المؤسسة الدينية
العائق الخامس: هو ما يمكن أن أسميه -تجوزاً- بالمؤسسة الدينية أو الإسلامية.
وأعني بذلك أهل الخير أنفسهم, وهل يمكن أن يكون أهل الخير عقبة في طريق الالتزام بالإسلام، وهم الذين بذلوا أنفسهم وجهودهم وأوقاتهم في سبيل الإسلام؟ لا شك أن أهل الخير قد بذلوا جهودهم وأوقاتهم وأنفسهم في سبيل الإسلام, أو كثير منهم كذلك.
وقد أشرت في بداية حديثي إلى أن الصحوة التي يعيشها المسلمون اليوم؛ هي في الغالب أثر من آثار جهود هؤلاء الخيرين, لكن مع ذلك كما قيل: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وحين يتحدث الإنسان عن أهل الخير؛ فإنما هو من باب الحرص على الكمال, عملاً بقول الشاعر: ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فأقول: ما يتعلق بالمؤسسة الإسلامية أو الدينية، وأنها تتحمل مسئولية في ضعف التزام بعض الناس بالإسلام, أو عدم التزامه بالإسلام، أشير في ذلك إلى عدة جوانب:(126/18)
الجانب الثالث: ما يتعلق بالقضاء على الشخصية
بعض مجتمعات الشباب قد يكون فيها نوع من القضاء على الشخصية، يشعر الشاب بأن شخصيته تصهر وتذاب في وسط إخوانه, ليس له شخصيه إذا قدم رأياً أو تحدث بخبر؛ أو سأل عن شيء؛ يقال له: من الذي سألك عن هذا الرأي؟! ونحن أعلم بهذا الأمر.
فيشعر الشاب بأنه لا يستطيع أن يحقق ذاته في وسط هؤلاء القوم الطيبين, إما أن يتخلى عن شخصيته وإما أن يتخلى عنهم.
وحينئذٍ ينقسم الشباب في مثل هذه الحالة إلى فئات: 1- منهم من يكون إنساناً ذا مواهب وذكاء وعنده قدرات، فيترك هذه البيئة وقد ينحرف, ولا يجد القرناء الطيبين، وقد يسيء الظن بهم, وهذا يحصل.
2- وقد يكون الشاب ضعيف الشخصية تابعاً مقلداً؛ فيستمر معهم, لكن لو تغير عليه الشخص الذي يحتك به, كأن يكون انتقل إلى بلد آخر أو حي آخر أو مكان آخر، وتعرف على أناس آخرين وتغير عليه أصدقاؤه؛ فإنه قد ينحرف ولا يستطيع أن يعيش مع هؤلاء الأصدقاء الجدد, حتى لو لم ينحرف فإنه قد يتمسك بهذا الشخص أو بهؤلاء الأشخاص أكثر مما يتمسك بالمبدأ؛ وهو الدين الذي اجتمعوا عليه, ويصبح عنده نوع من التقليد والتبعية تمنعه من نقد الأخطاء، ونقد الأخطاء لا بد منه.
فينبغي أن يكون للشاب قيمته ومكانته في المجتمع الصغير الذي يعيش فيه, له رأيه وله مشاركته وله احترامه وتقديره.
كذلك يلاحظ أن الشاب الذي يدخل مع زملاء طيبين؛ قد يشعر أنه لا بد أن يدفع ضريبة قوية حتى يستمر معهم, مثلاً: لا بد أن يشارك في كل النشاطات، ولا بد أن يحضر محاضرات، ولا بد أن يحفظ شيئاً من القرآن، ولا بد أن يحضر الدروس العلمية، وهو غير مؤهل لذلك ولا يرغب في ذلك، وقد يكون جاء من بيئات منحرفة تماماً, فيشعر أن هذه ضريبة باهظة لا يستطيع أن يؤديها, وبالتالي يبحث عن أناس آخرين.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطي كل إنسان بحسبه, والناس مثل الآنية، منها إناء كبير يسع كثيراً من الماء، ومنها إناء صغير، فأنت تعطي كل إنسان بحسبه, ولذلك في الصحيحين، {يأتي رجل فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والصوم والحج، فإذا انتهى منها قال: هل عليَّ غيرها؟! قال: لا, فيقول بعدها: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق} .
ينبغي أن يوجد مكان في أوساط الطيبين والصالحين، حتى لمن يريد أن يلتزم فقط بشعائر الإسلام, بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج, ويبتعد عن المحرمات.
وحين أقول هذا عما يتعلق بالدعاة وطلاب العلم والطيبين؛ فإن هذه الأشياء هي قطرة مغمورة في بحر حسناتهم, وهم على ما هم عليه خير الناس وخير القبائل, ولكن هذا لا يمنع من وجود أخطاء، ولا يمنع من الحديث عنها لتعديلها.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والثبات، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(126/19)
الجانب الثاني: ما يتعلق بالقرناء الصالحين
ما يتعلق بالقرناء الصالحين، وهؤلاء القرناء هم البيئة التي يعتمد عليها -بعد الله عز وجل- في إنقاذ الشباب من البيئات المنحرفة، وإيجاد محضن صالح لتربيتهم, لكن ينبغي الحذر من تسلل بعض الأمراض أو بعض الأوضاع التي لا تتناسب مع هؤلاء الشباب: مثلاً: أحياناً يشعر الشاب حين يدخل مع قوم طيبين صالحين؛ أنه في جوٍ مليء بالوقار والسمت والهيبة، والبعد عن كل ما يمت إلى التبسط والمزاح بصلة.
ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير التبسم، ومن الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان هناك رجل يقال له زاهر، أعرابي في البادية, فكان هذا الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالهدايا، فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ويزوده مثلها, وكان رجلاً دميم الخلقة؛ فيأتيه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام وهو في السوق، فيأتيه من خلفه ويضمه إليه ويقول: {من يشتري العبد؟ -على سبيل الممازحة- فلما التفت ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذاً تجدني كاسداًَ يا رسول الله.
قال: لكنك عند الله لست بكاسد} والحديث رواه الترمذي في الشمائل وغيره، وهو حديث صحيح.
وكان الرسول يقول لـ أنس بن مالك: {يا ذا الأذنين} على سبيل الممازحة, وهذا في أبي داود والترمذي وهو صحيح أيضاً, كل إنسان له أذنان، ولكنه يخاطب أنساً بهذا ممازحة ومباسطة له.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب أبا عمير , وهو أخو أنس بن مالك لأمه, وكان له عصفور اسمه (النغر) أو (النغير) , فمات هذا العصفور, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح هذا الطفل الصغير ويقول له: {يا أبا عمير ما فعل النغير؟ فيقول: مات يا رسول الله} .
ومزاح الرسول صلى الله عليه وسلم كثير في هذا الباب، ما كان عليه الصلاة والسلام يتعمد الهيبة, ولا يتكلف التوقر.
فلا بد أن تكون الأجواء فيها قدر من السعة والمرونة، وفرصة للشاب أن يتحرك يميناً وشمالاً، ويعبر عن بعض الأشياء الموجودة في نفسه, هذا لا بد أن يراعى.(126/20)
الجانب الأول: مخاطبة المجتمع كله بالإسلام
إن كثيراً من طلاب العلم والدعاة قصروا حديثهم وخطابهم على طبقة المتدينين والملتزمين بالإسلام, هذا هو الغالب, وذلك من خلال وسائل معينة، كمحاضرة، أو ندوة، أو كلمة، أو برنامج، أو كتاب إلى آخره.
لكن في حالات قليلة يخاطبون غير الملتزمين بالإسلام, والواجب أن يتحرك الدعاة لمخاطبة المجتمع كله بالإسلام, ودعوة غير الملتزمين إلى الالتزام الإسلام، بالوسائل المناسبة، من خلال الاحتكاك والمخالطة والاتصال والدعوة، وغشيان الأماكن التي يتواجدون فيها، واستخدام الوسائل التي يمكن الوصول إليهم عن طريقها ما لم تكن محرمة, فإن الإنسان لا يجوز له أن يغشى المحرم بحال من الأحوال.
ولذلك تجد كثيراً من الناس يعيشون في عالم آخر وهم في نفس المجتمع! لا يدرون ماذا يجري في المجتمع, فكثير من الطيبين لا يدرون ماذا يجري في مجتمعات المنحرفين، فهم في عزلة عنهم, والعكس بالعكس, كثير من المنحرفين لا يدرون ما عند الطيبين, وربما ردوا بضاعتهم قبل أن يعرفوها أو يتعرفوا عليها.
فينبغي أن نقيم الجسور مع هؤلاء الناس؛ بهدف إصلاحهم واستصلاحهم ودعوتهم إلى الله عز وجل, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يغشى نوادي قريش ومحافلهم، ويدعوهم إلى الله عز وجل, كلنا نعلم أنه كان يأتي إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز، ويغشى منازل الناس بمنى ومزدلفة وغيرها، في مواسم الحجيج, ويقول لهم: {يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} والناس ينظرون إليه ويقلبون رءوسهم وأبصارهم؛ حتى قيض الله له من سمع وأجاب.
فينبغي ألا تدوم هذه العزلة بين الطيبين وبقية طبقات المجتمع, وقد يقول بعض الإخوة: فأين الولاء والبراء؟! فأقول: نعم الولاء والبراء هو مع الكافرين بالدرجة الأولى, وحتى الكافر تدعوه إلى الله عز وجل بالأسلوب المناسب، وتجب دعوته إن استطعت إلى ذلك سبيلاً, فإذا علمت إصراره وعناده فحينئذٍ تتبرأ منه.
وأما الإنسان المسلم المنحرف؛ فإن الواجب في حقه أن يدعى إلى الله عز وجل, ويسعى إلى إصلاحه بالوسائل المناسبة؛ لأنه لا يمكن أن تتوقع أن هذا المنحرف يصلح بمجرد ما تقول له: يا فلان إن ما تصنعه حرام, قد يعرف أنه حرام لكن عنده عوائق وعقبات -كما ذكرنا- تحتاج إلى إنسان يتدرج معه حتى يزيل هذه العقبات, فإذا علمت أن هذا الإنسان مصر ومستهزئ؛ فحينئذٍ تتركه وتهجره، وتتخذ طريقاً غير طريقه وتتبرأ منه.(126/21)
الأسئلة(126/22)
الافتتان بالصور الجميلة
السؤال
أنا شاب ملتزم -ولله الحمد- ولكنني مبتلى بحب الصور الجميلة، فنفسي تتحرك عند رؤية تلك الصور, أرجو منك يا شيخ أن توبخني وتلومني وتنصحني، وتبين لي طريق الخلاص من هذه المشكلة؟
الجواب
مسألة الابتلاء بالصور وعشق الصور, لا شك أنه مرض في القلب خطير, ويُخشى على الإنسان منه, لأن الإنسان قد يتعامل مع الصور لكن لا يتعلق بها, فإذا حصل التعلق فحينئذٍ ينتقل المرض إلى القلب, كإنسان كان فيه مرض في ناحية من نواحي جسمه ثم انتقل هذا المرض إلى القلب, فحينئذٍ الخطب أشد.
ولذلك أوبخك بأن أقول لك: يجب أن تعلم أن الشيطان الآن يقاتلك في أخطر منطقة منك وهي القلب, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .
فينبغي أن تستدرك الأمر، وتستنفر كل ما تستطيع من طاقات وقوات في مطاردة الشيطان من قلبك, ودفعه عنك, وذلك بأمور: الأول: كثرة القراءة عن الجنة وما أعد الله لأهلها فيها, لأن في الجنة من الجمال والجلال والكمال ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويكفي قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فالنظر إلى وجه الله الكريم هو أعظم نعيم ينعم الإنسان به في الجنة.
الثاني: عليك أن تعتزل هذه الصور، وتبتعد عن الأماكن التي توجد فيها قدر ما تستطيع، ولا تنظر إليها, حتى تكون عالجت الداء من أصله, لأنك إذا نظرت إلى الصورة قد تتعلق بها, لكن إذا لم تنظر تكون حسمت الداء من أصله, ولذلك كان بعض الشعراء يقول: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فيقع للإنسان الحسرة بفوات ما فاته من هذه الصور الجميلة, مع أنه لا يستطيع أن يصل إليها مهما كان, حتى الفاجر لا يستطيع أن يصل إليها.
الثالث: أن تدافع هذا الشعور في نفسك، بالذكر والاستغفار والتسبيح والتهليل وغير ذلك, فإن الإنسان إذا أكثر من هذه الأمور تعلق قلبه بها، وأصبح ينافس فيها حتى تصبح هي همه وديدنه.
ولعل هذه من العقبات والعوائق النفسية التي أشرت إليها في العقبة الأولى, فهذا أيضاً يصلح نموذجاً ومثالاً له.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(126/23)
دور المرأة في تغلب الزوج على العقبات
السؤال
ما هو دور المرأة الصالحة في إعانة زوجها للتغلب على العقبات الاجتماعية؟
الجواب
الحقيقة أن دور الزوجة كبير, لأن الرجل الذي يجاهد في ميدان الحياة، ويجد المشكلات في المجتمع؛ يحتاج إلى سكن يأوي إليه, فإذا خرج الرجل للمجتمع وجد مشكلات, وإذا رجع وجد مشكلات, أصبح يصطلي بنارين, وهذا وضع قد لا يستمر, فهو يحتاج أن يكون البيت سكناً يأوي إليه, فيجد فيه الأنس والمودة والرحمة والتنفيس.
ولله در خديجة رضي الله عنها، كم بذلت في سبيل إسعاد الرسول صلى الله عليه وسلم, ودفع الهموم عنه, وتطييب خاطره, وكفى بموقفها حين نزول الوحي, حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {زملوني، زملوني، دثروني} فتقول له: أبشر! هو في حالة خوف وهي تقول له: أبشر! فوالله لا يخزيك الله أبداً, إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
كما في حديث عائشة في صحيح البخاري وغيره.
أما إن كان السؤال عن بعض العقبات الاجتماعية، أي بعض الأشياء الموجودة في المجتمع والتي تخالف الإسلام؛ فإن وجود الزوج مع الزوجة وهما متفقان على القضاء على هذه العقبات يسهل الطريق، لأن معنى ذلك أننا أوجدنا بيتاً مسلماً يريد أن يقوم على أساس الإسلام, ويريد أن يطبق أخلاق الإسلام وعادات المسلمين, وينشر هذه الأشياء في خارجه من البيئات والبيوت الأخرى.(126/24)
تيسير أمور الزواج
السؤال
نريد من فضيلة الشيخ إلقاء كلمة إلى أولياء أمور الشباب والنساء؛ لتيسير أمور الزواج، جزاك الله خيراً؟
الجواب
مثل هذا الموضوع وهو موضوع تيسير أمور الزواج، لا شك أنه موضوع خطير, وله تأثير كبير في المجتمع, وذلك لأن كل شاب وفتاة ركب الله فيهم بحكمته هذه الغريزة، التي لا بد لها من إشباع, فإذا سد أمامها طريق الحلال ربما تتجه إلى طريق الحرام، خاصة عند من لا يخاف الله.
وكثير من الشباب المنحرفين لو وجدوا الطريقة الصحيحة لإشباع هذه الغرائز ما لجئوا للحرام, لكن وجدوا الصعوبات، صعوبات مالية، ولا بد من سن معين بعد التخرج، وبيت واستعدادات وتكاليف، وهذا الشاب ربما لو جمع كل ما يستطيع؛ ما قام هذا الذي يجمعه بتكاليف قصر الأفراح في ليلة الزواج, فما بالك بما سوى ذلك من التكاليف؟! فيجب أن نعلم جميعاً؛ أننا بتيسير أمور الزواج نفتح طريقاً للصلاح للجنسين, ونسد باباً من أبواب الشيطان, ولكن -أيضاً- ليست كلمة في هذا المجال بكافية, لأن المجتمع الآن -وهذا مثال لما ذكرته قبل قليل من ضغط المجتمع- أصبح يتنافس على المغالاة في هذه الأشياء، ويتحدث أن فلاناً ابن فلان في ليلة الزواج دفع سبعين ألفاً أو مائة ألف, وفلان دفع كذا وكذا مهراً: وفلان تكلف كذا وكذا.
وأصبحت النساء ذوات تأثير في مثل هذه القرارات.
فالمجتمع كله يسير في هذا الاتجاه.
فنحن لسنا بحاجة إلى كلمات توجيهية, نحن بحاجة إلى واقع عملي وتطبيق وقدوة، فالقدوة تعادل عشرات الكلمات والكتب, لو أن بعض الصالحين المتحمسين لهذا الأمر زوجوا بناتهم بأثمان أو مهور يسيرة ورمزية, وتركنا الناس يتحدثون، فلا مانع من نشرها، على سبيل القدوة لا على سبيل الرياء, اجعل المجتمع بدلاً من أن يتحدث أن فلاناً دفع مائة ألف في ليلة أو ليلتين, اجعل المجتمع يتحدث أن فلاناً زوج بنته بعشرين أو عشرة ريالات, فإن الناس يتحدثون في القضايا التي تكون غير عادية.
وقد سمعت أحد المشايخ الكبار يقول: إنه جاءه رجل ليعقد لشاب على بنته, قال: ولما سألتهم كم المهر حتى أسجله في الورقة؟ قال: بريال واحد, قال: فقلت له: أنا لا يمكن أن أكذب -لأنه جرت عادة الناس في مجتمعنا أنهم يعطون مهراً رمزياً في الورقة لكن الواقع خلافه، أي يقول: بخمسة ريالات، والواقع أنه بخمسين ألف أو مائة ألف- فقال له هذا الشيخ: أنا لا يمكن أن أكتب إلا الواقع والحق.
فقال له هذا الرجل: هذا هو الواقع والحق, وهذا هو الزوج أمامك، إنني لم آخذ منه إلا ريالاً واحدا ًفقط, وإنني مستعد بتحمل جميع النفقات المتعلقة بهم, مثل هذه القصة يتحدث عنها الناس؛ لأنها غريبة.
فلو أن عشرة أو عشرين في بلد كالرياض -مثلاً- سلكوا هذا الطريق، لتحدث الناس عن ذلك وأعجبوا به؛ لأن كل فرد من الناس قد تضايق من هذه التبعات الثقيلة، والتكاليف العظيمة.(126/25)
الزوجة التي لا تلتزم بالشرع
السؤال
أنا شاب ملتزم ولكن زوجتي عكس ذلك, فهي تلبس الملابس الضيقة، وتتشبه بالكافرات في بعض ملابسها, وتشاهد التلفاز، وحاولت إقناعها والتوضيح لها بسوء فعلها, ولكن لا فائدة, فما نصيحتكم؟ فإنني في حرج، وقد شكوت لعدد من أصحابي ووجدت أنهم يقعون فيما أنا واقع، فهل أطلقها، علماً أن حالتي المادية لا تسمح لي بالزواج مرة أخرى فما نصيحتكم؟
الجواب
أولاً: هذا يذكرنا بضرورة البحث عن القرينة الصالحة حين يهم الإنسان بالزواج, فإن الزواج شركة حياة, ليست رفقة سفر تنتهي في أيام أو ليالٍ, بل هي رفقة عمر، بل هي حتى في الآخرة فالمؤمنون يلتقون في الجنة, ونتائج هذه الشركة الأولاد الذي هم فلذة كبد الإنسان, فعلى الشاب -حين يريد الزواج- أن يبحث عن القرينة الصالحة الطيبة, مهما طال به الأمر.
بعض الإخوة الشباب، قد يُغَلِّبون -بسبب السن التي يعيشونها وضعف التجربة- يغلبون العناية بالنواحي الجسمية, البحث عن ذات الجمال، وهذا ليس خطأً في نظري, لأن الإنسان له غرائز فطرية طبيعية من الصعب على الإنسان تجاهلها.
ولكن لا ينبغي أن يكون الجمال هو المقياس الأول والأخير في هذا الباب, قد يتنازل الإنسان عن مستوى معين من الجمال إلى أقل منه؛ تحصيلاً للخلق، لأن الجمال في الحقيقة هو جمال الخلق وجمال الروح, والإنسان يجد ذلك فيما يتعلق بالرجال بعضهم مع بعض في واقع الحياة، قد تجد إنساناً ليس له صفات تدعو إلى الإعجاب به، لا مال، ولا جمال، ولا جسم، ولا منطق, ولكن إذا عاشرته شعرت بشدة المحبة له, وآخرون على النقيض من ذلك.
فالجمال هو جمال الروح.
أما عن مثل هذه المشكلة: فالذي أعلمه أن الزوج إذا كان قوي الشخصية، فهو قوي التأثير على زوجته, لكن عليه أن يراعي في ذلك أموراً: أولاً: لا يتعسف الخطى, إذا كانت هذه الفتاة نشأت في بيت منحرف؛ فمن الصعب أن تعدلها بين يوم وليلة, بعض الإخوة يتصورون أن إنكار المنكر يكون بأن تقول: هذا خطأ وهذا حرام والدليل كذا.
ثم ينتهي الأمر, ليس بلازم، وهذا قد يفيد فيمن كان فعله للمنكر بسبب الجهل, لكن قد يكون فعله للمنكر بسبب الهوى وإن كان يعلم أنه منكر، ومثل هذا يحتاج إلى علاج أطول, وصبر وأناة، فلا بد لهذا الأخ ومن كان على شاكلته من سعة البال وطوله، والصبر في هذا الطريق.
ثانياً: لا بد من استخدام الوسائل المختلفة، من وسائل الترغيب والترهيب, واستخدام المواقف, فبعض المواقف لها تأثير في النفس, فلا بد أن المرأة مؤمنة، والمرأة بطبيعتها ذات عواطف, عندما تقرأ عليها قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الترغيب في الجنة، وتكرر هذا الكلام مثنى وثلاث ورباع وغير ذلك وتستمر عليه، فلو كانت من حجر لتأثر قلبها, لكن كون العلاقة بينك وبينها مجرد أوامر، كأنك عسكري يصدر أوامر, تقول: هذا لا يصلح.
افعلي هذا.
اتركي هذا.
قد لا تستجيب, لكن على الإنسان أن يلتمس المداخل المناسبة للتأثير.
وكذلك على الإنسان أن يحرص على ربط هذه المرأة بأخوات صالحات, لأن المرأة قد تؤثر في المرأة، والحمد لله المجتمع عامر بالفتيات الطيبات, فيبحث عن بعض هؤلاء الطيبات ويصل بهن زوجته حتى تتأثر بهن، والإنسان الحكيم لا تعييه الوسيلة المناسبة لتحقيق ما يريد.(126/26)
شعائر ومناسبات
جعل الله للمسلمين شعائر ومناسبات، وهذه تحتاج إلى أن يعمل فيها المرء بما يتفق مع الشرع، وأن ينضبط فيها بفعل الخير والإكثار منه، ومن ذلك شهر ذي الحجة، فإنه ملتقى العامين وشهر حرام وهو شهر الحج.(127/1)
وقفات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحمد الله تعالى أن جمعنا في هذا اللقاء المتجدد المبارك -إن شاء الله تعالى- بعد انقطاع دام أسابيع بسبب ظروف الامتحان.
في هذه الليلة -ليلة الإثنين 25 من شهر ذي القعدة- ينعقد هذا المجلس، وهو المجلس الثاني عشر من سلسلة الدروس العلمية العامة، وكان الاتفاق أن يكون موضوع الحديث في هذه الليلة عن (الطرائف والنكت) وأحكامها؛ ولكن الإخوة في مكتب الإفتاء رغبوا إلي أن أغير هذا الموضوع، أو أن يؤجل بسبب مراعاة الظرف الذي نعيشه الآن، وكان اقتراحهم حسناً وجيداً وفي مكانه، ولذلك فإن موضوع هذه الليلة سيكون بعنوان: "شعائر ومناسبات" أما موضوع (الطرائف والنكت) وما يتعلق بها؛ فسأخصص له جلسة قادمة إن شاء الله تعالى.
إخوتي الكرام: وقفاتنا في هذه الليلة ثلاث:-(127/2)
وقفة مع عشر ذي الحجة وشعائرها
أولاً: وقفة تتعلق بدخول عشر ذي الحجة.
وهذه الأيام العشر لها فضل عظيم، فهي من مواسم الطاعات والخيرات والقربات، بل إنها أفضل الأيام عند الله تعالى، حتى أقسم الله تبارك وتعالى بها فقال عز وجل: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2] قال ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وجماعة من السلف: [[المقصود بالليالي العشر هي عشر ذي الحجة]] ومن هنا قال كثير من أهل العلم: إن عشر ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر من رمضان.
وقد ثبت في هذا نصوص عديدة -سوف يأتي ذكر شيء منها- تدل على فضل عشر ذي الحجة، وأنها أفضل من العشر الأواخر من رمضان، وإن كان بعض أهل العلم -كـ ابن القيم وغيره- توسطوا في ذلك وقالوا: أيام عشر ذي الحجة أفضل، وليالي عشر رمضان أفضل، وذلك لأن في ليالي رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، وفي عشر ذي الحجة يوم عرفة ويوم النحر، وهي من أفضل الأيام عند الله تبارك وتعالى وهذا تفصيل حسن لا بأس به.(127/3)
العشر من ذي الحجة من مواسم الطاعات
هذه هي أهم الأعمال المشروعة في هذه العشرة، وبكل حال فإن هذه العشر من مواسم الطاعات التي ينبغي للإنسان أن يغتنمها، ويحرص على أن يعمرها بذكر الله تعالى، والتبكير إلى المساجد، وكثرة الصلاة، وكثرة الاستغفار والدعاء والتهليل والتكبير والتحميد، والتسبيح، وكثرة الصدقة، والصيام وصلة الرحم والإحسان إلى الناس، وغير ذلك من أعمال الطاعات والقربات، وينبغي أن تكون فرصة للتوبة؛ فإن التوبة من أعظم الأعمال الصالحة، والمغبون من غبن في هذه العشر، والمحروم من حرمها، وهذه فرصة ومواسم ينبغي للعبد أن يحرص على التقرب فيها إلى الله عز وجل، خاصة في الأعمال الأربعة التي ذكرت، والتي منها: الصوم، والحج، والذكر، والتكبير، والأضحية.
هذا ما يتعلق بالوقفة الأولى، وهي ما تتعلق بهذه الأيام العشر وشعائرها.(127/4)
الأضحية
من الأعمال المشروعة في هذه العشر، وهو العمل الرابع المشروع: الأضحية.
والأضحية مشروعة بإجماع المسلمين كما ذكره جماعة من أهل العلم، لم يخالف في مشروعية الأضحية أحد، بل إن من أهل العلم من ذهب إلى أن الأضحية واجبة على الموسر، ذهب إلى ذلك الأوزاعي وأبو حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد، مال إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أيضاً مذهب ربيعة بن عبد الرحمن، وجماعة من فقهاء المالكية.
أما الجمهور -جمهور المالكية والشافعية والحنابلة- فإنهم يذهبون إلى أن الأضحية سنة، ولعل هذا أقرب؛ لأن الأحاديث الذي استدلوا بها على الوجوب قابلة للتأويل كما سوف يأتي ذكر بعضها.
يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فشعائر الله تشمل الأضحية، وتعظيمها أي: استسمانها واختيار أفضلها وأغلاها وأنفسها، وذبحها قربة إلى الله عز وجل، ويقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالنحر، ويدخل في ذلك نحر الهدي ونحر الأضاحي؛ ولذلك ضحى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه عليه السلام أقام بالمدينة عشر سنين، يضحي طيلة هذه السنين العشر، لم يترك الأضحية ولا سنة واحدة.
وقد ثبت في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، ضحى بكبشين أقرنين أملحين، ووضع رجله على صفاحهما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي، ويقول: عني وعن من لم يضح من أمتي} فالأضحية سنة عند الجمهور، واجبة عند بعض أهل العلم.
أ/ أدلة من أوجب الأضحية: روى الإمام أحمد وابن ماجة والدارقطني بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا} وهذا مما استدل به بعض أهل العلم على وجوب الأضحية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وبخ من ترك الأضحية وهو غني واجد، وقال: لا يقربن مصلانا أي: من لم يعد الأضحية ويجهزها، ولم ينو أن يضحي فلا يقربن المصلى، وهذا ليس صريحاً في الوجوب، بل لعله دليل على عدم وجوب صلاة العيد.
أما الدليل الثاني الذي استدلوا به على وجوب الأضحية: فهو ما جاء في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم النحر، فقال: {من ذبح قبل الصلاة فليعد مكانها، ومن لم يذبح فليذبج، أو من لم يضح فليضح} قوله: فليضح، أمر يدل على الوجوب.
والواقع أن هذا يصلح أن يقال: إنه أمر بعد الحظر، كما يقول الأصوليون: أمر بعد الحظر؛ لأن ذبح الأضحية قبل صلاة العيد باعتبارها أضحية لا يجوز؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ومن لم يضح} أي: لم يذبح قبل الصلاة؛ فليضح الآن بعد الصلاة فهذا وقت ذبح الأضحية.
ب/ وقت ذبحها وما يلزم من أرادها: ومما يتعلق بأحكام الأضحية: أنها تذبح بعد صلاة العيد، ولا يجوز ذبحها قبل الصلاة؛ لما في المتفق عليه من حديث البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، فجاء البراء وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى، وأن عنده جذعة هي خير من مسنة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذبحها، ولا تجزي عن أحد بعدك} فدل على أن هذا من خصائصه، وأنه لا يجوز للإنسان أن يذبح قبل الصلاة، ومن ذبح بنية الأضحية فليعد ذبيحته.
ومما يتعلق بالأضحية: أن من نوى أن يضحي؛ فإنه لا يجوز له أن يأخذ من شعره ولا من بشره ولا من أظافره شيئاً، منذ دخول العشر، كما في حديث أم سلمة في صحيح مسلم: {إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا من بشره شيئاً} وفي رواية: {ولا من أظفاره} فمن أراد أن يضحي عن نفسه -وهذا لا يدخل فيه الوكيل الذي وكل عن غيره، إنما من أراد أن يضحي عن نفسه، سواء باشر الأضحية أو وكل غيره- فإنه لا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً، منذ دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته.
ج/ شروط الأضحية: ومما يتعلق بأحكام الأضحية أنه لابد فيها من شرطين: الشرط الأول: السن.
لابد من مراعاة السن المشروعة، وهو أن تكون جذعة من الضأن، أو ثنية مما سواها، والجذعة من الضأن: هي ما تم لها ستة أشهر، والثنية مما سواها: هي المسنة، وهي من الإبل ما تم له خمس سنوات، ومن البقر ما تم له سنتان.
أما الشرط الثاني في الأضحية: فهو السلامة من العيوب.
ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، عن البراء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أربع لا تجزيء في الأضاحي: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء} وفي رواية: {الكسيرة التي لا تنقي} أي التي ليس فيها مخ، قد ذهب مخها من الهزال والضعف، فهذه أربع لا يجزئ أن يضحي بها الإنسان، ولابد من مراعاة هذين الشرطين في الأضحية.(127/5)
الحج وفضله
العمل الثالث الذي يكون في أيام العشر هو: الحج.
فإن أيام العشر من مواقيت الحج الزمانية، قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] قال ابن عمر وغيره: [[أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة]] .
والحج -أيها الإخوة- هو من أخص خصائص المسلمين وأبرز علاماتهم، حتى قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وهذا إيماء وإشارة إلى أن ترك الحج من خصال الكافرين، وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن من وجد سعة ولم يحج من غير عذر فإنه كافر، وقد جاء في أثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[لقد هممت أن أنظر وأبعث إلى عمالي فينظروا من وجد سعة فلم يحج؛ فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين]] وهذا الأثر رواه سعيد بن منصور في سننه، وقد جاء نحو هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه لا يصح.
أ/ فضل الحج: والحج من أعظم الكفارات، حتى إن الإنسان ليعجب ويطرب إذا قرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج، وما فيها من عظيم تكفير الذنوب، خذ على سبيل المثال: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله.
قال: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله.
قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور} وفي المتفق عليه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بر الحج بأنه: إطعام الطعام وطيب الكلام، وألا يرفث ولا يفسق.
كما ورد في الحديث الآخر: {من حج فلم يرفث ولم يفسق} وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه [[أنه لما حضرته الوفاة بكى، وحول وجهه إلى الجدار يبكي، فقال له ابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: يا أبت، ما يبكيك؟! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فما زال به حتى أقبل عليه بوجهه فقال رضي الله عنه وأرضاه: إني كنت على أطباق ثلاث: إني كنت في الجاهلية ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، قال: فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار.
قال: ثم قذف الله الإسلام في قلبي، فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، ابسط يدك فلأبايعك.
قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: {ما لك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله، أريد أن أشترط.
قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي.
قال: بايع يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله} قال: فبسطت يدي فبايعته صلى الله عليه وسلم، فجعل الله محبته في قلبي، حتى إني كنت ما أطيق أن أنظر إليه هيبة له وإجلالاً، فلو مت على تلك الحال؛ لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
قال: ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها أي: من أمر الخلافة والإمارة]] وما يتعلق بذلك المهم قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الحج يهدم ما كان قبله} والحديث كما أسلفت في صحيح مسلم.
فهذه الأحاديث وغيرها مما يدل على عظيم شأن الحج.
والمقام لا يتسع لسرد الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفي تفاصيل أعمال الحج، ولذلك أنصح الإخوة بعد أن يرجعوا إلى بيوتهم؛ أن يقرءوا كتاب "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" للإمام شرف الدين الدمياطي، يقرءوا فيه ما ورد في فضل الحج، فإن الإنسان ليعجب ويطول به العجب إذا قرأ هذه الأحاديث الواردة في فضل الحج، وأذكر منها حديثاً واحداً فقط، وهو ما رواه البزار وغيره، وصححه ابن حبان، وقال الدمياطي: إسناده لا بأس به، من حديث ابن عمر وله شاهد من حديث عبادة، قال ابن عمر: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فأتاه رجلان أنصاري وثقفي، فقالا: يا رسول الله، نريد أن نسألك.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للثقفي: إن شئت أن تسألني، وإن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه.
فقال: بل أخبرني يا رسول الله، قال: جئت تسألني عن مسيرك من بيتك تؤم البيت الحرام، وجئت تسألني عن ركعتيك بعد الطواف ما لك فيهما، وجئت تسألني عن طوافك بين الصفا والمروة ما لك فيه، وجئت تسألني عن رميك الجمار ما لك فيه، وجئت تسألني عن ذبحك ما لك فيه، وجئت تسألني عن وقوفك بعرفة مالك فيه، وجئت تسألني عن حلقك رأسك ما لك فيه، وجئت تسألني وجئت تسألني، حتى عدد النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الحج، ثم ذكر ما فيها من الفضل، فذكر أنه إذا ركب راحلته إلى البيت الحرام، لم يرفع خفاً ولا يضع آخر إلا كان له بذلك أن يكتب الله تعالى له به حسنة ويضع عنه به خطيئة، ثم ذكر ركعتي الطواف وأنه كعتق رقبة، ثم ذكر طوافه بين الصفا والمروة وأنه كعتق سبعين رقبة، ثم ذكر رميه الجمار وأن كل رمية يمحو الله بها عنه كبيرة أو موبقة من الكبائر، ثم ذكر طوافه بالبيت وأنه يطوف لا ذنب له، يبعث الله تعالى ملكاً يضع يديه على كتفيه ويقول له: اعمل فيما يستقبل، فقد غفر لك ما مضى.
إلى غير لك من الفضائل العظيمة التي يعجب الإنسان منها، إلا أنه إذا تذكر أن هذا الفضل ممن يملك الفضل، ومن الوهاب التواب الذي يقول: {يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة، أو لغفرت لك ولا أبالي} إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في سعة فضل الله تعالى، ولا شك أن هذا إنما يحصل لمن كان مخلصاً في حجه، وفي نفقته، وفي نيته، وفي عمله، متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم.
والغالب أن تكفير الأعمال إنما يكون للصغائر، أما الكبائر فإن جمهور أهل السنة، كما قال ابن عبد البر وغيره يقولون: إنها لا تكفر إلا بالتوبة، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم {ما لم تغش كبيرة} وفي رواية: {ما لم تؤت كبيرة} فإن الكبائر في الأصل أنها لا تكفر إلا بالتوبة النصوح.
فينبغي أن تكون هذه النصوص العظيمة محركاً لهممنا وقلوبنا إلى حج بيت الله الحرام، وشتان شتان بين من اتخذ الحج عادة أو تجارة أو سياحة، وبين إنسان لم يكن في نيته أن يحج، فلما سمع هذه النصوص وقرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج؛ تحركت همته فجدد عزيمته وأخلص نيته أنه سيحج، بسبب هذا الفضل الذي يتوقعه وينتظره، فإن هذا ممن يرجى أن ينال هذا الأجر العظيم من الله تعالى.
أيها الإخوة: الكلام عن مناسك الحج ليس هذا مجاله؛ ولذلك لن أذكر في موضوع المناسك شيئاً، وإنما أذكر الإخوة بأن ثمة كتباً كثيرة وأشرطة في موضوع المناسك، أذكر من أهمها: منسك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مطبوع، كذلك المنسك للشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني له "حجة النبي صلى الله عليه وسلم"، وله كتاب آخر "مناسك الحج والعمرة"، وكل هذه الكتب كتب مفيدة ونافعة جداً، إضافة إلى مراجعة كتاب الحج في بعض كتب الفقه الموسعة كالمجموع، والمغني وغيرها، وكذلك حاشية ابن القاسم.
وعليه فلا حاجة إلى أن أدخل في موضوع المناسك؛ لأن الدخول فيها يطول، والأمر في ذلك لا يتسع له مثل هذا المقام.(127/6)
العمل الصالح إجمالاً
أما العمل الثاني المشروع فهو: العمل الصالح إجمالاً.
وهذا ثبت في حديث ابن عباس، كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء} وقد جاء عن جابر رضي الله عنه ما يشهد لهذا الحديث، فعند أبي يعلى والبزار بسند صحيح عن جابر نحو حديث ابن عباس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه {لا يعادل العمل الصالح في العشر إلا رجل خرج بنفسه وماله في الجهاد، فخر صريعاً على وجهه في المعركة} فهذا الذي يعدل العمل الصالح في أيام العشر.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {العمل الصالح} يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فإن العمل الصالح هو ما كان خالصاً صواباً كما هو معروف، فما كان من الأعمال التي أمر الله تعالى بها في كتابه، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، من قول أو فعل أو اعتقاد؛ فهو من الأعمال الصالحة المحبوبة إلى الله تعالى في كل وقت، ويتأكد استحبابها في هذه العشر، فيدخل في ذلك الذكر كما سبق، ويدخل فيه التكبير مطلقاً ومقيداً، ويدخل فيه قراءة القرآن، ويدخل فيه الصيام.
أ/ الصيام: أما صيام يوم عرفة فهو مستحب لغير الحاج، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: {أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده} يكفر سنتين: السنة الماضية والسنة الآتية، هذا صيام يوم عرفة لغير الحاج، وهذا فضل عظيم لا أعلم أنه ثبت ليوم من الأيام التي يستحب صيامها إلا يوم عرفة؛ أنه يكفر سنة قبله وسنة بعده.
أما الحاج فلا يستحب له صيام هذا اليوم؛ لما ثبت في الصحيح: {أن الناس تماروا هل صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أم كان غير صائم؟ فبعثت أم الفضل إليه بلبن وهو على راحلته فشربه النبي صلى الله عليه وسلم} .
وهل يشرع صيام أيام العشر كلها؟ هذا فيه اختلاف، والأقرب أنه يشرع للإنسان صيام أيام العشر كلها؛ وذلك للحديث السابق: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه العشر} والصيام لا شك أنه من العمل الصالح.
ولا يعكر على ذلك ما ورد من النهي عن سرد الصوم، فإن المنهي عنه: أن يسرد الإنسان الصوم طيلة عمره، أما أن يصوم لمناسبات معينة فلا حرج في ذلك، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه صام شعبان أكثره بل كله، ففي بعض السنين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله، وكذلك أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، إذاً كون الإنسان يسرد صيام أيام العشر هذا مشروع ومستحب، وقد جاء في ذلك حديث عن حفصة، أو عن بعض أمهات المؤمنين عند أصحاب السنن، لكنه حديث فيه ضعف واضطراب فلا يحتج به.
أما ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: [[ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط]] فهذا لا يشكل، والجواب عن هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول أن يقال: إن عدم معرفة عائشة رضي الله عنها بصيام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يلزم منه ألا يكون صام، فإنه قد يخفى على الرجل أو المرأة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعض سنته فلا يعلمها، كما نقل عن جماعه منهم عائشة أنها لم تكن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، إلى غير ذلك من الأعمال وكان يفعلها، فلا غرابه أن ينكر الصحابي فعلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويثبته آخرون، وإنما أنكر هذا الصحابي أن يكون بلغه ذلك أو اطلع عليه، وعدم علمه بالشيء ليس دليلاً على عدم حصوله؛ بمعنى أنه لا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر أو بعضها، ولم تطلع عائشة رضي الله عنها على ذلك؛ لسبب من الأسباب.
الجواب الثاني أن يقال -وهو في نظري أقوى-: إن مشروعية صيام أيام العشر تثبت ولو لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن السنة تثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما تثبت بفعله، وكما تثبت بإقراره صلى الله عليه وسلم فإن ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو إقرار كله سنة، ولا يلزم أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن كلها، فقد يترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل وهو يحبه لعارض، قد يتركه لما هو أهم منه، من جهاد أو سفر أو شغل، وقد يتركه خشية أن يفرض على أمته، وقد يتركه خشية أن يشق على أصحابه، وقد يتركه لبيان الجواز، إلى غير ذلك من الأسباب.
إذاً: عدم صيام النبي صلى الله عليه وسلم أيام العشر، ليس دليلاً على عدم مشروعيتها، بل أيام العشر يستحب للإنسان أن يسرد صومها، إلا يوم العيد فإنه لا يجوز صيامه، فصيام يومي العيد: عيد الفطر وعيد الأضحى حرام كما هو معروف، وسبق تقريره في الوقفات الثلاثين من مطلع شهر رمضان، فصيام يوم العيد لا يجوز.
وكذلك صيام يوم عرفة للحاج مكروه، والأولى ألا يصوم، إنما صيام الأيام الثمانية مشروع، وصيام الأيام التسعة لغير الحاج مشروع أيضاً، ولذلك جاء في سنن أبي داود ذكر صيام التسع من ذي الحجة، في الحديث الذي أشرت إليه قبل قليل -حديث حفصة - جاء فيه بدلاً من العشر صيام التسع من ذي الحجة، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: قال العلماء: صيام أيام العشر مستحب استحباباً شديداً.
والمقصود -بلا شك- خلا يوم العيد فإنه يحرم صومه.(127/7)
الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة
أما النقطة الثانية فهي الأعمال المشروعة في تلك العشر: وفي العشر أعمال كثيرة مشروعة أذكر بعضاً منها، فمن هذه الأعمال المشروعة الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] قال ابن عباس رضي الله عنه: [[الأيام المعلومات أيام العشر]] والأثر رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس، الأيام المعلومات أيام العشر أي عشرة ذي الحجة.
فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] هذا يشمل عدة أمور منها: ذكر الله تعالى على الذبائح من الأضاحي والهدي، فإنه يجب أن يسمي العبد ربه عليها، فيقول: باسم الله والله أكبر؛ يقول: باسم الله وجوباً، ويكبر استحباباً، وهذا ذكر، ولذلك قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] فهذا من الذكر المشروع، ويشمل الذكر غير هذا من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، وغير ذلك من الدعاء وقراءة القرآن وغيرها، فكل ذلك مشروع في هذه العشر وفي غيرها، ويتأكد في العشر.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التحميد والتهليل والتكبير} قال المنذري: سنده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
والواقع أن في الحديث ضعفاً؛ فإن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو إن خرج له مسلم إلا أنه ضعيف وفيه مقال، وكذلك الحديث فيه شيء من الاضطراب، فقد رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، من حديث يزيد عن مجاهد عن ابن عباس، وقد وهم من اعتبر حديث ابن عباس شاهداً لحديث ابن عمر، بل هو مما يضعفه؛ لأن مدار الحديث على يزيد بن أبي زياد عن مجاهد، قال مرة: عن ابن عمر، وقال مرة: عن ابن عباس، فدل على أنه لم يضبط هذا الحديث.
فالحديث ضعيف، لكن له شواهد كثيرة عن ابن عباس في صحيح البخاري، وعن جابر عند أبي يعلى والبزار، وسوف يأتي الإشارة إليهما بعد قليل.
أ/ أنواع التكبير: من الأذكار الذي تستحب في العشر: التكبير (الله أكبر) ، وما أشبه ذلك من صيغ التكبير وهي كثيرة، فيستحب للعبد أن يكبر ويكثر من التكبير في أيام العشر، والتكبير في العشر نوعان:- النوع الأول: تكبير مطلق يشرع طيلة أيام العشر في كل وقت، ليلاً ونهاراً، في المنزل وفي السوق وفي المسجد، وفي كل مكان، فيشرع للمسلمين أن يكبروا ويرفعوا أصواتهم بالتكبير، ولهذا قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: [[كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وكان عمر رضي الله عنه يكبر بمنى في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيكبر أهل منى حتى ترتج منى تكبيراً]] .
ففعل أبي هريرة وابن عمر وعمر؛ يدل على مشروعية التكبير في أيام العشر في كل وقت، ويدل أيضاً على مشروعية رفع الصوت بهذا التكبير، ولكن ليس على سبيل أن يكون التكبير بصوت واحد كما يفعله كثير من الناس، حيث يكبرون بصوت واحد تكبيراً جماعياً وبلحن واحد، هذا غير مشروع، إنما يكبر كل إنسان بمفرده، وتختلط الأصوات كما تختلط بقراءة القرآن في المساجد، وكما تختلط بالأذكار في أدبار الصلوات، إلى غير ذلك، فهذا تكبير مطلق.
النوع الثاني من التكبير: هو التكبير المقيد؛ وهو التكبير في أدبار الصلوات المكتوبات، أن يكبر الناس عقب كل صلاة مكتوبة، فيقولون: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، إلى غير ذلك من صيغ التكبير، وهذا التكبير المقيد لم يثبت فيه حديث صحيح، جاء فيه حديث عند الدارقطني لكن سنده ضعيف جداً، وهو حديث منكر، لكن قال الإمام الحاكم: ثبت التكبير المقيد عن عمر وابن عمر وابن عباس وابن مسعود صح ذلك عنهم.
وجاء عند ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه [[أنه كان يكبر بعد الفجر من يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق]] وسند هذا الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صحيح، وكذلك روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح، عن أبي الأسود [[: أن ابن مسعود كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر يوم النحر، يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] فابن مسعود كان يكبر إلى عصر يوم النحر، أما علي فإلى عصر آخر يوم من أيام التشريق.
وسند الأثرين عن علي وابن مسعود عند ابن أبي شيبة صحيح، وجاء هذا عن جماعة آخرين من الصحابة، مما يدل على أن هذا الأمر مشهور مشروع عندهم، فإذا انضم إلى ذلك ما هو معروف من ورود أحاديث عديدة في مشروعية التكبير في أدبار الصلوات، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [[كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته]] وفي لفظ: [[ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] علم أن التكبير مشروع في أدبار الصلوات، خاصة في هذه الأيام المحددة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أو إلى عصر يوم النحر.
كل ذلك حسن والأمر فيه واسع، والتكبير ذكر وما دام أنه قد ثبت عن بعض الصحابة، فلا حرج على الإنسان أن يلتزم بهذا التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبات، فهذا من الذكر الذي يستحب للإنسان أن يقوله.
ب/ صفة التكبير: أما صفة التكبير وكيف يكبر الإنسان: فمما ثبت عن ابن مسعود كما سبق: [[الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] وقال الإمام الشافعي: "إن زاد على هذا قوله: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ كان حسناً".
هذا كلام الإمام الشافعي رحمه الله كما نقله عنه الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"، وإن زاد في ذلك أو اقتصر على أن يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فكل ذلك حسن ولا بأس به، فهذا الذكر من العمل المشروع في أيام العشر، وهو التكبير والذكر لله تبارك وتعالى، ومن ذلك المبادرة إلى الصلوات، وكثرة قراءة القرآن.(127/8)
أسباب فضيلة عشر من ذي الحجة
ومن أسباب فضيلة هذه العشر من ذي الحجة: أن فيها يوم عرفة، وهو يوم ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه، وفيه تكفير للذنوب، ومغفرة للخطايا، وستر للعيوب، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من يوم أكثر أن يعتق الله عبداً من النار من يوم عرفة، وإن الله تعالى ليدنو ثم يباهي بهم -أي بعبيده الحجاج -الملائكة يقول: ما أراد هؤلاء؟} فهذا يوم عرفة، وسوف يأتي فضل صيام هذا اليوم.
كذلك من أسباب فضيلة العشر: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر، وهو يوم العيد، يأتي العيد وأول أيامه اليوم العاشر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة، فوجد للأنصار يومين يلعبون بهما؛ قال: {إن الله تعالى قد أبدلكما بهما يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، وهما عيدنا أهل الإسلام} فيوم عيد الأضحى هو من الأيام التي تعتبر شعائر يفرح بها المسلمون ويسرون، وهو يوم الحج الأكبر، كما قال الله عز وجل: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3] فأذَّن المسلمون بهذا في يوم العيد، يوم الحج الأكبر يوم النحر، وهو أفضل الأيام عند الله تعالى على الإطلاق، كما في السنن من حديث عبد الله بن قرط الثمالي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الأيام عند الله يوم النحر} وهذا الحديث سنده صحيح، ولذلك فلا غرابة أن تكون أيام العشر هي أفضل الأيام، حيث احتوت على هذين اليومين الفاضلين العظيمين عند الله عز وجل، يوم عرفة، ويوم النحر، يوم الحج الأكبر.
وهي تحتوي على أيام العيد التي تشمل يوم العيد، وما بعده من أيام التشريق، ولذلك جاء في السنن من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب} فأما يوم عرفة فهو عيد من جهات عديدة، ولذلك جاء في الحديث الذي في صحيح البخاري: أن يهودياً قال للمسلمين: لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، وفي رواية: عيدنا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقال عمر رضي الله عنه: [[والله إني لأعلم في أي مكان نزلت، وفي أي يوم نزلت، نزلت في يوم جمعة في يوم عرفة]] وجاء في رواية عند أصحاب السنن: [[في يوم عيد]] فعرفة عيد؛ باعتباره مجاوراً ليوم العيد وسابقاً ومقدمة له، وهو يوم سرور للمؤمنين لكثرة تكفير الخطايا، وتجاوز الله تبارك وتعالى عن عباده، حيث إنه يدنو، وجاء في رواية: {أنه ينزل إلى السماء الدنيا، ويباهي الملائكة بعباده فيقول: ما أراد عبادي؟ هؤلاء أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم} وجاء في رواية: {ووهبت مسيئهم لمحسنهم} ففي هذه الأيام العشر تتحقق هذه الفضائل الكثيرة، ولذلك كانت هذه الأيام العشر أفضل الأيام عند الله تعالى كما سبق.(127/9)
وقفة محاسبة مع نهاية السنة
أما الوقفة الثانية: فهي تتعلق بنهاية هذا العام.
تعلمون -أيها الإخوة- أننا نودع في هذه الأيام عاماً مضى، ونستقبل عاماً جديداً، وهذه وقفة ينبغي أن نقف عندها، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: "السنة شجرة، والأشهر أغصانها، والأيام أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة الله طابت ثماره".
فنحن ندرك الآن كأن الواحد منا له شجرة عظيمة قد غرسها، وهي الآن توشك أن تنتهي لتقطع ويغرس له شجرة أخرى.(127/10)
ضياع العمر بالتسويف
والناس أصناف: منهم من يضيع عمره في الباطل واللهو والحرام، وهذا لا يخرج من عمره بالكفاف، بل إنه لو تدارك وقته وضاعف أعماله لا يمكن أن يستدرك ما مضى، ولذلك يقول الشيخ الإمام أبو إسماعيل الهروي -رحمه الله-: "إن الوقت سريع التقضي أبي التأتي بطيء الرجوع".
هذه ثلاث مسائل: الوقت سريع التقضي، فسرعان ما ينتهي، أبي التأتي، فإنه لا يستسلم وينقاد للإنسان إلا بمجاهدة، بطيء الرجوع، فإن ما مضى من الوقت لا حيلة في رده بحال من الأحوال.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها ما مضى فات، لا تحسب وتقول: أربعين سنة، خمسين سنة، ستين سنة، هذه كلها ذهبت ما كأنها لمح بصر ولا ومضة، ولا لحظة، مضت بما فيها من خير أو شر، والمؤمل غيب، لا تدري هل كتب لك يوم أو شهر أو سنة أو عشرة الله أعلم، ولك الساعة التي أنت فيها.
يسر المرء ما ذهب الليالي كأن ذهابهن لها ذهابا سبحان الله! إذا جاء البرد قلنا متى يأتي الحر حتى نسلم من البرد؟ فإذا جاء الحر تضايقنا منه، إذا جاءت أيام الاختبارات قلنا: متى تنتهي حتى نقبل على الإجازة؟ وهكذا، كلما جاءت مناسبة تمنينا ما بعدها، ولذلك يقول أحد المفكرين أو أحد الأدباء: إن الكلام عن قضية المستقبل، مثل حزمة من العلف مربوطة في عنق فرس، فهذا الفرس يركب ويجد الحزمة أمامه؛ لأنها تركض معه، فالمستقبل شيء لا حقيقة له؛ لأن هذه اللحظة الذي تعيشها الآن كانت قبل قليل مستقبلاً.
إذاً ما هو المستقبل؟ المستقبل: هو اللحظة التي تعيشها.
أما الأمور البعيدة فأمرها إلى الله تعالى.
جدير بالإنسان أن يقف وقفة محاسبة، إذا كان لك طموحات ولك آمال وتطلعات، تريد أن تعمل صالحاً وتريد أن تتوب وأن تكفر عن سيئاتك، وتريد أن تكون طالب علم، وأن تنفع الناس، وأن تقوم بعمل خير اجلس خمس دقائق واسأل نفسك كم عمرك الآن؟ خمس وعشرون سنة، ثلاثون سنة، هل عملت شيئاً خلال المدة هذه؟ لم تعمل شيئاً.
هل تتوقع أن هناك شيئاً جديداً سوف يحركك فتعمل ما لم تكن تعمل بالأمس؟ أبداً، يا إخوة، الذي لا يعمل في وقت الشباب لا يعمل في وقت الهرم والشيخوخة، الشباب هو وقت القوة والفتوة، وقت النشاط والطموح، وقت التوقد والإشراق والاندفاع، فمن لم يعمل في شبابه ويستثمر أيامه؛ فينبغي أن يدرك أنه لا يعمل في شيخوخته، ولذلك طال حنين الشيوخ للشباب وتمنوا عودته: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب؟(127/11)
خسارة الدنيا والآخرة
إخوتي الكرام: لو أن الواحد منا كانت عنده شركة زراعية أو تجارية؛ لوضع له في نهاية العام أو في وسط العام ميزانية يحسب أرباحه وخسائره، وما له وما عليه، ثم يقرر هل يستمر أو لا يستمر، فإذا وجد أن الخسارة تتوالى عليه، فحينئذ يقول: من المصلحة أن أصفي هذه الشركة وأنتهي منها، ولو اتجهت فيما بعد إلى عمل آخر، لكن الخسارة غير مطلوبة.
فما بالكم -أيها الإخوة- بخسارة الأبد، فخسارة الدنيا يمكن أن تعوض، لكن ما بالك إذا خسر الإنسان نفسه!! ما بعد خسارة النفس من شيء، هذا العمر وهذه الأنفاس التي تتردد، هي التي يجازي الله تعالى عليها ويحاسب، أهل الجنة إنما دخلوها بأنفاسهم وأعمالهم وأوقاتهم، وأهل النار إنما دخلوها بأوقاتهم، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:36-37] تدبر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] .
إذاً: العمر -أيها الإخوة- هو الذي تجزون عليه وتحاسبون، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فهو ورقة بيضاء تكتب فيها ما شئت، اكتب فيها الحسنات تجز بالجنة، اكتب فيها السيئات تجز بالنار، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.(127/12)
استغلال الإجازة الصيفية
أما الوقفة الثالثة والأخيرة: فهي بمناسبة الإجازة الصيفية.
إننا الآن نستقبل إجازة، ولا أريد أن أتحدث عن الإجازة؛ لأنني تحدثت عنها في محاضرة بعنوان "ماذا في الإجازة" ولعلها ميسورة لمن أراد أن يطلع عليها أو يستفيد منها، لكنني أريد أن أذكّر بأمور:-(127/13)
الاهتمام بالأبناء والبنات
الأمر الثاني: أنه ينبغي للإنسان أن يراقب من ولاه الله تعالى أمرهم -خاصة في هذه الإجازة- لاحظت بعيني خلال هذه الأيام القليلة؛ تسيب الشباب في الشوارع، بالأمس وأنا آوي إلى منزلي أبصرت في ساعة متأخرة نسبياً -ربما في الحادية عشرة ليلاً أو بعدها- لاحظت شاباً ربما يكون في الثانية عشرة من عمره؛ يمشي في الشارع وبيده سيجارة، فقلت سبحان الله! أهكذا تستغل الإجازة؟ صبياننا وأطفالنا وشبابنا يترك آباؤهم لهم الحبل على الغارب، يذهبون كيف شاءوا، يذهبون إلى الملاهي والشوارع، وإلى الشلل الفاسدة، وبعض الشباب يجلسون على قارعة الطريق، أو في جوانب الأرصفة يتعاطون الدخان، أو يشاهدون التلفاز، أو يسمعون الغناء، أو يطبلون ويرتكبون ما حرم الله، وربما يكون في بعض هذه المجالس فرصة لديهم لاقتناص بعض صغار السن وتوريطهم بتعاطي الدخان، ثم ربما يجرونهم من وراء ذلك إلى الحاجة إلى المال، وربما يوقعونهم في الفواحش والموبقات.
فمن الجرم العظيم أن تغفل عمن ولاك الله تعالى أمرهم، خاصة من الصبية الصغار، ينبغي أن ينظم الإنسان لهم برنامجاً، وما ينبغي للإنسان أن يكون مغفلاً يقول: هل أغلق عليهم الباب؟ لا تغلق عليهم الباب، ضع لهم الوسائل التي يستفيدون منها في هذه الإجازة، هناك فرص كثيرة، يوجد قصص للصغار، ويوجد أشرطة للصغار، وأناشيد مفيدة يمكن أن تفيدهم.
يوجد مجلات نافعة للصبية الصغار، ويوجد ألعاب، لا بأس أن تحضر لأولادك مراجيح، أشياء يلعبون بها، دراجات في المنزل لا يخرجون بها، لا بأس أن تحضر لهم جهاز الكمبيوتر إن كانوا يعرفون ذلك، فهو يصلح لمن كان في سن الثالثة والرابعة والخامسة الابتدائية وما فوق، ويوجد برامج مفيدة، برامج قرآن كريم، وحديث، وبرامج لغة عربية، ومسابقات، وبرامج ألعاب بريئة مسلية ليست محرمة، لكنها تلهي الشباب وتصرفهم عن مجالس السوء.
فينبغي أن تدركوا -أيها الإخوة- أنه من يوم أن يتعود الطفل والشاب الصغير على الخروج من المنزل؛ حينئذ تعتبر هذه خطوة كبيرة نحو الفساد؛ لأنه إذا خرج أصبح الوالد لا يتحكم فيه، ولذلك قد يوفق بأناس طيبين صالحين، كحلقة قرآن، أو مركز طيب، أو زملاء من أهل الصلاح، وقد يوفق -وهذا هو الغالب- بقرناء سوء؛ فعندئذ ليس للأب في ذلك يد، ولا يستطيع أن يمنعه منهم، ولو منعه لخرج سراً، والأب لن يقف بواباً عند باب المنزل حتى لا يخرج الولد، الأب سيسافر، وسينام وسيذهب إلى عمله.
فينبغي أن نجعل الخطوة الأساسية هي أن نربي أولادنا داخل البيوت، ولا مانع أن تصرف جزءاً من وقتك لأولادك، تخرج معهم في نزهة أو زيارة، في ذهاب أو إياب، فإذا لم تستطع فاصحبهم معك في الأعمال الضرورية، وأنت خارج إلى السوق لشراء بعض الحاجيات، اصحبهم معك، وأنت ذاهب إلى زيارة قريب أو إلى رحلة حتى يتربوا على عينك.
هذا وأود أن أقول في ختام هذه الكلمة: إن هذه الجلسة أو هذا الدرس هو الوحيد قبل الحج؛ وذلك لأنني سوف أسافر في نهاية هذا الأسبوع بإذن الله تعالى إلى المنطقة الشرقية، وأقول للإخوة الأكارم: بإذن الله تبارك وتعالى، سوف نستأنف هذه الدروس في يوم الأحد، الثالث والعشرين من شهر ذي الحجة لهذا العام، كما أن درس بلوغ المرام لهذا الأسبوع، سوف ينعقد -إن شاء الله- في موعده المحدد في يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء.(127/14)
إعداد برنامج نافع
أولها: أنه ينبغي للإنسان أن يرسم لنفسه برنامجاً حسناً في هذه الإجازة، يستغلها في طاعة الله، وفي قراءة الكتب المفيدة، وفي حضور مجالس العلم وحلقات العلم، وفي إعداد البحوث النافعة، وفي الأسفار المفيدة، من سفر إلى الحج والعمرة، والرحلات المفيدة، والسفر في الوعظ والإرشاد، ودعوة الناس إلى الخير، وفي السفر إلى الجهاد في سبيل الله، وفي السفر إلى مشاهدة أحوال المسلمين اللاجئين والمهاجرين في أماكن كثيرة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة، التي يزداد الإنسان بها خيراً وعلماً وبراً وقرباً من الله عز وجل.(127/15)
الأسئلة(127/16)
الحج مع جماعة ومنفرداً
السؤال
أيهما أفضل الحج مع جماعة أو منفرداً؟
الجواب
الأفضل أن تحج مع جماعة بشرط أن يكونوا رفقة صالحين.(127/17)
منع الوالد ولده من الحج
السؤال
هذا سؤال يحيرني جداً؛ حيث إني عزمت على الحج ونويت، فلما قلت لأبي أبى عليَّ وقال: لا أسمح لك.
فقلت: لماذا؟ فقال: أخاف عليك.
فحاولت إقناعه وأخبرته أن الأعمار بيد الله ولكنه كان مصراً؟
الجواب
مادام الحج بالنسبة لك فريضة؛ فعليك أن تقنعه وتسلط عليه من يقنعه ثم تحج مهما كان الأمر، أما إن كان نافلة وأصر والدك على بقائك ورأيت مصلحة في طاعته؛ فالأولى في نظري أن تطيعه.
أقول للإخوة أجمعين: جزاكم الله خيراً، وأسأل الله أن يجمعني وإياكم والمسلمين في دار رحمته وكرامته، وأن يعفو عني وعنكم ويتقبل منا الحسنات، ويتجاوز عنا السيئات، ويوفقنا للطاعات والقربات، اللهم آمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(127/18)
من وكل في الأضحية هل يأخذ من شعره
السؤال
إذا وكلني أحد على التسمية في الأضحية، فهل يجوز له أن يأخذ من شعره؟
الجواب
المضحي نفسه -أي الذي اشترى الأضحية- وأراد أن يضحي عن نفسه؛ لا يجوز له أن يأخذ من شعره أو ظفره شيئاً.(127/19)
رمي الجمرات ليلاً
السؤال
هل يجوز رمي الجمرات ليلاً ويكون بعد صلاة العشاء؟
الجواب
ذهب جماعة من أهل العلم القدماء وفقهائنا المعاصرين، ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وسماحة الشيخ محمد بن عثيمين وغيرهم من أهل العلم؛ إلى أنه يجوز رمي الجمرات ليلاً، وهذا فيه توسعة على الناس وفيه رفع للحرج، وخاصة إذا كان مع الإنسان نساء يخشى عليهن، والذي لا أشك فيه أن رمي الجمرات ليلاً، أو تأخير رمي الجمرات إلى اليوم الأخير فيرمي جمرات اليوم الأول، ثم يرمي جمرات اليوم الثاني، ثم يرمي جمرات اليوم الثالث؛ أفضل من التوكيل، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً للرعاة، الراعي يرعى بالنهار ويرمي بالليل، والحديث صحيح، ولا شك أن المرأة المحتاجة والمسنة والإنسان الذي يخشى الزحام ومن في حكمهم، حاجتهم وضرورتهم أعظم بمراحل من حاجة الراعي، وهذا لا يشك فيه أحد.(127/20)
صيام بعض العشر
السؤال
من كان لا يستطيع أن يصوم جميع الأيام التسعة من أيام العشر لظروفه الصحية، فهل يصوم بعضها؟
الجواب
نعم يصوم حسب استطاعته، ويمكن أن يصوم منها يوماً ويفطر يوماً، أو يصوم الاثنين والخميس أو ما أشبه ذلك.(127/21)
كتاب المتجر الرابح
السؤال
ما رأيك في الكتاب الذي ذكرته في كلامك وهو كتاب "المتجر الرابح"؟
الجواب
كتاب "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" " للدمياطي من الكتب المفيدة، مفيد جداً لأنه جمع الأحاديث في فضائل الأعمال، الذكر والدعاء والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وغيرها، وإن كان فيه أحاديث ضعيفة ينبغي للإنسان أن ينتبه لها، والإمام الدمياطي تكلموا عنه أنه متسامح في تصحيح الأحاديث أو تحسينها فيتفطن الإنسان لذلك.(127/22)
التردد في الحج
السؤال
أنا متردد في الحج هذا العام، وذلك أنني حججت أكثر من مرة، لكن لم يسلم ولا واحد منها -مع الأسف- من معصية، فما نصيحتكم؟
الجواب
نصيحتي أن تحج، لا ينبغي للإنسان أن يتردد في فعل الخير.(127/23)
حديث عائشة في صوم العشر
السؤال
حديث عائشة الذي ذكرت -غفر الله لك- أنه في صحيح مسلم لدي حوله أمران: ألا يكون لفظ عائشة دال على أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم مفطراً، والثاني: ألا يكون الفطر بعض أو أكثر العشر.
الجواب
نعم حديث عائشة رضي الله عنها تقول: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط.
وظاهر كلامها يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام ما صام من العشر ولا يوماً واحداً، فهذا الذي أقول: لا يلزم أن تكون عائشة قد اطلعت عليه، فقد يكون صام يوماً وهو عند حفصة أو عند زينب أو عند ميمونة أو عند أم سلمة أو عند سودة فلم تعلم عائشة رضي الله عنها بذلك.(127/24)
إمساك الشعر للحاج ونحوها
السؤال
من أراد الحج هل عليه ألا يمس شيئاً من شعره وأظفاره؟
الجواب
نعم، بالنسبة للحاج معروف أنه عند الإحرام يستحب له أن يتنظف ويتطيب، مثلاً: يزيل شعر إبطيه وعانته، ويتطيب، ويأخذ أظافره عند الإحرام.
وإذا أراد أن يتحلل فإنه يقضي تفثه بحلق رأسه.(127/25)
نصيحة لشاب يريد الحج
السؤال
ما هي توجيهاتكم لشاب يحج لأول مرة؟
الجواب
توجيهاتي أولاً: أن تتعلم أحكام الحج قبل أن تحج، اقرأ كتاباً في المناسك، ومن أفضل الكتب التي أرشحها لك كتاب التحقيق والإيضاح في مسائل الحج والعمرة والزيارة لوالدنا وشيخنا الإمام عبد العزيز بن باز، اقرأ كتاب المنهج للشيخ الفاضل العلامة محمد بن صالح بن عثيمين، اقرأ كتاب مناسك الحج والعمرة للشيخ الألباني، اقرأ حجة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني، اقرأ منسك الشيخ ابن تيمية أو أحد هذه الكتب، اقرأه مرتين أو ثلاث، واصحبه معك في حجتك.
النصيحة الثانية وهي مهمة: احرص على المال الحلال.
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور النصيحة الثالثة: اختر الرفقة الصالحة الذين يعلمونك الحج ويعينونك على طاعة الله، لا تحج مع شباب سفهاء يقضون الوقت في لهو وعبث وكلام فارغ، وقد يسمعون الغناء، وقد يغتابون الناس، وقد يرتكبون المعاصي، وقد يتكلمون في فلان وفلانة.(127/26)
تأخير الحج مع القدرة عليه
السؤال
شاب تهيأت له جميع فرص الحج، وربما لا تتهيأ له مرة أخرى، ولكنه يرفض أن يحج بدون عذر.
نرجو منكم الإرشاد والتوجيه؟
الجواب
في الواقع أنه من يسمع الأحاديث ولا يتحرك قلبه وتندفع همته للحج؛ فإنه يجب عليه أن يراجع قلبه لعله لا قلب له! لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} {ليس له جزاء إلا الجنة} فهو كفارة ويهدم ما كان قبله، ومع ذلك تحجم وتتردد مع تيسر الظروف والأسباب! لا ينبغي هذا.(127/27)
الحج من الجهاد
السؤال
هل الحج من الجهاد في سبيل الله؟
الجواب
نعم، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج من الجهاد في سبيل الله.(127/28)
حركة الأصبع في التشهد
السؤال
ذكرت في أكثر من مرة الأبحاث الكثيرة في حركة الأصبع عند التشهد.
فما هي الحركة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الذي أعلمه الآن في تحريك الأصبع عند التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقبض أصابعه الثلاث، ويضع الإبهام عليها ويحرك السبابة، هذه صورة.
الصورة الثانية: يقبض إصبعين ويحلق الوسطى مع الإبهام ويحرك السبابة.
أما متى يحركها؟ فإنه يحركها عند الدعاء وعند التشهد، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله حركها، وكذلك عند الدعاء مثل: اللهم صلِّ على محمد، اللهم بارك على محمد، أعوذ بالله من عذاب جهنم، يحركها وينظر إليها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان ينظر إلى سبابته في التشهد عندما يحركها.(127/29)
رمي الجمار للنساء
السؤال
من معه نساء في الحج، ما حكم رمي الجمار لهن؟
الجواب
ذكرت ذلك، لكن أشير للإخوة أنه بالنسبة للإنسان الذي سوف يحج بنساء؛ ينبغي له أن يتفطن لهن، يهيئ لهن المكان المناسب للطواف، وللسعي ولرمي الجمار، وللذهاب والإياب، ويحرص على تستر نسائه وبعدهن عن الزينة والتبرج بها؛ لئلا يرجعن مأزورات غير مأجورات.(127/30)
الشائعات حول الدعاة
السؤال
ما يتعرض له الدعاة من شائعات وشبهات باطلة، ما تعليقك على ذلك؟
الجواب
أولاً: الكيد للدعوة والدعاة قديم، ومن أهم الوسائل التي كان أعداء هذه الدعوة يستخدمونها هي إلصاق التهم بحملة الدعوة ورجالاتها، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الطاهر المطهر الذي لم يكذب قط، ولم يعهد عليه في الجاهلية أنه ارتكب أمراً مما يعاب أو يشين، مع ذلك لما جهر بدعوته قالوا عنه: ساحر، شاعر، مجنون، كذاب، ورموه بشتى التهم وقالوا: إنه يريد رئاسة ويريد سلطة ويريد حكماً.
ولا زال الدعاة إلى يومنا هذا يتعرضون لمثل هذه الأشياء، وقد أرشدنا الله عز وجل إلى المنهج الشرعي في مثل هذا الباب فقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:16-17] وقال عز وجل: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فكل من ادعى على مسلم حتى لو كان مسلماً عادياً -وحتى لو كان فاسقاً أيضاً- من ادعى عليه دعوى لم يأت فيها بأربعة شهداء فهو عند الله من الكاذبين، أقول: عند الله.
لاحظ النص القرآني: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] وهذه فرية مكذوبة مختلقة، وقد كشف الله سبحانه وتعالى أمرها وجلاها، وأقول كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] قد أبانت عن مكانة الدعاة في نفوس الناس، وتقديرهم لهم، وتأثرهم بهم في القريب والبعيد وفي الداخل والخارج {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ} [النور:11] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] .(127/31)
حديثان يظن تعارضهما
السؤال يقول: ورد في الحديث: {الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وورد: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه القدر} كيف نوفق بينهما؟
الجواب
لا شك أن المقصود بالحج المبرور الذي جزاؤه الجنة؛ هو لمن لم يأت بما ينقضه، أما لو نقضه الإنسان بردة عن الإسلام والعياذ بالله فهذا كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فالردة محبطة للأعمال.(127/32)
ذبح الهدي خارج الحرم
السؤال
ما حكم من ذبح الهدي خارج الحرم؟
الجواب
ذبح الهدي خارج الحرم لا يجزئ ولا يجوز، ومن ذبح خارج الحرم فعليه الإعادة، وقد ذكر جماعة من أهل العلم الإجماع على ذلك -أي أن يذبح الهدي في الحل- مثل أن يذبح هديه بعرفة خارج الحرم.(127/33)
صوم العشر
السؤال
كيف يشرع صيام العشر من ذي الحجة مع أنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه؟ ألا يمكن أن يقال أن العمل الصالح عام وحديث عائشة خاص؟ وهل يمكن فعل شيء لم يفعله الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل هذا في الأصول؟
الجواب
نعم، يمكن فعل شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر به أو استحبه، فقد ثبت عند جميع أهل العلم في الأصول وفي المصطلح وغيرهم؛ أن السنة هي ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير، فإذا قال شيئاً أو فعله أو أقر على فعله فإن هذا دليل على مشروعيته، فقد يُفعَل شيء بحضرته فيقره النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون هذا دليلاً على أنه مستحب أو مباح على الأقل، وقد يفعل شيئاً صلى الله عليه وسلم أو يأمر بشيء فيدل على أنه واجب أو مستحب، فهذا معروف في الأصول ومستقر عند جميع أهل العلم.
أما كونه عام وخاص فهذا في حالة وجود تعار ض بين الحديثين، ولا تعارض بينهما -كما ذكرت- فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يعارض فعله -كما أسلفت- أي لا يفتقر الفعل إلى قول، فإذا جاءنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، فلا نقول هل فعله؟! لا يلزم أن يكون قد فعله، قد يكون تركه لعارض.
مثلاً: صلاة التراويح في رمضان والمحافظة عليها في كل ليلة، هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، بل صلى ليلتين أو ثلاثاً ثم ترك ذلك خشية أن يفرض على الناس، فهل نقول: إن صلاة التراويح طيلة الشهر غير مشروعة؟ لا، هي مشروعة باتفاق أهل العلم، وذلك لأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للمحافظة عليها له سبب وهو خشية الفرضية، وهذا السبب زال بموته عليه الصلاة والسلام.(127/34)
حكم الأضحية
السؤال
قلت: إن الأضحية واجبة عند بعض أهل العلم، فهل هي واجبة كل سنة؟
الجواب
الظاهر أنها واجبة عندهم كل سنة، لكن الراجح عند جمهور العلماء أنها سنة مؤكدة.(127/35)
دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة
السؤال
ما حكم دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة؟
الجواب
لا يشرع، بل إن الإنسان إذا كبر في صلاة الجنازة يبدأ مباشرة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) ثم يقرأ الفاتحة، ولا يشرع له أن يستفتح؛ لما في حديث ابن عباس رضي الله عنه.(127/36)
إنشاد الضالة في المسجد
السؤال
ما حكم من علم أن ساعته ضائعة في المسجد فجاء ينشد عنها؟
الجواب
أما أن يعلن عن وجود ساعة ضائعة فهذا لا يجوز في المسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا سمعتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا له: لا وجدت.
إنما بنيت هذه المساجد لما بنيت له} فلا يجوز إنشاد الضالة في المسجد.(127/37)
الحج عن الميت
السؤال
إذا حج الإنسان عن شخص ميت فهل له أجر على ذلك؟ وماذا يقول عند التلبية؟
الجواب
نعم، له أجر على ذلك، خاصة إذا كانت نيته صالحة، ويقول أول ما يلبي بالحج: لبيك عن فلان.
ثم يبدأ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، لبيك إله الحق لبيك، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، إلى غير ذلك من أنواع التلبية الثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو عن أصحابه.(127/38)
الحج بالأجرة
السؤال
ما حكم من كان قصده الأجرة من الحج، هل حجه صحيح؟
الجواب
حجه صحيح، ولكن لا ينبغي ولا يجوز أن يحج الإنسان بقصد أخذ الأجرة، بل ينبغي إن حج عن أحد أن يحج بقصد الفضل، ومشاهدة الحجيج، وشهود المواقف، والطواف، وحضور يوم عرفة، والدعاء، ونيل الأجر من الله تعالى، والإحسان إلى أخيه المسلم.(127/39)
الحج والجهاد
السؤال
ذكرت حديثاً عن الجهاد فقدم الجهاد في سبيل الله على الحج، فما رأيك خاصة أن المجاهدين الأفغان بحاجة إلى المال الذي نذهب به لحج التطوع؟
الجواب
في الواقع ليس هناك ما يدعو إلى ذلك، والحمد لله، قد وسع الله تعالى على الناس اليوم، فبإمكان الإنسان أن يحج، والحج لا يكلف أكثر من ألف أو ألف وخمسمائة ريال أو ألفي ريال على الأكثر، ويستطيع أن يحج ويساعد إخوانه المجاهدين في أفغانستان وفي غير أفغانستان، لا داعي لأن نجعل مساعدة الأفغان بديلاً عن الحج، ولكن حج وساعد إخوانك المجاهدين.(127/40)
التكبير المطلق والمقيد
السؤال
ما هو الفرق بين التكبير المطلق والمقيد؟ أليس المقيد داخل في المطلق بعد الصلاة؟
الجواب
الفرق بين التكبير المطلق والمقيد: أن التكبير المطلق مشروع في كل وقت، كما قال البخاري رحمه الله: قائماً وقاعداً ونائماً وماشياً وداخلاً وخارجاً وفي كل وقت، أما التكبير المقيد فهو مخصص بصلاة الفريضة وفي أيام معلومة، من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق.(127/41)
الحج عمن حج وقد مات
السؤال
والدي متوفى، وقد حج أكثر من مرتين، وأرغب في الحج له، فما الحكم؟
الجواب
حسن، بارك الله لك وفيك، وتقبل الله منا ومنك، وهذا من البر بأبويك أن تحج لهما بعد حجهما، أو تتصدق عنهما وتدعو لهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة أن تحج عن أبيها، وقد جاء في سنن ابن ماجة حديث لا بأس بإسناده: {أن رجلاً قال: أريد أن أحج عن أبي فهل ينفعه ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك، فإنه إن لم ينفعه لم يضره} فحج عن أبيك ولك أجر على ذلك.
بقية السؤال: وكيف أقول بالدخول في نسك عن والدي؟ الجواب: تقول: لبيك عن والدي، لبيك عن فلان.(127/42)
الخروج للمبيت بمنى
السؤال
كثير من الحجاج يسكنون بمكة أيام التشريق، ويخرجون إلى منى للنوم فقط، ومع الفجر يذهبون إلى شقتهم، فما الحكم؟
الجواب
لا حرج في ذلك، فإن المطلوب هو أن يبيت الإنسان بمنى.(127/43)
الصوم بمكة قبل يوم التروية
السؤال
هل يسن أن يصوم الحاج بمكة قبل يوم التروية؟
الجواب
الذي يظهر لي أنه إذا لم يشق عليه؛ فإنه يشرع له كما يشرع لغيره صيام تلك الأيام.(127/44)
الحج الذي يمحو الذنوب
السؤال
هل خروج الإنسان من ذنوبه كيوم ولدته أمه في حج الفرض والنفل؟
الجواب
الحديث عام: {من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} فرضاً كان هذا الحج أو نفلاً.(127/45)
جبر الحج
السؤال
زوج يماطل زوجته ويمنعها عن الحج بزعم أنها حجت قبل ذلك، مع أنها تقول: حججت وكنت صغيرة، وأنا لا أعرف شيئاً عن الحج، وأنا أريد أن أجبر ذلك الحج.
فما الحكم؟
الجواب
مسألة جبر الحج كثير من الناس يقول: أنا قصرت في الحج وأريد أن أحج حجة أخرى تكون هي حجة الإسلام.
فالحجة الأولى التي حجها الإنسان وهو بالغ هي حجة الإسلام، لكن لا شك أن النفل يجبر الفرض، فإن كانت هذه المرأة بالغة يوم حجت فالحجة الثانية نافلة، وينبغي أن تحرص على أن تحج وتقنع زوجها بذلك، وإن لم تحج هذه السنة حجت السنة التي بعدها أو التي بعدها، أو حتى بعد خمس سنين إن أعطاها الله تعالى عمراً، وإن كانت حجت وهي صغيرة -أي قبل أن تبلغ- فمعنى ذلك أن حجة الإسلام في عنقها، وعليها أن تحج حجة الإسلام، ويجب على زوجها أن يأذن لها بذلك.(127/46)
تأجيل الحج عن الميت
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، وقد سبق أن حججت، وتوفي عمي وهو يبلغ من العمر سبعين سنة ولم يحج، وقد توفي قبل سنتين، وأنا أريد أن أحج عنه؛ لكن لا أستطيع لظروف.
فهل يجوز أن أؤجل الحج عن عمي؟
الجواب
نعم، يجوز أن تؤجل الحج عن عمك، ومتى زالت هذه الظروف ووسع الله عليك حججت عنه.(127/47)
من أذنب وهو في الحج
السؤال
إذا حج رجل وارتكب ذنباً عمداً، وندم بعد ذلك بقليل وهو في الحج، ولا يريد أن يكون حجه ناقصاً، فماذا يفعل ليكون حجه نفلاً؟
الجواب
لا يمكن أن يكون حجه نفلاً وهو لم يؤدِ فريضة الإسلام، حجه فرض؛ لكن عليه أن يتوب إلى الله تعالى ويستغفر من هذا الذنب الذي فعله، فإن الذنب ينقص أجره، ولكن عليه بعد ذلك أن يكثر من حج النفل حتى يجبر الفريضة.(127/48)
ارتكاب ذنب أو ترك واجب ركوناً على فضل الحج
السؤال
هناك أحاديث كثيرة تشير إلى عمل من الأعمال، وفيه ضمان لمن أدى هذا العمل أن يدخل الجنة، مثل حديث: {الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وعلى هذا يفعل بعض الناس كبائر من الذنوب ويقولون: يكفي الحج، أو قد يتركون الصلاة محتجين بالحديث؟ وما صحة الحديث: {يأتي زمان يحج قراؤهم رياءً وفقراؤهم للمسألة} وهل يمكن أن يحج الإنسان للتجارة وللحج؟
الجواب
نبدأ الجواب من الأخير: كونه يحج للتجارة وللحج لا حرج، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] قال ابن عباس: [[أن يحج وهو يريد أن يتاجر أيضاً]] وقد أجمع أهل العلم على ذلك.
وأما حديث: {يأتي زمان يحج قراؤهم رياءً الحديث} فيما أعلم ضعيف.
قول الأخ: إن الإنسان يعتمد على هذه الأحاديث، فالذي أظنه -والله تعالى أعلم- أن قلب المؤمن لا يطيعه على ما تدعيه أيها الأخ، أي أن الإنسان الذي عنده ذرة من الإيمان لا يمكن أن يقبل على المعاصي، ويقول: يكفي الحج والعمرة؛ لأن في قلب المؤمن شيء يحرق ويدافع عن المعصية، ولذلك تجد الإنسان إذا عصى يتألم قلبه حتى يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولو نظرت في سير الصحابة، اقرأ مثلاً كتاب التوابين، أو التائبين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أي كتاب آخر، تجد أن الإنسان إذا وقع في ذنب يشعر بحرقة في قلبه لا يخرجه منها إلا توبة نصوح، بل كثير من الناس يقول: لا يطمئن قلبي إلا أن يهراق دمي في سبيل الله عز وجل، فتجده يتعرض للشهادة لعله أن يموت في سبيل الله، فالإنسان الذي عنده إيمان لا يمكن أن يعتمد على مثل هذه الأحاديث فقط ويقول: أفعل المعاصي؛ لأنه قد لا يفعل هذه الطاعات، وقد لا يكون فعل هذه الطاعة بنية خالصة؛ حتى يتحقق له الأمر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الأحاديث تكون مرغبة للأعمال الصالحة من جهة، وتكون مزيلة للقنوط واليأس الذي يقع في نفوس بعض العصاة من جهة أخرى.(127/49)
الديون وحج التطوع
السؤال
عليَّ بعض الديون لعدة أشخاص، ولا أستطيع أن أسددها، وأريد الحج، وسبق أن حججت فرضي، فهل على شيء في ذلك، مع العلم أنني سآخذ حجة لأحد الأشخاص؟
الجواب
على أي حال، سواء كان حجك لنفسك أو غيرك؛ إن كنت تعلم أن أصحاب الديون يأذنون لك في الحج ولا يمانعون من ذلك، فسواء استأذنتهم أو علمت ذلك من القرائن ووقائع الأحوال؛ فلا أرى في ذلك حرجاً.(127/50)
التوكيل في رمي الجمرات
السؤال
وكلني أحد الناس أن أرمي له الجمرات وقد رميت له قبل نفسي فهل يجوز؟ وقد عملت ذلك حرصاً على موكلي، وقد رميت له ست جمرات فقط؛ وذلك لوقوع السابعة مني ولم أستطع أخذها لكثرة الزحام؟
الجواب
هذا فيه عدة أمور: منها أولاً: أنك رميت عنه قبل أن ترمي عن نفسك والأصل أن هذا لا يصح، الأصل أن تبرئ ذمتك ثم ترمي عنه، ومنها: أن الأصل أنه لا يوكلك إلا عند العجز، فإذا كان مستطيعاً فإنه يجب أن يرمي بنفسه.
ومنها: أنك رميت له بست جمرات وكان يجب أن ترمي له سبعاً، على كل حال من ترك واجباً في الحج فإنه يجبره بدم.(127/51)
الأضحية على الحاج
السؤال
أريد أن أضحي وأريد أن أحج، هل أذبح أضحيتي هناك مع الهدي؟
الجواب
ذهب الإمام مالك ورجحه الإمام ابن تيمية كما في الاختيارات، إلى أن الأضحية لا تشرع للحاج، فالهدي بدل عنها، والجمهور على أن الأضحية مشروعية للحاج وغيره، سواء ذبحها هنا أم هناك.(127/52)
الأضحية في أماكن الحاجة إليها
السؤال
شاع بين الإخوة التضحية بين الأماكن المحتاجة كأفغانستان.
ما مدى جواز ذلك؟
الجواب
الذي يظهر لي أن الإنسان يجوز له أن يضحي في الأماكن التي يحتاج الناس إليها، فلا حرج أن يذبح أو يوكل من يذبح أضحيته في أفغانستان أو غيرها، وقد ذهب بعض أهل العلم المعاصرين إلى أنه ينبغي أن تذبح الأضحية في البلد الذي فيه الإنسان حتى تظهر هذه الشعيرة وتشهر.(127/53)
التلفظ بالنية في الأضحية
السؤال
إن النية محلها القلب فهل يلزمنا أن نسمي على الأضحية ونقول: عن فلان وعن فلان أم يكفي النية دون التلفظ؟
الجواب
تكفي النية دون التلفظ ولو تلفظ فلا حرج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عني وعن لم يضح من أمتي} فلا حرج أن تقول عن فلان أو تنويها بقلبك(127/54)
التكبير عقب الصلاة
السؤال
قولك عن ابن عباس: [[ما كنا نعرف صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] هل هو التكبير بعد الصلاة، أو خفض التكبيرة الأخيرة من التشهد الأخير؟
الجواب
قوله: [[ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] أي أنهم كانوا يعرفون أن الصلاة قد انتهت إذا كانوا في الشارع؛ لأن ابن عباس كان صغيراً ربما يتأخر عن الصلاة أحياناً أو يأتي في آخرها، فيقول: كنت أعلم انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان هذا يحدث قليلاً أو نادراً- فيعرف رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتهى من الصلاة بارتفاع أصوات الناس بالتهليل والتكبير، فكانوا يعرفون ذلك بالتهليل والتكبير.(127/55)
المفاضلة بين بعض صيام النوافل
السؤال
أيهما أفضل: صيام التسع من ذي الحجة، أم صيام يوم وإفطار يوم، للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً} ؟
الجواب
الأفضل أن يصوم التسع من ذي الحجة كلها سرداً؛ وذلك لأن صيام يوم وإفطار يوم هذا لمن يصوم الدهر كله، فنقول له: الأفضل أن تصوم يوماً وتفطر يوماً، وهذا هو أفضل الصيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص.(127/56)
المضحي عن والديه هل يمسك عن شعره
السؤال
من تبرع بأضحية عن والديه، فهل يلزمه الإمساك عن شعره وأظفاره؟
الجواب
من كانت أضحيته عن والديه أو عن أحد غيرهما؛ فإنه لا يلزمه أن يمسك عن شعره وظفره، إنما الذي يلزمه أن يمسك هو من أراد أن يضحي عن نفسه، فلو ضحى عن نفسه وأهل بيته -مثلاً- فإنه يلزمه حينئذ أن يمسك.(127/57)
الاستظلال بمخيمات المطوفين بعرفة
السؤال
ما حكم الاستظلال ببعض مخيمات المطوفين في عرفة، حيث إنهم يأخذون مساحات كبيرة في ذلك الموقف، وقد يشق على المرء وجود مكان مناسب؟
الجواب
لا شك أنه لا حرج في ذلك؛ لأنه ليس من حقهم أن يستقطعوا هذه الأماكن، فهذه أماكن مشاعر ليست لأحد، فإذا وجد الإنسان مكاناً فارغاً ليس فيه أحد؛ فإنه يحق له أن يجلس فيه ويستظل به، اللهم إلا أن يأتي إليه أحد، مثل أن يكون هذا المطوف حجزه لحجاج لم يأتوا بعد وسيأتون، فإن الإنسان في حالة مجيئهم ينبغي له أن يترك ويغادر هذا المكان؛ إذا كان في ذلك تضييق عليهم.(127/58)
سؤال عن الحج وطاعة الأب
السؤال
شاب يبلغ من العمر ست عشرة سنة يريد أن يحج، حيث أنه قد بلغ ولم يحج.
ولكن أباه لا يسمح له بذلك ويقول: تحج بعد بضع سنوات.
فهل ينبغي له أن يطيع أبويه، أو يحج بدون إذنهما؟
الجواب
في الواقع أن من بلغ ينبغي له أن يحج من ذكر أو أنثى، ولا يشترط في ذلك إذن الوالدين، لكن على الأب أن يأذن لولده بالحج بل عليه أن يأمره به، وكذلك الزوج ليس له أن يمنع زوجته من حج الفريضة إذا كانت قادرة مستطيعة، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحج واجب على الفور، وعلى هذا القول فإن على الابن أن يحج بدون إذن أبيه، وكذلك الزوجة تحج ولا يحق لزوجها أن يمنعها؛ إذا وجدت محرماً أباً أو أخاً أو ابن أخ أو نحو ذلك؛ لكن على الإنسان -ذكراً أو أنثى- ألا يجعل بداية الإقناع هي الإلزام، فإذا قال لوالده -مثلاً- أنا بالغ وأريد أن أحج.
قال له أبوه: ستحج العام القادم.
فقال له: لا، سأحج، قد أفتى فلان وفلان بأنه لا يشترط إذنك.
هذا ليس أسلوباً مع الوالد، بل ينبغي أن يأتيه بالأساليب السمحة السهلة اليسيرة، ويبدأ بالتدريج والإقناع، يستخدم وسائل الضغط، يكلم الوالدة وبعض الأقارب، يتحدث إلى الوالد ويحسن إليه، ويحرص على إقناعه بكل وسيلة، فإذا عجز هنا يجعل سلاح الفتوى بأن يحج ولو لم يأذن له، يجعله آخر حل.(127/59)
حكم من حج شاكاً في بلوغه
السؤال
لقد حججت قبل العام الماضي وعمري حوالي خمس عشرة سنة، فهل هذا الحج يعتبر فرضاً أم يلزمني أن أحج مرة أخرى علماً أنني لا أعلم هل بلغت حينئذٍ أم لا؟
الجواب
البلوغ يكون بوسائل بالنسبة للذكر، منها بلوغ خمس عشرة سنة، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني]] فلما سمع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال: [[إن هذا يصلح أن يكون حداً للفرق بين الكبير والصغير.
]] فمن بلغ خمس عشرة سنة فإنه يكون قد بلغ وحجه صحيح وهو فرض، وكذلك يكون البلوغ بإنبات الشعر فوق الذكر (شعر العانة) وكذلك يكون البلوغ بإنزال المني بيقظة أو باحتلام، فإذا تحقق أحد هذه الصفات الثلاث، والأنثى تزداد أمراً رابعاً وهو الحيض فإن الإنسان يكون بالغاً، أما إذا لم يتحقق لك شيء من ذلك؛ فإنه لا يكون بالغاً، ويجب عليه أن يحج حجة الإسلام.(127/60)
المراد بتكفير صوم عرفة لسنتين
السؤال
إن يوم عرفة يكفر السنة الماضية والسنة القادمة.
ما المراد بذلك؟
الجواب
أي يكفر سنة قبله وسنة بعده.(127/61)
التوكيل في الحج
السؤال
هل يجوز التوكيل في الحج عن المستطيع؟
الجواب
الأصل أن يحج الإنسان بنفسه، وكذلك سائر الأعمال الأصل أن الإنسان يباشرها بنفسه؛ فإن أهل الجنة دخلوها بأعمالهم قال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] دخلوها برحمة الله التي تأهلوا لها بأعمالهم، إنما يوكل عن الحج العاجز، فمن عجز عن الحج لزمانة أو مرض أو نحوه فإنه يوكل.(127/62)
زوائد الإنسان من ظفر ونحوه
السؤال
هل من المشروع الاحتفاظ بالشعر والظفر والسن للآدمي، والدعاء عند دفن السن، وهل شعر الإنسان محترم؟
الجواب
لا أعلم في ذلك حديثاً مرفوعاً ولا أثراً صحيحاً، فإن دفن الإنسان هذه الأشياء فحسن، وإن وضعها في أي مكان مثل الزبالة أو القمامة فلا أعلم في هذا حرجاً، ولا أعلم في هذا أمراً مشروعاً.
أما الدعاء فليس هناك دعاء مشروع عند دفن السن أو دفن الشعر أو غير ذلك.(127/63)
الاعتكاف في العشر
السؤال
هل الاعتكاف مشروع في أيام العشر، ومتى يبدأ ومتى ينتهي إن كان مشروعاً؟
الجواب
سبق وأن بينت في ثلاثين وقفة في مطلع شهر رمضان؛ أن الاعتكاف مشروع في كل وقت، ويتأكد في رمضان وفي العشر الأواخر منه، أما متى يبدأ ومتى ينتهي؟ فبحسب ما يريد الإنسان، فإذا أراد أن يعتكف يوماً أو ليلة أو يومين أو أقل أو أكثر بحسب ما يريد جاز له ذلك.(127/64)
نهاية يوم عرفة
السؤال
ما صحة قول من قال: أن نهاية يوم عرفة قبل دخول وقت الفجر من اليوم الثاني؟
الجواب
نعم، ينتهي يوم عرفة بطلوع الفجر من اليوم الثاني، أي من ليلة مزدلفة.
مثلاً: لو أن الإنسان وقف بعرفة في الليل -أي بعد يوم عرفة في ليلة مزدلفة- لكان حجه صحيحاً، وإن كان ينبغي أن يقف بعض النهار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد وقف بعد ذلك بعرفة أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه.
فمن وقف بعرفة ولو ليلاً فحجه صحيح؛ لكن يجب أن يقف جزءاً من النهار كما قاله كثير من أهل العلم.(127/65)
حج التطوع والصدقة
السؤال
إذا كان الإنسان قد حج أكثر من مرة، فأيهما أفضل: أن يترك الحج ويتصدق بثمن حجه؟ وما رأيك فيمن يحج رغبة في الرفقة الصالحة والاستفادة منهم علماً وإيماناً؟
الجواب
أرى أن الحج أفضل من التصدق بثمنه، إلا أن يكون في الناس حاجة شديدة إلى المال لا تسد.
وأما الحج رغبة في الرفقة الصالحة أو الاستفادة علماً وإيماناً؛ فهذا حسن وهو من المقاصد المشروعة.(127/66)
سبل المشاركة
الدعوة إلى دين الإسلام هي الخير العميم، وبه جعلت الأمة خير الأمم، وهذه الدعوة لها سبل عديدة، ووسائل مختلفة متى أغلق على المرء منها باب يمكنه أن يفتح باباً آخر وهكذا، وفي هذا الدرس ذكر الشيخ حفظه الله، وسائل وسبلاً متعددة ونافعة، وبين كيفية استخدامها.(128/1)
تخريج الدعاة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وذريته وأزواجه يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته في هذا المجلس -وهو نهاية المجالس الرمضانية- في ليلة الأحد، لعله 13 من شهر رمضان من هذا العام، وقد كنت وعدت أن يكون موضوع هذا المجلس: أجوبة على بعض الأسئلة المتعلقة بدور الإنسان في الدعوة، واقترحت أن يكون عنوانه (سبل المشاركة) وسأقدم نماذج لبرامج عملية بإمكان أي إنسان أن يقوم بعملها أو عمل شيء منها، ليكون بذلك داعية إلى الله تعالى.
إننا نحتاج لتخريج الدعاة إلى الله تعالى إلى أمرين: أولهما: توفر الهمة الصادقة، والشعور القوي بوجوب المشاركة، بحيث يشعر كل إنسان أن عليه مسئولية في الدعوة إلى الله تعالى، وواجباً يقوم به هو لا يجزئ عنه فيه غيره ولا سواه، وهذا يمكن أن يتم من خلال الطَّرْق المتواصل على موضوع الإيجابية، وضرورة المشاركة، ووجوب القيام بدور الإنسان في الدعوة.
الأمر الثاني: الانتقال من هذا المعنى العام، إلى طرح برامج عملية وأسباب تفصيلية وطرق للدعوة إلى الله تعالى، وسوف أعرض اليوم ما تيسر منها، وهي لا شك برامج كثيرة جداً تتسع لمجالس عديدة، فمن هذه السبل والبرامج:(128/2)
طريق المراسلة
لو فتحت أي مجلة أو جريدة، داخلية كانت أو خارجية، لوجدت فيها زاوية للتعارف، يُنشر فيها أسماء وعناوين، وأحياناً صوراً لأعداد كبيرة لأناس من جميع البلاد، وغالباً ما تتم المراسلة بينهم وبين أمثالهم من المشغولين بالدنيا المنهمكين في شئونها، فلا تكون المراسلة إلا نوعاً من اكتشاف المجهول فحسب، أو اقتناء رسوم وصور وعناوين، أو اتخاذ صداقات يستعد بها الإنسان للمفاجآت والنوازل والنوائب، لكن ثمة طريقة يمكن أن تستثمر؛ وهي تحويل هذه الصداقات والتعارف إلى أسلوب للدعوة.
إننا نجد الإذاعات هي الأخرى تعلن أسماء وعناوين للمراسلة والتعارف، والإذاعات التنصيرية على سبيل الخصوص، كإذاعة الإصلاح وغيرها، تقوم بإعلان أسماء كثير من الناس للتعارف معهم، وتستقبل رسائلهم وتراسلهم، فلماذا لا يدخل المسلمون الحلبة ذاتها؟ لماذا لا تفكر أنت بذاتك وعينك وشخصك ودعك من الآخرين؟ أن تعمل على جريدة أو مجلة أو إذاعة، حتى إذاعة لندن، وصوت أمريكا، ومونتكارلو وغيرها.
تبث أسماء للتعارف، فلماذا لا تقتنص هذه الأسماء والعناوين وتراسل أصحابها بالكلمة الطيبة والهداية والنور؟ وتجعل مع الرسالة كتاباً، أو كتيباً، أو نشرةً، أو شريطاً، أو دعوة إلى الله تعالى، بحيث تستفيد من هذه الوسيلة في الدعوة، وسوف تجد أنك إذا راسلت واحداً أول مرة؛ فإنه في الشهر التالي سوف يبعث إليك عشرة من أقاربه وأصدقائه ومعارفه وأهل بلده، وكلهم يطلبون منك الشيء ذاته، والكتاب نفسه، وأن تبعث إليهم ببعض الكتب الإسلامية أو الكتيبات أو المجلات الطيبة أو الأشرطة النافعة، وتستمر هذه القضية، وستجد بعد سنة أنه أصبح عندك مشروع كبير، وأنك عاجز عن الرد على هذه الرسائل، فأنت محتاج إلى أن تستعين بإخوانك، وهكذا تتحول من داعية بنفسك إلى داعية يجنِّد الآخرين في الدعوة إلى الله تعالى، فتستعين بآخرين يشاركونك في هذا العمل، وستجد في السنة الثانية أنك محتاج إلى أن تنشأ قسماً للمراسلة باللغة الإنجليزية أيضاً، لأنه جاءتك رسائل بهذا الشكل، وسوف تجد في السنة الرابعة أنك محتاج إلى أن تجند زوجتك وأختك لمراسلة الفتيات للهدف ذاته.
وهكذا تستطيع أن تنشر دعوة الله تعالى ونور الحق والخير في بلاد كثيرة، بل أقول: في كل بلاد الدنيا وأنت في بلدك ما ركبت طائرة، ولا غادرت الدولة التي تقيم فيها، ولا تحملت المشاق، ولا بذلت قيمة التذاكر، ومع ذلك فإن دعوتك ورسالتك وكلماتك شرَّقت وغرَّبت ووصلت إلى كل بلاد الدنيا.
إنها طريقة سهلة ومع ذلك فهي مفيدة جداً، أعتقد أن ولدك ربما يشتري أو تشتري له أنت أحياناً، أو على الأقل تستعير له من ولد الجيران بعض مجلات الأطفال، وكثيراً من هذه المجلات فيها شر مستطير، وبعضها مجلات تنصيرية عندي منها نماذج، ولكن كلها فيها ركن للتعارف للأطفال، فلماذا لا تستغل ذلك فتبعث لهؤلاء الأطفال باسم ولدك أو تجعل ولدك يكتب لهم دعوة إلى الخير ودعوة إلى الهدى، ومرفق معها قصص إسلامية من قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو قصص الصحابة رضى الله عنهم وأرضاهم، لماذا لا تفعل ذلك وسوف تجد من وراء ذلك خيراً كثيراً؟(128/3)
الطريقة الثانية: إعداد نشرات للتوعية وتوزيعها
إن الناس بحاجة إلى التوعية دائماً وأبداً، وخاصة في بعض المناسبات الملحة.(128/4)
عن النصرانية
نشرة ثالثة: عن الديانة النصرانية: تتحدث عن حقيقة الدين النصراني كما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، وما طرأ عليه من التغيير والتحريف والتبديل، وبيان بطلان دين النصارى الذي يدينون به اليوم وما يشوبه من الشرك، والوثنية، والتناقض، ومخالفة الواقع والتاريخ والفطرة والتوحيد، ونشر هذه الورقة على نطاق واسع، خاصة في أوساط النصارى وغيرهم.
إن إعداد مثل هذه النشرة وهذه لا تعدو أن تكون نموذجاً، وإلا فأنت من الممكن أن تعد نشرة للتوعية بخطر المخدرات، أو التدخين، أو العمال، أو الخادمات، أو سفر المرأة بدون محرم، أو أي موضوع آخر، ثم تعد هذه النشرة بشكل جيد وجذاب، وتعرضها على بعض أهل العلم ليتم توثيقها وتصحيحها، ثم طباعتها وتوزيعها، وتكون أنت شريكاً في مثل هذا العمل الطيب، ومن الممكن -بعد أن تجرب حظك مع نشرة- أن تنتقل بعد ذلك إلى نشرات أخر.
من الممكن أن يكون نشاطك هذا الشهر لنشرة توزع على من يبيعون أشرطة الغناء، لتحذيرهم من هذا الخطر وبيان حرمته في الإسلام، وفي الشهر الثاني تكون النشرة موجهة إلى من يبيعون أشرطة الفيديو، وفي الشهر الثالث تكون موجهة إلى أصحاب محلات الحلاقة، وفي الشهر الرابع تكون موجهة إلى أصحاب بيوت الربا، بنوك الربا، من العاملين فيه والإداريين والموظفين والحراس والمتعاونين وغيرهم، وهكذا.
إنه مجال خصب، ونحن أحوج ما نكون إليه، ورُبَّ كلمة لم يبذل فيها الإنسان جهداً كبيراً، ومع ذلك هدى الله بها خلقاً كثيراً.(128/5)
ضد أعداء الإسلام
قام الهندوس بهدم المسجد البابري، وهدموا معه أكثر من 300 مسجد، وقتلوا أعداداً كبيرة من المسلمين، وساعدتهم في ذلك أجهزة الأمن الهندية، وظل المسلمون يشتكون؛ لكن لا من يسمع ولا من يجيب فـ حمزة لا بواكي له: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيب فحق ضائع وحمىً مباح وسيف قاطع ودم صبيب وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمةٍ لها حرم سليب وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب فقل لذوى البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا أما لله والإسلام حقٌ يدافع عنه شبان وشيب فلماذا لا تقوم أنت بهذه المناسبة بإعداد نشرة تبين خطر الهندوس وعقائدهم وأهدافهم ونظرتهم إلى المسلمين، وواجب المسلم تجاه هذه الجرائم التي حلت بإخوانه؟ ثم تزكيها وتوثقها وتطبعها وتنشرها عن طريق صناديق البريد أو بشكل مباشر، أو عن طريق البريد نفسه، أو عن طريق الأصدقاء، وكثير ممن يملكون صناديق البريد، إذا فتح صندوقه وجد فيه دعاية لمحل جديد، محل تغسيل سيارات، أو ورشة جديدة، أو محل خياطة أو ما أشبه ذلك.
لكن من النادر أن يفتح الواحد صندوقه فيجد فيه نشرة توعية تحذره من خطر الهندوس، وتبين واجبنا نحن المسلمين تجاه هؤلاء، وأنه يجب إبعادهم، وإلغاء عقودهم وحرمانهم من وظائف العمل رسميةً كانت أو شعبية في بلاد الإسلام.(128/6)
للتعريف بالإسلام
مثلٌ آخر: نشرة تعريفية بالإسلام: تكون عبارة عن صفحة واحدة أو صفحتين؛ تقتصر على بيان القواعد والأصول العامة لعقيدة المسلمين في الله عز وجل، وأنه واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، توحيد الألوهية وأنه لا يعبد إلا الله، توحيد الربوبية وأن الله هو الخالق الرازق المحيى المميت، توحيد الأسماء والصفات وأن المسلم يقر لله تعالى بالأسماء الحسنى والصفات العليا، ثم أركان الإسلام ومبادؤه العظام، وكيفية الدخول في هذا الدين، وما أشبه ذلك من القواعد الكلية في الإسلام، نشرة في صفحة واحدة أو صفحتين، ثم يتم تزكيتها وطباعتها وتوزيعها بكافة الوسائل الممكنة.(128/7)
الطريقة الثالثة: زيارات ميدانية لدعوة غير المسلمين
إن الإحصائية التي أعلنت رسمياً قبل شهور، أثبتت أنه يوجد في هذا البلد ما يزيد على أربعة ملايين إنسان من غير أهله، أما المسلمون ففي الواقع أنهم من أهل البلد، ولو كانت جنسياتهم من بلد آخر، من مصر، أو الشام، أو العراق، أو بلاد العجم أو غيرها، فهذا البلد وسائر بلاد المسلمين هي بلد واحد، لا يعرف الحدود الجغرافية، ولا الفواصل السياسية، فكل بلاد المسلمين واحدة، ونحن نعتبر أن المسلم المقيم بيننا، أياً كان لونه أو جنسه أو جنسيته أو بلده؛ هو أخونا له ما لنا وعليه ما علينا، وهو أحب إلينا، وأغلى في قلوبنا، وأرفع في نفوسنا من أخينا لأمنا وأبينا إذا كان مفرّطاً في الدين أو مقصراً في حقوق الله عز وجل، لكن الشأن في الملايين من غير المسلمين، من يهود أو نصارى أو بوذيين أو سيخ أو هندوس أو وثنيين أو ما أشبه ذلك.
إن من المؤسف جداً أنهم يقيمون بيننا دون أن نبذل لهم أدنى مجهود، وقد يقيم الواحد منهم -أحياناً- عشر سنوات، ثم يرجع إلى بلده وهو لا يعرف عن الإسلام شيئاً، لماذا لا تقوم أنت شخصياً ببعض الزيارات التي هدفها دعوة غير المسلمين إلى الإسلام؟ زيارات إلى الورش والمصانع والمؤسسات والإسكانات وبعض المزارع، أو الشركات التي يوجد فيها عدد كبير منهم، سواء كانت هذه الزيارات منظمة، من خلال مكاتب الدعوة مثلاً، أو كانت زيارات اجتهادية شخصية من قبل نفسك، وأنت رابح بكل تأكيد من وراء هذه الزيارة، والربح يمكن أن يكون أحد البطاقات التالية:(128/8)
الأجر العظيم عند الله
البطاقة السادسة والأخيرة: هب أن ذلك كله لم يكن حتى إقامة الحجة، هب أنك وجدت لغته من اللغات التي لا تحسنها أنت، ولم تستطع حتى إقامة الحجة عليه، فأنت حينئذٍ عندك البطاقة السادسة وهي: الأجر فكل خطوة يرفع لك بها درجة ويحط عنك بها سيئة أو خطيئة.
فأنت مأجور على كل حال، ومسعاك هذا مسجل عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
إن هناك فوائد أخرى غير هذه، وهي: اكتشاف أحوال هؤلاء وأوضاعهم، والأشياء التي يعيشونها، فقد يكون بينهم مسلم مضطهد فتزيل اضطهاده، وقد يكون عنده منكرات ظاهرة تزيلها، وقد ينشرون في المجتمع، خمراً أو مخدرات، أو أفلاماً فاسدة أو مجلات منحطة، أو يتصلون ببعض الشباب، أو يرتكبون ويسهلون بعض الفواحش، فتكون أنت سبباً في الاحتساب على هذا المنكر وإزالته.(128/9)
إقامة الحجة
البطاقة الخامسة: إذا لم تفلح في ذلك كله فعندك إقامة الحجة عليهم، فأنت بلغتهم آيات الله وأحاديث رسول الله، والعقيدة الصحيحة، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار} فأنت كنت سبباً في إقامة الحجة عليهم وتبليغهم رسالات الله عز وجل، فأنت حينئذ تكون ممن يبلغون رسالات الله، ويخلفون النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فأنت من ورثة المرسلين.(128/10)
تشكيكه في دينه
البطاقة الثانية: تشكيكه في دينه، فإنك لما دعوته إلى الإسلام، وعرضت عليه مميزات هذا الدين ومحاسنه وفضائله؛ أثرت عنده تساؤلات عن دينه، ووضعت في عقله علامات استفهام عن العقيدة التي ورثها كابراً عن كابر، وهذا التشكيك في دينه قد يأتي بعد سنة أو أكثر من يزيده شكاً فيه، حتى يصبح في حالة تردد، ثم هذا الشك سيجعله يبحث عن الحق ولو بعد حين.(128/11)
تفتير القسس عن الحماس لدعوتهم
البطاقة الثالثة: أن هذا الإنسان كان قسيساً أو داعيةً إلى دينه، فلما دعوته إلى الإسلام وكررت عليه، وبدأت وأعدت، وحاصرته بالدعوة، تولد من ذلك فتور الحماس، لقد شعر أن هناك متحمسين لدينهم في هذه البلاد، وأنهم حتى هو استهدفوه بالدعوة وحاولوا صرفه عن دينه، فحينئذٍ يفتر حماسه، كما يفتر حماسك أنت لو دعوت نصرانياً فوجدته متصلباً في دينه متحمساً لدينه، مصراً عليه، فإن بعض المسلمين قد يفتر حماسه حينئذٍ.(128/12)
تخفيف العداوة للإسلام
البطاقة الرابع: تخفيف عداوته للإسلام، ولا شك أن الكفار كلهم أعداء للدين، ولكن بعضهم أشد عداوة من بعض، فأنت قد تفلح في تخفيف عداوته للدين، وقد تقول أنت: وأي فائدة من تخفيف عداوته؟ نقول: بل له فائدة، فكل شيء له حساب، ومن نتائج تخفيف عداوته: أنه لو أسلم قريبه لما كان موقفه شديداً متعنتاً متصلباً، لأن عداوته للإسلام قد خفت، ومن تخفيف العداوة: أنه لو واجهه مسلم لم يكن كرهه له شديداً، وقد يصغي له ولو بعد حين، ومن تخفيف العداوة: أنه قد يقدم لبعض المسلمين خدمات، كما نعلم أن عبد الله بن أريقط وكان مشركاً، هو الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في حادثة الهجرة، وهكذا، فكل شيء ينبغي أن تضعه في حسابك.(128/13)
الدخول في الإسلام
البطاقة الأولى: أن يدخل هذا الإنسان في الإسلام، وحينئذ فالأمر كما قال الله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] .
من رد عبداً آبقاً شارداً عفا عن الذنب له الغافر فهداية واحد على يدك خير كثير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} توليت أنت عتقه من النار، ومن الكفر، وهذا أعظم من عتقه من الرق لو كان رقيقاً، لكن هب أنه لم يسلم، فهل يعني أن جهدك ذهب سدى؟ كلا!(128/14)
الطريقة الرابعة: احتضان المسلمين الجدد
الطريقة الرابعة: احتضان مجموعة من المسلمين الجدد: أو حتى من المهتدين الجدد وحل مشكلاتهم ومساعدتهم مادياً أو معنوياً، فالسجن فيه عدد من المنحرفين، والواقع فيه عدد كبير من هؤلاء، أما الكفار -فكما أسلفت- ممن الممكن أن تقول لإخوانك المسلمين: أنا سوف أكفيكم أربعة أو خمسة مهتدين جدد وسوف أحتضنهم، سأتصل بهم وأقيم معهم الصداقات، وأدعوهم إلى الله وأصبر عليهم، وأتحمل أخطاءهم، وأحلم عنهم، وأتدرب على دعوتهم إلى الله، وأحتسب ذلك كله عند الله، وسأعطيهم الكتب والأشرطة، وأسمع مشكلاتهم وأسعى في حلها، وأبذل قصارى جهدي في ذلك، حتى مشكلاتهم المادية سوف أسعى في حلها وتيسيرها، لعل الله تعالى أن يهديهم، سواء كانوا كفاراً أصليين تطمع في نقلهم إلى الإسلام، أو ممن دخلوا حديثاً في الإسلام ويحتاجون إلى توعية أو تثقيف، أو كانوا من المسلمين الشاردين الضالين، وهنا حينما يكون عندك خمسة أو ستة أو أقل أو أكثر، تكون قد كفيتنا جانباً مهماً.(128/15)
الطريقة الخامسة: تبني حملة توعية عن منكر من المنكرات
مثلاً: الصحف المنحرفة أو المجلات الفاسدة التي تباع في المكتبات، والبقالات، والتموينات، وفي معظم الأماكن التجارية، ومثلها أيضاً: الكتب المنحرفة، ومثلها أيضاً الربا المحرم، أو الدخان، أو ألوان المحرمات، عندما تتبنى حملة ضد مثل هذه الأشياء في المحلات التجارية، بما تتطلبه هذه الحملة من زيارات لأصحاب الدكاكين والعاملين فيها، وإقناعهم بأن هذا العمل حرام، ومن توفير بعض اللوحات التي يمكن أن تعلق في بعض المحلات لتكون إرشاداً ودلالة، ومن اتصال بالأصحاب الأصليين، فقد يقول لك صاحب الدكان أنا موظف ليس بيدي شيء، لكن عندك صاحب المحل ومالكه، هذا تليفونه وهذا بيته اتصل به وهكذا.
وتجند معك في هذا العمل مجموعة من الشباب، تبدءون بالحي الذي أنتم فيه، ثم تنتقلون إلى نطاق أوسع حتى تغطوا المدينة بأكملها، ثم المنطقة ثم الدولة؛ أي دولة وأي منطقة وأي مدينة وأي حي، بحيث يكون لكم دور في مقاومة ومكافحة المنكرات الظاهرة، والقيام بحملة توعية تتعلق بملاحقتها والقضاء عليها.(128/16)
الطريقة السادسة: إعداد مكتبات نموذجية صغيرة وتوزيعها على المحلات المختلفة
حين نقول: مكتبة، لا نعني مكتبة ضخمة، بل نعني مكتبة قد لا تكلف أكثر من (600 ريال) فيها مجموعة من الكتب المفيدة، مجموعة من المختصرات التي تعرف بالإسلام، مجموعة من القصص التاريخية، مجموعة من الأشعار، مجموعة من الموضوعات المؤثرة وهكذا، ومثلها مجموعة من الأشرطة أيضاً، فعندما توفر -مثلاً- خمسين مكتبة في البلد، توضع في محلات الحلاقة، وفي المستشفيات في أماكن الانتظار، وفي الخطوط، وعند الأماكن التي يكثر فيها الشباب، حتى في الأندية الرياضية؛ بحيث أن الإنسان في أي مكان يلتفت فيجد أمامه مجموعة من الكتيبات وهو جالس، ينتظر دوره، أو ينتظر معاملة أو ما أشبه ذلك فيأخذ هذه الكتب فيقرؤها.
من ذلك: سيارة النقل الجماعي -مثلاً- بدلاً من أن يوجد فيها الفيديو الذي يعرض على الركاب، أو الغناء توضع فيها مثل هذه المكتبات والكتيبات، لا تقل: (سيضيع الكتاب) دعه يضيع، فهذا الكتاب -أصلاً- قيمته ريال أو ريالان، فإذا أخذه شخص يستفيد منه هو، أو يضعه في بيته يستفيد منه أولاده، وحبذا أن يوجد مَنْ يأخذه لينتفع به أو من وراءه.
فمثل هذا المشروع حين تتبناه وتجمع له التبرعات وتقوم به وتجتهد فيه، وتضع له مخططاً، سيكون مشروعاً مفيداً ناجحاً.
أي انطباع يأخذه المشاهد -حتى من خارج البلد- إذا دخل إلى البلد، وأراد أن يحلق رأسه فوجد عند الحلاق كتباً إسلامية ومجلات طيبة، بدلاً من المجلات الخليعة الفاسدة، ثم ذهب إلى السوق فوجد لوحات تتحدث عن منع بيع الكتب السيئة، أو النهي عن التدخين، أو النهي عن كشف المرأة لوجهها، ثم كلما مشى في مكان وجد أثراً من آثار الخير يدل عليه، إنه دليل على صلاح أهل البلد وفاعليتهم وإيجابيتهم.(128/17)
طرق أخرى
وأخيراً وليس بالأخير: جمع التبرعات، جاءني أحد الإخوة بطفله الذي لا يتجاوز الثانية عشرة بل الحادية عشرة من عمره، ومنذ زمن وهو في كل حين يأتيني بمجموعة من الأموال جمعها، هذه للبوسنة والهرسك، وهذه للصومال، وهذه لأفغانستان، وهذه لتفطير صائم، وكلما جاءه مشتر عرض عليه مشروعاً من هذه المشاريع بريال أو بريالين أو خمس ريالات، فعلى أقل تقدير المشتري يقدر هذه الهمة القوية عند شاب أو طفل في هذا السن، فيتجاوب معه، ويجمع من جراء ذلك مبلغاً، وقال لي الأخ: إني أربي ولدي منذ الطفولة ليكون شحاذاً، ولكن شحاذاً للإسلام.
ويا حبذا هذا العمل! فأنت فحين تتبنى جمع التبرعات بين زملائك في العمل، أو بين أهل الحي أو جماعة المسجد، أو جيرانك، أو أقاربك، وكذلك الأخت المسلمة تتبنى جمع التبرعات في مدرستها، أو تتبنى جمع التبرعات في مناسبة من المناسبات، أو في مسجد من المساجد، أو في وسط مجموعة من النساء لها بهن صلة وارتباط، إن الدال على الخير كفاعله، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء} .
أيها الأحبة: إنه من المؤسف أن تعلم أنه قد يقيم مغنٍِّ في بريطانيا أو أمريكا، أو ممثلة أو راقصة، يقيم حفلاً ويصرف ريعه لصالح الأعمال الإنسانية، فتحسب الأموال فإذا هي أحياناً مئات الملايين، مع أنهم كما قال الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فالكافر يحب المال، بل محبة الكافر للمال أعظم من محبة المسلم، لأن المال هو كل شيء بالنسبة له، فلماذا يبذل الكافر هذا البذل العظيم وهو لا يرجو ثوابه عند الله، أما المسلم فيقبض يده بالصدقة؟ هذه نماذج عملية تحولك من مسلم عادي، أو مسلم سلبي، أو من مسلم متفرج إلى مسلم داعية، مسلم إيجابي، واعلم أنه لا يوجد تعارض أن تكون مسلماً داعية ولو كنت مقصراً، فليس من شرط الداعية أن يكون كاملاً، ولا أن يكون معصوماً، ولو كان كذلك ما دعا أحد.
أسأل الله أن يستعملني وإياكم في طاعته، ويوفقني وإياكم لمرضاته ويهدني وإياكم سواء السبيل.
اللهم اعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعجل بنصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك يا رب العالمين! اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم إنهم ضعاف فقوّهم، وجياع فأطعمهم، وأذلاء فأعزهم، وخائفون فأمنهم، اللهم من كان منهم ضالاً فاهده يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك أن تقر عيوننا بنصر عاجل لهم، اللهم ارحم ضعف أخواتنا المسلمات في البوسنة والهرسك، اللهم ارحم ضعفهن يا خير الراحمين، اللهم ارحم ضعفهن، اللهم ارحم ضعف أولئك الأطفال، اللهم ارحم ضعف أولئك الأيتام، اللهم ارحم ضعف أولئك الشيوخ يا رب العالمين! أنت العليم بحالهم فارحمهم، وأنزل عليهم نصرك عاجلاً غير آجل.
اللهم انصر إخواننا في الصومال، اللهم انصر إخواننا في السودان، اللهم انصر إخواننا في الجزائر، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في مصر، اللهم انصر إخواننا في الفلبين، اللهم انصر إخواننا في كشمير، اللهم انصر إخواننا في طاجكستان، اللهم انصر إخواننا في كل مكان، اللهم اجمع كلمة المسلمين في أفغانستان يا أرحم الراحمين، اللهم أقر أعيننا بنصر عاجل للدين، اللهم إنه دينك الذي اخترته لعبادك يا حي يا قيوم، وبعثت به نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، فأظهره عاجلاً غير آجل على الدين كله، إنك على كل شيءٍ قدير.
ثم إننا سوف نجمع هذه الليلة -وهي الأخيرة- فابذلوا كل ما تستطيعون، وسيكون الجمع للغرض ذاته الذي جمعنا من أجله أمس وقبل أمس، وذلك لشدة الأهمية، ولأن هذا الغرض لو تحقق لربما أعفانا من كثرة سؤالكم والإلحاح عليكم في المستقبل، أسأل الله تعالى أن يقيني وإياكم شح أنفسنا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل محمد.(128/18)
الخاتمة
أسأل الله أن يستعملني وإياكم في طاعته، ويوفقني وإياكم لمرضاته ويهدني وإياكم سواء السبيل.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعجل بنصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك يا رب العالمين، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم إنهم ضعاف فقوّهم، وجياع فأطعمهم، وأذلاء فأعزهم، وخائفون فأمنهم، اللهم من كان منهم ضالاً فاهده يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك أن تقر عيوننا بنصر عاجل لهم، اللهم ارحم ضعف أخواتنا المسلمات في البوسنة والهرسك، اللهم ارحم ضعفهن يا خير الراحمين، اللهم ارحم ضعفهن، اللهم ارحم ضعف أولئك الأطفال، اللهم ارحم ضعف أولئك الأيتام، اللهم ارحم ضعف أولئك الشيوخ، يا رب العالمين، أنت العليم بحالهم فارحمهم، وأنزل عليهم نصرك عاجلاً غير آجل.
اللهم انصر إخواننا في الصومال، اللهم انصر إخواننا في السودان، اللهم انصر إخواننا في الجزائر، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في مصر، اللهم انصر إخواننا في الفلبين، اللهم انصر إخواننا في كشمير، اللهم انصر إخواننا في طاجكستان، اللهم انصر إخواننا في كل مكان، اللهم اجمع كلمة المسلمين في أفغانستان يا أرحم الراحمين، اللهم أقر أعيننا بنصر عاجل للدين، اللهم إنه دينك الذي اخترته لعبادك يا حي يا قيوم، وبعثت به نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، فأظهره عاجلاً غير آجل على الدين كله، إنك على كل شيءٍ قدير.
ثم إننا سوف نجمع هذه الليلة -وهي الأخيرة- فابذلوا كل ما تستطيعون، وسيكون الجمع للغرض ذاته الذي جمعنا من أجله أمس وقبل أمس، وذلك لشدة الأهمية، ولأن هذا الغرض لو تحقق لربما أعفانا من كثرة سؤالكم والإلحاح عليكم في المستقبل، أسأل الله تعالى أن يقيني وإياكم شح أنفسنا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل محمد.(128/19)
الأسئلة(128/20)
نصيحة حول جريدة الشرق الأوسط
السؤال
اطلع كثير من المسلمين على فتوى الشيخ ابن جبرين حول وجوب مقاطعة جريدة خضراء الدمن الشرق الأوسط لكن لا زال بعض الناس يتعاملون معها بكلمات وفتاوى وغير ذلك، فهل من كلمة لنا ولهم حول ذلك؟
الجواب
الكلمات هي: مرة أخرى نريد منكم مقاطعة هذه الجريدة، بل نطمع منكم بمقاطعة جميع مطابع الشركة السعودية سواء جريدة الشرق الأوسط أو الاقتصادية أو الرياضية أو سيدتي أو المجلة أو غيرها، فهي من الناحية الصحفية والإخبارية ليست ذات جدوى، ومعلوماتها غير موثقة، إضافة إلى ذلك فهي تظهر عداءها لكل ما هو إسلامي، وهي وكر للعلمانيين وأعداء الدين، وحق علينا أن نحاربها ونقاومها ولا نمل ولا نكل، حتى نراها وقد ركعت لهذا الضغط.(128/21)
نسيان إخراج الفطرة
السؤال
من لم يخرج زكاة الفطر العام الماضي وهو يستطيع ولم يخرجها للنسيان، فما حكم ذلك؟
الجواب
بعضهم يقول: يخرجها إن كان ناسياً، وبعضهم يقول: ينتهي وقتها وتكون بعد ذلك من الصدقات العامة.(128/22)
ما يقال بين تسليمات صلاة الليل
السؤال
الرجاء إيضاح ما يقال بعد كل تسليمة من صلاة الليل وبعد الوتر؟
الجواب
الذي بعد الوتر "سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس" يمد صوته بالثالثة، أما ما بين التسليمات فلم يرد فيها ذكر خاص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر بعد كل صلاة يقول: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله" أي: بعد الفريضة، ثم يقول عليه السلام: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام".(128/23)
استعمال معجون الأسنان للصائم
السؤال
أفتيت بجواز استعمال معجون الأسنان في نهار رمضان، ألا يتعارض ذلك مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: {بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً} ؟
الجواب
المشهور في الحديث: {وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} مع أن معجون الأسنان لا يدخل في المبالغة، فهو مثل السواك، يوضع على الأسنان ثم يزال بالماء، وقد جاء في رواية أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر في التلخيص: {وبالغ في المضمضة والاستنشاق} أيضاً.(128/24)
قطيعة الرحم بسبب التليفزيون
السؤال
بسبب وجود التليفزيون قل ذهابي لصلة رحمي، مع العلم أنني نصحتهم وأعطيتهم شريطاً كي يستجيبوا؟
الجواب
معناه: أن التليفزيون عند ذوي الرحم وعليك أن تزورهم وتنصحهم، وإذا كان عندهم تليفزيون وزرتهم فاطلب منهم أن يقفلوه، خاصة إذا وجد الغناء أو الموسيقى أو ما أشبه ذلك من المحرمات، ووجوده لا يمنع من صلة الرحم مع النصيحة كما بينت.(128/25)
ضيق الصدر بتذكر الماضي
السؤال
أنا مصاب بمرض نفسي، وهو أن يضيق صدري عندما تمر بذاكرتي بعض الأحداث السابقة وهي لا تستحق؛ لكن هكذا أنا، وعندما أضيق لا أدري ماذا أعمل، وربما تركت بعض أعمالي وظللت أفكر حتى أسكن، ثم يعود مرة أخرى فكيف ينشرح صدري؟
الجواب
عليك بكثرة ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فعليك بالإكثار من ذكر الله تعالى، وأوراد الصباح والمساء، وقراءة القرآن، والتبكير إلى الصلاة، وعمل الصالحات والخير والبر، والانهماك في الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاول قدر المستطاع أن تنسى كل ما مضى، فإن كانت معاصي فتذكر أنها تحولت إلى حسنات بتوبتك إلى الله تعالى منها، وأنك يوم القيامة قد تتمنى أنك لو زدت منها؛ لأن الله تعالى عوضك عنها بحسنات، كما قال سبحانه: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] وإن كانت أشياءً أخرى فهي أمور قد قدرها الله تعالى وكتبها عليك، فلا يد لك فيها ولا حيلة، ثم إن كثرة احتكاكك بالناس وخاصة الأخيار يزيل هذه الحساسية، وعليك أيضا بكثرة الدعاء، ثم إنى أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يشرح صدري وصدرك للإيمان.(128/26)
اعتكاف ثلاثة أيام من العشر
السؤال
هل يصح أن يعتكف الإنسان ثلاثة أيام فقط من العشر الأواخر؟
الجواب
نعم.
بإمكان الإنسان أن يعتكف ثلاثة أيام أو دون ذلك، حتى إن بعض الفقهاء يقول: اعتكف ولو ساعة أو نصف يوم، أو ما أشبه ذلك، لكن اعتكاف يوم كامل أو يوم وليلة هذا لاشك في جوازه، والأفضل أن يعتكف العشر الأواخر كلها.(128/27)
الوساوس في ذات الله
السؤال
ما رأيك بشاب تحدثه نفسه بأمر ووساوس لأن يسقط من أعلى مكان بالمدينة أحب إليه من أن يتحدث بها مع الآخرين، لأنها وساوس تتعلق بذات الله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا لا يضرك شيئاً، عليك أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتقرأ سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] وتتفل عن يسارك، ثم لا تعبأ بما وراء ذلك، لأن الشيطان إذا رآك خائفاً قلقاً؛ فإنه يفرح ويزيد، وأما إذا رآك تفلت واستعذت بالله منه، فإنه يعرض عنك، وهذه الوساوس لا تضرك قط، لا في دينك ولا في دنياك ولا في آخرتك.(128/28)
زكاة الدين
السؤال
لي دين على بعض الأشخاص فهل أزكي عنه؟
الجواب
إذا كان هذا الشخص مليئاً فإنك تزكيه.(128/29)
الطواف عن الأموات
السؤال
ما حكم ما يفعله بعض الناس عند الذهاب إلى بيت الله الحرام من الطواف للأموات؟
الجواب
لا حرج في ذلك -إن شاء الله- إن طاف لميت، أو حج عنه، أو اعتمر عنه، فلا حرج في ذلك كله.(128/30)
القراءة بغير تجويد
السؤال
ما حكم قراءة القرآن الكريم بدون إقامة الحركات لمن لا يستطيع إجادتها؟
الجواب
الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، هذه فتوى محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران.(128/31)
خروج المرأة معطرة
السؤال
بعض الأخوات تضع العطر وهي قادمة لتصلي التراويح وتسمع درساً، فهل هذا معناه إصرار على إثم أم ماذا يكون؟
الجواب
قد يكون عدم معرفة بحكم الشرع، فربما أن الأخت ما سمعت حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي قال: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} وفي بعض الروايات قال: {فهي زانية} .(128/32)
المزح بأخذ حق الغير
السؤال
ما رأيك فيمن يمزح فيأخذ مفتاحاً أو مالاً أو حذاءً أو غير ذلك؟
الجواب
هذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {لا يأخذ أحدكم نعل أخيه جاداً ولا هازلاً فإن ذلك يحزنه} .(128/33)
زكاة مرتب التقاعد
السؤال
أنا واحدة ممن يعملن بحقل التدريس، ومن المتعارف عليه نظاماً أن يؤخذ من كل راتب قدر من المال ويسمى بالتقاعد، وتمضي عليه عدة سنوات، هل يزكى على هذا المال المدخر؟
الجواب
أعتقد أن الجهة المختصة هي التي تقوم بتزكيته.(128/34)
الدعاء لأهل السنة في لبنان
السؤال
نرجو منكم حشر أهل السنة والجماعة في لبنان في دعائكم، وأن يقوي الله شوكتهم في هذا البلد، وأن يفضح الأحباش وسائر أعداء الدين، وأن يدمر مكائدهم وأن يجعل تدبيرهم في تدميرهم، ونفيدكم علماً أن هناك صحوة قائمة في هذا البلد -أعني لبنان- على أيدي الشباب الملتزم المتخرج من جامعة الإمام والجامعة الإسلامية وغيرهما.
الجواب
هذه بشرى، وقد سمعتها من عدد من الإخوة وظواهرها كثيرة، ونسأل الله تعالى أن يثبت إخواننا في لبنان، وأن يقوي شوكتهم ويشد من أزرهم، ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يكفيهم شر أعدائهم.(128/35)
حكم التفصيل في الدعاء
السؤال
انتشر عند بعض الأئمة التفصيل في الدعاء فهل هذا هو المشروع؟
الجواب
الأحسن هو الدعاء بجوامع الكلم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بجوامع الدعاء ويدع ما سوى ذلك.(128/36)
صلاة المرأة بالقفازين والتصدق عن الأحياء
السؤال
ما حكم الصلاة للمرأة وقد ارتدت القفازين، ورفع اليدين عند الدعاء، وهل يجوز التصدق عن الأحياء؟
الجواب
أما الصلاة وقد ارتدت المرأة القفازين فلا حرج في ذلك، ومثل ذلك رفع اليدين عند الدعاء على ألا يظهر شيء من ذراعها، أما التصدق عن الأحياء فهو جائز، وكذلك التصدق عن الأموات.(128/37)
دخول الأطفال المسجد
السؤال
أرجو توجيه نصيحة للنسوة اللاتي تركن أطفالهن يؤذين المصلين؟
الجواب
المرأة إن استطاعت أن تبقى في بيتها وتصلي ما كتب لها، فهذا أفضل لها بلا شك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وبيوتهن خير لهن} لكن أيضاً أنتم لا تكونوا حساسين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إني أكبر في الصلاة وأريد أن أطيلها فأقصرها لأني أسمع بكاء الصبي} فدخول الصبيان للمسجد مع أهلهم إذا كان ثمة حاجة مع التحفظ في ذلك من نجاستهم ومن أذاهم بقدر المستطاع، فلا حرج فيه إن شاء الله.(128/38)
ردة القصيمي
السؤال
ما سبب ردة القصيمي عن الإسلام؟ وهل هو حي؟ وهل نصح؟
الجواب
أما سبب ردته فقد سبق في علم الله تعالى، كما قال الله في الآيات: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:105-107] وقال ربنا عز وجل في الحديث القدسي: {هؤلاء للنار ولا أبالي، وهؤلاء للجنة ولا أبالي} أما السبب الظاهر للناس: فالأغلب أنها شهوة الظهور والعظمة والاستكبار والإعجاب بالنفس، تمكنت من قلبه نسأل الله لنا ولكم جميعاً الوقاية من هذا الداء العظيم.(128/39)
احترام الطعام
السؤال
رأيت رجلاً قد سقط على طرف ثوبه بعض الطعام، فأخذ قطعةً من الخبز ثم مسح طرف الثوب فأنكرت عليه فقال: إن هذا أمر طبيعي وإن القطعة يأكلها الطير والنمل فما رأيك؟
الجواب
إذا كان سيضع هذا الطعام في مكان طاهر فلا بأس بذلك.(128/40)
اختيار الزوجة
السؤال
طلقت زوجي بعد سنة من زواجي لانعدام الود في قلبي لها، وبعد ذلك لقيت اللوم، وقال لي والدي: إذا أردت أن تتزوج مرة أخرى فابحث بنفسك عن زوجة ونحن لن نبحث لك، وأنا لا أستطيع الرجوع لأني لا أرغب بها وأرغب في الزواج من أخرى، فأرجو نصح والدي لعدم الضغط عليَّ بالرجوع؟
الجواب
أن الزوج يطلق على المذكر والمؤنث، كما قال الشاعر: وإن الذي يسعى ليأخذ زوجي هذه هي اللغة القليلة، واللغة الأكثر هي زوجي، جاء بها القرآن الكريم كما في سورة الأحزاب وغيرها قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37] أي: زوجتك.
أولاً: قبل أن تتزوج حاول أن تتحرى بقدر المستطاع، فأكثر الشباب يهجمون على الزواج دون روية، هذه نصيحة ثمينة ولن أطيل فيها.
ثانياً: ليس كل البيوت تبنى على الحب، وسيدك محمد صلى الله عليه وسلم وسيدي الناصح الأمين يقول: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها بآخر} وقد يرزقك الله منها ولداً صالحاً يجاهد في سبيل الله، قال الله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] .
ثالثاً: أما إذ طلقت وأنت لا ترغب الرجوع إليها فهذا من حقك، وعلى أهلك ووالدك أن يكونوا عوناً لك على الخير.(128/41)
اقتراح تسجيل الأشرطة بجميع اللغات
السؤال
اللغة تحول بيني وبين دعوتي هؤلاء العمال، فأقترح أن تقوم محلات التسجيلات بعمل أشرطة بجميع اللغات؟
الجواب
لماذا لا يكون هذا عملك أنت؟ فينبغي أن نكون منفذين لا مجرد مقترحين، ووجود أشرطة بلغات مختلفة توزع أو تباع اقتراح ممتاز، وبدلاً من أن توكل بها إلى أصحاب التسجيلات، وأصحاب التسجيلات الموجودون منهم والغائبون يقولون: وفرناها فما جاء أحد ليشتريها، قم أنت بهذا المشروع مع كوكبة من زملائك.(128/42)
البديل الإسلامي عن المحرمات
السؤال
كثيراً ما يتطرق الدعاة والعلماء -حفظهم الله- إلى بعض المواضيع والأمور المحرمة، ويحثون الناس على اجتنابها وسوء عاقبتها، وذلك لتعود الناس عليها وإلفهم لها دون محاولة إيجاد البديل، ومن هذه -مثلاً- المؤسسات الربوية، فلو وُجد البديل الإسلامي لهذه المؤسسات، لكانت الاستجابة الكبيرة والسريعة؟
الجواب
هذا جيد، وهذه مسئولية الإخوة الاقتصاديين، بل مسئولية الشباب حتى من الدارسين، أن يوجد من بينهم من يتخصص في الاقتصاد، فإن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ثم إني أقول: لماذا إذا وجد عندي أو عندك قرشان نذهب لإيداعها في البنك؟ لماذا يكون البديل مني أنا ومنك أنت؟ مشروع اقتصادي ولو بسيط، ولو أن تشتري بها دكاناً وتؤجره، أو سيارة وتؤجرها، أو تشتري بها نخلاً تقوم عليه وتبيع ثمرته في نهاية العام، أو ما أشبه ذلك من المشاريع البسيطة التي تتناسب مع رأس المال الموجود عندك! ثم إن هناك بنوكاً ومؤسسات مالية أفضل بكثير مما هو مشهور عند الناس، فمثلاً بعض المؤسسات التي تسمى بالبنوك الإسلامية، ومنها بنك الراجحى فهي في اعتقادي عند الجميع لا تقارن بأوضاع البنوك الربوية، حتى عند أولئك الإخوة الذين يرون أن في معاملتها بعض الشوائب؛ فإنهم -لا شك- يوافقوننا على أنها أفضل من غيرها، لأنها -على أقل تقدير- لا يمكن أن يودع عندها بفوائد، فلا يوجد في نظامها أن تودع مقابل فائدة معلومة قلت أو كثرت، ولهذه المؤسسة هيئة شرعية، يوجد فيها عدد من العلماء الموثوقين المعروفين، وأما الأخطاء والتجاوزات فهذه لا يسلم منها عمل، وخاصة في مثل هذه الظروف التي يسيطر فيها الربا على اقتصاديات العالم.(128/43)
توجيه للشباب
السؤال
مجالات الدعوة كثيرة، ولكن من لثمان كشتات في الأسبوع، ومن لأحوشة الضاحي التي يقضي فيها أكثر من 2500 شاب ليلياً على ما لا فائدة فيه حتى ساعة متأخرة من الليل، هؤلاء أكثرهم يحضرون معنا الآن أرجو توجيه كلمة لهم، وأن يجعلوا من برامجهم برنامجاً دعوياً؟
الجواب
هؤلاء الإخوة سواء كانوا ممن يقضون أوقاتهم في هذه الأحواش، أو في ملاعب الكرة، أو على جنبات الطريق، كلهم مخاطبون بالحديث السابق، والمسئولية علينا جميعاً، ودين الله تعالى حينما نزل لم ينزل لفئة خاصة، بل نزل للبشر كلهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فهي مسئوليتنا جميعاً.(128/44)
التسبيح باليمنى والاقتصار عليها
السؤال
أرى بعض الناس يسبحون بأيديهم اليمنى فقط، وعندما سألت بعضهم أجابني إجابة لم تقنعني؟
الجواب
جاء في حديث عند أبي داود والبيهقي، وسنده جيد {أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يعقد التسبيح بيمينه} وإن كان بعض أهل العلم يعتبر هذا الحديث شاذاً؛ ولكن تصحيحه مشهور عند جماعة من أهل الحديث.(128/45)
المجاهرة بالمعاصي
لا بد أن يهيمن الإسلام على حياة المسلم ولتحقيق ذلك هناك واجبات على المرأة تجاه هذا الدين، وواجبات على أولياء الأمور، كما ينبغي التفطن لأعداء الإسلام ودور الإعلام المساند لهم، والتعاون مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
والله يجيب دعاء عباده الصالحين من الأنبياء وغيرهم ويجيب دعوة المظلوم، وهناك آداب للدعاء ينبغي فعلها، كما أن هناك أسباباً للدعاء لابد منها.(129/1)
خطر المجاهرة بالمعاصي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون أيها المسلمات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، في هذه الليلة نستقبل أولى ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، وقد خلفنا وراء ظهورنا عشرين يوماً وليلة من هذا الشهر الكريم، فذهب أكثره وبقي أقله، فالخسار كل الخسار، والبوار كل البوار أن تمضي هذه المناسبات والفرص، ونحن على ما نحن عليه من تفريط وإضاعة وإهمال، وكأننا كما وصف الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] .
إنني أود أن أتحدث عن هذه العشر وفضلها، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، لكنَّ هناك أمراً يقلق بالي ويؤرقني، ويجعلني مضطراً للحديث عنه، وترك الحديث عن هذه المناسبة العظيمة، ألا وهو ما نشاهده اليوم جميعاً في مجتمعات المسلمين من تحلل وفساد وانحلال.
إن المعصية إذا سترت لن تضر إلا صاحبها، لكنها إذا أعلنت وجوهر بها فإنها تضر الخاصة والعامة، ولذلك حرص الإسلام على حماية المجتمعات من مظاهر الرذيلة والانحلال، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل -أي معصية- ثم يصبح، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، وأصبح يكشف ستر الله تعالى عليه} المجاهر لا يعافى إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، وما أكثر ما نجد اليوم في مجتمعاتنا من المجاهرة بالمعاصي! تلك المجاهرة التي توشك أن تحول مجتمعات المسلمين إلى مجتمعات تشيع فيها المعاصي والمفاسد، ويصبح الإنسان إذا أراد أن يستقيم يصعب عليه ذلك؛ لأن المجتمع ضده، فهو يسبح ضد التيار.(129/2)
إليكم يا أولياء الأمور
وأنتم أيها الرجال، يا أولياء الأمور! أين أنتم من هذه المناظر؟ ما هذه الثقة المفرطة؟ كل الأسف ينتاب الإنسان حين يجد أن بعض الآباء يتقدمون إلى المساجد، وفي روضات المساجد، وخلف الإمام، ومن الممكن أن أحدهم يضع بناته وزوجته في السوق، ويذهب ليصلي التراويح والقيام وقبل السحور يأتي ليأخذهم من السوق، مسكين! أنت أيها الأب آخر من يعلم، لا تدري ماذا يجري.
نحن لا نقول: أسيئوا الظن.
لكن نقول: لا تبالغوا في حسن الظن، الإفراط في حسن الظن غلط، أنت ترى أن بنتك أو زوجتك أو موليتك تستحي أمامك، ولا يظهر منها أمامك إلا الشيء الطيب، وتنسى أن هذه الغريزة موجودة فيها، كما أن الرجل إذا رأى امرأة تثور غريزته، المرأة كذلك يحصل منها هذا الأمر، فما هو الشيء الذي يجعلك تبالغ في حسن الظن؟! ما هو الأمر الذي يجعل الأب قد ترك البيت لا يدري ماذا يجري داخل البيت، وأطلق الحبل على الغارب؟! التلفون في متناولهن، جهاز التلفاز والمسجل والفيديو والخروج والدخول والمجلات، بل السائق والخادم والخادمة في داخل المنزل، يا سبحان الله! لا بد أن نتصور كثيراً من بيوتنا الآن -حتى نكون أكثر وضوحاً- كثيراً من بيوتكم، لأننا لا نتكلم عن أناس غائبين، نحن نتلكم عنكم أنتم يا معشر الحاضرين، أنتم يا معشر المستمعين، البيت فيه سائق أو أكثر، وفيه خادمة أو أكثر، وفيه جهاز تلفاز، وفيه فيديو، وفيه أشرطة أغاني، وفيه مجلات، وفيه أجهزة هاتف، أحياناً كل غرفة فيها جهاز خاص للهاتف، يتصرف فيه الولد أو تتصرف فيه البنت كما يريدون، وفي نفس الوقت يوجد في البيت مجموعة من الشباب والبنات في سن المراهقة، هؤلاء الشباب والبنات نستطيع أن نقول: إنهم في كثير من الأحيان لم يتلقوا أي قدر من التربية.
ما هو دورك أنت أيها الأب؟ قل لنا بالله عليك، ماذا علمت لهم؟! هل علمتهم الإسلام وربيتهم على الخوف من الله عز وجل وربطتهم بالله والدار الآخرة، وأحييت في قلوبهم ذكر الموت وذكر الجنة وذكر النار؟ لا، أبداً، إذا كان الأب جيد، فكل ما يفعله أن يوفر لهم هذه الأشياء مع الطعام والشراب، ثم يترك لهم الحرية يصنعون ما يشاءون.
كيف ستكون النتيجة؟ النتيجة لا تحتاج أن أفصل فيها في هذا المكان الطاهر، النتيجة في رءوس الجميع، كل واحد منكم يعرف ما يجري في داخل كثير من البيوت، الشباب ينحرفون، والبنات يخرجن وينحرف بعضهن، والأجهزة من تلفاز وفيديو ومسجل تستخدم فيما لا يرضي الله عز وجل، في مشاهدة مسلسلات منحرفة، وأفلام خليعة، وأغاني ماجنة، ولذلك لا تستغربون حين تشاهدون الشهوات تتفجر.
أ/ نتيجة الإهمال من الآباء: أحد الأدباء المعاصرين، يسمي هذا العصر الذي نحن نعيش فيه عصر الشهوة.
وصدق هذا الرجل، هذا عصر الشهوة، أجهزة ووسائل كثيرة كل همها؛ أنها تحرض الرجال والنساء على الشهوات، الأغنية الماجنة الخليعة، الفيلم المنحط، المسلسل السيئ، المجلات التي ملأت البيوت اليوم، ثم إهمال الأبوين وتضييع التربية؛ أوجدت لنا جيلاً من الشباب والبنات لا يُعتمد عليه في دنيا ولا في دين، إن جئت للبنت لا تستطيع أن تشتغل في مطبخ المنزل، ولا عمل المنزل؛ لأنها قد كفيت هذا العمل ودللت، وأصبحت ترى أنها كالأميرة، ليس من شأنها أن تحرك ساكناً في البيت فهي مخدومة، وإن جئت إليها من جهة التدين والصلاح، فالله المستعان، ورحمة الله على أمهات المؤمنين وعلى المؤمنات الأول، هؤلاء النساء اللاتي ينتظر منهن أن تكون الواحدة وريثة لـ عائشة وزينب وخديجة وأم سلمة، أصبحت الواحدة لا همَّ لها إلا الاشتغال بتجميل نفسها بالأصباغ والمكاييج والملابس والحذاء والحلي والموضات والتسريحات وغيرها، وأصبحت البنت إذا شاهدت على شاشة التلفاز ممثلة أو مغنية بشكل من الأشكال في شعر رأسها أو ثيابها أو حذائها، أو أي شيء آخر؛ رأت أنه حق عليها أن تقلدها، وتسير على خطواتها، وتحاكيها حذو القذة بالقذه.
ما أكثر انتشار هذه المجلات المنحرفة! مجلة النهضة الكويتية -مثلاً- يباع منها في الأسواق أكثر من ثمانين ألف نسخة في الأسبوع الواحد، أو سبعين ألف نسخة، من الذي يشتريها؟! وكذلك المجلة التي يسمونها: مجلة سيدتي، وقل مثل ذلك في محلات الفن، محلات السينما وغيرها، من الذي يشتريها؟ إنهن بناتكم ونساؤكم، وما يكاد يوجد بيت -إلا ما رحم الله- إلا ويوجد فيه شيء من ذلك.
ما ذنب البنت إذا كانت لم تربَّ إلا على مشاهدة المجلات والأفلام، وسماع الغناء؟ وإذا خرجت إلى المدرسة وجدت قرينات سوء يحدثنها عن الصداقات وإقامة العلاقات، والمعاكسات في التلفون، وأشياء مثل هذا القبيل، وربما تبادل صور رجال أحياناً؟! وإذا جاءت للبيت ليس هناك تربية ولا توجيه ولا نصيحة، الأب مهمل مضيع، مشغول بالدنيا، من المزرعة إلى المؤسسة إلى الدكان إلى العمل، وكل ما يعرف عنه في البيت أن يأوي إلى البيت في وقت الغداء ويتغدى، وفي وقت العشاء ويتعشى، وفي وقت النوم يأوي إلى مضجعه.
الإنسان لو زرع شجرة في مزرعة.
أو في البر، إن تركها دون سقي ودون رعاية هلكت، لأنها تحتاج إلى الماء، وتحتاج إلى الرعاية، وتحتاج إلى الظل، وإذا أصابها شيء تحتاج لإزالته، فكيف ببناتك وأولادك تهملهم وتضيعهم؟(129/3)
دور أعداء الإسلام في نشر الرذيلة
يجب أن يظهر ولاؤنا للإسلام، المجتمعات الإسلامية مهددة، وأعداء الإسلام يعملون ليل نهار على تحويل هذه المجتمعات إلى مجتمعات رذيلة، هم حريصون على ألا يبقى في هذه الدنيا كلها مسلمة واحدة ولا مسلم واحد، وإلا فما هو الذي يجعلهم يتعبون في سبيل ترويج البضائع الفاسدة والانحرافات في مجتمعاتنا؟ في بلاد الغرب عصابات ومؤسسات وشركات، بل وجهات ودول، كل همها زرع الرذيلة وزرع الشهوات والشبهات والفجور في عقولنا وفي بلادنا.
هناك عصابات متخصصة -مثلاً- لترويج المخدرات في بلاد المسلمين، وهم يضحون في سبيل إيصال المخدرات عن طريق التهريب والبيع وغير ذلك، هناك عصابات وجهات وشركات ومؤسسات متخصصة في إصدار الكتب والمجلات والنشرات، والأشرطة وغيرها، ومحاولة إيصالها إلى كل شاب وكل فتاة، في سبيل إغرائهم بالوقوع في المتعة الحرام، وفي سبيل تحويلهم من مسلمين إلى مرتدين.(129/4)
إليك أيتها المسلمة
الإسلام ليس مجرد شعار، أو كلمات تقال باللسان، ولا مجرد عبارات يرددها الإنسان بلسانه، ثم ينقضها في واقع حياته، الإسلام لا بد أن يهيمن على واقع المسلم وحياته كلها، وكيف يحصل هذا التناقض من المسلمة؟! كيف ترضى لنفسها أن تفتن هؤلاء الرجال، وتفتن نفسها بهذا التبذل والتبرج والسفور؟! ثم هذه الأعداد الكبيرة من النساء، كل واحد منا حين يمر في الشارع -ذاهباً أو آيباً- يجد في الأسواق وعند المعارض وغيرها أعداداً هائلة من النساء، وأقولها لكم: فتيات غير متزوجات في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة، في سن المراهقة وفتيات بأجمل زينة وأبهى زينة، وبصورة مثيرة وجذابة ومغرية، ويعرضن هذه المناظر على الرجال في قارعة الطريق.
ألا تخافين الله عز وجل أيتها المسلمة؟ أما تذكرين أن هذا الجسم النظير سوف يوسد يوماً من الأيام في قبر وسوف يلعب به الدود لعباً؟ أما تذكرين أنه لن يبق من هذا الجسم شيء؟ سوف يؤكل منه اللحم والعظم ويبلى كله، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب} أي العظم في مؤخرته -الخرزة الصغيرة- أما يتذكر الإنسان هذا؟! أيغتر الإنسان بشبابه؟ أيغتر بجماله؟ كم من إنسان -ذكراً أو أنثى- كان مغروراً بقوته وبشبابه وبجماله، فعاجله الله بعقوبة، بمرض يحول هذا الجسم إلى جسم ضعيف واهٍ؛ حتى يصبح كأنه فرخ ضعيف من أثر المرض، ثم الموت له بالمرصاد.(129/5)
الخطوات المؤدية إلى الفاحشة الكبرى (الزنا)
إن من المجاهرة بالمعاصي اليوم ما نجده من الخطوات والأسباب والوسائل المؤدية إلى الفاحشة الكبرى "الزنا"، الذي وصفه الله تعالى بأنه فاحشة، وحكم على فاعله -إن لم يكن محصناً- بالجلد مائة جلدة، وإن كان محصناً فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت شر ميتة -نسأل الله العافية- وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم مصير فاعليه من الذكور والإناث، بأنه أبشع وأفظع مصير، كما في صحيح البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه، فقال لهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فإن رأى أحد رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنه التفت عليهم يوماً، فقال: هل رأى منكم أحد رؤيا؟ قلنا: لا يا رسول الله.
قال: لكني رأيت الليلة ملكين أتياني فأخذا بيدي، فصعدا بي جبلاً عظيماً، فمرا بي على رجل قاعد، ورجل قائم على رأسه معه كلوب من حديد، يضعه في شدقه -أي في الجانب الأيمن من فمه- فيشرشره حتى يبلغ قفاه، ثم يصنع بشدقه الآخر مثل ذلك، فيلتئم الأول، فيعود فيصنع به كذاك، فقلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا حتى أتيا بي على نهر من دم ورجل في وسط النهر، وعلى حافة النهر رجل آخر بين يديه حجارة، فإذا اقترب هذا الرجل ليخرج؛ ضربه فعاد كما كان.
فقلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا حتى أتيا بي على شيء مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه رجال ونساء، ونيران تتلهب، فإذا ارتفعت بهم النيران صرخوا وضوضوا، فدهش الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا، وقال: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق} إلى آخر الرؤيا، المهم: أن هؤلاء الملائكة بعد أن انتهت هذه الرؤيا الطويلة، فسرا للنبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقالا له: {أما الرجل الذي يشق شدقه، فهو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة} فهذه عقوبة الله عز وجل للكذابين، الذين يهتكون أعراض الناس، ويسيئون إليهم ويشوهون سمعتهم بالأقوال الكاذبة، يفعل بهم ذلك إلى يوم القيامة جزاءً وفاقاً {وأما الرجل الذي في وسط النهر، فآكل الربا} الذي يأكل الربا مثل الذي يسبح في هذا النهر من دم، إذا أراد أن يخرج ضربه الملك حتى يعود في وسط النهر، في وسط هذه اللجة المتلوثة {وأما التنور الذي رأيت ومن رأيت فيه، فهم الزناة والزواني، يصنع بهم ذلك إلى يوم القيامة} كما تلذذوا في الدنيا بهذه اللذة الحرام، فالله عز وجل يعاقبهم من حين أن يموتوا إلى يوم القيامة؛ أن يكونوا وسط هذا التنور يعذبون، ولهم فيه صراخ وأصوات، وإذا كانوا فيه إلى عرصات القيامة فلهم وراء ذلك عذاب عظيم.
أ/ السفور: أيها المسلمون والمسلمات هذه الفاحشة الكبرى، مما يؤرق ويحزن قلوب المصلحين؛ إن كثيراً من الناس اليوم لا أقول وقعوا فيها، لكن صاروا قاب قوسين أو أدنى منها، لأن الفاحشة الكبرى لها خطوات، من خطوات الفاحشة الكبرى: السفور.
وكم هو محزن أن المسلمة التي تنطق بالشهادتين، وتصلي الصلوات الخمس، ويمكن أنها تأتي لتصلي التراويح والقيام، تخرج إلى الأسواق وقد لبست أجمل ثيابها، وتعطرت، ولبست هذه العباءة الخفيفة، وهذا الحجاب الخفيف الذي يلمعها، وبدأت تقف أمام أصحاب الدكاكين وأصحاب المعارض، تبايعهم وتشاريهم وتتبسط معهم في الحديث وتضاحكهم، وقد تقف أمام بائع الذهب، وقد يمس يدها، وقد يخرج من يدها الذهب أو يدخل في يدها الذهب، وقد يرى ذراعها كاملاً أين يوجد هذا؟! أهذا يقع في بلاد يظللها علم لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ أهذا يقع من امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر -مع الأسف الشديد- أن هذه المرأة قد تكون متزوجة في داخل بيتها لا يرى زوجها منها إلا الأمر السيئ، قد تقابل زوجها بثياب المطبخ، وقد تستقبل زوجها بروائح منتنة وبوجه مكفهر، وبأخلاق رديئة، وبعبارات بذيئة، قد يقع منها هذا، لكن حينما تكون مع رجال أجانب فخذ من التلطف والخضوع بالقول، والتجميل في الملبس والطيب والذهب وإظهار المفاتن والمحاسن، وإغراء هؤلاء الرجال قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19] .(129/6)
الحرب على الإسلام
الحرب الآن على أصل الدين، ولعلكم تسمعون أنهم الآن يحاولون أن يبثوا برامج تلفزيونية عبر الأقمار الصناعية لتصل إلى كل بيت، بحيث أنك يا من يوجد في بيتك جهاز تلفاز، ستجد نفسك يوماً من الأيام أمام موج كاسح من الأفلام والمسلسلات والتمثيليات والمسرحيات المنحطة، قد تعرض كل ما يخطر في بالك من رذيلة: الجريمة، والفجور، والشذوذ، وأنت لا تستطيع أن تتحكم، أنت تقول الآن: أستطيع أن أتحكم، وتستطيع أن تقول: لو كان التلفاز حراماً لم تأذن فيه الدولة؛ لأنه لا يأت إلا تلفزيون من هذه البلاد، بعد فترة دول العالم من فرنسا وبريطانيا وغيرها؛ تحاول أن تبث في بيتك هذه الأشياء المنحطة.(129/7)
قضية عدم مساعدة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
هناك قضية خطيرة تتعلق بهذا الموضوع، مع انتشار المحرمات والمنكرات وشيوعها بشكل يقلق القلوب، ويزعج النفوس، ويبكي العيون، إذا فسدت البيئة، فقل على هذه المجتمعات السلام، تدعون فلا يستجاب لكم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون.
