احذر العقوبة الأخروية
السؤال
قبل أن أصبح ملتزماً كنت أرتكب بعض الجرائم، وأنا الآن قد تبت منها وأنا خائف من العقوبة الدنيوية من خراب بيتي أو غير ذلك؟
الجواب
أقول: من تاب تاب الله تعالى عليه، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ويقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] حتى يقول أحدهم -في الدار الآخرة بعدما يرى ذنوبه قد أبدلت حسنات- يقول: يا ربِّ! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا! يريد أن تثبت في الديوان حتى تقلب له حسنات، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ولكن على العبد أن يكون خائفاً وجلاً من ربه عز وجل، ليس من عقوبة الدنيا بل من عقوبة الآخرة.
والعجب كل العجب أن الواحد منا يخاف من الدنيا! يخاف من خراب بيته! أو يخاف من مرض دنيوي، مثلاً قد يكون زانياً يخاف من الإيدز، أو يخاف من خراب بيته، لأن بعض الأحاديث وليس بصحيح {بشر الزاني بخراب بيته ولو بعد حين} أو يخاف من عقوبة دنيوية، لكن لا يخاف من العقوبة الأخروية! وهذا من قصر النظر، لأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، لكن الأمر العظيم، والخطب الجسيم، هو ما يتعلق بعقوبة الآخرة، إن لم يتداركه الله تعالى برحمته.(105/28)
دعوة الشباب إلى الله عز وجل
السؤال
كثير من الشباب يتقبلون من الملتزمين الشيء الكثير ويحبون أن يحضر إليهم الشباب الملتزم سواء في الأرصفة، أو في الأحواش، ولكن لا يأتي إليهم إلا القليل، والواجب أن نستغل هذه الفرصة بتنبيه الشباب الذين يسهرون حتى الفجر وعندهم وقت طويل!
الجواب
هذه فرصة طيبة سبق أن أشرت إليها بإيجاز، أن ندفع لدعوة هؤلاء الشباب إلى الله عز وجل كلمة طيبة، جلسة مباركة لا تستغرق خمس دقائق، قد يهدي بها الله -تعالى- على يديك رجلاً واحداً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه البخاري وغيره في قصة خيبر يقول لـ علي: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} .
من رد عبداً آبقاً شارداً عفا عن الذنب له الغافر فتأتي أعماله يوم القيامة في صحائف أعماله، {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء} {من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} .
وكل هذه أحاديث في الصحاح، فعلى العبد أن يغتنم الفرصة، ومثلما تقبل في رمضان على القيام، والصيام، أو العمرة، أو في موسم الحج على الحج، عليك أن تقبل في موسم الإجازة على الدعوة، فتذهب إلى هؤلاء الشباب وتتلطف معهم، وتتكلم بالكلام الطيب، وتدعوهم إلى الله عز وجل ولا تيأس منهم، فإن قابلوك بالخير فبها، وإن قابلوك بالسوء فلا تغضب لنفسك، ولا يتمعر وجهك، ولا تتنمر وتقول: أنت فلان بن فلان، وأنا ولد فلان، وأنا أفعل وأفعل، لا.
دعهم ولا تنتصر منهم، فإنه سيكون في قلوبهم حينئذٍ ندم، وخزي، وأسف على ما قابلوك به، وربما يكون هذا سبباً في هدايتهم واستقامتهم.
حدثني أحدهم، قال: دخلت متجراً في جدة فقام إليَّ رجلٌ كث اللحية، فعانقني، وضمني، وقبل رأسي وقد بللت الدموع عينه وهو يصافحني بحرارة، ويسألني عن أحوالي، وأخباري، وأموري وغير ذلك، قال: فخجلت خجلاً شديداً، لأني أدركت أن هذا الرجل قد شبه عليَّ وظنني رجلاً يعرفه وهو لا يعرفني! قال: فلما هدأ، قلت له: أظن أنك قد شبهت علي، قال: لا، قلت: كيف؟! قال: ألم تمر قبل عام مضى في مكان كذا، وذكر مكاناً قريباً من مكة، قال: فتذكرت فقلت: بلى، قال: فوجدت قوماً يغنون ويطربون فأتيت إليهم وتكلمت معهم، قال: بلى، قلت: فضحكوا منك، قال: أنا كنت أحدهم، هداني الله تعالى بتلك الكلمة.
كانوا يضحكون، لكن فيما بعد أدت تلك الكلمة دورها، فعليك أن تغرس البذرة في الصحراء وربما تأتي قطرة من السماء فتسقيها، فتنبت بأذن ربها فتكون لك قربة إلى الله، يكون لك أجر بهذه الشجرة التي نبتت، أعني الإنسان الذي هداه الله عز وجل.(105/29)
البث المباشر
السؤال
بماذا تفسر ذلك التجاهل الخطير، والإحجام الكبير، في التصدي للخَطْبِ الجلل المتمثل في البث المباشر الذي احتضنته بيوت المسلمين اليوم بشكل مخيف؟ أين موقف العلماء المخلصين العارفين بمخاطر هذا الوباء؟ كموقفهم العظيم المثمر في وجه حوادث سابقة؟ من مثل محاولة قيادة المرأة للسيارة، أو غير ذلك، مع أن هذا البث أشد فتكاً، وأعظم خطراً، فلماذا هذا التجاهل والخذلان؟! أهو اليأس من التغيير؟ أم الخوف من نزول ساحة الإصلاح؟ أو الإنكار؟ أم الرضا بالواقع المزري؟ أم ما هو السر في هذا السكوت المفزع؟
الجواب
المشكلة الكبيرة أن الوسيلة ربما الوحيدة التي يسلكها الكثيرون هي مجرد الكتابة في أي منكر يقع، وأنا أقول: الكتابة وسيلة، ولكن ينبغي ألا تكون الوسيلة الوحيدة، وينبغي أن ندرك أن من أعظم الوسائل أن ننزل إلى جمهور المسلمين، فنخاطبهم بمواعظ الله عز وجل، ونحرك قلوبهم بمواعظ القرآن والسنة، ونذكرهم بدينهم الذي يجب أن يكونوا أوفياء له، وعدوهم الذي يكيد لهم، والخطر المحدق بهم، ونبين لهم عملياً خطر مثل هذه الأشياء.
فمن كان منهم صاحب عقل نقنعه بالعقل، بأضرار هذه الأشياء، ومن كان منهم صاحب قلب، وعاطفة، وإيمان حركنا قلبه ليعرف الأضرار، ومن كان منهم صاحب مادة أقنعناه مادياً بأضرارها، ومن كان منهم صاحب سياسة أقنعناه سياسياً وأمنياً بمفاسدها ومخاطرها، فنحاول أن نخاطب جماهير المسلمين بذلك، وننشر الوعي بينهم.
كما أن علينا أن نناصح أولئك الذين تسابقوا إلى مثل هذا الأمر، من خلال المراسلة، من خلال أن نوصل إليهم بعض الكتب، وهناك كتاب للدكتور ناصر العمر اسمه البث المباشر حقائق وأرقام وهو كتاب مفيد جداً، وهناك أشرطة للشيخ ناصر العمر أيضاً، وشريط للشيخ عبد الوهاب الطريري حول هذا الموضوع، نرسله إليهم لعله أن يحرك في قلوبهم ساكناً، أو يحي هامداً.
نخاطب أيضاً العلماء، فنطالبهم بمحاولة الوقوف أمام هذا المد الكاسح، ومنعه بقدر المستطاع، نخاطب الخطباء فندعوهم إلى معالجة هذا الموضوع والتصدي له، نخاطب المسئولين والقائمين على الأمر، فندعوهم إلى منع استيراد، أو تصنيع، أو تركيب، مثل هذه الأشياء، وخاصة على سبيل العموم، ولكن على سبيل الخصوص في الأماكن العامة كالفنادق، والمستشفيات، والجامعات، وغيرها فإن الشر حينئذٍ يتعاظم ويتفاقم.(105/30)
المسلم بين غربتين
تحدث الشيخ في هذا الدرس عن معنى الغربة، ثم ذكر المقصود ببداية الإسلام غريباً، وكذلك المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} ثم ذكر أن الغربة أمر نسبي تتفاوت بين مكان ومكان، وزمان وزمان، وتحدث عن حال البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر بعض جوانب الانحراف البشري فيها، وبيَّن الفرق بين غربة الحنفاء وغربة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر انتهاء الغربة في أول الإسلام.(106/1)
تعريف الغربة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة: عنوان هذه الكلمة هو (المسلم بين غربتين) وفي نهاية الكلمة أحب أن أسمع من بعض إخواني تحليلاً صحيحاً لهذا العنوان، يبين لنا ما هو المقصود بهاتين الغربتين المذكورتين في العنوان.
فأما الغربة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قد بين لنا في أحاديث كثيرة -ثلاثة وعشرين حديثاً أو تزيد على ذلك- أن الإسلام بدأ في أول أمره غريباً، وأنه سيعود في آخر أمره غريباً كما بدأ أول مرة، حتى إن من العلماء من قال: إن الإسلام سينتهي برجل واحد، كما ابتدأ برجل واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة والمقصود بالغربة في هذا الحديث؛ هو بعض معانيها اللغوية، فإن العرب يطلقون الغربة على عدة معانٍ: فيطلقون الغربة على معنى الخفاء والغموض، ومنه قول بعض العلماء؛ أو تسميتهم للألفاظ ذات الدلالة غير الواضحة، في الأحاديث النبوية: غريب الحديث.
فالمقصود بالغريب هنا، هو: اللفظ الذي يوجد في معناه غموض وخفاء ويحتاج إلى كشف وبيان؛ هذا معنىً من معاني الغربة.
المعنى الثاني: من معاني الغربة هو: معنى النزوح والخروج عن الوطن، ومن ذلك قول الشاعر: وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مدحج الغربان أي: غريبان، فهما قد نزحا عن وطنهما.
ومن معاني الغربة أيضاً: أن يوجد الإنسان بين قوم غير قومه، وفي بلد غير بلده، وأهل غير أهله، فهو بينهم غريب؛ لأنهم لهم حال وله حال إلى معان أخرى كثيرة.
وكل هذه المعاني متحققة في معنى غربة المسلم، فالمسلم غريب بمعنى أنه قد نزح عن وطنه وخرج عنه، إذ أن الإنسان إذا خلف في القوم الذين يقتدي بهم، شعر بالغربة، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يتمثل بقول الشاعر: إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهمُ وكلفت في قرن فأنت غريب والمسلم غريب أيضاً، بمعنى أن الناس من حوله في العموم، مخالفون لما هو عليه، عقيدة وسلوكاً ومنهجاً، ولذلك يشعر بينهم بالغربة، بمعنى المخالفة لما هم عليه.
وكذلك المسلم يشعر بالغربة، بمعنى الغموض والاستخفاء؛ لأنه يجد في كثير من الأحيان أن المكانة والحظوة والشهرة والسمعة، هي لغير المتقين، وغير الصالحين من أهل الرياضة، أو أهل الفن، أو المال، أو الجاه أو غيرهم.
هذه بإجمال بعض مشاعر الغربة، التي تنطلق من المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وتنطبق على المعنى الشرعي لها، ويوافقها واقع المسلم في كل زمان وفي كل مكان.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى إشارة مجملة بقوله: {بدأ الإسلام غريباً} فأشار إلى أن هذا الدين بدأ غريباً، والغربة هنا تعني غربة الإسلام في أول مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم.(106/2)
المقصود ببداية الإسلام غريباً
وإلا فلو نظرنا إلى الدين جملة، وإلى معنى الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدنا أن أول البشر وهو أبونا آدم كان نبياً مكلماً وكان بنوه كذلك تعلموا منه الدين، وكانوا على شريعة من الحق، بل قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[إن الناس ظلوا على شريعة من الهدى عشرة قرون]] .
فالمقصود ببداية الإسلام في هذا الحديث، بدايته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول مبعثه بدأ غريباً بفرد واحد وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه سيعود.(106/3)
المقصود بقوله: وسيعود غريباً
ونستطيع أن نعبر عن كلمة: سيعود بمعنى أنه سينتهي غريباً أيضاً فسيئول الأمر بالمسلمين إلى غربة كالغربة الأولى، ثم ينتهي شأن الدين تماماً، كما كان الحال في الجاهلية الجهلاء، التي لم يكن فيها بريق من نور الهداية إلا القليل.
فهذه الغربة الأخيرة، التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: {وسيعود غريباً} تحتمل المعنى الذي أشرت إليه وهو في نظري معنى قوي، فيكون الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ما سيكون عليه الأمر بعد خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقتالهم للدجال، وقتلهم له، واستقرار شأن الإسلام في الأرض، وضربه بجرانه فيها، حيث يبدأ الإسلام بعد ذلك يتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يضعف شأن المسلمين، وحتى يبعث الله الريح الطيبة، فتقبض روح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فلا يبقى أحد في الأرض يقول الله الله، أي: لا يبقى أحد في الأرض يقول: لا إله إلا الله.
فهنا نقول: إن الإسلام عاد غريبا كما بدأ، واستحكمت الغربة استحكاماً، لا مطمع في زوالها وارتفاعها بعده، هذا الاحتمال الأول في الحديث، وعلى هذا الاحتمال، يكون قوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} بمعنى العودة التي لا مطمع في الخروج منها؛ لأن الشيء إذا بدأ في صورة وعاد في صورة إلى نفس الصورة، نقول: إنه عاد عودة لن يتغير بعدها.
أما الاحتمال الثاني -وهو معنى أشمل للحديث- فهو: احتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشار بهذا الحديث إلى ما سيحصل للمسلمين من ضعف وتقصير في جوانبهم العقائدية، والعملية وغيرها، وهذا أمر بدأ منذ زمن قديم، ونستطيع أن نقول إنه بدأ في زمن مبكر جداً من تاريخ الإسلام، واستمر في المسلمين إلى هذا اليوم، وإلى أن يشاء الله، وهو يتفاوت بين زمان وزمان ومكان ومكان.
فقد تستحكم الغربة في بلد من البلدان، حتى يضيق الخناق على المؤمنين وتكتم أنفاسهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بشيء من دينهم، ولا من شعائرهم، وقد يتنفس المسلمون الصعداء في بلد آخر وترتفع رايتهم، بل قد يكتب لهم النصر والتمكين في بلد من البلدان، فالغربة تتفاوت بين مكان ومكان.
وكذلك تتفاوت بين زمان وزمان في سائر الأمكنة، فقد يعيش المسلمون غربة شديدة، ثم يبعث الله المجدد الموعود أو المجددين الموعودين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن، الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فبمجيء هؤلاء المجددين يضعف شأن الغربة، ويستحكم شأن الدين والإسلام، وترتفع الغربة شيئاً ما.
إذاً: فالغربة تتفاوت بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان.
هذا هو المعنى الثاني، وعليه يجب التنبيه إلى أمر، وهو: أن وجود الغربة المستحكمة في الأمة المحمدية، أمر غير ممكن ولا متصور وجوده، إلا بعد انتهاء عهود المسيح عيسى بن مريم، والمهدي، ومجيء الريح الطيبة، التي تقبض أرواح المؤمنين، أما قبل ذلك فلا يتصور أن تعيش الأمة الإسلامية غربة مستحكمة، في جميع البلدان وفي جميع الأزمان.
والسبب في هذا، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث المتواتر الذي يقطع بصحته وثبوته كل طالب علم، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تزال طائفة من هذه الأمة، على الحق منصورة ظاهرة، تقاتل حتى يأتي أمر الله وحتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال} .
ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، أحد هذه المواضع في كتابه القيم: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أنه لا يتصور وجود أمة جاهلية مطلقة في الأمة المحمدية أبدا، اللهم إلا ما يكون بعد قبض أرواح المؤمنين فهنا لا يبعد أن تنقرض الأمة المحمدية وتنتهي، وتسيطر الجاهلية على الأرض كلها قبيل قيام الساعة.(106/4)
حياة البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كانت البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في جميع شئونها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وقد سيطرت الروح الجاهلية على الدنيا كلها وعلى الأجناس كلها، واتسم ذلك العصر بالجهل، والهوى، والنقص، والتحيز، والتعسف وغيره من خصائص البشر حين يتخلون عن الديانات السماوية.
ومع هذه الجاهلية، فقد غاب تأثير الديانات السماوية في الأرض أو كاد، حتى إنك لا تكاد تجد في الأرض من المستقيمين على دين الله، إلا أفراداً يعدون على الأصابع.
وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى قال: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله تبارك وتعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} وإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قال الله تعالى لنبيه: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليكم كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: يا رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك فاغزهم نغزك وأنفق عليهم فسننفق عليك، وأبعث جنداً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك.
} .
هذا الحديث العظيم -أيها الإخوة- أريد أن أقف عنده وقفات لنستدل منه:(106/5)
جوانب إغراق الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً: بعض جوانب الانحراف البشري، الذي وقع فيه الناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أشار عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، إلى انحراف الناس في عدة جوانب:(106/6)
فساد المصلحين
الجانب الثالث من جوانب انحراف البشرية، التي أشار إليها الحديث النبوي، وهذا الانحراف هو قاصمة الظهر- وهو: فساد المصلحين، فإن البشرية، مهما بلغ فيها الانحراف يمكن أن ترجع إلى شرع الله عز وجل وإلى دينه بشرط، هذا الشرط أن يوجد في البشرية من ينهى عن الفساد في الأرض ويدعو إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] .
فمهما بلغ الانحراف؛ يمكن أن يرجع الناس إلى الدين، بشرط أن يقوم أناس مصلحون، يدعون إلى دين الله وشرعه، وهؤلاء بالضبط هم الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو حديث المجدد الذي أشرت إليه سابقا، لكن إذا غاب هؤلاء المصلحون، أو انحرفوا فماذا يصلح الناس؟ ولذلك كان بعض السلف يخاطب القراء، وطلاب العلم، والعلماء، والمحدثين، فيقول لهم: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد يعني إذا كنتم أنتم- وأنتم ملح الناس وأنتم زين الناس وأنتم صلاح الناس- فسدتم، فكيف يصلح الناس إذا جاءت العلة من قِبلِكم، فمن أين تأتي العافية؟! وهذه المشكلة التي قامت في الجاهلية، حيث انحرف الناس، حتى أصحاب الديانات السماوية من اليهود والنصارى.
وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: {وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم -والمقت هو أشد البغض- عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} أي: حتى أصحاب الكتب السماوية، انحرفوا، ومقتوا، وسقطوا من عين الله عز وجل، إلا بقايا منهم، وكلمة بقايا تدل على القلة، وأن هؤلاء الصالحين آثار باقية، بعدما انحرف اليهود والنصارى وغيرهم.
وهذه البقايا التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، يمكن أن نقول: إنهم كانوا غرباء في الجاهلية، غربة شديدة فلننظر كيف كانت غربة هؤلاء:- نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار -بعد ما ذكر هذا الانحراف المجمل- إلى وجود قلائل صالحين، هؤلاء القلائل كانوا متفرقين في الدنيا كلها.
فالأمة العربية -مثلاً- وهي تعاني أشد ألوان الانحراف الذي ذكرناه، وقد ابتليت بانحطاط شديد، في أخلاقها وأديانها وعقائدها، حتى وصلت إلى الحال التي يصفها أبو رجاء العطاردي كما في صحيح البخاري أنهم: [[كانوا يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجراً هو أخير منه، تركوا الحجر الأول، وعبدوا الحجر الجديد]] ووصلوا إلى الحال الذي كان يأخذ بعضهم أربعة أحجار، فيضع ثلاثة منها تحت قِدْره، ويجعل الحجر الرابع له إلهاً يعبده ويصلي إليه، فإذا لم يجد حجراً حثا حثوةً من تراب، جاء بالشاة، فحلبها على هذا التراب فصلى إليه.
وإلى حد الانحطاط الخلقي، الذي كانت النساء فيه -البغايا- يضعن أعلاماً على بيوتهن، حتى يعرفهن الناس فيأتوا إليهن طلباً للرذيلة والخنا والفساد.
وحتى صارت الأمة العربية، لا تعدو أن تكون أمة ذليلة، تابعة لإحدى الدولتين العظميين آنذاك، فارس أو الروم، ومع هذا الانحطاط الشديد الذي ابتليت به الأمة العربية، كان يوجد فيها قلائل ممن يسمون بالحنفاء، وهؤلاء الحنفاء هم الذين بقوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن أشهرهم زيد بن عمرو بن نفيل، وكان هذا الرجل يبحث عن الدين الصحيح، فذهب إلى الشام والتقى باليهود، وسألهم عن الدين الصحيح، فلم يجد عندهم علماً، وقالوا لا يمكن أن تكون معنا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله فقال: إنما أفر من لعنة الله، فسألهم عن الدين، فقالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ديانة إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً.
قالوا: فسألهم أين يوجد هذا الدين؟ فلم يذكروا له خبراً، فخرج إلى النصارى، فلم يجد عندهم علماً، وسألهم عن الدين الصحيح قالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، دين إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، فسألهم أين يوجد؟ فلم يذكروا له من ذلك خبراً، فخرج رضي الله عنه وأرضاه، حتى إذا ظهر في الصحراء، رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني على دين إبراهيم حنيفاً، وما أنا من المشركين.
وقد ورد أنه قتل في الصحراء، حيث تعرض له بعض الناس وقتلوه، وورد في صحيح البخاري أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يسند ظهره إلى الكعبة، وينظر إلى قريش وهم يعبدون الأصنام، فيقول لهم: يا معشر قريش! ثم يقول لهم: هذه الشاة خلقها الله عز وجل وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض العشب، ثم أنتم تذبحونها لغير الله فينكر عليهم أن يذبحوا لغير الله.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أيضاً، أنه التقى به فقدمت له شاة مشوية أو مصلية، فابتعد عنها زيد بن نفيل وقال: لا آكل مما ذبح لغير الله.
وكذلك كان إذا علم أن رجلاً يريد أن يئد ابنته -جرياً على العادة الموجودة، في بعض القبائل في الجاهلية -جاء إليه وقال: لا تئدها، فأنا أكفلها لك؛ لأنهم كانوا يئدون البنات أحياناً؛ لما يجدونه من الجوع والمسغبة، فكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول لمن هَمَّ بوأد ابنته لا تئدها وعَلَّي طعامها وشرابها، فيفتديها منه وفي ذلك يتمدح الشاعر بقوله: ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوئيدة لم تؤأد فافتخروا بتدخله في منع وأد البنات، وبالمناسبة مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه في الجنة فهو مسلم.
إن زيد بن عمرو بن نفيل لم يكن وحيداً في الجاهلية، بل كان يوجد أفراد متفرقون على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانوا يعيشون غربة شديدة في ذلك الوقت، فهذه غربة.
ولما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم، كان مبعثه انتصاراً لهؤلاء الغرباء، المشردين المضطهدين، الذين قتلوا في سبيل الله أو أوذوا أو ضويقوا.
كان مبعثه صلى الله عليه وسلم انتصاراً لهؤلاء القوم، بل كان مبعثه انتصاراً لديانات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه جاء بالدين الذي جدد دين الأنبياء السابقين جميعاً، فكان مبعثه انتصاراً للحقيقة، وهذا جزء من معنى قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فقد نصر الله عز وجل رسله في الحياة الدنيا، نصرهم بالتمكين لدينهم، سواء في وقتهم أو على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونصرهم بخذلان أعدائهم ومناوئيهم في وقتهم أو بعد ذلك على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى يدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
كان مبعثه صلى الله عليه وسلم، انتصاراً للرسل والأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وقد بعث غريباً فرداً مطلقاً غرابة مستحكمة، ومر وقت من الأوقات، لم يكن في الدنيا كلها مسلم إلا رجل واحد، هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الدنيا كلها تقف في صف وفي معسكر، وهو معسكر الكفر والشرك بالله عز وجل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وحده، يقف في المعسكر الآخر، غريباً وحيداً فريداً ليس معه إلا الله عز وجل.(106/7)
الانحراف في الجوانب التشريعية
الجانب الثاني: هو: الانحراف في الجوانب والأوضاع التشريعية، حيث كان الناس يتحاكمون فيما بينهم إلى أوضاع، ونظم، وأعراف، وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، إنما كانت بمحض الهوى والآراء البشرية.
وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجانب، في قوله في بداية الحديث القدسي: {كل مال نحلته عبداً حلال، كل مال نحلته عبدا حلال} فهذا إشارة إلى ما كان أهل الجاهلية يفعلونه بأموالهم حيث كانوا يجعلون الأموال لأصنامهم وغير ذلك، وقد أنكر الله عز وجل عليهم بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] فهذه إشارة إلى جانب، وهو: انحراف الأوضاع التشريعية.
ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {وحَرَّمت عليهم ما أحللت لهم} وهذا ما أنكره الله عز وجل في كتابه، حيث قال: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] فأشار إلى ما آتاهم الله من رزق، فجعلوا منه الحلال والحرام، هل هو بشرع الله أم بالهوى والافتراء؟!(106/8)
الانحراف في النواحي الدينية
الجانب الأول: انحراف النواحي الدينية، وفساد حملة الأديان السماوية، من اليهود والنصارى وغيرهم، وهذا الانحراف يكون: أولاً: بخروج الناس عن الأديان السماوية، بعد ما دخلوا فيها، كما يكون بعدم دخولهم في الأديان السماوية أصلاً، وأخطر صورة من صور الانحراف على مدى التاريخ، هي الشرك بالله عز وجل؛ ولذلك بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث، حيث قال: {وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً} .(106/9)
الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وغربة النبي صلى الله عليه وسلم
وهنا أريد أن أشير إلى قضية مهمة جداً، وهي قضية: الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وبين غربة النبي صلى الله عليه وسلم.
إن الحنفاء في الجاهلية، لم يكونوا يطمعون بإصلاح الأوضاع، ولم يكونوا يملكون منهجاً للتغيير والدعوة إلى الله عز وجل، بل قد قنعوا بصلاح أنفسهم، ونجاتها من الشرك والكفر في الدنيا، ونجاتها من العذاب في الآخرة، ويئسوا يأساً مطلقاً من إصلاح الناس، فهم مثل الشمس التي قد قاربت الغروب، فبقيت أشعتها الباهتة في أعالي النخيل، وعلى رءوس الأبنية المرتفعة أشعة صفراء، وما هي إلا دقائق حتى تغرب وتنتهي.
أما غربة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت غربة بداية؛ فهي تشبه أشعة الشمس في أول طلوعها، وإن كانت أشعة قليلة لا تبرز إلا في أعالي الأبنية والنخيل؛ إلا أنها سرعان ما ترتفع حتى تشمل بأشعتها وأنوارها الدنيا كلها.
إذاً: لم يقنع الرسول صلى الله عليه وسلم بترديد أنه غريب، وأن الناس على منهج مخالف لمنهجه، ودين مخالف لدينه، ويقف عند هذا الحد! بل قام يدعو إلى الله عز وجل بكل وسيلة، حتى التف حوله بعض الصالحين من قريش، واحد واثنان وثلاثة وأربعة، وكانوا قلائل، حتى كان الواحد منهم يقول: إني يوم أسلمت، كنت ثلث الإسلام، كنت ربع الإسلام، كنت خمس الإسلام، كنت سدس الإسلام، كل هذا ثبت عن بعض الصحابة الذين تقدم إسلامهم.
كان الواحد منهم يقول: إنه ثلث الإسلام؛ لأنه لا يوجد إلا مسلمان وهو ثالثهم، وآخر يقول إنه ربع الإسلام، بمعنى أنه يوجد في الدنيا ثلاثة هو رابعهم.
ولما سأل عمرو بن عبسة رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم وغيره: {من معك على هذا الأمر -يعني الإسلام- قال: حر وعبد} .
أما الحر فهو: أبو بكر، أو علي بن أبي طالب وأما العبد فهو: بلال، هذا على القول بأن المقصود، حر يعني: فرد واحد، وعبد يعني: فرد واحد.
لكن هناك معنى آخر، ذكره ابن كثير رحمه الله: أن يكون المعنى من الأساليب، التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم للتعمية على أعداء الدعوة فأعطى هذه اللفظة المحتملة يعني أن معه جنسان: جنس الأحرار وجنس العبيد، وعلى هذا لا إشكال، فيدخل في الأحرار أبو بكر، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممن تقدم إسلامهم، كـ زيد بن حارثة، ويدخل في العبيد بلال، وعمار وغيره أيضاً، ممن تقدم إسلامه.
وعلى أي حال فقد كان عدد المسلمين أفراداً يعدون على الأصابع، ولكنهم أيضاً كانوا يحملون هَمَّ الدعوة في نفوسهم، ولذلك ما مر إلا سنوات قليلة حتى أسلم الأنصار، وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقام الدولة ودفع الغربة.
ثم ما هي إلا سنوات حتى انفضت الأحزاب التي هاجمت المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الآن نغزوهم ولا يغزونا} .
وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة الهجوم من مرحلة الدفاع، وما هي إلا سنوات قليلة حتى خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجمع غفير صوب مكة، فذهب وفتحها ودخل وعلى رأسه المغفر، وأصبحت الجزيرة العربية كلها للحكم المتبع للإسلام، لأنهم كانوا يتربصون بإسلامهم إسلام قريش.
فلما فتحت مكة وأسلمت قريش بدأ الناس يدخلون في الإسلام أفواجاً، وحصل ما يسمى بعام الوفود، الذي أرسلت فيه القبائل العربية وفودها، تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام.
ولم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى أقر الله عز وجل عينيه برؤية هذا الدين، الذي بعث به ظاهراً ظافراً منتصراً، وحتى رأى صلى الله عليه وسلم هذه العصابة الضعيفة التي كان يخاف عليها صلى الله عليه وسلم من الاستئصال حين كان يقول في بدر: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض} أقر الله عز وجل عينه برؤية هذه العصابة وهي التي تحكم الجزيرة العربية وتستعد للانقضاض على صروح الكفر، في الشام والعراق وغيرها من بلاد الأرض.
إذاً غربة النبي صلى الله عليه وسلم، غربة البداية، غربة الداعية الذي يحمل منهجاً للإصلاح ويرتب للدعوة، ويرفع راية التوحيد، ويدعو الناس إليها.(106/10)
شبهة من يقول إن الغربة اليوم هي كغربة الحنفاء
أما غربة الحنفاء في الجاهلية، فهي غربة النهاية، وغربة من لا يملك إلا الصبر، والسكوت والاستسلام، حتى يأتي أمر الله.
وهكذا الحال بالنسبة للمسلم الموصوف بأنه غريب، يمكن أن يسلك المسلم أحد الطريقين.
أيها الإخوة: يمكن أن يكون بعض من يرددون: بأن المسلمين غرباء يعنون غربة كغربة الحنفاء، فيظنون أن الدين قد عاد اليوم غريباً كما بدأ، وأنه لا مطمع في الإصلاح، فيكفون عن الدعوة إلى الله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن نشر العلم الشرعي الصحيح، ويتعللون بأن الدين قد عاد غريباً كما بدأ.(106/11)
الرد على هذه الشبهة
هذا فهم غير صحيح بلا شك؛ بل إن المسلم المتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم، يشعر أن الغربة التي يجب أن يشعر بها في هذا الزمان وفي كل زمان، هي الغربة التي كان يشعر بها سيده ومتبوعه صلى الله عليه وسلم.
حيث كان يشعر بالغربة، التي تدعوه إلى دفع الغربة، وإلى الدعوة إلى الله، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذا الشعور، من شأنه أن يجعل المسلم: أولاً: معتزاً بالدين الذي ينتسب إليه، فلا يستوحش من كثرة المخالفين والمعاندين والفاسقين والمنافقين أبداً؛ لأنه يشعر أن الله عز وجل قد خصه من بينهم بهذه الخصيصة التي هي التميز عنهم بالتمسك بالدين، والعناية بالسنة، وطلب العلم الشرعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يشعر أنها موهبة وهبها الله عز وجل له، يجب أن يشكرها.
وثانياً: فإن هذا الشعور، لا يجعله يستسلم للقعود، ويخلد إلى الراحة، ويترك الدعوة إلى الله عز وجل، لا، بل يجعله يشعر، كما بدأ الإسلام غريباً، ثم زالت غربته بجهود الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهود أصحابه، فإنه حين توجد غربته في بلد من البلدان، في زمن من الأزمان، يجب أن يقوم الغرباء حينئذٍ بجهود قوية قدر ما يستطيعون لدفع الغربة عن هذا الدين وإعادته عزيزاً قوياً، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو قريباً من ذلك.
وهذا المعنى، هو الذي فهمه العلماء العاملون من هذا الحديث، وأضرب مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ذكر هذا الحديث، وقال: " إن كون الإسلام يعود غريباً، لا يعني جواز التخلي عنه والعياذ بالله فإنه حين بدأ غريباً، لم يكن غيره من الدين مقبولاً حينئذٍ، بل كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] ".
فهذا المعنى في نظري، من المعاني التي تخفى على كثير من الناس، الذين قنعوا بسماع هذا الحديث، ورأوا في واقعهم كثيراً من المعاصي المشتهرة المنتشرة، التي يصعب -ولا أقول يستحيل- بل يصعب تغييرها وإنكارها، فاكتفوا بترديد هذا الحديث، ورأوا أنه إشارة إلى جواز السكوت والقعود.
وأقول: إن جواز السكوت والقعود مطلقاً، للأمة كلها وللغرباء كلهم في كل زمان وفي كل مكان إنما يجوز في حال واحدة، هي التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، ودع أمر العامة} .
وهذه الحال، حال لا يمكن أن نقول إنها موجودة الآن في الأمة الإسلامية على الإطلاق، أبداً، لأننا نجد في هذا الزمان قبولاً للحق، وانقياداً له، واتباعاً للسنة، وإن كنا نجد نوعاً من الهوى، ونوعاً من إيثار الدنيا، ونوعاً من طاعة الشح، ولكن هذه الأشياء موجودة منذ أزمنة غابرة.
بل إننا نجد من كتب من العلماء المتقدمين كـ ابن بطال المغربي وابن حجر وغيرهما، أشاروا إلى بدايات هذه الأمور منذ زمن بعيد.
إذاً: يجب علينا أن ندرك أن الشعور بالغربة يجب أن يكون شعوراً دافعاً لنا، لدفع هذه الغربة وإزالتها.(106/12)
المقصود بالغربتين
في نهاية هذه الكلمة أحب أن أسأل بعض الإخوة، عن معنى العنوان لعله اتضح، حيث ذكرت أن عنوان هذه الكلمة: المسلم بين غربتين، فأريد أن يبين لي أحدكم ما المقصود بالغربتين إذاً؟ إنه يقول: غربة الحنفاء في الجاهلية، وغربة الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام.
فنقول: المسلم المعاصر، أنا وأنت اليوم، كيف نكون بين غربتين؟ ما الغربتان؟ إن المسلم في هذا العصر، تتناوبه غربتان، أو الشعور بالاغتراب لدى المسلم في هذا العصر يمكن أن يكون على وجهين: الوجه الأول: الشعور باليأس والاستسلام، والقعود عن الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الوجه الثاني: الشعور بالغربة التي تدفعه إلى العمل والدعوة إلى الله والتغيير، وفرق بين شعور الاستيئاس والاستسلام، وبين شعور القوة والدعوة والأمر والنهي.
وفي نهاية هذه الكلمة أرجو الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس ويصلحون ما أفسد الناس، وأن يحشرني وإياكم في زمرة المتقين المفلحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(106/13)
الأسئلة(106/14)
حقيقة المجدد
السؤال
قد يثير بعض الناس شبهة أو استفساراً حول قول الرسول صلى الله عليه وسلم {يبعث على رأس كل مائة سنة مجدد} فيقول: نحن لم نر مجدداً سوى محمد بن عبد الوهاب، فماذا نرد على هذه الشبهة؟ أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
يقول العلماء رحمهم الله [[عدم العلم لا يعني العلم بالعدم]] وهذه القاعدة مفيدة هاهنا، عدم علمك بالشيء لا يعني أنه غير موجود أي: لا يعني علمك بعدمه.
فنقول لهذا السائل أو هذا المشبه، نقول له عدم علمك بوجود مجددين لا يعني عدم المجددين وعدم وجودهم، فعدم العلم لا يعني العلم بالعدم، وقد مَنَّ الله على هذه الأمة بمجددين على مدار القرون، سواء على شكل أفراد أو على شكل مجموعات وطوائف.
ومن أشهر المجددين: الإمام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز وقد عده الزهري ومن بعده من العلماء من مجددي أو هو مجدد القرن الأول، ولا يعني أنه بالضرورة انفرد بذلك، بل لا يمنع أن يكون له نصيب من التجديد وهو النصيب الأوفر ولغيره من حوله نصيب كذلك.
ومن المجددين المعروفين الإمام أحمد، والإمام الشافعي وغيرهما، وقد عد العلماء في كل قرن مجدداً، وممن عد ذلك واستقصى القرون -على سبيل المثال لا على سبيل الحصر- الإمام ابن الأثير، في كتابه جامع الأصول، حين شرح هذا الحديث.
