان يصبح لهذا الأمر تأثيرٌ بليغٌ في شخصيته بعدما يكبر، ومن حرم من العطف والحنان، فإنه حين يكبر يصبح قاسياً غليظاً لا يشعر بالود ولا بالرحمة، هذا جانب في عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة، وهو جانب العطف والحنان والمحبة.(203/12)
المرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كزوجة
الأمر الذي يليه هو الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره زوجاً، أو معاملته عليه الصلاة والسلام لزوجاته.
وهذا الأمر يطول الكلام فيه، فكما في الصحيح من قول أبي هريرة فيما أظن، وخير هذه الأمة أكثرها نساء، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحكمةٍ ما تعددت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات عن تسع نسوة، وذلك أمر خاص به عليه الصلاة والسلام، أما غيره فلا يجوز له أن يزيد على أربع قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ولعل من أسرار هذا التعدد عنده صلى الله عليه وسلم أنه رسول للبشرية كلها منذ أن بعث وإلى قيام الساعة، فكان الناس بعده بحاجة إلى معرفة كل تصرف يفعله صلى الله عليه وسلم حتى في داخل البيت مع زوجاته، كيف يتوضأ صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يغتسل؟ وكيف ينام؟ بل كيف يكون مع أهله في الفراش؟ وهذه الأشياء كان لابد من عدد من النساء ينقلنها عنه صلى الله عليه وسلم.
أما الأمور الأخرى التي كانت خارج منزله صلى الله عليه وسلم فكان ينقلها عنه الجماهير الغفيرة من الصحابة رضي الله عنهم الذين يصحبونه في سفره وحضره، وينقلون عنه أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام، فكان وجود هذا العدد من النساء سبباً في معرفة هديه صلى الله عليه وسلم في منزله.
ومن العجيب أننا الآن وبعد مرور أربعة عشر قرناً على وفاته صلى الله عليه وسلم ما زلنا نعرف أدق التفاصيل عن حياته البيتية مما لا يعرفه الواحد منا عن جاره، أو أخيه، أو زميله في العمل، ولا يعرفه الأب عن ابنه، ولا يعرفه الابن عن أبيه، الابن لا يعرف كيف يقضي أبوه حياته في داخل غرفته الخاصة، أو في منزله الخاص، والأب لا يعرف هذا من ابنه، والصديق لا يعرفه من صديقه، لكننا نعرف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى تتم الأسوة والقدوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
وهديه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بمعاملته لأزواجه، وبالمناسبة فاستعمال كلمة أزواج للمرأة وهو جمع زوج والمرأة تسمى زوجاً والرجل أيضاً يسمى زوجاً، وهذا هو الأفصح وهو الذي ورد في القرآن الكريم، وأما تسمية المرأة زوجة فهي أيضاً فصيحة وصحيحة، ولكن تلك أفصح منها فيقال أزواج بمعنى زوجات، ففيما يتعلق بتعامله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه أيضاً أشير إلى ثلاثة جوانب:(203/13)
التأديب والتعليم
الجانب الآخر والأخير ولعله آخر المطاف هو أيضاً فيما يتعلق بمعاملته صلى الله عليه وسلم لزوجاته فيما يتعلق بتأديبهن وتعليمهن: فإن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه أمر واسع، وكما سبق أن المسلمين عرفوا كثيراً من السنة عن طريق أمهات المؤمنين، ولكن أكتفي بمثال واحد يتعلق بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم وتأديبه لأزواجه فيما يتعلق بالأحوال البيتية، ومعاملة الرجل لزوجه أو لزوجته، وهو حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما وهو في الصحيحين في قصة هجر النبي صلى الله عليه وسلم وإيلائه من نسائه، والحديث طويل وعجيب ولكن لا يتسع الوقت لسرده، إنما الشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر عليه نساؤه في طلب النفقة فآل النبي ألا يقربهن شهراً، وجلس في مشربه ليس له أي عيش، حتى شاع بين المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، وجلس المسلمون في المسجد يبكون لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، نعم بيت النبوة، كان يهم كل مسلم الحفاظ عليه، فالمسلمون رجال كبار يجلسون في المسجد يبكون ويسمع بكاءهم لأن الرسول أشيع أنه قد طلق نساءه، وجاء عمر مغضباً لأن بنته حفصة تحت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء غاضباً على حفصة ودخل عليها وقال لها: إنه كان يحذرها من هذا، لأنه كان يقول لها لا يغرنك أن تكون ضرتك -يعني عائشة - أجمل منك، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحذري أن يطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أردت فأنا أحضره لك، ولا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فجاء ينبهها إلى هذا الأمر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا، فكبر ثم خرج، فأخبر الناس، فكونه صلى الله عليه وسلم يهجر نساءه شهراً فهذا نوع من التأديب (هجر المرأة) وهو مشروع إذا دعت الحاجة إليه، لقول الله عز وجل: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنّ} [النساء:34] فهذا الأول والثاني: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] .