من أسباب حرمان الناس من إجابة الدعاء: أن تشيع المنكرات بينهم فلا يغيرونها، فهذه النقطة التي أريد أن أؤكد عليها اليوم؛ إنه مع انتشار الفواحش والجرائم والموبقات والمنكرات، وإعلان الناس بها، أصبح الواحد منا والعياذ بالله يشعر بأن كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كأنه ضده.
في المجتمعات الأولى في عهد الرسول عليه السلام ومن بعده، كان هناك عصاة -بلا شك- فكانت توجد معاصي قليلة، لكن كان العاصي يبكي ندماً على معصيته، ويحزن، ويحب الصالحين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويواليهم ويشعر بالخطأ، أما اليوم فكما يقول المثل: حشفاً وسوء كيلة.
مع أن الواحد يعصي، ويرتكب ما حرم الله عز وجل، ويجاهر بالمعاصي، ويساهم بأن يمد يده إلى الأعداء -بقصد أو بغير قصد- في تخريب مجتمعات المسلمين، مع ذلك كله إذا وجد هذا الإنسان من يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، سواء شخصاً محتسباً أو جهات رسمية كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غيرها، لا يمد يده إليهم بالمعاونة، كيف هذا يا إخواني؟ أين الولاء والبراء في الإسلام؟ الولاء للمؤمنين يوجب عليك أيها المسلم الذي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويوجب عليكِ أنتِ أيتها المسلمة الناطقة بالشهادتين، يوجب عليكم يا من تترددون إلى المساجد؛ أن تمدوا أيديكم إلى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أن تكونوا أنتم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، أن نكون يداً واحدة في مقاومة هذا الانحراف وفي إصلاح المجتمع، وإلا فالواقع -الآن- أن كثيراً من الناس يخربون بيوتهم بأيديهم.
الإنسان الذي يأتي إلى البيت بجهاز فيديو، أو مجلة، أو شريط غناءٍ منحل، هذا في الواقع يخرب بيته بيده، وماذا فعل هذا الإنسان في سبيل مقاومة المنكرات؟! تجد أنه إذا سمع من ينصحه، قال: دعنا نحن نعرف كل شيء.
المؤسف أنك تعرف كل شيء، أنت والله لا تعرف شيئاً، وإن كنت تعرف شيئاً فإن هذه المعرفة لا تنفعك بل تضرك، ثم إذا وجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الإصلاح، فإنه -لا أقول: لا يساعده ولا يمد يده إليه- بل ربما يقف حجر عثرة في سبيله، ربما يتكلم عليه بما لا يليق، ربما يرميه ويؤذيه بالألفاظ غير اللائقة، هل هذا هو حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علينا؟(129/8)
الغفلة مع حسن الظن بالأولاد
هم يحاولون أن يحولوا مجتمعاتنا إلى مجتمعات رذيلة وفساد وانحلال، ونحن غافلون -مع الأسف الشديد- الأب، وولي الأمر، والمسئول هو آخر من يعلم، يمكن أن بعضنا لا يعلم ولا ينتبه للخطر إلا إذا قدر الله وشعر أن في بيته شيئاً غير طبيعي، اتصال هاتفي غير طبيعي، مجلات، أو اكتشف أفلاماً، أو -لا قدر الله- وقع ما لا تحمد عقباه، فيسود وجه الأب حينئذ.
لماذا نؤثر السلامة، ونظن أن الأمور على ما يرام؟ لماذا نبالغ في حسن الظن بأولادنا وبناتنا؟ مع أننا لم نفعل لهم شيئاً، الآن لو كان الأب بذل جهده في تربية أولاده وبناته، وعلمهم ورباهم وذكرهم بالله عز وجل، وشاهد عليهم آثار الصلاح والتردد على المساجد، وقراءة القرآن، وشاهد على البنات الحجاب وكراهية الخروج والتزين والصلاة وقيام الليل، كما يوجد والحمد الله في بعض البيوت، فلا بأس أن يقول: أنا واثق فيهم، لكن تشاهد الآن أن الجميع غافلون، أولاد وبنات يدخلون ويخرجون، لا ترى عليهم من آثار الاستقامة إلا الشيء اليسير، ومع ذلك تفرط وتبالغ في حسن الظن بهم، وتظن أن الفساد والانحلال يأتي من أولاد الناس، وأن القصص التي تسمعها أنت لا تتعلق بك، إنما هي قصص أولاد الجيران وأولاد المجتمع، ومن هو المجتمع؟ المجتمع هو أنا وأنت والثاني والثالث، فكل واحد منكم أيها الرجال وأيتها النساء -أيضاً- يجب أن يشعر بأنه هو المخاطب.(129/9)
دورنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لنسمع قول الباري جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ؟ المخاطبون بقوله (كنتم) أنتم! نحن المخاطبون، ألم نسمع قول الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] ؟ بالله عليكم يا إخواني وأنتن يا مسلمات! كل واحد منا يوجه لنفسه هذا
السؤال
نحن في شهر رمضان، صائمون لوجه الله -إن شاء الله- ونتردد على المساجد، ونصلي التراويح والقيام، ويمكن أن الواحد منا يتصدق وينفق، بقي عليك سؤال: ما هو الدور الذي قمت به في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! ما هو الدور الذي قمت به في سبيل إصلاح المجتمع؟! هل تكلمت بكلمة طيبة؟! هل وجهت أحداً؟! هل نشرت كتاباً مفيداً؟! هل نشرت شريطاً مفيداً؟! هل حذرت من خطر؟! هل نبهت على خطأ؟! هل بلغت عن فساد وانحلال موجود في المجتمع؟! كل واحد يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال، ما دوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! الدين عدد لا يقبل القسمة، ليس بصحيح أن تتهجد وتحيي الليل وتصوم النهار، ثم إذا جئناك في هذا المجال؛ وجدناك بارد القلب لا تثور لك غيرة، إن هذا ليس علامة على وجود الإيمان، الإنسان الذي يسمع بأخبار المنكرات ويتحقق من وجودها، وهو بارد الأعصاب بارد العزيمة بارد الدم، لا يتحرك في قلبه عاطفة ولا انفعال ولا تأثر ولا حزن؛ هذا ليس عنده إيمان حقيقي، هذا يدل على تردي مستوى الإيمان في قلبه، إن كان في قلبه إيمان، كأنك تسمع بلاداً أخرى، أو كأنك تسمع أخباراً تاريخية؛ أنه في العصر الفلاني حصل كذا وكذا، وفي العصر الفلاني حصل كذا وكذا، نسأل الله العافية والسلامة.(129/10)
عاقبة عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنها مصيبة أن المسلمين اليوم حذوا حذو الأمم الأخرى، النصارى يعبدون الله يوم الأحد في الكنيسة وغيرها، لكنهم في بقية أيام الأسبوع يعبدون غير الله، يعبدون الشهوات، ويعبدون المصالح، ويعبدون البنوك، ويعبدون الدرهم والدينار.
واليهود كذلك يزعمون -كلهم يزعمون وهم كاذبون لا يعبدون الله عز وجل- يزعمون أنهم يعبدون الله عز وجل في يوم السبت، وفي بقية أيام الأسبوع يعبدون الشيطان، يعبدون الشهوة واللذة والمتعة الحرام.
والآن كثير من ذريات المسلمين قد تأثروا بذلك، فأصبح الواحد منهم إذا جئته في المسجد، قلت: ما شاء الله، بكاء وخشوع وصلاة وذكر وتبكير، وإذا جئته أمام المنكرات، حتى في بيته، دعنا من السوق، دعنا من المنكرات العامة الاجتماعية، نريد أن ننظر في بيته نفسه، نجد في بيت هذا الإنسان منكرات طويلة عريضة، لا يبالي بها ولا يهتم لها ولا ينكرها، ولو قيل له في ذلك، قال: والله ما نستطيع وهؤلاء غلبونا.
ما هذا التناقض بين شخصية هذا المتعبد في المسجد المبكر، وبين شخصية الراضي بالمنكرات؟! قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78-79] .(129/11)
الواجب مد العون إلى الآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر
من الواجب علينا أن نمد أيدينا إلى الجهات الرسمية، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في التبليغ عن أي منكر، في مساعدتهم، وإعانتهم، في حماية ظهورهم، ما نسمح لأحد أن ينال منهم، أو يتكلم فيهم، أو يسبهم، حتى لو فرض أنه وقع خطأ، كل ابن آدم خطاء، جميع الجهات الرسمية وغير الرسمية تخطئ، فلماذا نسمح أن يكون هؤلاء عرضة لألسنة الناس؟ وواجب علينا أن يكون الواحد منا شرطياً عند باب بيته، لا يسمح بدخول أي بضاعة إلا بعد أن يفتشها، لا يدخل شريط أو فيلم أو مجلة أو كتاب أو غيره وأنت غافل مسكين لا تدري، تكون مثل الشرطي عند باب البيت.
وهذا لا يكفي، لابد من التوعية، ذكرهم بالله عز وجل، ذكرهم بأيام الله، خوفهم بالله، أحي قلوبهم بالإيمان.
وقبل ذلك كله واجب علينا جميعاً أن نأمر أنفسنا بالمعروف وننهى أنفسنا عن المنكر، فبهذا بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فواجب على كل إنسان أن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر، ثم ينتقل إلى غيره، فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، هذا حق الإسلام علينا، هذا هو الولاء والبراء في الإسلام.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعز الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأن يجعلنا منهم، وأن يوفقنا إلى الأخذ على أيدي الظالمين، وأطرهم على الحق أطراً، وقسرهم عليه قسراً.
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وبصفاته العليا؛ أن يحيي في قلوبنا الغيرة على الحرمات، والغيرة على الدين، والغيرة على الأعراض.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى صالح الأقوال والأعمال.
أسأل الله عز وجل أن يحمي نساء المسلمين من الكيد الذي يراد لهن، وأن يوفقهن إلى التزام الحجاب، وتجنب السفور والاختلاط بالرجال، والخلوة وغير ذلك مما حرم الله عز وجل.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(129/12)
إجابة الدعاء
الحمد لله القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] .
والصلاة والسلام على رسوله القائل: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ} والقائل صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} كما رواه الترمذي وغيره بسند صحيح.(129/13)
إجابة دعاء أتباع الرسول
وتلقى هذا الإرث النبوي الكريم أصحابه الأطهار وأتباعه الأخيار، فكان الصالحون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ إذا دعوا الله عز وجل جاءت دعوتهم مثل فلق الصبح.
أ/ الإجابة لسعد بن أبي وقاص: هذا سعد بن أبي وقاص، كان مستجاب الدعوة، فإذا دعا لأحد أو دعا على أحد أجابه الله عز وجل، قام رجل من الناس فأساء إلى سعد بن أبي وقاص، وظلمه وكذب عليه، فدعا عليه، فأجابه الله تعالى.
وتفصيل ذلك أن أهل الكوفة، كان سعد بن أبي وقاص أميراً عليهم، فاشتكوه إلى عمر، وقالوا: إن هذا الأمير فيه كذا وكذا، حتى إنهم قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي.
فدعاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمير العادل المنصف وقال لـ سعد: إن أهل الكوفة شكوك في كل شيء، حتى قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي.
قال سعد: أما إني أصلي بهم كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، أطيل في الأوليين، وأخفف في الأخريين.
فقال عمر رضي الله عنه: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
ثم أرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، فذهبت هذه اللجنة إلى الكوفة، وبدأت تقف في أسواق الناس، وفي مساجدهم، وتسألهم: ماذا تقولون في سعد؟ فيقولون: لا نعلم إلا خيراً.
حتى دخلوا على مسجد لبني عبس، فقالوا لهم: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ قالوا: لا نعلم إلا خيراً.
فقام رجل مراءٍ، وقال: أما إذ سألتنا فإن أميرنا سعداً لا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية.
رجل فيه ظلم وحيف وإجحاف وجبن وخوف، ولا يساهم في المعارك.
فقام سعد بن أبي وقاص وقال: [[اللهم إن كان عبدك هذا قام رياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] والقصة في صحيح البخاري ومسلم، فطال عمر هذا الرجل حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وطال فقره حتى إنه يمد يده يتكفف الناس، وتعرض للفتن حتى إنه كان على رغم فقره وشيخوخته وهرمه، يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغمزهن، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
ب/ الإجابة لسعيد بن زيد: وكذلك ورث هذا الميراث النبوي الخالد سعيد بن زيد رضي الله عنه، فإن امرأة يقال لها: أروى بنت أوس، شكته إلى مروان بن الحكم أمير المدينة، وقالت: إنه أخذ شيئاً من أرضها، فقال سعيد بن زيد: [[أنا أخذت شيئاً من أرضها، بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال له الأمير مروان: وماذا سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: {من اقتطع شبراً من أرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أراضين} ]] فقال مروان بن الحكم: لا أسألك بعد هذا بينة، يكفيني قولك هذا.
ثم قام سعيد بن زيد يدعو على هذه المرأة التي شوهت سمعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبت إليهم ما هم منه أبرياء، من الظلم والحيف والطمع في الدنيا، فقال: [[اللهم إن كانت كاذبة، فأعمِ بصرها، واجعل ميتتها في هذه الأرض]] قال الراوي عروة بن الزبير، والحديث أيضاً في البخاري ومسلم قال: [[فلقد والله عمي بصرها، حتى رأيتها امرأة مسنة تلتمس الجدران بيديها، وكان في هذه الأرض بئر، فبينما كانت تمشي في أحد الأيام سقطت في البئر، فكانت قبرها، وأجاب الله تعالى دعاء سعيد بن زيد]] .(129/14)
قصة حاكم من حكام الأندلس
وما زال الله عز وجل يتقبل دعوات الداعين، ويجيب استغاثة الملهوفين، متى ما كانوا في دعائهم صادقين، وإلى ربهم مخلصين، ومن الموانع سالمين، ولعل من الطريف أن أذكر لكم القصة الذي يذكرها بعض المؤرخين، والتي حدثت في الأندلس وفيها أسوة وعجب وعبرة.
يذكر بعض المؤرخين أن حاكماً من حكام الأندلس يقال له: أبو الوليد بن جهور، وكان أمير قرطبة، إحدى كبار المدن الأندلسية، حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه وهو يحيى بن ذي النون ويأخذ ملكه في قرطبة، فاستنجد أبو الوليد بن جهور بحاكم من ملوك الأندلس، يقال له: المعتمد بن عباد، وكان ملكاً قوياً شاعراً أديباً مشهوراً، فجاء المعتمد بن عباد فأنجده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة، وما فيها من المياه والخضرة والأموال والترف؛ طمع فيها، وبدأ يخطط للسيطرة عليها، وأدرك ذلك ملك قرطبة أو أمير قرطبة ابن جهور، فذكر المعتمد بن عباد بالعهود والمواثيق التي بينهم، وذكره بالله، ولكن المعتمد بن عباد كان مصراً على احتلال قرطبة، وفعلاً تم للمعتمد بن عباد بعد طول كيد وتدبير، ما أراد من حكم قرطبة، وأخذ أمراءها فطردهم منها، وصادر أموالهم، وقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، فخرج بنو جهور، أمراء قرطبة، بلا مال ولا جاه ولا سلطان، أذلاء خائفين، مرضى مذعورين.
وبعد أن خرجوا منها التفت الأمير إلى هذا البلدة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه لم يخرج منها إلا بسبب دعوات المظلومين، وبسبب الدماء التي سالت ظلماً وعدواناً، وبسبب الأموال التي أخذت بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحيفه في معاملتهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كما أجبت الدعاء علينا، فأخرجتنا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كنا فيها فاكهين، فأجب الدعاء لنا فإننا اليوم مسلمون مظلومون.
فدعا الله على المعتمد بن عباد وخرج بنو جهور، وظل المعتمد بن عباد ردحاً من الزمن يحكم قرطبة، ويتمتع بما فيها من الترف، حتى إنهم يقولون: إنه بلغ من ترف المعتمد بن عباد؛ أنه كان عنده جارية جميلة كان يحبها وكان اسمها اعتماد، وفي يوم من الأيام هذه الجارية أطلت من إحدى نوافذ القصر، فشاهدت بعض النساء البدويات يحملن على ظهورهن القرب، قرب السمن وغيره يبعنه في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء، وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكان هؤلاء النساء البدويات يطأن في الوحل والطين، وعلى ظهورهن القرب، فأعجب هذا المنظر هذه الجارية، وقالت للأمير: أريد أن أفعل مع بناتي ومع الجواري مثلما تفعل هؤلاء النساء، فقال الأمير: الأمر هين، وأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض، حتى صار مثل الطين في أرض القصر، ولكن ليس من الطين والمطر والوحل، وإنما هو من المسك والكافور والورد، هكذا يكون الترف، ثم جاء بقرب وحزمها بالإبريسم أي بالحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها على ظهورهن، وبدأن يطأن في هذا الطين، أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهن ما أردن، إلى هذا الحد بلغ ترف المعتمد بن عباد، ولكن تلك الدعوة التي أطلقها ابن جهور لا تزال محفوظة، دعوة المظلوم لا تزال محفوظة، والإنسان إذا دعا الله عز وجل وهو موقن، يجبه الله عز وجل إذا كان مظلوماً.
وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع ولذلك فإن ملك النصارى هدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية أن يتخلى عن بعض الحصون والقصور، فرفض ووجد نفسه مضطراً أن يستنجد بحاكم من الحكام المرابطين وهو يوسف بن تاشفين فأرسل إليه يستنجده، فجاء يوسف بن تاشفين ودخل قرطبة، وخاض معركة ضد النصارى تسمى موقعة الزلاقة، وانتصر على النصارى وطردهم، ولكنه بعد أن انتصر عليهم، تقلبت الأمور حتى وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطراً إلى السيطرة على قرطبة، وقبض على المعتمد بن عباد وأولاده، فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم ومسمع، وأودع المعتمد بن عباد السجن، في مدينة في المغرب يقال لها مدينة أغمات، حتى جلس فيها عشر سنوات مسجوناً، ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته.
وكان هذا الرجل في المغرب في أغمات مشرداً من كل شيء، القيود في يديه ورجليه، ويرى بناته اللاتي كن بالأمس يطأن بالمسك والكافور، يطأن في الطين والوحل اليوم، وهن يغزلن للناس -يشتغلن بالغزل- من أجل دراهم بسيطة لا يملكن شيئاً، وينظرن نظرة الحياء والاستحياء والخجل، فبكى بكاءً مراً ثم قال: يخاطب نفسه في إحدى المناسبات، وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد، قال يخاطب نفسه: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا من بات بعدك في ملك يسربه فإنما بات بالأحلام مغرورا أيها الإخوة، ولا تزال الدعوات تستجاب من رب الأرض والسماوات، ولذلك فإن عليكم أن تدعوا الله عز وجل وأنتم موقنون بالإجابة، كم نجد في عصرنا الذي نحن فيه من قوم ظلموا فدعو فاستجاب الله لهم، قوم وقعوا في ضر فدعو الله فاستجاب لهم.(129/15)
مدح الرسل والملائكة والصالحين لدعائهم
أيها الإخوة والأخوات أيها المسلمون والمسلمات هذه مواسم الطاعات والقربات، وهذا أوان الدعوات المستجابات.
لقد مدح الله عز وجل رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام بكثرة دعائهم، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .
ومدح ملائكته عليهم الصلاة والسلام بذلك، فقال جل وعلا: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] .
ومدح عباده الصالحين بذلك فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16-17] .
فمدح الأنبياء والرسل والملائكة والصالحين بكثرة دعائهم واستغفارهم؛ خوفاً من الله عز وجل ورغبة فيما عنده، ولذلك وعد سبحانه بالإجابة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقد تحقق هذا الوعد الإلهي الكريم منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى يوم الناس هذا، فما من عبد أو أمة يدعو الله عز وجل بصدق وإخلاص وإقبال، دعاءً سالماً من الموانع إلا أجابه الله عز وجل.(129/16)
إجابة دعاء الأنبياء
أ/ إجابة دعوة موسى وهارون على فرعون: هذا موسى وهارون يدعوان الله عز وجل على فرعون وقومه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم) َ) [يونس:88] .
قال الله عز وجل: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] وهذا موسى يدعو مرة أخرى بأن يجعل الله له وزيراً من أهله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29-32] قال الله عز وجل في آخر الآيات: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] .
ب/ الإجابة ليونس عليه السلام: وهذا يونس عليه الصلاة والسلام، يخرج من البلد الذي أرسل إليه غاضباً عليهم، إذ لم يجيبوا دعوته، فيركب في السفينة، فيأذن الله عز وجل فتتحرك الرياح والعواصف، فتهز السفينة يمنة ويسرة، فيساهمون ليلقوا في البحر بعض من في هذه السفينة، فتقع القرعة على يونس مرة ومرتين وثلاث، فيلقون به في البحر فيلتقمه الحوت، فيقول الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144] وقال أيضاً: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87-88] .
ج/ الإجابة لمحمد صلى الله عليه وسلم: وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل، فيجيبه الله تبارك وتعالى، يدعو الله على أعدائه الذين آذوه، بينما كان ساجداً في أحد الأيام في الحرم المكي قرب الكعبة، وبقربه جماعة من كفار قريش، فيقول بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان.
فيلقيه على ظهر محمد؟ فيقوم عقبة بن أبي معيط، فيأخذ السلا فيلقيه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فيظل عليه الصلاة والسلام ساجداً لا ينهض، حتى تأتي ابنته فتأخذ السلا عن ظهره وهي تبكي، ثم تقبل على المشركين تسبهم، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقف قرب الكعبة ويرفع يديه ويقول: {اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ أبي جهل، اللهم عليك بـ عقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بفلان، اللهم عليك بفلان، ويعد سبعة من صناديد المشركين} كما في صحيح البخاري ومسلم، قال ابن مسعود: {فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر فألقوا فيها بعد أن انتفخت جثثهم، وأتبع أصحاب القليب لعنة} .
ويدعو صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فيجيبه الله تعالى فيهم، ويدعو لبعض الناس فيجيب الله تعالى دعوته لهم: {اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، بـ أبي جهل أو بـ عمر بن الخطاب} وما هي إلا ساعات قلائل، حتى يقبل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لان قلبه للإسلام، فيقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فيبكي ويسلم ويجيب الله تعالى فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام.
ويدعو مرة أخرى لـ ابن عباس، حين قرب له وضوءه وطهوره، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من فعل هذا؟ قالوا: ابن عباس يا رسول الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فكان ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان الناس يشدون إليه الأسفار، ويضربون إليه أكباد الإبل يتلقون عنه علم التفسير ومعرفة التنزيل.
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس بن مالك خادمه: بأن يطيل الله عز وجل عمره، ويكثر ماله وولده، فطال عمره حتى كان من آخر الصحابة موتاً، وكثر ماله حتى امتلأت به أودية المدينة وكانت له بساتين في العراق وغيرها تغل في السنة مرتين، وكثر أولاده وأولاد أولاده؛ حتى إنه رأى بعينة قبل أن يموت ما يزيد على مائة من ولده وولد ولده.
ودعا صلى الله عليه وسلم لغيرهم فأجاب الله تعالى دعاءه فيهم.(129/17)
آداب الدعاء
أيها المسلمون ينبغي علينا أن نحرص على أن ندعو الله عز وجل في كل مناسبة، وإني أذكر لكم باختصار أهم الآداب التي يجب على المسلم، أو يستحب للمسلم مراعاتها، إذا أراد أن يدعو الله عز وجل:(129/18)
الاقتصار على جوامع الكلم
ومن أدب الدعاء: أن يقتصر الإنسان على الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك، ولذلك إذا تتبعت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ وجدت فيه المعاني العظيمة والألفاظ المختصرة، اسمع مثلاً ماذا كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك، وحب العمل الذي يقربني إلى حبك، اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر، اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء} إلى غير ذلك من الأدعية المأثورة، التي فيها اختصار، وجمع لمعانٍ عظيمة، فالاقتصار على الجوامع من الدعاء هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.(129/19)
السؤال بالأسماء الحسنى والصفات العلى لله
ومن آداب الدعاء: أن يسأل العبدُ ربَه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] .(129/20)
الدعاء ثلاثاً
ومن آداب الدعاء: أن يدعو الإنسان ثلاثاً، أي يكرر الدعوات ثلاث مرات، خاصة إن كانت الدعوات فيها مصلحة عامة للمسلمين والمحتاجين؛ فإنه يستحب تكرارها ثلاثاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه إذا دعا أن يدعو الله تعالى ثلاثاً.(129/21)
عدم الاعتداء في الدعاء
وكذلك من آداب الدعاء: أن لا يعتدي الإنسان في الدعاء، يقول الله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] وللذلك في الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع ابناً له يقول: [[اللهم إني أسألك الجنة وحورها وقصورها ونعيمها وما فيها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار، وحياتها وعقاربها وسعيرها وعذابها، فقال له: أي بني إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء، إذا سألت الله عز وجل فاسأله الجنة، فإنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها، واستعذ به من النار، فإنك إن أعذت من النار أعذت منها ومما فيها]] أي: أنه لا داعي لهذه التفاصيل وكذلك صح عن عبد الله بن مغفل، أنه سمع ابنه يقول: [[اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الداخل إلى الجنة، أو القصر الأخضر، فهو يصف قصراً في الجنة كأنه رآه، فقال له: أي بني إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الطهور والدعاء} اسأل الله الجنة واستعذ به من النار]] ولذلك فإن أشياء كثيرة يفعلها الناس اليوم، تُعَدُّ من الاعتداء في الدعاء: أ/ دعاء الله بأسماء لم تثبت: بعض الناس يدعون الله عز وجل بأسماء لم تثبت، مثل قول بعض الناس: يا سبحان، يا برهان، يا غفران، فهذه أشياء لم ترد في أسماء الله جل وعلا، إنما لا بأس أن تقول: يا رحمان! يا حنان! يا منان! يا ديان! وما أشبه ذلك من الأسماء التي ثبتت لله عز وجل.
ب/ التفصيل في الدعاء: ومن الاعتداء في الدعاء: أن الناس يفصلون في الدعاء، فإذا دعوا فصَّلوا مثلما سبق، أسألك الجنة كذا وكذا وكذا، ويذكر تفاصيل ما في الجنة، حتى أن بعض الدعاة إذا دعا، يبدأ في وصف الجنة وكأنه في موعظة أو خطبة، ثم يبدأ في وصف النار وكأنه في خطبة تحذير وإنذار، وهذا لا يسوغ في الدعاء، بل هو من الاعتداء.
ج/ الدعاء على أحد بالتفصيل: ومن الاعتداء: بعض الناس إذا دعا على أحد دعا دعاءً مفصلاً، فبدلاً من أن يقول: اللهم عليك بفلان، أو اللهم عليك بأعداء الإسلام، يبدأ بالتفاصيل، اللهم عليك بفلان، اللهم اجذع أنفه، واقطع أذنه، وافعل به كذا وكذا، وأصبه من الأمراض بكذا وكذا، وافعل بيده كذا، وبرجله كذا وبماله كذا، وبولده كذا، ويبدأ يطيل في الدعاء.
ادع الله عز وجل كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش، إن كان مستحقاً للدعاء، اللهم عليك بفلان، اللهم عليك بأعداء الإسلام، فإن كان المدعو عليه مسلم، فمن الأولى أن لا تدعو عليه، بل أن تدعو له بالهداية والصلاح والمغفرة.
د/ الدعاء بما لم يرد: ومن الاعتداء في الدعاء: أن بعض الناس يطيلون بأدعية لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون بعضهم جهال، فيدعون الله عز وجل بدعاء غير مأثور ولا مشروع، ولذلك نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه كان يقول: [[إن أهل الجنة يحتاجون إلى العلماء، قالوا: كيف يحتاجون إلى العلماء؟ قال: إنه إذا قيل لأهل الجنة تمنوا، لم يعرفوا كيف يتمنون حتى يذهبوا إلى العلماء فيسألونهم ماذا نتمنى]] فما كل أحد يستطيع أن يحسن الدعاء ولذلك بعض الناس يريد أن يدعو فيدعو دعاءً غير لائق، وغير مناسب ولا ينبغي، مثل ذلك الرجل الأعرابي -كما ذكره الخطابي وغيره- الذي قام يستسقي وقال: رب العباد ما لنا ومالك، قد كنت تسقينا فما بدالك.
هذا لا يليق بالله عز وجل أن يخاطب بهذا: قد كنت تسقينا فما بدالك.
الله عز وجل لا يجوز أن يقال له فما بدالك، الله يعلم ما مضى وما يأتي، ولا يغيب عنه شيء جل وعلا.
فالإنسان ينبغي أن يقتصر في دعائه على المشروع، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقد سأله الأثرم فقال له: ماذا أقول في آخر صلاتي؟ قال: تدعو بما ورد.
قال: أرأيت قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ثم ليتخير من المسألة ما شاء} ؟ قال: يعني مما ورد.
والمقصود حين نقول مما ورد، لا يلزم بالنص، أي مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان بالنص أو بالمعنى، فالأعرابي الذي كان يقول: {يا رسول الله، إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، إنما أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولهما ندندن} فكون الإنسان يدندن بما ورد، أي من الألفاظ النبوية أو من المعاني النبوية، لكن لا يعتدي بدعاء غير مشروع.
هـ/ الدعاء بأمر مستحيل: وكذلك من الاعتداء في الدعاء: أن يدع الإنسان بأمر مستحيل، مثل كونه يدعو الله أن يبلغه منازل الأنبياء، فإن منازل الأنبياء لا يبلغها أحد غيرهم، ورتب الأنبياء لا يمكن أن يصل إليها أحد من الخلق.
ومثل ذلك الدعاء بالخلود، بعض المنافقين إذا دعوا لحاكم أو لأمير، يقولون: خلد الله ملكك وأبَّد سلطانك.
الله عز وجل هو الذي له البقاء الدائم في ملكه وسلطانه، أما ملك البشر فيزول، والكرسي يدور بهم، ولو بقي لهم ما انتقل من غيرهم، فهذا من الاعتداء في الدعاء الذي لا يجوز.(129/22)
الوضوء
فمن ذلك أن يتوضأ إن لم يكن في صلاة.
فلو أراد أن يدعو وهو في غير صلاة يستحب له الوضوء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدعو توضأ.(129/23)
استقبال القبلة
ومن ذلك أن يستقبل القبلة -أيضاً- فإنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل القبلة في دعائه، كما في الصحيح {أنه استقبل القبلة وقال: اللهم اهدِ دوساً} وكذلك استقبل القبلة حينما أراد أن يدعو عند الصفا وعند المروة، وعند رمي الجمار، وعند المشعر الحرام وغيرها.(129/24)
الصلاة على النبي وحمد الله تعالى
وكذلك ينبغي للداعي أن يبدأ دعاءه بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والحمد لله تبارك وتعالى.
ولذلك في الحديث الصحيح عن فضالة بن عبيد: {أن رجلاً جاء فصلى، فقال: ربي اغفر لي وارحمني.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجل هذا.
ثم دعاه، فقال له: إذا صليت فاحمد الله وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ادع، فجاء رجل آخر فصلى فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادع تجب} فعلى الإنسان أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحمد الله تبارك وتعالى في أول دعائه.(129/25)
رفع اليدين إلى السماء
وكذلك يستحب للداعي أن يرفع يديه إلى السماء، فقد تواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو يرفع يديه إلى السماء، من نحو أكثر من أربعين طريقاً، عن أكثر من عشرين صحابياً: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء} من ذلك قوله: {إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً} فينبغي للعبد أن يرفع يديه في الدعاء.(129/26)
الإسرار في الدعاء
ومن آدب الدعاء: أن يسر الإنسان في الدعاء ولا يجهر، هذا إذا كان منفرداً وليس إماماً، فيستحب له الإسرار في الدعاء، كما قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] .
وقال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] .
أما إن كان إماماً فإنه يجهر ليسمع المأمومين.(129/27)
أسباب إجابة الدعاء
أيها الإخوة أريد أن أختم هذه الكلمة بذكر أسباب الإجابة باختصار شديد، وهي خمسة فاحفظوها:(129/28)
السلامة من الموانع
السبب الخامس من أسباب الإجابة: السلامة من الموانع.
يقول الإنسان: دعوت فلم يستجب لي! نعم دعوتَ فلم يستجب لك ففتش في نفسك، هل عندك موانع منعت إجابة الدعاء؟ إن كنت ممن يأكل الحرام؛ الربا، أو أموال الناس بالباطل، لا يستجاب لك، ولذلك في صحيح مسلم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنى يستجاب له} هذا مسافر يجاب له الدعاء في الأصل، ومسلم ويدعو الله بأسمائه الحسنى يا رب، ويمد يديه -كما سبق- مع ذلك من البعيد جداً أن يستجاب له، كل قرش تدخله إلى بطنك أو إلى جيبك من حرام؛ يمنع إجابة الدعاء، فعليك أن تصفي مالك من الحرام، وتتوب إلى الله عز وجل وتخرج من المظالم.(129/29)
ما يتعلق بالمكان
السبب الرابع: يرجع إلى المكان، فإن هناك أمكنة يجاب فيها الدعاء، كما يكون ذلك داخل الكعبة، وحجر إسماعيل الذي يقع إلى الشمال من الكعبة هو من الكعبة، فالدعاء فيه يرجى أن يكون مجاباً، ولذلك دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ودعا في نواحيها، وكذلك الدعاء في الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، فقد ورد عن ابن عباس وغيره أحاديث في أنه يجاب عنده الدعاء.
كذلك فوق الصفا وفوق المروة، وعند المشعر الحرام، فإنها أماكن يجاب عندها الدعاء.(129/30)
ما يتعلق بالداعي نفسه
السبب الثاني: يرجع إلى الداعي، وذلك مثل أن يكون الداعي مضطراً: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] أو صائماً، فإن الصائم له دعوة مستجابة، لا أقول عند فطره، ولكن للصائم دعوة لا ترد، وكذلك المسافر دعوته لا ترد، والوالد على ولده دعوته لا ترد، والمظلوم دعوته لا ترد، والحاج والمعتمر دعوته لا ترد.
وبصفة عامة: فكل سبب يجعل الإنسان يخبت في الدعاء ويخلص، وينكسر لله عز وجل، ويبكي بصدق، ويدعو دعاء الإنسان الغريق في البحر، الذي يعلم أنه لا نجاة له إلا بالله عز وجل؛ فهذا يجاب.(129/31)
ما يتعلق بالزمان
السبب الثالث من أسباب الإجابة: ما يرجع إلى الزمان.
فإن هناك أزمنة فاضلة يجاب فيها الدعاء، كالثلث الأخير من الليل، فأسمع الدعاء في جوف الليل الآخر، حين ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من سائل، من تائب، هل من مستغفر} وكذلك ساعة الجمعة، ما بين أن يدخل الإمام إلى أن تقضى الصلاة، والساعة الأخيرة من العصر يوم الجمعة، وكذلك ليلة القدر فإنها من أوقات الإجابة، ولذلك قالت عائشة: {يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر أي ليلة هي ما أقول؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} .(129/32)
ما يتعلق بالدعاء نفسه
السبب الأول من أسباب الإجابة: ما يتعلق بالدعاء نفسه.
مثل أن يدعو الإنسان ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أو باسمه الأعظم، اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
أو بدعوة ذي النون، ما دعا بها مسلم إلا أجابه الله عز وجل: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فهذا من الأسباب، وهو سبب يرجع إلى الدعاء نفسه.(129/33)
بعض موانع إجابة الدعاء
من أسباب حرمان إجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكون الإنسان يفقد الغيرة على محارم الله عز وجل، ويرى المنكر فلا يغيره، ولا يتمعر وجهه ولا يمتعض منه، فهذا لا يجاب له الدعاء، كما ورد في حديث حذيفة وعائشة وغيرهما أن الله عز جل يقول: {مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتستغفروني فلا أغفر لكم} أو كما قال جل وعلا في الحديث القدسي.
فهذا من موانع إجابة الدعاء، وقد يدعو الإنسان ويحب الله تبارك وتعالى أن يسمع دعاءه وتضرعه فيؤخر إجابته، والله يجيب دعاء عبده متى ما كانت المصلحة للعبد دنيا وآخرة في إجابة الدعاء، وزالت الموانع.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم احفظ مجتمعات المسلمين من الرذيلة، اللهم احفظ مجتمعات المسلمين من الرذيلة، اللهم احفظ مجتمعات المسلمين من الرذيلة، اللهم افضح أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم عليك بالظالمين، اللهم عليك بالظالمين، اللهم عليك بأعداء الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تنصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام، اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام، اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام، اللهم إنك تعلم أن أعداء الإسلام قد تنادوا وتداعوا على هذا الدين من كل حدب وصوب، اللهم فاخذلهم يا عزيز يا كريم، اللهم اخذلهم، اللهم انصر عبادك الصالحين عليهم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(129/34)
مفهوم الشهادتين
فيه بيان لمفهوم الشهادتين، وأهمية الشهادتين، وأنهما شرط للإيمان، كما أنه يحتوي على ذكر مقتضيات ولوازم شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله، وفيه أيضاً ذكر لصور الشركيات الظاهرة والخفية التي تناقض مفهوم الشهادتين.(130/1)
أهمية الشهادتين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين: أيها الإخوة: إن كثيراً من المفاهيم، والحقائق الكبرى في الإسلام، قد أصابها ما أصابها من الالتباس والضعف في نفوس المسلمين، وانحرف فهم الكثيرين منهم لها، ومن هذه القضايا قضية: (مفهوم الشهادتين) ؛ مع أن هذه القضية هي الأصل الذي يدور عليه الإسلام، والحديث عن مثل هذه الموضوعات، وتجلية المعنى الحقيقي لها لجميع المسلمين أمرٌ ضروري، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.(130/2)
كلمة التوحيد هي دعوة الأنبياء
وسنقف -أولاً- عند الشق الأول من الشهادة، وهو: (شهادة أن لا إله إلا الله) وهذه الكلمة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من دعا إليها؛ بل قد دعا إليها قبله جميع الأنبياء والمرسلين، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ويقول سبحانه على لسان كثير من أنبيائه -أن الواحد منهم كان يقول لقومه-: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] أو يقول: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] .
إذاً: فهذه الدعوة هي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نحن معاشر الأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد} أي: أن الأنبياء بمثابة الإخوة من الأب، فأبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة، وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ شرائعهم متعددة، فكثير من الأنبياء جاءوا بشرائع في الأحكام والمعاملات، تختلف عما جاء به الأنبياء قبلهم.
أما العقيدة والتوحيد -وهو الذي جاءوا به جميعاً- فإنه لا يتغير بين نبيٍ وآخر فكل نبي يدعو إلى الدعوة نفسها التي دعا إليها النبي قبله صلى الله عليهم جميعاً وسلم.(130/3)
الشهادتان شرط للإيمان
أيها الإخوة: ولفضل هاتين الكلمتين شأن عظيم في الإسلام، فقد نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمكانتهما وفضلهما، ففي الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه؛ أدخله الله الجنة على ما كان من عمل} وفي حديث عتبان الذي رواه البخاري ومسلم -أيضاً- أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله} وقد روى مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار} .
وروى مسلم -أيضاً- عن أبي مالك الأشجعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ فقد حرم دمه وماله} ومن هذه الأحاديث: تعلم أيها المسلم! أن العاصم لدم المسلم وماله في الدنيا، وأن الذي يحقق له السعادة والجنة في الآخرة، هو نطقه بهاتين الكلمتين؛ مؤمناً بهما، عالماً بما دلتا عليه من الإخلاص والتوحيد، عاملاً بمقتضاهما، مخلصاً من قلبه، فحينئذٍ فإنه يحرم على النار، ويدخل الجنة، ويسلم له ماله، ونفسه، وأهله في هذه الدار.(130/4)
معرفة قريش لمفهوم الشهادتين
إن هاتين الشهادتين اللتين هما المدخل الذي يدخل منه الإنسان إلى الإسلام، ليستا مجرد كلمتين تقالان باللسان، بل هما منهج حياة كاملة؛ ولذلك فإن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وقفوا من دعوته ذلك الموقف، لمعرفتهم بما تنطوي عليه هاتان الشهادتان من تغيير كامل لحياتهم الفردية والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية وغيرها.
ولذلك فقد ثبت في الأحاديث الصحاح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدور على القبائل في المواسم، في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، ومنى، فيعرض عليهم نفسه ويقول صلى الله عليه وسلم: {من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي} ويقول: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} ومن خلفه رجل ذو غديرتين يرميه بالحجارة والتراب، ويقول: يا أيها الناس! لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب، وهذا الرجل هو أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الموقف من قريش إنما هو مبني على معرفتهم الصحيحة بالمدلول الحقيقي لهذه الكلمة؛ إذ يدركون أنها ليست مجرد كلمة؛ ولذلك لما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوها، أو قال لهم: {يا معشر قريش! كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فقالوا: نعم وأبيك! وألف كلمة -نقولها ونقول معها ألف كلمة- فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله} فانطلقوا وهم يولولون، ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وكم يحز في النفس أن يصبح كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم لا يدركون من معنى هذه الكلمة ما أدركه كفار قريش الأوائل.
فقبح الله مَنْ كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمدلول هذه الكلمة!(130/5)
مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله
الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله يتضمن أموراً عديدة:(130/6)
إفراد الله تعالى بالعبادة
لكن! هل يكفي كل هذا؟ أما منا إنسان يؤمن بأن الله موجود، ويؤمن بأن الله هو المتصرف في الأكوان كلها، ويؤمن بأن الله سميع عليم بصير خالق بارئ مصور إلى آخر هذه الأسماء، ويؤمن بالصفات وبالأفعال كذلك؛ فهل نقول: إنه حقق لا إله إلا الله إذا اقتصر على ذلك، أم لا بد من أمر رابع عظيم؟
الجواب
بل لا بد من أمر رابع عظيم جليل، ألا وهو: (إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة) وهو: توجيه جميع أعمال الإنسان ونشاطاته إلى الله عز وجل، وهذه الكلمة التي هي (لا إله إلا الله) فسرها الأنبياء بقولهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2] {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] .
إذاً: الإله هو: المعبود الذي تألهه القلوب، وتطمئن وتسكن إليه النفوس فتتوجه إليه بالعبادة بأنواعها؛ وهذا هو موضع الخصومة بين الأنبياء وأممهم.
ولذلك قال المشركون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] وقد كان أبو جهل وأبو لهب يعرفون أن هناك إلهاً في السماء، وما كانوا يوجهون عبادتهم إليه، بل كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولم يكن اعتقادهم بأن اللات والعزى هي التي خلقت الكون، أو هي المتصرفة، أو التي تحاسبهم يوم القيامة، كلا! بل كان اعتقادهم أن هذه الأشياء تقربهم إلى الله زلفى، فكانوا يعتبرون الله رب الأرباب، والإله الأعظم، ويعتبرون هذه الأصنام آلهةً صغيرة تقربهم إلى الله؛ لأنهم يقولون: نحن بأدناسنا، وأرجاسنا وذنوبنا، وخطايانا؛ لسنا على مستوى أن نتوجه إلى الله مباشرة، وأن ندعوه مباشرة، فلا بد من وسائل تقربنا إليه، فكانوا يلبون في حجهم فيقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
إذاً: كانوا يعترفون بربوبية الله، ويعترفون بوجوده، لكنهم يصرفون العبادات إلى غيره فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {قولوا: لا إله إلا الله} عرفوا أنه لا يقصد بمعنى (لا إله إلا الله) أنه لا خالق إلا الله، لأنهم يعرفون سلفاً أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا قادر على الاختراع والإرجاع إلا الله؛ يعرفون أن هذا ليس هو المعنى المقصود من وراء ذلك، ويعرفون أن معنى لا إله إلا الله التي طالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقولوها، يعني: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] اتركوا اللات والعزى، واتركوا حلفاءكم من الجن، الذين كنتم تتقربون إليهم بألوان من العبادة؛ واصرفوا صلاتكم ونسككم وحجكم ومحياكم ومماتكم لله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162-163] وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
ولذلك: فإنهم قاوموا هذه الدعوة ووقفوا في طريقها، ومن المؤسف جداً -أيها الإخوة- أن يكون أبو لهب، وأبو جهل وأمية بن خلف، وغيرهم من أساطين الكفر والجاهلية؛ أعرف بالمفهوم الصحيح للا إله إلا الله من كثير من المسلمين، الذين يقولونها اليوم دون أن يعرفوا حقيقة المعنى الذي دلت عليه.
فلو سألت بعض المسلمين اليوم -ولا أقول العوام؛ بل حتى بعض المثقفين-: ما معنى لا إله إلا الله؟ لقال: معناها: لا خالق إلا الله، وآخر يقول: معنى (لا إله إلا الله) يعني: لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله، وثالث يقول: لا متصرف إلا الله؛ وهذا كله تفسير غير صحيح، وإن كان داخلاً في الإقرار والإيمان بالله، إلا أن هذا لم يكن موضع خصومة بين الأنبياء وأممهم؛ وإنما المعنى الصحيح للا إله إلا الله، هو: أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تتضمن نفي العبادة عمن سوى الله، وإثبات العبادة لله وحده فهي كما يقول العلماء: نفي وإثبات؛ تنفي العبادة عن جميع المعبودات، وتثبت العبادة لله تبارك وتعالى وحده بلا شريك فهي إيمان بالله، وكفرٌ بالطاغوت: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فالعروة الوثقى هي: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.
فالمعنى الصحيح لهذه الكلمة التي يطالب كل مسلم أن يقولها، ويتعبد بها، ويدعو إليها هو: الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.
والإيمان بالله يشمل: الإقرار بوجوده، والإيمان بربوبيته وتصريفه للكون، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بأنه لا يستحق العبادة إلا هو سبحانه، وتوجيه العبادة له وحده.
والكفر بالطاغوت يشمل: نفي جميع الآلهة المدعاة من دون الله؛ فهو ركن من أركان الشهادة.
وأنت لو نظرت في واقع المسلمين اليوم؛ لوجدت أنهم قد وقعوا في ألوان وألوان من الشرك، منه ما هو شرك أكبر مناف لأصل هذه الكلمة وحقيقتها، ومنه ما هو دون ذلك مما ينافي كمال الإيمان والتوحيد.(130/7)
الإيمان بالأسماء والصفات
الأمر الثالث: هو الإيمان بالله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا يثبت الإنسان ذاتاً مجردة، ولا يعرف رباً يتصرف في الأكوان فقط! بل يعرف ربه بأسمائه وصفاته التي وردت في القرآن الكريم، ووردت في السنة النبوية المطهرة، وأعلم الناس المخلوقين بالله؛ هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر عن ربه، وقد أخبر الله -أيضاً- عن نفسه في كتابه، بأسماء، وبصفات، وبأفعال.
فمن أسمائه مثلاً: العزيز، الحكيم، الخالق، البارئ، المصور، وكل اسم تليه صفة، ومن صفاته العزة، والكبرياء، وغيرها مما ورد النص عليها.
وأفعاله مثل: استوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ونزوله لفصل القضاء، وغير ذلك مما ثبت له في الأحاديث الصحاح المتواترة فلا بد من الإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفتة سبحانه وتعالى معرفة حقيقية.(130/8)
الاعتراف بربوبية الله جل وعلا
اللازم الآخر: هو الاعتراف بربوبية الله جل وعلا: بأنه الرب، ومعنى الرب: أي المتصرف في الأكوان؛ فهو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، وهو الذي يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، ويصرف الأقدار النازلة بالناس؛ والاعتراف -أيضاً- بهذا القدر لا بد منه في شهادة أن لا إله إلا الله، وهو ضروري لها.
ولكنك أيضاً تجد أن الخصومة بين الأنبياء وأممهم لم تكن على هذا؛ بدليل: أن الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يقرون بهذا الأمر قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] .
وفي آيات كثيرة يبين الله عز وجل إيمانهم بأنه هو المالك قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84-89] وهكذا يعترف الكفار الذين رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ يعترفون بألسنتهم بأن المتصرف بالأكوان هو الله وحده.
إذاً: فالمسلم مع أنه مطالب بأن يعرف معرفة حقيقية، أن الرب المتصرف المدبر للأمور هو الله؛ إلا أن هذا ليس هو المعنى الذي قصده الأنبياء -أصالة- عندما دعو إلى لا إله إلا الله؛ فعارضتهم أممهم في ذلك.(130/9)
الإقرار بوجود الله
فأولاً: من لوازم ومقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله؛ الإقرار بوجود الله، فإن الإنسان لم يشهد بألوهية الله وحده إلا وقد أقر قبل ذلك بوجوده سبحانه، وهذا الإقرار بوجود الله لم يكن موضع شك عند الأمم السابقة؛ بل ولا عند كثير من الكفار المعاصرين اليوم فأغلب الأمم في الماضي والحاضر يعترفون بوجود الله تعالى؛ وإنما أنكر الله، أو أنكر وجوده طائفة من الدهريين في الماضي، الذين كانوا يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37] .
كما أنكره طائفة من المعاصرين من الشيوعيين؛ وإن كان إنكار هؤلاء الشيوعيين لله -في الحقيقة- ليس في غالبه إنكاراً حقيقياً؛ بل هم يتعصبون لإنكار وجود الله؛ محافظة على مذهبهم الشيوعي الذي بنوه على الإلحاد؛ ولذلك عندما ذهب رائد الفضاء الروسي جاجارين في الرحلات الفضائية، ورجع وصرح للصحافيين بأنه آمن بالله عز وجل، أو أقر بوجوده؛ قتلوا هذا الرجل، وسحبوا هذا التصريح الذي أدلى به.
إذاً: فقضية اعتقاد أنَّ الله موجود ليست موضع خصومة ولا شك من السابقين، ولم تقف يوماً من الأيام مشكلة أمام نبي من الأنبياء وأنت تقرأ القرآن الكريم والأحاديث، وقصص الأنبياء؛ لا تجد نبياً من الأنبياء كانت مشكلته مع قومه أنه يدعوهم إلى الإيمان بوجود الله وهم منكرون! أبداً بل إن الكفار والمشركين -على حد سواء مع المؤمنين- يعترفون بوجود الله؛ من حيث أصل الوجود.
إذاً: فمجرد الإيمان بوجود الله، وإن كان لازماً من لوازم شهادة أن لا إله إلا الله؛ إلا أنه ليس هو المعنى الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلون.(130/10)
من ألوان الشرك بالله
ولنستعرض بعض الألوان من الشرك الظاهر والخفي، الذي يقع فيه بعض المسلمين اليوم:(130/11)
التعلق بالأسباب المادية
من ألوان الشرك الذي يقع فيها المسلمون اليوم: التعلق بالأسباب المادية: فإن الله عز وجل جعل للمسببات أسباباً في الغالب، تتحقق بها؛ ولكن الله تعالى هو خالق السبب والمسبب، وهو قبل الأسباب، وإرادته فوق السبب ومع السبب، ولذلك فإن هذه الأسباب لا أثر لها إلا بإرادة الله، وهو الذي رتب عليها ما يكون بعدها.
والمسلم وإن كان يفعل السبب؛ إلا أنه يؤمن بأن الله هو خالق السبب والمسبب؛ لكن لضعف ارتباط الناس بالله عز وجل؛ صاروا يلاحظون أن الأسباب التي تفعل تؤدي إلى نتائجها في حالات كثيرة، أو في غالب الحالات فالمريض إذا ذهب للمستشفى؛ يحصل في غالب الأحوال على الشفاء، والطالب إذا اجتهد في دراسته؛ حصل على النجاح.
ومع الغفلة عن الإيمان اليَقِظ بالله عز وجل؛ أصبح الناس يتوكلون على هذه الأسباب، ويعتبرون أنها كل شيء، وينسون قدر الله تعالى وحكمه وراء ذلك، ولذلك يقتل الإنسان نفسه بالتعب في تحصيل الأشياء، وبذل الأسباب التي تعسُر؛ بل قد تكون أشبه بالمستحيل أحياناً، ثم إذا لم يحصل على ما يريد؛ تقطعت نفسه حسرات على ما كان! وهذا أمر ينبغي للمسلم أن يحرر قلبه منه.
أيها الإخوة: هذا المعنى المتعلق بالشق الأول من لا إله إلا الله؛ هو معنىً خطير عظيم، أي: توجه القلب، واللسان والجوارح لله عز وجل بكليته، فلا يمكن أن ينطق الإنسان بلسانه، وقلبه خاوٍ؛ لأنه حينئذٍ يكون منافقاً، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، ولا يمكن أن يكتفي الإنسان بإقرار القلب فـ أبو طالب كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف أنه صادق في دعوته، ويقول في قصيدته المشهورة: لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ لدينا ولا يعنى بقولِ الأباطلِ فو الله لولا أن أجيء بسبة تُجر على أشياخنا في المحافلِ لَكُنَّا اتبعناه على كل حالة من الدهر حقاً غير قول التهازلِ ومع ذلك ورد في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أهون أهل النار عذاباً رجل تحت قدمية جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، ما يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، وإنه لأهونهم عذاباً} وفي رواية في الصحيح أيضاً: {أنه أبو طالب} .
إذاً: مجرد دعوى الإيمان في القلب، أو وجود شيء من الإيمان في القلب لا يكفي، والذين يقولون: ربك رب القلوب، والتقوى هاهنا، مخطئون في ذلك، بالمعنى الذي يقصدونه، وإن كانت الكلمة في أصلها صحيحة، لكنها كلمة حق أريد بها باطل فإنه لابد مع إيمان القلب من نطق اللسان، ولا بد مع نطق اللسان من توجه الجوارح بالعمل لتحقيق معنى ومدلول لا إله إلا الله.(130/12)
الغلو في محبة غير الله
من ألوان الشرك بالله عز وجل: محبة غير الله محبة لا تليق إلا بالله فيها ذل وخضوع فيها تأله، وطاعة مطلقة محبة لغير الله.
قد تكون محبة للمال -مثلاً- تجعل الإنسان يضحي في سبيل المال بكل شيء، ويجعل من هذا الدرهم والدينار، أو هذا القرش والريال؛ نُصباً وتمثالاً يتقرب إليه ويسبح بحمده، ولو لم يكن بلسانه، ولو لم يضعه ويصلي إليه؛ فالعبادة أصلها تنطلق من القلب إلى الجوارح والإنسان الذي يضحي في سبيل جمع القرش والريال بكل غال ونفيس، ويتعب، ويواصل سهر الليل بسهر النهار، ويذهب إلى أقاصي الدنيا، ثم يكون بيته إلى جوار المسجد -مثلاً- فيسمع المؤذن ينادي: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فلا يستجيب لهذا النداء، ولا يؤدي الصلاة، ويسمع هذا النداء المكرر عليه، مع سهولة الاستجابة فلا يستجيب؛ فمثل هذا لا يمكن أن نقول: إنه مؤمن بالله، أو عالم بمعنى لا إله إلا الله، أو محقق لها بوجه من الوجوه، بل هو يعبد -في حقيقته- هذا الدرهم والدينار، وهذا القرش والريال.
ولذلك يقول الله عز وجل في محكم كتابه: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:2] من هم الكافرون؟ {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:3] ويقول: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} يدعو صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة، ويسميه عبداً، عبداً: للدينار للدرهم للقطيفة للخميلة للخميصة.
كم يوجد -أيها الإخوة- من العبيد لهذه الأصنام الجديدة! كم يوجد من أصبح يتعبد لهذا الذهب الثمين البراق! وإذا أصيب بدينه لم يبال، فإذا أصيب بهذا المال؛ جن جنونه، وقد يصاب بضغط في قلبه، وقد يصاب بجنون حقيقي! بل منهم من يموت على أثر انتكاسةٍ مالية تنزل به! وقد يكون الحب لشيء آخر غير المال قد يكون الحب للصور صور النساء، مثلما يتعلق شخص بامرأة يعشقها، ويتأله قلبه إليها، وتستولي محبتها على قلبه، فيصبح خيالها لا يفارقه في الليل وفي النهار وهو يصلي -إن كان يصلي مثلاً-؛ تجد هذه المرأة في مخيلته وهو يدعو؛ تجدها بين ناظريه، وهو ينام يحلم بها، فإذا وجدته سارحاً في أفكار وتأملات؛ وجدته يدور حولها، وهذا لون من الوثنية في منتهى الخطورة؛ لأنه يأسر القلب، وأسر القلب أخطر من أي شيء آخر، فإن مأسور البدن قد يكون معذوراً، قد يكون مسلماً أسره الكفار، وقد يتخلص منهم، ولو قتل عندهم لكان شهيداً؛ لكن مأسور القلب -والعياذ بالله- على خطر عظيم، وبعضهم يصرح بعبوديته لهذه المعشوقة، يقول قائلهم: لا تدعُني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي وكما تكون الوثنية في تأله القلب، وولعه في عشق الصور، وكما تكون في عشق الرجل لامرأة؛ تكون أيضاً على العكس من ذلك؛ بولع وتعلق امرأة برجل، فيقع لها من اندماك القلب، وانشغاله، وبلباله، وتوجه جميع همه وإرادته إلى هذا الرجل؛ حتى يصبح الأبوان -مثلاً- اللذان جبل الإنسان على محبتهما، يصبحان عند هذا المحب -رجلاً كان أو امرأة- ليسا على بال، ولا يكترث لهما، ولا يعبأ بهما، ويغفل عن أولاده، ويغفل عن أشياء كثيرة؛ لولع القلب بهذا اللون من المحبة.
وأنت لو تأملت الوسائل التي يتلقى منها الناس ثقافاتهم اليوم؛ لوجدتها تدغدغ هذه المشاعر، وتحرك هذا العواطف، وتحاول عبر وسائل كثيرة أن تملأ قلوب الشباب والفتيات بمعاني الحب المحرم، الذي يؤدي في حالات كثيرة إلى تعلق القلب بغير الله فلا تكاد تسمع عن فيلم، أو تمثيلية، أو ديوان شعر؛ إلا وتجده يضرب على هذا الوتر، ولعلكم تعرفون أنه يوجد شاعر من شعراء الدعارة والمجون، الذين لوثوا اللغة العربية بشعرهم، والذي وظف الشعر لوصف المرأة ومحاسنها، والتغزل بها، فكتب ديواناً كاملاً اسمه (أشهد) يشهد ماذا؟ يشهد (أن لا امرأة إلا أنت!) فهذا ينتسب للإسلام والإسلام منه براء، ما دام على مثل هذه الحال؛ لأن الإسلام لم يعرف منه إلا الشتم يشتم الله عز وجل! ويشتم الأنبياء والمرسلين! ويشتم المؤمنين! لكن: يشهد أن لا امرأة إلا أنت! إذاً: فتعلق القلب بالمعشوق -أياً كان المعشوق- هو نوع من تأله القلب وتوجهه لغير الله عز وجل، وهو في الناس اليوم كثير.(130/13)
تقديس الأنظمة الكفرية
ومن ألوان الشرك أيضاًَ: تقديس كثير من الناس لأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، فإننا نسمع اليوم من يتغنى -مثلاً- بالعروبة كعرق أو جنسية ينتسبون إليها، ويعتبرون هذه العروبة ديناً يدينون به.
يقول شاعرهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني فيعتبرون العروبة ديناً يدينون به وينتسبون إليه، ويدندنون حوله، وقبل أن يصرح الواحد منهم بما يدعيه من الإسلام؛ يصرح بعروبته؛ بل قد لا يصرح بإسلامه، ولا يعتز بذلك.
ومثل ذلك: تقديس الأوطان وتعظيمها، والموت من أجلها، حتى أصبحت أوثاناً، وليست أوطاناً في الحقيقة، وليس هذا التعبير من عندي؛ بل إنَّ هؤلاء الذين أصيبوا بلوثة هذه الوثنية عبروا بنفس التعبير، حتى يقول أحد الشعراء: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثن وبكل أسف! حدثني بعض الشباب: أن هذه القصيدة كانت تغنى وتذاع من أجهزة الإعلام في أيام مضت في بلدان متعددة.
ويقول آخر يخاطب وطنه: ويا وطني لقيتك بعد يأسٍ كأني قد لقيت بك الشباباً أدير إليك قبل البيت وجهي إذا رمت الشهادة والمثابا كم هو محزن -أيها الإخوة- أن يكون مسلم يفوه بالشهادة وبالمثاب أي: يشهد أن لا إله إلا الله؛ يدير إلى وطنه وجهه قبل البيت الحرام، وهو نفسه يقول: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي أي: (في الجنة) .
فتقديس الوطن أو العرق والقومية، أو تقديس الأشخاص، وتعظيمهم، وإضفاء خصائص وصفات الألوهية عليهم؛ هو شرك بالله عز وجل.
ويجب أن نعرف أن الإنسان العاقل الذي يتكلم وهو صاحٍ، عاقل غير مغلوب على عقله، مؤاخذ بما يتكلم به، ومسئول عنه، ولا يجوز أن نقول: هذه مجرد فلتات، أو كلمات تنطلق منهم دون فهم لمعناها، أو حساب لها.(130/14)
الشرك في التشريع
صورة أخرى من صور الشرك بالله عز وجل: إن الله تعالى قد نص في كتابه على أن التشريع والدين، إنما يُتَلَقَّى من عنده فقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فالدين والشرع لا يؤخذ إلا عن الله، والتحليل والتحريم لا يؤخذ إلا عن الله وعن رسوله.
فأنت تجد اليوم كثيرا ًمن المسلمين لم يحققوا هذا المعنى، ولم يحققوا معنى الكفر بالطاغوت؛ بل أصبحوا يتلقون نظمهم وتشريعاتهم، وقوانينهم، وأنماط سلوكهم عن الكفار، من الأوروبيين وغيرهم؛ وأصبحت تجد بين المسلمين من يؤمن بالنظريات والمذاهب الإلحادية المعارضة للإسلام، والمنافية له، سواء في مجال الاقتصاد، أو الاجتماع، أو علم النفس، أو غيرها؛ وأصبحت تجد بين المسلمين من يأخذ النظم والقوانين والتشريعات المختلفة لجميع شئون الحياة؛ فيطبقها في خاصة نفسه، أو في من يستطيع تطبيقها عليه، مما ينافي الدين، ويعارض أصله، وهذا لا يعني -بطبيعة الحال- النظم الإدارية البحتة التي أذن الإسلام بالاستفادة منها مما عند الأعداء؛ فهذا يختلف عن تلقي القوانين والشرائع المتعلقة بالدماء والأعراض والأموال، وبغير ذلك من الخصومات والحكومات بين الناس على مستوى الفرد والمجتمع الذي يعتبر لوناً من ألوان الشرك بالله عز وجل؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة {وَلا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] فهي نفي ونهي -في نفس الوقت- عن أن يشرك المسلم في الحكم أحداً مع الله عز وجل؛ فلا حَكَم إلا الله وله الحكم، ولا يجوز أخذ الأنظمة والشرائع والقوانين إلا منه سبحانه.(130/15)
الشرك في العبادات
فمن الشرك الظاهر -مثلاً-: توجيه العبادة لغير الله؛ سواء بالصلاة، أو الدعاء، أو النذر، أو الذبح، أو بالحب والخوف والرجاء وغيرها للأنبياء، أو الأولياء، أو الصالحين، أو المقبورين، وأنت تجد في كثير من بلاد المسلمين هذه القبور والأضرحة، التي يطاف بها وينذر لها، ويتقرب إليها؛ بل ويصلى إليها! وقد حدثني بعض إخواننا من بعض البلاد الإسلامية، فقال: والله لقد رأيت بعيني رجلاً في إحدى البلاد الإسلامية، وهو مستقبل للقبر مستدبر للكعبة، قال: فظننته يدعو -وإن كان الدعاء لا يجوز؛ لكن يقول: إن الأمر قد يكون غير مستغرب- يقول: فما لبث هذا الرجل أن ركع وسجد؛ فعرفت أنه يصلي مستقبلاً القبر والذي حدثني شاهد عيان لهذا الحادث.
أما الطواف بها، ونذر القرابين لها، والدعاء عندها؛ فحدّث ولا حرج وفي كثير من مجتمعات الأرياف، وفي أوساط السذج البعيدين عن المعرفة؛ تجد أن الاستشفاء للمريض يكون عند القبر؛ سواء بالدعاء، أو بالذبح، أو بالنذر، وقد يسافر الواحد منهم مئات الكيلو مترات ويتجشم المشاق، ويضيع كثيراً من ماله في هذا السبيل، وهذا بلا شك شرك أكبر؛ بل إن هذا هو بالضبط، وبدون أي فرق، هو الشرك الذي وقعت فيه قريش، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليحرر الجزيرة العربية والعالم كله من قبضة هذه الوثنية، وهذا الشرك؛ لأن هؤلاء القوم الذين يوجهون عبادتهم للمقبورين اليوم ليسوا يعتقدون إلا أن هذا المقبور يتوسط لهم عند الله فقط! وقريش كما قال الله كانت تقول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وكما قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] في حين أن المعبودين أنفسهم هم عباد فقراء محتاجون، يتوجهون إلى الله بالدعاء والعبادة؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] أي: أن هؤلاء القوم المدعوين؛ كعيسى، وعزير، وغيرهم من الصالحين الذين يعبدون أولئك الذين يدعون، هم أنفسهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] .
فكيف يدعونهم وهم عبيد، يتقربون إلى الله عز وجل؟! فهؤلاء وقعوا في لون من الشرك الأكبر، ولا شك أن هذه الظاهرة الخطيرة موجودة في كثير من بلاد الإسلام، وهي قضية تمس أصل الدين والاعتقاد، ويجب أن تأخذ حقها من العناية والاهتمام، وإن كان الوعي -بحمد الله- قد انتشر أيضاً في بلاد إسلامية كثيرة، وأصبحت تجد في تلك البلاد من يستنكر مثل هذا العمل، ويدرك ما ينطوي عليه من خطورة، ويدعو إلى الرجوع بالإسلام، وبالدين، وبالعقيدة الصحيحة، إلى نقائها وصفائها.(130/16)
مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله
ثم ننتقل بعد ذلك إلى الشق الثاني من هذه الشهادة: وهو (شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) : وهذه الشهادة تتضمن عدة معانٍ:(130/17)
الإيمان بعموم البعثية النبوية
ولا بد من أمر ثالث وهو: الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة: فالذين يؤمنون بإقليمية الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب، أو إلى الجزيرة، أو في بيئة معينة؛ هؤلاء القوم ليسوا مؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا مُقِرِّين بنبوته على الحقيقة.(130/18)
محبته من القلب
ولا بد من أمر رابع وهو: محبة النبي صلى الله عليه وسلم من القلب: فلابد من محبته وتقديم هذه المحبة، على النفس، والولد، والوالد؛ ولذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فقال عمر: والله يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي، فقال: لا تؤمن حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله يا رسول الله! لأنت الآن أحب إلي من كل شيء، حتى من نفسي، فقال: الآن يا عمر} أي: الآن حققت الإيمان.
فهناك إيمان كامل، وكمال الإيمان لا يتحقق إلا بتحقق كمال المحبة، لكن -أيضاً- أصل الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتحقق إلا بوجود أصل المحبة، بمعنى: لو وجد إنسان لا يحب النبي عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- أو يبغض النبي عليه الصلاة والسلام، فهو غير مسلم، وغير مؤمن به صلى الله عليه وسلم؛ لكن لو وجد إنسان يحب النبي صلى الله عليه وسلم -لكن قد لا يدرك بالضبط ما مقدار هذه المحبة- فحينئذٍ يكون له من الإيمان بقدر ما للنبي صلى الله عليه وسلم في قلبه من المحبة.(130/19)
وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
وهذه المحبة ليست شعوراً في القلب أيضاً، بل إنها تستلزم أمراً خامساً وهو: أن تتحول المحبة إلى اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الشاعر فيما يتعلق بالله عز وجل: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ وأنت إذا نظرت إلى الذين يحبون بشراً من البشر محبة شركية؛ وجدتهم في الحقيقة أصبحوا مجرد آلات تأتمر وتتحرك بإشارة المعشوق المحبوب بشكل واضح جداً، فالمحبة الحقيقية لا بد أن تظهر آثارها على الجوارح؛ ولذلك لما ادعى قوم محبة الله ورسوله، ابتلاهم الله عز وجل بالآية التي كان بعض السلف يسميها آية المحنة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] .
فالمحبة -أيها الإخوة- ليست دعوةً باللسان، وليست مجرد شعور يخفق به القلب؛ بل هي محبة تجعل الإنسان مستعداً لأن يقف حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف، ويعمل ما أمره صلى الله عليه وسلم أن يعمل، ويترك ما أمره صلى الله عليه وسلم أن يترك؛ مهما كان ذلك مخالفاً لمحبوبه ومراده هو.(130/20)
الإيمان بنبوته عليه الصلاة والسلام
المعنى الأول: هو الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، وتصديقه فيما أخبر به عن ربه تبارك وتعالى وهذا المعنى معنىً ظاهر، قد يؤمن به من نطق بهذه الشهادة؛ فهو يدرك من ظاهر هذه العبارة، أنه مؤمن في قلبه، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم: مبعوث من لدن الله عز وجل؛ لكن هل يكفي هذا الإيمان وهذا القدر؟ لا.
بل لابد من أشياء، ستعرف إذا سمعتها أنها لو تخلفت؛ لم يُفِدْ نطق الإنسان بشهادة أن محمداً رسول الله.(130/21)
الإيمان بأنه خاتم النبيين
وبعد الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم؛ لا بد من الإيمان بأنه خاتم النبيين، وأن الرسالات قد ختمت به صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان من اليهود من آمنوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول ونبي؛ ومع ذلك ما نفعهم هذا، ففي صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه: {أن يهودياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه سلم، فقال: السلام عليك يا محمد! قال ثوبان: فدفعته في صدره دفعة شديدة، كاد يسقط منها! قال: لما دفعتني؟ فقلت له: ألا تقول: السلام عليك يا رسول الله؟ قال: أنا اسميه باسمه الذي سماه به أهله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن اسمي الذي سماني به أهلي محمد، ثم قال اليهودي: يا محمد! إني سائلك عن مسائل، قال صلى الله عليه وسلم: هل ينفعك إن أخبرتك -أي: هل تستفيد- قال: أسمع بأذني -لن يستفيد إلا مجرد السماع بأذنه- فقال له صلى الله عليه وسلم: سل عما تريد، قال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟! -في ذلك الموقف أين يكون الناس؟! - قال: هم في الظلمة دون الجسر -والجسر هو الصراط- قال: فمن أول من يجوز؟ -من هو أول من يجتاز الصراط؟ - قال: فقراء المهاجرين، قال: فما أول طعام يأكلونه في الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت -الزائدة الموجودة في كبد الحوت- قال: فما غذاؤهم عليها؟ قال: ثور يأكل من أنحاء الجنة، قال: فما شرابهم؟ قال: من عين تسمى سلسبيلاً، قال: إني سائلك سؤالاً لا يعلمه إلا نبي، أو رجل، أو رجلان ما الذي يجعل الولد ينزع إلى أبيه، أو ينزع إلى أمه؟ قال: ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أَذْكَر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنث بإذن الله -ماذا قال هذا اليهودي الحبر؟ - قال: صدقت وإنك لنبي} ومع ذلك بقي يهودياً كافراً وهو من ضمن المعاني التي تخلفت عند هؤلاء اليهود فلم تنفعهم شهادتهم.(130/22)
نماذج من الإخلال بشهادة أن محمداً رسول الله
هذه أهم الأشياء المتعلقة بمعنى شهادة أن محمداً رسول الله، ولو أردنا أن ننظر في واقع المسلمين اليوم، وهم ينطقون بهذه الشهادة؛ بل وكثير منهم يعلنون في كثير من المواقف محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقيمون الموالد التي يقرءون فيها الكتب المؤلفة في شمائله صلى الله عليه وسلم، وفي ذكر صفاته، وذكر الأشعار التي قيلت فيه، وذكر أخباره، وما يتبع ذلك من الأشياء؛ وهم مع ذلك كله يُخِلُّون بالتحقيق الصحيح لمعنى الشهادة! حتى وهم يعلنون بالطريقة التي يعلنون بها عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ يخطئون وينحرفون عن المعنى الصحيح، ولنتأمل صوراً ونماذج من الإخلال بهذه الشهادة:(130/23)
إدعاء النبوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام
إن الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، من اليهود، أو النصارى، أو غيرهم من سائر الطوائف الملحدة، لا شك في كفرهم بأصل الإسلام، ومن ذلك كفرهم بشهادة أن محمداً رسول الله، كفراً أصيلاً ظاهراً لا يتردد فيه اثنان؛ لكن لو نظرت -مثلاً- في حال القاديانيين، والبهائيين؛ لوجدت أنهم يدعون الإسلام، ويحسبون -في كثير من البلدان- من المسلمين، وهم مع ذلك يدعون لمتبوعيهم من الزعماء والقادة أنهم أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فهؤلاء -بلا شك- مشركون في تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله، وخارجون عن الإسلام بهذه الدعوة.
ولو نظرت -مثلاً- لبعض الذين يقدسون بعض الزعماء والقادة والسياسيين؛ فيسمونهم بالأنبياء فهذا نبي القومية مثلاً، وأحد الشعراء يقول على أثر وفاة بعض الحاكمين، يخاطبه بقصيدة يقول فيها: قتلناك يا آخر الأنبياء!! فهؤلاء أيضاً هم مشركون، وغير مؤمنين بشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يبعد هؤلاء وأمثالهم -وهم كثير، لا كثرهم الله! - من الإحصائيات التي تعلن لأعداد المسلمين في أحيان كثيرة.(130/24)
الإخلال بحقيقة الاتباع
ومن ألوان الإخلال بالشهادة الشائعة لدى كثير من المسلمين: الإخلال بحقيقة الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا كنا عرفنا أن شهادة أن محمداً رسول الله تعني ضرورة اتباعه صلى الله عليه وسلم، وتجريد المتابعة له فيما نهوى وما لا نهوى، فكم تجد من المسلمين اليوم من يقتصرون على التلفظ بالشهادة! فالنبي صلى الله عليه وسلم له الاسم في الشهادة، وهو الذي ينطق باسمه؛ لكن العمل والتطبيق والاتباع، ليس له؛ وإنما للمتبوعين سواء كان هؤلاء المتبوعين ممن يرضون بأن يتبعهم الناس، أو ممن لا يرضون بذلك ولا يقرون به وهذا نوع من أنواع الشرك، وعدم تحقيق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
لقد جهل كثير من المسلمين اليوم معنى الاتباع الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجدتهم يستغربون سنته ويستنكرونها، وينكرون أحياناً على من فعلها، وقد يُشَهِّرون به، وقد يصفونه بأوصاف كثيرة، فيقال عن المتبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه متزمت، ومتشدد، ومتطرف إلى غير ذلك من الأوصاف التي يراد منها تنفير الناس عنه، وعن السنة التي يحملها، وكثير من الناس اليوم يقدمون آراء الرجال وأقوالهم على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا خطأ عظيم، وقع فيه المسلمون، فإن من المعلوم أنه لا قول لأحد، ولا كلام لأحد بعد كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفت أيها المسلم! أن نبيك، ومتبوعك، وإمامك، وقدوتك صلى الله عليه وسلم، يفتي في هذه المسألة، أو يقول في هذا الحكم قولاً، لم يكن لك أن تتعدى قوله، ولا أن تترك قوله إلى قول غيره، وكما قيل: دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر ويقول آخر: وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائعُ(130/25)
اتباع الأئمة الأربعة للسنة النبوية
ولا شك أن الله عز وجل قد منَّ على هذه الأمة، بأئمة جهابذة، وعلماء أفذاذ، أناروا لهذه الأمة الطريق، وهدى الله بهم الخلق إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونفع الله بهم أمماً عظيمة، وخلَّد ذكرهم في التاريخ ومن أعظم هؤلاء الأئمة، الأئمة الأربعة الذين بقيت مذاهبهم، وانتشرت في أقطار الأرض، وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله أجمعين.
فهؤلاء الأئمة: إنما يغترفون من بحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكما قيل: (وكلهم من رسول الله مغترف) فإنما هم يأخذون من هديه ومن سنته، ويقول كل واحد منهم: "إذا صح الدليل فهو مذهبي، وإذا صح الحديث قلت به".
روى الأئمة الذين ترجموا للإمام الشافعي كـ البيهقي، والرازي وغيرهما: "أن رجلاًَ جاء للإمام الشافعي فسأله عن حديث أصحيح هو أم لا؟ قال: نعم صحيح، قال: وتقول به أنت يا إمام؟! فغضب الشافعي، وأحمر وجهه! وقال لهذا السائل: هل رأيتني في كنيسة؟! أرأيت في وسطي زِنَّاراً؟! وغضب! وقال: حديث يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به كيف هذا؟! ولذلك نال هؤلاء الأئمة من المكانة عند المسلمين ما نالوا؛ لشدة متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة تحريهم لهديه، وبعدهم عن مخالفته في كل شيء، إلا فيما لا بد للبشر منه، ولكن إذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا؛ فمن بعدهم أولى بالاختلاف، والاختلاف أمر لا بد منه، وإنما الشيء الذي يجب على المسلم أن يعيه ويسمعه ويفهمه، هو المنهج الصحيح في هذا الاختلاف، وفي مواجهته.
وخلاصة ما يتعلق بموضوعنا الآن هو: أن كل اختلاف فمرده إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا صح الحديث، فكل واحد منا يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، قلت به، ولا حاجة لأن أقول: الأئمة أعلم مني بهذا الحديث، أو أعرف مني به لو كان صحيحاً لقالوا به، أو لو كان هذا معناه لقالوا به؛ لأنك حينئذٍ قد أحلْتَ سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقاعد أو إلى المعاش، واستبدلت بها آراء هؤلاء الأئمة، وهذا ما لا يرضيهم؛ لأنك حينئذٍ كما تكون خالفت هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، تكون خالفت هؤلاء الأئمة الذين تتبعهم وتسير على نهجهم.
إذاً: فالحديث هو المقدم، وهؤلاء الأئمة إنما يغترفون من بحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله تبارك وتعالى.
فيجب عليك أيها المسلم! أن تعظم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتربي في قلبك تعظيم الحديث، فإذا سمعت كلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليها بكليتك بقلبك وقالبك، واحرص على فهمها ومدى صحتها وثبوتها، ثم ابن على ذلك العمل بها، والدعوة إليها، واعرف أنك بهذا لن تخرج عن قول إمام من الأئمة، فما من شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وقال به بعض هؤلاء الأئمة أو كلهم.
فهذه أشياء مما يتعلق بالأخطاء التي يقع فيها كثيرٌ من المسلمين، في تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله، والإنسان الذي يطمع في رحمة الله، ويطمع في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، عليه أن يقف مع نفسه وقفة صدق، ويتأمل مدى تحققه وامتثاله للمعاني التي آمن واقتنع بأنها هي المعنى الصحيح للشهادتين.
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل، وجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(130/26)
الأسئلة(130/27)
حكم تثنية التكبير في الأذان
السؤال
ما حكم تثنية (الله أكبر) في الأذان؟ وما هي السنة، الإفراد أم التثنية؟
الجواب
لا أدري ما هي السنة! هل السنة أن يكبر بَنَفسٍ واحد، الله أكبر الله أكبر؟ أو يفصل إحداهما عن الأخرى فيقول: الله أكبر الله أكبر؛ لكن ليس في هذا أو هذا من بأس، أما إن كان أحدهما أفضل من الآخر فلست أدري.(130/28)
حكم الوساوس التي تعتري الإنسان
السؤال
يحدث أن يوسوس الشيطان بأشياء تخل بعقيدة الإنسان؛ ولكن القلب لا يطرقها ويأباها بل يحارب ذلك الوسواس، ويتمنى عدم وجود هذا الوسواس فما موقف الإيمان من هذا؟ هل يخل ذلك بشيء من الإيمان؟
الجواب
الوساوس التي تعتري الإنسان -وخاصة الشاب- هي أمر يعرض لكثيرين، ومثل هذا السؤال يتردد ويتسرب كثيراً، وهي نوع من الوسوسة، ويخطئ من يسميها شكاً؛ بل هي وسواس, وعلى الإنسان إذا شعر بشيء من ذلك ألا يلتفت إليه، ويعرض عنه بالكلية، فإن الشيطان إذا رأى إعراض الإنسان عن هذه الأمور، وعدم التفاته لها؛ بحث عن وسيلة وسبيل آخر ليشغله به، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أوصى أنه إذا وجد الإنسان شيئاً من ذلك: {فليستعذ بالله ولينتهِ} والانتهاء يعني ألا يكترث الإنسان، وألا يحمل هم هذه الوساوس.
فحاول أن تدفعها عن نفسك، لكن لا تحمل همها، ولا تصبح هذه الوساوس شغلك الشاغل، والتخلص منها هو كل ما يعنيك، ولا تفكر إلا بذلك.
فانته عنها، ولا تأبه بها، واستعذ بالله منها، وستجد أن هذه الوساوس تختفي، وعلى كل حال فهي وساوس تعرض للإنسان في مرحلة معينة من حياته، ثم تختفي؛ ومع ذلك فعلى الإنسان أن يسعى إلى دفعها ما استطاع، بالاستعاذة بالذكر بدعاء الله عز وجل بإهمالها وعدم الالتفات إليها، فإن استمرت معه؛ فلا بأس أن يعرض ما يجده على بعض أهل العلم الذين يعرفهم، حتى يساعدوه في التخلص مما هو فيه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(130/29)
حكم المشي بالنعال في المقبرة
السؤال
ما حكم المشي في المقبرة بالنعال؟
الجواب
ورد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها، أن رجلاً كان يمشي على القبر وعليه نعلان سبتيتان فقال: {يا صاحب السبتيتين ألقِ سبتيتيك} وقد اختلف في ذلك أهل العلم، فقال بعضهم: إن المشي على القبور بالنعال ممنوع بدلالة هذا الحديث، وقال آخرون: إن النعال السبتية نعال فيها شيء من الأبهة، ولا يلبسها إلا الأغنياء، وقد يداخل الذي يلبسها شيء من التعاظم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلعها؛ لأن المقام مقام تذلل وتواضع، وبعد عن الزينة والزخرف، وأَوَّلَ علماء آخرون هذا بأوجه أخرى، والله أعلم.(130/30)
حكم ولائم الموت
السؤال
ما حكم الطعام الذي يؤتى به إلى المقبرة عندما يموت الميت فيطعم الناس؟
الجواب
في الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حين مات جعفر قال عليه الصلاة والسلام: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم} فهذا دليل على أنه يشرع إذا شغل أهل الميت بميتهم أن يصنع لهم بعض جيرانهم، أو أقاربهم طعاماً ويقدمونه إليهم.
أما غير ذلك من الأطعمة والولائم التي تصنع في وفاة أحد فهي غير مشروعة، سواء كانت هذه الولائم مما يصنعه أهل الميت كما يحصل في بعض البلدان، ويدعون الناس إليه، أو غير ذلك.(130/31)
حكم الحلف بغير الله
السؤال
هناك كثير من الناس اليوم من يحلف بغير الله، كأن يقول: والكعبة، والنبي، أو رأس فلان، أو بالذمة، وغير ذلك فهل ينطبق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر} وهل الشرك هنا أو الكفر مخرجٌ من الملة أم على سبيل التغليظ والتشديد؟
الجواب
نعم.
الذي يحلف بغير الله ينطبق عليه جملة هذا الحديث، فهو قد حلف بغير الله، سواء حلف بالأمانة أو بالكعبة، أو بطاغوت من الطواغيت، أو بشرفه، أو بفلان، فهذا كله لا يجوز، ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك؛ لكن الكفر والشرك هاهنا ليس كفراً أكبر، مخرجاً من الإسلام؛ بل هو كفر أصغر، وشرك أصغر، فالحلف بغير الله محرم، وممنوع، وغير جائز.(130/32)
حكم الوفاء بالنذر إذا كان في معصية
السؤال
إنه أحب بنتاً، ونذر أن ينظر إليها ثمان مرات، فهل يوفي بنذره، أو يكفر عن النذر؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا وفاء لنذر في معصية الله} ويقول: {من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه} وإذا كان الإنسان نذر بأمر وهو معصية، كما هي الحال بالنسبة لهذا السائل، فإنه سوف ينظر إلى امرأة قد حرمها الله تبارك وتعالى عليه بالنصوص الصريحة، وقد يترتب على هذا النظر فساد قلبه، ومزيد تعلق وشغف، وكما قيل: كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ فعلى الإنسان أن يدرك حجم الخطأ الذي هو مقدم عليه، وألا يعصي الله عز وجل، ولا يفي بهذا النذر الذي هو معصية.(130/33)
مسألة وصول ثواب قراءة القرآن للميت
السؤال
ما حكم قراءة القرآن على الموتى؟ وهل يصل الثواب لهم أم لا؟
الجواب
الصحيح أن قراءة القرآن على الموتى أو على قبورهم غير مشروعة، أما وصول الثواب فهذا موضع خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال بوصول الثواب إلى الميت، ومنهم من قال: إن الثواب لا يصل؛ لأن هذه عبادة بدنية محضة، فلا يصل ثوابها، وإنما يصل ثواب العبادات المالية، أو المشتركة بين كونها مالية وكونها بدنية، والأشياء التي ورد النص بها كالحج -مثلاً- ومما لا شك فيه أن الذين يقرءون القرآن بالأجرة -كما هو حاصل في كثير من البلدان الإسلامية- ويختمونه بالأجرة، فمثلاً: يأتون بعشرة قراء أو أكثر، كل واحد منهم يقرأ قسطاً من القرآن، ويهدونه لفلان؛ فهذا لا يصل ثوابه إلى الميت بلا إشكال؛ لأنه لا ثواب له أصلاً، فهؤلاء القوم ما عملوا عملاً صالحاً فيه أجر يصل إلى الميت، إنما هم تَأَكَّلوا بالقرآن، وجعلوا هذا الكتاب الذي نزل ليحكم الحياة، ويسير شئون الناس، لا يعرف إلا عند الموتى وفي حال الموت، ومن أجل المكاسب المادية، وحتى تمتلئ جيوبهم من أموال هؤلاء المساكين الذين أصيبوا بميتهم، ثم أصيبوا بمالهم أيضاً، فثواب مثل هذا، لا شك في عدم وصوله.(130/34)
حكم الرقية بالآيات القرآنية
السؤال
ما مدى استعمال الآية القرآنية كحجاب لمنع العين والحسد؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى طريقة صحيحة ونافعة، يحمينا الله عز وجل بها من شر شياطين الإنس والجن من العين والحسد، والجن، ومن غير ذلك ألا وهي الأذكار والأوراد والأدعية التي يقولها الإنسان بنفسه، فيقرأ ورده في الصباح، ويقرأ ورده في المساء، ويذكر الأدعية الواردة في المناسبات التي تعرض له، ويجعل قلبه مربوطاً بالله تعالى، وحياً بذكره في جميع الأحوال، وهذا هو الطريق الأصلي والصحيح لطلب حماية الله عز وجل مما يخافه الإنسان.
وكثيرٌ من الناس اليوم لا يعرفون هذا الطريق، فلا يعرفون إلا وضع الحروز التي يكتبها أناس قد لا يكونون معروفين بالعلم ولا بالتعبد، بل وبعضهم لا يدرى ماذا يكتب، فقد تفتح بعض الحروز، فتجد فيها عبارة عن طلاسم وأشياء لا يُدرى ما معناها، ثم يعلقونها أحياناً على الصبيان وغير ذلك، دون أن يهتموا بالشيء الذي يحيي قلوبهم فعلاً، ويجعلهم يشعرون أن الله تعالى يحفظهم مما يخافون، وهذا من انحراف المفاهيم أيضاً في نفوس كثير من الناس.
فأين الأذكار؟! وأين الأدعية؟! وهل كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دأبهم فقط هو كتابة الحروز، والتمائم، والرقى، والتعاويذ وتعليقها؟ وحتى لو وجد هذا؛ تبقى حالات معينة! أما الأصل فالإنسان ينبغي له أن يستعمل الأذكار والأدعية النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الرقى فإنها إذا لم يكن بها شرك، وكانت من القرآن أو السنة، ومن أناس من أهل الخير فلا بأس بها.(130/35)
تعريف القومية
السؤال
ما معنى القومية؟
الجواب
القومية هي الاجتماع على أساس معين، كالاجتماع على أساس الوطن، أو على أساس القوم، والجنس، والعنصر، وما أشبه ذلك، أي: أن تكون الرابطة بين الناس ليست هي الأخوة الإسلامية؛ بل القومية، فيكون العرب أمة واحدة، والترك أمة واحدة، وهكذا فهذه هي القومية، وهي مناقضة في أصلها للإسلام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام جاء بدعوة الإسلام إلى الناس كافة، وكان أتباعه منهم العربي، ومنهم الفارسي، والرومي، والحبشي، ولا فرق بينهم إلا بالتقوى.(130/36)
أشرطة جيدة في العقيدة
السؤال
هل هناك بعض الأشرطة في العقيدة تنصحهم بها؟
الجواب
لا أذكر الآن أشرطة في العقيدة مناسبة للجميع، وقد يكون هناك شرح للعقيدة الطحاوية للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، يناسب أيضاً الإنسان المتقدم نسبياً؛ لأنه يشرح العقيدة الطحاوية، وهي أشرطة جيدة ومفيدة أما بقية الأشرطة فقد يكون هناك أشرطة، لكنني لم أسمعها، أو لا أستطيع أن أوثقها توثيقاً مطلقاً؛ لأن الشريط في الجملة طيب؛ لكن يكون فيه بعض الهفوات فتوثيق الشريط إجمالاً فيه شيء من الصعوبة.(130/37)
حكم الدعاء بحق النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
تكلم فضيلتكم في المحاضرة عن الشرك الأكبر والشرك الخفي، فهل الدعاء بحق النبي أو بحق رسول يعتبر من ذلك؟
الجواب
الدعاء بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاهه، مر في أثناء المحاضرة، وأنه نوع من التوسل الممنوع المحرم، وبعض السلف كانوا يقسمون الشرك إلى ثلاثة أقسام: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك معصية فعلى الإنسان ألا يستغرب تسمية بعض الأشياء شركاً أصغر؛ لأن الإنسان الذي عصى الله عز وجل، قد عرف أن الله لا يريد هذا الأمر ففعل وأطاع الشيطان في هذه المسألة فهو واقع في نوع من الشرك، بطاعته للشيطان، وهي طاعة جزئية.
فليس بغريب أن تسمى بعض الأشياء شركاً أصغر، ولو لم تكن كفراً يخرج به صاحبه من الإسلام.(130/38)
ما صحة حديث: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك؟
السؤال
ما صحة الدعاء الوارد عند الذهاب إلى المسجد، ألا وهو قول: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك} الخ؟
الجواب
هذا الدعاء لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت؛ لما كان فيه حجة لسؤال الله عز وجل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هو أقرب ما يكون إلى سؤال الله بعمل الإنسان الصالح، وبما أوجبه الله على نفسه من إجابة الداعين، وهذا أمر لا يستقيم به الاستدلال على سؤال الله بجاه نبي أو ولي أو صالح.(130/39)
حكم قول: (الله والنبي يحييك)
السؤال
بعض الناس إذا زرته قال: الله والنبي يحييك، فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا لا يصح، ولا تصلح مثل هذه العبارة، بل كلمة: حياك الله أو الله يحييك، لا بأس بها؛ لأنها نوع من التحية الموجودة عند الناس في الجاهلية والإسلام، وليس بها بأس إن شاء الله؛ لكن إضافة النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا ليس لها مكان فأنت حين تقول: حياك الله، كأنك تدعو له بالتحية، سواء كان المعنى الحياة، أو كان معنى آخر من معاني التحية، فأصل هذه الكلمة نوع من الدعاء.(130/40)
حكم الصلاة على القبر
السؤال
ما حكم الصلاة على القبر؟
الجواب
الصلاة على القبر، بأن تصلي على المقبور، أي: وجد لك قريب مات في بلد، أو مات وأنت غائب، ثم قدمت من قريب، فقالوا: إن فلاناً قد توفي، فذهبت إلى قبره وصليت عليه صلاة الجنازة هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين {أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعاً} أما الصلوات في المقابر -سواء صلاة الفريضة أو النافلة- لا تجوز؛ لثبوت النهي عن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها} .(130/41)
حكم قول: يا وجه الله
السؤال
عنده كلمة اعتادها فهل هذه الكلمة تؤدي إلى الشرك، وهي قوله: يا وجه الله؟
الجواب
لا أدري ماذا يقصد بهذه الكلمة، وفي أي مناسبة يقولها! لكن ظاهر الكلمة -الآن- أنه ليس فيها شيء؛ لكن إن كان يقصد بها معنىً توارثه عن أهله، أو يقولها في مناسبات تدل على أن لها معنىً خاصاً غير المعنى الظاهر والمتبادر، فقد يختلف الأمر، وإن كان في الأصل أن الإنسان يدعو الله عز وجل، فلا يقول مثلاً: يا وجه الله، أو ينادي اسماً أو صفة؛ إنما ينادي الله عز وجل باسمه الذي هو الاسم الأعظم عند كثير من الناس وهو: (الله) أو بأسمائه الأخرى، فيقول: يا ودود، يا رحيم، يا غفور وهذا من دعاء الله بأسمائه الحسنى، أما ما ذكر، فلا أعرف أن العلماء ذكروا مشروعية مثل هذا العمل، وينبغي للإنسان أن يحرص على تجنبه.(130/42)
توضيح لإشكال
السؤال
أرجو توضيح قولكم: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ليفصل القضاء.
الجواب
قلت: إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة فيقول: {هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟} ثم قلت: إن الله عز وجل ينزل في يوم القيامة لفصل القضاء، فإن كنت قلت إنه ينزل إلى السماء الدنيا لفصل القضاء فهذه سبقة لسان.(130/43)
من يقول: عرفنا الله بالعقل
السؤال
ما رأي فضيلتكم في من يقول: الله ما رأيناه، بل بالعقل عرفناه؟ وقولهم: أعرف ربي بآياته ومخلوقاته؟
الجواب
قوله: "الله ما رأيناه"، أي ما رأيناه بأعيننا، هذا صحيح، ثم قوله: "بالعقل عرفناه"، العقل لا شك أنه يدل على الله عز وجل، والشاعر يقول: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ويقول الآخر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت سطرها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فالعقل من الوسائل إلى معرفة الله، والفطرة مجبولة على معرفة الله، والتأله إليه وحبه، وهذا لاشك فيه، ولكن هذه المعرفة بالله عز وجل تنمو وتزكو وتصح وتكمل؛ بمعرفة الله أيضاً من خلال كتبه ورسله، وما جاءوا به من أوصافه سبحانه وأسمائه، وأفعاله.(130/44)
كتب جيدة في العقيدة
السؤال
فضيلة الشيخ! اذكر لنا بعض الكتب الجيدة في العقيدة لنقتنيها؟
الجواب
الكتب الجيدة في العقيدة -بحمد الله- كثيرة، وفي هذا العصر -بالذات- كثرت الكتب؛ سواء المؤلفة، أو كتب السلف التي حققت وظهرت إلى الواقع، لكن تحديد الكتب يختلف بحسب مستوى الإنسان.
فإن كان طالب علم ولديه علم جيد، فيمكن أن يقرأ في كتب العلماء الأقدمين، ككتاب شرح أصول الاعتقاد للإمام أبي القاسم اللالكائي، وكتاب الإيمان للإمام ابن مندة، وكتاب التوحيد للإمام ابن مندة أيضاً، وكتاب السنة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة، لعبد الله بن أحمد، وكتاب السنة للمروزي، وكتاب الشريعة للآجري، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرها.
وإن كان مستواه دون ذلك؛ فيمكن أن يختار في العقيدة كتباً مبسطة، تشرح قضايا العقيدة الإسلامية بشكل جيد وواضح ومناسب للأصل، ومن هذه الكتب، كتب ألفها الشيخ الأشقر، وهي عبارة عن سلسلة بعنوان العقيدة في الله، أو العقائد، منها كتاب يتعلق بالعقيدة في الله، وكتاب في الرسالات، وكتاب في الملائكة، وكتاب في الشياطين، وغيرها.
وكذلك يوجد كتاب قيم وجيد للشيخ محمد بن صالح العثيمين عنوانه: القواعد المثلى للأسماء والصفات الحسنى، وهو كتاب مفيد جداً.
إضافة إلى كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده، وتلاميذه.
الذين شرحوا دعوته، ومن هذه الكتب كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، وغير هذه الكتب.(130/45)
حكم الدعاء عند القبر
السؤال
فضيلة الشيخ: أليس الدعاء عند القبر لصاحبه -أي لصاحب القبر- من السنة التي غفل الناس عنها في زماننا هذا؟
الجواب
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بزيارة القبور، وأنها تذكر بالآخرة، وورد عنه أدعية تقال في الزيارة، منها ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قول: {السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، يغفر الله لنا ولكم} ثم يدعو: {اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم} .
فمثل هذه الأدعية التي هي بمناسبة زيارة القبر، وهي دعاء للميت، ودعاء للزائر أيضاً، ولكن ليس بقصد تحري المقبرة، أو بقصد تحري القبر للدعاء عنده، ومع الاقتصار منها على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لا شيء فيه، ولا يعارض تحريم قصد القبور للدعاء.(130/46)
حكم الذبح عند دخول البيت الجديد
السؤال
ما حكم الذبح في البيت الجديد، أي: إذا بنى بيتاً جديدا ذبح ذبحاً بنية التبرك بالدم، وهذا حاصل من كثير من الناس؟
الجواب
لا شك أن هذا محرم أيضاً، فإن هذا العمل -وهو التبرك بالدم- قد يصاحبه شيء من الاعتقاد؛ بل لا بد أنه يصاحبه شيء من الاعتقاد بهذا الدم، وبهذا المنزل الجديد والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت تجد عليهم أشياء كثيرة، فكان الواحد منهم ينتقل من بلد ليسكن في بلد آخر، وينتقل من بيت ليسكن في بيت آخر، أو من مزرعة ليسكن في مزرعة أخرى، وغير ذلك من الأحوال التي تعرض لهم، كما تعرض لنا الآن؛ فما كانوا يصنعون شيئاً من ذلك؛ بل كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا استجد شيئاً دعا دعاءً يتعلق به، كما إذا لبس ثوباً جديداً، وكذلك إذا دخل منزله، أو ما أشبه ذلك.
أما ذبح الإنسان بنية التبرك بمناسبة دخوله بيتاً جديداً؛ فهذا ليس بجائز.(130/47)
حكم الذبح للجن
السؤال
فضيلة الشيخ: يقصد أنهم يذبحون للجن، فما حكم ذلك؟
الجواب
نعوذ بالله! إذا كان الذبح للجن؛ فهذا نوع من الشرك.
فالنسيكة لا تذبح لغير الله عز وجل، بل إن الحنفاء الذين كانوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجاهلية، كانوا يستنكرون مثل هذا العمل، وفي الحديث في صحيح البخاري، عن أسماء رضي الله عنها قالت: [[كان زيد بن عمرو بن نفيل ملصق ظهره بالكعبة، وهو يخاطب قريشاً ويقول لهم: يا معشر قريش! والله ما على دين إبراهيم منكم اليوم غيري -يقول ذلك مستنكراً عليهم- هذه الشاة خلقها الله، وأنزل لها الماء من السماء، وأنبت لها العشب من الأرض؛ ثم أنتم تذبحونها لغير الله!]] .
فلا شك أن الذبح للجن أو لغيرهم، هو شرك بالله عز وجل.(130/48)
حكم من يقعون في الشركيات
السؤال
ما حكم هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام، الذين يقعون في هذه الشركيات؛ بسبب نشأتهم في هذه البيئة الشركية، ويظنون أن الإسلام هو هذا؟
الجواب
الواجب على العلماء، وطلاب العلم، والدعاة، أن يركزوا على هذه القضية، ببيان العقيدة الصحيحة، وبيان المعنى الصحيح للتوحيد والشهادة والتحذير مما ينافي ذلك من عبادة المقبورين أو دعائهم، أو الطواف أو الصلاة، أو ما أشبه ذلك إليهم؛ أو ما ينافي كمال التوحيد ويخدش فيه.
فليحرصوا على توعية الناس بذلك، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، وتقوم عليهم الحجة؛ فإن هذا هو الأمر الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على الذين أوتوا الكتاب: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] .(130/49)
حكم التوسل بغير الله
السؤال
ما حكم التوسل بغير الله، أو من يتوسل برسول، أو أحد الصالحين الميتين؟
الجواب
التوسل بغير الله -بلا شك- لا يجوز، لكنه أنواع: فمنه ما يكون شركاً أكبر؛ وذلك كما إذا وجه الدعاء والتوسل إلى الوسيط والمدعو نفسه، كمن يدعو المقبورين، ويلتمس منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ورد الغائب، وما أشبه ذلك.
ومنه ما هو حرام؛ لكن لا يصل إلى حد الشرك، وذلك كما لو سأل الله عز وجل بفلان، كما يقول بعض الناس: اللهم إني أسألك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه فلان، فهذا لا يجوز، لكنه ليس شركاً أكبر.
والإنسان عليه أن يسأل الله بما أمره الله به أن يسأله، فقد بين لنا ربنا سبحانه -الذي نؤمن به، ونقبل شرعه- وبين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم كيف ندعو؟ وكيف نتوسل؟ يقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] فادعُ الله بأسمائه الحسنى وبصفاته، وادعُ الله بسابق إنعامه عليك اللهم إني أسألك كما هديتني ورزقتني ووفقتني -مثلاً- أن تفرج همي وكربتي وادعُ الله تبارك وتعالى بعملك الصالح أيضاً، كما دل عليه الحديث الصحيح في قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فكان كل واحد منهم يذكر عملاً صالحاً فيقول: {اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك فافرج عنا ما نحن فيه} .
فلا بأس أن يقول المسلم -مثلاً-: اللهم إني أسألك بأني آمنت بك، وشهدت أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك إلا غفرت لي ورحمتنني.(130/50)
حكم فعل المولد
السؤال
ما حكم فعل المولد؟ وما حكم من يقول: إن المولد مباح أو سنة؟
الجواب
فعل المولد بدعة لم يعرفها المسلمون في عصورهم المفضلة؛ إنما عرفوها عند طريق احتكاكهم بالنصارى الذين كانوا يعملون الموالد لنبيهم، والواقع -أيها الإخوة- أن المسلمين اليوم تحول حبهم واتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم من اقتداء حقيقي به، وبحث عن سنته وعمله، والتأسي بذلك؛ إلى مجرد -لا أقول: حب في القلب؛ بل إلى مجرد- دعاوى يتفوهون بها بألسنتهم، وما أكثر ما تسمع من يدعي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم! أين الحب؟! هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ليس فقط إنساناً تحبه، ثم تتركه إلى غيره! وأصبحت القضية مجرد أقوال تقال، لا رصيد لها من الواقع، ولا دليل عليها؛ فكيف تحبه ثم تعبر عن هذا الحب بأسلوب لم يشرعه لك صلى الله عليه وسلم؟! ولو سألناكم أيها الإخوة! وسألنا من يقيمون المولد بصراحة، هل نحن أكثر محبة للرسول صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، وعمر، وبقية الصحابة؟ لكان الجواب بالإجماع لا من التابعين، أو تابعيهم؟ الجواب: كلا.
بل هم أكمل محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منا، وأعظم توقيراً له ومعرفةً بقدره.
إذاً: فما الذي كان يمنعهم من أن يحيوا المولد، خاصة وأنهم حديثو عهد به صلى الله عليه وسلم وقد جرت عادة الناس إذا مات عندهم ميت، أن يحيوا ذكرى وفاته، ويسمونها -مثلاً- الذكرى بعد أسبوع ذكرى الأربعين ذكرى كذا ثم كل ما بَعُد الزمن؛ قلت هذه المناسبات، حتى تختفي.
فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، عاش بين أظهرهم، وأحبوه من كل قلوبهم، وكان أحب إليهم من نفوسهم، ومن الماء البارد على الظمأ، ويفدونه بآبائهم وأمهاتهم، ولما قيل لـ خبيب بن عدي وهو يصلب في مكة: [[أتحب أن محمداً مكانك صلى الله عليه سلم، وأنك سالم في أهلك؟ قال: والله ما أحب أني سالم في أهلي، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة]] فهذا هو الحب الصحيح.
فإذا حلق شعره صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تسقط شعرة من أيديهم، فكل واحد يأخذ شعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، ليحتفظ بها؛ وذلك لأن الاحتفاظ والانتفاع بآثاره الحقيقية في حال حياته صلى الله عليه وسلم، أمرٌ ليس فيه أدنى بأس.
وكذلك إذا بصق؛ أخذوا بصاقه صلى الله عليه وسلم، وإذا توضأ؛ كادوا يقتتلون على باقي وضوئه إلى هذا الحد من الحب!! وماذا تتصورن حين مات محمد صلى الله عليه وسلم؟ أقفرت منه المدينة وأظلم كل شيء فيها، وأصبح الصحابة كالغنم المطيرة.
فـ أبو بكر يدخل عليه وهو مُسَجَّى قبل أن يوسد في قبره صلى الله عليه سلم، فيقبله، ويبكي، ويقول: [[طبت حياً وميتاً يا رسول الله]] فهي محبة عميقة، والله لا يشعر بها ولا بقليل منها أولئك الذين يدعون محبته، من خلال أشياء يقيمونها، وخطب رنانة يلقونها، وقصائد يرددونها.
خذ على سبيل المثال: هذا الشاعر الذي كتب قصيد البردة، وهو البوصيري الذي يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إلى آخر القصيدة هذا الرجل الذي يظن كثير من الناس أنه قال هذه القصيدة من فرط حبه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ابحث عن ديوانه، واقرأ ديوانه؛ تجد أن هذا الرجل شاعر متكسب، يأتي إلى هذا فيمدحه ويأخذ ماله، ويأتي إلى الآخر فيمدحه ويأخذ ماله، وقضى حياته كلها بهذا الشكل! اقرأ ديوانه، واقرأ سيرته ليس أكثر من ذلك فهو ليس عالماً أو ليس إماماً أو عابداً، ولا شيء من ذلك؛ ولكنه رجل قوي في نظم الشعر -أي يملك موهبة- فصار هذا الشعر يأسر قلوب كثير من الناس، ويرددونه.
إذاً: فقضية محبة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليست دعاوى تقال باللسان؛ وإنما هي حقائق توجد في القلب فتنطبع على الجوارح.(130/51)
الدعوة إلى التوحيد من الأصول لا من الفروع
السؤال
هل الدعوة إلى التوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، من الأمور الفرعية كما يزعم بعض المنتسبين إلى العلم؟ وما حكم من قال مثل هذا القول؟
الجواب
الدعوة إلى تصحيح العقيدة أصل وليست فرعاً، فالخطأ في الفروع، خطأ وصواب؛ لكن الخطأ في الأصول هدىً وضلال فالإنسان الذي يخطئ في عبادة من العبادات، أو في تطبيق حكم من الأحكام؛ يختلف كثيرا ًعن إنسان يخطئ في قضية اعتقاديه فالدعوة إلى تصحيح المفاهيم الاعتقادية، وبنائها على ضوء الكتاب والسنة، هو أصل في الدين وليس فرعاً، وهذا الأصل يبنى عليه غيره.
ولذلك فإن من الواجب على المسلم، وطالب العلم -بصفة خاصة- أن يحرص على تصحيح عقائد الناس، وليس من الضرورة أن يكون تصحيح عقائد الناس -وخاصة العامة من المسلمين- عن طريق بيان انحراف أصحاب الفرق الضالة -مثلاً- وكيف انحرفوا؟ وما هي الفرق المنحرفة في الأسماء والصفات، أو في غيرها؟ إنما الضروري أن يشرح لهم التوحيد الصحيح، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي فهمه منه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة، وبلغوه إلى من بعدهم، وأن يقرأ عليهم الأحاديث التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، والأشياء التي ذكرها لأصحابه، ويكفي أن الناس بفطرتهم يعرفون ذلك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى العرب، فكان يخاطبهم باللغة العربية، فيصف الله لهم بصفاته، ويسمي الله بأسمائه، ويذكر أفعال الله عز وجل، فماذا تتوقع من العربي القح الذي لم يدرس الفلسفة والمنطق وغيرها، عندما يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فاغفر له، هل من تائب فأتوب عليه؟ وذلك حتى يطلع الفجر} .
وهذا الحديث المتواتر، ثابت ثبوتاً قطعياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالعربي عندما يسمع هذا الحديث لا يفهم أن المعنى: تنزل رحمة الله، وأن رحمة الله هي التي تنادي؛ بل يفهم أن الله ينزل، وأن الله ينادي، دون أن يكيف هذا النزول بكيفية، أو يحده بحد، أو يتصور له شكلاً معيناً، ولو خطر في باله تصور معين، أو كيفية معينة، دفع ذلك وعرف أن الأمر كما قيل: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] .
فحين تقرأ عليهم الأحاديث، وأقوال الصحابة والتابعين، في الله عز وجل، في أسمائه، وأفعاله، وفي غير ذلك من أبواب الإيمان، وتشرح له ذلك شرحاً مبسطاً، بل حتى لو لم تشرح ذلك؛ لفهم كثير من الناس -بالفطرة- المعنى الصحيح الذي تدل عليه هذه الأشياء، إلا أن يكون سبق إلى فطرتهم ما يفسدها.
أما العامي فليس بالضرورة أن يعرف الفرق الضالة، والرد عليها، وما أشبه ذلك من الأمور.(130/52)
الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات
السؤال
هل من لوازم لا إله إلا الله الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات؟
الجواب
أقول: ليس من الضروري أن يكون الجواب هو: نعم إن توحيد الأسماء والصفات هو من لوازم لا إله إلا الله؛ ولكن الإنسان الذي آمن بوجود الله سبحانه، لا يكفي إيمانه به إيماناً مجرداً، بل لا بد أن يعرف ربه، لأن اليهود والنصارى، وكثير من أمم الكفر يؤمنون بوجود إله خالق للكون، فالفرق بين إيمان المسلم بوجود الله، وبين إيمان غيره، هو أن المسلم يؤمن بالله، ويعرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
وهذا الأمر لا بد منه، وهو أحد أنواع التوحيد، التي يطالب المسلم بتحقيقها، فهو جزء من مفهوم الإيمان بالله عز وجل.(130/53)
خواطر في النصر والهزيمة
لا يكتب الله عز وجل شيئاً للأمة الإسلامية إلا وكان وراءه الخير، حتى وإن توهمه الناس شراً، ومن ذلك الحروب والأزمات التي تمر بها، فإن الجهاد الإسلامي كان مصدر خير عظيم للأمم التي تعرضت له رغم ما حل ببعض أفرادها من القتل والأسر، لكنه كان سبباً في دخول أجيال وأجيال في دين الله الذي أرتضاه وللنصر الذي وعده الله لعباده عوامل منها: تحديد المبدأ وجمع الكلمة والإعداد المادي والتعبئة الشعبية وشرط النصر نصرة الله ونصرة دينه وإقامة شعائره، وإذا كتب الله النصر يُسّر أسبابه وسخر له جنوده الذين لا يعلمهم إلا هو، سبحانه وتعالى.(131/1)
الحرب ليست شراً محضاً
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: أيها الإخوة الأحبة الأكارم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وشكر الله لكم مسعاكم وحرصكم على الحضور والاستماع، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يكتبه لنا جميعاً أجراً ومثوبة يوم أن نلقاه، وألا يتفرق هذا الجمع إلا بذنبٍ مغفور وسعي مشكور وعملٍ مبرور، وأن يكتب لنا النجاة في الدارين من كل ما يسخطه جل وعلا.
أيها الأحبة: الحرب شبح مخيف يزلزل القلوب ويخيف الأسماع، فما إن يسمع أحدٌ كلمة (الحرب) حتى يرتقي ويرتمي في مخيلته صورة الآلاف من القتلى من الكبار والصغار، وصورة الدماء التي تسيل، وصورة النيران التي ترتفع وتتوقد، ولذلك ارتبطت الحرب في أذهان البشر -أو غالبهم- بالتدمير والإفناء، وأصبح الناس إذا أرادوا أن يتكلموا عن فردٍ أو طائفة بالذم والنقيصة، وصفوا هذا الفرد أو هذه الفئة أو هذه الأمة بأنها أمة تلجأ إلى العنف وتنادي بالحرب.
وهذا المفهوم -أيها الإخوة- هو في الواقع مفهوم جاهلي لكلمة (الحرب) بل هو في الواقع مفهوم على الورق، أما على الواقع فما من أمةٍ من الأمم سواء كانت كافرة أم مسلمة، إلا وحين تقلب صفحات تاريخها، تجد أنها خاضت حروباً كبيرة، ودخلت معارك طاحنة، وقاتلت أمماً عديدة خرجت مرة منتصرة ومرة منهزمة، وفي هذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به فإن الحرب ليست شراً بكل حال.(131/2)
الشر يهيمن على البشرية كلها
إننا نعلم -أيها الإخوة- أن الشر اليوم يهيمن على البشرية كلها، حيث تتحكم فيها الحضارة الغربية، وأعني بالحضارة الغربية بمفهومها الاصطلاحي بشقيها الشرقي والغربي، الشيوعي والرأسمالي، وأن كنا نعلم أن الشيوعية قد انحسرت وتقلصت، لكن لازالت تتشبث ببقايا خيوطٍ لها هنا وهناك، وإن واقع العالم الإسلامي الموجود اليوم وما فيه من تناقض وتناحر وفتن، هو إفرازٌ لذلك الخلاف الموجود أصلاً بين الشرق والغرب، ولا شك أن هذا العالم لا تكاد ترتفع فيه راية تنادي بالإسلام إلا وجدت العداء المستحكم من الشرق والغرب من الشيوعية، والرأسمالية، ومن هذا المنطلق فإن الحرب التي قد نخافها ونخشاها في كثيرٍ من الأحيان قد تحمل بشارات كثيرة للمسلمين بأن أعداءهم هم الذين سوف يتقاتلون، ولذلك فإن كثيراً من المسلمين يدعون ويقولون: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين.
إننا نرجو ونؤمل أن يكون كل أمرٍ يكتبه الله تعالى ويقدره للمسلمين خيراً لهم في عاجل أمرهم وآجله، وأن يكون شراً لأعدائهم كما كان يتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تقص عليه رؤيا، فكان يقول: {خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا} فهكذا نحن نقول في اليقظة والمنام، وفي كل أمرٍ يثيره الله عز وجل: خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا.
فالحرب ليست شراً محضاً، وكما يقول أحمد شوقي: والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم إن الظلم اللاحق بالمسلمين اليوم ظلمٌ فادح، في ابتزاز أراضيهم، ونزف دمائهم، ونهب خيراتهم، وتسليط الأعداء عليهم، وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية ومن العيش الكريم، ونحن نجد أن الغرب ينظر إلى الدم النصراني على أنه دم مقدس، في مقابل أنه لا يرى أن للمسلمين حرمة، ولذلك نجد أنهم يغضبون إذا استخدمت روسيا السلاح في الجمهوريات السوفيتية النصرانية؛ كجمهوريات البلطيق لكنهم لا يرفعون رأساً إذا كانت الضربة بإخواننا المسلمين، فما بال الإنسانية تتحرك للنصرانية ولا تتحرك للمسلم؟! أيها الأحبة: إذاً الوقفة الأولى باختصار ليست الحرب شراً محضاً، وقد تكون الحرب إن كتبها الله تعالى خيراً للمسلمين، ونحن لا نتمناها ولا نطلبها لكننا نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن أبي أوفى: {أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مجري السحاب منزل الكتاب هازم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم} .
فيا أخي الحبيب: ادع بما دعا به نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم: {اللهم مجري السحاب منزل الكتاب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم وانصرنا عليهم} وادع ربك على كل عدو للإسلام ظاهر أو مستتر، معلن أو مخفي، فالأعداء كثر ومنهم عدوٌ كاشر عن عدائه ومنهم عدوٌ في ثياب الأصادق ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفارق لا أقول كما كان يقول بعض الغرب: اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيلٌ بهم، نحن نقول: كلا.
بل اللهم اكفنا شر أصدقائنا وشر أعدائنا، فإننا بدون عون الله تعالى وتأييده ونصره لا نستطيع أن نصنع شيئاً أبداً.(131/3)
دعوى السلام عند الغرب
أيها الإخوة: نسمع الأمم الغربية والشرقية اليوم تتشدق بنبذ الحرب والدعوة إلى السلام، فأي سلامٍ هذا الذي يقصدونه وينادون به ويتحدثون عنه في محافلهم الدولية ومجاميعهم وأجهزة إعلامهم؟ إن هذا السلام يعني أنهم يريدون أن تظل هيمنتهم على البشرية، وألا تقوم الأمم الأخرى المغلوبة على أمرها والمضطهدة؛ بالمطالبة بنيل حقوقها، أو السعي بالتمكين لنفسها.
إنهم يريدون أن تظل الحضارة بأيديهم وأن يظل الأمر لهم، فكلما وجدوا من هذه الأمم -ولا أقول الأمم الإسلامية فقط، بل أقول أمم الأرض كلها- من يسعى إلى نيل حقه، قالوا: هذا يريد أن يعكر صفونا وهناءة عيشنا فحاربوه.
هؤلاء الذين ينادون بالسلام كم أقاموا في الدنيا من مجازر؟! حتى مع الأمم الكافرة أيضاًَ، لكننا نضرب مثلاً بذوي القربى من المسلمين في فلسطين، لماذا لم تسل دموعهم لهذه الملايين من المسلمين التي شردت، وقتلت وأفنيت؟ لماذا لا تتحرك إنسانيتهم وعواطفهم للمدارس التي أحرقت؟ أين هم من مجازر صبرا وشاتيلا التي فعلها اليهود بالفلسطينيين؟ أين هم من المخيمات التي لا زال المسلمون يعيشون فيها منذ عشرات السنين وهي لا تكاد تسترهم من أذى الحر والقر؟ أين هم من شعب أفغانستان المسلم الذي يذوق المرارة وهو شعب مهجر بأكمله، منذ أكثر من عشر سنوات وهو مشرد بعضه في باكستان وبعضه في إيران وبعضه هنا وبعضه هناك، وكثير منهم في بلاد الغرب، في أمريكا وبريطانيا وغيرها؟ لقد أصبحنا نسمع نغمة جديدة، إنهم يتحدثون عن هؤلاء المجاهدين وقد يصفونهم بالمتطرفين، أو أنهم من ذوي العنف، أو أنهم لا يحبون السلام، كما رموا بذلك المجاهدين في فلسطين منذ زمن، وهي فتوى جاهزة معلبة ضد كل من يعكر صفو عيشهم، مع أن هؤلاء هم الوحيدون الذين أثبتوا -من بين جميع الرايات التي تعلن القتال في الدنيا- ولاءهم وصدقهم للإسلام، لأننا نجد أن كثيراً من البلاد تثور فيها الحروب، فإذا أرادت الدول الكبرى الشرقية والغربية أن تهدأ الحرب عقدت اتفاقية فسكنت الحرب، أما في أفغانستان فعلى رغم ما يسمى بالوفاق الدولي بين روسيا وأمريكا، إلا أن المجاهدين لا يزالون يحملون السلاح.(131/4)
الخير الناتج عن الجهاد الإسلامي
فها نحن نرى أن الحروب الإسلامية -وبالمعنى الاصطلاحي الشرعي: الجهاد الإسلامي- كانت خيراً للبشرية كلها، فكم من أممٍ دخلت في هذا الدين على إثر تلك الحروب والغزوات التي قام بها المسلمون، وكم من قلوب انفتحت للهداية بسبب هذه الحروب، وكم من طواغيت أُزيلوا عن عروشهم وتسلطهم على الأمم وحيلولتهم بينها وبين نور وهدى الله عز وجل، ولهذا يقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] .
إذاً: الحرب الإسلامية لم تكن شراً، بل كانت خيراً محضاً للأمة المسلمة التي خاضت الحرب وضحت وبذلت وقدمت فلذات أكبادها وقوداً لهذه الحروب، فكانت خيراً لهم في الدنيا والآخرة عزاً وسعادةً في الدنيا، وفضلاً وشهادةً عند الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] كما أنها كانت خيراً للأمم والشعوب التي حوربت، فأزيلت الحكومات التي كانت تحول بينهم وبين الإسلام، فتركوا وشأنهم ففكروا ونظروا وتأملوا فدخلوا في هذا الدين عن طواعية واقتناع.
ولهذا يعجبني تصوير الشاعر الهندي محمد إقبال لهذا الأمر وهذا الموقف في قصيدته المشهورة (شكوى وجواب شكوى) حين يقول: من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم فخارا كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا ورءوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا إشارة إلى أن المسلمين حين فتحهم للهند كانوا يأتون إلى الصنم المصنوع من الذهب فيكسرونه ويقتلون سدنته فوقه.
لو كان غير المسلمين لحازها ذهباً وصاغ الحلي والدينارا وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولها الأزهارا فانظر دقة التصوير، لم يكن السيف الإسلامي قتلاً وإفناءً وتدميراً وتيتيماً للأطفال وترميلاً للنساء، بل كان كالحديقة التي تنبت الأزهار حولها.
إذاً فالجهاد والحرب ليست شراً بكل حال، وإنما هي في كثيرٍ من الأحيان خير، صحيح أن النفوس تكره الحرب، وكما قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] .
فقضية أن الناس لا يحبون الحروب، أو يكرهونها ويمقتونها هذا شيء، لكن كونها خيراً لهم ولدينهم أو لمصلحتهم هذا شيء آخر غير مرتبط بذلك.
وخاصةً أن الله عز وجل شرع لنا الحرب والقتال كما قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] .(131/5)
المدافعة سنة الحياة
الوقفة الثانية: هي أن الله جعل نظام الحياة والبشرية في هذه الدنيا يقوم على أساس المدافعة كما قال الله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] وقال: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ولهذا فالحياة البشرية من يوم أن خلق الله أبونا آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا تخلوا أبداً من عداوات هنا وهناك، وخصومات متنوعة مختلفة، وحروبٍ تقوم هنا وحروبٍ تقوم هناك، وأحلافٍ تقوم هنا وأحلاف تنفض هناك.
إذاً: فنظام الحياة البشرية جعله الله قائماً على مبدأ المدافعة -أو ما يسمونه بمبدأ الصراع- الصراع بين الخير والشر بل وحتى الصراع بين قوى الشر بعضها مع بعض، وهذا الصراع بين قوى الشر بعضها مع بعض لا شك أنه في مصلحة الإسلام، صراع الكافرين مع الكافرين، صراع النصارى مع اليهود -مثلاً- صراع الشيوعيين مع اليهود والنصارى، فصراع الأمم الكافرة بعضها مع بعض هو لا شك خيرٌ للإسلام، ولا يمكن أن تخلو الحياة البشرية من مثل هذه السنة بحالٍ من الأحوال.
إن فكرة أن ينفرد شعبٌ من الشعوب أو أمة من الأمم فقط بالسيطرة والهيمنة على مقدرات الكون والدنيا وخيرات الشعوب؛ وعلى الأمم كلها، وأن تصبح الكلمة الأخيرة ويصبح القرار الأخير بيدها هذا تصورٌ بعيدٌ عن معرفة سنن الله تعالى في الكون، ولذلك تجد إلى وقتٍ قريب أن الصراع كان قائماً بين الشرق والغرب، بين الرأسمالية في الغرب وبين الشيوعية في الشرق، فبعدما حصل التخلخل والانهيار في النظام الشيوعي هل تتصور أن الغرب تفرد بحكم البشرية، وآل الأمر إليه وانتهت السنة الإلهية في دفع الأمم بعضها ببعض؟ لا أبداً، لا تتصور هذا بحالٍ من الأحوال، فدفع الله الناس بعضهم ببعض قائمٌ باقٍ إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.(131/6)
القيام بالأسباب وعدم انتظار المفاجآت
إن الأمة الإسلامية لا يجوز لها أن تخضع أو أن تتوقع أنها خاضعة لنظام الطفرات والمفاجآت وأن تعلق أملها دائماً بانتظار المصادفات، بل ينبغي أن تعرف السنن التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، وأن تسعى إلى الطريقة الصحيحة وعبر تدرج إلى أن تتلافى النقص الموجود في حياتها، فلا بد من فعل الأسباب وهذا لا شك يتطلب منا وقتاً.
وخلاصة الوقفة الثانية: أننا نؤمل أن كل ما يجريه الله تعالى في هذا الكون يكون سبباً في بروز قوى جديدة في الكون، ودول جديدة تتنافس على مركز الصدارة ليستفيد المسلمون من هذا التنافس لمصلحتهم بدلاً من أن يكون زبوناً واحداً فيتحكم فيهم كما يشاء.(131/7)
فوائد تعدد القوى السياسية المهيمنة
ولعلي أشير إلى أن الفترات التي يخبو أو يضعف فيها هذا الصراع بين قوتين كبيرتين هي من الفترات التي تكون تعيسة بالنسبة للمسلمين، لأنهم حينئذٍ يكونون أمام قوة واحدة تتحكم فيهم بدون منافس، لكن حين تسترخي هذه القوة، فإنهم يستفيدون منها من وجوهٍ عديدة، كما حصل بالنسبة للاتحاد السوفيتي مثلاً.
أولاً: أنهم -كما يقال- تنفسوا الصعداء داخل الجمهوريات السوفيتية، فبدأنا نسمع عن إقامة بعض المساجد، وإقامة بعض المدارس، وتوزيع مصاحف أو كتبٍ إسلامية، وصلات مع بعض الجمعيات الإسلامية، ولا شك أن هذا العمل لا زال عملاً محدوداً قليلاً لا يكاد يذكر بالقياس -مثلاً- إلى انتفاع اليهود من هذا الانفتاح الذي حصل على الشيوعية، لكن لو كان المسلمون أقوياء لاستطاعوا أن يستفيدوا من هذا الانفتاح فائدة كبيرة.
المهم أن استرخاء هذه القوة كان في صالح المسلمين من حيث أنهم استفادوا من الانفتاح في مد الجسور إلى إخوانهم المسلمين داخل ما يسمى بالسور الحديدي الشيوعي.
الفائدة الثانية: أنهم حين يكونون أمام جهات متعددة كلها تخطب ودهم وتسعى إلى إرضائهم، فإنهم يستطيعون أن يستفيدوا من بعضهم ضد بعض، كما يستفيد صاحب السلعة، الذي يجد عدداً من الزبائن يريدون أن يشتروها، فهب أنك صاحب سلعة في دكانك وأتاك زبون واحد لهذه السلعة يستطيع أن يشتريها منك بما غلا ورخص من الثمن، لكن لو كانت هذه السلعة يتنافس عليها خمسة أو ستة كلهم يريد أن يشتريها لأمكن أن يتزايد عليها حتى يرتفع سعرها.(131/8)
استفادة المسلمين من تعدد القوى
إننا لو كنا أمام مجموعة من الدول كلها تتنافس على نيل السيطرة والهيمنة على البشرية اليابان -مثلاً- وفرنسا وبريطانيا، وأمريكا، وروسيا، وكل دولة تنافس الأخرى، لكان المسلمون يستطيعون أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهذه الحرب القائمة بين هذه الرءوس المتعددة، ويحرص كل طرف من هذه الأطراف على نيل رضاهم، وكسبهم إلى صفه والانتفاع من خيراتهم الكثيرة الموجودة في بلادهم، ومن أعدادهم الغفيرة ومن إمكانياتهم الهائلة، ومواقعهم الاستراتيجية المعروفة، لكي يستفيد من كل هذه الأشياء ويستفيد المسلمون بالتالي، لكن حين يكون الزبون واحداً فقط، فإنه يتحكم كما يشاء دون أن يجد من ينافسه.
ولذلك فإنني أقول: إن هناك دولاً لو تقدمت في المضمار العالمي، لكان هذا -إن شاء الله- خيراً للإسلام والمسلمين، وأضرب مثلاً بقضية اليابان، فقد أصبحت -كما تعلمون- تتقدم في اقتصادها وتصنيعها، وتتقدم في علومها وتقنيتها بشكلٍ كبير، ولا شك أن اليابان على ما فيها أفضل للمسلمين من الدول اليهودية أو النصرانية، فاليابان دولة وثنية لا تختص بدينٍ معين، ولذلك فهي معرضة لأن تتقبل الإسلام.
فالوثنيون إذا رأوا نور الإسلام والوحدانية، وضياء الإيمان أشربته قلوبهم وأقبلوا عليه لأنهم لم يتمسكوا من قبل بدينٍ سماوي أو شبهة دين سماوي، بخلاف اليهود والنصارى فإنهم يعتقدون أن معهم وثيقة -كما يزعمون- من السماء وهي الإنجيل والتوراة، ولذلك يتشبثون بها ويرفضون ما عداها، فاليابانيون في غالبهم وثنيون.
أمرٌ آخر هو مبنيٌ على الأول أن اليابان كدولة وثنية لا تحتفظ بتاريخ من الصراع والحروب مع المسلمين، بل تاريخها مع المسلمين تاريخ عادي، ليس هناك أية خلفيات معينة، بخلاف اليهود والنصارى -والشيوعيين- فإنهم يحتفظون بتاريخ طويل من المعارك مع الإسلام ومع المسلمين، وهذا التاريخ يؤثر فيهم ويصنع عقولهم ويتلقاه صغارهم عن كبارهم، وهو عبارة عن منهج يتربون على وضعه.
وحين أقول: اليابان لست أعني أن الأمة الإسلامية ستظل إلى الأبد أمة ضعيفة تأخذ من فتات موائد الآخرين إما من الشرق وإما من الغرب، وإما من الشمال أو الجنوب، فليس هذا هو قصدي بالكلام.
مثلما يضربون في المثل العامي ويضحكون من رجل كان يقول: اللهم إني أسألك أن تغني فلاناً حتى أستدين منه، لا.
نحن لسنا نسأل الله أن يرفع دولاً أخرى حتى ننتفع منها، كلا.
لكننا نعلم أن نظام الحياة محكومٌ بسنن، والله عز وجل وضع في هذا الكون سنناً مطردة.
وليس صحيحاً أن الأمة الإسلامية التي عاشت قروناً في ضعفٍ ونومٍ عميق وسبات طويل، وما زالت لم تضع قدمها في الطريق الصحيح؛ سوف تنهض بين يومٍ وليلة وتصبح رائدة في مجال العلم والتقدم البشري، وتقود الأمم كلها، هذا أمر سيكون بإذن الله تعالى كما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو كائن لا محالة، لكن لا يمنع أن يكون هذا أمرٌ يقع بالتدريج وأن تكون الأمة المسلمة تترقى شيئاً فشيئاً ويصنع الله لها بحكمته ورحمته سلماً ترتقي من خلاله إلى ما أراده لها.
ومن هذا أن توجد دولٌ عديدة تسعى إلى كسب ود المسلمين ونيل رضاهم والانتفاع بما لديهم، فتتنافس هذه الدول ويستفيد المسلمون من هذا التنافس.(131/9)
عوامل النصر
وقفة ثالثة: لم تدخل الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل معركة واحدة وقوتها أكبر من قوة عدوها أبداً، اللهم فيما ذكر في معركة حنين ولعلها من المعارك النادرة التي دخلها المسلمون وكانت قوتهم أكبر من قوة عدوهم، ولعله من العجيب أن ينهزم المسلمون في أول تلك المعركة، كما قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] فانهزم المسلمون في أول الأمر في حنين لأنهم اعتمدوا على قوتهم ورأوا أنهم لن يغلبوا، فلم تغن عنهم هذه القوة شيئاً مصداقاً لقول الله عز وجل: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19] .
فلم يدخل المسلمون معركة من المعارك بقوتهم الذاتية ولم تكن أسلحتهم أقوى وأفتك من أسلحة عدوهم، وعددهم أكثر من عدد عدوهم، بل إن الله عز وجل يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] أي: أن المهم ألا تقصروا أنتم في جمع القوة التي تستطيعون، وبعد ذلك دعوا الأمر لله عز وجل فإنه يصل قوتكم بحوله وقوته فينصركم على عدوكم، ولكن لا بد من إعداد ما تستطيعون، أما ما لا تستطيعون فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ولما دخلت الأمة معتمدةً على قوتها في أي معركة؛ فإنها كانت تنهزم وتخرج من المعركة خاسرة ذليلة، كل أمة دخلت المعركة -وخاصةً الأمة الإسلامية- معتمدةً على عددها وعدتها فهي أمة منهزمة.
إنما المسلم كالفلاح الذي يضع الحب في الأرض ثم يرفع يده إلى السماء وينتظر أن ينزل الله تعالى المطر: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:63-67] .
إذاً أنت تفعل السبب ثم ترفع يدك إلى الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن السبب وحده قد يجني عليك، وكما قيل: إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده كم من إنسان فعل سبباً يحسب أنه في صالحه، فكان هذا السبب هو أعظم وسيلة إلى فشله! كم من أمة افتعلت حرباً تظن أنها سوف تكسبها فخرجت من هذه الحرب منكسة الرءوس مهزومة ولم تقم لها بعدها قائمة! فلا يجوز أن تعتمد الأمة على قوتها أو قدرتها فقط، والمطلوب من الأمة على كل حال أمور:(131/10)
الإعداد المادي
أمرٌ ثالث لابد أن تعده الأمة وهو الإعداد المادي كما أسلفت، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] من الجنود، والسلاح، إلى غير ذلك.
ولعلكم تستغربون حين تعلمون أن إسرائيل وهي دولة صغيرة نشأت منذ سنوات ليست بالبعيدة، ومع ذلك فإن هذه الدولة تملك قوة عظيمة، حتى إني سمعت في أحد التقارير عنها أن كل مواطن إسرائيلي لابد أن يجند في الجيش ذكراً كان أو أنثى، فإن كان ذكراً يجند ثلاث سنوات والأنثى تجند سنتين، وبغضَّ النظر أن هذا الأمر يصلح لهم باعتبارهم لهم دينهم الخاص، فنحن المسلمون لا نقول نجند نساءنا، بل أبداً الأمر كما قيل: كتب القتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول المرأة لها دور تؤديه في تربية الجنود وإعدادهم وإصلاحهم إلى غير ذلك من الأدوار، لكن نحن نريد أن تربي الأمة ولابد شبابها وتعدهم، بحيث يكون كل شاب في هذه الأمة هو فعلاً جندي في أي معركة تقوم بين الأمة وبين أعدائها.
وأود -أيها الإخوة- بهذه المناسبة أن أذكر إلى أن اليهود من أخطر أعدائنا الذين لا شك أننا غفلنا عنهم الآن؛ لأن من عاداتنا أننا في غمرة الصراع مع عدو ننسى أعداءنا الآخرين، صحيح أن عداوتنا مع البعثيين عداوة مستحكمة وعظيمة وحاضرة، لكن أيضاً يجب ألا ننسى عداوتنا مع اليهود، إن من المؤكد قطعاً عند من يعقل عن الله عز وجل أننا سوف نخوض مع اليهود معركة فاصلة حاسمة، يقول فيها الحجر والشجر: {يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} وهذه المعركة ليست بالبعيدة أبداً، إنها معركة قريبة حدد النبي صلى الله عليه وسلم زمانها ومكانها، فقال: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود} فهذا بالنسبة للزمان.
أما بالنسبة للمكان فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث نهيك بن صريم {على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه} والغريب في الأمر أنه حتى النصارى عندهم عقيدة في كتبهم التي يعتبرونها مقدسة أن هناك معركة مع المسلمين، في هذا الموقع بالذات ويسمونها معركة هرمجدون، ويعتقدون أن وجود اليهود بهذا الموقع بالذات هو بشارة بنزول المسيح الذي يقود النصارى -كما يزعمون هم- إلى معركة فاصلة مع المسلمين، وهذا موجود في كتبهم، وهو من أسرار دعم الإمريكان لإسرائيل كما ذكر ذلك عدد من المؤلفين.
والمهم أن لنا مع أعدائنا من اليهود وغيرهم معارك كثيرة فاصلة لا بد أن نتفطن لها وأن نعد العدة لها.(131/11)
جمع الكلمة
الأمر الرابع الذي لابد أن تعد له الأمة هو: موضوع جمع الكلمة، فإن تمزيق الأمة لا يمكن أن يستفيد منه سوى عدوها، وحين نقول الأمة نقصد: الأمة المجتمعة على كلمة لا إله إلا الله بغض النظر عن اسم البلد التي تعيش فيه، أو شكل أو لون الإنسان أو أي شيء آخر من الصفات البشرية، فالأمة تجتمع على الإيمان لا على الحدود أو العوامل البشرية الأخرى، إن لسان حالنا يقول: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فالعدو أحياناً يمزق الأمة حتى يعبث بكل جزءٍ منها دون أن يلتفت إليه الآخرون.
لما أراد الغرب -مثلاً- أن يعبث بتركيا ماذا صنع؟ أول ما صنع أنه هدم الخلافة، وبذلك عزل الأمة الإسلامية عن تركيا، ففعل بتركيا ما أراد أن يفعله من العلمنة والتغريب والتخريب والفساد كما تعلمون، وهكذا بقية الدول لما انفصلت وانفصل بعضها عن بعض، أصبح ينفرد بكل دولةٍ منها فيفعل بها ما يشاء، هذا إذا كانت المسألة مجرد عزلة، فما بالك إذا تحولت القضية إلى عداوة مستحكمة بين شعوب المسلمين وأصبح المسلم يبغض أخاه المسلم ويحب الكافر يهودياً أو نصرانياً أو بعثياًُ أو غير ذلك، إن هذا لهو البلاء المبين! لقد استصرخنا إخواننا الفلسطينيون زماناً طويلاً، ثم استصرخنا الأفغان، ثم استصرخنا إخواننا المسلمين في الفلبين إلى غير ذلك، وربما كنا مشغولين عن صرخات إخواننا بهمومنا الشخصية، كان كل امرئٍ منا مشغولاً بهمومه الخاصة عن إجابة صرخات إخوانه المسلمين، وهانحن -أيها الإخوة- اليوم ندفع الثمن، إن من يخذل إخوانه المسلمين في كل مكان لا بد أن يدفع الثمن عاجلاً غير آجل.
فلنعلم -أيها الأحبة- أن رابطة الإيمان التي توحد هذا الجسم الإسلامي الكبير يجب أن تظل هي الرابطة الأولى، بل الرابطة الأولى والأخيرة بين المسلمين، وألا نسمح لأي سبب من الأسباب أن تمزق هذه الرابطة، ليس صحيحاً أن تأتي إلى شعبٍ من الشعوب فتقول الشعب الفلاني فيه كذا، وفيه كذا، وتعمم وتأتي بعيوب، لقد سمعت بأذني من هذا الكلام ما يؤذي، فتجد إنساناً -مثلاً- يقول لك: الشعب الفلاني فيه كذا وفي الخارج تجد كثيراً يتحدثون عنا، بأن فينا كذا وفينا كذا، وهناك نحن نتحدث عن آخرين، فنقول عن الشعب الفلسطيني أن فيه كذا وكذا، أو عن الشعب الأفغاني أن فيه كذا وكذا، والمؤسف أن هذا الأمر يتعدى النطاق الفردي أحياناً إلى نطاقٍ أوسع، فربما وجدت مدخلاً لهذا الكلام في بعض أجهزة إعلامنا من صحافة أو إذاعة أو تلفزة أو غيرها، فأصبحت بوعي أو بغير وعي تعمق هذه الهوة وتصور بعض الشعوب الإسلامية تصويراً غير صحيح.
إن تمزيق الأمة الإسلامية لا يستفيد منه إلا العدو: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان 1- الاختلاف في وجهات النظر لا يضر: أيها الإخوة: الاختلاف في الرأي لا يضر، والاختلاف في وجهات النظر لا يضر، والاجتهاد وارد، ولا يعني اختلاف وجهات النظر تفريق الكلمة، أنا أتعجب أن اليهود -مثلاً- يخوضون معركة مع المسلمين، معركة ضارية ويستعدون لها استعداد الرجال فعلاً:- هم حاربونا برأيٍ واحدٍ عددٌ قُلٌ ولكن مضاءٌ ثابت النسق دأباً وعزماً وإعداداً وتضحية وبادروا غزونا في مكر مستبق يحدوهم أملٌ يمضي به عملٌ ونحن واسوأتاه في ظلة الحمق حارت قواعدنا زاغت عقائدنا أما الرءوس فرأيٌ غير متفق البعض يحسب أن الحرب جعجعة والبعض في غفلة والبعض في نفق قالوا الشعوب وهل نال الشعوب سوى قولٍ جزاف وإصلاح على الورق أقول: اليهود يحاربوننا الآن وهم أحزاب شتى وشيع واتجاهات متناقضة مختلفة، ويحصل بينهم في مجالسهم وبرلماناتهم صراع وجدل وقيل وقال، وأحياناً سب وشتم، ولكن مع ذلك سياستهم في حربنا موحدة، فلا ضرهم هذا الاختلاف الموجود بينهم في توحيد كلمتهم ضدنا، ولا كان هذا التوحيد لكلمتهم مدعاة إلى أن يحسموا أمورهم الداخلية لصالح طرفٍ من الأطراف.
فالمشكلة أننا نحن المسلمين لا نعرف أنصاف الحلول، إما نريد اتفاقاً (100%) على كل شيء، وإما أننا لا نلتقي أبداً، إما صفر أو (100%) لا يا أخي! قد نختلف في أمور كثيرة وفي وجهات النظر ويكون لكل واحد منا رأي، وقد أجد عليك في نفسي موقفاً معيناً، أو تجد عليَّ في نفسك موقفاً معيناً، لكن هذا كله لا يمنع أن نوحد كلمتنا وصفنا باتجاه عدونا، وأن ندرك أن أخوة الإيمان أكبر وأعمق وأوسع من كل خلاف يجري بين المؤمنين.(131/12)
التعبئة الدائمة
أمرٌ آخر لا بد أن تعده الأمة بعد الإيمان وهو التعبئة الدائمة، وذلك لأن الإنسان من طبيعته أن ينسى، والإيمان قد يغطي عليه الغبار، والنفوس تخلد إلى الراحة والترف ويفعل فيها النعيم والترف شيئاً عظيماً من الضعف؛ وحب العافية وإيثار السلامة وكراهية الجهاد والتضحية، وهنا تأتي وسائل التربية والإعلام في الأمة.
إن دور وسائل الإعلام في الأمة أن تنفخ هذا الغبار دائماً وتنفخ في الأمة روح الجهاد والبسالة، والتضحية، والفداء، بحيث أن هذه الوسائل تؤدي دورها بشكلٍ صحيح، في تصحيح العقيدة، والسلوك، والدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، وتحديد من هو العدو ومن هو الصديق هذه مهمة وسائل الإعلام في الأمة الإسلامية.
أيها الإخوة: إن الناس إذا وقع لهم ما وقع فإنهم يحتاجون من يذكرهم بالله عز وجل، ويشدهم إلى الإيمان، يذكرهم بوجوب التوبة، ووجوب الاستغفار، ووجوب الذكر والدعاء، ورفع القلوب إلى الله، والتوكل عليه عز وجل إلى غير ذلك من المعاني التي تحتاجها الأمة، فما بالك إذا كان إعلام الأمة مشغولاً بأمورٍ أخرى بعيدة كل البعد عن هذا، وكأنه لا يعيش في حالة حربٍ حقيقية، فتجد أنه مشغول بأمور أحسن ما تقول عنها: أنها تافهة، لسنا بحاجة إلى طبق اليوم، كما أننا لسنا بحاجة إلى النكت والطرائف، كما أننا لسنا بحاجة إلى تمثيليات شعبية، كما أننا لسنا بحاجة إلى قصائد، فهذا كله قد لا يكون له حاجة أصلاً، وبعضه يمكن أن يكون له حاجة في وقتٍ آخر، لكن الأمة بحاجة إلى تعبئة قوية تقوم بها كل وسائل الأمة التي ائتمنتها الأمة على أفلاذ أكبادها وعلى عقائدها وأخلاقها ودينها أن تقوم بدورها الحقيقي في هذا المجال.
أيها الإخوة: لعلي أضرب مثلاً واحداً كلكم تسمعون ما يأتي بأجهزة الإعلام من التنبيه على الوسائل الوقائية التي يتقي بها الناس في حال وجود غازات أو أسلحة كيماوية، هذا شيء كلنا سمعه، فما هو أثر هذا الأمر على الناس؟ كثير من الناس أصيبوا بالرعب والفزع، والسبب هو أنهم لم يتعودوا على مثل هذا الأمر، وأنا لا أكتم أنني أرى أن مثل هذه الطريقة مناسبة، أعني طريقة استخدام أجهزة الإعلام -كما تحدثت قبل قليل- في إزالة الغبار عن الناس، هل سنظل دائماً أمة خاوية خامدة خائفة صوت الطائرة في الجو يفزعنا، ورؤية السلاح تخيفنا!! هل سنظل هكذا؟! إذا كنا أمة إسلامية مجاهدة فإننا لا يمكن أن نظل هكذا بحالٍ من الأحوال، ولذلك فإن هذا الأمر الذي نسمع به الآن سواء أكان إعلانات عبر أجهزة الإعلام في تنبيه الناس؛ أم حتى -مثلاً- الأجراس التي تطلق للتنبيه أو للتدريب، أقول كل هذا لا غبار عليه لماذا؟ لكي لا يكون الناس خائفين، الإنسان بطبيعته كما يقول أبو ذؤيب الهذلي: والنفس طامعةٌ إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليل تقنع فكثيرٌ من الدول التي تعيش حالة حروب مثل لبنان أو أفغانستان أو غيرها تجد أن مجموعة يموت نصفهم في المعركة والباقون يذهبون يأكلون الغداء أو العشاء في المطعم، فلم يعودوا يبالون بهذه القضية، ولم يعد الخوف الذي يسيطر على النفوس موجوداً عندهم، وهذا أمر لا يمكن أن يزول من النفوس إلا بالتدريب والممارسة.
إنَّ دور أجهزة الإعلام ليس دوراً محصوراً اليوم أو أمس أو غداً، بل هو دور أصلاً من الماضي للحاضر للمستقبل، يجب أن يستمر دائماً وأبداً ينفض الغبار عن قلوب الناس، ويزيل الخوف منهم، فأنت من الممكن أن تخاف اليوم، لكن غداً يصبح الأمر عادياً عندك، فلا تهتم بهذا الشيء، وهذه من الأشياء التي تفتقدها الأمة بلا شك وتحتاج إليها كثيراً، فدور الإعلام هو أن يرفع معنويات الأمة ويعبئها، بحيث يمكن أن يحقق للأمة نصراً حقيقياً لا تحققه بالسلاح المادي.
وأضرب بذلك مثلاً تاريخياً وما حصل في الجزيرة المسماة كريت ويسمونها قريطش في المصادر الغربية، وكانت جزيرة في البحر المتوسط، كانت تخرج منها الجيوش لغزو الروم، فتضايق الروم منها وجهزوا أسطولاً حربياً ضخماً لحصار هذه الجزيرة الصغيرة، وفعلاً جاءوا وحاصروا هذه الجزيرة حصاراً اقتصادياً طويلاً، ظل الناس فيها شهراً وشهرين حتى نفدت المؤن والأرزاق، وكاد الناس أن يموتوا من شدة الجوع؛ ولم يكن أمام الناس مفر إلا الاستسلام، ففكروا أن يستسلموا، وكان في وسط الجزيرة رجل منعزل للعبادة والذكر، ليس له بهم علاقة فلما رأوا ما هم فيه أتوا إليه، وقالوا له: يا فلان الأمر كما ترى فبماذا تنصحنا؟ سألهم: هل عندكم أسلحة؟ قالوا: لا.
قال: هل عندكم قوت؟ قالوا: لا.
قال: هل عندكم مؤن؟ قالوا: لا.
قال: هل عندكم أموال؟ قالوا: لا.
قال: ماذا بقي لكم؟ قالوا: لم يبق لنا شيء مطلقاً، فكل الإمكانيات المادية ضاعت منهم، قال: إذا كان في الصباح فاجمعوا لي رجالكم ونساءكم وأطفالكم ودوابكم واجعلوها في صعيدٍ واحد.
فجمعوا كل ما لديهم واجتمعوا عن آخرهم، فقام الرجل وخطب فيهم خطبة بليغة وذكرهم بالله عز وجل وربط قلوبهم به، وجعلهم يدركون أن النصر من عنده وأن من نصره الله فلا تهزمه قوةٌ في الدنيا مهما كانت؛ حتى قويت قلوبهم، فقال لهم: هلموا إلى مدخل المدينة -وهو الباب الذي يحيط به الروم المحاصرين لها- فلما اجتمعوا فتح الباب بسرعة وقال لهم: عجلوا الآن إلى الله عز وجل وقولوا: الله أكبر! فاندفعوا إلى الروم اندفاعةً واحدة، وهم يصرخون بالتكبير: الله أكبر، الله أكبر، فلما رأى الروم هذا المشهد فزعوا وفوجئوا وظنوا أن المسلمين يمتلكون قوة قد خبئوها لهم وأنهم يستعدون لهم، فنزلوا بسرعة إلى سفنهم وهربوا في عرض البحر، وأنجى الله تعالى هذه المدينة من غير أسلحة مادية وإنما من خلال ما يمكن أن نعبر عنه بأجهزة الإعلام التي وظفت وسخرت لجعل الأمة أمة مجاهدة فعلاً، أمة في حالة من التعبئة والقوة تستطيع أن تتغلب على عدوها وتنازله بإيمانها بالله عز وجل.(131/13)
تحديد المبدأ أو الهدف
الأمر الأول: تحديد المبدأ الذي قامت ووجدت عليه والذي تقاتل من أجله ألا وهو الإيمان، وإذا كان المبدأ الذي نقاتل من أجله هو الإيمان فعلاً فإنه لا خوف علينا، كيف نخاف من هزيمة والله عز وجل يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فالنصر في الدنيا للمؤمنين، وكذلك النصر في الآخرة يقول عز وجل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] .
إذاً فالنصر حليف المؤمنين، وإذا كانت الأمة قامت وقاتلت من أجل الإيمان فإن هذا الإيمان هو الذي يضمن لها بإذن الله عز وجل النصر.
فلابد أن نقاتل من أجل المبادئ لا من أجل المصالح، فيكون القتال من أجل الدين والعقيدة، ومعنى هذا أننا حين نقاتل لا بد أن نشعر أننا أمة مجاهدة في جميع الظروف والأحوال، أمة تشعر بأنها أصلاً ما صارت أمة لأنها أمة عربية -مثلاً- أو لأنها أمةٌ في بلدٍ معين، أو لأنها تنتسب إلى عرقٍ معين، إنما صارت أمة لأنها تدين بدينٍ معين، وتعتقد عقيدة خاصة، ومستعدة أن تموت من أجل هذا الدين وهذه العقيدة، ولسان حالها يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أيٍ جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ فحينئذٍ تدخل هذه الأمة المعركة بسلاح الإيمان، وتكون أمة عقائدية لم ترتع في النعيم وتَعْم من الشهوات وتخلد إلى الترف والراحة وتطمئن إلى ما هي فيه، ولم تنس الهدف الذي قامت من أجله، وهو هدف الدعوة إلى الإيمان، ولهذا كان حال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرب كما علمتم -مثلاً- في معركة بدر لما احتدمت المعركة أو كادت أن تقوم؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم على حالٍ معين، ما هي تلك الحال؟ وهو زعيم الأمة وقائد المعركة الحقيقي وأكبر رأس للمسلمين وأكبر قائد لهم، انظر كيف كانت الحال التي يعيشها صلى الله عليه وسلم عند قيام المعركة، لم يأمر صلى الله عليه وسلم أن تضرب الطبول، ولا أن ترفع أناشيد وطنية -مثلاً- ولا لافتات ولا شيء من ذلك، إنما دخل صلى الله عليه وسلم في العريش الذي بنوه له ورفع يديه إلى السماء يبتهل ويبكي ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم، وظل يدعو ويبتهل إلى الله عز وجل حتى سقط رداؤه صلى الله عليه وسلم عن منكبه من شدة ابتهاله ورفعه يديه إلى السماء، حتى أشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدة ربك فإن الله تعالى منجزٌ لك ما وعدك} .
فهي في حال الحرب هكذا حالها، وهكذا شأنها شدةً في الإقبال على الله، وصدقاً في التوكل عليه، وإقبالاً للقلوب إليه، وبراءة من الحول والقوة إلا من حوله جل وعلا وقوته وتوبةً نصوحاً له، ليست توبةً باللسان، بل توبة حقيقية تظهر آثارها في الواقع.
هذا كان حالها في شأن الحرب، لكن في حال السلم كيف كانت؟ هل كانت أيضاً أمة رخوة مترفة ضائعة، أمة قد غرقت في النعيم، ورضيت بأن تسكن في المسكن المرتفع والقصر الفاره وتركب السيارة الفخمة وتأكل من أطايب الطعام وتحضر المباريات الرياضية -مثلاً- وتسمع الأناشيد أو الأغاني العاطفية ويكفيها هذا في حياتها أبداً؛ حتى في حال السلم كانوا يشعرون بأنهم في حالة مرابطة دائمة.
ولعلي أضرب مثلاً واحداً لهذا أيضاً وهو في الصحيحين، وهو قصة عمر رضي الله عنه التي يرويها عنه ابن عباس، يقول عمر رضي الله عنه: [[كنت اختلف أنا ورجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، يقول: فإذا نزل جاءني بالخبر -خبر الوحي من السماء- وما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدث في المدينة، وإذا نزلت أنا أتيته بخبر ما نزل من الوحي وما حدث في المدينة، قال: فطرق عليَّ يوماً الباب طرقاً شديداً فخرجت إليه فزعاً مذعوراً فقلت: ما شأنك يا فلان؟ قال: حدث اليوم أمرٌ عظيم.
قلت: ماذا؟ هل جاءت غسان؟ قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لحربنا وقد امتلأت قلوبنا منهم رعباً]] .
إذاً كان المسلمون إما في الحرب أو ينتظرون عدواً يغير عليهم، لأنهم يعرفون أن مقتضى اجتماعهم على عقيدة الإيمان يعني أنه لابد أن يتنادى الأعداء لحربهم، ولهذا حتى في حال السلم كان الواحد منهم إذا طرق عليه الباب طرقاً شديداً ماذا يتصور؟ الواحد منا -اليوم- لو طرق عليه الباب، وشعر أن الطارق منزعج، لقال: ربما قتل ولدي، أو ربما دهس، أو ربما صُدِمَتْ السيارة، وربما كذا، وربما كذا، فتصوراتنا قريبة جداً ومحدودة، لكنه لما طرق الباب عليه طرقاً شديداً تصور أنه ربما تكون غسان والدول التي كان المسلمون يتسامعون أنها تنعل، وتعد العدة لحربهم أنها قد قدمت وأنها على مشارف المدينة، هذا أول ما بدر إلى ذهن عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له أخوه الأنصاري: [[كلا.
بل طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه]] فالمهم أن هذه الأمة منذ وجدت أمة ميزتها أنها ذات هوية وعقدية واضحة، وهذه مشكلة كبيرة أن ينسى الناس عقيدتهم أو هويتهم التي اجتمعوا من أجلها ويغفلوا عن ذلك.
يا إخواني! حتى الأمة التي اجتمعت على عقيدة منحرفة إذا أخلصت لهذه العقيدة فهي أقرب إلى النصر من أمة لها عقيدة صافية، لكنها قد نسيتها وغطى الغبار عليها، فأي مجموعة تجتمع على عقيدة أو على مبدأ -حتى وإن كانت منحرفة- تضحي في سبيلها، نحن نعلم أن هناك من قتل -مثلاً- من أجل يهوديته، وهناك من قتل من أجل نصرانيته، وهناك من قتل من أجل شيوعيته، وهناك من قتل من أجل باطنيته ورافضيته، فكذلك ومن باب أولى ينبغي أن تكون للمؤمن كفرد ولأمته ولمجتمعه ودولته هوية واضحة لا غبار عليها؛ وهي أننا أمة اجتمعت على الإيمان والعقيدة الصحيحة، فمن أجلها نقاتل ومن أجلها نسالم، وهي التي تحكم جميع تصرفاتنا ولا نكتفي بأن نعطي العقيدة كلامنا الطيب وألفاظنا الجميلة وخطبنا الرنانة.
هذا لا يكفي، لابد من هذا ولابد معه أن تكون العقيدة واقعاً يهيمن على جميع تصرفات حياتنا.(131/14)
من يستحق النصر؟
الوقفة أو الخاطرة الرابعة والأخيرة هي عبارة عن
السؤال
من يستحق النصر؟ يقول الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] ما قرأت هذه الآية إلا وقفت فيها وقفات أتعجب وأتملى وأقيس هذه الآية على واقعنا.(131/15)
صفة المنصورين
ثم قال في صفة من ينصرهم الله ومن يسخر لهم هذه الإمكانيات؟ هل هم المزايدون أو المتاجرون بالكلمة؟ لا.
إنهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] فلم يقل الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بل قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] .
فهناك أمم وشعوب تقاتل وقد ترفع راية الإسلام، ومع ذلك لا تنصر، فيتساءل الناس: لماذا؟ نقول: لأن الله تعالى لم يقل في من يستحقون النصر: الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ بل قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] وما الذي يدريك -يا أخي- أن هؤلاء أو أولئك لو مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فمعرفة الغيب عند الله تعالى.
ولذلك فإن معرفة الشعب أو الأمة أو الجيش أو الجند الجدير بالنصر هذا إلى الله عز وجل، ولا أحد -والله- يستطيع أن يحكم بأن المجاهدين في مكان كذا أو المقاتل أو الجيش الفلاني يستحق النصر لأنه كذا، وهذا كله ادعاء ورجم بالغيب، والرسول عليه الصلاة والسلام وهو رسول الله ومؤيد بالوحي من السماء ما كان يفتري على الله تعالى ولا يتألى ولا يقدم بين يدي الله عز وجل ويقول للصحابة: أنتم المنصورون، إنما كان يأمل ويرجو النصر من الله عز وجل فإذا رأى البشائر قال: {ابشروا، هذا جبريل يقود فرسه على ثنايا النقع في سبيل الله عز وجل} .
إذاً تحديد الأمة التي تستحق النصر أمرٌ لا يعرفه إلا الله تعالى، فقد علقه الله تعالى بأمر غيبي: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] وكم من أمة ترفع راية الحرب في سبيل الله، لكن إذا نُصرت نكست وتخلت وغيرت مبادئها.
إذاً ربما لا يصبر الناس على النصر فيمنعه الله تعالى عنهم لحكمةٍ يعلمها، إنما ينصر الله تعالى الذين إن مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
إن هؤلاء القوم يعتبرون أن التمكين في الأرض وكون الأمر لهم ليس غايةً يسعون إليها، إنما هو وسيلة لإقامة الصلاة بالناس وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالمين، فهؤلاء هم الذين يستحقون نصر الله تعالى وعونه وتأييده.