وممن عدهم: الإمام الذهبي أيضاً، والمناوي في فيض القدير، والسيوطي في رسالة له مخطوطة، اسمها: التنبئة فيمن بعثه الله على رأس المائة، وغيرهم.
ولكن لا يلزم أيضاً أن تجد في كل قرن فرداً أطبقت الأمة على أنه هو المجدد، بل قد يكون المجدد أكثر من فرد، فيكون -مثلاً- في الجزيرة العربية مجدد، ويكون في بلاد الهند مجدد آخر وفي الشام وفي مصر وفي غيرها، بل قد يوجد المجدد لجانب من جوانب الدين، كأن يجدد في جانب الفقه والحديث مثلاً، وآخر يجدد في مجال نشر العقيدة السلفية الصحيحة، وثالث يجدد في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، ورابع يجدد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخامس يجدد في مجال إحياء الجهاد في سبيل الله وهكذا، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: {من يجدد لها} مَنْ يمكن أن تحمل على الفرد وعلى الجماعة، ولا مانع من ذلك، ولم يرد حديث صحيح يدل على أن المجدد فرد، والقول الراجح أن المجدد طائفة ولا يلزم أن يكون فرداً.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(106/15)
الحكم على حديث: أحبب حبيبك هوناً
السؤال
فضيلة الشيخ: هل الحديث التالي صحيح أم ضعيف، يقول: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما} ؟
الجواب
الذي يظهر لي أن السائل ربما يكون سمع، أو رأى أنني استشهدت بهذا الحديث في أحد المرات، والذي يظهر لي الآن أنه صحيح، وإن كنت ذكرت أنه صححه بعض العلماء، ولم أجزم بأنه صحيح.(106/16)
العنف والشدة في التربية
السؤال
لي أخوان في سن العاشرة، وأبي ليس موجوداً، وأريد أن يتوجهوا ويكونوا صالحين مهتدين ولقد عاملتهم بالعنف فلم يفد فيهم فماذا أفعل؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من دعا إلى حسنة كان له مثل أجور من تبعه، أو من دعا إلى سيئة كان له مثل أجور من تبعه} أو كما قال: فماذا أفعل أفتونا مأجورين؟
الجواب
الحقيقة أن العنف والشدة، هي الأسلوب الغالب في طريقة الناس في التربية في هذا الزمان، مع أنها ليست هي أنجح الأساليب، بل إنني أعتقد إنها كالكي الذي هو آخر الدواء.
أما أن تكون هي البداية وهي الأسلوب الوحيد، فهذا خطأ، خاصة حين يكون الذي يقوم بالتربية أخ لهؤلاء الإخوة، وحينئذٍ يفترض أن المسافة الزمنية بينهم ليست بعيدة، فأعمارهم متقاربة نوعاً ما، وحينئذٍ يكون أسلوب الضرب أو العنف أكثر سوءاً وأقل فائدة.
فالذي أنصح به هذا الأخ وغيره، أن يسلك الأساليب المناسبة في الدعوة إلى الله، وأن يحرص على ربط إخوته يدرس من دروس القرآن -مثلاً- وببعض الأصدقاء الطيبين، ويختار لهم بعض القصص المفيدة التي تناسب سنهم، ويغريهم بالقراءة وحفظ القرآن، وحفظ الوقت، بالوسائل المناسبة كالجوائز التشجيعية والمسابقات وغيرها، ويستبعد أسلوب الشدة نهائياً إلا في حالات خاصة.
هذا هو ما أنصح به هذا الأخ وأنصحه بعدم العجلة، فإن كثيراً من الناس يطمعون أن يروا نتائج أعمالهم بسرعة، وآثار التربية لا تظهر إلا بعد زمن، فيجب أن يبذل الجهد وينتظر، ويثق بأن الله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وبالمناسبة أقول: حتى حين تفشل جهود الإنسان في التربية، لا يجب أن يعتبر أنها فاشلة فعلاً؛ لأننا نجد أن الإنسان المنحرف حتى وهو منحرف إذا كان واجه في بداية حياته دعوة، وتربية، ونصيحة، يكون انحرافه أقل من انحراف ذاك الذي لم يواجه دعوة، ولا تربية ولا نصيحة، إذاً فالتربية لا يمكن أن يضيع أثرها بحال من الأحوال.(106/17)
تقليد الأئمة من تصحيح الأحاديث وتضعيفها
السؤال
من المعلوم أن كثيراً من السلف -أهل الحديث- قد خدموا السنة خدمة جليلة في تصفيتها وتنقيتها من الكدر والكذب، وهم أرباب لهذه الصنعة، كالإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهم الكثير، وقد خلصوا إلى تصحيح أحاديث وتضعيف أخرى، قد يتفقون أحياناً وقد يختلفون في ذلك، والآن من أكبر المعدودين هو الشيخ الألباني حفظه الله، وأرى كثيراً من طلبة العلم الذين يعدون مقلدين في هذه الساحة يعتمدون قول الألباني باطمئنان، حتى ولو خالف السابقين، وقد حصل ذلك، كما تعلمون سواء في التصحيح أو التضعيف.
فأقول هل يعد هذا المنهج صحيحاً، خاصة وأنا أعتقد أن من سبقوا الألباني يقدمونه ويفوقونه علماً، أو ليس هذا هو المنهج الصحيح؟
الجواب
الذي أعتقده أن الأخ لم يدع مقالاً لقائل، فقد سأل وأجاب، رزقنا الله وإياه الأجر والثواب، فليس لي تعليق على ما ذكره الأخ.
وإن كنت أقول إن قضية تصحيح الأحاديث وتضعيفها، أمر اختلف فيه العلماء قديماً وحديثاً، وعامل الزمن لا يجب أن يحول بيننا وبين أخذ الحق ممن جاء به، إذا وجدت الحق عند إمام متقدم فافرح به، وإن وجدته عند إمام متأخر فكذلك، ومن نعمة الله على هذه الأمة أنه لا يزال فيها من يُعنى بحفظ السنة، فشأنها كما قال الشاعر: إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول ولكن إذا اختلفت أقوال الأئمة في الحديث بغض النظر عن كونهم قدماء أو معاصرين، إن اختلفت هذه الأقوال فلا يجوز للإنسان أن يأخذ بالتشهي فقط، فيأخذ أقوال فلان من الناس جملة وتفصيلاً، بل عليه أن يسلك مسلك البحث ويأخذ من الأقوال ما يجد أنه أقرب إلى الصواب، هذا إذا كان من طلاب العلم، أما إن لم يكن كذلك فالأمر يختلف.(106/18)
الجمع بين أحاديث أشراط الساعة
السؤال
كيف نجمع بين الأحاديث الدالة على خروج الدابة والتي تقسم الناس إلى مؤمن وكافر، وبين الأحاديث التي تصرح، بأن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها؟
الجواب
فيما يتعلق بأشراط الساعة الكبرى، هناك اختلاف بين العلماء في ترتيب هذه الأشراط، وليس هذا محل ذكر هذا الخلاف والحديث عنه.
ولكن القضية الظاهرة، التي لا تخفى على من قرأ الأحاديث المتعلقة بأشراط الساعة الكبرى، أنه بعد هبوب الريح التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن مسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، وأنها تقبض أرواح المؤمنين، أنه بعد هذا الأمر لا يوجد في الأرض من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
وفي القرآن الكريم ذكر الله عز وجل في قوله تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] فقوله (يوم يأتي بعض آيات ربك) صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فسر ذلك بطلوع الشمس من مغربها، فنقول: إذا طلعت الشمس من مغربها لم ينفع نفساً حينئذ إيمانها، لأنها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
أما الدابة فإنها تسم الناس المؤمن والكافر، وهذا يشعر -والله أعلم- بأنه حينئذٍ لا توبة؛ لأن المؤمن صار مؤمناً والكافر صار كافراً، ولا يتحول أحدهما، فلا المؤمن يرتد عن دينه، ولا الكافر يتوب إلى الله عز وجل والله أعلم.(106/19)
مشكلات واقعية للشباب
الشباب المسلم يعاني من مشكلات كبيرة، خاصة من يتابعون الإعلام المرئي بمختلف أشكاله، وفي هذا الدرس معالجة لمشكلات قُدِّمت من شباب، فلعل القارئ يستفيد منها أو يحذرها أو يفيد من وقعوا فيها.(107/1)
توطئة وتشويق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: في هذه الليلة المباركة، نشير إلى بعض المشكلات التي يواجهها الكثير من الشباب، فحديثنا الليلة هو عبارة عن مشكلات واقعية للشباب.
أيها الأحبة الجسد الميت لا يشعر بالألم، ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ وإذا أصيب جزء من بدن الإنسانِ بمرض الشلل، أو الفالج، أو غيره، فإنك مهما وخزته أو ضربته لا يشعر بالألم، إذ لا ينتقل الإحساس إلى مركز التألم والشعور والإحساس، لكن ما إن تدب الحياة في هذا الجسدِ أو في هذا العضو حتى يصبح شديد الحساسية يتألم لأقل شيء ويتأثر من أي شيء، وإذا كانت حياة الأبدان هي بالروح؛ فإن حياة القلوب هي بالإيمان بالله عز وجل وطاعة الله تعالى والقربى إليه.
وهذا الشهر الكريم هو من مواسم الخيرات، التي تتحرك فيها القلوب إلى رِبها جل وعلا، وربما أصغت الآذان إلى ذكره وربما لهجت الألسنة بذكره والثناء عليه، ولهذا لا غرابة أبداً، أن تجد الأوابين والتوابين تتكاثر جموعهم في هذا الشهر الكريم، وتغص بهم المساجد، وتكتظ بهم حِلق الذِكر، ولأصواتهم دوي بالقرآن الكريم، وربما كان في كثير من الأحيان لهم خنين وحنين وبكاء كلما سمعوا ذكراً أو وعظاً أو تخويفاً من نار أو ترغيباً في جنة أو دعوة إلى توبة، وهذا شأن المؤمنين الصادقين، فإن المؤمن الذي يؤمن بالله عز وجل وإن ابتعد، وإن استدرجه الشيطان خطوة خطوة، ونأى به عن ربه جل وعلا، فإنه سريع الأوبة والعودة إلى الله تعالى، لا يصر على ذنب، ولا يستمرئ معصية، ولا يستلذ مخالفة، وإنما تغلبه نفسه مرة بعد مرة بتسويل شياطين الإنس والجن، فإذا سمع داعي الله تعالى أجاب وأناب وهو يقول: لبيك لبيك، فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه، في هذه الساعة المباركة، أن يجعلنا وإياكم من التوابين، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين.(107/2)
مشكلة شاب
أيها الإخوة لم تدع لي أسئلة الشباب في الليلة الماضية وقتاً لبعض الموضوعات التي كنت دونتها وأعددتها، فقد جاءتني مجموعة من الأسئلة التي أرى أنها في غاية الأهمية، وهي أسئلة واقعية من بعض الشباب، فرأيت أن أشرككم معي في سماع المشكلة، ثم في بعض الحلول التي أسأل الله تعالى أن يفتح بها.
فأحد الرقاع التي بعث إليّ بها شاب يقول: أنا شاب نشأت وسط أسرة متدينة، ملتزمة بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم منذُ أن عرفت هذه الحياة، ويرجع الفضل بعد الله تعالى في ذلك إلى والدي -رحمه الله- الذي نشَّأ هذه الأسرة على الالتزام، ولكنني انحرفت عن خط سير هذه الأسرة نوعاً ما، حيث إنني الوحيد الذي ابتعدت عن الصراط المستقيم وقد بذل والدي رحمه الله كل ما يملك في سبيل هدايتي، وبذل النفس والنفيس، ولكن الله تعالى أراد شيئاً وأراد والدي شيئاً آخر، وكان ما أراده الله تعالى ثم رحل والدي عن هذا العالم إلى الدار الآخرة، وأكمل المسيرة من بعده أشقائي ووالدتي، ولكن جميع جهودهم لم يُكتب لها التوفيق، وأخبرك أن انحرافي لم يكن لسوء التربية دورٌ فيه، فأنا القاتل، وأنا القتيل، فما هي نصيحتك لي وأرجو الدعاء لي في هذا المقام أن يهديني الله تعالى وأن ينور بصيرتي؟ أما الدعاء، فقد بذلناه وسألناه جل وعلا، أن يهدينا وإياك إلى سواء السبيل، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما يحب ويرضى، وأن ينور بصائرنا، ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويأخذ بأيدينا إلى مرضاته، ويكفينا شر أنفسنا، وشر شياطين الإنس والجن.(107/3)
البحث عن الأسباب التي تحول دون الهداية
النصيحة الثانية: أن ينظر العبد في الأسباب التي تحول بينه وبين هداية الله تعالى وذلك أن الهداية موجودة في القرآن محفوظة {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .
فالهداية موجودة، بحث عنها يهودي فوجدها، وبحث عنها نصراني فوجدها، وبحث عنها بوذي فوجدها، وبحث عنها هندوسي فوجدها، وبحث عنها وثني فوجدها، واهتدوا بهداية الله تعالى، ووصلوا إلى طريقه، وآمنوا به، فكيف تعز هذه الهداية على إنسانٍ يعيش في مجتمع مسلم، وولد من أبوين مسلمين، ونشأ في بيئة صالحة؟! إلا أن يكون هناك سبب يحول بينه وبينها.
الهداية إذاً موجودة ومبذولة، والله تعالى قد أقام الحجة على عباده: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] ويقول الله عز وجل عن المشركين وهم يعذبون في النار يوم القيامة قال: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10-11] .
فهم اعترفوا أنهم أهل لهذا العذاب مستحقون له جديرون به، ولم يتعذروا بأنه لم يبلغهم شيء، أو أنه حال بينهم وبين الهداية حائل، أو منعهم منها مانع!!، كلا، بل اعترفوا كما ذكر الواحد الأحد، جل وعلا، في محكم تنزيله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) وأنهم جديرون بهذا العذاب مستحقون له، حتى إنه لا يدخل النار أحد قط، إلا وهو معترف بأنه من أهل النار، وأنه مستحق لها ليس في الدار الآخرة أحد يدخل النار وهو يصيح يقول: ربِّ إني مظلوم، نعم، هذا حاصل في الدنيا، فقد يقتل شخص في الساحة وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يجلد شخص وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يسجن وهو يقول: أنا مظلوم، ومن الممكن أن تقطع يده وهو يصيح أنا مظلوم.
أما في الدار الآخرة فهذا الصياح والصراخ لا تجده!!، كل إنسان لا يدخل النار إلا وهو مقتنع بأنه مستحق لهذا العذاب مهما كان هذا العذاب شديداً، وعظيماً وفظيعاً ومهيناً ورهيباً لا تتصوره العقول، ولا يكاد الإنسان أن يدركه، ومع ذلك كله لا يدخل النار أحد إلا وقد أعذر من نفسه، وعرف أنه مستحق لهذا العذاب، وهذا من كمال عدل الله تعالى.
وقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) إذاً: هم عطلوا آذانهم، (أو نعقل) فعطلوا عقولهم أيضاً عن طلب الهداية (ما كنا في أصحاب السعير) فاعترفوا بألسنتهم وقلوبهم ظاهراً وباطناً، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) إذاً الهداية موجودة فلتنظر ما هو المانع الذي يحول بينك وبينها؟! أيضاً الأمر الآخر: أن الفطرة موجودة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث المتفق عليه {ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه} .
وأنت أيها الأخ الكريم ذكرت لنا في سؤالك أن والديك من أهل الخير والصلاح، وأن أسرتك متدينة وأن ما حصل لك لم يكن لسوء التربية فيه دورٌ كما ذكرت.(107/4)
القرآن شفاء لما في الصدور
النصيحة الأولى: فإن الله تعالى بيَّن في كتابه أن هذا القرآن شِفاء، إذا وجدنا في جسد الإنسان مرضاً ذهبنا به إلى أطباء الأجساد، فعملوا له التحاليل اللازمة والدراسات حتى اكتشفوا سبب المرض، ثم صرفوا له الدواء المناسب، فإن العلاج كل العلاج لأمراض القلوب هو بهذا القرآن، فعلى الإنسان أن يوقن يقيناً لاشك فيه، أن هذا القرآن مُشتمل على ألوان العلاجات التي تحتاجها قلوب الناس، وأن القلب الذي لا يخشع لهذا القرآن، ولا يتأثر فيه، ولا يجد فيه طبه وشفاءه، هذا القلب على خطر عظيم، وإذا كان للأجساد أيضاً أمراض ينفض الأطباء أيديهم منها ويقولون: هذا مرض لا شفاء له ولا حيلة فيه، وصاحبه ميئوس منه، فالناجي منه مولود، والواقع فيه مفقود؛ فإن للقلوب أيضاً أمراضاً يُخشى أن تؤدي بأصحابها.
وعلامة ذلك المرض الخطير في القلب هو أن لا يتأثر بالقرآن ولا يخشع به، قال الله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] .
وبين في مواضع أنه أنزل هذا القرآن شفاء، وفي موضع شفاء لما في الصدور، وفي موضع أنه يهدي للتي هي أقوم، إلى غير ذلك مما وصف الله تبارك وتعالى به كتابه، فينصح الجميع بالإقبال على هذا القرآن، تلاوةً وقراءةً، وتدبراً، وتخشعاً، وسماعاً، وفهماً، وحفظاً، وإدراكاً، واجتماعاً عليه؛ لعل الله تعالى أن يُلين قاسي القلوب بتكرار الآيات والمواعظ فيه.
وإذا تأملت أن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، خالق هذه القلوب ومبدعها عرفت السر في تجاوب القلوب الحية أو القلوب التي لا زالت على الفطرة مع القرآن الكريم.
قرأت في بعض القصص، أن رجلاً من أهل العلم سافر قبل سنوات إلى بلدان من بلاد العالم على متن سفينة، وكان معهم مجموعة من المسلمين، ومجموعات أخرى من غير المسلمين، وكان اليوم جمعة فأرادوا أن يقيموا صلاة الجمعة على السفينة، فاجتمعوا وقام ذلك الرجل وهو قد يكون عالماً أو مفكراً أو داعية، المهم قام وصلى بهم وخطب خطبة الجمعة، وبعد الصلاة تفرق الناس، فجاءت إليه امرأة غربية نصرانية، وتكلمت معه برطانتها وهي لا تعرف اللغة العربية، فقالت له: " ماذا قُلت قبل قليل حينما كُنت تتكلم".
فقال لها: " إنه وعظ الناس وذكرهم وتكلم عن بعض المسائل وبعض الأمور التي تهم المسلم في دينه".
فقالت له: " أنا لا أعرف اللغة العربية ولا أدري ماذا قلت، ولكنني أحس أن بعض الكلام الذي تقوله يتعاطف معه قلبي، وأنني إذا سمعت كلامك أشعر بخفقان في صدري، وأشعر أن قلبي يكاد أن يطير، ولا أدري ما هذا الكلام الذي تقوله" فقال لها: إن هذا هو القرآن وإني استشهد بشيء من آياته أثناء خطبتي.
وفي القديم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه لما جاء المدينة في فداء أسارى بدر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي بأصحابه فيقرأ بهم سورة {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1-2] فدخل المسجد وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فأنصت له يقول جبير رضي الله عنه، وكان يومئذٍ مشركاً: [[فلما سمعت قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ الآية)) [الطور:35-36] .
كاد قلبي أن يطير فوقع الإسلام في قلبي من يومئذٍ]] ثم هداه الله تعالى وأسلم.
وقد قرأت مقالاً لأحد العلماء يقول: " إنه كان يوماً ما جالساً في مجلس لهو ولعب وسمر مع بعض أصحابه وزملائه، وكانوا يتحدثون ويتضاحكون، يقول: فصمتوا لحظة واحدة، ثم جاءهم من بعيد صوت قارئ يقرأ شيئاً من القرآن الكريم، قول الله عز وجل: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:59-62] .
يقول: فكأن هذه الآية وقعت في أذني لأول مرة، وكأنه لم يخاطب بها غيري ولم أسمعها من قبل يقول: فأصابتني قشعريرة ورعشة في بدني ظلت معي أسابيع وأنا مضطربٌ مقشعرٌ، وفي أعصابي حال من الارتباك ما الله به عليم، من جراء تأثره بتلك الآيات".
وقد جاء في بعض الروايات أن المشركين لما سمعوا هذه الآيات أيضاً، وكانوا في مكة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم يطاردونه ويطاردون أصحابه فسمعوا قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59-61] يعني: غافلون لا هون {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] إنهم سجدوا عن آخرهم، وهم كانوا مشركين، إلا رجلاً منهم كان كبير السن لم يستطع أن يسجد فأخذ كفاً من تراب في كفه في يده ثم وضعه على جبهته وسجد عليه! فمن لم يعتبر بمواعظ القرآن فبأي مواعظ يعتبر؟! ومن لم يلن قلبه لكلام الله فكيف يلين قلبه لكلام الناس؟! ومن لم يخشع من هذا الذكر الحكيم فأي وعظ يمكن أن يخشعه أو يلين قاسي قلبه؟!(107/5)
أسباب تحول دون الهداية وعلاجها
عليك أن تسأل نفسك: ما هو الأمر الذي حال بينك وبين أن تستجيب فطرتك لهذه الهداية؟ بقي الأمر منحصراً والله تبارك وتعالى أعلم في أحد أمرين:(107/6)
شياطين الإنس
السبب الثاني: هو الشيطان الإنسي وأعني به قرناء السوء، الذين هم أحياناً أعوان لشياطين الجن على إضلال الإنسان، له فيكون له أصحاب يدعونه إلى الضلالة، ويدعونه إلى الشر، ويزينون له الباطل، كما فعلوا مع أبي طالب حتى وهو في مرض الموت، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فختم له على الشرك والكفر -والعياذ بالله من شؤم قرناء السوء-! والغريب أن قرين السوء قد يوقعك ثم يذهب وهو يضحك وأنت تبكي!! فقد يجر الإنسان إلى أنواع المهالك والمعاطب؛ فإذا وقع تركه وذهب ينظر إليه من بعيد، ويسخر منه، ويشمت به ويضحك، وقد يتبجح في المجالس أنه أورد فلاناً موارد الهلكة، وعلى كل حال فهم يوم القيامة لا ينفعونك بشيء، فيوم القيامة يفصل بينكم ويقال لكم: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] .
لا أحد يحمل وزر أحد بل كل إنسان قد ألزم طائره في عنقه، ويخرج له يوم القيامة كتابٌ منشور، يُسلَّم إياه ويقال له كما قال الواحد الأحد جل وعلا: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:14-15] .
فحاذر شر شياطين الإنس وابعده عن جلساء السوء، وإن خدعوك بمعسول القول ولين الكلام، وإن أغروك بالمخدرات، وأغروك بالتدخين، وأغروك بالسفر إلى الخارج، وأغروك بالصورة الجميلة، وأغروك بالأغنية ذات الصوت العذب، وأغروك بالموسيقى وأغروك بما يلذ سمعك ويطربه، ويعجبك، ولكن لا تنس أبداً أن العبرة بالمآل وكما قيل: كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتكُ السهام بلا قوس ولا وترِ يسر مُقلته ما ضر مُهجته لا مرحباً بسرورٍ جاء بالضررِ أي خير في نظرة حرام يستلذ بها الإنسان لحظة، ثم تورثه حسرة دائمة في قلبه؟! حسرة في الدنيا على فوت هذا الأمر وحرمانه منه، وحسرة في الآخرة، والله الذي لا إله غيره -أقولها خاصة لك أخي الشاب صاحب الورقة، وأقولها لكل إنسان- والله الذي لا إله غيره إن العذاب الذي يشعر به الذي يرتكب الجرائم من الفواحش والكبائر والذنوب العظام، ومن مقارفة ما حرم الله، ومن السفر إلى الخارج، ومن معاقرة الخمور، ومن مجالسة المومسات والبغايا والفاجرات، والله إن العذاب الذي يشعر به في قلبه هو أضعاف أضعاف ما قد يشعر به الإنسان من العذاب في سبيل مقاومة الشهوة، والصبر عليها، والامتناع عما حرم الله، بل إن العبد إذا صبر عما حرم الله تعالى فإن الله تعالى يورثه في قلبه أُنساً ولذة، لذة الانتصار على الشهوة، لذة الانتصار على النفس، لذة مخالفة الشيطان، ومراغمة النفس الأمارة بالسوء، فيقذف الله تبارك وتعالى في قلبه سكينة ولذةً لا يعلمها إلا من ذاقها وجربها.
فلا تنخدع بلذة عابرة، لا خير في لذة من بعدها النارلا، بل قبل النار حتى في هذه الدنيا حسرات.
وعندي أوراق من بعض هؤلاء، والله إن الإنسان إذا قرأها لا يملك عينه أن يبكي، قد يكونون ارتكبوا فواحش كثيرة، وأثموا، وظلموا، وفجروا حتى يظن من يعرفهم أن هؤلاء لا خير فيه وليس في قلوبهم إحساس، لكن إذا قرأ ما كتبوا أو سمع ما قالوا ينكسر قلبه لهم، ينكسر لما يشعر ويعلم في قلوبهم من ذُل المعصية والعياذ بالله ومن عظيم الحزن على ما فعلوا، أما العبد الذي أطاع ربه، فقد يشعر بالحرمان لحظة؛ لكن الله تعالى يورثه من جراء ذلك سعادة وأُنساً: ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه أُنساً وطيباً فعليك أن تعوذ بالله وتلوذ بكنفه، وتسأله جل وعلا أن يمنحك الصبر، وأن يثبتك وتنظر ما هي الأسباب التي أودت بك من ما زينه لك شياطين الإنس والجن فتعمل على إزالتها، وعليك أن تبحث عن رفقة صالحة، تكون معهم يعينونك على الخير، ويدلونك عليه، وينشطونك إذا كسلت، ويذكرونك إذا نسيت، ويعلمونك إذا جهلت، لعل الله تعالى أن يحشرك معهم في الدار الآخرة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.(107/7)
شياطين الجن
السبب الأول: وسوسة شياطين الجن، الشيطان الجني المسلط على ابن آدم، والذي له في القلب لمةُُ وله تأثير وله محاولة، وقد توعد بني آدم أن يغويهم أجمعين، وهددهم منذ عهد أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام أن يقعد لهم بكل طريق يقطع عليهم هذا الطريق، ويحول بينهم وبينه ويحاول أن يوجد العثرة لهم عن الهداية، فهذا شيطان الجن، وعلاج شيطان الجن، أن تستعيذ بالله منه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] .
وعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1-6] .
فالاستعاذة من شيطان الجن أولاً، وعلى العبد أن لا يدع لشيطان الجن سبيلاً إليه، وذلك بكثرة الذكر فإن الشيطان إذا دخلت البيت حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله، فإذا خرجت حاول أن يوسوس لك، وقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا دخلت الخلاء حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا أردت أن تنام حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا استيقظت وإذا ذهبت، أو سافرت، أو أقمت، أو حصل منك أي تغير في حال من أحوالك، فاجعل الذكر أنيسك وخليلك في كل حال، واجعله حائلاً بينك وبين شياطين الجن الذين قد يضرونك حتى في بدنك، فمن المعلوم أن الشيطان الجني يحاول أن يضر الإنسان حتى في بدنه، فالجن قد يلاطفون الإنسان، وقد يؤذونه في نفسه، وقد يؤذونه في أهله، وقد يؤذونه في ولده، والذي يحول بينه وبين ذلك هو أن يستعيذ بالله تعالى من شرهم، وأن يذكر اسم الله تعالى، ولهذا جاء في الحديث: {ستر ما بين أعين الجن وبين عورات بني آدم إذا دخلوا الخلاء أن يذكروا اسم الله} فإذا أراد الإنسان أن يدخل الخلاء فقال: {بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث} كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن للشيطان عليه سبيل، فلا يراه ولا يستطيع أن يضره بشيء وهكذا غير هذه الأماكن، خاصة الأماكن التي تكون محتضرة، أي: يحضرها الشياطين ويكثرون فيها، فعلى العبد أن يتحصن من شر شياطين الجن بالأدعية والأذكار الصباحية والمسائية والأوراد التي يحفظه الله تبارك وتعالى بها.(107/8)
سؤال مصاب بمرض العشق
هذا أيضاً سؤال آخر يقول: أنا شابٌ ابتلاني الله تعالى بأخطر الأمراض المعنوية، وهو مرض العشق- أعاذنا الله وإياكم منه- حيث كانت البداية مع شاب صغير حاولتُ مساعدته بعد أن شكا لي ظُلم والده له، وقسوته عليه، فعطفت عليه وساعدته، ولم أكن أعلم ماذا يخبئ لي القدر المجهول -على حد تعبيره- حيث تحولت العلاقة إلى عشق مرير لا أستطيع التخلص منه وهو كذلك، وأحمل والده المسئولية العظمى أمام الله تعالى حيث أهمل ابنه، وقسى عليه وطالت مدتي معه، حتى أنبني ضميري، وصارحته أن عليه أن ينسى الأيام الماضية لتبقى مجرد ذكرى في طيش الشباب، ولكنه بكى أمامي كالحمل الوديع، ورفض أن أتخلى عنه مهما كانت الأحوال، فاستسلمت للأقدار رغم إيماني التام أن الهدف الحقيقي من هذه الحياة، أجل وأسمى من هذه التوافه، يقول: وأعاتبك عتاباً رقيقاً، لعدم إلقائك لأحد الدروس السابقة، التي كنت أعلنت عنها بعنوان مصارع العشاق، وأرجو أن يتحقق هذا الأمل ويُلقى الدرس فلا تعلم قد تكون هدايتي على يديك لتحصل على خير كثير! أسأل الله تعالى أن يهديك على يدي أو على يدي غيري، المهم أن يهديك الله تعالى إلى سواء السبيل، ويأخذ بيدك إلى ما يحب ويرضى.
أولاً: أنا قرأت هذا السؤال عمداً من أجل أن تسمعوه فيسمعه الآباء ويدركوا أهمية عنايتهم بأولادهم وخاصة من صغار السن، في السن الابتدائي والمرحلة المتوسطة، ويحرصوا على مراقبتهم وشدة الاهتمام بهم، وكذلك لأنه يسمعه الشباب فيحذروا على أنفسهم ويبتعدوا ويدركوا أنه ربُما نظر نظرة تكون سبباً في بلاءٍ وحزنٍ طويل، فيحرص الإنسان على أن يلتزم قول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ربما نظرة يُحرم الإنسان بسببها لذة العبادة، وربما نظرة يحرم الإنسان بسببها من حفظ القرآن، وربما نظرة يحرم الإنسان بسببها من الطاعة، فتثقل عليك، وربما يحال بينه وبين الهداية بسبب إدمان النظر، وكونه يتلفت يمنةً ويسرةً، ينظر في وجوه الناس شباباً ونساءً، وينظر في الصور ويتأملها ويستحسن حسنها ويستملحها، ويتأملها ويتلذذ بالنظر إليها وإدمان ذلك، فيورث هذا قلبه مرضاً طويلاً!! نسأل الله تعالى العفو العافية.(107/9)
توجيه العاطفة وجهة شرعية
ثالثاً: إن هذا قد يعود إلى وجود نوع من الطبيعة العاطفية عند هذا الإنسان، إنه إنسان عاطفي قوي العاطفة، عنده قدر من المحبة في قلبه، وهذه المحبة لم تجد طريقها الطبيعي الصحيح، ولذلك صارت مثل الماء الذي لا يجد مجراه الصحيح، فيضيع في الصحراء هنا وهناك، فعلى الإنسان أن يعالج هذا الأمر، بأن يملأ المكان الطبيعي من المحبة بما شرع الله تعالى، أما المحبة العبادية فكما بينت أنها لله تعالى، فيحب الله تعالى ويقبل عليه، ويحب النبي صلى الله عليه وسلم وسائر أنبياء الله ورسله، ويحب الصالحين والأعمال الصالحة، أما المحبة الطبيعية البشرية فعليه أيضاً أن يبحث عن بنت الحلال التي تملأ هذه الخانة المخصصة، فإن القلب عبارة عن خانات، وهناك خانة مخصصة للحب الطبيعي للزوجة والأولاد وغير ذلك قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] .
فهذه الخانة إذا زادت فهي مذمومة، وإذا نقصت فقد تضر بالإنسان -أيضاً- فعليك أن تبحث عن بنت الحلال التي تملأ هذه الخانة المخصصة في قلبك لحب الزوجة، أو لهذا اللون من الحب بما أحل الله تعالى، وتغض بها بصرك عن الحرام وتعف بها فرجك عما لا يجوز ولا ينبغي.(107/10)
الانقطاع الكلي عن الوباء
كما أن من الأسباب كثرة ملازمتك لهذا الشخص، فمن الحلول أن تنقطع عنه وتنفض يدك منه بالكلية وإذا كنت تقول: إنك قد تشعر أنه بحاجة إليك، فلا شك أنه ليس من العقل ولا من الحكمة أن ينفع الإنسان الآخرين ليضر نفسه، واطلب نجاة نفسك، والسلامة لا يعدلها شيء، وأنت الآن بحاجة إلى أن تفارقه أعظم بكثير من حاجته هو إلى أن يصاحبك، وحاجتك مقدمة على حاجته، فعليك أن تتجنب هذا الشاب وتبتعد عنه ابتعاداً كلياً، وتجعل علاقتك معه كعلاقتك بأي شخص أجنبي، إن قابلته سلمت عليه وصافحته إن كان هذا لا يضر بك، وأما ما سوى ذلك فابتعد عنه وتجنب.
وفي الختام: بقي في الحقيقة مجموعة من الأسئلة كانت مهمة ومفيدة ولكن الوقت داهمنا، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يمن علينا وعليكم جميعاً بالهداية والثبات، وأسأل الله تعالى لهؤلاء الشباب ولسائر شباب المسلمين أن يهديهم إلى سواء السبيل، وأن يجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يصلح فساد قلوبهم، وأن يصلح ظاهرهم وباطنهم وسرهم وعلانيتهم، وأن يملأ قلوبنا وقلوبهم بحبه وذكره وشكره وعبادته إنه على كل شيء قدير، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال، اللهم استجب لنا يا حي يا قيوم، اللهم لا تردنا خائبين ولا من رحمتك مطرودين يا حي يا قيوم، اللهم استجب لنا إذ سألناك، اللهم استجب لنا إذ سألناك، اللهم استجب لنا إذ سألناك، اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، وأنت وحدك المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، خاتم أنبيائه وأفضل رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا السلام هو تحية الإسلام، وفي نفس الوقت هو استدراك استدركه عليَّ أحد الإخوة، يقول: لقد نسيت أن تحيي هذه الجموع المتطلعة بتحية الإسلام، فهلا قابلتهم بمثل ما يحملون، فلذلك ذكرني هذا الأخ، فجزاه عني وعنكم خيراً.(107/11)
العلاج بقطع السبب
الأمر الثاني الذي قد يكون سبباً فيما جرى وبزوال السبب يزول المسبب، إن هذا الأمر قد يكون بسبب النظرة الحرام، أول نظرة تلذذ واستحسان لهذه الصور، وقد يرى بعض الناس أن هذا أمرٌ أصبح عادياً، فعلى الإنسان أن يكف بصره عما حرم الله، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] .
وعلى الإنسان أن لا يثق بنفسه أبداً.
اتصلت بي إحدى المرات امرأة، تقول لي: كنت أسمع الناس يتكلمون عن التلفاز ويحذرون منه؛ فكنتُ أسخر بالذين يقولون هذا الكلام، لأنني لا أرى فيه شيئاً، ولا أتابعه، وإنما كنت أستمع كما تقول إلى البرامج الدينية، وربما شاهدت المباريات الرياضية، فتقول: في إحدى المرات، تعلق قلبي من حيث لا أدري ولا أشعر بأحد هؤلاء اللاعبين الذين أتابعهم، وصرت أفكر فيه دائماً وأبداً، ووالله إنها تكلمني وعبرتها تسبق كلمتها، وهي تقول: إن هذه الأمور أنا لست لها، وليست لي، وأنا بعيدة عنها، وتحلف بالله أن هذا الإنسان لو جاء يطرق الباب إنها لا يمكن أن تقبله، ولكنها تشكو ما وجدت في قلبها، وتتساءل كيف سرى هذا إلى فؤادها!! وهذا هو البلاء، البلاء يسري من حيث لا يدري الإنسان مثل ما قال الشاعر الذي يقول: عُيون المها بين الرُصافة والجسرِ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري فقد لا يعرف الإنسان أن هذه النظرة سوف تورثه مثل هذا المصير السيئ، فعلى الإنسان أن يقطع مادة الفساد من أصلها بتجنب النظر الحرام، والذي وقع عليه أيضاً أن يعالج هذا البلاء بغض البصر، وأن يطأطئ رأسه لله، فكما إنه في صلاته ينظر إلى موضع سجوده لا يتعداه، فعليه أن ينظر إلى ما يحتاج إليه، وأن يتجنب إطلاق البصر فيما لا يحتاجه وفيما يضره ولا ينفعه.(107/12)
العلاج بدوام الدعاء
أدم قرع الباب حتى يُفتح لك، واعلم أن الله تعالى إذا حجب عنك شيئاً مما تريد الآن، فإنما يحجبه عنك لحكمة وهو أحكم الحاكمين، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وعليك أن تظل منطرحاً حتى تصل إلى درجة الاضطرار، والله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه، كما قطع على نفسه سبحانه، وكتب على نفسه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] .