والثالث: {وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] وشأن الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوجاته شأن عجيب.
أيها الإخوة ولو جمعت الأخبار والأحاديث الصحيحة المتعلقة بمعاملته لأزواجه لكان فيها عبرة وأسوة وقدوة، ولكن لا يتسع المجال لأكثر من ذلك.
فيجب علينا معشر المسلمين والمسلمات أن نحرص على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به في كل أمورنا الخاصة والعامة، في البيت وخارج البيت، والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده محمد وأهله وأصحابه أجمعين.(203/14)
جانب الحب والمودة
أما الجانب الأول فهو: جانب الحب والمودة: وقد جعل الله تبارك وتعالى الزواج سكناً ورحمة ومودة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فالزواج سكن ومودة ورحمة وألفة.
ولذلك كان الزواج من سنن المرسلين فالله عز وجل ذكر عن المرسلين أنه جعل لهم أزواجاً وذرية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالزواج فقال في صحيح مسلم عن ابن مسعود: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} وهذا عام للذكر والأنثى فهو يصح أن يقال عن الفتاة كما يقال عن الشاب.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بالحب لأزواجه على تفاوت في ذلك، في الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية قِبَلْ نجد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله من أحب الناس إليك قال: عائشة، قال: فمن الرجال قال: أبوها} إلى آخر الحديث، فأولاً الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بالحب والمودة في قلبه لـ عائشة رضي الله عنها أكثر مما يشعر لغيرها من الناس، فهي أحب الناس إليه رضي الله عنها ثم إنه صلى الله عليه وسلم لا يستحي من هذا الأمر، أو يكتمه، أو يكنه، بل يعلنه ويعرب عنه ويقول لسائله: أحب الناس إليَّ عائشة، وكان حبه صلى الله عليه وسلم ل عائشة أمراً عجباً، وله في ذلك قصصٌ وأحداثٌ يطول المجال لو تعرضت لها، ومن أراد أن يراجعها فليراجعها، فكثير منها في الصحيحين والسنن وغيرها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، ولم يكن هذا الحب مقصوراً على عائشة، بل ورد في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت عن زينب بنت جحش: [[وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بدينها، أي أنها لم تدخل في الإفك، ولم تقل إلا خيراً]] ف زينب كانت تسامي عائشة وتنافسها سواء من حيث الجمال، أو من حيث المكانة عند الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك تجدون أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على زينب وكان رجال يتحدثون في مجلسه صلى الله عليه وسلم فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استبطأهم وهو ينتظر أن يخرجوا بعد أن أكلوا طعام الوليمة، فخرج عليه الصلاة والسلام ثم دار على نسائه كعادته فكان يقول: السلام عليكم، وكيف حالكم؟ ويسأل نساءه عن أحوالهن، ثم رجع فوجد هؤلاء الرجال لا يزالون جالسين فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً عرفوا أنهم أثقلوا عليه فقاموا مسرعين وخرجوا.
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب، والحديث أصله في صحيح مسلم.