أيها الإخوة: يجب أن تمتلئ قلوبنا ثقة بالله عز وجل واطمئناناً إلى قضاء الله تعالى وقدره، فوالله الذي لا إله غيره لا يقضي الله تعالى قضاءً للمسلمين إلا كان خيراً لهم، إن المسلمين منصورون مهما كانت قوة عدوهم.(131/16)
نصرة الله إنما تكون لمن ينصر دينه
أولاً: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] الله غنيٌ عنا، وإنما المقصود بنصر الله أن ننصر دين الله عز وجل بمعنى أن نقدم الدين على أهوائنا الذاتية، وعلى أمزجتنا الشخصية، وعلى مصالحنا الخاصة أو العامة، على فرض أن مصالحنا الخاصة أو العامة كان الدين يقتضي خلافها مع أن الواقع الحق أن الدين هو كله مصلحة والمصلحة كلها في الدين.
فمثلاً الذي يأكل الربا أو يبني اقتصاده على الربا، قد يتصور أن نصر الدين في هذا الجانب ضرر عليه، ولكن الواقع الصحيح أن الربا مصلحة وهمية، بل هو ضررٌ في العاجل والآجل في الفرد والمجتمع، وسبب في محق البركات والخيرات، وأذان بحربٍ من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن حينئذٍ لا يجد خياراً أبداً أن ينصر الله تعالى بالتخلي عن المال الحرام، مهما كانت النتائج، ومهما توقع أنه يضره في أموره المادية؛ لأن معنى هذا أن تنصر الله عز وجل حتى تستحق نصر الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] .
إذاً: حين ننصر دين الله في جميع مجالات حياتنا ونجعل الكلمة الأخيرة هي للدين، وللشريعة في أمورنا السياسية والاقتصادية، والإعلامية والتعليمية، والتربوية والاجتماعية، والخاصة والعامة فإننا نستحق نصر الله عز وجل لا محالة.
وأقول مثلما قال شيخ الإسلام رحمه الله حين قال: إنكم منصورون قالوا: قل: إن شاء الله.
قال: أقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً لأن وعد الله آتٍ لا محالة: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] .(131/17)
العزة لله
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] وهنا لفتة مهمة جداً وهي أن القوة عند الله تعالى، والعزو لله: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [يونس:65] فالله تعالى له القوة والعزة، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، ولذلك قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] .
1- ولله جنود السماوات والأرض: فتذكر أن الله تعالى له جنود السماوات والأرض: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فلا تقس الأمر بعدد جنودك أو بأسلحتك أو بإمكانياتك، فإنها متواضعة أبداً، إذا كنت قد نصرت الله تعالى، فتذكر أن الله تعالى عنده جنود، فالسماوات السبع كلها ملئا بالملائكة، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيها ملكٌ واضع جبهته لله عز وجل ساجد أو راكع أو قائم، يسبحون الله تعالى الليل والنهار لا يفترون، فالله تعالى إذا رضي عن عبده أو عباده أو عن أمته فهو يبعث هؤلاء الملائكة بالنصر المبين، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] .
ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون قتيل الملائكة ببنانه، لأن الملائكة تضرب بنانه، فالملائكة جنود الله عز وجل وهم جنودٌ لا يرون، كما قال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] والجنود الذين لا يرون لا سبيل إلى مقاتلتهم وحربهم أبداً، فالملائكة من جند الله عز وجل، ومن جند الله تعالى الرعب، كما قال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه: {نصرت بالرعب يقذف في قلوب أعدائي} حتى إنه في بعض الروايات: {مسيرة شهر} فإذا أصيب العدو بالرعب فإنه لا نصر له بحالٍ من الأحوال.
ومن جند الله عز وجل الريح: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب:9] سلطها الله على الأحزاب المتحزبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأكفأت قدورهم وزلزلتهم وهدمت خيامهم فكانت لا تقيم لهم بناء، حتى قال بعضهم لبعض: إنه لا يمكن أن يكون لكم المقام فهلموا واذهبوا وارتحلوا فإنا مرتحلون، فالريح يسلطها الله على أعدائه.
ومن جند الله الزلزلة، كما قال جبريل عليه السلام لما انتهت معركة الأحزاب، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين- قال: {وقد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع السلاح، اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهبٌ إليهم فمزلزلٌ بهم} فزلزل قلوبهم بالخوف والفزع والهلع فأصبحوا مهزومين قبل أن يخوضوا المعركة، ثم الزلزلة الحقيقية بالأرض فإن الله سبحانه وتعالى قد يسلط الزلزلة على عدونا فيزلزل الأرض من تحت أقدامهم، أو يأذن للأرض فتخسف بهم فتفتح فاها فتبتلع أعداءها.
كل هذا يمكن أن يكون، وهذا ليس كلام عجائز وليس ألاعيباً، بل هذا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كل هذه الوسائل يجريها الله تعالى لجنده المخلصين الصادقين بعد ما يستفرغون وسعهم في الأسباب المادية وتجنيدها والإعداد والتعبئة ثم تقصر بهم وسائلهم المادية، فإن الله تعالى يسخر لهم كل هذه القوى والأسباب التي ليست بأيديهم.
ومن جنود الله تعالى الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح ونجى به نوحاً ومن معه من المؤمنين، ومنها الفيضانات، والبراكين، والحجارة من سجيل التي تنزل من السماء على عدونا، ومنها ومنها قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فهذه كلها مجرد أمثلة أما عدد جنود الله فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، فما بالك إذا كان الله تعالى معنا وسخر لنا هذه القوى أو واحدة منها، كيف نتصور أن نهزم؟!(131/18)
الأسئلة(131/19)
مؤتمر إسلامي في أمريكا
السؤال
هل يمكن تلخيص ما نتج عن المؤتمر الذي حضرتموه في أمريكا؟
الجواب
هذا المؤتمر أقامته رابطة الشباب المسلم العربي واستمر خمسة أيام وحضره ما يقارب ستة آلاف مسلم من أنحاء الولايات المتحدة، والمؤتمر كان عبارة عن ندوات ومحاضرات ودروس، وقد يسر الله بفضله أن شاركت في بعض الندوات والدروس والمحاضرات.(131/20)
تدريب النساء على السلاح
السؤال
لم نعد نسمع كثيراً عن تطوع النساء في التدريب فهذا يدل على إيقافها أم ماذا، وما رأيكم في ذلك؟
الجواب
لا أدري بالضبط مسألة الإيقاف، لم أعلم شيئاً وأتمنى وأسأل الله عز وجل في هذا المكان الطيب ومع هذا الجمع الطيب أن يكفي المسلمين شر كل عملٍ يخطط لنسائهم وبناتهم ويراد به إخراجهن من بيوتهن ونزع جلباب الحياء عنهن، وأن يرد كيد الذين يريدون بالأمة شراً في نحورهم، وأتمنى أن يكون ما ظنه هذا الأخ حقيقة، وإن كنت لم أسمع شيئاً عن ذلك.(131/21)
بقاء المرأة مع الزوج البائع للمخدرات
السؤال
هذه امرأة تقول: أنا امرأة ذات عيال وزوجي مروج مخدرات فقال أحد المشايخ: حرام لا يجوز العيش معه، وقال زوجي: عليَّ ديون كثيرة فعندما أقضيها أتوب إلى الله، فهل يجوز العيش معه؟ وللعلم أني امرأة مريضة لا أستطيع العمل وأبي مسافر ولا أجد من يكفلني والحمد لله لديَّ أطفال صغار كثيرون إلى آخر السؤال.
الجواب
لا شك إن كنت ترجين صلاح هذا الرجل وتقومين بدور وجهد معه في إبعاده عما هو فيه وتجدين بعض التقبل والاستعداد لذلك، فإن البقاء بهذه النية وبهذه الرغبة لفترة معينة، خاصة إذا كان مقيماً للصلاة أرجو أن يكون فيه متسع لكِ، أما إن كنت قد يئست من هذا الرجل ورأيتِ أنه لا يقبل، وأنه قد تورط في هذا الأمر وابتلي بقرناء سوء يجرونه دائماً إليها فلا شك أن عليك أن تتخلصي منه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] .(131/22)
التبرع من الزكاة والصدقة لتزويج الأيامى
السؤال
هذا طلب للتبرع للمشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج، وعندهم ملف عن هذا المشروع ويأملون حث طلاب العلم والحضور على دفع زكاة أموالهم وصدقاتهم الجارية في صناديق المشروع الخيري الموجودة في أبواب المسجد، وفيها فتحات خاصة بالزكاة، وأخرى خاصة بالصدقات وكلها تصرف على الشباب المحتاج للزواج؟
الجواب
وهذه أيضاً من أعظم الوسائل في تحقيق الاستعفاف للشباب، ولا شك أن غالبكم من الشباب ويحتاجون إلى هذا الأمر وفيكم من رزقه الله تعالى مالاً وأنعم عليه، فعلى من أنعم الله تعالى عليه بالمال أن يؤدي زكاته وأن يسرع إلى الصدقة، فإن الله تعالى يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقصت صدقةٌ من مال} فإن تبرعك لهذا المشروع وغيره مما يزيد في مالك ويبارك في عمرك ويجعل الله تعالى لك ذخراً وفخراً في الدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم، اللهم من أرادنا بسوءٍ فاشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم أدر دائرة السوء على الفاسقين والكافرين والظالمين، اللهم أدر دائرة السوء على أعداء الدين، اللهم إنا نستغيث بك ونسألك يا حي يا قيوم! ياذا العرش المجيد! يا ذا الجلال والإكرام! يا مالك الملك! يا قوي! يا عزيز! أن تنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان.
اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام والمسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم طهر بلاد المسلمين من كل ملحدٍ وطاغوت، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.
والحمد لله ربك العالمين.(131/23)
دعوة الشباب اللاهي
السؤال
يطلب الأخ توجيه كلمة إلى طلبة العلم وجميع الإخوان في هذه العطلة بالتوجه إلى أماكن تجمع الشباب على الشواطئ ودعوتهم إلى الله وتوجيه النصح لهم، فكثير من هؤلاء الشباب لم يحدث أن وجه إليهم نصيحة أبداً إلا ما قل، فقد ذهبت بفضل الله تعالى إلى الشاطئ ورأيت كثيراً من هؤلاء الشباب الذي يجتمعون على الغناء أو على البلوت وغيرها من الأفعال التي لا ترضي الله عز وجل، وبدأت أوجه لهم النصيحة وأهدي بعض الكتيبات والأشرطة الإسلامية ووجدت منهم إقبالاً أدهشني تماماً وهذا ما جعلني أكتب هذا التوجيه لتبلغوه إلى إخواني وجزاكم الله خيراً.
الجواب
في الواقع أن الأخ يلفت النظر إلى قضية في غاية الأهمية، فهناك طبقة في المجتمع ليست بالقليلة -أيها الإخوة- لم توجه لهم الدعوة، قد نكون نشيطين أحياناً في إقامة مثل هذه الدروس والمحاضرات لكن جمهور المحاضرات معروف أنه غالباً من الناس المتوجهين، لكن هناك طبقات كثيرة من الشباب الضائع، ومن الناس البعيدين، من الناس الموظفين من كبار السن، من الناس الذين لا يحضرون، فهل نترك هؤلاء؟ ينبغي أن نبذل جهوداً خاصة لهم، ولا مانع أن نرتادهم في الأماكن التي يوجدون فيها بالأسلوب الحسن، خاصة من يحسن الدخول معهم والملاطفة والابتسامة الصادقة التي تعبر عن القلب النظيف النزيه الذي يحب الخير لهم، ويهديهم ما تيسر ويجلس معهم جلسة خفيفة ربع ساعة، فيها كلمات حلوة طيبة، فإن وجد تقبلاً شكرهم وإن وجد إعراضاً دعا لهم وانصرف، وإن وجد من يستفزه أو يرده رداً سيئاً، لا يرد بالمثل بل يشكرهم ويدعو لهم وينصرف، ويتركهم إلى المرة الثانية أو يأتيهم آخر فيخجلون منه، نحتاج إلى مثل هؤلاء الشباب الذين يجندون أنفسهم في الأماكن التي يتجمع فيها الشباب ويدعوهم إلى الله عز وجل ويهدوهم ما تيسر من كتب وأشرطة، وقبل ذلك كله الكلمة الطيبة ويا حبذا أن تكون هناك جهود منظمة من قبل الجهات المختصة في هذا المجال.(131/24)
دور أجهزة الإعلام المفترض وقت الحروب
السؤال
هذا يتحدث عن أجهزة الإعلام أيضاً وما فيها من تحذير المواطنين، والوصية بالإجراءات التي يتبعونها عند حدوث أي حربٍ كيماوية وهذا لا بأس به، لكن ماذا عن ربط عباد الله بالله سبحانه وتقوية عقيدتهم وتوكلهم على الله عز وجل وربط حياتهم وموتهم بتلك الأسباب؟
الجواب
لا شك أن هذا من الأشياء التي يطول عجبنا منها، ونسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، تعرف فيه ما ينفعها مما يضرها، وتستفيد فيه مما وهبها الله عز وجل فيما يصلحها، وتحسن في تربية أبنائها وبناتها على المنهج الصحيح، بحيث تكون كل إمكانيات الأمة ووسائلها عبارة عن أجهزة مجندة في خدمة هذا الدين وتربية الناس عليه.(131/25)
القتال في سبيل الله
السؤال
يثير ويشير الأخ إلى قضية القتال من أجل ماذا يكون، هل من أجل الأرض والوطن أم ماذا؟
الجواب
لا شك أن القتال هو في سبيل الله عز وجل، فالقتال الذي يحبه الله ويثيب أهله هو أن يقاتل الإنسان في سبيل الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى في الصحيحين: {حين سُئل عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ودفاع الإنسان عن نفسه أو عرضه أو أرضه أو ماله إذا كان دفاعاً شرعياً من أجل أن يظل الإسلام هو المهيمن، والشريعة هي المحكمة، ويظل الإسلام هو القائم، وراية الإسلام هي المرفوعة، فهو جهادٌ في سبيل الله.(131/26)
دعوة العلماء والدعاة
السؤال
عن دور العلماء والدعاة في مثل هذه البلاد، في ضبط البلاد وحفظها؟
الجواب
أقول: إن العلماء والدعاة لهم -دائماً- هدف واحد، وهم دائماً يدعون الأمة إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يتكلمون في وضح النهار ويعلنونها واضحة صريحة لا غبار عليها ولا لبس وراءها، نحن ندعو الناس إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن دعونا إلى غير هذا فيجب ألا يسمع لنا وألا يستجاب لنا، ونكون قد ظلمنا أنفسنا وغيرنا، والدعوة إنما تكون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فإن الأمن الحقيقي للأمة هو بأن تكون في مسلكٍ واحد وطريقٍ واحد.
وما زال الأمن عن الأمة إلا يوم أن تشتت، فأصبح فيها العلماني والشيوعي والحداثي والباطني، وسائر الأسماء واللافتات التي اقتطعت جزءاً من أبناء هذه الأمة وتفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً، وأصبح كلٌ ينادي إلى مذهبه ودينه، ويعمل سراً وجهاراً وليلاً ونهاراً إلى ما هو عليه، أما يوم أن كانت الأمة متوحدة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد حقق الله تعالى لها ما وعد به من الأمل، فالعلماء يدعون الناس إلى تحقيق الأمن الذي يكون بأن يؤمنوا بالله تعالى إيماناً حقاً وألا يلبسوا إيمانهم بالظلم.(131/27)
ادخار الطعام وقت الأزمات
السؤال
ما رأيك في شراء الناس للمواد الغذائية والمياه وتخزينها، وهل هذا العمل صحيح أم خاطئ؟ وهل هناك توجيه؟
الجواب
أنا أريد أن أسأل أولئك الذين بالغوا في شراء المواد الغذائية والمياه حتى ربما قلت من الأسواق وارتفعت أسعارها، في حالة حصول حرب -مثلاً- هل يرضى هؤلاء أن يغلقوا عليهم بيوتهم ويجلسوا ويشربوا ويدعوا الناس ممن حولهم من إخوانهم وجيرانهم وأقاربهم يموتون جوعاً وعطشاً، أين أنتم من الإيثار الخلقي الإسلامي العظيم الذي بمقتضاه مدح الله تعالى أقواماً بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] بل أين أنت حتى قبل الإسلام، كان العربي في الجاهلية يقول: ولو إني حبيت الخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا يدعو أن المطر الذي لا ينزل على البلاد كلها لا ينزل عليه، فيا أخي الكريم! يجب أن نكون مؤمنين حقاً، فالإنسان يفعل الأسباب، لكن كون الناس أصابهم سعار عجيب، فاقبلوا على المواد والبضائع والتموينات والأطعمة والأشربة والمياه وغيرها يخزنونها ويقتنونها بكميات كبيرة أمرٌ يثير العجب والدهشة، هل نحن نريد أن يكون شأننا كشأن ذلك الرجل المغفل الذي رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة فتعجب الناس من حوله وظنوا أن أبا خارجة هذا مات شهيداً بين الصفين في سبيل الله عز وجل يتشحط في دمه، قالوا: رحمك الله ومن هو أبو خارجة هذا؟ قال: أبو خارجة هذا أكل مُدين من الحنطة وشرب منوين من العسل وقعد في الشمس حتى دفئ فمات شبعان ريان دفئان، فهو يريد أن يموت كميتته! فهذا -يا إخوان- لا يصلح فينبغي أن ندرك أن هذه الأمور، ينبغي فيها الاعتدال فكون الإنسان يحتاط ويأخذ وسائل واحتياطات، وأسباب لا لوم عليه وإن كنت لا أرى هذا لازماً كما يتصور البعض أبداً، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] لكن يفعل الإنسان الأسباب المادية إذا احتاج إليها، أما المبالغات التي إنما صدرت بسبب الرعب والفزع والهلع والقلوب الضعيفة والنفوس الرخوة والترف الذي قتلنا قتلاً -أيها الإخوة- حتى رجولتنا قتلها، فهذا لا ينبغي.(131/28)
كلام الشيخ سفر عن أحداث حرب العراق
السؤال
هناك كما يقول الإخوة أكثر من ثلاثمائة سؤال عن موضوع الشيخ سفر حفظه الله وما هو واجب الشباب أو واجب المؤمنين تجاه هذا الموضوع؟
الجواب
أقول -أيها الإخوة-: إن فضيلة الشيخ الدكتور/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي لعله من أجدر الناس في هذا الزمان بالكلمة التي كان يقولها الإمام أحمد عن الشافعي رضي الله عنه، فالشيخ حفظه الله كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل ترى عن هذين من عوض أو لهما من خلل، وجهد هذا الشيخ وبلاؤه غير مجهولٍ للخاص والعام، وكل ما أريد أن أشير إليه في هذه القضية أمور: أولاً: أنني أرى أن الشباب في جميع الظروف يجب أن يحتفظوا بهدوئهم وأعصابهم وأن يبتعدوا عن أي تصرفٍ أو أسلوبٍ يرون أنه غير مناسب، فإن جميع تصرفات الشاب المتدين محسوبة لا أقول عليه هو، بل على المتدينين جميعاً، فأنت يا أخي الشاب -بارك الله فيك- لا تمثل نفسك إنما تمثل أمة بأكملها، أو فئة كثيرة من الشباب المهتدين، فعليك أن تكون تصرفاتك تصرفات منضبطة مفيدة نافعة تضمن تحقيق المصلحة دون أن يترتب عليها أي مفسدة أو أي سبب إلى سوء التفسير من الآخرين، والحمد لله الأبواب ممكنة ومفتوحة فالذي يرى أن له دوراً يمكن أن يؤديه فيجب أن يقوم به، ولا أعتقد أن أحداً يعجز -مثلاً- عن أن يخاطب ولاة الأمر بهذا الأمر من خلال القنوات والوسائل الممكنة المتاحة وهي كثيرة جداً، وهذا الأمر هو قضيتنا جميعاً، فهذه مسألة.
المسألة الثانية: أن العلماء الذي يقومون بتوعية الناس وإرشادهم؛ في الواقع أنهم يتعبون ليقدموا للناس التوجيه السليم وكم سهروا الليالي وكم تعبوا، وكم حرم الواحد منهم الجلوس مع أهله، ومع أولاده وأطفاله ومع أعماله الخاصة في سبيل تحقيق المصلحة العامة للأمة، فهم يحرقون أنفسهم ليضيئوا للآخرين.
ولذلك أقول: من حق العالم على الأمة ألا يطلب العالم شيئاً لنفسه، بل أن تكون الأمة التي تستفيد منه وتنتفع من علمه، هي التي تطلب لا أقول له بل أقول لنفسها، ما يكون به نجاتها وما يكون به خيرها من علم العلماء وإرشادهم وتوجيههم وإصلاحهم ودعوتهم إلى الله عز وجل؛ وتصحيحهم لعقائد الناس؛ وربطهم على قلوب الناس في أزمة من الأزمات وفي أوقات الشدائد، وهذه من الأمور التي تحتاج إليها الأمة وأشد ما تحتاج إليه في مثل هذه الظروف، فينبغي أن يكون لكل امرئ منا دور واضح يؤديه بعيداً عن أي طريقة أو أسلوب يرى أن فيه مأخذاً أو أن عليه مغمزاً.(131/29)
المسئولية الفردية
السؤال
ذكرت في معرض حديثك عن الإعلام ودوره في بث روح الجهاد في الأمة، كيف يكون ذلك، ونحن نجد أن كثيراً من أجهزة الإعلام تبث الموسيقى عوضاً عن الأشياء التافهة التي أشرت إلى شيئاً منها، لماذا لا يتغير هذا كله أو يُغير من يقوم عليه ليكون أهلاً لبث روح الإسلام وبث ما ينفع المسلمين بتوجيه وتعاون بين العلماء وبين ولاة الأمر؟
الجواب
المسئولية لا شك أنها علينا جميعاً -أيها الإخوة- كل امرئٍ منا عليه الدور، ولنفترض -مثلاً- أن هذا الأمل أو الرجاء الذي طلبه الأخ لم يتحقق، ولم يسمع إليه، هل معنى ذلك أن نجلس نحن مكتوفي الأيدي ننتظر أمراً من السماء في تصحيح وضعٍ عجزنا عن تصحيحه؟ لا.
ينبغي أن يقوم كل واحد منا بدوره بقدر ما يستطيع في إصلاح ما يمكن إصلاحه.
ولعلي أضرب لكم مثلاً أيضاً بالمقارنة: كثير من الطيبين يقومون بعمل يسير وينتظرون من جراء هذا العمل نتائج خطيرة وكبيرة جداً، وعلى العكس من ذلك اليهود والنصارى أو حتى المنافقين أو المنحرفين يقومون أحياناً بأعمال كبيرة جداً ويقنعون بالنتائج اليسيرة.
أنت -مثلاً- نفترض أنك كتبت برقية في أمر من الأمور أو رسالة أو نصيحة لأحد أو اتصلت هاتفياً، أو حتى قمت بزيارة لإنسان فتريد أن يكون أثر هذه البرقية أو هذه الرسالة أو المهاتفة أو الزيارة، تغييراً كلياً لأمرٍ أنت لا تقتنع به وترى أنه معارض للإسلام، وهذه الإرادة نحن معك نتمنى هذا، لكن ليس بالضرورة أن يحصل هذا، أولاً اسأل نفسك كم خسرت؟ الورقة التي كتبت فيها كم تعادل؟ لا تعادل قرشاً واحدً، وكذلك الحبر والمبلغ الذي بعثت به الخطاب أو البرقية ربما تعطيه أحد أطفالك حتى يسكت عن البكاء.
إذاً ما عملت شيئاً، والوقت الذي بذلته في كتابة الرسالة أو الاتصال أو الزيارة يمكن أن تبذل ضعفه أو أضعافه في جلسة غير مفيدة مع أحد الأصدقاء، إذاً أنت قمت بجهد وأنت مشكورٌ عليه، لكن لماذا تنتظر من هذا الجهد المتواضع الذي قمت به أنه سوف يغير الدنيا كلها.
وعلى العكس من ذلك: فقد أقرأ في تاريخ اليهود في أمريكا أعاجيب، أحياناً يكتبون عرائض يوزعونها على الناس ويوقعها مئات من كبار الشخصيات، وأحياناً يرفعون مئات الألوف من البرقيات في موضوع من الموضوعات إلى رئيس الدولة أو لأعضاء الكونجرس أو لغيرهم؛ في تأييد إسرائيل، أو في طلب تأييد الموقف اليهودي أو في طلب إعانة أو احتجاج أو أي شيء، ويفعلون ما يسمى باللوبي الذي هو الضغط، جماعات الضغط اليهودية يفعلون أشياء كثيرة جداً، ومع ذلك يقنعون ببعض النتائج.
لماذا أصبح عند المسلم -مع أن المفروض أن يكون قوياً بإيمانه واثقاً صبوراً- ضعف وقلة في جلده، قصير النفس يريد نتائج سريعة مقابل أعمال بسيطة.
يا أخي! لابد من الصبر وسعة البال وطول الانتظار وابذل وابذل وابذل وستجد النتيجة، وما أُشبِه تصرف وموقف بعض الناس الذين ييئسون بسرعة إلا بـ الكسعي الذي كان يصنع القسي -السهام- ثم يرمي بالليل -وقد صنع قوساً ممتازة- ثم رمى بها ولم يدر أنه قد أصاب ثم رمى مرة أخرى ورمى مرة ثالثة فغضب وكسر القوس، فلما أصبح الصباح نظر فوجد أن السهام الثلاثة التي أطلقها كلها قد أصابت الهدف ولكنه لم يعلم، فندم ندماً شديداً على تكسير القوس وأصبح مضرب المثل، يقول أحدهم: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار ُ فيضرب به المثل في كثرة الندم، فهكذا بعض الطيبين يقومون بأعمال دون أن يدركوا آثارها ونتائجها ولذلك يقطعونها وأحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل.(131/30)
ولكن في التحريش بينهم
هذا العنوان نص من حديث فما معناه؟ وهل لم يعبد الشيطان في جزيرة العرب، وما واجب أهل الجزيرة تجاه ذلك، وكيف يحرش الشيطان بيننا، وما هي ألوان التحريش وما موقف الداعية المسلم تجاه كل ذلك؟ هذه الأسئلة تجد الإجابة عليها ضمن ثنايا هذه المحاضرة مع عشرين نصيحة تجاه هذا الأمر تفيدك إن شاء الله.(132/1)
إن الشيطان فد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب
الحمد الله مستحق الحمد وأهله، وأهل التقوى وأهل المغفرة، وصلوات الله وسلامه على خاتم رسله وأنبيائه، نبينا وسيدنا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار، وصلى الله وبارك ورضي عن أصحابه الطيبين الأطهار، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم القرار.
أما بعد: سلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته، إنها لحظاتٌ سعيدة أن ألتقي بكم، وأحل في مدينتكم هذه المدينة الطيبة، وأرى وجوهكم هذه الوجوه المشرقة، وأسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يغفر لي ولكم في هذه اللحظة، ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما هو أعلم به منا.
أما بعد: فكما سمعتم عنوان هذا الكلمة: (ولكن في التحريش بينهم) وهذا العنوان -كما تدركون جميعاً- جزءٌ من لفظٍ نبويٍ كريم، وهو خير ما عنونت به الدروس والمحاضرات، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فيما رواه مسلم في صحيحه: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم} أي: أن الشيطان رضي من المسلمين في هذه الجزيرة بالخلافات والعداوات والأحقاد في قلوبهم، رضي بذلك واكتفى به؛ لأنه يئس أن يعبدوه.(132/2)
لون من التحريش بينهم
وإذا كان العالم اليوم يعاني مما يسميه بالتفرقة العنصرية، فإن الأمر المدهش حقاً، أن ورثة الكتاب من أهل الإسلام، لم يتخلصوا بعد من لوثات الجاهلية الأولى، فأصبح الناس يتفاخرون داخل المجتمعات الإسلامية، أو يتميزون، ويتحيزون بحسب انتماءاتهم، أو أعراقهم أو أنسابهم، بل حتى داخل المجتمعات المثقفة، بل حتى في مراكز العلم والدعوة والجهاد، بل أصبح العالم اليوم يتحدث عن حروبٍ طاحنة، يعتبر الانتماء القبلي أحد أسبابها في نظر البعض، وهذا أحد ألوان التحريش الشيطاني، الذي يمارسه على المصلين في جزيرة العرب وفي غيرها.
فلقد نجح الشيطان وجنوده من أبناء الصليب وغيرهم، في تقسيم الأمة الواحدة إلى شعوبٍ متطاحنة، يكره بعضها بعضاً، ويلعن بعضها بعضاً، ويحارب بعضها بعضاً، ويحاصر بعضها بعضاً وينصر بعضها أعداءها ضد البعض الآخر.
لقد قدم النصارى لنا -أعني المسلمين- قدموا لنا أنفسهم على أنهم الصديق الحميم للجميع، بأساليب مختلفة، وبإخراجٍ دقيقٍ عجيب، فالنصارى يظهرون أنفسهم متحالفين مع الحكومات -كل الحكومات- ضد الشعوب الثائرة لإنسانيتها، الغاضبة لكرامتها، ويظهر النصارى أنفسهم أنصاراً للشعوب ضد حكامها المستبدين، ويظهرون أنفسهم ثائرين وقائمين وغاضبين للمصابين بالنكبات والكوارث، من الفقر والجوع والمرض من خلال منظمات الصليب، التي ندفع نحن مئات الملايين من ميزانياتها، فهم مع الجميع ضد الجميع، وفي النهاية أصبح المسلم يمنح النصراني ثقةً كبيرة، ويفضله على أخيه في الإسلام، وأخيه في العروبة وجاره في الدار والقرار.(132/3)
أقوال أهل العلم في يأس الشيطان من جزيرة العرب
وقد يتساءل الكثيرون: كيف يكون هذا؟ مع أننا نعلم أنه حدث ويحدث في هذه الجزيرة، بل وفي بلاد الإسلام كلها أن هناك من أطاع الشيطان، وعبده، أو أطاعه فيما دون ذلك، فمن أهل العلم من قال: إن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص المصلين، أي: "يئس أن يعبده المصلون" أما أولئك الذين أطاعوه وعبدوه فهم من الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، ومن الذين فارقوا الشريعة وتركوا الملة، وخرجوا من الدين، وأصبحوا من غير المسلمين ومن غير المصلين، وهذا دليل على عظم شأن الصلاة.
وقال آخرون: بل يئس الشيطان يوم رأى عز الإسلام، ورأى قوة الدين، وشاهد إقبال الناس على الحق، وإعراضهم عن الباطل، فأصابه من جراء ذلك إعراضٌ وقنوطٌ ويأس؛ ولكنه بعد ذلك يعود إلى قلبه الأمل، وتراوده الأماني والأحلام، أن يوجد من يعبده في هذه الجزيرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر وهو في الصحيح أيضاً: {لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة} وهو صنم كانت تعبده قبيلة دوس في الجاهلية، وهذه القبيلة في الطائف، وقد رأينا اليوم في هذه البلاد وفي غيرها، من رفعوا رءوسهم في إحياء شعائر الجاهلية الأولى، مصداقاً لما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم فقد عاد الأمل إلى الشيطان أن يعبده الناس في هذه الجزيرة وفي غيرها، وكل هذه الاحتمالات وغيرها، تتفق على أنه سيوجد في هذه الأمة، وفي هذه الجزيرة بالذات، وفي غيرها من باب أولى؛ من ينساق وراء نزغات الشيطان، ويقع حتى في لونٍ من ألوان العبادة له: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] .(132/4)
الناس في الإسلام سواء
الإسلام لا يعبأ بالحدود الإقليمية، ولا يكترث للحواجز الجغرافية، ولا يقيم وزنًا للفواصل العرقية، لأن الرابطة الوحيدة عنده رابطة الإيمان والتقوى، والوحدة الإسلامية، ليس هذا من الزاوية والناحية النظرية فحسب، فإننا نجد أن الأديان والمذاهب والنظريات كلها أو جلها، تقول نظرياً أنها لا تفرق بين الناس.
فالنصرانية مثلاً تقول: إنه لا فرق عندها بين لونٍ ولون، وجنس وجنس، والميزان عندها هو القرب من الخير والحق والعدل والسلام!! والشيوعيةأيضاً تقول: إنها قامت لتحطيم كل الفروق والحواجز بين الناس، وإقامة الأخوة البشرية بينهم، وإزالة ألوان التفرقة، بما في ذلك التفرقة في المستوى المالي أو غيره!! ومثل ذلك الماسونية، فهي تزعم وتدَّعي أنها تقوم على الأخوة والعدل والمساواة! وهكذا، فالشعارات وحدها لا تكفي، والكلمات وحدها لا تغني، أما الإسلام فقد رفعه شعاراً، أنه لا فرق بين عربي وأعجمي، وأبيض وأسود، وغني وفقير، ومأمور وأمير، وقريب وبعيد إلا بالتقوى، ثم طبق ذلك عملياً، فكان المجتمع الإسلامي الأول نسيجاً متلاحماً متكاملاً منسجماً من أجناسٍ مختلفة، في انتماءاتها القبلية، وفي بلدانها ودولها ومدنها، ومختلفةً في ألوانها وأشكالها؛ ولكنها امتزجت كلها في لحمةٍ واحدة، وهي لحمة الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وساهمت في هذا المجتمع الإسلامي العظيم.
ولقد ضرب عمر رضي الله عنه أروع الأمثلة في ذلك، حيث كان يقول: [[والله لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته، الخلافة]] وهو مولى!! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يولي عليهم في الغزوات والسرايا والبعوث، أحياناً أبا بكر، وأحياناً زيد بن حارثة، وأحياناً أسامة بن زيد وهو ابن مولى، فيوليه وهو مولى على وجوه الصحابة، من رجالات قريش وكبرائها، ووجهائها وأعيانها، أو من رجالات الأوس والخزرج في المدينة النبوية الشريفة.
لقد حطم الإسلام أبَّهة العربي وكبرياءه، وفخره بقبيلته؛ إذ أن جدارة الإنسان لا تكتسب بالوراثة أو باللون أو بالبلد، إنما تنال بالأعمال الجليلة، والمواهب النبيلة، والطاقات الموجودة في الإنسان، أو الإنجازات التي تمت على يديه، وأيُّ فضلٍ لعربي ما حقق لنفسه ولا لدينه تقدماً.(132/5)
التحريش الديني
إن أخطر ألوان التحريش؛ هو التحريش الديني.
فالخلاف على الدنيا قديم، وليس من الخطورة بمكان؛ أن نختلف على قطعة أرض، أو على أمرٍ دنيوي، أو على لعاعة، أو على منصب، أو على كرسيٍ أو مالٍ أو جاه، ما لم يلبس هذا الخلاف لبوس الدين، أو يجعل الدين خادماً لأهداف الدنيا ومطامعها.
إنما التحريش الخطير والأمر الجلل؛ أن يختلف الناس في دينهم فيصبحون شيعاً وأحزاباً، وقوارع القرآن تقرع آذانهم، تحذرهم صباح مساء أن يفرقوا دينهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وقوله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تطيعوا من ولاه الله أمركم، وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا} .(132/6)
الآثار المترتبة على الخلاف في المسائل الدعوية السابقة
وقد ترتب على إثارة هذه المسائل وغيرها؛ آثارٌ خطيرة لا بد من الإشارة إليها، هذه الآثار تقع بيننا شئنا أم أبينا، وباختصار أقول لكم من هذه الآثار: أولاً: فساد القلوب: إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر فالقلوب قد تغيرت ولم تعد على ما كانت عليه، ودخلها التباغض والشحناء والكراهية وسوء الظن وغير ذلك من الأمراض، وأصبح من العسير أن أتعامل مع أخي فلان دون حساسية، أو دون أن أحمل في قلبي شيئاً من الكراهية، أو البغضاء عليه.
ثانياً: ضياع الأوقات في القيل والقال، والكلام في فلان وعلان، وهذه الجماعة أو تلك، وربما أصبحت -عند الكثيرين- تشغل من الوقت أكثر مما ينشغل الإنسان بقراءة القرآن، أو تعلم السنة، أو العبادة، أو الدعوة إلى الله، أو غير ذلك من الأعمال، وأنت ترى أن الناس اليوم إذا رأوا في الشارع اثنين يتخاصمان التفوا حولهم واجتمعوا، وإذا رأوا سيارتين اصطدمت إحداها بالأخرى؛ تجمع الناس وتجمهروا، لينظروا من أخطأ ومن أصاب، وهذا يتحمل (50%) وذاك يتحمل (60%) فمن طبيعة الناس إذا لم يوجهوا ويعلموا ويرشدوا، أن يهتموا كثيرًا بأسباب الخلاف والفرقة، ويدندنوا حولها، ويركضوا وراءها، ويغفلوا عن الأمور الجليلة المهمة.
ثالثاً: ضياع الجهود وتناقضها، وتدمير بعضها البعض فأنا اليوم -مثلاً- أكتب ورقة أحط فيها من قدر فلان وأتكلم عنه، وربما اتهمته بما هو منه براء، وربما رددت عليه بالحق أو بالباطل، وأنشر هذه الورقة بالآلاف بين الناس، وكل همي أن يعلم الناس أن فلاناً مخطئ غير مصيب، ففلان هذا يرى في نشر هذه الورقة ظلماً له، واعتداءً عليه، وهضماً لحقه، فيقوم ويبذل جهوداً كبيرة في مصادرة هذه الورقة ومحاربتها، وفي النهاية لم أستطع أنا أن أوصل ما أريد إلى الناس، وأصبح جهدي يضيعه هذا، وأصبحت أنا أستنزف منه جهداً كبيراً في مقاومة ما أعمل، فلا أنا الذي انتفعت ولا هو، وصار الناس لا يدرون أين يكون الحق! رابعاً: تنفير الناس من الدعوة إلى الله وأهلها، وانحراف بعض الناس بسبب الخصومة والصراع حولهم، فكل إنسان يجره إلى مذهبه أو طريقته أو طائفته، وربما كان من نتائج ذلك؛ أن ينحرف ويترك الخير، وآخرون عزفوا عن الدعوة وعن التعليم؛ لأنهم يقولون: إذا كان فلانٌ -وهو من هو في العلم أو الدعوة أو الجهاد- عنده مثل هذه الأشياء، ويتهم بمثل هذه الأمور، فما هو الظن بنا ونحن لا نظن يوماً من الأيام أن نصل إلى منزلته ودرجته ومرتبته، إذاً فمن الأولى لنا أن ننزل من أول السِلََّم، وألا نشتغل بهذه الأمور ولا نسلك هذا الطريق، فأصبحنا نصد -أحياناً- عن دين الله تعالى ودعوته وطريقته، من حيث نشعر أو لا نشعر.
خامساً: أننا أعرضنا عن العمل الجاد المثمر، أعرضنا عن العلم النافع، ولم نعد نملك الجلد فيه، وأعرضنا عن العبادة الصحيحة التي فيها صفاءُ القلب، والقرب من الله تعالى، وهي من أسباب دخول الجنة، وأعرضنا عن الدعوة الصادقة للمجتمعات، والقدرة على اختراق المجتمع والتأثير فيه، والوصول إلى طبقاته، إلى الرجال والنساء والشباب، وإلى المنحرفين والتجار والمسئولين، لماذا؟ لأننا انشغلنا عن ذلك كله بالقيل والقال.(132/7)
مسائل واقعية اختلف فيها
وأنت اليوم لو نظرت للواقع، لوجدت مسائل كثيرة حادثة، تكلم فيها الكثيرون بعلم، وتكلم فيها الكثيرون بغير علم، وكانت من أسباب الخلاف.
ومن أمثلة ذلك: الجهاد الأفغاني، والجماعات القائمة بالجهاد هناك، ومثل ثاني: الجهاد والقتال، والدفاع عن النفس في البوسنة والهرسك.
ومثل ثالث: طبيعة النظرة إلى الأنظمة والحكومات القائمة في العالم الإسلامي، والتي تحكم بغير شريعة الله تعالى، والموقف منها، وحكم الاشتراك فيها، أو الدخول في مجالسها أو برلماناتها أو أجهزتها أو غير ذلك.
ومثل رابع: حكم المشاركة في المؤسسات القائمة في العالم الإسلامي، والتي يكون فيها منكرات، ويضطر الذي يدخل فيها إلى بعض التنازلات، وإلى السكوت عن بعض المنكرات التي يعلم أنها حرام؛ تحصيلاً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ هذه المسائل أنا لم أعرضها لأقول فيها رأياً؛ ولكنني عرضتها كنماذج للقضايا الخلافية الاجتهادية، التي تحتاج إلى معرفة بالشرع، ومعرفة بطبيعة الواقع التي تتكلم فيه، وإلى سعة في العقل والفهم والإدراك، وهي أيضاً -مع هذا كله- من المسائل الاجتهادية، التي لا يمكن أن تكون سبباً في الفرقة والخلاف والتباعد والولاء والبراء وغير ذلك.
فالمسائل الاجتهادية الواقعية؛ ينبغي أن نملك فيها قدراً من التفاهم والنقاش الموضوعي العلمي الهادي، بعيداً عن الحرب التي يشنها أحدنا على الآخر، أو الولاء والبراء في مثل هذه المسائل.
وفي المسائل الدعوية.
فمع الاتفاق على أن الدعوة إلى الله واجبة وعلى أهميتها، إلا أننا نجد اختلافاً واسعاً بين الدعاة من أهل العقيدة الواحدة، ومن أهل المنهج الواحد، في مسائل كثيرة جداً.
فمثلاً: الجماعات العاملة للإسلام، والتفضيل بين هذه الجماعات أو الانتماء إليها.
مثل ثان: وسائل الدعوة إلى الله تعالى، هل هذه المسائل توقيفية، لا يجوز لنا أن نستخدم وسيلة إلا أن تكون قد استخدمت قبلنا، استخدمها الرسل وأذنوا بها عليهم الصلاة والسلام؟ أم أن وسائل الدعوة اجتهادية، ومن حقنا أن نستخدم كل وسيلةٍ مفيدة، ما لم تكن محرمة علينا بنصٍ شرعي؟ مثل ثالث: الأولويات في الدعوة إلى الله تعالى، بماذا نبدأ بالدعوة؟ إلى غير ذلك.
هذه وتلك وما قبلها؛ أمثلة لمسائل من الأمور التي يثور فيها الخلاف بين المسلمين، بل بين طلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى، وهي من أكثر الأشياء تفريقاً للصفوف وتمزيقاً لوحدتها.(132/8)
المسائل الواقعية والشروط اللازمة فيمن يقوم بمعالجتها
وهذه المسائل المتعلقة بالواقع أقرب إلى الاختلاف من المسائل الفقهية، فالمسائل الفقهية فيها نصوص -أحياناً- وفيها أصولٌ عامة، أما المسائل الواقعية فقد لا يوجد فيها نص يعالج المسألة بذاتها، وقد يدخلها شخص تحت نصٍ، ويدخلها غيره تحت نصٍ آخر، وأكثر هذه المسائل الواقعية تخضع لأبواب السياسات الشرعية، التي تتفاوت فيها الأنظار ويختلف فيها النُظَّار، وتحتاج لمن يعالجها ويعاينها إلى ثلاثة أمور، قد لا تتوفر للكثير ممن يبحثون في هذه الأمور: الأمر الأول: العلم بالشرع.
فإن الله تعالى قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تركت أمراً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أنبأتكم به} وقال بعض الصحابة: [[ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائراً يقلب جناحيه في السماء، إلا بين لنا منه علمًا]] فقد علمهم كل شيء.
فلا بد أن يكون من يتصدى للمسائل الواقعية الحادثة متدرعاً بالعلم الشرعي، من معرفة الأصول العامة، والنصوص الشرعية، والقواعد الكلية، التي هي كالنور الهادي لمعرفة ما حدث وجدَّ بين الناس.
الأمر الثاني: المعرفة بالواقع.
فأنت تريد أن تحكم على واقع، وكيف تحكم على شيء لا تعرفه؟ أرأيت لو أن شخصاً استفتاك في مسألة، ولو كانت من صغار المسائل، هل كنت تستطيع أن تفتيه في هذه المسألة وأنت لم تتصور سؤاله ولم تعرف الحادثة؟ هبها مسألة في الطلاق، أو في النكاح، أو في الحيض، أو في اللحوم أو في غيرها، لم تكن لتفتيه في ذلك ولو كنت تحفظ القرآن، والحديث، وتعرف الأصول والقواعد؛ إلا بعد أن تتصور الواقعة تصوراً صحيحاً، والفقهاء يقولون: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولهذا في علم الأصول قسَّم العلماء الأحكام إلى قسمين: القسم الأول: الأحكام التكليفية: وهي الواجب والمحرم، والمندوب، والمكروه، والمباح.
والقسم الثاني: الأحكام الوضعية، المتعلقة بأفعال المكلفين، من صحتها أو فسادها أو غير ذلك، وهذا لا يتسنى إلا بمعرفة أحوال الناس وأفعالهم، وإعطائها الحكم الذي تستحقه، فلا بد لمن يتصدى لمسائل الواقع؛ أن يكون عنده معرفةً بالواقع أو الوقائع التي يتكلم عنها.
القسم الثالث: أن يملك الإنسان سعة العقل والفهم والإدراك.
فإن الكثيرين يؤتون من ضعف عقولهم، وضعف مداركهم، وقلة فهمهم، فيطبقون الأشياء على غير مجالاتها، ويحكمون في الأمور بغير حكم الله ورسوله فيها؛ بسبب أنهم لا يملكون القوة في التصور، خاصةً إذا تصورت أننا في هذا الزمان نواجه أحوالاً وأوضاعاً ومسائل وأموراً في غاية التعقيد والتشابك والصعوبة، وهي بحقٍ تعد من النوازل، التي تحتاج -في كثيرٍ من الأحيان- إلى أن يتنادى علماء الأمة وفقهاؤها، إلى مؤتمرات ومجامع ومجتمعات ليتباحثوا ويتناقشوا ثم يخرجوا فيها برأيٍ موحد، أو بآراءٍ متقاربة.
ولذلك لما جاء التتار مثلاً إلى المسلمين في القرون السابقة، في القرن الخامس والسادس والسابع، جاء التتار ثم أظهروا الإسلام، ووجد معهم أئمة ومؤذنون وقضاة، وكانوا يحملون المصحف، ويقرءون القرآن، ويصلون، ووقع عند الناس لبس عظيم، فكان من الناس من يقول: كيف نقاتلهم وهم مسلمون؟ ومن الناس من يقول: نقاتلهم لأنهم معتدون وبغاة، واختلف الناس في ذلك، حتى بعض العلماء والمنسوبين إلى العلم، إلى أن قام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فأصدر فتواه الشهيرة في أمر التتار، وهي موجودة في مجموع الفتاوى، وأزال اللبس الموجود عند الناس في ذلك، ونبه إلى أنه لا يمكن أن يحيط بمثل هذه المسائل إلا من عرف الشرع وعرف الواقع، ثم أفتى في ذلك بفتواه الشهيرة المعروفة.(132/9)
شباب الصحوة وجدل حول مسائل الاجتهاد الفقهي
ومع ذلك أرى اليوم من شباب الصحوة؛ من لم يتفطن إلى بُعد الهوة والشقة بيننا وبين هؤلاء الأعداء، ولا إلى عمق التأثير الذي أحدثوه فينا وفي بلادنا، وأدياننا وعقولنا، وأصبح مشغولاً بالأقربين، يحاربهم ويعمل على مقاومتهم، ويتصدى لتأثيرهم، ويبذل وسعه في الوقوف في وجوههم، فصرنا في جدلٍ لا يهدأ، ولا يقر له قرار ولا يهدأ له أوار، حول مسائل اجتهادية تحتمل الخلاف.
والعجب كل العجب؛ أن كل من حادثته في أمر الإسلام، وتفرق المسلمين، واختلاف الدعاة؛ وجدته يحمل قلباً يتحرق على هذا الاختلاف، ويتميز غيظاً لهذا التفاوت، ويحزن ويتباكى على هذا الصف المنقسم، والوحدة المشتتة؛ ولكننا في الوقت الذي نتباكى فيه على الوحدة، ونصيح فيه على الاختلاف، إلا أننا جميعاً جزءٌ من هذا الواقع الفاسد المريض، الذي يقيم معنا حيث أقمنا، ويرحل معنا حيث ارتحلنا، فإن بقينا في ديارنا بقي الخلاف والشتات معنا، وإن رحلنا لنصرة حقٍ هنا، أو إقامة جهادٍ هناك، نقلنا جراثيمنا وأمراضنا حيث انتقلنا، وهناك وجد التناقض والاختلاف بيننا كما وجد في بلادنا، وكأن هذا يوحي إلى أننا حين نبكي على الفرقة ونحزن لها؛ نتمنى أن يجتمع الناس على رأينا ومذهبنا، وعلى جماعاتنا، وعلى متبوعنا، وهيهات هيهات! ما اجتمع الناس على الحق حتى يجتمعوا على الباطل! وما اجتمع الناس على النص حتى يجتمعوا على رأيي أو على رأيك؟! ونحن جميعاً نقر من الناحية النظرية، أن المسائل الفقهية الخلافية مما لا ينبغي أن تكون مجال تضليل أو تفسيقٍ أو تبديع، وا ولاءٍ ولا براء، فلا ينبغي أن أسبك أو أعاديك أو أحاربك، أو أنقص من قدرك، لأنك اختلفت معي في مسألةٍ فقهية خلافية، ليس فيها حقٌ وباطل، وهدىً وظلال، وإنما فيها راجح ومرجوح، وصحيحٌ وأصح.
فمن الناحية النظرية ربما نقر كلنا بهذا لكن حين أصلي إلى جوارك وأراك تضع يديك على صدرك وأنا أضعها تحت الصدر؛ أشعر بشيءٍ من عدم الرضا عنك، وأنسى أن هذه مسألة خلافية، تحتمل الاختلاف حولها، وحين أراك تخر ساجداً فتقدم ركبتيك، أنسى أن هذه مسألةٌ خلافية، أجمع العلماء أنه لا مدخل لها في أركان الصلاة، ولا في شروطها، ولا في واجباتها، وإنما الخلاف في الأولى والأفضل من ذلك، أنسى هذا وأحمل في صدري عليك شيئاً! لأنني أرى أنك خالفتني حينما قدمت ركبتيك قبل يديك وأنت تهوى إلى السجود.
ومثله حين أصلي إلى جوارك، فأراك تجلس جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى أو الثالثة؛ فأجد في قلبي عليك شيئاً، وأحس أنك خالفتني في هذا الأمر، ولا يقف الحد عند مجرد الجدل بالتي هي أحسن، والنقاش العلمي الموضوعي، بل يتعدى إلى ارتفاع الأصوات، ويتعدى إلى التنابز وإلى الاختلاف، وربما قلت لك يوماً من الأيام: صحيح أن هذه المسائل فرعية وخلافية، ولكنها أصبحت شعارًا لفئةٍ أو طائفة، فلا بد من التميز بها.
لماذا أجعل الأشياء في غير مواقعها الشرعية، وأخلف المدارات التي وضعها فيها الشارع الحكيم؟ وهكذا آلاف المسائل التي لو ذكرت لكم اليوم بعضها، ربما ثار الخلاف حول كلامي نفسه، وربما أحجم البعض عن مواصلة السماع لما أقول، لأنه رأى أنني لمست قضية تمسه وتخصه هو شخصياً، فنحن نوافق على ذم الخلاف والفرقة، ولكننا لا نوافق أن يمس أحد ما نهتم به ونعانيه، ونعتبره جزءاً من تكويننا وشخصيتنا ووجودنا، ولا نقبل النقاش الهادئ حوله مع الأسف الشديد! بل أحياناً يتعدى الأمر إلى أن نربط المسائل الاجتهادية الشرعية الفرعية، بأصل أو بمنهج، وذلك محاولةً منا لتأصيل الخلاف بيننا وتعميقه، وكأننا لم نقنع بالخلافات الحقيقية التي تعصف بالأمة، فصرنا نلتمس سبيلاً لمزيدٍ من الخلافات الوهمية، التي نريدها أن تجهز على البقية الباقية من إخائنا ومحبتنا ووحدتنا وصفاء قلوبنا، هذا مثل وهو متعلق بالمسائل الفقهية.(132/10)
خطر عظيم يهددنا
إننا اليوم أمام هجمةٍ عظيمة من الكفار، النصارى الذين يعملون اليوم على تحويل الأمة الإسلامية إلى أمةٍ غير ذات رسالة، أو اليهود الذين يسعون إلى جعل المنطقة الإسلامية منطقة نفوذ لليهود، تتعاون فيها خبرة اليهود مع رأس المال العربي أو الخليجي بالذات، أو مع اليد العاملة المصرية؛ لتكوِّن بناءً واحداً يهيمن عليه بنو إسرائيل.
والمنافقون المندسون في الصفوف اليوم، والذين يستخدمون الأدب والشعر والصحافة والتلفاز والإعلام والمنصب والمدرسة والجامعة وكل وسيلة؛ لتغيير عقليات المسلمين وأفكارهم، وهؤلاء المنافقون يعتبرون طابوراً خامساً داخل الصف المسلم لأعدائنا من اليهود والنصارى.
والمشركون الوثنيون، الذين يحاربون الإسلام، عبدة البقر في الهند يقتلون المسلمين، وعباد الأوثان، بل البوذيون، والهندوس، وألوان المشركين، وما يدريك أن يكون لنا معركة قادمة مع بعض هؤلاء؟! ربما ننسى في إوارها بعض عداوة أهل الكتاب، كل هذه الهجمة المشتركة تستهدف وجودنا، وعقيدتنا، وديننا، وأخلاقنا، وهي تحتاج -ولا شك- إلى جمع الكلمة لمواجهة هذا الكيد العظيم المدبر المدروس، المدجج بأحدث ألوان التقنية الغربية.
أمام هذا نجدُ -أيضاً- هجمة من المتحالفين على المسلمين، المتحالفين على الانحراف الفكري، والانحراف العقدي، ممن يحملون الثارات التاريخية، والأحقاد المذهبية، ويتربصون بنا الدوائر، ويحاولون أن يحيطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم، وهؤلاء وأولئك على بعد الشقة بيننا وبينهم، فنحن نحمل الهداية وهم يحملون الضلال والكفر البواح، ومع ذلك فقد استطاعوا أن يجتاحوا الكثير من المسلمين؛ بل من أهل السنة والجماعة، ومن أصحاب المنهج الحق، ومن المتبعين لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
إذاً هم أولاً: أعداء معلنون بالعداوة، والشقة بيننا وبينهم بعيدة جداً.
وهم ثانياً: قد نجحوا في تضليلنا وإفسادنا، وإهدار كرامتنا، ونهب ثرواتنا، وتغيير عقولنا، بل نجحوا في تغيير عقائد الكثير من المسلمين، وهناك دولٌ ومدن وأقاليم وأفراد وطوائف، قد لحقت بالنصارى، وأخرى لحقت باليهود، مصداقًا لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان: {ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} .(132/11)
عشرون نصيحة
إن ما سوف أقوله لكم الآن هو دين أدين الله تعالى به، فأنا لا أكلمكم لأنصر مذهباً على مذهب، ولا طائفةً على أخرى، ولا أدعوكم لشخصٍ على حساب شخص آخر، اللهم إلا أننا ندعوكم إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، إيماناً به، وحباً له، ودعوةً إلى دينه وشريعته، والتزاماً بسنته، وتعلماً لسيرته، وصلاةً وسلاماً عليه صلى الله عليه وسلم صلاةً وتسليماً دائمين إلى يوم الدين، فهو إمام الأئمة، وقدوة الدعاة والعلماء، أما من سواه من الأشخاص؛ فلا ينبغي أن يكونوا متبوعين لنا، أو أن نكون دعاةً لفلانٍ أو علان، إن ما نقوله لكم نقوله نصرة لدين الله تعالى، وإن شاء الله أن الله تعالى لا يعلم من قلوبنا إلا أننا نقول ما نقول رغبةً في جمع كلمة أهل الخير والحق، وتوحيد صفوفهم، وأن يقوموا بعمل جاد ينصرون به دين الله تعالى، ويكون نكاية للكفر والشرك والنفاق وأهلها، هذا كل ما نتمناه ونريده، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا جميعاً على الحق.
إنني أعلم قبل أن أذكر هذه النصائح، أن أهل هذه البلدة المباركة، هم بحمد الله تعالى على أحسن حال، من الوحدة والوفاق والانسجام، والبعد عن أسباب الفرقة والخلاف، ولكنني لا أتحدث معكم إلا لأمرين: أولاً: أن ذلك تحذيراً من سلوك سبيل التفرق، الذي لم يأل الشيطان جهداً معكم ومع غيركم، والتحذير من الشر قبل وقوعه أولى من التحذير منه بعد وقوعه.(132/12)
دع الخلق للخلاق تسلم وتؤجر
لماذا تكون مجالسك كمجالس القصابين والجزارين؟ تتكلم في فلانٍ وفلانٍ، وتعطي الفرصة حتى تتكلم فيهم بالظن، أظن فلاناً كذا، وأخشى أن فلانًا كذا، لماذا لا تربي نفسك، ومن حولك على ألا يكون ثمَّ مجالٌ للكلام في الناس، ولو مت وأنت لم تتكلم فيهم ما ضرك هذا شيئاً، ولو لقيت الله تعالى وأنت لم تلعن فرعون وهو أكفر الخلق في زمانه، ما سألك الله لماذا لم تلعنه بذاته؟(132/13)
استحضر أنك في آخر الزمان
فإن هذا ولا شك من أواخر الزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وكلما تقدم الزمن بالناس، بعُد عهدُهم بالرسالة والنبوة، وقلَّ العلم ورفع العلم ونشر الجهل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في الصحيح وغيره، وأصبح الإنسان في حيرةٍ من أمره، وقلَّ الخير وكثر الشر، وقلَّ الإخلاص، وكثرت الفتن، إلى غير ذلك، فينبغي أن تتصور هذه الصورة الكلية، حتى تكون معتدلاً، وتعرف ماذا يجب أن تعمل.(132/14)
عليك بالورع والاحتياط
الورع والاحتياط فيما يتعلق بأمر الناس، أفراداً وجماعات، ولأن تخطئ بحسن الظن؛ خير من أن تخطئ بسوء الظن، ولأن تخطئ بالعفو خيراً من أن تخطئ بالعقوبة.(132/15)
جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم
وأخيراً أقول لكم: إننا لن نفلح في جمع كلمة المسلمين؛ ما لم نفلح في جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم، ولن نفلح في جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم من أهل السنة على أمرٍ سواء، ما لم يكن هذا الهم -همُّ توحيد الأمة، وتوحيد الدعاة، وتوحيد الشباب، وتوحيد الصحوة- ما لم يكن هذا هماً يقلقنا، ويملأ عقولنا، ويجعلنا نتقلب على فرشنا في الليل لا يجد النوم إلى أعيننا سبيلاً، من الأحزان التي نعانيها بسبب التفرق والشتات والاختلاف والتطاحن والتنازع، أما ما دمنا ننام ملء جفوننا ولا نبالي، ولا نقيم وزناً لهذه القضية، ولا تحزننا وتقلقنا وتحرق قلوبنا، فإننا لن نستطيع أن نقوم بهذا العمل.
أسأل الله جل جلاله، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم، أن يجمع كلمة المسلمين على الحق إنه على كل شيء قدير.(132/16)
حسن الظن
أحسن الظن بإخوانك الآخرين، والتمس لهم سبعين عذراً، فإن لم تجد فقل لعل له عذراً، لا أعرفه، وبالحق والصراحة أقول لكم، وقد جالست الكثيرين من الدعاة وطلبة العلم والشباب: لقد رأيت أننا جميعاً نحتاج إلى حسن الظن، وأحياناً نفسر فعل فلان أو قوله على أنه لا يحتمل إلا أمراً واحداً، ولو أننا أعطينا عقولنا بعض الفرصة والفسحة، لوجدنا أن هذا الفعل أو القول له ألف تفسيرٍ وتفسير، ولكن ضاقت عقولنا عن أن نحسن الظن به.(132/17)
التماس العذر
هب أنه أخطأ فعلاً، وأنه لا مجال لحسن الظن في هذا الخطأ، لماذا لا تلتمس العذر له، ولإخوانك المسلمين؟ وتنظر في الأسباب التي أدت إلى هذا الخطأ، انظر مثلاً إلى المسلمين الذين خرجوا من جحيم الشيوعية، سبعين سنة وهم تحت مطارق الشيوعية، هل تظن أنه بمجرد سقوط الشيوعية سيتحولون إلى علماء وإلى دعاة، وإلى عباد، وإلى أناسٍ اعتقادهم صحيح، وقولهم صحيح، وعملهم صحيح! أبداً، فإذا وجدت إنساناً منهم يشرب باليسار، أو يرتكب معصية أو مخالفة، أو يقصر حتى في الصلاة، قلت: هذا ليس بمسلم! لا، بل هذا مسلم، ولكنه ظل أكثر من سبعين عاماً تحت تسلط الشيوعية، التي فرضت عليه سوراً حديدياً، وحرمت عليه حتى أن يقتني المصحف، فضلاً عن أن يقرأه أو يحفظه أو يتعلمه أو يعمل به أو يدعو إليه، فلا بد أن تضع في اعتبارك الظروف والأسباب والملابسات والخلفيات، التي جرت إلى الوقوع في هذا الخطأ.
ومما ينبغي أن يقال في مجال التماس العذر، أن العلماء الكبار، والدعاة والمخلصون، والقادة المشهورون، وأهل البلاء في الجهاد والدعوة -على سبيل الخصوص- ينبغي أن يلتمس لهم الأعذار فيما وقعوا فيه بوجهٍ خاص، وقد ألف الإمام ابن تيمية كتاباً سماه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".(132/18)
ضرورة التناوب في القيام بفروض الكفايات
إنني أعترف لك اليوم؛ أنه لا أنا ولا أنت نستطيع أن نقوم بالواجبات كلها، فأنا قد أستطيع أن أقوم عنك بواجبٍ واحد من الواجبات الكفائية، وأنت تقوم بواجبٍ آخر، فإذا قمت أنا بعملٍ وأنت قمت بآخر، تم بحمد الله عمل عظيم كبير، وهذا لا يعني أننا اختلفنا في مناهجنا ودعواتنا، بل يكمل بعضنا بعضاً، ويعزز بعضنا بعضاً، فمنا من يهتم بأمر السياسة، وماذا جرى للمسلمين، ويحلل الأحداث، ويكشف مخططات الأعداء، ويبصر الأمة بالخطر الذي يهددها في عقيدتها وفي بلادها وفي ثرواتها في شبابها، إلى غير ذلك.
وهذا الإنسان لا نضطره ضرورة أن يبحث في الفقه، وأن يشتغل بالوعظ، وأن يتكلم في أمور العقائد، وأن يحيط بكل قريب وبعيد، فنقول: جزاه الله خيراً وكثر الله خيره، ويكفينا منه أنه سد عنا هذه الثغرة، وكفانا هذا الباب وهذا السبيل.
وأمامنا إنسانٌ آخر اشتغل بالفقه والتعلم، وثالثٌ اشتغل بالوعظ والإرشاد، ورابعٌ اشتغل بالدعوة، وخامسٌ اشتغل بجمع الأموال والتبرعات، وسابعٌ اشتغل بالجهاد في سبيل الله ومناصرة قضايا المسلمين، وثامنٌ وتاسعٌ وعاشر ونحن نعتبر أن هذه الأعمال كلها يكمل بعضها بعضاً، ولا يعني أن من اشتغل بشيءٍ لا بد أن يشتغل بكل شيء، وأن من أصبح شيئاً لا بد أن يكون كل شيء، يكفي أنه قام ولو ببعض الواجب.
مع أنه لابد من قدر مشترك عند الجميع، من معرفة الدين، ومعرفة العلم الشرعي الفرضي الذي هو فرض عين على كل إنسان، والاعتدال والتعقل، والحرص على مبادئ الأخوة الإسلامية، والأمة عبر التاريخ كله كانت تطبق مبدأ التخصص، ففلانٌ فقيه، وفلانٌ محدث، وفلانٌ مجاهد، وفلانٌ سياسي، وفلانٌ حاكم، وهكذا.(132/19)
الكلمة الطيبة
قال الله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {الكلمة الطيبة صدقة} فأحياناً صفاء قلبي نحوك يغريني بأن أتساهل في العبارات والألفاظ، وهذا في الواقع غير صحيح، فإن فُرض أن قلبي قد صفا، فربما لا تصفوا قلوب الآخرين، فأجعل هناك كلمةً طيبةً لا يكون فيها مجال للتأويل وسوء الظن، أو دخول الشيطان، والفكرة الواحدة قد تعبر عنها بأكثر من تعبير تقول: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فأنت أحياناً ترى شخصاً مهتماً بالسياسة، ودراسة الأحوال السياسية للمسلمين، بإمكانك أن تقول: جزاه الله خيراً كفانا هذا الباب العظيم، الذي قل من يهتم به، فتكون بذلك قد أثنيت عليه، وإن كنت بينت أنه اهتم بجانبٍ واحد فقط.
وأحياناً قد تقول: هذا الإنسان لا هم له إلا الكلام في السياسة، فتكون ضمنت هذه الكلمة شيئاً من معنى التنقص والازدراء للجهد الذي قام به.
وأحياناً ترى شاباً متحمساً للدعوة، فتقول: هذا الإنسان جزاه الله خير، صحيحٌ أنه متحمس، فهذه الكلمة توحي بأن لك عليه ملاحظات، وأن هناك انتقادات كثيرة، ولو أنك قلت: إن هذا الإنسان ما شاء الله تبارك الله، هذا الشاب إذا رأيت توقده وتحمسه واندفاعه؛ حرك في قلبك كوامن الغيرة لدين الله تعالى، لكان في ذلك قولاً بالتي هي أحسن.(132/20)
سعة الأفق
إن الكثيرين وقعوا ضحية التفكير الضيق، والإطار المحصور بسبب فساد التربية أحياناً، أو بسبب طبيعة التكوين والمواهب، فالكثيرون لا يرون إلا ما هو أمام أعينهم، واهتماماتهم في الغالب اهتماماتٌ صغيرة ومحدودة ومحصورة، لقد استحوذت مشكلةٌ خاصة محصورة صغيرة على تفكيري، وملأت في عقلي، ولسبب أنني لم أنشغل بما هو أهم منها، بل ربما لم أدرِ بما هو أهم منها.
فمثلاً: إنسان جاره فقير، لا يجد ألوان الأطعمة والمأكولات، فتجد أن هذا الإنسان يتصور أن مشكلات الدنيا انحصرت في هذا الجار الفقير، الذي لا يجد ألوان الأطعمة والأغذية والمأكولات، لكن لو تصور هذا الإنسان الآلاف المؤلفة، ممن يموتون جوعاً أو عطشاً أو فقراً، أو لا يجدون الغذاء أو الكساء أو الدواء؛ لتصور مشكلة هذا الجار الفقير في إطارها الطبيعي الصحيح.
ولذلك تجد أن الأمم في الأزمات الكبرى العامة التي تجتاح الأمة كلها، تتغير فيها التحالفات، وتتفاوت الاهتمامات؛ وذلك لأن صدمة الحدث وقوته غيرت تفكير الكثيرين، وأجبرتهم إجباراً على النظر والتفكير، واقتحمت مجالات ومدارات التأمل لديهم، واضطرتهم إلى تغيير اهتماماتهم، ولكن في أزمنة السلم والهدوء يتكرس عقل البعض كثيراً لما حولهم، وما يرون ويسمعون في محيطهم القريب، دون أن يفتحوا نوافذ العقول إلى سماع ورؤية ومشاهدة الهموم الكبرى التي تعدل اهتماماتهم.
أرأيت لو أننا -مثلاً- تصورنا التنصير الذي يهدد المسلمين -وقد تكلمت عنه كثيراً بما لا أجد حاجةً لإعادته الآن- فتصورنا خطر التنصير الآن على الأمة الإسلامية، في هذا البلد وفي كل بلد، وتصورنا خطر الصلح الذي يدار اليوم مع اليهود في ما يسمى بإسرائيل، وتابعنا ما يجري في الساحة الإسلامية، سواء في أفغانستان، أو في السودان، أو في البوسنة والهرسك، أو في جميع القضايا الإسلامية، وأمر آخر: لو أننا عرفنا نوع الانحرافات التي تقع من الشباب الموجود في مجتمعنا، ماذا يواجهون، وماذا يفعلون، ما حجم تأثير المخدرات، ما حجم تأثير الأفلام السيئة، وما حجم تأثير البث المباشر! ما حجم تأثير قرناء السوء! لوجدنا أمراً خطيراً.
لو أننا أدركنا المشكلات التي تعانيها المرأة في مجتمعنا، من الظلم أحياناً، والاعتداء على حقوقها، وبخسها ما أوجب الله تعالى لها، أو هضمها، أو منعها من الميراث، أو جهلها بدينها، أو غير ذلك، إلى عشرات بل مئات بل ألوف الاهتمامات، التي لو وضعها الإنسان كلها أمام نظره، لاعتدل أمامه الميزان فأعطى كل ذي حق حقه.(132/21)
العدل والتوسط والإنصاف
ولا بد من العدل في الأقوال والأحكام كلها، فإن الأعمال البشرية لا تخلو من نقص مهما سعت إلى الكمال، ولكنها أيضًا لا تخلو من خيرٍ وصواب مهما وجد فيها من النقص، مما نعنيه بالأعمال البشرية، الجماعات الإسلامية مثلاً، فوجود الجماعات وتكوينها وقياداتها وأعمالها، هذا عملٌ بشري، والنشاطات الجهادية، سواء في أفغانستان، أو الفلبين، أو البوسنة والهرسك، أو السودان، أو أي بلد إسلامي آخر، والنشاطات العلمية، الدروس والمحاضرات والكتب والحوارات، والمناظرات والدورات، إلى غير ذلك، كل هذه لا تخلو من نقائص، فينبغي أن ينظر إليها الإنسان بعين العدل والإنصاف، لا بعين البحث عن أخطاءٍ أو زلات، ولا بعين الذي يفترض لها الكمال المطلق، ولا يقبل فيها أي قدر من النقص.(132/22)
تصحيح النيات والمقاصد
ليس الهدف هو إسقاط هذا الشخص أو تلك الجماعة؛ من أجل أن نحل محلها، أو نثبت زيغها أو زيفها، وهب أنني نجحت في إسقاط فلان وفلان، فمن للناس ومن للمسلمين؟ إذا أنت أسقطتني وأنا أسقطتك، وأنت نجحت في تشويه صورتي وأنا نجحت في تشويه صورتك، من للمسلمين؟ من للشباب؟ من للدعوة؟ من للمساجد؟ من للمنابر؟ من للكتب؟ فلنتق الله تعالى في دينه عز وجل.
وقفت على كتاب يتكلم عن تناقضات أحد المؤلفين، فوجدته يذكر أن هذا المؤلف تناقض بمائة أو ألف، أو بأكثر من ذلك من التناقضات العلمية، فقلت في نفسي: لا بأس! من حق الإنسان أن ينتقد غيره، فوجدت أنه يعلق عقب كل موقفٍ يذكر فيه تناقضاً لهذا العالم أو المحدث، ويفرغ بعض ما في قلبه من الحقد، فأنا أقبل منك -مثلاً- أن تقول: إن فلاناً تناقض، فصحح الحديث في موضع وضعفه في موضعٍ آخر، أو حسنه في موضع وحكم عليه بأنه موضوع في مكانٍ ثانٍ، أقبل منك ذلك؛ لأنك يمكن أن تثبته لي بالأرقام والصفحات، لكن لماذا تعلق على هذا بعد كل مرة، بأن هذا دليل على جهله، وهذا دليل على عدم فقهه، وهذا دليل على عدم معرفته باللغة، وهذا دليلٌ على أنه يُخدم في هذه الأعمال، لماذا تنفث أحقادك من خلال هذه الأشياء العلمية؟ ولماذا لم تجعل عملك علمياً محضاً حيادياً بعيداً عن العواطف؟ ودع القراء هم الذين يحكمون ويقولون الكلام الذي تريد، أو يقولون ضده ويلتمسون العذر لهذا الإنسان، ففرقٌ بين من ينتقد نقداً علمياً موضوعياً، وبين من نيته وقصده إسقاط هذا العلم، أو هذا الشيخ، أو هذا الداعية، أو هذا الإمام.(132/23)
الاختلاف لا يعكر الأخوة وروابط الولاء
فأمامنا القرآن الكريم، الذي يُجمع المسلمون على أنه نصٌ قطعي الثبوت، ومن شك أو تردد في حرف منه كفر، وأمامنا السنة النبوية الصحيحة، وهي كثيرةٌ جداً وتغطي مساحةً واسعة من أعمال الحياة العلمية والدعوية والجهادية والسياسية وغيرها، وأمامنا إجماع علماء الأمة، الأمة التي عصمها الله أن تجتمع على ضلالة، فهذه الأصول الثلاثة تشكل المنهج الكلي الذي يجب أن نتفق عليه، ولا نقبل له خرقاً بحالٍ من الأحوال، ولا يعني هذا أن ما سوى ذلك من حق أي إنسان أن يتكلم فيه، أو يخرج عنه، وأن الناس فيما دون ذلك سواء؛ لكن يعني أنه لا داعي للتفرقة والتنازع والحرب، وأن نقيم راية الولاء والبراء والحب والبغض، على مسائل ليس فيها نصٌ ولا إجماع، وإنما هي آراءٌ واجتهادات، هي صوابٌ يحتمل الخطأ أو هي خطأٌ يحتمل الصواب.(132/24)
العناية بالمطالب الشرعية
ولا بد من العناية بالمطالب الشرعية المتمثلة في المعروف الذي أمر الله به ورسوله، وفي المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، بماذا أمر القرآن؟ أمر بالبر، والتقوى، والإحسان، والإسلام، والإيمان، والعلم، والصلاح، والخير، والعمل الصالح، والعلم النافع، والعبادة، وصلة الرحم، والإقساط، وكل هذه الأمور من جلائل الأعمال التي ينبغي أن نوجه نفوسنا وغيرنا من المدعوين إليها، ومثل ذلك الحديث النبوي، وعن ماذا نهى القرآن؟ نهى عن الكفر والنفاق والشرك والعدوان والقطيعة، وغير ذلك من المفاسد التي ينبغي أن نشغل أنفسنا وغيرنا بتعلمها، والنهي عنها ومحاربتها والتحذير منها، ولو تأملنا كم تأخذ هذه الأشياء من وقت الدعاة، لوجدنا أنها لا تأخذ إلا القليل، أما الكثير من الوقت -خاصةً حينما نجتمع- فإننا نصرفه في أمورٍ لا نُسأل عنها يوم القيامة، فلو أننا أقبلنا على تعلم دين الله تعالى أصولاً وفروعاً، عقائداً وأحكاماً، وتعلم العبادة وتطبيقها، وتعلم الأخلاق الفاضلة، من صلة الرحم، والإحسان للجيران، والزملاء، والأقربين والأباعد، وغير ذلك، والدعوة إلى الله تعالى، وأن نصل إلى كل طبقات المجتمع، فنستطيع أن نصل إلى كل الشباب، ونصل إلى التجار، ونصل إلى المرأة، ونصل إلى الأطفال، ونصل إلى جميع الطبقات، ونخاطبها بالدعوة ونؤثر فيها، وأقل ذلك أن نكسب قلوبها وولاءها لدين الله -تعالى- ودعوته؛ لفعلنا خيراً كثيراً، ولو أننا أقبلنا على القراءة والانتفاع ومعرفة ما يجري، والجهاد في سبيل الله -تعالى- ومتابعة أخبار الجهاد، ومناصرة المجاهدين في كل مكان، وأقبلنا على الخطابة، وأقبلنا على التدريس؛ لوجدنا من جراء ذلك خيراً كثيراً، ولم يبق لدينا وقت نصرفه في قيل وقال.
إن الفراغ من أهم الأسباب التي تجعلنا -أحياناً- ننصرف تلقائياً لتلك الأقوال التي لا نخرج منها بطائل، وأيُّ ثمرةٍ يجنيها شابٌ وهو قد قضى عمره من سن السادسة عشرة إلى الثاني والعشرين، لا يحسن إلا الكلام في فلانٍ وعلان، مع أنه لا يزال غض الإهاب طرياً، لم يملك ناصية العلم والمعرفة، ولا عنده معرفةُ بالأصول، ولا غير ذلك، لأنه شُغل عنه بهذه الأقوال، وشغل ببنيات الطريق: فهذا الحق ليس به خفاءُ فدعني من بنيات الطريق(132/25)
لا تجعل من الأشخاص أو الجماعات أوالمصطلحات، منطلقاً للحديث والدعوة
فليذهب الأشخاص أياً كانوا، ولتذهب الرايات واللافتات والأسماء، وليبق دين الله وشريعته، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالأشخاص والجماعات والأعمال والكتب؛ ما هي إلا وسائل لنصرة دين الله عز وجل، فلماذا نختلف نحن حول فلان وفلان، مع أننا نتفق جميعاً على أصل الشريعة والدين والسنة؟ ولماذا نختلف على المصطلح الفلاني، مع أننا قد نتفق على مضمون هذا المصطلح أحياناً؟ ولماذا نختلف حول هذه الجماعة أو تلك، مع أننا متفقون على أمر الدعوة إلى الله تعالى؟ قال لي قائل يوماً من الأيام: فلانٌ يتكلم فيك، فقلت له: ماذا يكون إذا تكلم فلانٌ في؟ أنا أعلم أن محبتي ليست من الضروريات، ولا من الأمور التي أدعو الناس إليها، فإنسان اجتهد وتأول فكرهني لأمر رآه عليَّ، قد لا يضيره ذلك، وقد يستطيع هذا الإنسان أن يقوم بعملٍ للدين عظيم وكبير، يرفعه الله تعالى به عند الأولين والآخرين، حتى لو كان يسيء الظن بي وبغيري من الدعاة، أو طلبة العلم، وقد يكون هذا الإنسان صادقاً ديِّناً غيوراً صالحاً، فيجعله الله تعالى يوم القيامة من أهل الفردوس الأعلى حتى لو كان يسيء الظن بي أو بفلان، وسوء الظن بي إن كان صواباً فهو عمل مشكور، وإن كان خطأً فربما يكون من الاجتهاد أو الخطأ المغفور، وأنا أسامحه عن ذلك، وليس لدي استعداد ولا أوافق على أن أجعل من شخصي -مثلاً- أو شخص زيدٍ من الناس، معركة تثور من أجل فلان أو علان، ليس لدي استعداد أن أسمع ماذا قال، ولا أن أرد على ما قال! فقال لي هذا المتحدث: ولكن هناك من الناس من اغتروا به، قلت له: كم عدد الذين اغتروا بهذا المتحدث؟ قال: كثير ربما خمسين أو مائة قلت: طيب هذا الاغترار أهو أخطر، أم اغترار الذين اغتروا بـ الخميني مثلاً يوم رفع عقيرته في الدعوة إلى مذهبه وطريقته؟ قال: لا، بل الاغترار بـ الخميني أعظم وأصعب، قلت: الذين اغتروا بـ الخميني أكثر أم الذين اغتروا بكلام هذا الإنسان، قال: لا، بل الذين اغتروا بذاك الداعية الرافضي أكثر عدداً وعدة.
قلت له: لقد عجزنا عن دفع اغترار الكثيرين من الناس بأهل الكفر أحياناً، فهناك من اغتروا بالنصارى واليهود، وعجزنا عن دفع اغترار الكثيرين من الناس بأهل البدعة الظاهرة المعلنة، وعجزنا عن دفع اغترار الكثيرين من الناس بالمنافقين الذين يتسترون بالإسلام، فلماذا نركز جهدنا وهمنا في دفع اغترار خمسين أو مائة بشخص، وهو اغترار لا يضر إن شاء الله تعالى في دنيا ولا دين؟ فلماذا تريد أن تثير معركةً حول شخصي، أو شخصِ فلانٍ أو علان؟ نحن نرى أن دين الله تعالى أعظم من الأشخاص وأعظم من الجماعات، وينبغي أن يكون الأشخاص والجماعات كلهم فداءً لدين الله تعالى.(132/26)
الاعتراف بإنجازات الآخرين والإشادة بها
الكثيرون قد يعترفون بالإنجازات على سبيل التمهيد لما بعدها، فمثلاً دعني أقول لك: إنني حين آتي لأنتقدك، أقول: صحيح أنك طالب علم وأنك عالم، ومن الواضح أنني حين أقول هذا الكلام، أمهد به لأقول لك: ولكن ثم أبدأ بعد ذلك وأقلب عليك أو أقلب لك ظهر المجن، فأصبح واضحاً أن تلك المقدمة المختصرة التي اعترفت لك فيها ببعض الأشياء، لم تكن أكثر من مدخل لأقول لك بعد ذلك ولكن، ثم أنثني عليك فلا أدع لك حسنةً إلا أتيت عليها، مثل إنسان يقول: صحيح أنَّ فلاناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ولكن شهادته أن لا إله إلا الله، لا تتعدى أنه يؤمن بربوبية الله ولا يؤمن بألوهيته، وشهادته أن محمداً رسول الله لم يتبعها عملٌ ولا تطبيق، وإقامته للصلاة هي من باب الرياء والنفاق، فلو كان ما يقوله هذا الإنسان عن ذاك صحيحاً لما كان لشهادته معنى، لأن شهادة أن لا إله إلا الله لا تعني الاعتراف بربوبية الله -تعالى- فحسب، فهذا الأمر يعترف به حتى المشركون، وإنما تعني الاعتراف بالربوبية أولاً، وتعني الاعتراف بالألوهية ثانياً، وأن الله وحده هو المستحق للعبادة دون غيره، ثم تعني -أيضاً- الاعتراف لله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله.
فينبغي أن أعترف بإنجازات الآخرين، أفراداً كانوا أو جماعات أو أمماً أو طوائف، أعترف بإنجازاتهم أصالةً، وأتحدث عنها بشيءٍ من التفصيل والإفاضة والصدق والموضوعية، ويكون القصد من هذا الحديث من باب معرفة الخير لأهله، ومن باب إزالة الشكوك والظنون والأوهام، ومن باب تأليف القلوب، ومن باب تربية النفوس على معرفة الحق والثناء على أهله، ومن باب العرفان بفضائل أهل الفضائل، وهذا من الدين ومن المروءة.
فلا بد من الاعتراف بإنجازات فلان، وإنجازات الفئة أو الطائفة الفلانية.(132/27)
العناية بالجوانب الإيجابية لا بالجوانب السلبية
إن كثرة التركيز على النقائص والعيوب، حتى لو كانت النقائص والعيوب موجودة فعلاً، ليس من المروءة في شيء، فكونك دائماً تنظر نظرة التنقص، وتنظر بالعين التي تبحث عن العيوب، هذه ليست من المروءة في شيء.
فمثلاً: كوني دائماً أركز على جانب أخطاء الناس، فكل درس أو محاضرة أو مجلس لي؛ عنايتي فيه أن الناس أخطأوا في كذا وكذا، هذا لا ينبغي فإن من الممكن أن أذكر أخطاء الناس، لكن أذكرها ضمن غيرها، فمثلاً إذا تكلمت عن أمر من أمور الشرع، أصَّلْتُه وذكرت ما فيه من النصوص، وفضائله وأحكامه، والطريقة الشرعية فيه، وأثنيت عن بعض الإيجابيات الموجودة عند الناس، ثم بعد ذلك أذكر بعض العيوب والأخطاء الموجودة في العمل أو في التطبيق، لأن هذا أدعى للقبول، وأحرى بالتأثير.
مثال ثانٍ: انتقاد الآخرين، وأن يكون دأبي وديدني في مجالسي وأسفاري ودروسي وقيامي وجلوسي، ومحاضراتي هو نقد فلان وعلان، وهذا أخطأ، وهذا زاد وهذا نقص، وهذا قال وهذا لم يقل، وهذا ارتفع وهذا انخفض، حتى لو فرض أنه بالحق؛ لما كان هذا سائغاً، فليس من الأسلوب أن أربِّي لى معرفة أهل البدع، ومعرفة البدع والرد عليها، بل الأسلوب أن أربي الناس على السنة، ومعرفة السنة وأهل السنة وتعظيمها، أما الكلام عن البدع وأهلها فيأتي تبعاً، ويشكل جزءاً أو محدداً من جهدي وعملي ونشاطي.
مثالٌ ثالث: النصيحة.
كونك دائماً تركز على النصيحة، فكلما لقيتني قدمت لي نصيحة، أنا أشكرك على نصيحتك، وأدعو لك بظهر الغيب أنك نصحتني، ولكن هل تعتقد أن كل النفوس تتحمل كثرة النصح؟ ثم ما هو السر في كون النصح دائماً وأبداً يأتي منك دون غيرك، وأنك لا تجيد إلا أسلوب الملاحظة؟ هي نصيحة.
ولكنها على شكل ملاحظة، فكثرة الملاحظات قد يوجد من أولي العزم وأولي الإيمان والصبر من يتحملها ويفرح بها ولكن ليس كل الناس من هذا القبيل، ولا كل الناس بهذا المعيار.
وعلى كل حال ربما يلاحظ أن كونك دائماً وأبداً تقدم الملاحظات بعد الملاحظات، فأنت اليوم تقدم لي ملاحظة على محاضرتي، وغداً تقدم لي ملاحظة على شخصيتي، وبعد غدٍ تقدم لي ملاحظة على أسرتي، وبعده تقدم لي ملاحظة على أسلوبي وهكذا، هذا دليل على أن عندك قوة لملاحظة العيوب، وأنك قد صرفت وركزت نظرك إليها، فأنا أدعوك على أن تنظر بعينين، عينٌ تدرك المحاسن وعينٌ تلاحظ العيوب، حتى يكون لديك اعتدال وتوسط في ذلك.
وأنت لو لاحظت منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة؛ لوجدت أنه تكلم في المناقب كثيراً، فأثنى على قبائل وبلاد وأمم وأشخاص كثيرين جداً، حتى إن ثناءه عليه الصلاة والسلام على هؤلاء، يجمع في مجلدات، {أبو بكر وعمر هما السمع والبصر} {أبو قتادة خير فرساننا} و {سلمة بن الأكوع خير رَجَالنا} و {عثمان تستحي منه الملائكة} و {علي يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله} وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سلام.
وأثنى صلى الله عليه وسلم على قبائل قريش، وعلى الأنصار، وعلى المهاجرين، حتى على أهل فارس حيث قال: {لو كان الإيمان بالثريا، لناله رجال من هؤلاء} فتجد ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً، لأن هذا الثناء أسلوبٌ تربويٌ مؤثرٌ وقوي، يثير كوامن الخير في نفس الإنسان، وفي نفس المجموعة، وفي نفس القبيلة، إذا كان ثناءً معتدلاً، ليس فيه مجاملة ولا تزلف ولا مبالغة ولا خروج على حدود الاعتدال.
أما المثالب فإنك تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان يقتصد في ذكرها، وهي أحاديث ليست بالكثيرة، مثلاً: استأذن عليه رجل فقال: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إن من شر الناس، من ودعه الناس اتقاء فحشه} فذكر هذا الرجل بغير المناقب، بل ببعض المثالب الموجودة فيه، إلى أشخاص آخرين، ولم يكن هذا هو الأصل والقاعدة، وإنما كان هذا استثناءً في سيرته صلى الله عليه وسلم.
فالنظر للجوانب المظلمة دائماً، في أعمال الناس، في الأشخاص، في الأعمال الخيرية، الأعمال الدعوية، الأعمال الجهادية، الجماعات، الكتب، كل هذا ليس من المروءة في شيء.(132/28)
تجنب الاستبداد في القول والعمل والعلم والدعوة
إن الاستبداد بالرأي، والفردية والاستئثار بالقرار، يثير مشاعر الآخرين، ويحرك في نفوسهم رغبة البحث عن خطأٍ موجود عندك أو زللْ، أما إذا كانوا شركاء معك في الرأي وأهل شورى، فإن المحذور يزول حينئذ، فإذا مكنك الله تعالى من عمل، أو مكنك من دعوة، أو جعل بيدك مقاليد مؤسسةٍ من المؤسسات، أو فوض إليك بقدرته ورحمته خيراً من الخير، فلتكن هذه الأشياء التي تملكها أنت تحت تصرف الجميع، وليشعر الكل بأن هذه مكسب لهم جميعاً، وليست مكسباً لشخص، ولا لجهة معينة أو طائفة خاصة، فهذا العمل الذي أملكه هو ملك لكم جميعاً، فشاركوا فيه واستفيدوا منه، وأنا لا أفرض عليكم فيه شيئاً أبداً، فنحن شركاء في هذه الدعوة وفي هذا العمل.
وإذا كنا نرى أن الاستبداد السياسي الذي يعصف بالعالم الإسلامي؛ من أهم أسباب الانشطار والتمزق في المجتمعات، فإننا نعلم أن الاستبداد الدعوي هو من أهم أسباب التمزق داخل الصف الإسلامي.(132/29)
محبة الخير للآخرين
ويكون ذلك بالحرص على كمالهم وهدايتهم، والحرص على أن يقبلوا مني النصيحة التي أقدمها لهم، فأنا لا أنطلق من منطلق التنقص لهم، ولا من منطلق الحطَّ من قدرهم، ولا أقصد بما أقول إسقاط فلان أو علان، أو إزالته عن مكانته، بل أريد أن أؤيده وأساعده وأنصره وأقف معه، وأفرح لفرحه وأحزن لحزنه، ومع ذلك إذا قدمت له النصيحة فهي النصيحة التي أتوج بها كماله، ولهذا قال الله تعالى في الآية السابقة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159] فالعفو عن أخطائهم والاستغفار لهم هو طلب الكمال لهم، والحرص على بلوغهم هذه الدرجات العليا.
إن الحريص على انتشار الخير الذي يملكه هو ويريد أن يوصله إلى الناس، لا يستنفر مشاعر الآخرين ليردوا ما عنده إن كان عاقلاً، بل يحرص أن يتسلل إلى قلوبهم بأفضل الوسائل، وما أريد بيانه أن أقول لك: ليس شرطاً أن أُشعر زيداً من الناس في البداية، أنك يا زيد قد أخطأت وتعديت، وقلت وفعلت، ويجب عليك، ويجب عليك؛ لأن هذا الأسلوب التعليمي المباشر قد لا يقبله الكثيرون، ومن الصعب عليهم أن يعترفوا بأنهم أخطئوا، وقد لا يكون الخطأ خطأً محضاً، وقد يكون بتأويل، أو باجتهاد، أو بعضه صواباً، وقد يكون صواباً وأنت المخطئ لأنك لست معصوماً، ولست الناطق الرسمي باسم القرآن والسنة، فانتبه لهذا.
وبناءً عليه لا يلزم أن تشعره في البداية أنه أخطأ، بل أعرض عليه بالأسلوب الهين اللين الناصح، الذي لا يشعر معه بأي لونٍ تمارسه أنت، من ألوان التسلط أو الأستاذية أو الاستعلاء أو الاتهام، بمعنى أنني حين أدعوك أحرص على ألاَّ أثير مشاعر الرفض في قلبك، بل أحرص على أن يتسلل الكلام إلى قلبك، دون شعور منك بأنني أعطيتك شيئاً جديداً، لماذا؟ لأنني لست أهدف إلى أن تشكرني وتذكرني، ولا أهدف إلى أن أقول: أنا أعرف وأنت لا تعرف، وأنا على صوابٍ وأنت على خطأ، هدفي أن يوجد هذا الخير والحق، ولهذا كان الإمام المتجرد الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لوددت أن هذا الخلق تعلموا العلم وأنه لم ينسب إليَّ منه حرف.(132/30)
حسن الخلق والدفع بالتي هي أحسن
قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] فكن من الذين صبروا، ومن أهل الحظ العظيم بحسن الخلق والدفع بالتي هي أحسن.
إن الكثيرين من أهل الخصومات والعداوات والمواقف، ربما انطلقوا في البداية من تصرفٍ قاسٍ، أو كلمة شديدة من فلانٍ أو علان، فكرهوه وأبغضوه، ثم بدأ هذا البغض وهذه الكراهية تتحول أو تتفلسف في مواقف فكرية، ومخالفاتٍ منهجية وغير ذلك، فبعضهم إذا رآك فهششت له وبششت وتلطفت واستخدمت معه الواجب الشرعي في حسن الخلق، استخرجت ما في قلبه، وقلمت أظفار ضغنه كما قال الشاعر: وذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس له حلم فلا بد أن تطيع الله تعالى في هؤلاء، قال الله -تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أنقذهم الله تعالى به من النار، وهداهم به من الضلال، وبصرهم به من العمى، وجمعهم به بعد الفرقة، ومع ذلك قال: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي: قاسي الخُلق، سيء المعاملة؛ لانفضوا من حولك وتركوك، فما بالك بغيره من الناس، حتى ولو كانوا دعاةً، ومصلحين، وعلماء، وطلبة علم، وقادة وغير ذلك، لو كانوا أصحاب غِلظة في المعاملة، وقسوة في الأقوال والأفعال؛ لانفض الناس من حولهم، فلنعمل على جمع كلمة المسلمين وتأليف قلوبهم، بحسن الخلق والتلطف، والدفع بالتي هي أحسن، ومن عصى الله تعالى فيك فإياك أن تعصي الله تعالى فيه، بل قل: لا أجد فيمن عصى الله تعالى فيَّ إلا أن أطيع الله تعالى فيه، فإن أساء الظن بي أحسنت به الظن، وإن جهل عليَّ حلمت عليه، وإن ظلمني عدلت معه، وإن هجرني سلمت عليه، وابتسمت في وجهه: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلفٌ جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا(132/31)
الحرص على تأليف القلوب
ندعو والخلاف قائم شئنا أم أبينا، وستقوم الساعة والمسلمون مختلفون فيما بينهم في مسائل تقل أو تكثر، وإذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا في مسائل فقهية، واختلفوا في مسائل اجتهادية، واختلفوا في مسائل دعوية وجهادية؛ فغيرهم أولى وأحرى بالاختلاف، وإذا كان الخلاف قائماً ولا بد، فليكن تأليف القلوب هدفاً يتنازل الإنسان من أجله عن بعض المصالح المؤكدة، لأنه تنازل من أجل ما هو أعظم وآكد من هذه المصالح.
ألم ترَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلى وتنازل عن هدف كان يتمناه ويحبه، وهو بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، كما في حديث عائشة المتفق عليه.
تنازل عن هذا من أجل تأليف قلوب الناس، وعلَّل ترك هذا بقوله: {لولا أن قومك -أي: عائشة - حديثوا عهدٍ بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم} .
ألم ترَ أن النبي صلى الله عليه وسلم، علل عدم قتل المنافقين الموجودين في الصف المسلم، والذين كان لهم دور خطير في إشاعة الفتنة بين المسلمين، اعتذر عن قتلهم بقوله -كما في حديث جابر المتفق عليه-: {لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} فعمل صلى الله عليه وسلم على تأليف القلوب وجمعها، ولو أدى ذلك إلى التنازل عن بعض الأشياء التي نعتقد أنها حق وصواب وخير، وأن فيها مصلحة، فإن مصلحة جمع الكلمة وتأليف القلوب وتوحيد الصف؛ من أعظم المصالح التي أمر الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إننا -أحياناً ومن حيث لا نشعر- نلقي حطباً على نار الاختلاف والفرقة، وكأن العمل على وحدة المسلمين ذنب لا ينبغي أن نطالب به ولا أن ندعو إليه؛ أو على الأقل كأن وحدة المسلمين ليست مطلباً شرعياً، ينبغي أن يكون أمراً يتحرك في قلوبنا، ويسري في دمائنا وعروقنا.(132/32)
الإقبال على النفس
ثانياً: أني لا أخاطبكم في أشخاصكم، ولكني أخاطب كل شابٍ مؤمن، وكل داعية، وكل غيور على دين الله، وكل حريصٍ على نصرة هذا الدين قرب أم بعد.
بتكميل النفس بمعالي الأمور، علماً وعملاً ودعوةً وعبادة، فإن هذه الأشياء فيها شغل أي شغلٌ، الإقبال على النفس باستخدام العقل الذي أعطاك الله تعالى، وألا تعير عقلك غيرك، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] لا تجعل عقلك تبعاً لقولي أو رأيي أو شخصي أو قناعتي، ولا لفلانٍ أو علان، بل هذا العقل الجوهرة النفيسة التي أعطاك الله، استخدمها واعرض ما أقوله لك أنا أو غيري على هذا العقل؛ لتعرف بنور العقل المنور بالشرع -أيضًا- تعرف الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والنافع من الضار.
والإقبال على النفس -أيضًا- بتنقصها وازدرائها وعتابها.
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل فإن الكثيرين ينطلقون في انتقاص غيرهم ونقد غيرهم؛ من منطلق الإحساس بالكمال الموهوم، أو الإحساس بالفوقية اللاشعورية، فبذلك يزدري غيره، فلو أقبل على نفسه، ورأى ما فيها من النقائص والجهالات والعيوب والظلم والأمراض الخفية؛ لرأى أن له شغلاً بنفسه عن غيره، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس: أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان(132/33)
الأسئلة
.(132/34)
الصحوة خطرٌ على أمريكا
السؤال
سمعنا مقولةً قبل فترة من كاتبة أمريكية تقول: إن الخطر على أمريكا يأتي من فلان، ثم ذكرت أحد الدعاة، فما هو الخطر الذي يملكه فلان ضد أمريكا؟
الجواب
ما أدري، أشك أن مثل هذا الكلام يقال، لكن أمريكا قد تعتبر خطراً عليها من الصحوة، ومن رموز الصحوة بشكلٍ عام، ولا شك أن أمريكا تخاف من الإسلام، وهناك كتاب "الفرصة السانحة" خصص فصلاً للخطر الإسلامي، وقد قرأت هذا الكتاب وقرأت ملخصاً له، وهو يؤكد على الخطر الإسلامي، وبعده ظهر كتاب آخر أخطر منه اسمه "الترقب العظيم" خصص فيه فصلاً عنوانه: مارك محمد، بدلاً من ماركس، ونقول محمد صلى الله عليه وسلم.
فهو يقول: إن الإسلام هو الخطر البديل بعد سقوط الشيوعية، وهناك أخبار عن أن أمريكا بل وروسيا، وجهوا رءوسهم النووية وأسلحتهم صوب بلاد في العالم الإسلامي، وهذا يؤكد أنهم يحسون بجدية الخطر، وأنا أتعجب وأتساءل ماذا تملك بلاد العالم الإسلامي، حتى يقيم الغرب لها هذا الوزن الكبير؟ وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(132/35)
المساهمة في البنوك الربوية
السؤال
على رغم انتشار الفتاوى المبينة لحرمة المساهمة في البنوك الربوية، إلا أن الكثيرين من الناس لم يمتنعوا عن ذلك لشبهٍ باطلة يحتجون بها، فحبذا لو نبهت على ذلك؟
الجواب
أما المشاركة في البنوك الربوية فلا يجوز أبداً، والربح الذي يكسب من ورائها هو سحت يأكله صاحبه سحتاً، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فالبنوك تتعامل عن طريق الإيداع بفوائد، فتعطيهم ألفاً ويعطونك ألفأً ومائة مثلاً، أو تأخذ منهم سلفةً فتردها لهم بزيادة.
وهذا هو عين الربا، وقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يزيد على سبعة عشر حديثاً، فيجب على كل مؤمنٍ أن لا يُدْخل إلى جيبه درهماً واحداً من حرام، ولا إلى جوفه، أو إلى جوف ولده أو زوجه، وليتق الله تعالى، وقليل من المال الحلال يبارك الله تعالى فيه، خيرٌ من كثيرٍ لا يبارك الله تعالى فيه.(132/36)
السودان وتطبيقهم للشريعة
السؤال
ما هي حقيقة السودان؟ وهل هم حاكمون بالشرع؟
الجواب
في السودان حكومةٌ تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بجدية إن شاء الله تعالى، وقد كتب الله لها مجموعة من الانتصارات، أولها: الانتصار على النصارى في الجنوب وقد أبهج ذلك كل مسلم غيور.
الثاني: انتصارها على الفقر، وعلى البنك الدولي الذي يتمنع ويبتز المسلمين، حيث حققوا من معدلات التقدم الاقتصادي، والاستغناء والاكتفاء، حتى أصبحت الدول العربية حتى مصر، وهذه الدولة -أعني دولتنا- تستقدم منهم، وتتعامل معهم بشراء بعض البضائع كالذرة أو السكر أو غيرها، مع أن هذا لم يكن في الماضي، بل إن السودان أرسلت إلى أفغانستان وإلى البوسنة والهرسك ألواناً من المساعدات، وهذا التقدم الاقتصادي أمرٌ عجيب.
والانتصار الثالث: هو في القضاء على بعض المخالفات والمنكرات، وإقامة ما يسمى بالشرطة الشعبية التي تقوم على إزالة المنكر، وهي أشبه ما تكون بهيآت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لكن يبقى أن قيام كيان إسلامي متكامل وناضجٌ أمر يتطلب بعض الوقت، ويتطلب مزيداً من الجهود، فكلامنا لا يعني تزكية مطلقة لكل ما يجري في السودان، فإن النقص موجود، وهناك ملاحظاتٌ تحتاج إلى استكمال، ملاحظات إعلامية، ملاحظات في التعامل مع الآخرين وملاحظات في غير ذلك.(132/37)
كتب الردود في الساحة
السؤال
تطرح في الساحة بعض الكتيبات والأشرطة، التي تحمل وجهة نظر معينة، مما يسوغ فيه الاجتهاد لبعض العلماء وطلاب العلم، وقد تكون أحياناً خاطئة، ألا ترى أن ردة الفعل القوية ضد تلك من أسباب الخلاف والفرقة؟
الجواب
بلى أنا أرى أنه أصلاً لا داعي لردة الفعل، أرى أن مثل هذه الأشياء ينبغي أن ندعها ضربةً في الجدار، وليس في رأس فلانٍ أو علان، فما يضير أن شريطاً خرج ضد فلانٍ أو فلان، أو كتاباً أو غير ذلك، ولماذا نجعل هذا ميداناً للنقاش في مجالسنا وأحاديثنا؟ ونضخم هذا ونشتغل بالرد عليه وما أشبه ذلك.(132/38)
الغيبة وخطرها
السؤال
ما رأيك عما انتشر وعم البلاء به من الغيبة، خاصة وقد ألبست لباساً شرعياً؟
الجواب
هذه من النصائح التي يجب أن نضيفها فالغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره أحياناً نصور الغيبة على أنها ملاحظات، وأحياناً على أنها من الجرح والتعديل، وهل أنت أبو حاتم، أو ابن أبي حاتم وهل أنت أبو زرعة أو يحي بن معين أو أحمد أو البخاري أو النسائي حتى تجعل من نفسك إماماً في الجرح والتعديل، تتكلم في من هم أحسن منك أحياناً، أو أكبر منك سناً، أو أكثر منك علماً، أو أتقى لله، أو أقدم منك، أو على الأقل في نظرائك وأقرانك؟!(132/39)
حضور الشيعة المسجد
السؤال
يحضر إلى هذا المسجد أحياناً بعض الشيعة لأداء الصلاة، لكن يلاحظ عليهم الآتي: عدم أداء الصلاة مع الإمام، قيامهم ببعض البدع والمخالفات في الشريعة؟
الجواب
إما أن يلتزموا بالسنة التي أقيمت هذه المساجد عليها، وإما أن يمنعوا من ذلك.(132/40)
تفضيل الكفار على المسلمين
السؤال
ما حكم الذين يفضلون غير المسلمين على المسلمين، حين يقولون: حكمهم أحسن من حكم المسلمين؟
الجواب
ينبغي أن ينظر ماذا يقصدون، فإن قصدوا تفضيل دين غير المسلمين على دين المسلمين، فلا شك أن هذا كفرٌ وردة، أما إن قصدوا تفضيل شيءٍ معين، فقد يكون مثلاً عمل هذا الإنسان أحسن من عمل هذا، أو قيامه بواجبه أحسن من قيامه بواجبه، أو خبرته أقوى من خبرته، أو حكمه أعدل من حكمه، ومع الأسف هذا قد يقع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكاً -أي: النجاشي - لا يُظلم عنده أحد} .(132/41)
دعوة اللاجئين وحفظ مكانتهم
السؤال
توجيه الإخوان العاملين بمعسكر اللاجئين لتعاملهم مع الموجودين فيها، ماذا ترى في ذلك؟
الجواب
الحقيقة أرى أن عليهم مسؤولية عظيمة وكبيرة جداًَ.
أولاً: ينبغي أن ندرك أن هؤلاء مهما كانوا فهم قابلون لقدر من التأثير، فينبغي أن نبذل جهوداً مكثفة للتأثير عليهم، وعلى تفكيرهم وعقولهم وإدراكهم، وأن نتعامل معهم بإنسانية وحفظ لمكانتهم، وأن لا نهينهم أو نذلهم أو نحتقرهم، ومع ذلك أن نحرص على دعوتهم إلى الله تعالى ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
فإن منهم ولا شك إذا صدقنا في الدعوة، من سيقبل الدعوة ويكتب الله له الهداية، ويكفيك فخراً حديث: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم} .
ثانياً: منهم من قد لا يهتدي، ولكن أوجدت عنده -على الأقل- شكاً في النظريات والتصورات والمذاهب والمعتقدات الموجودة لديه، وهذا الشك قد يوجد -ولو بعد سنين- من يزيده حتى يتحول إلى نوعٍ من الهداية.
ثالثاً: هب أنك لم تفلح في إيجاد شكٍ لديه، على الأقل أنك فتَّرتَ الحماس الموجود عنده لمذهبه.(132/42)
حكم وجود الخادمات الكافرات في الجزيرة العربية
السؤال
يقول: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، لماذا يوجد عندنا البوذي والهندوسي، ويستقدمون الخادمات البوذيات، وهم أناسٌ متدينون، نرجو التعليق؟
الجواب
لا شك أن هذا من مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو أيضاً -من وجه آخر- من مناصرة المشركين على المسلمين، لأنه ما من بلد ينتسب إليها هؤلاء إلا وفيها مسلمون مضطهدون، أو فقراء محتاجون، فأولى بك أن تستقدم مسلماً، أولاً: تزيده معرفةً وعلماً بدينه ليرجع داعية عارفاً بصيراً، وثانياً: تنفعه ببعض المال وتنصره على غير المسلمين.(132/43)
دور إيران في أفغانستان
السؤال
نرجو بيان أثر إيران في الوقت الحاضر على الجهاد الأفغاني؟
الجواب
لإيران أثرٌ سلبي على الجهاد الأفغاني، ومحاولةٌ قوية للتدخل سواءً عن طريق حزب الوحدة، أو عن طريق دعم المليشيات، أو عن طريق تأجيج نار الخلاف بين المجاهدين الأفغان، وقد نقلت مصادر عدة أن هناك أسلحة كثيرة، بل هناك مجندون مما يسمى بالحرس الثوري الإيراني دخلوا إلى كابل.(132/44)
اللجنة الخماسية
السؤال
كثيرٌ من الشباب يسألون عن اللجنة الخماسية وأهدافها.
الجواب
اللجنة الخماسية مكونة من مجموعة من أهل العلم، على رأسهم سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز، ومهمة هذه اللجنة الخماسية، هي النظر في الدعاة وطلبة العلم والمشايخ، وذلك أن الدعاة وطلبة العلم والمشايخ كانوا يحالون في الماضي إلى بعض الجهات الأمنية وغيرها، فرأى بعض أهل العلم أن الأولى أن يكون العلماء وطلبة العلم هم الذين يناقشون مثل هذه القضايا باعتبار وجود خلفية مشتركة بين هذين الطرفين.(132/45)
أخبار الجهاد الأفغاني
السؤال
هذا يسأل عن أخبار الجهاد الأفغاني، وما يحدث من فرقة بين الفصائل والمجاهدين؟
الجواب
نعم هناك فرقة بين فصائل المجاهدين، وبالذات بين الحكومة من جهة، ممثلة بالدرجة الأولى بالجمعية الإسلامية رباني وأحمد شاه مسعود، ومن طرف آخر الحزب الإسلامي حكمتيار، ولعل دور المليشيات واضحٌ جداً في تأجيج نار الخلاف، لأن هناك نوعٌ من التحالف بين المليشيات، وبين الجمعية الإسلامية، وهناك اختلافٌ في طريقة حل هذه المشكلة، فـ حكمتيار يرى أنه لا بد من حلها وحسمها بصورةٍ واضحة، بأن يخرجوا بالقوة إذا لم يخرجوا بالموافقة والطوع والرضا.
أما الجمعية فترى أن هؤلاء غالبيتهم من الجهال، الذين يمكن تعليمهم والاستفادة منهم، ويمكن إبعاد بعضهم على المدى الطويل، دون أن نضطر إلى مواجهة صريحة ومباشرة معهم، والأمر لا شك يتطلب مزيداً من الجهد والتأمل والنظر والمدارسة.
والمشكلة أنني أعتقد أنه لا يملك أحد من الطرفين حسم المعركة لصالحه، فلو وجدت المعركة بينهم -وأسأل الله أن لا يكون ذلك- فلا أعتقد أن الحكومة تستطيع أن تحسم الأمر ضد الحزب الإسلامي، ولا الحزب الإسلامي يستطيع أن يحسمه ضد الحكومة، بل ستكون حرب استنزافية قد يطول أمدها ولا يخرج منها بطائل.(132/46)
لقاء مفتوح حول قضايا المرأة
للمرأة دور كبير في المجتمع الإسلامي الذي ارتفعت فيه منزلتها، ونالت حقوقها، وينبغي للمرأة أن تكون على المستوى الذي أنيط بها في جانب الدعوة إلى الله.
هذا هو حديث الشيخ حفظه الله في هذا اللقاء المفتوح.(133/1)
رفع مكانة المرأة في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنما هذا الاجتماع لقاء مفتوح حول قضايا المرأة، وقد آثرت أن يكون عبارة عن حوار من خلال بعض الأسئلة التي تشعر المرأة بضرورة وأهمية وحاجة الحديث عنها؛ انطلاقاً من واقعها ومشكلاتها وما تواجهه في حياتها العملية أو الدعوية.
ليس ذلك شحاً في الموضوعات فإن الموضوعات التي تحتاج المرأة إلى الحديث عنها كثيرة.(133/2)
ضعف المرأة هو مكمن قوتها وخصائصها
ورث أصحابه عنه هذا الأمر، وخلعوا ما كان في الجاهلية من احتقار المرأة أو ازدرائها أو الحط من قدرها، ورفعوا مكانتها، ورأوا أنه من الطرق الموصلة إلى رضوان الله تعالى والجنة العناية بالمرأة والاهتمام بها وتكريمها، وكيف لا وهم يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة} فيعتبر أن هذا الضعف الفطري في المرأة مدعاة إلى تقديرها واحترامها وحفظها وصيانتها، وهو الضعف الذي جعلها أنثى تسد هذه الخانة الموجودة في المجتمع، فهو ليس ضعفاً تعاب به أو تؤاخذ أو تنتقص؛ بل على النقيض لو حاولت المرأة أن تخرج من إطار أنوثتها لتترجل أو تتشبه بالرجال لفقدت أخص خصائصها، إذ قوة المرأة هي في ضعفها، وكما قال الشاعر العربي وهو يخاطب المرأة: أتجمع ضعفاً واقتداراً على الهوى أليس غريباً ضعفها واقتدارها فهذا الجانب هو الجانب الذي تميزت به المرأة عن الرجل وبه أصبحت المرأة قادرة على إدارة شئون البيت، وعلى تربية الأطفال، وعلى ملء قلب الرجل، وعلى القيام بمهماتها الحقيقية داخل المجتمع المسلم.
المقصود من هذا الاستطراد الإشارة إلى أن الإسلام رفع مكانة المرأة، ومن رفعه لمكانتها أنه لم يجعل للمرأة خطاباً خاصاً يخاطبها به دون الرجل، كما لم يجعل للرجل خطاباً خاصاً يخاطبه به دون المرأة؛ بل الأصل أن الخطاب واحد في الشرع للرجل والمرأة، وقليل جداً من الحالات خاطب الله فيها الرجل دون المرأة، أو خاطب المرأة دون الرجل بأحكام تخص أحدهما.(133/3)
خطاب التكليف عام في المرأة والرجل
وبصورة عامة فإنني أعتقد أنه ليس ضرورياً أن يكون الحديث إلى المرأة -دائماً- حديثاً خاصاً موجهاً إليها هي بالذات، فإن هذا الفصل بين المرأة والرجل? -الفصل الكامل- ليس له مكان، بمعنى أن الأصل في جميع التكاليف أنها موجهة إلى الرجل والمرأة على حد سواء! وأن الأنشطة الموجودة في المجتمع المسلم تشارك فيها المرأة كما يشارك فيها الرجل مع الالتزام بالضوابط الشرعية الواردة! وقليل جدّاً من الآيات والأحاديث التي نزلت تخاطب المرأة بالذات، أو تخاطب المرأة والرجل مع التنصيص على كل منهما، فأنتِ -مثلاً- قد تجدين في القرآن قول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] ذكر الرجال وذكر النساء أيضاً، أو مثل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ثم في الآية التي تليها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] .
لكن هذا ليس بمطرد؛ بل الغالب أن النصوص في القرآن والسنة تأتي عامة ويخاطب فيها الجميع، دون حاجة إلى تخصيص الرجال دون النساء أو تخصيص النساء دون الرجال، وعلى سبيل المثال فقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: {طلب العلم فريضة على كل مسلم} هذا الحديث اختلف العلماء فيه والراجح أنه حديث حسن؛ لكن بعضهم جاء بزيادة لفظ في الحديث وهي: {طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة} هذه الزيادة ليست بصحيحة ولا يحتاج إليها أيضاً، لأن قولنا على كل مسلم ليس المقصود به الرجل بالذات، بل المقصود به كل من اتصف بصفة الإسلام سواء أكان رجلاً أم امرأة، عربياً أم أعجمياً على حد سواء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي وغيره وسنده لا بأس به أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إنما النساء شقائق الرجال} الله تعالى خلق آدم وخلق حواء قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] .
فالمرأة خلقت من الرجل ومع الرجل، وهي شريكته في الحياة ورفيقة دربه وسفره، ولذلك لا يكون ثَمَّ حاجة في النص الشرعي إلى أن يكون هناك نص على الرجل، وبعد ذلك نص على المرأة كما هي الحال بالنسبة لبعض القوانين الوضعية، لا؛ لأن الله تعالى يخاطب المسلمين جميعاً بخطاب واحد، إلا إذا كان هناك حكم يخص الرجال بينه الله تعالى، أو هناك حكم يخص النساء بينه الله تعالى، وإذا لم يوجد هذا، ولا ذاك فالأصل أن الحكم عام شامل للجميع? ولا يحتاج الأمر إلى تخصيص فئة دون أخرى أو جنس دون آخر، وهذا من كمال عناية الإسلام بالمرأة ورفعه لمقامها جعل الخطاب لها مع الرجل على قدم المساواة كما هو الأصل.(133/4)
النقلة التي حققها الإسلام للمرأة
ولا يدرك عظمة النقلة التي حققها الإسلام للمرأة إلا من تصور وضع المرأة في المجتمع العربي الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بلغته، كان ذلك المجتمع يبخس المرأة كل حقوقها أو أكثرها، وبما في ذلك حق الحرية في اختيار الزوج، وحق الميراث، وحقوق كثيرة جداً عادية فضلاً عن الحقوق الأخرى، كان المجتمع العربي في الجاهلية يحرم المرأة منها، وكانت مناداة الإسلام بحقوق المرأة في ذلك المجتمع من الأسباب التي تجعل العربي -أحياناً- يتوقف عن قبوله؛ لأنه أتى بأشياء مخالفة لما ألفه، ومع ذلك صدع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة على رغم ما فيها من مخالفة لمألوف الناس ومعهودهم وموروثهم؛ حتى أثبت الإسلام للمرأة تلك المكانة الرفيعة العظيمة.
وكم يدرك الإنسان العجب حينما يقارن مثلا بين المرأة في المجتمع الجاهلي حين كان الرجل يخجل أن يحمل بنته الصغيرة على كتفه أمام الرجال، ويرى أن هذا عيب ينقص من قدره، أو يحط من رجولته وإنسانيته، فكبرياء أبي جهل أو أبي لهب لا تطيق أن يحمل أنثى على كتفه أو يضعها في حجره في مجتمع الرجال؛ بل كان يصل الحال ببعضهم إلى أن يئدها وهي حية خوف العار، أو خوف الحاجة، فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام تحدى هذه الأشياء؛ تحداها ليس بقوله فقط بل تحداها بفعله وهذا أكبر وأخطر، فكان عليه الصلاة والسلام لا أقول: يحمل بناته هو على كتفه أو يضعهن في حجره فهذا أمر طبيعي؛ لكن حتى بنات الناس تولد البنت لبيت من بيوت المسلمين فيأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لها بالبركة ويضعها في حجره، ويطيب خواطر أهلها بمثل هذا العمل على مرأى ومسمع من أصحابه، متحدياً بذلك كثيراً من العوائد والموروثات والتقاليد التي كانت موجودة في البيئة الجاهلية العربية الأولى، فيدرك الإنسان عظمة النقلة التي أحدثها الإسلام.
هذا فضلاً عن أشياء أخرى كثيرة ليس هذا مجال الحديث عنها: -مثلاً- تأتي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فيقوم لها ويجلسها إلى جنبه.
ما كانت البيئة العربية تطيق مثل هذا الأمر ولا تعرفه، أو اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بزوجته عائشة وبقية أزواجه حتى يصل الحال إلى أنه يسافر فيسافر بها معه، أو يقول لأصحابه: تقدموا، ثم يتسابق هو وإياها، ومرة أخرى يتسابق، وفي الأولى فازت عائشة، وفى الثانية فاز النبي صلى الله عليه وسلم فكان يمازحها ويقول لها: {هذه بتلك} أي غلبتيني مرة وغلبتك مرة أخرى.(133/5)
النشاط الدعوي للنساء
ليس من الضروري أن تكون النشاطات النسائية في مجتمعاتنا الإسلامية دائماً وأبداً نشاطات مستقلة نحن نؤيد ونوافق؛ بل نشجع تلك النشاطات الخاصة بالمرأة كهذا الاجتماع المبارك -مثلاً- أو غيره، وهو ضروري على كل حال؛ لكنني أقول: ينبغي أن تفهم الأخت المسلمة أن هذه النشاطات لا تعني اعتزال تلك النشاطات التي يقوم بها المجتمع برجاله ونسائه.(133/6)
دور المرأة في عهد النبي
إن غالب المفتين من الصحابة كانوا رجالاً: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس إلخ، كما ذكرهم الإمام ابن القيم في عددٍ من كتبه وغيره، فغالب المفتين كانوا من الرجال لكن أيضاً لا يمكن أن نتجاهل دور امرأة مثل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهي في سن الثامنة عشر من عمرها، وقد كانت تتعلم وهي بنت تسع وعشر وتحفظ حتى أصبحت معلمة للرجال، وقال أبو موسى رضي الله عنه: [[ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً]] .
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إليها في كثير مما أشكل عليهم، بل كانت عائشة رضي الله عنها تمارس لوناً من النقد والرد على بعض اجتهادات الصحابة رضى الله عنهم علانية، حتى جمع الإمام الزركشي انتقادات عائشة لبعض فتاوي الصحابة وآرائهم في كتاب سماه "الإجابة فيما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة" ردت على ابن عمر رضي الله عنه، وكانت مصيبة في ردها عليه حين كان ابن عمر يقول: [[اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب]] فكانت تضحك عائشة رضي الله عنها وتقول: [[غفر الله لـ أبي عبد الرحمن والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعبد الله بن عمر شاهد معه، والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط]] وكان الصواب هنا مع عائشة رضي الله عنها، وقد وهم عبد الله بن عمر كما حرره جماعة من أهل العلم بالسير والتاريخ والمغازي، واستدركت على عمر رضى الله عنه، واستدركت على عمران بن حصين، واستدركت على عدد كبير من الصحابة، وقد يكون الصواب معها أحياناً وقد يكون الصواب مع غيرها.
فمن القضايا المشهورة التي استدركتها عليهم لما نقل عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى يوم بدر وتكلم معهم، وقال: {هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، فقالوا: يا رسول الله! هل تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون} فلما سمعت عائشة رضي الله عنها أنكرته وقالت: كلا إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقوله لهم حق، وإلا فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فأخذت مأخذاً من القرآن الكريم، وفهمت حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه آخر، وردَّت على من روى ذلك من الصحابة، إضافة إلى قضية قطع الصلاة بمرور المرأة -أيضاً- أنكرته عائشة وقالت كما هو في حديثها المعروف قالت لبعض الصحابة: [[ساويتمونا بالحمر والكلاب]] لأنه روى بعضهم، كما في حديث أبي ذر {يقطع صلاة الرجل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود} .
فأنكرت عائشة هذا وقالت: [[ساويتمونا بالكلاب، والحمر، والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا نائمة على السرير إلى قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها، والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح]] تقول في رواية أخرى، تعتذر أنها تبسط رجلها؛ لأنها لا تره وقت سجود النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلمسها بيده فتكف رجلها لتمكنه من السجود.
وهذا باب يطول وأقول: إننا لا يمكن أن نغض النظر عن هذا الدور الكبير الذي قامت به أم المؤمنين عائشة، وعن العدد الهائل من المرويات التي روتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أتيح لها في ذلك ما لم يتح لغيرها حتى من الرجال، وإذا كنا نقول: إن ميزة الرجال كثرة صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن عائشة باعتبارها خليلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقعيدة بيته، وصاحبته في منزله، وزوجه في فراشه قد أتيح لها من إمكانية التعرف على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره وأخلاقه ومعاملاته وقضاياه خاصة في المجالات الخاصة والشخصية والبيتية ما لم يتح لغيرها قط، ونقلت من ذلك ما لم ينقله غيرها، ولها في ذلك قصص وطرائف وعجائب لو جمعت في كتاب لكان ذلك خيراً كثيراً.(133/7)
غلبة الرجال في العلم على النساء
-وعلى سبيل المثال- مما يؤكد أهمية هذا الموضوع: لو نظرنا -مثلاً-إلى قضية العلم الشرعي، والفتوى، والكلام في الحلال والحرام نجد أن من الصعب جداً أن نتصور وجود عالمات في أوساط النساء يملكن من التأصيل الشرعي وكمال الفقه ما يملكه بعض من أتيحت له الفرص في مجتمعنا هذا أو غيره من المجتمعات ما لم تتح للنساء، وهذا أمر مؤكد، بل أقول: حتى في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن بعض النساء أتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: {يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما تأتينا فيه فتحدثنا، فجعل لهن صلى الله عليه وسلم يوماً وواعدهن فآتاهن، وذكرهن، ووعظهن، وخصهن بكلام يتعلق بأوضاعهن هن، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام، ما منكن من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد فتصبر وتحتسب إلا كانوا لها حجاباً من النار.
قالت امرأة: يا رسول الله! واثنان قال: واثنان} المهم أن الرسول عليه السلام جعل لهن يوماً معلوماً؛ لكن قول النساء: غلبنا عليك الرجال يوحي بماذا؟ يوحي بأن الغالب على مجتمعات الرسول عليه الصلاة والسلام أن الذين حوله كانوا هم الرجال.
وأعتقد أن هذا لا يحتاج إلى مزيد تأكيد.
الغزو: من الذين كانوا يخرجون معه؟ على الأقل (90%) ممن كانوا يخرجون معه من الرجال وقد تخرج النساء أحيانا كما في غزوة بدر وأحد وحنين وغيرها، لكن يخرجن بنسبة محدودة ويمارسن أعمالاً محدودة، كما هو وارد في الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، وكذلك اجتماعاته صلى الله عليه وسلم في المسجد وكانت النساء موجودات في المجتمع المدني وفى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في حياته كن في آخر الصفوف {خير صفوف النساء آخرها} وبمجرد ما يسلم النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن من المسجد ويبقى الرجال فيتحدثون، ويتحلقون، ويسألون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان غالب الرواة هم من الرجال.(133/8)
استفادة المرأة مما أتيح للرجل
إذاً، في ذلك المجتمع، وهو المجتمع القدوة أتيح للرجل فيه من وسائل التعلم، والاتصال، والفهم، وسماع الوحي ما لم يتح للمرأة، ولذلك كلف هو من المسئوليات ما لم تكلف به المرأة، وكان من أعظم مسئوليات الرجل أن ينقل ما يسمعه إلى بيته، وإلى زوجته، وإلى أمه، وإلى أخته، وإلى قريبته، حتى يكون وسيطاً، في نقل العلم الشرعي ونقل الوحي الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه قضية واضحة ولا ينبغي أن تكون محل جدل أو خلاف، وهذا -أيضاً- موجود الآن، وأعتقد أنها ستظل موجودة إلى الأبد؛ أنه يتاح للرجل من فرص التعلم ما لا يتاح للمرأة، ليس فقط في العلم الشرعي بل حتى في العلوم الدنيوية.
خذي مثالاً قضية الطب: هل الفتاة التي تدرس في كلية الطب تتمكن من وسائل التعلم والاتصال والمعرفة مثل ما يتمكن الرجل؟ قطعا لا، وهذا أمر مشاهد ويعرفه الذين يعانونه.
فالمرأة لا تستطيع أن تسافر كما يسافر الرجل، ولا تحضر كما يحضر الرجل، ولا تطّلع كما يطّلع، ولذلك مهما بذلت من الجهد فإنها تظل في حالات كثيرة محتاجة إلى مساعدة الرجل لها، زوجها، أخيها، قريبها؛ بل وحتى محتاجة إلى النشاطات الأخرى التي لا تختص بالمرأة -كما أسلفت-.
إذاً، ليس من تكريم المرأة ولا من رفع قدرها أن نقول: لا بد أن يوجد -مثلاً- للمرأة مفتيات خاصات لا تقبل المرأة الفتوى والعلم الشرعي إلا عن طريقهن، هذا ليس واجباً ولا داعي -أصلاً- لإيجاد هذه الحواجز النفسية بين الرجل والمرأة، فالمرأة في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وتسأله في أمورها العامة والخاصة، وترى أن هذا هو السبيل الصحيح، بل إنني أقول: إن الله تعالى لم يبعث من رسله وأنبيائه إلا الرجال قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} [الأنبياء:7] وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء وإن كان هناك من يقول إن هناك نبيات من النساء كما قال بعضهم في مريم أو غير ذلك كما ذهب إليه ابن حزم، ولكن جمهور العلماء على أن الأنبياء كانوا رجالاً لقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] .
وهذا على أي حال يؤكد المعنى الذي أريد أن أطرق وأدور حوله، وهو أن المرأة ينبغي أن تستفيد مما وهب الله تعالى الرجال من العلم الشرعي، من الفتوى، من الحديث، من القدرات، وهذا ليس تقليلاً من شأنها أو حطاً من قدرها، بل على النقيض من ذلك هذا رفع لشأنها باعتبار أن المجتمع المسلم مجتمع واحد متكامل يقوم الرجل فيه بإمكانياته ومهماته، وتقوم المرأة بإمكانيتها ومهماتها، وليس من حق الرجل أن يمارس الدور الذي وكل إلى المرأة ولا المرأة أن تمارس الدور الذي وكل إلى الرجل، لكن هناك مهمات مشتركة تستفيد المرأة فيها من الرجل ويستفيد الرجل فيها من المرأة.(133/9)
مشاركة المرأة في الدروس العامة وغيرها
يجب أن تكون المرأة مشاركة في الدروس العلمية التي تقام في البلاد، وفى المحاضرات العامة دون أن تنتظر أن تكون هناك دائماً وأبداً محاضرات ودروس ونشاطات تخصها دون غيرها، بل إذا وجدت هذه النشاطات فهذا نور على نور، ومع ذلك ينبغي أن يكون ثمة وجود ظاهر حقيقي وقوي للمرأة في الدروس، والمحاضرات، والنشاطات، والندوات، وسائر الأعمال التي تقيمها المؤسسات الإسلامية والمؤسسات الخيرية، والشخصيات العلمية في البلاد، فننتظر أن تكون المرأة موجودة في المسجد الذي تقام فيه المحاضرة، أو تقام فيه الندوة، أو يقام فيه الدرس العلمي، وأن تستمع كما يستمع الرجال، وتشارك كما يشاركون، وتسأل كما يسألون، وتفهم كما يفهمون، وتتواصل مع تلك النشاطات، وتشعر أن من مهمتها دعم هذه النشاطات، وتقوية وتكثيف الحضور لها.
وبالمقابل كما نطالب المرأة بالمشاركة والحضور نطالب أولئك القائمين على النشاطات العامة الإسلامية في المجتمعات القائمين على الدروس والمحاضرات والندوات أن يكون للمرأة من موضوعاتهم نصيب، وأن يكون ثمة خطاب وعلاج لقضايا المرأة وموضوعاتها سواء الموضوعات الاجتماعية، أو الموضوعات الشخصية، أو الموضوعات العلمية والثقافية، أو الدعوية، أو غيرها بحيث يكون هناك تواصل حقيقي بين تلك النشاطات العامة التي لا نقول: إنها تخص الرجال، ولو كان الذين يتولون إلقاءها هم من الرجال -أيضاً-، يكون هناك تواصل من كلا الطرفين، فالطرف الأول المرأة، تتواصل مع تلك النشاطات، بالحضور والمشاركة والتشجيع والسؤال، والطرف الثاني القائمون على تلك النشاطات يتواصلون مع الرجال والنساء من خلال اختيار الموضوعات، ومعالجتها، وطرحها.(133/10)
الخلاصة(133/11)
تشجيع النشاطات النسائية الدعوية
والقضية الثانية: أننا نحتفل احتفالاً كبيراً بمثل هذه الأنشطة الإسلامية التي تقوم عليها الأخوات، ويعلم الله أننا نشعر بفرحة غامرة لا نشعر بها حينما نسمع عن النشاط في أوساط الرجال، وذلك؛ لأنه ربما تعودنا أن نسمع وجود نشاطات للشباب الصالحين، لكن ليس بنفس المستوى أن نسمع عن النشاطات التي تقوم بها الفتيات المؤمنات الدينات الداعيات، فحين يسمع الإنسان بنشاط تقوم عليه الأخت المسلمة يشعر بفرحة غامرة وغير محدودة، خاصة ونحن نرى أن هذه النشاطات الكبيرة تتم في وسط ذلك الجو الذي نعيش فيه، وهو جو مشحون بجهود أعداء الإسلام من الرجال والنساء، والذين يركزون على المرأة ويولونها عناية خاصة؛ لأنهم يدركون أن هذه المرأة لو انحرفت أو ضلت فإنه يصعب على المجتمع جداً أن يصلح أو يستقيم، وكما قال الشاعر وهو يخاطب المرأة: أيها الحسنا كفى من دلالك واسمعي النصح يجنبك المهالك ذلك الأمر الذي آثرته رجعة للغاب لو تدرين ذلك خلفه أيدي الكواهين التي لا يروي غلها غير اغتيالك قد درت أنك معيار القوى فإذا اختل هوى الخزى بآلك وقديماً يئسوا من قهرنا حينما أعياهم لمح خيالك يقول: في الماضي يئسوا منا لأنهم عرفوا أنهم لا يستطيعون الوصول إلى المرأة، أما اليوم فهم يعرفون أنهم إن استطاعوا أن يسيطروا على المرأة ويؤثرون فيها استطاعوا أن يجعلوا المجتمع المسلم كله يسير إلى هاوية الانحراف، ففي وسط هذا الجو المشحون بجهود المستعربين، والمستعربات، والفاسقين، والفاسقات، وفى وسط الجو المليء بالمغريات والتي تشكل المرأة أبرز أعمدتها؛ حتى استطاع العدو أن يسخر صورة المرأة للإثارة في كل مجال في المجلة، في التلفاز، في الفيديو، في الإعلان، حتى في المتجر، في الطائرة إلى غير ذلك، وهو ينظر حينئذٍ إلى المرأة جسداً بلا روح، فيتعامل مع جسدها، ومع إغرائها، ومع فتنتها، ولا يتعامل مع إنسانيتها، ومع عقلها، ومع تكليفها، ومع دورها في صيانة المجتمع، إنما يتعامل معها كوسيلة من وسائل الإغراء لا غير؛ فحطم بذلك المرأة أولاً، وبالمرأة حطم الرجل ثانياً.(133/12)
عدم الفصل التام بين الجنسين في مسائل الشرع
هذه قضية أولى وهي: أنه لا داعي لأن نفصل بين الرجل والمرأة في الجوانب الشرعية فنعتبر الأصل أن نشاط المرأة مستقل ونشاط الرجل مستقل، ويمكن على نطاق واسع أن يكون هناك نشاطات خاصة بالمرأة من دروس، ومحاضرات، وندوات، وكتب، وأعمال خيرية، ودراسة، ومراكز وغير ذلك.
هذا كله ليس عليه أي غبار، بل ينبغي أن يشجع بقدر المستطاع، ولكن لا ينبغي أن نعتبر هذا بديلاً عن مشاركة المرأة في النشاطات الإسلامية العامة المتاحة للرجل والمرأة جنباً إلى جنب، وأيضاً لا ينبغي أن تشعر المرأة أن لها عالمها الخاص المتميز عن الرجل في كل شيء، بل ينبغي أن تشعر أنها محتاجة إلى أن تستفيد من الآخرين، كما أن الآخرين محتاجون أن يستفيدوا منها في الأمور التي لا يعرفها غيرها، فمثلاً نحن حين نريد أن نتكلم عن قضايا المرأة، ومشاكل المرأة، والأوضاع في المجتمع؛ نوقن بأننا لا نستطيع أن نتكلم عن هذا الأمر إلا بمساعدة أخواتنا من النساء حين يوافيننا مثلاً بطبيعة المشكلات القائمة، ونوعيتها، وما هي؟ وكيف يمكن علاجها؟ وما هي الحلول؟ وما هي عقلية المرأة؟ وما هي الأشياء التي تؤثر فيها؟ إلى غير ذلك من الأمور التي نستفيد نحن فيها من المرأة.(133/13)
دور المرأة ومكانتها عند الرجل
ففي وسط هذا البحر اللجي المتلاطم من ألوان المنكرات نفرح بهذه البوادر الكبيرة المشجعة من وجود نشاط إسلامي نسائي متميز، وأقول: أنتن بهذا العمل الذي تقمن به تمثلن الخط الأصيل للأمة وهذا هو الأصل، ونحن ندرك أن المجتمع المسلم هو المجتمع الذي يتمكن الإنسان فيه من الاستقامة، وإذا كانت المرأة منحرفة فأنَّى للإنسان أن يستقيم والمرأة تقول له: هيت لك، هل ننتظر من الرجال أن يكونوا دائماً وأبداً -حتى وهم في سن المراهقة وفى سن طيش الشباب- أن يكون الواحد منهم يوسف تقول له امرأة العزيز: هيت لك، فيقول: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي، كلا؛ بل نجد في الشباب وفي الرجال الضعف، ونجد فيهم الميل، ونجد فيهم الدوافع الغريزية، ونجد فيهم تسلط الشيطان، ولذلك ينبغي أن نعمل على إصلاح المجتمع حتى لا يجد الإنسان في ذلك المجتمع عقبات كبيرة تمنعه من الاستقامة على الطريق الصحيح.(133/14)
دور المرأة في ظروف الرجل الصعبة
لا غرابة أن تجد أن الرجل في الحالات التي يواجه فيها الصعوبات كثيراً ما يلتفت إلى المرأة، وهذا دليل على عمق مكانة المرأة في نفسية الرجل، وأضرب بعض الأمثلة السريعة التي توحي أن الرجل في أوقات الأزمات، في الشدة، في السجن، على حافة الموت، أول ما يبرز إلى ذهنه -أحياناً- صورة أمه، أو صورة زوجته، أو صورة بنته فيشعر بمشاعر كبيرة ويعبر عنها.
أ/ رجل في السجن يتذكر أمه: هذا رجل سجن في أحد سجون الطغاة، وطال سجنه، فكان أول ما تبادر إلى ذهنه وإلى مخيلته صورة أمه وهي تسفح الدموع حزناً على ولدها، فكتب إليها قصيدة من أروع القصائد يعبر فيها عن عمق مشاعره تجاهها: ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنت البيت والحرما أنت الهنا والمنى أنت العنا وأنا على ثراك وليد قد نما وسما أماه أماه هذا اللحن يسحرني ويبعث العطر في جنبيّ مبتسما ما زال طيفك في دنياي يتبعني إنى سريت وقلبي يجحد النعما يقول تراقبينني وتلاحقينني في كل مكان، ولكنني لا أشعر بمكانتك وفضلك وقلبي يجحد النعما: حتى وقعت أسير البغى فانصرفت عني القلوب سوى قلب يسيل دماً قلب الأم هو الوحيد الذي ظل وفياً يبكي وحيداً على الولد: أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلب ضعيف ويغزو الصحو والحلما ويدخل السجن منسلاً فيدهشني إذ يستبيح من الطغيان شر حمى فإن رآني في خير بكى فرحاً وإن رآني في سوء بكى ألما فلتغفري لي ذنبي يا معذبتي أو حاكميني وكوني الخصم والحكما فكانت صورة الأم هي أول ما برز في ذهن هذا الإنسان المعذب.
ب/ نموذج آخر: وهذا آخر أيضاً سجن فكانت القصيدة الوحيدة ربما التي جادت بها قريحته يخاطب فيها أمه ويصبرها ويثبتها: أماه لا تجزعي فالحافظ الله إنا سلكنا طريقاً قد خبرناه على حافية يا أماه مرقدنا ومن جماجمنا ترسو زواياه أماه إلى آخر القصيدة التي يطالبها فيها بالصبر والثبات: أماه لا تشعريهم أنهم غلبوا أماه لا تسمعيهم منك أواه أرضعتني بلبان العز في صغري لا شيء من سطوة الطاغوت أخشاه أماه رؤياك في قلبي مسطرة ونبع حبك أحيا في ثناياه ومر طيفك يا أماه يؤنسني إني وإن صفت القضبان ألقاه وثالث أيضاً قال قصيدة طويلة هذه المرة يخاطب فيها أباه: أبتاه ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد ينتظراني لكن ضمن هذه القصيدة كان من أبرع وأروع الأبيات قوله يخاطب أباه.
وإذا سمعت نشيج أمي في الدجى تبكي شباباً ضاع في الريعان وتكتم الحسرات في أعماقها ألماً تواريه عن الجيران فاطلب إليها الصفح عني إنني لا أبتغي منها سوى الغفران ما زال في سمعي رنين حديثها مقالها في رحمة وحنان أبني إني قد غدوت عليلة م يبق لي جلد على الأحزان فأذق فؤادي فرحة بالبحث عن بنت الحلال ودعك من عصياني كانت لها أمنية ريانة يا حسن آمال لها وأماني والآن لا أدري بأي جوانح ستبيت بعدي أم بأي جنان ج/ نموذج من الصحابة: ومن قبل كان أحد الصحابة رضي الله عنهم سجن في بلاد الشام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الروم أن يصلبوه، فلما علقوه على عود الصلب، تذكر زوجته وكان مسلماً في عالم كافر آنذاك فقال: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يطرق الفحل أمها مشذبة أطرافها بالمناجل يقول: ياليت من يخبر زوجتي بأنني الآن معلق على هذه الخشبة، أو مربوط إلى هذه الخشبة لأصلب وأقتل في سبيل الله تعالى صابراً محتسباً، فإذاً الرجل يتصور دائماً وأبداً صورة المرأة أماً وبنتاً وزوجةً في أحلك المواقف وأشدها، حتى عند الموت أول ما يبرز إلى ذهن الرجل ربما صورة بنياته الصغيرات اللاتي يخشى عليهن، ومن قبل كان الشاعر العربي يعتذر عن كثرة السفر والذهاب والإياب بالخوف على بنياته: لولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض لكان لى مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لوهبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض وما ذلك إلا لما أحدثه الإسلام في نفسية الإنسان العربي والمسلم من الاهتمام بالمرأة والعناية بها، فهو لم يعتذر بأولاده الذكور، وإنما اعتذر ببنياته لأنهن أحوج إليه من الأولاد، فالأولاد قد يستطيعون أن يقوموا بالأعمال لأنفسهم بخلاف المرأة فهي محتاجة إلى دعم أبيها، أو أخيها، أو زوجها، أو غير ذلك.(133/15)
تأثير المرأة على الرجل زوجة وأماً وبنتاً
كيف يستقم الرجل إذا انحرفت المرأة؟ أليست هذه المرأة المنحرفة هي زوجه التي لا تزال تجره إلى الوراء دائماً وأبداً، فكلما رأته على خير حاولت أن تثبط عزيمته وهمته، وإن رأته على غير ذلك شجعته وأيدته، فمثلاً إذا جاءت الإجازة الصيفية قالت له: نريد أن نسيح في بلاد الغرب ونرى المشاهد ونرى الطبيعة ونرى كذا ونرى كذا، فلا تزال به تضغط عليه وتحادثه في الصباح، والظهر، والمساء، وفى كل حين حتى يجد أنه مضطر إلى أن يلبي هذه الرغبة، ولكن على النقيض من ذلك لو رأت أن هذا الرجل مشغول بنشاط خيري، أو أنه يبادر إلى الصلوات حاولت أن تثبط عزيمته، فإذا سمع المؤذن فأراد أن يقوم قالت له: مهلاً، ابق حتى تسمع الإقامة بعد قليل، وما تزال به حتى يصبح من عادة هذا الإنسان أن ينشط في الأمور التي لا خير فيها، وأن يكون متأخراً متخلفاً في الأمور الخيِّرة، فهنا برز دور المرأة على الرجل باعتبارها زوجة له.
كذلك لما تكون هذه المرأة بنتا له فهو يشعر بأنها تؤثر فيه، وأنها تطالبه وتلح عليه، وتصر، وتضرب له الأمثال من بنت فلان وبنت فلان، فما تزال به حتى تحصل على ما تريد، أكثر مما يحصل الولد أحياناً، وعلى سبيل المثال: عندما تريد الفتاة أن تدخل في مدرسة أو معهد، وليكن هذا المعهد أو تكون هذه المدرسة مدرسة من المدارس الأجنبية التي تعلم تعليماً غير إسلامي، بل وربما تربي الفتاة تربية منحرفة على أنماط التربية الغربية يقول الأب أول مرة: لا، وثاني مرة: لا؛ لكن عندما تظل هذه الفتاة تضرب على هذا الوتر وتتحدث عنه، ثم تستشفع بأمها فتضغط الأم وتمارس دورها، وبأختها الكبرى، وبأخيها، وتضغط عليه حتى يوافق؛ فإذا وافق ذهب للمدرسة فوجد أن العدد قد اكتمل وأنه لا إمكانية للقبول ظلت هذه البنت تكلم أباها باستمرار حتى وجد الأب نفسه مضطراً إلى أن يبذل كثيراً من الشفاعات، ويتصل بأصدقائه وأقاربه حتى يتمكن من تحقيق رغبة هذه الفتاة.(133/16)
مما ينبغي مراعاته في النشاطات النسائية
نحن نحتفل بالنشاطات الإسلامية الخيرية باعتبار أنها عودة إلى الخط الأصيل في الأمة؛ حماية للمرأة من عوامل الفساد والانحراف؛ وهي أيضاً حماية للرجل الذي تشكل المرأة هماً أكبر في حياته أماً وأختاً وبنتاً وزوجةً، فاستقامة المرأة معناها إعانة الرجل ومساعدته على الاستقامة على الطريق الصحيح، ووسط هذا الاحتفال الذي نفرح به في وجود النشاط الإسلامي النسوي، لا بد أن يكون هذا الفرح فرحاً إيجابياً معبراً، وأكتفي أن أشير إلى نقطتين أعتبر أنهما نوع من المشاركة في هذا المجال.(133/17)
أهمية تعاهد المسيرة النسائية وتصحيحها
النقطة الأولى: أهمية تعاهد المسيرة النسائية الإسلامية وتصحيحها كما تتعاهد مسيرة الرجال ومسيرة المجتمعات الإسلامية بشكل عام، وإن مثل هذا اللقاء وغيره، والاتصال، والمراسلة وما سوى ذلك، بل وعقد الندوات في أوساط النساء لمناقشة الدعوة النسائية في وسط المرأة، وإلى أين وصلت؟ وما هي إيجابيتها؟ وما هي سلبياتها؟ وما أخطاؤها؟ وما سبلها؟ أعتبر أن هذه من أهم الواجبات التي ينبغي أن نراجعها مرة بعد أخرى.
إن مسئولية كل أخت وكل امرأة أن يكون لها مشاركة، ليس في النشاط فقط؛ بل حتى في تصحيح مسيرة النشاط الدعوي ومراجعته مرة بعد أخرى، فإن النشاط الإسلامي في وسط الرجل والمرأة لا يستهدف إلغاء شخصية النساء الأخريات أو الرجال، بل على العكس يستهدف إبراز شخصية كل أنثى، كل فتاة، كل فتى، كل شاب بأن يكون له دور في الدعوة، ودور في المشاركة، ودور في التصحيح، ودور في الاعتراض أيضاً، ودور في المطالبة بالأفضل حتى نكون جميعاً عوامل مساعدة على الوصول إلى الهدف المنشود.(133/18)
أهمية توسيع دائرة الانفتاح على المجتمع
النقطة الثانية والأخيرة -أيضاً- في حديثي هي: أهمية توسيع دائرة الانفتاح على المجتمع: ومن الأمور الملحوظة الآن أن خصوم الإسلام من النصارى، واليهود، والعلمانيين، والمنافقين، وسواهم ما عادوا يخاطبون الآن فئة معينة كالمثقفين، أو طلبة الجامعات، لا، الملاحظ أنهم بدأوا يستهدفون المجتمع بكامله، وعلى سبيل المثال: النشاط التنصيرى قد أصبح يستهدف المجتمع كله وهذا له حديث خاص، وهناك وثائق وأدلة، كذلك النشاط التخريبي ما أصبح يخاطب فئة معينة، بل أصبح يخاطب المجتمعات الإسلامية كلها ويسعى في تغييرها، ولا أدل على ذلك من مسألة الصحون التي تستقبل البث المباشر الآن من أنحاء العالم، وتؤثر به على عقلية الرجل والمرأة، والكبير والصغير في جميع البيوت، وهناك قنوات خاصة موجهة إلى ما يسمى بالشرق الأوسط، وإلى البلاد العربية والإسلامية سواء قنوات تنصيرية أو قنوات إفساد وانحلال أخلاقي.
يقول بعض الخبراء والمسئولين الأمريكان: يجب علينا أن ندرك أننا لا يمكن أن نتعامل مع الحكام في البلاد العربية والإسلامية فحسب في محاولة كسب ولائهم وكسب ثقتهم، فإن هذا لا يكفي؛ فإن الحاكم قد يتغير يوماً من الأيام ويحل غيره محله، ولكن ينبغي أن نعمل على تغيير عقليات الشعوب، ونفسيتها، وإقناعها بضرورة تبني حضارتنا والقناعة بها، ومن ذلك نص على مسألة البث المباشر كوسيلة من أهم الوسائل، فضلاً عن هذا العدد الكبير من المجلات التي تغزو البيوت إلى غير ذلك.
فمثلاً محاضرة كهذه المحاضرة كم يحضرها؟ يحضرها عدد محدود مهما كثر، كم الذين يشاهدون المسلسلات في التلفاز؟ كم الفتيات اللاتي يجلسن أمام الفيديو؟ يبقى العدد كبيراً جداً، وبناء عليه أقول: ينبغي على الأخوات القائمات على الدعوة أن يحرصن على اقتحام المجتمع النسائي كله، وتوسيع نطاق الدعوة فيه إلى أبعد حد ممكن، وإزالة الحواجز التي تحول بينهن وبين بعض الفتيات اللاتي ربما يبدو عليهن شيء من الانحراف في مظهرهن، في أزيائهن، في تسريحات الشعر، في بعض العادات، في بعض التقاليد، في بعض الانحرافات التي مهما كبرت فهي تظل قابلة للإصلاح والتعديل، ينبغي أن نزيل الحواجز الموجودة بين المتدينات وبين هذه الطبقة من المجتمع، ونعمل على الاتصال بهن وتحسين صورة المتدينات في نظرهن، وإقناعهن ببعض الأمور إهداء الكتاب، إهداء الشريط، دعوتهن إلى المحاضرة، إلى أي نشاط إسلامي حتى نتمكن من التأثير الأكبر على المجتمع، ومقاومة مثل تلك الوسائل التي تستهدف المجتمع المسلم.(133/19)
الأسئلة(133/20)
موقف المرأة من زوجها في صلاة الفجر والجماعة
السؤال
زوجي لا يصلى في المسجد رغم سماعة لصوت الأذان، وقلت له مراراً بأنه يجب عليه الذهاب إلى المسجد، وأيضاً تعبت في إيقاظه لصلاة الصبح، رغم أنه يؤدي جميع الصلاة المكتوبة، فهل عليَّ إثم إذا أصبحت أصلي الصباح دون إيقاظة؟
الجواب
ينبغي أن توقظيه يومياً، وأن تبذلي جهدك في إيقاظه، ولا تيئسي من روح الله؛ فإذا عجزت عنه فصلي أنت ولو كان هو لا يصلى مع الجماعة؛ لكن لا تيئسي منه، ولا بأس أن تعطيه بعض الكتيبات والأشرطة، وتحرصي على تحريك قلبه بالخوف من الله عز وجل، وتذكيره بواجبه ومسئوليته.(133/21)
سؤال الزوجة زوجها عن تأخره
السؤال
هل من حق الزوجة أن تسأل عن تأخر زوجها من البيت؟
الجواب
إذا كان هناك ما يدعو إلى السؤال مثل أن يكون تأخراً مريباً أو تأخراً غير معتاد فمن حقها أن تسأله؛ لكن ليس سؤالاً محقق، لأن الرجل دائماً يشعر بالكبرياء فربما في مثل هذه الحال يعاند في أن يجيب على المرأة، لكن إذا استقبلته بالبشر والترحاب، وبعد ما هدأت الأمور تنظر في الساعة وتقول: سبحان الله! الآن تأخرت يا أبا فلان ولم يكن هذا من العادات! بحيث أنها تعرض الموضوع، وتستطيع أن تتسلل بطريقة معينة دون أن تواجهه، لماذا أنت تأخرت؟ وأنت تهرب من المنزل وأنت! وأنت!! وتصبح القضية في حالة شديدة، وربما كان الزوج في حالة غضب، أو تأخر لحادث، أو تأخر لسبب معين؛ فيكون مشحوناً، وربما تكلم بكلام في مثل تلك الظروف لا تحمد عقباه.(133/22)
مشكلة إيقاظ الزوج لصلاة الفجر
السؤال
زوجي يصلي دائماً؛ لكن بعض الأوقات يصلي في البيت، ونادراً ما يترك صلاة الفجر، وعندما أوقظه لا يصلي ويقول: أنا لست طفلاً فهل أتركه؟
الجواب
لا، لا تتركيه، استمري في دعوتك.(133/23)
كشف الوجه في بلاد الكفار
السؤال
إذا تسترت المرأة في بلاد الخارج، ووضعت الغطاء على الرأس، واللبس الطويل، فهل هذا يكفي دون تغطية الوجه؟
الجواب
لا، ينبغي أن تغطي المرأة وجهها، فالحكم الشرعي لا يخص الداخل، بل هو في كل مكان، ولكن هناك طرق ووسائل لتغطية الوجه تختلف من بلد إلى آخر.(133/24)
ميقات إحرام من كان في غير بلده
السؤال
ما حكم من جاءت إلى جدة من مدينه تبوك لزيارة أهلها؛ حيث أن مقر أهلها في جدة، ثم أحبت أن تعتمر فمن أين تحرم؟
الجواب
إذا كانت نوت العمرة -أصلاً- فينبغي أن تحرم من الميقات، أما إن كانت نية العمرة لم تطرأ عليها إلا بعد أن دخلت جدة فإنها تحرم من جدة نفسها.(133/25)
اقتراح حول الكتب والأشرطة والإعلام
السؤال
هذا السؤال الأخير يقول: أرجو توجيه ندائي للأخوات والملتزمين عموماً من ناحية مواجهة الطوفان الإعلامي المفسد التي تحفل به مجلات وجرائد عديدة بدعم من الإعلام الإسلامي، عن طريق شراء المجلات الإسلامية، والشريط الإسلامي، والتركيز على الشراء مع أن في الإعارة، والاستعارة فائدة، ولكن ذلك الثمن الزهيد في المجلة أو الشريط، والذي لا يتجاوز خمسة ريالات، أي في الشهر عشرين ريالاً، فيما فيه من الدخل والدعم المادي لتلك المؤسسات الخيّرة، والتي قامت لتقول كلمة الحق وتدل على الخير؟
الجواب
نعم نحن مطالبون بأمرين: أولاً: دعم الشريط الإسلامي والمجلة الإسلامية ليس بالشراء فقط، بالشراء وإعارته للآخرين حتى يكون هذا سبيل إلى أن يعجبوا ويشتروا فيما بعد، ومواصلاته أيضاً بالجديد من الأخبار والمقالات، والبحوث، وغير ذلك، هذا من جانب.
الجانب الثاني: أن نقوم بحملة جادة ومستمرة وصابرة على تلك المطبوعات الإعلامية سواءً كانت صحفاً أو مجلات أو كتباً أو أفلاماً أو غيرها؛ من التي تسعى إلى نشر الرذيلة والفاحشة في أوساط المؤمنين، أو تحارب الله ورسوله، وتكون سيئة في عرضها، وتكون سيئة لعرض أحوال المسلمين وأخبارهم، فنقاطعها لا نبيعها، ولا نشتريها، ولا نتعامل معها، بل ونتبنى الدعوة لمقاطعتها في أوساط أقاربنا، ومعارفنا، وزملائنا، وجيراننا؛ لعل الله أن يجعل في ذلك نصراً للمطبوعات الإسلامية الخيرية، وأن يكون هذا درساً لأي مطبوعة تدرك أنها إذا حاربت الإسلام أو واجهته؛ معنى ذلك أنها حكمت على نفسها بالزوال والفناء في وسط هذا المجتمع، وأقول: إذا لم يكن مجتمعنا مجتمعاً نظيفاً ومتصافياً؛ يقبل الخير ويتشربه، ويرد الباطل ويدفعه، فأي مجتمع نطمع أن يكون هو ذلك المجتمع؟! أسأل الله أن يكون هذا الاجتماع اجتماعاً طيباً مباركاً، وأشكر الله عز وجل الذي كان هذا الاجتماع من قضائه وقدره وتوفيقه، ثم أشكر جميع الأخوات اللاتي كن سبباً في وجود مثل هذا اللقاء، وأسال الله تعالى أن يبارك في جميع الحاضرات، وأن يرزقهن الصلاح في أقوالهن وظاهرهن وسرهن وباطنهن، وأقول: ربنا هب لنا من أولادنا وأزواجنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، وأتمنى أن يتكرر -في فرص ومناسبات- مثل هذا الاجتماع.
وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(133/26)
بث المحاضرات في الإذاعة
السؤال
رابعاً: لماذا المحاضرات التي تقام في المساجد لكبار العلماء لا تبث في إذاعة القرآن الكريم ليستفيد منها العالم الإسلامي؟
الجواب
على كل حال هذه المحاضرات تسجل، وتلك الأشرطة تشرق وتغرب، وقد بلغني أن الأشرطة التي يقوم بإلقائها الدعاة والعلماء هنا تصل إلى أمريكا وروسيا والصين من ناس ثقات خلال أسبوع واحد وهذه نعمة كبيرة، أما كون هذه الإذاعات الإسلامية أو غير الإسلامية، تتجاهل مثل هذه المحاضرات؛ فهذا ليس أمراً غريباً، وأعتقد أن له ما يفسره، وله ما يؤوله ويبرره في نظرنا.(133/27)
استفسارات مديرة مدرسة
السؤال
تقول: أنا مديرة مدرسة في منطقة ما، وبحكم الأمانة التي وضعت على عاتقي وسأكون مسئولة هل أديتها أم لا فلدي بعض الاستفسارات وأرجو الإجابة 1- أجد بعض الضغوط على معلماتي من قبل مكتب التوجيه النسوي.
فمثلاً مسألة الانتداب من مدرسة إلى أخرى إذا رفضت المعلمة الانتداب، وكان لديها ظروف قاهرة؛ فإن المكتب يلزمني بأن لا أمكنها التوقيع في سجل الحضور والانصراف، وأنا أعتبرها غائبة حتى لو حضرت وأعطت الحصص، وبطبيعة الحال أتجاوز في هذه المسألة وأمكنها من التوقيع، وكثير من الأمور الأخرى هي على هذا المنوال، والتي لا يوجد بها أي تعليمات من الرئاسة، ويلزمونني على فعلها وأن أضغط على معلماتي وأنا أتجاوز.
الجواب
لا شك أن من الواجب عليك أن تكوني راعية بالعدل، والعدل يوجب أن تقولي الحق، ولا شك أنه لو كان هناك أنظمة حتى ولو من الرئاسة، أو تعليمات مخالفة للعدل؛ لكنا نقول: يجب مخالفة هذه الأنظمة مراعاة للعدل؛ لأن النظام نفسه لا يهدف إلا إلى تحقيق المصلحة.
فإذا تبين في حالة من الحالات أو في ظرف من الظروف أن النظام مخالف للمصلحة فأضع النظام جنباً وأسير في الطريق؛ لكن في مثل هذا الوضع مع أنه لا يوجد نظام، ومع ذلك هو ظلم فادح؛ فكيف أسمح أن تكون مدرسة حضرت وأدت الحصص وأرفض أن توقع؟ هذا لا يجوز، وهذا ظلم بل ينبغي أن توقع، وسواءً تعاملت مع التوجيه بأسلوب لبق، أو قلتِ لهم: إنني لا يمكن أن أمنعها، المهم أنه لا بد أن تمكني هؤلاء المدرسات من التوقيع، ومثل ذلك التيسير على من تحت يدك من المعلمات، ومراعاة ظروفهن، والتلطف معهن؛ هذا مما يقربك إلى الله تعالى، ومما جاء به الدين، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {يسروا ولا تعسروا} ولما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفروا} فاحرصي على التيسير ومراعاة ظروف الآخرين، والتسامح معهم، واعتبري هذا قربه من الله عز وجل.
2- بعض الحلي الضائع الذي يسقط من الطالبات في ساحة المدرسة نقوم بالإعلان عنه في الطوابير في مرات، ولكن لا تأتي أي طالبة لأخذه، ومن ضمن التعليمات أن الحلي الضائعة إذا بقي في المدرسة لمدة ثلاث سنوات فمن حق المدرسة أن تبيعه وتصرفه في أنشطتها، ولكني لا أعمل بهذا التعليم فأبيع هذا الحلي فأتصدق به إلى الأفغان أو للبوسنة والهرسك، هل تصرفي هذا سليم أم لا؟ الجواب: أرى أنه لا بأس بهذا التصرف، أيضاً متى تيقنت بأنه لن يكون هناك مسألة إداريه لك أو معاتبة بمثل هذا العمل، فلا بأس؛ لأن هذا من الضائع الذي يصرف في المصالح العامة، ولا شك أن مصالح المسلمين كالبوسنة والهرسك أو غيرها أحوج وأعظم حاجة؛ خاصة في مثل هذه الظروف من بعض النشاطات المدرسية التي يمكن أن تغطى بأسلوب آخر.