والناس يتناقلون في قصصهم وأخبارهم، أن ربنا جل وعلا يجيب دعاء المضطرين في أمور الدنيا، حتى ولو كانوا من غير المسلمين أحياناً، فربما أجاب الله دعوة غريق، أو مريض، أو حريق، أو جائع، أو مظلوم، أو غير ذلك إذا وصل إلى درجة الاضطرار، أي الانقطاع التام من الأسباب، والتسليم المطلق لله تعالى، وتفويض القلب كله إلى الله تعالى، وانتظار الرجاء مع الثقة بوعده؛ فكيف إذا كانت الضرورة ضرورة دينية؟! وضرورة الدين أعظم من ضرورة الدنيا؛ لأن الإنسان قد يموتُ من مرضٍ، أو جوعٍ، أو عطشٍ، أو بردٍ، أو حَرٍ، أو ظُلمٍ، فيكون مأواه إلى الجنة إن كان من الصالحين الأتقياء، فضرورة الدنيا مهما عظمت فأمرها يهون، لكن المصيبة العظمى ضرورة الدين، فكون الإنسان مفتوناً في دينه في مثل هذا الأمر هذه هي المصيبة؛ لأن الإنسان ولو عاش في ظل نعيمٍ مقيم في هذه الدنيا فإن مصيره إلى الموت، وما بعد الموت أمر يهول ويطول، فعليك أن تستمر في قرع الباب حتى تصل إلى درجة الاضطرار، وأن لا تيأس من أن الله تعالى سوف يجيب دعاءك.
إذاً: عليك أولاً: أن تشغل قلبك بطاعة الله تعالى وحبه وذكره ودعائه وسؤاله وتنطرح بين يديه.(107/13)
العلاج بالتوبة
عليك أن تعالج قلبك، بالقرآن وترديد القرآن، وبالمواصلة وعدم اليأس، وكما قيل: أخلق بذي الصبرِ أن يحظى بحاجتهِ ومُدمِن القرعِ للأبوابِ أنْ يَلِجاَ رأيت بعض الناس يُصلي مرة أو يخشع مرة، أو يحضر ختمة من الختمات، أو يحضر مجلساً من المجالس، فإذا لم يجد في قلبه ليناً ترك المجاهدة!! لا يا أخي كل حياتك ميدان للجهاد حتى تموت، حتى وأنت على فراش الموت، جاهد لعل التوبة تكتب لك ولو في ذلك الوقت، فإنك سعيد إن كتبت لك توبة، حتى ولو كنت على فراش الموت ما لم تغرغر قال النبي عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} كما في الحديث الصحيح -حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
فحتى لو كتبت لك توبة هناك فأنت إلى خير، المهم أن تتوب قبل الموت، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وقبل أن تعاين الملائكة الذين جاءوا لقبض روحك.
والله عز وجل يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .
فانطرح بين يدي الله، وانكسر له، واصرخ طالباً من الله تعالى النجدة والغوث، وتذكر أن الإنسان لو رأى شخصاً في مسيس الحاجة إليه، وهو يناديه ويستغيث به ويطلب منه عونه في نجاة من غرقة أو حرقة، أو حادث أو غير ذلك، أن أقسى الناس قلباً، لا يمكن أن ينظر إلى هذا الشخص وهو يموت ويتركه، والله تعالى أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، ورحمته وسعت كل شيء وهو أرحم بعباده من الأم بولدها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فعليك أن تعلم أن ربك هو الرحمن الرحيم، الودود الحليم الذي قال عن أكفر الكافرين: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] أي: لو تابوا لتاب عليهم، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] يعني أصحاب الأخدود {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] .
أي: لو تابوا من جريمتهم العظمى لتاب لله عليهم وقبلهم، فهو قابل التوبة، فتب إليه وانطرح بين يديه، وَأَدِمْ السؤال، وألظ بـ (ياذا الجلال والإكرام) واصدُق الله تعالى يصدقك الله، ولا تيأس إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا تقنط فإنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.(107/14)
من أسباب المرض: فراغ القلب وخواء الروح
أول الأسباب التي أودت بك إلى هذا هو فراغ القلب والروح: فإن القلب إذا خلا عصفت فيه رياح الشهوة، وتلاعبت فيه الشياطين، وأدخل عليك الشيطان من وسوسته ما أراد.
فراغ القلب من حب الله تعالى فإن القلب المشغول بحب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب الصالحين، ليس فيه مكانٌ لأي لون من ألوان هذا الحب المذموم الممقوت، والقلب مثل الإناء، إن ملأه الإنسان بالعسل لم يكن فيه مكان للتراب والبعر، وإن ملأه الإنسان بالتراب والمواد الخبيثة لم يكن فيه مكان للعسل والأشياء النافعة الحلوة المفيدة، فهو للذي يسبق.
فعلى الإنسان أن يملأ قلبه بمحبة الله تعالى، ويحرص على تحصيل محبة الله تعالى.
وأمرها واضح وسبيلها لا شك فيه: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] .
ويقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس وهو في الصحيحين: {ثلاث من كُن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه؛ كما يكره أن يقذف في النار} .(107/15)
الأسئلة(107/16)
المحتاجون في الداخل والخارج
السؤال
مع كثرة التبرعات هذه الليالي كزكاة أو صدقات؛ هناك كثير من الناس يشككون بوصولها، ويقولون: هناك في البلد محتاجون أكثر من الخارج، بماذا تنصح هؤلاء؟
الجواب
نعم في البلد محتاجون لا شك، ونحن ممن يتعرف على المحتاجين في البلد ويوصلون إليهم ما تيسر من المواد العينية وغيرها، ومن المال الذي يستعينون به، ولكن من المغالطة أن نقول هنا: إن المحتاجين هنا أكثر من الخارج، ففي الخارج أممُُ بأكملها، وكما قيل: تلفتوا هاهُم في الأرضِ إخوتُنا شعبٌ برمته في العُري يُحتضرُ كانوا بأوطانهم كالناس وانتبهوا فما هُمُ من وجود الناس إن ذُكِروا مشردون بِلا تيهٍ فلو طلبوا تُجدد التيه في الآفاقِ ما قدِروا يلقى الشريدُ فِجاج الأرض واسعةً لكنهم بمدى أنفاسهمْ حُشِرُوا في خيمةٍ من نسيج الوهم لفقها ضميرُ باغٍ على الإسلام يأتَمِر أوهى وأوهى خيوطاً من سياسته لو مسها الضوء لا نفدتْ بِه السُتُرُ ناس لا يجدون ما يلبسون ولا ما يأكلون ولا ما يشربون، بل لا يجدون مكاناً يقضون فيه حاجتهم، مريضهم يموت وهو يتلوى، لا يجدون علاجاً له، ولو كان مرضه أهون الأمراض الفرق كبير يا أخي!(107/17)
من مات ولم يعرف الإسلام
السؤال
ما هو مصير الذين يموتون على غير دين الإسلام وهم لم يعلموا كما هو حاصل في بعض دول أوروبا؟
الجواب
إذا كانوا لم يعلموا بدين الإسلام فربك جل وعلا يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ويقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وقد اختلف أهل العلم في مثل هذه المسألة على أقوال كثيرة، سردها الإمام ابن القيم في كتابه القيم أحكام أهل الذمة، على كل حال دعهم لله، واشتغل بمحاولة إيصال الإسلام لمن تستطيع منهم ودعوتهم إليه، وتقديمه لهم بطريقة مقنعه تدعوهم إلى التفكير فيه، ومن ثم الدخول فيه، أما الاشتغال بمصيرهم الأخروي هذا فدعه لله تعالى.(107/18)
مشكلة شرب السيجارة
السؤال
هذا شاب يقول: أنا مبتلى بشرب الدخان، وعند دخول شهر رمضان عزمت على تركه فلم أستطع، حيث إني بعد الإفطار مباشرة وقبل المغرب أشربه، وقبل أذان الفجر أشربه أيضاً، وقد أثر ذلك في أعمالي، حيث إني هجرت القرآن كثيراً فما هو توجيهكم؟
الجواب
يا أخي لا تحتاج إلا إلى عزيمة صادقة أولاً، ثم استعن بالله تعالى أن يعينك على الخير، والله تعالى لا يرد سائلاً ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .
فأنصحك أن تصدُق الله وتصمم على هذا العمل، وإن قمت بزيارة إلى العيادة الخاصة في ذلك، واستفدت من بعض خبراتهم وما لديهم، فهذا شيءُُ حسنٌ أيضاً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(107/19)
نصيحة للمقصرين
السؤال
هل من كلمة نصح بالتوجيه لمن يشاهدون الأفلام والمسلسلات والدعايات، ونحن في أمس الحاجة إلى الحذر واليقظة مما يحيكه لنا أعداؤنا؟
الجواب
أعداؤك يا أخي يسهرون الليل والنهار! ذكر لي مجموعة من الإخوة أنه مُطّلع -وذكرت هذا في أكثر من مناسبة- على البث الذي يُبث الآن إلى الشعب الروسي، فوجدوا كيف أن الغرب تسلل إليهم سريعاً الآن، وبدأ يبث إليهم الآن أفلاماً تنصيرية مجهزة، كأنما أعدت لهم إعداداً خاصاً، فضلاً عن الأفلام التي يستهدفون بها مسخ عقول الشباب، وتغيير أخلاقهم، وتدمير معنوياتهم، وشغلهم بالتوافه من الأمور، فعلى العبد أن يتقي الله تعالى في هذا الوقت ولا يضيعه بمثل هذه الطريقة، لأنه بهذا الأسلوب وهذا العمل، أول من نخسر سوف نخسره هو، فالشاب الذي تكدست أعصابه من طول مشاهدة التلفاز والفيديو، هذا لا يصلح لحل ولا ربط، وأنى له أن يكون شاباً مناضلاً في علمٍ، أو في عملٍ، أو في دعوةٍ، أو في جهادٍ أو في غير ذلك؟! نحن نريد الشباب الذين قيل فيهم: وبورك في الشباب الطامحينا وقال فيهم آخر: شبابُ ذللوا سُبل المعالي وما عرفوا سِوى الإسلامِ دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كُماة يدقون المعاقلَ والحصونا وإن جُن المساءُ فلا تراهم من الإشفاقِ إلا ساجدينا ولم يتشدقوا بقشور علمٍ ولم يتقلبوا في الملحدينا ولم يتبجحوا في كل أمرٍ خطيرٍ كي يُقال مثقفونا كذلك أخرجَ الإسلامُ قومي شباباً مُخلصاً حُراً أمينا الشباب الذي يقول فيهم القائل: شبابٌ كمَ الإسلام يرضى خلائقاً وديناً ووعياً في اسْوِداد المفارقِ قلوبهم طُهرٌ يفيض على الورى وأيديهم تأسو جُراح الخوافقِ هُم السلسل الصافي على كُلِ مؤمنٍ وفي حومة الهيجاءِ نارُ الصواعقِ هُم الأملُ المرجوُ إن خابَ مأملٌُ وأوهن بُعد الشوطِ صبر السوابقِ هُم الحلمُ الريانُ في وقدةِ الضما وليس على الآفاق طيفٌ لِبَارقِ كأنَّي أراهم والدُّنا ليست الدُّنا صلاحُُ ونورُ الله مِلء المشارقِ أقاموا عَمودِ الدِّين مِنْ بَعد صدعهِ وأعلوا لواء الحقِ فوق الخلائقِ السؤال: هل من تعلم لغة قومٍ أمن مكرهم؟ الجواب: هذا ليس بصحيح، وإن كانت معرفة لغة الأعداء مما يحتاج إليه المسلمون، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتعلم لغة يهود، وقال: إني لا آمنهم على كتابنا.(107/20)
إيصال التبرعات
السؤال
أرجو إعطاءنا فكرة موجزة حول مدى إيصال وصرف التبرعات، وإزالة ما ران على الآذان حول التشكيك بعمل كلٍ من هيئة الإغاثة، وجمعية البر الخيرية ببريدة؟
الجواب
القائمون على هيئة الإغاثة وعلى جميعة البر الخيرية هنا، من الإخوة الأفاضل الموثوقين بحمد الله تعالى، ونسأل الله تبارك تعالى أن يبارك في جهودهم، ويعينهم على صرف ما وصل إليهم إلى مستحقيه، وأن لا يوجد هناك أي عقبة تحول دون ذلك، وهم على كل حال من الناس المعروفين المشهود لهم بالثقة، والعدالة، والأمانة، ونحمد الله تعالى على ذلك.(107/21)
سجود التلاوة في الصلاة
السؤال
إمام قرأ سورة العلق ولما وصل إلى آية السجدة لم يسجد بل ركع، وظن كثير من المأمومين أنه سجد ولم ينتبه إلى الإمام فما حكم صلاتهم؟
الجواب
هذا يختلف، إن تفطنوا لذلك، فإنهم يتبعون الإمام ويقضون هذه الركعة التي عليهم ما داموا لم يركعوا، فإن لم ينتبهوا إلا بعد مضي وقتٍ طويل فإن عليهم أن يعيدوا الصلاة.(107/22)
المفاخرة بدفاع الغرب عن الإنسان
السؤال
ما هي توجيهاتكم للذين يفاخرون بدفاع الغرب عن حقوق الإنسان، ويدللون بالدفاع عن هذه الجزيرة، ووقوفهم ضد النظام البعثي العراقي؟
الجواب
هم لم يدافعوا هنا عن حقوق الإنسان، هم دافعوا عن مصالحهم، هذا أمرٌ يعرفه الخاص والعام والغبي والجاهل، والمسلم والكافر، هل جاءوا من أجل سواد عيوننا؟! أو غضبوا حرصاً على حياتنا؟! هذه السذاجة لا يقول بها أحدٌ يملك شيئاً من العقل ولو يسيراً، هم جاءوا يدافعون عن مصالحهم، فالله تعالى قد حبا هذه البلاد بآبار النفط التي تدر من هذا الذهب الأسود الذي به قوام اقتصادهم ومعيشتهم وصناعاتهم وأمورهم، ولذلك يحرصون عليها ويدافعون عنها، هذا أمرٌ معروف.(107/23)
توجيه نصح للمعتمرين
السؤال
نحن في موسمٍ يكثرُ فيه المعتمرون إلى بيت الله، ويلاحظ هناك العديد من المنكرات لا سيما في الأسواق، أرجو توجيه كلمة للشباب الذاهبين إلى هناك بضرورة العمل على إنكار هذه المنكرات بالحكمة والموعظة الحسنة، كذلك توجيه كلمة لأرباب الأسر، وذلك لحفظ نسائهم وأطفالهم من التردد ذهاباً وإياباً من وإلى السوق.
الجواب
تكلمت عن هذين الموضوعين، أما حث الشباب على الذهاب إلى أسواق مكة خاصةً جماعة وليسوا فرادى، ووجودهم هناك صمام أمان بإذن الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، بالكلمة الطيبة فقط، فهذا تكلمت عنه في درس في مسجد المحيسني، بعنوان: (خمسة مقترحات) .
أما توجيه كلمة لأرباب الأسر، فقد تكلمت عنه أيضاً في موضوع بعنوان (صفة العمرة) وكان في مسجد المحيسني أيضاً.(107/24)
الجمعيات الشبابية
السؤال
ما رأيك في انتشار الجمعيات بين الشباب، ألا ترى أن في انتشارها خيراً، حيث أن في انتشارها تقليلاً من الإيداع في البنوك؟
الجواب
يقصد بالجمعيات أن مجموعة يتفقون على أن يأخذ أحدهم من راتبه الشهري ألفاً -مثلاً- ومن ثم في الشهر الثاني تكون عند آخر وهكذا، لا بأس بذلك، هذا جائز على ما أفتى به جماعة من علمائنا، على رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله.(107/25)
زكاة الحلي
السؤال
لقد حمي الوطيس بين العلماء المسلمين حول القول الراجح في زكاة الحلي، فهل لكم أو لأحد العلماء تحقيقاً بليغاً تحيلنا إليه؟
الجواب
أعرف في موضوع زكاة الحلي بالنسبة للنساء حوالي عشرة كتب مطولة، والأمر في ذلك واسع إن شاء الله فجمهور العلماء على أنه ليس في حلي المرأة زكاة، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، واختيار ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، ولهم في ذلك حججٌ يطول الكلام بذكرها، وذهب أبو حنيفة واختاره جماعة من علمائنا على رأسهم سماحة الوالد الشيخ/ ابن باز، وكذلك الشيخ/ ابن عثيمين حفظهم الله، إلى أنه تجب في الحلي المستعمل أو المعد للاستعمال زكاة، فإن زكَّت المرأة احتياطاً فهذا حسن، وإن لم تزكِ فلا حرج عليها إن شاء الله تعالى.(107/26)
معنى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً)
السؤال
أرجو أن توضح المعنى الصحيح لقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً الآية} [المائدة:82] لأن بعض الناس يفهمها على غير حقيقتها، فتراه يودُّ النصارى ويقربهم ولا يعرفون من المقصودون في الآية؟
الجواب
المقصودون في الآية هم الذين قال الله تعالى فيهم في نفس الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:82-85] .
المقصود الذين أسلموا منهم وآمنوا وعدهم الله بذلك.(107/27)
طلب توزيع شريط
السؤال
المسلمون في بقاع الأرض محتاجون إلينا وإلى دعواتنا ومشاعرنا وأموالنا فنرجو بأن تقوم بتوزيع شريط (من للمسلمين؟) حتى نستحث الهمم الراقدة لنصرة إخواننا؟
الجواب
الشريط موجود، ويمكن نشره.(107/28)
التتابع في قضاء الصوم
السؤال
سألتك في يومٍ مضى أنيِ فرطت في صيام رمضان في وقت مضى، وقلت: إن عليك القضاء، هل يلزم عليَّ التتابع أم صيام أيام فرادى؟
الجواب
ليس عليك تتابع، بل تصوم هذه الأيام التي عليك ولو كانت متفرقة.(107/29)
قضاء الصلاة
السؤال
أنا أيضاً قد فاتني صلاةٌ هل عليَّ قضاء الصلاة؟ إذا كان كذلك، أرجو إيضاح صفة ذلك وخاصة في صلاة العصر، وكذلك صلاة الجمعة والقصر؟
الجواب
أيضاً إذا كانت فاتتك صلاةٌ فعليك أن تقضيها على مذهب جمهور أهل العلم، وتقضي الصلاة على هيئتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها} .(107/30)
سؤال عن بنوك الربا
السؤال
في هذه البيوت الشاهقة الضخمة، في أكبر شوارعنا وفي مدننا الرئيسية وفي المواقع المهمة، وهي تعلن الحرب على الله ورسوله، صباح مساء، يُتعاطى فيها الربا الصراح البواح الذي لا شك فيه، فهم يأخذون المال ريالات وغيرها ويودع عندهم بفوائد، وقد يدفعون للمستدين مالاً ويأخذون عليه فوائد.
الجواب
هذا ربا صريح، ثبت النهي عنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر من سبعة عشر وجهاً.(107/31)
التأثر الوقتي بالمحاضرة
السؤال
إذا كنت في جو المحاضرة، فإني أتشجع وأحس بنفسي الحُرقة على إخواني المسلمين، لكن إذا خرجتُ نسيتُ معظم ما قلته!
الجواب
المهم يا أخي في المحاضرة وغيرها، أن تكون رجلاً طيباً، وقد تعمل بالخير ولو نسيته، وإذا عملت به وفقك الله لحفظه، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:189] ويقول: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] ويقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] .
فإذا وفقك الله للعمل بما علمت، أو بما سمعت فإن هذا مُعينٌ لك على حفظه، ولو نسيت بعد ذلك ما قيل أو نسيت دليلاً أو ما أشبه ذلك.(107/32)
حملة الصحف ضد الألباني
السؤال
بدأت بعض الصحف المحلية بحملة منظمة ضد الشيخ ناصر الدين الألباني، ما هو تعليقكم على ذلك، وكذلك انتشرت في الأسواق بعض الكتيبات، أرجو منكم التعليق؟! ثم هل للشيخ آراء نقرأها؟
الجواب
الشيخ ناصر الدين الألباني إمام من أئمة المسلمين في هذا الوقت، شاء من شاء وأبى من أبى، فإن الله تعالى قد كتب له القبول، في نفوس الناس، فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يحبونه في الله تعالى، وهو من أئمة الحديث في هذا الزمان الذين لهم دورٌ ومساهمة في تجديد هذا العلم، وحث الناس عليه، والكلام على أسانيده ومتونه تصحيحاً وتضعيفاً، وله كتب كبيرة لا توجد لعالم آخر مثله قط، ولا يعني أن هذا الرجل معصوم فهو بشر كغيره يخطئ ويصيب، وله آراء واجتهادات فقهية قد يخالف فيها جمهور العلماء، وله أيضاً آراء واجتهادات في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، قد يخالف فيها غيره، لكن كان ماذا؟! ومن ذا الذي ترضى سجاياهُ كلها كل إمام يأخذ من قوله ويترك، إلا إمام الأئمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأما هذه الحملة أنا لم أطلع الحقيقة على شيء من ذلك، فإن كان كذلك فليس بغريب.
فهي كما قيل (شنشة أعرفها من أخزم) .(107/33)
مفتون بشاب
السؤال
أنا شاب، بلغت من العمر الخامسة والعشرين -ولله الحمد- ملتزم إن شاء الله، حيث إني أحضر هذه الدروس لك منذ أكثر من سنتين ونصف، ولم أترك درساً لم أحضره، وعندي مشكلة، وهي إذا حضرت مسجداً جلستُ، وغالباً يجلس في جواري شابٌ، أو أراه يميناً أو يساراً، ثم يبدأ ببعض الحركات التي تثيرني… إلى آخره ولا أقدر أن أكلمه أو أنتقل من مكان إلى آخر، لأن المسجد قد يكون ممتلئاً، وأخرج وأنا صفر اليدين، وأنا لست على ذلك، وأرجو منكم حل مشكلتي بأسرع وقتٍ ممكن.
وأدع الله أن يبعدني عن هذه الفتنة.
الجواب
اللهم آمين، نسأل الله أن يبعدك عن هذه الفتنة ويملأ قلبك بحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويشغلك بما ينفعك في دينك ودنياك، ومن أهم الحلول في هذه، كما قلنا غض البصر، والإكثار من قراءة القرآن ودعاء الله تعالى واستغفاره.(107/34)
مقاطعة بنوك الربا
السؤال
هذا جزء من خطاب البنك البريطاني، أحد المتعاملين معه الذي ترك الإيداع في البنوك الربوية جميعاً، منعاً من مساعدتهم على الربا، وتاب إلى الله تعالى من ذلك، والبنك يستجديه الآن، فما رأيك بحثَّ المسلمين على سحب أرصدتهم من البنوك الربوية، حتى تُفلس، لأنه لو كان لكل بنك ألف عميل، ولكل عميل عشرة آلاف، لأصبح الإجمالي عشرة ملايين ريال، ولو سحب هؤلاء أرصدتهم واحتفظوا بها لأفلس البنك؟
الجواب
هذا واجب قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأي إثم أو عدوان أعظم من إعلان الحرب على رب الأرباب جل وعلا.(107/35)
لبس الجورب على غير طهارة والمسح عليه ناسياً
السؤال
لبست الشرَّاب البارحة في مثل هذا الوقت ولما صليت المغرب هذه الليلة تذكرت أني لم ألبسها على طهارة، فهل أقضي الأوقات التي صليت ومسحت على الشراب، أم أني أعتبر ناسياً وليس عليَّ شيء؟
الجواب
النسيان هنا لا يعفيك من إعادة الصلوات، فعليك أن تعيد جميع الصلوات التي صليت وأنت بذلك الوضوء.(107/36)
من أدركه الفجر وهو جنب في رمضان
السؤال
من جامع زوجته ونام ولم يستيقظ إلا بعد صلاة الفجر، ولم يتسحر، واغتسل من الجنابة، فهل عليه شيء؟
الجواب
ليس عليه شيءُُ مادام أنه حصل جماعها في الليل قبل الفجر، ثم نام ولم يستيقظ إلاَّ بعد طلوع الفجر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يدركه الفجر وهو جنب، من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم عليه الصلاة والسلام.(107/37)
اللعب المسلية المتخللة للمجالس
السؤال يقول: عندي استراحة، وقد أذنت لبعض الشباب الملتزمين من طلاب الحلقات والثقات -إن شاء الله- بالجلوس فيها ليالي رمضان، ويتخلل جلستهم ليلياً بعض اللعب، فهل عليَّ حرج في ذلك، وهل عليهم أيضاً من حرجٍ في هذا الشهر؟
الجواب
لا ليس عليك ولا عليهم جناحٌ في هذا، بل ما فعلته خيرٌ إن شاء الله، وأنت مأجور وهم كذلك ماداموا يحفظون جل وقتهم في ما ينفع ويفيد، فإن التسلية وإزالة الملل والسأم أمرٌ لا بد منه.(107/38)
قضاء الصلاة على المغمي عليه
السؤال
امرأة دخلت المستشفى النفسي، ولقد ضيعت وقت الصلاة، وهي في غيبوبة، والآن الحمد لله في صحة جيدة ترجو إفادتها عما مضى من الصلاة؟
الجواب
إذا كان الذي مضى عليها أيامٌ طويلة وهي في غيبوبة، فالراجح من أقوال أهل العلم، أنه ليس عليها شيءٌ في ذلك إن شاء الله تعالى وإن قضت احتياطاً فلا حرج.(107/39)
الصلاة جنباً سنوات والاستمناء في نهار رمضان
السؤال
يسأل عمن كان يفعل العادة السرية قبل سنوات، وجلس فترة طويلة، ثلاث أو أربع سنوات تقريباً، وهو لا يغتسل من الجنابة جاهلاً، وكذلك قد يحدث هذا منه في رمضان، ولا يعلم عدد الأيام التي فعلها، لكي يقضيها؟
الجواب
أما بالنسبة لقضاء الصلاة فمن المعروف أنه من موجبات الغُسل نزول المني بأي سببٍ كان، وبناءً عليه فإن الأصل أنه كان واجباً عليه أن يغتسل، قبل أن يُصلي، ولكن لأن المدة طويلة ثلاث أو أربع سنوات، وربما يشق عليه قضاء هذه الأوقات المتطاولة، فلعله يتسامح في ذلك، كما أفتى به بعض أهل العلم، وإلا في الأصل لو كانت الأوقات معلومة محدودة المقدار وجب عليه قضاؤها.
أما بالنسبة لأيام رمضان، فإن عليه أن يقضيها، لأن الصائم مبتعدٌ عن هذا بالحلال، فكيف بما لا يحل عند طائفة كبيرة من أهل العلم، والله تعالى قال عن الصائم: {يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي} فهل هذا قد ترك شهوته لله تعالى؟ كلا!(107/40)
مآخذ على طلبة العلم
تحتوي المادة على الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه، ومع الناس.
وقد ذكر موقف أهل البدع من علمائهم وموقف عامة أهل السنة من علمائهم.(108/1)
كتب تحدثت عن مآخذ ومعايب على طلبة العلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سنتكلم إن شاء الله عن الآفات التي قد تصيب طالب العلم، وقبل الدخول فيها أشير إلى أن الآفات التي تعترض المسلم كثيرة، وهي تعترض طالب العلم وغيره، فالحديث عن هذه الآفات والعيوب والمداخل ليس من شأن هذه الدروس، بل له ميدان آخر، وإنما سوف يقتصر الحديث إن شاء الله تعالى في هذه الدروس على ذكر الآفات والأخطاء الذي يقع فيها طالب العلم، وخاصة مما هو شائع بين طلاب العلم في هذا العصر، وربما في عصور كثيرة، لكن كل واحد يدرك ما يعايشه أكثر مما يدرك غيره.
فسيكون التركيز إن شاء الله على الآفات والمعايب الموجودة فينا إن صح أننا طلاب علم.
ثم إنه حتى هذه العيوب يصعب حصرها والحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي بأن أشير في مقدمة هذه الدروس إلى بعض الكتب المهمة التي تحدث فيها مصنفوها عن هذه المثالب والمعايب، وأتوا فيها بالعجب العجاب.
وأنصح نفسي وإخواني من الطلبة أن يحرصوا على مراجعة هذه الكتب والاتصال الدائم بها، فمن هذه الكتب كتاب العزلة للإمام الخطابي، ومنها كتب الإمام الغزالي وخاصة كتاب إحياء علوم الدين في الجزء الأول منه تحدث عن آفات طلب العلم، ومنها كتاب تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة وهو يذكر الآداب ويذكر مع كل أدب جوانب من الإخلال بهذا الأدب يصح أن تعتبر من الآفات.
ومنها ما كتبه الإمام ابن القيم في عدد من كتبه من كتابات متفرقة في زاد المعاد مثلاً، وفي إغاثة اللهفان، وفي مدارج السالكين، بل وفي إعلام الموقعين وغيرها، ومنها ما كتبه الإمام الذهبي في رسالة صغيرة له نسبت إليه وبعضهم يشكك في نسبتها، لكن الظاهر أن نسبتها إليه صحيحه واسمها بيان زغل العلم، وكذلك ما كتبه الإمام ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس وهو كتاب مهم جداً ومفيد لكل مسلم ولطالب العلم خاصة.
وكذلك في كتابه صيد الخاطر في مواضع متفرقة منه، وكذلك ما كتبه الإمام ابن حزم في كتاب الأخلاق والسير أومداواة النفوس، وأخيراً ما كتبه ابن السبكي في كتاب له مطبوع اسمه معيد النعم ومبيد النقم، وقد استفاد كثيراً مما كتبه من قبله كـ الغزالي وغيره.
وعموماً فالكتب التي ألفت في آداب العالم والمتعلم كجامع بيان العلم وفضله وغيرها تحدثت عن هذا الموضوع، وسأقسم الحديث عن هذا الموضوع إلى أربعة أقسام: القسم الأول: الحديث في الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه.
والثاني: في علاقته مع الناس.
والثالث: في تعلمه وتعليمه.
والرابع: في أمور متفرقة.(108/2)
الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه
ولنبدأ بالحديث عن الآفات التي تعترض الطالب في سيره إلى الله -جل وعلا- ولا بد من الاختصار لطول الموضوع، وضيق المجال، وقد سبق أن القصد من العلم أصلاً هو إصلاح الظاهر والباطن، وإصلاح الباطن يترتب عليه إصلاح الظاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} .(108/3)
الحد الأدنى المطلوب من طالب العلم في عبادته
وألخص هذه الأشياء المطلوبة من طالب العلم في أربعة أمور: الأمر الأول: وهو القيام بأداء ما افترضه الله عليه، من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الفروض وكذلك صلاة الجماعة، وخاصة صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر فيصل يدل على إيمان العبد أو ضعف إيمانه، وفي حديث أنس الذي رواه ابن حبان قال: [[كنا إذا افتقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] .
الأمر الثاني: أن يقوم بقدر من النوافل وهي كالسنن الرواتب والوتر وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يكون له وردٌ من قراءة القرآن لا يتركه في جميع الظروف، وأن يكون له وردٌ من الأذكار في الصباح والمساء وفي تقلبات الأحوال وإن قل، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل.
الأمر الثالث: أن يحرص على تحقيق المعنى الذي شرعت من أجله هذه العبادات، فإن من المعلوم أن الله عز وجل لم يشرع هذه العبادات ليكلفنا أو ليعذبنا، فإن الله غني عن تعذيبنا، إنما شرعها لتهذيبنا، وإصلاح نفوسنا وسرائرنا، فيحرص العبد على أن يؤدي هذه الأشياء مع مجاهدة نفسه باستحضار ذهن، وحضور قلب، واحتساب، وصلاح نية.
الأمر الرابع: أن يجتنب المحارم ما استطاع، ويحفظ نفسه من قول الزور والغيبة والنميمة، وأكل الحرام، وما أشبه ذلك من المحرمات المعلوم تحريمها، فيحرص على تجنبها والبعد عنها.
هذه أربعة مطالب لا بد منها لطالب العلم حتى يحقق قدراً من سيره إلى الله تبارك وتعالى، وإذا أخل الطالب بهذه الأشياء فيجب عليه أن يبكي على نفسه، ويقول مع القائل: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ويتذكر الكلمة التي قالها الإمام ابن الجوزي رحمه الله قال: إن طالب العلم إذا لم يرد وجه الله ويعبد الله بهذا العلم، فهو مسكين مسكين، لأنه خسر هذه الدنيا فلم يتمتع بلذاتها وزخارفها كما تمتع غيره من الفساق والمنحرفين، حيث كان مشغولاً بطلب العلم وتحصيله، ثم يقبل على الله عز وجل فيحرم من لذات الآخرة؛ لأنه لم يسع لها ولم يطلبها، ويقبل على الله عز وجل أصغر ما كان والحجة عليه أقوى ما كانت، فالحجة على العالم ليست كالحجة على الجاهل.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإقبال عليه، واللهج بذكره، وأن يجعل ما نتعلمه من القرآن والسنة قربى وزلفى إليه في الدار الآخرة، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ويجعلنا للمتقين إماماً، في الأقوال والأفعال والعلم والعبادة، وكل خير وألاَّ نكون ممن علمه حجة عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآلة وصحبه أجمعين.(108/4)
الفقيه هو العابد الخائف من الله
يجب على طالب العلم أن يحرص على صلاح قلبه، وتوجهه إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون مقبلاً على الله والدار الآخرة معرضاً عن الدنيا وزخرفها، ولذلك كان السلف يعتبرون أن الفقيه هو العابد الزاهد المقبل على الله.
جاء فرقد السبخي إلى الحسن البصري فسأله عن مسألة فأفتاه فيها، فقال له فرقد: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء، فقال له الحسن البصري: [[ثكلتك أمك، وهل رأيت في حياتك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه المعرض عن الدنيا المقبل على الآخرة، الخائف من الله، الكاف عن أعراض الناس، المستعد للقاء الله]] إلى آخر الصفات التي ذكرها رحمه الله.
وهذا المعنى قد أخذه الحسن وغيره من السلف من كتاب الله تعالى فإنهم كانوا يعدون العلم الخشية، انظر إلى قول الله عز وجل: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] فوصفهم بقلة الخشية من الله، وكثرة الخشية من المخلوقين لقلة فقههم وعلمهم، وكلما زاد فقه المرء زادت خشيته لله، فطالب العلم يجب أن يظهر أثر العلم في سمته، وهديه، وإقباله على الله عز وجل.(108/5)
من المعايب الانشغال بدقيق العلم على حساب القضايا المهمة
وكثير من طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن قبل يلامون ويذمون بضعف عبادتهم، وانشغالهم بكثير من المسائل الفقهية الدقيقة التي قد لا يحتاجون هم إليها، وقد لا يحتاجها الناس قروناً عديدة، وربما ضيع الواحد منهم عمره، وسافر، وجمع الكتب، وقرأ الأجزاء من أجل هذه المسألة.
وفي مقابل ذلك قد يخل بقضية من القضايا المهمة في حياته، ويذكر الإمام السبكي في كتاب معيد النعم أن بعض طلبة العلم المعرضين عن القيام بالواجبات الدينية، وسلوك طريق الآخرة يحتجون بحجج، فإذا قلت للواحد منهم مثلاً: قد حانت الصلاة، قام وصلى أربعاً لا يذكر الله -تعالى- فيها إلا قليلا، فإذا قلت له: هل تنفلت بعد صلاة الظهر؟ قال لك: إن الإمام الشافعي يرى أن الاشتغال بالعلم، أولى من الاشتغال بنوافل العبادات، وبناءً على ذلك ترك الراتبة ليشتغل بالعلم، فإذا سألته عن نسيانه للقرآن قال لك: إن نسيان القرآن لم يعده أحداً من أهل العلم كبيرة من كبائر الذنوب، إلا صاحب العدة أو العمدة وهما كتابان في فروع الفقه الشافعي، أحدهما لـ عبد الرحمن بن الحسين الطبري، والآخر لـ أبي بكر الشاشي.
وكذلك قال: أنا لم أنس القرآن كله فأنا أحفظ الفاتحة، ولعله أيضاً يحفظ معها قصار السور، ثم ما الدليل على أن هذا الأمر محرم؟ فتخلى عن حفظه للقرآن بهذه الحجج، فإذا سألته هل خشعت في صلاتك؟ قال لك: إن الخشوع في الصلاة ليس من شرائطها ولا من أركانها، وهكذا اتخذ هذا الإنسان ما يعلمه من بعض الأحكام مطية إلى التخلي عن كثير من الأشياء التي لا بد منها لطالب العلم.