فكونه يستبطئ جلوس هؤلاء الرجال، ويرغب أن يُتيحوا له الفرصة ليخلوا بزوجه، هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر وضع الله عز وجل في قلبه ما فيه المحبة لزوجاته، وجعل الزواج سكناً ومودة ورحمة له عليه الصلاة والسلام كما هو لسائر الأمة المحمدية، هذا من حيث المحبة.
ولاشك أنه عليه الصلاة والسلام يتفاوت حبه لأزواجه بعضهن عن بعض، ولذلك اشتهر حبه ل عائشة، وكذلك زينب كان يحبها صلى الله عليه وسلم، ولا يمنع هذا أن يكون حبه لبعض نسائه دون ذلك كما تدل عليه روايات كثيرة وهذا لا شيء فيه، فكان صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك} هذا قسمي فيما أملك أي من الأشياء التي بمقدور الإنسان أن يعدل فيها، فلا تؤاخذني أو فلا تلومني فيما تملك ولا أملك، وذلك هو الحب في القلب وما يترتب عليه، فهذا لا يمكن أن يوجد الإنسان في قلبه محبة لأحد ليست موجودة إلا أن يشاء الله، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] هذا من جانب.(203/15)
حسن المعاشرة
أما الجانب الثاني: هو حسن معاشرته صلى الله عليه وسلم لأزواجه.
بعض الرجال قد يوفق لامرأة يحبها لكنه يكون سيئ الخلق جاف الطبع، فتجد أنه يسيء إليها ويسبها، ويظلمها، وربما يطلقها في ساعة غضب ثم تضيق عليه الأرض بما رحبت لأنه يحبها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين محبته لزوجاته عليه الصلاة والسلام وحسن العشرة، وانظر إلى هذه النماذج من حسن العشرة.
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: {كنت ألعب بالبنات} أي: تضع لها لعباً من البنات بيدها وهي لعبة بدائية بسيطة وليست كاللعبة الموجودة اليوم وبها تقاسيم وصور، كأنها حقيقية، بل ربما تكون أجمل أحيانا من الصورة الحقيقية، صور بدائية بسيطة تصنعها بيدها فتقول: {ومعي بعض النسوة وبعض الفتيات الصغيرات، فإذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجن فإذا خرج دخلن} فتيات صغيرات يخجلن من الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا دخل البيت خرجن وإذا خرج من البيت دخلن، يلعبن مع عائشة بالبنات.
وأعجب من ذلك الرواية التي رواها أبو داود عنها وهي عجب من العجب بعدما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك تقول عائشة رضي الله عنها: {كنت قد وضعت بناتي، التي كنت ألعب بهن في كوة، أي نافذة في الجدار وعليها الستار فجاءت الريح فحركت الستر فرأى النبي صلى الله عليه وسلم البنات فقال: ما هؤلاء البنات يا عائشة؟ قلت: هؤلاء بناتي، ثم وجد بينهن فرس أيضاً مصنوعة بنفس الطريقة -طريقة بدائية بسيطة وموضوع لهذا الفرس أجنحة من رقاع- فقال: ما هذه الفرس! فرس له أجنحة؟! فقالت عائشة رضي الله عنها: أما سمعت أن لسليمان عليه السلام فرساً لها أجنحة، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم} وأنتم تعلمون أنه عقد عليها عليه الصلاة والسلام وعمرها ست سنين ودخل بها وعمرها تسع سنين وهذا هو الصحيح.