3- مسألة المقصف المدرسي التعاوني، إدارة التعليم بمنطقتنا أعطتنا كيفيه تقسيم الأرباح، فيكون نصيب الطالبة كذا إلى آخره، والباقي يصرف في الأنشطة والخدمات والمعونة الاجتماعية وغيره من الأمور.
ما حكم ذلك؟ الجواب: الذي يظهر لي أنه لا بأس بهذا شريطة أن تكون الطالبات المشاركات في المقصف على علم بذلك، فيكون هناك شرح لنشاط المقصف قبل أخذ مساهمة الطالبات، فتجمعين الطالبات أول السنة وتقولين لهن: نظام المقصف كذا وكذا، والأرباح توزع كالتالي، من أحبت منكن أن تشارك على هذا الأساس فلتشارك، وحينئذٍ يكن راضيات بهذه القسمة ولا يكون في ذلك حرج.(133/28)
لبس المرأة البنطال أمام النساء
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تلبس البنطال أمام النساء أو في بيتها؟
الجواب
البنطلون فيه مفاسد عديدة من تحجيم أو بيان حجم أعضاء المرأة، وفيه من الفتنه والإثارة الشيء الكثير، ولذلك أرى أن المرأة إن استجازت -مثلاً- في بيتها الخاص أمام زوجها فقط؛ فهذا لا شك أنه لا بأس فيه، أما أمام النساء الأخريات فلا أرى أن تلبسه.(133/29)
موقف المرأة من الزوج المنحرف
السؤال
امرأة مخطوبة لرجل وهي تعرف أنه قد وقع في الفاحشة، ماذا تفعل هل تبلغ عنه؟ أم تستر عليه مع الرغم أنها امرأة غير منحرفة وهل يجوز لها أن تتزوجه؟
الجواب
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] فإذا علمت أن هذا الرجل يرتكب الفواحش، ويصر عليها، ويبحث عنها، فمن الدين والأمانة والنصيحة أن تبلغ المرأة المخطوبة بذلك، وأما إن كان في زلة ولعله تاب منها فلها أن تستر عليه حينئذ.(133/30)
سفر المرأة بغير محرم
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تسافر بدون زوجها، مع العلم أن هذا الشيء خارج عن إرادتها، وفي البلد الذي هي فيه لا يوجد لها محرم غير زوجها؟
الجواب
الأصل قول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث في البخاري {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} وقوله: لا تسافر: عام يشمل كل سفر، وكل ما سمى سفراً لا يجوز للمرأة أن تخرج فيه إلا مع ذي محرم زوجها، أو أخوها، أو أبوها، أو قريبها، أو ابنها الذي هو محرم لها، أما إذا كان هذا الأمر خارجاً عن إرادتها مثل أن توجد في بلد ليس فيه محرم، وهي مضطرة إلى أن تسافر إلى بلد آخر لظروف قاهرة، وخاصة، واستثنائية؛ فالضرورة تقدر بقدرها مثل لو كانت في بلد صار فيها حرب أو قتال أو ما أشبه ذلك، واضطرت إلى السفر، أو كانت عند المشركين واستطاعت أن تنفك وتأتي إلى بلاد المسلمين؛ فقد ذكر العلماء أن لها أن تخرج، ومثله إذا كان هناك حاجة ملحة في ذهابها، وذهبت مع مجموعة من النساء مأمونات دينات موثوقات، والفتنه مندفعة حينئذٍ، فكل حالة لها أحكامها.(133/31)
موقف الفتاة من الانحراف والباطل
السؤال
نحن طالبات في المدارس نرى الباطل أكثر من الحق، فماذا نفعل ونحن نعلم أن الباطل كثير جداً؟
الجواب
لماذا كان الباطل أكثر من الحق؛ لأن أهل الباطل جاهروا بباطلهم وأهل الحق استحوا أو تستروا حتى من إعلانه وإظهاره، ولذلك أقول: إنه كلما استطعنا أن نجند الفتيات في حمل الحق والدعوة إليه والمشاركة فيه -كما طلبت من قبل- في الدخول في أوساط البنات؛ حتى ممن يظهر عليهن بعض مظاهر الانحراف والتقصير، والتأثير عليهن استطعنا -بإذن الله عز وجل- أن نحول هذا الاتجاه ليكون الحق أغلب، والحق على كل حال غالب ولو كان قليلاً، فإن أهل الحق أقوياء بإذن الله.(133/32)
مس الكافر للمصحف في المدارس
السؤال
نعاني نحن المعلمات في المدارس من وجود طالبات نصرانيات، وكما تعلم أنه وجود مواد الدين ومنها حصة التلاوة، ومن قبل موظفي الرئاسة أن تؤدي الطالبة الاختبار في مادتي التلاوة والقرآن، وأن تمسك فيه؛ لأنه ليس فيه حرج، وقد طلبنا أكثر من مرة التصدي لهذا الأمر، ولكن كانت الإجابة دائماً أن تمسك الطالبة النصرانية وتتلوه مثلها مثل الطالبة المسلمة، أرجو القيام بعمل ما يمنع هذه الظاهرة وخاصة ونحن في بلاد إسلامية؟
الجواب
إن شاء الله سوف نخاطب به إدارة تعليم البنات، وينبغي أن يكون الانتباه على هؤلاء الطالبات، وأن لا يكون لهن تأثير سيئ على الطالبات المسلمات، وينبغي أيضاً أن يكون هناك جهود لتحويل هؤلاء إلى فتيات مؤمنات.(133/33)
جهر المرأة في الصلاة
السؤال
هل يجوز رفع صوت المرآة في الصلاة السرية حتى لا يدخل الشيطان عليها إن كان لا يسمعها إلا محارمها؟
الجواب
إن رفعت المرأة بقدر ما تسمع هي نفسها للحاجة؛ مثل أن تكون عندها شيء من الوسوسة فلا حرج.(133/34)
الخروج مع السائق للمحاضرة
السؤال
إذا حرصت المرأة على حضور المحاضرات والندوات والذهاب إلى المدارس لتعليم القرآن، وترتب على ذلك خروجها مع بعض السائقين بمفردها -أحيانا- للضرورة أو تقصيرها في بعض أمور بيتها؟
الجواب
أما خروجها مع السائق بمفردها فلا أراه، وعلى أقل تقدير عليها أن تخرج مع مجموعة من النساء، وأما التقصير في أمور البيت فهذا أمر نسبي، فإذا كان هناك تقصير ظاهر يؤثر في البيت وفي نفيسة الزوج فلا شك أن الأقربين أولى بالمعروف، وبيتها أحوج بها، أما إن كان هذا التقصير يمكن تداركه أو تلافيه والمسالة مسألة استثنائية فهذا يقدر بقدره.(133/35)
عرض الولي موليته على الرجل الصالح
السؤال
تقول: لقد قرأت لأحد الأساتذة الطيبين تعليقا ًعلى مسألة الزواج، وهو أن الفتاة وأهلها عليهم أن يبحثوا عن الزوج الصالح لابنتهم، ولا ينبغي للفتاه أن تكون في انتظار متى يأتي الزوج الصالح، فهذا من أسباب العنوسة وتأخر الفتاة عن الزواج، وقد آلمني هذا الكلام كثيراً لدرجة أنني بكيت بحرارة، فكيف لي وأهلي أن يعرضوني للزواج فهل سيقبل ذلك من جميع الناس، فإنهم سوف يحتقرون هذا الفعل حتى الشباب الطيبين لا يقبلون أن تعرض عليهم الفتاه نفسها؟ الخ.
الجواب
في الواقع أن هذا الكلام ينبغي أن يكون فيه تفصيل، ونحن نعلم أن هناك من النساء من عرضت نفسها مثل بنت أنس بن مالك رضي الله عنها وعنه، أيضاً استغربت من أبيها وقالت: كيف امرأة تعرض نفسها، فقال: إنها كانت خيراً منك، أي: لا حرج في هذا؛ لكن قد تشعر كثير من النساء أحياناً بحكم تكوينها وطبيعتها أو حساسيتها أن هذا فيه حط من قدرها، أو نيل من كرامتها، فحينئذٍ ليس هناك ثمة داعي، والأصل أن الرجل هو الذي يبحث عن المرأة، هذا هو الأصل أن الرجل هو الذي يبحث عن المرأة ويسعى في الوصول إليها، وما قاله هذا الأستاذ فيه هذا التفصيل الذي أقوله، أما قول الأخت ادع الله أن يرزقني الزوج الصالح والذرية الصالحة، فأسأل الله أن يرزقك الزوج الصالح وجميع الفتيات المسلمات والمتدينات خاصة أن يرزقهن الناس الصالحين، وأن يملأ حياتهن سعادة وأنساً وتوفيقاً إنه على كل شيء قدير.(133/36)
دور الزوج في المنزل
السؤال
هل صحيح أن الرجل ليس له دور في المنزل غير الراحة والأكل بحجة أنه تزوج امرأة ملتزمة لكي تقوم بكل شيء من التربية والخ.
ويحتجون بـ حسن البنا أنه قال لزوجته عندما كان ولده مريض: جده أعلم بطريق المستشفى وخرج؟
الجواب
نعم، هذا صحيح أن الرجل ليس له دور في المنزل غير الراحة والنوم فقط، والدور الثاني له هو أن يمارس دورة في أخذ قسط من النوم، ولعل الأخت تعتبره جزءاً من الراحة على كل حال، نعم هذا هو بعض تصور الرجال أن دور الرجل في المنزل هو الراحة، وقد يسوغ لنفسه أنه داعية، وبناءً عليه؛ فهو مشغول عن المنزل، وأعتقد أنه من التضييع أن تضيع من تعول، {وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول p>} .
فأنا لا أفهم أن يكون داعية والبيت أصبح له كالفندق يأوي إليه للنوم والشرب والأكل، وما سوى ذلك، بل الذي أفهمه أنه إذا كان داعية حقيقياً فبصماته واضحة على البيت، على سلوك الأهل في البيت، على الأولاد، على كل شيء في المنزل، ودوره في البيت لا يقل عن دوره في الخارج؛ حتى لو كان بقاؤه وقتاً محدوداً؛ فليس بالضروري أن يكون معنى ذلك أنه يقضي في المنزل وقتاً طويلاً، ولكن هذا الوقت القصير الذي يقضيه هو وقت مؤثر وفعال، ويعطي أهل البيت حقهم، أنا أجد الآن أن بعض التجار الكبار الذين يتحملون مسؤوليات كبيرة في المجالات التجارية؛ فإذا بحثت عن سيرتهم الخاصة في داخل البيوت وجدت أنهم أعطوا بيوتهم قسطاً لا بأس به؛ حتى أن بعضهم -مثلاً- يخصص للبيت ولو في الشهر أسبوع، في نهاية الأسبوع الأربعاء والخميس والجمعة يخرج بأهله بحيث لا يعلم به أحد، ويخصص هذا الوقت للأهل، للأولاد، للبنات ليتحدث معهم، ويباسطهم ويزيل عنهم كل أنواع الوحشة، أو الغربة، وهم ناس يتحملون مسئوليات جسام وكبار.
فالداعية من باب أولى ينبغي أن يدرك أن أهله أحق بدعوته، ولذلك أقول: ليس صحيحاً أن رجلاً دوره في المنزل مجرد النوم والأكل فقط؛ وإن كان هذا الواقع بالنسبة لبعض الأزواج.(133/37)
وضع العدسات الملونة للمرأة
السؤال
ما حكم وضع العدسات الملونة ليس فقط للجمال وإنما للنظر؟
الجواب
أما إن كانت العدسة من أجل النظر فلا أعتقد أن في هذا شيئاً، أما إن كانت للجمال فبعضهم قد يعترض عليها، وأنا أرى أيضاً أنه جائز أن توضع هذه الأشياء أيضاً، فلا فرق بين ألوان المكياج التي تضعها المرأة متى كان ذلك في حدود الاعتدال.(133/38)
قص شعر رأس المرأة
السؤال
ما حكم قص الشعر للمرأة حتى تجعله فوق أذنيها قريباً من الولد مع العلم أن هناك مرض للشعر لا يذهب إلا بقصه؟
الجواب
بالنسبة لتجمل المرأة لزوجها أو تجملها بقص شعرها فيه كلام، فمن الفقهاء من يقول بتحريمه مطلقاً، ومنهم من يقول بكراهيته، ومنهم من يقول بإباحته، والذي أذهب إليه: أنه يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها كما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها {أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة} أي: يكون الشعر إلى ما فوق الكتف تقريباً، وهذا كما قال العلماء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن تراعي الفتاة في هذا أمور: الأمر الأول: ألا تتشبه في ذلك بالشباب الأولاد فالبعض تقص شعرها وتنهكه حتى يكون كشعر الولد.
الأمر الثاني: ألا يكون التشبه بالكافرات، -مثلاً- بعض البنات تتابع التسريحات أولاً بأول، وكلما جاءت تسريحة جديدة قلدتها؛ حتى أن من البنات مثلاً من تصبغ شعرها بلون معين، ثم بعد أن تتغير التسريحة تحاول أن تغيره إلى ألوان أخرى، أو تحاول أن تعيده إلى اللون الأسود الذي كان عليه، وغير ذلك مما يدل أنها فقدت شخصيتها واستقلالها، وأصبحت تأخذ كل شيء عن الغرب، ولا شك أن متابعة التسريحات والتقليعات أمر مذموم، ولا يليق بالمرأة المسلمة التي لها قوتها وشخصيتها واستقلاليتها، فلا تكون مجرد سوق لرواج العادات والتقاليد الغربية.(133/39)
حكم ما خرج من فم الطفل
السؤال
ما حكم الصلاة بثياب عليها بعض ما خرج من فم الطفل الرضيع، خاصة إذا كان كثير الاستفراغ على مدار اليوم، ومن كثرته يلاحظ أن هذا الذي خرج من جوفه قد تغير؟
الجواب
إذا كان الذي خرج من جوفه قد تغير بطول مكثه في جوفه فالذي يظهر لي أنه لا بد من غسله، أما إن كان لم يتغير أي أنه خرج بعد أن شربه مباشرة وخرج كما هو من غير تغير؛ فالأظهر أنه لا يعد نجساً ولا يجب إزالته.(133/40)
منع الأزواج زوجاتهن من الأنشطة الدعوية
السؤال
تمنيت أن هذا الكلام موجه إلى الرجال؛ لأنهم دائماً يمنعون النساء من الأنشطة ويقولون لها: إن البيت والأولاد ورعاية زوجك أهم من تلك المحاضرات والندوات، وخاصة أنهم لا ينقلون للنساء العلم الشرعي وما يسمعونه في المجالس الشرعية، ونتمنى أيضاً أن تكون محاضرات العلماء للمرأة ليست خاصة بموضوعات المرأة كالزواج والطلاق والحيض والنفاس وغيره حتى نستطيع الرد على أعداء الإسلام من العلمانيين وغيرهم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه المحاضرة هي جعلت للرجال والنساء على حد سواء، وليس القضية قضية مواجهة أو مغالبة بين الرجال والنساء، بل على العكس ينبغي أن يكون بين المرأة وبين الرجل قدر كبير من التفاهم والنقاش الهادئ البعيد عن المشادة، فالمرأة لا أعتقد أنها تمثل وجهة نظر النساء، والرجل يمثل وجهة نظر الرجال، لا، خاصة إذا كانت امرأة مع زوجها ينبغي أن تشعر هي وهو أنهم يمثلون شركة واحدة، ولا بد أن يكون هناك تفاهم كبير حول القضايا التي تثور حولها الخلافات فيما بينهم.
أما مسألة المحاضرات: فالواقع أن هناك محاضرات للنساء ليس فقط عن القضايا التي تخص المرأة بل موضوعات كثيرة، وبالمناسبة فهناك دروس علمية مخصصة للمرأة ألقيت منها ما يزيد عن أربعة أو خمسة دروس، وأنا بصدد استكمالها، وأتمنى دائماً من الأخوات المشاركة من خلال الاقتراحات والموضوعات، وبيان الأخطاء الموجودة عند المرأة؛ لأن قابلية المرأة على معرفة عيوب المجتمع النسائي وأمراضه وسبل علاجه، ونفسية المرأة وكيفية مخاطبتها أكثر من الرجل؛ فإذا تحدثنا بالأسلوب التي كتبته المرأة وخاطبت به أختها كان ذلك أبلغ في التأثير في الغالب.(133/41)
طلب عنوان الشيخ وغيره
السؤال
تقول: تأتي علينا أوقات نجد فيها أحداثاً نود الإرسال إليكم، أو إلى الشيخ سفر الحوالي أو الشيخ ناصر العمر؛ لكننا لا نعرف العنوان وكذلك عنوانك؟
الجواب
أما عنواني فأعيده مرة أخرى؛ لأني لاحظت ارتفاع الأصوات مما دل على أنه لم يكتب جيداً فصندوق البريد عندي: (2782) القصيم - بريدة أو على كلية الشريعة بالقصيم.
ولكني أفضل أن يكون الاتصال عبر الفاكس ورقم الفاكس (063234101) أو رقم الهاتف (063230789) والهاتف بعد صلاة الظهر من الساعة 1 إلى الساعة 2 أما بالنسبة للشيخين فالشيخ سفر الحوالي في جامعة أم القرى.
والشيخ ناصر العمر في كلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض هذا الذي أعرف.(133/42)
هم الإسلام عند المرأة
السؤال
تقول ثانياً: في محاضرة (من يحمل هم الإسلام) ذكرتم أن الإحساس تجاه هموم الإسلام أصبح عند الكثير من المسلمين حتى الصالحين إلى درجة تصل إلى أقل القليل، والمرأة أحوج ما تكون إلى مثل هذه المحاضرات؛ لأن الإحساس عندها تجاه هموم الإسلام أصبح معدوماً؛ إلا من رحم ربي، ظناً منها أن ذلك لا يخصها وهو من خصوصيات الرجال؟
الجواب
أولاً أعتقد أن الأمر ليس معدوماً، قد يكون أقل مما نريد، ويكفي أن بعض الأسئلة التي مرت قبل قليل تتحدث فيها بعض الأخوات عن أنها باعت نفسها لله عز وجل، وآلت على نفسها أن تسلك طريق الجهاد، والدعوة إلى الله تعالى، وطلب العلم النافع، والدعوة إليه، ونحن نطالب الأخوات بأن لا ينتظرن دائماً وأبداً أن يتحدث الرجال عن القضايا هذه بل يكون للأخوات مشاركة ودور كبير.
من أهم القضايا التي ينبغي الطرق عليها أن نطالب كل امرأة أن يكون لها مشاركة في الدعوة؛ ليس شرطاً أن تكون عالماً أو فقيهاً أو مفتياً أو امرأة كاملة حتى تقوم بالدعوة؛ لا، تقوم بالدعوة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آيه} وكما قال عليه الصلاة والسلام: نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فوعاه وبلغه إلى غيره، فرب مبلغ أوعى من سامع} فنحن نطالب جميع الفتيات المتدينات ألا يوجد من بينكن امرأة بطالة لا عمل لها في مجال الدعوة، بل تدعو إلى الله تعالى بقدر ما تستطيع؛ ولو كان عندها تقصير، ولا تدعو إلا إلى ما تعلم هي، أما ما لا تعلم فتقول: الله أعلم.(133/43)
حول إنشاء جريدة إسلامية
ل
السؤال
ثالثاً: في محاضرة (حقيقة التطرف) وعدتم بتدارس إنشاء جريدة إسلامية مع العلماء، فماذا عنها؟
الجواب
تدارس إنشاء جريدة إسلامية مثل الذي طرح قبل قليل عن شأن معهد لإعداد النساء الداعيات هو إن شاء الله قيد البحث والدراسة.(133/44)
العلاج بالرقى وموقعه من التوكل
السؤال
تقول: أولاً: جزاك الله خيراً.
ثانياً: أرجو إفادتي في أنه إذا مسني الضر في أمر من الأمور وأحسست أن علىّ أمر طبيعي، وأردت الذهاب إلى شيخ موثوق ليقرأ عليّ، فهل هذا الأمر ينافي أمر التوكل على الله أم أني أتوكل على الله ولا أذهب إليه؟
الجواب
أما بالنسبة للذهاب لعالم أو طالب علم ليقرأ فهذا لا حرج فيه، وهو أحد الأسباب الشرعية؛ لكن ينبغي أن تراعي الأخت حين تذهب أولاً: التحفظ، البعد عن الملابس الضيقة، البعد عن الطِّيب، ألا تذهب بمفردها بل يكون معها أبوها أو أخوها أو زوجها، ولا تسمح بأن ينفرد هذا الإنسان بها حتى ولو كان صالحاً؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} حتى لو كان هذا الرجل عالماً أو داعية أو قارئاً أو أي شيء آخر يكون الشيطان معه، والشيطان لا يوقر أحداً ولا يحترم أحداً فتراعي ذلك كله، وهذا أحد الأسباب؛ فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رقوا المريض، ومن مرض منهم رقاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(133/45)
جهاد المرأة
السؤال
ما هو الجهاد المطلوب من المرأة في هذا الزمن العصيب، الذي يحارب فيه الإسلام جهاراً نهاراً، مع ملاحظة وجود العدو في أرض المسلمين مثل اليهود الذين يحتلون أقطار شتى من الوطن العربي، والذين يجندون جميع الشعوب من أجل خدمة الصهيونية، وكذلك وجود الصليبيين بشكل رسمي وغير رسمي في كثير من بلاد المسلمين، والله المستعان؟!
الجواب
أولاً: من أبرز صور الجهاد أن تصل المرأة إلى هذه الدرجة من الوعي في إدراك حقيقة الموقف الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وأن المرأة حينئذٍ ينبغي أن تكون في خندق المواجهة مع أعداء الإسلام وخصومهم.
ثانياً: ينبغي أن ندرك أن هذا الوقت الذي نعيشه هو وقت الجهاد بالدعوة والإصلاح والتربية، فإن الأمة المسلمة وإن كانت تواجه حرباً في فلسطين، أو في البوسنة والهرسك، أو في أكثر من بلد إسلامي إلا أنها مع ذلك لم تصل إلى حد درجة المواجهة الواضحة المكشوفة مع العدو النصراني اليهودي، وأعتقد أن هذه المواجهة سوف تأتي غير بعيد كما تؤشر إلى ذلك كثير من الأحداث، وعلى سبيل المثال: قرأت تقريراً يتكلم عن كثير من المسلمين في دول البلقان، وأنتن تسمعن كثيراً أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك، وكيف وصل الحال إلى حد محاولة التصفية للوجود الإسلامي، هؤلاء المسلمون الذين يقتلون ليسوا من المسلمين الأتقياء الذين يقومون الليل ويصومون النهار، هم مسلمون عاديون، حتى إن بعضهم لا يصلي وبعضهم بعيد عن الإسلام، ولكن لهم انتماء ديني، وعندهم شعور بالإسلام، وعندهم استعداد للتعلم.
فالنصارى لا يطيقون وجود إنسان مسلم أصلاً، أو اسمه محمد أو عبد الله أو غير ذلك، ولا بد من القضاء عليه.
والمسألة الآن مسألة تصفية جسدية وقضاء على الوجود الإسلامي مع تأييد واضح من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها لهذه العملية التنصيرية، حتى نجد أن بطرس غالي هذا النصراني المتعصب أصبح يعترض على تدخل الأمم المتحدة في تلك البلاد، ويطالب بأن تتدخل في الصومال وغيرها من البلاد الإسلامية، من أجل منع المسلمين من الوصول إلى السلطة، ولكنه يمنعها ويحارب تدخلها أو وصولها إلى داخل البوسنة والهرسك؛ لأنه يريد أن يتمكن بني جنسه وبني دينه من القضاء على المسلمين.
وقرأت تقريراً يقول: إن هناك مخاوف تتزايد في بلاد الغرب أن تتطور هذه الحرب إلى معركة دامية في جميع دول البلقان، وأن المسلمين مثلاً في كوسوفا وهي واقعة تحت حكم الصرب، وعددهم يزيد على مليونين ويشكلون (90%) من هذه الولاية أنهم الآن قد طالبوا باستقلالهم، وقد عينوا لهم رئيساً، ويطالبون دول العالم بالاعتراف وفي حالة ما إذا لم تعترف دول العالم بهم فإنهم يجمعون الآن أسلحة ويخزنونها، وربما يقومون بثورة عارمة وقوية، فإذا قام المسلمون فلا شك أن الصرب سوف يجدون أنفسهم بين فكي الكماشة، فالمسلمون في البوسنة والهرسك يقاتلونهم، والمسلمون في كوسوفا يقاتلونهم، فضلاً عن وجود للمسلمين في الجبل الأسود، ووجود المسلمين في ألبانيا وغيرها من الدول، وربما كانت هذه شرارة لحرب ضروس بين الإسلام وأعدائه، ولكن لا يزال الأمر دون ذلك، وهذا لا يعدو أن يكون تحليلاً أو توقعاً، فالميدان الذي نتطلب أن يكون الجهاد فيه هو الجهاد بالدعوة، الجهاد بالتعليم، الجهاد بالتربية، الجهاد بالإصلاح، الجهاد بالمشاركة المالية؛ فهذا من أكثر ما نحتاجه من الأخوات المسلمات.(133/46)
حضور الزواج المشتمل على مخالفات
السؤال
هل يجوز حضور الزواج إذا كان هناك ضرب بالدفوف ولكن معه غناء وغزل ولو كان قريب كأخ أو عم أو غير ذلك؟ وإذا أرغمتنا الوالدة على الذهاب فما نعمل؟
الجواب
إذا كان هذا الزواج ما فيه إلا الدف فقط، والغناء الذي يقوم به نساء حاضرات بعيد عن الكلام الفاحش، والكلام المثير للشهوة، وفي وسط النساء، وبدون مكبر الصوت فلا يسمعها الرجال، وبدون تصوير هذه الحفلات؛ فلا أرى حرجاً في حضوره، أما إذا كان فيه تصوير الفيديو -كما هو الواقع في حال الكثير من الزواجات- أو فيه غناء من الأغاني المتداولة التي تذاع أحياناً في الإذاعات، والتي تقدم في التلفاز، وقد يكون الغناء أحياناً عبر أشرطة وعبر مكبرات الصوت التي يسمعها الرجال، وقد يكون فيه اختلاط، وقد يدخل العريس على زوجه أمام النساء، وقد يصافحها، وقد يجلس بجانبها -كما هو الواقع في بعض البيئات- فلا شك أن هذا لا يجوز حضوره إلا إذا اعتقدت المرأة أنها تستطيع أن تغير هذه المنكرات.(133/47)
شعور الشابات بالضيق من كثرة اللبث في المنزل
السؤال
بعض النساء وبالذات المراهقات يشكون مما يسمينه بالطفش لسبب عدم الخروج للتمشية أو السوق أو غيره، وأنت تعلم المنكر في هذا كله، فكيف نقنعهن بالعزوف عن ذلك أفيدونا؟
الجواب
هذه القضية أصلاً بالدرجة الأولى هي قضية فراغ، فالفتاة إذا شعرت بالفراغ وأنها تظل أربعة وعشرين ساعة ليس لها عمل تؤديه في المنزل بالتأكيد سوف تشعر بما عبرت عنه الأخت (بالطفش) وأنها بحاجة إلى أن تخرج السوق أو إلى غيره للتمشية هذا جانب، فإذا استطعنا أن نملأ وقت الأخت بالنافع المفيد من الكتب، من الأشرطة، من النشاطات، من الاتصالات، من الأعمال فسوف تجد الراحة؛ حتى في استغلال مواهب الفتيات فقد تكون هذه الفتاة عندها موهبة الخط، وأخرى عندها موهبة الرسم، وثالثه ورابعة عندهن مواهب معينة؛ فنحاول أن نغرقهن في الاستفادة من هذه المواهب وتحريكها، يمكن أن تأتي بالخير الكثير عليهن هن، وعلى بعض النشاطات الإسلامية على صورة المتدينات في المجتمع، فإذا استطعنا أن نملأ وقت فراغهن فسوف يزول هذا أو على الأقل يخف.
أمر آخر: ينبغي أن يكون هناك قدر من إعطاء الفتاة شيئاً من الفسحة بما لا يتنافى مع حفظ وقتها ولا مع أخلاقها، فيذهب بها -مثلاً- أبوها أو أخوها أو زوجها في جو من الحشمة، وبعيداً من المنكرات، وفي حالة أنه رأى شيئاً من عدم الحشمة أو رأى شيئاً يعيب لا يسكت بل يعيب ويبين أن هذا عيب أو هذا خطأ، فإذا وقف على مشهد غير جيد تحدث أن مثل هذا الأمر: ما هي عواقبه، وما هي نتائجه، حتى تأخذ هي العبرة من غيرها، والسعيد من وعظ بغيره.
وأيضاً التربية لها دور كبير: فالمرأة إذا اعتادت على كثرة الخروج من المنزل أصبح المنزل بالنسبة لها كالسجن، تشعر بأنها مكبلة فيه حتى تخرج؛ لكن إذا كانت معتادة أن تظل في المنزل وقتاً طويلاً لم تشعر بأي كلفة أو مشقة في ذلك.(133/48)
دعايات ألعاب الأطفال
السؤال
ما رأيك فيما ينشر في الأسواق من دعايات حول بعض الألعاب مثل "باربي والسلحفاة" وغيرها وإشباع جميع الحاجات بها، وتعلق الأطفال بها، فما هو المقصود، وما هو عمل الأم تجاه ذلك وجزاك الله خيراً؟
الجواب
هذه الصور أولاً بعضها صوراً مجسمة تحاكي الصورة الحقيقة، مثلاً صورة بنت كأنها صورة بنت حقيقة، هي دمية، لكن بعينين وأنف وفم، وأحياناً مكياج وأذنين وجميع التقاسيم واضحة، وهذا في اعتقادي أن مجرد اقتنائها يعتبر حراماً فضلاً عن أن كثيراً من هذه الألعاب هي عبارة: عن وسائل للإفساد، ووسائل للتخريب، ووسائل للتنصير أيضاً، فقد تجدين من هذه الألعاب صديق مع صديقته يذهبان للنزهة، ويذهب معها للسباحة وإلى الملهى، وأحياناً تكون بملابس شبه عارية، كل هذه الأشياء يتعلم الأطفال من خلالها الكثير الكثير، ولذلك ندرك إن مثل هذه الألعاب هي نوع من الغزو المركز الذي قد لا تدركه الأم لأنها كبيرة، ولكن نفسيات الأطفال تتأثر به إلى حد بعيد.(133/49)
اقتراح إنشاء معاهد لإعداد الداعيات
السؤال
تقول: نحن فتيات مسلمات نحب الإسلام والعمل من أجل الدين، وقد بعنا أنفسنا لله وإن الله اشترى من المسلمين أنفسهم وأموالهم، ولكن يقف بين إتمام أعمالنا الدعوية وبيننا عدم وجود المحرم الذي يساعد الفتاة على إتمام الدعوة إلى الله، فيا حبذا لو كان هناك معهد لإعداد الداعيات مثل معاهد إعداد الدعاة، وحتى تتم الفائدة من هذه الطاقات والقدرات التي تهدر هباءً منثوراً في وقت نحن بحاجة فيه إلى كل وقت يبذل في سبيل الله؟
الجواب
أسأل الله أن يتقبلك فيمن باعوا أنفسهم لله عز وجل، وأن يثبتك بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يكثر في المسلمين من أمثالك إنه على كل شيء قدير، وأما ما يتعلق بهذا الاقتراح فهو من الناحية النظرية اقتراح وجيه جداً متى وجدت الأنظمة التي تحكمه وتضبطه، وأما من الناحية العملية فربما يكون معه بعض الصعوبات، ومع ذلك فإنني أعد الأخت بأن أتدارسه مع إخواني من المشايخ وطلبة العلم والدعاة لعله أن يكون ثمة سبيل على تنفيذه ولو بشكل جزئي.(133/50)
المرأة بين الدعوة وحقوق البيت
السؤال
كثير من الأخوات الداعيات قصرن أعمالهن للدعوة بعد زواجهن بحجة أن واجبها نحو منزلها هو بالدرجة الأولى في حين إمكان التوفيق بين المنزل والدعوة فلو بينت ذلك؟
الجواب
عملها في المنزل ومع زوجها ينبغي أن تشعر أنه جزء من الدعوة، فيجب أن تشعر به وهي تدعو زوجها، وإن كان زوجها داعية تيسر له الجو المناسب لاستمراره بالدعوة هذا جزء من عملها.
ثانياً: نعم نشاهد أن هناك عدداً غير قليل من الفتيات يعتبر زواجها هو الحلقة الأخيرة من سلسلة نشاطها الدعوي، ونستطيع أن نقول: إن فلانة انتقلت إلى بيت زوجها -رحمها الله- فانتهى بذلك عملها، وكل شيء يتعلق بماضيها، وكل ما أصبحت تملكه مجرد ذكريات حلوه ترددها بين الحين والآخر وهذا لا يكفي: إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي ولا ينبغي أن تكون الفتاة (كنتية) تتلذذ فقط بترديد ذكريات سابقة، بل ينبغي أن يكون حاضرها خير من ماضيها، ومستقبلها خيراً من حاضرها.
ثالثاًً: ينبغي للأخت الداعية أن تختار زوجاً مناسباً لها أي: تختار الزوج المناسب الذي ترى أن طبيعته ملائمة لطبيعتها كداعية، فمثلاً: إذا كانت الأخت الداعية اختارت أو وافقت على رجل هو الآخر تعلم أنه مشغول بالدعوة إلى أذنيه، تعتقد الصورة هنا ليست ناضجة تماماً وهذه تواجه مشكلة فعلاً, فهذا الرجل لا يستطيع أن يذهب بها إلى مجالات الدعوة، وهو نفسه مشغول، وبحاجة إلى توفير جو مناسب له في البيت، فستجد نفسها هي مضطرة إلى أن تتنازل عن دعوتها؛ من أجل أن يستمر هو في دعوته، لكن لو أنها قبلت بشاب مستقيم صالح وطيب ويمكن أن يساعدها هو؛ بل يمكن أن يكيف هو نشاطاته معها -وأعرف نماذج من هذا القبيل طيبه جداً- فإن هذا من أهم الوسائل التي تجعل الفتاة تستمر في أعمالها الدعوية، ومع ذلك هذا نوع من الجهاد في التوفيق بين الواجبات، فالواجبات كبيرة -لا شك- وأكبر من إمكانيات الإنسان فيسعى الإنسان للتوفيق بينها، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: {سددوا وقاربوا} .(133/51)
رحلات المراكز الصيفية
السؤال
ماذا نعمل من أجل الرحلات التي تقوم بها المراكز الصيفية التابعة لتحفيظ القرآن إلى المصانع، والملاهي، والمطاعم، والحدائق، وإلى البحر في فلة للسباحة، والفسحة، وهذا من الصباح حتى المغرب.
هل أسمح لبناتي بالذهاب، وإذا كان الجواب بالنفي كيف أقنع بناتي مع أنها تابعه لتحفيظ القرآن الكريم؟
الجواب
أنا لا أستطيع أن أتكلم عنها بالذات لأنني لا أعرف واقعها.
في الواقع من السابق لأوانه أن أتكلم عما لا أعرف، لكنني أقول: يمكن أن نقسم هذه الأعمال إلى نوعين: النوع الأول: يوجد نشاط متحفظ وملتزم بجميع الشروط والضوابط الشرعية، فالمرأة فيه بعيدة عن الرجال، بعيدة عن الاختلاط، بعيدة عن أن ينظر الرجال إليها، بعيدة عن كل ألوان المخالفات الشرعية، ويكون هناك ذهاب إلى مكان قريب، وليس فيه أيضاً سفر يتطلب وجود محرم، يتطلب وجود مثل هذا القبيل وفيه فائدة، هذا لا بأس به.
النوع الثاني: قد يكون النشاط -أحياناًُ- إسلامي، ولكن فيه مخالفات ومجازفات وتجاوزات كثيرة، وربما قرب من الرجال، أو اختلاط بهم الناس، أو حتى مع المرأة لها ضوابط وحدود، فمثلاً إذا كانت (السباحة) واقفة معبراً هل من حق المرأة فعلاًَ أنها تسبح مع نساء أخريات؛ مع أنه ربما يترتب على هذا ظهور بعض أجزاء من جسدها أو بملابس ضيقة أو غير ذلك، هذا لا يجوز!!(133/52)
التطيب والخروج في الطرقات
السؤال
أضع العطر لأطفالي الصغار عند خروجي من المنزل، ويمكن أن أمر من أماكن يوجد فيها رجال ويشمون هذا العطر فما هو حكم ذلك؟
الجواب
إذا كان هذا العطر على الأطفال وليس على المرأة نفسها فلا حرج فيه -إن شاء الله- وإن كان الأفضل أن لا تستعملينه إذا كنت تتوقعين أنكِ سوف تمرين على رجال، لاحتمال أنهم سوف يتوهمون أن هذا العطر صادر من المرأة ذاتها.(133/53)
التعامل مع من بعض ماله حرام
السؤال
ما حكم من يتعامل مع من يتعاملون بالربا إذا كان لهم مصدر آخر وهل يجوز الأكل معهم؟
الجواب
الذين يتعاملون بالربا على نوعين: النوع الأول: رجل كل كسبه من مال ربا، بمعنى أن ماله (100%) من مصادر ربوية، فهذا لا يجوز الأكل منه، ولا قبول هديته حتى لو كان أباً أو زوجاً، وعلى كل حال هذا النوع قليل.
النوع الثاني: إنسان يتعامل بالربا لكن له مصادر أخرى، فقد ورث بعض المال عن أبيه أو جده، وله عمارة ودكان وله كذا وله كذا فهذا يعتبر ماله مختلطاً مشوباً فيه مال حلال وفيه مال حرام فهذا يجوز التعامل معه، وقبول هديته، والأكل من طعامه وأنت تعرفين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل عند اليهود، ودعاه يهودي إلى خبز الشعير وإهالة سمن فأكل عنده صلى الله عليه وسلم، وأكل عند المرأة اليهودية التي دعته في خيبر ووضعت في الشاه سماً؛ مع أن اليهود وصفهم الله تعالى أنهم من أكلة الربا، وأنهم قد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.(133/54)
كيف يكون الأب قدوة
السؤال
تقول: الرجاء أن تخبرنا عن دور الأب في داخل المنزل، وكيف يكون قدوة، مع توضيح دوره في تعليم زوجته الخاصة، ووضع وقت خاص لها لتعليمها أمور دينها.
ملاحظة: رجاء عمل محاضرة خاصة تخص الرجل تخص أموره كاملة؟
الجواب
أعتقد أن هذا السؤال ليس ضرورياً في هذا الموقع بالذات؛ لأن الحديث موجه إلى المرأة ومن الممكن أن نعالجه بمناسبة أخرى، وأتذكر موضوع السؤال عن بعض الكتب وقد ذكرت قائمة طويلة بالكتب المناسبة بالمرأة في درس خاص عنوانه (هموم فتاة ملتزمة) وسوف يطبع قريباً -إن شاء الله- وسوف يكون في كتيب في متناول الأخوات.(133/55)
نساء يسمعن ولا يغيرن من أحوالهن
السؤال
تقول أرجو توجيه كلمة إلى النساء، لأن كثيراً منهن يحضرن المحاضرات ويستمعن ثم لا يغير ذلك من سلوكهن شيئاً؟
الجواب
وهذا ناتج عن سوء التربية، لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كان الواحد منهم يسمع عن الرسول إلا ينتظر حتى ينتهي السماع ليقوم بدور العمل والتطبيق لم يكن عندهم فاصل لدور التلقي ودور التطبيق، فهو يتلقى من أجل أن ينفذ، ولذلك لا تجدين في حياة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أناساً متفرغين فقط لطلب العلم أبداً، يجلس المجلس الآن ليسمع أمراً أو نهياً ثم يقوم وينفذه، ويذهب إلى البيت فيقول لأهله أمر اليوم بكذا، ونهي اليوم عن كذا، وسبحان الله! كانوا مثل الجنود في ميدان المعركة ينتظرون أوامر من القائد فمجرد ما يصدر الأمر يتم التنفيذ حالاً، أما اليوم فأصبح كثير من المسلمين يستمع وقد يعطي حكماً على ما يستمع فيقول: والله اليوم استمعنا إلى محاضرة قيمة، وأمس استمعنا إلى محاضرة جيدة، ومرة أخرى فيقول: إلى محاضرة لكن ما كانت بالمستوى المطلوب، ومرة يقول: والله كان كذا، ومرة المحاضرة ما كانت على مستوى الحاضرين، ومرة كذا، يهمه تقييم المحاضرة على المستوى الذي صار فيه؛ لكن أن يسمع من أجل أن ينفذ ويطبق ويقول: هذا خير عرفته فسأعمل به، أو شر عرفته فأتركه؛ هذا -مع الأسف- غير موجود، وينبغي أن يكون هذا أحد القضايا التي يتحدث عنها مع المسلمين الرجال والنساء.(133/56)
المرأة وطلب العلم الشرعي
السؤال
تقول بعض النساء التي يذهبن إلى المحاضرات والندوات، والسؤال عبر الهاتف عن أحكام الدين دون أن تحث هي نفسها على القراءة وطلب العلم، فهي تكتفي فقط بسماع الحكم والسؤال عنه دون أن تبذل جهداً في طلب العلم الشرعي؟
الجواب
كل ذلك حسن، فأن تحضر المرأة الدرس أو المحاضرة أو الندوة، أو تتصل عبر الهاتف وتسأل عن أمر دينها فهذا أمر لا بأس به، لكن وينبغي أن تدرك المرأة أن هذا ليس بديلاً عن أن تقوم هي بتعلم العلم الشرعي من خلال الشريط والكتاب، ومن خلال البحث، ومن خلال الوسائل الممكنة.(133/57)
تكوين داعية مسلمة
السؤال
كيف تكون المرأة داعية، وما هي الكتب التي تنصحها بقراءتها؛ مع العلم أن في الزمن الحاضر أصبحت المرأة تقوم بدورها ودور الأب في المنزل لانشغال الأب بالعمل والدعوة، ولا تجد وقتاً حتى لقراءة القرآن؟
الجواب
أما كيف تصبح المرأة داعية؛ فالدعوة لا تقتضي أبداً للرجل ولا المرأة أن يتخلى عن أموره وهمومه الخاصة، المهم أن تبقى الدعوة هماً في القلب بحيث يستفيد الإنسان ويستثمر كل فرصة متاحة له في الدعوة إلى الله ولو بكلمة طيبة، أو مشاركة، أو نصيحة عبر الهاتف، أو زيارة ولو جزئية، ولذلك أقول: المرأة تواجه اليوم صعوبات في القيام بالدعوة، لأن الدعوة صارت مسؤولية فئة خاصة من النساء؛ لكن لماذا لا يكون همكن أنتن -أيتها الأخوات- إخراج أعداد كبيرة من النساء الداعيات؛ بحيث لو تصورنا -مثلاً- أن النساء اللاتي يقمن بالدعوة في مدينة جدة عشرون امرأة لوجدنا بأن امرأة واحدة مطالبة: بأن تخصص للدعوة في اليوم الواحد -مثلاً- أربع أو خمس ساعات، وهذا الأمر صعب بحكم ظروفها الشخصية والاجتماعية وغير ذلك، ولكن لو تصورنا أن هذا العدد تحول من عشرين امرأة إلى مائة امرأة وأصبحت كل واحدة من هؤلاء النسوة تشعر بأن عليها مسؤولية الدعوة؛ لكان يكفينا من هؤلاء المائة أن تقوم كل واحدة منهن يومياً بساعة واحدة في الدعوة إلى الله، وتغطي مائة ساعة من التي كانت تغطيها عشرون امرأة، إذاً ينبغي أن نعمل على مشاركة عدد كبير من النساء، وليس شرطاً في المرأة لكي تكون داعية أن تكون عالمة ولا فقيهة ولا مفتية، بل ولا حتى كاملة، ولا مانع أن تدعو المرأة وهي عليها بعض الأخطاء، وتدعو الناس إلى الله عز وجل، وتدعو النساء في الأمور التي أصابت فيها، ولو قال قائل كيف تدعين وأنت عليك ملاحظة كذا وكذا؟ قالت: نعم، أنا أدعو إلى أشياء من الدين، وعليها أدلة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأخطاء -جزاكم الله خير- أن نبهتموني عليها، وأرجو الله أن يعينني على تداركها في هذا السبيل، على فرض أني ما وافقت في التخلص منها فكما قيل خذ من كلامي ولا تنظر إلى عملي فلا يضررك قولي ولا يضررك تقصيري.
أما مسألة قيام المرأة بدور الأب فهو جزء من الدعوة، فلماذا تتصورين أن الدعوة فقط هي إقامة دروس ومحاضرات من النساء البعيدات، فأنت تقومين في البيت بدور الدعوة، وتربية الولد من الدعوة، وإنشاء معاني الجهاد والتضحية عند أولادك من الدعوة، وتربية بناتك على الحياء والعفاف والتطهر من الدعوة، وينبغي فيما يتعلق بالذكر والدعاء وما إلى غير ذلك ينبغي أن تحرص المرأة على الاستفادة حتى من أوقاتها التي تقضيها في المنزل، وتستعد لاستقبال زوجها، فهي تستطيع أن تعمل بالوصية التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل الذي قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، يقول هذا الرجل: أنا تشتت ما أدري ماذا آخذ، وماذا أدع، قال له النبي صلى الله عليه وسلم، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى} .(133/58)
التعامل مع الزوج غير الملتزم
السؤال
هذا السؤال يقول: أنا سيدة ملتزمة ولكن زوجي غير ملتزم، واستطعت بفضل الله أن أقنع أولادي على عدم مشاهده التلفاز، ولكن زوجي أحضر إلى البيت القمر الصناعي أو ما يسمونه (الدش) فماذا أعمل معه؟ وما هي الطريقة لإقناعه؟ مع العلم أنني حاولت معه من دون فائدة، فماذا تقول؟
الجواب
يبقي الدور الذي تقومين به دوراً جباراًَ، فأولادك يمكن أن يكونوا خمسة أو ستة أو عشرة، ومعنى ذلك أننا -بإذن الله- ما دمت أنت ملتزمة فنحن على ثقة أنه سوف يخرج من بيتك عشرة أفراد ذكور وإناثاً صالحين مستقيمين، لأن الفترة التي يقضيها في البيت فترة طويلة، وتأثير الأم عليه خطير وكبير، وبناءً عليه ينبغي أن يكون لك دور كبير في دعوة أولادك وتربيتهم على الخير، وإقناعهم بضرر مثل هذا الجهاز، وأهميته تجنبه، وإذا تجنبه الأطفال والرجال والنساء وأدركوا ضرره فإن الأب سوف يدرك أن وجوده في البيت نوع من العبث، هذا فضلاً أنه ينبغي أن لا تيئسي من زوجك، وأن تظلي تضربي على هذا الوتر، فنحن ندرك أن المرأة لو هويت شيئا ًمن أمور الدنيا وظلت بلطف تطلبه من زوجها فإنها لا بد أن تنتصر في الأخير، فإذا طلبته اليوم منه واعتذر صبرت حتى تجد نفسيته مستقيمة يوماً من الأيام وقالت له: يا أبا فلان! أنا أتمنى أن تفعل لي كذا وكذا، فقد يعتذر لكن يعتذر هذه المرة اعتذاراً رخواً، فإذا قالت له في المرة الثالثة في أوساط جيدة وجدت أنه يتقبل هذا الأمر منها، فكما قد تتسلل المرأة إلى قلب الرجل في تحقيق ما ترى أنه مصلحة لها في دنياها، أو حتى مصلحة شخصية لها ينبغي أن تتسلل إلى قلبه في ما ترى أنه مصلحة عامة دينية له ولها وللأسرة كلها.(133/59)
النية لغسل الميت
السؤال
هل هناك نية عند غسل الميت، أي: هل على غاسل الميت أن ينوي عند الغسل أنه يريد أن يغسل الميت؟
الجواب
هو بطبيعة الحال جاء ليغسل الميت؛ لكن هذه النية ليست شرطاً في صحة الغسل، لأن المغسل وهو الميت لا يتصور منه أن يطلب منه شيء، فبقي دور المغسل، فإن أصلح النية كتب الله له مزيد من الأجر في ذلك، واستحضار النية في مثل هذه الأمور سبب في صلاح العمل ومضاعفة الأجر.(133/60)
أحداث البوسنة والهرسك
السؤال
تقول: أرجو منك إلقاء كلمة للنساء عن أحداث البوسنة والهرسك، فهن لا يزلن كما كن يتحدثن عن الموضة، وعن اللبس، وعن الأثاث الفاخر لم تتغير الأفكار وتتجه إلى المسلمين، وماذا يعانون؟
الجواب
أولاً: أحداث المسلمين الآن أصبحت -مع الأسف الشديد- يهتم بها الكفار أكثر مما يهتم بها المسلمون أنفسهم -فمثلاً- الإغاثة وهيئات الإغاثة العالمية، وخاصة الهيئات التنصيرية تبذل جهوداً مضاعفة في هذا المجال، وأنا متأكد لو أننا نجحنا في إصلاح الصورة إلى المرأة المسلمة لأصبح تأثرها أكبر وأكبر، فالمرأة ذات جانب عاطفي قوي، ولو رأت المرأة أختها المسلمة في البوسنة والهرسك وهي تغطي وجهها بطرف ثوبها وتداري دموعاً تنهل عن عينيها، أو أنها تصدر بوجهها عن المصورين بأن لا يصوروا تلك القسمات الحزينة الباكية المتفجرة لأصابها من ذلك هم وغم شديد، ولو رأت أختها المسلمة وهي في يد هؤلاء الصرب كالأمة الذليلة التي هيمن عليها عدوها وأصبح يسومها ألوان الذل والهوان، ويقودها مطأطئة الرأس إلى تلك المعسكرات التي تعاني فيها كل أنواع الذل، ولو رأت أولئك الأبرياء الذين يحملون وبعضهم ما زالت الرضاعة في فمه؛ يحملون إلى إيطاليا أو إلى روما أو إلى فرنسا أو إلى غيرها على متن طائرة -أحياناً- يحمل (140) أو أكثر من هذا العدد، أطفال أبرياء لا يدرون إلى أين هم ذاهبون، ولا يدرون أين آباؤهم، ولا أين أمهاتهم، ولا من أين خرجوا، ولا يعرفون من الأمر شيئاً، أعتقد أن الإنسان الذي قلبه من حجر لا بد أن يتفجر ويتأثر، والله نحن لاحظنا هذا يبدو جلياً حتى على هؤلاء الناس الذين ليس لهم علاقة، ولا اهتمام بقضايا المسلمين، فلا بد إذا من إثارة القضية ومحادثة النساء بها، ولا بأس أن تقوم بعض الأخوات بجمع تلك الأخبار المؤثرة ونقلها إلى النساء في مجالسهن، وسوف تحدث لهن تأثير كبيراً.
هذا من جانب، أيضاً نحن لا نريد مجرد التأثر، بل نريد أن يتبع هذا التأثر نوع من العمل، ومن العمل: الدعاء لهؤلاء المسلمين المستضعفين، ومنه أيضاً المشاركة ولو ببعض التبرعات التي تجمعها النساء، فتتصدق المرأة ولو ببعض حليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن} حتى أن تتخلى المرأة عن بعض حليها وبعض مصاغها لهؤلاء المسلمين، وهي ترجو أن يكون هذا سبباً ليكون وقاية لها من عذاب الله عز وجل، بل وحتى يكون سبباً في توفيقها في هذه الدنيا، وفي حياتها الزوجية، وفي مسيرتها الاجتماعية، مع ذلك ينبغي أن تعلم المرأة أنه حينما نطرح هذه الأمور لانطالبها، بأن تتخلى عن أنوثتها وأن تتخلى عن اهتمامها بنفسها، تجملها لزوجها، والقدر المعقول من ذلك، فعلى كل حال لا تلام عليه المرأة.(133/61)
قصة مكالمة هاتفية
إن من نعم الله تعالى علينا نعمة سهولة الاتصال بالآخرين التي تتم عن طريق الهاتف، فهي نعمة عظيمة إذا أُحسن استخدامها، وبالمقابل قد تكون نقمة ووبالاً، إذا أُسيء استخدامها.
فله منافع كثيرة، وأيضاً مضار كثيرة، لذلك فقد تكلم الشيخ عن الهاتف من عدة جوانب أولها: اختراع الهاتف.
ثم ثنى باستخدام الهاتف للتجسس والمخابرات وأنه لا يجوز، ثم ثلث بالمرأة والهاتف، وذكر خطره على المرأة، وختم الدرس بالكلام عن بعض إيجابيات الهاتف.(134/1)
قصة اختراع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد، فالسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
مع هذا الدرس التاسع والخمسين، من سلسلة الدروس العلمية العامة في الجامع الكبير ببريدة، في هذه الليلة المباركة -إن شاء الله- ليلة الإثنين، التاسع من ذي القعدة من سنة 1412هـ (قصة مكالمة هاتفية) .
إنها ليست قصة واحدة فقط؛ بل هي قصص كثيرة، ولن تفهم هذه القصة إلا إذا أعرتني من وقتك واهتمامك، ما يكفل سماعك هذا المجلس حتى نهايته.
أولها: قصة اختراع: فقد كان أول تليفون يعمل بصورة مُرضية في سنة 1876م، أي: قبل ما يزيد على مائة وخمسة عشر عاماً وهو من اختراع مهندس يدعى: إلكسندر جرهام بل، ولكن توصيله كان ضعيفاً، ولذلك أجرى عليه رجل آخر اسمه: توماس أديسون تعديلاً مهماً، أعطى إشارات كهربائية أقوى بكثير، ثم شملت التطورات الإرسال اللاسلكي وغيره، وأصبحت كيابل التليفون تمتد آلاف الكيلومترات؛ بل أصبح مركز التبادل الذي يسمى بالسنترال يتضمن مفاتيح إلكترونية معقدة، لتسهيل الترحيل الذاتي للرسائل الصوتية المختلفة والكثيرة.
وعموماً: فقد شهد العالم في النصف الثاني من هذا القرن، ثورة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، وساهم هذا الإنجاز في تحقيق القفزات الحضارية الهائلة، وتيسير سُبل الاتصال، فأصبح بمقدور الإنسان التفاهم مع إنسان آخر، في أي مكان من الأرض، وتبادل الحديث، وعقد الصفقات التجارية والسياسية في بضع دقائق، دون أن يتجشم عناء السفر؛ بل أصبح بإمكان مجموعة أن يعقدوا اجتماعاً مشتركاً فيما بينهم، ويتبادلوا الرأي، وينتهوا على عقد اتفاقية مشتركة مكتوبة؛ بل يقومون جميعاً بالتوقيع عليها في آن واحد، ثمة عدد من التعليقات على هذه المعلومات:(134/2)
من هم المخترعون
أولها: أسماء المخترعين الكبار، ليس من بينهم من يسمى محمد، أو أحمد، أو علي، أو صالح، أو سليمان، والعلم -كما يقال- ليس له وطن صحيح، لكن العجيب من قوم دينهم يحث على العلم، ويقرر الله عز وجل لهم في كتابه، أنه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، ثم تكون قصاراهم أن يكون بلدهم، أو تكون بلادهم سوقاً للبضاعة الأجنبية، بل حتى استخدام التقنية لم ينجحوا فيها بما فيه الكفاية! فلا غرابة إذا انفصل العلم عن الدين والخلق، أن يصبح العلم لعنة تدمر الإنسان وتأتي على حياته القنابل الهيدروجينية، والنووية، والأسلحة الكيماوية والجرثومية؛ تدمر الإنسان وتحافظ على المنشآت فقد أصبحت المباني الشاهقة والقصور والمصانع، أغلى وأنفس من الإنسان، فاخترع الإنسان سلاحاً يدمر أخاه الإنسان، ويبقي على المنشآت دون أن يمسها بأذى! ولا غرابة إذاً أن يحاول الإنسان اكتشاف الكواكب، على حين لم يفلح في تحقيق السعادة لنفسه، ولا لأخيه الإنسان على وجه الأرض، فالملايين يتضورون جوعاً، وقبل ما يزيد على عشرين سنة، صرخ شاعرٌ من شعراء الشام، يقال له: شفيق جبري، محتجاً على ما يسمونه بغزو الكواكب، غزو الفضاء، فقال ضمن قصيدة طويلة عنوانها غزو الكواكب: ما للغزاة على الأفلاك تزدحم أجرهم أمل أم غرهم حلم أضاقت الأرض عن آثام إثمهم ألم يروا كم جنوا فيها وكم أثموا يا راكب الريح تطويه وتنشره كأنه كرة تلهو بها قدم ما أنت والقبة الزرقاء تقحمها أما على جنبات الأرض مقتحم أي أنه يقول: هناك لا يوجد بشر تعتدي عليهم وتظلمهم إذا طاب لك الطغيان والظم.
أتعبت فكرك ما في جوفها نسم تعدو عليها إذا طابت لك النسم لا العشب ينظر في آفاق تربتها ولا البحار عليها الموج يلتطم ما تسمع الأذن حسّاً في مسارحها ولا ترى العين ما يجري به القلم لا الجن في جوفها يعلو عزيفهم إذا سجى الليل أو ماجت به الظلم ولا على الإنس خوف من مصارعهم إذا تلهبت الهيجاء واصطدموا فما يجول بها وحش يروعها ولا يعيش بها ذئب ولا غنم ولا الأسود تدِّوي في مفاوزها ولا العنادل يبدي شجوها النغم كنا نعيش على وهم يخامرنا والناس في غبطة الأيام ما وهموا لو قلت للقبح أنت الحسن أجمعه لراح من قولك الخلاب يبتسم دنيا الحقائق ما تنفك مؤلمة فكم تمادى على أفيائها الألم لا تحسبن كمال الحسن في قمرٍ غنى به الشعر وازدانت به الكلم فما على أرضه غير التراب ولا على الأهاضيب غير الصخر ينحطم خابت ظنونك أين الحسن تطلبه فليس يفصح عن بدر التمام فم ما أعظم الكون من يدري مجاهله ضاعت على وجهه الأحقاب والأمم هل أدركت هده من سره طرفاً أليس تفنى على أطرافه الهمم غابت عن العين أفلاك مبعثرة تضنها العين فوضى ليس تنتظم لكنها إن نأت عنها وإن شمخت فما تظل على أجوازها النجم بئس العلوم إذا الإهلاك مطمحها فليت من علموا في الخلق ماعلموا متى نرى الخلق في سلطان دولتها تمضي الليالي وقد لذوا وقد نعموا أغاية العلم أن نفنى بمخترع من الصواريخ في نيرانها العدم فكم أزاحوا رجالاً عن ديارهم فهل حوتهم على جنح الدجى الخيم وكم أبادوا شعوباً في مرابعهم فسل مناهجهم في العلم هل رحموا بردٌ وجوعٌ فكل العمر في سقم فما الحياة إذا أودى بها السقم أينفق المال في الأفلاك في سعة والناس في البؤس لا نعمى ولا نعم ضاقت قلاعهم في الأرض فالتمسوا لهم قلاعاً عن الأنظار تكتتم كي يصبحوا بأمانٍ في فضائهم فلا يبالون بما هدوا وما هدموا أيزعمون سبيل العلم وجهتهم أما لهم وجهة غير التي زعموا غزو الكواكب كشف العلم ظاهره والله يعلم ما أخفوا وما كتموا إذاً: العلم لا غرابة أن يكون دماراً ووبالاً على الإنسان، وأن يضل طريقه إذا انفصل عن الدين الذي بعث به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هداية للبشرية كلها! حتى المسلمون اليوم تجد أن أنظارهم كثيراً ما تتجه نحو الصناعات التسليحية، دون الصناعات التي تساهم في تيسير حياة الإنسان.
كثيرة هي الدول من العالم الإسلامي، أو ما يسمى بالعالم الثالث، التي تتجه -مثلاً- لامتلاك السلاح النووي، أو الجرثومي، أو الكيماوي، لكنها لا تتجه بالحماس نفسه، لتطوير الصناعات الأخرى المفيدة في حال السلم وامتلاكها، حتى الأسماء، لم يفلح المسلمون في اختراع أسماء عربية لهذه المخترعات الغربية، اللهم إلا في مجال التسليح، وعلى نطاق ضيق، فكلنا نعرف -مثلاً- اسم السلاح الذي استخدمه العراق، وسماه صواريخ الحسين، أو صواريخ العباس، لكن الأكثرين منا إذا أرادوا أن يعبروا عن الهاتف، فإنهم يقولون: التليفون، ولا يستخدمون ذلك الاسم العربي الفصيح الصحيح (الهاتف) أو كما يسميه بعضهم (المسرة) وذلك لانفصال العلم عن الدين والإسلام، وبُعد المسلمين عن القيام بمثل هذه الأمور.(134/3)
جزاء الذين قدموا للبشرية هذه الاختراعات
ثانياً: هؤلاء الذين قدموا هذه الأعمال للبشرية، فاخترعوا الكهرباء، أو الهاتف، أو غيره، ما هو جزاؤهم؟ جزاؤهم أن الله -تعالى- كتب لأسمائهم الخلود في الدنيا، فصار يتحفظها صغار الطلبة في مدارسهم، فيشكرون فلاناً لأنه أخترع المصباح الكهربائي، أو فلاناً لأنه اخترع الهاتف أو غير ذلك، فهذا جزاؤهم في الدنيا أما في الآخرة فليس لهم عند الله -تعالى- من خلاق، لأنهم افتقدوا القاعدة التي يجازى على ضوئها الناس في الدار الآخرة، ألا وهي قاعدة الإيمان، يقول ربنا عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] ويقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ويقول لنبيه، ومصطفاه عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار} .
ولما سأل إبراهيم ربه -كما في صحيح البخاري- في أباه وقال: يا رب وعدتني ألا تخزيني، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد -أي كونه في النار- فقال له الله عز وجل: {يا إبراهيم إني حرمت الجنة على الكافرين} وفي الصحيح -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله -تعالى- ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر} ولما سألت عائشة -كما في صحيح مسلم- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان، وكان في الجاهلية يصل الرحم، ويقرئ الضيف، ويحسن إلى الناس فهل ينفعه ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: {لا يا عائشة إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} وفي حديث ضعيف أن عدي بن حاتم، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، وكان من أجود العرب، وكرمائهم، هل ينفعه ذلك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إن أباك أراد أمراً فبلغه} .
أراد أن يذكر بالجود والكرم، فأصبح مضرب المثل إلى يوم الناس هذا، فيقولون: أكرم من حاتم.
هذا كل ماله على عمله وهكذا من اخترع الهاتف -مثلاً-، أو المصباح الكهربائي، أو التطعيم ضد الأمراض أو غيره، كل ما له أن يذكره الناس بما عمل، فيكون له الذكر الحسن في هذه الدنيا، جزاءً عاجلاً، لأن الله تعالى لا يظلم أحداً، أما في الآخرة، فليس له عند الله تعالى من خلاق.
ولهذا لا تعجب أن يكون مخترع الكهرباء يعيش في ظلمات الجحيم، وأن يكون مخترع الهاتف يعيش أصم في نار جهنم كما قال الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100] وأن يكون مخترع المدفأة وصانعها يقاسي برد الزمهرير، وأن يكون صانع التكييف ينضج جلده على لهيب النار، نسأل الله تعالي العفو والعافية.(134/4)
قصة المخبر السري
الورقة الثانية: قصة المخبر السري.
ربما لم يخطر في بال جرهام هذا، أن جهازه الذي اخترعه سيكون مخبراً سرياً، وحارساً غير أمين في حالات كثيرة، وأن أعداداً كبيرة من ذوي الضمائر الوحشية، والصلف المتجاوز، وقلة الإيمان، سوف يصغون بآذانهم إلى حديث بين اثنين، يستأمن فيه بعضهم بعضاً ألا يبوح به لأحد، فإذا الخيانة الكبرى تأتي من طرف ثالث، يتنصت عليهما دون علمهما، ويسجل ربما مكالماتهما، ويقدم أحياناً صوراً من هذه المكالمات، وينسخها، ويوزعها بين الناس عند اللزوم مَنْ يفعل هذا؟! الكثيرون! تفعله أجهزة الاستخبارات الدولية التي تحاول أن تعد الأنفاس، وتحسب نبضات القلب، -كما يقال- ومن يقرأ تقارير المخابرات الأمريكية، أو الـ k B G، أو الموساد، أو السافات، أو الخاد، أو غيرها من أسماء الأجهزة العالمية، يحس أنه يعيش في عالم الأشباح، وبالمناسبة فإن الاستخبارات العربية من أنجح الاستخبارات في العالم، أي أنها من أبشع الاستخبارات في أساليب الإيذاء، والوحشية والقمع، لكن على مَنْ؟ على شعوبها.(134/5)
الصورة القائمة المليئة بالمبالغة
وهاهنا علامة تحذير كبيرة! لقد أصبح هذا الهاجس هماً مخيفاً لدى الكثيرين، فينامون ويصحون على الخوف من المخبر، وعلى الخوف من أجهزة الاستخبارات، وعلى الخوف من أشياء كثيرة، وربما أصبح الرعب شيئاً قاتلاً يطحن في دوامته آلاف المخلصين؛ فهم يخافون من كل شيء، ويحسبون حسابات طويلة لكل شيء، ويقول أحدهم للآخر: لا تنطقوا إن الجدار له أُذن وأقول: كلا فهذه الكتب التي ذكرتها، وهذه الأسماء التي تلوتها، وهذه البلاغات؛ هي أحياناً مقصودة لنوع من الحرب النفسية على الناس وعلى الشعوب، خاصة على المسلمين، فهم -أعني: رجال الاستخبارات الدولية والعربية- كلهم داخلون في عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فالمؤمن لا يخاف إلا من الله عز وجل أما هؤلاء فيحتقرهم.
لقيني قبل أيام أستاذ في كلية الطب، فحادثني قليلاً، وقال: أتمنى أن تتكلم عن موضوع مهم قلت له: أي شئ هو هذا الموضوع؟ قال: موضوع: أن الناس أصبحوا يخافون من الغرب، ويخافون من أمريكا، حتى كأنها شبح، وكأنها تقدر على كل شيء؛ وتفعل كل شيء، مع أنني عشت في أمريكا، ورأيت الرجل الأمريكي يخاف من زوجته فالرجل الذي يخاف من زوجته، هل يليق بالمسلم أن يخافه؟! لا؛ بل ينبغي أن يبين للناس أن هذه الدول إنما هي مصنوعة من الكراتين، وأن الله تعالى سوف يأذن بزوالها، فينبغي ألا نخاف منها، ولا من أجهزة مخابراتها وأمنها، وتهويلها.
لقد أحدثت هذه المخاوف كثيراً من العقد النفسية، التي يجب القضاء عليها، وقديماً قال عمر رضي الله عنه: [[لست بالخبّ ولا الخبُّ يخدعني]] تبرز هذه المخاوف على لسان أحد الشعراء، وهي في الواقع هاجس في نفوس الكثيرين؛ لكنني أحببت أن أنقل لكم أبياتاً من الشعر، تعبر عن الخوف من هذا الهاجس عند أحد الشعراء، والشاعر عادة يبالغ فيقول: ومن حذري أمارس دائماً حرية التعبير في سري وأخشى أن يبوح السر بالسر أشك بحر أنفاسي فلا أدنيه من ثغري أشك بصمت كراسي أشك بنقطة الحبر وكل مساحة بيضاء بين السطر والسطر ولست أعد مجنوناً بعصر السحق والعصر إذا أصبحت في يوم أشك بأنني غيري وأني هارب مني وأني أقتفي أثري ولا أدري ويقول -نفسه- أيضاً: في زمن الأحرار أصابعي تخاف من أظفاري دفاتري تخاف من أشعاري ومقلتي تخاف من إبصاري فكرت في التفكير بالفرار من بدني لكنني خشيت من وشاية الأفكارِ وقديماً كان شاعر هارب يقول: لقد خفت حتى لو تمر حمامة لقلت عدو أو طليعة معشر فإن قيل أمن، قلت هذي خديعة وإن قيل خوف، قلت حق فشمر فينبغي أن نزيل هذه الصورة القاتمة المليئة بالمبالغة، والتي لا يمكن قبولها إلا على حد قول الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224-227] .(134/6)
موقف الإسلام من التجسس
نحن جميعاً نؤمن بأن المطلع على كل شيء والعليم بكل شيء هو الله تعالى وحده، أما البشر فيحاولون، ويحاولون؛ ولكنهم بالضعف والنقص والغفلة موصومون؛ فلا يصلون إلى ما يطلبون، ويفوت عليهم كثير من الأمور وهم لا يشعرون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] .
وعلى كل حال فقد كان موقف الإسلام من التصنت واضحاً من البداية، فالتصنت على الناس؛ سواء أن تتصنت على مجموعة يتحدثون، أو يتسارون فيما بينهم، أو بأي وسيلة عصرية، هو تجسس، والله تعالى يقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ولا تحسسوا} بل في صحيح البخاري، في كتاب التعبير عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين -يعني يوم القيامة - وليس بفاعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ} .
والآنك هو: الرصاص المذاب، والجزاء من جنس العمل، فكما أنه تصنت على الناس بأذنه، فإنه يعاقب يوم القيامة بأن يصب الآنك -وهو الرصاص المذاب- في أذنه يوم القيامة، هذا جزاء من تسمع أو استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، وهذا كمن نظر إلى قوم وهم لا يأذنون له في النظر في دارهم -مثلاً-، كما في الحديث: {من نظر إلى قوم ففقئوا عينه فعينه هدر} وهذا في الصحيح.
ومثله حديث معاوية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم} والحديث رواه أبو داود ويقول النووي: إسناده صحيح.
فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بما علمه الله تعالى أن معاوية سيكون أميراً وحاكماً، فلفت نظره إلى هذا الأمر، وهو ألاَّ يتتبع عورات الناس، وأن يأخذ الناس بالأمر الظاهر، ولا يأخذهم بالظنة؛ لأن فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، هو أساس كل بلاء، ورأس كل مصيبة.
ليست هذه المهمة -مهمة التصنت- هي مهمة أجهزة الاستخبارات العالمية فحسب لا؛ بل إن الكثيرين من الشباب -مثلاً- يتصنتون على جيرانهم، أو يتصنتون من خلال أجهزة الهاتف على أصدقائهم، أو على زملائهم في العمل، أو يتصنت الأخ على أخيه، أو الأخت على أختها، بل إن هناك بعض الأجهزة تمكنهم من اكتشاف أي مكالمة، وعلى سبيل المثال: كثيرون يمتلكون موجة FM، ويستطيعون أن يلتقطوا مكالمات الهاتف السيار، أو الأجهزة اللاسلكية، حتى أن الرجل قد يتصنت على أهل بيته -على بناته، أو على زوجته- دون أن يكون هناك ريبة تدعو إلى هذا.
وكل ذلك يدخل في عموم النهي فيمن تسمّع إلى حديث قوم وهم له كارهون، وكل هذا يؤدي إلى النتيجة المحتومة، التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: {فإن فعلت أفسدتهم أو كدت تفسدهم} .(134/7)
المرأة والهاتف
الورقة الثالثة: هي ورقة المرأة والهاتف.
والمرأة والهاتف موضوع يطول، لكني أُلخصه في فقرات.
كثير من الفتيات تمتلك رقم هاتف خاص بها.
في غرفتها، وليس لأحد أي سيطرة عليه، ومع ذلك فإنها -أحياناً- لم تتلق في البيت التربية الإيمانية، والرعاية الأبوية الكافية، أو لم تتلق من ذلك شيئاً يذكر، وهنا الخطر الكبير! الثقة في غير محلها، وقد يسيء الإنسان أحياناً الظن بالأباعد؛ ولكنه لا يتوقع أبداً من أولاده وبناته إلا الخير، لماذا؟ لأنه يعرفهم منذ الصغر يعرفهم من أيام البراءة -براءة الأطفال- ويحس بأنهم لم يكبروا بعد، ويلاحظ أنهم يتميزون بالحياء والخجل، حينما يحادثهم فالبنت -مثلاً- لو كلمها أبوها في أمر الزواج؛ لطأطأت رأسها ولم تستطع أن تتكلم، فكيف يظن بها أبوها أنها من ورائه، قد تدير قرص الهاتف على ما لا يسوغ؟ يستبعد الأب هذا كثيراً؛ لما يرى من حيائها وخجلها منه، ولكنه يلصق هذا بالآخرين.
والواقع أن هذه الثقة في غير محلها، وأن الشيطان لا يوقر أحداً، ولا يحترم أحداً، ولا يقدر أحداً، وأنه يهجم على كل إنسان، وأن أي فتى، أو فتاة لم يتلق التربية الكافية، فإنه معرض لأن يسيء استخدام هذا الجهاز، خاصة حين يكون الجهاز خاصاً له في غرفته الخاصة.
جهاز البيجر، يقول لي أحد الإخوة: إن حوالي (50%) من أجهزة البيجر التي تسجل الرقم المتصل، أنها سجلت بأسماء فتيات، ومعنى ذلك أنه من الممكن أن تتصل على أي أحد، ثم يقوم هو بالاتصال عليها، من داخل البلد، أو من خارجها.
أصبحت المرأة الآن بحكم قعودها في المنزل، واهتمامها أحياناً ببعض أمورها، أصبحت أكثر اهتماماً ببعض هذه الأمور من اهتمام الرجل، أصبحت لا تجد غضاضة في الاتصال بجهات شتى، أكثر مما يتصل الرجل، أو ربما لا يتصل بها الرجل أصلاً.
فمثلاً: تتصل بالمدرسة للسؤال عن ولدها، أو عن أخيها ومستواه، وسبب فشله وتتصل بالخياط لأي تعديل طارئ على الموديل الذي اتفقت معه على الخياطة، أو لتأكيد الموعد المحدد، أو لغير ذلك من الأغراض وتتصل على مكتب الخطوط للحجز، وتأكيد الحجز، وتغيير وجهة السفر، بل وتحجز ليس لنفسها، بل لأهل البيت كلهم جميعاً، وتتصل ببعض الصحف والجرائد للسؤال عن مشاركتها ما مصيرها؟ أو لمجرد الحديث عن الكاتب فلان، أو لمجرد الإعجاب في المشاركة الفلانية، خاصة إن كان الكاتب كاتباً رياضياً وكثيرون يملكون القدرة على جر المرأة بالثناء، والمديح والإعجاب بفكرها، والإعجاب بأسلوبها الواعد، وقديماً قال الشاعر: خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء وقل أيضاً: والغواني يجرهن الثناء تتصل بالإذاعة عبر العديد من البرامج، لمجرد إسماع صوتها، وتعويدها على التحرر من عقدة الحياء -زعموا- فمثلاً: أفراح وتهاني، هذا برنامج يذاع، تهنئ البنت أختها فلانة، التي رزقت بمولود، وأختها فلانة هذه معها في المنزل، فتهنئها عبر هذا البرنامج، تهنئ زميلتها التي تزوجت، وقد تكون ساكنة إلى جوارها، وزميلتها الأخرى التي نجحت وقد تكافأ أحياناً بأغنية في الإذاعة، أو بمقطع من أغنية يسمعه الطرفان.
أما برنامج: (ألو إذاعة الرياض) فتتصل فتاة -مثلاً- لتطلب إعادة البرنامج الرياضي، الذي فاتها سماعه قبل يومين أو ثلاثة؛ لتعرف منه أخبار الدوري؛ بل في بعض البرامج حديث مع فتاة -وقد سمعت هذا بأذني- حديث مع فتاة على أبواب الزواج، يسمعه الألوف؛ بل الملايين من الناس، وهي تتكلم عن أمر الزواج، وقصة الزواج، والملابس، والأفراح، والمناسبة، وقضاء الإجازة وو إلى إلخ، وكل ذلك يتم بأصوات عذبة رقيقة، وكلمات ناعمة، وضحكات أحياناً تشق عنان الفضاء، وتبسط لا حدود له، وبدون مبالغة أقول: أكثر مما لو كان الحديث بين اثنتين في مجلس خاص، إذ أن مراعاة كسب إعجاب الآخرين، والمستمعين والمستمعات، هو أمر مهم، ونحن جميعاً ندرك مشاعر الإنسان، (الرجل، والمرأة) وما جُبل عليه من ضعف، ورغبة في الثناء والمديح، وكرهٍ لأن يقال: إن صوته كان خشناً، أو وحشاً، أو غير ذلك.
وقد تتصل الفتاة بالنادي الرياضي، لتأخذ رقم اللاعب، وقد رأيت هذا في جريدة رياضية، حيث يعتذرون عن نشر هذا الرقم، والوسيلة للحصول عليه على أي حال، ممكنة من غير طريق الجريدة وقد يتحدث معها السكرتير، ويعطيها الرقم، ولك أن تكمل بقية القصة وقد تتصل أحياناً بأي رقم لمجرد حب الاستطلاع، أو تسجية وقت الفراغ، أو يرمي لها رجل ورقة في السوق، فتجد بها رقماً؛ فتتصل عليه لمجرد المعرفة، فتقع على شاب تعود على أساليب الخداع والتضليل، وأصبح لديه خبرة في أساليب وطرق جر الفتاة شيئاً فشيئاً إلى ما يريد؛ وما هي إلا أيام، حتى يصبح هذا الشاب بقدرة قادر قيساً، لا يستطيع أن يعيش بدونها أبداً، وأن تركها له يُعد حكماً عليه بالإعدام، ولا يزال يمنيها بأحلام الزواج الذي لا يجيء، حتى تنصاع معه وتمضي معه إلى نهاية المشوار الأثيم.
ترق هذه المسكينة لحاله، تتلطف معه!! ويجلس معها على الهاتف أحياناً -وأنا أقول لكم عن معلومات، وليس عن ظن، ولا عن مبالغة- أكثر من ست ساعات نصف ساعة منها -على الأقل- في النهاية؛ لتحديد موعد المكالمة القادمة وجهاز التسجيل -أحياناً- يحتفظ -من حيث لا تدري- هي بكل ما يدور، وأخيراً! إذا جد الجد، وحزم الأمر، قال لها: لابد من اللقاء، فتمنعت وأصرت، فقال: لابد من اللقاء؛ وإلا فالأشرطة مسجلة عندي، وبعد اللقاء لابد من المصافحة، ولابد من وإلا، وكما يقول الأول: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر(134/8)
سلبيات استخدام المرأة للهاتف
أ/ أولاً: الخضوع بالقول: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] هذا الأدب من الله تعالى لـ عائشة، وخديجة، وزينب، وسودة، وأمهات المؤمنين، فما بالك بالناس في هذا الزمان، وقد كثرت الفتن، والمغريات، وارتفع أجيج الشهوات، وضعفت النفوس، وتسلط الشيطان، ومع ذلك يكون الخضوع بالقول سرّاً وعلانية!! ب/ ثانياً: العشق؛ وقديماً كان بشار يقول: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً وهو في الواقع عشق مزيف الخاسرة الكبرى فيه هي البنت، ولهذا يقول أحد الأدباء، واسمه فاروق جويدة عن الحب عن طريق الهاتف، يقول -ومن فمهم ندينهم-: إنه حب بارد، حتى لو وصفه الخط التليفوني في وقتها بأنه ساخن جدّاً! ومن الطرائف: أن إحداهن اتصلت، وكان صوتها عذباً رقيقاً؛ فاتصلت برجل وتحدثت معه طويلاً، ثم واعدها مكاناً قصيا، ولما اقترب منها على سيارته، رأى منها ما يكره، فمضى لحاله وهو يولول وتركها، حتى طال انتظارها؛ فانصرفت فالخاسر الأكبر هي المرأة، ثم الأسرة التي قد تجرها هذه الأمور، إلى فضيحة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.
ج/ ثالثاً: التدرج في المعصية: قال ربنا جل وعلا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] فهي خطوة تجر إلى خطوات، والذي وضع قدمه في بداية الطريق السيء، لا يلومن إلا نفسه إذا مشى في هذا الطريق، دون أن يملك التوقف فيه! نظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء! مكالمة بعد ذلك تعطيه رقم هاتفها، ثم تواعده ليراها، ثم يخلو بها ثم {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فما ظنك باثنين إبليس ثالثهما، ماذا يمكن أن يصنع رجل وامرأة؟! حقيقة لا أعرف -أنا- كيف أتصور فتاة تلتقي بفتى مراهقين خاليين، وفيهما الغريزة الفطرية التي ركبها الله تعالى في بني آدم كلهم كافة، لا أعرف كيف أتصور ألا يفكر أحدهما في الآخر؟ فهو يتصورها في أجمل هيئة، وأفضح وضع، ويتصور نفسه إلى جوارها، وهي الأخرى كذلك، شاءا أم أبيا، وشاء أولياء الأمور أم أبوا.
كثيرون هم الذين وقعوا في الفاحشة الكبرى، ولم يكونوا يخططون لذلك في البداية، خاصة من الفتيات، بل الذي يضع قدمه في أول الطريق؛ يجره إلى النهاية، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] .
فنهى عن قربان الزنا، وقربانه: كل وسيلة تؤدي إليه فالآية: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] نهي عن النظرة إلى الرجل، ونهي الرجل عن النظرة إلى المرأة الحرام، ونهي عن المحادثة الحرام، ونهي عن الخلوة، ونهي عن الضمة، ونهي عن القبلة، ونهي عن الضحكة التي تغري أحدهما بالآخر، كل ذلك ذرائع وبريد، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وفي صحيح البخاري من حديث سمرة في قصة رؤياه الطويلة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بشيء مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه نيران، ورجال، ونساء فإذا ارتفع بهم اللهب صرخوا وضوضوا، فإذا انخفض لم يسمع صراخهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من هؤلاء يا جبريل؟ فقال له: هؤلاء الزناة والزواني} نسأل الله تعالى العفو والعافية.
الزنا -أيها الإخوة والأخوات-: سبب لكل مصيبة وباختصار: الهم، والفقر، وأولاد الحرام، وفقدان الحياء، وقلة الخوف من الله، والفضيحة، وعقوق الأولاد، وبغض الله -تعالى- للعبد، وبغض الناس له، وتكدير العيش، وحرمان البركة، وسوء الخاتمة، وفقدان لذة العبادة، وحب الدنيا، وشدة الخوف والجبن، وسوء الظن، وكل بلاء في الدنيا وفي الآخرة.
وربما جر إلى تعاطي المخدرات أيضاً، بدءاً بالتدخين، وانتهاءً بالمخدرات الأخرى -أعني: الهاتف- التي تجعل متعاطيها ديوثاً ليس فيه قطرة من الغيرة، لا على نفسه ولا على محارمه، وربما قدَّم مدمن مخدرات بنته ضحية لزملائه؛ مقابل الحصول على هذه الأقراص، وفي ذلك قصص وأخبار.
د/ رابعاً: ضياع الوقت: الذي هو رأس المال، وبه يحاسب الإنسان، وعليه يعاقب، والله تعالى يقول في محكم تنزيله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:36] فاسمع ماذا يأتيهم الجواب من الرحيم الحليم اللطيف الخبير البر الجواد المتفضل المنعم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] نعمركم أي: نعطيكم أعماراً، ونعطيكم أياماً، وليالي، ونعطيكم ساعات، ودقائق، وسنوات، بل وجاءكم النذير، فكثيرٌ منكم وصلوا إلى حد المشيب، وبعث إليهم الرسل، ومع ذلك هم مصرون على ما هم عليه.
فبالعمر يعاقب الإنسان أو يثاب، وعليه يجازى في دار المآب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، عن ابن مسعود، وأبي الدرداء وغيرهم: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عن عمره فيما أفناه، ومنها: عن شبابه فيما أبلاه} فالإنسان يسأل عن الشباب خاصة مرتين: مرة باعتباره جزءاً من العمر، ومرة يسأل عنه سؤالاً خاصاً؛ لأهمية هذه المرحلة وخطورتها ولهذا يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي رحمه الله يقول: "الوقت سريع التقضي، أَبِيُّ التأتي، بطيُّ الرجوع".
والوقت أعظم ما عُنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع من العجيب أيها الأحبة: أن الكثيرين سُرُّوا حينما أُلغيت الرسوم على المكالمات الداخلية للهاتف! وهذا أمر لا يعاتبون عليه، لما فيه من توفير المال الذي يحتاجون إليه؛ لكنني أتعجب أكثر!! هؤلاء الذين ضاعفوا من مكالماتهم باعتبار أنها بلا رسوم، ألم يدركوا أن ذلك أحدث عندهم أثراً سلبيّاً؟ وأنه جعلهم يخسرون ما هو أثمن من المال، وأثمن من الرسوم ألا وهو الوقت؟ فأصبحت الفتاة مثلاً تجلس - أو الفتى - أربع ساعات على الهاتف، في مكالمة لبنت الجيران، أو لفلانة لماذا؟ قالت: ما في رسوم -نعم هناك شيء آخر، رسوم من نوع آخر- رسوم ملزمة للإنسان بمقتضى النص الذي يقول: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] ورسوم بمقتضى النص الآخر، الذي يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فيتخلل الكلام من ذلك الشيء الكثير الذي يعاقب عليه الإنسان، ولذلك -أحياناً- تجد الموظف مثلاً في مكتبه يتصل طويلاً، وربما قضى جزءاً كبيراً من وقته الرسمي في مكالمة لفلان أو لعلَّان، وينسى أن هذا الوقت ليس ملكاً له، بل ملك للناس ملك للمراجعين الذين ينتظرون أن يقوم بالإنجاز، وإذا انشغل بذلك؛ فلابد أنه سوف يكون ناقصاً نقصاً كثيراً بيناً في الإنتاجية، والعطاء؛ الذي ينتظره منه مجتمعه.
هـ/ خامساً: كثرة الكلام في هذا الهاتف وما يعتاد عليه الإنسان من ذلك، والكلام -كما أسلفت- محسوب، ويتخلل الكلام القيل والقال، والغيبة والنميمة، والكذب، والتصنع فيتظاهر الفتى للفتاة -مثلاً- بشيء آخر، وتتظاهر هي له بغير حقيقتها والغش والغزل وكم سينطق الهاتف لو استشهدته، ينطق بعبارات الغرام، وعبارات الغزل، والقصائد، قصائد الحب وغير ذلك؛ بل قد يتطور الأمر أحياناً إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
أقول: في بلاد الغرب تمارس الرذيلة -أحياناً- من خلال الهاتف، حيث يتصل الفتى فتصف له الفتاة حالها، ولباسها وهيئتها وشكلها ووضعها إلى آخره.
ويؤسفني أن أقول في قناة ليست في بلاد الغرب، بل في بلاد الشرق، بل في مهبط الوحي، في القناة الثانية وقبل فترة، كان هناك لقطة نقلت عبر الشاشة، من اختيار أحد المستمعين أو المشاهدين، تصور المشهد الذي ذكرته لكم قبل قليل، لكن في صورة أخرى فقد برز على الشاشة طفلان، بنت وولد في المهد، وكل واحد في جواره سماعة، وهم يتبادلون الحديث، إشارة إلى تلك الطريقة الموجودة في الغرب، ومكتوب على الشاشة ممنوع الاتصال لأقل من ثمانية عشر شهراً، إشارة إلى أنهم في بلاد الغرب، يمنعون أن يمارس الفساد عن طريق الهاتف، من كان أحياناً أقل من ثمان عشرة سنة.
و/ سادساً: ضياع الشخصية: فلا عمل، ولا إنتاج، ولا خدمة في البيت، ولا دراسة، ولا حل واجب، ولا قراءة مفيدة، ولا سماع شريط نافع، بل الهم الوحيد هو الجلوس إلى الهاتف، ومحادثة فلان وفلان، فيوجد ذلك من التزهد، وضعف الهمة، والاسترخاء، ما يجعل هناك جيلاً من الأولاد والبنات، لا يحب الواحد منهم أن يصنع أي شيء، لأن بضاعته تبدأ وتنتهي بالكلام، والكلام ليس أي كلام، فمن الكلام ما ينفع فمن الكلام ما يدخل الجنة، كذكر الله تعالى وقراءة القرآن؛ ولكن المؤسف أنه كلام يضر ولا ينفع، فيشترون ما يضرهم ولا ينفعهم.
ز/ سابعاً: الانشغال عن طاعة الله: وأضرب لكَ ولكِ مثلاً واحداً: ألا وهو (المكالمات الليلية) ، التي تبدأ غالباً بعد الساعة الثانية عشر ليلاً، وقت نزول الرب-جل وعلا- إلى سماء الدنيا، كما في الصحيحين وغيرهما، بل هو حديث متواتر حيث يقول سبحانه: {يا عبادي! هل من سائل فأعطيه سُؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ وذلك حتى ينفجر الفجر} على حين أن هذا الفتى وتلك الفتاة، غارقان في مكالمة هاتفية تضرهم ولا تنفعهم، وتبعدهم عن ربهم جل وعلا.
ح/ ثامناً: العزوف عن الزواج: فطالما تأخرت الفتاة عن الزواج، في انتظار فارس الأحلام، الذي(134/9)
دور الهاتف في وقوع الجرائم
أنا أقول: كل جريمة تقع اليوم، فلا بد أن للهاتف دوراً بارزاً فيها، وأرجو أن تصغوا جيداً لهذه الكلمة، وأنا مسئول عنها، (كل جريمة تقع اليوم، فالهاتف طرف فيها، في أي مرحلة من المراحل) إما أن يكون هو السبب الأول ونقطة البداية، أو يكون دوره في المرحلة الثانية أو الثالثة، أو الأخيرة، وأعني بذلك: كل الجرائم، سواء كانت جريمة خلوة، أو جريمة زنا، أو جريمة قتل، أو أي جريمة أخرى.
وهذا ثابت من خلال دراسات لمئات الحالات في هذه البلاد وفي غيرها؛ التي كشفت والتي لم تكشف أيضاً، نعرف أخباراً كثيرة منه، من خلال بعض الشكاوي وبعض المشكلات.
وقد تتصل الطالبة بزميل لها في الجامعة، خاصة إن كانت منتسبة، لتسأله عن المنهج، ورقم الأستاذ، وطريقة الأسئلة، وتناقشه في الموضوعات التي تقول هي: إنها غير مفهومة، وتحتاج هي إلى شرح وبيان.(134/10)
الرد على الهاتف
أما الرد على الهاتف: فحدث ولا حرج، فهو من مهمة البنت غالباً؛ أن تقوم بالرد على الهاتف، وهي فرصة للسؤال عن الحال كيف أحوالكم؟! وكيف الأهل؟! وكيف الجيران؟! وكيف الوالد؟! وكيف الوالدة؟! إلى غير ذلك من الأسئلة، وكثيرون يرغبون في محادثة المرأة، والاسترسال معها في الحديث، والشيطان يغريهم بذلك كثيراً.
أما اتصال الفتاة بفتاة أخرى، فهذا باب آخر؛ فالصديقات يقضين وقتاً طويلاً في الحديث، وأحياناً المعجبات أيضا، فالفتاة قد تقع في إعجاب -تعجب بفتاة أخرى- ولا تصبر عنها، فإذا فارقتها في المدرسة، أصبحت تتصل بها في المنزل، وأيضاً تحدثني بعض البنات الصالحات، أن هذه المكالمات قد تمتد لثلاث وأربع ساعات أحياناً، وهي لا تخرج بطائل، إلا الإعراب لها عن محبتها والإعجاب بها، وأنها تتمنى أن تكون مثلها.
وأحياناً تكون الحالة -في حقيقة الأمر- لا تعدو أن تكون حالة عشق واضحة صريحة، ولكنها قد تلبس لبوساً آخر، مثل لبوس الحب في الله، أو الإعجاب أو غير ذلك، والله -تعالى- يحب الصدق، ويقول جل وعلا: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15] والمسميات لا تغير من الحقائق شيئاً.
الجارة أحياناً تتصل بجارتها، وليست المشكلة في الاتصال بذاته، فالهاتف -أصلاً- إنما يفرح به؛ لأنه ييسر سبيل الاتصال، لكن المشكلة في السلبيات الناجمة عن الاتصال، والتي يلخص بعضها فيما يلي:(134/11)
الخدم والأطفال
الورقة الرابعة: الخدم والأطفال.
الخدم في البيوت كثير، في كثير من الأحيان هم نوع من الترف والمفاخرة، وفي أحيان أخرى قد يكونون حاجة مُلحة المهم! كيف يستخدمون الهاتف؟!(134/12)
استخدام الخادمة للهاتف
أولاً: الخادمة بلا زوج، وأحياناً كثيرة تكون غير مسلمة، ومن بيئة أخرى، فلا مشكلة لديها البتة في محادثة أي إنسان تعرفه أولا تعرفه، ما دامت تعرف اللغة العربية، سوف تتحدث مع أي إنسان، وإن لم تكن كذلك؛ فإنها سوف تتحدث مع بني جنسها، وتربط معهم المواعيد، وأحياناً تكون وسيطاً لبعض البنات في المنزل، وتجرهن معها في شبكة فاسدة، فضلاً عن إفشائها لسر البنت، والبوح بكل ما تعرف من أحوال أهلها.(134/13)
سلبيات استخدام الأطفال للهاتف
أما الأطفال فثمة سلبيات كثيرة منها: أولاً: تعويد الأطفال على الرد على الهاتف عند كثير من الأسر، دون أن يعلموهم أدب الرد، فهذا يغرس في نفوس الأطفال حب أخذ السماعة، والرد على المتكلم مع عدم تعويده على الأدب في الحديث -كما ذكرت- مع الآخرين، وعدم تبصيره بطرق ضعفاء النفوس، في الوصول إلى ما يريدون.
فبعض الأطفال يجرهم ذلك إلى شر، أو يكشف أحوال البيت، ولا أنكر أن هناك أطفالاً كثيرين، قد دربهم أهلهم على حسن الرد على الهاتف، فتجد أنهم يردون بعبارة مختصرة: مَنْ؟ فإذا قال مثلاً: أين فلان؟ يقول: مَنْ تريد؟ بيت مَن تريد؟ إذا قال: أريد بيت فلان أبو فلان قال له: مَنْ تريد؟ بأجوبة مختصرة بقدر الحاجة، بحيث لا يمكن أن يفوت عليهم شيء، أو يصل عابث من خلالهم إلى ما يريد.
ثانياً: نقل المعلومات -أحياناً- ببراءة عن أهل البيت، فمثلاً: يتصل إنسان على طفل ويقول له: ما اسم أمك؟ ما لون غرفتها؟ ما شكل ثوبها؟ ما لون المنزل؟ ما لون الديكور؟ إلى آخره، ويكون نتيجة لذلك تدمير المنزل، وهذه قصة حصلت فبعدما يأتي رب الأسرة، يتصل الشاب الذي أخذ المعلومات كاملة، فيقول لرب الأسرة: أنت فلان؟ يقول: نعم، فيقول: أنا قبل قليل كنت مع زوجتك، ليقول له: أنت كاذب.
فيقول: لا، ففي الغرفة كذا، وكان لونها كذا، وشكلها كذا، والمكان الفلاني كذا، وكانت الأزهار موجودة في المكان الفلاني، والطاولة موجودة ويعطيه التفاصيل التي أخذها عن طريق هذا الطفل؛ فيدمر البيت من خلال هذه اللعبة.
ثالثاً: تعويد الأطفال -أحياناً- على سماع الكلام البذيء الفاحش، الذي لا يسمعونه أصلاً في البيت، ما دام البيت محافظاً، وربما لا يسمعونه حتى في الشارع أحياناً، ومن ثم تنحرف أخلاقهم.
رابعاً: قد يكون الأطفال أحياناً وسطاء أبرياء للإيقاع بين طرفين، إما في التعريف فأحياناً يقول الطفل ببراءة للمتصل: هل تريد أمي؟! تريد أختي؟! ثم يقول ذلك: نعم، ويأتي بها إليه وأحياناً يسأله أسئلة، ويحصل من خلالها على المعلومات التي يستفيد منها في مكالمات أخرى.
خامساً: بعض الأطفال يتدرب على كيفية استعمال الهاتف -أي: أن يقوم هو بالاتصال دون تربية أيضاً- فيؤذي آخرين بهذه الاتصالات، وقد يكون سبباً في التعرف على أهله، وقد يؤذي جهات أخرى رسمية، أو بيوتاً، أو غير ذلك.(134/14)
أرقام عشوائية
يعمد الكثيرون من الضائعين والضائعات -أيضاً- إلى ضرب أرقام عشوائية على الهاتف، إما أن يكونوا أخذوها من خلال الدليل، وبذلك يعرفون اسم من له الرقم، أو بمجرد تغيير الأرقام في الجهاز، وضربها بسرعة، بحثاً عن ضحية، وغالب هؤلاء من المراهقين والمراهقات، يفعلون ذلك في غيبة الأهل.
عند أحدهم رقم خاص في غرفته، أو عنده فرع متوارٍ مختلفٍ في مكان لا يشعرون به، أو في حال خروج الأهل من المنزل، وكثير من الأسر تخرج وتترك الولد المراهق، أو البنت المراهقة في البيت لوحدها، بحجة أنها تذاكر أو بحجة أنه ليس له رغبة في الخروج، أو بحجة أنها متعبة، أو بأي حجة؛ بل كثير من الناس ينامون مبكرين، وفي ساعة مبكرة، ويتركون المراهقين من الأولاد والبنات، دون حسيب أو رقيب.(134/15)
مفاسد الأرقام العشوائية
ويحصل من جراء ذلك أمور ومشاكل قد لا يعلمها الكثيرون، لكننا نحن نعلم كثيراً منها، والجهات المعنية أيضاً تعلم الكثير من ذلك، ففي هدأة الليل يبدأ الحديث، وفي أحيان كثيرة، يحصل من جراء ذلك مفاسد أيضاً منها: أن هناك جهازاً يعيد المكالمة، فإذا اتصلت بشخص ما، ثم وضعت السماعة، استطاع صاحب الجهاز أن يعيد المكالمة، أي أن يتصل بك هو، حتى لو كان لا يعرف رقمك بالضبط.
فقد تتصل الفتاة -مثلاً- برجل، وتقول له شيئاً، أو تعبث معه، ولكنها لا تريد أن تطلعه على رقمها، ولا أن يتصل بها هو؛ ولكنه من خلال هذا الجهاز يتصل بها، وعندما يرن الجرس لديها، تفاجأ بأن هذا الشخص الذي كلمته قبل قليل؛ هو الذي على سماعة التليفون وتحت التهديد يهددها بأن يمسك الحرارة حتى يحضر ولي أمرها، إذا لم تنصع لأوامره، فتوافق على ما يريد خوفاً من والدها.
هذا الإزعاج الذي يحصل بالاتصالات العشوائية، هو محرم شرعاً، وهو مذموم عقلاً؛ فأما الشرع: فإنه إيذاء للمؤمنين والمؤمنات، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً َإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا ضرر ولا ضرار} .
فالضرر مدفوع، والأذى ممنوع، ولا يجوز لإنسان أن يؤذي أحداً بقول ولا فعل، ولا حركة؛ حتى لو كانت يسيرة خاصة وأن هذا الإزعاج يأتي -في أحيان كثيرة- في وقت الهدوء، ووقت الراحة، ووقت الخلوة بالأهل، ووقت النوم، فيتحول الجهاز -بهذا- من وسيلة اتصال نافعة، إلى ذريعة تخريب وفساد وإذا ابتلي الإنسان بمثل هذا وطال به الأمر، فبإمكانه أن يسلك أسلوب تغيير الرقم واستبداله، كما أنه يمكن مراقبة الرقم رسمياً، لاكتشاف الإزعاج المتكرر، ومنعه من ذلك.
من المفاسد: أن هذا الأمر يشغل الخط كثيراً، وقد يتصل أحد لديه ظرف طارئ، يريد الإخبار عن شيء، عن مريض، أو عن وفاة، أو عن حادث، ولكن عبثاً يحاول فالخط مشغول، ولكن بماذا؟! من مفاسده ومن أعظم مفاسده: دعاء الناس على مَنْ يؤذيهم: فبعض الشباب يحدثونني عن أشياء من هذا طويلة وعجيبة، قد يكون من يتصلون به رجلاً صالحاً، في هدأة الليل، وربما كان في صلاة، فإذا اتصلوا به؛ ظن أن هناك أمراً خطيراً، فإذا هو رجل يمزح ويعبث، أو بنت تعبث، فتجد أن هذا الإنسان الصالح يقول: أصابك الله بالموت، أعطاك الله بالسرطان، أعطاك الطاعون، أو غيره فهذا دعاء عليك من رجل آذيته، وربما في ساعة إجابة، وربما يكون من الصالحين، وقد يكون وقت قبول، وقد يكون منزعجاً لأنك أيقظته من نومه، أو قطعت عليه صلاته، أو أزعجته وأخفته، إلى غير ذلك.
وأحياناً قد لا يكون الشخص المُزْعج مستقيماً، فتسمع منه ما يسوؤك، وأقلها: أن تسمع شتم والديك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن علي ّ: {لعن الله مَنْ لعن والديه} ويدخل في ذلك من تسبب في لعنهما، فكثيرٌ إذا أُوذوا؛ شتموا والدي منْ آذاهم فتكون تسببت في لعن والديك، وقد تسمع مِنْ ألفاظ البذاءة والتعيير، والقذف لك ولأهلك ولأجدادك ولأسرتك؛ ما تشمئز منه نفسك فأي خير يرجى بعد هذا؟! بل بلغني أن بعض الناس لا يكتفي بالاتصال فقط، بل يزيد على ذلك لوناً آخر من الإزعاج، لا يكتشفه إلا الشيطان أو من أملاه عليه الشيطان، فيتصل ببعض الأسر الذين يعرفهم، ويعرف أن ولدهم مسافر إلى الرياض، فيقول لهم: فلان ولدكم قد حصل عليه حادث، وهو الآن في المستشفى ينازع محتضر، أو يقول لهم: إنه قد قطعه الحادث إرباً إرباً، وعليكم المجيء سريعاً لاستلامه من الشرطة، أو من المستشفى وقد حصل هذا، وأحدث في البيت إرباكاً وإزعاجاً لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهذا العمل (الاتصال، وتكريره، وضرب الأرقام العشوائية) يتحول أحياناً إلى نوع من الإدمان، الذي يصعب علاجه، فكلما وجد الفتى، أو وجدت الفتاة وقت فراغ ولو يسيراً، امتدت الأصابع عفوياً إلى أرقام الهاتف، تضغطها دون تفكير، وهي السهم الأولى التي تجر صاحبها إلى بؤرة الرذيلة والانحراف.
ومن عقوبات هذا العمل حرمان الإنسان من المتعة الحلال، وتعلق قلبه بالأصوات، وما تجره من خيالات وصور وهمية، وهي بذلك تفتح للإنسان باب السفر إلى الخارج، ومعاقرة الرذيلة في مواقعها وأماكنها، والخطوة الأولى تتلوها الثانية.(134/16)
خُذ الرقم
أرى بعضكم أحضر ورقة حتى يأخذ الرقم! لا.
هذا مجرد عنوان.
أصبح من السهل الحصول على رقم ما، ليس عن طريق الاستعلامات، فهذا أمر معلوم؛ لكن عن طريق صاحب الرقم نفسه، فأحياناً إذا اتصل به إنسان أو بها -ولو كان اتصاله عشوائياً- أعطاه الرقم، وكل جهة رسمية أو غير رسمية يمكن أن تعطى رقم الهاتف مثلاً: عند فتح الملف في مستوصف الحي، يطلبون بيانات من ضمنها -ربما- كل أرقام المنزل، ليس هناك مسوغ مقنع لهذا الطلب، وفي حالة اللزوم يمكن الاتصال على رقم واحد إذا كان ولابد.
بل أعرف أشد من ذلك! وهذه ورقة وزعت على بعض البيوت، وانظروا إليها، الآن في هذا البلد توزع!! وتباع أيضاً مع بعض الكتب أحياناً! يقول: احتفظي بهذه القسيمة، وانتظري المفاجأة السارة - هذا لربة البيت - الاسم بالكامل، السن، الحالة الاجتماعية، متزوجة، أم غير متزوجة، وظيفة الزوج، عدد أفراد الأسرة، هل الزوج يهوى المطالعة؟ بماذا؟! باللغة العربية لغات أخرى رياضة علوم كمبيوتر موسيقى أنواع أخرى بعد ذلك: عدد الأبناء ذكور إناث السن - أيضاً البنات مطلوب عددهن وأسماؤهم أيضاً - هل لديكم كمبيوتر؟ هل لديكم فيديو؟ هل هم يهوون الفيديو؟ أي نوع؟ يهوون المطالعة؟ ما هي الاهتمامات؟ خياطة نزيكو طبخ أزياء مطالعة طب تنسيق زهور اهتمامات أخرى؛ جوائز قيمة لمسابقة قادمة، هذه الورقة إلى أين سوف تذهب؟! هذه الورقة إلى شركة الديار في إيطاليا، فتصور المكر إلى أين وصل.
وأعطاني آخر -أمس- ثلاث مذكرات، فيها أسئلة كثيرة عن الماركة التي تتعاطاها من التبغ، وهل تنوي تغيير هذه الماركة؟! ومن أين تشتريها؟! وأين تقرأ إعلاناتها؟! وأين تقضي وقت فراغك؟! وفي ذلك سؤال عن رقم الهاتف، وهو يوزع على الشباب، ويقوم بعض الصغار من الصبية المستأجرين لهذه الشركة، التي لا أدري ماذا وراءها؟ يقومون بالاتصال ببعض الناس، حتى في المطار وغيره، وسؤالهم، وتعبئة البيانات في مثل هذا الأمر.
بعض الشباب ذوو الميول المنحرفة -يعملون استبيانات- أحياناً تطوعية من عند أنفسهم، وقد رأيت من ذلك شيئاً، ويوزعونها أحياناً على مدارس الأولاد للبنات، فيقولون: أعطِ أختك تكتب هذا البيان وفيه اسمها، وماذا تهوى؟! وماذا تشاهد من برامج التليفزيون؟! ورقم هاتفها.(134/17)
مؤسسات المجتمع(134/18)
مراقبة الهاتف
متى تراقب الهاتف؟ وما هو أسلوب المراقبة؟ أولاً: ينبغي أن نُبعد عن النفس الشك والوسوسة فإن كثيراً من الناس ابتلوا بالوسواس في أنفسهم، وفي أزواجهم، وفي بناتهم، وأولادهم، وهذا غير مطلوب، فالمطلوب -دائماً وأبداً- هو الاعتدال والعدل، فلا يغلو الإنسان في الشك والمراقبة، وأيضاً لا يغلو الإنسان في حسن الظن والغفلة، (لست بالخب ولا الخبُّ يخدعني) اجعل هذا شعارك.
لكن إذا وجد الإنسان أن هناك شبهة قوية، وأوضاعاً مريبة وشكوك، أو سمع كلاماً أو غير ذلك؛ فإن له أكثر من وسيلة.
فبإمكانه أولاً: تلافي هذا الأمر دون مراقبة؛ لكن إذا احتاج إلى المراقبة؛ فإن ذلك ممكن من خلال أجهزة موجودة في السوق، توضع على أحد النقاط في البيت، ويكون الجهاز -جهاز التسجيل- يشتغل بمجرد رفع السماعة، فيسجل كل المكالمات المطلوبة، وهذا نوع من التصنت -كما ذكرت قبل قليل- فهو لا يجوز! حتى الأب لا يجوز له أن يتصنت على ابنته أو زوجته، أو الرجل على زوجته، أو الأخ على أخيه، إلا إذا وجد ما يدعو إلى ذلك، مثل: الشك والريبة، أو غير ذلك.(134/19)
التلفاز
التلفاز يشجع -من خلال ما يعرض على شاشاته من أفلام رديئة، ومن قصص الحب والغرام، التي تبدأ أحياناً بالهاتف، ومن الكلمات التي يحفظها للطلاب والمشاهدين؛ يشجع كثيراً على استخدام الهاتف فيما لا يحسن بل يسوءه الصحافة والمجلات، تجعل المهاتفات أمراً عادياً، وتبادل مشاعر الحب والغرام يتم على صفحاتها أحياناً، وبعضها -على كل حال- خير من بعض؛ ولذلك نرجع إلى أهمية ما يقرأ من الصحف والمجلات والكتب وغيرها فينبغي للأب أن يوفر لأولاده وبناته الكتب الإسلامية المفيدة، والصحف الإسلامية المفيدة، وكل ما ينفعهم، ويحذرهم ويبعدهم عما يضرهم.(134/20)
المدرسة
الصديقات في المدرسة، وتبادل الأرقام؛ هذا يحصل كثيراً بين الشَِلل الموجودة في مدارس البنات، وخطر التهويل من شأن هذا الأمر، فهي تقول لزميلتها: الأمر سهل، الأمر بسيط، مجرد اتصال وحديث وتصبح الواحدة منهن تستحي أنه ليس لها صديق تتصل به فتستحي، وإذا كانت الشِّلة كلها على نفس النمط؛ فربما تدَّعي ذلك وهو كذب، وربما تحاول أن تتصل ببعض الشباب، ويدعو إلى ذلك شيء من الفضول.
ولذلك من الضروري اختيار الصديقة الملتزمة بالنسبة للفتاة، ومن الضروري أن يكون للأهل دور في اختيار الصديقة التي تكون مع بنتهم، وألا يرضوا أن تصحبها أي فتاة، دون أن يكونوا واثقين من أخلاقها ودينها، ولابد من الإشارة إلى دور المديرة والمدرسة، والمرشدة الاجتماعية؛ في التوعية، وإقامة حلقات الذكر في المدرسة، والنصيحة في الفصول، والمراقبة أيضاً للبنات فيما يأتين به أحياناً من بعض الأمور، خاصة البنات التي تثور حولهن علامات استفهام.(134/21)
البيت
البيت هو أهم المؤسسات، فلابد أن يقوم البيت بدوره في تعويد الجميع على النوم مبكراً، وعدم ترك المراهقين لوحدهم، ومراقبة الأطفال والخدم، وحصر أجهزة الهاتف في أماكن عامة، أو في مكان واحد فقط، وترشيد عدد الأرقام، خاصة مع الحاجة إليها من الآخرين.
لماذا يوجد في بيتك أربعة، أو خمسة أرقام -في كل غرفة رقم خاص-؟! الناس يحتاجون هذه الأرقام، ومساعدة المسلم لأخيه المسلم مما يقربه إلى الله عز وجل، هذا الأمر ينفعك اقتصادياً، ويوفر عليك رسوم الاشتراكات، والأجور والمكالمات وغيرها، ثم هو يحفظ لك خلق أهل بيتك، وكرامتهم، ويجعلك تطمئن على سلوكهم، وعدم استخدام هذه الأجهزة استخداماً سيئاً.
أمر مهمٌّ جدّاً في البيت وهو التربية الحسنة، من التربية: تخويفهم بالله عز وجل وترغيبهم فيما عند الله تعالى، وإقامة درس -ولو أسبوعياً- للبنين والبنات، وجَعل الكتاب والشريط في متناول أيديهم، وتعويدهم على أسلوب الرد على الآخرين كباراً وصغاراً، وأضرب لكم مثالين: أولاً: سوء الظن: بعض الناس نتيجة هذا الكلام أو غيره، يصبح عندهم سوء ظن، فكل من اتصل بهم؛ اعتقدوا فيه سوء الظن، ولهذا يردون بشراسة وقوة وقد يكون المتصل مازحاً أحياناً وهو يعرفهم، وقد يكون المتصل مخطئاً في الرقم، فيواجه أحياناً بالدعاء، أو بالشم.
وأذكر لكم مثالاً حصل لي: اتصلت يوماً من الأيام على صديق لي فقال لي: نعم فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام، فقلت له مازحاً: هل هذا بيتكم؟ فوضع سماعة الهاتف، واعتقد أنني أعبث بهذا الاتصال؛ لأنه لم يعرفني، وفي الواقع أنه لم يكن الأمر إلا مداعبة.
فلا بأس! أعط المتصل فرصة لتعرف مَنْ هو؛ فإن وجدت أنه عابث، فلا داعي للانزعاج، وشد الأعصاب، والهيجان والغليان، والكلام والقيل والقال، والشتم والسب والدعاء، ضع السماعة بهدوء، وإذا تكرر الاتصال؛ فكرر هذا العمل، وإذا وجدت أنه يتصل غالطاً في الرقم أو مخطئاً، أو ما أشبه ذلك، فلتعذره.
مثال آخر: -كذلك أحياناً- يتصل البعض ويقول: هذا بيت فلان فيقولون: نعم، ومن أجل أن يطمئنوا إليه ويعطوه معلومات صحيحة، يقول: معكم فلان إذا جاء قولوا له: اتصل بك فلان، وهو ليس هو في الواقع؛ لكنه يعطيهم اسماً وهمياً، حتى يعطوه المعلومات التي يريد، فيقول: متى ذهب؟ ومتى سيأتي إلى آخره؟ فإذا حصل على المعلومات التي يريد؛ استفاد منها ووظفها فيما يقصده.(134/22)
فتوى على الهاتف
لقيت كثيراً من الشيوخ -منذ زمن طويل، وفي الأسبوع الماضي على وجه التخصيص- يشتكون كثرة الاتصالات الهاتفية! وهذا -في الواقع- بشير خير، يدل على إقبال الناس على العلم الشرعي، وثقتهم بالمشايخ والعلماء؛ حيث يسألون عن أمور دينهم ودنياهم ومشاكلهم الاجتماعية، والاقتصادية وغيرها ولكنني أود أن أقول: حتى هؤلاء الشيوخ الذين بذلوا لنا أوقاتهم، لهم خصوصياتهم ومن حقهم أن يستمتعوا بأوقات الراحة، كما يستمتع بها غيرهم، وأن يحظوا منا بالرعاية وحسن الأدب؛ أكثر مما يكون مع غيرهم مثلاً: في رمضان يقول لي أحدهم: طيلة أربع وعشرين ساعة، والهاتف يرن لا يهدأ أبداً؛ لأن من الناس من ينام في الليل، ويصحون بالنهار، فيظن أني مثله، فيتصل بالنهار -حتى بعد صلاة الظهر، في منتصف الظهر- يتصل ويقول: طبيعي؛ لأنه ما دام نام في الليل فإنه لا ينام في النهار، وبعض الناس على العكس! في رمضان ينامون في النهار، ويسهرون في الليل، فيتصل الواحد منهم ربما في الساعة الثانية والثالثة ليلاً، وهو يكون يقظ؛ لأنه ما دام نائماً في النهار؛ فلن ينام في الليل.
فكل إنسان يقيس الناس على نفسه، ولا يحس إلا بقدر حاجته.
هناك أمور يجب مراعاتها في موضوع الاتصالات الهاتفية، حين نتصل بمشايخنا، وعلمائنا لنسألهم عما أشكل علينا وأختصر أيضاً: أولاً: الاقتصار على الوقت المخصص، إذا حدد وقت لا تأخذ غيره.
ثانياً: عدم الإطالة بالمقدمات: مثل: كيف حالكم؟ كيف الأولاد؟ كيف الصحة؟ كيف الأحوال؟ كيف الأهل؟ كيف الجيران؟ لا داعي لهذا.
ثالثاً: عدم ذكر التفاصيل التي لا تتعلق بموضوعه، أو أن تكون القضية مجرد بث الشكوى دون مصلحة: امرأة -مثلاً- تعاني مشكلة مع زوجها، تقتصر على ذكر المشكلة أما كونها تتحدث عن الأمور، وعن الماضي والحاضر، والواقع، وكذا لمجرد بث الشكوى؛ فهذا من الممكن أن تشتكي إلى أمها، أو إلى صديقتها، أما أوقات الآخرين فلا يمكن أن تكون لمثل هذا.
وقد يأتي الرجل ليسأل عن مسألة طلاق؛ فتجده يسرد لك قصة زواجه، من خمس وعشرين سنة إلى اليوم، وما جرى فيها وما حصل والمشكلات ولا داعي لهذا.
رابعاً: عدم الاتصال على أكثر من واحد؛ فالبعض يتصل بفلان، وفلان، ويقارن بين الفتاوى.
خامساً: حسن الأدب: فالبعض يخاطب الشيخ فيقول: أنت ما فهمت!! أو أنت لا تدري -مثلاً-!! أو هل أنت فعلاً فلان؟! وبعد كل قليل هل أنت فعلاً فلان؟!! ما هو السبيل لأن يثبت أنه فعلاً فلان، أو يقول: أنت أخطأت خطأ أريد أن أنبهك عليه، لا داعي لأن تجزم بأنه خطأ إلا بعد أن تذكره، ويوافقك على أنه خطأ؛ فلابد من الأسلوب المناسب.
سادساً: رعاية هذا الإنسان في أهله، وولده: فلا يسيء المتصل إليهم بقول ولا يفعل.
سابعاً: عدم الاتصال لغير حاجة: مجموعة يلتقون أحياناً فيثور بينهم أي سؤال، كل ما في الأمر أنه يتصل بالهاتف، ويسأل فلاناً، مع أن القضية قد لا تكون ملحة.
وكثير من الناس؛ خاصة الفتيات والنساء، يتصلن من أجل السؤال عن الرؤيا عن الأحلام، وفي الواقع هناك فرق كبير بين من يتصلون للسؤال عن أحلام رأوها، وبين من يسألون عن فتاوى، ولو سأل الناس عن أمور دينهم، كما يسألون عن الأحلام التي يرونها في منامهم؛ لأصبحوا فقهاء.
ثامناً: البدء بالسلام (تحية الإسلام) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تاسعاً: عدم المقاطعة: إذا تكلم الإنسان وأجاب، لا داعي لأن تقاطعه في الكلام.
عاشراً: لا بد من وضوح الصوت: هذه تحدث مشكلة! تصور -مثلاً- أن موظف الخطوط، أو موظف البريد، أو الهاتف، الذي يستقبل مكالمات على مدى وقت الدوام، فأنه يعاني مشكلة ولابد -مع الوقت- في أذنه! فكيف بمن يكون طيلة وقته هكذا.(134/23)
الجانب الإيجابي للهاتف
الورقة التاسعة والأخيرة: كل الحديث الذي مضى، أو غالبه أو جله، عن الجانب السلبي، أما الجانب الإيجابي في هذا الجهاز الحساس، فهو الأصل: فهو اختصار للوقت، وتسهيل للاتصال بالقريب والبعيد، وغنية عن اللقاء، حين يتعذر اللقاء أو يتعسر، أو يمتنع شرعاً أو واقعاً، وفرصة للدعوة إلى الله، وشكر من يستحق الشكر، ونصيحة من يحتاج إلى نصيحة، وتواصل بين الشرق والغرب، وأداة تيسير العلم وسهولة الحصول عليه، ومعرفة حكم الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما ينزل بالإنسان، وقناة للتعرف على الأحوال والمتغيرات، ومجال لتبادل الناس في أمور معاشهم.
وعلى كل حال: فهو من الإنجازات العلمية الهائلة بكل تقدير، وعلى رغم مضي أكثر من مائة وخمس عشرة سنة على اختراعه، فهو لا زال ينافس أحدث المخترعات الأخرى التي ساهمت في صياغة حياة الإنسان في هذا العصر، وبعد هذا وقبله لا أعجب أن يخرج علينا صحفي غداً، أو بعد غد؛ ليقول: إن فلاناً يحرم استخدام الهاتف! فقد دأب بعض الناس على تحريف الكلم عن مواضعه.(134/24)
الأسئلة(134/25)
الفنانة السعودية ناجية الربيع
السؤال
يقول: الفنانة السعودية ناجية الربيع تقول: انتظر الدور المناسب بالمسرح والإخراج للسينما قريباً، هذه في جريدة الأنباء الكويتية الجمعة 6/11/1412 هـ، وقد صورها صورتين قادمة من أمريكا، درست فيها فن الإخراج السينمائي، وقامت بعدة محاولات في السعودية، وهي الآن تجرب حظها في الكويت، ولها بعض الآراء ووجهات النظر، إنها الفنانة السعودية ناجية الربيع، وماذا في جعبتها حالياً؟
الجواب
على كل حال: في مقابلة طويلة، إنما هي تنتظر الدور المناسب للمسرح، للخروج بوجه سينمائي سعودي، وأسأل الله تعالى ألا يتم ذلك، وأن يكون لجهود المخلصين ما يحول دون ذلك.(134/26)
مشاركة شعرية أخرى
السؤال
هذه قصيدة لها قصة، وهي مشاركة أيضاً بعث بها إليَّ أحد الإخوة، وكنت وأنا صغير في المتوسط -أقرأ قصائد في بعض المجلات الإسلامية، وخاصة مجلة كان اسمها: الشهاب، وكانت تصدر من لبنان، فكان يشتريها بعض أقاربي فتقع في يدي، فأشتريها وأجد فيها قصائداً لشاعر فلسطيني اسمه الدكتور: عبد الرحمن بارود، فأحفظ كثيراً منها، وأكتبها في دفتر عندي، فسمعت أن هذا الدكتور يدرس في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، فتمنيت أن ألقاه لأسأله عن قصائده، ولقيته فعلاً فسألته عن تلك القصائد، فقال لي: إنها ضاعت ضمن ديوان أخذ منه حين سجن في مصر، وكان سجن فيه سبع سنوات، وضاع ذلك الديوان، فقلت: إني كنت أحتفظ بها زماناً، فدعاني إلى أن أزوده بها، فقرأت عليه بعض تلك القصائد، فوجدت أنه قد نسيها، حتى إنه أنكر أحدها وقال: ليست لي!! فلما أعدتها عليه تذكرها، ثم بعث لي -جزاه الله خيراً- ببعض القصائد التي عنده، ومنها قصيدة جميلة جداً، أقرأ عليكم شيئاً منها، عنوانها: (صريع الهوى) ، وهي مناسبة لموضوع اليوم، كما إنها مناسبة لموضوع قادم إن شاء الله بعنوان: مصارع العشاق يقول: صريع الهوى غرتك وهي غرور وعمرك طيرٌ من يديك يطيرُ رمتك ابنة للدهر في طرفها الردى تناذرها الركبان وهي نذير إذا أقبلت أنست أخا اللب لبه وهان عليه الرق وهو أمير عروس بلا قلب يطيف بها الورى لها من سويداء القلوب ستور ولولا الهوى لم يهو في النار من هوى ولا عقرت أهل الحلوم عقور لها شرك من ينج منه فقد نجا حبائله كالسيف وهي حرير تُغير وتمضي كالخيال وخلفها دماءٌ ودمع واكف وقبور عشاء ضحى والليل داجٍ ومخبر أصيلاً سُحيراً والبلاد حرور فيا لك ركباناً على البيد كالقطا وفوقك عُقبانٌ عتت ونسور أطارت رماة الدهر قوس قديمة ورام بحبات القلوب خبير فكن واحد الدنيا فأنت وريقة على طرق الركبان منك كثير لقن كل ريح في قفار مخوفة لهن عواءٌ تارةً وصفير يخاطب العاشق وصريع الهوى يقول: إلهك ليلى ما لنا فيك حيلة عليها قصرت العمر وهو قصيرُ ذللت فعزت واستقدت فقيدت فأنت بأغلال الحديد جدير قعدت وجدَّ الطيبون إلى الحمى ولذَّ لك الخطبان وهو مرير ولو حدقت عيناك حولك لحظة رأيت الرحى السود وهي تدور فيا عجباً أدبرت والدهر قُلَّبٌ ولله في الدنيا صباً ودبور أما أنت إذْ ألقى ألست بربكم علينا وللأقلام ثم صرير فقلنا بلى قال المواثيق بيننا وأنت سميع يوم ذاك بصير يعني إنك كنت موجوداً يوم أخذ عليك الميثاق {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] .
قصمت عراها يا خؤون ولم تزل عليك شهودٌ منك فيك حضور الشهود هي: الجوارح.
ورثت تراثاً لست تعرف قدره وأُلبست تاجاً أنت عنه صغير فسقياً لعهد بالديار إذ الحصى قناديل في جوف الظلام تنير قرونٌ خلت كانت لباباً قشورها وفي قرننا هذا اللباب قشور وذرية كالذرِّ قدراً وقدرةً على ظهر سيل حيث سار تسير إذا مجها التيار ظلت نفاية وما لنفايات السيول شعور تعهدها إبليس حتى تهودت وعلمها الملعون كيف تغيرُ أكل أبي جهل لديكم مؤلَّهٌ وأنتم قرابين له وبخور تصوغون عار الدهر تيجان عسجد وكلٌ يولي والحساب عسير تعفن وجه الأرض حتى تسمم الجنا وتعادت أفرع وجذور وإعصار جنكيز يدوي وبحره رعودٌ وليل عاصف وهدير هي الحرب في كل الميادين خلفها مراجل قار في الصدور تفور هي الحرب فانظر هل هناك بقية من الدار وانظر هل هناك ثغور يدير رحاها ألف كسرى وقيصر وألف حييّ للمدير مدير أعز ضحاياها القلوب تخالها خرائب بُصرى ليلهن دهور لك الله يا أقصى تقنعت باكياً وكل صناديد الرجال أسير بكيت وأيدي الجاهليات تلتقي عليك وعجل السامري يخور فجازاك ربي يا غثاء ألا ترى إلى أي درك في الوحول تغور ملايين يا ليت الملايين لم تكن ويا ليت أرض الجاهلية بور وسرب من الإنس السماواتُ تحته ووجهته عرش المليك يزور ربيب المقادير الأعز كأنه من القرب والحب المقدس نور على لهب المأساة أحكم صقله فليس له في العالمين نظير يروع حيياً طيفه كل ليلة إذا جاء يومي لا تقيك جحور غداً يأخذ الإيمان مجراه عنوة ويعتق أقنان ويحرق نير(134/27)
بعض ما يحصل في المستشفيات من مخالفات شرعية
السؤال
هذه أسئلة وهي في الواقع أوراق من مجموعة من الإخوة ورقة أو ورقتان أو ثلاث، فيها ذكر ما يقع في المستشفيات، والشئون الصحية فسائقو الإسعافات -مثلاً- يحضرون مريضاً من قرية بعيدة، ويذهب السائق ليس معه إلا ممرضة.
وهذا يقول: النقل الداخلي يتم عبر سيارات معينة، وفيها ضيق؛ والأدهى أنك إلى آخره! ويقول: في الصيدليات -أحياناً- لا يفصل بين الرجل والمرأة فاصل، وكثير من الممرضات تقوم بوضع أحمر الشفاه، وغير ذلك على وجهها، وتتعمد فتح صدرها وذكر كلاماً لبعض الشباب يقول: أيضاً الحديث عن الممرضين العرب لا يسعه -والله- المقام يقول: فأحدهم أصبح وقد استغنى عن تحية الإسلام، بمساء الخير وصباح الخير، إعجاباً بهن وأعظم من ذلك! الاختلاط داخل الأقسام، ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، كموظفات الاستقبال "الرسبشن" ويقول: إحداهن تُبعد؛ لأنها ضبطت وهي تُعاكس صدفة.
بل يضعون أيضاً أحسنهن وجهاً، وأزرقهن عيوناً -هكذا تقول الرسالة- وأقومهن أنوفاً، ومن ثَمَّ يدورون عليهن حجاب الحشمة، فتصبح كقمر جلل سحاب، ويقولون للمراجع: أغلق عينيك.
هذه بعض المعاناة، وما تخفي جدرانهم أكبر.
وهذه ورقة أخرى -أيضاً- فيها: عن وجود صالة تنس محاطة بحواجز زجاجية، ووجود سوق مركزي مشترك، ووجود ما يسمى (بكوفي شوب) ، أي: محل للبيع، فيه نساء مزينات، ويباع فيه القهوة والشاي والملاعب الرياضية: (طائرة وسلة) .
وتقام حالياً دورة رياضية لمنتسبي المستشفى، نساءً ورجالاً، للنساء يوم يلعبن فيه، والرجال يتفرجون، والحكام -أيضاً- من الرجال، واليوم الآخر للرجال، والمتفرجات من النساء، وأصوات الضحكات تسمع من مسافة كيلو متر وخمسمائة متر بالضبط، أي أصوات الصراخ.
وهناك الورقة الثالثة: فيها مبالغات، ويتكلم عما يتحدث به في المجالس، من وجود ألوان من الفساد، أو ما يسميه الأخ في رسالته بـ (الدعارة) .
الجواب
وأنا أدعو الإخوة، أولاً: إلى التثبت في مثل هذه الأمور، فنحن نقر أن ما ذكر في الرسائل الأولى صحيح وموجود، لكن لم تصل الأمور إلى الحد الذي ذكره بعض الإخوة، ووجود حالة أو حالتين، أو ثلاث حالات فساد تكتشف في المستشفى -جرائم أو غيرها- فهذا لا يعني أننا نتنكر لجهود كبيرة موجودة، ووجود أناس صالحين سواء من الأطباء، أو من العاملين، أو حتى من الشباب الذين تخرجوا من المعاهد الصحية.
وينبغي أن تعالج هذه المنكرات بالأسلوب المناسب، الاتصال بالشئون الصحية، وإذا لم يُجدي هذا يتصل بوزارة الصحة، ويتصل بالعلماء أيضاً، ويبذل الجهود؛ لأن المستشفى -مع الأسف- قطاع يحتاجه الجميع، ولا يمكن لأحد أن يستغني عنه في حالات كثيرة! فينبغي أن نبذل وسعنا في تصحيح الأوضاع الأخلاقية، بل والأوضاع الفنية أيضاً.
وهناك شكاوى كثيرة من أوضاع فنية، موتى يموتون تحت العمليات، وهم دخلوا أصحاء، وأمور ومشاكل كثيرة، يطول فيها الحديث، ومع الأسف أحياناً لا يكون هناك تجاوب من الجهات المختصة بما فيه الكفاية! وهو الذي يجعل هذه الأمور مجالاً لحديث الناس في مجالسهم، ويتطور الأمر إلى أمور ذكرت لكم طرفاً منها، وهي روائح تزكم الأنوف.
فأدعو الإخوة -عموماً- إلى التثبت، وعدم التعجل في ذكر بعض الأخبار -خاصة المفزعة- إلا بعد التأكد منها يقيناً، وحتى عند حصولها لا داعي لأن يتكلم بها في المجالس العامة، بل يحدث بها من يعنيهم الأمر كالعلماء وطلبة العلم.(134/28)
كتابات جمال سلطان
السؤال
هذا يسأل عن كتابات جمال سلطان، ومن ضمنها كتاب تجديد الفكر الإسلامي وجذور الانحراف في الفكر الإسلامي؛؟
الجواب
في الواقع أن هذه كتابات جميلة جدّاً، وأنصح باقتنائها، وقراءتها، لما فيها من العمق، وجودة الأسلوب، ونصاعة الفكرة.(134/29)
مشاركة شعرية
السؤال
هذه أيضاً بعض المشاركات التي ألح أصحابها على المشاركة فيها، منها قصيدة للشاعر عبد الرحمن العشماوي، وجهها إلى أحد قادة المجاهدين الأفغان، وهو رئيس الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، أقرأ شيئاً منها مراعاة لضيق الوقت: أزف تحية وأزف عشراً فأنت بهذه وبتيك أحرى كشفت مدى مؤامرة الأعادي فلم ترفع لهم بالصمت قدراً وكنت أمامهم سداً منيعاً وكانوا الناطحين وكنت صخراً أقلب الدين ما ناداك شعري بل القلب الذي ناداك شعرا أزف إليك إعجابي وألقي إليك تحية تنهل عطرا أخي في الله ما بدلت قلبي ولا غيرت في الأحداث ذكرا أرى الإعلام ينفخ في أناس تفوح ثيابهم حقداً ومكرا عمائمهم تلف على انحراف تباع به مبادؤهم وتشرى أراهم أزمعوا أمراً فهذي عيون المرجفين تفيض غدرا أقلب الدين قد رسموا خيوطاً لتمزيق الجهاد وأنت أدرى فلا تلق السلاح ولا تهادن ولا تفتح لما يبغون صدرا أنادي كل من رفعوا لواءً قصدوا به للدين نصرا أيا سياف لا تسمع دعاوي من اتخذوا إليك الود جسرا ويا برهان لا تركن إليهم فقد مدّوا إلى يمناك يسرا لقد أحببتكم في الله حباً أناصحكم به سراً وجهرا دم الشهداء يدعوكم فلبوا فلست أرى لكم في الصمت عذرا جهادكم العظيم جهاد جمٍ أبى أن يمنح الطاغوت أمرا أيا إخواننا صبراً جميلاً فإن لكم مع العسرين يسرا سيسقط غربهم كسقوط شرق وسوف تريهم الأيام خسرا أقلب الدين ما طوعت حرفي لأهوائي ولا أرخصت حبرا كفرت بليل حسرتنا فإني أرى في ثوب هذا الليل فجرا إلى آخر القصيدة.(134/30)
أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك
هذه أخبار عن البوسنة والهرسك، وقد جاءتني أمس وهذه الأخبار نوعاً ما قديمة، عن أن الجيش يستمر في نهب المسلمين وإرهابهم في مناطق شرق البوسنة، وحصار محطات الهاتف - الاتصال الهاتفي والبث التلفزيوني - وتوجيهها إلى بلجراد، كما يهدد بشلل حركة الاتصال كليّاً، وقد تم ذلك في بعض المناطق؛ وهذا النوع من الإرهاب لم يعهده العالم من قبل؛ حيث أدى إلى عزل الجمهورية عن العالم.
وفي منطقة سراييفو يجري سحب المعدات العسكرية من ثكنات الجيش، كما يستمر تهجير العوائل إلى صربيا تحت حراسة مشددة المهم: نشرت الصحف أخباراً مزعجة جداً، بل نشرت صوراً أكثر إزعاجاً نشرت صورة الصربي القناص، وهو يوجه بندقيته إلى المسلم الذي جعل له ظهره؛ فيرديه قتيلاً، برصاصات يسددها إلى رأسه، ثم تأتي زوجته لتنكب عليه فيرد بها هي الأخرى.
وصورة ثالثة لصربي كافر نصراني، يضع قدمه على وجه هذه المرأة المسلمة دون رحمة ولا هوادة، كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من العالم.
الأمر الذي طال العجب منه: أن الإذاعات والصحف، ووكالات الأنباء، أعلنت أمس، أن لقاءً سرياً تم بين الصرب والكروات، وكلهم من النصارى، وقد قلت: إن أخطر ما نخافه؛ أن يجتمعوا على حرب المسلمين، وحدث هذا فعلاً؛ فقد التقوا في فينا في النمسا، التقوا واتفقوا على تقاسم الأرض الإسلامية، وتقاسم التركة الإسلامية؛ بعضها للكروات، وبعضها للصرب، والأغرب والأعجب من ذلك: أن المسلمين لم يحضروا الاجتماع، ولم يدعوا إليه، وليس لهم من الأمر شيء.
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأذنون وهم شهود والأغرب والأدهى والأمرّ: أن دول المجموعة الأوروبية التي اعترفت سابقاً بالبوسنة والهرسك، أنها قد أقرت هذه القسمة، وأعلنت القبول بها، بل إن ذلك الاجتماع كان عن تخطيط مسبق من دول المجموعة الأوربية، وأنا أقول لكم بملء فمي: أبشروا أيها المسلمون! أتاكم نصر الله عز وجل لقد أصبح النصارى الآن أكثر وقاحة، وجرأة من ذي قبل، وأصبحوا يعلنونها حرباً صليبية شرسة! ونحن نعلم أن المسلمين من المشرق إلى المغرب، حين يعرفون، ويدركون أن الحرب حرباً دينية، تستهدف عقائدهم وأخلاقهم، والله لا يقف في وجههم شيء! فليبشر المسلمون، وليدركوا أن مثل هذه الأمور لن تزيدنا إلا يقظة -بإذن الله تعالى- وصبراً وإيماناً بوعد الله عز وجل بل معرفةً بقرب النصر: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] .(134/31)
عشرون طريقة للرياء
الرياء مرض خطير على دين المرء المسلم، والشيطان يحبب إلى المرء هذا المرض، وطرقه كثيرة منتشرة، وفي هذا الدرس تتعرف على كثير من طرقه لتحذرها.(135/1)
تكريم الله للإنسان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فهذه المحاضرة عنوانها (عشرون طريقة للرياء) ومعاذ الله أن يكون ذلك معناه فتح الباب للرياء, فإن الرياء مذموم شرعاً وطبعاً، وإنما المقصود التحذير منها, والإشارة بأصابع التخويف والزجر عنها.
وهذه المحاضرة تنعقد في ليلة العاشر من شهر ربيع الأول (1414هـ) في الجامع الكبير بمدينة تبوك عمرها الله تعالى بالطاعة والإيمان.
أيها الإخوة: الرحمن -جلَّ وعلا- خلق الإنسان وميزه عن سائر المخلوقات, ميزه أولاً بسلاح الجسم وحسنه، كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فأنت لا ترى في سائر المخلوقات المرئية للعين ما يباري الإنسان أو يماثله في كمال الجسم، واستقامته، وتناسقه، وحسن أعضائه، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى.
ثم إنه ميزه بميزة أخرى، وخاصية ثانية أعظم من ذلك وأكبر, ألا وهي العقل والتفكير والإنسانية، التي تميز بها عن البهائم والحيوانات والجمادات وسائر المخلوقات، ولذلك قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ} [الانفطار:6] فالإنسان المخاطب ليس هو الجسم فحسب, بل هو العقل والروح والنفس قبل ذلك, بدليل أنه لا يدخل في الخطاب المجانين مثلاً، لأنه رفع عنهم قلم التكليف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود وغيره وهو صحيح: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ, والمجنون حتى يفيق} .
ولهذا كان العقلاء يعلمون أن أعظم ما امتنَّ الله تعالى به عليهم هو نعمة العقل والإنسانية، وأن الله - تبارك وتعالى- من فوق سبع سماوات يخاطبهم ويناديهم ويأمرهم وينهاهم، فأعظم منّة على الإنسانية؛ أن يختار الله من بينها رسلاً، كما قال -جل وعلا- {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] .
ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا(135/2)
العبادة في هذا المخلوق المكرم
لِمَ خلق الله تبارك وتعالى هذا المخلوق الكريم المختار؟ خلقه للعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وهي إرادة الله تعالى في عمل الإنسان كافة, سواء تلك العبادات المحضة الخالصة, والقرب التي يراد بها وجه الله تعالى كالصلاة مثلاً، فإن الإنسان حين يصلي، لا يصلي حتى ينجو من المرض، ولا يصلي ليكسب المال، ولا يصلي ليحافظ على مكانته الاجتماعية مثلاً، وإنما يصلي ليبحث عما عند الله تعالى، من مرضاته ويخاف سخطه, ومثل ذلك الصوم والحج ونحوها من العبادات والقرب المحضة الخالصة, التي لا تفعل إلا لإرادة الدار الآخرة فقط، أما الدنيا فليس فيها مطمع دنيوي، بل قد يفوت الإنسان بها بعض الدنيا, فالزكاة فيها إخراج بعض المال الذي تعب العبد في جمعه، وكذلك الصلاة فإنها تأخذ من الإنسان وقتاً لو صرفه في الدنيا لاستفاد مالاً، ولكنه صرفه فيما يعتقد أنه أفضل وأنفع من الدنيا، قال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] هذا من العبادة، ومن العبادة -أيضاً- أن يريد الإنسان وجه ربه بسائر الأعمال الدنيوية المباحة، كالتجارة -مثلاً- أو الزرع والحراثة, أو الاختراع, أو العلم, أو العمل الوظيفي إذا احتسب في ذلك الأجر عند الله تعالى، وأخلص وأدَّى الأمانة التي اؤتمن عليها، وأدَّى العمل على وجهه الأكمل, فإنه يؤجر على ذلك، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم {وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر} .
إذاً علاقة الرجل بزوجته وهو يؤدي عملاً -كما يقولون- بيولوجياً فطرياً غريزة ركبت في العبد، لكنه إذا أراد بذلك عمل الخير، وتحرَّى بذلك الاحتساب وابتعد عن الحرام، كان له بذلك أجر، فأشار ذلك إلى أن كل عملٍ يعمله العبد من الطاعات أو المباحات، إذا أراد به ما عند الله تعالى؛ فإنه يؤجر على ذلك, حتى ما يضعه في فيِّ امرأته، فالطعام الذي يكدح من أجل أن يحضره لزوجته وأطفاله يؤجر عليه، بل قال بعض الشرَّاح في معنى الحديث: {حتى اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته} أي: أن الرجل إذا تلطَّف إلى زوجته وأطعمها بيده, أو سقاها بيده, كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة أم المؤمنين زوجه عائشة رضي الله عنها، أنه بذلك يؤجر عند الله تعالى.(135/3)
كل جارحة لها عبادة
إذاً البدن متميز عند الإنسان عن الحيوان، وكل جارحة أو عضو في البدن له عبادة مطلوبة، فمثلاً: العين عبادتها النظر، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:185] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} [الأنعام:11] .
وهكذا , فالنظر سواءً كان نظراً في ملكوت السماوات والأرض، أو قراءة في علم, أو تأملاً في بديع صنع الله تعالى, أو نظراً للمسلمين بما ينفعهم هذا من عبادة العين.
والأذن من عبادتها أن يسمع العبد ما يرضي الله تعالى، من قرآن أو ذكر أو علم أو ما أشبه ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال سبحانه في الحديث القدسي {ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} أي: فلا يسمع إلا ما يرضيني, ولا يرى إلا ما يرضيني، ولهذا جاء في رواية أخرى قال الله تعالى: {فبي يسمع وبي يبصر} .
وهكذا اليد عبادتها العطاء والبذل للمعروف والصدقة، ومن عبادتها أيضاً: تغيير المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان} كما في صحيح مسلم.
ومن عبادة اليد: السلام والمصافحة على أخيك المسلم, وأن تتحاب قلوبكما، فيكون في المصافحة صفاء القلوب، وسلامة النفوس.
ومن عبادة اليد: المجاهدة في سبيل الله تعالى، في مدافعة الكفار ومقاتلتهم دون حوزات الإسلام وبلاده وأهله وعقائده, إلى غير ذلك من ألوان العبادات التي يعملها العبد بيده.
وهكذا المرأة المؤمنة، عبادتها بيدها هي كما سبق، ويدخل في ذلك -أيضاً- ما تعانيه من الأعمال في منزلها مما يعتبر طاعة وقربة لله تعالى، وهو مرضاة لزوجها.
عبادة الرجل: المشي إلى الجمع والجماعات والصلوات، كما قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] خطواتهم على الأرض, ولهذا لما همَّ بنو سلمة أن يسكنوا قرب المسجد؛ قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: {دياركم تكتب آثاركم} الزموا دياركم وابقوا فيها فإن آثاركم وخطواتكم إلى المساجد مكتوبة عند الله تعالى، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى, وكذلك قال سبحانه وتعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] فالمشي في الأرض والتأمل والاعتبار كل ذلك من عبادة الرجل والقدم.(135/4)
كل جارحة لها معصية
وضد ذلك المعاصي, فإن معصية العين تسريح النظر إلى الحرام، كالصور والأشكال والمناظر.
ومعصية الأذن سماع الحرام، من غيبة أو نميمة أو شتم أو غناء, أو ما أشبه ذلك, مما يسخط الله تعالى.
ومعصية اليد أخذ الحرام، السرقة مثلاً، أو الأذى والاعتداء على المسلم.
ومعصية الرجل المشيْ إلى الحرام، في بيتٍ أو في سوقٍ أو في محل، أو في بلد قريب أو بعيد، فكل ذلك من معاصي الأعضاء، ولهذا قال القائل: لعمرك ما مديت كفّى لريبة ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي فهو يفتخر بأنه قد حفظ جوارحه عن المعاصي، ما مد يده إلى معصية، ولا مشت به رجله إلى غير مرضاة الله جل وتعالى.
وكذلك الحال في اللسان، وهو من أعظم الجوارح, وعبادته: ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وقراءة القرآن, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك, والمعصية فيه ما يدخل في الغيبة، والنميمة، والقيل والقال, ونقل الكلام، والسب، والشتم، والاستهزاء بالمؤمنين إلى غير ذلك.
ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات عند الله تعالى، لأنها جمعت كل ألوان عبادات الجوارح, ففيها عبادة العين في النظر إلى موضع السجود، وفيها عبادة الأذن في سماع تلاوة الإمام والإنصات له, كما قال الله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وقال عليه الصلاة والسلام: {وإذا قرأ -أي: الإمام- فأنصتوا} .
وفيها عبادة اليد: بحركة اليدين أثناء التكبير, والركوع والسجود وغير ذلك, ووضع اليد على الصدر، أو على الركبة، أو على الفخذ, وفيها عبادة اللسان: بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن, والتسبيح والتهليل والتكبير، وفيها عبادة الرجل: في الوقوف والقيام, وأثناء السجود وغير ذلك؛ وفيها عبادة سائر البدن، ولهذا إذا سجد المرء فإنه يؤمر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في سجوده، أن يباعد بطنه عن فخذيه، ويباعد فخذيه عن ساقيه، وينصب قدميه, ويباعد عضديه عن جنبيه، حتى يأخذ كل عضو حقه من الطاعة والعبادة والسجود لله تعالى.
وفي حديث ابن عباس المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت أن أسجد على سبعة أعظم} وذكر الجبهة والأنف فهذه عبادة للوجه والركبتين واليدين وأطراف القدمين، وهكذا الحال في الركوع والقيام, فإن البدن كله أثناء الصلاة يخبت لله تعالى ويعبده.
ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات، وأشرفها، وأنفسها، وأكثرها تقرباً إلى المولى جل وعلا.(135/5)
توعد بعض المصلين بالويل
والعجيب أنه مع هذه الفضيلة الظاهرة للصلاة, إلا أن الله تعالى توعد بعض المصلين، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] فدَّل ذلك على أن العبرة ليست بالحركات الظاهرة فحسب, فهؤلاء القوم موصوفون بأنهم مصلون، ومع ذلك توعدوا بالويل، وهو العذاب والهلاك والنكال لهم, وما ذلك إلا لأنهم صلوا بأجسادهم وما صلوا بقلوبهم.
فأجسامهم في المساجد بين الصفوف, ووجوههم إلى القبلة, ولكن قلوبهم إلى غير القبلة، فقلوبهم إلى غير الله تعالى، قلوبهم إلى فلان الذي عنده مال ينتظرون أن يثق بهم إن صلوا فيأتمنهم على هذا المال, أو قلوبهم عند فلان الذي عنده فتاة يرغبون في التزوج منها, فيصلون حتى يطمئن إليهم ويمنحهم هذه الأمانة ويأتمنهم عليها، قلوبهم عند ذلك المسئول الذي يريدون أن يثق بهم فيعطيهم وظيفة أو رتبة أو ترفيعاً أو علاوة, فلهذا وجوههم إلى القبلة لكن قلوبهم إلى غيرها، ولهذا فإن الله تعالى توعدهم بالويل، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] لم؟! لأنهم كما قال الله تعالى في الموضع الثاني: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] .
وهذا الأمر يقودنا إلى أعظم العبادات وأهمها وأكبرها, ألا وهي عبادة الباطن, عبادة القلب والسر, قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم:30] فالتوجه إلى الله تعالى والتوكل عليه، وإرادة وجهه في الأعمال، هو أعظم العبادات على الإطلاق.(135/6)
عبادة الباطن
من المعلوم أن العقل منحهٌ وعطيةٌ من الله تعالى للإنسان، وبناءً عليه كُلِّف العبد بسائر أنواع التكاليف, وصار إنساناً محترماً مطالباً مختاراً -كما هو معروف- مميزاً على سائر الحيوانات، فصلاح العقل وصلاح القلب وتزيينه، هو بمحبة الله تعالى ومراقبته، التي هي ميزة للمؤمنين عن الفجار والمنافقين، فبعض الناس مثلاً ربما ميّز ظاهره وزينه, بحسن الملابس، والعناية بالصحة, وبالمحافظة على الرشاقة والجمال -كما يقال- بتدريبات يومية يؤديها صباحاً أو مساءً, بعضهم إذا زادت عنده نسبة التضخم، فإنه يعمل ما يسمونه (بالرجيم) وهو نوع من الحمية التي يمتنع بها عن بعض الأطعمة, حتى يعود وزنه إلى حجمه الطبيعي، ولا يلام -على كل حال- على مجرد هذه الأشياء, إنما المقصود أن العبد يحرص على تزيين ظاهره بهذا الشكل, وعلى كسب رضا الآخرين وإعجابهم، فإذا أبدوا ارتياحاً لهذا، وقالوا: ما شاء الله! فلان أو حتى فلانة تتميز بالرشاقة والجمال واعتدال القوام, وأنها ليست زائدة ولا ناقصة, ولا طويلة طولاً مفرطاً, ولا قصيرة قصراً مفرطاً إلى غير ذلك, فإن الإنسان يسر ويبهج لأنه كسب رضا الناس وثناءهم ومديحهم.
فكما أنه يفعل ذلك فهو مطالب -أيضاً- بأن يزين باطنه بمحبة الآخرين, وحسن الظن بهم، وأن يفرح لهم بما يصيبهم من خير, وأن لا يكون في قلبه على أحد منهم حقد أو حسد, أو أن يكون أنانياً أو كذاباً أو مغروراً, أو ما شابه ذلك.
فكما يزين ظاهره ينبغي أن يزين باطنه, وكما أنه يكره أن يراه الناس على حال يذمونه عليها, فإنه ينبغي أن يدرك أن فساد الباطن أعظم من ذلك بكثير، ولهذا قال القائل: لا يعجبن نظيماً حسن بدلته وهل يروق دفيناً جودة الكفن ماذا ينفع الميت أن يكون كفنه حسناً، فإنه ينزع نزعاً سريعاً، فكذلك لو كان الإنسان مثلاً سيء الباطن، حقوداً حسوداً أنانياً كذاباً فاسد الطبع, فإنه لا ينفعه أن يكون حسن الظاهر, وكما قيل أيضاً: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان(135/7)
زينة الباطن هي سر التكريم
إن الإنسان لم يصبح إنساناً مكرماً مختاراً بقوته مثلاً، ولو كان ذلك كذلك لكان الفيل أقوى منه، ولم يصبح إنساناً بجماله وحسن ثيابه, ولو كان ذلك لكان الطاوس أجمل وأحسن مظهراً منه.
ولم يكن إنساناً -مثلاً- بعظمه وضخامته، وقوة جسمه وفخامة هيئته وجثته, وإلا لكان البعير أكبر وأضخم منه، وكما قال أحد الشعراء الجاهليين: ترى الرجل الضعيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات تزور فالعبرة ليست بالكثرة ولا بالقوة, ولا بحسن الظاهر, وإنما العبرة بالعقل والقلب، العبرة بباطن الإنسان لا بظاهره، ولو كانت قوة الإنسان وحسنه وفخره بقوته الجنسية وقدرته على السباق, لكانت بعض الطيور حتى العصافير أقدر على هذا الأمر منه، كما يقول علماء الحيوان والطيور.
إنما قوة الإنسان في إيمانه وعقله، ولو كانت قوة الإنسان في ماله لكانت الجبال أكثر منه قيمة, لأن فيها معادن الذهب والفضة وغير ذلك, ولكانت آبار النفط والبترول أعظم ثمناً وقيمةً من هذا الإنسان المكرم المختار, لأن فيها الذهب والدينار والدولار.
إن قيمة الإنسان هي في باطنه، في عقله وقلبه، ولقد كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه دقيقاً نحيفاً، ومع ذلك لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان الأمة كلها لرجح إيمانه عليهم، وكان عبد الله بن مسعود، وهو من السابقين الأولين، ومن المقربين إلى سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، ومن أقرب الناس إلى الله تعالى زلفى، كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: [[لقد علم المحبوبون من أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ابن مسعود من أقربهم إلى الله تعالى زلفى]] ومع ذلك كان صغيراً ضئيلاً دقيق الساقين، حتى إنه ربما هبت الريح فلعبت به، فضحك منه أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من دقة ساقيه!! والله لهما في الميزان أثقل من جبل أحد} .(135/8)
زينة الظاهر وخراب الداخل
هذا الصنف من الناس يزينون ظاهرهم بالثياب واعتدال القوام والصحة والعافية, ولكنهم يغفلون عن بواطنهم، وهناك صنف آخر قد يزين ظاهره ببعض الأعمال الصالحة التي يراها الناس, ثم لا يخل بهذه الأعمال قط؛ لأن الناس قد اعتادوا أن يروها منه، فلو أخل بذلك لقال الناس عنه: فلان قد ضعف، أو رقَّ دينه، أو قلَّ إيمانه, أو تراجع, أو انحرف, وربما نال الناس من عرضه، أو انكسر جاهه عندهم, لأن جاهه مبني على أنه إمام, أو عالم, أو داعية, أو فقيه, أو مفتٍ, أو شيء من هذا القبيل, فلو أخلَّ ببعض الأصول التي اعتادوها منه ظاهراً, لخاف أن يتناول الناس عرضه، فيحافظ على هذه الأشياء الظاهرة أتم المحافظة؛ لئلا ينكسر جاهه عند الناس، ولكنه لا يعتني بذلك من باب الموافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, أو الحرص على طاعة الله جل وعلا.
أما باطنه فقد يكون مهدوماً, فربما كان ذا عقل دنيوي ضيق، لا يفكر في الآخرة ولا في الاستعداد لها، ولا يفكر في أمر الأمة ومصائبها ومشكلاتها، وطرق الخلاص منها وسبل العلاج, ولا يفكر في أمر الدعوة إلى الله تعالى والسعي في أسبابها, فأفكاره محدودة قصيرة, وطاقته العقلية ربما كانت مهدورة بغير طائل, أو هو ذو قلب لا يحمل المشاعر النبيلة العظيمة التي يجب أن تكون فيه, كمحبة الله تعالى، أو محبة عباده الصالحين، أو خوف الله, أو رجاء ثوابه, أو سوى ذلك من المشاعر المشروعة في دين الله تعالى؛ فهو يحب وكل إنسان من طبيعته أن يحب, وكل إنسان من طبيعته أن يبغض، إذ كل إنسان هو ذو قلب، والقلب هو محل الحب والبغض، والرضا والسخط، والفرح والحزن وما أشبه ذلك من المشاعر, فهو يحب, ولكنه يحب ويبغض في غير الله تعالى، فقد يحب أعداء الله تعالى, وقد يبغض أولياءه كما هو شأن المنافقين الذين يجعلون همهم وشأنهم وكيدهم مع اليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، ويبغض الإسلام وأهله والصالحين.
أو قد يحب ما يضله ويفسد عليه باطنه, كمحبة الصور الجميلة, صور النساء الجميلات, أو صور الغلمان الحسان، صورة رآها في شاشة أو شاهدها في مجلة, أو اطلع عليها، أو صورة إنسان بصر به في الطريق عياناً فأعجبه، وعلَّق قلبه بحبه, فأصبح هّمه بالليل والنهار التفكير بهذه الصورة التي ارتسمت في خياله، وتعلقت في قلبه، فهو يصحو وينام عليها، ويصلي ويسلم وهو لا يذكر سواها, فتستذل هذه الصورة قلبه وباطنه، ويتعلق بها أعظم من تعلق العابد بمعبوده, كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] .(135/9)
التعلق بغير الله
إن أحدهم -كما ذكرت- ربما صلَّى فبكى، لا لأن الإمام قرأ آيات الوعيد والزجر والتهديد، ولكن لأن صورة المحبوب مرتسمة في عينيه فهو يقول.
أصلي فأبكي في الصلاة لأجلها لك الويل مما يكتب الملكان وربما ذهب إلى الحج فوقف مع الناس بعرفة والمشاعر, ورمى الجمار، وطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وهلّت دموعه وصاح وناح، لا خوفاً من الله تعالى، ولا تأثراً بما يشاهد، ولكن شوقاً إلى محبوب حيل بينه وبينه، وربما كل صورة تذكره بصورة محبوبه، فكل صورة امرأة يراها تذكره بمحبوبه، أو كل صوت يسمعه يذكره، أو كل اسم ينادى به يذكره باسم من يحب, كما قال أحد المفتونين بالصور: وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشجان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـ ليلى طائراً كان في صدري وأصبح الكثيرون اليوم من الشباب ذكوراً وإناثاً، يرون أن فوات ذلك يعني فوات شيء عظيم؛ لأن أجهزة الإعلام التي تصبحهم وتمسيهم، والأفلام التي يشاهدونها بالفيديو، والمسلسلات التي يرونها في التلفاز، أو الأغاني التي تصدح وتملأ آذانهم وقلوبهم, أو الروايات الغرامية التي تباع في المكتبات والأسواق أو غير ذلك، كل هذه المعاني فضلاً عن الشلل والأصدقاء الذين جلّ حديثهم العلاقة مع فلانة أو فلان, وتبادل الأحاديث الغرامية، وكلمات الحب، أو المشاعر التي يبالغون في تضخيمها وتعاطيها؛ حتى يغروا بذلك غيرهم أو يُغرُوهم بالتعلق بمثل هذه الأمور, حتى أصبح هذا الأمر مصيبة عامة طامة لدى الكثير من الشباب, وربما تعلقت الفتاة بفتاة مثلها، فأصبحت تحاكيها وتركض وراءها, وتقلدها بحركاتها وسكناتها ولبسها وأعمالها وأقوالها وتسريحة شعرها, وكل أمورها، ولا تصبر عنها طرفة عين أو لحظةً من نهار.
وربما تعلق الفتى بشاب مثله، فأصبح يركض وراءه، يركب معه في السيارة، أو يُركبه في سيارته، ويقدمه على أهله ووالديه, ويحتفل به أعظم احتفال، ولا يصبر عنه، فإذا غاب أو سافر أصابه القلق والجزع والتوتر حتى يظفر به, وربما أعلم أن بعض الشباب يسافر مسافات بعيدة من أجل حبيبه ومعشوقه، وربما طلبت أمه أو أبوه أن يذهب لقضاء حاجة من البقالة على مسافة بضعة أمتار فلا يجيب ولا يفعل ذلك، فكل هذا من تعلق القلب بغير الله، وصرف هذه المشاعر المستودعة فيه إلى بعض المخلوقين الذين لا يضرون ولا ينفعون, بل محبتهم على هذا الوجه محبة ضارة يُعذَّبون بها في الدنيا، بأن يحول الله تعالى بينهم وبين من يحبون, فيعذبهم بمن يحبون في الدنيا, أما في الآخرة فإنهم يحال بينهم وبينهم، وتنقلب محبتهم عداوة, قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] , وقال سبحانه {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] .(135/10)
كراهة ما يحبه الله أو حب ما يبغضه
وقد يترتب على هذا اللون من المحبة، أن يكره الواحد منهم ما يحبه الله, أو يحب ما يكرهه الله، أو يعترض على الله تعالى في شرعه, أو يعترض على الله تعالى في قضائه وقدره, كما كان أحدهم يتمنى حصول المعصية والفجور لا لنفسه فقط, بل لنفسه ولغيره من الناس، قال قائلهم: فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان فيقضي حبيب من حبيب لبابة ويرعاهما ربي فلا يريان فانظر كيف تمنى أن يتاح الفساد, وأن تتاح الصلة بين كل عاشقين أو حبيبين على طاعة الله تعالى أو على معصيته، فلا يراهما أحد ولا يشي بهما أحد, وهذا محبة لما يبغضه الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} .
ومثل ذلك أيضاً: التسخط من القضاء والقدر, كما قال أحدهم وقد حيل بينه وبين من يحب: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا هذا اعترض على الله عز وجل، ومضادة له في حكمه القدري الكوني, وهو من عدم الرضا بالله تعالى رباً وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث سعد: {من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وجبت له الجنة أو غفر له} .