ولذلك عقب السبكي رحمه الله على هذا بقوله: " وهذه كلمة حق أريد بها باطل " ثم استطرد الإمام السبكي في هذه المسألة، وذكر أن كثيراً من الطلاب قد يريد أن يقول في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهذه الكلمة فيها من التوكل، والإقبال على الله، وإفراده بالعبادة وبالاستعانة ما فيها، فربما يسبق إلى لسانه كلمة أخرى من كلمات الفروع الفقهية التي طالما اشتغل بها.
قال: وبلغنا أن الإمام الغزالي صلى يوماً بأخيه أحمد إماماً، وفي أثناء الصلاة انفرد أخوه عنه، وقطع الاقتداء به، وصلى لوحده، فلما سلم من الصلاة سأله الإمام الغزالي لم فعلت هذا؟ فقال: لأنك في صلاتك متلطخ بدم الحيض، ففكر الغزالي ساعة، ثم تذكر أنه في أثناء الصلاة قد عرضت له فعلاً مسألة من مسائل الحيض، وأنه فكر فيها شيئاً من الوقت وهو يصلي!! ونقول: أولاً هذه مستبعدة من جهة أخيه، لأنه لا يعلم ما في السرائر إلا الله عز وجل، وهاهو الغزالي نفسه لم يتذكر أنه كان يفكر في هذا الأمر إلا بعد أن أدار ذهنه فما بالك بغيره، فهذا بعيد جداً من هذه الناحية، وبعيد أيضاً من الناحية الفقهية، لأنه ليس من حق المأموم أن يقطع ائتمامه بالإمام إلا لضرورة، أما أن يقطع ائتمامه به لعارض غير صحيح فهذا لا يجوز، فضلاً عن أن يكون قد سبق إلى ذهنه أنه قد يكون فكر في أمر من هذه الأمور، وإنما سقت هذه الحادثة؛ لأن من المفيد أن يتعلم ويتدرب الطالب على أن يقرأ في هذه الكتب بوعي، ولا يأخذ كل ما يقرأ مأخذ القبول والتسليم.
وما يشكوه العلماء المتقدمون هو من الأسباب التي تقلل من تأثر الطالب بشيخه، فلو نظرت في العلماء الذين أثروا في تلاميذهم لوجدت أنه كان عندهم زهد ونسك وعباده، وإقبال على الله عز وجل، وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، بعد أن تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، وعدد بعضهم، وأشار إلى أن بعضهم كانوا يشتغلون ببعض ما لا يسع العالم الاشتغال به، ذكر أن من أكثرهم أثراً عليه عالم يقال له عبد الوهاب الأنماطي، وقال: كان هذا العالم زاهداً مقبلاً على الله عز وجل معرضاً عن الدنيا، قال: وكنت اقرأ عليه أحاديث في الرقائق والوعظ فيبكي طويلاً حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء، قال: وكنت وأنا طفل صغير أتأثر حين أرى شيخي وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل فتركت هذه أثرها في نفسي، وعلمت بعد أن التأثر بالحال أكثر من التأثر بالمقال، يعني: أن التأثر بالقدوة الحسنة، أكثر من التأثر بالنصيحة.
وهكذا غيره من العلماء كان تأثرهم بأشياخهم الذين صدقوا مع الله، ولم يكن تعلمهم ولا تعليمهم من أجل الدنيا.
والمطلوب من طالب العلم أن ينتبه إلى نفسه، ويحرص على إصلاحها، وعلى الحرص على التعبد وتليين قلبه بالقرب من الله عز وجل، وليس المعنى أننا نطالب كل واحد منا، أن يكون كعباد الصحابة كـ عبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً، أو كعباد التابعين كـ الحسن البصري، أو كـ الفضيل بن عياض، أو كفلان وفلان ممن اشتهروا بالزهد والعبادة، وإن كان هذا المطلب نفيساً وعزيزاً، ويمكن أن يصل إليه الإنسان بالجد والاجتهاد، لكن هناك مستوى عام، ينبغي لكل طالب علم ألاَّ يرضى لنفسه أن ينزل عنه، وإذا انحط عنه فيجب عليه أن يعيد النظر في نفسه ويحاسبها، قبل أن يبغته الأجل وهو على حال لا ترضي.(108/6)
مثالب طالب العلم فيما يتعلق بالمجتمع
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين، آمين يا رب العالمين.
أيها الإخوة: في هذا الأسبوع والأسابيع القادمة وقد تستغرق إلى نهاية شهر شعبان، يكون الحديث إن شاء الله، عن بعض مثالب ومآخذ على الطالب وعلاقته بالمجتمع من حوله، وسأذكر بعض الملاحظات بدون ترتيب.(108/7)
العزلة عن الواقع
فمن الملاحظات على كثير من طلاب العلم في هذا العصر، أنهم يعيشون عزلة عن الواقع الذي من حولهم؛ وذلك لأن طلب العلم له لذة يدركها من جربها.
فطالب العلم إذا أكثر من البحث والمراجعة والقراءة؛ يصبح عنده تلذذ بالحصول على المعلومات، وإذا أشكل عليه مسألة من المسائل وبحث ولم نجدها، ازداد لهفه وشوقه إلى معرفتها، فإذا عثر عليها أصبح كأنه عثر على كنز ثمين، وهذه اللذة عامة في العلوم الشرعية وغيرها، أي أنها قضية مغروزة عند المسلم، لكن قد يزيد طالب العلم الشرعي إذا حسنت نيته بأنه يفرح بمعرفته لحكم شرعي، يحتاج إلى أن يعرفه ويعرّفه غيره.
فهذه اللذة من جهة، والراحة التي يجدها طالب العلم في التعامل مع الكتب، كما تعرفون الشاعر الذي يتغزل بقراءة الكتب ومعايشتها يقول: لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهداً يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ……… إلى آخر ما قال.
وأبيات كثيرة منها: أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب أبيات كثيرة يتمدح فيها العلماء بالكتب والقراءة؛ لأن الناس قد يتضايقون من معاملة بعضهم لبعض، وكون فلان أخطأ عليك، وفلان أساء، وفلان قال فيك كذا، وفلان كذا، أما الكتب فهي صماء خذ ما شئت منها ودع ما شئت، فالإنسان إذا تضايق من واقعة لجأ إلى هذه الكتب، وبدأ يتعامل معها، لسهولة وراحة التعامل معها، كما أنه ليس في ذهاب ولا إياب ولا كلفه ولا مشقة، ولذلك ينجر كثير من الطلاب وراء هذه اللذة، ووراء هذه الراحة، ويشتغلون بالطلب والقراءة، وشيئاً فشيئاً يفرضون على أنفسهم طوقاً من العزلة عن الواقع.
حتى يصح أن يوصف بعض طلاب العلم في هذا العصر، بأنهم ممن يعيشون في أبراج عاجية، كما كان الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية، فالفلاسفة كانوا يعيشون في بروج، أي في أماكنهم في مكتباتهم والناس كانوا يعيشون في عذاب، من تسلط طغاة، ومن مشكلات قائمة فيما بينهم، وهم مشغولون بدراسة ما يسمى بالمدنية الفاضلة، فالفيلسوف مشغول يصور تصويراً خيالياً مدينة فاضلة فيها كمال مطلق من كل ناحية، والناس يعيشون في عذاب في واقعهم فليس له علاقة بهم، فقد يصل الحال ببعض الطلاب إلى هذا الحال، للأسباب السابقة.
وربما يفتخر بعض الأحيان كثير من طلاب العلم الشرعي، بأنهم يجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جد في هذه الحياة من أمور، وفي هذا العصر يصح أن نقول: إنه حصل في هذا العصر تغير تام في كثير من مجالات الحياة، لم يعهد الناس مثله، تفجر في المعلومات، وفي الحوادث الجديدة، والابتكارات، والعلوم والصناعات، وأمور لا عهد للناس بها.
ومن جهة أخرى في هذا العصر جاءت أمواج من الفتن والانحرافات الفكرية والخلقية التي غزت واقع المسلمين، فكثير من طلاب العلم قد تأتيه بمصطلح ربما يعرفه عامة الناس في هذا العصر، فيفتخر بأنه لا يعرف هذا الاصطلاح، لأن معنى عدم معرفتي بهذا الاصطلاح أنني ممن هم فوق هذا الواقع! وممن هم بعيدون عنه، ومشغولون بما هو أهم، فأنا أفتخر بأني أسأل عن هذا الأمر، وهذا واقع، وأحياناً هو من تلبيس إبليس على الإنسان، كما قد يفتخر الإنسان بأنه لا يعرف الخطأ الفلاني.
وأمثل بمثال واقعي، وهو كثيراً ما تجري -على سبيل المثال- مباريات رياضية طويلة عريضة تأخذ من أوقات الناس وأعمارهم وعقولهم ونظراتهم، ويحدث فيها ما الله به عليم، الله المستعان! فتجد كثيراً من طلاب العلم وقد يكون كثير منا منهم، قد يفتخر بأنه لا يعرف هذه الأشياء ولا يدري عنها شيئاً، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقق لعلمه يحرص على أن ينزل بعلمه في واقع الحياة.
مسألة من الشرع والدين، فتتعلمها، وتعمل بها وتعلمها غيرك وتدعو إليها، وتنكر ما خالفها، خيراً من أن تكون مليئاً بعلوم نظرية مجردة لا تفيد في واقع الناس شيئاً، لأن شرف العلم هو أن يدعو إلى العمل والمعرفة، فلماذا يشتغل طالب العلم في كثير من الأحيان بقضايا جزئية جداً في فروع العلم، وربما يتخصص فيها، ويكتب رسائل عليا في هذه القضية الجزئية التي -والله أعلم- قد لا يحتاج إليها الناس إلى قيام الساعة! ويخفى عليه ويتجاهل قضايا ملحة في واقع الناس، وفي واقع المسلمين اليوم.(108/8)
مواقف علماء السلف من فهم الواقع
أشير الآن إلى جانب من علاقة علماء السلف رضي الله عنهم بالواقع -ولعلي أكمل إن شاء الله في درس قادم- فعلماء السلف رضي الله عنهم اهتداءً واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعايشون الواقع، والعلماء المشهورون كانوا يعيشون الواقع ويصح أن نقول: إنهم كانوا أوصياء على هذا الواقع، فهم يعدلون واقع الناس على ما تقتضيه شريعة الله عز وجل وانظروا إلى هذه القصص العجيبة التي لا تعدو أن تكون في الواقع أمثلة يسيرة جداً من الواقع.(108/9)
الفائدة من ذكر هذه النماذج
هذه نماذج تدل على المكانة التي كان يتبوؤها علماء السلف في مجتمعهم، وموقف الناس من مثل هذه الأحداث الشهيرة، التي يذكرها المؤرخون في سير العلماء، وموقف الناس وطلاب العلم يتفاوت، فمن طلاب العلم من يعتبر هذه الأشياء مجرد طرائف، وأشياء يتلذذ بذكرها وسردها وتزيين المجالس بها، وهذا حالنا وحال كثير من الناس.
يكفي أن نذكر هذه القصص ونتلذذ بها ونهز الرءوس، وقد نعجب ونطرب لها، وهذا غاية الأمر! ومن الناس من يفكر بتطبيق هذه الأحداث والقصص بحذافيرها دون أن يتصور الظروف التي وقعت فيها هذه القصص، والشخصيات التي قامت بهذه الأعمال! فيقع في خطأ غير مناسب، ويكون أمر ونهى أمراً ونهياً في غير أوانه.
ولعلكم تذكرون أن أحد الطلاب والشباب وقف في يوم من الأيام أمام رجل كبير في إحدى الدول، وتكلم أمامه بكلام قوي، سمعناه جميعاً في حينه، وقال له: كيف تدّعون العلم والإيمان، وقد طرد فلان وشرد فلان، وحصل كذا، وحصل كذا فهذا الإنسان ربما يقرأ سيرة فلان وفلان من العلماء، فيطبق ما يسمع تطبيقاً حرفياً كما يقال، والواقع أنه يجب أن ننظر إلى الظروف التي وقعت فيها هذه القصص.
فمثلاً المنذر بن سعيد، أو العز بن عبد السلام، أو ابن تيمية ليسوا أناساً جاءوا من الشارع وفعلوا هذه المواقف، هذا خطأ أن تتصوره.
بل ابن تيمية، والمنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وجميع علماء الإسلام المشهورين كانوا متغلغلين في المجتمع، وكان لهم تأثير، ووقع ومكانه لدى الخاص والعام، بحيث أن مكانتهم لا يمكن أن يتجاهلها أحد.
ولذلك لما طلب العز بن عبد السلام من المماليك أن يبيعوا أنفسهم لأنه قال: أنتم أرقاء وعبيد ولا يمكن أن تحكموا المسلمين وأنتم كذلك، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: لا بد أن تباعوا ويعلن عنكم في المزاد العلني، ثم إذا تم بيعكم فحينئذٍ لكم أن ترجعوا إلى مناصبكم، فحاولوا بكل وسيلة أن يثنوه عن هذا القرار فأصر، حتى إن منهم من حاول قتله فلما رآه سقط السيف من يده وبهت وتحير.
فطلبوا منه أن يخرج من بلاد مصر، فخرج العز بن عبد السلام في موكب ليس فيه هيلمان ولا أبهة، جاء بحمار ووضع عليه رحله، ووضع أثاثه في جانبي المزادة، وركب هو، وأركب زوجته وأطفاله ومضى، ولمارأى الناس هذا الموكب البسيط المتواضع خرجوا كلهم وراءه، حتى أتى آت للمماليك، وقال: إذا خرج هؤلاء فمن تحكمون في بلاد مصر؟! فطلبوا منه أن يرجع وأن ينفذوا له ما طلب.
والمقصود أن مما لا يختلف فيه -حتى لو فرض أن هناك مثلاً من لا يوافق على هذا الحدث والسياق- أن هؤلاء العلماء لم يكونوا نكرات مجهولين في واقعهم، بل كانوا منذ نعومة أظافرهم، منذ بداية طلبهم معروفين بالمشاركة في الحياة العامة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإصلاح، حتى بخدمة الناس في أمورهم الدنيوية.
واقرأ ما قاله ابن رجب الحنبلي في الطبقات، أو ما قاله الذهبي في ترجمة الإمام ابن تيمية، إنه كان منتصباً لخدمة الناس ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه، وحتى الظلم الدنيوي يحاول أن يدفعه عن الناس، كإنسان يحتاج إلى عمل، أو إلى مال، أو زواج، أو وظيفة، أو إنسان ظلم، فيحاول أن يدفع عنهم حتى المظالم الدنيوية.
واقرءوا كتب الشيخ تجدون كثيراً من الكتب كتبت في دفع المظالم عن الناس، لأنه كان مختلطاً بالناس مؤثراً فيهم، ولذلك كان يملك هو وأمثاله أن تكون له مواقف مؤثرة وشجاعة، فطالب العلم يسعى إلى أن يحقق من الاختلاط بالناس اختلاطاً واعياً مؤثراً؛ ما يجعله أهلاً لأن يكون قوياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت المناسب إن أعانه الله تبارك وتعالى على ذلك.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(108/10)
موقف شيخ الإسلام ابن تيمية
لا يمكن أن نتجاهل في هذا المقام مواقف عظيمة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأخص منها في هذا المجلس ما يتعلق بإنكار المنكرات الكبرى التي يقف وراءها أناس ذووا قدر ويصعب على الدهماء أن يغيروها، فقد جاء التتر إلى بلاد الشام، وغزوها وأهلكوا الحرث والنسل، وخاف الناس منهم حتى العلماء، فذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الولاة في مصر، والتقى بالسلطان هناك، وأظنه محمد بن قلاوون، فتكلم معه بكلام قوي أعجب العلماء كـ ابن دقيق العيد وغيره، وكان من ضمن ما قال له، كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية وغيره، أنه قال له: لو قدر أنكم لستم أنتم حكام مصر، واستنجد بكم أهلها، وقد غزاهم هؤلاء الكفرة، لوجب عليكم إغاثتهم ونصرتهم، فكيف وأنتم حكامه وولاته وقال له: إذا تخليتم عن الشام فإننا نقيم له من يحوطه ويحميه في زمن الشدة، ويستغله في زمن الأمن، أما أن تكونوا يا أمراء المماليك تستغلون بلاد الشام في زمن الأمن وتأخذون خيراتها، فإذا جاءت الشدة ابتعدتم عنه، فهذا ما لا يكون.
وحرض هذا السلطان على الغزو ووعده بالنصر حتى تحرك هذا السلطان وخرج بجنده، وانتصر المسلمون على التتار كما هو معروف، وكان لـ ابن تيمية مواقف كثيرة مع السلاطين غير هذه.(108/11)
موقف العز بن عبد السلام
موقف آخر، بل مواقف لـ عز الدين بن عبد السلام، المشهور بـ العز بن عبد السلام سلطان العلماء، إمام من أئمة المسلمين، اقرأ ترجمة هذا الإمام في طبقات الشافعية مثلاً أو غيرها، أو في الكتاب الذي كتبه الندوي عنه، وانظر نماذج من بطولات هذا الإمام.
كان في دمشق، وكان حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل، فتعاون هذا الرجل مع أعداء الإسلام، وأسلم إليهم بعض المدن، فغضب عليه الإمام العز بن عبد السلام، وعاتبه وقطع الدعاء له في الخطبة، وحرض العلماء على ذلك، ثم خرج من دمشق وتركها مهاجراً إلى غيرها، فمر ببعض المدن الصغيرة في الشام، فطلب منه بعض أمرائها أن يبقى عندهم، فقال: إن مدينتكم صغيرة على علمي، والإنسان العالم كـ العز بن عبد السلام يجب أن يعرف قدر علمه، وذهب إلى مصر وكان فيها الملك الصالح أيوب، فاستقبله وأكرم مثواه.
وكان للعز بن عبد السلام مواقف في منتهى القوة، وأقرب إلى العجب، ولعل منها الموقف المشهور له، والذي ذكره أيضاً السبكي في الطبقات، قال: إن الملك الصالح جاء في يوم عيد وكان يحف به الأعوان، والشرط، والخدم، والحشم، بل والأمراء الصغار وغيرهم يقبلون الأرض بين يديه كما جرت عادتهم بذلك.
فلم يرض العز بن عبد السلام بهذا المشهد، وخاف على السلطان أن يتعاظم ويصيبه شيء من العجب والخيلاء، إضافة إلى أنه رأى منكراً يجب تغييره، فوقف بكل ثبات وقوة ورجولة في طريق السلطان، وقال له: يا أيوب! -هكذا كلمة مجردة ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، لا ألفاظ تفخيم وتبجيل، ولا دعاء ولا شيء، باسمه الذي سماه به أبوه- فالتفت السلطان، وقال: نعم يا سيدي أو نحو هذه الكلمة، فقال له: ما جوابك أمام رب العالمين إذا سألك وقال لك: إنني وليتك أمر عبادي ورقابهم وأموالهم فما قمت بما ائتمنتك عليه، فقال له السلطان: ما الأمر أيها الإمام؟ فقال العز بن عبد السلام: إن في مكان كذا وكذا حانوتاً يباع فيها الخمر، فقال له السلطان: يا سيدي هذه من عهد أبي -الحاكم قبله-.
فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذاً أنت من الذين يقولون: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، وأمر بها حالاً فغيرت وأزيلت.
وخلا العز بن عبد السلام بتلاميذه بعد هذه الحادثة التي لا شك أن الناس كانوا يتناقلونها، وكانت تغرس للعز بن عبد السلام مكانه طيبة في نفوسهم، وتجعلهم يشعرون بأن هؤلاء العلماء يستحقون أن يقف الناس إلى جوارهم، سأله أحد تلاميذه وهو الباجي، فقال له: بعد أن دعا له قال له: أيها الشيخ، كيف جرؤت أن تخاطب السلطان بهذا الجفاء، وبهذه القوة؟! قال: يا بني! إني تخيلت عظمة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالقط، ورأيت ما حوله من الخدم والحشم فخشيت أن تغلبه نفسه، فأردت أن أضع من قدره، فالرجل ينظر إلى مصالح، فالمنكر الأعظم هو أن يزهو السلطان بنفسه وبمن حوله ممن يزينون له ما هو فيه، وقد عالجه العز بن عبد السلام بخطابه بهذا الأسلوب الذي يناسب الموقف، والمنكر الآخر هو وجود حانوت يباع فيه الخمر.
وللعز بن عبد السلام مواقف كثيرة جداً مع السلاطين لا يتسع المجال لذكرها فأقرءوها في ترجمته وهي فعلاً أقرب إلى الأسطورة، ولذلك استحق أن يسميه المترجمون المتقدمون بسلطان العلماء.(108/12)
موقف المنذر بن سعيد البلوطي
على سبيل المثال: يذكر المترجمون المنذر بن سعيد البلوطي وهو من شيوخ المالكية، ويذكر مترجموه أن له ميلاً إلى علم الكلام، وكأنه متأثراً ببعض أراء أهل الكلام، ولكن الشاهد من حياته أن الرجل كان قوياً في الحق، وكان ذو علاقة بالمجتمع وبالسلاطين في عصره، ليست علاقة استجداء، وإنما هي علاقة قوامة وأمر ونهي، فأحد ولاة الأندلس وأظنه عبد الرحمن الناصر، بنى قصراً فخماً مشيداً وزينه بالذهب والفضة، وأسرف فيه أيما إسراف، ثم دعا الوزراء والحاشية والعلماء وغيرهم، فنظروا في هذا القصر والكل يثني ويمجد.
فحضر المنذر بن سعيد لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يصلي معه، وتحت منبره، فوقف المنذر بن سعيد رحمه الله، وألقى خطبة عصماء تلا فيها قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] .
ثم قال يخاطب الخليفة ويوبخه على ما فعل: ما كنت أظن أن يبلغ بك الشيطان إلى ما بلغ حيث أنزلك منزل الكافرين، فتشبهت بفرعون وهامان وقارون، وأسرفت في الأموال، وضيعت أموال المسلمين، وفعلت وفعلت، وخنت الأمانة التي أمنك الله عليها، وأهملت شأن الرعية، وظل يورد على السلطان من القول المتين القوي، والسلطان تحت منبره فما زاد السلطان على أن أقسم ألا يصلي معه مرةً أخرى، وذهب إلى مسجد آخر ليصلي معهم، ثم إنه كفر عن يمينه ورجع ليصلي مع هذا الخطيب، وهذا الموقف في أذهان الكثير منا أقرب ما يكون إلى الخيال والأسطورة.(108/13)
تطبيق تلك المواقف في الواقع الموجود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: تواصلاً مع حديثي السابق في الليلة الماضية أكمل ما بدأت في هذا الليلة إن شاء الله تعالى، والحديث وإن لم يكن ذو علاقة وطيدة بأصل الموضوع، إلا أنه استطراد ضروري لما سبق، فقد تحدثت في الليلة الماضية عن مواقف العلماء الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقوامة على المجتمعات الإسلامية، ومثلت في ذلك بمواقف لبعضهم، كمواقف المنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وهذه المواقف إنما هي غيض من فيض وقليل من كثير.
ثم أشرت إلى أن هذه المواقف كان لها ملابسات معينة، حدثت فيها ولم تحدث صدفة، أو من أفراد مغمورين مجهولين، جاءوا من عرض الطريق ثم فعلوا هذه المواقف، ثم يأتي السؤال اليوم وهو سؤال يجب أن يطرح فعلاً وهو: ما هو الجانب المتعلق بواقعنا من هذا؟ أي: كيف نطبق هذه المواقف على الواقع الموجود والقائم اليوم؟ وكيف نعرف الأخطاء القائمة في واقع المسلمين عامة وخاصة طلاب العلم وحملته؟ وكيف نعرف ذلك؟(108/14)
المخرج من مأزق التلاوم
الحل في نظري لمثل هذا يكون في ثلاث نقاط: الأولى منها: هي ضرورة اعتراف المسلمين -وأخص أهل السنة؛ لأنهم هم المطالبون بأن يقوموا بالدور الصحيح في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وأن يكون لديهم جرءة في لوم النفس وتقريعها وتوبيخها، وبدلاً من أن نلقي باللائمة على غيرنا، لابد أن نتعود ونتجرأ على أن نعرف عيوب أنفسنا، ويكون لدينا إمكانية في نقد الذات كما يقولون.
وهذه درجة من الشجاعة يعز وجودها خاصة لدى من يُنظر إليهم، ويعجبني في هذا المقام كلمة قرأتها للشيخ محمد أمين المصري رحمه الله في كتاب له اسمه سبيل الدعوة الإسلامية في (ص:154) يقول بعدما تكلم عن التعليم في البلاد الإسلامية وما وصل إليه، قال رحمه الله وهو يتكلم عن نفسه: لقد قضيت عمري بين قاعات المدرسة، معلماً ومتعلماً، وإني وايم الله أجد أيامي هزيلة، ونفسي رخيصة، لم ترتق عن مرحلة الطفولة، ولم تبلغ درجة الرشد، ولم تذق معاني الرجولة، ولو طلب إلي أن أكتب تقريراً بشأن نفسي لقلت: أ/ إنه -يعني نفسه- ليس براض عن مستواه الإيماني، ولا يرى أن مثل هذا المستوى يمكن أن يحدث تأثيراً واضحاً في طلابه.
ب/ ليس براض عن عمله، ولا يؤديه وهو واثق أنه السبيل الذي يؤدي إلى نجاة الأمة، فلا المناهج، ولا الطرق، والنظم التي يتخرج بها الطلاب وبالتي تخرج للأمة رجالاً أبطالاً دعاةً، ولهذا -والكلام لا يزال للشيخ المصري رحمه الله- ولهذا فهو يعتبر نفسه -هو يقول عن نفسه هذا الكلام- أجيراً يعمل ما يرضي صاحب العمل في سبيل العيش، وربما يعجب كثيرون من هذا القول، إلى آخر ما قال رحمه الله.
فالحقيقة أن هذا الكلام بغض النظر أن البعض قد يتساءل ما الفائدة منه؟ أو ما أشبه ذلك؟ لكن أقول بلا شك: إن هذه درجة من الشجاعة يعز نظيرها خاصة بين المفكرين وقادة الفكر والعلم، أن يتكلم إنسان أمام الملأ وفي كتاب أو صحيفة بمثل هذا الكلام الذي فيه إدانة لنفسه، وذلك لأن الشيخ رحمه الله كثيراً ما يطرق قضية وهي أن مشكلة الأمة في أن كل فرد يلقي باللائمة على غيره، فضاعت المسئولية في حين أن المشكلة أصلاً فينا في أفرادنا.
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا فلا بد أن يكون لدينا شجاعة على نقد أنفسنا؛ ونقد شخصياتنا، وتقويم مواقفنا، والاعتراف بالخطأ، وهذه الخطوة لا بد منها لتصحيح الخطأ، لأنه إذا كان الإنسان لا يعترف بخطئه فمن باب أولى أنه لن يصحح هذا الخطأ؛ لأنه صواب عنده، لكن إذا وصل إلى درجة الاعتراف بأنه مخطئ في الموقف الفلاني، ومقصر في المسألة الفلانية؛ حينئذٍ يمكن أن يصحح.
وهذه القضية لها جانب عكسي موجود عند كثير من الطلاب اليوم، وهو أنه يبالغ في تقريع نفسه وتوبيخها، مبالغة يستغلها الشيطان في إقعاد الإنسان عن الأعمال والخير.
وأعرف كثيراً من الإخوة الطلاب والمشايخ يقصر في كثير من الأمور؛ مع أنه مستعد لفعلها هذا، لكنه يقول: ليس أهلاً لذلك، وما وصل إلى هذا المستوى، ويشدد على نفسه حتى يحرم الناس من خير كثير، وهذا يصدق ما قاله بعض السلف، حين قال: ما من أمرٍ أمر الله به الإنسان إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط.
إن قضية الاعتراف بالخطأ، والقدرة على تقويم النفس ومعرفة عيوبها هي في الأصل مطلوبة ولا بد منها، لكن قد تتحول إلى مرض إذا زادت عن حدها فتنقلب إلى ضدها.
الحل الثاني: هو ضرورة التفاف أهل السنة حول علمائهم المخلصين.(108/15)
تنازع الأمة وفشلها يبدأ بالتلاوم
أقول: أولاً: يجب أن نعرف دائماً أن الأمة أو الجماعة أو الطائفة من الناس، إذا أصيبت بالفشل، ومُنيت بالنكبة، فإنها تبتلى حينئذٍ بالتنازع والاختلاف والتلاوم، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:152] فأتبع ذكر الفشل بذكر التنازع؛ لأنه أثر من آثاره، فإذا فشلت المجموعة أو الأمة بدأ التنازع، ومن أسباب التنازع الاختلاف فيما بينهم في قدر المسئولية، فكل إنسان يلقي بالمسئولية على غيره، وهذا هو التلاوم.
ولو نظرنا في القرآن الكريم لوجدنا أن الله عز وجل ذكر التلاوم في كتابه فقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم:30] وانظر في القصة تجد فيها مصداق ما ذكر، فإن الله عز وجل قال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:17-31] .
فالمقصود أن أصحاب الجنة بعدما رأوا هذه الجنة، وما أصابها من الله عز وجل من احتراقها وذهاب ثمرتها، وبعدما نزلت بهم هذه المصيبة أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، أي: يلوم بعضهم بعضاً، فكل إنسان يلقي باللائمة، ويحمل الخطأ الآخر، وهذا مما يستفاد من هذه الآيات، ومن هذه السورة، أن الأمة والطائفة في حال فشلها وتنازعها تبدأ بالتلاوم.
ولذلك إذا أتيت اليوم في هذا العصر إلى بعض العلماء المجاهدين المثابرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم، والإخلاص، فحدثته عن بعض الأخطاء والانحرافات، تجد هذا العالم يلوم نفسه ويوبخها ويقرعها، ويقول: نحن مقصرون، ويجب أن نفعل، وسنفعل، ويحث غيره، فإذا أتيت إلى بعض القاعدين أو المقصرين قال لك: الواجب على أهل العلم، والواجب على الطلاب، والواجب والواجب، وصار كأنه يتبرأ من التبعة ويلقي بها على الآخرين، هذا هو الواقع اليوم في الأمة.
فأنت إذا نظرت إلى موقف الأمة من علمائها، وموقف العلماء وطلاب العلم من الأمة؛ وجدت الأمر فيه نوع من تبادل اللوم، فأما بالنسبة لطلاب العلم فكثير منهم يلقي باللائمة على العامة، ويقول: إنهم لا قيمة لهم، ولا يلتفون حول علمائهم وما أشبه ذلك، وينتظر منهم دوراً يقومون به في ذلك، وهذا بحد ذاته صحيح لا إشكال فيه، حتى إنني أذكر أن الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله وأسكننا وإياه فسيح الجنان عوتب مرة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بذلك، فتكلم بكلام قوي، ثم استشهد بقول الشاعر: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت يعني لو أن الناس والمسلمين وأهل السنة كانوا ردءاً لعلمائهم لتكلموا وأمروا ونهوا، لكن تأخروا وتخلفوا فصار العالم يشعر أنه وحده في الميدان.
ثم حين تنظر إلى العامة تجد الأمر نفسه موجوداً، فكثير من عامة الناس حتى من سفهاء الأحلام والعقول، حتى من الفساق ومن سائر الناس ممن هم مستقيمون بصفة عامة، تجد كثيراً منهم يتلذذون بنهش أعراض العلماء، والوقوع فيهم، وأن هؤلاء العلماء شبعوا من الأموال، وامتلأت بطونهم، وأنهم لم يأمروا بمعروف ولا نهوا عن منكر، وأن فيهم وفيهم، وأن فيهم نفاقاً إلى آخر ما تسمعه من كثير من الناس.
فيحملون العلماء مسئوليات جسام، وكأن الأمر يبدأ منهم وينتهي إليهم، وكأن المتكلم من هؤلاء ليس عليه مسئولية، هذا فضلاً عن أنه لا يدري ما دور العلماء، وقد يكون من العلماء من يأمر وينهى في الخفاء، خاصة فيما يتعلق بأمر الناس الذين لهم مكانة، فإن هؤلاء غالباً الأنسب ألاَّ يعلم بأمرهم ونهيهم، بل يؤمروا وينهوا خفية لأن هذا أدعى للقبول.
فتجد كثيراً من عوام المسلمين ومن أهل السنة والجماعة يتكلمون في علمائهم بهذه الصورة، ومن هنا حصل التلاوم، فالعالم أو طالب العلم ينتظر من الناس أن يكون لهم دور، والناس ينتظرون من العلماء أن يكون لهم كل الدور لا بعضه، وهكذا تضيع الأمور بين هؤلاء وأولئك.(108/16)
عناية أهل البدع بعلمائهم
إذا نظرنا إلى أهل البدع على مدار التاريخ، وجدنا أنهم يلتفون حول علمائهم التفافاً عجيباً، وذلك لأن البدعة في الغالب بل دائماً البدعة لا يعضدها عقل ولا نقل.(108/17)
التفاف الرافضة حول مشايخهم
هذا نموذج من التفاف أهل البدع حول شيوخهم.
ومالنا نذهب بعيداً ونحن نرى اليوم ما يصنعه الرافضة من الالتفاف حول مشايخهم، التفافاً يصل إلى حد التقديس الأعمى والعبادة، حتى إن عامتهم إذا ناقشتهم في مسألة قال لك يا أخي: أنا لا أدري اذهب واسأل الملا أو السيد، أو الشيخ عن هذه المسألة.
وترونهم وهم في الحج وفي غيره يمشون خلف هذا الرحل بعمته السوداء، وبعباءته السوداء، وبقلبه الأسود أيضاً، يمشون خلفه جماعات كثيرة أحياناً، ويأتمرون بأمره، وأي إشارة منه يلتزمون بها أي التزام! وهم يقصدون إظهار هذا لأهل السنة، لأن هذا نوع من التهزيء والإحباط لأهل السنة، أنه نحن إلى هذه الدرجة من الدقة والضبط والتقدير والتقديس لمشايخنا وعلمائنا.
وقد يصل هذا الأمر إلى حد الغلو في شيوخهم، أما بالنسبة لأئمتهم فهم يؤلهونهم، وحدِّث ولا حرج عن الغلو، لكن حتى بالنسبة لشيوخهم فهم قد يعتبرون أحياناً هذا الشيخ الفقيه نائباً عن الإمام، فينظرون إليه هذه النظرة، وليس المطلوب من أهل السنة ذلك، بل إننا نعرف جميعاً أن أهل السنة يجب أن يكون تعبدهم على ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في تقليد الرجال وأقوالهم.(108/18)
موقف العامة وبعض طلبة العلم من علماء أهل السنة
ولكن فرق بين هذا وبين كون كثير من أهل السنة اليوم لا يحترمون علماءهم، ولا ينظرون إليهم، تجد الطالب المبتدئ مثلاً يقف أمام العالم الذي قضى كثيراً من عمره في البحث والطلب والجهاد، يقف أمامه بلحيته البيضاء، وبورعه وزهده وجهاده، وتجد هذا العالم بسيطاً في ملبسه، ومركبه، ومنزله، ولو كان عند أهل البدع لعظموه، واعتبروه آية من آياتهم، وحجة من حججهم، وما تركوه يمشي على الأرض.
ومع ذلك تجد أهل السنة في الطرف الآخر، تجد شاباً في مقتبل العمر ما طر شاربه يقف أمام هذا العالم، فيرد عليه في مسألة من المسائل بعبارات ركيكة، وألفاظ نابية وقد يسب أو يحط من قدره، فالمطلوب من أهل السنة ليس أن يبالغوا في تعظيم أئمتهم وعلمائهم مبالغة أهل البدعة، فهذا أمر لا يقبله العلماء أنفسهم، ولا طلاب العلم، وإنما المطلوب أن يعرف للعلماء حقهم وقدرهم، وأن يلتف طلاب العلم والعامة حول المشايخ والعلماء، حتى يمكن للعالم أن يأمر وينهى، ويكون له ثقل في الواقع ومكانة.
وبذلك يصبح كل واحد من المسلمين له مكانة، وله منزلة، وله تأثير، فضلاً عن العالم الذي يعتبر قائداً لهؤلاء، ولو نظرنا اليوم في الواقع لوجدنا أن الله عز وجل قد امتن على المسلمين وأهل السنة بمشايخ وعلماء أجلاء، لا يوجد نظيرهم عند أي أمة من الأمم.
وعلى سبيل المثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، هذا الرجل بتواضعه، وبحلمه وبحسن خلقه الذي وسع الخاص والعام على كثرة من يرتاد مجلسه ومكتبه، وكثرة التفاف الناس حوله، وكثرة ما يرد من الشكاوى، والإشكالات والأسئلة والإيرادات والخصومات وغيرها، وعلى رغم ما قضاه من السنين والعمر الطويل في هذا الصدد، وكثرة ما يلقى من العنت والمشقة إلى غير ذلك.