فلذلك كانت تعمل هذه الأشياء التي تتناسب مع سنها رضي الله عنها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك فيعاملها بهذه المعاملة كما سمعتم، ولذلك قالت هي أيضاً كما في الصحيح لما ذكرت نظرها إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، وأنها وضعت خدها على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسترها من الناس وهي تنظر إليهم يلعبون حتى ملت، فلم يضيق عليها رسول الله صلى لله عليه وسلم أو يقول يكفي، تركها على رسلها حتى إذا اكتفت من النظر إليهم أومأت، قال اكتفيت قالت نعم، فانصرفت رضي الله عنها، فكانت تقول فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، أي أن الرسول عليه والصلاة والسلام كان يعاملها بهذه المعاملة لحداثة سنها، ولا شك أن المرأة حين تكبر لا تقوم بمثل هذه الأعمال أصلاً لا عائشة رضي الله عنها ولا غيرها من أزواجه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الجانب الواقعي في شأن المرأة، يروي النسائي في سننه عن أنس: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت عائشة، وكان عنده بعض الضيوف فأرسلت إحدى أزواجه -وهي أم سلمة - بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأت عائشة الطعام في الصحفة يأتي إلى بيتها غارت وغضبت وجاءت بفهر -وهو الصخرة أو الحصاة بقدر اليد- فضربت هذه الصحفة حتى وقعت وانكسرت، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: غارت أمكم، ثم أخذ الصحفة وأضاف الكسرتين إلى بعضها ووضع عليهما الطعام وقال: كلوا فأكل الضيوف، ثم جاء الطعام بعد ذلك فرد النبي صلى الله عليه وسلم الصحفة السليمة إلى أم سلمة التي أرسلت بالطعام، وجعل الصحفة المنكسرة لـ عائشة رضي الله عنها وقال طعام بطعام وإناء بإناء} والمقصود هاهنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام يتحمل ما قد يصدر من المرأة بحكم طبيعتها، فالغيرة أمر طبيعي عند المرأة، ولا يمكن أن يُتجاهل، والإنسان حين يتعامل مع المرأة، يجب أن يدرك ويقدر الفطرة والطبيعة التي فطرها الله تبارك وتعالى عليها؛ لئلا يقع فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام حين قال في الحديث الصحيح: {إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرتها، وكسرها طلاقها} .(203/16)
الأسئلة
الأسئلة:(203/17)
صوت المرأة
السؤال
ما حكم صوت المرأة مقارنة بمناداة زينب رضي الله عنها الناس وهم أجانب؟
الجواب
صوت المرأة ورد في أحاديث أنه عورة، لكن هذه الأحاديث فيها مقال، والصحيح أن صوت المرأة ليس بعورة، ويجوز للمرأة أن تتحدث للحاجة سواء حديثاً مباشراً أم بواسطة الهاتف أم غيره إذا كانت تتحدث لحاجة أو مصلحة كما يقع -مثلاً- في بعض المسئولات عن بعض الأعمال والدوائر وغيرها، أو كما يقع للاستفتاء والسؤال، أو للتعليم، أو لما أشبه ذلك، أو السلام أيضاً على بعض الأقارب والمعارف والجيران.(203/18)
دور المسلمة في الدعوة إلى الله
السؤال
ما هو دور المرأة المسلمة وواجبها في الدعوة إلى الله عز وجل نحو زميلاتها في المدرسة؟
الجواب