ولذلك يقول محمد إقبال رحمه الله تعالى: لقد سئم الهوى في البيد قيس وملّ من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب فلهذا قال الله تعالى عن الكافرين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] فانظر كيف أصبح القلب هو المحور أو الدينمو أو الأصل الذي تنبثق منه كل الأمور، فأي قيمة لعبد ربما يعمل بعض الأعمال الظاهرة، لكنه يبغضها في قلبه؟! وربما يترك بعض المعاصي, ولكنه يحبها في قلبه ويتمناها ويفرح بحصولها، فإن ذلك -وإن كان العبد إذا أطاع الله تعالى فهو مأجور على كل حال- لكن هذا لا يزال يتمادى بالعبد حتى يفعل المعصية ويترك الطاعة.
ومثل هذا الإنسان الذي أحب ما كره الله, وكره ما أحب الله, من المقطوع به يقيناً أن جوارحه سوف تكون تبعاً لقلبه وما علقه من الحب لغير الله, أو من الخوف من مخلوق، الخوف من الناس، أو من مرض، أو من فقر، أو من موت، أن يخاف من سلطان أن يضره، أن يخاف من بعض رجال السلطان أو أعوانه أن يمسوه بسوء، ومثله -أيضاً- الطمع والرجاء في المخلوقين لتحصيل منفعة دنيوية بسببهم, أو علاوة أو وظيفة، أو دفع مفسدة عن نفسه أو أهله أو ماله, فإن القلب إذا تعلق بهذه الأشياء وتأله بها فإنه الملك، يملي على الجوارح ماذا يجب عليها أن تعمل، فتكون الجوارح تبعاً له، فإذا استعبد القلب بمثل هذه الأمور حباً أو خوفاً أو رجاءً، صارت الجوارح كلها تبعاً له, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب} فالقلب يملي والجوارح تكتب.(135/11)
صلاح القلب
ولما جعل الله تعالى النجاة في الآخرة, بيّن أنها مقرونة ومعلقة على صلاح القلب، فقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] فمن أتى الله بقلب سليم نفعه ما له, ونفعه بنوه, ونفعه عمله, ونفعته جوارحه, أما من أتى الله تعالى بقلب ميت أو مريض، فإنه لا ينفعه ذلك: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .
واعتبر الله تعالى أن من لا يعمر قلبه بالمشاعر النبيلة من محبة الله, ومحبة الصالحين, ومحبة الخير, والخوف من الله تعالى ورجائه، وهذه المعاني الكبيرة العظيمة في القلوب؛ أن من خلا قلبه من ذلك فهو ميت, وإن شئت قلت: لا قلب له، فالمضغة موجودة لكنها خالية خاوية، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:22] أي: المؤمن والكافر والعاصي والمتقي، وقال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {مثل البيت الذي يقرأ فيه القرآن والذي لا يقرأ فيه القرآن مثل الحي والميت} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] فما الحيلة في من لا قلب له؟ وما الحيلة في من ليست عنده مشاعر؟ فهو لا يشعر بحب الله تعالى ولا بحب الصالحين، ولا يخاف الله ولا يرجوه، ولا يطمع فيما عنده, ولا يسأله أو يدعوه دعاء المخبت الأواه المنيب.(135/12)
أهمية العناية بصلاح القلب
إن ذلك كله يؤكد حقيقةٌ عظمى يجب العناية بها, وهي: أن صلاح القلب وسلامة المقاصد الباطنة، هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه كل الأعمال، فإذا فسد القلب لم ينفع معه عمل، لأنه حينئذٍ تفسد النية، ويفسد القصد، وينحرف الإنسان، فالقلب حاسب على الأعمال الظاهرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات -كل الأعمال، أعمال العين والأذن واليد والرجل والبدن كلها بالنيات- وإنما لكل امرئ ما نوى} ولا يدخل في ذلك أعمال القلب, لأن أعمال القلب لا تكون إلا صالحة إذا كانت موجهه إلى الله تعالى, فلا يمكن أن يحب الإنسان ربه إلا بصدق, أو يخافه أو يرجوه، ولذلك الكلام في الأعمال الظاهرة؛ لأن العبد قد يصلي لله وقد يصلي لغيره, أما محبة الله -مثلاً- فلا تتصور على حقيقتها إلا لوجهه سبحانه وتعالى, وربما صلحت سريرة الإنسان فحصل على الثواب، حتى ولو حيل بينه وبين العمل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح عندما ذهب إلى تبوك, جاء إلى هذا البلد الكريم، وفي ثلة من أصحابه, فقال عليه الصلاة والسلام: {إن في المدينة أقواماً، ما سرتم مسيراً, ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر} .
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً إنا أقمنا على عذرٍ نكابده ومن أقام على عذرٍ كمن راحا وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة أقوام لم يعملوا خيراً قط؛ حيل بينهم وبين ذلك, أسلم ولم يسجد لله سجدة, ثم قتل بعد ذلك فدخل الجنة, وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول لأصحابه: [[خبروني عن رجل دخل الجنة لم يسجد لله سجدة، فإذا عجزوا قال لهم: إنه أصيرم بن عبد الأشهل أو غيره، أسلم ثم قتل قبل أن يصلي لله صلاة واحدة]] .(135/13)
عقاب من يظهر الصلاح ويبطن خلافه
إذاً إذا صلح القلب صلحت الجوارح، والأعمال الظاهرة تبعاً لذلك, وبضد هذا؛ فإذا فسد لم ينفع معه التكلف بتزيين الظاهر وتحسينه للناس، لأن الله تعالى يقول يوم القيامة، كما في الحديث القدسي: {اذهبوا للذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء} ويقول سبحانه في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عملا عملاً أشرك معي فيه غيري، فأنا منه بريء وهو للذي أشرك} وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار, فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه, فيجتمع إليه أهل النار فيقولون له: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآيته} .
بعض الناس يظن أن هذا عذب لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وهذا من الجهل العظيم، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الشرائع التي يؤجر عليها العبد إذا نوى واحتسب، وإنما عوقب هذا الإنسان؛ لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف، ولهذا قال: ولا آتيه، أي: المعروف، وقال: وآتيه، أي: المنكر.
إذاً هذا الرجل قد أصلح الظاهر وأفسد الباطن, فمثلاً وظيفته قد تقتضي أن يأمر وينهى، ولكنه يخالف إلى ما ينهاهم عنه, أو مركزه الاجتماعي يقتضي أن ينكر على الناس ما يراه من المنكرات، ولهذا كان عقابه، أما لو أنه أمر ونهى بصدق، لكان أمره ونهيه خيراً وبراً، حتى ولو ترك المعروف وفعل المنكر، فإنه يعاقب على ترك المعروف وفعل المنكر, ولكنه لا يعاقب على الأمر والنهي.
أما قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] فإن المعنى: أن الله تعالى عاتبهم ووبخهم وعاقبهم, لأنهم يتركون الحق وهم يعلمون، ويعرضون عنه، بخلاف الذي يفعل ذلك عن جهل, فإنه إذا علِّم امتثل, ولهذا ينبغي أن يُعلم أنه حق على الناس أن يأمروا بالمعروف ولو لم يفعلوه، وأن ينهوا عن المنكر ولو فعلوه.
ولو لم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد ولا أحد معصوم أن يقع في خطأ، وإنما الواجب على الإنسان أربعة أمور:- أولها: فعل المعروف.
الثاني: الأمر به.
الثالث: ترك المنكر.
الرابع: النهي عنه.
فإخلاله بواحدة من هذه المقامات الأربعة لا يبيح له أن يخل بغيرها, فواجب حتى على من يتعاطون الكؤوس ويشربون الخمر؛ أن ينهى بعضهم بعضاً عن ذلك، وحتى الذين اجتمعوا على الفاحشة والمعصية، واجب أن يذكر بعضهم بعضاً بالله تعالى, ويحثه على ترك المعصية، والذين يتعاطون كل المحرمات حقٌ عليهم أن ينهى بعضهم بعضاً عن ذلك.(135/14)
مداخل الرياء على النفس
إذاً الرياء في الأقوال والأعمال، هو أحد الأدواء القاتلة التي بها استحق هؤلاء النار والوعيد, فيكون ظاهر الإنسان العمل الصالح, أما باطنه فقد استقر على مراقبة المخلوقين، ورضي بثوابهم من ثواب الله تعالى, فيكفيه ما يناله من الناس من الحمد والثناء والإعجاب، وهذا نوع من النفاق كان السلف يتقونه ويخافونه, كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[والذي نفسي بيده ما أمنه إلا منافق ولا خافه إلا مؤمن]] أي: الرياء والنفاق، فإنهم كانوا يخشون أن ترد أعمالهم، كما قال الله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] قال البخاري رحمه الله: (باب مخافة الإنسان أن يحبط عمله وهو لا يشعر) ثم ذكر حديث ثابت بن قيس بن شماس الذي ربط نفسه في بيته، وغاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً وهو يبكي ويصيح، ويقول: [[حبط عملي أنا من أهل النار]] حتى علم بذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: {أخبروه أنه من أهل الجنة} .
ومداخل الرياء على النفس كثيرة جداً،, أذكر لكم في هذه العجالة أهمها، وسوف تبلغ -إن شاء الله- عشرين كما وعدت لكم في العنوان (عشرون طريقة للرياء) .(135/15)
إظهار الاعراض وغض البصر
ومن ذلك إظهار الإعراض وغض البصر، فإذا رأى الإنسان امرأة أو شيئاً ينبغي أن يغض عنه بصره طأطأ رأسه، وكان بإمكانه أن يغض ولو لم يطأطئ رأسه, وربما دعاه الشيطان إلى مسارقة النظر يمنة أو يسرة، قال الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] .
ومن أعظم ذلك إغراؤه بعض الناس بالعبادة لئلا يكون منافقاً، فمثلاً: شاب أعزب -والغريب أنه جاءني سؤال الآن في هذا الموضوع بالذات- شاب أعزب عنده محافظة على الصلوات، وصحبة أخيار وبر، وربما كان قارئاً للقرآن، أو معلماً أو داعية, ولكنه يمارس بعض المعاصي سراً، كالعادة السرية أو النظر؛ أو ما أشبه ذلك من الذنوب التي يرجى له أن يتوب منها, وأن يقلع عنها عاجلاً غير آجل, فلا يزال الشيطان به حتى يقول له: أنت منافق, لأنك تتظاهر بشيء وأنت في الباطن شيء آخر، وبدلاً من أن يقنع نفسه بترك المعصية والإقلاع عنها حتى يتمحض بالخير؛ فإن الشيطان يغريه بترك أعمال الخير، وترك مجالسة الصالحين, أو الصلاة, أو التعليم, أو الإمامة, بأن يقول: لا يليق بك أن تجمع بين هذا العمل الصالح في الظاهر, وذاك العمل الخبيث في الباطن، ولو علم الناس ما تعاني وتفعل وأنت في خلوتك وسرك؛ لبصقوا عليك وابتعدوا عنك وأعرضوا، فلا يزال الشيطان به حتى يترك الأعمال الصالحة، مع أن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] .(135/16)
الاعتزال غروراً
ومن هذا: أن يعرض الإنسان عن الناس ويعتزلهم ويبتعد عنهم، يظن بنفسه أنه خير منهم, والواقع لو أنه اعتزلهم، وقال: أخشى أن أضرهم أو أسيء إليهم أو أظلمهم؛ لكان ذلك معقولاً، وكان الإمام أحمد آخر عمره ابتعد عن الناس بعض الشيء، وتركهم إلا قليلاً، فقالوا له: يقال عنك يا إمام: إنك زهدت في الناس, فقال: من أنا حتى أزهد في الناس؟ إنما الناس هم الذين زهدوا فيَّ.(135/17)
الغرور بطاعة عابرة
ومن ذلك أن يغري الإنسان بطاعة عابرة، من بكاء أو غيره ويظن أن ذلك يكفيه، فربما بعض العوام أو بعض الناس بكوا في رمضان في السنة مرة، أو حضروا صلاة تراويح أو قيام، أو ما أشبه ذلك, ثم قال لهم الشيطان: لا يغركم ما عملتم بعد ذلك قط، فجرأهم ما جرأهم على المعاصي، نسأل الله أن يكفينا وإياكم شر الشيطان وشركه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.(135/18)
الإطالة في الإنكار لإظهار الغيرة
ومن ذلك أن بعض الصالحين يتكلم عن أهل المنكرات والمعاصي, فيطيل في ذلك ويصف ويفصل ويتباكى, وربما سب وشتم وتوعد، وبالغ في ذلك أتم المبالغة, وكان مراده أن يقول: إنه شديد الغيرة على الحرمات، شديد الغضب لله تعالى ورسوله والمؤمنين.(135/19)
الغفلة عن المظهر
ومن المداخل الخفية: الغفلة عن المظهر.
فربما أغرى الشيطان الإنسان بأن يكون أشعث الرأس، متبذل الثياب، متظاهراً بالتزاهد والتواضع وما أشبه ذلك, والسنة أن الإنسان يعتني بهذه الأمور، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بشعره ويسرّحه ويطيبه, ويقول: {من كان له شعراً فليكرمه} وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن الدهان إلا غباً -أي لا تدَّهن يوماً بعد يوم- ونحن نقول: يكفي للإنسان أن يدهن حتى ولو في الأسبوع مرة، أما أن يكون أشعث الرأس متبذل الثياب، ويظن أن هذا من إظهار الزهد والتواضع, فهذا قد يكون من مداخل الشيطان على الإنسان.
بل الذي يليق بالداعية أن يحرص على أن يكون حسن الثياب, حسن الهيئة, حسن الشعر, حسن المظهر، طيب الرائحة, ويعتني بتسريح شعرة وتصفيفه وتزيينه بما لا يضيع وقته، أو يفضي به إلى الانشغال بذلك والانهماك به, ولكنه يحفظ له هيئته وحسنه وبعده عن كل الأشياء التي يعاب بها.(135/20)
التصنع بالخشوع في الصلاة
ومن ذلك: أن الشيطان قد يغري المصلي أحياناً بإظهار التواضع والتخاشع والتصنع والتعمل لذلك, فيضع يديه على صدره -هذا من السنة وهو حسن- لكنه ربما أسرف في رفعها حتى كانت قريباً من نحره أو قريباً من ذلك, ثم أغراه أن يرفع كتفيه أكثر، ويميل ظهره، ويطأطئ رأسه، فيتكون من مجموع هذه الصورة نوع تكلف وتصنع, وربما قادت إلى الرياء وهو لا يدري, والسنة في ذلك معروفة, النظر إلى موضع السجود, ووضع اليدين إحداهما على الأخرى، اليمنى على اليسرى على الصدر, أو على أعلى البطن، كما هو مذهب جماهير أهل العلم, وجاء في حديث وائل بن حجر وهو أصح ما ورد في هذا الباب: {وأن يعتدل الإنسان في قامته وقعوده وركوعه وسجوده} كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.(135/21)
التظاهر بالبكاء في الصلاة
وربما جاء الشيطان إلى القارئ فأغراه بالبكاء حتى يخشع الناس, خاصة إذا كثر الجمع وارتفعت الأصوات، وأكثر ما يكون ذلك في دعاء القنوت، وربما قرأ الإمام آيات عظيمات، فيها الوعد والوعيد، والزجر والتهديد والتخويف فما بكى الجميع, فإذا جاء دعاء القنوت سمعت الصياح والنياح والبكاء والعويل!!!(135/22)
تعاظم بعض الأعمال
ومن ذلك: أن منهم من يَعْظُمُ في عينه عمل من الأعمال الظاهرة, ويغتر بهذا العمل حتى ولو كان هذا العمل على خلاف السنة, أو على خلاف الشريعة، ربما تعلق بعض الشباب بالجهاد في سبيل الله تعالى، والجهاد عمل عظيم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} وقال عليه الصلاة والسلام عن الإسلام: {وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} وجعل الله تعالى الجهاد من أعظم الأعمال، كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:19] ثم قال في الآية التي تليها {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:20-22] .
فالجهاد باب عظيم من أبواب الجنة، ولكن مع ذلك الجهاد له ضوابطه وأسبابه وأعماله, فالمجاهد ينبغي أن يتعلم آداب الجهاد حتى يعلم كيف يجاهد؟ وأين يجاهد؟ ومتى يجاهد؟ وتحت أي راية يجاهد؟ من ذلك أن المجاهد لابد أن يجاهد نفسه على صلاح النية, فكم من قتيل بين الصفين الله تعالى أعلم بنيته، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} .
وقد قتل رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {هو في النار، هو في النار} ثم ذكر أنه رآه يعذب في بردة غلها، وآخر كان منافقاً قاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلما اشتدت جراحه اتكأ على السيف، وطعن به بطنه ثم اتكأ عليه حتى خرج من ظهره, فمات منتحراً -والعياذ بالله تعالى- وقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء بأنهم من أهل النار.
إذاً لا بد من تصحيح النية, ولا بد من العلم والمعرفة, ومع ذلك لا بد من إذن الأبوين.
كثيراً ما يأتيني بعض الشباب، يقولون لي: نريد الذهاب إلى الجهاد، أين؟ أمس كانوا يذهبون إلى أفغانستان, ونِعمَ ما فعلوا, فقد سطروا أعظم آيات البطولة والرجولة والفداء والاستعلاء على الدنيا، ورأينا الشباب الذين غرقوا في الملذات والترف، وتوقعنا أنه لا تقوم لهم قائمة, إذا هم ينتزعون أنفسهم انتزاعاً، ويذهبون من النعيم والسرور والراحة والدعة, بل من أماكن اللهو واللغو واللعب مع أقرانهم وزملائهم، حتى يبحثوا عن الموت في سبيل الله تعالى على ثرى أفغانستان أو جبالها وترابها ووديانها, ولهم في ذلك أقاصيص وبطولات امتلأت بها بطون الكتب والأشرطة.
المهم أنهم أمس كانوا يجاهدون في أفغانستان, أما اليوم فمجموعات من الشباب المجاهدين في البوسنة والهرسك, أو في طاجكستان، أو في غيرها من بلاد الإسلام, التي ترفع فيها راية الجهاد, ونِعمَ ذلك.
فإنه مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الجهاد قائم إلى قيام الساعة} على رغم كل الظروف والتخلف الذي يمر بالأمة, ولهذا جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيه، وإذا استنفرتم فانفروا} .
ولكن ينبغي أن يعلم أن الجهاد لا بد فيه من إذن الأبوين، فبعضهم قد يخرج للجهاد دون إذن الأبوين: {فقد جاء رجل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال: إيمان بالله ورسوله, قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين, قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله تعالى, وجاء رجل من اليمن فقال: يا رسول الله، جئت إليك من اليمن مجاهداً وتركت أبويّ يبكيان, قال: {ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما، ارجع ففيهما فجاهد} .
وأخرج عمر رضي الله عنه رجلاً في الغزو، فجاءه أبوه يشتكي ذهاب ولده، ويشتكي عمر رضي الله عنه، فلما سمع عمر رضي الله عنه مقالته بكى، وأرسل إلى الجيش أن يعود فلان إلى أبيه، فلازمه حتى مات، فبعضهم قد يأتيه الشيطان من جهة هذا الأمر الذي هو خلاف الشريعة، فيزين له -مثلاً- فريضة من الفرائض ولو كان غيرها ألزم منها وأوجب، فيغريه بذلك حتى يتركه، وربما قال له: إن هذا الأمر فرض عين، وهي من المسائل العويصة التي لا يستطيع أن يفتي فيها إلا أئمة أهل العلم، وربما عاب من لا يفعل ذلك ولا يعمله وعده من القاعدين.
أبا خالد انفر فلست بخالد وما جعل الرحمن عذراً لقاعد أتزعم أن المؤمنين على الهدى وأنت مقيم بين لص وجاحد وربما تحدث عن مشاهد فقال: رأيت كذا، وفعلت كذا, وحصل لي من الكرامات كيت وكيت , وربما ادَّعى بعضهم ما ليس له، وقد رأيت أحدهم وقد ربط يده وزعم أنه أصيب في أحد المعارك، ولما تحققت منه تبين لي أنه كان يتشبع بما لم يعط، ويدعي ما لم يحدث له.
تحدث بعضهم فقال: خرجنا مع الجماعة إلى قتال الروم، فقام رجل من الروم قوي شديد بأسه، لا يعرض له شيء من المسلمين إلا ضربه بسيفه, حتى خافه المسلمون خوفاً شديداً، فتصدى له رجل من بين المسلمين ملثم، فعرض له فضربه حتى قطعه، ثم انصرف إلى المعسكر.
وهو ملثم, قال: فأقبلت عليه ففتحت لثامه لأنظر من هو، فإذا هو الإمام الجهبذ الفقيه المحدث المتصدق عبد الله بن المبارك، فغضب لذلك غضباً شديداً, وقال: حتى أنت يا فلان تشنع علينا -أي: تشهر بنا وتفضحنا بأعمالنا- فانظر كيف سعى إلى التستر بعمله وعدم إظهاره، ثم انظر كيف قدر واستطاع أن يجمع بين الأعمال الصالحة كلها، من العلم والفقه والجهاد والصدقة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.(135/23)
التظاهر بطلب العلم
ومن ذلك أن يغري البعض بطلب العلم والتوسع فيه، وقصده أن يكون مفتياً تضرب إليه أكباد الإبل, أو يشار إليه بالبنان, أو عالماً يذكر اسمه، أو مصنفاً تتداول كتبه، أو داعية يدهش الناس إليه ويتجمعون, وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة وذكر منهم: قارئ للقرآن، فيقول الله تعالى له يوم القيامة: ماذا صنعت في نعمتي؟ فيقول: تعلمت فيك القرآن وعلمته.
قال: كذبت! ولكنك فعلت ليقال هو قارئ، فقد قيل, ثم يؤمر به فيسحب على وجهه إلى نار جهنم} .
والثاني: متصدق، والثالث: مجاهد، وكلهم فعلوا ذلك في غير مرضات الله تعالى.
ثم إن مثل هذا الإنسان الذي جعل له جاهاً أو منزلة علمية, قد يسأل عن مسألة فلا يعرفها ولا يدركها, فيخشى إن قال: الله أعلم أو لا أدري؛ سقطت مكانته أو هيبته عند الناس, وظنوا به الظنون وأعرضوا عنه، فيقول العوام: كيف ما تدري وأنت عالم؟ هذا مكان ليس مكان لا أدري, هذا مكان العلم.
لهذا بعض أهل العلم عندما صعد المنبر فسئل, قال: لا أدري، قال أحد الحضور: هذا ليس مقام لا أدري, هذا مقام العلماء.
قال: إنما علوت بقدر علمي، ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء، وقال الإمام مالك رحمه الله: (إذ ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) فبعض الناس يخشى، إن قال: لا أدري أن يسقط من أعين الناس؛ فيفتي بغير علم.
أحد العلماء سألته امرأة! فقالت له: يا فلان -وكان محدِّثاً ليس له بصر بالفقه- قالت له: يا فلان رحمك الله عندي دجاجة سقطت في بئر, فما الحكم فيها؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون, كيف سقطت الدجاجة في البئر؟! قالت: سقطت، قال: لماذا لم تضعِ على البئر شيئاً؟! قالت: يا فلان رحمك الله ما وضعت.
وإنما مراده أن يتلهى ويتسلى ويتهرب من قول لا أدري، وهو لا يستطيع أن يفتي, فقال بعض الحضور يا فلانة، إن كان الماء قد تغير بهذه الدجاجة فهو نجس، وإن كان لم يتغير فهو طاهر.(135/24)
الترفع
ومن ذلك: أن الإنسان قد يرفع نفسه فوق منزلته, فيعتني -مثلاً- بباب من أبواب العلم، ويخوض في دقائقه ومسائله ويراجعه, ويحفظ فيه بعض النصوص، وبعض الأقوال, وبعض الكتب, فإذا وجد المجلس كبيراً تكلم، وقال: قال فلان وقال فلان، وفي كتاب كذا, وفي صفحة كذا، وفي جزء كذا ويبدأ يسرد بعض الأشياء التي تحفّظها, وما مراده إلا أن يقول للناس: إنه عالم ليشار إليه بالبنان، ثم يتكلم بما لا يعرفه من حوله من هذه الأمور، وربما تشدق ببعض العبارات التي لا تصلح إلا لأهل العلم, فربما قال: أنا أرى كذا وكذا وعندي أن الأمر كيت وكيت، وأنا أقول هكذا، والذي يغلب على ظني، والذي يظهر لي، والذي يخطر ببالي، وقلت, وما أشبه ذلك من العبارات التي هي شأن أهل العلم والتحقيق والنظر, وليست شأن الضعفاء والمبتدئين، ولهذا قال أحدهم: يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند والعالم الحق لا ينظر إلى نفسه ولا يأبه بها.(135/25)
الوقيعة في أهل العلم وتصنع الدعاء لهم
وبعضهم قد يغريه الشيطان في الوقيعة بأهل العلم أو الرد عليهم, وهو يريد بذلك أن يبرز ويتسلق على أكتافهم, ليقال: رد على فلان، وأفحم علاناً، وناظر فلاناً فقطعه بالحجة وغلبه، أو ربما يسقطهم ليتميز هو، وربما تصنّع الدعاء لهم ليظهر الحدب والحرص عليهم، وهو يقول: فلان غفر الله لنا وله قال كذا وفعل كذا، وفلان نعوذ بالله من الخذلان، وقع في مثل هذا, وربما سمع أحداً يقرر مسألة علمية عويصة صعبة, لا يقدر هو عليها؛ فيقلده في رأيه في هذه المسألة، ثم لا يكتفي بمجرد التقليد حتى يتحمس لهذه المسألة، وينبري يرد على الخصوم بأبشع العبارات، وأقذع الألقاب والصفات والكلمات، وربما أبدى بعض الشفقة وبعض الرحمة فقال: مسكين فلان ابتلي بكذا, نعوذ بالله من الخذلان, وقال كذا، ووقع في كذا، وزل في كذا, وربما أظهر شيئاً من الإعراض، فإذا ذكر عنده هذا الإنسان أعرض عنه, أو قال: دعوه يستر الله علينا وعليه، أو اتركوه لا شأن لنا به, أو دعونا من الغيبة, وإنما مراده الغيبة وتنقص هذا الإنسان، لكن بطريقة ذكية لا يدركها إلا أرباب الفطنة.(135/26)
إرادة حفظ المنزلة عند الناس
ومن ذلك: أنه حينما يأخذ الناس على الإنسان نظرة معينة، أنه من أهل الخير والصلاح, فإن النفس تحب كسب الجاه عند هؤلاء الناس عن هذا الطريق, ويخشى الإنسان أن تنكسر منزلته لو فرط في شيء, فيجاريهم ويباريهم في أشياء يفعلها أو يظهرها لهم, لا تديناً! لكن ليحافظ على مقامه عندهم، وربما تكلم ووعظ وهو لا يريد ذلك, ولم يجد له مناسبة ولا تنشط نفسه إليه، ولكنهم تطلعوا لذلك وخشي أن تنكسر منزلته أن يكون حضر مجلساً فلم يتكلم فيه, أو ينهى عن شيء وليس مقصوده النهي عن المنكر؛ لكن مقصوده أن يقول للناس: أنا دائماً وأبداً كما تظنون محتسب، في شخصية دينية تجعلني لا أترك شيئاً يمر إلا بينته، والأمر كما ذكرت: إنما الأعمال بالنيات، فقد يكون أراد وجه الله تعالى فيؤجر على ذلك, وقد يكون أراد حفظ جاهه عند الناس فليس له إلا ما نوى.(135/27)
الكلام بشيء ليدل على أنه يفعل بعض الطاعات
ومن ذلك أن الإنسان ربما تكلم بشيء يدل على أنه يفعل بعض الطاعات، كمن يقول مثلا: سبحان الله! العبد إذا أكثر التلاوة وقراءة القرآن دل لسانه بالقرآن، وأصبح سهلاً عليه، خاصةً في قيام الليل, ومراده أن يقول: إني أفعل ذلك وقد جربته، أو آخر يقول: يظن بعض الناس أن في الصيام: تعب، ومشقة، وكلفه، ومن جرَّب عرف أنه لا تعب فيه ولا تكليف ولا مشقة، ومراده أن يقول: إني من أهل هذا الباب، وربما انتقل عمله من ديوان السر إلى ديوان العلانية، كمن يقول مثلاً: فلان أذَّن البارحة قبل الوقت بنصف ساعة.
ومراده أن يقول: إني كنت يقظاً، ولهذا بعض السلف لما قال: [[أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ استدرك، وقال لجلسائه: أما إني لم أكن في صلاة, ولكني لدغت]] فهو أراد نفي ما قد يتبادر إليهم أنه كان يصلي, فقال: إني لدغت، فكان هذا هو السبب في عدم نومي.
فبعض الناس يقول: فلان أذن البارحة قبل الموعد، ومراده أن يقول: إني كنت مستيقظاً آنذاك.
وهذا إن كان قصده الرياء فعمله حابط، وإن لم يكن قصده الرياء -فكما ذكرت- أقل ذلك أن ينتقل عمله من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فيقل الثواب وينقص الأجر.(135/28)
العمل على إظهار العبادة بأسلوب خفي
ومن ذلك: أن الإنسان قد يخفي العبادة ظاهراً, لكنه يسعى إلى أن يعلمها الناس بأسلوب لطيف خفي غير مدرك, كمن يسبح سراً، أو يستغفر سراً لكنه يصفر بحرف السين حتى يسمعه الناس، فهو قد أخفى العبادة وفي نفس الوقت حاول أن يسمعه مَنْ حوله, حتى يقولوا: ما شاء الله فلان عابد، لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله تعالى, ومع ذلك فهو بعيد عن الرياء لأنه يخفي العبادة، وإنما لاحظنا ذلك من حركة شفتيه أو وصوصة لسانه, أو من تحرك يده بالذكر أو ما أشبه ذلك.
وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فقد يفعل الإنسان هذا من غير قصد الرياء فلا يضره ذلك, وبعضهم قد يتصدق باسم فاعل خير، ثم يدس بين الناس من يشيع أن فاعل الخير هو فلان بن فلان؛ ليجمع بين الصدقة والتظاهر بالإخلاص وكره الرياء، والله تعالى يقول: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13-14] .
وبعضهم إذا قرب إليه طعام، قال: أنا صائم! وذاك لصوم نفل، وأشد من ذلك أن بعضهم إذا قرب إليه طعام قال: اليوم خميس, وكأنه بذلك يشير، ويقول للناس: أنا أصوم في كل يوم خميس! فلماذا لم تعلموا هذه العادة مني؟ ولماذا تقربون لي الطعام، وأنتم تعلمون أن من عادتي صيام يوم الخميس؟ والنبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى أنه إن كان مفطراً فليأكل, وإن كان صائماً فليدع لهم بالبر والبركة فيقول: بارك الله لكم في طعامكم وفي شرابكم، وفيما رزقكم، وما أشبه ذلك.(135/29)
التظاهر بالتواضع ولوم النفس وتوبيخها
ومن هذا أن يتظاهر الإنسان بالتواضع, وعيب النفس ولومها وسبها وتوبيخها؛ فيقوم بكل مناسبة ينسب لنفسه النقص والعيب: أنا مسكين! الله المستعان ما عملنا شيئاً، وقصده إظهار التواضع، وربما سب نفسه عن اعتقاد في نفسه أنه لا يرى نفسه شيئاً، أو عن غير اعتقاد، لكن ليظهر التواضع, فيأتيه الشيطان ويقول له: أبشر قد نجوت من الرياء، وإنما سحبه الشيطان إلى الرياء على وجهه، بإظهار التواضع وذم النفس وعيبها، فلا تسب نفسك ولا تمدح نفسك أيضاً.(135/30)
عيب الآخرين من أجل سلامة نفسك
ومن ذلك أن الشيطان يأتيه من قبل عيب الآخرين، لأنه إذا عاب فلاناً فمعنى ذلك أنه نجا وسلم من هذا العيب الذي اتهم به غيره, فيقول: فلان والعياذ بالله لا يقوم الليل أبداً, وفلان ما رأيته صائماً أبداً, وفلان لا تجود يده بالخير على الرغم أنه أكثر مالاً مني, ومراده أن يقول: أنا لست كمثلهم، فلي حظ من صلاة وصيام وصدقة، ولو عقل لقال: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقال كما قال الشافعي: لسانك لا تذكر به عورة امرىءٍ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك معايباً فصنها وقل يا عين للناس أعين(135/31)
إظهار العمل
فكلما قعد الإنسان مقعداً قال: فعلت كذا، وتصدقت بكذا, وقال: أنا في الواقع لا أستطيع أن أقوم في الليل أكثر من ساعتين، أتعب إذا قمت أكثر من ساعتين، ولا أستطيع الصيام يومياً، ولكن الاثنين والخميس، يكفي ولا نزيد على ذلك.
وربما أظهر العمل ففعله أمام الناس حتى يروه ويحمدوه عليه, ولهذا كان الأصل في العبادة أن يسرها الإنسان, لأن ذلك أقرب للإخلاص وأبعد عن الرياء, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المتفق عليه قال: {أيها الناس، صلوا في بيوتكم, فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة} ولهذا كانت السنة في النوافل أن يصليها الإنسان في بيته سراً، لأن ذلك فيه طرد للشيطان، وفيه إبعاد للبيوت أن تكون شبه القبور لا يصلى فيها، وفيه تدريب للأهل والأولاد على الصلاة، وفيه بعد عن الرياء: {أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة} فجميع النوافل الأفضل أن يصليها الإنسان في بيته, اللهم إلا النوافل التي تشاع فيها الجماعة، كصلاة الكسوف مثلاً، أو الخسوف، أو الاستسقاء, أو العيدين عند من يقول باستحبابهما, أو صلاة التراويح, أو ما شابه ذلك.
وكذلك الصدقة، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فالأصل في الصدقة الإسرار، ولا يظهرها إلا إذا أمن على نفسه الرياء، ورأى أن في إظهارها خيراً، إما أن فيه مصلحة لحث الناس على ذلك, أو إحياء السنة, أو إرغام العدو، أو ما أشبه ذلك من المقاصد الشرعية, أما إظهار العمل لغير ذلك فهو خلاف المشروع.
صلى رجل من الأعراب إلى جوار الأصمعي، فحسن صلاته وزينها, وأطال فيها الركوع والسجود, فلما سلّم، جاء إليه الإمام الأصمعي رحمه الله وقال له: ما شاء الله تبارك الله! ما أحسن صلاتك يا هذا! قال: نعم, فكيف لو عرفت أني مع ذلك صائم.
ومثل ذلك من يتصدق أو يقدم عمل خير ليكتب اسمه في الجريدة أنه محسن كبير، أو متصدق عظيم, أو أنه تبرع بكذا أو فعل كذا, أو ليسجل في التقرير الرسمي.
والمقصود أن هذه الأشياء قد تكون خيراً إذا نوى الإنسان فيها عمل خير، كحث الناس على الصدقة, أو دعوتهم إليها، أو التنافس في المعروف, أو إرغام العدو، أو ما أشبه ذلك، وقد تكون ضد ذلك إذا قصد بها الرياء، والعبرة بعمل القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى} {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13-14] .(135/32)
التشبع بما ليس فيه
ثانياً: أن الإنسان يتشبع بما لم يفعل, فيدعي ما ليس له، ويقول: إنه فعل أشياء, فبزعم أنه هو فاتح السند والهند, وأنه صاحب المواقف المشهورة, وربما زعم أنه حصل له أذى في سبيل الله تعالى, فإذا تحدث مع من لا يعرفون تاريخه، قال: أنا كنت خطيباً مفوهاً, وأنا سجنت في بلد كذا أربع سنوات في سبيل الله تعالى, وأنا أوذيت وكنت وكنت , ويصبح (كنتياً) يتحدث عن تاريخ مضى أكثره كذب وأقله صحيح, وإنما يتشبع بهذه الأشياء أمام الناس حتى يحظى بالجاه والمنزلة، وهذا أخبث من الأول, لأنه جمع كما يقول المثل (حشفاً وسوء كيلة) فهو مرائي وكذاب في الوقت ذاته, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} وربما ينتقل الإنسان من بلد إلى بلد آخر, ويصبح في بلد أهله، لا يعرفونه, فيقدم نفسه لهم، لا من خلال الأعمال الصالحة التي يعرفونه بها، ويثبت لهم حسن بلائه وجهاده وصبره، ولكن من خلال القيل والقال والدعاوى الفارغة، وكما قيل: والدعاوى ما لم يقيم عليها بينات أصحابها أدعياء ما مر هذا الإنسان يوماً من الأيام من عند حلقة أحد العلماء, أو سلم عليه في طريق عابر, أو صافحه أو قبَّل رأسه, فإذا جلس قال: أنا لازمت الشيخ الفلاني، وأخذت عنه من العلوم كذا وكذا، وكنت من أخلص تلاميذه، وكان يؤثرني على غيري, ويقدمني ويأذن لي في كل وقت وظرف.
أعرف شخصاً يدعي أنه يحفظ القرآن بالقراءات السبع، ويقول: تعلمت العلم على يد شيخي فلان وفلان! ويذكر أئمة العلم والفتيا والدعوة في هذا الزمان، والذي أعرفه من حاله أنه كذاب كبير, لا يجيد قراءة القرآن نظراً فضلاً عن أن يحفظه، فضلاً عن أن يكون عارفاً بالقراءات أو غيرها.(135/33)
الزيادة في العمل عند اطلاع الناس عليه
ومن ذلك أيضاً: إن الإنسان يبدأ العمل لوجه الله تعالى، فيصلي لله, أو يتصدق لله, أو يذكر الله تعالى لوجهه، فإذا علم أن الناس مطلعون عليه أو يراقبونه أو يشاهدونه زاد في عمله, فأطال صلاته أكثر مما نوى، أو تصدق بأكثر مما نوى، أو ذكر الله تعالى زيادة على ما كان في خلده أول الأمر، ومثل هذا ينبغي له أن يدفع الرياء عن نفسه، ويقول كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه في دفع الرياء: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} .
فإن استقر الرياء في قلبه وعمل عملاً زائداً من أجل الناس, فإن كان هذا العمل يتجزأ، كأن تصدق بمائتين، الأولى لوجه الله، والثانية لوجه زيد أو غيره.
فالمائة الأولى بلغت محلها، والثانية لا يؤجر عليها بل يأثم, وإن كان العمل لا يتجزأ كالصلاة -مثلاً- فإنه لا يؤجر عليها, بل تذهب بسبب الرياء.(135/34)
ترك العمل خوف الرياء
إن بعضهم يخاف الرياء على نفسه, ويزداد خوفه ويتعاظم حتى يتحول إلى وسواس, وربما ترك العمل الصالح خشية الوقوع في الرياء, فهو كما قيل: فر من الموت وفي الموت وقع.
إن مقام الإخلاص الكامل هو مراقبة الله تعالى، والإعراض والانقطاع عن المخلوقين بالكلية، فلا يعمل من أجلهم، ولا يترك من أجلهم، وقد جاء عن الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- قولاً شديداً فيمن يترك العمل من أجل الناس، وقد يكون من أسباب ذلك أحياناً -وهو كثير- أن بعض الناس يتقدم للمسجد، فإذا رآه الناس خجل وخاف من الرياء, فأصبح لا يأتي إلا متأخراً، وربما تفوته الصلاة ثم يعتاد ذلك, فيصبح التبكير إلى المسجد من أثقل شيء عليه, وبعضهم يقرأ القرآن ويحفظه، فإذا رآه الناس أو أصبحوا يستمعون لقراءته أو يدعون إليه؛ خاف من الرياء فترك قراءة القرآن.
وربما يكون خطيباً أو مقرئاً للقرآن, أو معلماً، أو مدرساً، أو داعية، فيترك ذلك خوف الرياء، وهذا من الخطأ العظيم، فإن العبد ينبغي أن ينقطع عن المخلوقين، فلا يترك شيئاً لأجلهم، كما لا يجوز له أن يعمل شيئاً من أجلهم.
وربما كان من أسباب ذلك: أن العمل الذي عمله عظم في عينه، قام رجل فخطب الجمعة، أو تكلم بعد الصلاة بكلمات يسيرات، أمر فيها بالمعروف أو نهى فيها عن المنكر, فخيل إليه حينئذٍ أن هذا العمل الذي قام به عمل عظيم جليل فيه صلاح الأمة، وأن الناس تحدثوا بكلامه، وذهبوا به وطاروا به كل مطار، وأنه أصبح حديث المجالس, فلذلك دخله شيء من العجب، خاف من أثره أن يتحول إلى رياء، وما ذلك إلا لأنه لم يتعود على مثل هذه الأعمال الصالحة، ولذا الإنسان الذي من عادته أن يصلي مع الجماعة, لا يرى في صلاة الجماعة رياء ولا مظنة رياء, لكن الجديد الذي يصلي لأول مره وقبل ذلك كان متخلفاً، يخشى على نفسه من الرياء، فإذا اعتاد زال خوف الرياء من قلبه, وهكذا سائر الأعمال الصالحة إذا تعودت عليها شعرت بأنها أعمال عادية كل الناس يعملونها, وأنها ليست أعمالاً عظيمة، ولا تستحق أن تخاف بسببها على نفسك الرياء، وبعض الناس يتركون الأعمال الصالحة بسبب أن الناس تكلموا فيهم وأثنوا عليهم بذلك، والواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم {تلك عاجل بشرى المؤمن} .(135/35)
الأسئلة
.(135/36)
الجهاد وطاعة الوالدين
السؤال
أنا أريد الجهاد, ولكن والدَّي لا يوافقاني على ذلك ويمنعاني مثل هذه, فماذا أفعل؟
الجواب
أسأل الله أن يرزقني وإياك وسائر المجاهدين الشهادة في سبيله، اللهم ارزقنا جميعاً الشهادة في سبيلك محسنين غير مسيئين إنك على كل شيء قدير, اللهم اجعلنا ممن يخصص لهم اثنتان وسبعون من الحور العين، اللهم اجعلنا ممن يحلَّى على رؤوسهم تاج الوقار؛ الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، اللهم اجعلنا ممن يشفَّع في سبعين من أهله, اللهم اجعلنا ممن يغفر له مع أول قطرة من دمه، اللهم اجعلنا ممن يأمن من عذاب القبر، يوم يحشر الناس في قبورهم.
عليك أن تسعى إلى سماح أهلك بكل وسيلة، بالأسلوب الطيب، والكلمة، والمحاولة، والصبر، فإذا عجزت فابعث إليهم بعض الأحباب الأخيار، أو طلبة العلم يحاولون إقناعهم، وأن يكون جهادك مؤقتاً لفترة محدودة ثم تعود إليهم بعد ذلك، ولا بأس أن تقرأ عليهم بعض ما ورد من النصوص في فضل الشهادة والجهاد, وأنهم هم المستفيدون منك حياً وميتاً إن شاء الله تعالى فإن مت فأنت شفيع إن شاء الله تعالى، لهم يوم القيامة كما جاء في الحديث، وإن حييت فأنت ابنهم البار، وعليك أن تسعى في ذلك وتدعو الله تعالى حتى تتيسر لك الأبواب، وإن صدقت الله تعالى صدقك الله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال {من سأل الله الشهادة صادقاً، بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} .
والحمد لله رب العالمين.(135/37)
حكم التدخين
السؤال
ماحكم التدخين؟ وكيف يكون الإقلاع عنه؟
الجواب
أولاً: أدعو الله لك بكل وسيلة مقربة مباحة لديه؛ أن يكفيني وإياك شر المعاصي كلها ظاهرها وباطنها, وأن يرزقني وإياك الإقلاع عن الذنوب كلها, وأن يعينك على التخلص من هذه الآفة السيئة, وسائر المدخنين من الحاضرين خاصة ومن المسلمين عامة, ثم إن للتخلص من التدخين أسباباً كثيرة: منها: صحبة الأخيار, ومنها: الانشغال بالأعمال الصالحة, ومنها: التقليل من كمية التدخين شيئاً فشيئاً حتى يُتخلص منه, ومنها: أن تستفيد من مناسبة رمضان في ترك ذلك، ومنها: ألا يجالس المدخنين ولا يقترب منهم، ومنها: أن يراجع العيادات المختصة بذلك، فقد تقدم له بعض النصائح، وبعض الأشياء التي تعينه عليه.(135/38)
حكم سماع الغناء والنظر إلى الصور
السؤال
أنا شاب أسمع الأغاني، وأنظر إلى الصور في المجلات, ولكني محافظ على الصلاة في المسجد، وأحب مجالس الذكر والصالحين فبم تنصحني؟
الجواب
يا أخي أنت كما قال القائل: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة فأبشر بخير كثير, لأن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بهذا الحديث.
قال: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أحشر معهم} .
وقائل: هل عمل صالح أعددته ينفع عند الكرب فقلت: حسبي سنة المصطفى وحبه فالمرء مع من أحب عليك بصحبة الأخيار, وعليك أن تكثر من حضور المجالس, وعليك أن تزين نفسك أبداً بالطاعات، ولا تتهاون بشيء من الذنوب والمعاصي مهما قلَّ.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى(135/39)
تعدد الزوجات
السؤال
مسألة تعدد الزوجات؟
الجواب
مسألة تعدد الزوجات قضية ينبغي أن نتحدث عنها بشيء من التفصيل, لأن المستمعين من الطرفين الرجال والنساء؛ فنحن ينبغي أن نقول الحق دون أن نداهن طرفاً على حساب الطرف الآخر, لكن ينبغي أيضاً أن يقال الحق كله لا يقال بعضه.
ولذلك أشير للإخوة إذا وقع في كلامي تقصير، على أنني ربما تكلمت عن هذا في مناسبات عديدة في مجموعة من الأشرطة المتعلقة بالرجل والمرأة, والعلاقات الزوجية، وأحكام الطلاق, وما أشبه ذلك، وهي موجودة ومتداولة، فعلى كل حال أقول: أولاً: إذا كان الإنسان يعيش مع أهله في سعادة وارتياح، وليس هناك ما يدعوه إلى تعدد الزوجات، فلماذا يتزوج بأخرى؟ لماذا يسارع في ذلك؟! أقول هذا ليس تنفيراً عن أمر أباحه الله عز وجل، ولكن لأنني أرى أن بعض الشباب قد يتعجلون في هذا الأمر وظروفهم المادية والنفسية والبيتية والاجتماعية, لا تسمح بذلك.
هذا جانب.
ثانياً: إن الذي يريد أن يتزوج بأخرى -غالباً- سوف تكون شروطه أقل, لأنه يقول: أنا معي زوجة، فأعلم أن الفتاة الجميلة -مثلاً- لن تقبلني، وأن الصغيرة لن تقبلني، إذاً هو سوف يتنازل عن بعض الشروط, ويتزوج بمن تكون أوصافها في نظره أقل، وهذه مقاييس كثير من الناس، مقاييش شكلية، وإلا فالواجب أن ننظر إلى مجمل المقاييس الشكلية والمعنوية: الأخلاق والدين والعلم والعقل وغير ذلك.
المهم أن بعض هؤلاء ينظرون هذه النظرة، فإذا تزوج الأخرى لم تعجبه, لأن الأولى أفضل منها, أو أجمل منها, أو أحسن منها, وربما عاش معها فترة أول الزواج لأنها جديدة, وكل جديد له لذة, ثم أعرض عنها وطلقها، وكانت بعد ذلك مشكلة ترتب عليها ضياع ماله عليه، وارتكاب الديون على ظهره, أنه ربما حطَّم مستقبل هذه المرأة، ربما حملت منه وأنجبت، وترتب على ذلك مشاكل عديدة كان في غنى عنها, لو أنه درس قرار الزواج الثاني دراسة وافية.
إذاً أنا لا أقول: لا تتزوج، فالله تعالى يقول وقوله الحق: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] .
لكنني أقول بوضوح: ادْرِس قرار الزوجة الثانية دراسة متأنية قبل أن تقدم عليه، وإذا كنت درست قرار الزواج من الأولى شهراً, فادرس قرار الزواج من الثانية سنة، ولا يضرك أن تتأخر, فأنت لا زلت شاباً في مقتبل العمر.
ثانياً: إذا تزوجت بالأخرى فعليك بالعدل مع الزوجتين, فلا تنس الأولى أو أولادها, أو تأخذ من حقها, أو تنشغل بالثانية، أو حتى تنشغل بالأولى وأولادها, وأنك تسعى إلى تطييب خاطرها وتقصر في حق الثانية.
ثالثاً: على الإنسان إذا هم بالزواج وصدق عزمه في ذلك, ألا يميت زوجته الأولى مرات ومرات, كلما دخل عليها قال: يا فلانة! أريد أن أتزوج, أنا خطبت, أنا فعلت, أنا قلت, إن كان ولا بد فمرة واحدة, ولا داعي لأن يصفق قلبها صباحاً ومساءً بهذا الخبر الذي بالتأكيد لن يكون ساراً لها.(135/40)
التفضيل بين الأئمة
السؤال
بعض الناس يتكلمون في أعراض العلماء، ويفضلون بعض الدعاة على بعض، فما نصيحتنا لهم؟
الجواب
يا أخي، الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود يشكو إليه بعض الأنصار أنهم ضربوه، لماذا؟ لأنه حلف بالذي فضَّل موسى على العالمين, فقام إليه رجل من المسلمين وضربه, أتقول هذا وأنت بين ظهراني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {لا تفضلوا بين الأنبياء، فإني أكون أول من يفيق يوم القيامة؛ فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الصور؟؟} فالمقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التفضيل بين الأنبياء على جهة تنقص بعضهم من بعض, وإلا فإن الله تعالى يقول: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:25] وقال عليه السلام: {لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى} وهكذا ينبغي أن يقال فيما يتعلق بتفضيل بعض العلماء على بعض, أو بعض الدعاة على بعض, لا يجوز أن يكون هذا مدعاة إلى التغاير والتباعد, واختلاف القلوب والتعصب، هذا يتعصب لهذا وهذا يتعصب ضده، ثم تقوم مناظرات ومجادلات ومقالات وكلام.
يا أخي! اشتغل بالعمل النافع -جزاك الله خيراً- دع عنك أهل العلم، ودع عنك أهل الدعوة, ودع عنك أهل الخير، دعهم لربهم الذي خلقهم فهو يتولَّى حسابهم, واشتغل بنفسك، قم بعمل ينفعك عند الله تعالى، دعوة، أو طلب علم أو جهاد أو خير أو بر أو معروف، فإن قلت: لا, قلنا لك على أقل تقدير قم بعمل ينفعك في دنياك، تجارة أو زراعة أو إدارة أو تعلم دنيوي, أو ما أشبه ذلك، ولا تكل لا هذا ولا ذاك، ما عملت لدينك ولا عملت لدنياك.(135/41)
إخفاء الأعمال
السؤال
هل أخفي جميع أعمالي أم في ذلك تفصيل؟
الجواب
التفصيل سبق, عليك أن تسعى إلى إخفاء أعمالك الخاصة من العبادات, إلا إذا أمنت على نفسك الرياء، ورأيت في إظهارها خيراً أن يقتدي بك الناس من أهلك أو طلابك أو غيرهم, أو رأيت في ذلك مناسبة ومنابذة للعدو، وبياناً لقوة شأن الإسلام, أو رأيت في ذلك حثاً للآخرين على أن يعملوا مثل عملك.(135/42)
الانعزال عن منكرات البيت
السؤال
أرجو أن توضح موقف الشاب الذي يعيش في بيت أهله ويوجد عندهم منكرات كثيرة، لكنه منعزل عن منكراتهم في غرفة مستقلة؟ وهل تدخل الملائكة غرفته؟
الجواب
إذا كانت هذه الغرفة تخلو من المنكرات؛ فيرجى أن تدخلها الملائكة، وعلى هذا الإنسان أن يحرص على أن يقيم أوثق الروابط مع أهله مع أمه وأبيه وأخواته وإخوانه، بحسن المعاملة، وطيب الحديث، والهشاشة والبشاشة ولين الكلام، وخدمتهم فيما يستطيع من أمر الدنيا والدين, ومع ذلك عليه أن يبذل وسعه في دعوتهم.
فاجعل في البيت مكتبة صوتية فيها بعض الأشرطة المختارة الجذابة، ومكتبة فيها بعض الكتب والقصص البسيطة والأناشيد، والوعظ والإرشاد، والأحاديث والآيات التي تعجب أهلك كباراً وصغاراً، واجعل للبيت برنامجاً، درساً في الأسبوع تجمع فيه الصغار على آية من كتاب الله, أو حديثاً عن رسوله، أو مسابقة، أو تدريباً على عبادة من العبادات، أو تعليماً لعقيدة من العقائد, أو حكم من الأحكام, أو أبياتاً من الشعر الحكيم يحفظونها أو ما أشبه ذلك، حتى تؤثر فيهم مع الوقت وعليك ألاَّ تيأس.
بعض الشباب يقولون: فعلنا فلم يستجب لنا ولكن يا أخي، أين أنت من نوح عليه السلام؟! ألف سنة إلا خمسين عاماً، أنت كم دعوت، أسبوعاً شهراً سنةً؟ اصبر فما لم يأتِ في هذا العام قد يأتي بعد عامٍ أو عامين, ولو أن كل شابٍ جعل من نفسه داعية في بيته, لاستطعنا أن نوصل الدعوة إلى كل الدنيا.(135/43)
ظاهرة عدم الأخلاق مع الأهل
السؤال
ما حكم من يحسن أخلاقه مع الناس دون أهله؟
الجواب
هذا من أخطر الأشياء التي يقع فيها بعض الشباب, فأنت تجده مع الناس كالريح الهادئة, كالهواء العليل حين يدخل في النفوس ويحبه الجميع، أخلاقه طيبة, كلماته هادئة, وديع، خدوم صبور مبتسم, أما مع أهله فهو ينقلب إلى وحش ضار، أو إمبراطور يأمر وينهى في البيت؛ فهو على أمه وأبيه، وعلى زوجته وعلى أطفاله شديد عسر، وهذا خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم, فإن الأهل والأقارب أحق ببر الإنسان أدناه فأدناه، وقرابته وأهل بيته أحق بحسن صحبته, وحسن خلقه, وطيب كلامه, ولين حديثه, وعليه أن يستغفر الله تعالى, وألاَّ يتعمل ويتزين للناس بحسن الخلق, ويكون مع أهله على النقيض من ذلك.(135/44)
الخوف من الرياء
السؤال
من حديثك لنا عن الرياء أحسست أنني مرائي، فماذا أفعل فإنه أخفى مندبيب النمل؟
الجواب
لا تركز على كلمة واحدة وتغفل عن كلمات, فإن الأمر لا يستدعي وسوسة, ولا تنطعاً، بل عليك أن تعمل لله تعالى وتترك الناس، فلا تأبه بهم, وتجاهد نفسك في ذلك حتى تموت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وأعظم ما أحذرك منه أشد التحذير؛ أن تترك العمل الصالح خوف الرياء.(135/45)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
كيف يمكن الجمع بين حديث الرجل الذي يدور بين أقتاب بطنه، وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
هذا ليس تناقضاً ولا مجال للإختلاف بينهم، فإن الأمر بالمعروف واجب على كل إنسان, والنهي عن المنكر واجب علينا جميعاً, وهل تعتقد أن أحداً يعاقبه الله تعالى لماذا تأمر بالمعروف؟ أو تعتقد أن الله تعالى يعاقب إنساناً لماذا تنهى عن المنكر؟! إنما العقاب لماذا تفعل المنكر, ولماذا تترك المعروف مع أنك تعرف، والدليل عليك أنك كنت تأمر وتنهى, فالناس ظنوا أن هذا الإنسان سوف يكون في الدرجات العلا من الجنة, لأنهم ربما استفادوا منه وتركوا بعض المعاصي، أو فعلوا بعض الطاعات, ففوجئوا بأنه معهم في النار، هذا غريب، لم؟! قال: لأني كنت آمركم بالمعروف لكن ما كنت أفعله, وكنت أنهاكم ولكن ما كنت أنتهي، هذا هو العبرة.(135/46)
الرقى
السؤال
ما حكم الرقية؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالرقية، بل أمر بها وقال عليه الصلاة والسلام: {اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً} وهو في صحيح مسلم، وفي صحيح مسلم أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: {من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل} فالقراءة على المريض المصروع بالجن أو بالعين, أو بالسحر مشروعة، ومن فعل ذلك فله عند الله أجر عظيم، وهذا من الرقية الشرعية التي يستغني بها الناس عن الذهاب إلى السحرة والكهنة والعرافين والمنجمين، الذين يأخذون أموال الناس بالباطل، ويضحكون عليهم، ويستعينون بالجن على التعرف في أحوال المريض، إذا جاء المريض لمن يدَّعي العلاج والطب قال له هذا المتطبب: أنت شأنك كذا, واسم زوجتك كذا, وعملك كذا، ويوم كذا كنت في كذا , فتحس بكذا لأن هذه المعلومات قدمها له قرينه من الجن، فإذا رأى المريض أن هذا المتطبب يعرف هذه الأسرار؛ وثق به وأسرع إليه, وصدق كل ما يقول، حتى لو ادَّعى عليه دعوى أنك مسحور من قبل شخص شأنه كذا , وصفته كذا , يأتي بعموميات قد تصدق على كل إنسان، أو أن بك عين أو جن, أو ما أشبه ذلك، فصدق هذا، وكان سبباً في الفراق بينه وبين زوجته, أو مفارقة أصدقائه, أو العداوة بينه وبين أقربائه, أو جيرانه, وأخذ أمواله وأفسد عليه دينه، وربما أغراه بأن يذبح للجن والعياذ بالله أو يتقرب إليهم بالقرابين، أو يفعل معهم الفواحش, وربما ارتكب الشرك كالذبح للجن، أو التقرب إليهم بالعبادات التي لا تفعل إلا لله تعالى، وهذا من أعظم الأمور التي ينبغي أن يوعَّى الناس بها، ويُبيَّن لهم أن هؤلاء القوم لا ينفعون، بل يضرون، وأنهم أكلة ومرتزقة يأكلون أموال الناس بالباطل، ويضحكون عليهم ولا ينفعونهم بشيء، وإنما الضار والنافع هو الله تعالى.
فمن أصيب بشيء من ذلك فعليه أولاً بكثرة الدعاء، والإنكسار لله تعالى، واختيار أوقات الدعاء التي يستجاب فيها الدعاء, كالدعاء بين الآذان والإقامة, والدعاء في الثلث الأخير من الليل, والدعاء في أدبار الصلوات المكتوبات، والدعاء في أثناء الصلاة في الركوع والسجود، وكذلك الدعاء يوم الجمعة بعد دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وفي آخر ساعة من الجمعة, وتحرِّي أيضاً الأحوال الفاضلة, كتحري نزول المطر مثلاً، والانكسار لله والخضوع له، وأن تدعو الله بالأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا تتعدى.
وأن تقدم بين يدي الدعاء الصدقة والقربان، والخروج من الذنوب والمعاصي, فحينئذٍ يستجيب الله لك كما قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] .
ومن ذلك: أنه لا بأس أن يذهب فيسائل بعض القراء الموثوقين، المعروفين بالصلاح والتقوى والورع, ممن يقرأ على المريض شيئاً من القرآن, أو من الأدعية المشروعة وينفث عليه، فيكون سبباً في ذهاب الجن أو السحر, أو أن العين عن الإنسان, أو يخف ذلك عنه مع الوقت.
ومن ذلك: أن يقرأ الإنسان على نفسه آية الكرسي، وبعض السور القصار كسورة الإخلاص والمعوذتين وينفث، ويحافظ على الورد صباحاً ومساءً، فإن ذلك ينفعه بإذن الله تعالى.
ومن ذلك: فعل الأسباب المادية المباحة، كأن يظن الإنسان بشخص -مثلاً- أنه وقعت منه العين، فيأتي بشيء منه يغسل ثيابه أو يغتسل له, أو ما أشبه ذلك، ويصب على بدنه، أو يظن أن فلاناً وضع له سحراً, فيبعث إليه من يحاول أن يغريه بأن يبين له مكان السحر وما أشبه ذلك, حتى يزول عنه -بإذن الله تعالى- كما حصل بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام, فإنه سحره لبيد بن الأعصم كما في الصحيح، وجاء الملكان فأخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بالذي فعل السحر, وهو لبيد بن الأعصم، وأين مكان السحر وهو بئر معروفه وهي بئر ذرمان في المدينة، وأن السحر كان في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد حاجة لإخراج السحر وإتلافه، لأنه قال: {أمَّا أنا فشفاني الله تعالى وكرهت أن أثير على الناس شراً} .
أما الذهاب إلى السحرة والعرافين والمنجمين، وتوسع الناس فيه على نحو ما يجري الآن؛ فهو من أعظم المخاطر, فإن معظم الناس يصاب بمرض عضوي في بدنه، أو مرض نفسي, أو توتر, أو قلق, أو ما أشبه ذلك, فلا يعرفون أبداً إلا أن يذهبوا للسحرة والكهنة في هذه البلاد وفي بلاد أخرى, فيعطونهم أموالهم ويصدقونهم فيما يقولون، وقد جاء في ذلك الوعيد الشديد، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهناً أو عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} وفي الحديث الآخر: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم} .(135/47)
حديث أضعف الرياء
السؤال
يقول: قرأت في حديث معناه (أضعف الرياء كالزاني بأمه تحت أستار الكعبة) إلخ فهل هذا صحيح؟
الجواب
كلا هذا ليس بصحيح, وإن كان الرياء من الشرك، يصير الرياء شركاً، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه الشرك الأصغر, سئل عنه فقال: الرياء.(135/48)
حكم كتمان وقوع الشرك
السؤال
ما حكم من يعلم أن شركاً وقع في بلدته أو عشيرته، ثم يكتم ذلك عن الدعاة؟ خشية العار؟
الجواب
هذا من أعظم الذنوب، ويخشى أن يكون مقراً بهذا الأمر أو راضياً به, لأن العار في بقاء ذلك واستمراره، وليس في قيام الدعوة في أوساط قومه أو قبيلته، وأمرهم بالمعروف أو نهيهم عن المنكر, بل عليك أن تكون داعية في وسط قومك إلى إزالة هذا الشرك، وأن تنشر من الكتب والأشرطة والدعوات والمنشورات، التي تبين ذلك وتزيله.(135/49)
تهيب الدعوة لأجل الذنوب
السؤال
إنني رجل أعلم ما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام من الأهمية, ولقد منحني الله تعالى الحجة وقوة البيان، ولكنني أتهيب ذلك أو المشاركة فيه بحجة أنني مقصر فيما سوف، أنصح الناس فيه، وأعلم أن للشيطان دوراً في هذا، أرجو أن تفتوني بتخفيف ذلك عن نفسي؟
الجواب
لقد بينت -لك يا أخي- أثناء الكلام أن ذلك من أعظم مداخل الشيطان, لأنه لو فتح هذا الباب على الناس ما عمل أحد طاعة، لأن الشيطان مسلط على كل الناس، وليس عليك أنت فحسب، فما من إنسان يعمل طاعة إلا ويأتيه الشيطان من أبواب عدة؛ منها: أن يقعده عن هذه الطاعة ويثقلها عليه, ومنها: أن يغريه إذا فعلها أن يكون مرائياً أثناء فعلها, أو ما أشبه ذلك، فعليك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعتصم بهذا الدعاء: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} وتستمر في هذه الأعمال، ومع الوقت يزول عنك هذا بإذن الله تعالى.(135/50)
صفة الاستواء
مواصلة لدروس الواسطية، في هذا الدرس شرح لآيات نفي الشرك والشركاء وتنزيه الله وتقديسه، ثم استواؤه على عرشه بأسلوب سهل، وبيان لبعض ما يتعلق بذلك.(136/1)
آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(136/2)
قوله تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل:74]
وهذا أيضاً نهي للناس أن يضربوا لله تعالى الأمثال.
كأن يشبهوه بخلقه أو يقيسوه بخلقه، فإن الله تعالى لا يقاس بخلقه، ولا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه؛ فلهذا لا يقاس الله تعالى بخلقه، ولا نقول إن هذا الشيء حسن في حق الناس فيكون حسناً في حق الله، هذا ليس بلازم، إلا ما كان كمالاً من كل وجه، فإن الخالق أولى به، وما كان نقصاً؛ فإن الخالق أولى بالتنزيه عنه فهذا قياس الأولى.
فمثلاً: العلم في الإنسان هل هو نقص أم كمال؟ كمال، وهل في العلم نقص بوجه من الوجوه؟ ليس فيه نقص فنقول: الله سبحانه وتعالى أولى بالعلم أيضاً، مع أن إثبات العلم لله سبحانه ثابت في النصوص القرآنية أيضاً.
ومثله: القدرة، فكلما كان الإنسان أقدر؛ كان هذا أكمل فكذلك الله عز وجل.
أما ضرب الأمثال لله تعالى، وقياسه بخلقه؛ فإن هذا لا يجوز بحال من الأحوال قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74] .(136/3)
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأعراف:33]
بين أصول المحرمات في هذه الآية {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف:33] الفواحش: جمع فاحشة، وهى: من فحش الشيء إذا عظم وكثر، فالفاحشة هي: الإثم العظيم؛ وغالب ما تطلق على الفواحش الشهوانية التي فيها حدود ربانية، كالزنا واللواط ونحوهما فإنها من الفواحش، فهذا من أصول المعاصي والمحرمات.
وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] ، أما الظاهر: فكما ذكرت، وأما الباطن: كالفواحش المتعلقة بالقلب، وهذا قد يخفى على كثير من الخلق، فهي موجودة.
فالحسد -مثلاً- والحقد، وبغض المؤمنين من الفواحش القلبية، والعجب والغرور والكبر، من الفواحش القلبية، وهكذا: {حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] .
قوله: (والإثم) قيل: إن المقصود بها الخمر، فإن الخمر جماع الإثم، وكانت العرب تسميه: الإثم كما قال شاعرهم: سقوني الإثم ثم تكنفوني يعني سقوه الخمر ثم أحاطوا به، فالعرب كانت تسمي الخمر إثماً، وقيل: إن المقصود من الإثم: هو كل معصية لله عز وجل، فلهذا تكون أعم من الفواحش.
قوله تعالى: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] فالبغي: هو الاعتداء على حقوق الناس، وهو لا يكون بحق؛ وإنما للتنفير والتقبيح منه، قال: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] أي: أن تبغي على الناس، كأن تبغي عليهم في أموالهم بغير حق فتظلمهم أو في أعراضهم؛ كأن تتكلم في أعراضهم بغير حق وتسبهم وتؤذيهم سراً أو علانية.
والبغي: من الذنوب التي يعجل الله سبحانه وتعالى عقوبتها في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: {ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا مع ما يدخره لصاحبه يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم} فالبغي مما حرمه الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] أي: بغي الناس بعضهم على بعض.
وقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف:33] فالله تعالى ما أنزل لأحد سلطاناً أن يشرك معه، إنما أنزل سلطاناً بالتوحيد وإفراده بالعبادة.
وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] أي: أن تتكلموا في دين الله تعالى ما لا تعلمون -ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه من ذلك- فإن في هذه الآية وعيد شديد على من تكلم في الشرع بما لا يعلم، حتى قرنه سبحانه مع الشرك: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فكثير من الجهلة والعوام تجد الفتوى على طرف لسانه: حرام حلال! وكذلك كثير من السفهاء الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم، بمجرد أن تخبرهم عن منكر وقع فيه، يقول: لا شيء ولا حرج في ذلك! لم لا شيء فيه؟ هل أخبرك الله بهذا؟ هل عندك آية أو حديث أو كلام لأهل العلم؟ يقول: لا.
لكن لو كان هناك شيء، لقبل في فلان وفلان، قال تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] كونك واقع في معصية، هذا شيء يمكن أن يغفره الله لك، لكن هناك معصية أخرى عظيمة قد لا تغفر وهي وقوعك في المعصية وأنت تستحلها، أو تتكلم على الله تعالى بغير علم؛ بالحلال والحرام والدين، فهذا من أعظم الذنوب قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فلا تتبع شيئاً ليس لك به علم، ولا تتكلم بغير حق، فكل أولئك سوف تكون عنه مسئولاً.(136/4)
قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن:1]
وهذه الآية فيها تسبيحه جل وعلا، والتسبيح -في أصل معناه-: هو التنزيه، فقوله: (يسبح لله) كقولك: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحان ربي الأعلى، أي: أنك تنزه الله تعالى وتطهره عن كل ما لا يليق بجلاله مما ادعاه عليه المشركون، كادعائهم أن له ولداً أو زوجة، أو أن له ولياً من الذل، أو أن له شريكاً في الملك أو أن فيه نقصاً بوجه من الوجوه فأنت تقول (سبحان الله) أي: أنك تعترف بتنزيه الله تعالى، أو أنك لا تؤمن إلا بالكمال المطلق لله جل وعلا؛ وتنفي عنه كل نقص.
ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يسبح له كل شيء كما قال الله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن:1] كل شيء؛ من الجمادات والحيوانات، والرطب واليابس، والصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل؛ كلها تسبح فهذا الكون كله مهرجان يضج بالتسبيح لرب العالمين، ولو قدر لأذن أن تسمع لما سمعت إلا زجلاً لتعظيم ذي الجلال في كل ما تقع عليه العين في هذا الكون فالله تعالى يسبحه كل شيء ويعظمه كل شيء، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] إلا بعض عصاة بنى آدم، فإنهم تمردوا وأبوا أن يعظموا الجلال والإكرام سبحانه.
والتسبيح المذكور في هذه الآيات ونحوها على الراجح أنه تسبيح حقيقي، أي: أنها تسبح حقيقة لله عز وجل أما كيف تسبح، فهذا أمر لا ندري؛ لأن الله تعالى ما أطلعنا عليه، ولا كشف لنا من أمره؛ لكننا آمنا بما أخبرنا الله به من أن كل شيء في الكون يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، دون أن يفقه الناس تسبيحه أو يعلموا كيف يسبح؛ وجزء من ذلك بينه الله تعالى، أو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد ذكر الله تعالى عن داود عليه السلام {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] فكانت الجبال والطيور تسبِّح مع داود، فيسمع تسبيحها لله عز وجل.
ومنه حركة الكون: فإنها جزء من التسبيح والطاعة لله عز وجل فطلوع الشمس وحركتها وغروبها، واختلاف مراحل القمر؛ كل ذلك من التسبيح والطاعة لله عز وجل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما قال: {أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ فقال: الله ورسوله أعلم! قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن في الطلوع، فيؤذن لها لا ينكر الناس من أمرها شيئاً، ويوشك أن تستأذن ولا يؤذن لها، ويقال لها: اطلعي من حيث غربت} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فهذا جزء من سجودها وتسبيحها وطاعتها لله عز وجل.
فهاهنا قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن:1] كل شيء! حتى ذرات التراب، وقطرات الماء، وأوراق الأشجار وحتى الدواب الصغيرة، كلها تسبح الله ولهذا من بديع ما ذكره لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء السابقين: {أن نبياً نام تحت شجرة فقرصته نملة، فقام فأحرق بيت النمل كله، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أمن أجل نملة قرصتك؛ أهلكت أمة من الأمم تسبح الله تعالى} أي: أن المسألة ليست هينة! هذه القرية من النمل التي أحرقتها؛ قرية يسبحون الله كيف تهلكهم بدون سبب ولا ذنب؟ {هلا نملة واحدة؟} لو قتلت الواحدة التي قرصتك وتركت الباقي! فعاتبه الله عز وجل على ذلك.
فانظر كيف يربي الإسلام في نفس المؤمن النظر إلى هذا الكون، والتذكر بأن الكون كله يسبح لله عز وجل إذا كان الكفر يملك قوة وإمكانية وتقدماً في العلم والصناعة والحضارة والماديات وفي غيرها، فتذكر أن هذا الكون كله بما فيه ومن فيه -حتى مصنوعاتهم وحتى إمكانياتهم- فهي تسبح لله عز وجل وتنتظر أمره؛ فيكون عند المؤمن حينئذ من عظيم الثقة بالله والتوكل عليه ما ليس عند غيره.(136/5)
قوله عز وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان:1]
معنى تبارك: أنه من البركة أي: أنه تبارك في ذاته وبارك غيره، من شاء من خلقه، كما قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18] وقال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73] إلى غير ذلك، فالله تعالى تبارك في ذاته وبارك غيره ممن شاء من خلقه، من بلاد وأرض وأناس وأعمال، فهذا معنى قوله: (تبارك) ولهذا لا تطلق على غيره سبحانه؛ فلا يجوز أن تقول لإنسان: تبارك فلان.
{تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] والفرقان: هو القرآن، وإنما سمي فرقاناً؛ لأنه يفرق بين الحق وبين الباطل.
وقوله: {تبارك الذي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] .
وصف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف الصفات، فأشرف الصفات أن تصدق عبودية العبد لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذكر الله تعالى العبودية لنبيه عليه الصلاة والسلام في مواضع التنزيل، كما في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] .
كما ذكر العبودية في مقام الدعاء، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] فالمقصود أن العبودية أشرف صفة يوصف بها إنسان؛ ولهذا وصف الله تعالى بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك هذا المعنى القاضي عياض رحمه الله! فكان يقول: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً وقوله: {لِيَكُونَ} [الفرقان:1] هذا القرآن {لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، والنذارة: هي الإخبار مع التحذير؛ بخلاف البشارة: فهي الإخبار بما يسر فقوله: نذيراً أي: محذراً لهم عقوبة المعصية والمخالفة فهذا معنى النذارة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث مبشراً ونذيرا، فالنذارة تكون أولى للعاصين، كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف:1-2] فذكر النذارة للكافرين، وذكر البشارة للمؤمنين.
قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] .
أي: أنه أحسن كل شيء خلقه فخلقه بقدر، وهذا له أكثر من معنى: المعنى الأول: أن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى فهو مكتوب مقدر عنده في اللوح المحفوظ، كما هو معروف في مراتب القضاء والقدر هذا من معاني قوله: {فَقَدَّرَه تَقْدِيراً} [الفرقان:2] .
المعنى الثاني: أن معنى قوله (قدره) أي: أحكمه وأتقنه وأحسنه، فجعله ملائماً مناسباً، كما في قوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] أي: هل ترى في السماء من شقوق؟ من صدوع؟ من نقص؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] وقال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وقال: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، كما قال عن نفسه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] فهذا هو المعنى الثاني من معاني قوله: {فَقَدَّرَه تَقْدِيراً} [الفرقان:2] .(136/6)
قوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون:91]
المقصود في هذه الآية، هو ذكر التسبيح في قوله {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] ؛ لأن فيها تنزيه الله عز وجل عما يصفه به المشركون؛ ولكن الآية بدأت بإثبات دليل من أدلة الألوهية والربوبية في قوله سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] ففي المقطع الأول من الآية فيه نفي أن يكون لله ولد لا من الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من سائر البشر! وقوله (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) أي نفي أن يكون هناك إله مع الله والمعنى الإجمالي من الآية أنه ليس له شريك في الخلق ولا في الألوهية.
وقوله تعالى: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] .
أي: أنه لو كان هناك أحد شارك الله تعالى في خلق هذا الكون وإيجاده؛ لكان الأمر لا يخلو من حالتين: إما أن يكون هذا الشريك الذي خلق مع الله شيئاً يكون مساوياً لله تعالى وفي مقامه، فحينئذٍ كل يستبد بما خلق، ويتفرد في خلقه، ومعنى ذلك أن الكون سوف يكون مدبراً من آلهة عديدة، وهذا قطعاً خلاف ما يشهد به الواقع؛ لأن الواقع يشهد بأن الكون كله لخالق واحد، كم له من شمس؟ كم له من سماء؟ نظام الكون واحد، حتى في دراسات العلماء لنظام الكون تجد غاية العجب! فيما يسمونه: بالذرات وتكوين الذرة وما أشبه ذلك، والتي هي أصل ويقال: إنها أقل جوهر للأشياء الموجودة فالمقصود: أن نظام الكون واحد، فمعناه: أن خالق الكون ومدبره واحد، ولو كان للكون آلهة مختلفون؛ فما الذي كان سيحدث؟ كل إله منهم سيذهب بما خلق، أي سينفرد بخلقه، فيتصرف فيه تصرفاً آخر، مثلما يفعل ملوك الدنيا، مثلاً، فإن كل واحد منهم إذا انفرد في ملكه؛ تصرف فيه بغير ما يتصرف فيه الآخر، فتجد هذا له طريقة واحدة، وذاك له طريقه أخرى، والثالث له طريقة ثالثة، ولا يتفقون على طريقة واحدة أبداً؛ ولهذا قال: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91] أي: لو كان مع الله إلها آخر؛ لذهب هذا الإله الآخر بما خلق، واستقل به! وقوله تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] .
أي: حاول أحدهم أن يتغلب على الآخر -إن استطاع- كما يفعل ملوك الدنيا، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18] .
{إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] أي: ينزه الله تعالى عما يصف به المشركون من ادعاء الولد أو الشريك أو الصاحبة، وقد نزه الله تعالى نفسه عما وصفه به المشركون في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم.
قوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:92] : لأن من ادعى أن لله تعالى ولداً؛ فقد أشرك مع الله تعالى غيره قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] فنفى الله تعالى عن نفسه الولد والشريك، ونزه نفسه عما وصفه به المشركون والضالون.(136/7)
قال المصنف رحمه الله: وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم:65]
من أسمائه جل وعلا (السميع البصير) ، وكذلك الله تعالى وصف الإنسان بكونه سميعاً بصيراً كما في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] إلى غير ذلك من الأشياء التي يطول حصرها؛ لكن الفرق بينهما ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
هذا المعنى الأول في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:5] .
والمعنى الثاني: أن يكون المقصود مسامياً بمعنى "هل تعلم له مسامياً" أي: أحداً يساميه وما معنى المساماة في هذه الحالة؟ مر معنا في صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً.
اللفظ نفسه مثلاً إذا قلنا: فلان يسامي فلاناً، أي: يعادله أو يقاربه أو ينافسه.
ورد هذا اللفظ في حديث الإفك من كلام عائشة رضي الله عنها عن زينب أنها هي التي كانت تساميها تقول: [[وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم]] أي: تعادلني أو تقاربني.
فقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:5] أي: معادلاً أو نظيراً أو مشابهاً، والمعنى: لا سمي له سبحانه لا في ذاته، وصفاته، ولا في أسمائه، وأفعاله.(136/8)
قال المصنف رحمه الله: قال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص:4]
هذه الآية من سورة الإخلاص، وقد سبق الكلام على هذه السورة كلها في أول الكتاب، وإنما أعاد المصنف ذكر الآية؛ لمناسبة ذكر الأشياء المنفية عن الله سبحانه وتعالى وبعض الآيات قبلها -أيضاً- تدخل في ذلك في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] فإنها نفي {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] والكفء: هو النظير والشبيه، أي: لا نظير له سبحانه، ولا ند له، ولا مثل له.(136/9)
قوله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:22]
وهذه أيضاً كالتي قبلها: فالأنداد: جمع ند، والند هو: النظير والشبيه، وقوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:22] هذا يشمل النهي عن كل ألوان الشرك؛ سواء كان شركاً في الربوبية، كأن يدعي أحدٌ أنَّ لأحد شركة مع الله تعالى في الخلق، أي: يخلق مع الله أو يرزق معه، فهذا من الشرك في الربوبية، وهو من اتخاذ الند لله سبحانه وتعالى.
وكذلك: هو نهي عن الشرك في الألوهية؛ بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، فهذا هو التنديد أيضاً، وأعظم وأكثر شرك حصل في بني آدم هو الشرك في الألوهية بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، ومن عبد غير الله فقد اتخذ نداً.
وكذلك: هو نهي عن الشرك في الأسماء والصفات، وهو أيضاً من التنديد؛ ولهذا جاء في المسند وغيره في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت" قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أجعلتني لله نداً؟} إنكاراً له على أنه قرن بين اسمه واسم الله تعالى فقال له: "ما شاء الله وشئت" وكان الأولى أن يقول: ما شاء الله وحده أو نحو ذلك.
فالشرك في الأسماء والصفات بأن يعطي العبد صفة من صفات الله أو اسماً من أسمائه -التي لا تنبغي إلا له- ويعطيها لغيره، أو يشرك مع الله تعالى ولو باللفظ كقوله: "لولا الله وفلان أو ما شاء الله وشئت أو نحن بالله وبك" وما أشبه ذلك مما يسمى "بشرك الألفاظ" فالآية نهي عن ذلك كله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أي: تعلمون أنه لا يستحق العبادة غيره ولم يكن له كفواً أحد، ولا تعلمون له سمياً، فهو المتفرد في ذاته وأسمائه وصفاته جل وعلا.(136/10)
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه) [البقرة:165]
هذه الآية في سورة البقرة، وفيها ينعي الله على المشركين أنهم ينددون، أي: يتخذون أنداداً، أي: يجعلونهم نظراء ومشابهين لله سبحانه وتعالى.
ووجه كونهم اتخذوهم أنداداً بينه وفسره جل وعلا بقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] لها أكثر من معنى ذكرها المفسرون منها: أولاً: يحبونهم كحب المؤمنين لله، أي: كما يحب المؤمنون الله وهذا المعنى ليس بمستقيم؛ لأنه قال بعدها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] فيكون في هذا تناقض.
إذاً: هذا المعنى ضعيف.
ثانياً: أنهم يحبون آلهتهم كما يحبون الله؛ وهذا فيه دليل على أن المشركين يحبون الله تعالى، ولكنهم -أيضاً- يحبون آلهتهم كما يحبون الله تعالى.
فلذلك اتخذوا آلهتهم أنداداً يحبونهم كما يحبون الله تعالى، ولهذا أنكر عليهم ذلك وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] أي: أصدق في حبهم لله تعالى من هؤلاء المشركين، ومن المعاني الأخرى لهذه الآية:- ثالثاً: أن يكون المقصود في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] أي: كالحب الذي يُحَبُّ به الله عز وجل، أي يعطونهم الحب الذي لا ينبغي إلا لله؛ وكأنه يقول: إن المشركين اتخذوا من دون الله آلهة يحبونهم حباً شديداً؛ هو الحب الذي لا ينبغي ولا يصرف إلا لله جل وعلا.(136/11)
قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) [الإسراء:111]
ففي صدر هذه الآية ذكر الثناء على الله تعالى بالحمد، والحمد: هو الإقرار بالنعم لله عز وجل والثناء عليه بها -كما سبق في أول هذه الدروس في أكثر من موضع- فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وسائر من يتجه إليه الخطاب بأن يقول الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، فمن صفاته أنه لم يتخذ ولداً وذلك لأن الكون كله ومن فيه ملكه، وفي قبضته وأمره، فليس له منهم ولد ولا والد ولا زوجة ولا قريب من هذا الوجه؛ وإنما كلهم عبيده، والقريب منهم إليه هو من تقرب إليه بطاعته وعبادته وحبه.
فنفى سبحانه وتعالى ما ادعاه بعض المشركين أن لله ولداً، كما زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وكما زعمت النصارى أن المسيح ابن الله، وكما زعمت العرب أن الملائكة بنات الله، كما ادعوا أن لله سبحانه وتعالى زوجة من الجن تلد له الملائكة -كما في أساطير العرب والجاهلين- فنفى ذلك كله بقوله: {وَقُلِ الْحمد لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء:111] ؛ وذلك لأن الولد وإن كان بالنسبة للبشر كمال؛ إلا أنه بالنسبة للخالق نقص.
فبالنسبة للبشر: فإن من يكون له ولد أكمل عندهم من الذي يكون عقيماً لا ولد له، هذا بالنسبة للناس؛ وذلك لأن حصول الولد للإنسان، إنما هو لبقاء ذكره في الدنيا وعدم انقطاعه، ووراثته من بعده، ومساعدته على أموره إلى غير ذلك من المقاصد المنتفية في حق الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى هو الذي يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهو الغني الغنى المطلق الذي لا يحتاج معه إلى شيء سبحانه؛ بل كل شيء مفتقرٌ ومحتاج إليه.
فلهذا مجد الله نفسه بأنه لم يتخذ ولداً.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] : أيضاً نفى هنا ادعاء المشركين بأن لله شريك في الملك، إذ يدل صنيعهم في عبادتهم لغير الله تعالى؛ على أنهم يظنون أن لله تعالى شريكاً في ملكه يستحق العبادة معه، وقد نفى الله تعالى هذا في مواضع كثيرة نفى وجود شركة في ملكه -جل وعلا- على الإطلاق، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22-23] فنفى وجود الشرك له سبحانه وتعالى في الكون، أو أنهم يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
أما الملك البشري: فهو ملك مؤقت، وهو من الله تعالى وإليه، فلست خالقاً لهذا الشيء، ولا مالكه ولا متصرفاً به على الحقيقة؛ حتى جسدك إنما المتصرف فيه حقيقةً هو الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] : أي ليس لله تعالى ولي يتعزز به من ذل؛ لأنه هو العزيز الذي من أراد العزة؛ التجأ إليه ولاذ به فعز، ومن تخلى عنه ذل، ولو كانت مقاليد الدنيا كلها بيده.
فليس لله تعالى ولي من الذل له ولي؛ ولكن ليس من الذل، أي: ليست ولايته جل وعلا لمن والاه؛ يتعزز به من ذل، أو يتقوى به من ضعف، أو يتكثر به من قلة.
كيف والخلق كلهم طوع أمره! كيف وهو إذا أراد شيئاً قال له: "كن فيكون" فليس له ولي من الذل يتقوى به ويتعزز به من ذل، إنما له ولي برحمته لعباده؛ حيث يوالي منهم من يستحق الولاية، كما قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] وقال سبحانه: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} تبعاً لقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فقال صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} والولاية في أصل اللغة العربية، تعني: القرب تقول: فلان ولي فلان، يعني: قريبه الذي يليه، ومنه ابن العم يسمي ولي، وهكذا الزوج، والسيد، والقريب والجار ومنه: المطر، إذا نزل المطر مرة تلو الأخرى متتابعاً يسمى "الولي" يقال: قطر الولي، أي: المطر المتتابع الذي ينزل ثم ينزل بعد ذلك مباشرة ولا يبطئ، فهذا يسمى ولياً؛ لأن بعضه يلي بعض، أي: يأتي بعده مباشرة.
والله عز وجل من أسمائه "الولي" وهو ولي للمؤمنين، ولي لهم، أي: أن المؤمنين في حفظ الله تعالى، فهو يحفظهم ويرعاهم ويكلؤهم، ويعينهم، ويعاقب من أراد بهم سوءاً أو شراً من عدوهم -عاجلاً أم آجلاً- ويحقق لهم سؤالهم وفي الآخرة أيضاً يكون الله سبحانه وتعالى وليهم بكل خير؛ فيخفف عنهم الحساب، ويجعلهم في الجنة، ويغدق عليهم النعم، فهذا كله من ولايته سبحانه لعباده المؤمنين.
وكذلك العبد المؤمن: هو ولي لله سبحانه كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] وأولياء الله عز وجل: هم المتقربون إليه بعبادته وطاعته، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي في صحيح البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: عبداً ولياً مخلصاً تعاديه وتحاربه، فمعناه: أن الله سبحانه وتعالى أعلن عليك الحرب أيضاً.
ولك أن تتصور حال عبد مخلوق محتاج إلى الله تعالى في كل نفس وفي كل حركة، وفي كل مكان، وفي كل نبضة قلب، وفي كل دفقه دم؛ ومع ذلك يعلن ربنا عليه الحرب، كيف يكون حال هذا الإنسان والعياذ بالله لا تسأل عن حاله: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: أعلنت عليه الحرب، لو علم أحدنا أن مسئولاً قد أبغضه، أو كرهه، أو حاربه؛ لربما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ويقول: أين أفر؟ فكيف إذا علم أن دولة من الدول تحاربه! فكيف إذا علم أن الله جل وعلا يحاربه؟! ولهذا الإنسان يحذر ويباعد -دائماً وأبداً- أن يعادي أهل الخير، أو يبغضهم أو يسيء إليهم أو يضرهم بشيء قل أو كثر، لماذا؟ لأنك لا تدرى! فيمكن أن يكون هذا ولياً وأنت لا تدري! لأن الولاية لا يوجد لها لافتة مكتوبة على جبين الإنسان قد يكون الإنسان مقصراً في أعماله الصالحة؛ ومع ذلك فهو في حقيقته ولي لله سبحانه وتعالى، وقد يكون الإنسان زاهداً عابداً، ولكنه ليس بولي؛ لأن قلبه فيه مرض، أو لأنه مُدِلٌّ بعمله معجب بطاعته فالولاية سر، فلا أحد يعلم أن هذا ولي لله أو ليس بولي كذلك، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى الولاية؛ فهو كاذب.
فلو أن واحداً قال: أنا ولي، نقول له: أنت كاذب، لو كنت ولياً لما ادعيت هذا الأمر! لكن الولاية:- سر يعلمها الله سبحانه وتعالى، فكل مؤمن تَجَنَّبْ أن تعاديه أو تؤذيه بشيء -حتى لو كان شكلياً- خشية أن يعلن الله تعالى الحرب عليك، وقد جاء في حديث ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وأظنه في الطبراني: يقول الله سبحانه وتعالى: {إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب} إني لأثأر أي: أغضب وأنتصر وأنتقم لأوليائي، كما يثأر الليث الحرب، أي: كالأسد الجسور الذي ثار وغضب؛ فزمجر وهجم على عدوه، وهذا الحديث ولو لم يصح، فإن معناه صحيح من حيث: أن الله تعالى يغضب لأوليائه ويثأر لهم من عدوهم.
إذاً: فإن الله تعالى ولي للمؤمنين في الحفظ والنصر والتوفيق والتسديد والدفع، والمؤمنون الصادقون أولياء لله تعالى على الحقيقة لا على الادعاء، وإنما المنفي في الآية هو: الولي من الذل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] لكن له وليٌ يعبده ويدعوه، والله سبحانه تعالى يحفظه وينصره.
وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] : التكبير: هو تعظيم الله تعالى بالقول والقلب والفعل.
فأما التعظيم بالقلب: فأن يكون الله تعالى في قلبك أكبر من كل كبير، فتعظم الله تعالى وإذا ذكرت الله تعالى؛ اطمأن قلبك، فتحبه وتغضب لانتهاك حرماته.
وأما التكبير باللسان: فهو أن تقول: (الله أكبر) .
وأما التكبير بالفعل: فهي العبادات التي يكون فيها التعظيم لله عز وجل؛ كالسجود -مثلاً- والركوع.
فإن هذه الأشياء فيها معنى التكبير والتعظيم لله عز وجل {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] .(136/12)
إثبات استواء الله على عرشه
هذا السياق خصصه المصنف -رحمه الله تعالى- لسرد الآيات المتعلقة بالاستواء، وأشار إلى أن الله تعالى أثبت الاستواء في كتابه في سبعة مواضع، والمقصود بهذه المواضع السبعة: هي المواضع التي فيها ذكر استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، فيكون الاستواء فيها معدى بحرف الجر (على) أما لفظ (استوى) مطلقاً؛ فهو مذكور في القرآن الكريم في مواضع كثيرة؛ لكنه يذكر على أوجه مختلفة فهو أحياناً يذكر معدىً بحرف الجر (إلى) كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] وكما في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فيأتي تارة معدى بـ (إلى) ، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله من المفسرين وغيرهم: أن الاستواء إذا كان معدى بـ (إلى) ؛ فإنه يحمل بمعنى قصد، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] بمعنى: قصد إلى السماء بإرادة تامة.
وأحياناً أخرى: يأتي الاستواء غير معدى بحرف من حروف الجر، كما في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] في مواضع كثيرة، وهذا أيضاً ليس داخلاً في المقصود، وفي أحيان ثالثه: يأتي الاستواء معدى بحرف الجر (على) ولكن ليس في حق الله سبحانه وتعالى ولكن في حق مخلوقاته، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] يعني: سفينة نوح التي نجا الله تعالى فيها نوحاً ومن معه، فإنها رست واستقرت على جبل الجودي.
وإنما المقصود بالمواضع السبعة: المواضع التي ذكر فيها استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، هذه سبعة مواضع سردها المصنف رحمه الله تعالى: الموضع الأول: في سورة الأعراف، والثاني: في سورة يونس، والثالث: في سورة طه، والرابع: في سورة الفرقان، والخامس: في سورة السجدة، والسادس: في سورة الحديد، والسابع: في سورة الرعد.(136/13)
مذهب أهل السنة في الاستواء
فهذه المواضع كلها تنص على استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، وأهل السنة والجماعة كلامهم في الاستواء هو ككلامهم في بقيه الصفات: يثبتون لله تعالى استواءً حقيقياً يليق بجلاله، فيفسرون (استوى) بمعنى من المعاني الشرعية التي لا تخرج به عن معناه الصحيح؛ كاستقر، وعلا، وصعد، وارتفع، ونحوها هذه العبارات الأربع التي نقلت عنهم في تفسير الاستواء.
وهو على كل حال استواء حقيقي يليق بالله تعالى، ولا يلزم منه ما يلزم من استواء المخلوقين على شيء من المخلوقات، بل لله تعالى المثل الأعلى، ولا يشبه أو يمثل بخلقه، ولا يلزم من استوائه على عرشه ما يلزم من استواء الإنسان -مثلاً- على الأرض أو على الكرسي أو على غيرهما من اللوازم الباطلة؛ بل نحن نثبته كما جاء في النص دون أن ندخل في تكييفه، ولا نشبهه بأحد من خلقه، ولا يلزمنا تلك اللوازم الباطلة التي أشار إليها أهل البدعة.(136/14)
مذهب أهل البدع في الاستواء والرد عليهم
وأما أهل البدع والضلال ممن أولوا حقيقة الصفات عن ظاهرها إلى معان أخرى؛ فإنهم يفسرون الاستواء بغير ذلك.
فمنهم من يفسر الاستواء "بالاستيلاء" كما يحتج بعضهم بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق ويرويها بعضهم: " قد استولى بشر " وهذا ليس بالصحيح؛ بل الصواب: " قد استوى بشر ُ على العراق ولاشك أن هذا التفسير يلزم أيضاً منه لوازم باطلة.
منها: أن الله تعالى لم يكن مالكاً للكون متصرفاً فيه، ثم استولى عليه بعد ذلك وهذا لازم باطل يلزمهم لا مفر لهم منه، ومثلهم أو قريب منهم: من يفسرون الاستواء بالهيمنة والغلبة والسيطرة أو نحو ذلك من العبارات التي يرددونها، ويفسرون بها معنى (الاستواء) وذلك هروباً منهم -بزعمهم- من إثبات صفة لله يرون أن في إثباتها تشبيه له بخلقه، أو أنه يلزم فيها حلول الحوادث فيه جل وعلا، أو يلزم منها مماسة، أو يلزم منها شيء من ذلك وهذا كله ليس بلازم.
بل نحن نقول: إن المسلك الأسلم في الأسماء والصفات هو أن تثبت كما جاءت في نصوص الكتاب والسنة دون أن ندخل في تكييفها؛ وما دمنا لم ندخل في تكييفها، فإننا لسنا بملزمين بشيء من تلك اللوازم التي يزعمون ويدعون.
بل نقول: الله تعالى أعلم بنفسه من خلقه، وما دام أخبرنا بذلك؛ فنحن نقرؤه ونثبته، كما دل عليه ظاهر النص، دون أن ندخل في تكييفه، ولا أن نشغل عقولنا ولا قلوبنا بالبحث عن معانٍ أخرى له، غير ظاهرة، وكذلك لا نعتقد بأنه يلزم من إثباته؛ إثبات تشبيه الله تعالى أو تمثيل له بخلقه.(136/15)
ذكر آيات الاستواء في القرآن(136/16)
قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]
وهذه كالآيات كالتي قبلها في إثبات استواء الله تعالى على عرشه، وأنه مع استوائه جل وعلا على هذا العرش؛ فإنه له ملك كل شيء، وهو العليم بكل شيء، كما قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:6-8] فمجد الله عز وجل نفسه بهذا التمجيد العظيم، وبين إحاطة علمه بكل شيء، وأنه مع استوائه على عرشه؛ فإنه قريب من خلقه، محيط بهم، عالم بأسرارهم وخفاياهم.(136/17)
قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ) [الفرقان:59]
وهذه أيضاً كما في آية سورة طه؛ فإن فيها بعد إثبات استواء الله على العرش، وذكر اسمه الرحمن؛ خبرته وعلمه الشامل بكل شيء، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] فهو تعالى مستو على عرشه، ومع ذلك فهو قريب من خلقه خبير بأحوالهم؛ ولهذا يكثر أن يقرن الله سبحانه وتعالى ذكر العلو والاستواء بذكر العلم والإحاطة؛ إشارة إلى أن الله تعالى قريب من خلقه، قريب منهم بعلمه وإحاطته ورحمته ونصره؛ لمن يستحق الرحمة والنصر والتأييد من المؤمنين فلا تعارض بين هذا وذاك.(136/18)
قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [السجدة:4]
هذا الموضع في سورة السجدة، وسماها (آلم.
تنزيل) بالنظر إلى أولها؛ وسماها سورة السجدة، لأن فيها آية السجدة والسجدة موجودة في أكثر من أربعة عشر موضعاً من القرآن الكريم أو تزيد، وكذلك (آلم) هي بداية لعدد من سور القرآن الكريم فجمع بينهما تمييزاً فإذا قيل: (آلم.
تنزيل) عرفت بها هذه السورة، وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤها في أول ركعة من الفجر يوم الجمعة، ويقرأ في الركعة الثانية بـ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الإنسان:1] .
وقد ذكر أهل العلم من أسرار اختيار هذه السورة بالقراءة في يوم الجمعة؛ ما اشتملت عليه من خلق السماوات والأرض، واستواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، وخلق الإنسان ونشأته وأطواره ومراحله وبدايته ونهايته، فضلاً عما فيها من العبر وأخبار بعض الأمم السابقة إلى غير ذلك، ومثلها سورة الإنسان، فإنها مشتملة أيضاً على خلق الإنسان بدءاً وانتهاءً، وما يكون عليه الناس في الدار الآخرة حينما يصل أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
ومن ضمن ما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة " آلم تنزيل " (السجدة) ذكر خلق الله تعالى للسماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم ذكر استواؤه على العرش؛ ومع ذلك فإنه مع علوه وأنه مستوٍ على عرشه، فوق سماواته بائن من خلقه كما يقول أهل العلم؛ مع ذلك فإنه قريب منهم، عالم بأحوالهم وتقلباتهم، سميع لدعائهم {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:4-5] فهو مع استوائه وعلوه؛ قريب من خلقه؛ سامع لدعائهم؛ رحيم بهم؛ مطلع على أحوالهم.
ولهذا يقول بعض أهل العلم هو: (قريب في علوه عالٍ في دنوه) أي: أنه لا تعارض بين علوه -جل وعلا- فوق سماواته واستوائه على عرشه، وبين قربه من خلقه بعلمه وإحاطته وخبرته بهم ورحمته وإحسانه وعطفه وجوده للمؤمنين منهم، فلا تعارض بين هذا وذاك ولهذا قال عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] و {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] وقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69] إلى غير ذلك من المواضع التي فيها إثبات المعية؛ معيته بعلمه وبإحاطته وبرحمته ونصره وتأييده للمؤمنين.
وقال سبحانه في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] وهذا كالمواضع السابقة سواء؛ ففي هذه المواضع السبعة كلها ذكر (الاستواء) معدات بحرف "على" ومسبوقاً بلفظ "ثم" الذي يدل على الترتيب الزمني المتراخي، وهذا كله حق كما أخبر الله تعالى عنه.(136/19)
معنى الاستواء المذكور في سورتي البقرة والدخان
وأما الموضعان اللذان أشرت إليهما وهما قوله تعالى في سوره البقرة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] والموضع الثاني: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فالظاهر -والله تعالى أعلم- أن المقصود في الاستواء في هذين الموضعين غير الاستواء المذكور في المواضع السبعة التي سردها المصنف؛ بل يكون المعنى: استوى أي: قصد، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره من المفسرين السلف رضي الله عنهم.
ومنهم من ساق هذه المواضع على أنها داخلة في مواضع الاستواء على العرش؛ لكن صنيع المؤلف رحمه الله في هذا الموضع وغيره يدل على الأول، وأن المقصود بالاستواء المعدّى بـ (إلى) : هو القصد بإرادة تامة، وهو غير الاستواء على العرش المذكور في هذه المواضع السبعة.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(136/20)
آية الرعد
الموضع الثالث: من المواضع التي ذكر الله تعالى فيها (الاستواء) في كتابه قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] وقد ذكر في أول الآية: رفع الله عز وجل السماوات بغير عمد ترونها، وفي تفسير ذلك قولان، الأول: أن الله تعالى رفع السماوات بغير عمد أي: أنها ليس لهما عمد؛ بل رفعهما بقدرته، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] .
والمعنى الثاني: أن المقصود بغير عمد مرئية، وعلى هذا يكون وجود عمد لا ترى أمراً وارداً، فكأن المعنى يختلف، فإذا قيل: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] أي: خلق السماوات ترونها بغير عمد، فيكون في ذلك استئناف "خلق السماوات ترونها بغير عمد" أو يكون المعنى خلق السماوات بغير عمد ترونها بغير عمد مرئية لكم، فيحتمل أن يكون المعنى وجود عمد لا ترى.
وعلى كل حال فالإعجاز في الخلق ظاهر في الحالين، فهذه السماء العظيمة إن كان خلقها واستقرارها وثباتها وبقاؤها بغير عمد؛ فهو معجزة للخلق دال على الخالق، ولذلك أمر الله تعالى بالنظر فيها فقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] وقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4] وإن كان ثَمَّ عمد موجودة وإنها لا ترى؛ فهذه -أيضاً- معجزة أخرى تدل على عظمة الخالق وبديع صنعه، وكلا الأمرين له ما يؤيده.(136/21)
الاستواء والمكانية
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] فذكر الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرض، والكلام في الاستواء هو كما سبق من إثباته إثباتاً حقيقياً كما يليق بجلاله عز وجل، ولا يلزم منه ما يلزم من استواء المخلوقات بعضها على بعض؛ من الحصر أو المماسة أو غير ذلك.
وأما زعم بعضهم: من أنه يلزم من إثبات الاستواء؛ القول بأن الله تعالى في مكان، ويقول بعضهم: كان الله ولا ما كان وهو الآن على مكان قبل خلق المكان، أي يريدون أن ينفوا أن يكون الله تعالى في مكان فيقول بعضهم كان الله ولا مكان وهو الآن على ما كان قبل خلق المكان، أي: يروجون نفي المكان، فيقولون: في غير مكان، أو لا في مكان، فهو على ما كان عليه.
فنحن نقول لهم: إن المقصود بالمكان يختلف؛ فإن قصدتم المكان الوجودي المخلوق الحادث كالأمكنة الموجودة في هذه الدنيا؛ فإننا لا شك ننزه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون حالاً فيها، ولا يقول بوجود الله سبحانه وتعالى في هذه الأمكنة إلا الحلولية، وهم فئة من الصوفية الملاحدة.
وأما إن أرادوا بالمكان: المكان العدمي الذي هو خلاء محض؛ فإن هذا لا يتعلق به خلق أصلاً، ولا يمنع أن نقول: إن الله تعالى في مكان بهذا الاعتبار، باعتبار الخلاء العدمي الذي لا يتعلق به خلق أصلاً.
وأما قولهم: وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ فإننا نقول: إن الله عز وجل ذكر أنه خلق السماوات، والأرض، والعرش، ثم استوى على العرش، فنثبت له ما أثبته لنفسه، دون أن يلزم من ذلك أيُّ لازم باطل مما يدَّعونه، أو مما يلزم من استواء المخلوقات بعضها على بعض.
ولعل من حماية العقل البشري من الضياع والعبث والتشتت، وحماية عقيدة المؤمن من أن تتلاعب بها الأهواء والأقيسة المنطقية، التي لا تستقر على حال؛ أن يؤمن العبد بما أخبر الله تعالى، وبما يقرؤه في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويطمئن قلبه بذلك، دون أن يسمح للعقل -أصلاً- أن يتيه في هذه البيداء، التي لا هادي فيها ولا مرشد إلا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(136/22)
دفع تعارض حديث مسلم وآيات الخلق في ستة أيام
في صحيح مسلم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت، وذكر بقية المخلوقات إلى أن ذكر آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، فيكون المجموع سبعة أيام، فكيف نجمع بين حديث مسلم هذا وبين الآيات الكريمة التي فيها خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام؟! من أهل العلم من ضعفوا هذا الحديث بحجة معارضته لظاهر القرآن الكريم، وقد نقل هذا عن جماعة من العلماء المتقدمين نذكر منهم البخاري والبيهقي وغيرهما، ومنهم من صحح الحديث وحمله على محمل آخر غير المحمل الذي تحمل عليه الآيات، وهذا المسلك أحسن؛ لأن الحديث ظاهره الصحة والسلامة وقد صححه جماعة كبيرة من العلماء وأخرجه مسلم في صحيحه والمحامل التي حمل عليها الحديث كثيرة.
لعل من أحسنها ما أشار إليه الذهبي رحمه الله! في كتابه العلو للعلي الغفار، واختاره جماعة من المحققين: أن الأيام السبعة التي ذكرها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي غير الأيام الستة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فإن الله تعالى ذكر السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أما الحديث فذكر تفصيل بعض المخلوقات، كالتربة -مثلاً- والتربة ليس المقصود بها الأرض فالأرض، أشمل من التربة.
أما التربة فهي: خاصة بتربة الأرض الظاهرة وقشرتها القريبة فتكون التربة هنا: غير الأرض المذكورة في الآية، وكذلك ذكر في الحديث تفصيل الجبال والشجر والماء والشر أو المكروه، فذكر تفصيل خلق أشياء؛ ومما يدل على صحة هذا المعنى أنه ذكر خلق آدم في آخر ساعة من الجمعة، يعنى: آخر يوم من الأيام السبعة.
ومن المعلوم أن خلق آدم متراخٍ جداً عن خلق السماوات والأرض وبعيداً عنه فليس خلق آدم هو بعد خلق السماوات والأرض مباشرة، كلا! بل خلق آدم عليه السلام متراخ جداً عن خلق السماوات والأرض.
ومن المعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأنه -كما جاء في روايات كثيرة- أن الجن كانوا في الأرض ففسقوا فيها وأفسدوا وسفكوا الدماء، فقال الله سبحانه وتعالى لملائكته: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] فهذا أحسن الأقوال، وقد جاءت روايات صحيحة أشار إلى شيء منها الذهبي في كتابه القيم الذي يمكن مراجعة مختصره للألباني وهو العلو للعلي الغفار وهو في مجلد لطيف.(136/23)
ميزتان لأهل السنة وعقيدتهم
ما أحسن عقيدة أهل السنة والجماعة ولو لم يكن في فضلها إلا هاتان الميزتان لكفتا: الميزة الأولى: أن فيها تعظيم النصوص وإقرارها وإمرارها كما جاءت، دون الاشتغال بتحريفها وتصريفها عن معانيها، مما يهون من شأن النص ويجعل الإنسان -ربما- يكره هذه النصوص، أو يكره أن يوردها أو يضيق صدره إذا مرت عليه؛ بل يكون في ذلك تعظيم للنصوص وحماية لجانبها؛ وهذه هي الميزة الأولى العظيمة.
الميزة الثانية: حماية العقل البشري من أن يضيع في بيداء ليس فيها هادٍ ولا دليل، بعد ما ترك النص الشرعي، فأصبح يضرب يميناً وشمالاً في تيه بعيد، ليس مأجوراً به في الآخرة ولا محموداً به في الدنيا.
فأما في الآخرة: فلن يؤجر أولئك الذين اشتغلوا بصرف النصوص عن معانيها، بل هم أولى بالإثم على ما تجرءوا عليه من النصوص.
وأما في الدنيا: فإن في ذلك إضاعة للعقل، وصرف له عن مهماته الحقيقية، التي تتمثل في: فهمه للكتاب والسنة فهماً ظاهراً بعيداً عن التكلف، ومعرفة ماذا أراد الله تعالى منا، وما يجب أن نعمله، والبحث عن السبل لإعزاز هذا الدين؛ بتقوية جانبه وشد ركنه وقتال أعدائه وما أشبه ذلك من المجالات التي تأخر المسلمون فيها كثيراً؛ بسبب إغراقهم في البحث في الإلهيات بطريقة لم تبق للنصوص حرمة وتعظيماً، ولا توصل القلوب ولا العقول إلى هداية صحيحة، فأسلم طريقة يهتدي إليها المهتدون؛ هي قراءة القرآن كما أنزله الله تعالى، والسنة كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإمرارهما وإقرارهما والإيمان بهما على ظاهريهما، دون الدخول في تأويل أو تعطيل أو صرف لهما عن معانيهما.(136/24)
قوله تعالى في سورتي الأعراف ويونس: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف:54]
هذا الموضعان في سورة الأعراف وفي سورة يونس: آيتان متشابهتان من حيث اللفظ، فهما تثبتان خلق الله تعالى للسماوات والأرض في ستة أيام ثم استوائه على العرش {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] .
وخلقه عز وجل السماوات والأرض في ستة أيام، الكلام فيه ليس هذا موضعه؛ لكن فيه إثبات خلقهما وما بينهما أيضاً -كما جاء في الآيات الأخرى-: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] ففيه إثبات خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والمقصود بقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} [الفرقان:59]-والله تعالى أعلم-: الأجرام التي تكون بين السماء والأرض وهي كثيرة.
ومثل ذلك هذا الهواء الذي يكون بينهما، فإن الله تعالى خلق ذلك كله والسماوات والأرض في ستة أيام، وجاء تفصيل هذا الخلق في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9] فذكر أن الأرض خلقت في يومين إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:11-12] فذكر تفصيل خلق السماوات والأرض وخلق ما بينهما في ستة أيام، وهذه الأيام مما يعلمه الله سبحانه وتعالى فقد يجوز أن تكون بقدر أيامنا المعهودة، أي: في ستة أيام بقدر أيامكم المعهودة ويجوز أن يكون الأمر غير ذلك، وأن تكون أياماً يعلمها الله سبحانه وتعالى؛ خاصة ونحن نعلم: أنه عند خلق السماوات والأرض لم يكن هناك ليل ونهار وشمس، بحيث يتميز هذا من ذاك؛ وإنما خلق الله الليل والنهار بعد ذلك، ثم استوى على العرش.
والظاهر من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] يدل على أن " ثم " هاهنا للترتيب الزماني؛ ولذلك تكررت في المواضع السبع كلها {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وقد سبق في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: {كان الله ولا شيء معه} .
فلا شك أن الله تعالى خلق العرش بعد أن لم يكن، ثم استوى عليه، فالعرش مخلوق لله عز وجل، خلقه الله تعالى ثم استوى عليه -كما ذكر هاهنا أو في بقيه المواضع السبعة.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وكل ما يخطر ببال العبد من صفه الاستواء أو من كيفيه الاستواء، فإنه يدفعه: بعلم أنه لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه، وكذلك لا يعلم كيفية صفاته إلا هو (وكل ما خطر ببالك، فالله ليس كذلك) -كما قال بعض أهل العلم- فكلما قفزت إلى ذهن الإنسان صورة كيفية للاستواء أو لغيره من الصفات؛ تذكَّر أن هذه الصورة صورة مخلوقة محدثة، وأن الله ليس كذلك؛ فيندفع عنه وينقطع عنه الوسواس والشبهات والخواطر، التي قد تخطر في قلبه أو تمر في ذهنه.(136/25)
سلطان الأندلس
تحتوي هذه المادة على بيان ما كانت عليه الأندلس يوم أن أنجبت علماء أجلاء أمثال سلطان الأندلس المنذر بن سعيد البلوطي ذلك العالم الجليل الذي له مواقف مشهورة مع حاكم الأندلس في أيامه وهو عبد الرحمن الناصر.(137/1)
الأندلس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام هذا يوم السبت الثامن والعشرون من شهر جمادي الأولى لعام 1412هـ، وهذا هو الدرس الثالث والثلاثون من الدروس العلمية العامة.
إخوتي الكرام وقد سبق إليكم الإعلان أن هذا الدرس هو عن " سلطان الأندلس ويتساءلون من هو سلطان الأندلس؟(137/2)
مكانة الأندلس
إن بلاد الأندلس كانت من خير بلاد الإسلام يوماً من الدهر، وأنجبت جحافلاً من العلماء الذين كانوا شموساً وبدوراً وأقماراً في أوقاتهم, وكل امرئ منهم كان سلطاناً للعلماء في وقته, بل إن بلاد الإسلام كلها وتاريخ الإسلام كله حافل بأولئك الرجال الأفذاذ الذين كانوا يقولون بالحق وبه يعدلون, وكانوا سلاطين حقاً بعلمهم وفقههم وشجاعتهم, وليس بسيوفهم وسياطهم وشرطهم وأعوانهم.
ولا شك أن الأمة إذا شعرت بأن واقعها مرير, فإنها دائماً تلتفت إلى ماضيها وتتطلع إلى غابرها ومن أعماق الماضي ينبثق الحاضر والمستقبل المشرق لهذه الأمة.
أيها الإخوة لقد كان من العلماء في كل عصور التاريخ أئمة أفذاذ شأنهم كما قال أحدهم: يقولون لي فيك انقباض وإنما أوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم من أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدى طمع صيرته لي سلما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما(137/3)
ابن حزم وملوك الطوائف
أيها الإخوة يظن البعض أنني أعني بسلطان الأندلس الإمام أبا محمد ابن حزم -رحمه الله- ولا شك أن ابن حزم كان من سلاطين الأندلس، ويكفيك حتى تعرف جلالة ابن حزم وفضله, وعلمه وعظيم قدره ومنزلته وشجاعته في الحق, أن تقرأ ماذا قال الإمام ابن حزم عن ملوك الطوائف الذين كانوا يحكمون الأندلس في عصره, ويوالون النصارى ويوادونهم ويقاتلون إخوانهم المؤمنين, حتى أنه -رحمه الله- في رسالته القيمة المطبوعة بعنوان "التلخيص في وجوه التخليص" بعد أن تكلم عن شأن هؤلاء الملوك قال ما نصه: (فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة, وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، لوجوه كثيرة يطول لها الخطاب, وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وساعٍ في الأرض بالفساد, للذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارّهم, وإباحتهم لجندهم قطع الطريق, ضاربون للجزية والمكوس والضرائب على رقاب المسلمين مسلطون لليهود والنصارى على قوارع طرق المسلمين, معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم) .
ويقول رحمه الله: (فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرينكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع, المزينون لأهل الشر شرهم, الناصرون لهم على فسقهم, فالمخلص لنا منها الإمساك للألسنة جملة وتفصيلاً إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذم جميعهم, والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها, فنحن نراهم يستمدون النصارى ويمكنونهم من حرم المسلمين, وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً, فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه) .
ومن جميل ما يقول -رحمه الله- لما تكلم عن السكوت وذم جميع هؤلاء قال: (فمن عجز منا عن ذلك -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم الظالمين والفاسقين والمعتدين على حدود الله عز وجل- رجوت أن تكون التقية تسعه, وما أدري كيف يكون هذا؟ مع أنه لو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غلبوا على أمرهم) .(137/4)
من هو سلطان الأندلس
على أي حال لا أعني بـ سلطان الأندلس هذا الإمام الفذ وإن كان له حديث آخر, وقد سبق ذكر شيء منه وإنما أعني بـ سلطان الأندلس إماماً آخر أشهر في القيام على السلاطين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ابن حزم , ألا وهو الإمام الفحل الفقيه العالم المنذر بن سعيد البلوطي المولود عام (265هـ) أو (273هـ) على اختلاف المصادر، والمتوفى في عام (355هـ) , قال الإمام الذهبي: فيكون عمره حينئذٍ تسعين عاماً بالتمام، هذا إذا كانت ولادته عام (265هـ) .(137/5)
مكانه ومسقط رأسه
ينسب الإمام المنذر بن سعيد إلى مكان يقال: له فحس البلوط, لكثرة هذه الأشجار فيه, وهو قريب من مدينة قرطبة المدينة الشهيرة في الأندلس.
هذا الإمام الكبير كان موجوداً في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر , وكان عبد الرحمن الناصر من خلفاء بني أمية المشهورين وكبار زعمائها حتى إنه حكم أكثر من خمسين سنة, وكان مشهوراً بالبنيان والعمران, وتشييد المباني والمعالم والآثار, حتى إن آثاره لا تزال باقية إلى اليوم, فارهة ظاهرة تقول لكل من رآها أو سمع بها: تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار إن مدينة الزهراء التي بناها وعمرها وشيدها وأسسها وأثثها, لهي من البناء الباقي إلى يوم الناس هذا, كان معنياً بهذا البناء ولكن ذهب الباني وبقي البناء.
ومن طريف ما يروى عن عبد الرحمن الناصر وهو قد حكم خمسين سنة وستة أشهر, يروى أنه وجد بخط يده مكتوب أن الأيام التي صفت لهذا الخليفة من دون تكدير هي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا, ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا , فحسبت فوجدت أربعة عشر يوماً, فسبحان المتفرد بالبقاء, سبحان الذي لا يموت سبحان الملك القدوس، سبحان الذي فضح هذه الدنيا, فلم يبق فيها لذي عقل ولا لذي لب أرباًَ ولا شأنا, ملك فخم كبير يحكم خمسين سنة وتدين له الرقاب حسبت أيام سعادته التي سلمت من التنغيص فلم يوجد له إلا أربعة عشر يوماً طيلة عمره, وربما لو حسبت أيام فقير من الفقراء الذين عبدوا الله تعالى وتضرعوا إليه، ورضوا وقنعوا باليسير، وأخلصوا فيما بينهم وبين الله عز وجل وعمروا قلوبهم بحبه لوجدت أيامهم ولياليهم كلها سعادة وهناءة وسروراً وأنساً, فسبحان من خلق وفرق.
من المعالم الباقية لـ عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء -كما أشرت إليها- وقد تغنى بها الشعراء وتكلموا عنها, وبعد وفاته وسقوط الأندلس في أيدي النصارى أصبح المسلمون يتذكرونها بعدما صارت أثراً بعد عين, يقول أحدهم: أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تحداه ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه بالله سل خلف بحر الصين عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهو وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه؟ لعل الصخر ينعاه هذه معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه(137/6)
بداية اتصال سلطان الأندلس بالخليفة
أيها الإخوة كانت بداية اتصال سلطان الأندلس المنذر بن سعيد بالخليفة عبد الرحمن الناصر، أنه جاءه رسول من ملك الروم, فنزل عنده فجمع عبد الرحمن الناصر شرطه وأعوانه ورجاله وخدمه وحشمه, واستقبلوا هذا الرسول من ملك الروم, وكلف الأمير رجلاً أديباً مشهوراً اسمه أبو علي القالي البغدادي أن يقوم بالخطابة, فقام أبو علي هذا وصعد المنبر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله, ثم نظر في هذا الجمع الذي لا يدرك طرفه, ولا يلحق شأوه فانقطع, ولم تملكه رجلاه، ولم يستطع أن يتكلم بكلمة واحدة, فسكت مبهوراً مبهوتاً بعض الوقت, فلما رأى المنذر بن سعيد هذا الموقف، ورأى الخطيب قد أعيى وارتج عليه, قام سريعاً وصعد المنبر دونه بدرجة، ثم ارتجل خطبة من ساعته لم يكن قد أعدها من قبل, فتكلم بها بأبين كلام وأفصح عبارة وأجمل حديث, مسترسلا مترسلاً كأنه سيل يتحدر ما وقف ولا تنحنح ولا سعل ولا تلبث ولا تريث، وهو يخرج من موضوع إلى موضوع آخر, ويتكلم بكلام جزل فصيح، وبعبارة رصينة وبسجع قوي، حتى كأنه أعد هذه الخطبة أتم إعداد, وحفظها ثم جاء ليلقيها.
حتى انتهى والناس كلهم مبهورون, فقال الخليفة لولده: أهذا المنذر بن سعيد؟ قال: بلى هذا هو يا أبي, قال: والله إن صنيعه هذا ليستحق أن يثاب عليه، فذكرني بحاله فإنه لا ينقطع عن مَحْمَد, والله إن كان قد أعد هذه الخطبة وتوقع أن يحصل مثل هذا الموقف إنه لذكي, وإن كان قد ارتجل هذه الخطبة من ساعته إن ذلك لأشد عجباً, ومن ذلك الوقت والخليفة معجب به، فولاه الصلاة في المسجد وولاه الخطبة، ولما توفي قاضي الجماعة بقرطبة جعله قاضياً بدلاً عنه فأصبح كبير القضاة بقرطبة، وأصبح خطيباً بجامعها الكبير وإمام جامعها الذي فيه الخليفة نفسه.
كانت هذه بداية اتصاله بالخليفة, وظل معه إلى أن توفي.(137/7)
الخصائص والصفات التي امتاز بها سلطان الأندلس
له مواقف سوف أتحدث عن شيء منها وهي تثير العجب، وقبل أن أسترسل في ذكر مواقفه, أشير إلى بعض الصفات والخصائص التي ميزه الله تبارك وتعالى بها.(137/8)
شجاعته في الحق
من أهم وأعظم خصائصه وخصاله أنه كان صلباً في الحق, شجاعاً لا يهاب ولا يخاف في الله تعالى لومة لائم, وكان مهيباً تقشعر النفوس والقلوب لمرآه, ولذلك يقول عنه بعض المؤلفين: كان لا يراقب غير الله عز وجل في استخراج الحقوق ودفع المظالم ورفعها، أي: لا يأبه بسلطان ولا كبير ولا صغير, إذا علم أن هناك رجلاً مهضوماً مظلوماً سارع إلى رد المظلمة، وأخذ حقه واستخرجه بكل وسيلة سواء كان الذي ظلمه كبيراً أو صغيراً غنياً أو فقيراً مأموراً أو أميراً, لا يهاب في الله لومة لائم.
وإلى جوار ذلك كان خطيباً مفوهاً يهز أعواد المنابر، حتى إنه كان أخطب أهل زمانه, له إشراقة في البيان، وقوة في الحجة، وبسطة في العلم والجسم، وجهارة في الصوت، وثباتٍ في العقل وحسن ترسل, فكان آية من آيات الله تعالى في قوة الخطابة وفصاحة العبارة.
يقول الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- يقول: إن الإمام المنذر بن سعيد خرج يوماً من الأيام وكان قاضياً -كما ذكرت لكم- والقاضي لا يسلم من وجود أعداء ومناوئين ممن حكم عليهم أو أخذ الحق منهم، وقد يكون البعض له شأن ومكان, وكان مثله لا يكاد يخرج إلا معه حرس, أما المنذر بن سعيد فإنه كان يخرج كثيراً, فرآه رجلاً صالحاً يوماً من الأيام على دكان المسجد في آخر الليل, قد خرج لقيام الليل أو الصلاة أو نحو ذلك, فقال له: يا إمام! إنك لمغرور بنفسك وفي الناس المحكوم عليه -أي: الذي حكمت عليه- وفيهم رقيق الدين، وأنا أخشى عليك, وكيف تفعل ذلك؟ فقال المنذر بن سعيد لهذا الرجل: ويحك أنىّ لي لمثل هذه المنزلة أنىّ لي بالشهادة, إنني لأتمنى الشهادة وأتوق إليها, لكن هيهات هيهات لمثلي أن ينالها! ثم قال: إنني لا أخرج لأعرض نفسي لذلك, ولكني أخرج متوكلاً على الله تعالى, وأنا أعلم أني في ذمته, فاعلم يا هذا أن قدر الله تعالى نافذ لا محيد عنه ولا وزر دونه, وهذا يذكرنا بالقصة التي حصلت للعز بن عبد السلام وقد سبق أن ذكرتها في موضوع (سلطان العلماء) فإن كلاً من الرجلين قد طلب الشهادة وتاقت نفسه إليها, وتعرض لها في غير موضع.(137/9)
العلم
الخصلة الرابعة من خصاله: العلم, فكان بحراً لا يدرك ساحله في سعة العلم بالقرآن الكريم، وله في ذلك مصنفات مثل أحكام القرآن وغيرها, وكان كثير الاستشهاد بالآيات، كثير التلاوة لكتاب الله عز وجل, وكذلك كان فقيهاً كبيراً، وكان ينتحل مذهب داود بن علي الظاهري فكان فيه ظاهرية, ولعله أول من نقل مذهب الظاهرية إلى الأندلس, ومع ذلك كان يحكم بمذهب مالك لأنه كان هو المشاع المنتشر في الأندلس, وإلى هذا وذاك كان له اجتهادات فقهيه واختيارات وآراء في أمور كثيرة إضافة إلى علمه باللغة العربية, وهو الذي نقل كتاب العين للخليل بن أحمد إلى بلاد الأندلس بالرواية, وأوصله إليهم كما نقل كثيراً من كتب الفقه ككتاب الإشراق لـ ابن المنذر نقله إلى بلاد الأندلس , وهو كتاب في مذاهب الفقهاء.
ومن طرائف ما يروى عنه في معرفته باللغة والأدب والشعر أنه التقى برجل يقال له: أبو جعفر النحاس بمصر, فكان أبو جعفر هذا يملي على طلابه شيئا من الشعر والعلم, فأملى عليهم قول الشاعر: خليلي هل بالشام عين حزينة تبكي على نجد لعلي أعينها قد أسلمها الباكون إلى حمامة مطوقة باتت وبات قرينها تجاذبها أخرى على خيزرانة يكاد يدانيها من الأرض لينها فقال له الإمام المنذر بن سعيد يا شيخ: قولك "باتت وبات قرينها" باتت يصنعان ماذا؟ يعني ينكر عليه ليست (باتت) فقال: إذاً ما هو البيت؟ قال: "بانت وبان قرينها" بانت، يعني: أبعدت وشط بها النوى, نوت، أي: ابتعدت عن قرينها, فأعجب به الإمام أبو جعفر النحاس وأدناه حتى جعله قريباً منه, هذه بعض خصال الإمام وبعض فضائله.(137/10)
العدل
من خصال هذا الرجل -أيضاً- العدل, فإنه كان قاضياً وظل قاضياً زماناً طويلاً في عهد عبد الرحمن الناصر، ثم في عهد ولده بعد ذلك, ومع هذا كله فإنه لم يحفظ عليه قضية جور واحدة, في قضائه كله, ولا عدت عليه غفوة أو زلة, وقد استعفى من القضاء مراراً يطلب من الخليفة أن يعفيه من القضاء, فكان يرفض ذلك ويصر عليه.(137/11)
الزهد والورع والتقوى
من أعظم خصائصه وصفاته: الزهد والورع والتقوى والنسك والإقبال على العبادة, فكان يميل -رحمه الله- إلى طرق الفضائل، ويوالي أهل الخير والعبادة والتقى, ويلهج بذكر الصالحين, وكان كثير التلاوة للقرآن الكريم, كثير الاستشهاد به حتى كأن الآيات بين ناظريه, يأخذ الآية فيضعها في موضعها المناسب للاستشهاد, ويسرد الآيات المتشابهة في موقف واحد, لا يعجزه بإذن الله تعالى من ذلك شيء, وذلك لكثرة تلاوته للقرآن, ومع ذلك كان مزدرياً لنفسه محتقراً لها, خطب يوماً على المنبر فأعجبته نفسه وحسنت في عينه خطبته, فأقبل على نفسه يقول: حتى متى يا نفس أعظ ولا أتعظ؟! وأزجر ولا أزدجر! أدل الطريق على المستدلين وأبقى مقيماً مع المتحيرين, إلى متى هذا؟ إن هذا لهو الضلال المبين, {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155] ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم فرغني لما خلقتني له, ولا تشغلني بما تكفلت لي به, ولا تحرمني وأنا أسألك, ولا تعذبني وأنا أستغفرك, يا أرحم الرحمين.
يقول في بعض شعره -رحمه الله- يخاطب نفسه: كم تصابٍ وقد علاك المشيب وتعامٍ عمداً وأنت اللبيب كيف تلهو وقد أتاك نذير أن كأس الحُمَام منك قريب يا سفيهاً قد حان منه رحيل بعد ذاك الرحيل يوم عصيب إن للموت سكرة فارتقبها لا يداوي إذا أتتك طبيب كم توانٍ حتى تصير رهيناً ثم تأتيك دعوة فتجيب ليس من ساعة من الدهر إلا للمنايا بها عليك رقيب ولذلك كانت له كرامات تذكر, ومن كراماته ما ذكره الإمام أبو محمد بن حزم العالم المشهور عن الحكم بن المنذر ابن هذا الجليل, يقول عن والده: أنه خرج في الحج إلى مكة المكرمة مع رفقة من أهل الأندلس, فلما كانوا في عرض الصحراء تاهوا في الطريق ضلوا وضاعوا, ولم يكن معهم طعام ولا شراب, حتى بلغ بهم العطش مبلغه, وقربت منهم المنية, قال: فأووا إلى كهف في الجبل ينتظرون فيه الموت, فوضع المنذر بن سعيد رأسه على طرف الجبل, فوجد إلى جواره صخرة ناتئة مرتفعة, وعالجها بيده فنزعها فغار الماء فشربوا عن آخرهم، فأنقذهم الله عز وجل من الموت بسبب العطش كانت هذه من كراماته، وله كرامات مشهورة مذكورة, فإن الله عز وجل إذا علم من عبده الصدق, إذا حفظ العبد ربه حفظه الله, كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس في وصيته المشهورة: {احفظ الله يحفظك} .(137/12)
مواقف سلطان الأندلس
أما مواقفه فحدث ولا حرج, لعل الحديث عن مواقفه يطول ولعلها عجب من العجب, ولعلنا أحوج ما نكون في هذه الأيام التي ادلهمت الخطوب على المسلمين واختلط فيها الحابل بالنابل, والخطأ بالصواب, والحق بالباطل, وضل كثير من الناس عن سواء السبيل, وأصبحوا لا يعرفون بعض أصول عقائدهم، لا يعرفون مثلاً قضية الولاء والبراء, وأنها أصل من أصول عقائد أهل السنة والجماعة, ولا يعرفون قضية الفرق بين الشرع والسياسية، وبين الشرع والقانون, لعل المسلمين أحوج ما يكونون إلى تذكر مثل هذه المواقف، لعل الله أن يبعث من المسلمين من يجدد لهم مثل هذه المواقف الفذة.
يقول المنذر بن سعيد متحدثاً عن مواقفه وشجاعته: مقالي كحد السيف وسط المحافل أميز به ما بين حق وباطل بقلب ذكي قد توقد نوره كبرق مضيء عند تسكاب وابل فما زلقت رجلي ولا زل مقولي ولا طاش عقلي عند تلك الزلازل وقد حدقت حولي عيون اخالها كمثل سهام أثبتت في المقاتل يشير إلى أنه إذا صعد المنبر لا يهاب من الناس وكثرتهم ونظرهم إليه، ولا يبالي من كان يستمع إليه كبيراً أم صغيراً, له مواقف عجيبة.(137/13)
من مواقف السلطان عبد الرحمن الناصر
هناك نوع آخر من مواقف هذا الرجل لا بد من ذكرها والتعريج عليها: الأندلس -كما تعرفون- كانت أرضاً خصبة خضراء, وكانت من أحسن وأفضل وأجمل بلاد الدنيا, وفيها من الأشجار والأنهار والمياه والخيرات ما لا يوجد في غيرها, وكانت تحتاج إلى الأمطار كثيراً.
ولذلك كثيراً ما كان المسلمون يستسقون ويستمطرون المطر من الله عز وجل, فيقيمون صلاة الاستسقاء, ولذلك أمر الخليفة عبد الرحمن الناصر يوماً من الأيام الإمام المنذر بن سعيد أن يخرج ليستسقي بالناس في يوم من الأيام, فخرج المنذر بن سعيد واستسقى فمطروا ونزل المطر, ما خرجوا من المسجد أو من مكان الصلاة وذهبوا إلى بيوتهم إلا ونزل غيث عظيم, بسبب أن هذا الرجل كان صادقاً مع الله عز وجل, مخلصاً للخاصة والعامة فاستجاب الله تعالى دعاءه.
مرة أخرى تكررت العملية وأصبح عبد الرحمن الناصر كلما طرأ عليه, قال: اذهبوا إلى المنذر بن سعيد يستسقي قال المنذر بن سعيد للرسول الذي جاءه: ماذا يصنع الخليفة الآن؟ أي أن الخليفة يطلب منا الاستسقاء, فماذا يصنع هو الآن؟ قال الرسول للمنذر: إن الخليفة الآن قد لبس أخشن الثياب وافترش التراب, وأخذ التراب فوضعه على رأسه ووجهه ولحيته وبكى بين يدي الله عز وجل, واعترف بذنوبه وإني سمعته بأذني يقول: يا رب! هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب عبادك يسبني! يا رب إني لا أعجزك ولا أفوتك, فارحم عبادك وبهائمك وبلادك, فلما رأى المنذر بن سعيد الخليفة فعلاً قد غير وأصلح وتاب وأقبل على الله عز وجل وأناب وصدق مع ربه عز وجل, قال: يا غلام! احمل الممطرة الشمسية التي تقي من المطر ومن الشمس فقد أذن الله عز وجل بسقيانا, إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء, وخرج واستسقى, فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم يرمقونه وينظرونه غلبهم البكاء، فقال: سلام عليكم, ثم وقف شبه الحبيس محصوراً كأنه لا يستطيع أن يتكلم, مع أن هذا لم يكن عادته, ثم بكى ثم استرسل يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54] ثم ظل يكررها حتى ضج الناس بالبكاء والتوبة ثم تمم الخطبة فسقي الناس وهم في مجلسهم ذاك.
ومرة ثالثة: خرج يستسقي فلما وقف قال للناس: أستغفر الله، توسلوا بالأعمال الصالحة لديه, وأتم الخطبة فَسُقُوا.
مرة رابعة: استسقى فقام يهتف بالناس وهو على المنبر وهو ينظر إليهم يمنة ويسره ويشير بأصبعه ويده إليهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] , فما زال يرددها حتى بكى الناس كلهم, فلما هيج الخلق على البكاء بدأ يدعو بهم فأمطروا.
ومن طريف ما يذكر أنه بعد أن مات -رحمه الله- جاء بعده رجل ليستسقي فخرج للمنبر ودعا وذهب الناس إلى بيوتهم وانتظروا المطر فما نزل المطر, ثم خرجوا في الأسبوع الثاني فهم الناس بهذا الرجل ليضربوه، فصار لا يخرج إلا بالشرط والأعوان يحمونه من الناس.
والواقع أن القضية ليست قضية رجل فقط, القضية قضية الأمة حاكمها ومحكومها, عالمها وعامّيها, فإن الله عز وجل يسقي عباده ويستجيب دعاءهم, إذا علم منهم الإقبال عليه والصدق, والخروج من المعاصي والمظالم, والاعتداء على حقوقه وحرماته, وعلم منهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أما إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلموا وجاروا واستبدوا وبغوا وطغوا، فإنه لو أغاثهم الله عز وجل لكان الغيث فتنة لهم, لأنهم يصرون على ما هم عليه, ويقولون: لولا أن الله رضي علينا لما أغاثنا, فيكون هناك ابتلاء وفتنة لهم, فبرحمته عز وجل يمنع عنهم ذلك حتى يعودوا، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] وقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] .(137/14)
ما يستفاد من هذه المواقف
في هذين الموقفين عدة وقفات: أولاً: تغيير المنكر سراً وعلانية: حال العلماء, وأن علماء هذه الأمة كان منهم عبر العصور كلها, من يتعمد الخليفة إذا وقع في المنكر علانية, فكان ينكر عليه علانية, فمن أسر في المنكر أسررنا له في الإنكار, ومن أعلن أعلنا له, وليس صحيحاً أن يعلن المنكر ويشاع ويذاع ويتسامع به الناس قاصيهم ودانيهم, ثم يطلب من الإنسان ألَّا ينكر إلا خفية وإلا سراً, بل كان العلماء يتعمدون أن المنكر إذا كان مشهوراً معلناً معروفاً للناس فإنه لا بد أن ينكر علانية, أرأيت منكراً يذاع مثلاً في إذاعة أو في جريدة أو في شاشة ويسمعه مئات الألوف بل ملايين, كيف يمنع عالم أو داعية أن ينكره؟ وقد يكون الذين يستمعون إلى هذا العالم أو الداعية بالنسبة لمن رأوا المنكر قليلاً من كثير وغيضاً من فيض.
فكان العلماء يتعمدون المنكرات المذكورة المشهورة المعلنة, فينكرونها علناً لئلا تغتر الأمة, لأن الأمة لو رأت المنكر يقع والعالم يسكت ظنت أنه مباح, وطالما استشهد كثير من الناس بأن شيئاً من المنكرات مباحاً أو حلالاً لأنه موجود وما أنكره أحد ولا سمعنا من انتقده.
وكم من إنسان استحل الربا أو الغناء أو التدخين أو الصور الخليعة، أو غيرها من المنكرات, بحجة أنها موجودة بلا نكير ولا أحد يقوم بتغييرها أو الحديث عن تحريمها.
ثانياً: الوقفة الثانية: ميزة العلماء عن غيرهم: إن كثيراً من العلماء وخاصة أولئك الذين جعلهم الله قوامين بالحق شهداء لله, شهداء بالقسط ناطقين بالصدق محيين لما دُرس من أمر النبوة, أولئك العلماء إنما تميزوا بأنهم تخلوا عن الدنيا وزخرفها ومناصبها, فما عادت الدنيا زهرة في عيونهم, ما بالوا بها جاءت أم ذهبت, همّ أحدهم أن يُرضي الله عز وجل ولو أسخط الناس, وأن يقول كلمة الحق ولو خسر ماله أو منصبه أو حتى حياته وليس ذلك بخسارة, فإن هذا هو عين الربح، أرأيت من فارق هذه الدنيا ثم أفضى إلى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] هل يقال عنه: إنه خسر الدنيا؟ بل هذا والله باع الفاني بالباقي, وباع الخزف بالذهب, وباع دنياً لا خير فيها ولا قرار لها بآخرة وجنة عرضها السماوات والأرض.
يقول أحدهم: أمتّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إسرار وبعت لله دنياً لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار وإنما جزعي في صبية درجو غفل عن الشر لم توقد لهم نار قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم في المكرمات فلا ظلم ولا عار واليوم سارعت في خطوي إلى كفنٍ يوماً سيلبسه برٌ وكفار بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار قد يخاف أحدهم على أولاده من أن يربَّوا على غير الإسلام أو يقادوا إلى غير الفضيلة, فيستودعهم الله عز وجل, ثم يلتفت إلى من حوله من الأقارب والأهل والجيران، فيقول لهم: وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار إن العالم الذي تحرر من الدنيا وتمرد على قيودها وأوهاقها ليس في فمه ماء، فهو يقول الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ويعجبني أن أذكر لكم في هذا المجال والمقام قصة طريفة جداً لعالم من علماء الشام, يقال له: الشيخ صالح العقاد , جاءه الباشا وهو في الجامع الأموي جالس بين طلابه ماداً رجله, وكانت في ركبته ألم, فكان إذا جلس في الحلقة مدّ رجليه, والطلاب محيطون به محدقون من حوله وكان عالماً جبلاً لا يأخذ الدنيا ولا يقبلها, فجاء هذا الأمير أمير الشام من قبل الأتراك, ودخل المسجد وكان معه شرط وأعوان وجلاوزة وخدم وحشم وهيلمان وأصوات وإزعاج ونشيج وضجيج, فلما أقبل بدأ الطلاب يتلفتون وينظرون, أما هذا العالم فظل على درسه مقبلاً على شأنه, معرضاً عن هذا السلطان القادم, وبدأ يتكلم في أمور تتعلق بالأمير والنصيحة وهو لا يلتفت ولا ينظر إليه, وهو على حاله ماداً رجله, وقف السلطان ثم وقف ثم وقف حتى ملّ! ولم يلتفت إليه هذا العالم, فبعد أن ذهب إلى القصر بعث إليه بذهب كثير, وقال لأحد خدمه وعبيده: خذ هذا فادفعه للشيخ فلان, فلما جاءه وهو في حلقته مد إليه هذا الذهب وقال: هذه صلة من الأمير, قال له: سلّم لي على الأمير, وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده, الذي ظلت رجله ممدودة وأنت واقف عنده هذا لا يمد يده يستجليك ويأخذ منك, لأنه أكبر من أن يأخذ شيئاً من الدنيا, ولذلك ليس في فمه ماء, إذا رأى الخطأ قال هنا خطأ ولا يبالي, لأنه لن يخسر شيئاً.(137/15)
مواقف السلاطين من العلماء
العبرة الثالثة هي مواقف السلاطين من العلماء, إن المناصب الدينية على سبيل المثال كالقضاء مثلاً, والخطابة والإمامة وغيرها, كانت طيلة عهود التاريخ مناصب شرعية, ولم يكن الحاكم أو الخليفة يتجرأ أن يبعد إماماً أو خطيباً أو قاضياً أو عالماً بسبب مواقفه وجرأته في الحق, بل بالعكس من ذلك يؤيده ويسدده ويوفقه على ذلك, ولهذا ترون أن عبد الرحمن الناصر قد عاتب ولده الحكم لما طلب منه أن يبعد المنذر عن خطابة الجامع, عاتبه على ذلك وقال: أمثل المنذر لا أم لك يبعد لإرضاء ناكبة عن الحق, هذا ما لا يكون أبداً.
فكانوا يعتقدون أن العالم هو من أولي الأمر، كما قال الله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ليست هذه الأشياء منه يمن بها عليه, ومنحة يعطاها فإذا لم يرض عليه سحبت منه! كلا أبداً, العالم هو قوام الأمة، وهو زينة الحياة، وهو السفير بين الحاكم وبين الناس, فإن الناس أطاعوا الحاكم بطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم, والعالم كان هو السفير بين الحاكم وبين رعيته, يأمر الناس بالطاعة وينهاهم عن المعصية, ويأمرهم بالاعتدال, ويحثهم على التعقل وإدراك الأمور حق إدراكها, ومعرفة الطريق السليم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي مقابل ذلك يحتسب على السلاطين فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, ويبين لهم كلمة الحق، ويأمرهم بأن يعطوا الناس حقوقهم وأن يبتعدوا عن الظلم, والاستبداد وأخذ حقوق الناس والطغيان, وغير ذلك من المعاصي التي قد توجد في الراعي أو الرعية.
فالعالم هو القسطاس الذي وضعه الله تعالى حافظاً لهذا الميزان, فليس العالم مجرد أداة في يد عبد الرحمن الناصر أو غيره, بل كان مستقلاً له ثقله ومكانته ووزنه، ولم يكن لـ عبد الرحمن الناصر أو غيره أن يتجرأ بأن يزيل هذا العالم لسبب أو لآخر, كل ما يملك هو: والله لا أصلي بعده أبداً, هذا أقصى ما يستطيعه, أما أكثر من هذا فلا يمكن, مجرد أن يترك الصلاة وراءه.(137/16)
موقفه مع الخليفة عبد الرحمن الناصر من أجل بناء الزهراء
أول هذه المواقف ذكره في تاريخ قضاة الأندلس وغيره, ذكر عن عبد الرحمن الناصر الخليفة أنه كان -كما أشرت- مهتماً بالعمارة وإقامة المعالم وتشييد الدور وتخليد الآثار, من ذلك أنه بنى مدينة الزهراء واستفرغ وسعه في تنميقها وتعميرها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها, وتشييد مبانيها بشيء عظيم, حتى إنه ترتب على هذا العمل أن عبد الرحمن تأخر عن صلاة الجمعة ثلاث جمع -أي ثلاثة أسابيع متواليات- لا يصلي الجمعة مع المنذر بن سعيد مشغولاً ببنائها وعمارتها, فصلى معه بعد ذلك، فأراد القاضي أن يعظه ويغض من غروره وكبريائه, فتناوله في أحد الجمع بالموعظة من المنبر، وقرأ أمامه في بدأ الخطبة قول الله عز وجل يخاطب هذا الحاكم وهذا السلطان: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:128-138] وقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77] وقوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] .
ومضى بلهجته المعتادة وشجاعته وقوته في ذم الدنيا وذم تشييد البناء والاستغراق في الزخرف والإسراف فيه، وتلا قول الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:109-110] وأتى بما يشاكل هذا المعنى ويقاربه ويوافقه من التخويف بالموت، وأن الموت قد يفاجئك بكرة أو عشية, وذكر بالدنيا وسرعة زوالها والزهد فيها والرغبة في الآخرة والإخلاد إليها, والطمع فيما عند الله عز وجل، وأسهب في ذلك وأضاف ما حضره من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار عن السلف والأقوال عن الحكماء والشعراء وغيرهم، حتى إن الناس بلغ بهم التأثر مبلغاً وضجوا وبكوا ونشجوا ودعوا وارتفع الصياح في المسجد, وكان للخليفة من ذلك قدر كبير, فإنه أقبل على نفسه وأجهش بالبكاء، وبدأ يمسح دموعه ويتضرع ويبتهل إلى الله عز وجل, ثم انتهت الصلاة فخرج الخليفة، فوجد في نفسه على المنذر بن سعيد بعدما تأثر بخطبته إلا أنه وجد عليه شيئاًَ، أنه قد قسى وأغلظ له القول, وبالغ في تقريعه, فشكا الخليفة هذا لولده, -الخليفة كان له ولد اسمه الحكم تولى بعده- فشكا الخليفة لولده ما لقيه من المنذر وقال: والله لقد تعمدني بالكلام، ووالله ما عنى بهذا الكلام غيري, وقد أسرف عليّ, وأفرط في تقريعي وذمي وتوبيخي، وما وفق إلى الطريقة المناسبة في نصحي وإرشادي وتوجيهي, فماذا صنع الخليفة؟ الخليفة أمام عالم قد تكلم عليه على رءوس المنابر وعلى رءوس الأشهاد، وأدبه ووبخه وقال كلمة الحق حرة قوية نزيهة, لا يمنعه من ذلك خوف أن يبعد عن منصبه أو يفصل عن القضاء أو يبعد عن الخطابة ولا أن يسجن أو يقتل, لأن هذه الأمور كلها بالنسبة للمسلم المؤمن التقي لا تعني شيئاً, بل بالعكس هي أمور هو يسعى إليها, كما كان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري حيث ما ذهبت فهي معي لا تفارقني! أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي وإخراجي من بلدي سياحة، فماذا يصنع بي أعدائي؟ ".
أعيتهم الحيلة ما لهم حل! كل شيء يصنعونه به فهو عز ورفع لقدره.
فلذلك لم يأبه المنذر بكل هذه المخاوف ووضعها تحت قدميه, وأقبل على الخليفة وعلى الناس ينصح مثل هذه النصيحة البليغة المؤثرة, فماذا كان موقف الخليفة؟ قال لولده هذا الكلام, ثم أقسم أن لا يصلي الجمعة خلفه, هذا عقابه, أقسم أن لا يصلي الجمعة خلف هذا الإمام, وجعل يصلي وراء خطيب آخر في قرطبة, يقال له: أحمد بن مطرف , إذا جاء وقت صلاة الجمعة ركب الخليفة وذهب أبعد من المسجد هذا, ذهب بعيداً ليصلي وراء أحمد بن مطرف , وترك الصلاة بالزهراء, فقال له ولده الحكم: يا أبتي! ما الذي يمنعك أن تعزل هذا الخطيب حتى تذهب وتصلي في المسجد القريب منك, فقال له بعدما زجره وانتهره ووبخه، وقال: أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه ونبله وتقواه يعزل؟ لا أم لك -يقول لولده: لا أم لك، يدعو عليه- وهل أعزل مثل هذا العالم الجليل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق, يقول: أنا المخطئ ليس هو, هذا لا يكون أبداً وأنا حي, وإني والله لأستحي من الله عز وجل أن يكون بيني وبينه، في الصلاة غير المنذر بن سعيد؟؟ ولكنني غضبت وحلفت, وإن وجدت سبيلاً إلى أن أكفر عن يميني وأعود لأصلي خلفه فعلته إن شاء الله وسيظل المنذر بن سعيد خطيباً وإماماً وقاضياً لنا مدة حياتنا وحياته حفظه الله وأبقاه.
هكذا كانت مواقف هؤلاء الحكام مع أولئك العلماء؛ لأنهم يعرفون أن الذي يقول كلمة الحق هو الناصح, وأن الغاش حق الغش هو الذي يداهنهم، وهو الذي يجاملهم ويزين لهم باطلهم, ويسكت على فسادهم لأنه قد رآهم على ما يسخط الله عز وجل ويكون سبباً في زوالهم ووقوعهم في قبضة عدوهم فلم يغير عليهم ولم ينكر عليهم, هذا موقف من مواقفه العجيبة.(137/17)
موقف آخر
موقف آخر له, قريب وشبيه بهذا الموقف, دخل على عبد الرحمن الناصر مرة أخرى بعد أن فرغ من بناء الزهراء أيضاً وقصورها, وبعد أن حصل له الموقف السابق، وقد قعد الناصر في قبة ضخمة كان يسمونها القبيبة؟ لأنها كانت خاصة بالخليفة, وقد جعل قراميدها من الذهب وطلاها بالذهب، وجعل على البناء البديع الذي لم يسبق إليه, وكان مع الناصر جماعة من الأعيان والوزراء والأمراء, فقال لهم: هل بلغكم أن أحداً من الملوك في التاريخ كله بنى مثل هذا؟ يقوله فقالوا: كلا والله يا أمير المؤمنين! ما سمعنا ولا رأينا ولا بلغنا أن أحداً بنى مثل هذا البناء, وإنك قد أتيت بما لم تستطعه الأوائل, وظلوا يقولون مثل هذا الكلام الذي تعود الأمراء والملوك والخلفاء أن يسمعوه ممن حوله, والقاضي مطرق لا يتكلم وقد طأطأ رأسه فاستنطقه الخليفة, قال: ما لك ساكت، تكلم ما رأيك؟ هل رأيت مثل هذا البناء؟ فدمعت عيونه رحمه الله وأجهش بالبكاء ثم انحدرت الدموع على لحيته وخده, وقال للخليفة بلسان واضح ولهجة صريحة قال: والله ما كنت أظن أن الشيطان يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله تعالى ومع ما فضلك به, حتى أنزلك الشيطان منازل الكافرين -عبارة قاسية غليظة جارحة- فاضطرب الخليفة وغضب، وقال: انظر ما تقول! كيف أنزلني منازل الكافرين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] فوجم الخليفة وبكى وقال: جزاك الله خيراً، وهاهنا مواقف الخلفاء فعلاً مواقف عجيبة, جزاك الله خيراً وأكثر الله من أمثالك, ووالله إن الذي قلته لهو الحق، وأمر بنقل هذه القبة التي بنيت بالذهب، وأن تعاد وتبنى تراباً كما بني غيرها من القباب, وهذه القصة ذكرها الذهبي في السير, وذكرها ابن الأثير في الكامل، وفي تاريخ قضاة الأندلس وفي غيرها من المصادر.(137/18)
العبرة المستفادة من مواقف سلطان الأندلس
أيها الإخوة في هذه القصص الأخيرة أو هذا النوع الآخر من المواقف للإمام المنذر بن سعيد عدة عبر:(137/19)
العبرة الأولى
أن المفزع في الشدائد والنكبات إلى الله عز وجل، وأنه لا ملجأ من الله تعالى إلا إليه, وأن الله تعالى متى علم من عبيده الصدق والإخلاص فإنه لا يردهم خائبين, وهذا ليس خاصاً بقضية المطر والغيث من السماء, بل في كل كارثة أو مصيبة تنزل بالأمة يجب أن يعلم الناس كبيرهم وصغيرهم, مأمورهم وأميرهم أن المفزع والملجأ لا يكون إلا من الله وإليه, ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده كما روت عائشة وغيره في صحيح مسلم: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك, وبعفوك من عقوبتك, وبك منك لا أحصي ثناءً عليك} وقال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] والله ما دمنا نعتقد أن لنا ملجأ ومخرج من أزماتنا ومصائبنا سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو مادية أو دينية أو دنيوية لا ملجأ من غير الله فإنه لا مخرج لنا إلا أن نتوب إلى الله عز وجل ونصدق في الإقبال عليه.(137/20)
العبرة الثانية
قوة العلماء في الحق, وأنهم لا يهابون لومة لائم، وقد سبق أن أشرت إلى شيء من ذلك, فإنه سأل الرسول ماذا جلس الخليفة يصنع؟ هل أرسلنا نستسقي وجلس مع جواريه وخدمه وحشمه وعبيده, أم جلس في لهوه وسكره؟ قال: لا! بل هو ساجد خاشع لله عز وجل.(137/21)
العبرة الثالثة
هي صلاح الحكام وقرب قلوبهم واتهامهم لأنفسهم, كما رأيتم في موقف عبد الرحمن الناصر حيث عرف أن وقت النكبات والمصائب هو وقت التصحيح, وهذه قضية مهمة جداً أختم بها الحديث.
إننا أحوج ما نكون إلى أن نصحح أوضاعنا إذا نزلت بنا المصائب والنكبات, ليس صحيحاً أننا نؤجل ونقول: إذا زالت الأمور وهدأت وصلحت رجعنا, فإن الإنسان قد ينوي نية ثم يغير هذه النية ويقلبها, بل إن العبد إذا رأى من نفسه ما ينكر ورأى من الأوضاع ما يستنكر فإنه لا بد أن يسارع بالتصحيح, وتغيير الأوضاع, والإقبال على الله عز وجل, وإبعاد كل ما فيه حرب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وهذا أمر نقوله للعامة وللخاصة على حد سواء, وليس صحيحاً أن يكون دأب الناس وشأنهم في مثل هذه الأوقات هو التلاوم فحسب, كل فئة تلوم الأخرى وكل طائفة تعول على غيرها, وكل إنسان يذم سواه, لننظر أيها الإخوة أقرب ما ننظر في واقعنا نحن, من منا غيَّر أوضاعه؟ من منا صحح أموره؟ من منا أقبل على الله عز وجل؟ من منا أحدث توبة صادقة لله تبارك وتعالى؟ من منا خرج من المظالم؟ من منا وصل رحماً قطعها؟ أو بر بأب قد عقه؟ أو رد مالاً قد أخذه بغير حق؟ أو استعفى أحداً من مظلمة في نفس أو مال أو غيره؟.
أيها الإخوة النكبات اليوم محدقة بالأمة, الأمة اليوم على مفترق طرق وفي أوضاع لا يعلم ما تئول إليه إلا الله عز وجل, فهي أحوج ما تكون إلى أن تراجع نفسها وتقبل على ربها, وتصحح أوضاعها الخاصة والعامة في ذلك على حد سواء, ولا يجوز أن نؤجل أو نُسِّوف هذه الأشياء ونقول: بعد بعد , فإن العبد لا يدري فقد لا يؤجل إلى بعد! وقد يؤخذ بعقوبة عمل اليوم قبل غد.
أمرٌ آخر: قد ينوي العبد أن يتوب الآن لكن إذا رجع إلى ما كان عليه في الماضي: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] ألم يكن المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك ورأوا الريح العاصفة: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22-23] ؟! قد طلب قوم الرجعى فما رجعوا, وقد وَعدَ قوم بالتوبة فما تابوا, فيجب أن يكون العبد من ذلك كله على بال.(137/22)
الأسئلة(137/23)
مكانة المنذر بين العامة
السؤال
لم تذكر مكانة المنذر بالنسبة للعامة وغيره؟
الجواب
في الواقع أنني لم أقف على كلام يذكر بالنسبة لمكانة المنذر بن سعيد لدى العامة, إلا ما سمعتموه من حضورهم عنده في صلاة الاستسقاء, وتعجبهم منه وسرعة بكائهم إذا وعظ أو ذكر, وقربه من قلوبهم وثقتهم به, واعتقادهم به أنه رجل صالح مستجاب الدعوة بإذن الله عز وجل, وهذا لا شك من الأسباب التي جعلت الحاكم يهابه, ولكن مع ذلك كان الحاكم أكثر هيبة وتقديراً وحباً له من أفراد العامة, لأنه كان أصلح من كثير منهم.(137/24)
المذهب الظاهري
السؤال
فضيلة الشيخ نريد منك أن تعطينا نبذة عن المذهب الظاهري؟
الجواب
الكلام فيه يطول, وهو مذهب فقهي أسسه داود بن علي الظاهري في بغداد, يعتمد على ظواهر النصوص, ولهم مبادئ وأصول ومن أشهر علمائه الإمام ابن حزم أبو محمد علي بن سعيد بن حزم الظاهري , وله كتاب المحلى وهو أهم وعمدة كتب الظاهرية.(137/25)
احتياج الأمة لطلبة العلم
السؤال
أنت تعلم ما تحتاجه الأمة اليوم من طلبة العلم, فبماذا يبدأ طالب العلم؟
الجواب
الواقع طالب العلم اليوم محتاج أن يقوم بالدعوة إلى الله تعالى, أهم ما تحتاجه الأمة اليوم بعد صلاح القلب وصلاح النفس الدعوة إلى الله تعالى, أن تقوم بالدعوة إلى الله عز وجل, وأن تتصل بالناس وأن تبين لهم الحقائق، وأن تجعل لهم تصورات صحيحة عن الأمور كلها, وأهم ما نحتاجه أيضاً من طلبة العلم أن يعملوا على كسب الناس وأن يزيلوا الفجوة التي قد توجد أحياناً بين طلبة العلم وبين العامة , أو بين بعض الطوائف, مثل طائفة الشباب المنحرفين أو طائفة بعض الذين لهم أوضاع خاصة, أو حتى الذين في السجون، يجب على طلبة العلم أن يمدوا الجسور مع كل طوائف الأمة, ويتصلوا بهم ويبلغوهم دعوة الله عز وجل, ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر, لأن الأمة الآن أفلست من كل أحد إلا من العلم وطلبة العلم, فأعطونا ماذا عندكم؟ أروا الله عز وجل من أنفسكم خيراً, اصدقوا الله عز وجل, ابذلوا ما تستطيعون, احرصوا على حسن الخلق واللطف في معاملة الناس, وألاَّ يجد الناس عليكم مدخل, وتجنبوا الطيش والتسرع, وإذا هممت بأمر شر فابتعد, وإذا هممت بأمر خير فافعل, وإذا شككت في أمر فاسأل العلماء وطلبة العلم وخطباء المساجد ونحوهم, ممن تثق بهم.
أتوجه إلى الله جل وعلا, فأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً, وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماًَ, اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا, وظاهرنا وباطننا, وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا, إنك تعلم منقلبنا ومثوانا.
اللهم إنا عبيدك الضعفاء إليك، المفتقرون لديك, اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا, ولا تفضحنا بعيوبنا, اللهم لا تمنع عنا بذنوبنا فضلك, فارحمنا واغفر لنا وأنت خير الغافرين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين, اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك, ويذل فيه أهل معصيتك, ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء, اللهم أنقذ هذه الأمة من شر أعدائها, اللهم أنقذنا من شر اليهود والنصارى والشيوعيين والمنافقين والعلمانيين, وسائر أعداء الدين يا أرحم الراحمين.
اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك, اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم, وندرؤ بك في نحورهم, يا قوي يا عزيز, اللهم يا من فلق البحر لموسى، اللهم يا من قال للنار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم, اللهم يا من نصر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على قريش في بدر ونصره على الأحزاب ونصره في فتح مكة وغيرها من المواقف يا حي يا قيوم انصرنا على القوم الكافرين, اللهم إنا نستنصرك يا حي يا قيوم, اللهم إننا لن ننتصر بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة ولكننا ننتصر بنصرك وتأييدك يا قوي يا عزيز, اللهم انصرنا اللهم انصرنا وأيدنا وثبتنا, اللهم من أراد بهذه البلاد وأهلها سوءاً فأشغله بنفسه, اللهم انصر من نصر الدين, اللهم واخذل من خذل الدين, اللهم اخذل من عادى أولياءك.
اللهم اجمعنا على الحق يا رحمن يا رحيم, اللهم إنا نبرؤ إليك من الحول والقوة إلا بك, اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت القوي ونحن الضعفاء, أنت الغني ونحن الفقراء, أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً, فأرسل السماء علينا مدراراً, اللهم لا حول ولا قوة إلا بك, اللهم وفقنا لنتوب يا حي يا قيوم يا قريب يا مجيب.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.(137/26)
كيفية سقوط الأندلس
السؤال
لو تكلمت كيف سقطت الأندلس؟
الجواب
هناك دراسات كثيرة لسقوط الأندلس, كتب خاصة، وهناك أيضاً محاضرة للشيخ ناصر بن سليمان العمر , عنوانها: سقوط الأندلس.(137/27)
مراجع ترجمة المنذر بن سعيد
السؤال
يقول: إن سماع قصص مثل هؤلاء الرجال الأفذاذ تشجيعاً للنفوس وتأثيراً عليها وهذا ما نحتاجه دائماً, نسأل الله أن يجعلنا وإياكم مقتدين بهم, هلّا ذكرتم بعض الكتب التي نستطيع اللجوء إليها والتي تعنى بمثل هؤلاء الأشخاص؟
الجواب
بالنسبة للمنذر بن سعيد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء, وله تراجم في طبقات النحويين, وفي كتب الأندلس, مثل كتاب قضاة الأندلس, ومثل الكامل, وهي كلها تراجم في كتب علماء وأئمة الأندلس, ومثل الذخيرة, وغيرها من المصنفات, وغالباً المصنفات الأندلسية تتكلم عن حياة هذا الرجل.(137/28)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
شخص يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكن عنده مخالفات , فهل يجب أن يكون الآمر خالياً من جميع المخالفات, أم أن يأمر وينهى, وهل عليه إثم إن كانت عليه مخالفات؟
الجواب
أبداً يجب عليه أن يأمر بالمعروف وإن قصّر فيه, وينهى عن المنكر وإن ارتكب شيئاً منه.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد كل امرئ منا يجب عليه أربعة أشياء: 1- أن يفعل المعروف 2- أن يأمر به.
3- أن يترك المنكر 4- أن ينهى عنه.
وتقصيره في واحدة من هذه الأربع لا يسوغ له التقصير في غيرها.(137/29)
الخلاف في المسائل الفقهية
السؤال
المسائل الفقهية التي فيها خلاف 95% تقريباً, فما المخرج من ذلك؟
الجواب
أولاً الأمر فيها يسير, وإن وجد الخلاف في المسائل الفقهية, فالمسائل الفقهية ليس فيها هدى وضلال, وإنما اجتهاد مخطئ واجتهاد مصيب, ومن اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد, أما (95%) فما أدري على أي أساس بنيت هذه الإحصائية, فإن المسائل التي أجمع عليها العلماء كثيرة وكثيرة جداً, وقد عدها بعض العلماء بعشرات الألوف من المسائل.
فإن كان الإنسان مجتهداً نظر في الأدلة, وإن كان عامياً قلد من يثق بعلمه ودينه.(137/30)
علاج بغض العلماء
السؤال
إنني والشكوى لله عز وجل أصبح في قلبي نقص من الحب لكثير من العلماء, فبماذا تنصحونني؟
الجواب
أنصحك بأن تقبل على قلبك فتعالجه بالعلاج الناجح, فإن محبة العلماء من محبة الله عز وجل, فإن العلماء هم ورثة الأنبياء, والأنبياء والرسل ممن اختارهم الله عز وجل يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله.
فمن أحب الله عز وجل أحب الأنبياء وأحب ورثتهم وهم العلماء, ومن أبغض العلماء يخشى أن يصل به ذلك إلى بغض من ورثوهم هذا العلم, وإلى نقص في إيمان هذا الإنسان ودينه وولائه, وأما كون الإنسان إذا وجد من عالم خطأً أو أمراً لا يعجبه أبغضه, فهذا لا يسوغ له؛ لأن العلماء ليسوا معصومين ولا ملائكة ولا أنبياء, بل هم بشر من البشر يجتهدون فيخطئون مرة ويصيبون مرات.(137/31)
الأمور تقدر بقدرها
السؤال
ما رأيك بالتصريح بأسماء الذين لهم مواقف ضد هذا الدين؟ ألا ترون أن هذا يزيد الفجوة بيننا وبينهم.
الجواب
الحقيقة بأن التصريح بأسماء بعض الذين يقفون ضد هذا الدين, سبق أن بينت رأيي في ذلك, أنني أرى أنه من وقف ضد هذا الدين علانية, يجب أن نقف له علانية, ونفضح زيفه وباطله ونتكلم عنه بشكل واضح, لكن بشرط أن نتكلم بناء على معلومات وحقائق وليس بناءً على مجرد أقوال أو إشاعات أو ظنون لا تثبت، أو استفاضة كلام لا دليل عليه.
إذاً نحن بين أمرين: الأمر الأول: أنه ليس صحيحاً أنه دائماً نحتج بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما بال أقوام} هذا بالنسبة لمنكر لا يدرى من فعله, لكن واحد يأتيني مثلاً يتكلم في جهاز عام أو في صحيفة يطبع منها مائة وعشرين ألفاً وتوزع على الناس, ويتكلم بكلام ينقض عرى الإيمان عروة عروة, أو يهدم العقيدة من أساسها، أو ينال من العلماء أو طلبة العلم أو المشايخ أو الدعوة إلى الله عز وجل, أو يشهر منكر من المنكرات, وأقول لا أصرح به! , لا هذا لا ليس له كرامة, هذا يفضح على رؤوس الملأ باسمه ورسمه وشكله, ما دام هناك وثائق تدينه, هذا جانب.
وقد كان السلف رضي الله عنهم يتكلمون عن أصحاب المنكرات والبدع بأسمائهم, ولو رجعت إلى كتب الجرح والتعديل مثلاً لوجدت أنهم يقولون: فلان كذاب, فلان وضاع لا يقبل له حديث, وفلان فيه كذا , وفلان هالك, وفلان متروك, وفلان كذا، وفلان كذا , ما منعهم الورع من هذا, ولو رجعت إلى كتب المقالات والملل والعقائد لوجدت أن العلماء يقولون: فلان جهمي, وفلان رافضي, وفلان قدري, وفلان مرجئ, وفلان من الخوارج, وفلان فيه كذا , وقد يتكلمون عن كتبهم ومؤلفاتهم ومصنفاتهم.
ليس صحيحاً أن تترك الأمة بدون هذه ولا دليل ولا إرشاد, يذهب بها العلمانيون وأعداء الدين, والمنحرفون عن الصراط المستقيم كل مذهب, ونحن نظل نقول: لا تتكلم عنهم, لا، بل تكلّم عنهم واذكرهم بأسمائهم، لكن الشرط الذي لا يمكن التنازل عنه بحال, أنه إياك إياك أن تتسرع في الوقيعة في شخص وأنت لا تجد الأدلة الكافية, إذا تجمعت لديك وثائق وأدلة وحقائق وأوراق وأشياء بخطه أو بلفظه أو بنصه أو بكتابته في جريدة أو مقال أو كتاب أو شريط اجمع هذه الأشياء, والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها.
وكم من عدو أصبح بثياب الصديق الآن, تلبس لبوس الأصدقاء, وتظاهر بمظهر الحدب!!.
واحسرتاه لقوم غرهم قرم سعى إليهم بجلد المنقذ الحدب حتى إذا أمكنته فرصة برزت حمر المخالب بين الشك والعجب وحارب الدين والإسلام قاهره وكم خلا مثله في سالف الحقب وأعمل الناب لا شرع ولا خلق في الجسم والنفس والأعراض والنشب كم من مثل هؤلاء الذين يتظاهون بالعروبة وبالدين والصلاح والورع والوطنية وهم ضد ذلك, يجب أن تعرف الأمة عدوها من صديقها, لكن يكون ذلك من خلال الوثائق، ثم إذا وجدت وثائق تدين فلان أو علان لا تبالغ تحمل الكلام ما لا يحتمل أو تعطيه أكبر من حجمه, ضعه في الإطار الطبيعي حتى يقول الناس: صدق, لا تدع فرصة لأن يقول أحد: إنك بالغت, أو حملت الأمر أكبر من حجمه أو جعلت من الحبة قبة! لا, نحن نريد أن يخرج الناس وهم يقولون: صدق فلان, هذا هو الحق, وهذا ما يجب أن يسلكه الدعاة إلى الله عز وجل.(137/32)
قصيدة للعشماوي
السؤال
يطلب قراءة أبيات للشاعر الإسلامي عبد الرحمن العشماوي بارك الله فيه وحفظه الله؟
الجواب
يا أمة الإسلام لن تتسلمي رتب العلا بالمال والأحساب لن تسلكي برد الخلاص بمدفع وبكثرة الأعوان والأصحاب لن تبلغي إلا بنهج صادق وتعلق بالخالق الوهاب تفنى الجيوش وتنتهي آثارها وننال بالتقوى عز جناب تفنى القوى مهما تكاثر عدها وتظل قوة ربنا الغلاب(137/33)
الدين ليس حكراً على أحد
السؤال
بعض الناس لا يعترفون بمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, بل يستهزئون به من غير عذر, وخاصة إذا لم يكن من رجال الحسبة, فتأمره بالصلاة يقول: ليس لك علاقة دعني وشأني, هل نستمر في هذا النوع من الناس أم لا؟
الجواب
في الحقيقة الشيء الذي يطول عجبي -أيها الإخوة- ليس أن يوجد من يقول: دعني وشأني، أو ليس لك دخل بي أو علاقة, هذا أمر طبيعي, الأمة بعيدة عن الله عز وجل تحتاج إلى زمان طويل حتى تعود, لكن الذي أتعجب منه أنه لماذا الشاب الملتزم المتدين دائماً حساس؟! كلما وجد إعراضاً أو كلمة شديدة أو عدم تقبل تضايق من ذلك, واكتئب وابتئس, وربما همّ بترك الدعوة إلى الله تعالى, أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا يا أخي الطريق طويل وفيه أشواك ومصائب، لكن ليس عنه بديل: يا إخوتي درب الجنان طويل وبه المصاعب والمتاعب جمة لكنما هو ليس عنه بديل لا توجد إلا هذه الطريق, فتحمل يا أخي الكلام القاسي, تحمل العبارات السيئة, إياك أن تكون سريع الاستفزاز، الأعصاب جاهزة عندك, أي كلمة جارية أو تصرف أو إعراض أو سخرية أو ضحكة غير مسئولة تجعلك تفقد صوابك وقد تتكلم بما لا ينبغي.
نريد من الشباب الدعاة إلى الله عز وجل أن يكونوا مثلاً أعلى في الصبر والتحمل والاحتساب وهدوء النفس والرفق بالآخرين والحدب عليهم, والحلم على أخطائهم وعثراتهم، وألَّا يبدر منك بقدر المستطاع بادرة غضب, أو انفعال أو تهجم أو طيش ومن كان لا يجد من نفسه هذا الأمر هذا الأمر فعليه أن يختصر في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجالات التي تناسبه, لأن الناس اليوم -وأقولها لكم أيها الشباب بكل وضوح- أعينهم مفتحة جداً, لأن الأمة جربت كل الناس, وكل المذاهب وكل النظريات, فعادت للإسلام الآن, فهم لا يعتبون على شاب يجدونه في مدرج الكرة إذا تصرف تصرفاً أرعن, أو قال كلاماً بذيئاً أو فاحشاً, لا يعتبون عليه لأنهم يقولون: هذا طبيعي! الشيء من معدنه لا يستغرب, هذا ما تربى.
لكن إذا وجدوا شاباً ملتحياً قصير الثوب يسارع إلى المسجد، ومن طلبة العلم ومن الدعاة ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فتحوا عليه, إذا رأوا منه ما يسر مدحوا وأثنوا وهذه نعمة, لكن إذا رأوا ما لا يسر أو خطأ أو ملاحظة فالناس نقاده, وقد يكبرون الخطأ أحياناً ويستعظمون منك هذا الخطأ.
ولذلك يا أخي الحبيب إياك أن تُعطِ عن إخوانك الطيبين صورة سيئة، غير حسنة, إياك أن تكون سبباً لأن ينال غيرك ويذم بسبب كلمة صدرت في حال أو انفعال منك لا، اضبط أعصابك وحاول قدر المستطاع أن تكون هادئاً, صحيح نحن لا نقول: إن الشباب الطيبين كلهم يضبطون أنفسهم 100% هم بشر, مهما ضبط الإنسان نفسه قد يفقد أعصابه في موقف من المواقف, لكن فرق بين الإنسان الذي يجاهد نفسه يبذل يحاول، وبين آخر يعرف من نفسه أن أعصابه مفلوتة لا يمكن أن يقبض عليها بحال, فهذا نقول له: ابتعد عن المجالات التي تعتقد أنها تكون سبباً في الإثارة.(137/34)
حكم تزكية النفس
السؤال
لقد قلت إن الإمام المنذر بن سعيد ذكر مواقفه وجرأته ومدح نفسه في بعض القصائد, أليس هذا من تزكية النفس؟ فما رأيك في هذا؟
الجواب
في الواقع أن تزكية النفس مذمومة إلا في حالات, لا بأس بالتزكية، إذا كان هناك حاجة إليها, فـ ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله, وقبله يوسف عليه السلام قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما آذوه واضطهدوه وضيقوا عليه قام موقفاً محموداً مذكوراً في كتبه, قال: من قام بالدين ونصره ومن فعل ومن ومن، وبدأ يتكلم عن جهاده وبلائه رضي الله عنه, لأن الناس تنكروا لذلك فأراد أن يذكرهم بهذا, وأنه ما جلس متفرجاً لما جاء التتار, ويوم أن جاء أعداء الدين، ويوم أن جاء المبتدعة، ويوم أن جاء المضللون, تكلم وقام خير قيام.
فليس كل ثناءٍ على النفس يعتبر من المذموم, إنما المذموم ما يكون صادر من إعجاب أو غرور أو كبرياء فهذا لا شك أنه مذموم.(137/35)
مواقف الصحابة من السلاطين
السؤال
لقد أعطيتنا من العلماء مواقف مثيرة في الدعوة أو غيرها, ولكن قصص قصص الصحابة فيها الشيء الكثير من هذا, ونحن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نجهل كثيراً من مواقفهم؟
الجواب
صحيح أن للصحابة رضي الله عنهم من ذلك مواقف كثيرة, ومن ذلك موقف عائذ بن عمر رضي الله عنه أو معقل بن يسار من عبيد الله بن زياد فإنه جاءه يعوده وهو مريض, فذكره وقال له: [[أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} فاحذر أن تكون منهم, يخاطب الأمير يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} الذي يحكم الناس ويجرهم قسراً وقهراً وبالشدة, فاحذر أن تكون منهم, فقال له: اجلس, فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: وهل كانت لهم نخالة, إنما كانت النخالة فيمن جاء بعدهم]] أي: فيك وفي أمثالك.
ولـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وأنس بن مالك وغيرهم مواقف مع الحجاج عظيمة, ولـ عبد الله بن الزبير مواقف مشابهة, وللحسن بن علي رضي الله عنه، وهي مواقف كثيرة يطول المجال بذكرها.(137/36)
سؤال وجواب
لاشك أن السؤال من أساليب التعلم، ولكن للسائلين في أسئلتهم عيوب ومثالب، وعليهم الالتزام بآداب السؤال، وهذه تجدها مع عدد من الأسئلة في الأحاديث وصحتها وكيفية الجمع بينها، وكذلك أسئلة متنوعة بعضها في الأمور الفقهية وبعضها عن الواقع.(138/1)
أمور تتعلق بالسؤال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل لا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
هذا الدرس الثاني والعشرون من الدروس العلمية العامة في ليلة الإثنين التاسع عشر من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) .
إخوتي الأكارم سيكون هذا الدرس بإذن الله تعالى تصفية للأسئلة التي سبق أن تقدمتم بها, ولم يتح لي الإجابة عليها فيما مضى, ووعدت أن أخصص درساً لها وهذا هو الدرس, ومما يجدر التنبيه إليه أن هذا الدرس يعتبر الحلقة الثانية من الإجابة على الأسئلة, فقد سبق أن عقدت المجلس الأول يوم أن كان الدرس في الجامع الكبير, وكان بعنوان: سؤالات الجامع الكبير لكن لما انتقلنا عن الجامع، كانت هذه هي الحلقة الثانية في هذا المسجد, وقد أعلن عنها الإخوة بعنوان: الأسئلة والأجوبة.
قبل أن أدخل في الأسئلة والأجوبة أود أن أذكر بأمور فيما يتعلق بالسؤال وإن كان موضوع السؤال يحتاج إلى جلسة خاصة.(138/2)
أهمية السؤال
فأولاً: السؤال مهم جداً خلافاً لما يتوقعه بعض الناس, فبعض الناس يقول لك: ما معنى أن يجلس إنسان ثم يكتب له الناس أسئلة أو يتولى الجواب عليها؟ هذا ليس من طرائق السلف وليس من طرائق العلم والتعلم, وهذا خطأ وليس بصحيح, بل إن من أهم الطرق التي كان يسلكها السلف رضي الله عنهم في التعلم والتعليم طريقة السؤال والجواب, اقرأ في القرآن الكريم في أكثر من أربعة عشر موضعاً يسألونك, يسألونك , كما في قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220] , {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217] , {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] , {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب:63] , {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] , إذاً الله عز وجل أرشد عباده إلى أن يسألوا فيما جهلوا.(138/3)
النبي أرشد إلى السؤال
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد أصحابه إلى السؤال، مثلاً في حديث صاحب الشجة وهو حديث معروف، الصحابي الذي كان في سرية فأصابته شجة جرح في رأسه, وأراد أن يغتسل من الجنابة, فاستشار الصحابة وخشي على نفسه, فأمروه بالغسل, فاغتسل فمات, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما في سنن أبي داود وغيره: {قتلوه قلتهم الله, ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} إذا عجز الإنسان فإنه يسأل وسيجد الجواب لما عجز عنه.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم حتى نهوا عن ذلك, كما في حديث أنس أنه قال: {نهينا أن نسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية, فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم} يفرحون إذا جاء رجل أعرابي ليس منهي عن السؤال, يسأل النبي عليه الصلاة والسلام فيستفيدوا من سؤاله, جاءه أعرابي مرة, فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ رجل يحب الناس يحب الصالحين لكن ما وصل إلى درجتهم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {المرء مع من أحب} وفي رواية {أنت مع من أحببت} .
وقائل هل عمل صالح أعددته ينفع عند الكرب فقلت حسبي سنة المصطفى وحبه فالمرء مع من أحب إذاً كان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون بمن يأتي ويسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أشياء حتى يجيب عن هذه الأسئلة, وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض الصحابة مثل ابن مسعود بقوله: {إنه فتى الكهول، له قلب عقول، ولسان سئول} ويروى عن ميمون بن مهران أنه كان يقول: حسن السؤال نصف الفقه.(138/4)
من فوائد الأسئلة للشيخ
وما أكثر فائدة الأسئلة! وفيما يتعلق بالأسئلة التي ترد علي فإني لا أترك سؤالاً منها قط, إلا قرأته وما لا أقرأه هنا أقرأه في البيت, واستفدت من قراءة هذه الأسئلة أشياء كثيرة, إما أن يكون السؤال تنبيهاً على خطأ وقعت فيه إما في لفظ أو في جواب, أو في سبق لسان, أو ما أشبه ذلك, فينبهك عليه, وإما أن يكون السؤال تنبيهاً على صواب غفلت عنه، وكان ينبغي أن تورده أو تذكره لمناسبته, وإما أن يكون السؤال تنبيهاً إلى مشكلة واقعة بين الناس وأنت لا تدري عنها, فينبهك السؤال عليها حتى تضعها في اعتبارك, وإما أن يكون السؤال لفت نظر إلى مقال في جريدة أو برنامج أو كتاب, أو شيء يحتاج إلى أن يناقش, أو يرد عليه, وإما أن يكون السؤال اقتراحاً يستحق أن يدرس ويناقش.
فالسؤال -على كل حال- هو تفاعل بين السامع والمتحدث, ليس صحيحاً أن يكون الأمر للمتحدث دائماً, بل ينبغي أن يكون للسامع دور من خلال السؤال, ومن خلال الإيراد, ومن خلال الاتصال، وكونك تأتي بقصاصة من جريدة أو مجلة أو خبر يحتاج إلى تعليق, هذا نوع من التفاعل والترابط بين المتحدث والسامع, وكونك تنبه على أمر تعتقد أنت أنه خطأ, أو تسأل عن أمر أو تنبه على صواب كان ينبغي أن يقال, هذا كله نوعٌ من التفاعل بين السائل والمتحدث.(138/5)
بعض المآخذ على الأسئلة
لا أستطيع أن أغفل بعض المآخذ على طريقة بعض الإخوة في السؤال, وإن كان ليس هذا مجال طرحها؛ لكن أقول باختصار:(138/6)
الإلحاح في السؤال
فمن بعض المآخذ أن بعض الإخوة يلحون في السؤال, والإلحاح في السؤال لا ينبغي, بل ينبغي للإنسان أن يطرح سؤاله ثم يمضي, فمثلاً لا أجد داعياً أن يكتب بعض الإخوة السؤال ثم يقول: أسألك بالله أن تجيب على هذا السؤال, لماذا؟ لأنه قد يرى المتحدث ما لا يرى الكاتب, فيرى من المصلحة ألا يجيب على هذا السؤال, إما جلباً لمصلحة, أو دفعاً لمفسدة, أو لأنه سوف يجيب عنه في المستقبل, أو لأنه سبق أن أجاب عنه, أو لأي غرض, فكونك تقول: أسألك بالله؛ هذا إحراج, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح: {من سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه} فأنت إذا قلت: أسألك أحرجت المجيب, إما أن يجيب وهو على كره, أو أن يترك الإجابة مراعاة للمصلحة فيقع أو يخشى أن يكون قد وقع في المحظور.
كذلك بعض الإخوة قد يكتب سؤاله عدة مرات، أحد أحبابي من الشباب كتب إليَّ أوراق عدة في موضوع معين, يتعلق بما يمكن أن نسميه شباب الأرصفة, وفي نيتي أصلاً أن أتحدث عن هذا الموضوع, لكن بعدما تكتمل المادة عندي، وبعد ما يكون عندي إطلاع واضح وقوي وجيد على ما يعانيه أولئك الشباب, بحيث يمكن وصف الحالة، وذكر العلاج المناسب والتنبيه على بعض الأشياء, فالتكرار في مثل موضوع واحد معين يكرره الإنسان مرة ومرتين وثلاثة وأربعة وخمسة, ثم يتضايق ألاَّ يكون هناك إجابة عاجلة هذا أيضاً من الإلحاح الذي لا أرى له داعياً.
وإنما على الإنسان أن يبذل جهده في إيصال المعلومات، والموافاة بالجديد المفيد, ثم بعد ذلك يترك تقدير المصلحة في الحديث عن هذا الموضوع أو إرجائه يتركها لغيره.(138/7)
التلميح بالجواب في السؤال
ومن المآخذ على طريقة السؤال -أيضاً- أن بعض الإخوة السائلين يلمح إليك بالجواب, بحيث أستطيع أن أسمي السؤال حينئذٍ سؤالاً موجهاً, لأن الأصل في السؤال أن يكون استفساراً عن أمر يجهله الإنسان, هذا هو الأصل, فإذا كان السؤال كذلك، فإنه ينبغي ألا يتضمن الجواب, مثال يأتي واحد فيقول في سؤاله "يخطئ كثير من الناس فيقولون كذا وكذا وكذا , فما رأيك في ذلك؟ " هذا لا يحتاج إلى جواب! لأنك من يوم قلت: يخطئ كثير من الناس, فقد عرفت الجواب وبينت الجواب أيضاً, فلا حاجة للجواب حينئذٍ.
أحياناً يقول بعض الإخوة في سؤاله: "يزعم بعض الناس أن الأمر كذا وكذا , أو يدعي، كذلك كلمة يزعم أو يدعي تدل على الجواب, فالأصل أن السؤال إذا كان سؤالاً للاستيضاح والاستفسار، ينبغي أن يكون سؤالاً لا يتضمن الجواب, بحيث أن السائل يعرض المشكلة ويقول: ما رأيكم في هذه المشكلة؟ هل هذا العمل صحيح أم خطأ؟ أو ما أشبه ذلك, هذا إذا كان السؤال على سبيل الاستفسار.(138/8)
الأسئلة الخاصة
بعض الأسئلة أحياناً قد تكون أسئلة خاصة, أي أنه قد يعاني أحد الشباب مشكلة شخصية قد تكون مشكلة عويصة, أو عميقة, أو عظيمة, وتحرجه! لكنها خاصة بمعنى أنه لو حسبنا الذين يعانون هذه المشكلة في المجتمع يمكن نجد أنهم يعدون على رؤوس الأصابع, فليس من المصلحة أن يتُحدث عن هذه المشكلة على رؤوس الأشهاد حينئذٍ, وقد يقول صاحب المشكلة: أنا أيضاً لا أستطيع أن أواجه المتحدث بنفسي, أي هو يستحي أن يأتي بنفسه, حينئذٍ أقول: في الواقع أن دين الإنسان هو أغلى ما عليه, ولا مانع أن يأتي الإنسان بنفسه ولو كانت مشكلة صعبة إذا كان الأمر يستدعي ذلك؛ لأنه ليس من المصلحة أن نتحدث عن بعض المشكلات أمام الناس, وأضرب مثالاً لذلك، قد يعاني بعض الشباب مشكلة أخلاقية صعبة، كأن تورط في مفاسد وأمور معينة, ويريد الخلاص منها فنحن حين نقرأ مثل هذه المشكلة بتفاصيلها على الناس, كأننا نوحي للمستمعين أن هذه النوعية من المجتمع كثيرة ومنتشرة, فهذا يهون من خطورة الشر والفساد في نفوس الناس, ويجرئهم عليه, فليس من المصلحة طرحها مع أنها قضية كما ذكرت قضية خاصة.(138/9)
الأسئلة لإظهار المعرفة أو مصادمة الأقوال
كذلك بعض الإخوة -هدانا الله وإياهم- يسألون كل أحد، فإذا سألك إنسان، فتسرعت في الجواب عما سأل, قال لك: ولكن أنا سألت الشيخ فلاناً وقال كذا, وسألت فلاناً وقال كذا, وسألت فلاناً وقال كذا! فأصبح هذا الإنسان يمر على الناس كلهم ويسأل كل عالم, أو طالب علم, أو إمام مسجد عن هذه المسألة، ويضرب أقوال بعض الناس في بعض, وهذا ليس بلائق, بل على الإنسان أن يكتفي بسؤال واحد.
أخيراً بعض الأسئلة تكون لإظهار الخبرة والمعرفة, سألني في يوم من الأيام أحد الشباب عن حديث من الأحاديث المُشْكِلة التي يسميها العلماء أحاديث مشكلة, أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يكون معناها، غير ظاهر يحتاج إلى بيان, فسألني عن هذا الحديث فأجبته بما أعلم, وذكرت، له أقوال بعض أهل العلم التي أحفظها, فقال: ولكنني قرأت في كتاب كذا, كذا وكذا , وقرأت للبيهقي كذا وكذا , وقرأت لـ ابن قتيبة كذا وكذا , وقال ابن فورك كذا وكذا , وصار يسرد لي حوالي عشرة أقوال, فقلت له: ما شاء الله، تبارك الله! إذاً أنت يا أخي قد أحطت بالموضوع علماً, ومثلك لا ينبغي أن يسأل عن مثل هذا الموضوع, إنما يسأل الإنسان عما لا يعلم, أما ما يعلم فلا داعي للسؤال عنه.(138/10)
اقتراحات وذكر الدروس المسجدية
الأسئلة التي أردت الإجابة عليها في هذه الليلة قسمتها إلى أقسام, أبدأها بذكر بعض الاقتراحات التي يقدمها بعض الإخوة.
وهذا اقتراح جاءني الآن يطلب فيه الأخ السائل أن ألفت النظر إلى محاضرة لي سبق أن ألقيتها في الخبر في المنطقة الشرقية, ويقول: إنها صالحة ومناسبة، وهذا بحسب ظنه هو, ويقول أن عنوان المحاضرة "الأرواح جنود مجندة".
وهذا يقول: أريد دروساً خاصة فيها دعوة للشباب المنحرف، لعل الله أن ينفع بها في سبيل التأثير بهم بإذن الله تعالى, وقد سبق أن ذكرت أنني سأتحدث -إن شاء الله- عن هذا الموضوع في محاضرة خاصة.
وهذا أيضاً اقتراح يقول في كل درس نجد أنك تكمل الأسئلة بعد الدرس المقبل, ثم لا نجد ذلك لماذا لا يحدد درس خاص؟ هاهو الدرس الخاص لهذه الأسئلة.
وهذا يقول: إن الدرسين غير كافيين فنرجو المزيد, -يقصد بلوغ المرام ودرس هذه الليلة- وأقول إن شاء الله في النية إحداث درس ثالث ويعلن عنه في حينه بإذن الله تعالى.
وهذا يطلب إعادة جدول الدروس, أما بالنسبة للدروس التي هي دروس أقوم بإلقائها فقد سبق أن ذكرت أن الدروس المسائية يوم الأحد ليلة الاثنين وهو هذا الدرس, ويوم الثلاثاء ليلة الأربعاء شرح بلوغ المرام في الجامع الكبير, أما الدروس الصباحية فهي دروس يومية بعد صلاة الفجر باستثناء يومي الخميس والجمعة, أما يوم السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء فهي شرح صحيح البخاري, وشرح صحيح مسلم, وقد وصلنا في شرح صحيح البخاري إلى كتاب الشروط أو انتهينا منه, وأما في شرح صحيح مسلم فنحن في كتاب البيوع, أما يوم الإثنين فنحن نقرأ في العقيدة الواسطية وفي نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر للـ حافظ ابن حجر , لكن هناك دروس أخرى أود أن ألفت النظر إليها، وقد سبق أن أعلن عنها في أكثر من مناسبة, فمن هذه الدروس درس لفضيلة الشيخ عبد الرحمن العجلان رئيس المحاكم في فقه المعاملات, وهذا الدرس في مسجد العامر بطريق الشاحنات يوم الثلاثاء بعد صلاة العصر, وهناك دروس للشيخ علي بن عبد الله الجمعة وهو دكتور في جامعة الإمام في قسم السنة ثلاثة دروس: فقه زاد المستقنع، ونحو ألفية ابن مالك هذا في مسجد الجمعة بالفائزية يوم الجمعة ليلة السبت بعد العشاء الآخرة, الدرس الثاني في المصطلح والتوحيد وهو في نفس المسجد مسجد الجمعة يوم الأحد ليلة الإثنين كهذه الليلة بعد العشاء الآخرة أيضاً, الدرس الثالث حديث وقراءة في زاد المعاد وهو في نفس المسجد في يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العشاء الآخر, وكذلك درس الشيخ صالح بن شاوي العنزي فقه في جامع الفائزية مخطط (ب) مسجد ابن عبد الرحيم يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بعد المغرب.
كما أنوه بدرس للشيخ صالح بن سليمان المجيطيب , في مسجد المجيطيب بحي البشر, وهذا الدرس فجر الخميس اعتباراً من الخميس القادم وهو أيضاً في النحو, فألفت النظر إلى هذه الدروس وأؤمل من الإخوة الشباب أن يعمروا هذه الدروس, ويعطوا أنموذجاً حسناً في المحافظة عليها والإسراع إليها، والتنويه إليها.
وهذا يقول: أغلب الحضور أئمة مساجد ويحضرون من أمكنة بعيدة, ويصعب عليهم الحضور بعد الصلاة مباشرة, فيقترح التأخر في بدء الدرس؟ سنفعل -إن شاء الله- أن نراعي الإخوة في حدود خمس دقائق أو قريباً من ذلك.(138/11)
الأسئلة
هناك أسئلة تتعلق بالأحاديث النبوية أجيب على ما تيسر منها(138/12)
غربة الإسلام والمستقبل
السؤال يقول: نجد تعارضاً بين حديث {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً} وبين {أن المستقبل للإسلام} ؟
الجواب
أولاً: أنبه أخي الكريم السائل إلى أنه كان يجب أن لا يعبر بكلمة تعارض, لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه تعارض, وإنما التعارض في ذهن الإنسان بسبب عدم إدراكه لمعنى الحديثين, وأما دفع التعارض فأقول يكفي أن تعلم أن قوله: {وسيعود غريباً كما بدأ} أن هذا يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم -والله تعالى أعلم بمراد رسوله- والغربة الأخيرة في آخر الزمان التي لا يكون بعدها قيام لشأن الإسلام, ولذلك قال: {وسيعود غريباً كما بدأ} حتى قال بعض أهل العلم: إن الإسلام بدأ برجل وسينتهي برجل واحد, ونحن نعلم وسبق أن قررت أنه في آخر الزمان يبعث الله ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين, ولا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله, ويبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة.(138/13)
زمن القبض على الدين كالجمر
السؤال يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر} هل المقصود هذا الزمان أم آخر الزمان؟
الجواب
هذا الحديث رواه الترمذي بسند ثلاثي ورواه غيره, وهو حديث صحيح, وهو يدل على أنه يأتي على الناس أزمنة في بلاد مختلفة يصعب على الإنسان التمسك بالدين حتى كأنه قابض على جمرة, كل لحظة يقول الآن ألقيها, الآن ألقيها, وهذا قد يكون وقع الآن في بعض البلاد ولا شك، وهو سيقع في آخر الزمان في جميع الدنيا.(138/14)
صحة حديث البدء بالبسملة والحمدلة
السؤال يقول: ما صحة هذا الحديث: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو قطع} والرواية الأخرى {لا يبدأ فيه بحمد الله} ؟
الجواب
أما حديث: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع} فهو ضعيف جداً, رواه الخطيب البغدادي , ورواه السبكي في طبقات الشافعية, ولا يصح, أما بلفظ: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله} فقد رواه أبو داود وغيره وأصحاب السنن من حديث الزهري عن أبي هريرة , والصواب الذي صوبه أبو داود والدارقطني وغيرهم أنه مرسل عن الزهري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(138/15)
اليمن في الأحاديث
السؤال
هل اليمن الذي يتكلم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, هل هي اليمن الحالية؟
الجواب
اليمن التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم أشمل من اليمن الحالية, فمكة تعتبر من اليمن بالنسبة لأهل المدينة, وكذلك تهامة تعتبر من اليمن, وقيل: إن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار, لأن الأوس والخزرج في الأصول من قبائل يمنية, ويدخل فيها اليمن المعروف اليوم.(138/16)
أحزاب الخندق
السؤال
من هم الأحزاب الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق؟
الجواب
الأحزاب هم: اليهود, وقريش, وغطفان, وهم الذين تألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(138/17)
حديث الرايات السود
السؤال يقول: ما صحة حديث {إذا رأيتم الرايات السود تخرج من قبل المشرق فاتبعوها فإن فيها المهدي} ؟
الجواب
هذا الحديث ليس بصحيح, فقد رواه أحمد , والحاكم عن ثوبان وسنده ضعيف.(138/18)
صفات فاتحي القسطنطينية
السؤال
ورد في صفة القسطنطينية في الحديث صفة الذين يفتحونها، وأنهم ليسوا العثمانيين، فهل القسطنطينية تفتح مرتين؟
الجواب
تفتح القسطنطينية أكثر من مرة بلا شك, أما الفتح الأول فقد مضى في القرن التاسع حين فتحها السلطان محمد الفاتح , وقد جاء في حديث رواه أحمد والحاكم عن بشر الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتفتحن القسطنطينية, فنعم الأمير أميرها, ولنعم الجيش ذلك الجيش} وهذا الحديث رواه أحمد -كما ذكرت- ورواه الحاكم وقال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجه ووافقه الذهبي فقال: صحيح, وفي سنده ضعف, لعله ينجبر بشواهده.
وأما الفتح الثاني: فهو فتح في آخر الزمان أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {أن مدينة نصفها في البر ونصفها في البحر, فيذهب إليها المسلمون فيكبرون تكبيرة واحدة فينهد نصفها الذي في البحر, ثم يكبرون تكبيرة أخرى فينهد نصفها الذي في البر, ويدخلها المسلمون فاتحين فبينما هم جالسين قد علقوا سيوفهم بشجر الزيتون, إذ سمعوا صارخاً يصرخ: إن الدجال قد خلفكم في أموالكم وأهليكم, وهو كاذب, فيدعون ما بأيديهم ويرجعون فإذا رجعوا خرج الدجال} .(138/19)
تجمع اليهود
السؤال
جزمت -يقصد في محاضرة سابقة أو التي قبلها- بأن تجمع اليهود في هذا الوقت هو طبقاً لما ورد في الحديث, فهل هذا صحيح أن يفسر الحديث بما لم يحصل، ولو فرضنا أن هذا التجمع لم يكن هو التجمع الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فما هو الموقف إذن؟
الجواب
في الواقع أنني لا أجزم بأن التجمع الذي يعيشه اليهود الآن هو التجمع الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث, إنما أقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن اليهود سوف يقاتلون المسلمين, وجاء في الحديث الآخر الذي حسن إسناده جماعة من أهل العلم أنهم على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه, وهذه الأحداث تسير في هذا الاتجاه، اليهود يتجمعون في هذا الموضع ويقابلهم المسلمون في الجانب الآخر, والحديث وإن ضعفه بعض أهل العلم, فإن الواقع يشهد له وكذلك الحديث الآخر المتفق عليه عن أبي هريرة يشهد له, فالأولى أن يكون الحديث حسناً وليس ضعيفاً, فنحن نتوقع أن يكون هذا هو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم, متى يحصل هذا؟ الله أعلم.(138/20)
فتنة المحيا والممات
السؤال يقول: أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ بالله من فتنة المحيا والممات, فكيف تكون فتنة المحيا والممات؟
الجواب
أما فتنة المحيا: فهي فتنة الحياة، وهي كثيرة, فتنة الرجل في أهله, وماله, ونفسه, الفتن التي تصيب الإنسان في دينه فتن الشهوات, وفتن الشبهات, هذه فتنة المحيا.
أما فتنة الممات: فقد اختلف فيها أهل العلم, فقال بعضهم: المقصود بفتنة الممات ما يحدث للإنسان عند الموت عند النزع, فإن الإنسان عند النزع تحضره الشياطين, وتحاول أن تصده عن دينه, ولذلك جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} فقال بعضهم: فتنة الممات ما يحصل للإنسان عند النزع, وقال آخرون: بل فتنة الممات ما يحصل للإنسان في قبره من السؤال, وقد ثبت هذا في الصحيح: {أن العبد يسأل في قبره عن ربه, ودينه, ونبيه، يأتيه ملكان -ثبت في الصحيح- أن أحدهما منكر, والآخر نكير, فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المسلم والمؤمن فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم, فيقولان له: ما علمك؟ وهذا سؤال رابع, فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به, وصدقت؛ وأما الكافر أو المنافق فيقول: هاها لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس} أي: مقلد في الدنيا، كان يردد ما يقوله الناس بحكم الوراثة, بحكم البيئة, لكن ما قرأ, ولا تعلم, ولا علم, فهذا والعياذ بالله يخفق في الامتحان في قبره, ولا يوفق للجواب ويقول: نسيت كنت أذكر اسم النبي, وأذكر اسم الدين, ولكن نسيت كنت أقول ما يقول الناس، وذلك غاب عن باله وقت الحاجة إليه.(138/21)
معنى قوله تعالى: (والفتنة أشد من القتل)
السؤال
قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] ما معنى هذه الآية؟
الجواب
معناها: أن فتنة الإنسان عن دينه أشد من قتله, وذلك لأن الإنسان إذا فتن عن دينه فكفر والعياذ بالله كان مصيره النار إذا مات على ذلك, أما إذا قتل وهو مسلم؛ فإن مصيره الجنة بإذن الله تعالى، ففتنة الإنسان عن دينه أعظم من قتله.(138/22)
معنى حديث سؤال حذيفة عن الشر
السؤال يقول: حبذا لو تكلمت بشيء من التفصيل عن حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه {كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني} إلى آخر الحديث؟
الجواب
الحديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة حين قال حذيفة: {إن الله جاء بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم, قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن, قال: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي تعرف منهم وتنكر} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف يأتي خير ولكن فيه دخن وضعف, فيه نقص, فيه ناس يهتدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم, ويستنون بغير سنته, تعرف منهم وتنكر, يعني فيهم خير وشر, وحق وباطل, وهدى وضلال, ومعروف ومنكر, ليس خيراً خالصاً, قال حذيفة: هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: {نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها} أي ناس يدعون إلى النار, أئمة يدعون إلى النار, يدعون إلى الكفر, دعاة إلى القومية, دعاة إلى العلمانية, دعاة إلى الاشتراكية والشيوعية, دعاة إلى الفساد, دعاة إلى الحداثة, دعاة إلى ألوان الانحراف الفكري أو الخلقي, فقال حذيفة رضي الله عنه: يا رسول الله! فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: {الزم جماعة المسلمين وإمامهم} الإمام هو الحاكم الذي يحكم بالكتاب والسنة, الحاكم المسلم الذي يطبق شرع الله, الزم الحاكم , والجماعة: العلماء والفقهاء الذين يكونون ملتقين ومحيطين بهذا الحاكم , وذلك لأن الأصل أن العلم والحكم واحد, فأولي الأمر هم العلماء والأمراء, قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] من هم أولي الأمر؟ هم العلماء والأمراء, والأصل أن العالم والأمير أمرهما واحد, والعالم هو الذي يقود الأمة ويوجهها ويرشدها, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {الزم جماعة المسلمين وإمامهم} قال: إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ -بمعنى خسروا الاثنتين لا يوجد حاكم يحكم بالشرع, ولا يوجد علماء يرفعون راية الكتاب والسنة ويدعون الناس إلى الحق قال: اعتزل تلك الفرق الضالة كلها، لا تتبع أحد من هذه الفرق، ولو أن تعض على جذع شجرة حتى يأتيك الموت، وأنت على ذلك, إذاً الحديث أفاد أنه إن وجدت جماعة المسلمين وإمامهم الزم جماعة المسلمين وإمامهم وإن وجدت الإمام الذي يحكم بالكتاب والسنة؛ لكن ليس حوله علماء وفقهاء يرفعون الراية فالزم العالم الحاكم الذي يحكم بالكتاب والسنة, وإن لم تجده لكن وجدت العالم الذي يدعو إلى الكتاب والسنة, فالزم العالم أيضاً, وإن لم تجد لا حاكماً يحكم بالشرع ولا عالماً يدعو إلى الشرع, فاعتزل الفرق كلها إن لم تستطع أن تقوم بجهد كأن تكون عالماً ناشراً للسنة, قامعاً للبدعة, فاعتزل هذه الفرق ولا تفكر باتباع الفرق الضالة حتى لو دعاك الأمر إلى الاعتزال الكلي.(138/23)
كتاب الإذاعة لأشراط الساعة
السؤال يقول: ما رأيك في كتاب الإذاعة لأشراط الساعة؟
الجواب
كتاب الإذاعة وغيره من الكتب المؤلفة في أشراط الساعة, غالبها -كما أسلفت في المحاضرة الماضية- لا تهتم بإيراد الأحاديث الصحيحة, بل تذكر الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة, بل ربما تذكر أحاديث موضوعة, فينبغي للإنسان أن يتحرى؛ ومن الكتب التي عني فيها مؤلفوها باختيار الأحاديث الصحيحة والكلام عليها كتاب "أشراط الساعة" لـ يوسف الوابل.(138/24)
جمع بين حديثي فضل الصحابة والقابض على دينه
السؤال يقول: كيف نجمع بين الحديثين اللذين أحدهما معناه أن القابض على دينه له أجر خمسين من الصحابة, والآخر أنه لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه؟
الجواب
نعم، في حديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان أن: {القابض على دينه كالقابض على الجمر} وذكر أن المتمسك بالدين يومئذٍ له أجر خمسين, قالوا: منا أو منكم؟ قال: {بل منكم} وفي حديث آخر قال: {لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه} كيف نوفق بين الحديثين؟ يكون التوفيق بين الحديثين بأمور: فيمكن أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام له أجر خمسين من الصحابة, يعني باستثناء فضل الصحبة, فإن لكل صحابيٍ من فضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم, والجلوس معه, والاكتحال برؤيته, وسماع حديثه, وخدمته وغير ذلك, ما لا يدركه من بعده, فيكون له أجر خمسين باستثناء فضل الصحبة.
الأمر الثاني: أن يكون له أجر خمسين في العمل, بمعنى أنك لو أنفقت ديناراً, لأخذت بهذا الدينار الذي أنفقته في آخر الزمان أجر خمسين ديناراً أنفقها المتقدمون, ولا يعني هذا أنك أفضل منهم خمسين مرة لا؛ لأنهم أكثر منك عملاً, وأكثر منك إخلاصاً, فالصحابة -مثلاً- تميزوا بكثرة الإخلاص, تميزوا بكثرة العمل, تميزوا بالتضحية, تميزوا بأمور, تميزوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم, أنت ليست لك هذه الأشياء لكن ما تعمله من الأعمال الصالحة لك فيه أجر عمل خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, مثل هذا العمل بالذات.
فمثلاً: صليت ركعة هي لك عن خمسين ركعة, لكن لا يعني أكثر منهم؛ لأنهم أكثر منك عملاً, وأكثر منك إخلاصاً, فتميزوا عنك بجوانب أخرى, وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يمكن أن يأتي بعد الصحابة رضي الله عنهم أحد في مثل فضلهم, لا فرد, ولا جماعة.
وذهب ابن عبد البر وبعض العلماء إلى أنه يمكن أن يأتي أفراداً قلائل يكونون في منزلة الصحابة وفي عيارهم, أو أفضل من بعضهم, مثلاً ابن عبد البر -رحمه الله- مذهبه ومذهب بعض أهل العلم يقول: يمكن أن يأتي في الجيل الثاني أو الثالث أو الرابع أو العاشر رجل أو آحاد قد يكون الواحد منهم أفضل من بعض المتقدمين, هذا مذهب ابن عبد البر خلافاً للجماهير من أهل العلم, فإنهم يرون أن الصحابة أفضل ممن بعدهم أفراداً وجماعة.(138/25)
عصر غربة الدين
السؤال
هل نستطيع أن نقول: إننا في عصر الغربة أو في بداية عصر الغربة؟
الجواب
نعم لاشك أننا في هذا العصر نعيش جوانب من غربة الإسلام في أمور كثيرة، غربة الإسلام في جانب الحكم, فإن الحكم بما أنزل الله نادر في هذا الزمان، وكثير من البلاد لا تحكم بما أنزل الله عز وجل في الدماء, ولا في الأموال, ولا في الأعراض, ولا في الأبشار, ولا في غيرها, وأقل البلاد تحكم بما أنزل الله فيما يسمونه بالأحوال الشخصية, في الطلاق، والمواريث، وما أشبه ذلك, وحتى في قوانين الأحوال الشخصية أو فيما يسمونها بالأحوال الشخصية حاولوا تحويلها في عدد من البلاد إلى قوانين وضعية.
غربة للإسلام في الجهاد, فإن الجهاد في سبيل الله الذي يهدف إلى رفع كلمة الله كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وقد أصبح الجهاد ألعوبة يعلنه كل يوم طاغية, أو فاسق, أو علماني, أو بعثي, أو كافر, يضحك على عقول الناس برفع هذه الكلمة, وما أكثر ما سمعنا من هذه النداءات والصيحات بالأمس أعلنها الخميني , واليوم أعلنها صدام، وقبل ذلك وبعد ذلك وما أكثر هذه الدعاوى, فأصبحنا نعيش غربة الجهاد الحقيقي، وغربة الجهاد في سبيل الله, غربة في السلوك, غربة في الفكر, ولكن مع ذلك ينبغي أن ندرك أن هذه الغربة ليست هي الغربة الأخيرة, لا, إنما هي غربة كغربة الإسلام في عهد الصحابة رضي الله عنهم -في أوائل عهود الصحابة- غربة نرجو وننتظر أن يتلوها زوال لهذه الغربة, وارتفاع لشأن الإسلام, فأنا أشبه هذه الغربة بالشمس أول ما تشرق أشعتها ليست منتشرة، لكنها قوية، وحية، ومشرقة، وتزداد لحظة بعد لحظة, وليست الغربة الأخيرة التي في آخر الزمان، والتي يمكن أن تشبه بالشمس قبيل الغروب, الشمس على رؤوس الأبنية, وأطراف النخيل, والجبال المرتفعة, وما هي إلا لحظات حتى تغيب الشمس ثم ينتهي الأمر, لا, فينبغي أن يكون عند الإنسان ثقة بوعد الله عز وجل وأن المستقبل لهذا الدين كما ذكرنا.(138/26)
ما معنى قيم خمسين امرأة رجل
السؤال يقول: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه {أنه في آخر الزمان يكون قيم خمسين امرأة رجل واحد}
الجواب
نعم الحديث رواه البخاري كما ذكر السائل ومعنى الحديث يحتمل معنيين: المعنى الأول:- أن يكون الرجل تلوذ به خمسون امرأة, أمه, وأخته, وزوجته, وبنته, وبنت أخيه, وبنت أخته, وخالته, وعمته, يعني قريبات له ليس لهن قيم إلا هو, هذا احتمال.
المعنى الثاني:- ذكره بعض أهل العلم قالوا: إن المقصود أنه يدل على قلة الرجال وكثرة النساء، كذلك يدل على انتشار الجهل, وخفاء العلم, فأصبح الناس لا يعرفون الحلال والحرام حتى إن الرجل قد يتزوج خمسين امرأة , لجهله أن النكاح بأكثر من أربع لا يجوز, والعجيب في الأمر أن هذا موجود الآن, أقصد زواج رجل بخمسين امرأة أو أكثر, موجود الآن؛ ولا أقول لكم موجود في بعض مناطق أفريقيا بين الجهلة والوثنيين, لا, بل موجود في مناطق عديدة من بين المنتسبين للإسلام, وقد سمعت من بعض المشايخ -وهم ثقات- عن أشخاص جاءوا في أعوام ماضية، وزاروا والتقوا ببعض الشيوخ, وكان أحدهم عنده خمسون امرأة, فكلموه على أنه لا يجوز ويجب أن يمسك أربعاً ويفارق سائرهن, فتلكأ وتعذر, ورفض أن يطلق منهن أحداً, فتحقق بعض ما أخبر صلى الله عليه وسلم.
وكأن في الحديث إشارة إلى الحروب الطاحنة التي تقع في آخر الزمان, لأن غالب وقود الحروب هم الرجال, فيقل الرجال حتى يصبح لكل خمسين امرأة رجل واحد.(138/27)
الحروب بالآلات الحديثة في السنة
السؤال يقول: هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة الحروب المعاصرة وما فيها من الآلات الحديثة, والدبابات, والطائرات, وغيرها, أم ذكر السيوف والخيول تكفي, وهل يمكن قياس ذلك بذلك، أم أن هذه الآلات سوف تندثر وتعود الآلات القديمة؟
الجواب
أقول جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث فيها ذكر الخيول والسيوف وغيرها, وهذه الأحاديث يمكن أن تحمل على أحد محملين: - إما أن يكون المقصود بالسيوف والخيول وغيرها, تعبير نبوي من النبي صلى الله عليه وسلم عن الآلات الحديثة, عبر بالأشياء التي كان الناس يفهمونها في عصره ووقته عليه الصلاة والسلام, ولو قال لهم صلى الله عليه وسلم الطائرة, والدبابة, والمدفعية, والصاروخ لكان مُلغزاً في ذلك, وكان الناس الذين حوله لا يفهمون ما قال, وقد بعث صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين, وكان الناس الذين حوله يفهمون عنه ما يقول, ثم يبلغونه إلى من بعدهم, ولم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم أن يأتي للناس بألفاظ وعبارات لا يفهمون معانيها, وإنما يفهمها من بعدهم هذا احتمال.
- والاحتمال الثاني أن يكون ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الحضارة الحديثة سوف تندثر, وتنهار, ويعود الناس إلى السلاح القديم, أو ما يسمونه بالسلاح الأبيض: السيف والسكين, والخنجر, وغيرها, هذا محتمل والخيول, ولذلك جاء في أحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الذين يفتحون القسطنطينية, وأنهم يعلقون سيوفهم بشجر الزيتون, هذا في صحيح مسلم، وذكر الخيول حين تغدر الروم بالمسلمين فيقاتلونهم ويرفع رجل من أهل الروم الصليب فيقول: غلب الصليب, فيقوم إليهم المسلمون ويقاتلونهم.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أسمائهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم, ذكر أنهم فرسان يركبون على الخيول, فيحتمل أن يكون المقصود الخيول الحقيقة, ويكون هذا إشارة إلى أن الحضارة الحديثة سوف تندثر وتنهار, وهذا محتمل جداً متى يحدث بعد مائة سنة أو أكثر, هذا غيب من غيب الله لا يعلمه إلا الله.
لكن حتى الدراسات الحديثة تتوقع أن يكون هناك أحداث وأوضاع وحروب طاحنة, تدمر الحضارة البشرية الموجودة اليوم, وتبدأ الحياة البشرية بداية جديدة.
أقول تعقيباً على ذلك: لا ينبغي للمسلمين أن يتعلقوا بمثل هذه الأمور, وإن كنا نقول أنها محتملة جداً, لكن ينبغي ألا نتعلق بها؛ لأنها متى تحصل هذه، أبعد مائة سنة, بعد مائتين بعد أكثر بعد أقل؟ الله أعلم.
فهل صحيح أننا نحن المسلمين سوف ننتظر انهيار الحضارة الغربية, وانهيار التقدم المادي المعاصر, وبداية الحياة من جديد حتى نرفع ديننا وندعو إليه, هل هذا يليق, أو يجوز, أو يسوغ؟! كلا, بل يجب على المسلم أن يسعى إلى نصر دينه, ورفع راية لا إله إلا الله بالوسائل الموجودة، والإسلام يمكن أن يحكم في كل عصر, وفي كل بيئة, حتى في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي والمادي والحضاري, يمكن أن يحكم الإسلام ويهيمن, لكن بشرط أن يوجد الرجال الذين هضموا العلم المادي البشري, وفي نفس الوقت هضموا العلم الشرعي, أو أخضعوا العلم المادي البشري للشرع, وهذا الذي ننتظره من شباب المسلمين.
الآن المسلمون في الواقع في ذيل القافلة, وإذا كنا نمني أنفسنا بالأماني, ونقول: الآن انهارت الشيوعية, ونحن في انتظار انهيار أمريكا الوجه الغربي الآخر للحضارة المادية, نقول: نحن في انتظار انهيار الحضارة الغربية صحيح, والدراسات الغربية الأمريكية -وقد اطلعت على شيئ منها- تتوقع بأن هناك أزمات خانقة عاصفة سوف تهدد أمريكا, وسوف تنذر بفنائها وانهيارها, لكن السؤال الذي أطرحه عليكم: افترضوا أن أمريكا انهارت اليوم وليس غداً, هل عندنا نحن المسلمين الآن القوة والاستعداد والوسائل التي تجعلنا نطمئن إلى أننا سوف نقود البشرية إلى الإسلام، وإلى كلمة الله جل وعلا؟ في الواقع نحن أقل من ذلك بكثير, نحن ضعفاء الإيمان, ثقتنا بديننا ضعيفة, علمنا ضعيف, قدرتنا على قيادة البشرية ضعيفة.
بيننا نحن المسلمين الآن من المشكلات, والأزمات, والخلافات, والاهتمامات الجانبية, وضعف التفكير, قدر كبير يحتاج إلى أن ننفض هذه الأشياء عنا, ونبدأ حياة صحيحة, وحينئذٍ فإنه لا يهمنا أن يواجهنا تحديات كبيرة من أمريكا, ومن روسيا, ومن اليهود, ومن غيرهم, فإنه من كان الله تبارك وتعالى معه، فإنه لا يمكن أن يقف في وجهه أي قوة مهما كانت, {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فلو كنا مسلمين حقاً سواءً بتمسكنا بشرعنا, أو ثقتنا بالله عز وجل وتوكلنا عليه, أو في تحقيقنا لوسائل النصر المطلوبة والتي منها الحصول على التقنية, والحصول على السلاح, والحصول على الصناعة, ووحدة الكلمة, والله لا يمكن أن تقف في وجهنا أي قوة مهما كانت.(138/28)
الجمع بين حديثي مدح وذم آخر الزمان
السؤال
كيف نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه} وبين قوله: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} والحديثان صحيحان؟
الجواب
أولاً: كل قاعدة لها استثناء, فإن قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يأتيكم زمن إلا والذي بعده شر منه} هذه قاعدة عامة لها استثناء, فمثلاً الزمن الذي يكون في آخر الدنيا زمن عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام, هذا لاشك أنه من أفضل الأزمنة, بل إن بعض أهل العلم دخلوا في مقارنة بينه وبين زمن بعض الصحابة رضي الله عنهم كالخلفاء الراشدين، وإن كان الأمر في ذلك مما لا ينبغي، لكن على أي حال المقصود أن الزمن الذي يكون فيه عيسى بن مريم والمهدي في آخر الزمان, هو من أفضل الأزمنة بعد قرون الصحابة رضي الله عنهم, والتابعين, وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الإسلام يضرب بجدرانه؟؟ في الأرض, والحقد يرفع, والأديان كلها تنمحي أو تكاد أن تنمحي ولا يبقى إلا الإسلام, ويقبل الناس على العبادة، ويهم الرجل الغني المال لا يدري من يأخذه, ولا يجد من يقبله منه لغنى الناس، ويوفق الناس بحاكم عادل منصف يحثو المال حثياً, ولا يعده عداً, يعطي الناس المال بالكوم، لا يعده بالدرهم والدينا, إلى غير ذلك مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
مثل ذلك الأزمنة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها أزمنة المجددين, أخبر {أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها} كما رواه أبو داود بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه, فزمان المجدد -والله تعالى أعلم- أفضل من الزمن الذي قبله، إنما الغالب أن كل سنة شر من التي قبلها, كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس عام أمطر من عام, لكن يرفع العلم ويظهر الجهل, وترفع السنن, وتنتشر البدع بين الناس، هذه نقطة.
النقطة الثانية:- أن المقصود بالحديث النظرة العامة للأمة، بل للدنيا كلها, أما في بلد معين فقد يكون عام خير من عام, أو يكون بعض الأوقات خير من بعض, وهذا أمر مشاهد، فمثلاً لو نظرت في الجزيرة العربية قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كانت بلداً تنتشر فيه عبادة الأوثان بشكل ظاهر, وكان الناس يعبدون أوثاناً من أشجار, أو أحجار, أو غيرها, وكانوا يحكمون عادات وسلوكاً وطرائق من أنظمة الجاهلية, وكان همهم السلب والنهب, حتى أنه لو ظهر عليهم صاحب الرسالة الأولى صلى الله عليه وسلم لما عرف من أمرهم شيئاً, فلما ظهر الشيخ بدعوته جدد لهذه الأمة أمر دينها, وتبعه الناس وأحيا ما اندرس، وظهرت معالم الشريعة, وخفيت معالم البدعة والشرك, وصارت هذه البلاد إلى خير عظيم, ولا تزال إلى يومنا هذا -والحمد لله- تعيش في وضع جيد نسبياً من آثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
كذلك يمكن أن يجاب بجواب ثالث: وهو أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} أن المقصود بآخره عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام وهذا ذكره بعض أهل العلم.(138/29)
درجة حديث: رحم الله امراءاً كف الغيبة عن نفسه
السؤال
أرجو أن تخبرني عن صحة هذا الحديث "رحم الله من كف الغيبة عن نفسه"؟
الجواب
أقول لا أعلم هذا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أظنه حديثاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رحم الله امرءاً كف لسانه عن أعراض المسلمين, فإنه لا تحل الجنة للعان ولا طعان} وهذا الحديث أيضاً رواه الديلمي عن عائشة وهو ضعيف لا يصح.(138/30)
أحاديث الفتن
السؤال يقول: بعض أحاديث الفتن قد تكون ظاهرة لنا, فهل يحق لنا أن نقول: إن هذا قد حدث، عندما نقرأ حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ونحدث به الناس؟
الجواب
الأحاديث تختلف فمنها ما حدث فعلاً, كما نعلم فيما حدث من القتال بين الصحابة رضي الله عنهم, أو انتهاء عصر الخلفاء الراشدين, أو تفرق شمل الأمة, أو ما أشبه ذلك, فهذا حدث بلا خلاف، ولا بأس أن يقول الإنسان: إنه حدث, وهناك أشياء يتصور الإنسان أنها حدثت وقد لا تكون حدثت, فمثل هذه لا ينبغي أن يتسرع الإنسان فيها.(138/31)
سؤال عن حديث الفئتين المتقاتلتين
السؤال
نرجو أن تشرحوا لنا هذا الحديث {لا تقوم الساعة حتى تتقاتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة} أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم, والحديث الآخر {لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم, والحديث الذي فيه ذكر الرجل أنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم " الجهجاه " كما في المعنى.
الجواب
الحديثان الأولان: الحديث الأول: {لا تقوم الساعة} , صواب، والحديث {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان من أمتي دعواهما واحدة} والحديث متفق عليه, عن أبي هريرة ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: أن الساعة لا تقوم حتى تتقاتل طائفتان من المسلمين دعواهما واحدة، والمقصود بهذا الحديث -والله تبارك وتعالى أعلم- القتال الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم, فإنهما فئتان عظيمتان ودعواهما واحدة، أي: كلاً من الطائفتين كانت تدعو إلى الحق, وإلى الإسلام, وإلى إقامة الخلافة الراشدة, لكنهم اختلفوا في الاجتهاد, فكلهم مجتهدون بلا شك, ولكن منهم مصيب ومنهم من اجتهد فكان غيره أصوب منه, فكان علي رضي الله عنه أقرب إلى الحق من غيره, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أمر الخوارج, قال: {تقتلهم أولى الطائفتين بالحق} أو {أقرب الطائفتين إلى الحق} , فالمقصود بالفئتين العظيمتين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الثاني: {لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه} فهذا الحديث أيضاً رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه, والجزم بأن هذا الأمر وقع أو لم يقع من الأمور الصعبة العسيرة, فإن من الناس من زعم أنه وقع في القديم, ومنهم من زعم أنه وقع في التاريخ الحديث, وطبق ذلك على بعض الشخصيات المعروفة, ومنهم من قال: إنه لم يقع والجزم بذلك عسير.
أما الحديث الذي أشار إليه السائل وهو حديث " الجهجاه " {أنه لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل -أو يحكم رجل- يقال له الجهجاه} فإن الحديث رواه مسلم في صحيحه، ورواه الترمذي أيضاً في كتاب الفتن عن أبي هريرة وقال: حسن غريب, وذكر أنه من الموالي، يعني أنه ليس من العرب ولكنه من الموالي, ومع ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم وهذا لا أعلم أنه حدث فعلاً.(138/32)
حديث في الاستعاذة من القرن الخامس عشر
السؤال يقول: هل ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ من القرن الخامس عشر؟
الجواب
كلا، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, وإنما يتناقل العامة رواية إسرائيلية مختلقة مكذوبة, أن الذئب الذي جاء به أخوة يوسف إلى يعقوب، لما أحضروه إلى يعقوب، وقالوا: إنه قد أكل يوسف, إن هذا الذئب قال: إنني ما أكلت وإن كنت أكلته فلعلي أحشر مع القرن الخامس عشر؟ وهذه من حكايات العجائز التي تحكى ليُضحك منها, وإلا فليس حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(138/33)
أسباب النجاة من الفتن
السؤال يقول: نسمع بالفتن وأحاديثها ونخشى أن تصيبنا, فما هي الأسباب التي نطبقها حتى نسلم من هذه الفتن؟
الجواب
أسباب السلامة من الفتن كثيرة, من أهمها الاعتصام بالكتاب والسنة, بأن يقبل الإنسان على فقه القرآن والسنة، علماً وقراءة وعملاً وتطبيقاً, فأقبل على القرآن فإنه هو المخرج من الفتن, أقبل عليه قراءة وفهماً وتدبراً وعملاً فهذا هو الذي يعصمك بإذن الله تعالى من الفتن.
الأمر الآخر: هو الإقبال على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم, فإن الذي وصف تلك الفتن وبينها, هو الذي بين الشفاء الناجح الناجع منها.
الأمر الثالث: هو الاعتصام بالعقل, فإن العقل الراجح بعد فهم الشرع هو بإذن الله تعالى من أهم أسباب العصمة من الفتنة, فإن كثيراً ممن يقعون في الفتن هم من أصحاب العقول الطائشة, الذين يركضون خلف كل ناعق, ويتأثرون بكل فتنة, ويستجيبون لكل دعوة, فهم أصحاب عقول خفيفة لا تدرك ما وراء الأكمة, وأكثر هؤلاء من السذج والجهلة والعوام, فعلى الإنسان أن يعتصم بالعقل الراجح عند هذه الفتن.
أمر آخر: إذا قلت: أنا لا أستطيع أن أدرك هذه الأشياء كلها, فنقول حينئذٍ: عليك أن تكون تابعاً لمن تثق بعقله ودينه وعلمه من أهل العلم, الذين جمعوا بين العلم بالشرع, والعلم بالواقع والعقل الراجح فيسعك ما وسعهم.(138/34)
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هذا يسأل عن بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول: خص الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعشر صفات هي: 1- لم يحتلم طول حياته.
2- ليس له ظل.
3-تبتلع الأرض ما يخرج منه.
4-بدنه محرم على جميع الحشرات.
5-تنام عينه ولا ينام قلبه.
6- يرى من خلفه كما يرى من أمامه.
7- لم يتثاءب.
8- ولد مختوناً.
9- تأتي إليه جميع الدواب طائعة إذا دعاها.
10- كان ربعة ولكن قامته تعلو كل قامة مهما بلغت من الطول.
هل هذه صحيحة؟
الجواب
هذه فيها الصحيح, وفيها غير الصحيح, وفيها ما يتوقف فيه, فأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يحتلم طول حياته: فهذا ذكره جماعة من أهل العلم الذين ألفوا في خصائصه صلى الله عليه وسلم, وقد جاء في الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: [[أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصبح جنباً من جماع غير احتلام, ثم يغتسل ويصوم]] فذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام, وهذا الحديث استدل به بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع منه الاحتلام, واستدل به آخرون على أن الاحتلام جائز أن يقع منه صلى الله عليه وسلم, لأنه لو لم يكن جائزاً أن يقع منه لما نفته أم سلمة رضي الله عنها, على كل حال لم يثبت شيء صحيح في عدم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم, اللهم إلا أن يقال: إن الاحتلام من الشيطان والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الشيطان, وهذا ليس أمراً ظاهراً.
أما أنه ليس له ظل: فهذا لا أعلم فيه شيئاً.
تبتلع الأرض ما يخرج منه: كذلك لا أعلم فيه شيئاً.
بدنه محرم على جميع الحشرات: إن كان يقصد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فهذا معروف أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
تنام عينه ولا ينام قلبه: فهذا صحيح، وقد جاء في الصحيح في قصة الملكين اللذين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: أهو نائم أم يقظان؟ فقال أحدهما: تنام عيناه ولا ينام قلبه.
يرى من خلفه كما يرى من أمامه: هذا أيضاً صحيح وثابت عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه أمر أصحابه أن يعتدلوا في الصف وقال: {إنني أراكم من ورائي} .
لم يتثاءب: هذا لا أعلم فيه شيئاً, وإن كان التثاؤب من الشيطان.
ولد مختوناً: هذا فيه اختلاف, وقد جاء فيه حديث باطل لا يصح, وقال بعضهم: ولد مختوناً, وقال بعضهم: ختن بعد ولادته.
أما أن تأتي إليه دواب الأرض طائعة, وكان ربعة لكن قامته تعلو كل قامة: فهذا لا أعلم فيه شيئاً.(138/35)
مقدار الضعف في مسند أحمد
السؤال يقول: ما رأيك بمن قال بأن نصف مسند الإمام أحمد ضعيف، وعلل ذلك بأن من تأخر عنه حقق هذا المسند؟
الجواب
هذا كلام باطل، فإن مسند الإمام أحمد فيه ما بين 30 إلى 40 ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغالب هذه الأحاديث صحيح أو حسن, حتى إن الإمام أحمد قال لولده عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سوف يكون للناس إماماً، وقلّما يخرج عن المسند من أحاديث الكتب الستة, أي أن معظم الأحاديث الموجودة في الكتب الستة موجودة في مسند الإمام أحمد لا يكاد يوجد حديث في الكتب الستة إلا ويكون موجوداً في مسند الإمام أحمد.
والأحاديث الضعيفة في مسند الإمام أحمد موجودة, لكنها قليلة, أما الأحاديث الموضوعة فهي أقل من القليل, وقد دافع عنه الإمام الـ الحافظ ابن حجر في رسالة مختصرة سماها "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد" ذكر فيها الأحاديث التي قيل بأنها موضوعة, وبين أنه لا يصح الحكم عليها بالوضع, بل منها ضعيف جداً, ومنها ضعيف, ومنها حسن, وقد يكون الصواب مع الـ حافظ ابن حجر في كثير مما قال، قد يكون قد اجتهد ولم يوفق في بعض ما ذكر.(138/36)
البحث عن صحة الحديث
السؤال يقول: ناقشت أخاً لي في مسألة صحة الأحاديث، فروى حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم, فقلت له: ما صحة هذا الحديث، فغضب مني لأنني أردت معرفة صحة الحديث؟
الجواب
نعم هذا يقع مع الأسف حتى من بعض طلبة العلم, إذا قلت له: ما مدى صحة هذا الحديث؟! تمعر وجهه وغضب وتضايق من ذلك! وهذا خطأ، بل ينبغي أن تفرح إذا سألك سائل عن صحة الحديث, وكان هذا دأب الصحابة رضي الله عنهم, فأنت الآن في القرن الرابع عشر فلا غرابة أن يسأل؛ لأنه قد وجدت أحاديث كثيرة موضوعة على الرسول صلى الله عليه وسلم, ووجدت أحاديث كثيرة ضعيفة, فلا غرابة أن يسأل إنسان ما مدى صحة الحديث, لكن في عهد الصحابة رضي الله عنهم وهم حديثو عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يكن هناك أسانيد طويلة ولا رجال مجهولون ولا، ولا , ومع ذلك كان الصحابي إذا سمع حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ما مدى صحته, روى أصحاب السنن وأحمد بسند صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: [[كنت إذا حدثني أحد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإن حلف لي صَدَّقته]] أي: يقول له: احلف أنك سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا حلف صدقه, قال علي رضي الله عنه: وقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبدٍ يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيقوم ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أذنبت فاغفر لي إلا غفر له} إذاً كان علي رضي الله عنه يستحلف من حدثه من الصحابة, وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان في حضرة جماعة من التابعين، فكان فيهم رجل اسمه بشير بن كعب يقول: [[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]] فلقيه ابن عباس لقاه جانبه وأعرض عنه, فقال له: مالك يا ابن عباس؟! أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض عني, فقال ابن عباس رضي الله عنه: إنا كنا زماناً إذا سمعنا رجلاً يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأشرأبت إليه أعناقنا]] , كنا إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحنا، وأبدينا رغبتنا في سماع ما يريد أن يقول, لأننا ما كنا نسمع إلا الصحيح, قال ابن عباس: [[فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ إلا ما نعلم]] أي حين بدأ الناس يروون أحاديث صحيحة, وأحاديث ضعيفة, وأحاديث لا تصح, أصبحنا لا نأخذ كل ما نسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا نأخذ إلا ما صح وثبت لدينا صحته بالإسناد المتصل.
إذاً لا حرج أن يستثبت الإنسان من صحة الحديث, لكن أنبه إلى أمر, أحياناً يأتيني بعض الشباب فيقول: ما حكم كذا وكذا؟ فأذكر له الحكم, ثم يقول لي: ما هو الدليل؟ فأقول: الدليل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه كذا وكذا , فيقول لي: هل هو صحيح؟! أقول له: نعم هو صحيح, بعد هذا أنا أرى أنه عند هذا الحد يجب أن يقف؛ ما دام قلت له: أنه صحيح, يجب أن يقف, فإذا شك يبحث في الكتب للزيادة, وبعضهم يسترسل معك يقول: إذا قلت له صحيح, قال: من صححه؟! أقول: صححه فلان وفلان وفلان, قال: في أي كتاب؟! إذا قلت في كتاب كذا, قال: في أي جزء؟! بعد ذلك يقول: في أي صفحة مثلاً؟! ويمكن يقول لك: في أي سطر؟! أو لو قلت له هذا الحديث ضعيف, قال لك: ما سبب ضعفه؟ قد لا أحفظ سبب الضعف, أحفظ الحكم لكن لا أحفظ سبب الضعف, أجل قلت له: فيه فلان وهو رجل ضعيف, قال لك: من ضعف هذا الرجل؟! قلت: ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة , قال: في أي كتاب؟!! وهكذا! صار يستطرد معك في أسئلة أقرب للتعجيز.
إذاً المطلوب العدل، من حقك أن تسأل عن صحة الحديث أو من خرجه لكن الاستطراد أين رواه؟ وفي أي مكان؟ وفي أي كتاب؟ ومن صححه؟ ومن ضعفه؟ وما سبب تصحيحه؟ وما سبب تضعيفه؟ هذا أمر صعب يحتاج إلى بحث, فإذا أحببت ذلك فعليك بالرجوع إلى المطولات.(138/37)
إسناد القصة إلى مصدرها
السؤال
ما معنى هذه العبارة: هذه القصة موجودة في كتاب كذا وكذا وأصلها في الصحيح؟ - يقصد أن بعض المتحدثين أحياناً يذكر قصة طويلة ويقول: أصلها في الصحيح, ما معنى الكلام هذا؟
الجواب
معناه أن القصة أصلاً في صحيح البخاري, أو في صحيح مسلم, لكنها مختصرة بخلاف السياق الذي سقته فهو طويل, فأصل القصة في صحيح البخاري, لكن هذا السياق بهذا الطول ليس موجوداً في صحيح البخاري هذا هو المعنى.(138/38)
التوفيق بين حديثي اتباع أهل الكتاب وفارس والروم
السؤال يقول: ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن اليهود والنصارى وفي الحديث الآخر فارس والروم, فكيف التوفيق بين الحديثين؟
الجواب
نعم، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سوف تتبع سُنن بضم السين جمع سنة، أو سَنن بفتح السين يعني: طريق اليهود والنصارى, وكذلك فارس والروم, والجمع بينهما أن هذه الأمة سوف تتبع سنن الجميع اليهود والنصارى, والنصارى هم الروم, فنقول اليهود والنصارى والفرس, ثلاث أمم سوف تتبع هذه الأمة سننهم وطرائقهم حذو القُذَّة بالقُذَّة من هم؟ هم اليهود والنصارى والفرس.(138/39)
أسئلة فقهية(138/40)
الموسيقى التي مع الأخبار في الراديو
السؤال يقول: عند سماع الأخبار في الراديو يصاحب ذلك أحياناً من موجة أخرى صوت موسيقى خفيفة هل في هذا حرج؟
الجواب
الموسيقى لا شك في تحريم سماعها, فإذا استطاع الإنسان أن يتخلص منها فعل, أما إذا جاء صوت ضعيف ليس مقصوداً, والإنسان لا يقصد سماعه فلعله لا حرج في ذلك -إن شاء الله- لكن على الإنسان أن يبذل جهده في التخلص من هذا الصوت.(138/41)
المصادر الموثوقة للأخبار
السؤال
أرشدني إلى مصادر إخبارية موثوقة؟
الجواب
في الواقع لا أعلم مصادر أخبارية موثوقة، ولعل من أكثر ما يمكن أن يوثق به بعض الصحافة الإسلامية, وكثير منها توقفت لأنها كانت في الكويت كالفرقان والبلاغ والمجتمع, وما بقي إلا صحف إسلامية قليلة, لعل منها مجلة البيان، وبعض الصحف، وهي قليلة جداً، فعلى الإنسان أن يستفيد منها.
أما بالنسبة للمصادر الإخبارية فهناك إذاعات غربية يسمعها الناس كما يستمعون إلى إذاعة لندن في بريطانيا, أو مونتكارلو في فرنسا, أو صوت أمريكا أو غيرها, ومثل هذه الإذاعات هي لا شك أكثر دقة؛ لكن مع ذلك ينبغي أن ندرك أنهم يدسون السم في الدسم أحياناً, وإن كانوا يحرصون على ما يسمونه بالموضوعية والدقة, إلا أنهم أحياناً ينشرون بعض الأخبار المغرضة، ويحاولون أن ينشروا الخبر بطريقة ذكية يلبسون فيها على بعض المغفلين.(138/42)
عصر الغثائية
السؤال
هل يصح أن تطلق على عصرنا هذا بأنه عصر الغثائية؟
الجواب
في الواقع يوجد غثائية كثيرة, لكن بدأ المسلمون يعون واقعهم, وبدءوا يدركون الأمر الذي يجب أن يفعلوا, فنرجو أن ننتقل من مرحلة الغثائية إلى مرحلة القوة والإعداد المادي والمعنوي.(138/43)
حول النصر في فلسطين
السؤال
ما رأيك فيمن يقول: أتمنى ألا يتحقق النصر في فلسطين الآن, لأنه لو تحقق الآن فستحكم حكماً طاغوتياً, بل ربما ضُيّق على الملتزمين بدينهم مضايقة تفوق مضايقة اليهود الآن على فرض تحقق النصر، وإلا فهو شبه مستحيل؟
الجواب
في الواقع أنه لا داعي لفرض المستحيل؛ لكنني أقول: إننا يجب أن نعلم أن الله يؤتي النصر من يشاء، يقول الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] توقف عند هذه الآية وتأمل من هم الذين ينصرهم الله، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فالمعنى -والله تعالى أعلم- أن الله تعالى يعلم من حال هؤلاء الذين يجاهدون ويرفعون راية الإسلام؛ أنهم سوف يصبرون إذا انتصروا, فإذا مكنوا وحصل لهم النصر ثبتوا وصبروا فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر, فحينئذٍ ينصرهم بمعنى أنك قد تجد أناساً يقيمون الصلاة, ويؤتون الزكاة, ويأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, ويجاهدون فلا ينصرون؛ لأن الله علم أنهم لو مكنوا ما صبروا على النصر, بل لتخلوا عنه.
فمن باب أولى أنك تجد أناساً يرفعون راية العلمانية مثلاً, ويرفعون راية القومية, والديمقراطية, ويرفعون راية وحدة الأديان, فهؤلاء لا ينصرهم الله عز وجل, لأنهم حتى قبل أن ينصروا ما نصروا الله تعالى؛ حتى وهم مهزومون مخذولون تقصفهم الأعداء من كل جانب, ومع ذلك فإنهم ما تابوا إلى الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ترى هتافاتهم وشعاراتهم تدور بين القومية والعلمانية والبعثية وغيرها من الشعارات الأرضية , فكيف ينصرون؟! هيهات أن ينصروا, لا ينصرون أبداً لأن نصرهم خلاف السنن الإلهية, خلاف الشرع الذي أخبرنا الله تبارك وتعالى به, لا ينصرون أبداً, لن ينتصر على اليهود إلا حملة راية لا إله إلا الله.
والغريب -أيها الإخوة- أن اليهود يعرفون ذلك, لعلكم سمعتم في الأخبار -أمس أو قبل أمس- أن اليهود قتلوا مواطناً حاول التسلل إلى إسرائيل, ما صفة هذا الإنسان الذي حاول التسلل؟! قالت الإذاعات والأخبار: إن هذا الرجل من الأصوليين المتشددين, وأنه كان يحمل معه بندقية, أو قالوا يحمل معه المهم الرجل متدين, صورة الرجل الملتحي ينزعج منها اليهودي في كل مكان, المسلم أصبح رعباً ينزل على رءوس اليهود والنصارى والكفار نزول الصواعق, والله لا يخافون من أصحاب الشعارات البراقة, ولا يخافون من الوعيد والتهديد عبر أجهزة الإعلام, إنما يخافون من هؤلاء المؤمنين الذين وضع الواحد منهم روحه على يده يتمنى أن يقتل شهيداً في سبيل الله عز وجل, هذا الذي يخيفهم ويزعجهم, وهم يصرحون ويتكلمون بذلك صراحة.
هذا، وأسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم إلى صالح القول والعمل, وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، ويتوب علينا ويهدينا سواء السبيل, اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا رب العالمين, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(138/44)
كتاب عدالة السماء
السؤال
هذه عدة أسئلة عن كتاب عدالة السماء، وقد سبق أن ذكرت هذا الكتاب فبعضهم يسأل عن عنوان الكتاب يقول: ماذا يقصد بالسماء؟
الجواب
هذا لا شك أنه تحفظ جيد على العنوان؛ لأنه يقصد عدالة الله جل وعلا، وعبر بالسماء وهو يقصد الله تبارك وتعالى, وكان ينبغي ألا يستخدم هذا الأسلوب.
تابع السؤال: ثم يقول ما تقييمكم للكتاب من ناحية صحة القصص الموجودة فيه؟ الجواب: الذي يظهر لي أن عدداً من القصص الموجودة فيه صحيحة, وشهود بعضها أحياء, ثم إنها تسير في اتجاه طيب؛ لأن القصص فيها عبر فلا يلزم أن تكون قصصاً ثابتة, لأننا لن نستخرج منها أحكاماً شرعية.(138/45)
الترف والجهاد
السؤال
سؤالي عن الشاب الذي نشأ تحت كنف والديه في غمرة النعيم والبذخ، والذي كاد يثقل كاهله الثوب الذي يلبسه, ما توجيهكم لهذا الصنف تجاه الواجب الجهادي العام عليه، وعلى غيره وأقصد بالجهاد الاستعداد وغيره؟
الجواب
في الواقع أن مشكلة مثل هذا الشاب أنه ينطبق عليه المثل الذي يقول: فاقد الشيء لا يعطيه، فمثل هذا الشاب أنت تكلمه عن موضوعات عديدة وهو يبتسم ويضحك؛ لأنه في واد وأنت في واد آخر, فكيف السبيل إلى الوصول إلى قلوبهم؟! هنا لا بد من التربية, لا بد من الجهد, لا بد من التسلل إلى قلوبهم بكل وسيلة حتى نستطيع أن تخرجهم مما هم فيه, لأن القضية الأساسية -كما سبق أن نوهت- هي أننا إذا أفلحنا أن نوجد في قلوب الشباب همَّ للواقع وللإسلام وللأمة, إذا بدأ الشباب يهتم للأمة فأبشر بنجاة هذا الشاب بإذن الله تعالى, لكن مادام هذا الشاب محصوراً همه في كيفية كي الغترة وإيجاد ما يسمى بـ "المرزاب" وكيفية إصلاح السيارة, وتغسيلها وغسل الكفرات, وجعل السيارة بشكل معين ثم الدوران في الشوارع, ثم صحبة بعض الصبيان وما أشبه ذلك من المظاهر السيئة, والركض وراء الموضات وتسريحات الشعر, وإلى غير ذلك من الأمور التوافه, فمثل هذا الشاب الآن وهو في غمرة هذه الأمور في وادٍ بعيد، عندما تكلمه أنت عن مثل هذه القضايا ينظر إليك بسخرية, فهو غير مؤهل أن يستمع إليك, فهو يحتاج إلى دعوة جادة تخرجه مما هو فيه حتى يتحرك قلبه, وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .(138/46)
العقاب بالولد وعدل الله
السؤال
ذكرت أن الله تعالى قد يعاقب شخصاً بولده, فكيف يتفق ذلك مع عدالة الله تعالى ومع قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ؟
الجواب
-هذا السؤال تكرر أيضاً وأنا أشكر الأخوين السائلين- لأنه أولاً يجب أن لا نقارن كلام المخلوق بكلام الخالق, إذا كان أحداً ادعى كلاماً وفي القرآن الكريم ما يناقضه فإننا نرد هذا الكلام؛ لأننا نقول هذا كلام مرفوض ومردود, والدليل قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] هكذا ينبغي أن يكون, إلا أن يكون قصد السائل أنه قد يكون للكلام معنى لم يفهمه، على كل حال أقول: هذا كلامي أنا، وكلام فلان، وكلام علان (وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) : دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر أنا استغفر الله تعالى وأتوب إليه إن كنت أخطأت, بعض أهل العلم قد يقول: إنه كما يقال الولد سر أبيه، فإن كان الأب صالحاً, فالغالب أن الأولاد يغلب عليهم الصلاح, وإذا كان الأب فاسداً فالأمر كذلك غالباً, ولذلك جاء في سورة الكهف في قصة موسى والخضر قول الله عز وجل: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] فقد يقال: إنه إذا كان الأب فاسداً والولد مثله أيضاً؛ فإنه قد يعاقب الولد بذنب أبيه, كما في القصة التي سقتها سابقاً؛ الرجل الذي عاهد الجنود ثم لما نزلوا سحلهم في الشوارع, فبعد ذلك قبض على ولده وكان أميراً فسحل في الشارع عقوبة له ولأبيه, وذلك لأن الولد هو الآخر كان على خُطى أبيه.(138/47)
قتال اليهود والموقف منه
السؤال
أنت ذكرت أن المسلمين سيقاتلون المشركين واليهود, فهل موقف المسلم أن يركن إلى الدعة والراحة حتى إذا كان للمسلمين جولة مع اليهود؟
الجواب
لا يا أخي أنا ما ذكرت أن الذين سوف يقاتلون المشركين واليهود هم الملائكة, وإنما ذكرت أن الذين سوف يقاتلونهم هم المسلمون, إذاً معناه أنه قتال بعد جهد وإعداد, إعداد مادي, وإعداد معنوي, وبعد ما يتقدم المسلمون، وبعدما يتخلص المسلمون من سلبياتهم, وعيوبهم, ويصبحون على مستوى المعركة, بعد ذلك يُقاتلون وينصرون, وليس الملائكة هم الذين سوف يقاتلون حتى نقف نحن مكتوفي الأيدي ننتظر نزول الملائكة.(138/48)
الحزن هل هو متعبد به
سؤالان يذكران: أنني ذكرت في محاضرة سابقة أننا نتعبد بالحزن, قالوا: والحزن لا يتعبد به، وليس بمشروع, لأنه لم يرد في النصوص الأمر به, وإنما قصارى الأمر جوازه لأنه فطرة وجبلة بشرية, بشرط ألا يخرج إلى اليأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {العين تدمع والقلب يحزن} ؟
الجواب
في الواقع قبل أن أقول أننا متعبدون بالحزن, كنت قرأت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم في هذا الباب, وليس مقصودي أننا نتعبد الله تعالى بأن نبقى في حزن دائم, كلا، ولكنني أقصد أن الحزن الذي يصيب المؤمن بسبب غيرته على حرمات الله, أنه مما يثاب عليه ويؤجر عليه, وهو فضل بالنسبة إلى ذلك الآخر الذي يرى المنكرات فلا يتمعر وجهه, ولا يحزن قلبه, ولا يتكدر صفاؤه, وإلا فالواقع أن مسألة التعبد بالحزن أن يجلس الإنسان حزيناً ويعتبر هذه عبادة ليس هذا مما يتعبد به.(138/49)
أبيات عن القدس
السؤال يقول: ذكرت أبياتاً في المحاضرة السابقة عن القدس أين ذُكرت هذه الأبيات؟ وأين أجدها؟
الجواب
هذه الأبيات لشاعر من شعراء الشام اسمه عمر الأميري وأظنها موجودة في ديوانه.(138/50)
كتب عن العلمانية
السؤال
أرجو منك أن تذكر لنا الكتب التي تتكلم عن العلمانية؟
الجواب
كثيرة منها كتاب "تهافت العلمانية" لـ عماد الدين خليل , ومنها كتاب "العلمانية" للشيخ سفر الحوالي , ومنها كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" للأستاذ محمد قطب.(138/51)
تقليد الكفار فيما يستفاد من أمور الدنيا
السؤال
هل هناك مانع أن نستفيد من العلوم الموجودة عند الأمم الأخرى الكافرة وكتاباتهم مع ما نحمله في قلوبنا من الكراهية والبغض؟ وهناك سؤال آخر مشابه، يتكلم عن تقليد الكفار في السلاح يقول: إذا رأى الشخص أن في تقليد المشركين مصلحة ومنفعة للإسلام والمسلمين كما يرى في تقليدهم في السلاح -لعله يقصد السلاح وشكله- فهل في ذلك شيء؟
الجواب
إن هذا ليس في الواقع تقليداً أو تشبيهاً بهم, بل هذه هي الحكمة التي هي ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق بها, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الأشياء المفيدة الموجودة عند الأمم الأخرى -والكلام في هذا يطول- ولكن أذكر له بعض الأمثلة: لما جاءت الأحزاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حفر الخندق, وكان حفر الخندق عادة مأخوذة عن الفرس، أخذها النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة سلمان الفارسي وطبقها, لأنها عبارة عن خدعة عسكرية، وحيلة لم تكن تعرفها العرب، وهي نافعة وليس فيها تشبه بالمشركين, وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ولي الخلافة أخذ عدداً من الأشياء المفيدة كنظم إدارية مثل تدوين الدواوين وغير ذلك, بل الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الشيخان قال: {لقد هممت أن أنهى عن الغيل -والغيل هو: وطء المرأة وهي ترضع- ثم وجدت أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضرهم} يعني الرسول عليه الصلاة والسلام همَّ أن ينهى الناس عن أن يطئوا المرأة حال إرضاعها للطفل, ثم لم ينه عن ذلك, لأنه لاحظ حال فارس والروم وأنهم يفعلون ذلك فلا يضرهم، فهم أقوياء وشجعان وفرسان ولم يضرهم أن الرجل يطأ المرأة وهي ترضع, أي: خلال فترة الإرضاع.
فإذاً الرسول صلى الله عليه وسلم استفاد حينئذٍ من خبرة اجتماعية أو قضية اجتماعية موجودة عند فارس الروم, وكذلك لما كانوا لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً ختم النبي صلى الله عليه وسلم، وضع خاتماً ونقشه محمد رسول الله, إذاً المنهي عنه هو التشبه بهم في خصائصهم, في أخلاقهم, وفي عادتهم, والكلام في التشبه كلام يطول.(138/52)
اتباع القانون الوضعي
السؤال
هل اتباع القانون الوضعي يعد من العبادة لغير الله؟
الجواب
القانون الوضعي, يتعلق به طرفان: الطرف الأول: من فرض القانون, يعني الحاكم الذي فرض القانون على الناس, وألزمهم به وتوعد من يخالفه أو يخرج عليه بالقتل والسجن والصغار, فهذا العمل كفر وردة عن الإسلام, لأن الله عز وجل قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] وهذا لا شك أنه نوع من الشرك في التشريع, حتى أن الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتاب "البداية والنهاية" لما تكلم عن الياسق وهو جنكيز خان , قال ابن كثير: فمن حكم بالشرائع المنسوخة من اليهودية والنصرانية فهو كافر, فكيف بمن حكم بشرائع البشر وأنظمتهم وقوانينهم؟ هذا لا شك في كفره بإجماع المسلمين, هكذا يقول: ابن كثير , فهذا يجب أن يعلم أن القوانين التي تفرض على الناس بقوة الحديد والنار والسلاح، والسلطة الذي يفرضها عمله كفر وردة.
أما بالنسبة للإنسان, فإن الإنسان إذا كان يستطيع أن يتخلص من هذا القانون, ولو تنازل عن بعض حقه فهذا هو الذي ينبغي له, وإما إذا أكره على ذلك فإن المكره لا يتعلق بفعله حكم, لكن ينبغي أن يبغضه بنفسه ويسعى إلى إزالته بكل ما يستطيع من قوة, حتى لو استطاع أن يهاجر عن البلد الذي يحكم فيه بالقانون ووجد بلداً آخر يحكم فيه بالشرع، ويستطيع أن يستقر فيه لكان عليه أن يفعل ذلك؛ إذا لم يكن في بقائه في بلده الأصلي مصلحة ظاهرة من الدعوة، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(138/53)
أزمة أم فتنة
السؤال
إن الناس يقولون: إننا الآن في (أزمة) , وهو تغيير للاسم الحقيقي (فتنة) , فالصحيح أن نقول أننا في زمن فتن وعفا الله عنا وعنكم؟
الجواب
عفا الله عنا وعنكم أجمعين، وقول الناس: إننا في أزمة, لا أظن أنه يعارض أن يكون الناس في فتن في دينهم أو بعض أمورهم؛ فإن الأزمة هي الأمر الضيق الذي يضيق على الإنسان وليس التعبير بلفظ الفتنة مما يتعبد به.(138/54)
طلب مسامحة
السؤال
أرجو أن تجعلني في حل منك فإنني قبل عدة شهور كنت ممن يتكلم فيك, قبل أن أتبين حقيقة دعوتك؟
الجواب
أقول لأخي الكريم, أنت في حل، وسامحنا الله وإياك، وعفا الله عنا وعنك, وينبغي لنا جميعاً أن نحرص على أن نتبين ونتثبت كما أمرنا الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] .(138/55)
استئصال الأمة
السؤال يقول: هل يمكن أن يحصل استئصال لأمة الإجابة؟
الجواب
-استئصال أي: فناء تام- أقول: لا, استئصال بعذاب لا، إنما تستأصل وتنتهي أمة الإجابة -والله تبارك وتعالى أعلم- بالريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان, وإلا فأمة الإجابة باقية إلى قبيل قيام الساعة.(138/56)
الطائفة المنصورة
السؤال
هل الطائفة المنصورة موجودة في كل زمان؟ وهل هي محصورة في جهة واحدة أم توجد في كل مكان؟
الجواب
نعم، موجودة في كل زمان إلى وقت هبوب الريح، وليست محصورة في جهة واحدة ولا يلزم أن توجد في كل مكان, قد توجد في مكان واحد وقد توجد في أمكنة متفرقة.(138/57)
الحجاج بن يوسف وصدام حسين
السؤال يقول: أرجو أو أود أن تذكر شيئاً من سيرة الحجاج لا سيما أن هناك من يقارن بينه وبين طاغية العراق, هل هناك مقارنة وما موقفنا من الحجاج؟
الجواب
الحجاج لا شك أنه كان أميراً على العراق في عهد بني أمية, وكان ظلوماً غشوماً جباراً سفاكاً للدماء, وهو المبير الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سيكون في ثقيف كذاب ومبير} ومبير: يعني يكثر القتل وسفك الدماء وهكذا كان، فإن الحجاج كان ظلوماً غشوماً, ولكن مع هذا فإن الحجاج كان صاحب عبادة وذكر وبكاء, فلم يكن كطغاة هذا العصر لا يعرفون الله عز وجل طرفة عين, حتى طغاة ذلك العصر الأول يختلفون عن طغاة عصرنا هذا, كان الواحد منهم مسرعاً إلى الدماء وقد يكون ظالماً وقد يكون غشوماً, لكن مع ذلك لعل كثيراً من الأحداث والقصص التي تروى في التاريخ فيها مبالغة, وذلك لأن التاريخ كَتَبَ كثيراً منه, أو كُتِبَ كثير منه بأقلام الشيعة, والشيعة كانوا حاقدين على دولة الخلافة الإسلامية, فكانوا يجعلون من الحبة قبة -كما يقال- ويضخمون بعض الأخطاء التي تقع كما ضخموا حادثة الحرة, وكما ضخموا القتال الذي حصل بين الصحابة, وكما ضخموا بعض أعمال الحجاج بن يوسف إلى غيرها, ولعلكم تعرفون أن كثيراً من مرويات ابن جرير الطبري في أحداث التاريخ الإسلامي, كانت عن طريق أبي مخنف لوط بن يحي وهو شيعي هالك محترق, فينبغي أن يتفطن لذلك.(138/58)
احترام الكافر وتعظيمة
السؤال يقول: ما حكم تشغيل الكافر في المحل أو المزرعة أو غيرهما من المصالح, وما حكم قول الإنسان للشخص الذي لا يعرف إسلامه رفيق أو صديق أو غيرها من الكلمات الطيبة؟
الجواب
كل كلمة فيها تعظيم للكافر, فإنها لا تجوز, لا يجوز أن يقال له: سيد أو قائد أو زعيم أو عظيم, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن وسنده صحيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: {لا تقولوا للمنافق سيدنا؛ فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل} فمجرد كلمة سيد للكافر لا تجوز, فما بالك أن يكون الكافر سيداً سيادة حقيقية؟! هذا لا شك أنه أعظم جرماً وإسخاطاً لله جل وعلا, فلا يجوز أن يقال للكافر: صديق أو رفيق أو غيرهما من الكلمات المرادفة لهما.(138/59)
كفارة اليمين
السؤال يقول: هل يجوز دفع كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين لمسكين واحد؟
الجواب
لا, يجب أن تطعم عشرة مساكين، كما قال الله عز وجل: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أو كسوتهم} [المائدة:89] .(138/60)
الصلاة خلف الصبي
السؤال
هل تجوز الصلاة خلف من عمره إحدى عشرة أو اثنى عشرة سنة؟ وإذا صليت وراءه فهل أعيد الصلاة؟
الجواب
إذا كان هذا الإنسان أو الشاب عاقل مميز يحسن الوضوء والصلاة, وصليت وراءه فصلاتك صحيحة, وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عمر بن أبي سلمة أنه صلى بقومه وعمره سبع أو ثمان سنوات؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً.(138/61)
السنن وإيذاء الناس
السؤال يقول: هناك من يتشدد في عمل السنة حرصاً منهم على أدائها, ولكنهم قد يؤذون الناس الآخرين, فهل فعلها أفضل من تركها مثل مقاربة الرجلين في الصلاة, والتقدم في الصف الأول إذا قيمت الصلاة وما شابه ذلك؟
الجواب
في الواقع أن موضوع تطبيق السنة يحتاج إلى كلام طويل, وقد سبق أن تكلمت عن هذا الموضوع في أكثر من مناسبة؛ منها محاضرة خاصة بعنوان: كيف ننشر السنة، ذكرت فيها وجهة نظري التي إن أصبت فيها فمن الله -والحمد لله- وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والتي أرى فيها أن الإنسان قد يترك السنة أحياناً مراعاة لما هو أهم منها, وقد يرى أن الفرصة مناسبة لتعليم الناس السنة فيفعلها، وهذا كله يختلف بحسب أحوال الناس, وبحسب نوعية الفاعل للسنة, فمثلاً إذا كان الذي يفعل السنة شخص معروف كبير وله شأن, فإن الناس يقبلون منه؛ لأنهم لا يمكن أن يقولوا هذا جاهل, أو متسرع, أو طائش, أو ما أشبه ذلك, لكن إذا فعلها شاب صغير، قالوا: هذا متعجل, هذا لا يدري, هذا كذا, هذا كذا , ثم بدءوا ينالون منه.
فينبغي أن تسلك الطرق المناسبة في نشر السنة بين الناس, ومن الطرق المناسبة أن تقرأ عليهم من بعض الكتب، إذا أردت أن يطبق الناس السنة، يمكن أن تقرأ من كتاب لسماحة الشيخ ابن باز أو غيره من العلماء، أنه يقول كذا ويقول كذا ويقول كذا , حتى يعلم الناس أن فعل السنة ليس من عند أنفسنا بل هو أمر يعرفه أهل العلم.(138/62)
وظيفة مختلطة
السؤال يقول: أنا شاب أعمل في المستشفى ويوجد في العمل اختلاط وخلوة, وأعمل مع النساء في عمل واحد, فما هو حكم هذه الوظيفة في الإسلام؟
الجواب
عمل الإنسان في مثل هذه الأماكن التي فيها خلوة واختلاط يختلف، فإن كان بقاؤك في مثل هذا العمل فيه مصلحة ظاهرة مثل دفع بعض الشر والفساد, أو القضاء على بعض المنكرات, أو ما أشبه ذلك, فبقاؤك حينئذٍ فيه خير كثير, وكم من إنسان في مثل هذه الأجهزة وغيرها، يكون سبباً في القضاء على منكرات كثيرة, أما إن كان الأمر ليس كذلك، وكنت تجد في نفسك ضعفاً بحيث إنك لا تستطيع أن تصبر على هذه المنكرات, وقد تقع فيها، وتخشى على نفسك من الوقوع في الفواحش والفتن والمفاسد, فحينئذٍ ننصحك: أن تنجو بنفسك، واعمل على أن تحول عملك إلى مجال ليس فيه اختلاط بالنساء, كأن تكون في المستودعات أو غيرها من المجالات التي لا يكون فيها اختلاط.(138/63)
الحلف بآيات الله
السؤال يقول: هل يجوز القسم بآيات الله؟
الجواب
آيات الله نوعان: 1- الآية الشرعية، أي القرآن يجوز القسم بها, لأنها من صفات الله جل وعلا, فإذا أقسمت بآيات الله وأنت تقصد القرآن, جاز ذلك.
2- أما الآيات الكونية: كالشمس والقمر وغيرها, فإنه لا يجوز القسم بها.(138/64)
النصارى أعداء لنا أم أصدقاء
السؤال يقول: سبق أن ذكرت أن النصارى أعداء لنا بدليل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] كيف نجمع بين هذا, وبين قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] ؟
الجواب
الجمع يتضح من خلال قراءة الآية: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ} هذا هو السبب: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة:81-85] الآيات، إذاً هذا الكلام فيمن أسلموا من النصارى والله تبارك وتعالى أعلم.(138/65)
تحية المسجد والراتبة
السؤال
أنا أؤدي صلاة المغرب في أي مسجد على طريقي إلى هذه المحاضرة، فإذا جئت إلى المسجد فهل أصلي تحية المسجد ثم السنة الراتبة أم أدخل إحداهما في الأخرى؟
الجواب
إذا صليت الراتية فإنها تكفيك عن تحية المسجد.(138/66)
استقدام العمال الكفار
السؤال
قد يجد أحدنا عمالة أجنبية كافرة من شرق آسيا, فهل لنا أن نحملهم وهل علينا من شيء إذا تركناهم؟
الجواب
سواء كانت العمالة من شرق آسيا أو من غرب آسيا أو من أي مكان في الدنيا، بالنسبة للكفار الذين أتوا إلى هذه البلاد بطريقة نظامية؛ فإن الإنسان ينبغي أولاً أن يتذكر أنه كلما استطاع أن يأتي بمسلم فإنه لا يسعه أن يأتي بكافر, ألا اتخذت حنيفاً, كل عمل في الدنيا يمكن أن يعمله المسلمون بدلاً من الكفار, فكلما استطعت أن تأتي بمسلم بدلاً من الكافر, كان هذا هو الواجب عليك واللائق بك, وهذه الجزيرة طهرها الله عز وجل, وأمر ألاَّ يجتمع فيها دينان، فلا تكن أنت ممن غير وبدل وخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسمحت لهؤلاء الكفرة من يهود أو نصارى أو غيرهم أن يأتوا إلى بلاد المسلمين, فحاول أن تستقدم عمالاً مسلمين، لكن إذا ابتليت بهؤلاء، فينبغي أن تعمل على دعوتهم إلى الإسلام بكل ما تستطيع, سواء عن طريق الكتب، أو الأشرطة، أو الدعوة, ولا شك أنك إذا أردت أن تدعوهم؛ فأنت محتاج إلى أن تتلطف معهم في الحديث، وتعاملهم بخلق حسن, أركبه معك على السيارة إذا وجدته في الطريق, لكن إذا أركبته تكلم معه وعرّفه مثلاً بأماكن الدعوة؛ كمكتب الجاليات الذي فيه دعوة لغير المسلمين, وأعطه بعض النشرات والكتب التي بلُغته, لعل الله أن يهديه على يديك: {ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} .(138/67)
حكم السترة في الصلاة
السؤال يقول: ما حكم اتخاذ السترة في الصلاة؟
الجواب
حكم اتخاذ السترة مستحب عند جماهير أهل العلم في الحضر والسفر, وهذا هو القول الوسط، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة وهذا قول ضعيف, وذهب بعضهم إلى أنها لا تستحب إلا في الحضر أما في السفر فلا تستحب, وهذا أيضاً قول ضعيف.(138/68)
دعاء اللهم لا تفتنا إلا في طاعتك
السؤال يقول: ما حكم قول العامة في دعائهم: "اللهم لا تفتنا إلا في طاعتك ولا تلهنا إلا في طاعتك"؟
الجواب
هذا لا ينبغي إلا أن يكون على سبيل الاستثناء المنقطع, إنما هو مما ينبغي تركه, فإن الطاعة ليست فتنة ولا لهو, لو قال: "اللهم لا تشغلنا إلا في طاعتك" لكانت الطاعة شغلاً, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن في الصلاة لشغلاً} كما في حديث ابن مسعود في صحيح مسلم.(138/69)
لقاء في الخرج
هناك أهمية للدعوة إلى الله، وواجب الدعاة نشرها بالحكمة والموعظة الحسنة وعدم الإثارة، وهناك وسائل للدعوة، ومن بشائر الدعوة الصحوة القائمة اليوم وعلى العلماء توجيهها وإرشادها، ولا ينبغي أن تتعلق الدعوة بالأشخاص هذا هو حديث الشيخ في هذا اللقاء.(139/1)
أهمية الدعوة إلى الله
قال الشيخ الدكتور: عبد العزيز حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أيها الأحبة في الله: نرحب بكم جميعاً في هذا المكان الطيب الذي اجتمعتم فيه، في الله ومن أجل الله، ويسرنا أن نرحب بعلامة القصيم الشيخ الهمام، صاحب القلم السيال، والسحر الحلال، إنه سلمان بن فهد العودة صاحب البيان والجودة، وهو غني عن التعريف، ولولا أنني أخشى أن يغضب؛ لزدتكم شيئاً من صفاته، ولكني أعلم أنه لا يرغب، فأنزل عند رغبته، وأدعو له بالثبات والتوفيق، وأن يحفظه في حلِّه وترحاله، وأن يصلح نيته، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يشملنا جميعاً برحمته التي وسعت كل شيء، ونحن شيء.
يا أحبتنا في الله! لا شك أن الدعوة مطلب عظيم، ووظيفة مهمة جداً، تبنتها الأنبياء منذ خلق هذا الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قامت الأنبياء بالدعوة إلى الله، وبلغت الرسالة، وأدَّت الأمانة، حتى ختموا عليهم الصلاة والسلام بسيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد رزقه الله بأصحاب هم أفضل الأمم بعد الأنبياء، قاموا بالدعوة خير قيام حتى صارت راية الإسلام خفَّاقة في الآفاق -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- ولقد تبنوا الدعوة وضحوا تضحيات منقطعة النظير؛ فتركوا ديارهم، وأموالهم من أجل الدعوة إلى الله، وانتقلوا إلى الديار، ووصلوا إلى أكثر الأمصار؛ من أجل تبليغ دعوة الله؛ لعلمهم التام أن هذه الدعوة تجارة رابحة مع الله، وأن من اهتدى بسبب دعوتهم؛ فإنهم سينالون مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً، وقال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] .(139/2)
شروط الدعوة إلى الله
الذي أوصي إخواني به -ولست بأعرف منهم- أن يقوموا بالدعوة على هدي من كتاب الله عز وجل ومن هدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل؛ حتى تكون هذه الدعوة صواباً، وسائر الأعمال أيضاً تحتاج إلى هذا؛ فلا بد أن يرتكز العمل على أساسين: الأول: أن يكون مستنداً إلى شيء من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يقصد به وجه الله، فقد يقصد بالعمل وجه الله (100%) ؛ لكنه مخالف للكتاب والسنة، فيصير هذا العمل بدعياً وإن كان خالصاً، وبالتالي يكون مردوداً؛ لأنه ليس على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وقد يأتي العمل مطابقاً للوحيين (100%) ، ولكن لا يقصد به وجه الله؛ فيصير شركاً، أو رياءً، فيكون عملاً غير مقبول.(139/3)
واجب الدعاة
والمطلوب من الدعاة: أن يتحسسوا أمراض الأمة، ويعالجوها بتأني وحكمة؛ ولكن البعض من الدعاة، أو من بعض أصحاب المناهج المختلفة قد يُشِّمر عن ساعد الجد والاجتهاد، فيتتبع أخطاء وتقصير إخوانه، ثم ينتقدهم علانية، ويقصد أن يتنقص من شأنهم، ويصرف الأنظار عنهم، وهذا العمل لو تعلم عنه الدول الكافرة؛ لشجعت من يقوم به خير تشجيع؛ ولأعطتهم الهدايا السخية، مكافأة لهم على ما يفعلون؛ لأنهم اشتغلوا ببعضهم البعض دون المعادين، والمعاندين، والمخالفين.
وليس معنى كلامي هذا أنني أمنع النقد البناء، والنصيحة الطيبة، بأن يسديها هذا الناصح وهذا الداعي إلى أخيه بتفهم وحب للخير، وبأسلوب لطيف، وأن يثني عليه -على صاحب هذا التقصير- بعمله، ويقول: كذا: من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط ثم يهدي له الأخطاء، فالرجل العاقل سيدعو لمن ينبهه ويقول: رحم الله من أهدى إلينا خطايانا أما أن يأخذ الإنسان على رءوس الأشهاد وينتقده؛ فهذا لا ينبغي.
الناس ليسوا معصومين العصمة للأنبياء، وحتى أتباع الأنبياء ليسوا بمعصومين، كما قال الإمام مالك رحمة الله عليه: كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويقصد به النبي صلى الله عليه وسلم.
فالهدوء في الدعوة أمر طيب، وإن حصل اختلاف؛ لا نأخذ في الصياح والتنابز بالألقاب؛ لأن الشيطان يدخل في هذه الحالة، فإذا اختلفنا في شيء نرده إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم نستطع أن نستخرج الحكم من الكتاب والسنة، نرجع إلى أهل الذكر وأهل العلم المعتبرين، ونحن -والحمد الله- بلادنا تعج بهم وهم على كثرة ووفرة، ويتمتعون بالصبر، والحلم، والأناة، والأخلاق الكريمة، وعلى رأس هؤلاء: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وأمد في عمره، ورزقه الأعوان الناصحين، والمستشارين المخلصين، فنرجع إلى العلماء ونستفتيهم، ثم ننتهي إلى الفتوى.
أما أن يأخذ بعضنا يسب البعض الآخر، والآخر يقول: كذا، والآخر يشنع على أخيه، ويتلمس الأخطاء -والأخطاء كثيرة- والجماعات الإسلامية مقصدها الخير، قد يتبنون أمراً ما، ليس فيه خلاف أو لا دليل عليه إنما اجتهدوا فيه، وقالوا مثلاً: أنه من المصالح المرسلة، أو شيء من هذا؛ فإنهم مجتهدون في هذا، ولكنهم لم يحظوا بالصواب في هذا الاجتهاد.
فتناقش المسألة بالهدوء، ويكون القصد الوصول إلى الحق؛ لا أن يكون القصد أن القضية انتصار، ويهمني أن أنتصر فقط مهما كلف الأمر! لا، أناقش وأنا هدفي الحق، وهدفي الوصول إلى الحق، فمتى ظهر لي الحق ألتزم به، والحق ضالة المؤمن.(139/4)
وسائل الدعوة إلى الله
وسائل الدعوة كثيرة ووفيرة، فكل واحد يقوم بالدعوة في محيطه؛ فالموظف يقوم بالدعوة أمام زملائه، والرجل يقوم بالدعوة في بيته، وإمام المسجد في حيِّه وهكذا، فلا نحتقر شيئاً من الدعوة؛ كتاب أو كتيب صغير يوزع، شريط يوزع، نصيحة تسدى، زيارة لمقصر في بيته، رسالة توصل إليه، وهكذا بالحكمة واللطف، وأن يقصد هذا الإنسان إيصال الخير إلى الغير، ويتتبع الصواب، والذي ليس عنده علم في المسألة يسردها إلى من عنده علم، أو يطلب الفتوى في هذه المسألة، ويقول: فيها كذا، أو فيها كذا، وإن شاء الله أهل العلم -ولله الحمد- متوافرون في كل مكان، وفيهم الخير والبركة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير والسداد، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، والتفرق من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا شقياً ولا محروماً يا حي يا قيوم.
اللهم اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين ارحمنا، اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه الخير والصلاح والنجاح، اللهم ارزقهم المستشارين المخلصين، الناصحين الذين يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا، اللهم انصر المجاهدين المسلمين في كل مكان، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم يا حي يا قيوم.
اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره عائد إلى تدميره.
اللهم رد بيت المقدس إلى المسلمين وما جاوره من الأرض إلى أهلها الشرعيين، وانصر اللهم المجاهدين المسلمين في كل مكان يا حي يا قيوم.
اللهم إنا نعوذ بك من شرور الأشرار ونجعلك في نحورهم {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى أهله وصحبه وسلم، وأشكركم على أن قدمتموني ولست بأحسنكم، ونتمنى للجميع أمسية طيبة مباركة، ولا شك أن نعتبرها فرحة، والإخوة يعتبرون -أيضاً- ذلك فرحة بمقدم الشيخ -جزاه الله خيراً- ونفعه ونفع به، وثبتنا وإياه على الصراط المستقيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال مقدم اللقاء حفظه الله: جزى الله فضيلة الشيخ الدكتور: عبد العزيز خير الجزاء على هذه الكلمة الضافية الوافية، ونسأل الله سبحانه وتعالى، أن ينفعنا وإياكم بما قال.(139/5)
قصيدة ترحيبية
قصيدة ترحيبية للأستاذ: عبد الله العسكر: لا شك أيها الإخوة: أن مثل هذه التوجيهات هي إحدى ثمرات مثل هذا اللقاء وغيره من اللقاءات لا شك وأن الجميع فرحٌ بهذا اللقاء ومسرور به.
ونيابة عن أهالي الخرج، الأستاذ عبد الله العسكر: يقدم قصيدة ترحيبية للحضور فليتفضل.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أيها الشيخ الفاضل، أيها المشايخ الفضلاء: أرحب بكم أجمل ترحيب وأعطره، وأحييكم في هذه الليلة المباركة؛ التي فرح الجميع -بلا شك- فيها بفضيلة الشيخ سلمان -حفظه الله- وأيده، وكثر من أمثاله.
أيها الشيخ الكريم: إنك لو فتحت ما في قلوبنا جميعاً؛ لرأيت حبا عظيماً ومحبةً وتقديراً، وما ذاك إلا حباً في الله -إن شاء الله-.
وما نحبك أيها الشيخ، إلا لما نعلمه عنك من صدق -نحسبك كذلك والله حسيبك- ونسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياك على طريقه المستقيم.
القصيدة هي بعض ما يدور في الخاطر، وهي ذرة من مجموعة أو من حب عظيم يدور في خلجاتنا جميعاً.
فاسمع منا أيها الشيخ، وتجاوز عما فيها، وما عهدناك إلا كريماً: سلمان حلَّ فقم يا شعر ملتهباً وانثر حروفكَ في دنيا الهنا شُهبا وابعثْ قصائدك الغرَّاء مُنتشياً تُعانق النجم تروي السهلَ والْهضبا هذي القوافي أتيتُ اليوم أُحكِمُها ففاضَ شعري على الأوراقِ وانسكبا ما صُغتها راجياً شكراً ومَكْرُمةٌ وما أردتْ بِها مالاً ولا ذهبا لكنَّها فرحةٌ في القلبْ قد لَجِبَت فَرُحْتُ أكتبُ ما في القلبِ قد لَجِبَا فهَاهُنا في بلادِ الخرج شرفَنَا شيخٌ على صهوةِ الأمجادِ قد وَثَبَا أبا معاذ رعَاكَ الله يا رجلاً بِهِ تألقَ فجرٌ وانتشىَ طَربَا هذا هو الخرج قد حيَّاك مبتهجاً فَلا تلُمه إذا ما مَاجَ واضطرَبَا جحافلٌ قد أتتْك وكلُها لهفٌ أتتْ إليكَ تحيي العلمَ والأدبَا هذا هو الجيلْ ظمآنٌ به عطشٌ فلْيَشْرَبِ الْعلمَ منكمْ صافياً عَذِبَا وهذه زمرٌ مِنْ خَلْفِهَا زمرٌ فَسِرْ بِها نحو فجرٍ لاحَ واقْتَربَا نُرِيدُها وثْبَةً لله خَالصَةً لَعلْنَا نُرْجعُ الْمجدَ الذي ذَهَبَا نريدها عودة بيضاء ناصعة تأسياً باسمكم لا تعرف الشوبا نُريدُهَا صَحوةً يُقُودُهَا مَعْشَرٌ أفْعَالَهُم تَسْبِقُ الأقوالَ والْخُطَبَا فقد ملِلْنَا قَراراتٍ ومُؤتَمَراً وقدْ سَئِمْنَا كلاماً يَمْتَلِيْ كَذِبَا فنحنُ مَنْ أمةٍ تَهْوَى الْجِهَادْ هوىً قد خالَطَ الْلحمَ والأحشاءَ والعَصَبا سَلْ الْمَشَاهدَ عَنَّا إنَّنَا صُبَرٌ في الْحَربِ نَسْتَسِهِلُ الأهوالَ والْكُرَبَا بدرٌ وحطينْ والْيرموكُ تَعْرِفُنَا والْقادسيةَ سَلْهَا تَسمعَ العَجَبَاَ نحنُ الذينَ سَقَيْنَا الْمجدَ مِنْ دَمِنَا مَجدَاً عَلَونَا بِهِ الأنواءَ والسُحُبَاَ نَسْتَلْهِمُ الْحقَ مِنْ يَنْبُوعِ شِرْعَتِنَاَ وَنَبْعُهَاَ مُغْدِقٌ مَاَ جَفَّ أوَ نَضُبَاَ سعد وعمرو وخباب ومعتصم أَنْعِمْ بِهِمْ سَادةً وقادةً نُجُبَاََ يا أيُّها الشيخُ عُذْراً إنْ نَبَا قَلَمِي فَإنَّ في الْقلبِ مَاَ قدْ يملأُ الْكُتُبَاَ كتبتُ شِعراً مِنْ الأعماقِ أَنْفُثُهُ لأَنَّنِي مُوقِنٌ أنَّ الضِيَاْ قَرُبَاَ غّداً نعيدُ إلى الأقصىَ كَرَامَتُهُ ونُرجِعُ القدس والجولان والنقبا صوتُ الأذانِ بروما سَوفَ نَسْمَعُهُ وذاكَ وعدٌ من المختارِ مَاَ كَذَبَاَ وسوفَ نَدخلُ بالرَاَيَاتِ أندلساً لِنَحْطِمَ الْكُفْرَ والأصنامَ والصُلُبَاَ غداً بمدريد نَتْلُوْ آي خَالِقِنا وسوفَ يَا شيخْ نُعْلِيْ الْبِيضَ واليَلَبَاَ فارْفَعْ يَديكَ إلى الرحمنِ مُبْتَهِلاً مَاَ خَابَ مَنَ سَألَ الرحمنَ أوْ طَلَبَاَ والسلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.
بارك الله فيك، وأكثر الله من أمثالك، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعناه.(139/6)
البوسنة والهرسك
قصيدة عن البوسنة والهرسك للأستاذ: عبد الله العسكر.
هذه القصيدة قلتها عندما سيطرت الدول الغربية بعد حرب الخليج، وعندما تبين ما فعلته في البوسنة والهرسك من تخاذل كشف ما يسمى "بالقانون الدولي، والنظام الدولي الجديد" ومن وجد فيها شيئاً من المبالغة فهي شعر، والشعر إذا لم يكن فيه مبالغة، وشيء من الإثارة فهو نثر.
فلذلك أرجو من المشايخ، والإخوان الذين قد يعتبون عليها، لذلك أن يمروا بها مر الكرام، وأن يستروا عورها: سراييفو الجريحة سامحينا إذا قلنا لعلك تسلمينا إذا كانت إغاثتنا هباء دواء أو غذاء أو أنينا نرجي هيئة الأمم التفاتاً وقد كاد الأمين بأن يخونا ولو كنتم يهوداً أو نصارى وجدتم مجلس الأمن المعينا وغطت جوكم أسراب حرب تدمر من قنابلها الحصونا ولو كنتم خليجاً سال نفطاً لزمجر بوش إنا قادمونا وندد بالكوارث والمآسي وأجهش يذرف الدمع الثخينا وأقنع مجلساً للأمن يدعى وطوع كيده روسا وصينا هو القانون أعور حين يهوى فيبصر جانباً ويتيه حينا فأغضا عن أسى البلقان جفناً وأبصر في الخليج البائسينا ولم ير في الخليج دماء شعب ولكن أبصر النفط الثمينا وخمر النفط تسكر كل صاح وتمنح كل ذي عقل جنونا فمن في عينه منا غيوم رأى في الصرب ما فتح الجفونا أدرتم في الخليج رحى حروب تدور على جماجمنا طحونا وما جئتم لقانون وحق ولا لحماية المتوسلينا ولكن قلتمُ هبت رياح ألا نذروا بها سماً دفينا ندمر بيتهم ونقول نحمي بأسلحة ومالاً يجمعونا فهل هذي النهاية أم ستأتي فصول رواية عنها عمينا ولو كان الخليج بغير نفط لأمسى مِن تدخُّلكم أمينا تجرون الحليف لكل فخ لكي يبقى بأيديكم رهينا فلا حلفاؤكم عرفوا طريقاً ولا أنصفتموا منهم خدينا نصبتم في الخليج فخاخ مكر ليخنع في إساركمُ حزينا فيصبح شعبنا بقراً حلوباً وصيداً في شباككمُ سمينا فتبنون الحضارة في رباكم وفوق ظهورنا نبني ديونا زرعتم فتنة سقيت بظلم فجاء حصادها حقداً دفينا رفضتم في الجزائر حكم شورى وأيدتم بها جيشاً تخينا فصارت دولة الشورى حراماً علينا إن رعت خلقاً ودينا تريدون الحكومة مثل غرب أكنا في حضارتكم بنينا لنا خلق وللإفرنج خلق أيفرض دينه حتى ندينا لنا مثل وللغربي مثل وما كل الحضارة من أثينا نظامكم الجديد إذاً يرانا قطيعاً في المسارح أو زبونا شعوب الغرب ساستكم دهتكم ونحن بساسة منا بلينا فلا في الرأي قادتنا أصابوا ولا رؤسائكم صدقوا ظنونا وكان الشعب فيكم أهل شورى وكان الشعب فينا مستكينا جهلتم مرة أخرى جهلتم كما جهل الصليبيون حينا لماذا أيها الرؤساء فينا نشرتم خزيكم في العالمينا تراضيتم فأخفيتم بلايا وأبدى الخلق سركمُ المصونا فكفر بعضهم بعضاً وآخى صليبياً وصهيوناً لعينا تفرقتم إلى عرب وعجم وسودتم مذل المسلمينا نقضتم عروة ما بين عُرب وعادى كل ذي قِرن قرينا تشرذمتم إلى يمن وشام وأمسيتم يساراً أو يمينا تفرقتم على واد ومرعى وأجمعتم محبة قاتلينا تعارضت المصالح والمبادي فمد عدوناً كفي أخينا تشعبتم إلى مُلاَّك نفطٍ وقحط دمر الدنيا ودينا فيسكن في المقابر بعض قوم وفوق السُّحْب يلهو آخرونا ومات من المجاعة بعض شعب وهدت بطنة رهطاً بطينا أيا قتلاً بسيف قد سقلتم بمال قد أضعتم حدثونا أما للعرب صار لهم دماراً وصار سلاحهم لهمُ منونا فيا حرب البسوس ألا سلاماً لقد عدنا لفخرك باعثينا وحزب البعث شق لنا قبوراً لحدنا مجدنا فيها دفينا فهب أن الكويت لكم حلال أتنطح صخرة كسرت قرونا ويا حكام أندلس سلام فقد كنتم لنا سلفاً رصينا أيا عرب الخلاف ألا ائتلاف وقد صرتم حديث الشامتينا تنادوا للتصالح قبل يوم تعضون الأصابع نادمينا غداً إن جف حقل النفط تبقى حقول الحقد بركاناً سجينا ذروا نبش العداوة فهْي نار ستحرق نابشيها أجمعينا وهل أمريكيا في كل خطب ستبني حولكم سوراً حصينا ألا يا عرب أندلس أفيقوا أما فتق الصباح لكم عيونا لماذا أيها الحكام فينا تفرقتم يساراً أو يمينا وأجمعتم على شكوى شباب تدين بعد أن عرف اليقينا فبعض إن تفرنج قيل مرحا وآخر من تدينه أهينا أصار الكفر والتغريب علماً وصار العري والبالي فنونا مباح أن ترى فخذاً ونهداً ويحرم أن ترى جسداً مصونا فللفساق قد فتحوا الملاهي وللعباد قد فتحوا سجونا وما عاد التطرف غير رفض لعلمانية نشرت مجونا ترون منابر الآراء عنفاً أليس العنف قتل الواعظينا وما الإرهاب إلا رد عنف على قهر رعاه الحاكمونا تريدون الديانة حفظ نفس ونصاً لا يحرك خاملينا وليس الدين مسبحة وذكراً وهزاً للرءوس ولا سكونا ولكن نهضة تحيي وتغني وتحمي عند نكبته عرينا تعالوا صافحوا جيلاً جديداً يريد وقد أفاق بأن يكونا وهاتوا بالحوار رشيد رأي يقارع غامضاً حتى يبينا فإن الرأي ينضج بعد بحث كما أخصبت بالمحراث طينا أيا عرب التخلف هل وعيتم من النكبات درس الذاكرينا فمن رام الحياة بغير فكر تبدد في عواصفها طحينا ومن حفظ الحضارة لمع نفط لقد أهوى به حتى يهونا ومن ظن الحضارة في سلاح فقد أضحى به يوماً طعينا ومن حسب الحضارة في المباني فقد ظن الورى حجراً وطينا فلن تبني بها رأياً حكيماً ولو ربيت مخلوقا سمينا فليس حضارة زرع وصنع إذا لم تبنِ إنسانا رصينا وما شاد الحضارة غير عقل تحرر مستنيراً مستبينا ولا يبني العقول سوى حوار وشورى تقتل الرأي الهجينا ولا يبني الحضارة غير شعب تساوى الناس فيه أجمعينا فلا أمراؤه نالوا امتيازاً ولا أحراره صاروا قطينا أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً.
نعم: مسبحة بكف -جزاك الله خير-، هذا التعديل من أفضل التعديلات؛ لأن كلمة (ذكر) كان فيها نظر جزاكم الله خيراً.
قال مقدم اللقاء حفظه الله: لا فض الله فاك وجزاك الله خيراً.
وفي الختام كلمة للشيخ عبد الرحمن الصغير مندوب الدعوة والفتاوى في الخرج:(139/7)
أهمية الاجتماع للدعوة
قال الشيخ: عبد الرحمن الصغير حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: أيها الإخوة: فإننا نرحب باسمكم بأصحاب الفضيلة المشايخ الكرام الذين كان سبب اجتماعنا جميعاً هو الشيخ سلمان بن فهد العودة -جزاه الله خيراً-، ونسأل الله لنا وله العودة إلى هذا المكان، والأماكن المباركة الطيبة دائماً وأبداً.
ثم أيها الإخوة: ملاحظة خفيفة كأن بعض الإخوة الحاضرين انتقد الشيخ عبد العزيز -جزاه الله خير- فقال: إن الشيخ سلمان سيصل، إن شاء الله كل الأمور ستصل، أما مسألة يا إخواني التوجيه، والترشيد؛ فهذا فضل الله علينا، أن منَّ علينا بعلماء يرشدوننا.
فإننا لا بد لنا من الاجتماع، وإن سلف الأمة وخير الأمة، كانوا يجتمعون، فيجب علينا أن نبعد من أفكارنا العصمة لأحد؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[إن رسول الله لم يمت]] فجاء أبو بكر رضي الله عنه وقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات]] .
فلا بأس -يا إخواني- من أن يوجه بعضنا بعضاً، وأن يأخذ بعضنا من بعض.
فباسمكم جميعاً أرحب بالشيخ سلمان، وبالمشايخ جميعاً؛ رئيس محكمة الحوطة الشيخ عبد الله بن الفنتوخ، وبقية المشايخ.
وكذلك لأن الشيخ سلمان -جزاه الله خير- عنده كلمة، وبعده تشرفوننا في العشاء، فليتفضل؛ وجزاكم الله خيراً جميعاً، وصلى الله على محمد وعلى آله.(139/8)
عدم تعلق الدعوة بالأشخاص
قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لا أكتمكم أنني فرحت بمثل هذا الجمع، وإنني أعبر فقط عن عظيم سروري بلقياكم ورؤيتكم، وأسأل الله تعالى أن يجمعني وإياكم على طاعته.
أيها الأحبة: أفرح بهذا الجمع، ليس لأنه حضر من أجل شخص معين، لكنني أفرح بهذه الوجوه المتوضئة التي عرفت طريقها إلى الله عز وجل، فقد كان عهدنا -منذ بعيد- بالشباب يتجمعون بأعداد كبيرة على مدرجات الملاعب الرياضية، أو في الساحات العامة، أو ما سوى ذلك.
أما اليوم فالحمد لله لقد أصبحت الصحف تعالج قضية التهرب من الملاعب، واستخدام الأساليب والوسائل لإعادة الشباب إلى الملعب، وفي المقابل أصبحنا نجد مثل هذه الجموع الغفيرة التي فقدها الملعب قد توجهت، وعرفت طريقها إلى المسجد، هذا هو سر فرحي.
أما ما عندي؛ فعندي عقيدة والله تعالى أعلم أنها موجودة، وهي أن ما عندي لا تستحقون أن تأتوا إليه، وإن ما قاله الإخوان المشايخ في حقي -غفر الله لي ولهم- إنما هو تعبير المحب الذي يحسن الظن؛ ولكنه لا يخلو من مبالغة وزيادة، وأسأل الله تعالى أن يعفو عني وعنهم.
ومثل -أيضاً- تلك القصيدة التي هي جميلة في معانيها وعباراتها، إلا ما يتعلق بي، والتي قرأها أخي الكريم والشيء الوحيد الذي أريد أن أؤكده وأكرره -وقد ذكرته في المحاضرة، وذكرته في محاضرات كثيرة، وأرى أنه دين يجب إبلاغه إليكم- أن أمر الدين، وأمر الدعوة لا يجوز أبداً أن يربط بأشخاص على الإطلاق، بل يجب أن يكون أمر الدين عبادة بيننا وبين الله عز وجل، فليس في الإسلام، كما في النصرانية؛ كهنوت رجال دين وما أشبه ذلك.
عندنا علماء، لكن -كما قلت- مهمة العالم أن يشرح النص ويوضحه، يخرج العلماء والفقهاء، يكثر المجتهدين؛ لكنه يخطئ ويصيب، ويقبل منه ويترك ويرد -أيضاً-، وينبغي أن نعرف للناس أقدارهم؛ فلا نرفعهم ولا نخفضهم.
لا شك أن ازدراء الناس واحتقارهم، هذا من العيب وخلاف المروءة؛ حتى أخلاق الجاهلية تأبى هذا وترفضه؛ لكن -أيضاً- ينبغي أن يعرف لكل إنسان قدره، ورحم الله تعالى امرءاً عرف قدر نفسه.
استثمار الجهود: أمر ثان: وهذه المسألة طويلة، ولكن باختصار أشار إليها الشيخ عبد الله بإيجاز، وهي مسألة هذه الجموع الغفيرة التي تقبل على الخير، ينبغي أن تستثمر، ويستفاد منها.
فأين هذه الجموع الطيبة من الدروس العلمية؟ أعرف أن عندكم دروساً في العقيدة، ودروساً في التفسير، وفي الفقه، وفي الحديث، وفي السيرة، وفي ألوان العلوم المختلفة.
أين هؤلاء الشباب من مجالات الخير، وأعمال الخير، والأنشطة الخيرية، والقيام بالدعوة -ولو على سبيل الانفراد- ببذل الوسع، وبذل الجهد، بحيث لا ينبغي أن نرفع شعار: (لا مكان للبطالين بيننا) .
حب الرءوس لا يكفي يا إخوان؛ ينبغي أن نُحوِّل عواطفنا نحو الدين إلى الوجهة الصحيحة، فيوجه كل واحد منا ما يستطيع، ولا يحتقر نفسه أبداً.
ثم إنني أكرر مرة أخرى شكري الكبير لأصحاب الفضيلة المشايخ جميعاً، وشكري لأهل البلد، وشكري لكم أنتم على حضوركم ومحبتكم.
وصراحة! ما زال في نفسي أشياء كثيرة، وموضوعات كنت أود أن أطرحها؛ لكن ضيق الوقت، وتأخره يدعو إلى أن أؤجلها؛ على أمل -إن شاء الله- أن يأذن الله تعالى بلقاء آخر يكون أوسع من ذلك.
وأسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(139/9)
المفاضلة بين الخلطة والعزلة
الإنسان اجتماعي بطبعه، وما زمان يأتي إلا وهو شر مما قبله، وهناك أحاديث وردت في الحث على العزلة في مثل هذا الزمان، ثم ذكر الشيخ بعض من تجب في حقهم العزلة، وأن الخلطة هي أفضل من العزلة.(140/1)
الخلطة غريزة في الإنسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة: إن الله تبارك وتعالى الذي خلق الإنسان هو أعلم بمن خلق كما قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك:14] خلق هذا الإنسان ميالاً إلى الأنس والمجالسة والمعاشرة، تاركاً للعزلة والانفراد مستوحشاً منها، وأنزل هذا الدين ملبياً للخصائص الفطرية المركوزة لدى الإنسان.
ولذلك كان الإسلام دين الجماعة، فأنت حين تقرأ القرآن الكريم تجد أن الله عز وجل يخاطب أمة وجماعة فيقول: (يا أيها الذين آمنوا) فالخطاب في القرآن هو للجماعة قبل الفرد، وحين تتأمل الأحكام الشرعية والشعائر العبادية، تجد أن الله تبارك وتعالى فرض كثيراً منها على الجماعة وأوجب الجماعة، فيها إما على الأعيان وإما على الكفاية، فالصلاة مثلاً تجب على كل فرد، ويجب عليه أن يصليها مع الجماعة، وقل مثل ذلك صلاة العيد، أو الاستسقاء، أو الكسوف، أو غيرها، منها ما يجب أداؤه جماعة على كل فرد، ومنها ما تجب فيه الجماعة على الكفاية.(140/2)
أحاديث ظاهرها تفضيل العزلة
وسوف أسوق لكم بعض تلك الأحاديث ثم أبين الوجه الصحيح في فهم هذه الأحاديث والجمع بينها وبين حديث ابن عمر السابق.
ففي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: {يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله عز وجل قيل له: ثم أي؟ قال: رجل في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره} فالإنسان حين يسمع هذا الحديث، يجد أن المؤمن المعتزل المتعبد في شعب من الشعاب، يأتي في المرتبة الثانية -بادي الرأي- بعد المؤمن المجاهد بنفسه وماله، ومثل هذا الحديث بل وأوضح منه في الدلالة ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من خير معاش الناس لهم رجل راكب على متن فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها، يبتغي الموت أو القتل مظانة، ورجل في شعب أو شظية جبل يعبد الله عز وجل ليس من الناس إلا في خير} وهذا الحديث أقوى في الدلالة على العزلة من الحديث الأول، لأن الحديث الأول اعتبر المجاهد في الدرجة الأولى، واعتبر المعتزل بعده في الدرجة، أما في هذا الحديث فقد قرن بينهما في الواقع، فقال رجل على متن فرسه ورجل في شعب أو شظية جبل، فكأن ظاهر الحديث يقتضي اشتراكهما في الفضيلة.
ولهذين الحديثين شواهد كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيا ترى ما هو الوجه الصحيح في فهم هذه الأحاديث؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا على الاعتزال ويرغبنا فيه؟ وكيف يكون ذلك مع ما سبق في الحديث الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم فضل المخالطة على الاعتزال وترك معاشرة الناس.(140/3)
الأخوة في الله من الخلطة
وكذلك شرع الإسلام للمسلمين الاجتماع على الطاعة وعدم التفرق، وشرع لهم المؤاخاة، وجعلها طريقاً موصلاً إلى الجنة وسبيلاً للاستظلال بظل الله تبارك وتعالى يوم لا ظل إلا ظله، فالتحاب في الله، والتآخي فيه، والتزاور فيه، هي من الأمور المقربة إلى الله تعالى.
ففي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ وغيره عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله قال: {دخلت مسجداً في دمشق فإذا فيه فتى براق الثنايا، وإذا الناس حوله فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه فيه، قال: فوقع في قلبي حبَّه، فلما كان من الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني في التهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى إذا قضى صلاته أقبلت عليه فقلت له: إني أحبك في الله، فقال: آلله؟ -أي تحلف بالله، يستحلفه بالله على صدق هذه المقالة- قال: قلت: آلله؟ قال: آلله؟ قلت: آلله، قال: آلله، قلت: آلله، قال: فأخذ بحبوتي فجذبني إليه، وقال لي: أبشر فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيَّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيَّ، ووجبت محبتي للمتباذلين فيَّ} وهذا الحديث صحيح، صححه الإمام ابن عبد البر والحاكم، والمنذري، والنووي، وغيرهم من الأئمة، ومن العجيب أن عُمْر أبي إدريس الخولاني حين حصلت له هذه القصة كان يقل عن عشر سنوات، ومع ذلك يرى هذا الشاب الذي هو معاذ بن جبل رضي الله عنه فيقع حبه في قلبه، فيأتي من الغد مبكراً لينفردبه، ويشعره بهذا الشعور الأخوي الفياض، ثم يقول له: إني احبك في الله، بل ويحفظ عنه هذا الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى.
فالأخوة شريعة ماضية، والصحبة سنة قائمة، وينبغي لكل مسلم أن يحرص عليها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.(140/4)
فوائد الأخوة
ولهذه الأخوة فوائد عظيمة، فهي أولاً: امتثال لأمر الله عز وجل الذي أمرنا بالأخوة فيه، وحث عليها، ورغب فيها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهي ثانياً: أمر يتعلق به كثير من الواجبات والعبادات، من الصلوات والحج وغيرها.
وهي ثالثاً: وسيلة إلى معرفة الإنسان مدى تحليه بالخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة التي حث عليها الشرع، فإن الله عز وجل أمرنا بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، حيث قال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم:4] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} [آل عمران:159] وأمرنا الله عز وجل بالصبر وغير ذلك من الأخلاق.
ولا سبيل للإنسان ليعرف مدى تحليه بهذه الخصال إلا بالمخالطة، وتحقيق الأخوة الإسلامية تحقيقاً عملياً، فإنك إذا اختلطت بالناس ورأيت من الأعمال والتصرفات التي تثير غضبك فكظمت هذا الغيظ، عرفت مدى تحققك بالصبر، فإن لم تستطع عرفت عدم قدرتك على تحقيق هذا الخلق العظيم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء} وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} .
وهكذا الحلم، لا تستطيع أن تعرف هل أنت حليم أم لست بحليم حتى تخالط الناس، وتواجه أعمالاً وأقوالاً تستفزك، فإن ربطت أعصابك، وقابلت الموقف بهدوء وسعة بال، عرفت أنك قد اتصفت بهذه الصفة، وإن فقدت صوابك وانفعلت واستجبت لهذه المثيرات عرفت أنك بحاجة إلى أن تربي نفسك على الحلم الذي هو خصلة من الخصال المحمودة المطلوبة منك شرعاً.
ولهذا كله، فإن الخلطة أصل مطلوب من الإنسان، بل هي الأصل، ولذلك قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل بأحاديث كثيرة أكتفي منها بحديث واحد، وهو ما رواه الترمذي , وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم} والحديث صحيح.
وفي هذا الحديث نص واضح على أن الخلطة أفضل من العزلة، وأن المؤمن الذي يصبر على معاشرة الناس، ومداخلتهم، والقيام بحقوقهم، خير وأفضل عند الله عز وجل من المؤمن الذي لا يخالطهم، فلا يلقى منهم الأذى الذي يحتاج إلى الصبر.
وهذه القضية قضية ظاهرة، ولكن قد يشكل عليها أحاديث صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(140/5)
الجواب على أحاديث العزلة
الجواب على ذلك بأمور:(140/6)
اعتزال السلطان
الحالة الثالثة: التي تشرع فيها العزلة: هي اعتزال السلطان عند فساده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه ابن عباس: {من تتبع الصيد لها، ومن سكن البادية جفا، ومن أتى السلطان افتتن} وهذا إشارة إلى أن من أتى أبواب السلاطين عند فسادهم، وغشيهم في مجالسهم، فإنه عرضه للوقوع في الفتنة، سواء في دينه أو دنياه أو في الأمرين معاً، وهذا الحديث رواه أيضا أبو داود والترمذي والإمام أحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح.
إذاً فهناك ثلاث حالات عامة تشرع فيها العزلة: الحالة الأولى: عند فساد الزمان.
والحالة الثانية: عند وقوع الفتنة، والاقتتال بين المسلمين.
والحالة الثالثة: اعتزال السلطان عند فساده، أما فيما عدا هذه الحالات فإن المشروع في حق الإنسان هو الخلطة كما سبق، وهذا هو رأي جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين وغيرهم.(140/7)
العزلة في الفتن بين المسلمين
الحالة الثانية: هي العزلة في الفتنة، والمقصود بالفتنة القتال الذي يقع بين المسلمين، والدليل على مشروعية العزلة في مثل تلك الحال، ما رواه عمرو بن وابصة الأسدي -رضي الله عنه ورحمه الله- قال: كنت في داري بالكوفة إذ سمعت قائلاً يقول: السلام عليكم، أألج؟ أي أأدخل؟ فقلت: وعليكم السلام، ادخل، قال: فإذا أنا بـ عبد الله بن مسعود، فقلت له يا أبا عبد الرحمن أي ساعة زيارة هذه؟ وكان ذلك في نحر الظهيرة في شدة القيلولة، فاستغرب هذه الزيارة، فقال ابن مسعود رضي الله عنه طال عليَّ النهار فتذكرت رجلاً أتحدث إليه، قال: فجعل يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثه، قال: فقال لي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من المجري، قتلاها كلهم في النار، قلت: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: ذلك أيام الهرج، قلت: وما أيام الهرج؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ادخل دارك، قلت: فإن دخل علي داري؟ قال: ادخل بيتك، -والبيت أخص من الدار كأنه غرفة تكون في أقصى الدار- قلت: أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال: ادخل مصلاك، ثم قل هكذا: وقبض بيمينه على الكوع -علامة على الاستسلام وعدم القتال- وقل: ربي الله حتى تموت على ذلك} قال عمرو بن وابصة وهو يروي عن أبيه قال: [[فلما قتل عثمان رضي الله عنه طار قلبي مطاره تذكر هذا الحديث، فذهبت إلى الشام فلقيت خريم بن فاتك رضي الله عنه فأخبرته بما قال لي عبد الله بن مسعود، فأقسم لي بالله والله الذي لا إله إلا هو لسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثك ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه]]- وهذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد والحاكم والزيادة التي فيه من قوله فلما قتل عثمان هي من رواية أحمد.(140/8)
حالات جواز العزلة المتعلقة بالمجتمع
أما فيما يتعلق بالمجتمع، فهناك حالات ثلاث يشرع للإنسان فيها العزلة:(140/9)
عند فسادا لزمان
الحالة الأولى: هي العزلة عند فساد الزمان، فإذا فسدت المجتمعات بالكلية، وانحرفت، وابتعدت عن هدي الله عز وجل ولم يجد الإنسان فيها خيراً يأنس به، وتحققت في هذه المجتمعات الصفات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي ستأتي الإشارة إليها، شرعت للإنسان العزلة عنها، ومن الأدلة على ذلك، ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه؟ فقالوا له: كيف نصنع عند ذلك يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم} والحديث رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه، والإمام أحمد في مسنده وغيره، وهو حديث صحيح.
وقريب منه ما ورد في صحيح البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {تبقى حثالة من الناس} وقد بوب البخاري على هذا الحديث بباب (نزع الأمانة) وذكر حديث حذيفة الذي فيه نزع الأمانة من قلوب الرجال.
ففي هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مجموعه من الصفات متى وجدت في أي مجتمع شرع فيه الإقبال على الخاصة والإعراض عن العامة، فتعالوا بنا نتأمل هذه الصفات.
أولاً: قال: (حثالة) وسماهم حثالة، والحثالة هي ما يتبقى من الإناء بعد شربه، وهو إشارة إلى أن هؤلاء القوم هم بقية من الناس، ذهب صفوة الناس وبقى كدرهم، وذهب خيرهم وبقي شرهم، وذهب ما ينتفع به وبقيت الحثالة في قاع الماء، وسماهم في الحديث الآخر الذي أشرت إليه في البخاري: {حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله تعالى بال} لأنهم حثالة.
ثانياً: قد مرجت عهودهم وأماناتهم، فقد فقدت الأمانة من قلوب الرجال حتى ليقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وهذا دليل على شيوع النفاق، لأن فقدان الأمانة والوعد الصادق، والحديث الصادق البعيد عن الكذب؛ كل ذلك من علامات النفاق والمنافقين.
ثالثاً: واختلفوا فصاروا هكذا، إذاً: نحن أمام مجتمعات قد تشتت أهواؤها وفقدت الاعتصام بالكتاب والسنة، فصارت تتبع الهوى، ولذلك اختلفوا فصاروا هكذا، أي: متداخلين متفرقين لا يجمعهم جامع، ولا يؤلف بينهم رابط.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صفات أخرى في أحاديث أخرى غير هذا الحديث لا يتسع لها المقام، ومجموع الصفات يوحي بأن هذه الأحاديث يمكن أن توجد في حالتين: الحالة الأولى: أن توجد في البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها، وهذا لا يكون إلا قبيل قيام الساعة -والله أعلم-، لأن هناك أحاديث وردت أنهم مع هذه الصفات {يتسافدون تسافد الحُمُر وعليهم تقوم الساعة} .
فدل على أن هذه الأحاديث تصف وضعاً يكون في الناس قبيل قيام الساعة، وفي مثل هذه الحالة يشرع للإنسان الاعتزال المطلق، هذه هي الصورة أو الحالة الأولى التي توجد فيها هذه الصفات.
الحالة الثانية: أن توجد هذه الصفات في مجتمع من المجتمعات، أو بيئة من البيئات، وليست عامة في البلاد كلها، وهذا يمكن أن يوجد في أي مكان، وحينئذ فعلى الإنسان أن يجاهد في إصلاح هذه المجتمع، والعودة به إلى الصورة الصحيحة المشروعة، لأن الإصلاح غير متعذر حينئذٍ، بخلاف الحالة التي تكون قبيل الساعة، فإن الإصلاح فيها متعذر، إذا: فسد الزمان شرع للإنسان حينئذ أن يقبل على خاصته، ويدع أمر العامة.
والإقبال على الخاصة يقصد منه عدة أمور منها: أن تقبل على نفسك فتصلحها، وتصقلها بالعلم النافع والعمل الصالح، والاعتصام بالكتاب والسنة.
ومنها: أن تقبل على أهلك ومن يلزمك القيام بشئونهم من أولادك وأقاربك فتصلح ما تستطيع من أمر دينهم وأمر دنياهم.
ومنها: أن تقبل على خاصتك من أصحابك وأصدقائك وذويك، الذين تصافيهم المودة، وهم يسمون خاصة في لغة العرب، فتقول خاصة فلان أي: أصدقائه الذين يخصونه، كما قال الشاعر: إن امرءاً خصني عمداً مودته على التنائي لعندي غير مخفور فالإنسان الذي يصافيك المودة يسمى خاصتك أو من خاصتك، ولذلك ورد في الحديث وإن كان ضعيفاً وإنما المقصود الدلالة اللغوية وقد رواه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي خاصة، وخاصتي أبو بكر وعمر} والحديث ضعيف، وإنما المقصود: أن العرب تعرف كلمة الخاصة بمعنى أصحابك الذين يخصونك، فتقبل عليهم وعلى توجيههم وتربيتهم وتعليمهم، وتدع أمر العامة وما هم فيه من الهرج والمرج، هذه هي الحالة الأولى العامة التي تشرع فيها العزلة وهي عند فساد الزمان.(140/10)
فيما يتعلق بالفرد
أولها: هناك حالات للشخص يشرع له فيها أن يعتزل الناس، وهذه الحالات منها: الحالة: الأولى: أن يكون هذا الشخص كثير الشر، قليل الخير، فإذا اختلط بالناس لم يستطع أن يوصل الخير إليهم، ولا أن يحجب الشر عنهم، فمخالطته للناس هي شر لا يكاد يكون فيه من الخير إلا القليل، فمثل هذا يشرع في حقه العزلة، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في المعتزل: يعبد ربه ويدع الناس من شره، وقال في اللفظ الآخر: ليس من الناس إلا في خير، فهذا الإنسان بطبيعته، إذا اختلط بالناس أساء إليهم، وظلمهم، وهضمهم، فمثل هذا تشرع في حقه العزلة متى كانت مخالطته للناس يغلب شرها على خيرها، أو تكون شراً لا خير فيه.
الحالة الثانية: أن يكثر الشر والانحراف بين الناس، ويصبح هذا الإنسان لا يستطيع الصبر على رؤية الفساد والانحراف، فما إن يختلط بالناس ويرى المفاسد والمنكرات حتى ينفعل ويسارع في تغيير هذه المنكرات بطريقة غير مشروعة تضاعف من المنكر، وتزيد منه، بل ربما أدت إلى إغلاق باب الإنكار بالكلية، وجرَّت شراً على المنكرين، فمثل هذا إذا لم يستطع أن يضبط نفسه، ولم يستطع أن يبتعد عن مواطن المنكر نظراً لأن المنكر قد فشى في كل مكان، فإن العزلة في حقه أولى.
الحالة الثالثة: أن يكون هذا الإنسان شخصاً ضعيف الإيمان، ميالاً إلى الشهوات، ويعرف من نفسه الرغبة في مقارفة هذه الفواحش، فإذا ما رآها أنست نفسه بها ومالت إليها، وربما واقعها، أو كاد، فمثل هذا أيضاً إذا لم يستطع أن يعتزل المنكر لفشو المنكر وانتشاره في كل مكان، فإن العزلة في حقه أولى.
وهناك أيضاً أشخاص إذا رأوا المنكرات تثاقم لديهم الشعور وشده الحساسية منه والانفعال فأصابهم من ذلك هَمٌّ لا يفارقهم مع عدم قدرتهم على التغيير لضعفهم وعجزهم، فمثل هؤلاء تشرع في حقهم العزلة.
والعزلة لا تعني أيضا أن يفارق الإنسان الناس بالكلية فيعتزل على رأس شظية -جبل- أو في شعب من الشعاب، بل يعتزل المنكر وموقعه، وما يؤدي إلى حصول السلبيات التي سبقت الإشارة إليها، مع قيامة بما يجب من الصلاة في الجماعة، ومن صلة الرحم، ومن القيام بحقوق الجيران، والأقارب، وما لا بد له منه، وإنما يترك فضول الصحبة، ويعتزل المنكر، ويعتزل ما لابد من اعتزاله، حتى يسلم من هذه المفاسد الموجودة، هذا فيما يتعلق بالفرد.(140/11)
وقفات مع حديث تفضيل الخلطة
وحين نقف عند الحديث الذي بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الخلطة، وهو حديث ابن عمر: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} نجد أن في الحديث عدة معانٍ نفيسة يجب تأملها والوقوف عندها.(140/12)
لابد من الصبر لأنه لا محالة من الأذى
النقطة الثانية هي: لا بد من الصبر إذا كان الأذى سيصدر لا محالة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدك إلى الصبر، وبين لك أنه بالاختلاط والصبر تفوق مرتبة ذلك الإنسان المعتزل الذي لم يختلط ولم يلق الأذى ولم يحتج إلى استنفار رصيده من الصبر.(140/13)
السعي إلى كف الأذى
النقطة الثالثة والأخيرة في هذا الحديث: أن الإنسان حين يختلط بالناس لابد أن يسعى إلى كف أذاه عنهم، بل إلى إيصال الخير والمعروف إليهم ما استطاع، ويذكر في هذا المجال الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه وأرضاه- قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أستطع؟ - أي لم أستطع أن أجاهد في سبيل الله، ولا أن أقوم بإعتاق هذه الرقاب الغالية النفيسة - قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، -والأخرق هو من لا يجيد ولا يحسن الصناعة ويحتاج إلى مساعدة الناس له- قلت فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من شَرِّك، فإنها صدقة منك على نفسك} .
إذاً عليك أن تسعى خلال اختلاطك بالناس إلى أن توصل البر والمعروف، والإحسان إليهم ما استطعت، دون أن تنتظر منهم رد هذا الجميل، فإن لم تفعل ولم تستطع فأقل ذلك أن تكف أذاك عن الناس فإن هذا صدقة منك لا على الناس بل على نفسك.
أيها الإخوة: إن المسلم مطالب في هذا الزمان بأن يُقبل على نفسه فيصلحها، وعلى من حوله فيقوم بحقوقهم، وعلى خاصته من الأصحاب والأصدقاء والطلاب فيوجههم ويدعوهم، ويعلَّمهم مما علمه الله، ويقبل على سائر إخوانه المسلمين ممن لديهم الاستعداد لقبول الحق والامتثال والانصياع له فيوجههم، ويعلمهم، فمهما يكن بين المسلمين اليوم من المعاصي والمنكرات والانحرافات، فلا زال الخير بينهم موجوداً، ولا زال الاستعداد لكثير منهم لقبول النصح والتوجيه قاتماً، فعلينا أن لا نخادع أنفسنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوجيه والتعليم والتربية، بأن نقول: إن الناس لا يقبلون، بل علينا أن نقوم بذلك بالأسلوب الجيد والطريقة المناسبة، وسنجد أن الناس يملكون استعداداً كبيراً للتقبل، ولا أدل على ذلك من أن كثيراً منهم قد اتجهوا إلى الصراط المستقيم، وأقبلوا على الخير وعلى العلم، وعلى الطاعة وعلى العبادة بفضل الله، ثم بفضل ما يسمعون أو يقرءون من العلم والذكر والقرآن والسنة.
فعلى المسلم أن يكون أمَّاراً بالمعروف، نهاءاً عن المنكر، داعياً إلى الله، مختلطاً بالناس، صابراً على أذاهم.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم بأن نكون من الذين اختلطوا بالناس وصبروا على أذاهم، ودعوهم إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، فوفقوا لذلك وصبروا عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(140/14)
الأذى فرع عن الاختلاط وهو أنواع
فالمعنى الأول الذي ينبغي إدراكه من الحديث أنه لا بد لمخالط الناس من الأذى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وجود الأذى فرعاً عن مخالطه الناس، يخالط الناس ويصبر على أذاهم، إذن: من خالط الناس فلا بد أن يلقى الأذى، ولذلك تجدون كثيراً من المصنفين وخاصة في الأدب والشعر والطرائف يعقدون فصولاً وأبواباً في الحديث عن الناس، ونكران الناس للجميل، وضرر الناس، وإساءة الناس، ومن هو الذي أساء إلى جيرانه، ومن هو الذي أساء إلى أقاربه، ومن هو الذي عق والديه، إلى آخره، ويسردون حكايات طويلة عريضة في ذلك، يقول الشاعر في ذلك مثلاً يقول: شر السباع الضواري دونه وزرُ والناس شرهم ما دونه وزرُ كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع وما أرى أحداً لم يؤذه بشر أي: أن هناك حواجز تمتنع بها من أذى السباع، لكن لا يوجد حواجز تمتنع بها من أذى الناس، وهناك من الناس من سلم من أذى السباع، لكن لا يوجد من سلم من أذى الناس.
وذكر الأصمعي أن رجلاً قيل له: هل تؤذي جيرانك؟ قال: إذا لم أؤذ جيراني فمن أؤذي إذن! أؤذي من لا أعرف، المقصود أن الأذى لا بد أن يصدر من الإنسان، فأنت أيها الإنسان مؤذٍ ومؤذىَ في نفس الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم يرشدك إلى الصبر على جميع أنواع الأذى الذي تلقاه من الناس، ومن أنواع الأذى التي يجب الانتباه لها ما يلي: أولاً: هناك الأذى المقصود الذي يقصد من أحدثه أن يسيء إليك سواءً بالقول أو بالفعل، كمن يعيرك أو يسبك، أو يغتابك، أو يعترض سبيلك بما يستطيع، وهذا نوع من الأذى لابد أن تلقاه فلا بد من الصبر عليه، وقد يكون هذا النوع من الأذى في غاية الظهور، بل من الناس من لا يفهم من كلمة الأذى إلا هذا النوع.
النوع الثاني: من أنواع الأذى الذي يصدر من الناس هو: الأذى الذي تلقاه نتيجة أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله، فكم من إنسان علَّم الناس أمراً من أمور الدين، أو بيَّن لهم ما يجهلون، فلقي منهم الأذى، وقدوته في ذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من الأنبياء من قُتل، ومن الأنبياء من أُخرج من بلده، ومن الأنبياء من ضُرب، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} .
إذن فالنوع الثاني من الأذى هو الذي تلقاه منهم بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله عز وجل فينبغي ألا يخرجك هذا الأذى عن طورك، ولا يدعوك إلى ترك ما أنت عليه، بل اصبر، واحتسب، وقابل ذلك بالهدوء والتعقل.