هذا الرجل بهذه المواصفات ببعده عن الدنيا، بكرمه وجوده الذي هو مضرب المثل، هو أنموذج لما يراد من أهل السنة اليوم، وأقول بصراحة: لو كان مثل هذا الرجل عند غير هذه الأمة، عند أمة أخرى، أو عند طائفة من الطوائف لاعتبروه إماماً وحجة، وأشعلوا الدنيا كلها بالحديث عنه، لكن -لله الحمد- أن مشايخنا وعلماءنا بعيدون عن البهرج، والقيل والقال، وحب الثناء رغبة في التواضع وهضماً للنفس، وهذه من فضائلهم التي يمدحون بها، ولكن هذا لا يعفينا نحن المسلمين وأهل السنة من ضرورة احترام علمائنا، والالتفاف حولهم، وإشعار الآخرين بأننا نوقرهم ونقدرهم، لأنك إذا أشعرت الناس بأنك توقر وتقدر علماءك وقروهم وقدروهم أيضاً، وأصبح للعالم منطق ومكانة، وبإمكانه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على كل مستوى.
أما إذا كان أقرب الناس إلى العالم يتندرون في مجالسهم بنهش عرضه والنيل منه، وينسون ما قاله ابن عساكر رحمه الله حين كان يقول: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، إذا كان هذا شأن أقرب الناس إليهم، فما بالك بالأبعدين؟! فكل واحد من أهل السنة عليه واجب ينبغي أن يؤديه، وأن تنتقل المسألة من مجرد اللوم والتقريع، وإلقاء التبعة على الآخرين من مسئولين وعلماء أو غيرهم، إلى أن يلقي كل إنسان باللوم والتبعة على نفسه، ويسأل نفسه بجد، ما هو الشيء الذي يجب أن أؤديه؟ وما هو الدور الملقى علي؟ وهل قمت بذلك؟ ويبدأ بداية صحيحة في القيام بهذا الواجب.
وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضى، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، اللهم اغفر لنا الخطأ والزلل، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(108/19)
أسلوب المبتدعة في كسب الناس
زعماء البدعة يحرصون على كسب ثقة من حولهم؛ لأن ثقة هؤلاء بالشيخ المبتدع هي سبب التزامهم بالبدعة، لأنهم إذا فقدوا الثقة به، وصار عندهم إمكانية النظر، والتأمل والدراسة، اكتشفوا أن هذه البدعة بدعة فتركوها، لكن ما داموا يعظمون هذا الذي جاء بالبدعة فإن عقولهم مغلقة، وليس لديهم قدرة على النظر والتأمل.(108/20)
تقديس المعتزلة لمشايخهم
انظروا على سبيل المثال إلى المعتزلة وتقديسهم لمشايخهم، وأضرب مثالاً واحداً لذلك وهو واصل بن عطاء شيخ من شيوخ المعتزلة بل هو زعيمهم، أو عمرو بن عبيد، هذا الرجل كان تلاميذه يلتفون حوله ويعجبون به أشد الإعجاب، ومن ضمن هؤلاء التلاميذ المعجبين به شاعر اسمه صفوان الأنصاري، وقد قال قصيدة يمدح فيها شيخه ذكرها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، والذي يظهر أن الجاحظ إن لم يكن من الزنادقة فهو من غلاة المعتزلة، ولذلك يسترسل في مديحهم، والثناء عليهم، واسترسل هاهنا في مديح عمرو بن عبيد والثناء عليه، ويذكر وينسب إلى هذا الشاعر قصيدة جميلة في مدح شيخه والثناء عليه، يقول من ضمن الأبيات يقول: له خلف بحر الصين في كل ثغرة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابرِ رجال دعاة لا يفل عزيمهم تهكم جبار ولا كيد ماكرِ إذا قال مروا في الشتاء تطوعوا وإن كان صيفاً لم يخف شهر ناجرِ فيمدح هذا الشيخ، ويصفه بأن له دعاة في أنحاء الدنيا، في بلاد المغرب، وفي بلاد الصين وفي غيرها فله دعاة في كل مكان، ويمدح هؤلاء الدعاة بأنهم رجال دعاة أقوياء، لا يؤثر في عزيمتهم سخرية الساخرين، ولا كيد الماكرين، وأن هؤلاء القوم إذا أمرهم شيخهم بالذهاب والسفر للدعوة والإصلاح في أي مكان أو في الشتاء في الصيف ذهبوا، ولم يؤثر فيهم وجود الحر أو جود البرد.
ويضحون في سبيل ذلك بهجر الأوطان والتكلف، ولذلك مدحهم بقوله: بهجرة أوطان وبذل وكلفة وشدة أخطار وكد مسافر فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم وأورى بثلج للمخاصم قاهر وأوتاد أرض الله في كل بلدة وموضع فتياها وعلم التشاجر إلى أن يقول في آخر القصيدة واصفاً مجالس هؤلاء الطلاب عند شيخهم المبتدع يقول: تراهم كأن الطير فوق رءوسهم على عمة معروفة في المعاشر وسيماهم معروفة في وجوههم وفي المشي حجاجاً وفوق الأباعر إلى آخر ما قال.(108/21)
موقف العز بن عبد السلام مع الملك الصالح إسماعيل في بيت المقدس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
مضى في حلقات عديدة الكلام عن عيب من عيوب طالب العلم في هذا العصر، وهو إيثار اعتزال الناس وتجنب مخالطتهم، واستطرد الحديث عن هذا الموضوع إلى ذكر مواقف علماء السلف رضي الله عنهم، وكيف كان الفرد منهم قيماً على المجتمع، آمراً ناهياً مصلحاً، واستعرضت في المجلس السابق، أو أشرت إلى واقع الناس اليوم، وما هم فيه من التلاوم، وأن الناس والعامة يلومون العلماء، وكذلك بعض العلماء أو طلاب العلم يلومون العامة، وأن الواجب على كل إنسان أن يتجه باللوم إلى نفسه، وأن يحرص على أن يقوم بالدور الذي يوجبه عليه كونه مسلماً.
وذكرت جانباً من عناية أهل البدع بعلمائهم -إن صح أنهم علماء- وتعظيمهم لهم، وإظهارهم للناس إجلالاً لهؤلاء الأئمة، وأضيف في ذلك القصة الطريفة التي ذكرها ابن السبكي في الطبقات في ترجمة العز بن عبد السلام، في الجزء الثامن من طبقات الشافعية، حيث ذكر أن هذا الإمام الجليل حين خرج من دمشق بعد أن أغضب الملك الصالح إسماعيل، مشى حتى وصل إلى بيت المقدس، فخرج الملك الصالح إسماعيل ومعه بعض حاشيته إلى بيت المقدس، وأمروا بسجن العز بن عبد السلام، فسجن في خيمة بجوراهم، ففي أحد المرات كان الملك الصالح إسماعيل جالساً في خيمته، ومعه وفد من الصليبيين، وإلى جوارهم خيمة أخرى فيها العز بن عبد السلام.
فكان العز يتمتم ويقرأ القرآن الكريم، فسمعه من في الخيمة الأخرى، فقال له الصليبيون: ما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: هذا صوت فلان وهو أحد العلماء الذين عارضوني حين حالفتكم وسلمتكم هذه الحصون والقلاع فسجنته، وكأنه يتقرب إليهم بذلك ويريد أن يبين لهم جانباً من التضحيات التي بذلها في سبيل موالاتهم ومناصرتهم.
لكن هؤلاء القوم قالوا له كلمة تجرح قلبه إن كان له قلب، قالوا له: لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها، تعظيماً له، وبعد فترة كأن الصالح إسماعيل أراد أن يسترضي العز بن عبد السلام، فبعث إليه رجلاً يقول له: لو ذهبت إلى الصالح إسماعيل واعتذرت منه وقبلت رأسه؛ لعله أن يصفح عنك ويعيدك إلى دمشق، فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: أنتم مساكين، أنتم في واد وأنا في واد آخر، والله الذي لا إله إلا هو إني لا أرضى أن يأتي الصالح إسماعيل نفسه ليقبل رأسي، فكيف أذهب أنا لأقبل رأسه، فدعوني وما أنا فيه.
هذا أيضاً جانب أو قصة تدل على إظهار هؤلاء النصارى وتبجيلهم وتعظيمهم لقساوستهم، وبطارقتهم، ورجال دينهم، وأنهم يتعمدون إظهار هذا الأمر للمسلمين من باب الإحباط، وإشعارهم بأننا على حال أحسن مما أنتم عليه.(108/22)
محاولة التنصل من الواجبات
أيها الإخوة: في هذا العصر قد ينتقد بعض الطلبة كثيراً من طلاب العلم أو بعض المشايخ في تقصيرهم في القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن فلاناً بلغه كذا، وبلغه كذا، وقيل له كذا، واطلع على كذا فلم يحرك ساكناً، ولا بد من وقفه سريعة عند هذا الأمر، فهذا جانب من التلاوم الذي اتفقنا على ضرورة القضاء عليه، وأن نبدأ بلوم أنفسنا، حيث إن اللوم ينفع الآن، وإلا فقد نتلاوم أو نلوم أنفسنا في وقت لا ينفع فيه اللوم، كما في قوله تعالى حكاية عما يقوله الشيطان في يوم القيامة، حين قال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] .
في ذلك الوقت لا ينفع اللوم، لكن الآن ينفع اللوم، فكونك تلقي باللوم على فلان وعلان هذا نوع من التخلص من التبعة، كما إننا كثيراً ما نتلذذ بأن نلقي بأخطائنا على الاستعمار وأعداء الإسلام واليهود والنصارى، فإذا وجدنا ما يضج به المجتمع المسلم اليوم من المفاسد، والمنكرات الظاهرة والباطنة، والبدع، والانحرافات، والتفسخ والانحلال الخلقي والفكري، قلنا هذا من كيد الاستعمار، والصهيونية العالمية، واليهود والنصارى!! صحيح {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] لكن لماذا نسينا أيضا قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120] لماذا نسينا أن اليهود والنصارى لا يستطيعون أن يجتثوا شجرة الإسلام إلا بغصن من غصونها؟ اليهود ما استطاعوا أن يكيدوا في المجتمع المسلم إلا حين كان هؤلاء الناس الذين يحملون أسماءً إسلامية وثياباً عربية هم أخلص من الاستعمار لأهداف الاستعمار، وأصبح شأنهم كما قال أحد دعاة الإسلام، حين قال: ألفاظهم عرب والفعل مختلفٌ وكم حوى اللفظ من زور ومن كذب إن العروبة ثوب يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب فكما يقول العوام في المثل العامي: (دود الخل منه وفيه) فالدود في داخلنا موجود منا نحن، فعلينا ألاَّ نلقي باللوم على غيرنا، وننسى الخطأ الذي هو ضعف مقاومتنا واستعدادنا للتأثر بهذه الجراثيم، فالجسم القوي يمتلك المناعة ضد الأمراض بإذن الله، لكن الجسم الضعيف أو الذي فقد المناعة لو أصيب بالزكام لأدى إلى حتفه، كما هو معروف في المرض الجنسي المعاصر الذي هو مرض الإيدز -فقدان المناعة- جسم لا يملك المقاومة، فأدنى جرثومة تحل فيه تؤدي إلى الوفاة بإذن الله، وهكذا الحال في كثير من المسلمين.
إذاً يجب أن ننهي قضية اللوم، ونبدأ بلوم أنفسنا وتصحيح أحوالنا، فهذا جانب يتعلق بإلقائنا للوم على غيرنا من المشايخ وكبار طلبة العلم.
الجانب الثاني: أن كثيراً من هؤلاء العلماء يقومون بأدوار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد لا يعلمها كثير من الناس، ويرون من المصلحة ألا يذكروها.
الجانب الثالث: وهو الذي أركز عليه الآن، أو أؤكد عليه الآن، هو أن الله عز وجل خلق الخلق، وقسم بينهم المواهب، والملكات، والأرزاق، والقدرات، فمن ترى من طلاب العلم أو المشايخ، هؤلاء أعطاهم الله عز وجل ما لم يعطِ غيرهم من العلم والمعرفة والتضلع بالشريعة، وأعني بذلك العلماء العاملين، الذين فعلاً يصدق عليهم أنهم علماء ومشايخ، وليس كل من أطلق عليه هذه اللفظة ممن يستحق أو لا يستحق، فإن هذه الكلمة أصبحت عند الناس مبذولة.
فهؤلاء مَنَّ الله عز وجل عليهم بأن منحهم هذا العلم، لكن لا يلزم من ذلك أن يكونوا كاملين في كل شيء.(108/23)
أصناف الصحابة
انظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الجيل المثالي الذي يجب أن تسير على خطاه في كل مجال.(108/24)
من الصحابة من اشتهر بالعلم
تجد من هؤلاء الصحابة من منّ الله عز وجل عليه بالعلم الغزير، كـ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم.
وفيهم نقول ونصوص عن السلف يهتز لها الإنسان طرباً كما في قول بعضهم: " إني نظرت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذات، من الإخاذ يروي الفرد، ومن الإخاذ يروي الفردين، ومن الإخاذ يروي الثلاثة، ومن الإخاذ يروي الفئام من الناس، ومن الإخاذ لو ورد عليه أهل الأرض كلهم لوسعهم، وإن ابن مسعود من هؤلاء " وقال عمر رضي الله عنه عن ابن مسعود: [[كنيف ملئ علماً]] يعني زاوية أو ناحية ملأت علماً، وهذا في فضائل الصحابة للإمام أحمد وغيره.
ومن الصحابة من منّ الله عز وجل عليهم بالزهد، والورع، والتعبد والبعد عن الدنيا، كـ أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه حتى بلغ به زهده رضي الله عنه وتقشفه أنه سلك مسلكاً ومذهباً أصبح لا يصلح فيه لمخالطة الناس، فقال له عثمان كما في صحيح البخاري: [[لو اعتزلت أو لو ذهبت إلى الربذة]] يقترح عليه، فرأى أبو ذر أن هذا الاقتراح من عثمان في مكانه، فذهب إلى الربذة، وأقام فيها حتى مات بها رضي الله عنه وأرضاه؛ وذلك لأنه يرى أنه لا يجوز للإنسان أن يدخر ما زاد عن القوت.
وهذا مسلك يصلح أن يتزهد به الإنسان لنفسه، لكن أن يفرضه على المجتمع فهذا الأمر في غاية الصعوبة، وقد يؤدي إلى شيء من الخصام، ولذلك فقد حدث في الشام حين كان فيها أبو ذر ما حدث، فخاطبه معاوية رضي الله عنه، ثم أشخصه إلى عثمان بالمدينة.(108/25)
من الصحابة من اشتهر بالجهاد
ومن الصحابة من هو مشهور بالجهاد، والجلاد، والقتال كـ خالد بن الوليد رضي الله عنه، والذي صح عنه أنه كان يقول: [[ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، بأحب إلى قلبي من ليلة شديدة البرد، أُصبِّحُ فيه اليهود مع سرية من المهاجمين]] نعم، يوجد من الناس من تكون لذته في الجهاد، والعلم، والعبادة، والأمر، والنهي، كما أن لذة أهل الدنيا في جمع المال والحطام، أو نيل الشهادة والرياسة والجاه وغير ذلك.(108/26)
من الصحابة من جمع الخصال
ويوجد من الصحابة رضي الله عنهم من جمعوا هذه الفضائل بحذافيرها، وإن أبا بكر وعمر من هؤلاء، فلو نظرت إلى شخصية أبي بكر مثلاً لوجدته جمع الفضل من أطرافه، وكذلك عمر رضي الله عنه فإذا قرأت في ترجمته وجدته في العلم أعلم الصحابة، وفي السياسة أحذقهم، وفي الجهاد أشدهم وأقواهم، وهكذا هو أسبقهم إلى كل خير وفضيلة، لكن هؤلاء قليل.(108/27)
اعتذار للعلماء
وإذا كان ذلك كذلك فالأمر أيضا بالنسبة لأهل الخير والعلم في هذا العصر وفي كل عصر هو كذلك، فكفى هؤلاء العلماء العاملين فخراً أنهم حين اشتغل أقرانهم بجمع الدنيا، أو نيل الحطام، أو الرئاسة، اشتغلوا هم بتعلم العلم الشرعي، وتعليمه ونشره بين الناس، وهذه ثغرة عظيمة جداً نحن نحتاج في كل وقت إلى من يقوم بها، ولا يلزم أبداً أن يكون هذا العالم مثلاً المشتغل بهذا الأمر هو أيضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغاية العليا، بل إن من حكمة الله عز وجل ولله الحكمة البالغة أن قد يكون بعضهم منشغلاً بالعلم عن غيره؛ لأنه لو اشتغل مثلاً بالأمر والنهي لقصر في جانب العلم.(108/28)
لا يكلف الله نفسها
كما أن من الأعذار أنه قد يكون هذا الشخص معذور بينه وبين الله عز وجل فقد لا يستطيع، وهل من شرط العالم أن يكون شجاعاً؟ ليس بشرط، بل قد يكون هذا العالم -وجزاه الله خيراً- أشغل نفسه بطلب العلم، وبذل ما استطاع، لكن فيه ناحية ضعف فطري جبلي لا سبيل له عليها، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
هذا في جانب الاعتذار.
لكن حذار حذار أيها الإخوة أن تكون هذه الأعذار وسيلة للقعود بهذه الحجة، فقد يقعد الواحد منا مثلاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والاختلاط بالناس، بقصد توجيههم بحجة أنني مشغول بطلب العلم، أو بحجة أنني مفطور على شيء من حب العزلة، أو بحجة أنني جبان لا أستطيع أن آمر وأنهى، خاصة إذا كنت في ملأ من الناس، لا.
بل يجب أن يكون للإنسان ميزانان: ميزان فيما يتعلق بنفسه، وميزان فيما يتعلق بالناس، وانظر إلى قول الله -عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ * يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6] فالله عز وجل توعد المطففين بالويل، ووصفهم بأنهم المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.
فإذا كان الكيل لهم أخذوا حقهم وافياً، وإذا كان الكيل عليهم للناس بخسوا ونقصوا، والله عز وجل أمرنا بتجنب مشابهة أهل السوء واللعنة، فإذا أردت أن لا تكون من المطففين بوجه من الوجوه، فعليك أن تتجنب مشابهتهم في الحالين: فإذا كان الحق لك فاحرص على أن لا تأخذه مستوفى، وإن تفضل منه فضلاً، وإذا كان الحق عليك، فاحرص على أن تعطيه كاملاً بل أن تزيد وتتفضل، وهكذا الشأن في هذه القضايا المعنوية، كقضية القيام بالواجبات الشرعية، فإذا أردت أن تقوم أو تقيم الناس فلا تصف فلاناً بأنه مقصر، وفلاناً لم يقم بالواجب، بل عليك أن تبحث له عن عذر، لأن هذا من مخالفة المطففين أن تعذر الناس إذا كان لهم أعذار ظاهرة غير متكلفة.
أما إذا كان الحق عليك، فعليك أن تعامل نفسك بالميزان الأقوى، فتطلب من نفسك أن تقوم بالواجب أمراً ونهياً وإصلاحاً، ولا تسمح لهذه الأعذار بالتسلل إليك.
هذه تعليقة خفيفة على ما سبق، أما بقية الموضوع فسأتعرض له إن شاء الله في الأسبوع التالي والذي بعده إن كان في العمر بقية، فسوف أعرض فيهما العزلة، وفضائلها، وغوائلها، والخلطة، وفضائلها، وغوائلها، مع ذكر بعض النصوص والأحاديث والقصص في ذلك، وأذكر في نهاية تينك الحلقتين المذهب الصحيح المختار الملائم لطالب العلم في الاختلاط بالناس.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(108/29)
لابد من احترام التخصص
والتخصص وارد، ونحن في عصر التخصص، فالإنسان يمكنه أن يتخصص في جانب معين فيفيد فيه، ويصل إلى نتائج محددة ومدروسة، ويقوم غيره بفروض أخرى من الفروض التي أوجبها الله على الأمة، فهذه من الأعذار التي يجب أن نلتمسها لهؤلاء الأئمة.(108/30)
اللحظات الأخيرة من حياة الفاروق
غابت معاني الإسلام الشاملة في حياة المسلمين، وتبعوا سنن من قبلهم من أهل الكتاب وذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة ونسو أو تناسوا تراثاً للأمة لا يلتفت إلى غيره ما دام باقياً، فكم شخصيات وعظماء في تاريخ الإسلام بهم نقتدي ونهتدي.
لقد سلَّ عمر سيفه يحارب الإسلام فسطع نور الإسلام في قلبه فغير وجه الحياة بمبادئه وأخلاقه وقُوَّته فارتشفت الدنيا على يدي عمر كثيراً من المعاني التي بُعِثَ بها محمد صلى الله عليه وسلم فكانت حياته لله ومماته لله رضي الله عنه.(109/1)
المعنى الشامل للإسلام
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون، والذين كانوا نجوماً يستضاء بها في الظلمات، والذين رفع الله بهم شأن هذا الدين، وأعز بهم الإسلام، وأحيا بهم ما اندرس من شرائع المرسلين.
أيها الإخوة: يقول الله تبارك وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] .
صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، هذا هو الدين وهذه هي العقيدة وهذا هو شأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا باتباعه، والاقتداء به، ولقد مرت بالمسلمين قرون نسوا خلالها هذا المعنى الشامل للإسلام، الذي يشمل كل جوانب الحياة فأصبح الدين في أوقات خاصة وفي أماكن خاصة.(109/2)
تعدد شخصيات المسلم
واليوم تجد المسلم له شخصيات متعددة، فله في المسجد شخصية كشخصية العابد الخاشع، والخائف الباكي، وله في المتجر شخصيةٌ أخرى كشخصية المحتال الغشاش المخادع المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وله في المدرسة شخصية، كشخصية الإنسان الذي يهمه أن ينال المكانة لدى أستاذه، وأن يحصل على الشهادة، والوظيفة، والدرجات، وعلى المال والدنيا، وله في السوق والشارع شخصية، وفي البيت شخصية.(109/3)
اتباع اليهود والنصارى
إن وجود شخصياتٌ متعددة تكون هذا الإنسان المسلم، هو مصداقُ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن القوم إلا هم!} فالمسلمون تتبعوا سنن اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى فرقوا دينهم وكانوا شيعاً والمسلمون كثيراً منهم جعلوا القرآن عضين.
اليهود اليوم -مثلاً- أو النصارى، يعبدون الله -فيما يزعمون- يوماً واحداً في الأسبوع، يوم السبت أو يوم الأحد، يتجهون فيه إلى الكنيسة، أو إلى المعبد، وفي بقية أيام الأسبوع يعبدون المال، والدنيا، كما قال أحد مفكري الإنجليز، قال: إن الإنجليز يعبدون الله في يوم واحد وهو يوم الأحد، ويعبدون بنك إنجلترا في بقية أيام الأسبوع، والمصيبة كل المصيبة أن المسلمين بلوا بما بلي به أهل الكتاب من قبلهم.(109/4)
أهمية القدوة في حياة المسلم
ولذلك نقف في هذه الأوقات المباركة -إن شاء الله- مع شخصيةٍ من الشخصيات العريقة في الإسلام، والتي تذكِّرنا بما قد نسينا من معالم الدين، والحقيقة -أيها الإخوة- أن المسلم المقصر -من أمثالنا- إذا قرأ شخصيات هؤلاء الأقوام وما كانوا عليه، يشعر بشيءٍ عظيم من الفرحة في قلبه، ويحس أحياناً بأن من الظلم لهؤلاء الرجال الأكابر أن يتكلم عنهم صعاليك، ولله در الشاعر إذ يقول: إني لأشعر إذ أغشى معالمهم كأنني راهبٌ يغشى مصلاه والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه(109/5)
مع عمر بن الخطاب(109/6)
فضله وشرفه
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ويكفي في شرفه وفضله ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحاح الكثيرة، والتي يمكن أن تطلع عليها في مراجعة أي كتاب من كتب السنة، اقرأ مثلاً: كتاب جامع الأصول لـ ابن الأثير في فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي الفضائل المشتركة بينه وبين أبي بكر، ترى ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل العظيم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بينا أنا نائمٌ إذ رأيت الناس وعليهم قمصٌ، وقمص الناس منهم يبلغ الثدي، ومنهم من دون ذلك وعلى عمر قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين} والحديث متفق عليه.
وفي الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عبد الله بن عمر: {بينا أنا نائمٌ إذ أوتيت بقدحٍ من لبن فشربته، حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمر قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم} هذه الفضائل التي لا تنتهي لـ عمر رضي الله عنه، قميصٌ يجره هو الدين، ولبنٌ يشربه وهو فضلةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العلم، فما بالك بهذا الرجل أي رجلٍ يكون!(109/7)
الإسلام يقلب حياة عمر
انظر إلى الإسلام، وكيف صنع هذا الرجل، هذا الرجل لم يكن له في الجاهلية شأن، كان رجلاً من رجال قريش يسرح بالغنم ويؤوب ويقضي وقته في لهوٍ وشرب خمرٍ، لا يلتفت إليه أحد، ولا يعلم بوجوده أحد، فلما أسلم انقلبت كل ذرةٍ من ذرات شخصية عمر عن مكانها، وتكونت شخصيته بصورةٍ جديدة، وهذا يبرز لك أثر الإسلام، يسلم هذا الرجل على اختلافٍ في قصة إسلامه، فيعلن إسلامه في مكة، ويعمد إلى رجل هو جميل بن معمر الجمحي، وهو رجلٌ من قريش كان مشهوراً بنشر الأخبار، بل كان وكالة أنباء متنقلة، فيأتيه عمر كما في رواية ابن إسحاق بسندٍ حسن فيقول له عمر: هل سمعت وعلمت أنني قد أسلمت! لكن لا تخبر أحداً، فيخرج الرجل يجر ثوبه في أندية قريش، وهو يقول: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، وعمر بن الخطاب وراءه يكذبه: كذبت، ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فيجتمع إليه القرشيون يقاتلونه، ويضاربونه، ويضاربهم حتى يرتفع النهار وتزول الشمس أو تكاد، فيقعد عمر رضي الله عنه على الأرض من شدة التعب والإعياء، وهو يقول: يا أعداء الله، اصنعوا ما بدا لكم، تقاتلونني، أو تضربونني، أو تقتلونني، اصنعوا ما قد بدا لكم، فوالله لو قد بلغنا معاشر المسلمين ثلاث مائة نفر، لأخرجناكم من مكة، أو أخرجتمونا منها.
انظر أخي المسلم كيف غير الإسلام شخصية عمر رضي الله عنه، بين يومٍ وليلة يتحول عمر الرجل المخمور، بل عدو الإسلام الذي ينطلق ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دنا من الصفا صفا ثم أصبح عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين.
هكذا يصنع الإسلام بالرجال؛ لكن نحن اليوم بل وكثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تجد الواحد منا عمره ثلاثون سنة أو أربعون سنة، أكثر أو أقل، وفلانٌ هو فلان، لا يشعر بأنه يزداد يوماً بعد يوم، ويتقوى في الإيمان، ويرتقي في مدارجه، بل إن لم يشعر بالنقص لم يشعر بالزيادة، ولذلك يقول ابن مسعود فيما يرويه مسلم في صحيحه: لم يكن بين إسلامنا وبين أن خوطبنا بهذه الآية ثلاث سنوات: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] } .
هكذا يقلب الإسلام شخصية عمر، فيقف هذا الموقف المتحدي: يا أعداء الله، اصنعوا ما بدا لكم، فوالله لو بلغنا ثلاث مائة رجل لأخرجناكم من مكة، أو أخرجتمونا، وتمر الأيام والليالي وعمر هو الساعد الأيمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر، ثم يقبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم إليه فيستخلف المسلمون ويختارون أبا بكر رضي الله عنه، فكان عمر في يده سيفاً، إن شاء أن يسله سلَّه، وإن شاء أن يغمده أغمده، ثم يتولى عمر الخلافة بعد موت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيصنع الأعاجيب ويرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء، وتدر الأرض خيراتها.(109/8)
قصة موت عمر بن الخطاب
انظر إلى صورةٍ صحيحة، تنبئك عن كيفية مقتل أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وكيف عاش عمر رضي الله عنه الساعات الأخيرة من عمره، هذه الساعات التي يؤمن فيها الكافر، والتي هي أجلٌ محتوم لا بد لكل إنسانٍ منه براً أو فاجراً، وانظر إلى مصداق قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] .
تدرك أن عمر الذي كان محياه لله صار مماته أيضاً لله عز وجل.(109/9)
عمر وإنكار المنكر
ثم يخرج هذا الشاب من عند عمر، فينظر إليه فإذا ثوبه يمس الأرض، فيقول: علي بالغلام فيأتونه به، فيقول: [[يا ابن أخي، ارفع إزارك، فإنه أنقى لثوبك -وفي رواية- أبقى لثوبك وأتقى لربك]] قضية يمكن اعتبارها سهلة في نظر الكثير منا، وهي إسبال الثوب، وعمر رضي الله عنه في موقف صعب، وهو يعاني سكرات الموت، بل وهو يواجه قضايا كبيرة في الواقع منها قضية الخلافة، وكيف يترك المسلمين بشأنها، هل يعهد بها إلى أحد؟ أو يعهد بها إلى مجموعة من الناس أو يترك المسلمين على حالهم، ومع ذلك لا ينسى أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، أن ينبه رجلاً من المسلمين إلى خطأ وقع فيه، وهو أنه أسبل ثوبه، وينبهه بالأسلوب اللين، وبالحكمة، والموعظة الحسنة: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، ويبين المزايا الدينية والدنيوية لهذا الأمر، فمن ناحية دنيوية هو أبقى لثوبك وأنقى له، ومن ناحيةٍ أخروية هو أتقى لربك، وهذا يؤكد أن المسلم عليه أن يأخذ الإسلام كله جملةً واحدة.(109/10)
دخول علي بن أبي طالب عليه ثم حفصة
ثم يأتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فيثني على عمر رضي الله عنه، فيقول: [[والله إني لأرجو أن تكون مع صاحبيك، فإني كنت كثيراً ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر، كنت أنا وأبو بكر وعمر]] فيشهد له رضي الله عنه وأرضاه بالخير وحسن الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يدخل المسلمون عليه زرافات ووحداناً، ثم تستأذن بنته حفصة رضي الله عنها، ومعها النساء، فيخرج الرجال فتدخل فتبكي عند أبيها ساعة، وهي تقول: [[يا أبتاه! يا صاحب رسول الله، يا أمير المؤمنين]] فينهرها عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويقول: لا صبر لي على ما أسمع، عزمت عليك ألا تقولي شيئاً من ذلك، أما عينك فلست أحبسها.
أي أن البكاء لا بد لها منه، أما النياحة والندبة، وتعداد محاسنه وما أشبه ذلك فإنه لا يرضى به، ثم تخرج حفصة رضي الله عنها فيسمع بكاؤها من الستر، وبكاء النساء معها، وكان عمر رضي الله عنه إذا ذاك على رجل ابنه عبد الله بن عمر ثم يأتي الطبيب وينظر فيسقي عمر رضي الله عنه نبيذاً، وهو الماء يوضع فيه شيءٌ من الزبيب حتى يكون حلواً، فيخرج النبيذ من جرحه، ثم يسقيه شيئاً من اللبن فيخرج من جرحه أيضاً، فيعلمون أنه هالكٌ لا محالة.(109/11)
من ماذا كان يخاف عمر؟
لماذا يأمر عمر رضي الله عنه عبد الله بن عباس أن يذهب فينظر من قتله؟! إن الأمر عجب! إن عمر رضي الله عنه كان يسأل المسلمين من حوله، أعن ملأٍ منكم كان هذا الأمر؟ هل هي مؤامرة مشتركة منكم يا معاشر المسلمين عليَّ؟! قالوا: معاذ الله يا أمير المؤمنين، ما علمنا ولا سمعنا.
عمر وهو من هو في عدله وفضله، يخطر في باله أن يكون مسيئاً للمسلمين فسعوا للتخلص منه بهذه الطريقة، فيأمر ابن عباس أن يذهب لينظر من قتله، وجانبٌ آخر هو أنه كان يخشى أن يكون دمه في عنق أحد من المسلمين، فلما أخبره ابن عباس أن القاتل مجوسي، وأن قتله له لم يكن عن مواطأة، وأنه ما مر بملأٍ من المسلمين إلا وهم يبكون، حتى لكأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل يومئذ؛ سُري عن عمر رضي الله عنه ودهش وفرح، ثم يقول عمر رضي الله عنه لـ ابن عباس: قد كنت أنت وأبوك تريدان أن تكثر العلوج في المدينة، وكنت أنهاكما عن ذلك، قال يا أمير المؤمنين، إن شئت الآن، أي أن نقتلهم الآن، قال: كذبت لا تستطيع ذلك بعد أن تكلموا بلسانكم، وشهدوا شهادتكم، ثم يخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى بيته، يخرج فيقعد في بيته، والمسلمون يبكون، ويدخل عليه النفر بعد النفر يشهدون له ويدعون له ويبكون بين يديه، ويدخل عليه غلامٌ أو شابٌ في بعض الروايات أنه ابن عباس فيقول: [[هنيئاً لك الشهادة يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله عليه وسلم، ثم هاجرت، ثم جاهدت معه، وكان لك قدم صدقٍ في الإسلام كما علمت، ثم نلت الشهادة، فقال: تشهد لي بهذا يـ ابن عباس قال: نعم، قال: الحمد لله، وددت أني خرجت منها كفافاً لا علي ولا لي]] يود أنه خرج من الدنيا أو من هذه الخلافة كفافاً لا عليه ولا له، وفي روايةٍ أنه كان يقول: [[لو أن لي قلاع الأرض -يعني ملء الأرض- لافتديت به من هول المطلع]] .
هذه الشخصيات التي صنعها الإسلام فعلاً، رجلٌ كل حياته في سبيل الله، بل ومماته في سبيل الله، وخطواته في سبيل الله وجهاده معروف، ثالث رجلٍ في الإسلام، ومع ذلك يبلغ به الخوف أن يقول: [[وددت أني خرجت منها لا علي ولا لي، لو أن لي قلاع الأرض لافتديت به من هول المطلع]] وما بالك بكثيرٍ من المسلمين اليوم! من طلبة العلم، ومن المتعبدين، ومن الدعاة، يفرح الواحد بعملٍ يسيرٍ فعله من عبادة، أو قيام ليلٍ، أو حفظ قرآنٍِ، أو دعوةٍ، أو عمل خير، حتى يخيل إليه أنه من أول من يدخل الجنة، ويتعاظم في نفسه، وربما نظر إلى غيره نظرة ازدراء واحتقار، بل ما بالك بالعامة من المسلمين وهم يثنون على أنفسهم في أحيانٍ كثيرة، ويحمدون الله على أنهم وعلى أنهم، دون أن يخطر في قلوبهم خاطر الخوف من الله عز وجل، أو أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، كما قال الله عز وجل: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فكان عمر يخشى من هول المطلع، ويتمنى أن يخرج منها كفافاً لا له ولا عليه.(109/12)
لماذا قتل أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه
فـ أبو لؤلؤة لم يقتل عمر رضي الله عنه؛ لأنه لم يتدخل مع المغيرة في التخفيف من خراجه، بل إن الواقع أن عمر تدخل وطلب من المغيرة أن يضع عنه الخراج، وليست القضية قضية شخصية وإنما أبو لؤلؤة طعن عمر؛ لأن -دولة المجوس- دولة الفرس سقطت على يديه، طعنه انتقاماً للمجوسية.(109/13)
عمر يحس بدنو أجله
ومر به عمر يوماً فقال له: ألم أخبر أنك تقول: لأصنعن رحى تدور بالريح -وكان هذا الرجل فيما يبدو صاحب قدرة في الاختراعات والابتكارات، فكان يتحدث أنه سوف يصنع رحى تديرها الريح- فأقبل على عمر عابساً مغضباً، وقال: لأصنعن لك رحى يسمع بها أهل المشرق والمغرب، فقال عمر: لقد توعدني العبد.
فكان عمر رضي الله عنه يظن أن هذا الرجل قاتله، بل إن مسلماً روى في صحيحه، أن عمر رضي الله عنه قال قبل أن يموت بثلاثٍ: [[إني رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، وما أراه إلا حضورُ أجلي]] وفي بعض الروايات: أن أسماء بنت عميس فسرت هذه الرؤيا برجلٍ من العجم يطعن عمر ثلاث طعنات، لكن وماذا يهم عمر أن يطعن في سبيل الله، بل إنه كان يتمنى ذلك، كما في الروايات الصحيحة، أنه بعد أن انتهى من حجه رضي الله عنه في العام الذي قتل فيه وأقام بالأبطح جمع كومةً من تراب، ثم فرش عليها رداءه، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم قد رقَّ عظمي، وكثرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع.