دور المرأة المسلمة في ذلك دور عظيم، وعلى عاتقها مهمة كبرى، وذلك لأن مجتمع النساء في بلادنا ولله الحمد مجتمع مغلق في الجملة عن الرجال، فالمرأة تستطيع أن تؤثر في بنات جنسها، أما الرجال فتأثيرهم في أوساط النساء قد يكون قليلاً لأسباب كثيرة، فالمرأة أبلغ في التأثير على بنات جنسها، ولذلك فمسئولياتها كبيرة، ويجب على كل فتاة تشعر بأنها تستطيع أن تقدم خيراً لأخواتها، العمل على النصيحة والإرشاد، ونشر الكتب المفيدة، وكذلك الأشرطة والمحاضرات المفيدة، وترتيب الأنشطة بين النساء في الأماكن التي يجتمعن فيها، والتي يكون فيها تقوية لإيمانهن، وتحذير من الأخطاء والفتن المحدقة بهن، وهذا الواجب يحتاج إلى أن يتصدى له بعض المؤمنات اللاتي عرفن واجبهن نظراً لغلبة الجهل على كثير من النساء والمتعلمات أيضاً، كثير منهن ليس لديها الشعور بواجب الدعوة، وهذا يضاعف من المسئولية على كل فتاة تشعر بأنها تستطيع أن تدعوا إلى الله أو تصلح ولو بعض الإصلاح.(203/19)
التطيب والخروج، ودخول المسجد للحائض
السؤال
بعض النساء تحضر إلى هذه المحاضرة وقد تلبست بالعطر والبخور ونحو ذلك، وبعضهن عليها الحيض أي العادة الشهرية وتتوقع أن هذا الموقع أنه منحاز عن المسجد أو منفصل عنه؟
الجواب
أما فيما يتعلق بالحائض فلا يجوز لها دخول المسجد كما في حديث أم عطية: {وأمر الحيّض أن يعتزلن مصلى المسلمين} فدخول الحائض في المسجد لا يجوز، ولا شك أن المكان الذي تجتمع فيه النساء في هذا المكان يعد جزءاً من المسجد، أما خروج المرأة متطيبة ومتعطرة للمسجد فهو لا يجوز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وغيره أنه قال: {وإن خرجت على قوم فمرت عليهم فوجدوا ريحها فهي كذا وكذا} أي: زانية، والحديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: {وليخرجن وهن تفلات} أي: بعيدات عن التجمل والتطيب والتزين، والمرأة المسلمة حضرت لتسمع الموعظة، والذكر، والقرآن، وكلام الله عز وجل، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام المؤلفين والعلماء والمصنفين، ومثل هذا المكان ينبغي الاستعداد له بتفريغ الخاطر، والانتباه، والإنصات، والسؤال عما يشكل وما أشبه ذلك، وأيضاً نقل هذا العلم للآخرين، ونشره بينهم، وحثهم على المشاركة فيه، أما التزين والتطيب والتجمل فلا يناسب هذا المقام، بل لا يناسب خروج المرأة أصلاً.
فالمرأة إذا لم يجز لها أن تتطيب لخروجها إلى المسجد فإن يكون ذلك محرم عليها إذا خرجت لغيره من باب أولى، اللهم إلا لو كان خروجها إلى مجتمع نسائي بحت لا تمر من عند رجال ولا تقترب منهم ولا يكون ريحها يصل إليهم.(203/20)
آلة اللهو وحكمها في البيت
السؤال
إذا كان لدى الابن آلة لهو كالفيديو -مثلاً- ونحو ذلك ويُخاف إن قام أحدٌ بتكسيره أو إخفائه أو منعه يصاب هذا الابن بحالة نفسية؟
الجواب
الأصل أن الأب هو القيم على البيت -السائلة أمه- وهي التي تخاف هنا، ولكن أيضاً يُسأل عن دور الأب فإذا كان الأب، موجوداً فيجب أن يقوم هو بهذا العمل، لكن لنفترض أن الأب غير موجود متوفى -مثلاً- أو في حكم المتوفى، ومن هو الذي في حكم المتوفى الأب المنشغل عن بيته الذي لا يهمه ما يكون في البيت وماذا يقع، إما لضعف شخصيته، أو لانشغاله في التجارة وغيرها، أو لانشغاله مع الأصحاب الذين يقضي وقته في اللهو واللعب معهم، أو لأن الأب نفسه غير مستقيم ولا يمانع من وجود مثل هذه الأشياء، فهنا يأتي دور الأم، وعلى الأم أن تقاوم، وتدرك أنها مسئولة حينئذٍ عن إخراج هذه الأجهزة من البيت وإبعادها وحماية الأطفال منها، وجود هذه الأجهزة في البيت هو ضار بالابن الذي أحضرها، ولكن ضررها أيضاً يتعدى إلى بقية من في البيت من الأبناء والبنات الآخرين وسواهم، ممن قد لا يكون لهم تعلق -أصلاً- بوجود هذا الجهاز، لكن حين وجد بدأ تعلقهم فأثر فيهم تأثيراً سيئاً، ولم يقتصر على الشخص أو الفرد الذي أحضره، فلا بد من إخراجه والبحث عن الوسيلة المناسبة التي تضمن خروج هذا الجهاز، مع محاولة ألا يسخط الابن، ولكن لو حصل سخطه وانفعاله، فأيضاً لابد في مثل هذه الحالة، من إخراج هذا الجهاز والتخلص منه.(203/21)