النوع الثالث: من الأذى هو: الأذى غير المقصود وقد تتساءل: ما هو الأذى غير المقصود؟ فأقول: الأذى غير المقصود هو الذي يصدر عن بعض الأفراد بحكم الطبيعة، من غير قصد الإضرار أو الإساءة إلى الآخرين، وذلك أن الاجتماع يحوي عدداً كبيراً من البشر، عقولهم مختلفة، شخصياتهم مختلفة، طباعهم متفاوتة، فهذا شخص هادئ، وهذا شخص متعجل، وهذا شخص حاد، وهذا شخص متوتر عصبي، وهكذا، فمن جرَّاء اختلاط هذه النوعيات المختلفة المتفاوتة تفاوتاً كبيراً؛ يقع بينهم أنواع من الأذى غير مقصودة، فيتصرف هذا الإنسان تصرفاً عفوياً بسيطاً؛ فيخدش الآخر ويؤثر فيه دون أن يشعر المتصرف بهذا، ولذلك قلت قبل قليل: إن الإنسان يكون مؤذياً ويكون مؤذى في نفس الوقت، فقد يصدر منك تصرف عادي غير مقصود يسيء إلى بعض من حولك، والعكس قد يصدر من بعض من حولك تصرف عادي غير مقصود فيسيء إليك، ولابد أيضاً من الصبر على ذلك، وتعويد النفس على الصبر، وبغير ذلك لا يمكن أن يتم الاجتماع، وحين يكون الاجتماع واجباً يكون الصبر على هذه الأشياء واجباً، وحين يكون الاجتماع مشروعاً أو مستحباً يكون الصبر عليها مستحباً، أو مشروعاً.(140/15)
الأسئلة(140/16)
المصاحبة للدعوة إلى الله
السؤال يقول: أنا وبعض أصحابي الطيبين نصاحب الشباب غير الطيب، من أجل جذبهم إلى مصاحبتنا، فهل هذا الشيء طيب، أم مخالف للشباب الطيب؟ أرجو الإجابة على هذا السؤال للأهمية؟
الجواب
إذا كانت مصاحبة هؤلاء الشباب غير الطيبين هي بغرض دعوتهم إلى الله عز وجل فهي لا شك أمر طيب، والدعوة إلى الله لا تحتاج إلى فتيا، فنحن جميعاً نعرف أن الدعوة مشروعة ومطلوبة، وأما إذا كانت المصاحبة نتيجة صلة سابقة، ومودة قديمة، وصداقة سالفة، ويصعب على الإنسان أن يتخلى عنها، فحينئذ ينبغي للإنسان أن يفكر جدياً في ترك هؤلاء الأصدقاء، أما بغرض الدعوة والتوجيه والتأثير فهذا ممكن؛ لكن بشرط أن يجد الشاب في نفسه الكفاية والقدرة على ذلك، أما أن يلقي بنفسه في وسط هؤلاء القوم وهو غير محصن وقد يتعرض هو نفسه لضرر، أو انجراف معهم، فهذا مما ينبغي الحذر منه.(140/17)
علاج المعتزل
السؤال
أنا لي أخ معتزل في البيت فما هو واجبي نحوه؟
الجواب
واجبك أن تحسن إليه، ولا ندري بالضبط ما سبب اعتزاله حتى يمكن التوجيه بشأنه.(140/18)
صفات الصديق الصالح
السؤال
ما هي صفات الصديق الصالح؟ وكيف أجده جزاك الله خيراً؟
الجواب
صفات الصديق الصالح أعتقد أنني سبق أن تحدثت عنها في هذا المركز في العام الماضي في محاضرة كانت بعنوان (من تصاحب) وإن لم تخنِ الذاكرة فإنني ذكرت بعض الصفات التي يبحث الصديق عنها.
والحمد لله رب العالمين.(140/19)
شاب يحاربه أقاربه
السؤال
فضيلة الشيخ أنا شاب في السادسة عشر من عمري، ولي صحبة أخيار، ولكن أهلي يحقرونني ولا يحترمونني، ويرفعون التلفاز عند حضوري، ولي إخوة ضالين -هداهم الله- ولا يَدَعونني أذهب مع أصدقائي إلا قليلاً، فما النصيحة التي توجهها لي؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
مثل هذه الحالة أصبحت كثيرة ومألوفة في هذا الزمان، بسبب إقبال الشباب على الإسلام، وعلى تعلم السنة، والعمل بها، فتجد جيل الآباء يكثر فيهم الأشخاص العاديون، بل ويوجد بينهم عدد غير قليل ممن تأثروا ببعض الموجات، والحركات، والدعوات، التي كانت تثار في مقتبل أعمارهم، فليس بغريب أن تجد الأب لا يصلي مثلاً، أو يتبنى بعض الأفكار المنحرفة، أو ينادي بخروج المرأة، وتجد الابن ملتزماً، متمسكاً، مقصراً لثوبه، تاركاً لشعر لحيته، حريصاً على الالتزام بالسنة في أقواله وأعماله وتصرفاته، وليس أمام الشاب إلا أمرين: أولاً: أن يدرك أن هذا طريق الإسلام مصاعبه موجودة، وطريق الجنة محفوف بالمكاره، لكن ليس عنه بديل، كما تسمعون ففي الأناشيد يقول: فمن المصائب والمصائب جمة لكنما هو ليس عنه بديل ثانياً: يجب على الشاب أن يتحلى بالحكمة، فبعض الشباب تثيرهم مثل هذه التصرفات، فيقابلونها بالمثل، فتجد الشاب يدير معركة داخل البيت، ومن الصعب جداً أن يقف شاب عمره خمسة عشر سنة في طرف، ويقف الأبوان والإخوة والأخوات والأقارب في الطرف الآخر، فعلى الشاب أن يكون حكيماً، وأن يفكر في الوسائل الصحيحة التي يؤثر بها في البيت، ونحن نعرف جميعاً أن هناك بيوت غير قليلة بدأت الهداية فيها على يد شاب صغير، وما زال هذا الشاب يجاهد ويجتهد في التأثير على أبويه، وعلى إخوته، وعلى أخواته، فما مرت سنوات إلا وقد تغير البيت بكامله، وتحول إلى بيت محافظ ملتزم، وعلى الشاب أن يبحث عن بعض أساتذته وإخوانه والأشخاص الذين يعتبرهم في مقام القدوة، فيشرح لهم تفاصيل ما يعاني، ويطلب منهم التوجيه المناسب، باعتبار هذه القضية لا يمكن أن تحل بين يوم وليلة، بل ربما أن هذا الشاب في كل يوم أو في كل أسبوع يواجه مشكلة جديدة.(140/20)
الميل إلى الشهوات
السؤال
أنا شاب في العشرين من عمري، ونفسي ميالة إلى الشهوات، فكيف أعتزل الناس مع العلم أن كل الوسائل مهيأة لي أن أفرغ جميع شهواتي وأن أضل وأنا الآن خائف أن تسوء خاتمتي أفتونا مأجورين؟
الجواب
الخوف من سوء الخاتمة أمر يجب أن يكون قائماً في ذهن الجميع، لأن النفس أمارة بالسوء، والشيطان مسلط على ابن آدم، والوسائل والمثيرات كثيرة، ولذلك فالإنسان ما لم يمت على الإسلام فهو على خطر، وأما الوسيلة التي تجعل الإنسان يطمئن إلى الله عز وجل وإلى أن الله سيكلؤه بإذنه في حياته، وفي حال موته، وبعد مماته، فإنها تتلخص في الوصية النبوية التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس -رضي الله عنه وأرضاه- حين قال له: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} والشاب أيها الإخوة تثور في نفسه كثير من الغرائز والشهوات، أعني الغريزة الجنسية، ويجد حوله من المؤثرات الكثيرة من مشاهدة النساء المتبرجات، إلى مشاهدة الصور في المجلات، والمسلسلات التلفزيونية، والأفلام وغيرها، وليس أمامه إلا أن يعتصم بالله عز وجل ويلقي بنفسه في وسط قوم طيبين، ويحرص على الاقتباس منهم، ويرتقي شيئاً فشيئاً ويجاهد نفسه في هذا، ليس أمام الإنسان إلا سبيل المجاهدة، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل القضاء على هذا الشعور المتوتر عند الإنسان، أرشده أولاً: إلى إفراغ هذه الغريزة بصورة صحيحة: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج} وعلى الإنسان أن يفكر تفكيراً جدياً في الزواج، ولو وجد أمامه عقبات، عليه أن يفكر جدياً في تذليل العقبات التي تعترض هذا السبيل، فإذا كان لا يستطيع -فعلاً- فعليه أن ينتقل إلى الخيار الثاني وهو الصيام، يكثر من الصيام، فبالصيام تضيق مجاري الشيطان في الجسد، والصيام قربة وعبادة تقرب الإنسان من الله تعالى وتبعد عنه كيد الشياطين، وعلى الإنسان أن يصرف طاقته الجسمية في الرياضة، في السفر مع الأصحاب الصالحين، في القراءة المفيدة، والأعمال المختلفة والنشاطات المتنوعة، وعلى الإنسان أن يبتعد عن المواطن التي تثير غريزته، فهذا أمر مهم جداً، أما أن يضع الإنسان نفسه في المواضع التي تثير الغريزة ثم يشتكي فحينئذ يحق عليه المثل القائل: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء على الإنسان أن يحجب ويحجز نفسه عن مواطن الإثارة، التي تسبب له هيجان في غريزته الجنسية.(140/21)
اعتزال المجتمع
السؤال الأول: ماذا ترى في مجتمعنا هذا، هل يشرع فيه العزلة؟ وإذا خالط الإنسان فإنه حتماً سوف يأتيه من المعاصي إما من المجاملة أو غير ذلك، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لعلي أشرت برأيي بإيجاز في آخر هذه الكلمة، وأضيف: أن الإنسان أدرى بنفسه وأبصر بها، فالإنسان يتصرف على حسب ما يشعر بأنه يستفيد أو لا يستفيد، فالأصل أن مخالطة أهل الخير، وهم -بحمد الله- موجودون بل وكثير، أن مخالطتهم ومشاركتهم في أعمالهم ونشاطاتهم، وسائر أمورهم أنه أمر مشروع، ولا قوام للإنسان بنفسه، لابد للإنسان من المخالطة، وهذا كما قلت هو غريزة فطرية مركوزة عند الإنسان جاء الشرع بتقريرها، وبيان الوسائل والسبل الصحيحة لها، أما المجالس والمجتمعات التي يتضرر بها فعليه أن يقدر الأمر حق قدره، فإن كان يستطيع أن يؤثر، ويأمر وينهى، ويحقق من المصلحة أكثر مما ناله من الضرر، فعليه أن يتحمل هذا الضرر البسيط، من أجل تحصيل المصلحة الأعظم، وهذه قاعدة شرعية متفق عليها عند علماء الإسلام، أن المصلحة الأكبر تحصل ولو ارتكبت في ذلك مفسدة صغيرة، والعكس بالعكس، فالمصلحة القليلة تترك إذا كان يترتب على ذلك مفسدة أكبر منها.(140/22)
اعتزال الفتن
السؤال الثاني: ذكرت الاعتزال في الفتنة، وفسرت ذلك بالاعتزال في فتنة القتل، أو القتال، فما حكم الاعتزال في الفتن الأخرى، كفتنة النساء وغيرها؟
الجواب
أما لفظ الفتنة الذي يتداوله العلماء في هذا الباب والذي وردت به كثير من الأحاديث، فهو غالباً يطلق على القتال بين المسلمين، كما هو ظاهر من حديث ابن مسعود الذي ذكرته، ومن أحاديث كثيرة في هذا الباب، وهكذا فسره العلماء كالحافظ ابن حجر، وغيره، أما غير ذلك من الفتن والتي وردت، وورد تسميتها بالفتن في بعض الأحاديث فإن هذا خاضع للقاعدة العامة، فمثلاً فتنة النساء فتنة قديمة، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من فتنة النساء في زمنه، وقالت عائشة كما في صحيح البخاري: {لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل} فالأمر ليس جديداً؛ لكن عليك أن تعتزل المواطن التي توجد فيها هذه الفتنة، كالأسواق وغيرها، إلا أن تكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، فإذا كنت آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، وتجد من نفسك نوعاً من القوة والتحمل، فعليك أن تقوم بهذا، أما إذا كنت تعرف من نفسك أيضاً ضعف، وتشعر بنفسك بميل نحو المعاصي والفواحش ميلاً يكاد يوصلك إلى الوقوع فيها، والانهماك، أو مقارفة بعض المعاصي، فعلى الإنسان حينئذ أن يبتعد إيثاراً لسلامته الشخصية.(140/23)
فتور عند مفارقة الصالحين
السؤال الثالث: إنني شاب أحب الشباب الطيبين والجلساء الصالحين، وأنهم جلسائي دائماً سواء في حلقة القرآن، أو في المركز أو في غيره، وإنني أتحمس إلى الخير وأنا معهم، ولكن حينما أخلو مع نفسي، أو أكون منفرداً وأسير مع أقاربي في المجتمعات العائلية أقلل من فعل الخير وقد أجد نفسي غارقاً في الشهوات دونما علم مني فماذا أفعل أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا مثال ودليل على أهمية المخالطة للصالحين، وكثرة الاحتكاك بهم، وغشيان مجالسهم، ومنتدياتهم، وحلقاتهم، ونحوها، فإنها تزيد الإيمان وتقويه، وتزيد علم الإنسان وحماسه، ورغبته في الخير، فعلى الإنسان أن يكثر من حضور مثل هذه المجالس، أما كونه إذا فقد هذه المجالس أو ابتعد عنها واختلط بقوم من الأقارب وسواهم ممن لا يزيدونه في العلم ولا في العمل، شعر بقسوة في قلبه، فإن هذا أمر ليس بالغريب بل هو أمر طبيعي، وعلى الإنسان أن يحرص على تكوين نفسه وبناء شخصيته بناءً قوياً بحيث يكون مؤثراً لا متأثراً، ويحرص على أن يكون في المجالس التي يوجد فيها شخصاً محترماً معتبراً ينظر إليه، ويستطيع أن يوجه هذه المجالس الوجهة الصالحة، ويدير الحديث فيها حول أمور مفيدة، أو على الأقل حول أمور مباحة لا إثم فيها، فإن كان هذا الإنسان صغيراً وغير مؤهل لمثل هذا الدور، فعليه ألا يكثر من غشيان هذه المجالس، إلا في حالات يشعر أن المصلحة ظاهرة في حضورها، ثم لا ينبغي أن يطلق العنان لنفسه بالوقوع -كما قال- في الشهوات، أو في المحرمات أو سواها.(140/24)
رجال اعتزلوا الناس
السؤال الرابع: ما رأيك في الذين اعتزلوا في هذا الزمان وتشددوا بقصدهم أن الزمان فسد، وليس هناك أحد غيرهم صالح؟
الجواب
أما قضية فساد الناس وأن الزمان لا يزداد إلا شدة، فهذا أمر لا شك فيه، والحديث في الصحيح عن أنس رضي الله عنه: {لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم} لكن المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف، وكذلك المؤمن، فطالب العلم ينبغي له أن يحرص على التسلح بسلاح المعرفة، والعلم، والإيمان، ويتكئ على قوم طيبين وصالحين يستفيد منهم ويتزود ويرتقي صعداً في مدارج الإيمان والكمال، ثم ينطلق جندياً مجاهداً في سبيل الله داعياً إلى الله حتى يعرف بين الناس بذلك، ويسهل عليه حينئذ أن يأمر وينهى ويوجه، ولا يدع الفرصة للفسقه، والعلمانيين، والقوميين، وأصحاب المذاهب الأرضية، وأصحاب المطامع الشخصية، ليتولوا قيادة المجتمعات وريادتها، فإن هذا لا يجدر بالمسلم القوي.(140/25)
أحب أهل الخير ولا أحب صحبتهم
السؤال الخامس: أنا شاب طيب -إن شاء الله- ولكن لا أجد في نفسي رغبة في كثرة مصاحبتي لأهل الخير، وأحب مفارقتهم وأنا أحبهم، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الإنسان الذي يجد في طبيعته الميل إلى العزلة، عليه أولاً أن يستفيد من أوقات فراغه التي يخلو بها بنفسه، يستفيد منها بصورة صحيحة، بالعلم، والعبادة، وغير ذلك من الأعمال المشروعة، ثم عليه أن يجاهد نفسه في مجالسة أهل الخير، ومعاشرتهم، فإنه بترك مخالطتهم يخسر شيئاً كثيراً، وليسأل نفسه مثلاً السؤال الذي ورد أثناء المحاضرة، كيف يعرف إن كان حليماً وصبوراً أم كان على الضد من ذلك؟ والحلم والصبر أخلاق إسلامية مطلوب من الإنسان أن يتحلى بها، فلا بد من المخالطة، ومواجهة أشياء تستفزه، فيتربى على هذه الأشياء، ويفلت منه زمام نفسه مرة فيتلقن منه درساً للمرة الثانية وهكذا، إنما بكل حال لا يمكن أن نطلب من الناس أن يكونوا كلهم قوالب مصبوبة بالسنتيمتر لا تزيد ولا تنقص، الناس يتفاوتون ومواهبهم تتفاوت، وملكاتهم تختلف، فمن الناس من يأنس بمجالسة الآخرين ودعوتهم والاحتكاك بهم، ويجد في هذا أنس وسعادة إضافة إلى ما يجده من اللذة في التعبد بهذا العمل، وهو الدعوة إلى الله وإصلاح الناس والإحسان إليهم، وهذا لا شك مرتبة فاضلة ينبغي للإنسان أن يسارع إليها، لكن قد يوجد شخص آخر لا يجد في نفسه الرغبة، فلا نطالبه بأن يكون بنفس الصورة، لكن عليه أن يلتزم بقدر معقول من المجالسة يضمن له تحصيل مصالح الخلطة التي سبقت الإشارة إلى بعضها.(140/26)
التوبة أيتها الأخت المسلمة
إذا كان أنبياء الله ورسله وخيار خلقه يستغفرون الله عز وجل ويتوبون إليه، بل إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة؛ فما بالنا نحن المذنبين؟ وقد تحدث الشيخ في هذا الدرس عن فضل الله ورحمته وفتحه باب التوبة ثم ذكر شروط التوبة التي تكون بها توبة نصوحا وختم الحديث بالعوامل التي تساعد على استمرار التوبة.(141/1)
الترغيب في التوبة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:1-3] .
ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53-55] ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8] ويقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ويقول عن أبينا آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] .
ويقول تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] .(141/2)
الأحاديث التي تحث على التوبة
في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: {كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: أستغفر الله وأتوب إليه} وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه ليغان على قلبي! وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة} .
وفي صحيح مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} .
وفي الحديث عن ابن مسعود، والبراء بن عازب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، وأنس بن مالك وغيرهم رضي الله عنهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {والله! لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان بأرض فلاة، ومعه راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، ففقد هذه الراحلة وضاعت منه حتى أيس منها، ونام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ وجد أن راحلته عند رأسه، وعليها زاده وطعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح} فبدلاً من أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فالله يفرح بتوبة عبده أو توبة أمته أشد وأعظم مما يفرح هذا الرجل براحلته وقد وجدها بعد أن أيس منها.
مع أن الله عز وجل غني عن عباده يقول الله عز وجل: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً} .
سبحانه! لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكنه رحيم ومن صفاته الرحمة، وهو الرحيم الرحمن الحنان المنان، الرءوف بعباده اللطيف بهم، ولذلك يحب لهم الطاعة، ويكره لهم المعصية، يقول عز وجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرضى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] .(141/3)
كثرة المطيعين لله والعابدين له
وإذا كنا نجد اليوم أن كثيراً من الناس يعصون الله، ويبارزونه بالمعاصي ويجاهرونه بالخطايا، فيجب أن نعلم أن الله تعالى عنده في السماوات خلق من الملائكة لا يحصيهم إلا الله، وهذه السماوات السبع العظام ليس فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك راكعٌ أو ساجدٌ واضع جبهته لله عز وجل، مع أننا نعلم جميعاً أن البيت المعمور فقط -وهو في السماء السابعة- يدخله كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملكٍ، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، فعدد هؤلاء الملائكة لا يحصيهم إلا الله، حتى إن السماء أطَّتْ وحق لها أن تئط؛ وذلك من ثقل من عليها وكثرتهم، فالله غني عن عباده، أطاعوه أم عصوه وإنما طاعتهم لهم، ومعصيتهم عليهم، ومع ذلك فإن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده أشد مما يفرح ذلك الرجل، وقد وجد راحلته وعليها طعامه وشرابه بعد أن أيس منها وأيقن بالموت، فهو يدعونا إلى التوبة ويحثنا عليها ويرغبنا فيها.(141/4)
أنواع التوبة
أيتها الأخوات! كل واحد منا محتاج إلى التوبة، والتوبة نوعان: النوع الأول: توبة مستحبة، وهي التوبة من ترك المستحبات أو فعل المكروهات.
والنوع الثاني: توبة واجبة، وهي التوبة من فعل المعاصي، أو التوبة من ترك الواجبات.(141/5)
حاجة بني آدم إلى التوبة
فتلك المسلمة التي تستمع إلى الغناء المحرم، أو تشاهد المسلسلات الهابطة، أو تترك الصلاة، أو تعق والديها، أو تتكلم بكلام السوء مع زميلاتها، أو تستخدم الهاتف في معاكساتٍ وغيرها من الأمور التي لا تجوز، يجب عليها وجوباً أن تتوب من هذه الأشياء، ولو ماتت قبل التوبة فهي على خطر عظيم، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} [النور:31] .
بل تلك المسلمة التي تؤخر الصلاة، أو لا تقوم بالسنن الرواتب، أو تنام على غير طهارة؛ هي أيضاً مطالبة بالتوبة من هذه الأشياء، وإذا كانت المسلمة التي تنام على غير طهارة، أم لا تتنفل السنن الرواتب مطالبة بالتوبة، فما بالنا بمن ينام على أصوات المغنيين والمغنيات، والعياذ بالله؟! وما بالنا بمن يسهر على مشاهدة المسلسلات الهابطة المدمرة للدين، والأخلاق، والعفاف، والطهارة؟! ما بالنا بمن لا يصلي الفريضة حتى يخرج وقتها انشغالاً بالتوافه من الأمور؟! أو لأنه نائم، ولم يستعد لهذه الصلاة، ولم يرفع بها رأساً؟! أو لغير ذلك من الأسباب؟! فكل واحد منا محتاج إلى التوبة، وفي سنن الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون} .(141/6)
خوف المؤمن وجراءة المنافق
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: [[إن المؤمن يرى ذنوبه كرجلٍ في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، أما المنافق فإنه يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه لو فعل بيده هكذا وحركها لطار]] .
انظري أيتها المسلمة! المؤمن يخاف الله عز وجل، ويحافظ على الصلاة، ويقرأ القرآن، ويحفظ عرضه، ويحفظ لسانه، ويحفظ جوارحه من المعاصي، ومع هذا كله إذا وقع في ذنب ولو يسيراً؛ أحس بأن هذا الذنب كالجبل العظيم يخشى أن يقع على رأسه في كل لحظة؛ وذلك لأن قلبه حي وروحه مشرقة، وهو يعرف عظمة الله عز وجل وعظيم حق الله، ويعرف ما أعد الله للطائعين من الجنان والنعيم، وما أعد للعاصين من النكال والجحيم، فيخاف من ذنوبه مهما قلَّت، وعلى الضد من ذلك المنافق، الذي لا يخاف الله عز وجل، ولا يستحي من الناس؛ فإن هذا المنافق يرى ذنوبه مهما عظمت، -ومهما كبرت حتى لو وقع في الفواحش والجرائم والموبقات- يرى أنها يسيرة، فهي مثل ذباب وقع على أنفه، فدفعه بيده فطار هذا الذباب، فكل من أحس بالتوبة ووجوبها وخطرها، فهو أقرب إلى الإيمان وكل من قال: ماذا فعلت حتى أتوب؟! فهو أقرب إلى النفاق.
وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن أبي مليكة أنه كان يقول: [[أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه]] .
اسألن -أيتها المسلمات- أنفسكن: من منكن تخاف النفاق على نفسها؟ قليل، وربما لا يوجد، لكن أبو بكر، وعمر، وعثمان بن عفان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر وفلان وفلان من الذين يحيون الليل في القيام ويحيون النهار في الجهاد والصيام، ومن الذين شُهد لهم بالجنة يخافون على أنفسهم النفاق، ومهما يكن الإنسان قد فعل من الأعمال الصالحة، فيجب أن يدرك حاجته إلى التوبة؛ ولذلك علمنا الله عز وجل إذا انتهينا من الحج أن نستغفره: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198-199] ويقول سبحانه: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] قال أهل العلم: هؤلاء قوم أحيوا الليل بالعبادة والقيام، فإذا كان السحر استغفروا الله عز وجل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن ينصرف من صلاته يقول قبل أن يلتفت إلى المأمومين: {أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!} كما في حديث عائشة وثوبان رضي الله عنهما في صحيح مسلم فكان يستغفر بعد الفعل الصالح، وإذا كان الإنسان مطالباً بالاستغفار بعد الطاعة: بعد الحج، بعد الصوم، بعد الصلاة، بعد قيام الليل، بعد الصدقة، فما بالكِ أيتها المسلمة بمن يقع في المعصية؟! في التقصير، في النظر الحرام، في الكلمة الحرام، في الخطوة الحرام في الكتابة الحرام، في القراءة الحرام، في المشاهدة الحرام، لا شك أنه أحوج وأحوج إلى أن يكون موصولاً بالله عز وجل ويكثر من الاستغفار؛ فإن الشيطان يقول: أحرقت بني آدم بالمعاصي، وأحرقوني بالاستغفار.(141/7)
توبة الأنبياء
والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يتوبون إلى الله عز وجل، فهذا آدم أبونا يقول الله تعالى عنه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] .
وآدم وحواء يقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ونوح عليه السلام يقول ذلك، ومحمد صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة؛ ويقول في صلاته: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} ويقول: {سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي} .
ويقول: {اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي} ويقول: {اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، أنت المقدم وأنت المؤخر أن إلهي لا إله إلا أنت} وهو سيد العابدين، وإمام المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين، ومع ذلك يتوب إلى الله هذا المتاب، ويستغفر الله هذا الاستغفار.
فما بالكِ أيتها الأخت المسلمة! بأمثالنا من العصاة الذين يُخطئون بالليل والنهار؟! والله عز وجل يفتح لهم أبواب رحمته ويقول لهم: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا؛ فاستغفروني أغفر لكم} ليس بينكِ وبين الله عز وجل إلا أن ترفعي رأسك إليه بصدق، وتقولي: "اللهم إني أذنبت فاغفر لي"؛ فيغفر الله عز وجل لكِ.
وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل أذنب ذنباً، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم وقع في الذنب مرة أخرى فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم أذنب مرة ثالثة، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله عز وجل له، وقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك!} .
فأين العصاة من باب الله عز وجل، هذا الباب الذي لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها.(141/8)
من قصص التائبين
أيتها المسلمة! إليك نماذج من قصص التائبين اللذين أنابوا إلى ربهم وأسلموا له، فقبلهم الله تعالى وتاب عليهم، وختم لهم بخير.(141/9)
قصة عبد الله بن مسلمة القعنبي
وأثني بالقصة الثانية العجيبة، وهي قصة عبد الله بن مسلمة القعنبي، وكان هذا من رجال الحديث النبوي، ومن تلاميذ الإمام مالك، وهو رجلٌ ثقة معروف وإمام مشهور، ماذا كان تاريخ هذا الرجل؟ وكيف كانت حياته في الماضي؟ إننا نسمع العجب العجاب، كان هذا شاباً مراهقاً طائشاً لا هم له إلا مجالسة أمثاله من السفهاء ومعاقرة الخمر وإيذاء الناس في الشوارع وغير ذلك من الأعمال التي يقوم بها أمثاله من السفهاء، وكان يلبس ثياباً تليق بأمثاله من الشباب المراهقين في ذلك العصر.
وفي أحد الأيام كان واقفاً عند باب بيته، ومعه سكين كالعادة، فمر به رجل على حمار وحوله مجموعة من الشباب الذين يظهر من سيماهم الصلاح والاستقامة والاشتغال بطلب العلم، فقال القعنبي لمن حوله: من هذا الرجل الذي أقبل؟ قالوا: هذا شعبة بن الحجاج، قال: ومن هو شعبة بن الحجاج؟ وكانوا بالبصرة، وشعبة إمام علم، لا يخفى على أحد من أهل البصرة، إلا أن القعنبي لم يكن يعرفه لانشغاله بأمور أخرى، كما يجهل كثيرٌ من الشباب الضائعين في هذا العصر أخبار العلم والعلماء والدعاة وغير ذلك، فقالوا له: هذا شعبة بن الحجاج قال: ومن شعبة؟ قالوا: إمام من أئمة المحدثين، فتقدم هذا الغلام السفيه إلى شعبة، وقال له: حدثني، اقرأ علي حديثاً حتى أرويه عنك، فقال: لستَ من أهل الحديث، أنت سفيه لا تستودع العلم والحديث، وغضب هذا الغلام ورفع السكين، وقال له: حدثني وإلا ضربتك بهذا السكين! فلما رأى شعبة هذا الموقف؛ حدثه حديثاً يناسب المقام، فقال: حدثني منصور عن ربعي عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا لم تستح فأصنع ما شئت} وهذا الحديث مناسب لحال هذا الغلام الذي لم يستح، فأقدم على تهديد هذا العالم الجليل بأن يحدثه وإلا جرحه بالسكين التي كانت في يده، فقرأ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} .
ورجع هذا الشاب إلى بيته، وقد أثر فيه هذا الحديث الذي سمعه أعظم التأثير، وقَلَبَ شخصيته قلباً تاماً، فرجع إلى البيت شخصية أخرى، وكأنه ليس هو الشاب الذي خرج قبل خمس دقائق، رجع تائباً إلى الله عز وجل خجلاً من الله تعالى، فأراق الخمور التي كانت موجودة في بيته، وكسر أوانيها، وكسر آلات اللهو والطرب التي كانت عنده موجودة وكان على موعد مع بعض جلسائه وندمائه من الفساق، فقال لأمه: إذا جاء زملائي فأدخليهم في البيت وأكرميهم وأخبريهم بما حصل مني، حتى لا يعودوا إلي مرة أخرى، ثم خرج من البصرة إلى المدينة، ولازم الإمام مالك بن أنس، حتى كان من أخص تلاميذه، وروى عنه كثيراً من الحديث، ثم رجع إلى البصرة ليروي الحديث عن شعبة وغيره من العلماء بمدينته الأولى البصرة، ولكنه حين رجع إلى البصرة، وجد أن شعبة قد مات، وهكذا لم يرو القعنبي عن شعبة إلا ذلك الحديث الذي تحمله عنه وهو في زمن فسقه وسفاهته: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} .(141/10)
توبة كعب بن مالك وأبي محجن الثقفي
من أعاجيب القصص في هذه الأمة، قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وتوبته وتوبة أصحابه من التخلف عن غزوة تبوك، وهي قصة طويلة في صحيح البخاري ومسلم، لا أريد أن أطيل بذكرها.
ولكني أذكر توبة أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، وكان أبو محجن رجلاً لا يتورع عن شرب الخمر مع أنه مسلم، حتى إنه كان وهو في الجاهلية يتغنى بالخمر ويقول: إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقُها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقُها أي أنه يريد إذا مات أن يدفنوه إلى جنب كرمة، أي: شجرة عنب حتى تروي عروقُها عظامَه بعد الموت حنيناً إلى الخمر، حتى وهو ميت، وظل هذا الرجل مصراً على شرب الخمر بعد الإسلام مع أنه أسلم، فكانوا يجلدونه في الخمر، ثم سجنوه لما لم يفد فيه الجلد، وكان مسجوناً في بيت سعد بن أبي وقاص في العراق قرب القادسية، فثارت معركة القادسية بين جند المسلمين وجند الفرس، واحتدم وطيس المعركة، وكان أبو محجن فارساً قوياً غيوراً على الإسلام، وإن كانت فيه هذه المعصية، فكان ينظر إلى المتقاتلين ويتحرق على القتال في سبيل الله عز وجل، ثم ينظر بين قدميه، فيجد هذه السلاسل والقيود التي أثقلته، فلا يستطيع أن يتحرك بها، فحزن حزناً شديداً على عدم استطاعته أن يقاتل، وقال وكان شاعراً قوياً قال: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوةٍ فقد تركوني واحدا لا أخا ليا ولله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا أي أنه يعاهد الله عزوجل إذا فرجت عنه هذه الضائقة، ألا يزور الحانات، ولا يشرب الخمر مرة أخرى، وكانت زوجة سعد بن أبي وقاص واسمها سلمى قريبة منه تسمعه، فناداها وقال لها: اسمعي مني قد اشتدت المعركة بين المسلمين والفرس، ففكي وثاقي وسلميني هذه الفرس التي تسمى البلقاء، وهي فرس سعد بن أبي وقاص، وقد كانت مربوطة، ودعيني أقاتل مع المسلمين، فإن قتلت فما أنا بأول من قتل، وإن نجوت فإني أعاهدك بالله عز وجل أن أعود حتى أجعلك تضعين القيد في رجلي ويدي مرة أخرى، فقالت: إني أخاف ألا تعود فقال: أعاهدك أن أعود إن نجوت.
ففكت وثاقه، وأعطته البلقاء فرس سعد، فركبها وذهب إلى الفرس، فبدأ يصول ويجول فيهم يمنة ويسرة، ويقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وينتقل من الميمنة إلى الميسرة إلى القلب، وهو لا يعرض له أحد من الفرس إلا قتله حتى بدءوا يهابونه، ويتحامون منه، والمسلمون ينظرون إليه، ويقولون: من هذا؟! من هذا الفارس الذي لا نعرفه؟! وكان سعد وهو قائد المعركة يقول: والله لولا أن أبا محجن في الأسر لقلت: إن هذا أبو محجن، ولولا أن فرسي البلقاء مربوطة، لقلت: إن هذا فرسي البلقاء.
فلما انتهت المعركة، رجع أبو محجن إلى سلمى، وجعلها تضع القيد في رجله مرة أخرى، فلما جاء سعد كان يحدث زوجته عن أخبار المعركة وقال لها: لقد ظهر فارس عجيب على فرس عجيبة، لولا أن أبا محجن في الأسر، لقلت: هو أبو محجن، ولولا أن فرسي مربوطة، لقلت: هي فرسي، فقالت له: هو والله أبو محجن، وهي والله فرسك، وأخبرته بالقصة، فذهب سعد إلى أبي محجن، وفك وثاقه بيديه، وقال له: لا جرم والله لا جلدناك في الخمر أبداً، ولا حبسناك فيها أبداً، فقال أبو محجن: وأنا والله أيضاً لا شربت الخمر أبداً، ثم تاب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً.(141/11)
توبة القاتل مائة نفس
وكذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد أن رجلاً كان جباراً طاغية معه سيفه وبندقيته، لا يمر برجل فيتشاكس معه ويختلف معه إلا قتله، فسأل وقد تحركت في نفسه التوبة إلى الله عز وجل، وخاف من الموت، وأن يلقى الله على هذه الحال السيئة، وتذكر أنه مهما تمتع بشبابه وقوته وصحته فإنه آيل إلى الهرم والمرض والعجز والشيخوخة والموت والقبر والجزاء والحساب، فخاف من ذلك كله.
وبدأ يسأل الناس: أيها الناس! هل تعلمون أحداً من أهل العلم أسأله عن حالي؟ فدُل على راهب من الرهبان، فجاء إليه وقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفسا فهل لي من توبة؟ قال له: أنّى لك التوبة؟! اخرج لا تلوث صومعتي، وأراد أن يطرده، فغضب هذا الرجل وقت الراهب فأكمل به المائة، ثم بدأ يسأل مرة أخرى: هل لي من توبة؟ فدل على عالم، وهو أعلم أهل الأرض يومئذٍ، فجاء إليه وقال له: إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: من يحول بينك وبينها؟! ولكن لا تعد إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء فلا ترجع إلى البلد الذي جئت منه المدينة التي خرجت منها؛ بل اذهب إلى قرية كذا، وكذا؛ فإن لها قوماً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله تعالى معهم، فخرج من بيت هذا العالم فمات في الطريق، وأوحى الله عز وجل إلى القرية التي هاجر إليها أن تقاربي -اقتربي إلى الرجل- وأوحى إلى القرية التي هاجر منها أن تباعدي، فلما قاسوا ما بين القريتين وجدوه أقرب إلى القرية التي هاجر إليها بشبر، وفقبضت روحه ملائكة الرحمة، وقبض عبداً تائباً صالحاً منيباً إلى الله عز وجل.(141/12)
توبة ذي الكفل
وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا من أخبار بني إسرائيل في الأحاديث الصحاح من أخبار التوبة الشيء الكثير الطيب، فمن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من توبة ذي الكفل، وهي قصة صحيحة رواها الترمذي وحسنها، والحاكم، وابن حبان وصححاها وغيرهم من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الكفل كان رجلاً من بني إسرائيل لا تتسنى له معصية إلا وقع فيها -رجلٌ مقدم على الزنا والفجور وأكل الحرام وأكل الربا وقتل النفس بغير حق وعقوق الوالدين وغير ذلك من ألوان المعاصي التي تتسنى له، لا يتورع عن شيء منها قط- ففي أحد الأيام طلبت منه امرأة أن يعطيها ستين ديناراً، فوافق أن يعطيها هذا المبلغ، مقابل أن تخلي بينه وبين نفسها ليقع في الزنا بها والعياذ بالله فوافقت على ذلك فأعطاها ستين ديناراً، فلما قعد أمامها ارتعدت وبكت فقال: لها ما يبكيك؟ قالت: الخوف من الله عز وجل؛ فإن هذا أمر لم أفعله طيلة عمري، قال: ولماذا فعلتيه إذاً ووافقتِ على ذلك؟ قالت: لأنني محتاجة حاجة شديدة، فقال: أنا أحق أن أخاف الله عز وجل وأخشى منه، وقد وقعت في ألوان الذنوب والمعاصي، فقام ولم يقع في هذه الجريمة، ثم خرج تائباً إلى الله عز وجل، فمات في تلك الليلة، وأصبح مكتوباً على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل} .(141/13)
توبة داود
وهذا داود عليه السلام يخلو ببيته يعبد الله عز وجل، فيتسلق عليه رجلان فيقول أحدهما، وقد رأى الفزع بداود: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:22] ثم يقول أحدهما له: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] وقبل أن يستمع داود إلى كلمة الطرف الآخر حكم: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] .
ثم أدرك داود أنه تعجل في الحكم قبل أن يسمع كلام الطرف الآخر: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] قال الله عز وجل: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25] .
وهذا نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يكون من شأنه مع التوبة والاستغفار ما سمعتم قبل قليل.(141/14)
توبة آدم وحواء
هذا آدم عليه السلام يأكل من الشجرة وزوجه، فيقع لهما ما وقع، ويريان سوءاتهما، ويدركان أنهما أخطأا فيقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فيتوب الله عز وجل عليهما، ويهبطهما إلى هذه الدنيا دار الابتلاء والامتحان.
ويقول سبحانه وتعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123-127] .(141/15)
توبة نوح
وهذا نوح عليه السلام، حين يأتي الطوفان إلى هذه الأرض ليغرق أهلها، وقد وعد الله نوحاً بنجاة أهله فيقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] فيقول الله عز وجل له: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] .
فيقول سيدنا نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] فيتوب الله عز وجل عليه.(141/16)
توبة يونس
وهذا يونس يخرج من البلد والقوم الذين أرسل إليهم، بعدما رفضوا دعوته وأبوا أن يستجيبوا له، فيلقي به الله عز وجل في بطن البحر في بطن الحوت، في ظلمات بعضها فوق بعض، وحينئذٍ يدرك أنه قد وقع في أمر لا يحبه الله عز وجل، فينادي في الظلمات: {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] .(141/17)
شروط التوبة
أيتها الأخت المسلمة! للتوبة شروط ستة فاحفظيها: الشرط الأول: الإخلاص، ولذلك يقول الله عز وجل: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] أي: خالصة من القلب، فتلك المرأة وتلك الأخت التي تتوب توبة مؤقتة بسبب مصيبة عارضة نزلت بها، أو ظرف طارئ، أو بسبب الاستعداد للامتحانات، أو بسبب أنها بلغت سناً معيناً، وفي نيتها أن تعود إلى ما كانت عليه، هذه التوبة ليست توبة نصوحاً ولا خالصة، فلابد أن تكون التوبة نصوحاً لله عز وجل.
الشرط الثاني: الإقلاع عن المعصية، فلابد أن يقلع الإنسان عن الذنب الذي يفعله، أما من يقع في الذنب ويقول: أستغفر الله، فهو كالمستهزئ، ولذلك يقول الشاعر: أستغفرُ الله من أستغفر الله من كِلْمَةٍ قُلْتُها لم أَدْرِ معناها الذي يستغفر وهو مصر على المعصية هو كالمستهزئ بالله عز وجل، فلابد من الإقلاع عن الذنب.
الشرط الثالث: الندم على ما مضى بحيث أن الإنسان كلما تذكر ما حصل منه في الماضي، احترق قلبه ندماً وأسفاً على ما فرط وعلى ما قصر في حق الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الندم توبة} ومن الطبيعي أن الإنسان التائب يندم على ما مضى.
الشرط الرابع: العزم على ألا يعود: أن يصمم الإنسان على ألا يرجع إلى المعاصي مرة أخرى.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وما هو وقت القبول؟ وقت القبول هو أن يكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وفي الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} وفي حديث مسلم السابق: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} فإذا طلعت الشمس من مغربها -وهذه علامة من علامات الساعة الكبرى- فحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فلابد أن تكون التوبة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، ولابد أيضاً أن تكون قبل الاحتضار والغرغرة، فإذا تاب الإنسان قبل أن تغرغر روحه في حلقه، تاب الله عليه، أما إذا احُتضِرْ ونزل به الموت، وجاءت الملائكة لقبض روحه، وغرغرت روحه للخروج، فحينئذٍ لا تنفعه التوبة؛ لأن كل إنسانٍ قد يتوب حينئذٍ، ولذلك في الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه الترمذي، وهو صحيح: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} ويقول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17] {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] فهذا لا تنفعه التوبة إذا حضره الموت وغرغرت روحه قال: إني تبت الآن.
الشرط السادس: إن كانت المعصية إساءة للآخرين، سواء بانتهاك أعراضهم، أو الكلام فيهم، أو أخذ أموالهم، أو ظلمهم، أو تنقصهم، فيجب أن يستسمح التائب ممن أساء إليه أو يرد الحق إليه ما استطاع.(141/18)
العوامل التي تساعد على الثبات على التوبة
أختم هذه الكلمة بذكر بعض العوامل التي تساعد الأخت التائبة على التوبة وعلى الثبات عليها: العامل الأول: قوة العزيمة؛ بحيث لا يكون الإنسان متردداً؛ يتوب اليوم ويعصي غداً، ويتوب غداً ويعصي بعد غد، بل يحاول أن يقوي عزيمته: بالاتكال على الله عز وجل، بكثرة فعل الأعمال الصالحة، بكثرة الصيام، وبغير ذلك من الوسائل التي تقوي عزيمته.
العامل الثاني: كثرة الدعاء؛ فإن الله عز وجل يقول: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] فهو قريب مجيب، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من لم يسأل الله يغضب عليه} فلابد من الدعاء الحار إلى الله الملك الجبار.
العامل الثالث: تجنب أسباب المعصية، فانظري أيتها الأخت! لماذا تقعين في المعصية؟ لأنك تصاحبين -مثلاً- فلانة وفلانة ممن يجرك إلى المعصية؛ لأنك تخرجين إلى السوق -مثلاً- لأنك تقتنين المجلات؛ لأنك تشاهدين المسلسلات فتجنبي أسباب المعصية، اتركي قرينات السوء، ممن يحرضك على المعصية ويدعوك إليها، واعملي بنصيحة ذلك العالم من بني إسرائيل الذي نصح التائب ألا يعود إلى قريته؛ لأنها أرض سوء وأن ينتقل إلى قرية أخرى يعبد الله عز وجل بها، فأنتِ غَيِّري البيئة، اتركي القرينات المنحرفات، وابحثي عن أخوات طيبات صالحات.
العامل الرابع: عدم القنوط: لا تقنطي من رحمة الله؛ {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] مهما بلغت معاصيك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله عز وجل لهم} ويقول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] .
فإذا تبتِ إلى الله عز وجل توبةً نصوحاً أبدلكِ الله تعالى بكل سيئة عملتها حسنات، ويوم القيامة يعرض الله عز وجل عليك سيئاتك واحدةً واحدةً، فيقول: إنها قد بُدِلت لك حسنات فافرحي أيتها الأخت التائبة بأن الله عز وجل واسع المغفرة.
العامل الخامس: أخيراً من العوامل التي تساعد على التوبة: أن تحرص الأخت المسلمة على أن تكثر من الأعمال الصالحة، ومن أعمال الخير؛ فإن كل إنسان فيه قابلية للخير؛ فتكثر من الصلاة، ومن قراءة القرآن، ومن الاستغفار، ومن الصيام، من الذكر، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بر الوالدين، الإحسان إلى الناس، عدم ظلم الآخرين، وغير ذلك من الأمور التي يستطيعها الإنسان، والله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114-115] .
والحمد لله رب العالمين.(141/19)
المستقبل للإسلام
المستقبل لهذا الدين أمر حتمي لابد منه، والاهتمام بالمستقبل لهذا الدين قضية فطرية وشرعية، اهتم بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم، وأعداء الإسلام كثير، وهم يكيدون له ليل نهار ويتحالفون ضده رغبة في الوصول إلى مآربهم، لكن الأدلة الشرعية على أن المستقبل لهذا الدين قطعية لا يشك فيها اثنان.
فعلينا أن نوقن أن المستقبل لهذا الدين ونأخذ بالإسباب الشرعية مع الاعتماد على الله تعالى القائل: ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)) هذا جملة ما تحدث الشيخ عنه في هذا الدرس الممتع.(142/1)
ضرورة الاهتمام بموضوع المستقبل للإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فهذا هو الدرس العشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في ليلة الإثنين، الخامس من ربيع الأول، لعام 1411هـ، وعنوان هذا الدرس "المستقبل للإسلام".
وأحمد الله تعالى، فإن الله عز وجل قد وفق إلى جمع مادة كبيرة ومفيدة في هذا الدرس، وأسأله عز وجل أن يوفقني إلى عرضها عليكم باختصار، بحيث أتمكن من ذكر كل ما لدي في هذا الوقت القصير.
أول نقطة أود أن أتحدث عنها، هي: ضرورة الاهتمام الشخصي بهذا الموضوع ثم أتحدث بعد ذلك عن قضية الاهتمام بالمستقبل، على أنه خاصية من خصائص الإنسان تميزه عن الحيوان وأثلث بحديث موجز عن أعداء الإسلام، من هم؟ وما هي خططهم؟ ثم أتحدث عن الأدلة الشرعية على أن المستقبل للإسلام، من القرآن الكريم، ثم من الحديث النبوي الشريف، ثم الأدلة من التاريخ، ثم الأدلة من الواقع، ثم الحديث عن الجزيرة العربية، وأنها أرض الإسلام، وبعد ذلك نصل إلى النهاية، وهي الطريق نحو مستقبل الإسلام.(142/2)
مدى عنايتنا بموضوع المستقبل للإسلام
ففيما يتعلق بالنقطة الأولى، وهي: ضرورة الاهتمام الشخصي بهذا الموضوع، فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه: ما مدى عنايتنا بهذا الموضوع؟ لا شك أن هناك من ينصب اهتمامه منا على سلامته الشخصية، وأسرته، وراتبه، وتوفر القوت الكافي، والمسكن الواسع، والسيارة الفخمة، والاحتياجات المتنوعة، وألا ينقص شيء من راتبه أو دخله الشهري، ومع ذلك قد تجد هذا الإنسان يؤدي عبادته وأموره الشرعية بانتظام، لكن دون أن يهمه شأن الإسلام والمسلمين.(142/3)
الارتباط العاطفي بقضايا الإسلام والمسلمين
نحن بحاجة -أيها الإخوة- إلى أن يكون لدينا ارتباط عاطفي بقضايا الإسلام والمسلمين، بحيث أن حزن الإنسان وفرحه وسروره وغضبه ورضاه ويقظته ومنامه، تكون كلها مربوطة بشأن الإسلام، فإذا لاحظت عليه الحزن وجدته لما يصيب المسلمين، أو الفرح وجدته لانتصار الإسلام، تأملت في أحلام هذا الإنسان وهو يتقلب في فراشه، وجدتها مرتبطة بأوضاع المسلمين وأحوالهم، في يقظته تجده يكدح في شأن الإسلام والمسلمين.
أما كون الإنسان يهتم بقضاياه الشخصية، ثم بعد ذلك لا يهمه شأن الإسلام ولا شأن المسلمين، فهذا لن يفكر في واقع المسلمين أصلاً، ولذلك فمن باب الأولى أنه لن يفكر في مستقبله.(142/4)
بعض الأمثلة على الاهتمام بشأن الإسلام
أضرب لكم بعض الأمثلة من واقع الجيل الأول، وهي أمثلة سريعة وغير مقصودة، إنما هي على سبيل التذكير فقط:(142/5)
قصة أم أيمن رضي الله عنه الله عنها
مثل رابع: بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصاب المسلمين كلهم هم وحزن عظيم، حتى إنهم كانوا كالغنم المطيرة، وأظلم في المدينة كل شيء -كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه- ولما بويع لـ أبي بكر الصديق بالخلافة قال لـ عمر: [[انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزورها - أم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم أم أسامة بن زيد، ومن أقرب الناس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام! فانطلقا إليها لزيارتها، فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أما إني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها]] .
إذاً هذه المرأة لا تبكي لموت حبيب لها، أو قريب، أو صديق، أو ابن، كلا! إنما تبكي لانقطاع الوحي من السماء، حتى فقدها لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن هو فقط الذي يبكيها، وإن كان فقده عزيزاً عظيماً على النفوس، لكن الذي كان يبكيها هو انقطاع الوحي من السماء، وتعتبر ذلك أمراً جللاً يستحق البكاء، فهيجتهما على البكاء الخليفة ووزيره فجعلا يبكيان معها.
يا أحبتي! يجب أن يفكر المرء منا، كم كتب له من العمر في هذه الدنيا؟ خمسين، ستين، سبعين سنة -مثلاً- كم مضى من هذا العمر؟ سؤال ثالث ماذا صنعت فيما مضى من العمر؟ وكم بقي؟ وماذا سوف تصنع في ما بقي من عمرك؟ هل تعتقد أن الأمور سوف تتاح لك، حتى تفعل بكامل راحتك وهدوئك وسعة بالك؟ تصور يا أخي الكريم، أنه في يوم من الأيام أصابك صداع في رأسك، وبعد ما ذهبت إلى المستشفى، وأجريت التحاليل والفحوص اللازمة، قالوا: عندك سرطان في المخ هذا وارد، كل إنسان ممكن يحدث له ذلك.
ما موقفك حين ذاك؟ لا شك أن موازين الإنسان سوف تتغير، ونظرته تختلف، وتفكيره سينحو منحى آخر، لكن المشكلة أنه في ذلك الوقت قد لا يكون بإمكانه أن يعمل شيئاً؛ لأنه لم يعد في حالته الطبيعية، وربما ليس لديه من الإمكانيات ما لديه الآن.(142/6)
فتح خيبر وقدوم جعفر
مثل ثالث: بعد فتح خيبر، وكان هذا الفتح نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، جاء جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وكان قد هاجر إليها مع المهاجرين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه واعتنقه وقال: {ما أدري بأيهما أسر أبفتح خيبر، أم بقدوم جعفر} إذاً سرور النبي صلى الله عليه وسلم، كان مربوطاً بقضية الإسلام، فيسر لفتح خيبر ويسر أيضاً لقدوم جعفر.(142/7)
الأحلام والرؤى
مثلاً الأحلام والرؤى، التي كان الصحابة رضي الله عنهم يعرضونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعد صلاة الفجر -أحياناً- يسأل الرسول: من رأى منكم رؤيا؟ فيقول رجل: رأيت رؤيا فيذكر رؤيا، وثاني وثالث.
ماذا كانت تدور حوله؟ لم تكن تدور حول قضاياهم الشخصية فقط، ولا مشاكلهم الخاصة فقط، بل كان الغالب على هذه الأحلام، هو أنها تدور حول أوضاع الإسلام والمسلمين، إما في علم أو عمل، أو انتصار للمسلمين، أو خطر يهددهم، أو ما أشبه ذلك، ولو أردت أن أذكر أمثلة من ذلك لطال المقام، لكنني سبق أن ذكرت شيئاً من ذلك في درس بعنوان: "الأحلام والرؤى".(142/8)
خروجه إلى الطائف
عندما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى الطائف فدعاهم إلى الله عز وجل، فردوه أبشع رد وكذبوه فيما قال، خرج من عندهم، أو من مكة -على اختلاف في الروايات- يقول صلى الله عليه وسلم: {فخرجت هائماً على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فإذا سحابة قد أظلتني الحديث.
إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى مسافة طويلة وكأنه فيما يشبه الغيبوبة، من شدة الحزن والهم والكمد الذي أصابه بسبب ردهم السيئ عليه، حتى ما وعى على نفسه وانتبه، إلا وهو في هذا المكان، وكأنه لم يكن يقصده، لكن انتبه فوجد نفسه في قرن الثعالب.
إذاً همه وحزنه صلى الله عليه وسلم، لم يكن من أجل فوات دنيا أو مطمع أو منصب أو زوجة.
أبداً، كان همه مربوط بقضية الإسلام، ومدى قبول الناس أو ردهم لهذا الدين.(142/9)
المشاركة في صناعة مستقبل الإسلام
فعلى الإنسان أن يغتنم الفرصة، ويسعى إلى أن يشارك في صناعة مستقبل الإسلام؛ لأننا لا نصنع شيئاً إذا قلنا المستقبل للإسلام.
ثم لم نأتِ بجديد، هذا قاله قبلنا كثيرون من الناس، من الخلف والسلف، والمعاصرين، ومن المفكرين، ومن العلماء المسلمين، بل ومن غير المسلمين، قالوا: المستقبل للإسلام.
ما صنعنا شيئاً إذا كان هذا مجرد كلام نردده ونكرره ونتلهى به، ومجرد أمانٍ نقولها.
ينبغي أن يكون قولنا: المستقبل للإسلام بداية لخطوة عملية، يساهم فيها كل فرد منا في العمل على صناعة هذا المستقبل بقدر ما يستطيع.(142/10)
الاهتمام بالمستقبل خاصية تميز الإنسان عن الحيوان
النقطة الثانية: الاهتمام بالمستقبل، خاصية من خصائص الإنسان تميزه عن الحيوان، جُبِلَ الإنسان على التفكير في المستقبل، ولذلك إذا تأملتم قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23-24] فالله عز وجل في هذه الآية ما نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن تعليق الأمر على المستقبل، إنما نهاه عن أن يجزم، بل يربط ذلك بالمشيئة.
إذاً الإنسان لا يستطيع أن يعمل كل ما في أمنيته الآن فيقول: بعض الأمور أعملها غداً أو بعد غد في المستقبل.
لكن ينبغي أن نربط ذلك بمشيئة الله عز وجل، فلا يجزم ويقول: سأفعل ذلك غداً، بل يقول: إن شاء الله أفعله غداً.
فالتخطيط للمستقبل أمر ضروري، ولا يمكن تجاهله، ولكنه ينبغي أن يُربط بمشيئة الله عز وجل.
انظر إلى بعض هذه الأحاديث -وأنا أذكر لكم هذه الأشياء كلها، لا على سبيل الاستقصاء، وإنما كأمثلة مرت في خاطري وأنا أتأمل الموضوع.
مثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول، في صيام يوم عاشورا: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} أي: مع العاشر يصوم يوم تسعة وعشرة من المحرم، فعلق هذا الأمر على المستقبل؛ لأنه لم يفعله في هذا العام، فوعد إن بقي إلى العام القادم، وكتب الله له حياة أن يفعله، يقول صلى الله عليه وسلم: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} ويقول: {لئن عشت إن شاء الله، لأنهين أن يسمى أفلح ويسار ورباح، ونجيح} فوعد أنه إن عاش سوف ينهى عن هذه الأمور.
نحن نجد لغة العرب فيها حرف السين، وفيها سوف، لماذا وجد حرف السين وسوف؟ للتعليق على المستقبل، فإذا قلت لك: اقرأ هذا الكتاب؟ تقول: سوف أقرؤه إن شاء الله، أو سأقرؤه إن شاء الله.
فالإنسان يعلق كثيراً من الأمور في المستقبل.
الذي لا يمكن أن تفعله اليوم، تفعله غداً، والذي لا يمكن أن تفعله غداً، تفعله بعد غد، وهذا أمر طبيعي أن الإنسان يفكر في المستقبل، ويرتب بعض الأمور، ويعد أن يفعل هذه الأشياء في مقبلات الأيام.
ولذلك جاء في السنة النبوية الخبر عن أحوال هذه الأمة، وما يمر بها من الفتن والشرور والمصائب والخيرات أيضاً، إلى قيام الساعة، وفي بعض الأحيان كان الصحابة أنفسهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما في حديث حذيفة المشهور، أنه قال: {كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقال: جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ وهل بعد هذا الشر من خير؟} إلى آخر الحديث.(142/11)
الفرق بين تفكير الجاهليين وتفكير المسلمين للمستقبل
إذاً الناس قلوبهم متطلعة ومتعلقة إلى أمور المستقبل، ولا يوجد إنسان يفكر في ساعته الحاضرة فقط، لكن الفرق في ذلك: أن أهل الجاهلية -سواء كان في الجاهلية القديمة أم الجاهلية المعاصرة- يفكرون في المستقبل تفكيراً منحرفاً، فمثلاً في الجاهلية كانوا يفكرون عن طريق الكهان، والعرافين، والمنجمين، والرمالين، فيأتي الواحد منهم رجل أو امرأة إلى الكاهن، فيقول: ماذا سيحصل لي، وماذا سيحدث، وماذا تتوقع؟ فيقول له الكاهن ما أخبره به شيطانه، ويصدق مرة ويكذب تسعاً وتسعين مرة، ومثله ما نجد في العصر الحاضر ما يسمونه قراءة الكرت، أو البرج أو حظك، أو ما أشبه ذلك من الأشياء، التي شاعت وذاعت عند أهل الجاهلية، وانتشرت إلى بعض المنتسبين إلى الإسلام في هذا العصر.
وكذلك أهل أوروبا، يخططون ويفكرون للمستقبل من خلال نظرات وحسابات مادية بحتة، ولذلك كثيراً ما تأتي الأمور مخالفة لما كانوا يتوقعون.(142/12)
الأدلة التي نستقرأ من خلالها المستقبل
أما في الإسلام فأمامنا آفاق عريضة واسعة، نحاول أن ننظر إلى المستقبل من خلالها.(142/13)
الدليل الثاني: الرؤيا الصالحة
الدليل الثاني: الرؤيا الصالحة وهي كثير، وأكثر ما تقع في آخر الزمان، وإذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ولذلك تجدون كثيراً من الصالحين، رأوا مرائي كثيرة في مثل هذه الأوقات، وقد حدثني قريب لي البارحة قال لي: مات فلان قريبي فقلت: سبحان الله! ما علمت بذلك.
قال: مات منذ ما يزيد على شهرين، وفي مرض موته يقول: إنه أفاق من غيبوبة ألمت به، فقال لأحد إخوانه: لقد رأيت دخاناً أقبل على المسلمين من قبل العراق، وأخشى أن ينزل بالمسلمين فتنة، وذكر بقية الرؤيا.
المهم أن الناس كثيراً ما يشاهدون الرؤيا الصالحة، ويستقرئون من خلالها بعض ما كتب الله تعالى، من ذلك: الفراسة.
وحديث {اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله} لا يصح، لكن هناك أشياء كثيرة تصدق فيها فراسة الإنسان العاقل، الخبير الورع التقي، فيصدق ما توقعه، وهناك حديث النفس أو الإلهام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن كان في أمتي محدثون أو ملهمون فـ عمر} .
وقد يلهم الإنسان أحياناً كلمة فتصيب، وقد حدثني -أيضاً- رجل عن بعض الكبراء، أنه سيحدث له كذا وكذا، ظناً منه، لا رجماً بالغيب، لكن يقول: والله أعلم، فصدق ما ظنه هذا الإنسان.
من ذلك الفأل الحسن، ومن ذلك الدعاء المستجاب.
إذاً قضية الاهتمام بموضوع المستقبل، قضية فطرية وشرعية، والشرع أقرها.
لكن رسم لها الطريق الصحيح.
الاهتمام بالمستقبل -أيها الأحبة- يقتضي الاهتمام بالحاضر، فإن المستقبل امتداد للحاضر، والأمة التي لا تعي حاضرها ومخاطره، وما يخطط لها، ولا تدرك المؤامرات التي تحاك ضدها، فهي أمة لا يمكن أن تدرك مستقبلها، ما دامت على تلك الحالة، بل إنني أقول: إن الاهتمام بالمستقبل -كما يقتضي الاهتمام بالحاضر- يقتضي الاهتمام بالماضي أيضاً، بالتاريخ، فإن كل أمة إذا أرادت أن تستأنف مسيرتها، لا بد أن ترجع إلى ماضيها، كما قال الأول: استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه التاريخ -أيها الأحبة- ليس مجرد قصص تسرد ويتلهى بها الناس، وليس مجرد أخبار للمتعة، كلا! وإنما هو توجيه وإرشاد، ولذلك قالوا: التاريخ يعيد نفسه.
أي قضية أو مشكلة أو كارثة تقع في أمة من الأمم، لو قلبت أوراق الماضي والتاريخ، لوجدت حالات مشابهة كثيرة، وسوف أذكر لكم خلال الدرس إن شاء الله شيئاً من ذلك، ولهذا يقول أحمد شوقي: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي في الناس انتساباً أي: الإنسان الذي ليس له تاريخ، أو نسي تاريخه، مثل الإنسان الذي ليس له أب، لقيط ليس له أب، فمن خلال التاريخ، نستطيع أن نعرف كيف تنهض الأمة، وكيف تقوم من رقادها، وكيف تسترد صحتها وعافيتها.(142/14)
الدليل الأول: استقراء السنن الإلهية
من ذلك مثلاً: قضية استقراء السنن الإلهية، فإن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً ونواميس تمشي وتمضي، مثل ما أن الشمس تطلع وتغيب، كذلك حياة الناس، وحياة الأمم، وحياة الشعوب، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والفقر والغنى، كلها مربوطة بسنن إلهية موجودة في هذه الدنيا، والمؤمن العاقل البصير -أحياناً- يدرك من خلال هذه السنن ما سيقع.
ولذلك أذكر على سبيل المثال: أن الشيخ ابن تيمية رحمه الله، لما جاء التتار إلى بلاد المسلمين، خافهم الناس وفزعوا منهم، فكان ابن تيمية يقول لهم: إنكم غانمون ومنصورون.
فيقول له الناس: يا إمام! قل إن شاء الله.
فيقول: إنكم منصورون، وأقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، أي: النصر مؤكد ومقطوع به، ولكن أقول إن شاء الله مثل ما جاء في الحديث: {وإنا إن شاء الله بكم لاحقون} بالنسبة للموت، مع أن الموت حتم لازم، تحقيقاً لا تعليقاً؛ لأنه من خلال استقراء النواميس الإهية لاحظ ذلك، وإنه أعجبني مقطع في كتاب نفيس جميل اسمه"صناعة الحياة" أحببت أن أشرككم معي في هذا المقطع الجميل، يقول فيه: علينا كمؤمنين، أن ننتظر ساعة يتضح فيها من يكذب ولا بد، ننتظرها كما ننتظر أي حدث مادي، كشروق الشمس أو نزول المطر إذا أغلقت السماء، ومن الموازين: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] وقريب منه ميزان: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] وأن الخطيئة الأولى تجلب خطيئة ثانية، والثانية تجلب ثالثة عقوبة من الله، حتى يغلق القلب على ظلمة.
وبعكس هذه الموازين: التوفيق الذي يحيط المهتدي والصادق، وفق ميزان: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وأمثاله.
يقول: وكل هذه الموازين نتداولها، وكأننا ننتظر الآخرة؛ ليحيق المكر السيئ بأهلة ويثاب المؤمن، وهذا جزء من الحق، أي: ما ننتظره في الآخرة هذا حق وجزؤه الآخر، هو الاعتقاد بأن الحياة البشرية الدنيا محكومة بهذه الموازين جزماً، ولكن لا يرى البعض آثارها.
لأنها لا تظهر دائماً بسرعة، بل قد تمتد لفترة زمنية لتظهر، فينسى الربط بين الفعل أو العقوبة والثواب، مع اعتقادنا بأن العقوبة قد تأتي في نفس اللحظة أحياناً، مثل مئات من القصص، يرويها الثقات على مدى الأجيال، عن شاهد زور حلف بالقرآن أمام القضاء كاذباً فعمي فوراً، أو مغتاب يغتاب فيكوى لسانه بلقمة حارة فوراً يكوي الله بها لسانه عقوبة عاجلة، فهذا يحدث، لكن ليس من الضروري أن يحدث دائماً.
لكن العقوبة العاجلة ليس من الضرورة أن تأتي في لحظة، قد تأتي في عشر سنين، أو مائة سنة أحياناً وأشباه ذلك.
يقول فدراسة آثار موازين الإيمان على فترة ممتدة وأجيال، ترينا بوضوح نتائج مشخصة مرئية، يؤول فيها أمر أهل الباطل إلى تراجع، وأمر أهل الحق إلى تمكين، وفي القرآن الكريم شواهد، وكذلك في كتب التاريخ وفي مرويات المعمرين، ولـ محمود شيث خطاب، وهو مسلم وافر الصدق، كتاب عنوانه"عدالة السماء" هذه قصص صغيرة تباع في الأسواق يروي فيها بعض قصص مدارها على هذه الموازين.
-ذكر بعض هذه القصص- ثم قال: وحدثني ثقة قال: إن جندياً تركياً -هذا لمؤلف الكتاب- انعزل عن وحدته، يوم انسحاب الجيش العثماني من بغداد، أمام ضغط الجيش البريطاني، ووقف هذا الجندي بباب جامع أبي حنيفة في بغداد، فجاء شقي سلبه، ثم قتله بظلم في وقفته في الباب، وبعد عشرين سنة تشاجر هذا الشقي مع آخر، فطعن فهام على وجهه من حرارة الطعنة لا يدري ما يفعل، وظل يهرول بلا وعي مئات الأمتار، حتى وصل باب الجامع، فخر ميتاً في نفس الموضع الذي قتل فيه التركي البريء، ولو أنا فتحنا مثل هذا الموضوع في مجلس المعمرين في الحضر أو البدو، وفي بلاد العرب أو الهند أو الصين، لأقسموا لنا على صدق عشرات من مثل هذه القصص رأوها بأنفسهم رأي العين.
ومن أعجب الأمور -ولا زال الكلام لمؤلف الكتاب محمد بن أحمد الراشد - ومن أعجب الأمور: أن العقوبة قد لا تظهر في الفاعل، وإنما تظهر في ولده لحكمة ربانية، فقد حدثني أحمد جمال الحريري رحمه الله، وهو يطوف بمكة، قال: يا بني، كلنا قد استهجنا سحب جثة الأمير العراقي عبد الإله بن علي، صبيحة ثورة أربعة عشر تموز ببغداد، ولكن هل تظن أن ذلك جاء من غير مقدمة؟ قال: لقد رأيت علياً أباه صبيحة التاسع من شعبان بمكة، يوم أعلنت الثورة العربية التي قادها لورنس، قال: رأيته يصعد إلى قلعة مكة، التي ما زالت شاخصة حتى الآن، فأعطى الحامية العثمانية أماناً إذا سلمت بغير قتال، فسلموا ونزلوا آنذاك بالأمان، وكرهوا القتال بمكة، قال: فأطلق سراح الجنود، وكانوا أربعمائة، ووضع الحبال في أرجل ستة عشر ضابطاً، وسحبهم أتباعه وهم أحياء.
أي: جروهم بالسيارات على الإزفلت أو غيره وهم أحياء، والغوغاء تركض وراءهم، فماتوا بعد بضع مئات أمتار، واستمروا يسحبونهم حتى بلغوا البطحاء التي بين مكة ومنى، فعلقوهم على الأشجار أمواتاً، وكل ذلك رأيته بعيني، وما أظن الذي حدث لولده إلا عقوبة مثلية لتلك السيئة.
وبمقابل هذا، هل رأيت من سار على سنن العدل، ثم ساءت أموره؟ لم نرَ ذلك في فرد أو حكومة قط، وكم من رهط مؤمن عجز عن دفع ظلم يقع عليه، فينجيه الله تعالى ويبطش بالظالم تصديقاً لميزان: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] وهلاك الأمم حين يشيع المنكر، وتنتشر المعاصي، يشاهده المرء في المدن الخربة، ومدينة بومبي الفاسقة بجنوب إيطاليا، محفوظة من يوم أهلكها بركان فيزو، قبل ألفي سنة.
يقول المؤلف: وقد تجولت فيها، ورأيت دنان الخمور، وصور النساء العرايا كأنها رسمت أمس، وهل ما حدث للكويت من هزة اقتصادية بسبب سوق المناخ، بعيد عن معنى عقوبة بلد شاع بين أهلها الربا، ورضي معظمهم بيع الغرر التحايلي الذي كان بالمناخ.
هذا كلام المصنف، ولو كتب الكتاب بعد حادثة الكويت الأخيرة، لأشار إليها، باعتبارها نموذجاً آخر من نماذج العقوبات الإلاهية، التي تجري وفق هذه السنن.
إذاً في الإسلام أول دليل نستقرئ من خلاله المستقبل: السنن الإلهية.(142/15)
أعداء الإسلام وخططهم
ثالثاً: أعداء الإسلام.
من هم؟ وما هي خططهم؟(142/16)
إظهار الإسلام للوصول إلى المآرب
الخطة الثانية: إظهار الإسلام رغبة في الوصول إلى المآرب، بحيث أنهم يطبقون الخطة التي كان يقولها بعض أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:72-73] أحياناً يهود أو نصارى يعلنون أنهم أسلموا، بغرض التغلغل والدخول إلى المسلمين وذر الرماد في العيون، والأمثلة من ذلك كثيرة.
مثلاً: عبد الله بن أبي بن سلول، أظهر الإسلام وهو باقٍ على كفره ونفاقه، من أجل أن يكيد للمسلمين.
مثل آخر: عبد الله بن سبأ المشهور بـ ابن السوداء، كان يهودياً من أهل صنعاء، فأظهر الإسلام حتى يكيد للإسلام، وهو باقٍ في حقيقة الأمر على يهوديته.
التتار كانوا وثنيين متوحشين لا دين لهم، لكن عندما جاءوا إلى بلاد المسلمين واختلطوا بالمسلمين، أعلن بعضهم الدخول في الإسلام، وقد يكون بعضهم دخل في الإسلام حقيقة، لكن كثير منهم أعلن الدخول في الإسلام حتى يطمئن المسلمون ويهدءوا، ولذلك لما جاء التتر تردد كثير من المسلمين بعد ما أسلموا، وقالوا: كيف نقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، ومعهم قضاة ومؤذنون وأئمة، ويحملون القرآن، ويعلنون الأذان ويصلون كيف نقاتلهم؟ فقام شيخ الإسلام ابن تيمية، وحسم الجدل بفتواه الشهيرة الموجودة في مجموع الفتاوى، والتي بين فيها أن هؤلاء التتر يجب أن يقاتلوا ويقتلوا.
حتى إنه -رحمه الله- كان يقول للمسلمين: لو رأيتموني في ذلك المعسكر -أي: معسكر التتار- وعلى رأسي عمامة، وفي يدي مصحف، فاقتلوني.
إذاً لا ينفع هؤلاء أن يتظاهروا بالإسلام؛ لأنهم يحاربون المسلمين ويقاتلونهم؛ طمعاً في دنياهم، وهم يحكمون غير شريعة الله عز وجل، لأنهم كانوا يحكمون بما يسمى "الياسق"، وهو نظام قانوني كافر، فيه من الإسلام؛ ومن اليهودية، ومن النصرانية، ومن آراء الناس وأقوالهم وظنونهم الشيء الكثير، وكانوا يحكمون به ويسمونه "الياسق".
حتى قيل: إن نابليون لما جاء إلى مصر في حملته الشهيرة، أعلن الإسلام حتى يهدأ الناس، وكان يخاطب الناس -أحياناً- بالخطابات، من عبد الله نابليون إلى من يراه من إخواننا المسلمين.
ويكتب لهم خطابات وهو كافر عنيد، لكن يضحك على عقول السذج بذلك فترة من الزمن، وكثير من الجواسيس تسللوا إلى المسلمين، وكانوا يعلنون إسلامهم حتى يقبلهم الناس، وينتشروا في أوساطهم دون أن يكون هناك تحفظ عليهم، هذه بعض خطط الأعداء.(142/17)
أعداء الإسلام
الأعداء التاريخيون للأمة المسلمة أربعة أصناف:- أ/ الصنف الأول: اليهود: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] وتاريخهم مليء بالعداوات للمسلمين.
ب/ الصنف الثاني: المشركون وأعني بالمشركين، أولاً: عبدة الأوثان.
فهم أعداء، بل هم من أشد الناس عداوة، كما في الآية السابقة {الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] ويدخل في المشركين الشيوعيون الملحدون، فإنهم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
عداوة الشيوعيين للدين راسخة، وإذا هادنوا الدين في وقت من الأوقات، فإنما هي هدنة مؤقتة، ولذلك نعرف كيف فعلت الأنظمة الشيوعية التي حكمت، كيف فعلت بالمسلمين، كيف صنع النظام الشيوعي في روسيا بالمسلمين؟ لقد قتلت من المسلمين عشرات الملايين في الولايات الإسلامية، وفي عام واحد قتلوا ما يزيد على ثلاثة ملايين مسلم في جمهورياتهم، ألبانيا بلغاريا، أفغانستان، وفي عدن وفي سواها.
الشيوعية عداوتها للإسلام عداوة راسخة لا تراجع عنها، ولا تردد، فيها وإن هادنوا الدين وقت من الأوقات أو أعطوه بعض الفرصة، فإنما هذا مجرد توعية أو، استراتيجية أو خطة مؤقتة، وبعد ذلك يعودون إلى عداوتهم للإسلام.
ج/ الصنف الثالث من أعداء الدين: النصارى: وهم أولياء لليهود وحلفاء تاريخيون لهم، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] إذاً اليهود حلفاء للنصارى وأولياء لهم والنصارى حلفاء لليهود وأولياء لهم، وهذه عداوة تاريخية، وبينهم حلف لا ينقطع.
وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تعددا وأصبح أحزاباً تناحر بينها وتبدو بوجه الحق صفاً موحدا فاليهود والنصارى حلفاء تاريخيون، والمثل القائم الآن في إسرائيل دولة اليهود، فإنها قامت بوعد من النصارى ودعم منهم، وجهود الغرب الصليبي في دعم إسرائيل بالمال والصناعة والعلم والتقنية والتمكين والسياسة لا تخفى، فهم يدعمونها دعماً سياسياً وعسكرياً ومادياً هائلاً رهيباً لا ينقطع، أما الشرق الشيوعي الملحد، فجهوده أيضاً في دعم إسرائيل لا تخفى، فإنه يدعمها بالطاقة البشرية، وما أخبار الهجرات اليهودية المتتالية من روسيا إلى إسرائيل، والتي تتم الآن أعظم وأكبر هجرة لمئات الألوف من روسيا إلى إسرائيل، إلا نموذج لدعم الشيوعية لليهود.
إذاً الشيوعيون والنصارى واليهود، يتحالفون جميعاً ضد الإسلام.
د/ الصنف الرابع: المنافقون: والمنافقون عداوتهم من داخل الصف، ولذلك قال الله عز وجل: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] أي: هم من أشد الناس عداوة وأفتك الناس، لأنه يصعب الحذر منهم بسبب أنهم مندسون في داخل المسلمين.
من المنافقين الرافضة -مثلاً- وسائر الفرق الباطنية، فإنهم يتظاهرون بالإسلام، ويبطنون الكيد له على الخفية، وهم مع كل عدو ضد الإسلام، وأخبارهم في إدخال التتر للمسلمين أخبار معروفة.
العلمانيون الذين يريدون فصل الدين عن الحياة، فصل الدين عن السياسة، عن الحكم، وعن التعليم، وعن الإعلام، وعن الأخلاق، وعن أمور الاجتماع، وجعل الدين معزولاً في زاوية أو مسجد أو رباط، هؤلاء العلمانيون هم من المنافقين، لأنهم إذا كانوا من المتسمين بالإسلام يتظاهرون بالدين وأسماؤهم: محمد وأحمد وصالح وعلي وكذا وكذا، فإن حقيقتهم أنهم يكيدون للإسلام وأهله.
من الأعداء المنافقين الذين يتسترون بأسماء مذاهب منحرفة، كالحداثة أو اليسارية أو القومية أو غيرها، ويعتبرون هذا وعاءً للأدب والشعر، والقصة والفن، ولكنهم ينفثون سمومهم من خلال هذه القوالب، التي استغلوها أبشع استغلال، وصاروا لا يستطيعون أن يصرحوا بأنهم أعداء للدين، أو مناوئين أو شيوعيين، فيأتون بأسماء لطيفة مثل: اليسارية، أو الحداثة، أو العلمانية، -كما ذكرت- أو القومية أو غيرها من الأسماء البراقة، التي تخفي وراءها عداءً للإسلام مستحكماً.
ولست أستطيع أن أتحدث عن خطط هؤلاء الأعداء لكنني، رأيت أن من المناسب جداً أن أذكر خطتين فقط.
الخطة الأولى، أشرت إلى شيء منها، وهي: قضية التحالف ضد الإسلام، فهذه الأسماء وهذه الجهات المختلفة، قد يكون فيما بينها عداوات أحياناً، ولكن حينما يبرز الإسلام كعدو لها، فإنها توحد صفوفها لتواجه الإسلام وتحاربه.
شيوعيون جذر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب(142/18)
العداوة سنة ماضية
أولاً: العداوة راسخة لا حيلة فيها، سنة ماضية، ليس هناك أحد في الدنيا ليس له أعداء، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] والله عز وجل له أعداء! اسمع! يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] وفيما يتعلق بقصة موسى {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39] عدو لله عز وجل {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت:28] .
إذاً الله تعالى له أعداء، وكل إنسان له أعداء، المسلم له أعداء، والكافر له أعداء، والطيب والخبيث، والتقي والفاجر والمنافق، واليهودي، والنصراني، والغبي والذكي، ما هناك أحد إلا وله أعداء.(142/19)
الأدلة الشرعية على أن المستقبل للإسلام
الأعداء يكيدون ويتآمرون ويخططون، ولكن مع ذلك نحن نقول بملء أفواهنا، وكل قلوبنا ثقة وطمأنينة، نقول: المستقبل للإسلام.
وإليك الدليل، والأدلة كثيرة جداً، ولذلك اسمحوا لي إذا عرضتها عليكم بسرعة؛ لأنني أود أن ننتهي من الموضوع في هذه الجلسة.(142/20)
الأدلة من الواقع
الأدلة الرابعة أوالقسم الرابع: الأدلة الواقعية، وتشمل نوعين: أ/ انهيار الحضارة المادية الغربية: النوع الأول: انهيار الحضارة المادية الغربية، بشقيها الشرقي والغربي، فأما الشرقي أعني الشيوعية، فقد أعلنت إفلاسها وبدأت تتهاوى وكأنها عقد انفرط نظامه، والكلام في موضوع انهيار الشيوعية كلام يطول، ولكنه مشهور معروف.
أما الشق الغربي، فهناك دراسات كثيرة عن الجوع الروحي، والإفلاس الأخلاقي، وارتفاع نسب الانتحار، والجرائم في أرقى بلاد العالم وأكثرها تقدماً.
هناك كتب كثيرة، هناك -مثلاً- كتاب "أمريكا كما رأيتها" لـ محمود المسلاتي، هناك: أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب لـ صلاح الخالدي، هناك: الإنسان ذلك المجهول لـ كيسكاريل، هناك كتب كثيرة جداً، تتكلم عن انهيار الحضارة الغربية.
يكفينا قول ماكينل، أحد المفكرين الغرب، يقول: إن الحضارة الغربية في الطور الأخير من أطوار حياتها، أشبه بالوحش الذي بلغت شراسته النهاية في انتهاكه لكل ما هو معنوي، وبلغ اعتداؤه على تراث السلف، وعلى كل مقدس محرم قمته، ثم أغاص مخالبه في أمعائه، فانتزعها وأخذ يمزقها ويلوكها بين فكيه، بمنتهى الغيظ والتشفي.
أي أن: الغرب دمر العالم، ثم رجع إلى نفسه فبدأ يدمرها.
من مصائب الفراغ الروحي في الغرب ما يلي: أولاً: الولوغ في المشروبات الكحولية.
ثانياً: الإدمان على المخدرات.
ثالثاً: الأمراض العصبية والعقلية.
رابعاً: التمرد والقلق والتدمير.
خامساً: الجرائم.
سادساً: السعار الجنسي وأمراض الجنس.
سابعاً: الانتحار.
وإليك بعض الأرقام الخفيفة: في أمريكا في الأربعينيات، عدد مدمني الخمر سنوياً اثنين وأربعين مليوناً.
ثانياً: الذين يتعاطون المخدرات سنة 75م، (19%) من الأمريكان، لكن في سنة 78م، بعد ثلاث سنوات فقط ارتفعت النسبة إلى (49%) ، فما بالك بالعدد الآن! أشك أنه يوجد في أمريكا من لا يتعاطى المخدرات، اللهم إلا العدد القليل.
ثالثاً: عدد المرضى في مستشفيات الأمراض العقلية، أي: شبه جنون، أو أمراض نفسية أو عقلية في الولايات المتحدة الأمريكية، سبعمائة وخمسين ألفاً، وهذه مصحات خاصة بهم، ومع ذلك فهم يشغلون (55%) من أسرة المستشفيات الأخرى.
رابعاً: عدد من أعفتهم القوات المسلحة الأمريكية في الحرب الثانية، بسبب الاضطرابات النفسية والعقلية، (43%) من المجموع الذي تساوي 980 ألف جندي، وعدد من رفضوا الامتحان لاختبار الخدمة العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية، 860 ألفاً.
خامساً: تقول دائرة المعارف البريطانية: أن في الأربعينيات، كان (90%) من الشباب الأمريكي مصاب بمرض الزهري، (60%) مصاب بمرض السيلان، و (40%) مصاب بالبرود الجنسي.
سادساً: صرح كندي -وهو زعيم أمريكي معروف سنة 1962م- أن (85%) من الشباب الذين يتقدمون للجندية في أمريكا غير صالحين لذلك، لأن الشهوات التي غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
ولذلك نقول: إن مستقبل أمريكا في خطر، لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، الأمر الذي سيجعلهم عاجزين عن القيام بالمهمات الملقاة على عواتقهم.
انظر كتاب الثورة الجنسية، وكتب كثيرة.
هذا جانب لا أطيل فيه، جانب فشل الحضارة الغربية، وقد أصبح الغرب نفسه يعترف بذلك ويؤمن به.
ب/ الصحوة الإسلامية: الجانب الثاني: الذي يدل على أن الإسلام قادم من الواقع، هو جانب الصحوة الإسلامية.
إن سحر الحضارة الغربية لم يعد يبهر الأبصار، ويأخذ بالألباب، كما كان في الماضي، فلقد تفتحت عيون الشباب على نور الإسلام، وبطل السحر والساحر.
إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر جاء نهر الله فبطل نهر معقل، وانكشفت الحقائق، وعاد شباب الجيل إلى الله عز وجل وهم يقولون: آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون.
يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله، في كتاب له اسمه: الإسلام ومستقبل البشرية، يقول: كنت في القاهرة أيام إعدادي رسالتي للدكتوراه عام 1971م -أعتذر عن التقويم الميلادي إذا ذكرته، لأنه ما يكون عندي إلا الميلادي- يقول: كنت في القاهرة في ذلك العام 1971م، وكان في جامعة القاهرة 120 ألف طالب، -أي: طالب وطالبة، لأنها جامعة مختلطة- يقول: وكانت طالبة واحدة فقط هي المتحجبة، -وهو حجاب غير كامل، لا تغطي وجهها، لكن تغطي شعر رأسها وبقية بدنها- يقول: واليوم العدد يفوق خمسة عشر ألفاً من الطالبات المحجبات، ويوجد من بينهن مجموعات يغطين حتى وجوههن، وقل مثل ذلك في جامعة الإسكندرية، وأسيوط وغيرهما.
مثال آخر أو جانب آخر: الكتاب الإسلامي أكثر الكتب رواجاً، حتى أن تجّار الكتب في بيروت إذا أشرف أحدهم على الإفلاس، يقول له زملاؤه: اطبع لك كمية من كتاب: تفسير سيد قطب في ظلال القرآن، يرفع المال الموجود عندك وليس المقصود فقط الظلال، الكتاب الإسلامي، كتاب الحديث، التفسير، التاريخ، التوحيد، العقائد، الكتب الإسلامية هي أكثر الكتب رواجاً، ولذلك غيرت كثير من المكتبات معروضاتها من كتب أدبية، وتاريخية، وعلمية وغير ذلك، إلى كتب إسلامية.
مكة أصبحت قبلة الشباب، ليس فقط في الصلاة، بل حتى في العمرة والحج والزيارات وغيرها، ومن ذهب إلى الحرم في المواسم والمناسبات، تعجب من هذه الزهرات المتفتحة التي أصبحت لا يحصى عددها، ممن أقبلوا على الله عز وجل وقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) [الكهف:14] .
التحول في الأحزاب العلمانية، والقومية، واليسارية، كلنا نعلم كثيراً من الشباب مر عليهم وقت من الأوقات، تأثروا فيه بالدعوات الناصرية، والقومية، والبعثية وغيرها، وقرءوا لـ طه حسين، وسلامة موسى، وأمثالهم من المفكرين المنحرفين الضالين، واليوم عاد هؤلاء الشباب، أو كثيرٌ منهم إلى الله عز وجل وأصبحوا من رواد المساجد، أطلقوا لحاهم، وصاروا يقرءون الكتب الإسلامية، ويصلون مع الجماعة، ويحافظون على الدين، وتجد مع الواحد منهم مسواكاً في جيبه، وقد تجده يصلي في روضة المسجد، ويحافظ حتى على صلاة الفجر، وتأتي إلى بيته فربما لا تجد فيه تلفازاً، وكان لهم تاريخ كما ذكرت.
فعاد الناس إلى الله، وأعلن كثير من أصحاب الأفكار، والمبادئ المنحرفة إفلاسهم، حتى في مجال الصحافة، والكلام في هذا أيضاً يطول.
الشعائر التعبدية انتشرت، الصلاة -مثلاً- تجد وأنت ذاهب في الطريق إلى الرياض، كل مسافة أمتار -إذا كان وقت صلاة- تجد مجموعة قد وقفوا يصلون على جانب الطريق، اللحية أصبحت أمراً عادياً مألوفاً، على أنها كانت مستغربة في كثير من البيئات.
عزل النساء عن الرجال، ومنع الاختلاط في المدارس، والجامعات والأسواق وغيرها، أصبح ظاهرة طبيعية الآن.
ترك التدخين -مثلاً- والامتناع عن تقديم السجائر والطفايات وغيرها، مراعاة الأكل الحلال سواءً بالذبح على الطريقة الإسلامية، أو تجنب الخنزير، أو تجنب الأشياء التي يكون فيها مشتقات محرمة، انتشار الشريط الإسلامي، كثرة المساجد وروادها إلى غير ذلك.
الإسلام أصبح يعرض الآن بقوة وشجاعة، ليس مثلما كان في الماضي، فقد كان الواحد يتكلم عن الإسلام على حياء، ويحاول إيقاف بعض الأمور، أما الآن فالناس أصبحت تتكلم عن الإسلام بقوة وشجاعة ووضوح، ولا تستحي من هذا الدين، بل تعرضه بغاية الشجاعة والقوة.(142/21)
الأدلة التاريخية
النوع الثالث من الأدلة هي: الأدلة التاريخية، وخلاصة كلامي أو قصدي بالأدلة التاريخية: أننا تعلمنا أن الله عز وجل كلما ادلهمت الخطوب على هذه الأمة كتب لها الفرج، وهذه حقيقة تاريخية أو سنة إلهية، فعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، لحق به المشركون وتابعوه، وكان صلى الله عليه وسلم وحيداً طريداً فريداً، فلحق به سراقة بن مالك الجعشمي -والرواية في الصحيح- وساخت قوائم فرسه في الأرض.
المهم في رواية ذكرها الحسن البصري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ سراقة بن مالك: {كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى} الآن الرسول عليه السلام وحيد، ما معه إلا أبو بكر، وخارج من بلده، لا مال ولا أتباع ولا أصحاب ولا شيء، ومع ذلك يعد سراقة بن مالك -وكان كافراً يوم ذاك- يقول له: {كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى} قال: فلما أتي عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة فألبسه إياه.
وكان سراقة كثير الشعر في الساعدين، فقال: [[ارفع يديك، وقل: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز والبسهما سراقة الأعرابي]] والحديث له طرق أخرى، أشار الإمام الحافظ ابن حجر في الإصابة إلى شيء منها.
مثل آخر، يؤكد لنا أن الأمة تتمرد على القيود، والسدود والحدود والأغلال، وكلما ادلهمت الخطوب جاء الله بالفرج من عنده: الأحزاب، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] في غزوة الأحزاب، الأعداء من فوقكم ومن أسفل منكم، ومن كل جهة، تحالف اليهود من الداخل مع المشركين من الخارج، ونجم النفاق، وضعف المؤمنون ضعفاً شديداً.
ومع ذلك اسمع هذه الرواية العجيبة، التي نقلتها من مسند أحمد وأصلها في البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، فعرضت لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول -عجزوا عنها- قال: فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فقال: أحسبه قال: ووضع ثوبه.
ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال بسم الله.
فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا} قصور الشام يراها من أثر ضربة المعول وهو في مكانه ذاك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {بسم الله، وضرب ضربة أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا.
ثم ضرب صلى الله عليه وسلم ضربة ثالثة، وقال: بسم الله، فكسر بقية الحجر وقلعه، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا} والحديث قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إسناده حسن وهو كما قال.
إذاً في شدة الأزمة، اليهود والمنافقون من الداخل، والمشركون من الخارج، مع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الآن أعطيت كنوز كسرى وقيصر والمدائن، وغيرها من بلاد الروم والفرس وسواها.
في قضية التتار، لما جاء التتار إلى بلاد المسلمين كانت حادثة عظيمة، وانتشر الكلام والمشكلات، وتكلم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية تكلم في الفتاوى بكلام أدعوكم جميعاً إلى مراجعته، في (ج:28/440) وما بعدها.
كلام في غاية العجب، ومن خلال ذلك الكلام اكتشفنا ما هو الكلام الذي كان يجب أن يقال للناس في مثل هذه الأوقات، حتى يُطمئن قلوبهم، ويرسم أمامهم السبيل، ويزيل ما في نفوسهم من الخوف والهلع.
ويؤسفني أن أقول: لم يقم من بيننا -نحن طلبة العلم فيما أعلم- من قال مثل هذا الكلام الجزل القوي المتين الموفق الذي قاله شيخ الإسلام، وهو كلام طويل يمتد من ص (440-467) لا أستطيع أن أقرأ عليكم منه إلا نتفاً يسيرة، يقارن فيها ابن تيمية حال التتار لما غزوا الشام، مع حال الأحزاب لما غزوا المدينة.
ذكر تحزب الأحزاب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كلام منقول وفي هذه الحادثة -أي: مجيء التتار إلى الشام- تحزب هذا العدو من مغول وغيره، من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناد المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزاءهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطدام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين.
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق على ما قيل: بضعاً وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو -أي: التتار- عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول انصرافه راجعاً عن حلب، لما رجع مقدمهم الأكبر " قازان " بمن معه، يوم الإثنين، حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى، يوم دخل عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي، وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم، ألقى في قلوب عدوهم الروع والانصراف.
وكان عام الخندق عام برد شديد وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] وهكذا هذا العام -أي: الذي وقع فيه غزو التتار، وابن تيمية كان يتكلم واللحظات قائمة وموجودة، أي: في الحال؛ لأنه قال في آخر الكلام: كتبت هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر، في جمادى الآخرة وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد إلى آخر الكلام.
يقول: وهكذا هذا العام أكثر الله تعالى فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف العادة، حتى كره أكثر الناس -أي: من المسلمين- ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك، فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو، فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم من شاء الله، وهلك منهم أيضاً من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم، من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع، ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، وحتى علموا أنهم كانوا صيداً للمسلمين لو يصطادونهم، لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة.
يقول: وقال الله تعالى في شأن الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام، وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغاً عظيماً، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر -أي: رجوع عساكر المصريين- وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا.
قارنوا كلام ابن تيمية -أيها الإخوان- بواقعنا اليوم، سواءً من طلاب العلم أو من عامة الناس، يقول: وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسراً، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن.
مثل هذا الكلام قيل في هذا العصر لما جاء الكلام عن قضية الغازات السامة والأسلحة الكيماوية، وتوهم كثير من الناس أن هذه الأشياء تتلف الأرض وتهلكها، وما بقيت تسكن بعد اليوم، نفس الكلام قاله السابقون في القرن السادس، والسابع لما جاء التتر إلى دمشق.
يقول ابن تيمية: وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تقوم تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر، فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد، سبحان الله! أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، تصور من الناس من تصور أن التتار سيل كاسح، سوف يجتاح الشام، وإذا انتهى منها انتقل إلى مصر، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا إذا أحسن ظنه، قال: إنهم يملكونها هذا العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر، فيستنقذها منهم كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم.
وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديد والمبشرات، أماني كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم.
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لاسيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ.
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسماً بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11] .
ثم تكلم عن المنافقين وظهورهم إلى آخر ما قال، كلام أنا لا أريد أن آخذ وقتكم بقراءته، لكنني أريد أن أقول بعد ما قرأت عليكم شيئاً منه، أن تطبقوا هذا الكلام على واقعنا، وظنوننا ومخاوفنا، والأشياء التي تعجلنا فيها في هذا الواقع، وظنون خاصتنا وعامتنا في هذا المجال، ثم أنصحكم أن ترجعوا إلى ذلك الكلام وتقرءوه قراءةً متأنية فاحصة، فإنه كلام طويل مفيد.
يقول في بعضه ص (425) يقول:(142/22)
الأدلة من الحديث النبوي
أما النوع الثاني من الأدلة الشرعية فهو الأدلة من الحديث النبوي، والأدلة من الحديث النبوي أيضاً كثيرة جداً لكن أذكر طائفة منها: أولاً: عن ثوبان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى زوى لي الأرض -أي: صغرها وقربها- فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها} ملك هذه الأمة سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها.
ثانياً: عن تميم الداري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار} أي أن كل مكان في الدنيا يمر عليه الليل والنهار، سوف يبلغه الإسلام، وهل تحقق هذا الوعد الآن؟ كلا! لم يتحقق بعد.
صحيح أن الإسلام بلغ بلاداً كثيرة، لكن هناك بلاد فيها الليل والنهار، ومع ذلك لم يصل إليها الإسلام.
إذاً لازال الوعد النبوي هذا قائماً أن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، أكمل الحديث: {ولا يترك الله تعالى بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين} كل بيت يدخله هذا الدين {بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر} إذاً الحديث وعد نبوي صريح، أن الله عز وجل سوف يوصل الإسلام إلى كل نقطة في الدنيا، وكل بيت يدخله الإسلام، فيسلم كل أهله أو بعض أهله.
الحديث صحيح، رواه أحمد والطبراني وابن مندة والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: الحديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي، وقال المقدسي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قالوا.
إذاً الحديث صحيح والوعد صريح.
ثالثاً: عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ السائل كان مستقراً عنده من خبر نبوي آخر، أن الله سوف يفتح للمسلمين مدينة القسطنطينية، وكذلك سوف يفتح لهم روما، لكن المشكلة التي ثارت في نفس السائل، الذي يسأل عبد الله بن عمرو بن العاص، أيهما تفتح أولاً القسطنطينية أم روما؟ فدعا عبد الله بن عمرو بن العاص بصندوق له حلق، فأخرج منه كتاباً ثم قال: {بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً، مدينة هرقل هي القسطنطينية} .
الحديث صحيح رواه أحمد والدارمي والحاكم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالاً.
القسطنطينية فتحت عام ثمان مائة وسبع وخمسين للهجرة، على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.
هذه القسطنطينية فتحت الفتح الأول، أمَّا روما فلم تفتح حتى اليوم، لم يدخلها الفتح الإسلامي، لا تزال عاصمة الكاثوليكية عاصمة النصارى الآن، روما وفيها الفاتيكان.
روما ما دخلها الإسلام حتى الآن، والوعد النبوي ما يزال قائماً، ومن الطريف والعجيب، يذكر بعض المؤرخين أن المسلمين لما فتحوا بلاد الأندلس، هجموا على فرنسا هجمة شرسة قوية، ولو انتصروا في تلك المعركة المشهورة التي يسميها المسلمون -معركة بلاط الشهداء لكثرة من قتل فيها من المسلمين- لو انتصروا في تلك المعركة، لفتحوا أوروبا كلها ودخلوا إلى روما، لكن وعد الله عز وجل أنه لا تدخلون روما حتى تدخلوا القسطنطينية.
إذاً هذا وعد الله عز وجل عالم الغيب والشهادة، إذاً ينهزم المسلمون في بلاط الشهداء، ويتحقق وعد الله عز وجل، أن تفتح القسطنطينية بعد ذلك على يد محمد الفاتح، ويبقى الوعد بفتح روما لم يتحقق حتى الآن، وإنه لخبر يقين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] .
رابعاً: من الأحاديث: أحاديث الطائفة المنصورة، وهي أحاديث متواترة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى قيام الساعة، يقاتلون في سبيل الله} .
خامساً: أحاديث بقاء الجهاد إلى قيام الساعة، وهي كثيرة أذكر منها فقط الحديث المشهور، بل المتواتر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} والحديث متواتر، وفيه أن الله عز وجل سوف يبقي الجهاد إلى يوم القيامة، كما قال الإمام أحمد والبخاري: في فقه الحديث أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.
سادساً: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره} والحديث صحيح رواه أحمد وابن حبان وأبو يعلى، وله شاهد من حديث عمار بن ياسر عند أحمد وغيره، والحديث كما ذكرت صحيح.
سابعاً: حديث المجدد: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها} رواه أحمد وأبو داود وغيرهم، من حديث أبي هريرة، وقد أجمع العلماء على أنه حديث صحيح.
ثامناً: حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي وراءي، تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود} والحديث رواه مسلم والبخاري وغيرهما.
وهذا حديث عجيب، اليهود الآن يتجمعون في فلسطين، والعجيب أنهم يغرسون شجر الغرقد في إسرائيل، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
نقل بعض الكتاب المعاصرين رواية للحديث، من أعجب العجب، يقول هذا الكاتب: في كتاب: الإسلام ومستقبل البشرية (صفحة:46) يقول: في رواية للبزار عن هذا الحديث، نقلها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج/7) ورجالها ثقات رجال الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تقاتلون اليهود أنتم شرقي الأردن وهم غربيه} ويعقب راوي الحديث فيقول: [[ولم نكن نعرف أين الأردن يوم ذاك]] فإذا صحت هذه الرواية الأخيرة، وقد بحثت عنها في المجمع، ولم يتيسر لي الوقوف عليها، وبحثت عنها في عدة مصادر، تعبت وراءها وكنت سمعتها منذ زمن طويل، لم يتيسر لي الوقوف عليها في الكتب المعتمدة.
حتى لو كان الحديث ضعيفاً، فإنه يعتضد بالواقع، أنتم شرقي الأردن وهم غربيه، فاليهود يتجمعون الآن، ليوم الملحمة الذي يبيد المسلمون فيه خبرهم.
تاسعاً: أحاديث الملاحم، وهي كثيرة في قتال المسلمين للروم في الشام وغيرها، وفتحهم للقسطنطينية بالتكبير إلى غير ذلك، إذاً هذه هي الأدلة الشرعية، من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، أو هذا شيء منها.(142/23)
الأدلة من القرآن
أولاً الأدلة من القرآن قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:23] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] لاحظ هذه الآية {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: ليظهرن الله دينه على الأديان كلها، حتى لا يدان لله إلا به وذلك متى شاء الله.
إذاً ظاهر الآية يدل على أن الإسلام سوف يظهر على الأديان كلها، ويأتي وقت لا يدان فيه إلا بالإسلام، لا يعبد فيه إلا الله عز وجل.
ثانياً: قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] فذكر الله عز وجل أن الحق إذا ظهر، قذف الله به على الباطل، فأزاله ودمغه وأصابه في دماغه، فزهق ومات قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:24] هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] .
إذاً في كل أمة وفي كل جيل وفي كل زمن، يظهر الحاملون لكلمة لا إله إلا الله، يقاتلون في سبيل الله، يدعون إلى الله عز وجل، يعلمون الناس العلم والشرع والدين، ويذمون تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:24-26] كلمة الكفر والظلال: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] .
ولذلك قيل: دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
رابعاً: قوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17] وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل، كما ذكر في أول الآية، فالزبد مثال للباطل مجرد هواء، فقاعات من الهواء تزول بسرعة، أما ما ينفع الناس، وهو العلم والعمل والدين والصلاح، فيمكث في الأرض ويبقى، فهو مثل المطر.
خامساً: قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] هذا كلام موسى لقومه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] أي: العاقبة في الدنيا والآخرة للمتقين.
سادساً: قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [القصص:37] {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وقال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5-6] ويقول عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39-40] إلى آخر الآيات، ويقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:87-88] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] أنت أمام حشد هائل من النصوص القرآنية، والقرآن كلام الله عز وجل، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] أمام حشد هائل، خلاصته: أن الله عز وجل كتب البقاء والغلبة والنصر والتمكين للإسلام وأهله، وكتب الذل والصغار والفشل والهزيمة على الكفر وأهله، وهذا وعد الله عز وجل لا يتخلف.(142/24)
الجزيرة العربية أرض الإسلام
شالنقطة الآتية هي: قضية الجزيرة العربية أرض الإسلام، لا حيلة في ذلك، هذا قضاء الله وقدره، فنقول لأعداء الدين، وللمشبوهين، وللمنافقين، والعلمانيين، والحداثيين، واليساريين، والقوميين: لا حيلة في ذلك، هذا قضاء الله، وقدره، وهذا دينه وشرعه.(142/25)
الجزيرة عاصمة الإسلام
هذه الجزيرة هي جزيرة الإسلام، وعاصمة الإسلام، ومنطلق الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، وإليك البيان: 1- روى مالك في الموطأ بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} إما نهي أو خبر، أي: نهى عن أن يجتمع في جزيرة العرب دينان دين الإسلام ودين آخر.
أو أخبر أنه لن يجتمع فيها دينان على سبيل البقاء والثبات والاستقرار.
يروي ابن عباس وجويرة بن قدامة، كما في سنن أبي داود بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وهو في صحيح مسلم، بل هو متفق عليه، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ففيه الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب.
مثله أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم عن عمر: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً} إذاً هذه النصوص، تدل على أن شريعة الله جاءت بخاصية لجزيرة العرب، ليست لغيرها من البلاد، هذه الخاصية، هي: أن الجزيرة لا يقبل أن يكون فيها اليهود والنصارى، ولا أصحاب ديانة أخرى من المجوس أو غيرهم، هي جزيرة الإسلام خالصة له من دون الملل والأمم والشعوب الأخرى.
هي جزيرة الإسلام إذاً، وهذا الحكم ليس لبلد آخر غير الجزيرة، فدل على أن الجزيرة أرادها الله عز وجل أن تكون للإسلام، قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب، ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، إلى تخوم العراق، إلى البحر، هذه جزيرة العرب.
2- قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم} رواه مسلم، وفي رواية عند الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: {إن الشيطان يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم} .
إذاً الشيطان ما يئس من بلد من بلاد الدنيا كلها، إلا الجزيرة العربية، يئس أن يعبد فيها، لا يزال فيها راية مرفوعة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
3- أن الدين يعود إلى الجزيرة العربية في كل آن وحين، حتى في أزمان الغربة، فالغربة قد تستحكم، غربة الإسلام، يقل الدين، يضعف أهله، هذا يحدث، وقد حدث الآن.
ففي أزمنة الغربة هناك مواطن يفيء إليها الإسلام، ويعود إليها مهما كان الأمر، منها الجزيرة العربية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في حجرها} أي: بين مكة والمدينة.
إذاً الإسلام ينضم ويجتمع ويرجع إلى الجزيرة العربية، كلما ضيق على الإسلام، أو اضطهد في أي مكان في الدنيا، فاء ورجع إلى الجزيرة العربية، منها بدأ وإليها يعود، ومنها ينطلق مرة أخرى.
فالجزيرة العربية من مواطن الإسلام في أرض الغربة.
فإذا كانت الجزيرة العربية من مواطن الإسلام في أرض الغربة، وفي زمان الغربة، فما بالك بالجزيرة العربية في عز الإسلام، إنها هي التي ترفع راية الإسلام، ويجب أن تكون كذلك.(142/26)
الجزيرة هي الصخرة التي تتحطم عليها جميع الفتن
ولذلك أقول -أيها الإخوة-: من الأشياء التي أراها وأظنها، وسبق أن ذكرتها في محاضرة لي بعنوان: (الإسلام قدر الله في هذه الجزيرة) إن كل فتنة تنزل بالمسلمين، إذا أراد الله عز وجل لهذه الفتنة أن تنتهي وتنقمع وتنمحي، أوصلها إلى الجزيرة العربية، فكأن الجزيرة العربية هي الصخرة التي تتحطم عليها الفتن كلها.
مثلاً: أعظم فتنة وهي المسيح الدجال، ما جاء في التاريخ قبله ولا بعده فتنة أعظم منه، ما من نبي إلا أنذر قومه منه، أكثر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من ذكر المسيح الدجال، حتى خشي عليهم ألا يفقهوا.
من ضمن ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال، أن مكة والمدينة على أنقابها ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.
فإذا جاء الدجال إلى المدينة المنورة، وهي جزء من هذه الجزيرة، جلس الدجال في بعض السباخ المحيطة بالمدينة، فتزلزلت المدينة، وخرج منها كل منافق ومنافقة، هذه بداية النهاية بالنسبة لهذا الخبيث المسيح الدجال، كيف؟ يخرج إليه رجل من أهل المدينة، هو أعظم الناس شهادة عند رب العالمين، وحديثه في صحيح البخاري، فيأتي إليه ويردونه المسالحة، الجنود والحراس يردونه فيقول: أريد أن أذهب.
فيقول: دعوه.
فيتركونه يأتي إليه، فإذا وقف أمامه، قال: أشهد أنك الدجال، الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فيمسك به ويقول: أيها الناس! إذا قتلت هذا الإنسان، تشهدون أنني أنا الله.
فيقولون: نعم.
فيقطعه قطعتين ويمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم.
فيستوي قائماً حياً بشراً بإذن الله عز وجل فيقول: أتشهد أني أنا الله؟ فيقول له هذا الشاب المؤمن: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة.
الآن ازددت يقيناً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن القصة هذه تقع، فلما وقعت القصة، ازددت يقيناً أنك أنت الدجال، الذي أخبرنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، يضع الله عز وجل على رقبته شيئاً من النحاس، فلا يستطيع أن يقتله، فينطلق منه هذا الشاب.
وهذه بداية النهاية بالنسبة للدجال.
بعدها ينهار أمره، ويخرج يجر أذيال الخيبة من المدينة، لأنه يعرف القضية، يخرج إلى الشام، وحينئذٍ جنوده يضمحلون شيئاً فشيئاً، وينزل بعد ذلك عيسى بن مريم، فيقتله بباب لد.
المقصود أن نهاية الدجال كأعظم فتنة في التاريخ، كانت في هذه الجزيرة.
وكذلك أظن إن شاء الله، أن كل فتنة تمر بالمسلمين سواء كانت فتنة فكرية مثل فتنة الشيوعية، أو فتنة الحداثة، أو العلمانيين، أو القومية، أو البعثية، كل فتنة إذا أراد الله عز وجل لها أن تنتهي وتنمحي من الوجود، كانت هناك أسباب تحاول هذه الفتن من خلالها أن تصل إلى جزيرة العرب، فيقطع الله -تعالى- دابرها، وينهكها، ويحمي بلاده وأرضه وأهله والله على كل شيء قدير.
وهذه قاعدة طبقوها على أشياء كثيرة، وإن شاء الله ما تخلفكم هذه القاعدة، ممكن نطبق هذه القاعدة على البعثية -مثلاً- كقضية واقعية الآن، فنقول: إن ما يجري الآن، يدل إن شاء الله على نهاية البعث كحزب ونظام ومذهب ودين يدان به، وأن أمره إلى زوال وانتهاء.
طبق هذا على الأفكار المادية المنحرفة، العلمانية، القومية، الحداثة، تجد أن هذه القاعدة -إن شاء الله- سارية المفعول بإذن الله عز وجل فإذاً أقول: لا حيلة، فالحداثيون، والعلمانيون، واليساريون، وسائر أعداء الدين، ليس لهم مكان في هذه الجزيرة، فليبحثوا عن موطن آخر، أو ليبشروا بالخيبة والخسران، أو ليتوبوا إلى الله عز وجل، فإن العبد إذا تاب إلى الله -تعالى- تاب الله عليه.
من خصائص الجزيرة العربية: أن فيها الحرمين الشريفين، وهما أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، ولهما من المزية ما ليس لغيرهما -كما هو معروف- والكلام في فضائلهما يطول.
راجع مثلاً صحيح البخاري وصحيح مسلم في فضل مكة والمدينة.(142/27)
الطريق إلى مستقبل الإسلام
نقطة أخيرة مهمة: الطريق إلى مستقبل الإسلام.
الكلام في الطريق يطول، لكني ذكرت لكم ست نقاط أرى أنها من النقاط البارزة، وسأتكلم عنها باختصار أيضاً:(142/28)
تحطيم الرهبة من الأعداء
رابعاً: تحطيم الرهبة من الأعداء.
أنتم سمعتم كلام ابن تيمية فيما سبق، المظفر قطز وهو قائد من قادة المسلمين في حروب التتار، كيف استطاع أن يحطم الخوف من التتر الذي وصل الأمر -كما ذكر ابن الأثير في تاريخه -إلى أن المرأة ليس الرجل- من التتار كانت تمشي في الشارع، فتجد عشرة من المسلمين يمشون، فتقول لهم: ناموا، أريد أن أقتلكم، فلا يملكون إلا أن يناموا، فتنظر ليس معها سكين، فتقول: انتظروا قليلاً لأذهب إلى البيت وآتي بسكين حتى أقتلكم، فتذهب للبيت وتأتي بالسكين، ولا أحد منهم يفكر بأن يرفع رأسه أو يقوم.
إلى هذا الحد بلغ الذل، سواءً كانت هذه القصة حقيقة، أو كانت قصة رمزية، فالمؤكد أن المسلمين أصيبوا بخوف وذل وذعر شديد من التتار.
ماذا فعل المظفر قطز حتى يزيل هذا الرعب من نفوس المسلمين، ويزيل الهزيمة النفسية والوهن؟ جاءه مجموعة من رسل التتار-كما تقول بعض الروايات التاريخية- فقام -جزاه الله خيراً- وقطع رءوسهم، وعلقهم على المشانق في الساحات العامة حتى يراهم الناس، ويقولوا: هؤلاء هم التتر، أنتم خائفون من التتر، انظروا أول مرة يرون التتري مقتولاً معلقاً، بصورة ذليلة مهينة، وأراد أن يقول للناس، إنهم ليسوا أكثر من بشر عاديين، انتصروا في ظروف غير عادية تمر بها الأمة الإسلامية، فكان النصر له، لأسباب: أولها: أنه انتصر على الهزيمة الداخلية في نفوس المسلمين.
الأمر الثاني: أنه انطلق في الإعداد للجهاد من منطلقات شرعية صحيحة، الإعداد للجهاد، وتقوية العقيدة، وتقوية العزائم، ربط الناس بمثل أعلى، بالشهادة في سبيل الله وبالجنة، إلى غير ذلك.
الأمر الثالث: أن الأمة كلها قاتلت معه، وكان يقودها في هذا القتال العلماء تحت راية، واإسلاماه، فانتصرت الأمة، وانتصر العلماء، وانتصر المظفر قطز.(142/29)
التربية البطيئة
الأمر الخامس، الذي يمكن أن نعمله: الدعوة والتربية البطيئة كلمة أو تربية أو جلسة أو صحبة أو رحلة أو درس، تقصد من ورائها أن تخرج للأمة شباباً صالحين.
التربية بطيئة قد لا تظهر نتيجتها في سنة ولا عشر، لكن هذا الطريق مهما طال لابد منه، والتربية أمرها خطير، لكن لا أستطيع أن أطيل أكثر من هذا.(142/30)
العمل على كافة الأصعدة
سادساً: العمل على كافة الأصعدة.
نحن نكتشف الآن -مثلاً- أننا بأمس الحاجة إلى سلاح ندفع به عدونا، كيف نستطيع أن نحصل على السلاح؟ الأمر بسيط.
نحن لنا عقول مثل أعدائنا، ونستطيع أن نصنع كما يصنعون.
الصناعة بشكل عام، الأمة الإسلامية متخلفة فيها، لماذا؟ لدينا إمكانيات بشرية، وإمكانيات مادية، وأقرأ عليكم الآن صفحة من كتاب: رؤية إسلامية في الطريق إلى القدس، لـ عبد الحليم عويس، وهو كتاب جميل أنصح بقراءته، يقول في ص (51) : إن أي سلاح محلي يعطى للناس -وقد أتصرف في كلامه؛ لأن فيه بعض العبارات التي لا أرتضيها، فأعدلها بكلمة فقط- إن أي سلاح محلي يعطى للناس، وتضمن الجماهير وجوده دائماً، لأنه منها ولأنها هي التي صنعته.
إن أي سلاح يصنع محلياً على هذا النحو، سيكون البداية الرمزية والعملية لاستقلالنا الحقيقي، والبداية الحقيقية لسيرنا في طريق الحضارة الطويل.
إننا يجب أن نصر على صناعة المركبة الفضائية، والرءوس النووية، انطلاقاً من صنع قنبلة يدوية مسلمة، أو مدفع رشاش، أو طائرة هيلوكبتر.
إن أمريكا لم تبدأ مسيرتها بصنع صاروخ عابر للقارات، أو طائرة تجسس، لقد بدأت من النقطة نفسها، التي سنبدأ منها إذا أردنا السير في الطريق الصحيح، ومع الاتفاق في البداية، ثمة فروق كثيرة لصالحنا، -أي: نحن نبدأ كما بدؤا، ومع ذلك هناك ميزات عندنا لا يملكونها هم-.
أجل هناك فروق كثيرة لصالحنا أهمها: أننا سنختصر المسافة بين القنبلة اليدوية والقنبلة الذرية، مستفيدين من كل ما يصلنا من إنجازاتهم وخبراتهم، وسنكون في الوقت نفسه أسرع في التدريب على الصنع، وليس على مجرد الاستعمال، وسنحرص على امتصاص كل معارفهم، وكسب من نستطيع من علمائهم وخبرائهم.
تكلم عن إنفاق مصر وسوريا والعراق على التسلح، ما بين (48م) ، (71م) وأنهم أنفقوا ما قيمته تسعة آلاف وستمائة وست وسبعين مليون دولار، ومع ذلك فإن شبراً واحداً من الأرض المحتلة لم يعد إلى المسلمين، بل إنهم قد فقدوا أجزاءً كثيرة من أرضهم، فإذا أضيف إلى هذا الرقم ما أنفقته البلدان العربية الأخرى -ولا يزال الكلام له- على شراء الأسلحة خلال هذه الفترة، وما أنفق على شراء الأسلحة في كل البلدان العربية بعد هذه الفترة، إذا أخذنا هذا كله في الاعتبار، ووضعنا الإمكانات العربية المتوفرة والمعطلة، والمبعثرة في الاعتبار؛ لتأكد لدينا أننا نملك البداية القوية العملية، لتصنيع السلاح محلياً.
ويتأكد لنا، أننا أضعنا ربع قرن من عمر أمتنا في عملية تعطيل لطاقتها، وتجميد لإمكاناتها، ووضعها في موضع مذبذب سيئ، وربطها ربطاً خادعاً لحسابات ومصالح الآخرين.
يقول: إن تجربة التاريخ كله لا تثبت حالة واحدة، استحال فيها على شعب متخلف اكتساب التكنولوجيا، والتفوق فيها، وإذا كانت الثروة العقلية للشعب الياباني، والثروة البشرية للشعب الصيني، قد مكنت شعبين شرقيين من اجتياز مرحلة الخطر، ومن الدخول في مضمار السباق الحضاري، فإننا نحن المسلمين نملك هذين المقومين، ونملك غيرهما من المقومات، التي لا يتوافر كثير منها لدى الشعوب الأخرى، التي حققت تقدماً وتفوقاً ملحوظاً.
إن لدينا طاقات حيه كثيرة، ومواد خام، ورءوس أموال، وعقولاً مبعثرة في العالم كله، ولدينا احتياطي بشري واقتصادي يتمنى أن يجدنا في المكان الذي يسمح باستغلاله وحمايته، سواءً في أفريقيا أو آسيا، أو الأرض الإسلامية الفسيحة، إن هذا كله يجعلنا في المكان الذي يجعل نجاح تجربتنا الحضارية مضموناً، على نحو لم يكن متوفراً لدى معظم التجارب الحضارية المعاصرة.
ربما تكون القراءة من هذه الورقة سبباً في كون بعضكم لم ينتبه للكلام، وكذلك قراءتي في الأوراق السابقة، ولذلك أدعو الإخوة إلى تأمل الكلام الذي قلته مرة ومرة، فإن الكلام له معاني، ودلالات عميقة، قد لا يدركها الإنسان حين يسمعه لأول مرة، خاصة إذا كان يسمعه من قارئ كما هو الحال بالنسبة لي.(142/31)
أن نكون إيجابيين
أول نقطة: أن نكون جميعاً إيجابيين؛ لا تقل أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً، أو هذا لا يمكن، أو مستحيل، كل هذه الأشياء اتركها بعيداً.
إذا قال لك أحد: لا أستطيع قل له: حاول.
وإذا قال لك: لا يمكن.
مستحيل قل له: جرب، إذاً أنت حاول وجرب، واعمل ما تستطيع.
وأضرب لكم أمثلة على ما يستطيعه الإنسان: قصة الغلام.
في الصحيحين، والساحر والراهب، والقصة طويلة معروفة، في آخر القصة، الغلام الذي أسلم وآمن بالله عز وجل جاء الملك ليقتله، فما استطاع أن يقتله بأي طريقة، فجاء إليه الغلام وقال: أنا أدلك كيف تقتلني؟!! الآن غلام واحد، تصور عمره ستة عشر عاماً -مثلاً- هل تتوقعون أن هذا الغلام، وهو في وسط دولة تحاربه، وتحارب دينة، ولها بطش وقوة وإمكانيات وأجهزة، هل يمكن أن تسلم الأمة بأكملها على يديه؟ ممكن.
لماذا؟ لأنه ما قال: لا يمكن أو مستحيل.
جاء للملك وقال له: أنا أخبرك كيف تقتلني، اصلبني على جذع شجرة، ثم خذ سهماً من كنانتي، وقل: باسم الله رب الغلام، ثم اضربني به.
ففعل الملك، جمع الناس كلهم في صعيد واحد، وصلب الشاب على جذع شجرة أو نخلة، وأخذ سهماً من كنانته، وقال: باسم الله رب الغلام، ثم أطلق السهم عليه، فمات الغلام، فما الذي حدث؟ انظر كيف المصيبة على الملك، ظن أنه تخلص من عدوه، غلام واحد دعا إلى الإسلام، وأزعج هذا الحاكم فتخلص منه، لكن ما الذي حصل؟ لما رأوه مات، قالوا كلهم بلسان واحد: آمنا برب الغلام.
وحينئذٍ حفر لهم الأخاديد ووضعهم فيها {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج:4] .
فهذا الغلام استطاع أن يصنع شيئاً، ويعجبني أن أذكر لكم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح، رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وعبد بن حميد وغيرهم، عن أنس بن مالك، وهو صحيح، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة -نخلة صغيرة- فاستطاع ألَّا تقوم الساعة حتى يغرسها، فليغرسها، فله بذلك أجر} .
يغرسها لأن غرس النخل مطلوب، وعمل نافع، فيه خدمة وخير، فإذا قامت الساعة لا تجدع الفسيلة وتقول: الآن قامت الساعة، ومتى تنبت هذه الفسيلة؟ ومتى تكبر؟ ومتى تثمر؟ ومتى لا تقل هكذا أبداً، احفر لها واغرسها بكل اطمئنان، لماذا؟ لأنك مأجور بهذا الفعل.
وكونها تثمر أو لا تثمر، هذا موضوع آخر ليس لك به علاقة، أنت حصلت الأمر الآخر؛ الأجر: {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها فليغرسها، فله بذلك أجر} .
لو أن كل مسلم تصور هذا الحديث، فستنطلق بعمل جليل، عمل جاد، عمل قوي مثمر.
أذكر نكتة قرأتها في كتاب صناعة الحياة، وقد نوهت به قبل قليل، وسألني بعض الإخوة أن أعيد ذكره، وهو كتاب فيه فوائد عظيمة، وإن كان فيه بعض الأشياء.
في هذا الكتاب ذكر نكتة تصلح لهذا الموضوع الذي أقوله، كون الإنسان إيجابي، يقول: إن أحد دعاة الإسلام في إحدى البلاد حكم عليه بالإعدام، وأرادوا أن يقتلوه شنقاً، خرجوا به في الساحة العامة في وسط البلد، ووضعوا مشنقة وحبلاً ثم أرادوا أن يخنقوه ويشنقوه، يقول: فلما شدوا الحبل وهو معلق، انقطع الحبل وسقط الرجل، فقام الرجل واقفاً يتلفت ماذا يقول؟ يقول لهم: كل جاهليتكم رديئة، حتى حبالكم رديئة، كل الجاهلية التي أنتم فيها رديئة.
إذاً استغل خمس دقائق منحه الله -تعالى- إياها، في هجاء الجاهلية والكفر الذي كان يوجد في ذلك البلد، ولم يقل هذه أمور انتهت، بل عمل واستغل ذلك الوقت.
إذاً النقطة الأولى: كن إيجابياً اعمل أي شيء تستطيع فعله للإسلام، قليل أو كثير أي شيء تستطيع أن تعمله للإسلام اعمله، ولا أستطيع أن أذكر ماذا تعمل، لأن ماذا تعمل، هذا باب واسع جداً.(142/32)
الكلمة سلاح قوي
شيء آخر: الكلمة.
الكلمة سلاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا تقل الكلمة لا تجدي شيئاً: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] الأنبياء كانوا يأتون الناس بكلمة، يدعونهم إلى لا إله إلا الله، فلا تيأس من كلمة طيبة تقولها بنية صالحة.(142/33)
التفاعل
ثالثاً: التفاعل والهم والتعاطف مع الواقع، وترك العزلة.
هل أنت صاحب قلب يحترق للإسلام؟ أنا -أحياناً- أفكر في نفسي وحالي، إلى متى نحن معمرون؟ إلى متى نحن نعيش؟ ماذا صنعنا للإسلام؟ وماذا سنصنع ومتى نصنع؟ هناك إنسان يقول: الموضوع هذا كله لا يعنيني، عندي أولاد وعندي زوجة وعندي وظيفة.
لماذا لا ننسى خصوماتنا الشخصية وضغائننا؟ ونقوم بعمل جاد لصالح الإسلام في هذا الزمان.(142/34)
الأسئلة
.(142/35)
مرض الزهري
السؤال
هذا يسأل عن مرض الزهري والسيلان؟
الجواب
هذه أمراض جنسية، تكون بسبب ارتكاب الزنا والعياذ بالله.(142/36)
فتح القسطنطينية
السؤال
ورد في الحديث أن المسلمين في القسطنطينية يسمعون بخروج المسيح، فيرجعون سراعاً، فيجدون عيسى قد نزل، كيف نوفق بين هذا، وفتح القسطنطينية على يد الفاتح؟
الجواب
صحيح، لكن لا تعارض، لأن فتح القسطنطينية تم مرتين: أول مرة على يد الفاتح، وهذا هو الفتح الذي سبقت الإشارة إليه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم، أوورد عنه أنه قال: {لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش} وأما الفتح الثاني فهو الذي يكون قبيل نزول عيسى عليه السلام.(142/37)
الحرقة من أجل الدين
السؤال
إذا نظرت إلى بعض حال شبابنا اعتصر قلبي من شدة الألم والاحتراق، وإنني من شدة ما أرى، لا أستطيع أن أعمل شيئاً أحس أنه مفيد، فماذا أفعل؟
الجواب
بينت لك بعض ما تفعل، وما ذكره الأخ يذكرني ببعض الشباب الذين يرسلون لي أوراقاً تصلني في البيت أو في السيارة أحياناً، وإن كنت لا أعرف شخصيتهم يشتكون فيها من شباب الأرصفة وأوضاعهم، في الأرصفة والأسواق والمدارس والحدائق وغيرها، وسأتحدث عن هذا الموضوع إن شاء الله في الوقت المناسب.(142/38)
ضعف عقيدة الولاء والبراء
السؤال
يلاحظ أن الإحساس بعداوة الكافرين ضعيف في نفوس الكثيرين، فما أسباب ذلك؟ وما علاجه؟
الجواب
الأسباب كثيرة، ولذلك أدعو إخواني من طلبة العلم والخطباء وغيرهم، إلى التركيز على قضية الولاء والبراء، وأهميتها في هذا العصر، باعتبارها جزءً لا يتجزأ من عقيدة السلف الصالح.(142/39)
كتب تتكلم عن مستقبل الإسلام
السؤال
ما هي الكتب التي تنصح بها في موضوع المستقبل الإسلامي؟
الجواب
الكتب كثيرة جداً، من هذه الكتب كتاب أشرت إليه للشيخ عبد الله عزام، الإسلام ومستقبل البشرية، والمستقبل لهذا الدين، لـ سيد قطب، الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، له كلام في هذا الموضوع، هناك كتاب رؤية إسلامية لـ عبد الحليم عويس، وقد أشرت إليه، وهناك كتاب الإسلام ومشكلات الحضارة، لـ سيد قطب أيضا، وهناك كتيب اسمه: البشائر بنصرة الإسلام، لأحد الإخوة الأساتذة في معهد الرياض، للأستاذ محمد بن عبد الله الدويش.(142/40)
الثقة بالله وعدم الخوف من إمكانيات الغرب
السؤال
عند التفسير العقلي للأحداث، نجد أن التقنية التدميرية للغرب كافية لسحق الإسلام، فهل تتصور حرباً مادية محسوسة، أم كرامات من الله بلا قتال؟
الجواب
إذا كنا صادقين مع الله، بالتضرع والدعاء، والدعاء مما نملكه، والصدق والإخلاص لنثق بالله عز وجل، فالله قد يصنع لنا كرامات ليست في حسابنا، قد يصنع لنا حظاً لم نكن نتوقعه، ريحاً، جنوداً لم تروها، قد يدمر قوة العدو، قد يسلم بعض الأعداء، احتمالات كثيرة، فالإنسان لا يشتغل بهذا، لكن عليه أن يشتغل بمدى صدقه مع الله عز وجل.(142/41)
حديث: (من لم يهتم بأمر المسلمين)
السؤال
حديث من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؟
الجواب
الحديث رواه الطبراني، وفي سنده ضعف.(142/42)
دعاء النوازل
السؤال
بعض المساجد يدعون دعاء القنوت؟ فما حكمه؟
الجواب
لا بأس أن يدعو الإنسان بدعاء القنوت، للأزمات التي يمر بها المسلمون.(142/43)
أهل الفترة
السؤال
ما حكم الشخص الذي يموت في الوقت الحاضر؟ ولم يسمع بالإسلام؟
الجواب
هذا من أهل الفترة أمره إلى الله.(142/44)
نصيحة أهل المعاصي
السؤال
يقول: في جميع دروسك العلمية العامة وغيرها، لا أراك تؤدي نصيحة خاصة لأهل المعاصي للإقلاع عنها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهل الطاعات والمتمسكين، وخاصة أنت، ويزعم أنني أكثر قبولاً عند الناس؟
الجواب
أولاً: بالنسبة للقبول، ليس ما ذكرته بصحيح.
ثانياً: اسمح لي يا أخي الكريم أن أقول: سبق أن تكلمت مرات كثيرة عن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيما يتعلق بموضوع المعاصي والذنوب بالذات، تكلمت في هذه الإجازة بمحاضرة في الشرقية عنوانها: (المعالم المنجية من شؤم المعصية) يمكن أن تراجعها، ومع هذا فعندي موضوع سأتحدث عنه، وفيه أفكار وموضوعات جديدة، عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد زمن ليس بالطويل إن شاء الله.(142/45)
حكم مجالسة الكفار
السؤال
ما حكم مجالسة الكفار والنصارى، خصوصاً وأنهم يتعرضون لنا في أماكن العمل؟
الجواب
إذا كان وجودهم وجوداً طبيعياً، فيجوز أن تجلس معهم، لكن ينبغي أن تستغل ذلك بدعوتهم إلى الله عز وجل وبيان الإسلام لهم.(142/46)
بشرى قيام الدولة الإسلامية
السؤال
يدور في مخيلة كثير من المسلمين بشرى قيام الدولة الإسلامية، مع أننا نشاهد الأحداث التي تدور في الواقع، ونشاهد واقع المسلمين واختلافهم، فما تعليقكم على هذه الفكرة؟
الجواب
تعليقي على هذه الفكرة أن أقول: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، ابدأ الآن، احمل هم الإسلام، والبقية تأتي إن شاء الله.(142/47)
الترغيب في كتب الحديث المتقدمة
السؤال
بعض الشباب يزهد في أمهات الكتب في الحديث، ويرغب في الكتب المصححة، مثل صحيح الترمذي وغيره؟
الجواب
الواقع أنه لا ينبغي الزهد في الكتب الأصول مثل: سنن الترمذي، صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجة، سنن النسائي، لا تغني عنها الكتب المتأخرة، ككتب الشيخ الألباني، بل ينبغي لطالب العلم أن يقتني هذا وهذا.(142/48)
كتاب الياسق
السؤال
ما هو الياسق؟
الجواب
الياسق له كلام طويل، يمكن تراجع -مثلاً- الخطط المقريزية، أو البداية والنهاية لـ ابن كثير، أو حتى تعليقات الشيخ أحمد شاكر، في كتابه عمدة التفسير، فقد تكلم عن الياسق وذكر معلومات كثيرة عنه.(142/49)
كتاب المستقبل لهذا الدين
السؤال
كتاب: المستقبل لهذا الدين لـ سيد قطب، هل عليه ملاحظات؟
الجواب
في الواقع كتاب جيد خاصة لطالب العلم، والقارئ.(142/50)
المستقبل للإسلام على يد من؟
السؤال
كيف نتفاءل اليوم بأن المستقبل للإسلام، والدعوة في هذه الأيام هي دعوة وطنية، بل الأدهى من ذلك أننا نقرأ هذا الكلام: الفن يحارب من أجل الكويت، والفنانون يحاربون بحناجرهم في جبهات القتال؟
الجواب
ليس هؤلاء هم الذين يتم على أيديهم مستقبل الإسلام، فمستقبل الإسلام يتم من خلال الأيدي المتوضئة، من خلال الجبهات التي تعفرت بطول السجود، ومن خلال القلوب التي اعتصرت بهم الإسلام وألمه، هؤلاء هم الذين يقوم عليهم مستقبل الإسلام.(142/51)
موقفنا من المنافقين
السؤال
ما موقفنا من بعض الأشخاص الذين نتأكد من نفاقهم؟
الجواب
التأكد من النفاق صعب، لكن إذا ظهر أن هذا الإنسان غير مسلم، فإنك تهجره، ولا تصلى عليه، ولا تجالسه، ولا تؤاكله ولا تشاربه، بل تبتعد عنه.(142/52)
كتاب عدالة السماء
السؤال
كتاب عدالة السماء، ما رأيك في هذا الكتاب؟
الجواب
الكتاب جيد، وفيه عبر عجيبة.(142/53)
حال المسلمين يبشر بالنصر
السؤال
هل حال المسلمين يبشر بالنصر؟
الجواب
نعم، متى يأتي النصر أصلاً؟ النصر يأتي عن اشتداد الأزمة، اشتدي أزمة تنفرجي، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] .(142/54)
الانتفاضة
السؤال
هل نستطيع أن نقول: إن الانتفاضة مقدمة للحديث الوارد في قتال اليهود؟
الجواب
الله أعلم، يجوز هذا.(142/55)
المهدي المنتظر
السؤال
هل صحيح أنه يخرج في آخر الزمان رجل، أو منقذ رباني، يوحد المسلمين ويفتح الدنيا كلها؟
الجواب
نعم، هذا هو المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه كثيرة، جاء فيه أكثر من ثلاثين حديثاً، وصرح جماعة من أهل العلم أن أحاديث المهدي متواترة: {ينزل في آخر الزمان من ولد فاطمة - من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم - يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، ويعيش سبع أو ثمان أو تسع سنين} وله صفات وخصال ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا علاقة لهذا المهدي الذي أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بمهدي الشيعة الذي يدعونه، ولا بالذين يدعون المهدية أيضاً، كما ادعاها ابن تومارت، وكما ادعاها بعض خلفاء بني العباس، وكما ادعاها بعض المتأخرين، فهذا كله كذب، وإنما المهدي الذي أخبر عنه الرسول، إنسان عادي يخرج مثل غيره من الناس، ويدعو إلى الله عز وجل ويكون له ثقل وقوة ومعرفة، وشيئاً فشيئاً، وليس الناس مطالبون بمعرفته إلا إذا بان الأمر بياناً لا لبس فيه، حتى نقطع الطريق على بعض من يقولون: هذه فرصة لعبث بعض المتسرعين.
أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا ممن يساهمون في بناء الإسلام، وأن يقيني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(142/56)
الصحوة الإسلامية بشائر ومحاذير
الصحوة خير عميم، وروح سرت في الأمة أحيت فيها نوازع الدين ولكن البشر غير معصوم، والأخطاء واردة في كل حين، وهنا تجد ذكراً لبعض المحاذير التي ربما وقعت فيها الصحوة الإسلامية.(143/1)
مقدمة في انحطاط المسلمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
يقول الله عز وجل: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لقد مس المسلمين القرح في أزمنة طويلة، وخلال قرونٍ مضت كانت الأمة الإسلامية تعاني من ألوان الضعف والتخلف والهوان ما لم تعهده منذ وجدت؛ حتى دب اليأس إلى كثيرٍ من أبناء هذه الأمة وتطاول هذا الليل الذي يضرب بظلامه في كل مكان، فكان قائلهم يقول: بلي الحديد ومسنا القرح فمتى تفيق أخي متى تصحو والوعتاه كم انقضت حقبٌ وامتد ليلٌ ما له صبح وبغى وحوش ليس يردعهم خلقٌ ولا دينٌ ولا نصح ألفاظهم مطلية عسلاً وقلوبهم بسمومها رشح والوحش وحشٌ دينه فمه والغدر لا يمحوه من يمحو وصحا التراب أخي ولم تصحُ وَيْليْ عليك أينفع النوح(143/2)
آثار التجديد في العصر الحاضر
ولذلك فإننا ونحن الآن نعيش في مطلع هذا القرن وبعد مضي سنوات ليست بالطويلة نتلمس ونتلفت يمنةً ويسرة، وننتظر صورة هذا التجديد الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وعده عليه الصلاة والسلام هو في الحقيقة إنما هو وعد من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يتخلف، ولذلك يتلفت الناس ينظرون أين آثار التجديد ومن هو المجدد، وليس ثمة حاجة إلى أن يسمى شخصٌ بعينه، على أننا نعرف أن هذه الأمة الإسلامية الخير فيها باقٍ ولا تعدم في كل عصرٍ ومصر من رجالاتها وفضلائها وعلمائها ودعاتها ممن يكونون مشهورين كالشامة في الناس، لكن مع ذلك فإننا نجد اليوم أن من أبرز معالم التجديد لهذا الدين هي هذه الصحوة المباركة، وهذا التوجه الخيّر الذي لم يقتصر على مجال دون مجال أو بلد دون بلد أو مستوى من الناس دون مستوى، بل أصبح شاملاً لكل هذه الأشياء.
فنحن الآن نلمس آثار هذه الصحوة وآثار هذا التجديد في هذه الأمة، ويبرز ذلك في صورٍ شتى لا أستطيع أن أحصيها لكن أشير إلى شيءٍ منها.
1- شعور المريض بالمرض: فأبرز آثار هذا التجديد الذي بدأنا نلمسه هو شعور المريض بالمرض، وشعور المريض بالمرض هو أول خطوات العلاج، فالمصيبة حين يخيل إلى المريض أنه سليمٌ معافى ما به سوء، وحينئذٍ يستعصي على الأطباء ويرفض نصحهم ويصر على ما هو عليه، وهكذا كان حال المسلمين في وقتٍ مضى، لكن اليوم أصبح المسلمون أو أصبح كثيرٌ منهم يحسون بحقيقة المرض ويتململون تحت وطأته، ويتلفتون يبحثون عن العلاج وعن المخرج مما هم فيه، وبغض النظر عن كونهم استطاعوا فعلاً أن يجدوا المخرج أو لم يجدوه، وعن كونهم سلكوه أو لم يسلكوا، فإن الشعور ذاته بهذا الألم وبهذه الحرقة على الواقع هو في حد ذاته من أبرز مظاهر التجديد التي تعيشها الأمة الإسلامية.
يوماً من الأيام كنا نجد من شباب المسلمين من يقول: إن الأمة الإسلامية إذا أرادت أن تتقدم وتتحضر؛ فإن عليها أن تسير خلف أوروبا حذو القذة بالقذة وتقلدها في حضارتها خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وفي يوم من الأيام كنا نجد من الناس الذين انسلخوا عن هذه الأمة، وتخلوا عن التزامهم ودينهم وصلاحهم، من أصبحوا يسخرون من الإسلام وأهله ويرمونهم بالألقاب والأسماء التي لا تليق بهم، أما اليوم فقد أصبح كثيرٌ من شباب الأمة يحسون بالألم من واقع هذه الأمة ويعبرون عنه بصورٍ شتى ويبحثون عن المخرج.
2- الإقبال على المادة الإسلامية الفكرية: صورة أخرى، هذا الإقبال الكبير على المادة الإسلامية التي تقدم للناس، كتاباً، شريطاً، مجلةً، برنامجاً، محاضرةً، أي مادة تقدم للناس وتكون ذات محتوى إسلامي تجد الإقبال، انظر كم معرض كتاب إسلامي يقام، كم معرض شريط، كم محاضرة، كم ندوة، كم كتاب؟ تجد أنك أمام حجم هائل جداً، وأيضاً أقول بغض النظر عن التقييم لهذه الأشياء أن هذا منها الغث والسمين، ومنها شيء أفضل من شيء ومنها ومنها، هذا أمر ليس هذا مجال الحديث عنه، إنما مجال الحديث النظرة العامة أنه الكم الهائل وهذا الإقبال على كل ما هو إسلامي يؤكد فعلاً أن الأمة بدأت تعي ضرورة الولاء الحقيقي للإسلام، ولذلك أصبح كثير من الناس الذين يريدون -مثلاً- الربح المادي يهتمون بطبع الكتاب الإسلامي، وأصبح كثير من الكتَّاب والمفكرين الذين كانوا بالأمس ربما ضد الإسلام؛ فمنهم من كان ماركسياً، ومنهم من كان علمانياً ومنهم ومنهم، ومع ذلك اليوم ركبوا الموجة وصاروا يتكلمون باسم الإسلام ويتحدثون عنه، ولا حاجة إلى ذكر الأسماء أيضاً، ولا يعني هذا أننا نغلق باب التوبة في وجوه الناس، لا مانع أن يكون كاتباً منحرفاً بالأمس وتاب إلى الله عز وجل اليوم، وصار يكتب عن الإسلام الكتابة الصحيحة، لا مانع من هذا، إنما المقصود أن منهم من يركب الموجة ويتحدث باسم الإسلام وربما يكون محتفظاًً بآرائه وأفكاره، وربما يصوغها بقالبٍ آخر.
3- الإقبال على العلم الشرعي والاستفتاء: الصورة الثالثة: مسألة الإقبال على العلم الشرعي: ففي وقتٍ مضى لم يكن أحد يستطيع أن يستقطب الناس إلا من خلال الإشارة، فمثلاً لو وجد خطيب يتحدث عن قضايا الواقع بتهجم وبشده وبحرارة كان الناس يأتون، من باب حب الاستطلاع في كثير من الأحيان أو لأي غرض، لكن اليوم أصبحت تستغرب أنك قد تجد عالماً في حلقة علمه متكئاً على أسطوانته في المسجد، فتجد أن حوله عدداً غير قليل من الطلاب من كافة المستويات يعدون بالمئات أحياناً؛ يجلسون ليسمعوا كلاماً علمياً ربما يكون فيه جفاف، وثقل يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى كدّ، ومع ذلك تجد عندهم الصبر والمثابرة، وتجدهم قد تعودوا حني وثني الركب في مجالس أهل العلم.
كثرة الاستفتاءات: فتجد الناس أصبح الواحد منهم يسأل عن كل ما يمر به، بل ربما تجد الناس أصبحوا يسألون عن قضايا حدثت لهم من عشرات السنين طيلة المدة الماضية، الناس منهم من كان في غفلة ما سأل أو ما مر الأمر في خاطرة؛ لكن الآن وعى وتيقظ وأصبح يسأل، ولذلك تجد أن أهل العلم الذين وضعوا أنفسهم لهذا العمل الجليل: (موضع الفتيا وبيان أحكام الإسلام والحلال والحرام للناس) أصبح بعضهم ربما لا يجد وقتاً ليرتاح من كثرة إقبال الناس عليهم وسؤالهم واستفتائهم، وما نجد مثلاً فيما يتعلق بهيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة أو غيرها من الجهات التي قامت بهذا العمل ما هو إلا نموذج من ذلك.
4- إحياء الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من الصور أيضاً -وهي صورة مهمة في نظري-: إحياء شريعة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ضعفت في نفوس كثيرٍ من الناس، فأحيا المسلمون هذه الشعيرة في هذا العصر وقامت حركات جهادية في أكثر من بلد، وانتعشت في هذا الوقت بالذات، واستطاع المجاهدون الأفغان بفضل الله تبارك وتعالى أن يحققوا نصراً على عدوهم، إضافة إلى أن المسلمين في بلادٍ أخرى كثيرة ممن وقعوا زمناً طويلاً تحت تسلط النصارى، وغيرهم بدءوا يفكرون: إلى متى نظل تحت تسلط هؤلاء الكافرين؟ ولعل ما نسمع فيما يقع في روسيا نفسها من تحرك في أوساط المسلمين أو الأمم التي كانت موالية للإسلام فسيطر عليها الروس وحاولوا سلخها ومسخها يمت إلى هذا الأمر بصلة.
كذلك موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثرة السؤال عن هذا الأمر، كثرة الحديث عنه، ويقظة الناس تجاهه، شعور الابن -مثلاً- وهو في بيته أنه لابد أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر ما يستطيع، وشعور كل إنسان في أي مكانٍ أنه لابد أن يقوم بهذه المهمة، لم يعد الإنسان المستقيم مجرد إنسان سلبي يتردد على المسجد للصلاة فقط، لا، أصبح يحس بأنه لا يمكن أن يرضى بالتناقض بين ما يعتقد وبين ما يشاهد في الواقع، وأنه لابد أن يعمل على تحويل هذا الأمر إلى الصورة الإسلامية.
5- صياغة الحياة كلها إسلامياً: ولذلك جاءت الصورة الخامسة وهي: العمل على صياغة الحياة كلها صياغة إسلامية بكافة مجالاتها؛ الأب يصوغ بيته صياغة إسلامية، المدير يصوغ مدرسته، المدرس يصوغ طلابه، الزوج يؤثر في زوجته، الموظف في إدارته، المسئول في أي قطاعٍ كان، أصبح هناك هَمُّ كبير.
وأنا أقول: إن هذا الأمر ربما يكون النتيجة، هَمٌّ في محاولةِ صياغة الحياة صياغة إسلامية وإزالة كل ما يعارض الإسلام وجعل المجتمع أقرب إلى الالتزام بشرائع الإسلام وأصوله، وهذا لا يعني أن هذا الأمر حصل فعلاً وانتهى وأصبح كل شيء كما يحب الله ويرضى، لكن أقول: إنه وُجِدَ هَمٌّ في نفوس الناس هو هكذا، هَمُّ محاولةِ صياغة الحياة صياغة إسلامية في جميع مجالاتها، أصبح الطبيب مثلاً يفكر كثيراً في محاولة تحويل هذا المستشفى الذي يعمل فيه إلى مستشفى ملتزم بأوامر الله بفصل الرجال عن النساء مثلاً، تجنب الاختلاط بقدر ما أمكن، وتجنب الأمور التي لا ترضي الله ورسوله من المحرمات بأنواعها، أصبح المسئول في إدارته يحرص على تحويل هذه الإدارة إلى إدارة ملتزمة بأوامر الله ورسوله.(143/3)
الأمل بحديث التجديد
ومع ذلك فإن المنصرين يدركون أنه لابد لكل ليلٍ من نهار، وهذه الأيام يداولها الله تعالى بين الناس، وكيف يدب اليأس إلى قلوب المسلمين وهم يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره بسندٍ حسن: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فيؤكد عليه الصلاة والسلام أن التجديد شريعة إلهية وسنة ربانية لا يمكن أن تتخلف بحالٍ من الأحوال، وبعد كل قرن يكتب الله لهذه الأمة تجديداً، ولا يعني أن يغير من الدين شيئاً فإنه إذا غير كان هدماً له ولم يكن تجديداً، وإنما يعني أن يجدد فَهْمَ الناس للدين وتمسكهم به والتزامهم به، فيكونون أقرب إلى الالتزام بالكتاب والسنة، وهذا التجديد الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم هو تجديد شامل لكل مجالات الحياة بدون استثناء، أي تجديد في جميع المجالات الدينية والشرعية، علمية كانت أو عملية.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} و (من) كما هو معروف تطلق على المفرد وعلى الجمع، ولذلك فإن المجدد لهذا الدين ليس بالضروري أن يكون فرداً يشار إليه بالبنان، كما قال الإمام السيوطي في منظومته: يشار بالعلم إلى مقامه وينصر السنة في كلامه وأن يكون حاوياً لكل فن وأن يبز علمه أهل الزمن من الممكن أن يقوم بهذه المهمة الجليلة أمة من العلماء والدعاة والمصلحين والمجددين، ولئن جاز أن يقول بعض أهل العلم: إن المجدد في القرن الأول مثلاً فرد هو عمر بن عبد العزيز وأن المجدد في القرن الثاني فرد واحد كما قال بعضهم أنه الإمام الشافعي، لئن جاز أن يقال في مجدد القرن الأول مثلاً أنه عمر بن عبد العزيز فإن ذلك أبعد فيمن جاء من بعده، فإنه لا يكاد يوجد إنسان جمع القرآن والسلطان، أي: جمع العلم والسلطة بحيث استطاع أن يجدد الدين علماً وعملاً وتطبيقاً في حياة الناس، ونظراً لأن الأمة الإسلامية قد انتشرت وتوسعت ودخل في الإسلام أمم وشعوب بأكملها، ونظراً أيضاً لأن الشر قد كثر وفشا وانتشر، وأعداء الإسلام استطاعوا أن يصلوا إلى بعض مآربهم في إدخال الشهوات والشبهات على الأمة الإسلامية، ونظراً أيضاً لأنه كلما تقدم الزمن قل جودة النوعيات التي تقوم بالمهمة، فنحن نقطع أنه لا يمكن أن يوجد جيل مثل جيل الصحابة رضي الله عنهم أو كجيل التابعين، وهيهات أن يوجد حتى أفراد في الأمة يكونون بمنزلة بعض رجالات الإسلام المعروفين من كبار الصحابة أو من الصحابة والتابعين وغيرهم، فحتى نوعية الأفراد الذين يقومون بمهمة التجديد تقل، والمجالات التي يحتاج فيها إلى التجديد تكثر وتتسع، ولذلك فإن من المنطق أن يكون القائم بمهمة التجديد لهذه الأمة خاصةً في العصور المتأخرة أن تكون طائفة من الناس ما بين فقيهٍ ومحدثٍ وداعية ومصلح ومجاهد إلى غير ذلك من ألوان وأنواع الخير التي تحتاجها الأمة الإسلامية في كافة مجالاتها، ولذلك كان العلماء حتى منذ قرون يقولون مثلاً: مجدد القرن الفلاني في الفقه فلان، وفي الحديث فلان، وفي العقيدة فلان، وفي التفسير فلان، فيذكرون أفراداً كل فردٍ يعتبرونه مجدداً لنوع من أنواع العلم أو العمل.(143/4)
أمور لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار في الصحوة الإسلامية
وهكذا النوعيات التي أشرت إلى شيءٍ منها، فهذه صور يمكن أن تعبّر إلى حدٍ ما عن وجود هذا التوجه الإسلامي، وهذا الإقبال على الإسلام وعلى الخير في هذه الأمة وبهذا الوقت بالذات.
ولذلك أقول: إن هذه الصحوة التي بدأت هي أمانة في أعناق العلماء والمصلحين.(143/5)
حماية ظهور الشباب ورجال الدعوة
أولاً: أمانة توجب على العلماء والمصلحين والدعاة حماية ظهور هؤلاء الشباب وغيرهم أيضاً من كافة النوعيات المقبلة على الإسلام، وعدم الرضا بالنيل منهم أو تشويه صورتهم في نفوس الناس، وتعمل على قطع الطريق الذي يحاول الوقيعة بين أهل الخير، فلا شك أن هناك من يعمل على الوقيعة بين العلماء وبين غيرهم من سائر الطبقات، فكثيراً ما تسمع مثلاً من ينال من أهل العلم ويقول: هؤلاء متكاسلون متقاعدون، هؤلاء متملقون، هؤلاء لا يفعلون، لا يأمرون، لا ينهون، وكثيراً ما تسمع من بعض الناس من يتناول العلماء بهذه الطريقة وهو لا يدري أي جهد يقومون به وأي عمل يؤدونه، بل أي جهاد يمارسونه؛ لأنه لم يفهم إلا ما يعلم ولا يمكن أن يتصور أن هناك جهوداً كبيرة يقوم بها هؤلاء الناس وغيرهم دون أن يعلم بها، ولو كان جاهلاً لقلنا من حقه أن يسكت ولا أحد يؤاخذه، لكن المصيبة أن يكون جاهلاً ويتحدث في الوقت نفسه فيما يجهل ولا يعلم.
وبالمقابل هناك من قد يحاول تشويه صورة الشباب والدعاة والصالحين عند شيوخهم وعلمائهم وأساتذتهم، فلابد من حماية ظهور شباب ورجال الدعوة الإسلامية وقطع الطريق على من يحاول الوقيعة بينهم.(143/6)
التوجيه السليم
وثانياً: لابد من توجيه هذه الصحوة توجيهاً سليماً يضمن لها القوة والاستمرار، وهذا التوجيه قد يكون بتعليمهم ما يجهلون، بنصيحتهم، بإرشادهم، بإتاحة الفرص والوسائل التي قد لا يتمكنون منها، فإننا نعلم أن الشاب مثلاً بمفرده أو الداعية مدرساً كان أو موظفاً لا يستطيع أن يقوم بواجبه كما يريد بمفرده، لكنه يستطيع أن يستنجد بالعلماء والمشايخ والناس المعروفين بالخير والصلاح ممن لهم مكانة وقدر ليقوموا هم بهذا الدور أو ليساعدوا على القيام بالدور الذي يريد، فلابد من هذا الأمر.(143/7)
الوقاية من المخاطر
وثالثاً: لابد من وقاية هذه الصحوة وحمايتها من المخاطر التي يمكن أن تقع فيها -والمخاطر من الطبيعي جداً أن تقع- أولاً: لأن الشيطان مسلط على بني آدم، وثانياً: لأننا نعلم أن من طبيعة النفوس أنه قد يدب إليها شيء من الضعف، الضعف قد يكون إلى إفراط وقد يكون إلى تفريط، فمن الضعف مثلاً: أن الإنسان قد يصيبه تأخر ونقص في دينه، ومن الضعف أيضاً أن الإنسان قد يصيبه زيادة وغلو وتكلف في أمور ما أنزل الله بها من سلطان، ووجود هذه القضية أمر طبيعي في أصله بمعنى أن هذا الأمر يغلب أنه لابد أن يوجد قدرٌ منه، لكن فرق بين أن يوجد قدر فيقاوم ويعالج ويعمل على تلافيه بكل وسيلة، وبين أن يوجد فلا يكون هناك من يحذر الدعاة والشباب من هذا الأمر أو يبين لهم مخاطره، وفي أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وجدنا أنه تظهر طائفة الخوارج، الذين كانوا يكفرون الناس بالمعصية، ويشددون على الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، وإلى جوارهم كان يوجد المرجئة الذين كانوا يتهاونون بالأعمال ويكتفون من الناس بمجرد النطق بالشهادتين ولو لم يكن لهم بعد ذلك عمل ولا عبادة ولا قيام بشيء من الشعائر، إضافة إلى وجود القدرية مثلاً، فوجود مثل هذه الظواهر أمر متوقع، وهذا يؤكد أهمية توجيه الصحوة وحمايتها من المخاطر التي تهددها وهي إما إلى زيادة وإما إلى نقصان وكما قيل: ولا تغل في شيءٍ من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وكما قيل: (الزيادة أخت النقصان) .
إن وجود الانحراف أيها الإخوة يمكن أن يحول هذه الصحوة التي يستبشر بها المسلمون بكافة مستوياتهم أو جزءاً من هذه الصحوة إلى اتجاه يكون فرصة لضرب الإسلام وأهله والوقيعة فيهم، وربما خطأ يرتكبه إنسان أو أفراد تلقى بمسئوليته على المسلمين بأكملهم أو على الدعاة والصالحين بأكملهم، وهذه مشكلة.(143/8)
التفريق بين الناصح والمتربص
إن هناك من يتربص بالإسلام، ويتمنى الوقوع في الخطأ، وهناك من يضخم الخطأ ويحاول أن ينشره بكل وسيلة.
وعلى كل حال فالحديث عن هذا الموضوع أيضاً لا يخلو من حساسية؛ لأن هناك من لا يستطيع أن يفرق بين المتكلم على سبيل النصح والإرشاد والتحذير ومن يضيء الإشارات الحمراء ويقول: انتبه، إياك أن تخطئ، قد لا يفرق البعض بين هذا وبين من يشتهي الوقوع في أعراض الصالحين، هناك مع الأسف اليوم ممن ينتسبون إلى العلم والدعوة في كثير من البلاد الإسلامية من يجد لذة حين يتناول أهل الخير الملتزمين بالسنة فيسخر منهم؛ لأنهم يهتمون مثلاً في زعمه بقضية اللحية، يهتمون بقضية تقصير الثياب، يهتمون بالسنن في الصلوات، يهتمون بقضية المرأة، يهتمون بكذا وكذا، فيتناولهم بطريقة معينة ليست في الواقع طريقة تؤدي إلى الإصلاح وتعديل الخطأ، بل ربما تؤدي إلى خطأ آخر في حين أنه قد يتناول أموراً ليس فيها خطأ في الواقع، فليس من خطأ الصالحين والدعاة أن يهتموا باللحية أو يهتموا بتقصير الثياب أو يهتموا بحجاب المرأة، هذه أمور هي جزء من الدين، ونحن لا نعرف أن الدين فيه قشور يمكن أن يتخلى عنها أو تترك، الدين كله من عند الله عز وجل، ولا معنى أن نقول اهتم بالأهم واترك ما عداه، نحن لا نقول اترك قضية العقيدة واترك قضية دعوة الناس إلى أصل الدين واهتم بقضية الحجاب أو بقضية اللحية، لا، لكن نقول اهتم بهذا وهذا وهذا، فإذا تعارضت هذه الأمور فيمكن أن تقدم الأهم على المهم كما هو معروف.
فلابد من التفريق بين هؤلاء وبين هؤلاء، التفريق بين من يتحدث عن الأخطاء على سبيل التحذير منها والوقاية كما يقول الأطباء: (الوقاية خيرٌ من العلاج) والفقهاء لهم عبارة أخرى يقولون: (الدفع أسهل من الرفع) بمعنى أن دفع الأمر قبل وقوعه أهون من رفعه بعدما يقع.
فلذلك التحذير من الأخطاء قبل وقوعها أو قبل استفحالها وانتشارها في الواقع أمانة ومسئولية وضعها الله عز وجل، لا أقول فقط: في عواتق العلماء؛ بل في عاتق كل من يعلم أمراً لابد أن يتحدث عنه.(143/9)
المحاذير في طريق الصحوة
والحديث إخواني الكرام عن موضوع المحاذير حديث ذو شجون، لكنني سوف اجتزأ بثلاث نقاط أرى أنها من أبرز هذه المحاذير، أما النقطة الأولى في موضوع المحاذير فهي:(143/10)
عدم الضيق والحساسية بسبب الخلاف
أيها الإخوة: إنه لابد من تطبيع الخلاف في مثل هذه الأمور بحيث لا يكون عندنا حساسية تجاه هذا الخلاف، المشكلة أحياناً أن الناس يضيقون ذرعاً من خلاف لابد منه، وأذكر أنه حتى بعض صحفنا كانت تعقد مقابلات وحوارات وتجعلها قضايا، العالم الفلاني يفتي بشيء والعالم الآخر يفتي بشيءٍ آخر، وهذا يقلق قلوب الناس، ليس الحل أن لا يختلف العلماء، سيختلف العلماء شئتم أم أبيتم، لكن الحل هو أن نوعي الناس بالأسلوب الصحيح في معالجة الخلاف، وفي مواجهته، فيما يمكن أن نسميه فقه الخلاف سواء أكان خلافاً في فروع، أم خلافاً في الوسائل، أم خلافاً في معالجة القضايا الاجتهادية إلى غير ذلك.
وكذلك لابد أن ندرك أن هذا الخلاف لابد أن لا يؤدي إلى التناحر والتباغض وتناقض الجهود وتسليط الأعداء، لأن كون كل مخالفٍ يجعل همه الأكبر هو أن ينتقد مخالفه ويرد عليه ويبين خطأه؛ هذا من شأنه أن يجعل المسلمين والصالحين مشغولين بعضهم ببعض ويعطي الفرصة للأعداء.
ومن المؤسف فعلاً أنك تجد أحياناً الداعية الغيور الحريص على الكتاب والسنة تجده مشغولاً بإخوانه من الدعاة والعلماء، في تخطئتهم في أمور معينة، أو بيان أن ما رجحوه غير راجح وهي قضايا مهما كانت فهي جزئية، ومع ذلك تجده مشغولاً عن الصوفية، والباطنية، والإباحية، والعلمانية، والحداثة وغيرها من المذاهب التي تنخر في الأمة، مشغولاً عن الفساد الخلقي الذي يعيه في قلوب الناس وفي واقعهم، مشغولاً عن الجهل بالدين الذي أصبح معششاً في كثير من المجتمعات.
والله إن من المؤسف أيها الإخوة أنك تجد الدعاة مشغولين بعضهم ببعض والمجتمع لا علاقة لنا به، المجتمع سلَّم للصوفية، والمنحرفين، والضالين والمفسدين.
حتى لو كنت تعتقد أن ما تقوم به تجاه إخوانك من العلماء والدعاة والمصلحين واجب، فالنزول للمجتمع والإصلاح فيه أوجب منه، فإذا قمت بالواجبين معاً فإن الله يقويك، لكن أن تترك الواجب الأعظم المتفق على وجوبه وضرورته وخطورته مشتغلاً بمن تعرف، قد يقول قائل: ما هو السبب؟ في نظري أن السبب هو وجود نوع من العزلة عن الواقع، لأن الإنسان دائماً يقبل على الأشياء المهمة بحسب ما يعرف، فلأنه يقضي حياته بين إخوانه من الدعاة والعلماء ويسمع ما يدور في أوساطهم صار مهماً عنده أن يخطئ الخطأ عندهم، لكن ما يجري في المجتمع هو مشغولٌ عنه، وربما لا يدري به، وإن علم فليس أمراً ملحاً عنده يطرق أذنه صباح مساء ليل نهار، ولذلك لم يعطه الاهتمام الكافي، وهذا لا شك نقيض الحكمة التي أمر الله تعالى بها، الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها.