وفي الحديث الصحيح عنه أنه كان يقول: [[اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك]] انظر كيف جمع بينهما شهادةً في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، فجمع الله عز وجل له بينهما حيث طعنه هذا الغلام الكافر في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدرك الشهادة في سبيل الله، والموت في بلد رسول الله، والغريب أن أبا لؤلؤة بعد أن طعن عمر هذه الطعنات، وكان معه سكين ذات حدين، أقبل على المسلمين مسرعاً فلا يعرض له أحدٌ إلا طعنه، حتى طعن نحو ثلاثة عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين؛ طرح عليه برنساً أي ثوباً فلما علم العلج أنه مأخوذٌ نحر نفسه.
إذاً أبو لؤلؤة قتل عمر رضي الله عنه وأرضاه، لسبب خفي، وهذا السبب هو الانتصار لدين المجوس الذي سقطت دولته -دولة الفرس- على يدي جيوش أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه فـ أبو لؤلؤة طعن عمر رضي الله عنه بسكين المجوس بالتعاون مع اليهود، ولذلك فليس من الغريب أن يعظم المجوس منذ ذلك الحين وإلى اليوم أبا لؤلؤة المجوسي فيسمونه بابا شجاع الدين، لماذا؟ لأنه قتل عمر رضي الله عنه، ولذلك فليس من الغريب أن تمتلئ كتب الرافضة بالشتيمة على عمر رضي الله عنه والطعن فيه، ورميه بالكفر، حتى إنهم يقرءون في مزاراتهم ومعابدهم الوثنية، اللهم العن صنمي قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما، وابنتيهما إلى آخر الدعاء.(109/14)
طعنه في المسجد
كان من عادة عمر بن الخطاب في صلاة الفجر أنه يتقدم إلى المسجد، فيوقظ النائمين فيه ويقول: أيها الناس الصلاة الصلاة، ثم يتقدم الصفوف فيسويها، حتى إذا استوت تقدم فكبر، وكان أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة في ظلام الليل وفي ظلام المحراب، فما هي إلا لحظةٌ حتى كبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، وشرع في القراءة، وكان من عادته أن يقرأ سورةً طويلة كسورة النحل أو سورة يوسف، حتى يجتمع الناس، فطعنه أبو لؤلؤة ثلاث طعنات كانت إحداها تحت سرته، فمزقت ثيابه ونفذت إلى جوفه، فخر صريعاً رضي الله عنه وأرضاه، يتشحط في دمه، وهو يقول: أكلني الكلب، أو قتلني الكلب، ثم أخذ عمر رضي الله عنه بيد عبد الرحمن بن عوف وكان وراءه، فجره ليكمل الصلاة بالمسلمين، فأما القريبون من عمر فقد رأوا مثل الذي رأى عمرو بن ميمون، وشهدوا مقتل عمر رضي الله عنه، وأما البعيدون فقد انقطع عنهم صوت أمير المؤمنين، ولم يعرفوا ما الخبر، فبدءوا يقولون في كل ناحيةٍ من نواحي المسجد: سبحان الله! سبحان الله! وتقدم عبد الرحمن بن عوف وصلى بالمسلمين صلاةً خفيفة، قرأ فيها سورتين قصيرتين، ثم سلم، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه لـ ابن عباس: يا ابن عباس اذهب فانظر من قتلني، فيذهب ابن عباس ينظر ويتساءل، وإذا بالقاتل أبو لؤلؤة المجوسي واسمه فيروز.
فعاد وأخبر عمر رضي الله عنه، فيسر، ويقول: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على رجلٍ سجد لله سجدة، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجلٍ يشهد أن لا إله إلا الله، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على رجلٍ يحاجني بلا إله إلا الله يوم القيامة.
ولماذا قتل أبو لؤلؤة المجوسي عمر رضي الله عنه؟ الأحداث القريبة تقول: إن أبا لؤلؤة كان غلاماً للمغيرة بن شعبة وكان صانعاً نقاشاً نجاراً يتقن كثيراً من الأعمال والمهن، فكان عمر يمنع العجم من دخول المدينة؛ حفاظاً على عاصمة الإسلام أن تكثر فيها العلوج، فغلبه المسلمون وأثروا عليه حتى أذن لبعض العبيد أن يدخلوا، وكان منهم هذا الغلام إذ بعث المغيرة بكتاب يقول له: إنه غلامٌ حائكٌ صانعٌ كاتبٌ، فأذن له عمر فدخل، فكان في يوم من الأيام يصنع شيئاً لـ عمر فقال: يا أمير المؤمنين كلم المغيرة بن شعبة يضع من خراجي، ويخفف عني، فقال: كم خراجك؟ قال: أربعة دراهم، قال: وما عملك؟ قال: أنا نجار وحدادٌ وكذا وكذا، فقال: إن هذا الخراج قليل، في جنب صنعتك التي تحسن، فقال هذا الغلام: قد وسع الناس كلهم عدل عمر إلا أنا، وأضمر في نفسه الشر لـ عمر.(109/15)
من اهتماماته قبل الموت
يروي البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي رضي الله عنه، وهو من التابعين المخضرمين أنه قال: إني رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يموت بأربع ليالِ، وقد مر على حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف، وكان قد بعثهما إلى العراق لتحديد المبلغ الذي يضرب على أرض الخراج، فحددا لـ عمر المبلغ الذي تستحقه الأرض، فقال لهما عمر رضي الله عنه: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، وضربتما عليها من الخراج فوق ما تستحق، قالا: يا أمير المؤمنين، حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضلٍ لو زدنا عليها لتحملت.
فقال رضي الله عنه وأرضاه: والله لئن سلمني الله؛ لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجلٍ بعدي أبداً.
هذا همٌّ من هموم أمير المؤمنين الذي يقطع الليل تسبيحاً وعبادة وقرآناً، من همومه قبل أن يموت بأربع أيام بخطةٍ اقتصادية تجعل أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحدٍ بعده أبداً، فما مرت عليه أربعة أيامٍ، إلا وطعن رضي الله عنه وأرضاه.(109/16)
أشياء كانت تشغل بال عمر عند الموت
فانظر أخي المسلم ما هي الأشياء التي كانت تشغل بال عمر في تلك اللحظة، أقتصر منها على أمور أربعة:(109/17)
الوصية للمسلمين
ثم كان الهم الرابع: هو هَمُّ المسلمين، وهَمُّ الشئون الكثيرة بعد عمر، وقد لخص عمر رضي الله عنه وصيته فيها لمن يستخلفه المسلمين من بعده، فأوصاه بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ولا ينسى لهم فضلهم، ثم أوصاه بالأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، ثم أوصاه بأهل الأمصار خيراً؛ لأنهم ردأ الإسلام وجباة الزكاة وغيظ العدو، ثم أوصاه بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، أن يأخذ شيئاً من حواشي أموالهم وألا يأخذ من أموالهم إلا عن طيب نفسٍ منهم، ثم أوصاه بأهل الذمة أن يحسن إليهم وأن يقاتل بهم من وراءهم.
فأوصى بجميع الطوائف التي كانت تقع تحت سلطة عمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قضى ولفظ أنفاسه الأخيرة بعد حياةٍ مليئةٍ بالبطولة والجهاد.
قضى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه شهيداً من شهداء الإسلام وقد سطر بدمه، وزكى ما سطره خلال حياته، من جهاد في سبيل الله عز وجل، وحسن صحبةٍ لرسول الله عليه وسلم، وعلمٍ، وعملٍ، ودعوةٍ، وجهاد.(109/18)
هم الخلافة بعده
الهم الثالث الذي كان يشغل باله رضي الله عنه وأرضاه، هم الخلافة، لقد طعن عمر فقال المسلمون جميعاً له: أوص يا أمير المؤمنين، فقال إن أستخلف فقد استخلف من هو خيرٌ مني -يعني أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خيرٌ مني -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فعلم الناس حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف، ثم جعل الأمر شورى في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، وأمرهم أن يجتمعوا ويتشاوروا فيما بينهم، قال: فإن أمروا سعداً فنعما هو، يعني سعد بن أبي وقاص وإلاّ فأيكم ولي فلا يستغني عنه، فإنني لم أعزله عن خيانة.(109/19)
أين يدفن عمر؟
الهم الثاني: هو أين يدفن عمر رضي الله! عاش أمير المؤمنين سنين طويلة في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاسى معه في مكة ثم في المدينة، وخرج معه في مغازيه كلها، وكان قلبه مع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الصفاء والقرب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب أبا بكر، ويقول: هذان السمع والبصر، فكان النبي صلى الله وسلم حبيب عمر وصفيُّه، وكذلك كان أبو بكر، فخشي عمر أن تفترق بينهم القبور، ولذلك قال لابنه عبد الله: اذهب إلى عائشة، فقل لها: يستأذن عليك عمر بن الخطاب اسمٌ مجرد غير مسبوقٍ بألفاظٍ رنانةٍ فخمة اسمٌ مجرد ينتسب إلى عمر بن الخطاب، ولا تقل لها يسلم أو يستأذن عليك أمير المؤمنين، فإنني لست للمؤمنين اليوم بأمير انتهى عهد خلافته، لا يظل طيلة عمره يسمى به ثم يلحقه هذا الاسم طيلة الدهر، لا فإنني لست للمؤمنين اليوم بأمير -وقل لها يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فإن أذنت وإلا فادفنوني مع المسلمين، فيذهب عبد الله بن عمر إليها ثم يعود، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله أقبل، فقال: أسندوني أقعدوني -من شدة الشوق في قلب عمر إلى أن يدفن إلى جوار صاحبيه ببيت جعلته يتطلع إلى هذا الخبر، حتى يقول: أسندوني- فيسندونه فيقول لابنه متلهفاً: ما وراءك؟ قال: أذنت يا أمير المؤمنين.
قال: إذا مت فمروا بي من عند حجرتها، فإن أذنت لي وإلا فادفنوني مع المسلمين، لأنه يخشى أن تكون أذنت مجاملةً له أو سمعاً وطاعةً له، فلذلك يطلب أن يستأذنوا منها مرةً أخرى بعد موته رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو الهم الآخر وقد سري عنه، وفرح أيما فرح حينما سمع بإذن أم المؤمنين له أن يدفن إلى جوار صاحبيه.(109/20)
الدَّين
الأول: الدَّين الذي كان في ذمته رضي الله عنه وأرضاه، فأمير المؤمنين الذي كان على خزائن الأرض مات وفي ذمته ستةٌ وثمانون ألفاً، لقد أتعب من جاء بعده، يقول لابنه عبد الله: انظر ديني، فإن وفى فيه مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، يعني في البطن الذي ينتسب إليه عمر، وإلا فسل في قريش، وهي قبيلته، ولا تعدهم إلى غيرهم، هذا هو الهم الأول.(109/21)
شأننا مع أولئك الرجال
أيها الإخوة إن شأننا مع أولئك الرجال كما يقول الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ماكررته يتضوع إنك حين تقرأ سيرة هذا الرجل لا تملك دموع عينيك، وكما قال الشاعر: والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه إنك تعجب أشد العجب من هذه الحياة المستمرة.
قد تمر بالواحد منا لحظات خشوع وخوف وإيمان، وقد يحدث للواحد منا موقفٌ من مواقف الرجولة؛ لكن الأمر العجيب أن أولئك الرجال كانت حياتهم كلها رجولة، وكانت حياتهم كلها إيمان وبطولة وجهاد، كان الواحد منهم إذا أراد أن يستريح استراح للذكر، والخشوع، والعبادة، وقراءة القرآن.
فرضي الله على أولئك الرجال، ورضي الله عن أولئك الأبطال، ورحم الله تلك الأبدان، وأسكن أرواحهم الجنان.(109/22)
دعاء
اللهم ألحقنا بهم في الصالحين، اللهم اجعلنا لسيرتهم مقتدين ولآثارهم متبعين، وعلى نهجهم سائرين، ومعهم يوم القيامة محشورين، اللهم اجعلنا ممن يجدد سيرتهم، لا بالكلام؛ لكن بالواقع وبالأفعال، اللهم اجعلنا ممن يجدد سيرتهم، ويحي آثارهم، اللهم كما أسقطت على أيدي أولئك الرجال دولة فارس والروم، فأسقط على أيدي شباب الإسلام الدول الكافرة من الروس والأمريكان وغيرها من الذين يحادون رسولك، ويضلون عبادك ويقاتلون أولياءك في مشارق الأرض ومغاربها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(109/23)
الأسئلة(109/24)
حكم الإسبال في الصلاة
السؤال يقول: أذكر حديثاً عن الإسبال وهو: {لا صلاة لمن أسبل إزاره} فهل هذا الحديث صحيح؟
الجواب
كثيراً ما يسأل بعض الإخوة عن أحاديث هل هي صحيحة أم لا؟ فعلى الأخ أن يتعود الرجوع إلى بعض الكتب، فمهما تحدث المتحدث عن الحديث من أنه صحيح، أو ضعيف، أو جيد فلن يفيدك كما يفيدك لو رجعت إلى كتاب من كتب السنة فأعطاك جواباً موسعاً، ولله الحمد كتب السنة أصبحت ميسورة خاصة بعد ظهور الفهارس، ارجع مثلاً إلى فهارس كتب السنة وهي كثيرةٌ جداً، ارجع إلى كتب السنة المؤلفة على حسب حروف الهجاء مثلاً: كتب الأحاديث المشتهرة معظمها مصنفة على حسب حروف الهجاء: أب ت ث وهي تتكلم عن الأحاديث المشتهرة المتداولة بين الناس، فاقرأ فيها وستجد غالباً الأحاديث المشتهرة، والحكم عليها وعلى من خرجها وهذا الحديث {لا صلاة لمن أسبل إزاره} أظن أن السائل يقصد الحديث الذي رواه أبو داود في قصة الرجل الذي مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم سلم عليه فقال له النبي صلى الله عليه: {ارجع فتوضأ، فرجع فتوضأ وصلى، ثم مر على النبي صلى الله عليه فسلم، فقال: ارجع فتوضأ ثلاثاً، فقال له رجلٌ: يا رسول الله، إنه مر عليك، فقلت له: ارجع فتوضأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه مسبل وإن الله لا يقبل صلاة رجلٍ مسبلٍ إزاره} والحديث اختلف العلماء فيه، فقال الإمام النووي في رياض الصالحين إسناده صحيح على شرط مسلم، وقال الإمام المنذري الحديث في إسناده أبو جعفر وهو رجلٌ من أهل المدينة لا يعرف اسمه، والذي يظهر والله أعلم أن الحديث لا يصح، لأن متنه مع سنده فيه غرابة، فمتنه فيه غرابة فهذا الرجل يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه فيقول له: اذهب فتوضأ، ما علاقة الوضوء بالإسبال! الرسول عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلام، وكان يرشد الإنسان إلى الخطأ الذي وقع فيه بأتم بيان وأوضح حجة وأجلى عبارة، ويبعد أن يأتيه رجل مسبل فيقول له: ارجع فتوضأ، وإنما من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يأتيه الرجل لم يحسن الوضوء كما في حديث عمر في صحيح مسلم، في قصة الرجل الذي كان في قدمه قدر الظفر لم يصبه الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسن وضوءه، فلو كان هذا الحديث صحيحاً لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الرجل ارفع إزارك، ولو كانت صلاته لا تصح لأنه مسبل، لأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك وأمره أن يرفع إزاره وأن يعيد الصلاة لا الوضوء، فإن العلماء متفقون على أن وضوء المسبل صحيحٌ ولا يحتاج إلى إعادة فيما أعلم، فهذا يجعل الحديث أقرب إلى أن يكون ضعيفاً، وأما المسبل فيوجد في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ما يدل على أنه يقول بعدم صحة الصلاة، ولكن كثيراً من الفقهاء يقولون بأن صلاته صحيحة وهذا هو الأقرب للصواب أنه تصح صلاته، ولو أمَّ قوماً فإمامته مكروهة إن وجد من هو أفضل منه، ولا ينبغي أن يصلي بهم وهو بهذه الحال ولكن صلاتهم أيضاً صحيحة، وإن كان العلماء -فيما أعلم- على أنه يكره للإنسان أن يصلي خلف للفضول مع وجود الفاضل فكيف بالصلاة خلف الفاسق؟! فكيف بالصلاة خلف المسبل الذي ربما يؤدي فسقه إلى وقوعه في كبيرة إن كان هذا الإسبال معه خيلاء.
أيها الإخوة! أسأل الله أن يجمعني وإياكم في جناته، وأن يغفر لي ولكم ما ظهر وما بطن، وما تقدم وما تأخر، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يثبت أقدامنا على طاعته، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا، وأن يجعل حياتنا جهاداً في سبيله ودعوةً إليه، وصبراً على ما نلقى فيه، وأن يصلح ظاهرنا وباطننا، وأن يختم لنا بخير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(109/25)
تذكر الموت ميزةٌ غالية
السؤال يقول: شابٌ هَمَّه الآخرة، ويخاف أن يدركه الموت، وهو يقول: يا نفس قد دنيت من القبر، وهو يخاف أن يكون من أهل النار، ودائماً يتذكر الموت؟
الجواب
لقد فهمت من السؤال أن الخوف يغلب على قلب هذا الشاب حتى أنه كثيراً ما يذكر الموت، وذكر الموت مطلوب، وكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بزيارة القبور، لأنها تذكر بالآخرة، وقال الله في وصف عباده الصالحين: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:46-47] .
فذكر الدار الآخرة هو ميزةٌ وخصيصة يختص الله بها من يشاء من عباده؛ ولكن على الإنسان أن يستفيد من هذا الشعور، وألا يكون مجرد خاطر؛ لأن بعض الناس ذكره للموت والقبر مجرد وحشة في قلبه، وليس ذكراً شرعياً حقيقياً يحدوه إلى العمل الصالح وإلى المسارعة في الخيرات، وإلى اقتناص أوقات العمر، فعلى الإنسان أن يدرك أن ذكر الموت يكون على صفاتٍ شتى، فمن الناس من ذكر الموت يدعوه إلى نوعٍ من الانطواء، وربما إلى شيء من الوحشة والعزلة ولا يدعوه إلى أعمال صالحة، فمثل هذا ينبغي للإنسان أن يعالجه، وبعض الناس ذكر الموت يحدوه إلى المسارعة في اغتنام أوقات العمر، وصحبة الطيبين، وعلى كل حال إذا شعرت أن هذا الأمر قد غلب وزاد في قلبك، فحاول أن تنتبه حتى يكون شعورك متوازناً، ولا يغلب على قلبك شيءٌ، فإن الإنسان المؤمن ينبغي أن يكون خائفاً راجياً محباً، ينبغي أن يجتمع في قلبه ثلاثة أشياء: الحب، والخوف، والرجاء، فمن عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عَبَد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عَبَدَ الله بالخوف والحب والرجاء فهو مؤمنٌ موحد، فعلى الإنسان أن يطير إلى الله عز وجل بهذه الأجنحة.(109/26)
الدَّين كان على عمر شخصياً
السؤال يقول: لِمَ لِمْ يسدد ابن عمر دين أبيه من بيت المال؟ حيث إنه ربما يكون قد حصل له بسبب الخلافة؟
الجواب
هذا الدَّين كان على عمر شخصياً، وكان في ماله ما يكفي لسداد هذا الدين، كما يظهر من روايات صحيحة، فأمر عمر ابنه أن يسدد هذا الدين من ماله.(109/27)
عبد الله بن عمر لم يقتل أبا لؤلؤة
السؤال يقول: أنت قلت: إن أبا لؤلؤة قتل نفسه عندما ألقي عليه البرنس، فما رأيك وقد سمعت أن عبد الله بن عمر قتل أبا لؤلؤة واثنين معه، وكانت هذه الحادثة في عهد عثمان؟
الجواب
في الواقع أن ابن عمر لم يقتل أبا لؤلؤة، وإنما قتل رجلين آخرين من المجوس، يقال أن لهما علاقة بهذه المؤامرة.(109/28)
قصة غير صحيحة
السؤال
هل قصة بلال بن رباح رضي الله عنه حينما رأى الرسول بعد وفاته وقال له: أما آن لك أن تزورنا يا بلال، ثم رحل من الشام إلى الحجاز وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومرغ وجهه بالتراب صحيحة؟
الجواب
هذه القصة غير صحيحة.(109/29)
أهم الكتب في تاريخ عمر
السؤال
فضيلة الشيخ ما هي أهم الكتب التي ينبغي للمسلم أن يقرأها في موضوع عمر بن الخطاب؟
الجواب
الكتب كثيرة، ذكرت موضع القصة في صحيح البخاري، وأشرت من خلال الكلمة، إلى قراءة فضائل عمر رضي الله عنه في كتاب جامع الأصول، وهناك كتابٌ فيه سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لـ ابن الجوزي وهناك كتابٌ ضخمٌ في أخبار عمر لـ ناجي الطنطاوي وعلي الطنطاوي، وهو كتابٌ وإن كان فيه ما فيه، إلا أنه مفيدٌ وأسلوبه مناسب.
والكتب في سيرة عمر رضي الله عنه كثيرة ومتداولة وموجودة في المكتبات.(109/30)
المواعظ كالسياط
السؤال يقول: أخي في الله، إن المسلم حينما يعيش مع سير هؤلاء العظماء، يرى أن أمامه طريقاً يخالف الطريق الذي كان يسلكه قبل سماعه لسيرة هذا العالم، ولكن سرعان ما ينتهي من سيرة هذا العالم، فلا يلبث بضعة أيام، حتى ينسى ما كان في نيته أن يعمله للتغيير من مسلك حياته السابق، أرجو إرشادي وإرشاد غيري لكي نبقى على اتصال دائم مع حياة هؤلاء العظماء؟
الجواب
وصف أحد الوعاظ وأظنه الإمام ابن الجوزي رحمه الله المواعظ بأنها كالسياط التي يضرب بها ظهر الإنسان، فما دام وقع السياط على ظهرك فهو يحس بألمها، فإذا توقف الضرب زال الألم، وكذلك المواعظ بألوانها هي عبارة عن مؤثرات تشد الإنسان وحين ينتهي الإنسان من هذه المواعظ يبدأ تأثيرها يخف تدريجياً في نفس الإنسان ولكن على الإنسان أن يستغل ويستفيد من هذا الشعور الذي ينبعث في قلبه خلال سماعه للموعظة، يستفيد منه في أعمال الخير، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لكل عابدٍ شرة، ولكل شرةٍ فترة} فالشرة هي الشدة والقوة والاندفاع، فعليك أن تستثمر هذا الأمر في الطاعة والتقرب إلى الله عز وجل، وكذلك عليك أن تكثر من حضور مجالس الذكر، حتى تظل على اتصالٍ دائم بهذه الأشياء، ولا يهدأ تأثير موعظة في قلبك إلا وتسمع موعظة أخرى يبدأ تأثيرها بعد ذلك، وعلى الإنسان أن يدرك بعد ذلك أنه بشر، وليس مطلوب منه أن يكون في جميع الأحوال على ذلك المستوى، ولا بد أنكم سمعتم جميعاً حديث حنظلة في صحيح مسلم، وشكواه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنكم لو تدومون في كل حال كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة} .(109/31)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتوقف
السؤال
كيف تكون حياة المسلم في البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله؟ وهل عليه أمرٌ بمعروف ونهي عن منكر حيث إن حكام هذه البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله علمانيون؟
الجواب
إن المسلم مطالب في جميع الظروف بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء إنما بعثوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأول ما يأمر الإنسان بالمعروف وينهى عن المنكر يأمر نفسه وينهاها، ثم يأمر من تحت يده، ثم يأمر من يستطيع من سائر الناس، فالمسلم مطالب في تلك البلاد بأن يعمل على أن يعيش الحياة الإسلامية في نفسه وفي بيته ما استطاع، ومع الأسف الشديد بعض المسلمين بل الكثير قد يكونون طيبين في ظاهرهم وربما يكون بعضهم من دعاة الإسلام، فإذا أتيت إلى الواحد منهم وجدته مقصراً أشد التقصير في الشعائر التعبدية، لا يصلي مع الجماعة -مثلاً- لا يربي لحيته، لا يقول الكلمة الطيبة، ويبالغ في الخوف من المخلوقين، والواجب على الإنسان مع اتخاذ الحيطة والحذر ومراعاة المصلحة أن يخاف من الله عز وجل، ولله الحمد ما من بلد اليوم إلا وفيه مسلمون صالحون مجتمعون على الخير، فعلى الإنسان أن ينضوي إليهم، وينضم إلى سلكهم وأن لا ينفرد، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء عند أبي داود والترمذي وأحمد وغيرهم أنه قال: {إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية} وعليه أن يربي نفسه على منهج الإسلام ويسعى إلى التمكين للمسلمين في الأرض ما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(109/32)
الدفاع عن أهل العلم
السؤال يقول: بعض الشباب من غير المتدينين يتكلمون في بعض أهل العلم، وخاصة المعاصرين، فكيف يكون الرد عليهم؟ هل بالتي هي أحسن؟ أم بالجفاء وإسكاتهم بالقوة؟
الجواب
الواقع أن النيل من أهل العلم والعلماء والدعاة مطلب أساسي من مطالب أعداء الإسلام في هذا العصر، لأنهم لاحظوا أن المسلمين بدءوا يلتفون حول العلماء والمشايخ، وفقدوا ثقتهم بالقيادات العلمانية المنحرفة، لأنه في وقت من الأوقات كان كثير من الشباب يصفقون ويهتفون بفلان وفلان من دعاة القومية، كـ ساطع الحصري مثلاً أو دعاة البعثية، أو دعاة الناصرية، أو من الأدباء والشعراء وغيرهم، أما اليوم فالساحة هي في صالح العلماء والمشايخ ودعاة الإسلام.
وحتى أعداء الإسلام الذين كانوا بالأمس يطعنون بالدين، ويسيئون للمسلمين، ويشوهون سير الصحابة رضي الله عنهم بدءوا يلبسون مسوح الرهبان ويتسمون باسم الدين، ويكتبون عن الإسلام والمسلمين، ويؤلفون في سير الصحابة، ويتمسحون بالإسلام، رغبةً في كثير من الأحيان في كسب الجولة، ولأنهم يدركون خطر الإسلام عليهم، وكما يقول المثل العربي يعرفون من أين تأكل الكتف، فعلى المسلم أن يكون حذراً، وكم من صحفي كان معروفاً بالطعن في المسلمين، والوقيعة في الإسلام، والنيل من الحجاب، وسب اللحية وأهلها، وسب الشعائر الإسلامية، وإذا به ينقلب بين يوم وليلة متكلماً عن الإسلام، وإذا أراد أن يطعن في الدين لا يطعن بالإسلام بل يمجد الإسلام ثم يطعن بمن يمثلون الإسلام؛ لأن الطعن في الإسلام مباشرةً يجعل كثيراً من الناس يثورون عليه، ويرفضون ما قال، لكن هو حين يطعن في فلان وفلان فقد يتقبل بعض الناس منه هذا الأمر، ويعتقدون أن ما يقوله صحيح، فيقول مثلاً: إن هؤلاء المسلمين يجمعون الأموال لأنفسهم وليس في سبيل الله، إن فلاناً يقصد بتعليمه وعلمه ودعوته كذا وكذا، وربما نشروا الشائعات الذي تلوث شخصية كثيرٍ من المشايخ.
وأذكر بالمناسبة قصة قد تصدق أو لا تصدق، بل لعلها تكون من نسج الخيال لكن هي بكل حال فيها العبرة، وهي أن مجموعة من الخبثاء المنحرفين، التقوا برجلٍ صالح وكان يحضر مجالس العلم والذكر ويحب المشايخ والعلماء، فقالوا له: إن فلاناً وفلاناً وفلاناً ممن تحبهم وتعظمهم ليسوا على ظاهرهم بل إنهم منحرفون وفاسقون، وعندهم انحرافات أخلاقية كثيرة في أحد البلاد الإسلامية، فقال: إن هذا كذبٌ ولا يتصور، وأنا أعرف دينهم وورعهم، قال أحد هؤلاء القوم وألح عليه: إن هذا الأمر مؤكد وقد رأيت بعيني كذا وسمعت بأذني كذا، وما زالوا به حتى رأوا أنه قد تأثر بكثرة ما قالوا، فقال أحدهم: وحتى تكون على بينة من الأمر فإن عندنا أشرطة مسجلة، أشرطة فيديو مسجلةً مصورةً لهؤلاء، وهم يعاقرون الخمر، ويفعلون ويفعلون من الفواحش العظيمة، وسوف أحضرها لك الآن حتى تطلع وترى بعينك، وخرج من عنده بحجة أنه سيأتيه الآن بهذه الأشياء، فخلال خروجه اغتر هذا الشاب بالأمر، ووقع في أعراض هؤلاء العلماء، وظن أن ما قيل عنهم صحيح، ولحظاتٍ وهو ينتظر وطال الانتظار، وأخيراً تكشف له أنها لا تعدو أن تكون خدعة ولعبة وأنه ذهب ضحية هؤلاء المخادعين.
فعلى كل واحدٍ منا أن يجعل الدفاع عن أهل العلم جزءاً من دينه، وجزءاً من دعوته إلى الله عز وجل، وأن لا يقبل فيهم كلاماً حتى لو سمع عن أحدٍ منهم مقالاً بتهمةٍ معينة، فإنه يسارع بعدم قبولها كما علمنا الله عز وجل: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] .
فعليك أن تنكر ما ينسب إلى أهل العلم مما لا ينتظر منهم ولا يتوقع، ولو فرض حصوله، فإنك تقول: إنهم بشرٌ وليسوا معصومين، وفيهم من الفضائل أضعاف ما في غيرهم من الفضائل، وما عندهم من الخطأ فعند غيرهم أضعاف أضعاف، وأهل الشر يمجدون ويرفعون أشخاصاً لو اطلعتم على سيرهم الذاتية وحياتهم الشخصية؛ لوجدتموها في منتهى البشاعة، لكنهم يلمعون شخصياتهم، ويتكلمون عنهم، ويصورونهم على أنهم هم النزيهون في مجال المال وهم الأدباء وهم الشعراء، وهم العقلاء حتى يخدع الناس بهم.(109/33)
المجاهدة سيرة حتى الممات
السؤال يقول: قلت أن الواحد يبلغ الثلاثين من عمره أو أكثر أو أقل، وهو لم يزد في إيمانه، بل إن لم يشعر بالنقص لم يشعر بالزيادة.
ماذا تعني بذلك، وكيف يزيد الإنسان من إيمانه، وعلمه وغير ذلك؟
الجواب
يا إخوتي: هذا السؤال فعلاً كبير، كيف يزيد الإنسان في علمه وفي إيمانه ومثل هذا السؤال يحتاج إلى حديث خاص؛ ولكن يجب أن تعلم أيها الأخ أن كل شيء منحك الله إياه، فهو عبارة عن تحدٍ، أو قل عبارة عن اختبار يبتليك الله عز وجل به، ولذلك قال الله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1-2] .
قال الفضيل بن عياض: أي أخلصه وأصوبه، قيل له: يا أبا عبد الله، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، ولا يقبل حتى يكون خالصاً -يعني لوجه الله- صواباً يعني على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حياتك أيها المسلم تحدٍ واختبار، والشباب تحدٍ واختبار، والمال تحدٍ واختبار، والقوة في جسمك تحدٍ واختبار، والفصاحة تحدٍ واختبار، والعلم تحدٍ واختبار، والعقل تحدٍ واختبار، وكل شئ هو عبارة عن تحدٍ واختبار، الله عز وجل خلقنا وأعطى كلٍ واحد منا ذكراً أو أنثى مجموعةً من الأشياء، يتصرف الإنسان في هذه الأشياء على وفق ما يريده الله، هذا هو المطلوب، وما يريده الله عز وجل ليس هو أن تحول نفسك من إنسان إلى مَلَك، كلا، فإن الله قادر على أن يجعلنا ملائكةً لا يعصونه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لكنه بحكمته جعلنا بشراً من البشر، وخلق أبانا آدم خلقاً، وسلط على الإنسان الشيطان، وجعل نفس الإنسان قابلةً للخير والشر، فقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] .
والمطلوب منك بكلمةٍ واحدة: المجاهدة، والمجاهدة ليست موقف ينتهي، المجاهدة سيرةٌ تبدأ منذ أن بدأت تعي وتعقل، ولا تنتهي إلا بنهاية حياتك، وقبل قليلٍ مرت بكم لمحاتٌ من سيرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وانظر كيف كان يجاهد في حياته، ثم كيف جاهد في آخر لحظة من لحظاته، فالمطلوب منك المجاهدة، وبالمجاهدة ترتقي قطعاً؛ لأن الله عز وجل كتب على نفسه -والله لا يخلف الميعاد- أنه من جاهد ففيه هداه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .
إذاً مطلوبٌ منك أن تجاهد، والمجاهدة هي كما يقول اللغويون: هي مفاعلة بين طرفين، مثلما تقول مضاربة، والمضاربة لا يمكن أن تأتي من شخصٍ واحد أبداً، المضاربة تحصل بين شخصين، كذلك المجاهدة تحصل بين طرفين.
الطرف الأول هو الإنسان، والطرف الثاني هو مجموعةٌ قوى النفس الأمارة بالسوء: الهوى، والشيطان، كل هذه الأشياء تتحالف ضد الإنسان، والمطلوب منك أن تجاهد في الله، ثم تجاهد في الله، كما أمر الله تعالى: يعني تجاهد طلباً لما عند الله، ورغبةً في الوصول إلى الجنة، ورغبةً في الوصول إلى العلم النافع، ورغبةً في الرقي إلى الدرجات العلى، لا تجاهد من أجل أن تكون فلاناً المشار إليه بالبنان، لا تجاهد من أجل أن تكون عالماً يقصدك الناس، ومفتياً يسألك الناس، وداعيةً تتكلم فتلفت الأنظار، لا تجاهد لأجل ذلك لكن جاهد معتمداً على الله فنفسك ضعيفة، ولو وكلك الله إلى نفسك لخسرت كل الخسارة والذين جاهدوا فيه فالنتيجة التي ذكرها الله على نفسه في محكم كتابه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .
وعدٌ مؤكدٌ باللام والنون {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ومؤكدٌ بالفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .(109/34)
دخول المجوس جزيرة العرب في عهد عمر
السؤال يقول: كيف سمح عمر رضي الله عنه بدخول المجوسي إلى جزيرة العرب وهو الذي نفذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراج من كان على غير الإسلام من الجزيرة؟
الجواب
نعم، صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأنه لا يجتمع فيها دينان، وكان هذا من آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم.
أما كيف فعل عمر ذلك، فإن هؤلاء هم من العبيد الأرقاء الذين لا يشملهم الحكم، فإن العبد الرقيق هو عبارة عن مال من مال الإنسان وليس له كيانٌ مستقل، فدخول الكافر الرقيق لسيده دخوله في جزيرة العرب أمرٌ مباح.(109/35)
عمر وتسوية الصفوف في الصلاة
السؤال يقول: أحد المشايخ قال لي: إن عمر رضي الله عنه كان يسوي الصفوف بيده بأكتافهم، ويدور على الصفوف، هل تعتبر هذه سنة يعمل بها؟
الجواب
قضية كونه رضي الله عنه يسوي الصفوف، هذا ثابتٌ في هذه القصة كما في صحيح البخاري، وقد سقتها من صحيح البخاري، وأدخلت فيها روايات أخرى من مصادر غيره، ومن أراد الاطلاع على رواية البخاري كاملةً فإنه يجدها في الصحيح في كتاب فضائل الصحابة، باب: قصة البيعة والاتفاق على عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
وجدير بكل امرئ منكم أن يرجع إلى هذه القصة ويقرأها، فإن في سياقها من التأثير والإعجاب ما لا تجدونه في حكايتي لهذه القصة، ومن ضمن هذه القصة أنه كان يمر بين الصفوف ويسويها بيده، وتسوية الصفوف سنة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسوي الصفوف، فيسن للإمام أن يسوي الصفوف بقوله وبفعله إن احتاج إلى ذلك، وأن يلتفت إلى المأمومين، ولا يكبر للصلاة حتى يرضى عن استقامتهم.
ويقول الأخ في آخر سؤاله: إني أحبك في الله، وأحب جميع الحاضرين.
فجزاه الله خيراً عني وعنكم حيث يحبنا جميعاً في الله، ونسأل الله أن يكون جميع الحاضرين من المتحابين فيه، وممن يستحقون أن يحبوا في ذات الله.