منهج تربية الطفل
السؤال
ما هو المنهج الأفضل الذي ينبغي على الأم أن تسلكه في تربية أولادها؟
الجواب
المنهج الأفضل للتربية الحديثة فيه يحتاج إلى أن يخصص الإخوة القائمون على هذه المحاضرات -جزاهم الله خيراً - حلقة خاصة يُتحدث فيها عن موضوع التربية، إنما يمكن أن أشير إلى بعض النقاط السريعة فمن ذلك: أولاً: من المهم في تربية الطفل مراعاة ما سبق من إشباعه بالحنان والعاطفة، وهذا أمر يحتاج إليه كثيراً في سن الطفولة، ولهذا نجد الآن أن كثيراً من الأمهات يعزفن عن إرضاع أطفالهن ويلجأن إلى الرضاعة الصناعية، وهذا له أثر سلبي على الطفل -كما ذكر ذلك علماء التربية وغيرهم- لأن الطفل يتلقى مع لبن الأم يتلقى الحنان والعاطفة والمودة وينشأ على ذلك، فهذه قضيه مهمة أن تحرص الأم على أن تغذي ابنها بالعطف والحنان، بعض النساء تذكر أنها لا تُقبل أبناءها وأطفالها، ولا تقربهم ولا تضمهم إليها، وربما تنتقد من يفعل ذلك، وهذه يشبه حالها حال الأقرع بن حابس الذي ورد ذكره في الحديث السابق والذي استغرب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبل بعض ولده.
الأمر الثاني: أن على الأم ألا تعود الطفل كثرة الصراخ والضجيج والتعنيف، فأكثر أمهات اليوم أسلوبها في التربية أسلوب الصراخ، فتجد أن الطفل، بطبيعته من غير الممكن أن يجلس في زاوية ويضع كفيه على ركبتيه ويسكت! هذا لا يمكن.
ما خلق هكذا، خلق فعالاً متحركاً فتجد أنه يريد أن يذهب ويأتي، ويعمل، ويتحرك، ويلعب، ويتكلم، وقد يفسد ويخرب بعض الأشياء وهذه أشياء طبيعية، لكن معالجة هذه الأشياء يجب أن تكون بصورة هادئة ومقدر فيها وضع الطفل وطبيعته، بحيث يعوّد على أن هناك أشياء لا يصلح أن يفعلها، ويكون معه حزم في هذا الجانب، ويعطى فرصة في أشياء معينة، فإذا وقع منه خطأ يبين له أن هذا خطأ، وإذا أريد عقابه يعاقب بالتوبيخ الهادئ، يعاقب بالحرمان من بعض الأشياء، بدلاً من أن كنت تعطيه شيئاً أحرمه من هذا الشيء، لأنك فعلت كذا وكذا، يثاب أيضاً، لا يكتفى بالعقاب، بل يثاب فيعطى بعض الأشياء التي تشجعه على بعض الأمور فإذا فعل أمراً حسناً يجد من أهله الفرح بهذا الأمر والتشجيع سواء بالكلام، أو بالفعل، ويعطي بعض الأشياء التي تجعله يكرر مثل هذا الفعل، إذا صدر من الطفل تصرف غير صحيح وهو مضحك فعلى الأم وكذلك الأب أن يتجنبوا أن يضحكوا للطفل في مثل هذه الحالة، لأن الطفل يفهم أن الضحك يعني سرور الوالدين بهذا التصرف.
على سبيل المثال قد يكون الطفل لا يزال يتعلم النطق بالحروف، فقد يقول كلمة نابية أو شتيمة فيفرح الوالدين بها لأنها تدل على أن الطفل بدأ يتكلم فيضحكون، فالطفل يتعود من ذلك أن هذا أمر حسن ويكرره بعد هذا، فلذلك إذا صدر من الطفل تصرف غير صحيح وهو مثار ضحك فينبغي للوالدين ألا يضحكا أمام الطفل، لأنه سيفهم من ذلك الموافقة على هذا والإعجاب به.