مسألة الخلاف من القضايا الخطيرة ولا أعتقد أنني قلت فيها شيئاً، ولكن نسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الكلمة بداية خير، وأن يجمع أمر المسلمين على كلمة سواء، وأن يوحد صفوفهم، ويصلح ذات بينهم، ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور إنه على كل شيءٍ قدير.(143/11)
الاختلاف وكيفية التعامل معه
المحذور الرابع من هذه المحاذير هو الاختلاف، والاختلاف من الأمور التي يتحدث عنها الإنسان وهو يشعر بالأسى والحزن على واقع الأمة الإسلامية التي أصبحت كما قال القائل: وتفرقوا شيعاً فكل قبيلةٍ فيها أمير المؤمنين ومنبر وكما قال الآخر: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد أصبحت مسألة التفرق والاختلاف والتنازع بين المسلمين من أخطر المسائل وأهم القضايا، ولذلك لابد من إلقاء الضوء على هذه النقطة.
فمسألة الاختلاف من حيث الأصل هي قضية لا بد منها، وهذا أمر يخفى على كثير من الناس، ومع أن الأمة الإسلامية تعيش حالة من التمزق والاختلاف عظيمة إلا أنك مع ذلك تجد من الدعاة والمصلحين وطلاب العلم من يقول لك: يا أخي يمكن جمع المسلمين كلهم على كلمة واحدة ورأي واحد في الأصول وفي الفروع، وأنا أعتقد أن هذا الأمر غير صحيح ولا ممكن، بل إنني أقول: إنه مستحيل، صحيح جمع الناس على الأصول لابد منه ولابد من الدعوة إليه سواءً استجابوا أو لم يستجيبوا.
أما فيما يتعلق بالفروع الفقهية، فإذا كنا نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه الفروع أبو بكر الصديق وعمر والعشرة المبشرون بالجنة وأصحاب بدر وبيعة العقبة وبيعة الرضوان وكذا وكذا، أفضل جيل فيهم اختلافات في الفروع في قضايا فقهية كثيرة، كما حدث لمن بعدهم، ولذلك تجد أن الأقوال الفقهية إذا ذُكرت قيل: وهذا القول قال به أبو بكر وفلان وفلان، والقول الآخر قال به عمر وابن مسعود وفلان وفلان.
وإذا حدث الاختلاف في عهد الصحابة وهم أفضل الناس وأعلم الناس وأكثر الناس تجرداً وأوسع الناس عقولاً، فمن البديهي أن يقع الاختلاف فيمن بعدهم، بل أن يزيد ويكثر وينمو، ولذلك فإن الاختلاف أمرٌ واقع ليس في القضايا الفقهية الفرعية فقط، بل في أمور عديدة سوف ترد الإشارة إليها.
وليس المهم إخواني الكرام القضاء على الخلاف، لكن الشيء المهم الذي يجب أن يكون همّا لكل غيور على الإسلام هو إيجاد منهج سليم للتعامل مع الخلاف الواقع، كيف نتعامل مع هذا الخلاف؟ هذا هو المهم، لا يكون السؤال عندك كيف نقضي على الخلاف، لا، ليكن السؤال عندك كيف نتعامل مع الخلاف؟ وسأحاول الإجابة على جزء من هذا السؤال.
1- البعد عن التعصب لغير الحق: فأولاً: لابد من البعد عن التعصب لغير الحق، فإن من أسباب الخلاف التعصب لشخص سواءً كان هذا الشخص عالماً أم شيخاً تتلمذت عليه، أم كان داعيةً تدور في فلكه وتتلقى عنه وتتعلم منه وتستشيره في أمورك، بحيث تتعصب لهذا الإنسان وترى أن ما يقوله هذا الإنسان حق، فإذا والى هذا الإنسان أحداً واليته، وإذا عادى أحداً عاديته، أحب أحداً أحببته، أو أبغض أحداً أبغضته، مدح مدحت أو ذم ذممت، وهذا تقليد غير سليم؛ لأن المفروض أن يكون الولاء في الحق، نوالي أهل الإسلام وأهل الخير مهما كانت ألوانهم وأشكالهم وأحوالهم، ونخطئ الخطأ مهما كان مصدره.
فالتعصب لشخص أو التعصب لراية أو التعصب لحزب أو جماعة أو طائفة، هذا من أعظم أسباب شيوع الاختلاف وانتشاره، ونحن أيها الإخوة أمام أمانة حملنا الله تبارك وتعالى إياها وسوف يسألنا عنها، من واجبنا أن نساهم في علاج جراحات هذه الأمة الإسلامية وآلامها بأن يكون تعصبنا للحق وحده، وأن نخلع التعصب للأشخاص وللطوائف، والهيئات، والأحزاب، والشيوخ إلى غير ذلك.
المسلمون الغيورون على وحدة الأمة يعلنون أساهم وحزنهم من التعصب المذهبي، واليوم حل محل هذا التعصب المذهبي التعصب للفئات والجماعات، وأصبحت تمزق كثيراً من المسلمين وتفرق بينهم، وتوجد الحواجز في نفوسهم وفي واقعهم، ولذلك لابد في موضوع معالجة الخلاف من التجرد للحق بقدر ما يستطيع الإنسان، لا شك أن الإنسان ليس ملكاً لكنه يحرص على أن يتجرد للحق من جميع الملابسات الأخرى الثانوية من التعصب لشيخ أو طائفة، أو مسلك أو راية، أو ما أشبه ذلك.
2- عدم تضخيم الخلاف: ثانيا في قضية معالجة الخلاف: مسألة عدم تضخيم الخلاف في القضايا الفرعية، الخلاف في الفروع أمر موجود منذ فجر الإسلام، موجود حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحين قال عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: {لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة} اختلف الصحابة في كيفية تطبيق هذا الحديث فبعضهم قالوا: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة حتى لو فاتت الصلاة، وبعضهم قالوا: إنما أراد منا الإسراع فصلوا في الطريق، ومع ذلك لم يعنت النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، وبالتالي اختلف العلماء من بعدهم أيهم المصيب: الذي صلى في الطريق أو الذي صلى في بني قريظة، فالخلاف موجود.
الخلاف الفقهي الفرعي موجود ولا شك أن له ضوابط، فما كل من قال بقول يقبل منه هذا القول، أو رجح شيئاً يقبل منه، لكن المقصود أن أصل الخلاف بين أهل العلم الذين هم أهل العلم فعلاً؛ أصل هذا الخلاف موجود، لا ينبغي أن يتحول هذا الخلاف الفرعي إلى عداوات وخصومات وولاء وبراء، مثلاً بعض الشباب يجعل سنة من السنن أصلاً، من فعلها أحبه ومن تركها أبغضه، تقول له: لماذا؟ قال لك: لأن هذه السنة أصبحت شعاراً للصالحين، فمن لا يجلس جلسة الاستراحة مثلاً ينظر إليه نظرة ريبة، هذا لا يحب السنة ولا يعمل بها، لماذا يا أخي؟ قال لك: صحيح أن العلماء اختلفوا وأحمد قال كذا، والشافعي قال كذا، ولكن اليوم أصبحت جلسة الاستراحة شعاراً لمن يطبق السنة، من قال هذا؟ ومن الخطأ أن تصبح شعاراً، عيب أن تصبح هذه شعاراً، صحيح أنها سنة على رأي جماعة من أهل العلم ورجح ذلك بعض شيوخنا المعاصرين كسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز ولا ينبغي التضييق على من فعلها ولو أحياناً، بل ينبغي أن يفعلها، لكن فرق بين هذا وبين أن تتحول إلى شعار.
السنة أصبحت شعاراً!! هذه من المعضلات أن توضع الفروع مكان الأصول، وضع اليدين مثلاً بعد القيام من الركوع، كيف يخر الإنسان إذا هوى إلى السجود يقدم ركبتيه أم يقدم يديه؟ هل يرفع يديه عند تكبيرات الجنازة أو لا يرفع يديه؟ هل يغتسل للجمعة وجوباً أو لا يغتسل؟ مصيبتنا أن هذه القضايا أصبحت هماً مسيطراً على نفوس كثير من الشباب، وهي التي تملأ وقتهم وحياتهم، وليس هذا فقط بل الولاء والبراء يدور حول هذه القضايا حتى أني وجدت في كتاب كتبه أحدهم، كاتب هذا الكتاب قد يرجح مسألة من المسائل ثم يقول بعد الترجيح وهذا دين الكتاب والسنة، أي: الذين خالفوك في هذا القول الذي اخترته أتوا بآرائهم من التوراة والإنجيل، وإلا من أين أتوا بها، والغريب أنه قال هذه الكلمة وفي رأيي أنه رجح خلاف ما عليه أهل الحق، وخلاف القول الصحيح لمجرد فهمٍ تبادر إلى ذهنه من ظاهر آية، وصار يقول هذا دين الكتاب والسنة، معنى ذلك أنه يوالي فيه ويعادي فيه ويعتبر من قال بهذا فهو مخالف للكتاب والسنة، وربما يحمل عليه وربما ينكر جميع فضائله ومحاسنه وما قدمه للإسلام والمسلمين من خدمات.
من الخطأ أن يتحول الاختلاف الفقهي إلى حزازات وخصومات وعداوات.
3- الخلاف لا يضر: ثالثاً: في موضوع الخلاف أيضاً يجب أن نعلم أن هناك خلافاً في معالجة بعض الأمور الاجتهادية الواقعية، وهذا خلاف لا يضر ما دام مبنياً على المصلحة، خلاف مثلاً في التعامل مع بعض القضايا الواقعية، خلاف في تقدير المصلحة، خلاف هل أنكر الآن أو غداً واليوم جدت أشياء كثيرة جداً يختلف الناس حولها، وقد يختلف الدعاة في التعامل مع هذه الأشياء، سواء أكانت منكرات أو أمور أخرى، وقد يختلفون في نوعية التعامل معها وفي الأسلوب وكيفية طريقة التغيير؟ فالخلاف في الأمور الاجتهادية هو الآخر وجد في عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل نحن نعرف أن الصحابة اختلفت مواقفهم لما حدثت الفتنة في أواخر عهد الصحابة فمنهم من كان مع علي رضي الله عنه، ومنهم من كان في الطرف الآخر مع معاوية رضي الله عنه، ومنهم من اعتزل وانفرد وقال: لا أدخل مع هؤلاء ولا مع هؤلاء حتى تنزل القضية وتتضح لي، ومع ذلك فكانوا كلهم على خير ولهم فضل وإحسان ومكانة وكان منهج أهل السنة والجماعة اعتقاد أن الكل من هؤلاء مجتهدون لهم أجر اجتهادهم، والمصيب منهم له أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وما كان هذا مدعاة إلى أن ينال أهل السنة من أحدٍ منهم.
ولذلك فإن القضايا الواقعة قد يختلف الناس في تقدير المصلحة فيها أو التعامل معها، فهذا الاختلاف المبني على الاجتهاد هو الآخر اختلاف يجب أن يكون مقبولاً، ولا يمنع أني اعتبر أنك مخطئ في اجتهادك، لكن هذا الخطأ في اعتقادي لا يوجب أن يكون بيني وبينك خصومة أو عداوة وتباعد.
4- الاختلاف في الوسائل مباح: النقطة الرابعة أن هناك اختلاف في الوسائل، والأصل في الوسائل أنها مباحة إذا لم يكن هناك دليل واضح على تحريمها، ولذلك استفاد الصحابة رضي الله عنهم من وسائل كثيرة ما كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل مسألة تدوين الدواوين، بل إننا نجد أن هناك أموراً نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث، مثل مسألة كتابة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينهى عن كتابة الحديث يقول: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن} إلى جوار أحاديث أخرى بينت جواز الكتابة كما قال عليه الصلاة والسلام: {اكتبوا لـ أبي شاة} ولذلك كان الصحابة والعلماء مختلفون هل تجوز كتابة الحديث أو لا تجوز، لكن الغريب أنه حصل إجماع بعد ذلك من العلماء على جواز كتابة الحديث، بل على مشروعيته، هذا الإجماع ما هو الداعي إليه بعد وجود الخلاف؟ الداعي إليه أنهم رأوا أن هذه وسيلة ضرورية لحفظ السنة النبوية وبرزت هذه الحاجة إلى العيان، فلم يعد هناك مجال للاختلاف فيه، ولذلك قد يختلف العلماء يوماً من الأيام في مسألة، ثم يجمعون على حكم فيها بعدما بان الأمر واتضحت الحاجة والمصلحة فيها.
وهناك قضايا واقعية كثيرة جدت اليوم في هذا العصر(143/12)
التعجل وصوره
أنتقل إلى المحذور الثالث وأقول: إن المحذور الثالث هو تعجل الخطوات، والعجلة من حيث الأصل جبلة مركوزة في نفس الإنسان قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] وقال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] ولذلك في قصة موسى والخضر كما قصها الله جل وعلا علينا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {لولا أنه عجل لرأى العجب} وأيضاً في الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام كما في مسلم وغيره {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي} فالعجلة تفوت على الإنسان الخير، وهذا مصداق قولهم: (من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه) .
مثال ذلك الدعاء إذا تعجل الإنسان الدعاء ربما عوقب بحرمانه من الدعاء، ولذلك قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، ومفهوم الحديث أنه إذا عجل فقد لا يستجاب له، ولعل الحديث المناسب أيضاً في موضوع التعجل الحديث في صحيح البخاري في قصة خباب بن الأرت رضي الله عنه: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدُ بردة له في ظل الكعبة -جاء إليه الصحابة مقهورون متضايقون من قريش، طال صبرهم وانتظارهم فجاءوا بقلوب محروقة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسوا عنده وهو نائم عند الكعبة -فقالوا له: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فجلس ولم يدع لهم عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ بل التفت إليهم لأنه عليه الصلاة والسلام أدرك الشعور الذي جعلهم يقولون هذا الكلام- فقال: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيشق إلى نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه ما يثنيه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون} والاستعجال يأخذ صوراً عديدة: 1- استعجال النتائج: من الاستعجال: استعجال النتائج بحيث إذا عمل الإنسان شيئاً يريد أن يرى نتيجته، ونحن نعرف في حديث ابن عباس المعروف في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد} هناك نبي يأتي يوم القيامة وحده لم يتبعه إنسان واحد، أقام الحجة، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وبلغ هذا الواجب عليه، فما استجاب له الناس، هذا أمره إلى الله تعالى.
نوح عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاماً ولم يستجب له إلا أناس يعدون على الأصابع، فأحياناً كثيرة الداعية قد يتعجل النتائج ويريد أن يرى نتيجة دعوته أو أمره أو نهيه، فإذا فعل مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: والله ما رأيت النتيجة، وربما يستحسر ويدع العمل، والمفروض على الإنسان الذي يعمل لوجه الله عز وجل أن لا ينظر إلى النتيجة دائماً، أما إني أقول أن رؤية النتائج مما يزيد من حماس الإنسان وهذا أمر معروف، كما أننا قد عرفنا من تجارب الواقع أن هذه الأمة فيها خير كثير، ولذلك فإن كل داعية حكيم لابد أن يجد نتيجة عمله؛ لكن مع الصبر، إنما على الإنسان ألا يعجل وأن يربط نفسه بالأجر والثواب عند الله جل وعلا، أما النتائج الدنيوية فإن لم تأت اليوم أتت غداً، وإذا ما جاءت على يديك فستأتي على يد غيرك من الدعاة.
2- التعجل في خطوات الإصلاح: الصورة الثانية من استعجال النتائج: أن بعض الناس قد يتعجل في الخطوات في ميادين الإصلاح، وهذا التعجل ربما يتسبب في قطع الطريق عليه، فمثلاً ربما يريد الإنسان أن يصلح في ليلة ما فسد في دهر، وهذه الطريقة يمكن أن تؤدي إلى أن تكثر العداوات والخصومات، ويستفز الناس فيقفون ضده، وبالتالي لا يستطيع أن يواصل في هذا الطريق.
أضرب لذلك بعض الأمثلة: قد يأتي إنسان إلى مؤسسة من المؤسسات دخل فيها الآن وهي جديدة، فوجد فيها من المنكرات ما الله به عليم، تضايق هذا الإنسان وتبرم، ومن حقه بل ومن واجبه أن يكون كذلك، لأن هذا من الإنكار بالقلب, والمؤمن لابد أن يغتاظ إذا رأى المنكر، لكن كيف يغير هذا المنكر؟ ربما يتعجل الخطوات فيريد أن يغير هذه الأمور كلها فيقول: يا أخي أنا مسئول في هذا القطاع في هذه المؤسسة لماذا لا أغير؟ سأغير كل شيء، ربما يغير طاقم الموظفين أحياناً، وربما يقلب الأنظمة رأساً على عقب، ما الذي يحدث؟ قد ينجح أحياناً إذا كان واثقاً من هذا الأمر؛ لكن في أحيان كثيرة لا يستطيع الإنسان أن يقدر المصلحة، فيجد أن هذا العمل كان من نتيجته أنه استطاع أن يستقطب عداوة كثير من الناس، وبالتالي أصبح هؤلاء الناس وقد وضعوا على عواتقهم أنه لابد أن يعملوا ليل نهار على إبعاد هذا الإنسان عن هذا العمل والحيلولة بينه وبين تحقيق ما يريد، ما أصبحت القضية قضية فرد واحد، كما يقول الشاعر: فلو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث حينما يأتي واحد فرضاً إلى مسؤول أعلى منه ويقول له: إن فلاناً فعل وفعل، يمكن أن يرده؛ لكن جاء الثاني والثالث والرابع والخامس والعاشر لا يمكن أن يردهم، وحتى لو فرض أنه مقتنع بأنك على صواب وهم على خطأ سيقول نحن لسنا في حاجة لهذه المشاكل، نحن في غنىً عنها، وبالتالي يقطع الطريق على هذا الإنسان باستمرار عملية الإصلاح، والقليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع.
مثلٌ آخر: قد يوجد إنسان مسئول إداري أو قاضٍ أو غيره ربما يعرض إليه إنسان يحتاج إلى تعزير، قام بذنب يحتاج إلى عقوبة تعزيرية، الناس في بلد من البلدان تعودوا على حكمٍ ضعيف، قد يؤتى بإنسان وقع في ذنبٍ عظيم فيجلد خمس جلدات مثلاً، فأتى إنسان غيور وحريص على إيقاف الناس عند حدود الله فصار يعاقب من كان يعاقب أمس بخمس جلدات صار يعاقبه اليوم بألف جلدة ويقول: هذا حقه الذي يستحقه، ما الذي يحدث؟ قد لا يستطيع أن يستمر في هذا الطريق، ولو وزعت هذه الجلدات على مجموعة من أصحاب الجرائم، وما دام في نفسي أن أقوم بهذه الجلدات لهذا الإنسان ممكن أنني أزيد العقوبة لكن بقدر تدريجي، وكما يقال: خذ وطالب زد الجرعة، ولا يعني هذا أنك توقفت عنده، لكن حتى يتعود الناس عليها، ثم تنتقل إلى ما هو أولى وأكثر منها، والناس يمكن أن يتعودوا على الأشياء الصالحة بالتدريج كما تعودوا على الأشياء السيئة بالتدريج.
الآن كثيرٌ من المعاصي والمنكرات أصبحنا نألفها لماذا؟ لأنها تدريجياً فرضت علينا وأصبحت تنمو كما ينمو الطفل نمواً تدريجياً لا يشعر به من يراه على الدوام.
الخير يمكن أن يطبق بنفس الطريقة، وهذا الذي كان يفعله المسلمون الأوائل، لما وجد الإسلام في مكة كيف استطاع المسلمون أن يفرضوه؟ كانت هناك حرب لا هوادة فيها ضد المسلمين، لكن لما أسلم أبو ذر قام أبو ذر وصاح في ملإٍ من قريش: أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قاموا عليه وضربوه وآذوه وأدموه، المهم أنه خرج من بين أيديهم.
غداً أسلم شخص آخر وما صبر على السكوت فقام وأعلن القضية، كثرت هذه العمليات، كل يوم يقوم شخص بهذه القضية، أصبحت شيئاً فشيء تهون في نفس القرشيين، ولم يعد واحد منهم يقوم بهذا العمل، ولذلك لما أعلنها عمر بن الخطاب رضي الله كما هو في المستدرك ومسند أحمد بن حنبل وغيره بسندٍ صحيح: أنه لما أسلم عمر ذهب إلى رجل من قريش وكان هذا الرجل مشهور بإشاعة الكلام اسمه جميل بن معمر، فأخبره عمر أنه قد أسلم، فذهب هذا الرجل يجر رداءه ويمر بالناس ويقول: هل علمتم أن عمر بن الخطاب قد صبأ، وعمر وراءه يقول له: كذبت ولكنني أسلمت فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتجمع الناس على عمر وصار يضاربهم ويضاربونه، وعمر كان رجلاً جلداً قوياً في الحق يضاربهم ويضاربونه من طلوع الشمس حتى الزوال، فتعب ولما تعب أعيا وقعد، وكان الناس معرشون حوله واقفون، وهو يلتفت إليهم ويقول: يا أعداء الله اصنعوا ما بدا لكم، والله لو بلغنا ثلاثمائة رجل لنخرجنكم من مكة أو تخرجوننا منها، ثم جاء العاص بن وائل وكان حليفاً لـ عمر فوجد هذه المجموعة من الناس فقال ما هذا؟ قالوا: هذا عمر بن الخطاب أما علمت أنه قد صبأ؟ قال: فمه؟ يعني ثم ماذا؟ رجلٌ اختار لنفسه ديناً فدعوه وما اختار لنفسه.
ما كان القرشيون يقولون مثل هذا الكلام بالأمس، لكن لكثرة فرض الخير، وكثرة من يعلن إسلامه هانت القضية عليهم شيئاً فشيئاً حتى صاروا يتشدقون بما يسمونه اليوم حرية الاعتقاد.
فكما أن الشر يفرض على المسلمين بصورة تدريجية حتى يألفوه، كذلك الخير يمكن أن يفرض في المجتمع بصورة تدريجية هادئة لا تدعو إلى استفزاز الناس واستثارتهم ومواجهة الخير وحربه والقتال ضده.
بعض الدعاة في البلاد الإسلامية يخيل إليهم أنهم يملكون أحياناً من القوة ما يغيرون به الدنيا، في الوقت الذي قد تجد فيه أن الداعية لم يستطع تغيير بيته الذي يعيش فيه، لم يستطع أن يؤثر في الحي الذي يعيش فيه، لم يستطع أن يؤثر في المدرسة أو المؤسسة التي يعمل فيها، وهذه أحياناً من الأحلام التي يتعلق بها الإنسان، فالداعية لا ينبغي أن يغتر بنفسه وبقوته، ويظن أنه يستطيع أن يقلب الدنيا كلها رأساً على عقب، كلا، بل عليه ألا يتعجل الخطوات وأن يسير إلى هدفه بصورة تدريجية هادئة و (5%) مستمرة أفضل من (50%) منقطعة وهذا مما تقتضيه الحكمة.(143/13)
الانحرافات في المنهج
النقطة الثانية: أن هناك انحرافات أصبحت بارزة وبدأت تتسلل إلى نفوس بعض الشباب بأسباب معروفة، المنكرات التي عمت وطمت اليوم وانتشرت بين المسلمين؛ بسبب غياب العلم الشرعي عن كثير من البلاد الإسلامية وعن كثير من البيئات الإسلامية، جعل من الناس من يكتفي بقراءة بعض الكتب، ثم يوجد عنده هذا الحماس في قلبه للدين، فإذا نظر إلى هذا الواقع حدث عنده ردة فعل لهذا الواقع، فصار عنده غلو قد يصل إلى حد تكفير الناس، وقد وجد في عدد من البلاد من يعتبرون أنفسهم -كما يقال- جماعة المسلمين ويعتبرون أن غيرهم كفار، وأن من لا يبايع أميرهم فهو كافر، وقد رأينا بعض الطوائف من الأعاجم من يقولون: بتكفير الخلق كله إلا من كان مبايعاً لزعيمهم، وهو زعيمٌ يوجد في الهند حتى إن أحدهم قال: قل لي أنا حنبلي أقول لك أنت مشرك، وكانوا لا يصلون مع الناس جمعة ولا جماعة، بل ولا يلتفتون إلى رؤية المسلمين للهلال ولا إلى تحديدهم الوقوف بعرفة ولا إلى أعيادهم ولا غير ذلك، وأنت قد تضحك حين تسمع مثل هذه الأفكار لسذاجتها، لكن المصيبة كل المصيبة أنه في غيبة العلم.
1- أهمية اللغة العربية للأعجمي: يمكن أن يروج وينتشر كل مذهب خاصة عند من لا يكون عندهم فهم صحيح للغة العربية، ولذلك قال بعض السلف: " إن من سعادة الحدث والأعجمي إذا تمسك أن يوفق بصاحب سنة" أي: الشاب في أول هدايته عنده استعداد أن يسير في أي اتجاه، عنده حماس، عنده عاطفة، فلو ابتلي بصاحب بدعة لأشرب هذا الشاب حب البدعة وكان لسان حاله يقول: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا وكذلك الأعجمي؛ نظراً لعدم قدرته على فهم النصوص فهماً صحيحاً، أصبح ربما يقع منه أحياناً سوء فهم للنصوص، فيأخذ عمومات ويطبقها على غير وجهها، مثلاً يأخذ قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فيحكم على كل من اتبع عالماً أو قلده في مسألة من المسائل بأنه اتخذه ربّاً من دون الله وبالتالي فهو مشرك، فقهٌ أعوج وجهل بالدين، فالأمة متفقة على أن العامي مذهبه مذهب مفتيه يقلد من يثق بدينه، ومن غير المعقول أن نطلب من الناس أن يتخلوا عن بيعهم وشرائهم وتجارتهم ليتفرغوا لمعرفة العلم والأحكام والحلال والحرام بالدليل، حتى الصحابة رضي الله عنهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} .
المهم أن الأعجمي إذا لم يكن عنده فهم للغة العربية ولا فقه في الدين قد يقع في هذا الانحراف، وإنني أقولها صريحة في حدود ما أعلم: لا أعتقد أنه يعلم في هذه الجزيرة العربية بالذات غلو أو ما يسمونه بالمصطلح الصحفي اليوم "تطرف" من هذا النوع، اللهم إلا أن يكون حالات فردية نادرة إن وجدت فهي لا تستحق أن يشار إليها، لكن نحن اليوم نعرف أن العالم أصبح جزيرة واحدة كما يقال، وما يوجد في بلد قد يوجد في بلد آخر أو قد ينتقل إلى بلدٍ آخر؛ سواء بواسطة أشخاص أم كتب أم وسائل متعددة، ولذلك كان هذا التحذير، وإلا فإننا لا نعلم أن هذه الجزيرة يوجد في شبابها ودعاتها ومخلصيها شيئاً من ذلك، والفضل لله عز وجل حيث قيض لهذه الجزيرة من العلماء من يضبطون مسيرة الشباب، فكل شاب مهتد يعتبر المثل الأعلى له من الأحياء هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو الشيخ محمد بن عثيمين أو الشيخ عبد الله بن جبرين، أو فلان أو فلان، من العلماء الذين هم من علماء أهل السنة والجماعة ومن رءوس الطائفة المنصورة والفرقة الناجية فيما نحسبه والله تعالى حسبهم ولا نزكي على الله أحداً.
ولذلك سلم الشباب المسلم في هذه الجزيرة من هذا الأمر، ولكن هذا لا يمنع من التحذير؛ خاصة أننا قد نجد حتى من غير أهل هذه البلاد من يكون عنده شيء من ذلك، فقد حدثني بعض الإخوة أن هناك من الإخوة من بلادٍ أخرى من ينادون ببعض هذه الأفكار ويحاولون نشرها، وقد يبتلى بهم جاهل فيقع ضحية تضليلهم وخداعهم.
2- المنهج الفقهي: لا بد من الوضوح في المنهج الفقهي وأعني بالمنهج الفقهي: معرفة الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، معرفة الحلال والحرام، لابد من الوضوح في هذا المنهج بأن يتبع الإنسان كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة واتفقت عليه من الأحكام، أو ما قرره العلماء نتيجة الاستنباط أو القياس الصحيح أو ما شابه ذلك، وهذا الأمر الناس فيه على درجات فبالنسبة للعلماء والفقهاء المجتهدين يأخذون الأحكام من أدلتها مباشرة ولا حاجة أن يوجد بينهم وبين النص واسطة، فهم يختارون من أقوال العلماء قبلهم ما يعتقدون أن الدليل يساندهم فيه.
بالنسبة لطالب العلم الذي لا يستطيع، يمكن أن يسأل العالم عن الحكم ويسأله عن الدليل أيضاً، فيكون متبعاً على بصيرة وليس على جهل، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43-44] أما العامي الذي لا علم عنده ولا يستطيع معرفة الدليل ولا فقهه فإنه يسأل عن الحكم من يثق بدينه.
وفي مجال عملية التفقه لابد من ضبط هذه العملية لتجنب الشطط، فإن من الناس من يشتط فيه ذات اليمين أو ذات الشمال، ومن الناس مثلاً من يشتط في مسألة التعصب المذهبي، والتعصب المذهبي أمر خطير على مدار التاريخ، كم خرب من بلدان وأحدث من فتن، ولله در المنذر بن سعيد الذي كان يتبرم من هذا التعصب ويقول منتقداً على من يتعصبون لمذهب الإمام مالك وينتقدون من خالفه بمقتضى الدليل عنده يقول: عذيلي من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب ٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا أنت قرم مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك وأحد القضاة في بغداد في عصر من العصور وهو القاضي الكرخي كان يقول: كل نصٍ خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول، إذاً لا قيمة للقرآن والسنة من حيث الاستنباط لأن المهم أن تأخذ بالمذهب، وهذا اشتطاط في جانب.
هذا الاشتطاط يقابل اشتطاطاً آخر عند بعض الناس حيث يحملون على هذه المذاهب، وقد يهونون من شأنها ومن شأن أصحابها، ونحن لا نشك بأن الله عز وجل وفق هذه الأمة للاقتداء بالأئمة الأربعة لأنهم أهلٌ لذلك؛ بعلمهم وعملهم وجهادهم واجتهادهم، ولا يعني هذا أن الواحد منهم معصوم، لكن اتفاق العلماء حجة وبعض العلماء يقول: واختلافهم رحمة، لكن المهم أن الإنسان إذا اختلف هؤلاء العلماء لا يسعى إلى الخروج على اختلافهم إلى أقوال حادثة لم يقل بها أحدٌ من قبل.
3- إجلال العلماء: إن المهم تقدير هؤلاء العلماء وعدم الاشتطاط في الحط من قدرهم، أحياناً تجد شاباً ربما يكون عمر هذا الشاب خمس عشرة سنة, وربما يكون علمه بالقرآن الكريم ضعيفاً وفقهه بالسنة ضعيف، ومعرفته بالقواعد الأصولية ضعيف، ومقدرته اللغوية ضعيفة، لكنه قد يقرأ في بعض الكتب أن هذا حديثٌ صحيح وهذا حديث حسن، ثم يستنبط من هذا أحكاماً معينة، وبالتالي من وجده يخالف هذا الحكم الذي استنبطه، ربما اتهمه بأن هذا ليس على صواب، هذا يخالف الدليل، هذا يخالف الحديث، هذا لا عبرة به، اضرب بقوله عرض الحائط وما أشبه ذلك.
وفي الواقع يجب تربية الإخوة الأحباب الشباب على أنه حتى حين تتبع عالماً وتترك عالماً آخر فإنه يجب عليك أن تدرك أن هذا العالم الذي تبعته في نظرك ينبغي أن تكون كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وهو جليل القدر كان يقول: " قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب " ونحن نجد العلماء في مسائل كثيرة يرجع بعض منهم إلى قول الآخر، مثلاً ذكر العلماء أنه حصلت مناظرة بين الشافعي وبين إسحاق بن راهويه الحنظلي في مكة، حصلت مناظرة بينهما في جلود الميتة هل يطهر جلد الميتة أو لا يطهر؟ فكان إسحاق بن راهويه يقول: "لا تطهر جلود الميتة أبداً" أما الشافعي فكان يرى أن جلود الميتة تطهر بالدباغ، فقال الشافعي رحمه الله: حجتي في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها فقال: {هلا انتفعتم بإهابها؟} أي: بجلدها، فهذا دليل أنه يمكن الانتفاع بجلود الميتة وكان الإمام أحمد رحمه الله حاضراً، فقال إسحاق بن راهويه: لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبد الله بن عكيم {لا تنتفع من الميتة بإهابٍ ولا عصب} وكان هذا قبل أن يموت بشهرٍ، فأشبه أن يكون ناسخاً للأول، وبناءً على هذا الحديث فإنه لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة باعتبار أن الحديث الأول منسوخ بالحديث المتأخر، فقال الإمام الشافعي: هذا كتاب وذاك حديث مشافهة، "أي: حديث لا تنتفع من الميتة" كتاب كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله في حديثه: {أتانا كتاب رسول الله قبل أن يموت بشهر في جهينة} فقال هذا كتاب فلا يؤخذ به ويقدم عليه الرواية، قال له إسحاق بن راهويه: فقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى المقوقس وإلى غيرهم يدعوهم إلى الله عز وجل فكانت حجة عليهم، إذاً فكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على من بلغه الكتاب فسكت الشافعي رحمه الله، قال العلماء: فرجع الشافعي إلى قول إسحاق بن راهويه، ورجع إسحاق بن راهويه إلى قول الشافعي.
وهناك أمثلة عديدة طريفة لكن هذا مثال واحد، ليس قصدي الآن الحديث عن هذه المسألة الفقهية فهي مسألة جزئية، لكن أقصد أن ال(143/14)
عدم وضوح المنهج
عدم وضوح المنهج لدى كثير من الدعاة، فكثير من الدعاة يعتمدون على الحماس المجرد، وقد مر على الدعوة الإسلامية وقت غير قصير كان البارزون المتصدرون للدعوة أناس قد لا يكون لدى الواحد علماً شرعياً صحيحاً، ولا فقهاً عميقاً في الدين، لكن عنده عاطفة إسلامية وعنده حماس للدين، وهذه العاطفة والحماس أدت دورها -لا شك- في إحياء الإيمان في نفوس بعض الناس، وفي دعوتهم إلى الإسلام، وفي ردهم إلى الدين، لكن الناس لما رجعوا إلى الدين صاروا يريدون أن يعرفوا حدود ما أنزل الله إلى رسوله، يريدون أن يعرفوا تفاصيل الحلال والحرام، يريدون أن يعرفوا كل ما يتعلق بهذا الدين، فأصبحوا محتاجين إلى أن ينتقلوا من مجرد الحماس والعاطفة إلى منهج واضح مبني على أصول لا غبار عليها.
1- وضوح المنهج العقدي: لا بد من وضوح المنهج في مجال الاعتقاد بأن يكون الإنسان واضحاً في عقيدته، سواءً ما يتعلق من ذلك بتوحيد الربوبية وهو إفراد الله تبارك وتعالى بأفعاله، واعتقاد أن الله تبارك هو الخالق المالك المدبر، أو بتوحيد الألوهية وهو: توحيد الطلب والقصد وإفراده جل وعلا بأفعال العباد والتوجه بالعبادة لله تبارك وتعالى وحده، أو بتوحيد الأسماء والصفات وهو الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته، كما أخبر الله عنها في كتابه، وكما أخبر عنها رسوله صلى الله عليه وسلم دون تحريفها أو تأويلها عن معانيها الحقيقية، وفي هذا توجد أخطاء عديدة.
وبطبيعة الحال من الناس من لا يدرك هذه القضايا، فقد يكون داعية ومصلحاً في نظر الناس، لكنه لا يفهم توحيد الألوهية ولو سألته عنه لفسره بتوحيد الربوبية، ويوجد من الناس من لا يفرق بين هذه الأشياء، ويوجد من الناس من يؤول أسماء الله وصفاته، هذا كله لا شك موجود، وهو خطأ لا غبار عليه ولا شك فيه، لكن هناك أخطاء أخرى قد تلتبس عند كثير من الناس، وهي التي أريد أن أركز عليها الآن.
من هذه الأخطاء: أن من الناس من يؤمن بهذه الأشياء، أو يملك نوعاً من الوضوح في عقيدته، لكنه لا يملك الحماس لهذه العقيدة، مثلاً قد تجد داعية صنف كتاباً في العقيدة الإسلامية، تقرأ في هذا الكتاب من أوله إلى آخره تجد أن الكتاب لا غبار عليه، يتحدث عن العقيدة الإسلامية، ويعرض العقيدة بأقسامها عرضاً صحيحاً، لكن حين تنتقل إلى واقع هذا الإنسان، وحياته لا تجد أن لهذه العقيدة تأثيراً في حياته، بمعنى أنه لم يعط هذا الجانب اهتماماً كافياً، فتجد أنه يعيش بين قبوريين مثلاً، يعيش بين خرافيين، يعيش بين صوفية، يعيش بين مؤولة والوضع عنده طبيعي، ويعتبر أن التركيز على مثل هذه القضايا، هو مدعاة لإثارة الخلاف وتفرق الصفوف ولذلك لا داعي للتركيز عليه، فيقع عند الناس التباس، فلان يا أخي كتابه جيد، صحيح أن كتابه جيد لا غبار عليه، لكن المشكلة أن واقع هذا الإنسان لم يصغ على أساس أنه يوالي في هذا المعتقد السلفي الذي التزمه.
هذه نقطة وهي قضية مهمة وواقعة في كثير من الأحيان.(143/15)
الأسئلة(143/16)
الإقبال على الكتب الفكرية الثقافية وإهمال العلم
السؤال
كثير من شباب الصحوة تكون قراءتهم قراءة منصبة على القراءة الفكرية على حساب كتب العقيدة والحديث والفقه، ولذلك نجد كثيراً من الشباب متكلماً طليقاً، أما من ناحية العلم الشرعي فإن حصيلته قليلة جداً، فهل من نصيحة لهؤلاء الشباب؟
الجواب
نعم، مر وقت من الأوقات كان كثير من الناس ينطلقون من الحماس فحسب، وكانت بضاعتهم غالباً تتراوح بين الكتب الفكرية مثل كتابات حسن البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وغيرها من الكتب التي عنيت ببيان القضايا العامة في الإسلام والمناهج الكلية، وهذه الكتب أدت دوراً في وقت من الأوقات، ولا زالت تؤدي دوراً معيناً لبعض الناس، لكن الشاب الذي اهتدى وتوجه عليه أن يحرص على تكوين علم شرعي صحيح، بمعرفة حقيقية بالحديث، بالفقه، بالكتاب والسنة حتى لا تكون القضية مقصورة على مجرد الحماس، فكونه خطيباً متحدثاً هذا لا يعني أنه يتحول إلى عالم، يجب التمييز بين متحدث وبين من عنده علم، يمكن أن يكون الإنسان خطيباً مؤثراً ولا يكون فقيهاً، وقد يكون فقيهاً عالماً ولا يكون خطيباً فلابد من التفريق بين هذا وهذا.(143/17)
أساليب الدعوة
السؤال
خرج أناس ملتزمون لكنهم يقولون لا داعي للمحاضرات وللتحدث في المساجد بحجة أن هذه الطريقة لا تنفع؟
الجواب
هذه الطريقة تنفع لا شك، لكن نفع هذه الطريقة لا يعني الاستغناء عن غيرها، هذه الطريقة قد تخاطب فئة من الناس، هناك ناس لا يحضرون إلى المساجد في المحاضرات، يحتاجون إلى وسائل، والمفروض أن يعمل أهل الإسلام على إيصال صوت الحق إلى كل ناحية، الشباب المتجه إلى الخير يأتي حين يعلم أن هناك محاضرة، لكن جمهور الناس يأتي إلى الخطبة فقط، وهناك طبقة من الناس قد لا تحضر حتى للخطبة، فكلما أمكن أن نوصل صوت الحق إلى كل طبقات الناس رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، فجاراً وفاسقين وصالحين، كلما أمكن أن نوصل صوت الحق إلى كافة الطبقات كان هذا هو المتعين علينا.(143/18)
جيل الصحوة والجيل السابق
السؤال
ألا توافقني في أن هذه الصحوة جعلت هناك فجوة بين جيل الصحوة وأبناء الجيل السابق مما جعل الكبار ينالون من جيل الصحوة، وذلك في رأيي ناتج من الأسلوب الذي يتبعه جيل الصحوة وتحديد كبار السن لهذا الدين؟
الجواب
هذا السبب يعود بلا شك إلى خطأ يرتكبه بعض الشباب وهو أنهم ينسون الطريقة المناسبة لمخاطبة من أمامهم، أحياناً قد يكون الشاب عنده علم ليس عند الكبير، فتجد هذا الشاب يخاطب الكبير بهذا العلم الذي عنده، كما يخاطب أحد زملائه، وهذا لا شك من عدم الفقه، لأن من الفهم والحكمة أن تعرف من تخاطب وما هو الأسلوب الصحيح الذي تخاطبه فيه.
ولذلك يذكر أن الحسن والحسين رأيا رجلاً كبيراً يخطئ في الوضوء، فما أحبا أن يقولا له: أخطأت في الوضوء، والصفة الصحيحة كذا وكذا، فقال له أحدهما: اختلفت أنا وأخي في الوضوء ونريد أن نتوضأ لتحكم لنا، فتوضأ الأول ثم توضأ الآخر فقال: أصبتما وأخطأت أنا.
بغض النظر القصة صحيحة أم لا المهم أنه بلا شك أن هناك وسائل كثيرة جداً، يستطيع الشاب أن يوصل فيها ما يريد إلى الكبار بأسلوب مناسب، فبدلاً من أن تقول الكلام من عندك لوالدك أو للرجل الكبير وتخبره بالحكم أو الطريقة هات كتاب من تأليف العالم الجليل فلان واقرأ عليه الكلام مرة ومرتين وثلاثاً، حتى يفهم أن هذا كلام ليس من عندك ولكنك أنت قرأته في هذا الكتاب عن هذا العالم فأوصلته إليه.
فتتلطف في تعليم هذا الإنسان، فإن رأيت أنه لا يقبل منك، يمكن أن توصي إنساناً آخر يكون أكثر قدرة على مخاطبة هذا الإنسان، لأنه ليس المقصود أن تفرض شخصيتك وكلامك على هذا الإنسان، المقصود الوصول إلى الحق فإن أمكن فبها وإن أمكن عن طريق غيرك فهو كذلك.(143/19)
وسائل المنهج السليم
السؤال
ما هي الوسائل التي تجعل الشاب على منهج سليم؟
الجواب
من أعظم الوسائل: التتلمذ، أن تختار لك الشيخ الذي تطمئن إلى علمه وفهمه وفقهه، وصلاحه وعقيدته واستقامته، وكذلك اختيار الكتاب الذي تقرأه، وكذلك من أهم الوسائل: مراجعة الإنسان لسيرته بين الحين والحين ارجع إلى الوراء وفكر في أعمالك وخطواتك والأوضاع التي أنت عليها، والتصرفات التي قمت بها، اعمل تنقية من جديد حتى تستطيع أن تكتشف الخطأ بنفسك، إضافة إلى مسألة المناصحة التي مرت الإشارة إليها.(143/20)
الغاية والوسيلة واختلاف الفهم
السؤال
إنها حيرة واختلاف في الفهم، إنه يوجد بين شباب الصحوة من يتنازل عن بعض الواجبات الإسلامية فيقع أحياناً في بعض المحظورات الشرعية كتخفيفٍ اللحية أو حلقها، والرضا بالعمل والاختلاط بالنساء في بعض الشركات والمؤسسات وغير ذلك، وعندما ينبه إلى ذلك يقول: أنه لا بد من المكر والكيد مع من يكيد للإسلام ما دام الأمر أنه ليس في أيدينا حتى نصل إلى المناصب والثغرات القيادية فنؤثر ونغير الواقع، فهل هذا الفعل يجوز؟ وما معنى القاعدة التي تقول: الغاية لا تبرر الوسيلة مع التدليل على هذه القاعدة؟
الجواب
لا شك أن الغاية والوسيلة، فكما أن الغاية شريفة لابد أن تكون الوسيلة إلى هذه الغاية شريفة، وكون هناك طبقة من الشباب اليوم تجد الواحد منهم يحلق لحيته أو يخففها مثلاً ويطيل ثوبه ويتظاهر بأنه غير متمسك بالإسلام من أجل أن يصل إلى بعض الناس، فهذا نوع من التنازل غير حميد، وإذا كنت تريد أن تدعو هؤلاء الناس، فمن غير المعقول أنك ستدعوهم يوماً من الأيام إلى هذه الواجبات الشرعية وأنت مقصرٌ فيها.
إضافة إلى أننا وجدنا من يتحججون بهذه الحجة، وجدنا أنهم في الواقع ما استطاعوا أن يصلوا إلى شيء، في الوقت الذي كان الذي يتمسك بالإسلام كله جملة وتفصيلاً ولا يتنازل عن شيء منه في قضاياه وأموره الشخصية وغيرها؛ وجدنا أنهم هم الذين استطاعوا فعلاً أن يوصلوا الإسلام إلى الناس في أفعالهم وأقوالهم وشخصياتهم، فالإنسان الجاد في أمر تجده جاداً في كل أمر، جاد في تطبيق الإسلام في نفسه وفي بيته وفي مجتمعه، والإنسان الذي يكون متسامحاً ويبحث عن الرخص والمعاذير، وعن المسوغات التي يتحجج بها لترك أمر الله ورسوله تجد أنه لم يقم بشيء يذكر؛ لا في نفسه ولا في بيته ولا في مجتمعه، فحين تأتي إلى بيت هذا الإنسان تجد فيه منكرات كثيرة لم يغيرها من سنين، تجد في مدرسته أو في مجتمعه ما أحدث أي تغيير، فالقضية أحياناً مجرد مسوغ يلقي به هذا الشاب حتى يتخلص من العتاب الذي يمكن أن يوجه إليه، وهناك فرق لا شك بين هذا وبين التدرج في إنكار المنكر بضمان زوال منكرٍ قائمٍ موجود.
ويحرص على أن يكون في خلوته مع الله عز وجل في اتقاء المنكرات والصدق والإخلاص بالمنزلة، الرفيعة والداعية عليه أن يدرك أن هذه ضمانة لاستمراره، لأن الإنسان الذي تظاهر بشيء وهو على خلافه لا يمكن أن يستمر، لكن ينبغي أن نفرق أيضاً بين هذا وبين كون الداعية أحياناً يدعو إلى أمر من الأمور ويعمل على إصلاحه، وربما يكون في داخله تقصير لا يعلمه الناس، هذا التقصير لا يجوز أن يمنعه من الجهاد في الواقع، بمعنى أن الإنسان الواقع في المنكر يجب عليه أن ينكر حتى هذا المنكر الذي هو واقع فيه، والإنسان التارك للمعروف يجب أن يأمر حتى بهذا المعروف الذي تركه، وإلا غير معقول أنه نكون كما يقال: (حشفاً وسوء كيلة) ما دام أنت واقع في منكر لا تنهى عنه، ومادام أنت تارك للمعروف لا تأمر به، هذا غير معقول، بل يجب حتى على من يقع في المنكر أن ينهى عنه، ولذلك قال بعض الأصوليين: واجب على من يتعاطى الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمدِ لكن الأكمل والأمر الذي يجعل الناس يتقبلون منك هو أن تكون أنت أول الممتثلين، ولذلك كان منهج الأنبياء وهديهم كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] .
الحديث في هذه المسألة يطول كما سبق وأن أشرت إليه في أكثر من مناسبة.(143/21)
شروط الداعية
السؤال
ما هي شروط من يريد الدعوة إلى الله عز وجل في هذه الأيام؟
الجواب
شروط من يريد الدعوة إلى الله عز وجل في هذه الأيام، أولاً: أن يكون عالماً بما يدعو إليه، لئلا يدعو إلى خطأ يظنه صواباً، وهو خطأ، أو بدعة يظنها سنةً.
الأمر الثاني: أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب المناسب، بحيث يستطيع أنه يحقق بدعوته المصلحة المرجوة من خلال هذه الدعوة.(143/22)
طاعة الوالد في الكف عن الدعوة
السؤال
هل أطيع والدي إذا نهاني عن دعوة غيري إلى الله عز وجل فهو يقول لي: لا تتدخل في غيرك؟
الجواب
كلا لا تطعه، فالدعوة إلى الله عز وجل واجب، وليس من حق أبيك أو غيرك أن يلغي هذا الواجب عنك، ولكن لا يعني هذا أيضاً أن تخاطب والدك بأن تقول: سوف أعصيك وآمر شئت أم أبيت أو ما شابه ذلك، تلطف مع والدك ودم على ما أنت عليه بواجب الدعوة.(143/23)
الجهاد في الأفغان دون إذن الوالد
السؤال
هل يجوز لي الذهاب إلى أفغانستان بدون استئذان والدي؟
الجواب
لا يجوز لك الذهاب إلى أفغانستان، إلا بإذن ورضاء والديك.(143/24)
توجيه للشباب
السؤال
أرجو تقديم نصيحة للشباب الذين دخلوا عن قريب في الخير والصحوة الإسلامية ليحصلوا على بشائر هذه الصحوة ويتجنبوا محاذيرها؟
الجواب
هؤلاء الشباب وضعوا أقدامهم في بداية الطريق ونقول: هنيئاً لكم ما خصكم الله تعالى به، وما قادكم إليه من هذا الخير، ونقول لهم: إن هذه البداية تحتاج إلى أن تواصلوا السير في هذا الطريق الذي بدأتموه، إنكم أيها الشباب لا تستطيعون أن تسيروا بمفردكم إلا أن تحاولوا أن تبحثوا عن إخوة لكم تصطفونهم كأصدقاء يعينونكم على متاعب هذا الطريق.
فإن الإنسان إذا كان مفرداً قد يتخطفه الشيطان، إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش مفرداً، بل لا بد له من أصدقاء، ولذلك فعليه أن يبحث عن الأصدقاء الصالحين الذين يعينونه على هذا الطريق ويثبتونه عليه.(143/25)
الأصدقاء الصالحون والوالد المتساهل
السؤال
أنا شاب أعاشر شباباً طيبين، وأبي كثيراً ما يتكلم عليهم ويذكرهم بسوء ويستهزئ بأشكالهم، ويؤيد العلماء المبتدعين في تحليل الغناء، فماذا أقول؟ أجيبوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
عليك بوعظ والدك، وسعة البال معه وطول النفس، تلطف مع الوالد ومع ذلك ناقشه في بعض الأشياء التي يقولها، إذا تحدث عن بعض المظاهر الطيبة عند إخوانك الطيبين، ذكره بأن هذه سنن مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن حصل منه تقصير فيها فعسى الله أن يهديه ليقوم بتلافيها، وحاول أن لا تستفزه أو تستثيره بحيث أنه ربما يخرج منه كلمات تكون قاسية وشديدة، وربما تكون سبباً في خروجه من الإسلام كما يقع لبعض الشباب الذين يحاولون أن يصادموا أهاليهم أو غيرهم مما يسمعون من كلمات؛ فيكون نتيجة الصدام أنهم يجرون هذا الإنسان ويستفزونه بالوقوع في كلمات نابية وخطيرة، حاول أن تتلطف في الموقف، تتحدث بهدوء، لا تنفعل، وكذلك فيما يتعلق بالبدع التي تنقلها عنه تبين له وجه الحق فيها بقدر ما تستطيع بنفسك أو بغيرك إن استطعت.(143/26)
قلب مفعم بحب الشهادة
السؤال
أنا موظف حكومي ولدي طفل وطفلة وأنا وزوجتي نتمنى الشهادة، أنا في حيرة من أمري هل أفصل وأجعل أطفالي عند أهلها وأذهب أنا وزوجتي إلى أرض الجهاد في أفغانستان أم أبقى كما أنا، وكيف أحوز على درجة الشهادة وأنا هنا، نورني وأرشدني إلى الطريق الصحيح جزاك الله خيراً؟
الجواب
أولاً هذه فضيلة كبيرة -نسأل الله عز وجل أن يكتبها في ميزان حسناتك وحسناتها- فإن من تمنى الشهادة قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {من سأل الله الشهادة صادقاً بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} أما فيما يتعلق بمسألة أطفالكم ومسألة الذهاب إلى أفغانستان فأرى أن تبقى أنت وزوجتك وأطفالكم وأن تحرص على بناء البيت المسلم، وعلى تربية هؤلاء الأطفال لعله أن يخرج من بينهم من يجدد لنا سيرة خالد بن الوليد والقعقاع والنعمان بن مقرن وصلاح الدين وغيرهم من أبطال الإسلام، أو سير العلماء الذين جددوا لهذه الأمة أمر دينها في مجال العلم والتعليم، وإذا استطعتما أن تصلا أمر المجاهدين بوسيلة ما فعليكما بذلك.
فمثلاً دعم المجاهدين بالأمور المالية كأن تعطيهما شيئاً من راتبك أو من راتب زوجتك مثلاً، الدعاء للمجاهدين بالنصر والتمكين، محاولة الدفاع عن المجاهدين وعن قضاياهم، وتبني قضيتهم من الناحية الإعلامية، إلى غير ذلك من الوسائل الممكنة حتى المناصحة، مراسلتهم ومناصحتهم بجمع الكلمة والوحدة وتجنب المعصية، وغير ذلك من الأمور التي لا شك أن كل مجاهد بحاجة إليها.
وإذا استطعت أن تذهب بين حينٍ وآخر للجهاد لمساعدتهم فافعل فربما يرزقك الله الشهادة.(143/27)
أفضل المذاهب
السؤال
ما هو أفضل المذاهب الأربعة؟
الجواب
كلها أفضل، فالمذاهب الأربعة هي مذاهب إسلامية أئمتها متبعون، لكن الحق ليس محصوراً في مذهب من هذه المذاهب، وليس هناك واحد أفضل من الآخر بحيث نقول الشافعي أفضل من أبي حنيفة، أو مالك أفضل من أحمد، ولكن هناك مسائل الحق فيها مثلاً مع هذا المذهب، ومسائل أخرى الحق مع مذهبٍ آخر بحيث أن الحق ليس محصوراً في واحد من هذه المذاهب، ومن قال: إن الحق منحصر في مذهب من هذه المذاهب فهو مبتدع وضال وقال بقولٍ لم يسبق إليه، فالحق إن أجمع العلماء على أمر فالحق معهم لا شك، وإن اختلفوا فالحق مشاع بينهم، بمعنى أن هناك مسائل الحق فيها مع أبي حنيفة، وأخرى الحق فيها مع مالك، وأخرى الحق فيها مع الشافعي، ورابعة الحق فيها مع أحمد هذا إذا اختلفوا، وإذا اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أمر فإجماعهم حجة كما سلف.
فليس الحق محصوراً في واحد منهم دون آخر، وكل إنسان متمذهب بمذهب لا نقول له بالضرورة أن تترك مذهباً وتنتقل إلى مذهب آخر، لكن نقول له: لا تتعصب لهذا المذهب، فإذا علمت أن الحق في غير المذهب في مسألة من المسائل فيجب عليك أن تنصاع لهذا الحق ولو كان خلاف مذهبك.(143/28)
جار نصح بالصلاة فلم ينتصح
السؤال
لنا جار لا يؤدي الصلاة في المسجد، وقد نصحناه بكل الطرق، وهو يقول: إذا تزوجت سوف أصلي في المسجد؟
الجواب
عذر أقبح من فعل.
السؤال الثاني: وقد وجه لنا الدعوة للحضور في زواجه ما هو الحل مع هذا الجار، وأنا أصبحت أقاطعه لا أسلم عليه لأنني حاولت معه بكل الطرق، فهل عليَّ حرام في هذا؟ وهل ألبي الدعوة جزاك الله خيراً؟ الجواب: أنت ذكرت أنه لا يصلي في المسجد وقد نصحته ووعد أنه سوف يصلي إذا تزوج، ومعنى ذلك أن هذا الإنسان قد يصلي في البيت، فالذي أراه أن لا تقاطع هذا الإنسان، وأن تسلم عليه، وأن تحرص على الجلوس معه أحياناً، فلا زال هناك إمكانية في استجابته، والواقع فعلاً أن بعض الناس بعد أن يتزوج تتغير أوضاعه، خاصة إذا وفق بامرأة فيها خير وفيها صلاح، ولذلك فإنه لربما تكون عوناً له على نفسه لو تلطفت معه، وحاولت أن تناصحه، ولا تيأس منه، لأنه ما دام أن هجره لا يفيد فيه، وربما يكون استمرار الصلة معه يدعوه مع طول الزمن إلى الحياء، وإلى قبول ما تقول، والاستجابة لك، فأنا أرى استمرار الصلة معه مع استمرار النصيحة خيرٌ من تركه وهجره ما دام أنه لم يثبت لديك أن هذا الإنسان تارك للصلاة بالكلية.(143/29)
ترشيد الصحوة عن طريق أئمة المساجد
السؤال
تحدثت عن أهمية ترشيد هذه الصحوة، ونحن نعلم أن ترشيدها يكون بوجود الإمام في المسجد الذي يوجه هؤلاء الشباب إلى كيفية فهم الكتاب والسنة علماً وعملاً، ونحن نعاني من التقصير من خريجي الكليات الشرعية وغيرهم في عدم إعطاء الدروس في الفقه والحديث والتفسير فنرجو توجيه كلمة لنا ولهم؟
الجواب
صحيح، ولذلك من المهم على الشاب المتعلم بالعلم الشرعي، خريجي الكلية الشرعية أن يحرص على أن يؤدي دوره في هذا المجال، إمام المسجد -مثلاً- يجب أن يقوم بدروس للشباب الذين يصلون معه في المسجد، يجب أن تكون خطبة الجمعة موجهة وتكون وجبة لدعوة الناس وتوجيههم تجاه أمر من الأمور ورسم المنهج الصحيح لهم، لكن هل يتم القيام بهذا الأمر أو لا يتم؟ قد نرجع ونقول: إن المشكلة أحياناً مشكلة ندرة من يقوم بهذه الأشياء، وهذا يجعلني أؤكد مرة أخرى على ضرورة طلب العلم الشرعي لمن يجد في نفسه الكفاءة والحماس لذلك، بحيث على الأقل إن لم نحل هذه المشكلة حلاً نهائياً الآن فإننا نستطيع أن نحلها ولو بعد حين.(143/30)
الحسد بين الصالحين
السؤال
ما قولكم في الحسد بين الشباب الصالحين وكيف يكون علاجه؟
الجواب
الحسد داءٌ عظيم أمر الله تعالى بالاستعاذة منه، وهو يوجد في بعض النفوس التي فيها ضعفٌ وشر، وخاصة بين الأقران الذين قد يفوق بعضهم بعضاً من الشباب وغيرهم، أما علاجه فمن شعر بشيء من ذلك فعليه أن يقاومه بكل وسيلة، الاستعاذة بالله كما أرشد الله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1-5] كذلك محاولة دفع هذا الأمر عن نفسه بكل وسيلة، الدعوة لهذا الإنسان الذي قد يشعر بالحسد تجاهه، الثناء عليه، تشجيعه على المجالات التي هو فيها، وبالمقابل فإن هذا الإنسان إذا لم يعمل هذا الحسد أثراً في نفسه ولم يستقر في قلبه، بل دفعه بقدر ما يستطيع فإن الله تبارك وتعالى ييسر له كافة هذا الأمر، وهذا أمر مجرب في الواقع، فلا تقبل أن تكون نداً لهذا الإنسان تتكلم فيه وتحاول النيل منه بكل وسيلة، وإذا جاءت فرصة تحاول أن تهون من قدره ومن شخصيته بحيث ينمو هذا الحسد وينبت في قلبك، لا، حاول العكس أن تقاوم هذا الشعور بأن تعمل ضد ذلك، فتثني على هذا الشخص وتدعو له وتبارك خطواته، حتى ترغم نفسك على أن تستسلم لهذا الأمر الواقع، وألا تنظر إليه على أنه ند إذا سبقك خطوة حسدته على ما أتاه الله من فضله.(143/31)
الصحوة والانحراف
السؤال
بعض الشباب الذين التزموا بالكتاب والسنة قد انحرفوا لسبب أو لآخر، فكيف يوفق بين أن الصحوة انتشرت وبين انحراف بعض الشباب الطيب؟
الجواب
ليس هناك تعارض، الإسلام وجد بعد أن لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام دعا هؤلاء الناس فأخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومع ذلك وجد من بينهم عدد قليل ارتدوا على أدبارهم، مثلاً ابن جحش الذي ارتد نصرانياً في الحبشة ومات فيها، الرجال بن عنفوة الذي تبع مسيلمة الكذاب، حالات معينة حصل فيها من بعض الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإسلام في قلوبهم وجد عندهم ردة، لا يعني هذا أن الإسلام ما قام قياماً صحيحاً، بل قام الإسلام وزالت غربته وانتصر وعم الجزيرة كلها، فالصحوة الإسلامية موجودة، وهذا لا يعارض أن يوجد واحد أو اثنان أو عشرة من الشباب في بلادٍ شتى قد يحدث لهم ضعف أو تردد أو تأخر.(143/32)
حدود السنة
السؤال
يظن بعض الشباب الملتزم في بعض الأفعال التي يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم أنها سنة واردة عنه وهي ليست إلا من قبل العادات مثل لبس العمامة، وفتح أزارير الثوب حتى إني رأيت أحد الشباب يضع حذاءه تحت إبطيه ويأتي حافياً إلى المسجد فما رأيكم في هذا الأمر وما هي حدود السنة وحدود التقليد التي نستطيع أن نفرق بينها؟
الجواب
نعم، هناك أشياء ليست بسنن وإنما هي عادات فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة ولم تكن شريعة يأمر بها صلى الله عليه وسلم أو يشرعها ويسنها على الناس، فمثلاً مسألة العمامة، العمامة كانت العرب تلبسها فلبسها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يأمر بلبسها أو يحافظ عليها، بل لبسها أحياناً وخلعها أحياناً، ولذلك يتعبد الإنسان في الحج بأن يكشف رأسه ولا يغطيه، فليس لبس العمامة من قبيل السنن التي يحرص عليها.
كذلك كون الإنسان يضع حذاءه تحت إبطيه، بطبيعة الحال الرسول عليه الصلاة والسلام، قال كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين أمر من أراد أن ينتعل أن يبدأ بالرجل اليمين، وإذا أراد أن يخلع يبدأ باليسار لتكون اليمنى أولهما تنعلاً وآخرهما خلعاً، فدل هذا على أن لبس النعل من الأمور الطيبة المحمودة التي يبدأ فيها باليمين، ولكن لا يمنع أن الإنسان يمشي حافياً أحياناً إذا لم يتيسر له النعل، فقد حدث هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كون النعل في إبطيه وهو يمشي حافياً، فلا أرى أن هذا من السنة.(143/33)
مؤلفات الشيخ سلمان العودة
السؤال
هل لك شيء من المؤلفات؟
الجواب
إنما هي رسائل يسيرة منها كتاب المسلمون بين التشديد والتيسير، ومنها رسالة نداء الفطرة، ومنها تحقيق كتاب اسمه التشيع والشيعة) ألفه عالم إيراني اسمه أحمد كسروي يرد فيه على دين الشيعة رداً علمياً منطقياً عقلياً، وقد دفع مؤلف هذا الكتاب حياته ثمناً لهذا الكتاب حيث اعتدى عليه الرافضة في الشارع وأردوه قتيلاً وصادروا كتابه وحاربوه بكل وسيلة، حتى لم ينتشر، وحققت مع أحد العلماء والمشايخ، ومنها كتاب الغرباء الأولون وقد قامت مكتبة ابن الجوزي بطباعته، وهو طريقة جديدة في دراسة السيرة النبوية، وأخيراً منها كتاب حوار هادئ مع محمد الغزالي وسينزل السوق قريباً إن شاء الله.(143/34)
اسم رسالة الماجستير والدكتوراة للشيخ العودة
السؤال
ما اسم رسالة الماجستير، ورسالة الدكتوراه؟
الجواب
رسالة الماجستير عنوانها: غربة الإسلام وأحكامها في ضوء السنة المطهرة.
ورسالة الدكتوراه عنوانها: أحاديث التشبه جمع ودراسة وتحقيق.(143/35)
كتب تقرأ في العطلة
السؤال
ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها في هذه العطلة الطويلة؟
الجواب
الكتب كثيرة والإجازة ينبغي أن يستفيد الشاب منها ويستثمرها، وأقترح أن يقوم الشاب أولاً بمحاولة ولو أن يحفظ شيئاً من القرآن الكريم، وكذلك يحاول أن يقرأ كتاباً ولو مختصراً في التفسير، سواء قرأ تفسير ابن كثير أو عمدة التفسير لـ أحمد محمد شاكر، أو نحوهما من المختصرات، وكذلك يقرأ كتاباً أو أكثر في السنة النبوية وأرشح كتاب رياض الصالحين، وكذلك كتاب جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب الحنبلي، إضافة إلى أن يقرأ شرحاً لبعض الكتب المتعلقة بالأحكام التي يحتاجها مثل أحكام الطهارة أو أحكام الصلاة في كتابٍ مستقل أو في أحد الكتب المشهورة كتاب نيل الأوطار مثلاً، أو صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيرهما، وكذلك يقرأ في بعض الكتب المتعلقة في إيضاح العقيدة الصحيحة، أقل ما يمكن أن يقرأ كتاب العقيدة الواسطية، أو كتاب التوحيد أو أحد شروحه للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشروح لبعض تلاميذه وأحفاده، ممكن أن يقرأ كتاباً في الثقافة الإسلامية العامة، كذلك المرأة هناك كتب مخصصة لمعالجة قضايا المرأة، وهي كثيرة معروفة.(143/36)
المراكز الصيفية
السؤال
ما رأيكم في المراكز الصيفية؟ وهل تحثون الشباب على الالتحاق بها، وهل بها مساوئ؟
الجواب
أما المساوئ فلا أعتقد أن هناك عملاً إلا وفيه بعض المساوي قلَّتْ أو كثرت.
بالنسبة للمراكز الصيفية أرى أنها مناسبة لطبقة من الشباب، ممن ربما لو لم يشترك في هذه المراكز لضاع عليه كثير من الوقت، وكذلك من الشباب الذين لهم دور في التوجيه؛ لأن المراكز يقبل عليها عدد كبير من الشباب فيحتاجون إلى من يقوم بتوجيههم وإرشادهم، ولو لم يوجد هؤلاء الموجهون والمرشدون ربما لم يستفد من هذه المراكز، لكن هناك إنسان يقول أنا والله مشغول مثلاً بأعمال طيبة، بطلب علم، بأمور خيرية، بدعوة إلى الله عز وجل في كلٍ خير، والإنسان يمكن أن يشارك بأكثر من ميدان بحسب ما تتحمل طاقته، ليس من الضروري أن يكون كل إنسان مشتركاً مثلاً في المركز الصيفي، كما أنه ينبغي على الشباب ألا يبتعدوا عن المراكز الصيفية، من خلال مشاهدتي لعدد من المراكز في زيارتها لاحظت أن فيها خيراً، فيها أنشطة مفيدة، فيها ترفيه، فيها فرصة للتعارف بين الشباب وإيجاد صداقات طيبة، فيها موجهون صالحون، فينبغي الاستفادة من هذه المجالات.(143/37)
أهمية التواصي
السؤال
أرغب أن تبين للشباب أهمية التواصي والسؤال فيما بينهم؟
الجواب
التواصي من صفات المؤمنين الذين حكم الله عز وجل لهم بالنجاة قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] والإنسان ضعيف بنفسه قويٌ بإخوانه، ولذلك على الإنسان أن يتخذ له أخاً يصطفيه، ويكون فيما بينهم أخوة ومناصحة، كما أن عليه أن يناصح إخوانه المؤمنين عموماً فيما يرى عليهم من أخطاء، وينصحهم في الله عز وجل وهذا كان سمتاً يتحلى به السلف الصالح رضوان الله عليهم.(143/38)
الرد على المتعالين
السؤال
لقد تطفل على الإسلام كثيرٌ من الناس الذين اندسوا فيه وأصبحوا فيما بعد أعلاماً يعرف الإسلام بهم لدى الطبقات المتوسطة في معرفتهم بالإسلام، فما هي الطريقة المثلى لرد عدوان مثل هؤلاء المتعالمين بشتى أنواعهم سواءً المنحرفين في مجال العقيدة أو الفقه أو غيرها وجزاك الله خيراً؟
الجواب
المصيبة أيها الإخوة أن أجهزة الإعلام اليوم أصبحت هي التي تحدد أفكار الناس وتتحكم في عقولهم حتى في القضايا الإسلامية، فالناس بل كثيرٌ منهم أصبحت معرفتهم بالشخصيات من خلال أجهزة الإعلام فإذا رضيت أجهزة الإعلام العالمية، وفي العالم الإسلامي أيضاً عن أشخاص أو شخص أبرزته بالصورة التي تجعل الناس ينظرون إليه على أنه شخصية لها قيمتها ومكانتها، وإذا سخطت عن شخص فإنها تكتفي بأن تتجاهله حتى لا يكاد يعرفه أحد، وهذه مصيبة تؤكد على غفلة المسلمين عن أجهزة الإعلام، وأهمية أن يوجد للمسلمين مشاركة حقيقية في هذه الأجهزة وأن يوجد لهم جهود إعلامية تضمن ظهور العلماء الحقيقيين واشتهارهم ووصولهم إلى الناس في كل مكان، بحيث لا يكون الناس تحت سيطرة ورحمة هذه الأجهزة المنحرفة، التي قد تظهر الأشخاص الذين يتميزون بما يمكن أن نسميه بمرونة وبمجاراة الناس في إعطاء أحكام ميسرة فيما يزعمون، وتناسب رغبات وأمزجة ومطالب أولئك القائمين على تلك الأجهزة والوسائل، وعلى العلماء -على كل حال- أن يقوموا بدورهم في إيضاح الحق بالوسيلة التي يستطيعون، والله عز وجل يقيض للحق من يقبله مهما كان هناك ضجيج وصراخ، ووسائل الباطل كثيرة، فإن ذلك الحق له جاذبية وله قوة، والقلوب تهفو إليه وتتطلع إليه مهما كان الإنسان أحياناً يحاول أن يتهرب منه.(143/39)
الوقوع في بعض الشهوات
السؤال
أنا شاب ملتزم، والشباب المحيط بي ملتزم لكن عندما أكون في بيتنا في أهلي أسمع أغاني في التلفاز وأحرص على أن لا يعرف ذلك أحد، هل هذا نفاق؟ وهل أستتر مع محاولة معالجة تلك المشكلة؟
الجواب
أما أن هذا كونه نفاقاً فلا أعتقد أن هذا نفاق ما دمت تدرك أن هذا خطأ وتعمل على التخلص من هذه المشكلة، ولكن هذا يدل على أنك تحس أنك في خطأ، ومن الطبيعي أن الإنسان المخطئ لا يحب أن يعرف الناس خطأه، ولا يشرع له أن يشهر خطأه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} فالذي يعمل العمل بالليل ويصبح يقول فعلت كذا وفعلت كذا، ارتكب جرماً مضاعفاً، ولذلك توعده النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعافى في هذا الحديث، أما طريقة العلاج فصحبة هؤلاء الشباب أمرٌ طيب، وعليك أن تستعين بالقرآن الكريم، لأن القلب مثل الوعاء إذا ملأته بمادة طيبة أصبح غير قابل للمواد السيئة، وإذا ملأته بمادة سيئة فإنه غير قابل للأشياء الطيبة، ولذلك الإنسان الذي يتلذذ بالغناء ويكثر من سماعه ربما لا يجد لذة في القرآن الكريم، يقول الإمام ابن القيم: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلبٍ عبدٍ ليس يجتمعان وعلى الأخ أن يشغل قلبه بالقرآن الكريم ويكثر من سماعه وقراءته وترتيله وحفظه وتفسيره ويعوضه الله تبارك وتعالى عن هذه الأشياء الهابطة التي يسمعها.(143/40)
الدعاة بين التفاؤل والتشاؤم
السؤال
ينحو بعض المصلحين والدعاة منحى التفاؤل والنظر إلى إيجابيات المجتمع في الأمة، وينحو بعضٌ آخر منهم إلى إبراز المظاهر السلبية في المجتمع، وما أكثرها! وحجة الفريق الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب الفأل، وحجة الثاني أنه يجب عدم الغفلة عن الواقع، ودس الرءوس في التراب، أرجو منكم التحدث حول هذا الموضوع؟
الجواب
يقولون في المثل أنه لو وجد اثنان، ووضع أمامهم كأس فيه ماء إلى نصفه، فإن الإنسان المتفائل منهم يقول هذا الكأس نصفه ملآن، والآخر يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، وكل واحد منهم ذكر نصف الحقيقة، فنحن نقول: المتفائلون الذين يتحدثون عن مظاهر الإيجابية ذكروا نصف الحقيقة، والمتشائمون ذكروا النصف الآخر والمعتدلون هم الذين يذكرون النصفين معاً، فلا يغفل عن المظاهر السلبية انشغالاً بالحديث عن المظاهر الإيجابية، ولكن هذا الحديث له ضوابط، الحديث عن المظاهر السلبية له ضوابط: الضابط الأول: ألا تكون الشهوة في نفس الإنسان، فإن بعض الناس يكون عنده مرض في قلبه والعياذ بالله يجعله يرتاح للحديث عن السلبيات، وإذا جلس معك قال: يا أخي في مكان كذا حدث كذا، وعلى شاطئ البحر كذا، وفي السوق رأيت كذا ويبدأ يسرد لك سلسلة طويلة عريضة، وهذا ينظر بعين سوداء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: {من قال هلك الناس فهو أهلكهم} أي: من قال على سبيل التقنيط والتيئيس والمبالغات في ذكر المنكرات، وهذا أمر مشهود أن بعض الناس يكون عنده مرض في قلبه، بل إن بعضهم وإن كان يذكرها على سبيل الألم إلا أن في قلبه شيئاً من اللذة بها، خاصة إذا كانت منكرات أخلاقية.
الضابط الآخر: أن ذكر الإنسان لهذه السلبيات يجب أن لا يكون مع التيئيس والتقنيط بمعنى أنه يذكر السلبيات للعمل على إزالتها، لكن حين ينظر إلى المستقبل يجب أن ينظر بتفاؤل، يجب أن يكون عنده ثقة بوعد الله عز وجل، لأن هذا التفاؤل هو الحادي الذي يحدو الإنسان للعمل، فإن الإنسان إذا يئس وقنط لا يعمل شيئاً، لكن إذا كان عنده تفاؤل وطموح، وتطلع؛ فإن هذا يكون دافعاً له إلى أن يعمل الكثير.(143/41)
انتشار الفساد مع وجود الصحوة
السؤال
تتحدث عن الصحوة الإسلامية بأسلوب يوحي بأنها الوحيدة على الساحة، مع العلم بأن الفساد الاجتماعي والفكري والإعلامي يسير بجانب الصحوة جنباً إلى جنب كفرسي رهان، بل إنه يسبقها أحياناً في بعض المجالات، وهذا يراه رجل الشارع العادي في الأسواق والأماكن العامة، إلى أي شيء تعزون هذا الانفتاح الفاسد في المجتمع جنباً إلى جنب مع العودة الأصلية إلى دين الله عز وجل وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
صحيح أن الفساد الأخلاقي والاجتماعي والإعلامي وغيرها من ألوان المفاسد هي الأخرى موجودة، ونحن حين نتحدث عن الصحوة الإسلامية لا نعني أن الأمة أصبحت كلها تحت راية هذه الصحوة إنما طوائف من هذه الأمة، أصبحت الأمة، ممثلة في جيلٍ منها تتجه في الوقت الذي كثير من الناس يشاهدون مظاهر الفساد ولا يشاهدون في مقابله مظاهر الخير والصلاح، وهناك جزء من هذا الموضوع سأشير إليه غداً إن شاء الله في المحاضرة التي هي بعنوان (الصراع بين الحق والباطل) وهو باختصار أن الوضع الذي وجد اليوم سيسير بالمجتمعات الإسلامية إلى النهاية تقول: لا مكان لأحد في الوسط، لا يوجد مكان في الوسط، أنت الآن بين طريقين، إما أن تسلك طريق الخير والحق والاستقامة، أو طريق الفساد والانحراف، في الماضي كان معظم الناس ربما في الوسط، إذا جئت إلى مجال الخير والعلم والدعوة لا تجد إلا القليل، وكذلك إذا جئت إلى مجال الشر والفساد الخلقي والفكري قد لا تجد إلا القليل، هذا في وقتٍ مضى، الآن المجتمعات تسير إلى صورة أنها تتميز إلى مجتمع إيمان لا نفاق فيه، ومجتمع نفاق لا إيمان فيه.(143/42)
توجيه للنساء المصلحات
السؤال
لا شك أن المرأة في الوقت الحاضر لها دورٌ كبير في توجيه الصحوة الإسلامية، فما توجيه الشيخ لهؤلاء النساء وخاصة المصلحات؟
الجواب
نعم المرأة كما يقول فيها حافظ إبراهيم: الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق المرأة ربما نقول إنها حجز الزاوية في الإصلاح، لأسباب منها: أننا نجد الآن أن المرأة هي أعظم وسيلة هدم يستخدمها الأعداء، اليهود وغيرهم من المفسدين يحاولون أن يلقوا بشباكهم لاصطياد المرأة المسلمة، لأنهم يدركون أنه إذا فسدت المرأة فإن من الصعب على الرجل أن يستقيم، وبإمكانهم من خلال وقوع المرأة في أيديهم أن يفسدوا بها أجيالاً من الشباب، وهذا أمر مشاهد وملحوظ، ولذلك فالعكس بالعكس استقامة المرأة وصلاحها يؤدي إلى نتيجة إيجابية وعظيمة في قوة الصحوة الإسلامية.
دعم المرأة لزوجها وكونها تقف وراءه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قيض الله له امرأة تقول له في أول موقف يواجهه: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق} المسلمة الداعية تكون خلف زوجها تؤيده، وتسدده، وتسد غيبته.
دورها في تربية أطفالها؛ لأن الأطفال هم جيل المستقبل، ومن الخطأ أن نعتبر أن الأطفال أمر لا نتحدث عنه، الأمم الغربية أصبحت تعتني لا أقول بالأطفال، بل تعتني بالأجنة في بطون أمهاتهم، تعليم الأجنة، فما بالك بالأطفال، اليوم تجده طفلاً، وبعد سنوات أصبح رجلاً.
الأمر الثالث: دور المرأة المسلمة مع زميلاتها، سواء بالقدوة الحسنة، في شكلها، في سلوكها، في أخلاقها أو بالدعوة من خلال وسائل كثيرة معروفة، هذا كله واجب ملقى على عاتق المرأة، ولا شك أن المصلحين الآن يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً مما يدور في عالم النساء، لأننا نجد بلا شك أن الشاب لديه فرص كثيرة للتعلم من خلال المسجد والمدرسة والمركز، ووسائل كثيرة جداً؛ لكن المرأة ليس هناك نفس الوسائل، وبالمقابل هناك كيد مسخر لإفساد المرأة من خلال أجهزة ووسائل كثيرة، فهناك خطر محدق فيما يتعلق بالمرأة، والواجب على الأخوات المؤمنات واجبٌ مضاعف.(143/43)
الداعية وبيئة المنكر والرذيلة
السؤال
إلى أي حد يجوز لشباب الصحوة مخالطة بيئات المنكر؟ وهل يجوز لهم أن يبقوا في مثل هذه البيئات، حتى وإن لم يلاحظوا تغيراً يذكر؟ وهل هناك فرق بين الدعاة وبين غيرهم ممن يحاولون الالتزام بالشرع المطهر قدر الإمكان؟ وهل يجوز للمسلم مخاطبة المسلمة المتبرجة والتي تعمل معه في الشركة أمراً بالمعروف ونهياً عن منكر أرجو منكم التفصيل وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
مخالطة هذه البيئات بغرض إصلاحها أمرٌ مطلوب، لأن المصلح بطبيعة الحال لن يصلح هذه البيئات وهو من خارجها، وكون الإنسان في هذه البيئة قادراً على أن يقلص المنكر، فبدلاً من أن يكون المنكر (40%) وبسبب وجودك خفَّ مبدئياً إلى نسبة (30%) وأنت تطمع أنه خلال فترة سينقص إلى نسبة (20%) هذا عمل طيب تقوم به وبهذه الطريقة يحصل زوال المنكر، هذا جانب.
الأمر الثاني: أنك خلال وجودك لن يكون وجودك سلبياً بطبيعة الحال، فحتى المنكرات التي لم تزل أنت لم تقر هذه المنكرات أو ترض بها، وإنما أنت تنكرها بقلبك من جهة وتفكر ما هي الوسيلة لتغيير هذه المنكرات وإزالتها بالطريقة التي تحقق المصلحة من جهة أخرى.
بالنسبة للمرأة المتبرجة يجب على من رآها أن يخاطبها بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وبيان الأدلة لها في ذلك، إذا لم يخاطبها أو رأى في خطابها ما يريب فإنه يستطيع أن ينكر عليها، سواء بواسطة الهاتف أو بواسطة كتاب، أو بواسطة شريط يوصله إليها ليكون في ذلك بيان أن ما هي عليه حرام ولا يرضي الله ورسوله.(143/44)
حكم المتمسكين بالأخطاء
السؤال
من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هناك نوعية من الأشخاص يصرون على تمسكهم بالمفاهيم الخاطئة ولو حاولت معهم بجميع الوسائل وجميع الطرق، ويبقى متمسكاً بمبدئه تمسكاً كبيراً، فهل يترك أم ماذا أفعل معه؟
الجواب
لا يترك ما دام أن هذا الأمر الذي يتمسك به ليس انحرافاً يدعو إلى هجرانه وتركه ومباعدته، فالأولى أن تستمر معه وتبذل معه الوسائل الممكنة، اللهم إلا إن كنت تعتقد أن هجرانك له وتركك له قد يؤدي إلى أن يعيد النظر في هذا الأمر، فإن مسألة الهجر من المسائل الخاضعة للمصلحة، فأنت لو رأيت أن في هجرك لإنسان مدعاة إلى أن يترك ما هو عليه فاهجره في الله، لكن لو رأيت أن هجرك له قد يدعوه إلى الوقوع في منكر آخر فلا يجوز لك أن تهجره في هذه الحال.(143/45)
العلماء بين القيادة والتشنيع
السؤال
لا شك أن للعلماء فضلهم وقدرهم من التقدير، ولكن الساحة الإسلامية تحتاج إلى العلماء لكي يقوموا بتوجيه الصحوة وقيادتها وعدم تركها لأناس متحمسين، في المقابل للأسف نرى من البعض النيل من العلماء ورميهم بالتبديع والإحداث والخطأ، ثم يكيل لهم العديد من ذلك والأخذ من أعراضهم، فأرجو تقديم نصيحة إلى الشباب؟
الجواب
بالنسبة لما يتعلق بالعلماء: العلماء لهم مكانتهم وهم قادة الموكب المسلم، ولذلك فإن النيل منهم لا يجوز، والذب عنهم واجب ممن يسمع أحداً يتعرض لهؤلاء العلماء بسوء، ونقول ما ينسب إلى هؤلاء العلماء من خطأ فبعضه مكذوب والبعض الذي يمكن أن يصح منه فنقول: إن كان فيهم خطأ فغيرهم أكثر خطأً، فلماذا يركز البعض على أخطاء هؤلاء إن صح أنها أخطاء ولا أبرئ أحداً فليس أحدٌ من البشر معصوماً إلا الأنبياء، لكن أقصد أن من الناس من ينسب إليهم أموراً يعتقد أنها أخطاء وهي في الواقع ليست بأخطاء، ومنهم من يتهمهم بالتقصير وهو لا يدري ما هو الجهد الذي يقومون به.
على كل حال مسألة التقصير واردة، ولا أقول التقصير فقط، بل إنني أقول: إن القضية قضية ندرة في العلماء، الوضع الذي نعانيه الآن -أيها الشباب- هو ندرة العلماء الشرعيين، بحيث أن الحمل أصبح في عدد من العلماء يعدون على أصابع اليدين أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والحمل ثقيل، والسبب في ذلك ندرة العلماء المخلصين المتمسكين بالكتاب والسنة، وهذا يوجب علينا أن ينبري من بيننا من يعتقد في نفسه القدرة والكفاءة بتعلم العلم الشرعي والتفرغ لهذا العلم والعناية به حتى يسد هذا الفراغ ويحل مشكلة هذه الأمة ولو في المستقبل، فليس كل المشكلات تحل اليوم، ولو نجد بعد عشر سنين أو بعد خمس عشرة سنة مجموعة من الشباب تفرغوا للعلم وأصبحوا يسدون هذا الأمر ويلبون حاجة الأمة في الفتيا والتعليم وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.(143/46)
التجديد في العمل
السؤال
إن القرون الذين خلوا كانوا يضعون مجدداً في الفقه والحديث ثم ذكرت العمل، فكيف يكون التجديد في العمل؟
الجواب
أعني أن المجدد يكون في مجال معين، فمثلاً في ميدان الجهاد قد يوجد إنسان متخصص في هذا الأمر أكثر من غيره، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجد شخصاً آخر، في ميدان العلوم الشرعية تجد فيها أو في بعضها مجدداً يختلف عن غيره وهكذا.(143/47)
الإسلام قدر الله تعالى في الجزيرة
الجزيرة العربية هي مهبط الوحي وبلد النبي الخاتم ولها ميزات ميزها الله بها، ومن ذلك ما جاء في الأحاديث وما فيها من الدعوات التجديدية والعقيدة الصحيحة تجد هذا موضحاً في هذا الدرس.(144/1)
أهمية جزيرة العرب
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: أيها المسلمون والمسلمات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني: إن هذه الجزيرة المباركة التي اختصها الله تبارك وتعالى واختارها، تتعرض -منذ فجر الإسلام وإلى قيام الساعة- إلى شتى الحملات، والمؤامرات من أعداء الإسلام، على اختلاف مشاربهم ومللهم ونحلهم، ما بين مؤامرات وحروب عسكرية طالما أقضَّت مضاجع المؤمنين، وما بين حروب وحملات فكرية تحاول أن تجتاح الإسلام في هذا البلد المبارك، وأهل الإسلام وجيران بيت الله عز وجل في هذه البلاد؛ هم في حاجة إلى من يذكرهم دائماً وأبداً بالميزة الكبرى التي جعلها الله لهذا البلد والواجب العظيم الملقى على عواتقهم.
أيها الإخوة والأخوات إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، وكذلك يختار سبحانه من البقاع ما يشاء، وقد اختار الله هذه الجزيرة لتكون مكاناً للحرم الذي جعل الله أفئدة من الناس تهوي إليه، وجعله مثابة للناس وأمنا، ولتكون مكاناً للرسالات السماوية، أو لعدد من الرسالات السماوية السابقة، ولتكون مهبطاً لوحيه على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذه كلها أشياء قدرية عرفها الناس كلهم، فلو تأملت؛ لوجدت أن الله عز وجل بعث هوداً عليه الصلاة والسلام في عاد في بلاد الأحقاف، وجعل إسماعيل في مكة نشأةً وحياة ووفاةً، وجعل عدداً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأتون إلى هذه الجزيرة، ويأوون إليها بعد أن يجدوا الاضطهاد في بلاد أخرى.
فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأوي إلى هذه الجزيرة ويودع فيها ابنه وزوجه كما حكى الله عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] وهذا موسى عليه السلام يأتي إلى مدين كما حكى الله عز وجل في كتابه، ومدين -على رأي بعضهم- تعتبر داخل حدود الجزيرة العربية.(144/2)
الجزيرة مأوى المضطهدين والمشردين
إن كثيراً من أتباع الديانات السماوية السابقة كانو إذا اضطهدوا؛ لجئوا إلى هذه الجزيرة، فقد لجأ إليها اليهود بعد أن اضطهدهم الرومان، فعاشوا في اليمن وما حولها، ولجأ إليها بعض النصارى فراراً من اضطهاد القياصرة، وعاشوا في نجران وما حولها.
والبعثة المحمدية حيث تنزّل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اختار الله له هذه الجزيرة، وكما أن هذه الرسالة هي خاتمة الرسالات؛ فقد اختار الله لها بلداً جعله عاصمة الإسلام إلى قيام الساعة.(144/3)
حركة التجديد في الجزيرة
هذا الأمر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر ممتد في الماضي والحاضر والمستقبل؛ وليس أمراً مضى وانتهى، وكما أن هذه الجزيرة شهدت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فبالأمس القريب شهدت تجديداً أو شهدت آخر حلقة من حلقات التجديد في هذا الدين على يد الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والذي أحيا ما اندرس من شأن الدين؛ لا أقول في هذه الجزيرة بل في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.
وكانت حركته ودعوته تنبثق من هذه الجزيرة المباركة، فجدد الله به شأن الإسلام، وأحيا به العقيدة السلفية الصحيحة، وحطم به رؤوس الطواغيت والأوثان، التي كان الناس يعبدونها من دون الله، يعبدونها بالسجود لها، أو بإعطائها الدينونة والحاكمية من دون الله تعالى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل الذي تتحطم على يديه أسطورة المسيح الدجال في آخر الزمان هو من هذه الجزيرة.
ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المسيح الدجال، وأنه لا يدخل مكة ولا المدينة، فيقف على أنقاب المدينة فيخرج إليه كل منافق ومنافقة، ويقيض الله له رجلاً مؤمناً هو خير أهل الأرض يومئذٍ أو من خير أهل الأرض يومئذٍ، فيخرج إليه ويقول على ملأ من الناس بعد أن يتخطى جموع هؤلاء الحراس والسدنة والجنود الذين أجلب بهم المسيح الدجال، فيقول: أشهد أنك المسيح الدجال الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فيبهت الدجال، ويهتز موقفه فيقول للناس: أرأيتم إن قتلته ومشيت بين قطعتين! تشهدون أني أنا الله! فيقطعه، ويمشى بين قطعتين من جسده، فيبعثه الله عز وجل مرة أخرى ويقول: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، أشهد أنك المسيح الدجال يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فهذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين} وهذا الموقف العظيم الصحيح الثابت برواية البخاري ومسلم هو إيماء وإشارة إلى أن كل فتنة عمياء صماء تجتاح بلاد الإسلام؛ تتحطم على صخرة هذه الجزيرة.
وإذا كانت فتنة المسيح الدجال هي أعظم فتنة من لدن نوح إلى قيام الساعة؛ فإن كل فتنة أهون منها وكل فتنة تجتاح المسلمين ستتحطم-وهذا أمر يؤمن به كل مسلم- على أيدي أبناء هذه الجزيرة كما تحطمت فتنة المسيح الدجال على يد هذا المؤمن الموحد الذي هو أعظم الناس إيماناً أو من أعظم الناس إيماناً.(144/4)
من خصوصيات هذه الجزيرة
ولذلك اختصها بأحكام ليست لغيرها، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وهذه الكلمة هي من الوصايا الخالدة التي رددها النبي عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت، أوصاهم بثلاث منها: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} .
وفي الحديث الآخر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} والحديث رواه مالك وأحمد.
وعن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} والحديث رواه مسلم، إذاً نحن أمام نصوص تحرم على غير المسلمين البقاء والسكنى في هذه الجزيرة، سواء كانوا مشركين، أم يهوداً، أم نصارى، وتجعل السكنى في هذه الجزيرة الطيبة المباركة وقفاً على من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فأما من لم يشهد بالشهادة الحق؛ فإنه يحرم عليه البقاء في هذه الجزيرة، ويحرم علينا نحن المسلمين أن نمكنه من البقاء والسكنى في هذه الجزيرة، فلا يجوز أن يوجد فيها إلا كيان واحد، وهو: كيان الإسلام.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: أنه لا يزال في هذه الجزيرة أمة تدعو إلى الحق، وتؤمن به، وتنافح عنه، حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه: {إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم} .
وهذه خصيصة كبرى؛ أن المؤمنين الموحدين الذين يترددون على المساجد، ويعفرون جباههم لله تعالى، قد يئس منهم الشيطان أن يعبدوه في هذه الجزيرة، ورضي منهم بما دون ذلك وهو التحريش فيما بينهم.
وبين صلى الله عليه وسلم أنه حين تضيق الدنيا بالإسلام ويحارب في مشارق الأرض ومغاربها فإنه يأوي إلى هذه الجزيرة، كما أوى الرسل السابقون إليها بعد أن اضطهدوا فقال عليه الصلاة والسلام: {إن الدين يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} جاء هذا في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، وهو مقيد في أحد الحديثين في حال الغربة: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، وإنه ليأرز بين المسجدين} .
إذاً: حين يضطهد الإسلام في فجاج الدنيا كلها؛ فإنه يجد متنفسه في هذه الجزيرة.
هذه القضايا الشرعية الثابتة تاريخاً والثابتة شرعاً في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يجب أن نقف عندها في هذه الجلسة القصيرة وقفات سريعة.(144/5)
خصائص الجزيرة وميزاتها
أيها المسلمون: وحين ننظر في واقع هذه الجزيرة اليوم؛ نجد أن الله تعالى اختصها من بين بلاد العالم الإسلامي بميزات وخصائص لا بد من الإشادة بها.
فمن أعظم هذه الخصائص:(144/6)
عقيدة التوحيد الصافية
إن عقيدة التوحيد الصافية هي: التي ما زالت تهيمن على هذه الجزيرة وهي أثر من آثار دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فما زال الناس -حتى عوامهم- يملكون الإحساس الصحيح في العقيدة، ويملكون الكراهية لكل ما يناقض هذه العقيدة، أو يكدر صفاءها، وما زالت هذه الجزيرة وفيةً لعقيدة التوحيد، فلا مكان فيها للباطنية المنحرفة التي تؤله البشر من دون الله، ولا مكان فيها للصوفية الغالية، ولا مكان فيها لأي نِحْلةٍ أو مبدأ مناقض للعقيدة الصحيحة، ومن باب الأولى أنك لا تجد في هذه الجزيرة ولاءً للمعتزلة -مثلاً- ولا للأشاعرة ولا لغيرهم من العقائد التي خرجت عن منهج أهل السنة والجماعة.
وهذه ميزة من جهة، ولكن يجب أن لا تكون مخدراً لنا من جهة أخرى؛ فالغزو والتآمر مازال على هذه الجزيرة، والشيطان يحاول أن يُضل الناس بعبادة غير الله، من الدرهم والدينار والدنيا، وبغير ذلك من ألوان العبادات التي يحاول أن يدخلها إلى قلوب المسلمين في كل مكان.(144/7)
السلوك الاجتماعي
الميزة الثانية التي اختص الله بها هذه الجزيرة هي: السلوك الاجتماعي الذي ما زال وفياً للإسلام، ولو في بعض جوانبه؛ فإن هذه الجزيرة هي البلد الوحيد الذي لا زِلَتَ تجد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له كيان رسمي، مهما يكن فيه من الضعف، ومهما يكن في حاجة إلى الدعم فإنه لا زال موجوداً وقائماً.
وكذلك تجد كثيراً من الأشياء، ومن التعليمات الإسلامية في شأن الأمور الاجتماعية، في شأن المرأة، وتحريم الاختلاط ووجوب الحجاب وتحريم الخلوة، لا زالت موجودة إلى حد كبير في هذه البلاد، والمرأة اليوم التي تكشف وجهها من نساء هذا المجتمع؛ تجد أنها تتلفت يمنة ويسرة كما يتلفت السارق، وتجد أن كثيراً من الناس يمقتونها ويزدرون ما جاءت به، حتى في أوساط النساء المؤمنات.
فهذا السلوك الاجتماعي الوفي للإسلام في عدد من جوانبه هو ميزة لا تكاد توجد إلا في هذه الجزيرة.(144/8)
الحركة العلمية
الميزة الثالثة هي: الحركة العلمية.
فإننا نجد أن كثيراً من علمائنا هم ممن تفتخر بهم هذه البلاد، وأن آراء العلماء في هذه البلاد وأقوالهم وبحوثهم، تجد أصداءها في العالم الإسلامي، وتؤثر في شباب المسلمين وفي الدعوات الإسلامية، وفي المجامع العلمية في كل مكان، فرأي هؤلاء العلماء هو المعتبر، وهو المقدم، إضافة إلى أننا نجد بادرة مهمة، وهي بادرة الاجتهاد الجماعي، الممثل -مثلاً- في المجامع الفقهية في هيئة كبار العلماء وغيرها من الجهات الموثوقة التي ينتظر المسلمون رأيها في كل ما يعرض لهم من مشكلات في شئون دينهم ودنياهم.(144/9)
الصحوة المتميزة
الميزة الرابعة في هذه الجزيرة هي: هذه الصحوة الإسلامية التي عمت أصقاعها، وقد يقول قائل: إن الصحوة الإسلامية موجودة في كل مكان؟ وهذا صحيح لكن المتأمل يجد أن الصحوة الإسلامية في هذا البلد تتميز أيضاً عن غيرها من الصحوة في كثير من البلاد بأشياء كثيرة.(144/10)
مميزات الصحوة في الجزيرة
منها: أن هذه الصحوة استفادت من الميزات الموجودة في مجتمع هذا البلد، في صفاء العقيدة، وعدم الاختلاف في المنهج، وفي السلوك المستقيم البعيد عن التميع أو الانحراف، في التوجه العلمي؛ فإنك تجد شباب هذه البلاد الذين اهتدوا يتجهون إلى تحصيل العلم، ومعرفة حدود ما أنزل الله، والتتلمذ على العلماء، وحفظ النصوص الشرعية، وفهمها، والعمل بها، والدعوة إليها.
فهذه الحركة العلمية الشبابية موجودة في المساجد والمدارس والجامعات، وهي نبتة نرجو أن تؤتي أكلها كل حين، وثمارها في القريب العاجل فهذه ميزة لهذه الصحوة لا تغفل.(144/11)
عمومها للنساء والرجال
الميزة الرابعة لهذه الصحوة هي: أنها تُسير بجناحيها -الرجل والمرأة- فإننا نجد أن الصحوة الإسلامية ليست حكراً على الرجال؛ بل في أوساط النساء في هذه البلاد، وفي كل بلد صحوة إسلامية عارمة وقوية، وهي تقارع الدعوات التي تدعوا إلى تحرير المرأة وإخراجها من بيتها، ومن دينها، أو من كرامتها وعفافها، ونجد أن المرأة المسلمة اليوم هي التي تحارب بما يسمى تحرير المرأة، في حين أنه في بلاد أخرى كانت المرأة هي التي ترفع هذه الراية، والرجل هو الذي يحاربها.
أما في هذه البلاد فإن الذين يرفعون راية تحرير المرأة في غالب الأحيان هم من الرجال، أما الذين يحاربونها فهم أيضاً من الرجال، ولكننا نجد كثيراً من المسلمات يدركن خطر هذه الدعوة ويقمن بالتصدي لها عبر وسائل عديدة.
وهذه الظاهرة تستحق الإشادة والذكر في هذا الموقع.
تلك أربع ميزات تميزت بها هذه الجزيرة ثم هذه أربع ميزات تميزت بها هذه الصحوة الإسلامية في هذه الجزيرة، وهذا كله يؤكد أن المستقبل في هذه الجزيرة هو للإسلام، وأن كل حركة أو دعوة تحارب الإسلام في كل مكان وفي هذه الجزيرة خاصة فإن مآلها إلى الهزيمة والانهيار، وأن هذه الجزيرة للإسلام سابقاً وحاضراً ومستقبلاً، ولكن هذا الكلام لا يجوز أن يكون دعوى؛ بل لا بد أن نصدق قولنا بالفعال.(144/12)
السلامة من الغلو والتطرف
الميزة الثالثة هي: أن هذه الصحوة سلمت مما وقعت فيه التوجهات الإسلامية في كثير من البلاد مما يسمونه (بالتطرف) وأريد أن أنبه إلى أن التطرف اسم يطلق ويراد به أكثر من معنى فكثير من الناس اليوم ممن يصطادون في الماء العكر، ويحاولون أن يشوهوا وجه الإسلام يرمون الإسلام بالتطرف، فإذا وجدوا إنساناً متمسكاً بالإسلام حقيقة وسموه بالتطرف، فمن يقصر ثوبه -مثلاً- فهو في مقياسهم متطرف، ومن يعفي لحيته فهو في مقياسهم متطرف، ومن يستعمل السواك فهو في مقياسهم متطرف، ومن يحرص على الالتزام بالسنن الإسلامية فهو في مقياسهم ومعيارهم متطرف، وهؤلاء لا عبرة بهم، فهم ممن يسمون الأمور بغير أسمائها الشرعية، وهؤلاء على النقيض قد يسمون الهوى المحرم حباً وغراماً، وقد يسمون الخمر مشروبات روحية.
فالأسماء عندهم والمقاييس مختلة فلا عبرة بهم وإنما أعني بالتطرف: أن يأخذ الإنسان طرفاً بعيداً عن الاعتدال في الإسلام، وهو ما يعرف في الاصطلاح الإسلامي الصحيح بالغلو، والغلو وجد في أكثر من بلد إسلامي، ولنسأل: ما هو السر في هذا الغلو الذي وجد، والذي ربما سلك مسالك العنف في تغيير الواقع المخالف للإسلام؟ لو تأملنا سبب ظهور هذا التطرف في البلاد الإسلامية، لوجدنا أنه يعود: أولاً: إلى لجهل بالإسلام، والمسئول عن الجهل بالإسلام في تلك البلاد هي المؤسسات التعليمية من وسائل إعلامهم، ومدارسهم، وجامعاتهم التي تنكرت للعلم الشرعي، وأصبحت تدرس سائر العلوم إلا الإسلام، فصار الشاب حين يعرف الإسلام؛ يجد أن الجو من حوله لا يعلمه الدين ولا يعرف الشاب من أمور الإسلام إلا أقل القليل.
أما في بلادنا والحمد لله فإن الشاب -كما أشرت- يجد العلم الإسلامي الصحيح في المساجد، والمدارس، والجامعات، وفي وسائل كثيرة، ولذلك فإن كل إنسان يجد أن من السهل عليه أن يتبصر بدينه، ويعرف الطريق الصحيح فيسلم بذلك من التوجه نحو التطرف والانحراف.
السبب الثاني الذي جعل بعض البلاد الإسلامية تشهد حركة من حركات التطرف هو: أن كثيراً من الشباب المسلم في تلك البلاد إذا أرادوا أن يدعوا إلى الله عز وجل، أو يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أو يقوموا بما يجب عليهم ديناً وشرعاً وجدوا أن القنوات والطرق أمامهم مسدودة، ووجدوا أنه في الوقت الذي يمرح ويسرح فيه العلمانيون والشيوعيون وغيرهم من حملة المبادئ الأرضية، والأفكار الهدامة، ويلعبون بشباب هذه الأمة وبناتها، وجدوا أن الطريق أمامهم مسدود، والقنوات الشرعية مغلقة، ففكروا أنه لا بد أن يبحثوا عن طريق، وحينئذٍ السيل إذا أغلقت أمامه الأبواب، فإنه يتجه نحو العمران فيهدمه، أي: إذا أغلق أمام السيل الطريق الذي يمكن أن يكون نافعاً للري والزراعة وغيرها، فإنه يتجه نحو العمران فيهدمه ويغرق كل ما فيه بما في ذلك الناس.
وكذلك هذا التوجه الإسلامي الذي وجد في أكثر من بلد؛ لما وجد أن الطرق الشرعية أمامه مغلقة، اتجه نحو الطرق الأخرى غير الشرعية، أما في هذه البلاد فإن الدعاة إلى الله عز وجل، والعلماء، والمشايخ، وطلاب العلم لا يزالون بحمد الله يجدون أمامهم وسائل كثيرة للدعوة إلى الله عز وجل، ونشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا وذاك فإن هذه البلاد وهذه الصحوة الإسلامية سلمت من هذا التطرف الذي وقعت فيه بعض الفئات من الشباب المسلم في بلاد أخرى، وهذه نعمة كبرى.
ولذلك فإنني أقول: إن الصحوة الإسلامية في هذا البلد خلت وسلمت من هذا الغلو بفضل الله تعالى ثم بفضل ما يتمتع به هذا المجتمع من وسائل وإمكانيات للدعوة إلى الله بالطريقة الشرعية الممكنة.(144/13)
السبق
وهناك ميزة أخرى لهذه الصحوة المباركة في هذه الجزيرة وهي: ميزة السبق فإن الصحوة الإسلامية في كثير من البلاد الإسلامية، جاءت بعد أن غزت تلك المجتمعات موجات الانحلال، والإلحاد، والانحراف، والفكر الكافر، فاستيقظ المسلمون على طلقات أولئك الغازين، وبدءوا يعودون إلى دينهم، أما في هذه البلاد فإن التوجه إلى الإسلام لم يكن نتيجة للانحراف والغزو المعادي؛ بل إن هذه البلاد عرفت الاتجاه للإسلام والإقبال عليه والدعوة إلى مبادئه منذ القديم، ولم يحصل منذ قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته إلى اليوم أن عاشت هذه البلاد جاهلية كما عاشت غيرها من البلاد.
فالصحوة الإسلامية في هذه البلاد هي امتداد لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وليست أثراً أو ردة فعل للانحراف الموجود.
فالصحوة الإسلامية في هذه البلاد سبقت الانحراف، ولذلك فهي تقارع وتصارع موجات الانحراف، سواء أكان انحرافاً أخلاقياً متمثلاً في التحلل والتقليد، أم كان انحرافاً فكرياً يتمثل في مذاهب، ومدارس، ونظريات فكرية، وأدبية، وفنية تحاول أن تقتحم على أهل هذه البلاد دينهم وإسلامهم، وتخرجهم من هذه النعمة التي اختصهم الله تبارك وتعالى بها، فهذه ميزة أخرى لهذه الصحوة المباركة!(144/14)
دعوة لأهل الجزيرة
ولذلك فإنني أدعو نفسي وإخواني من أهل الإسلام في هذه الجزيرة إلى أمور عدة:(144/15)
العمل لتحقيق وعود الله
أولاً: لابد أن ندرك أن قدر الله عز وجل بنصر دينه يتحقق من خلال جهود الناس أنفسهم، وأن قدر الله بنصر الإسلام يتحقق من خلال جهودنا نحن، ولذلك فإن علينا أن نكون جنوداً لهذا الدين، نحارب دونه حتى يحقق الله بنا ما وعد رسوله صلى الله عليه وسلم من نصر الإسلام في هذه الجزيرة، فقدر الله يتحقق من خلال جهادنا نحن، وكل امرئ منا يجب أن يكون مجاهداً ضد الأفكار الهدامة المعادية للإسلام وضد حركات التحلل الاجتماعية التي تجتاح العالم الإسلامي اليوم.(144/16)
تطهير الجزيرة من الكفر وما شاكله
ثانياً: أن هذه الجزيرة التي اختصها الله عز وجل بالإسلام، يجب أن نطهرها من غير المسلمين، ونحن نجد اليوم كثيراً من المسلمين يحضرون إلى هذه البلاد أناساً ممن لا يدينون بدين الإسلام، سواء أكانوا على شكل خبراء أم عمال أم سائقين، أم خدم، أم أي شيء آخر، فيقيمون في هذه الجزيرة، ويلوثون صفاءها ويكدرون نقاءها، وربما حاولوا أن يجدوا لهم موطأ قدم في هذه البلاد.
فالواجب علينا أن نحمي هذه البلاد من أمثال هؤلاء، وأن نتخذ الحنفاء المسلمين، وهذا المنطلق يدعمه ويؤيده جوانب أخرى، فإن استقدام المسلمين فيه نفع للمسلمين في كل مكان.
فأنت إذا استقدمت عدداً كبيراً من المسلمين؛ تكون قد ساهمت في نفعهم، وإعالة أولادهم وذرياتهم ودعم اقتصادهم، وإذا استقدمت نصارى أو بوذيين أو غيرهم من الألوان والطوائف؛ فتكون أعنتهم حينئذٍ على المسلمين.
ثالثاً: أن هناك كثيراً من الحركات تحاول أن تقتحم هذه الجزيرة، بما في ذلك الحركات الباطنية المتمثلة في الرافضة التي تحاول أن تكدر صفاء هذه البلاد الطاهرة وهذا البيت العتيق، وهم يؤمنون بما جاء في كتبهم المقدسة من أن إمامهم الغائب سوف يقتل الحجاج بين الركن والمقام، وبين الصفا والمروة، ويؤمنون بأن شيوخ ضلالتهم في هذا العصر هم النواب، والأوفياء الذين يقومون بالمهمات والصلاحيات المسندة إلى ذلك الإمام الغائب المعدوم، فسيحاولون أن يقوموا بما أسند إلى ذلك الإمام ويحققوا ما تنبأت به كتبهم المقدسة في زعمهم.
وهناك حركات أخرى فكرية تحاول أن تجتاح هذه البلاد باسم: التحديث والتجديد في الأدب، والشعر، والفكر، والمضمون، والشكل وغير ذلك، وتحاول أن تربي شباب هذه البلاد وفتياتها على الاقتداء بالفكر الغربي الذي نشأ في بلاد لم تعرف للدين طعماً، ولم تتذوق طعم الإسلام، ولم تعرف اللغة العربية، فهؤلاء الذين تنكروا لعروبتهم وإسلامهم وبلادهم، وتتلمذوا على أفكار وموائد غربية -أيضاً- لا مكان لهم في هذه البلاد.
وأي نحلة أو مبدأ يحاول أن يجد له موطأ قدم في هذه البلاد فمآله إلى الخسران، وهذا يُوجد لدى كل داعٍ إلى الإسلام الحماس والرغبة والقوة في مجاهدة هؤلاء وأولئك، ومعرفة أن النصر والعاقبة للمؤمنين، فلا يأس، فـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] .(144/17)
الدفاع عن هذه الجزيرة
أيها الإخوة والأخوات هذه البلاد التي اختارها الله -أولاً وأخيراً- لدينه، والتي شرفنا الله عز وجل بأن نكون من أهلها، ومن جيران بيته العتيق وحرمه الآمن، يجب أن يكون كل فرد منا جندياً على ثغراتها، يدافع عنها ضد كل كيد ظاهر أو مستتر، وأن نركن إلى هذه الأشياء التي أخبر بها الشرع، فإن هذه الأمور كما ذكرت هي حق وصدق بلا شك، ولكنها إنما تتحقق من خلال جهود الناس أنفسهم -من خلال جهودنا نحن- فيجب أن يكون كل امرئ منا جندياً مدافعاً عن حرمات الإسلام في هذه البلاد، وإلا فقد يعاقبنا الله عز وجل بأن يسلط علينا بعض أعدائنا لفترة من الزمن حتى نؤوب إليه ونصدق معه.
أيها الإخوة: هذه لمحات حول هذا الموضوع المهم، وأسأل الله عز وجل أن يحمي حرمه وبلاده، وأن يحمي الإسلام والمسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن يحمي هذا المجتمع الآمن الطاهر من الأفكار الملوثة التي تريد أن تتسلل إليه، ومن الحركات الانحلالية التي تحاول أن تقتحمه، وأسأل الله عز وجل أن يجعل شباب هذه البلاد -ذكوراً وإناثاً- جنوداً مجاهدين يحمون هذا الدين، وتتحطم أمام جهادهم مؤامرات الأعداء الظاهرين والمستترين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(144/18)
الأسئلة
.(144/19)
واجب المسلمين نحو المسلمين الأجانب
السؤال
ما هو دوري كمسلم في هذه البلاد تجاه المسلمين الموجودين في هذه البلاد وهم من خارجها؟
الجواب
أولاً: دورك مسلماً وليس كمسلم، فأنت مسلم -فعلاً ولله الحمد- والكاف هذه التي في السؤال (دوري كمسلم) يقولون: إنها غير فصيحة، أما دورك تجاه المسلمين في هذه البلاد، وتجاه زملائك، فهو الدعوة إلى الله عز وجل، وتعليمهم العقيدة الصحيحة، ومساعدتهم فيما يحتاجون إليه، وأقول: بصفة خاصة فيما يتعلق بالشباب الذين يأتون إلى هذه البلاد للدراسة -مثلاً- وهم موجودون ربما في كل بلد من بلادنا، هؤلاء الشباب لهم حق في عنق كل إنسان منا، لأنهم بحاجة أولاً إلى التوعية الإسلامية الصحيحة.
وأقول: لو كان هؤلاء الشباب الذين يقدمون إلينا من أنحاء العالم، في طهران أو قم في جامعاتهم المخصصة لاستقبال الوفود من أنحاء العالم الإسلامي؛ لوضعوا برامج ثقافية مكثفة لغسيل أدمغة هؤلاء الشباب وتحويلهم من مسلمين سنة إلى رافضة، ويبذلون في سبيل ذلك الجهود الجبارة، وإذا وجدوا من أي شاب نوعاً من التوقف فإنهم يلغون منحته ويعيدونه إلى بلاده فوراً، ولذلك رجع كثير من هؤلاء الشباب حتى في البلاد العربية دعاة إلى هذا الدين المنحرف الزائغ الممسوخ.
ونحن اليوم نجد بين ظهرانينا كثيراً من الشباب المسلمين، وكثير منهم متطلعون يريدون العقيدة الصحيحة، ويريدون أن يعرفوا الأحكام الشرعية، ويريدون منا مساعدتهم؛ فتجدنا نبخل عليهم بهذه الأشياء، وهذه مشكلة يجب أن ينظر فيها المسئولون عن التعليم، وأهلُ العلم في محاولة تقديم التوجيه، وأيضاً المساعدة المادية لهؤلاء الشباب.
وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(144/20)
الإساءة إلى الجزيرة من أبنائها في الخارج
السؤال
كثير من أبناء هذه الجزيرة يسيء إليها حين يسافر إلى خارجها، فما هو تعليقكم على ذلك؟
الجواب
هذا صحيح والغريب أيضاً أن مجلات أولئك القوم وصحفهم تفرح حين تكتشف فضيحة -مثلاً- على أحد أبناء هذه الجزيرة! فيصورونهم في أوضاع سيئة، وينشرونهم رغبة في التشهير ليس بهؤلاء الأفراد فقط بل بالجزيرة كلها، وهذا الأمر الذي يشير إليه السائل واقع؛ لكن ما الحيلة وقد اتسع الخرق، وأصبح كثير من الناس يجدون من التحريض على السفر إلى الخارج، وقضاء إجازاتهم في المتعة هناك أضعاف أضعاف ما يجدون من التحريض على الزواج المشروع؟ لا؛ بل أقول: يجدون التحريض على السفر وتسهيل هذا الأمر بكافة الوسائل؛ في الوقت الذي يجدون فيه الحث على تأخير الزواج ووضع العقبات والعراقيل المادية والاجتماعية والنفسية أمام الزواج.(144/21)
الأوضاع الاجتماعية
السؤال
طرحتم في المحاضرة الماضية كثيراً من المشاكل والأوضاع الاجتماعية، ولكن خرجنا بدون حل، فهل يمكن أن تحددوا وقتاً لطرح حلول لمثل هذه القضايا المهمة؟
الجواب
أما الحلول فإنني أعتقد أني أشرت إلى حلول إجمالية، أما الحلول التفصيلية كأن يعيش إنسان مشكلة معينة، فالصحيح أن حل مثل هذه المشكلة يتطلب وقتاً طويلاً، فإذا تصورنا-مثلاً- إنساناً يعيش مشكلة في البيت، عمرها سنوات، ولها أطراف عديدة، وأبعاد خفية، فالذي يريد أن يشخص هذه المشكلة ويوضحها يتطلب وقتاً طويلاً، فكيف بالذي يريد أن يحل هذه المشكلة! إنما كان المقصود: الإشارة إلى بعض المشكلات الأساسية، والإشارة إلى بعض الحلول العامة وبعض التصورات عنها، أما استقصاء الحلول فلم يكن من هدفي في محاضرة الأمس أن أستقصي ذلك.(144/22)
التجديد في أسلوب الدعوة
السؤال
هناك مقالة تنتشر على ألسنة بعض الشباب وهي: أسلوب الدعوة للإسلام قابل للاجتهاد، وترك طريقة الأنبياء في الدعوة لتغير الزمن، فما ردكم على ذلك؟
الجواب
أما طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عز وجل فهي الطريقة التي يجب أن يسير عليها كل مسلم بلا شك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فكل من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يدعو على بصيرة كما كان يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: البداءة بالعقيدة، وعدم التنازل في شيء من أمور الدين، والوضوح في الدعوة إلى الله عز وجل والأصول العامة والمنطلقات، لا تتغير بين وقت ووقت لكن؛ قد توجد وسائل جديدة وتستخدم ولا بأس بذلك.
فمثلاً: وسائل الكتابة، لم تكن الكتب موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكن لما خاف المسلمون من ضياع السنة النبوية صنفوا المدونات في السنة، ولما وجدت البدع صنفوا في الرد عليها، فأجمع العلماء بعد ذلك على جواز كتابة الحديث والسنة بعد أن كانوا مختلفين في ذلك قبل.
وهكذا كلما وجدت وسائل جديدة مناسبة جاز استعمالها بشرط أن لا تكون هذه الوسيلة محرمة، فمن يستخدم وسيلة محرمة مثل الغناء في الدعوة إلى الله؛ كمن يتراقصون ويتغنون تعبداً وتديناً كما تفعله الصوفية فمثل هذا الأسلوب محرم، فكيف يكون وسيلة للدعوة؟ لكن لو وجد أسلوب مباح، كأسلوب المحاضرة، أو الكتابة، أو الجمعيات الخيرية، أو المراكز الصيفية أو المدارس، فهذه الأساليب لا شيء فيها وربما يسأل السائل عن وسائل أخرى مثل -مثلاً- الأناشيد الإسلامية، فأقول: فيما يظهر لي أن الأناشيد الإسلامية إذا كانت معانيها صحيحة وليست مصحوبة بشيء من الموسيقى أو الطبل، وليس فيها تغنج أو تكسر أو تقليد لألحان غنائية معروفة، فإن هذه الأناشيد لا بأس بها؛ لأنه لا يقصد من ورائها التعبد، فليس الذي يسمع النشيد أو ينشد يتعبد لله عز وجل بذلك، إنما هذا أسلوب أو طريقة عادية، وإنما الشعر كما قالت عائشة [[حسنه حسن وقبيحه قبيح]] ولكن لا يجب أن تغلب على حياة الإنسان وأن تصبح ديدنه في غدوه ورواحه.(144/23)
التقصير في الدعوة إلى الله
السؤال
كثير من شباب هذه الجزيرة عندما تقول له: لماذا لا تدعو إلى الله؟ يقول لك: نحن بخير ونعمة، فنحن نصلي ونصوم، فما هو الرد على مثل هذا؟
الجواب
الصلاة والصوم -لا شك- من أركان الإسلام، والدعوة إلى الله -أيضاً- واجب والمصلي الصائم فيه خير ونعمة، لكن المؤمن لا يشبع من الخير حتى يكون منتهاه الجنة، ولذلك فإن المصلي الصائم تطلب منه الدعوة أكثر مما تطلب من غيره ممن قصروا في هذه الأشياء، فكونه مصلياً يوجب عليه أن يقوم بالالتزامات الأخرى من دعوة غيره إلى الصلاة وإلى الصيام وإلى غيرهما من شرائع الإسلام.
فعلى المصلي أن يدعو نفسه -أولاً- إلى ما قد يكون مقصراً فيه من أمور الدين، وأول أمر مقصر فيه هو الدعوة إلى الله عز وجل، ثم عليه أن يدعو أهله وجيرانه إلى هذه الأشياء، وكلما استطاع أن يتحرك بالدعوة إلى الله عز وجل في نطاق أوسع كلما كان أكثر نفعاً لنفسه، {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] .(144/24)
تفضيل الكافر بسبب الدنيا
السؤال
كثير من أصحاب الأعمال يقولون: إننا نستقدم عمالاً كافرين؛ لأنهم أكثر إنتاجاً من المسلمين، حيث إن الكفار لا يصلون ولا يصومون وغير ذلك، فأستغفر الله مما يقولون، وماذا نرد عليهم؟
الجواب
هذه مصيبة تدل على انسلاخٍ من الولاء للإسلام! وتدل على أن الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة، وإيثار الدنيا على الآخرة من علامات الكافرين قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] وقال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17] .
فالمسلم الذي ولاؤه لدين الله لا يستعمل إلا حنيفاً مسلماً ولو كان يصلي، ولو كان يصوم، ولو طلب أن يحج أو يعتمر، بل إنه يتقرب إلى الله عز وجل بأن يمكنه من هذه الأشياء، فتقديم الدنيا على الدين أمر في منتهى الخطورة على دين الإنسان، خاصة إذا تبجح بذلك أيضاًَ في لسانه كما ذكر السائل عن بعضهم، فالإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، ويدرك أن هذه النعمة التي بين يديه قد يسلبها الله منه بكرة أو عشياً، أو يخرجه منها أيضاً إلى دار الجزاء والحساب، فيسأل عن استخدام هؤلاء الكفار واستبعاد المسلمين، وبكل حال فالمسلم الذي يعرف أن ولاءه للإسلام لا يقبل أن يستخدم هؤلاء الكفار لأسباب كثيرة منها ما سبق.
ومنها هذه الأموال التي يستلمها أولئك الكفار إنما هي خناجر تسدد إلى صدور المسلمين في بلادهم، فأنت حين تستقدم نصارى من الفلبين، أما تعرف أن المسلمين مضطهدون في الفلبين وأن النصارى يحاربونهم؟! وقل مثل ذلك في الهند أو غيرها من بلاد العالم، فالمسلم أخو المسلم لا يخذله، ومن الخذلان أن تتركه وتستقدم كافراً وتمده بالمال، حتى يكون هذا المال عوناً له على قتال إخوانك المؤمنين، فأين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأين قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] .(144/25)
حكم بقاء الرافضة في الجزيرة
السؤال
هناك أسئلة كثيرة وردت عن حكم بقاء الرافضة في هذه الجزيرة.
الجواب
هذه الجزيرة في الأصل جزيرة للإسلام -كما سلف- ولا يجوز أن يبقى فيها دين آخر غير دين الإسلام، ولا شك أن هناك طوائف موجودة في هذه الجزيرة فهناك طوائف الروافض والباطنية وغيرهم.
فمثل هذه الطوائف قد يكون إخراجهم منها أمراً ليس بالسهل، بحكم أنهم وجدوا منذ زمن؛ وربما يكون بعضهم أصلاً في هذه الجزيرة واعتنق هذا المذهب الخبيث، ولكن الأولى والأوجب أن نعمل -نحن العلماء هنا وفي غير هذه البلاد- على دعوة هؤلاء إلى الدين الصحيح، ونشر العقيدة الصحيحة بينهم، وبيان ما في عقائدهم من الانحراف والبطلان والظلال، حتى تستبين سبيل المجرمين، ويهدي الله عز وجل من أراد هدايته منهم.(144/26)
طرد اليهود من الجزيرة في عهد عمر
السؤال
قلت: إن عمر بن الخطاب قد طرد اليهود والنصارى، أليسوا قد ذهبوا إلى خيبر؟
الجواب
ذكرت الحديث عن عمر رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وقد عمل أمير المؤمنين رضي الله عنه بهذا الحديث النبوي فأخرج اليهود من خيبر فذهبوا إلى بلاد الشام، هذا هو المعروف.(144/27)
مذهب الحداثة
السؤال
تعلمون أن هناك في هذه الجزيرة من يتسمى بأسمائنا ويتكلم بلغتنا، ولكنهم يتبنون أفكاراً هدامة، ومن ذلك مذهب الحداثة الذي أخذ ينتشر هنا وهناك، فما موقف المسلم من ذلك؟
الجواب
الحداثة فيما أعلم أنها تعني: التحديث أوالتجديد في الأدب والشعر، وهذا التجديد قد يكون تجديداً في الشكل؛ بحيث يغير الإنسان -مثلاً- في أسلوب التعبير، فيدخل -مثلاً- أسلوب الرواية، وأسلوب ما يسمى بالشعر الحر، أو أي أسلوب أدبي آخر.
والتجديد في المضمون: يعني: في الأفكار والمفاهيم والفلسفات التي يمكن أن تتغير في حس الشاعر ونفسه، والذين درسوا أدب الحداثة وشعره يعرفون التلازم التام بين الشكل والمضمون.
وإن الذين يدعون إلى أدب الحداثة، وشعر الحداثة ويكثرون من الثناء على رموز هذه الحداثة سواء أكانوا من العرب أم من الأوروبيين؛ إنهم يحملون في كثير من الأحيان فكر الحداثة كما يحملون الشكل الظاهر لها.
وهذا هو الواقع في غالب الأحيان، فإنهم يتكلمون عن أن هذا اللون من الأدب والشعر، هو ثورة على كل ما هو سائد في المجتمع؛ بما في ذلك الأيديولوجيات ويعنون بهذه الأيديولوجيات النظم والعقائد التي يؤمن بها الناس، وهذا يبين أن منطلق الحداثة منطلق فلسفي، وليس مجرد قصيدة من الشعر الحر، أو رواية طويلة أو قصيرة، أو نمط من أنماط الأدب الشكلي.
فيجب علينا أن ندرك أن هذا هو الواقع، أما كون إنسان يكتب قصيدة -مثلاً- من الشعر الحر، وفيها معانٍ وأفكار إسلامية، وفيها دعوة إلى الله عز وجل، وتعبير عن شعور إسلامي، ففي اعتقادي أن هذا أمر عادي، وليس قضية تستحق الإثارة، لأن هذا لون من التجديد في ألوان الشعر، وسواء قبلناه أو رددناه، فالقضية في هذا الإطار أمرها سهل، لكن المصيبة هي الفلسفات والأفكار التي يحملها أولئك الحداثيون، وكثير منهم -بحكم الانتساب الأصلي للإسلام- يؤيدون ما يسمى"بعصرنة الإسلام" وعصرنة الإسلام -كما أسلفت- هي محاولة صبغ الإسلام بصبغة عصرية.
وقد كتب عن هذا الموضوع عدد من الكتاب وأشير إلى ما كتبه الأستاذ بسطامي محمد سعيد في كتابه حركة تجديد الدين، وإلى ما كتبه محمد بريش في مجلة الهدى المغربية، حيث كتب عدداً من المقالات نقد فيها فكر المفكر أو المستشرق محمد أركون الذي كتب كتاباً بالفرنسية سماه: قراءة جديدة للقرآن، وطرح فيه أفكار التطوريين الذين يعتقدون أن الدين هو عبارة عن شيء بشري خاضع للتطور، وهذه فكرة لا شك منافية لأصل الإسلام، وهناك كتابات أخرى في مجلة الندوة السعودية وغيرها.(144/28)
استقدام المشركين إلى الجزيرة والتعامل معهم
السؤال
هناك أسئلة كثيرة جداً وردت حول التعامل مع الكفار الذين يوجدون في هذه الجزيرة، وحكم استقدامهم كسائقين أو عمال أو خادمات؟
الجواب
سبقت الإشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} و {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يجتمع في هذه الجزيرة دينان} ولذلك ذهب كثير من أهل العلم إلى تحريم سكنى المشركين في هذه البلاد، وعليه فإن بقاء هؤلاء في هذه الجزيرة لا يجوز إلا أن يكون لضرورة، في أشياء وأعمال لا يجيدها ولا يتقنها إلا هم، فبقدر هذه الضرورة يمكن، أما ما عدا ذلك فلا.
فإذا وجد هؤلاء أو فرضوا في الواقع؛ فحينئذٍ أحكام معاملة الكفار معروفة، أنه يجب على الإنسان أن يدعوهم إلى الله متى استطاع، فيستفيد من فرصة وجودهم في دعوتهم.
ونحن -بحمد الله- نجد اليوم في عدد من البلاد مؤسسات وأجهزة تقوم على دعوة هؤلاء إلى الإسلام من خلال وسائل كثيرة، وقد هدى الله كثيراً منهم إلى الإسلام، وهذه نعمة يجب أن نستفيد من وجودهم بيننا ما داموا قد وُجدوا في هذه البلاد.
الأمر الثاني: أن الله عز وجل بين حكم معاملة الكفار بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] .
فالإسلام الذي يأمرك بالإحسان إلى الكلب، وإن سقيته أجرك الله؛ يأمرك أيضاً بأن تحسن إلى هؤلاء بأوجه الإحسان الدنيوية، وتستفيد من هذا الخلق الحسن، بدعوتهم إلى الدين الذي علمك هذه الأخلاق.
أما من كان منهم داعياً إلى دينه؛ كبعض القسس -مثلاً- الذين يدعون إلى النصرانية، أو دعاة الهدم والتخريب من المرتدين، أو دعاة الكفر والضلال أيّاً كانوا، فهؤلاء يجب إبعادهم قدر الإمكان وتبليغ الجهات المختصة لاتخاذ اللازم، فإننا نسمع أحياناً أنه يوجد -مثلاً- نصارى يدعون إلى دينهم، ويحاولون أن يقيموا بعض الطقوس، فهؤلاء يجب على من يكتشف أمرهم أن يسعى إلى إبعادهم بكل وسيلة ممكنة، ومثل هؤلاء أيضاً لا يجوز الإحسان إليهم ولا مساعدتهم بأي لون من ألوان المساعدة.(144/29)
التطرف والالتزام بالسنة
السؤال
ذكرتم التطرف في كلامكم، ويوجد من يطلق كلمة التطرف على كل من يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله، فما ردكم على مثل هذه؟
الجواب
سبقت الإشارة إلى هذا، وأن قضية المصطلحات قضية شرعية، والاصطلاح الشرعي هو: مصطلح الغلو، ومصطلح التطرف جائز لغة؛ لكن الأولى أن نستعمل اللفظ الوارد في الشرع وهو لفظ: الغلو، ثم إننا نجد الأمر كما ذكر الأخ، وأضرب لذلك أمثلة: أحدهم -مثلاً- يعتبر أن من يناوئون الدعوات الهدامة المنحرفة؛ كالدعوة إلى ما يسمى بعصرنة الإسلام، وتطويع الإسلام إلى الحضارة الغربية، وقراءة القرآن بطريقة عصرية لم تكن معروفة حتى للرسول صلى الله عليه وسلم، يعتبر أن من يحارب مثل هذه الدعوات أنه متطرفاً ومنغلق الفكر.
وكتب آخر -أيضاً- مقالاً يقول فيه-ما معناه-: إن المسلمين اليوم بلغوا حداً من البعد عن الرقي، والتهذيب، والحضارة فاق الوصف، حتى إن كثيراً من البوذيين والنصارى أصبحوا أكثر منهم تهذيباً وأخلاقاً.
يقول: فالبوذي والنصراني لا يستطيع أن يقتل عصفورة بغير حق، والبوذي والنصراني يؤثر في قلبه ويزعجه أن يشرد أولاد هرة (قطة) أما المسلم سواء كان سنياً أو شيعياً -والكلام لا يزال للمذكور- فإنه يقتل ويقتل، ويعتبر أن أقرب طريق لدخول الجنة هو القتل! ماذا يعني هذا الكلام؟! إنه طعن في الإسلام والمسلمين في عقر دارهم! وكيف نسينا جرائم النصارى التي اعترفوا بها بأنفسهم، وهذا الشاعر النصراني المشهور الذي ينزل على النصارى في لبنان ويخاطبهم ويقول: بربك قل متى لبنان ثارا ليدرك من علوج الروم ثارا متى ابتدرت إلى السيف النصارى لتغسل بالدم المسفوح عارا وتدرك مرة شرف الجهاد إلى أن يقول مدافعاً عن المسلمين ومهاجماً للنصارى: نقول المسلمون المسلمون فنلعنهم ونحن الخائنونا فالواقع أنهم أجدر بهذا، فكيف نسينا جرائم النصارى في كل بلد، والتي لا تزال تقام، وكيف نسينا الحروب الصليبية وأصبحنا نقول: إن النصراني مهذب، ومتحضر لا يريد أن يقتل عصفورة، أو يشرد أولاد قطة!!.
وكتبت إحداهن وهي تعتقد أن الفتيات اللاتي يرفضن دراسة الأدب الإنجليزي الذي يعرض الجريمة، والفاحشة، والعري، والإباحية الجنسية بأبشع صورها: أنهن متطرفات-هذا موجود ومع الأسف الشديد ويقرؤه الكثير من شبابنا وفتياتنا-.
فعلى الإنسان ألا ينخدع بالألفاظ، وهم سيقولون هذا وغيره!! فهم يسمون الأمور بغير اسمها، يسمون الخمر مشروبات روحية، والزنا فيسمون بيع الحب، أو بيع الهوى وكذلك التمسك بالسنة يسمونه تطرفاً.(144/30)
العلمانية في الجزيرة
السؤال
بدأ يظهر في مجتمعنا بعض آثار التيارات العلمانية مثل الدعوة إلى خروج المرأة والاختلاط، وما يحصل في بعض وسائل الإعلام، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
الإسلام، وهو الاستسلام لله تعالى يعني: أن المسلم يسلم نفسه قلباً وقالباً، جسداً وروحاً لله تعالى، بحيث أن جميع تصرفاته تخضع لأوامر هذا الدين، أما العلمانية فهي منهج آخر مناقض للإسلام، فالعلمانية -كما يفسرها الغربيون- هي: فصل الدين ليس عن الدولة؛ وإنما فصل الدين عن الحياة، فالعلمانيون يقولون: ما دخل الدين بالاقتصاد والسياسة؟ وما دخله في الأمور الاجتماعية وما دخل الدين بالأدب والشعر؟ وهكذا، فيريدون أن يحصروا الدين في المسجد.
وهذه التيارات العلمانية لا شك أنها موجودة في العالم الإسلامي منذ القديم، بل إن أتاتورك حين أسقط الخلافة الإسلامية جعل هذا الدين الجديد بديلاً عن الإسلام، وسار على نهجه من بعده ممن تأثروا به.
ولكن، أقول: إن هذه الدعوة العلمانية التي تحاول أن تتسرب إلى هذه البلاد، وإن كانت موجودة ولا سبيل إلى تجاهلها، والدعوة إلى خروج المرأة، والدعوة إلى منع الطلاق -مثلاً- والدعوة إلى اختلاط الرجال بالنساء، وسفر المرأة بغير محرم وإلغاء هذه القيود الشرعية، والدعوة إلى دراسة آداب الغربيين دراسة موضوعية بعيدة عن الدين، -أي: إبعاد الدين عن الآداب التي ندرسها- والدعوة إلى فصل الاقتصاد عن الإسلام، وإباحة الربا بسائر صوره وأشكاله، كل هذه الأشياء تظهر بين الفينة والفينة، ودعاتها موجودون بلا شك، ولكن المهم أن يتصدى أهل الإسلام لهذه الدعوات، ليميتوها في مهدها، بعد أن عرفوا أنه لا مكان في هذه الجزيرة إلا للإسلام.(144/31)
الشام دار المؤمنين آخر الزمان
السؤال
سمعنا أن بلاد الشام هي آخر معقل للإسلام بعد أن يندثر من سائر أرجاء الأرض، هل هذا صحيح أم لا؟
الجواب
نعم صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {وعقر دار المؤمنين الشام} وصح عنه صلى الله عليه وسلم كما سمعتم قبل قليل: {إن الدين يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها} .
والجمع بين هذه الأحاديث وما شابهها أن هناك عدة مواطن في آخر الزمان هي مواطن للإسلام، منها بلاد الحجاز ومنها: بلاد اليمن، ومنها: بلاد الشام، ولكن المؤمنين يجتمعون في الملاحم الكبرى التي تسبق قيام الساعة بقليل يجتمعون في الشام حيث يخرج المهدي ثم ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، فيؤمهم ويقودهم بكتاب الله عز وجل، وهناك يقاتلون المسيح الدجال ويقاتلون اليهود وغيرهم.(144/32)
الأرض لا تقدس أحداً
السؤال
الجزيرة العربية منذ العصور القديمة قد اختارها الله مهداً للرسالات، ومهبطاً للوحي، وقام رجالها بالدعوة وفتح البلاد، هل هذا ثابت -بالقرآن والسنة- أن رجالها وشبابها لهم صفات يمتازون بها عن غيرهم، أم لأسباب أخرى نأمل توضيحها؟
الجواب
الواقع أن الأرض كما قال: سلمان رضي الله عنه لـ أبي الدرداء لما سمع أنه يريد أن يخر ج إلى الأرض المقدسة، قال له: [[إن الأرض لا تقدس أحداً وإنما يقدس الإنسان عمله]] وكان اثنان من الصحابة دخلا على بيت امرأة نصرانية، وحضرتهما الصلاة فقالا: هل هاهنا مكان طاهر نصلي فيه؟ فقالت لهما: طهرا قلوبكما وصليا حيث شئتما، فنظر بعضهما إلى بعض وصدقاها فيما قالت، فمجرد وجود الإنسان في بلد فاضل لا يجعله يتميز بخصائص، وإنما يلقي عليه مزيداً من التبعة.
ولذلك فإن الإنسان إذا عصى الله عز وجل في الحرم، فمعصيته أعظم، وخطيئته أكبر مما لو فعلها خارج الحرم، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] .
فالسيئة في الحرم لا أقول إنها مضاعفة لكنها أعظم من السيئة في غير الحرم، لأن للحرم مكانة وقدسية.
لماذا أختار الله عز وجل هذه البلاد؟ الله أعلم، كما أن الله عز وجل هو أعلم! حيث يجعل رسالته، وهو أعلم حيث اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من بين الخلق كلهم للرسالة، وكذلك من سبقوه من المرسلين، فهو أعلم حيث اختار هذه الجزيرة للرسالة الخاتمة، وجعل هذه الجزيرة عاصمة الإسلام.
كما أن الإسلام هو خاتم الأديان، فالجزيرة التي هبط فيها الوحي آخر مرة هي عاصمة الإسلام إلى قيام الساعة -كما سبق- وهذا يلقي مسئولية كبرى على أهل هذه البلاد، وليس يقدسهم أو يجعل لهم ميزات وخصائص ليست لغيرهم.(144/33)
ألا إن نصر الله قريب
لا ينبغي لأي مسلم أن يغتر بكثرة عدد الكفار أو تعدد أسلحتهم، وتفوقهم الحضاري والتكنولوجي، فإن كل هذه العوامل ليست أسساً صحيحة للمقارنة الواعية بين قوة الإسلام والقوى الأخرى، لأن النظر في مصير المسلمين وغيرهم في الدار الآخرة هو من عوامل النظرة الصحيحة، وكذلك التفكر في عدد أنصار الحق وكثرتهم: ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)) فمنهم مثلاً الملائكة، وكذلك النظر في التاريخ وفي مستقبل موعود الله ورسوله، وهذا الزمان رغم أنه زمان التأخر إلا أن فيه ومضات مشرقة من جماعات تنصر الدين، فينبغي فيه عدم اليأس، فإن الأيام دول، ودولة الإسلام قد بدأت تعود، وإرهاصات النصر قد لاحت.(145/1)
حقيقة النصر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الطيبين الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة الكرام! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وشكر الله لأخي الحبيب فضيلة الدكتور عبد الله الطيار وبقية المشايخ الأكارم الذين استضافوني في هذا اللقاء الطيب, وتسببوا في هذا الاجتماع المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يكتب أجر هذا الاجتماع لي ولهم ولكم أجمعين إنه على كل شيء قدير.
إخوتي الكرام! عنوان هذه المحاضرة هو جزء من آية في كتاب الله عز وجل {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] والحديث حول هذا الموضوع حديث شيق من جهة، خاصة في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة؛ فإن كل مسلم يتطلع إلى نصر الله عز وجل لأوليائه وللمؤمنين العاملين المجاهدين، الذين يرفعون راية الإسلام, لا يريدون إلا وجه الله عز وجل.
كما أن الحديث عن مثل هذا الموضوع أيضاً حديث يطول؛ فإن هذه الآية تطوي في معناها الحياة الدنيا كلها, فإن مسرح الحياة وليس مسرح الأحداث أو مسرح العمليات فحسب, إن مسرح الحياة كلها هو المجال العملي لتطبيق هذا المعنى القرآني الذي أثبته الله تعالى في كتابه {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .
فكل لحظة من تاريخنا، وكل ذرة من ترابنا، وكل كلمة في حياتنا تقول ما تقوله هذه الآية، وتؤكد هذا المعنى أن نصر الله تعالى قريب, ونصر الله تعالى له صور كثيرة شتى, النصر في الميدان العسكري هو أحد معانيها، وهناك ألوان وألوان من هذا الانتصار قد لا يعيها الإنسان ولا يدركها.
ولعل الآيات التي عشنا معها ونحن نؤدي هذه الفريضة العظيمة (صلاة المغرب) هي نموذج للنصر الذي يمنحه الله تعالى لأوليائه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] , وأي نصر في الدنيا أعظم من أن يفتن الإنسان ويبتلى في دينه فيصبر صبراً تعجز عنه الجبال الراسيات! وأي صبر أعظم وأكبر من أن تأتي المرأة -وفي المرأة ما فيها من الرقة والحنان، وفيها ما فيها من العطف والحنو على أطفالها- تحمل رضيعها على كتفها فلما تقبل على النار التي أوقدها أصحاب الأخدود يحدث عندها بعض التردد فيُنطِق الله تعالى، الذي أنطق كل شيء، يُنطِق رضيعها الصغير فيقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق! هذا هو النصر العظيم, هذا هو النصر المبين!! إذا، ً النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى به المؤمنين له صور شتى، وله ألوان مختلفة وفي كل لحظة في تاريخ هذه الأمة، فهي تحقق ألواناً من الانتصارات.
إخوتي الكرام! وأود أن أقف باختصار في هذه المحاضرة عند عدد من النقاط المهمة, والأفكار الأساسية:(145/2)
الحق أساس القوة
أولها: أن الحق والعدل أساس في هذا الكون, وأصل في بناء السماوات والأرض, فبالحق قامت السماوات والأرض, ولذلك يقولون: (الحق أبلج والباطل لجلج) , ويقولون: (دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة) ! إذاً، الحق أصل والعدل أساس تعود إليه هذه الدنيا ويوم بدأت الدنيا بدأت بالحق, وتنتهي الدنيا أيضاً إلى الحق, وبعد الدنيا يتجلى الحق في أوضح وأظهر صوره يوم ينزل الله تعالى لفصل القضاء بين عباده، وتوضع الموازين القسط ليوم القيامة قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] .
فالحق أصل عظيم بدأت منه هذه الحياة وتنتهي إليه, وكثير من الناس يترددون في قبول هذا الكلام, ويتعجبون وربما رمونا بشيء من قلة الفهم وقلة الإدراك، وقالوا: كيف تزعمون هذا الزعم وأنتم ترون أن هذه الدنيا بطولها وعرضها تسيطر عليها حضارات مادية، وأمم كافرة، وقد مد الله تعالى لهم وأعطاهم، ووسع لهم في الرزق وفتح عليهم أبواب كل شيء، ومع ذلك لا زلتم تقولون: الحق والعدل؟!!(145/3)
أسس المقارنة الصحيحة في عوامل القوى بين المسلمين والكفار
فأقول: إن سر هذه الضلالة الكبيرة التي يرددها بعض الناس هو أنهم ينظرون إلى لحظة محدودة من الزمان، وفي رقعة محدودة -أيضاً- من المكان, فيرى الواحد منهم -لضيق أفقه وقلة إدراكه- في هذا القرن غلبة الباطل والشر، وغلبة الدول الكافرة، وشموخ الحضارات المادية غربيها وشرقيها, فيتشكك في صدق الله عز وجل, فلا بد من تصحيح هذه النظرة بالمقارنة الصحيحة, وكيف تكون المقارنة؟(145/4)
المقارنة التاريخية
الوجه الثالث للمقارنة هو: المقارنة مع الحياة البشرية كلها, لا نريد منك يا أخي الحبيب أن تكون محصوراً في مكان معين أو زمان معين، لا, نريد أن تمد بصرك إلى الماضي كله, في الأرض كلها, وأيضاً أن تمد بصرك إلى المستقبل في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
السابق مثلاً: هل تدري أنه بعدما أهبط آدم من الجنة إلى الدنيا كان آدم حنيفاً مسلماً موحداً؟ لا بد أنك تعلم ذلك بل كان نبياً مكلماً عليه الصلاة والسلام, ثم ظل بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى كما قال الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال ابن عباس وغيره: [[كان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الهدى]] .
إذاً: كيف تأتينا بمائة سنة أو خمسين سنة سيطرت فيها حضارات مادية زائلة منحرفة, وتنسى عشرة قرون.
أي: ألف سنة كان المهيمن فيها هو دين الله وشرع الله، والتوحيد الذي لا يشوبه شائبة شرك, هل تنسى هذا؟! لا يجوز نسيانه, وأن يستغرق الإنسان في لحظة حاضرة.
كذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منصورة؟ لقد مكثت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرناً، وهي أمة ظافرة منتصرة بيدها تدبير كثير من أمور الأمم، حتى الكافرة, وهذا هو التاريخ الذي يتغنى به كثير من الشعراء, ويتحدثون عن تاريخ هذه الأمة، ومآثرها الخالدة الباقية, ودولها الراسخة, التي مازال التاريخ يذكرها, كما يقول أحدهم: ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمان ولا نسينا حملناها سيوفاً لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أباة قادرينا وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا إذاً: ليست سنيناً ولا عشرات أو مئات السنين! بل أكثر من ذلك, أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية كانت أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب, ومثلما حفظ لنا التاريخ من مآثر بني أمية وبني العباس بل وبني عثمان، خاصة في عصورهم الأولى، وكيف كانوا نموذجاً للهداية الربانية, على سبيل المثال القصة المعروفة لـ هارون الرشيد رحمه الله! الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً, وكان ربما قطع الليل كله تسبيحاً وقرآنا, ومع ذلك كان يحكم دولة واسعة مترامية الأرجاء, فلما مرت السحابة ببغداد وتجاوزت بغداد ولم تمطر, كان يقول لها: [[أمطري حيث شئت، فسوف يجبى إليّ خراجك]] أين الرشيد وقد طاف السحاب به فحين جاوز بغداداً تحداه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا عبد الرحمن الناصر والداخل في الأندلس كيف بنوا القصور العامرة التي لا تزال باقية إلى اليوم, وخلدوا الحضارة ودعوا إلى الدين, ونشروا هداية الله تعالى في أرجاء الدنيا, ولم يبقَ بينهم وبين دخول عاصمة النصارى إلا أكيال معدودة على مشارف باريس، تراجع المسلمون في معركة بلاط الشهداء المعروفة في التاريخ بمعركة "تور بواتيه" ولو انتصروا -والأمر لله من قبل ومن بعد- في تلك المعركة لدخلوا أوروبا كلها واكتسحوها ولدخلوا إلى روما أيضاً.
ولكن من حكمة الله عز وجل أن يتراجع المد الإسلامي من عند بلاط الشهداء، لأن الله تعالى قضى وقدر أن تفتح القسطنطينية في القرن التاسع قبل أن تفتح روما متى شاء الله عز وجل, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: {أيهما يفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية.
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه؟! وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه! هذي المعالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه(145/5)
المقارنة بالمستقبل
هذا الماضي! أما المستقبل وهو غيب لا شك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن بعض هذا المستقبل, فمما أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم: المعركة الظافرة مع اليهود وهي على نهر الأردن كما حدد النبي صلى الله عليه وسلم: {على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي فاقتله} ومثله: أن المسلمين يتجمعون، حين ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق, وكذلك يقودهم المهدي عليه السلام الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في أحاديث متواترة، كما حكم على ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث؛ أن أحاديث المهدي متواترة, وكذلك أحاديث نزول عيسى عليه السلام فهي متواترة أيضاً بلا شك, والقرآن الكريم أشار إلى نزوله, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} أولها محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وآخرها عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام.
إذاً: هذه أمة خير! أولها خير وحق وعدل, وآخرها خير وحق وعدل {يأتي خليفة يحثي المال حثياً ولا يعده عداً، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً} .
ولا شك أن هذا الكلام يجب أن يفهم فهماً صحيحاً، أنا أذكر هذا الكلام لمجرد تذكير الناس بأنه لا يجوز أبداً أن نقارن في لحظة محدودة من الزمان والمكان، وننسى الماضي كله والمستقبل كله, هذا لا يجوز! وإلا: فالواقع أن الله عز وجل لم يتعبدنا أبداً بأن نقف في انتظار عيسى أو في انتظار المهدي أبداً فمتى جاءوا فكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو من جنودهم, وتحت رايتهم, وينصرهم بنفسه، ودمه، وماله، وأهله، وما ملك.
لكن ليس هناك مسلم على ظهر الأرض مطالب بأن يجلس واضعاً خده على يده ينتظر متى ينزل عيسى أو متى يخرج المهدي! هذا أمر علمه عند الله عز وجل, فقد يخرج بعد مائة سنة أو ألف سنة أو أقل أو أكثر، هذا غيب! لا أحد يستطيع أن يتنبأ به أو يعرفه إلا الله عز وجل, فهو غيب عند الله وحده.
فمن الخطأ كل الخطأ أن يجلس المسلمون في انتظار هذا الأمر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم! لا, بل يجب أن يقوم كل مسلم بدوره وواجبه، ويحرص على أن يكون ملتزماً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, سائراً على طريقته, دون أن يكون منتظراً لفرج لا يستطيع أن يفعله بذاته اللهم إلا أن دور المسلم هو الدعاء الصادق.(145/6)
المقارنة بتعدد الأنصار
هناك مقارنة أخرى أيضاً تجعل الميزان يعتدل في حس المسلم وهي: المقارنة مع الملأ الأعلى- مع الملائكة- فإن الإنسان قد ينظر في أنصار الباطل فيجد هذا الزبد الطافي الذي يجرفه السيل من المصفقين للباطل في كل مكان! قد يقول لك: عدد الكفار عدد النصارى عدد اليهود عدد الكافرين والمشركين أعداد هائلة وكبيرة لا يحصيهم إلا الله عز وجل, وإذا قستهم بعدد المسلمين -حتى المسلمين اسماً- وجدت أنهم قلة، قد لا تصل إلى نسبة (25%) نسبة المسلمين في الدنيا, مع أن هذا الرقم الإحصائي -إحصائية المسلمين- فيها المسلم الحقيقي وفيها المسلم على الورق كما يقال.
فيقول لك: عدد الكفار إذاً أعداد هائلة وكبيرة وكثيرة وخطيرة, فكيف والمسلمون قلة، وهم أيضاً في داخلهم الدخن، وداخلهم من ينتسب إلى الإسلام وليس منه وفيهم وفيهم! فنقول: لا يجوز هذا القياس وهذه المقارنة؛ لأنها غير عادلة ولا صحيحة.
فأنت إذا كنت تنظر في جنود الله عز وجل، فيجب ألا تستبعد من حسابك نوعاً من الجنود، وهم الملأ الأعلى (الملائكة) إن كان أنصار الباطل يشكلون في هذه الدنيا كذا ألف مليون في الدنيا، فانظر في أنصار الحق الذين يسخرهم الله تعالى لئلا ترهبك هذه الكثرة والسطوة, وأنت تعلم عدد أنصار دين الله تعالى.
انظر على سبيل المثل إلى الملائكة في السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مستدرك الحاكم وعند ابن جرير في التفسير، وابن المنذر، وصححه الحاكم، وذكره البيهقي في شعب الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن البيت المعمور في السماء السابعة} كما قال الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:1-4] , {البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة} , فإذا كنت ممن يؤمن بما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم -وأنت كذلك بحمد الله- فعليك أن تجري عملية حسابية بالأرقام, كل يوم سبعون ألف ملك, ففي الشهر أكثر من مليونين ومائة ألف ملك هذا في الشهر الواحد, فإذا حسبت في السنة كم يدخله؟ احسب في عشر سنوات، أو مائة سنة، أو ألف سنة أو في عشرة آلاف سنة!! كم مضى من الدنيا؟ وكم بقي؟ الله أعلم! فلو تصورنا -مثلاً- مائة ألف سنة والله تعالى أعلم، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله.
أما حسابات البشر فهي حسابات مجرد تخمين وإلا فالله عز وجل أعلم, كالذين يأتون إلى صخرة أو إلى جذع شجرة، فإننا رأينا بعض جذوع الأشجار في بعض البلاد مكتوب عليها (عمر هذه الشجرة عشرة آلاف سنة) وهذه الصخرة عمرها (خمسون ألف سنة) وهذه كلها تخمينات، وإلا فالله عز وجل يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] .
المهم: لو تصورنا الدنيا كم هي من ألف سنة, ثم تصورنا في كل يوم سبعون ألف ملك يدخلون في البيت المعمور, فكم عدد الملائكة الذين دخلوا البيت المعمور؟! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] .
وفي الحديث الآخر أيضاً الذي رواه الترمذي وصححه، ورواه أيضاً ابن ماجة وأحمد حديث أبي ذر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو ساجد} والأطيط هو: أزيز وصرير الرحل من ثقل الراكب.
السماوات السبع، ولا يعلم مدى السماوات السبع إلا الله عز وجل الذي خلقهن, ومع ذلك كل موضع في السماوات فيه ملك راكعٌ أو ساجدٌ لله عز وجل، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت, سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت.
فتصور! هؤلاء الملائكة كلهم من أنصار الحق، وكلهم من جنود الله عز وجل الذين وصف الله تعالى طائفة منهم وهم خزنة النار بقوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] إذاً الله تعالى أقدرهم على أن يفعلوا كل ما كلفوا به من لدنه سبحانه, قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] هؤلاء كلهم مجندون لنصرة الحق والدفاع عنه وخذلان الباطل والزلزلة بأهله, ولهذا لما كان في الخندق، ورد الله تعالى الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيراً جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد وضع سلاحه يريد أن يغتسل ويزيل عنه غبار المعركة, فقال: {أو قد وضعت السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: أما نحن فوالله ما وضعنا السلاح بعد.
فأشار النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فأشار جبريل بيده صوب بني قريظة قال: اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم} .
إذاً إذا أردت المقارنة لا تقل عدد المؤمنين كذا وعدد اليهود كذا وعدد النصارى كذا! لا بد أن تضم إلى عدد المسلمين الصادقين نوعاً من المؤمنين وهم الملائكة.
بل ومع ذلك تذكر أن لله عز وجل مخلوقات أخرى غير الإنس وهم الجن, وفيهم المؤمنون وفيهم من يكون أحسن وأفضل وأتقى من بعض الإنس, كما ذكر الله تعالى عنهم في كتابه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1-2] , ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] كانوا أحسن ردوداً من الإنس، فقالوا: [[ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ولك الحمد]] .
وكذلك أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن هؤلاء الجن استمعوا القرآن فآمنوا، قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] أي: يدعون إلى الله تعالى ويبشرون بالرسالة الخاتمة.
إذاً، لا يجوز أن تعقد مقارنة بين عدد المسلمين مثلاً وعدد اليهود والنصارى, وتقول: معنى ذلك أن عدد الكفار أكثر , وتنسى أن هناك جنوداً لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل، وكل هؤلاء مجندون لنصرة الحق متى وجد البشر المكلفون الذين يقومون به حق القيام.(145/7)
المقارنة بالدار الآخرة
أولاً: تكون المقارنة مع الدار الآخرة: فإن الله عز وجل يقول: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] , وهذا القليل مما لا يمكن أن يخضع لحساب أيضاً, فإننا نعلم أن الدنيا محدودة, مهما طالت فهي عدد من السنوات محدود لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله! لكن الآخرة غير محدودة، فأهل الجنة كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] , وأهل النار كما قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] .
إذاً هي الجنة أبداً أو النار أبداً, جعل لهم الأبد ولو علم أهل النار أنهم يمكثون في النار عدد رمل عالج, أي: رمال صحراء الربع الخالي -مثلاً- لفرحوا، ولكن جعل لهم الأبد! قال سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:169] وقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] وقال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] .
إذاً: هل يمكن المقارنة بين رقم محدود معروف ينتهي، وبين رقم لا يتناهى أبداً؟! إن المقارنة مستحيلة, لأنه لا يمكن المقارنة بين شيء ينتهي وشيء لا ينتهي.
فكيف يجعل الإنسان تفكيره وهمه مقصوراً على هذه الدنيا الفانية المحدودة، وينسى تلك الآباد والآماد المتطاولة التي لا تتناهى أبداً في الدار الآخرة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع} أدخل إحدى أصابعك في البحر ثم أخرجها، فانظر ماذا أخذت أصبعك من البحر؟ هذا البلل البسيط الموجود في أصبعك هل يقاس إلى هذا البحر المتلاطم؟! أبداً! ومع ذلك فإن هذا لمجرد التقريب لذهن الإنسان, وإلا فالواقع أن الدار الآخرة لا يمكن أن تقاس أو تقرن بهذه الحياة الدنيا الفانية المحدودة في الزمان والمكان.
ولهذا يقول الله عز وجل مرشداً عباده المؤمنين لئلا يغتروا بهذه الدنيا وغلبة الباطل والكفر في وقت محدود أو زمان أو مكان محدود، يقول الله عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] .
إذاً، المؤمن حين يغفل عن الدار الآخرة؛ يختل الميزان في عينه, وتضطرب المقاييس في نظره، لماذا؟ لأنه أصبح ينظر إلى هذه الحياة الدنيا فقط، وينسى الدار الآخرة، وهو بذلك قد أخل بقضية في غاية الخطورة, فما الفرق بينك وبين الكافر؟ الفرق: يتلخص بأنك تؤمن بموعد غيب لم تره، ألا وهو الدار الآخرة, وهو لا يؤمن, ولهذا قال موسى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] , ومدح الله رسله وأنبياءه وأولياءه فقال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] .
إلى أي مدى تعيش الدار الآخرة في قلبك؟ إلى أي مدى تدخل الآخرة في حساباتك بحيث تقول: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] وأيضاً حينئذٍ يقول الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: نعم أنتم تتسلون بهذا الكلام, حينما رأيتم أن الدنيا قد أخذها الغرب والشرق، وهيمنت عليها حضارات الكفر والإلحاد، أصبحتم تتسلون بهذا الكلام.
وأقول: كلا! مع أن هذا الكلام فيه تسلية لقلوب المؤمنين، وفيه تسرية لأرواحهم، وشد لعزائمهم وهممهم، وتثبيت لهم، ومع ذلك كله فإن هذا الكلام لا يقال لمجرد التسلية؛ بل هو حساب منطقي جيد حتى في نظر غير المؤمنين.
ألم تر أن الكفار أحياناً يرضون بذل مؤقت طمعاً في نصر كبير؟! هذا موجود, وأقرب مثال: اليهود الآن؛ حين لم ينتقموا من الصواريخ العراقية التي أرسلت إليهم لماذا؟ ليس ذلك عجزاً، وإنما لأنهم يتحملون أن يظن أحد أنهم في فترة معينة سكتوا أو صبروا على شيء لحقهم طمعاً في نصر أكبر من هذا يحققونه.
إذاً قد يؤجل الإنسان أمراً من أموره طمعاً في ما هو أكبر منه, حتى في المقاييس المادية الدنيوية البحتة, فما بالك بالمقاييس الأخروية؟ إن الأمر بالنسبة لها أوضح وأعظم.(145/8)