وأنبه من وجهة نظر شخصية في موضوع الإخبار بالمحبة فكثيراً ما يوجه مثل هذا السؤال للمحاضرين، ولست أقول في هذا شيء؛ ولكن فيما يتعلق بي؛ فأرى أن مخاطبة الإنسان بنفسه أقوى وأبلغ، فكونك تقابل من تحب في الله، وتقول له: إني أحبك في الله أجود، لعدة أسباب منها: أنه يعرفك بذلك فيبادلك هذا الحب بمثله، وكما يقولون: القلوب شواهد، وأنت إذا عرفت من إنسان أنه يحبك في الله تجد في قلبك له من المحبة مثلما يجد، وهذه حكمة وضعها الله في قلوب بني آدم من المؤمنين، كما أن هذا أبعد عن أن يصيب هذا الإنسان شيءٌ من الاغترار، وربما تكون هذه في بعض الأحيان كلمة تقال باللسان، فإذا رأى الإنسان من يحبه في الله ونظر إليه اطمأن إلى صدقه في هذا الحب، وهذه كما قلت هي عبارة عن وجهة نظر لا تقدم ولا تؤخر.(109/36)
السيرة النبوية لماذا وكيف تدرس؟
قدم الشيخ لهذا الدرس بنبذة يسيرة عن حالة البشرية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ثم بين أن النبوة اختيار واصطفاء، وذكر بعض خصائص الأنبياء التي تميزوا بها عن سائر الخلق، وشرع بذكر خصائص السيرة النبوية بعد التنويه إلى اهتمام العلماء بدارستها، وختم بذكر أهداف دراسة السيرة النبوية.(110/1)
أهمية دراسة السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
أيها الإخوة الأفاضل! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأكرمَ الله هذه الوجوه، وهي تحبس نفسها في بيت من بيوت الله! وأكرم بهذه القلوب وهي تجلس جلسة في ذات الله تعالى، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يشملهم الله تعالى بعفوه ورحمته، وممن تظلهم الملائكة بأجنحتها، وممن يذكروا عند الله تعالى في الملأ الأعلى.
أيها الإخوة الأفاضل! وأقبل اعتذار الإخوة عن الخطأ في العنوان، وما كنت قد حددت "النبي العربي" وإنما حددت "النبي الأمي أحداث وعبر"، ولكنني إذ أقبل الاعتذار، فإنني أتيح لنفسي أن أغير العنوان مرة أخرى، فإذا كان الإخوة قد غيروا في العنوان، فإنني أتيح لنفسي مرة أخرى أن أغير العنوان، وعسى أن يكون في ذلك خير، وليكن عنواننا الجديد (السيرة النبوية لماذا وكيف تدرس؟) .
وليس بخافٍ عليكم -معاشر الإخوة والأخوات- أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حرية بالدراسة والبيان، بل إن من العبادة أن يقرأ الإنسان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم! بل ومن الحكمة والأناة ومن التعقل أن يفقه الإنسان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ذلكم لأنه يتعامل مع رجل أدبه ربه فأحسن أدبه، ويتعامل مع رجل هو صفوة الله تعالى من خلقه، يتعامل مع رجل أنقذ الله به الدنيا من دياجير الظلمات وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.(110/2)
النبوة اختيار واصطفاء
يطيب لنا -معاشر الإخوة- ونحن نتحدث عن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن نشير إلى أن النبوة بشكل عام -سواء أكانت في شخص محمد صلى الله عليه وسلم أو في شخص غيره من أنبياء الله ورسله- أنما هي اصطفاء واختيار إلهي، وليست رغبة بشرية {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33] {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] إذاً الرسالة والنبوة اصطفاء واختيار ليس غير ذلك، والله أعلم حيث يجعل رسالته.(110/3)
سمو رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم
لقد كان الناس قبل بعثته عليه الصلاة والسلام يعيشون في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، وكان أكثر الأنبياء في أقوامهم كرؤيا جميلة في نوم طال أمده، أو كومضة برق في ليل حالك ظلامه.
وإذا كان ذلكم في سائر الأنبياء، فإن الأمر بالنسبة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، لقد كان أتباع الأنبياء عليهم السلام أو على الأقل معظم أنبياء الله تعالى كان أتباعهم آحاداً! آحاداً من الناس ينقرضون بعد جيل أو جيلين، وما أن انتصف القرن السادس الميلادي -وهو الذي بُعِثَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم- حتى كانت شقوة الجاهلية تلف العالم بأسره، وتسقيه كئوس الظلم والتخلف والوثنية، لقد أُطْفِئَتْ مشاعل التوحيد، وعمَّ الفساد إلى كل واد، ولجأ الحنيفيون الذين بقوا متمسكين بالحنيفية الإبراهيمية إلى الكهوف وإلى قمم الجبال، ليس لشيء إلا فراراً بدينهم، واستبقاءً على ما بقي لديهم من حنيفية يستضيئون بنورها ويتعبدون على منوالها.(110/4)
حالة الناس في القرن السادس
لقد تفنن الناس في هذا القرن -أعني القرن السادس وبالذات في منتصفه- في صناعة الأصنام والأوثان، واتخذوها آلهة تعبد من دون الله، وكانت الأمم الكبيرة تستعمر الشعوب الصغيرة وتستذلها، بل كان القوي بشكل عام يستعبد الضعيف ويستغله، وإزاء هذا وذاك كان الكون أحوج ما يكون إلى رسالة تنير دياجير الظلمة، تنير دياجير هذا الكون، وتبدد حوالك الظلمة وكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي السراج الوضاء الذي أنار لهذا الكون كله.(110/5)
خصائص الأنبياء
والرسل بشكل عام أدبهم ربهم فأحسن أدبهم، ولذا تختلف حياتهم عن حياة الآخرين من غيرهم، في فكرهم وفي سلوكياتهم وفي تعاملهم إلا من نهج منهجهم، والأنبياء بشكل عام -معاشر الإخوة- لهم خصائص تميزهم، وحين شاء الله تعالى أن يكونوا من جنس البشر فقد اصطفاهم كما أسلفت واختارهم، فهم ليسوا ملائكة من السماء، وقد اقتضت حكمة الله تعالى ذلك؛ لأن الذين أرسل الأنبياء إليهم بشر، ولو أنزل الله تعالى ملائكة لهؤلاء البشر لصعب التفاهم بينهم، ولربما كان هناك عذر لمن لم يلتزم سبيلهم، وهو أنه لا طاقة له بهم لاختلاف سلوكياتهم، ولكن اقتضت حكمة الله أن يكون الأنبياء والمرسلون بشراً من الناس.(110/6)
اختصاص الأنبياء بالعصمة
من خصائص الأنبياء العصمة؛ فقد عصم الله تعالى أنبياءه من الشرك والضلال، سواء أكان ذلك قبل النبوة أم بعدها، وبرَّأهم من الزيغ والأهواء، وهم معصومون في تحمل الرسالة، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلا شيئاً قد نسخ، وهم معصومون كذلك في نقل الوحي والرسالة للناس، فلا يزيدون ولا ينقصون ولا يكتمون شيئاً مما أوحاه الله تعالى إليهم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-45] ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أوحى الله تعالى إليه لكتم أمثال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] وأمثال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] .(110/7)
اختصاص الأنبياء بيقظة القلوب
من خصائص الأنبياء عليهم السلام أن أعينهم تنام ولكن لا تنام قلوبهم، قال عليه الصلاة والسلام: {إنا معاشرَ الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا} وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: {وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم} .(110/8)
اختصاص الأنبياء بالتخيير بين الموت والبقاء
من خصائص الأنبياء عليهم السلام تخييرهم عند الموت، فهم يُخَّيرون بين الموت وبين البقاء في الحياة الدنيا، وفي الحديث الصحيح: {ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة} ولكنهم عليهم السلام يختارون الآخرة ونعيمها على الدنيا ومتاعها كما قال صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الأخير، وهو يختار الآخرة: { {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: فعلمت أنه خُيِّر} أي: حينما قال هذه الكلمات، علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين الحياة والممات، فاختار الرفيق الأعلى دون الحياة الدنيا، كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه.(110/9)
اختصاص الأنبياء بالحياة في القبور وأن الأرض لا تأكل أجسادهم
من خصائص الأنبياء عليهم السلام أنهم أحياء في قبورهم، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خصائصهم كذلك أن الأرض لا تأكل أجسادهم، وهذا إكرام من الله تعالى لهم، فمهما طال بهم الزمن وتقادم بهم العهد فأجسامهم محفوظة من البِلَى، وفي الحديث: {إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} كما روى ذلك أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره كما في الفتح.
ومن خصائص الأنبياء أنهم يقبرون حيث يموتون، فلا يقبر نبي إلا في الموضع الذي مات فيه، وفي الحديث الصحيح: {لم يقبر نبي إلا حيث يموت} كما روى ذلك أحمد في مسنده بإسناد صحيح، ولهذا فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها، حيث قبضت روحه فيها.
هذه أبرز الخصائص التي تميز الأنبياء والمرسلين، أو التي ميز الله بها الأنبياء والمرسلين عن غيرهم.(110/10)
خصائص أخرى للأنبياء
ينبغي أن نعلم أن الأنبياء عليهم السلام أكمل البشر خَلْقاً وخُلُقاً، فهم أسلم الناس في هيئاتهم وفكرهم، مبرؤون من كل عيب خَلْقي، وإن كان يصيبهم ما يصيب غيرهم من الأمراض والأسقام، وهم كذلك أكمل الناس خُلُقاً، وهم أشرف الناس كذلك نسباً، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وهو آخرهم يتحدث عن شرف نسبه ومن سبقه من آبائه المرسلين، فيقول: {بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت أنا فيه} .
وهم ذكور أحرار، فلم يكن في الأنبياء عليهم السلام امرأة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] ولم يكن فيهم كذلك عبد أو رقيق.
وهم بالجملة أحسن الناس خُلُقاً وأطهرهم قلوباً وأكثرهم صبراً، وما بالهم لا يكونون كذلك؟! وقد أدبهم ربهم فأحسن أدبهم، ورعاهم فأحسن رعايتهم، وتولاهم وحفظهم.(110/11)
اختصاص الأنبياء بالوحي
الأنبياء ببشريتهم مميزون وبأشخاصهم مختصون، فهم أولاً مختصون بوحي السماء؛ فمنهم من كلمه الله تعالى مباشرة أو من وراء الحجاب، ومنهم من أرسل إليه ملائكة بالوحي، كما قال تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] .(110/12)
اهتمام العلماء بدراسة السيرة النبوية
أيها الإخوة ونعود إلى السيرة النبوية سيرة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فنقول: إن السابقين قد اهتموا بها، ولا يزال اللاحقون تشكل السيرة عندهم محل اهتمام، أما اهتمام السابقين فقد تجاوز لدى الرعيل الأول مجال العلم بها، إلى مجال العمل بها والتأسي.
بل تجاوز ذلك إلى مجال التعليم والتدوين للأجيال اللاحقة، فكانت السيرة النبوية تعقد لها الحلقات والدروس، ويروي ابن سعد في طبقاته أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان له مجلس يدرس فيها السيرة النبوية، وكان ابن عباس يجلس في إحدى عشياته يعلم الناس المغازي والسير وهذا نموذج لاهتمام السابقين بسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل بلغ الاهتمام بالسير والمغازي أنهم كانوا يتعلمونها كما يتعلمون السورة من القرآن، كما نقل ذلك ابن كثير عليه رحمة الله.(110/13)
من دواعي اهتمام السلف بالسيرة
وما بالهم لا يهتمون بها؟! وقد روي عن الزهري عليه رحمة الله أنه قال: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا، ويقول الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله: وهذا الفن -يعني السير أو السيرة- مما ينبغي الاعتناء به والاعتناء بأمره والتهيؤ له، ثم نقل عن الواقدي بسنده عن عبد الله بن عمر بن علي سمعت علي بن الحسين يقول: [[كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن]] وهذه إشارة كافية إلى اهتمام السابقين بسيرة النبي الكريم.(110/14)
خصائص السيرة النبوية
لماذا الاهتمام بالسيرة ولماذا دراستها؟ وهل من ميزة أو ميزات تتميز بها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتستدعي هذا الاهتمام وأكثر؟ نعم -إي وربي- إنها ذات قيمة وذات اعتبار، ولها خصائص تميزها، وهذه وتلك تدعو إلى الاهتمام بها وإلى دراستها وإلى تدوينها وإلى تعليمها وإلى العمل بها.
فما هي أبرز خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولعله غير خاف أن سير الأنبياء عليهم السلام تتميز عن سير الخلق بشكل عام، ذلكم لأن الله اصطفاهم كما سمعتم، ولأن الله تعالى أعدهم لحمل رسالته إلى العالمين، ولهذا فإن سيرهم بشكل عام نموذج للطهر والعفاف، ومثل أعلى للعبودية والتقوى، وهي أيضاً مثال يحتذى في الخلق والعطاء والدعوة والجهاد والصبر على المحن والبلوى إلى غير ذلك من خصائص الأنبياء عليهم السلام.
ومع ذلك فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنفرد عن سائر الأنبياء والمرسلين قبله بسمات وخصائص أهمها ما يلي:(110/15)
قدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبشارة الأنبياء بها
ويعني هذا أن الله تبارك وتعالى أخذ على الأنبياء قبله أو هذه خاصية أخرى من خصائص محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.
أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء قبله لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وطلب إليهم أن يأخذوا من أممهم العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ذلك يعني أيها الإخوة تقدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يخيل لبعضنا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ أنزل عليه اقرأ وهو في مكة وعمره أربعون عاماً، والحق أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سبقت هذا التاريخ بعدة قرون، يؤكد ذلك الحديث الصحيح الذي سأل فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {منذ متى كنت نبياً يا رسول الله؟ قال: وآدم منجدل في طينته} وفي رواية: {وآدم بين الجسد والروح} حديث حسن.
بل إن الآية القرآنية في سورة آل عمران لتؤكد هذا العهد وتؤكد سابق نبوته صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] .
لقد بشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سمعتم، وآخر الأنبياء عيسى عليه السلام بشر به صراحة وقال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] وشهدت على صحة نبوته كتب السماء، واعترف أهل الكتاب بذلك، وسأسوق لكم نموذجين اثنين لتتأملوا كيف اعترف اليهود أو النصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
من هذه النصوص ما أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي، عن عوف بن مالك قال: {انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: أروني يا معشر يهود اثني عشر رجلاً يشهدون أن محمداً رسول الله يحط الله عنكم الغضب، فأُسكتوا، ثم أعاد عليهم فلم يجبه أحد، قال: فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المصطفى آمنتم أو كذبتم، فلما كاد يخرج قال رجل: كما أنت يا محمد، أي رجل تعلمونني فيكم -وهو يشير إلى قومه من اليهود- قالوا: ما فينا أعلم منك! قال: فإني أشهد بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل كذبتم، قال عوف: فخرجنا ونحن ثلاثة، وأنزلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10] } أما النص الآخر فهو عن كعب الأحبار، رواه ابن حجر في الإصابة، وقال: العباس لـ كعب [[ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؟ قال: إن أبي كان كتب لي كتاباً من التوراة، فقال: اعمل بهذا وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام، قلت: لعل أبي غيب عني علمها ففتحتها، فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلماً]] وقد حسَّن ابن حجر إسناد هذه الرواية.
أيها الإخوة؛ ونص ثالث يؤكد فيه يهودي يحتضر أن محمداً يجدون صفته في كتبهم المنزلة، {وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يحتضر، وأبوه عند رأسه، وقد فتح التوراة يقرؤها عليه، فقال: يا هذا -أي اليهودي- أتجد في هذا الكتاب صفتي وصفة مخرجي؟ قال: لا، وأشار برأسه، وابنه كان في لحظات الموت الأخيرة، فرفع الابن رأسه، وقال: نعم! إنا نجد صفتك وصفة مخرجك في كتابنا هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقيلوا أخاكم عن اليهودي أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم} فتولى المسلمون دفنه؛ لأنه أصبح في عداد المسلمين إلى غير ذلكم.
وقصص عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود أو من رهبان النصارى تؤكد اعترافهم بهذا الدين وبوجوده في كتب الله المنزلة من التوراة والإنجيل قبل أن تدخلها أيدي التحريف والتضليل.
بل إن هذه الشهادات وهذه الاعترافات تترى حتى يومنا هذا، وهل أشد حقداً من المستشرقين على الإسلام، وهم الآخرون يعترفون بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته لا على أنه رجل مصلح، وإنما على أنه نبي شملت رسالته العالمين، وارتاح الكون بهديها.
وأنقل لكم بعضاً من نصوصهم، فهذا أحدهم وهو تشيلل يقول: إن البشرية لتفتخر بانتساب كمحمد صلى الله عليه وسلم لها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة، ويقول كارليل: ولولا ما وجدوا -يعني قومه أو المسلمون- فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته ولما انقادوا لمشيئته، وفي ظني --والكلام لا يزال لـ كارليل - أنه لو وضع قيصر بتيجانه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي، لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع، ثم ينهي كلامه قائلاً: هكذا تكون العظمة! وهكذا تكون البطولة! وهكذا تكون العبقرية! ويقول ويليام موير: لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول القس ميشون في كتابه سياحة دينية في الشرق: إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم.
أما المؤرخ الفرنسي جوزيف فيقول: بينما أهل أوروبا نائمون في ضلال الجهالة لا يرون الضوء إلا في سَم الخياط، إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية، وهو يشير إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.
ويقول المؤرخ سيديو: وبعد ظهور محمد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها.
أما غوستاف لوبون فيقول: إن العرب هم سبب انتشار المدنية في أوروبا ويا ليت قومي يعلمون! وأخيراً يقول الدكتور موريس: إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الأزلية لبني البشر، هذا على حد تعبيره.
أكتفي بهذه النصوص التي تؤكد اعتراف اللاحقين والسابقين بعظمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنتقل بعد ذلك إلى أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا قد علمنا هذه العظمة، وهذا الشمول وهذه الخصائص؛ فما هي أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.(110/16)
اطلاع صاحب السيرة على أحوال الأنبياء السابقين
ومن خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر يدعو إلى الاهتمام بها وإلى دراستها، أن الله تعالى أطلع نبيه على أحوال الأنبياء السابقين وعرفه بقصص الماضين، فكان ذلك رصيداً له ولأمته من بعده، وكان ذلك دليلاً على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، أجل! إن ذلك من إعجاز القرآن الكريم، وإلا فكيف يخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن أمم غبرت في سالف الأيام، وبينه وبينهم آلاف الأعوام؟! وهو ترسيخ للإيمان، يجده من يقرأ القرآن الكريم، فهو مثلاً حينما يقرأ أخبار عاد وثمود، أو قوم نوح أو قوم صالح، أو قوم لوط أو حكايات بني إسرائيل وأخبارهم، حينما يقرأ هذه الأخبار كلها، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، يعلم أن ذلك من وحي السماء؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه وهو يعقب على قصة موسى عليه السلام، وانظروا إلى دقة التعبير، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:44-45] .
إذاً بسبب الرسالة وبسبب الوحي علم محمد صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلم، وقص عليه من الأخبار ما لم يكن شاهداً أو حاضراً له.
وفي موطن آخر وبعد أن يخبر الله تعالى أو يقص من أخبار مريم البتول وابنها عيسى عليه السلام يقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] وحين يفصل الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قصة يوسف عليه السلام مع إخوته يوحي الله تعالى إلى نبيه في نهاية المطاف ويقول: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] إلى غير ذلك من آيات تشير إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكد إخباره بأخبار الماضين.
ماذا يعني ذلك؟ يعني هذا: شمولَ رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعظمته وحاجته إلى هذه المعارف، فهي رسالة خاتمة، ولذلك فهي محتاجة إلى كل رصيد من تجارب الأنبياء قبله.(110/17)
تواصل حمل الرسالة والدعوة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
أيها الإخوة ومن خصائص هذه السيرة أنها لم تنته بموته، بل بقي جيل بل أجيال تحمل منهجه، وتؤدي رسالته، فالرجال الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوفر مثلهم عدداً وعدة لنبي قط، وإذا كان أصحاب موسى عليه السلام قالوا له حينما اشتدت الأمور: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فإن الأمر يختلف بالنسبة لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته فهم الذين قالوا له: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.
وإذا كان أصحاب عيسى عليه السلام حكى الله تعالى كفرهم وحكى تحذير عيسى عليه السلام إياهم من الكفر، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:72] إذا كان هذا حصل من أصحاب عيسى عليه السلام، فلم يحصل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كفر به بعد إيمان.
وليس بخافٍ عليكم -أيها الإخوة- كذلك موقف النصارى أو بني إسرائيل من المائدة التي سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزلها عليهم من السماء، وأخذ عليهم العهود، فسأل الله تعالى بعد أن أخذ عليهم من العهود والمواثيق ما أخذ أن يشكروا الله ولا يكفروه، إلا أنهم بدلوا وحرفوا وكفر بعضهم وجحدوا هذه النعمة، حتى قال بعض المفسرين: إنها لم تنزل عقوبة لهم، وقال الحافظ ابن كثير: وقد روي ذلك بأسانيد حسان، بل قال: بأسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وإن كان قال: إن الجمهور على أن المائدة نزلت، المهم أن أصحاب عيسى كذلك حصل لهم ما حصل مع نبيهم عيسى عليه السلام.(110/18)
النقلة التي أحدثها صلى الله عليه وسلم
إن سمات وخصائص هذه السيرة، بل مما يثير العجب فيها أن هذه النوعية -أعني بهم الصحابة جيل محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله وأصحابه- قد استخرجها الله تعالى بهذا النبي من أوحال الكفر وظلمات الجاهلية، وأحياهم الله تعالى به بعد أن كانوا في عداد الموتى، لقد كانوا أمة في الحضيض في قيمها بل وفي تصوراتها وسلوكها، وسألمح لكم نماذجاً تكشف عن هذا الضياع وهذا الانحراف وهذا التيه الذي وجده محمد صلى الله عليه وسلم.
فبنو حنيفة حي من أحياء العرب، وقد روى ابن قتيبة في معارفه وهو يشير إلى ضحالة وإلى خرافة أديان العرب وإلى تفاهة ما كانوا عليه في المعتقد، يقول عن بني حنيفة: إنهم اتخذوا صنماً من حيس فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال رجل من بني تميم يعيرهم بذلك: أكلت حنيفة ربها من جوع قديم ومن اعواج وقال آخر فيهم: أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم سوا العواقب والتباعة أما وفد سليم، وما أدراك ما وفد سليم؟! فقد روى ابن سعد في طبقاته خبراً عجيباً وهو يذكر وفادة سُلَيم، وجاء في الخبر أنه كان من ضمن الوفد رجل يسمى راشد بن عبد ربه وهذه تسمية من النبي صلى الله عليه وسلم أسلم الوفد وبات هذا الرجل وهو راشد بن عبد ربه يقص على النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من أخبارهم في بني سليم، ويقول: يا نبي الله كنت سادن صنمٍ لبني سليم، يعني: يحرسه ويحفظه وما إلى ذلك، يقول: فرأيت يوماً ثعلبين يبولان عليه، فقلت: أربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟! لقد ذل من بالت عليه الثعالبُ يقول: ثم شددت عليه فكسرته، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره، وقال: ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزى -وانظروا إلى الانتكاس حتى في الأسماء- اسمه غاوي بن عبد العزى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتوح، وقال فيه النبي: {خير بني سليم راشد} .(110/19)
عموم الرسالة المحمدية وختمها للرسالات
الخاصية الثالثة: أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة خاتمة وعامة، وهذه خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم، فرسالته عليه الصلاة والسلام هي خاتمة الرسالات، وقد أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة على العالمين، ومع كونها خاتمة انقطع الوحي من السماء بموت صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، فهي كذلك عامة لكل زمان ومكان، ومكلَّف بها الإنس والجان، وهذا العموم والشمول لا يوجد في سيرة الأنبياء قبله، إذ كان النبي يبعث إلى قومه خاصة في إطار زمني ومكاني محددين، ومع ذلك تقف حدود رسالته بموته، بل أُخِذَ العهد على كل نبي إن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه كما سيأتي بيان ذلك.(110/20)
بقاء الدلائل والمعجزات النبوية
رابعاً: من خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بقاء دلائل نبوته، فقد أعطى الله كل نبي من الأنبياء أموراً خارقة للعادة تؤكد نبوتهم، وتدعو الناس للإيمان بهم وبرسالتهم، والتصديق بما جاءوا به من عند الله، فأعطى الله تعالى صالحاً الناقة، وسخر مع داود الجبال يسبحن والطير، ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وآتى موسى تسع آيات بينات، آمن السحرة حين رأوا بعضها، ومكن عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى، إلى غير ذلك من دلائل النبوة.
لكن هذه الآيات كانت وقتية ذهبت آثارها مع الذين رأوها، ولم تبق الآيات شاهداً حياً تراه الأجيال المتلاحقة كدليل على نبوة هؤلاء المرسلين، هذا في حق أنبياء الله ورسله السابقين.
أما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر مختلف جداً؛ فقد كان من أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، بل هو المعجزة الخالدة لهذا النبي العظيم، والقرآن شاهد حي منذ نزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى الرغم من محاولات التحريف والتأويل التي تعاقبت عليها أيدي البشر جيلاً بعد جيل، فما يزال كتاب الله يتحدى البشر، بل ويعترفون بتحديهم وعجزهم عن التحريف فيه.
فهذا القرآن معجز ودليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما يحويه من آيات الإعجاز العقلية والعلمية، فضلاً عن إخباره عن الأمم الغابرة، وحديثه عن المغيبات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {ما من نبي إلا وقد أوتي ما على مثله آمن البشر، أما الذي أوتيته أنا فهو وحي من السماء} كما روى ذلك البخاري في صحيحه.
ولهذا فمن يقرأ القرآن الكريم في زماننا هذا يدرك كما أدرك من سبقه، أن هذا القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من عند الله، هذا فضلاً عن دلائل نبوته الأخرى، كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر وحنين الجذع ونحوها، وإنما أكدت على القرآن الكريم لبقائه معجزاً إلى هذا اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(110/21)
صحة المصادر وتكاملها
أولاً: الصدق والتكامل في مصادرها؛ وإذا كان القرآن الكريم أول مصدر لهذه السيرة فهو نموذج للصدق والحفظ من الزيادة والنقصان، قال الله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ويتضح الفرق حين المقارنة بين القرآن الكريم وبين سائر الكتب المنزلة قبله كالتوراة والإنجيل، والتي لم تعد صالحة للاعتماد نظراً لما شابها من التحريف، ولو لم يحفظ القرآن، لنا نبذاً من سير الأنبياء السابقين وكذا نصوص السنة الصحيحة لم يبق شيء يعتمد عليه ويوثق به في معرفة سيرهم.
أما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فما لم نجده في القرآن الكريم نجده في السنة النبوية، وما لم تحط به كتب السنة نجد كتب السيرة قد أحاطت به وفصلت القول فيه، ومع كون هذه النصوص في كتب السيرة تشمل نصوصاً قد لا تثبت أمام النقد، فبإمكاننا أن نجمع من هذه النصوص مادةً نكتب بها عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بدقيقها وجليلها وبروايات موثقة لا مطعن فيها.
أما النصوص التي تروي أخبار المرسلين السابقين فيما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فيغلب عليها الإسرائيليات وتكثر فيها الاختلافات، ليس ذلك محض افتراء أيها الإخوة، وليس ذلك تزيداً أو افتراءً أو جنايةً على الكتب المتقدمة، بل هو الواقع نشهد به نحن، ويشهد به أرباب الديانات المحرفة كذلك.
وأسوق لكم نصاً من رجل نصراني يعترف بهذه الحقيقة، ويقول: إنه لم يكن يعرف إلا حوالي خمسين يوماً من حياة المسيح عليه السلام، فأين بقية أيام المسيح، بل يعترف صراحة حينما يقول، وهو القس الدكتور كارلوس أندرسون يقول في مقال نشره في دائرة المعارف البريطانية: ينبغي أن يتنازل الإنسان عن محاولة وضع كتاب في سيرة المسيح بكل صراحة، فإنه لا وجود للمادة والمعلومات التي تساعد على تحقيق هذا الغرض، والأيام التي توجد عنها بعض المعلومات لا يزيد عددها على خمسين يوماً.
إذاً ليس بمقدورنا أن نكتب سيرة عن المسيح عليه السلام، وإذا كان هذا آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بمقدورنا أن نكتب عنه السيرة، فإن من مضى من أنبياء الله ورسله من باب أولى وأحرى؛ لأنه كلما تقادم العهد كلما كثر التحريف والتأويل والانتحال.(110/22)
الشمول في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم
الخاصية الثانية التي تمتاز بها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تكامل مصادرها: الشمول في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه النسخ التي نجدها عن المرسلين السابقين على الرغم من قلتها لا نجد فيها وصفاً شاملاً وجامعاً لمراحل حياتهم، وتفصيلاً كاملاً لمواقفهم مع أممهم، الأمر الذي نجد عكسه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث يمكن للمطلع عليها الوقوف على مولده، ونشأته، وحياته قبل البعثة -أعني محمداً صلى الله عليه وسلم- وكيف بعث؟ وموقف قومه من بعثته، وهجرته، ودعوته، وبناء دولته، وتربية أصحابه إلى غير ذلك من الأمور التي يتعذر معرفتها في بقية أنبياء الله ورسله عليهم السلام، وليس ذلك بقادح فيهم، ولكنها حكمة الله جلت قدرته جعلت سيرة هذا النبي المصطفى تحفظ؛ فهو آخر الأنبياء والمرسلين.
بل إن الشمول في سيرته عليه الصلاة والسلام يمتد ليغطي مناحي الحياة كلها، فيخرج المطلع عليها بتصور كامل عن النواحي العبادية وأمور المعاملة، وتتسع هذه السيرة المحمدية لتشمل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها، بل إن الشمول في سيرته صلى الله عليه وسلم يعني كذلك اهتمامها بأمر الدنيا والآخرة.(110/23)
أهداف دراسة السيرة النبوية
لا شك أن هناك فرقاً بين أن ندرس سيرة عظيم من العظماء أياً كانت هذه العظمة، وبين دراستنا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ينبغي علينا ونحن نقرأ السيرة أن نضع في حسباننا أننا لا نقرؤها لمجرد المعرفة الباردة، أو التسلي بأحداثها المختلفة، لمجرد زيادة رصيد المعرفة، بل علينا أن تكون الأهداف واضحة في أذهاننا؛ حتى نستمتع بقراءتها، ونستفيد من عبرها ودروسها، وبغير هذه النظرة لا نستفيد من هذه السيرة، بل ربما أغلقت نصوصها أمام ناظرينا.
وأذكر هنا بعضاً من أهداف دراسة السيرة، عساها أن تكون مفتاحاً للطريق:(110/24)
إزالة الخلاف والتقريب بين وجهات النظر
أما الأمر الأخير والمهم في دراسة السيرة فهو أنها مادة للاجتماع وأسلوب للتقارب الحق بين المسلمين المختلفين، والواقع يشهد أنه لم يحدث أن اجتمعت كلمة المسلمين في بقاع الأرض على مذهب من المذاهب، أو حزب من الأحزاب، أو على كتب ومؤلفات عالم من العلماء، ولكنهم اجتمعوا واتحدوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سلفاً ويمكن أن يتحدوا خلفاً على ذلك.
وهذا يستدعي قراءة السيرة النبوية وتحقيقها ليجتمع المسلمون على كلمة سواء، واجتماع المسلمين هدف جليل ينبغي أن يُسْعَى له، وينبغي أن يُفَكِّر في وسائله، وينبغي أن يفكر كذلك في الأمور المعينة عليه، وفي ظني أن فقه السيرة النبوية مدخل أساسي، ووسيلة مهمة لجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى.
أسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يؤلف قلوبهم وأن يصلح ذات بينهم، وأن ينصرهم على عدوهم وعدوه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأعتذر عن إعطاء هذا الموضوع حقه، فثمة إشارات ينبغي أن يتحدث بها لمن يريد أن يفي الموضوع حقه، لكنني أكتفي بهذه العجالة تقديراً للزمن واعترافاً بالتقصير، وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نسمع، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(110/25)
توضيح المنهجية الإسلامية
نحن نحتاج إلى دراسة السيرة في كل أحوالنا، في حالة السراء وفي حال الضراء وفي حال النصر أو حال الهزيمة، في حال الضعف أو حال القوة.
إن الأمة أيها الإخوة حينما تمر بمرحلة ضعف فلا منقذ لها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة، والتزام شرع الإسلام منهجاً ودليلاً، وهل السيرة النبوية إلا منهج لهذا وذاك؟! وحين تبصر الأمة حائرة مترددة تلتفت هنا مرة وهناك أخرى، فاعلم أن علتها غياب المنهج والجهل بسيرة النبي المعلم صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن حاجتها إلى هذه السيرة العطرة أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب، ومن هنا تأتي أهمية دراسة السيرة في حالة غياب الأمة وأفول نجمها، لتكون معلماً تهتدي به في حوالك الظلمة، وإذا كانت حاجتها إلى السيرة في هذه المرحلة مهمة -أعني مرحلة الضعف والهوان- فحاجة الأمة إلى السيرة النبوية في حال النصر والتمكين أشد، إذ ليس الهدف من النصر والتمكين مجرد الاستعلاء أو التكبر والبطر، كلا! فالهدف استخراج العباد من عبودية بعضهم لبعض إلى عبودية رب العالمين، ونقلهم من وضع مهين مزرٍ إلى وضع يستشعرون معه الراحة والسعادة والأمن والطمأنينة والأمان.
هدف المسلمين تحقيق العدالة وتمكين شرع الله وإزالة الظلم، وكل هذا وذاك لا يمكن أن يكون لقوم يجهلون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه.
معاشر الإخوة؛ إننا اليوم -ونحن نستشف بوادر النصر والتمكين لهذا الدين- مدعوون لقراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى يُحكم الناس بالعدل والقسط، وحتى تكون القيادة راشدة والمنهج سليماً، وثمة أمر آخر يؤكد أهمية دراسة السيرة، فالباحثون في التربية والاجتماع والسياسة والاقتصاد ونحوها من العلوم، عادوا يعترفون أنهم بعد جهد كبير ومشوار طويل في دراسة النظريات واستيعاب الطروحات، عادوا يعترفون بكون السيرة النبوية منهلاً عذباً يردون فيه فيجدون بغيتهم، ومورداً زلالاً يروي ظمأهم، بل إن العسكريين وهم يخططون لمعارك اليوم لا يجدون غُنْيَةً عن تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، فضلاً عن أهل الإدارة والتخطيط، وهذا وذاك يحتم دراسة السيرة النبوية وفهمها.(110/26)
توضيح المجمل في القرآن
رابعاً: توضيح المجمل في القرآن: فمن أهداف دراسة في السيرة أنها توضح ما أجمله القرآن الكريم من إثارات قد لا يفهم المقصود منها إلا بالرجوع إلى أحداث السيرة، وفي السيرة تحديد للإطار العام للآيات القرآنية ومواضع نزولها ومواقع دلالتها، وبهذا نفهم المقصود بآياته، ويستفاد من توجيهاته.
فالآيات مثلاً في أسرى بدر يصعب فهمها وإدراك دلالتها دون الرجوع إلى أحداث السيرة، وهكذا الشأن في آيات غزوة أحد حين وقعت الهزيمة، ومثل ذلك يقال في توجيهات القرآن حول النفاق والمنافقين، وحول أهل الكتاب والمشركين إلى غير ذلك، بل نستطيع من خلال معرفتنا بأحداث السيرة تحديد الآيات الناسخة والمنسوخة، وهي قضية يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية، والأمر كذلك بالنسبة للأحاديث النبوية، حيث تعين دراستنا للسيرة على معرفة زمن القول وظروفه، وهو ما يسمى ببيان أسباب ورود الحديث.(110/27)
تحقيق وحدة الأمة
خامساً: وحدة الأمة وعدم التنازع: وهذا هدف سام وجليل من أهداف دراسة السيرة، فمعرفتنا بمراحل الدعوة وأساليبها المختلفة ومعرفتنا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مجمل، يجعل في صدر كل واحد منا متسعاً للآخرين في أسلوب دعوتهم، ما دام أصحابها يلتزمون بهدي الإسلام، ويراعون أصوله، ولا يؤثرون الهوى على الهدى، ولا يقصدون تقليد الخلق، بل هدفهم الوصول إلى الحق، ولا تؤدي بنا الاختلافات الفرعية إلى التناحر والنزاع والقطيعة، بل نجعل السيرة هي أداة التحكيم عند اختلافنا امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ولقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
نعم! إنه قد يشكل علينا أمر، ونختلف في حله وحرمته وقربه من روح الإسلام أو بعده، ولكنا حينما نعود إلى السيرة ينحسم هذا الأمر، ويوضح لنا الطريق سيرتُه وهديُه صلى الله عليه وسلم، وقد يرى راءٍ في الإسلام جزئية لا تعجبه، ولا يدرك مغزاها ومرماها، فما عليه إلا أن ينظر كيف طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجزئية؟ ومتى؟ ولماذا؟ وكيف؟! ليدرك موقعها من مجموع البناء الإسلامي، ولا يستعجل الأمور، فيلتمس التعليلات الباردة ليرد بها الأحكام الصريحة الواضحة، أو النقول الصحيحة الجلية كما يفعل بعض الناس.(110/28)
التعرف على مراحل الدعوة وأساليبها
ثالثا: التعرف على مراحل الدعوة وأساليبها، فدراسة السيرة -معاشر الإخوة والأخوات- تكشف عن مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم المختلفة، وترسم المنهج الأمثل للدعوة، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم أسر في دعوته بمكة فترة من الزمن، كان لهذه الفترة ظروفها وملابساتها، وكان له صلى الله عليه وسلم فيها أسلوب مميز للدعوة شاد فيها أسس البناء، واختار العناصر الصالحة للعطاء، وأبعد عن الدعوة مخاطر الأعداء، ثم جهر بالدعوة وأعلنها على الملأ، وكان له ولصحابته مع الكفار مواقف وأحداث استطاع خلالها أن يرسم الأسلوب الأمثل للمواجهة، ثم هاجر إلى المدينة فاحتاجت الدعوة إلى أسلوب آخر، فما جمد الرسول صلى الله عليه وسلم وما تردد، ورسم منهجاً ومارس وسائل الدعوة التي تناسب هذه المرحلة، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يمل ولا يكل، ولا يتوقف عند أسلوب يرى أن غيره أنسب للدعوة منه.