كذلك على الأم أن تحرص على تلقين أطفالها المبادئ البسيطة من الشهادتين، وحب الله تبارك وتعالى ومحبة الوالدين، وتجنب الكلام السيئ، والجنة، والنار، وما أشبه ذلك، فهذه الأمور إذا وجدت مع الطفل منذ نعومة أظافره فإنها تستقر بإذن الله في قلبه، ثم كلما كبر احتاج إلى وسائل جديدة في التربية، وإلى تضافر الجهود من الوالدين في ذلك، وكما ذكرت أن موضوع التربية الحديثة فيه يطول، إنما هذه بعض اللمحات السريعة.(203/22)
حول متابعة الأزياء
السؤال
سيدة تقول: يرجى التوجيه حول متابعة المرأة لأحداث الموديلات والأزياء، وما هو وجه التقويم في مثل هذا؟
الجواب
هذا سبق الإشارة العابرة إليه، وذلك أن اليهود أيها الإخوة والأخوات يحرصون على أشياء منها أمران مهمان عندهم: الأمر الأول: نهب أموال الناس وخيرات البلاد.
والأمر الثاني، بل يجب أن يكون هو الأول، إفساد أخلاق الأمم وعقائدها وأديانها، ولذلك لجأوا إلى وسائل كثيرة، منها أنهم أوجدوا لهم دوراً ومحلات خاصة في فرنسا وغيرها لتصدير الأزياء والموضات وغيرها، فهم يصدرونها إلى أنحاء العالم، وكل يوم يخرجون بجديد ولا يمنع أن يساعدهم في ذلك بعض الأمميين من غير اليهود الذين أصبحوا ألعوبة في يد اليهود، ومن الأمر العجيب جداً والذي تلاحظه الأخوات المسلمات بوضوح أن هذه الأزياء التي تصدر للعالم تصبح كأنها أمر حسم، وحزم، وحتم لا يسع الفتاة أن تخالفها، فسرعان ما ينتشر انتشار النار في الهشيم فيصبح هو موضة العصر أو الوقت، وتتوارثه البنات بعضهن عن بعض، ويتناقلنه حتى تصبح الفتاة التي تخرج عن هذا التقليد وتخالفه مثار سخرية من زميلاتها أحياناً دون أن يعلم هؤلاء النسوة المسكينات أنهن وقعن فريسة للتضليل اليهودي والخداع، وأن هذا الأمر يقصد من ورائه أمور: أولاً: تحطيم الأخلاق، لأن الموضات تختلف، فأحياناً لا يمنع أنهم يأتون بموضات طويلة، أي: ثوب يسحب في الأرض، المرأة المقلدة لا مانع لديها أن تلبس ثوباً يسحب في الأرض ما دام أنه موضة جاءت من البلاد الأوروبية، لكن حين يكون هذا أمر من عند الله، أو من عند الرسول صلى الله عليه وسلم نجد الكثير من المسلمات تمتنع عن هذا الأمر، وإن كان الكثير منهن يمتثلن أيضاً والحمد لله، وهذا أمر طيب ولا بد من التنويه به، لكن هذه الموضة يمكن أن تكون في وقت آخر ثياباً فاضحة ويتعمد اليهود أن يعرضوها في صور نسوة جميلات، وفي صور مغنيات وممثلات، يأخذن جولات حتى على البلاد الإسلامية، ويعرضن رقصات وغيرها في أجهزة الإعلام، فيشاهد الرجال والنساء هذه الأشياء ويتلقونها وينفذونها.
فهناك خطر على الأخلاق والأديان أولاً وهناك خطر على الأموال ثانياً، ولا شك أن خطر الأموال لا يقاس بخطر فساد الدين وفساد الخلق، ولكنه أيضاً خطر وارد وواقع.(203/23)