ولذا فإن على الذين يمارسون الدعوة أن يقرءوا هذه السيرة العطرة، وسيجدون فيها ما يجيب على تساؤلاتهم، ويلبي حاجياتهم، ويفي بمتطلبات دعوتهم، مهما اختلفت الأزمان وتنوعت البقاع، أجل! لقد حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وشرد، ونفي وأهين، وواجهته ضغوط نفسية واجتماعية ومؤامرات وخيانات، وتعرض لكيد المنافقين وكيد الكفار والطغاة والمجرمين، وتعرض لمساومات سياسية وعقد مصالحات، وواجهته مشكلة بناء أمة وإقامة مجتمع على أسس جديدة، فما وهن ولا استكان، بل ترك في هذه وتلك توجيهات كريمة وأسساً رشيدةً، وعلى قدر المسيرة عليها تصلح الدعوة وينجح الدعاة.
وليس بمقدور الدعوة، بل وليس بمقدور الدعاة أن يعيدوا منهج الدعوة بغير معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.(110/29)
تأكيد الواقعية في هذا الدين
ثانياً من أهداف دراسة السيرة تأكيد الواقعية في هذا الدين، فإن من سمات الدين الإسلامي أنه دين الواقعية يتعامل مع النفس البشرية بكل ملابساتها وبمختلف أحوالها وظروفها، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيد لهذه الواقعية، فهو مع كونه صورة مشرقة وقمة سامقة للإسلام، إلا أنه لم ينسلخ عن بشريته يوماً من الأيام، ولم يكن وهو يزاول تعاليم الإسلام ملكاً مقرباً؛ بل كان بشراً سوياً، فعاش مع نفسه حالة الخوف والرجاء، وعانى من الفقر، وعرض له الغنى، وعاش ظروف الغربة كما عايش الأمن والاستقرار، كما مرت حياته بظروف العزلة والاختلاط، والعزوبة والزواج، وكان قائداً حربياً ومخططاً سياسياً، وأحست نفسه بآمال النصر كما أحست بآلام الهزيمة، ففرح وحزن وغضب ورضي، وهكذا كان في كل هذه الأحوال ينهج نهج الاستقامة والعدل، والذين يقرءون هذه السيرة يتبينون هذا الأمر، ويسيرون في حياتهم على نهج سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا كان في كل هذه الأحوال ينهج نهج الاستقامة والعدل، ويتعامل مع النفس البشرية بشكل واقعي، يتيح لمن بعده أن يقتدي به في كل حال من أحوال الحياة، وفي هذا المجال يجد الدارس للسيرة تلازماً بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك، فلا يأمر الناس بالبر والخير وينسى نفسه، والذين لا تتاح لهم دراسة السيرة دراسة واعية تظهر في سلوكياتهم التناقضات، وتكثر في حياتهم المنغصات.(110/30)
فهم الإسلام وتريعاته
أولاً: السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإسلام، فلا بد لمن يريد أن يفهم الإسلام وتشريعاته، أن يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فسيرته هي التجسيد الحي، بل هي الصورة المشرقة لتعاليم الإسلام؛ فإن الإسلام منذ أن نزل لم يكن نصوصاً جامدة لا وجود لها ولا أثر في الحياة، وإنما نزل ليكون منهجاً للبشر، ولهذا تمثل النبي صلى الله عليه وسلم كل تعاليمه سلوكاً واقعياً في الحياة، ومجموع هذا السلوك هو سيرته عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يمثل الإسلام في كل أحواله، سواء أكان ذلك في حال النوم أم في حال اليقظة وسواء أكان على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة، في حال الرضا أم في حال الغضب، في حال السلم أم الحرب، وفي حال الجد أو المداعبة، وميزة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في كل هذه الأحوال -وهو البشر الذي يمكن أن يقع منه فعل خلاف الأولى- ميزته أنه يلقى التوجيه من ربه إذا ما قدر له ذلك، فينبه إلى الأولى ولا يكتم شيئاً مما أوحى الله إليه، فتستمر سيرته على الهدى والحق.
وعلى سبيل المثال: تحفظ لنا نصوص السيرة قصته مع عبد الله بن أم مكتوم، وقصته في زواجه لـ زينب بنت جحش، فالأولى قال الله تعالى عنها {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1-3] إلى آخر الآيات، والأخرى قال الله عنها: {وَإِذْ تَقُولً لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37] .(110/31)
الأسئلة
الأسئلة التي وردت كثيرة، ولعلنا نأخذ ما تيسر منها، ونرجو أن نجيب على أكثرها ولو باختصار، والأسئلة على قسمين قسم منها يطالب الشيخ بدرس في السيرة؛ لأن الساحة خالية من هذا الموضوع، وكانت المطالبات كثيرة، وإن قلت: إن نصف الأسئلة تطالب الشيخ بهذا الموضوع، فلست مبالغاً، وأرجو من الشيخ أن يعلق على هذا الموضوع، وأن يعد الحضور وعداً يثلج الصدور في طرق مثل هذه الدروس القيمة التي نحن في أمس الحاجة إليها.
الجواب
على أية حال أشكر الإخوة على ثقتهم، وأسأل الله تعالى أن يغفر ويتجاوز، وأعدهم خيراً، بل إنني أفكر كثيراً في تخصيص درس للسيرة النبوية، فأنا المستفيد الأول من هذا الدرس، أرجو الله تعالى أن يعجل بقيامه وأن يعينني على إتمامه، ولعل هذا اللقاء يكون بداية طيبة بإذن الله تعالى، وأعد الإخوة إن شاء الله بإقامة درس، لكنه إن كان فسيكون بمشيئة الله في المسجد الذي أصلي فيه وهو في حي السلطان، وأرجو أن يعينني الله تعالى على إعلانه قريباً.(110/32)
معجزات الرسول غير القرآن
السؤال
هل هناك معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم باقية إلى هذا الوقت غير القرآن الكريم؟
الجواب
نعم! من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته إخباره عن المغيبات، والمغيبات منها أمور وقعت بعد موته، من أمثال حديثه عن الفتن والحروب التي حصلت في عهود الصحابة رضي الله عنهم، ومن أمثال حديثه عن نشأت كذلك الفرق التي نشأت بعد موته، ومن أمثال حديثه صلى الله عليه وسلم عن كثرة المال، وقد كثر المال اليوم، وهناك أحداث أخبر عنها ولم تقع وستقع، وهذه معجزة وتعد من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.(110/33)
الدراسة الجامعية
السؤال
هل تنصح بالالتحاق بقسم التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهل هناك تعليق على هذا القسم؟
الجواب
أنصح الإنسان أن يستخير الله تعالى قبل أن يدخل أي قسم وأن يستشير، فما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وسواء كان ذلك في قسم التاريخ أو في قسم الشريعة وأصول الدين، أو قسم اللغة العربية أو في سواها من الأقسام، هذه أقسام كلها فيها خير، والمهم أن يتوفر عند الإنسان حين الدخول نية طيبة وهدف نبيل يسعى من ورائه إلى خدمة الأمة الإسلامية، حتى ولو كان في قسم العلوم والأحياء أو غيره من الأقسام كالهندسة والطب، أو نحوها من الأقسام الأخرى، فالقضية مربوطة بالهدف الذي يسعى الإنسان من أجله، فإذا كان الهدف نبيلاً والنية طيبةً، ويقصد من وراء ذلك تقديم خدمة لهذه الأمة، فإنني أنصحه بدخول أي قسم يرى فيه بغيته، ويجد فيه ما يتفقُ مع طبيعتَه.(110/34)
الواقعية والمثالية
السؤال
ذكرت أن من أهداف دراسة السيرة النبوية تأكيد الواقعية لهذا الدين، فكيف يكون ذلك؟
الجواب
الواقعية حينما نقول الواقعية هي بخلاف المثالية أو على عكس المثالية، فهذا الدين أيها الإخوة ليس ديناً مثالياً، ومن ميزة النبي صلى الله عليه وسلم أنه واقعي، بمعنى أن سيرته حوت حياته وهو في أعلى الدرجات، وذكرت بعض الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع فيها من الخطأ الذي عالجه الله تعالى، فهو يصيب ويخطئ، يغضب ويرضى، يجاهد في حال السلم وفي حال الحرب.
وأعني بالواقعية أنها أمور قريبة للنفس البشرية، فليس بمقدور الإنسان أن يقرأ السيرة، ويقول: إني لا أستطيع أن أطبق هذه السيرة، بل نقول له إذا حصلت له حالة ضعف أو حالة خطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له شيء من ذلك، إذا حصل له حالة هزيمة في معركة ينبغي ألا يحبط نفسه، ويقال له: حصل للنبي صلى الله عليه وسلم قبلك ما حصل، إذا اشتدت عليه حالة العزبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم عزباً، إذا اشتدت عليه حالات الغربة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش غريباً وهكذا بمجملها، فهي تؤكد الواقعية، وليست نموذجاً لملك نزل من السماء لا يفتر عن التسبيح والتهليل، بل النبي صلى الله عليه وسلم عايش النساء وعاش في الدنيا فافتقر واغتنى، وسالم وحارب، إلى غير ذلك من الأمور التي تؤكد الواقعية، وهي ضد المثالية التي لا يمكن وقوعها، أما المثالية ومعالي الأمور التي يمكن أن يوصل إليها لكن يجهد فهذا أمر مطلوب، لكن حينما نقول: الواقعية فهي بخلاف اللاواقعية بتعبير أدق.(110/35)
الكتب المؤلفة في السيرة النبوية
السؤال
ما أهم الكتب التي تنصحنا بقراءتها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما أهم المؤلفين الذين ينصح باقتناء كتبهم في هذا المجال؟
الجواب
هذا سؤال يحتاج إلى درس خاص به، نتحدث فيه أو نتحاور فيه عن مصادر السيرة النبوية وعن أهميتها، فمن المعلوم -وهذه ميزة ألمحت إليها- تميز سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء والمرسلين بأنها وفرة المصادر كثيرة المراجع، فأول مصادرها القرآن الكريم، وأنا أنصح بداية أن يقف المرء على بعض الآيات التي تتحدث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يجد فيها معلومات لا يجدها في غيرها من كتب السير، أولاً أن المعلومة من القرآن الكريم هي من الصحة بحيث لا تحتاج إلى نقاش؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، ثم إن كتب التفسير تعتبر عاضداً مهماً في تجلية هذه الآيات، فأحياناً تقرأ آيات قرآنية ولا تعلم المقصود بها، وكم من قارئ يقرأ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] ولكنه لا يدري ما المقصود، لكنه عندما يرجع إلى كتب التفسير، أو حتى كتب السير الموثوقة، ويجد تفسير الحادثة فإنه يطمئن لذلك.
على أية حال إضافة إلى التأمل في آيات القرآن الكريم مع تفسيرها من كتب التفسير الموثقة، هناك كتب السيرة الموثقة، وفي مقدمتها الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم: في كتاب الفضائل، وفي كتاب المغازي، وفي كتاب المبعث، وفي كتب أخرى مفرقة في صحيح البخاري وصحيح مسلم فيها مادة طيبة وجميلة، وأما المصدر المتوفر فهو سيرة ابن هشام، وهي يغلب عليها الصحة، وإن كان فيها معلومات دون ذلك، وعلى أية حال فمن بين كتب السيرة أرشح للقارئ السيرة النبوية للإمام ابن كثير عليه رحمة الله وهي منتزعة من البداية والنهاية، ففيها تحقيق يندر وجوده في غيرها، بالإضافة إلى الشمول، وإلا فهناك كتاب للذهبي، وهناك كتاب لـ ابن القيم، لكن ميزة سيرة ابن كثير أن فيها تحقيقاً، هذا لمن يستطيع أن يقرأ المطولات، أما من لا يستطيع ذلك، وخاصة المبتدئين الشباب، فهناك كتب ميسورة يستفيد منها أمثال كتاب الندوي في السيرة النبوية ودراسات في السيرة لـ محمد بن سرور، وكتابات أكرم العمري في السيرة النبوية، وهي كتب حديثة، ومحمد رسول الله لـ صادق عرجون إلى غير ذلكم من الكتب التي يمكن أن يستفاد منها في هذا المجال.(110/36)
كيفية تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
السؤال
فضيلة الشيخ! ذكرت أنه قبل البعثة كان هناك من يتعبد على دين إبراهيم الحنيفية، فماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء حيث كان يتعبد شهراً كاملاً؟ من كل سنة؟
الجواب
وقف أهل السير عند تعبده شهراً كاملاً كل سنة في غار حراء، فقال بعضهم: إنه كان يصوم فيه، وقال بعضهم: إنه كان يتصدق على الفقراء والمساكين، وقال بعضهم: إنه كان يتأله أي ينظر في هذا الكون، ويتأمل فيه، وكأنه ينظر إلى قومه من علو، وهو في غار حراء، وغار حراء كما هو معلوم في القمة، فهو ينظر إلى هذا الكون، وكأنه يسفه أحلامهم، ويأخذ عليهم عباداتهم، وبالتالي فأهل السير مختلفون، لكنهم مجمعون على أنه يخرج من أجل أن يروح عن نفسه، ومن أجل أن يصقل فكره، ومن أجل أن يتأمل في هذا الكون، وعلى أية حال فأقرب الروايات أو أقرب شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعبد بالحنيفية، وإن لم يكن هناك نصوص واضحة وصريحة تحدد كيف كانت عبوديته، لكنَّ هناك نصوصاً أخرى تؤكد أنه كان يخالف قومه في عبادة الأصنام وفي عباداتهم من أمثال الطواف بالبيت وهم عراة، أو من أمثال الوقوف بمزدلفة حين يقف الناس بعرفة، فقد خالف قومه في هذه الأشياء، وكانت هذه إرهاصاً لنبوته، فكان يتأله ويتعبد بهذه الأشياء كلها، أو يبتعد عن المعبودات الوثنية والأصنام، دون أن يمسها أو يقربها، وينظر في ملكوت الله تعالى وعظمته وقد هداه الله تعالى.(110/37)
إشكالية التخيير بين الموت والبقاء مع إخبار الله بموت جميع الخلائق
السؤال
كيف يخير الأنبياء بين الموت والبقاء؟ والله عز وجل أقسم ألا يبقى عليها أحد، كيف التوفيق بين ذلك؟
الجواب
ليس معنى التخيير الحياة إلى الأبد، وإنما هو المد في الأجل والفسحة فيه، وقد ورد في الصحيح {أن موسى عليه السلام لما جاءه ملك الموت صكه على وجهه، فرجع ملك الموت، وقال لله تعالى -وهو أعلم بما حصل-: إن عبدك لا يريد الموت، فقال: ارجع إليه وقل له: ضع يدك على ظهر ثور، فما وقع تحت يدك من شعراته فلك به عدد السنين، فرجع الملك إلى موسى عليه السلام، وقال له ذلك، فقال موسى: وماذا بعد ذلك؟ قال: الموت -لأنه ليس هناك أحد مخلد {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38]- فقال موسى عليه السلام: إذا كان لا بد من الموت فليكن من الآن} فليس المقصود البقاء إلى الأبد، وإنما المقصود الفسحة في الأجل، ولذلك خير النبي صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الحديث الصحيح- فاختار الرفيق الأعلى على مزيد المكث في الحياة الدنيا، والله أعلم.(110/38)
عصمة الأنبياء
السؤال
نعلم أن الأنبياء معصومون فماذا نقول في موسى عندما قتل نفساً قال كما حدث عنه القرآن {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] ؟
الجواب
أولاً: هذا كان قبل النبوة، ثم إن الآيات القرآنية تشير إلى أن الله تعالى غفر له، وكان هذا خطأ من موسى عليه السلام فغفر الله تعالى له بعد أن سما في طريق القرآن الكريم، علماً بأن العصمة بالنسبة للأنبياء قبل النبوة هي محل خلاف بين العلماء، وقد ألف الرازي رحمه الله كتاباً خاصاً في عصمة الأنبياء، وعلى أية حال فهم متفقون على عصمتهم من الشرك ومن العبودية لغير الله أو السجود لصنم حتى قبل النبوة.(110/39)
التفسير النبوي للقرآن
من أعظم نعم الله للبشر أجمعين وجود كلامه بين أيدي الناس، ويبين لهم أحكامهم ويهديهم وفيه بركة ونور وشفاء، وهو كتاب يتميز بشموليته لجميع النواحي، وأنه يقرر الحق المطلق في كل الأمور، ولا يتطرقه شك.
ولذلك عني المسلمون بالتفسير لهذا الكتاب من الصحابة والسلف الصالح، بل وفسره حتى بعض أصحاب الأغراض كالمعتزلة والصوفية وغيرهم، وقد تفاوت الناس في تفسيرهم للقرآن وأولهم الصحابة لتفاوتهم في أمور عدة، وأعظم تفسير للقرآن هو التفسير النبوي والذي يكون على أضرب عديدة.(111/1)
أعظم نعم الله على البشر أجمعين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الحمد لله القائل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف:1-4] والصلاة والسلام على رسوله القائل كما في حديث المقدام وغيره: {ألا وأني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته أن يأتيه الأمر من أمري فيما أمرت به أو فيما نهيت عنه، فيقول: عندنا كتاب الله حسبنا، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى} .
إن من نعمة الله تعالى لا أقول علينا فحسب، بل على الناس أجمعين أن يوجد بين أظهرهم كلام الله، كلمات الله مضبوطة محفوظة من الزيادة والنقصان.
ولعل هذه أعظم نعمة يفيض الله تعالى من خيرها على البشر أجمعين، أن يكون بين أيديهم كتاب محفوظ، قرآن يحتكمون إليه فيما يقع بينهم من خلاف أو شجار، وذلك بعد أن حرفت الكتب السماوية كلها، التوراة، والإنجيل، وغيرها، وضاع أكثرها، ولعبت بها أيدي التغيير والتبديل {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] .
إخوتي الكرام: إن القرآن الكريم كلام الله تعالى، وإذا كان القرآن الكريم هو كلام الله؛ فلا أعتقد أن هناك مجالاً لذكر محاسن ومزايا وخصائص القرآن الكريم، فحسبه أنه كلام الله، ولذلك وصفه الله عز وجل بقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42] وكما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله تعالى على خلقه} .(111/2)
من خصائص القرآن الكريم
إذاً: فكون القرآن كلام الله هو أمر يغني عن تعداد خصائص القرآن وفضائله ومزاياه، لكنني أجدني مضطراً إلى أن أشير إلى ثلاث خصائص لهذا القرآن لا بد من ذكرها في مطلع هذه المحاضرة.(111/3)
الحق المطلق
الخاصية الثالثة هي: أن هذا القرآن يقرر الحق المطلق الذي لا ريب فيه {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فالقرآن حق كله، وصدق كله، فهو فيما أخبر به عن الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل، صدق، ويستحيل استحالة مطلقة قطعية لا تردد فيها أن يتعارض خبر القرآن مع الواقع، أو مع التاريخ الماضي، أو مع ما يكتشفه العلم في المستقبل، فنجزم ونقطع بلا تردد من منطلق إيماننا بالله العظيم، أن كل ما أخبر به القرآن عن الأمم السابقة، من أخبار الأنبياء، وأخبار الأمم من بني إسرائيل، ومن قبلهم ومن بعدهم، وما حدث لهم من العز والارتفاع، أو الذل والانحدار، والمصائب والنكبات، أو النعم أو غيرها، والدول وسواها، والقصص والأخبار أن كلها حق وصدق، ونجزم ونقطع بلا تردد من منطلق إيماننا بالله العظيم أن كل ما أخبر به القرآن الكريم في الواقع، وفي الكون، وفي الفلك، وفي النجوم، وفي الأرض، وفي السماء، وفي الأرحام، وفي النفس البشرية، من الأخبار أنه صدقٌ وحقٌ قطعيٌ لا تردد فيه، ولذلك يستحيل أن يثبت العلم حقيقة تناقض القرآن، ومن ادعى أن هناك حقيقة علمية تناقض القرآن، فهو إما أنه لم يفهم القرآن حق فهمه، فظن أنه يناقض العلم، أو لم يفهم العلم حق فهمه فظن أنه يناقض القرآن، أما أن توجد حقيقة علمية تناقض نصاً قطعياً صريحاً فهذا والله لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال؛ لأن الذي أنزل القرآن، هو الذي خلق الأكوان وأوجد الإنسان، فلا يمكن أن يخبر عن الإنسان، أو عن الأكوان، إلا بما هو الحق والواقع.
وكذلك ما أخبر به الله عز وجل في القرآن من الأخبار المستقبلة في آخر الدنيا، أو في يوم القيامة، فإنه لا بد أن يكون حقاً لا شك فيه، فأخبار الله تعالى في القرآن صدق لا ريب فيها، وأحكامه في القرآن عدل لا ظلم فيها ولا جور، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] صدقاً في الأخبار ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وعدلاً في الأحكام خاصها وعامها، فرعها وأصلها، فهو الحق المطلق الذي لا شك فيه.
ولذلك لهذه الأسباب كلها ولاحظوا هذا الخصائص الثلاث، حق مطلق، شامل لجميع شئون الحياة، محفوظ من الزيادة والنقصان، لهذا أصبح القرآن ميزاناً وفيصلاً فيما يشتجر الناس ويختلفون فيه من أمور الدين والدنيا، وبذلك تعرف نعمة الله تعالى بحفظ هذا القرآن إلى هذا الزمان، وأنه نعمة كبرى على المسلمين بل على البشرية كلها.
وهذه النعمة شكرها: أن يكون القرآن هو المهيمن على حياتنا، أفراداً، وأسراً، ومجتمعات، ودولاً، وأمماً، بحيث يكون القرآن هو المحكم، وإذا لم نفعل فنكون قد كفرنا هذه النعمة، وعقوبة كفران هذه النعمة عقوبة أليمة، أتدرون أيٌ هي؟ إنها أن يرفع هذا القرآن من بين أيدينا، فلا يبقى في الأرض منه آية، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره بسند صحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يدرس الإسلام كما يُدرَس وشيء الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، حتى لا يبقى في الأرض منه آية} ينزع القرآن من المصاحف، وينزع القرآن من صدور الرجال، لماذا؟ لأنه لم يُعمل به، فتعطلت منافعه، فرفعه الله تعالى تكريماً لكلامه العظيم أن يوضع عند من لا يستأمنونه، ولا يستحقونه، ولذلك نسأل الله جل وعلا العفو والعافية.
وإذا رُزِقَ إنسان القرآن حفظاً وفهماً ثم أهمله وفرط فيه، فإن الله تعالى يبتليه بعقوبة عاجلة، بنسيان القرآن الكريم وتفلته منه.
ولذلك أذكر لكم قصة قرأتها في بعض التواريخ، أن جماعة من المسلمين خرجوا في غزو للروم، وكان معهم شابٌ يحفظ القرآن، ويصلي ويقرأ، فكانوا يحبونه ويعدوه كأحد أبنائهم، قال: فلما مررنا بقرية للنصارى أطلت من سور القرية فتاة جميلة حسناء، فنظر إليها ذلك الشاب وافتتن بها، فذهب إليها، وقال لها: هل إليك من سبيل؟ قالت: لا سبيل إلي إلا بأن تتنصر، فقال: أنا كذلك والعياذ بالله، ثم دخل في هذه القرية وكان مع هذه النصرانية، فلما رجعوا من الغزو مروا بتلك القرية وهم حزانى، ثكلوا بردة هذا الشاب الذي كانوا يحبونه ويقدرونه ويوقرونه، فلما مروا بالقرية تمنوا أن يروه، فرأوه عند باب السور، فقالوا له: يا فلان! ما فعل القرآن؟ قال: والله لقد نسيت القرآن فلا أذكر منه إلا هذه الآية {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] فنسأل الله جل وعلا أن يعافينا، ولا يفضحنا في الدنيا ولا في الآخرة، اللهم لا تفضحنا في الأرض ولا يوم العرض، اللهم لا تفضح عبيداً أحسنوا الظن بك يا كريم.
أيها الإخوة: القرآن الذي هذه مزاياه، وهذه مكانته، نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاه عنه أصحابه، ثم تلقاه عنهم المسلمون، وعنوا به كما أشرت عناية كبيرة.(111/4)
الشمولية والكمال
الخاصية الثانية لهذا القرآن: الشمول والكمال، فإن هذا الكتاب فيه كما قال الله عز وجل: {َتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111] ما من أمر يحتاجه الناس في دينهم أو دنياهم إلا وفي القرآن بيانه، سواء بياناً بالنص عليه، أو بدخوله تحت قاعدة كلية عامة قررها الله تعالى في القرآن الكريم، أو بالإحالة على مصدر آخر، كالإحالة على السنة النبوية، أو على القياس الصحيح، أو ما أشبه ذلك، أو على إجماع أهل العلم.
فما من قضية يحتاجها الناس في اجتماعهم، أو أخلاقهم، أو عقائدهم، أو اقتصادهم، أو سياستهم، أو أمورهم الفردية، أو الاجتماعية الدنيوية أو الأخروية، إلا وفي القرآن بيانها إجمالاً أو تفصيلاً، فجاء القرآن بأصول المسائل، ولذلك لو أتيت مثلاً إلى أصول الطب لوجدتها في القرآن الكريم، أو إلى أصول الاقتصاد لوجدتها في القرآن الكريم، أو إلى أصول الاجتماع لوجدتها في القرآن الكريم، أو إلى أصول العقائد بل وتفاصيل كثير منها في القرآن الكريم، أو إلى أصول الأحكام لو جدتها في القرآن الكريم، فالقرآن شامل كامل مهيمن على جميع شئون الحياة.(111/5)
الحفظ
الخاصية الأولي: خاصية الحفظ {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ولذلك قيض الله تعالى للقرآن منذ نزل من يحفظه، من الصحابة ومن بعدهم، في الصدور وفي السطور، وبلغت عناية المسلمين بالقرآن الكريم وتدوينه، وكتابته، وحفظه، وضبطه، شيئاً يفوق الوصف، حتى إن جميع حروف القرآن وكلماته مضبوطة محفوظة بقراءاتها المختلفة لا يزاد فيها ولا ينقص، وبدقة متناهية، حتى إن الرسم الذي يتناقله الناس لهذا القرآن اليوم هو الرسم الذي كتبه به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نحو ألف وأربعمائة عام، لا يختلفون في حرف واحد من القرآن الكريم زيادة ولا نقصاً.
وقد ذكر بعض المفسرين كـ القرطبي وغيره، قصة طريفة تتعلق بحفظ القرآن الكريم، وذلك أن المأمون كان يجالسه رجل من اليهود، وكان رجلاً ذكياً نابغةً عالماً ينادم المأمون، ويتحدث معه في مجلسه، فأعجب بعقلة وذكائه وقال له: لماذا لا تسلم؟ قال: لا أسلم، فحاول أن يدعوه إلى الإسلام؛ لكن هذا اليهودي أبى وأصر على دينه ورفض الإسلام، فغضب منه المأمون وطرده من مجلسه، فانقطع عن المأمون فترة طويلة، ثم جاءه بعد زمان طويل بعد سنين يستأذن عليه، فلما مَثُلَ بين يديه قال: يا أمير المؤمنين، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فتعجب الخليفة لذلك وقال: بالأمس كنت أدعوك إلى الإسلام، وأنت نديمي، وصديقي، وجليسي، فكنت تأبى وتصر على رغم أن كثيراً من الناس يقبلون ولو مجاملة ولو من أجل مطمع دنيوي، أو مغنم عاجل، وأنت تصر على دينك الباطل، فما بالك أسلمت الآن؟! قال: إنني بعد ما خرجت من عندك بلوت الأديان كلها، وكان الرجل خطاطاً، فقال: إنني أخذت نسخة من التوراة فنسختها بخطي الجميل، وزدت فيها ونقصت كما أريد، ثم وقفت بها عند بيعةٍ من بيع اليهود بعد صلاة من صلواتهم، فلما خرج اليهود أخذوها وتداولوها واشتروها مني بأغلى الأثمان، فقلت: هذا دين لا خير فيه، يزاد فيه وينقص دون أن يعلم أهله، هذا دين لا خير فيه، فتركته.
قال: ثم ذهبت إلى النصرانية فأخذت نسخة من الإنجيل فنسخت منها عدداً من الكتب بخطي، وزدت فيها ونقصت، ثم وقفت عند كنيسة من كنائسهم في عيد من أعيادهم، فلما خرج النصارى أخذوها منى وتداولوها واشتروها مني بأغلى الأثمان، قال فقلت: هذا دين لا خير فيه، يزاد فيه وينقص دون أن يعلم أهله بذلك! قال: ثم أخذت نسخة من القرآن الكريم فنسختها بخطي الجميل عدداً من النسخ، وزدت فيها ونقصت وغيرت وبدلت شيئاً يسيراً، ثم وقفت عند جامع من جوامعهم في يوم جمعة، فلما خرج المسلمون من صلاتهم أخذوا هذه النسخ وتداولوها وبدءوا يتصفحونها ويفتشونها ورقة ورقة، فعثر هذا على زيادة، وعثر هذا على نقص، وعثر هذا على خطأ، وعثر هذا على تغيير، قال: فأخذوا النسخ من حجري، وانكبوا على يركلونني بأقدامهم، ويلكمونني بأيديهم، حتى حملت من عند باب المسجد وأنا لا أعي، ثم ذهب بي إلى المسئولين وتعهدت ألا أعود إلى مثل عملي وإلا فعلوا بي وفعلوا، قال: فعرفت أن هذا كتاب محفوظ فأسلمت.(111/6)
عناية المسلمين بتفسير القرآن
وكان من أوجه عنايتهم به عنايتهم بتفسير القرآن الكريم، فكان الصحابة يعنون بتفسير القرآن، حتى كان فيهم مشاهير كـ ابن عباس وابن مسعود؛ صرفوا حياتهم ووقتهم في فهم معاني القرآن الكريم، وابن عمر رضي الله عنه حتى إن مالكاً روى في الموطأ أن ابن عمر رضي الله عنه يقول: إنه مكث في تعلم سورة البقرة عشر سنين، فلما أتمها نحر بدنة شكراً لله تعالى، وهو لا شك أنه يتعلم البقرة ألفاظاً ومعان، وإلا فصغار الطلبة اليوم في المدارس الابتدائية يحفظون البقرة في أسبوع أو في شهر.
حاشا لـ ابن عمر أن يحتاج إلى عشرة سنين في حفظ ألفاظها فحسب، بل كان يتفهمها ويتلقنها ألفاظاً ومعانٍ، وابن عباس رضى الله عنه كان يسأل عن معاني كتاب الله تعالى ويتفهمها حتى سمي ترجمان القرآن، وابن مسعود رضى الله عنه يقول كما في الرواية الصحيحة عنه: [[والله ما من آية في كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيم نزلت، ولو أعلم رجلاً أعلم مني بكتاب الله تناله المطي لأتيته]] يعني ولو في أقصى الدنيا لأتيته، وكذلك التابعون تلقوا عن الصحابة رضى الله عنهم فكان منهم أئمة في التفسير، كـ مجاهد بن جبر المكي الذي يقول فيه سفيان الثوري [[إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك به]] لا تسأل عن غيره، وليس هذا بغريب فقد تلقى عن ابن عباس، حتى إنه كان يقول: إنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وكذلك كما هو معروف من تفسير قتادة، وعكرمة، والسدي، وغيرهم كثير من التابعين وأتباعهم.(111/7)
اختلاف مناهج المفسرين تبعاً لاختلاف مذاهبهم وعلومهم
ثم انتهت النوبة إلى الأئمة المصنفين، فصنفوا مئات بل ألوف الكتب في تفسير كتاب الله تعالى بمختلف الفنون، فأهل اللغة صنفوا كتباً في تفسير القرآن من النواحي اللغوية، والإعراب، والبلاغة، والبيان، والبديع، وغيرها، وأهل الفقه صنفوا كتباً في معاني آيات الأحكام، وتفسيرها، ودلالاتها، واختلاف العلماء فيها، وأهل الحديث صنفوا كتباً في جمع الروايات التي وردت في تفسير معاني كتاب الله تعالى، وهكذا أهل كل فن صنفوا كتباً في التفسير تتناول القرآن من الزاوية التي يحسنونها ويتحدثون فيها.
وهذه الكتب لاشك أن فيها الغث والسمين، والقوى والضعيف، والجيد والرديء، بل إن بعض الذين فسروا القرآن الكريم، فسروه ليتوافق مع ما لديهم من الأغراض، سواء كانت حقاً، أو باطلاً.
فالمعتزلة -مثلاً- منهم من فسر القرآن ليخدم مذهبه الفاسد، كما فعل القاضي عبد الجبار في تفسيره، وكما فعل الزمخشري في كشافه المعروف، حيث جعل القرآن لخدمة مذهبه الفاسد في الاعتزال، وكذلك بعض المتكلمين فسروا القرآن ليوافق آراءهم وأصولهم، كما فعل الرازي في تفسيره الكبير، والماتريدي وغيرهم، وبعض الفقهاء فسروا آيات الأحكام تفسيراً يخدم اتجاهاتهم المذهبية، ويؤيد ما اختاروه من الأقوال الفقهية، بل ووجد من الصوفية من يفسر القرآن ليخدم مذهبه الصوفي، كما فعل الغزالي وغيره، ووجد من أرباب العلوم خاصة المعاصرين من يحاول أن يحمّل القرآن وألفاظه مالا يحتمل من الدلالة على أنواع العلوم العصرية، كما فعل مثلاً طنطاوي جوهري في تفسيره المسمى بـ الجواهر والذي فيه كل شيء إلا التفسير! فهو كتاب في الفلك، والعلوم المادية، والأحياء، والفيزياء، والجيولوجيا، لكن ليس فيه شيء من تفسير القرآن الكريم! وكما يفعل كذلك بعض الذين يتحدثون عن ما يسمى بإعجاز القرآن، فإن منهم من يغلوا فيحمّل ألفاظ القرآن الكريم ومعانيه مالا تحتمل، لتوافق بعض مكتشفات ومخترعات العلم، بل بعض النظريات العلمية التي لم تصل إلى حد أن تكون حقيقة قطعية ثابتة.
وهذا الخلاف الطويل العريض في تفسير القرآن الكريم؛ يوجب للمسلم الحريص على معرفة كلام الله عز وجل أن يعود إلى الأصل الأول، والمنبع الأول، الرسول عليه الصلاة والسلام وسنته الصحيحة الثابتة، فهي خير ما يفسر كتاب الله تعالى، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالبلاغ {إِنْ عليكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ علينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ علينَا بَيَانَهُ} [القيامة:16-19] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] .(111/8)
بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن
إذاً فالرسول عليه السلام مطالب بالبلاغ والبيان، ويا ترى ما البلاغ والبيان؟ هل يكفي أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن على الناس، وتلقينهم كيف يقرءون القرآن، وهذه سورة البقرة، وهذه آل عمران، وهذه سورة النساء، والآية الفلانية تبدأ بكذا، وتنتهي بكذا، والقرآن يبدأ بالفاتحة وينتهي بسورة الناس، بحيث يضبط الصحابة ألفاظ القرآن الكريم لفظاً لفظاً، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، وآية آية، وسورة سورة، ثم يقول قد بلغتكم؟ هل يكفي هذا؟! لا يكفي، بل هذا جزء من البلاغ وهو بلاغ الألفاظ.(111/9)
بيان المعاني
بلاغ المعاني تبليغه صلى الله عليه وسلم لمعاني كتاب الله تعالى، هي بنص كتاب الله تعالى جزء من مهمته في البلاغ، جزء من مهمة الرسول عليه السلام ومسئوليته أن يبلغ الناس ألفاظ القرآن ويبلغهم معاني القرآن، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] هذا الجزء من الآية {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] ما المقصود به؟ أي نوع من البلاغ؟ المقصود بقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] البلاغ اللفظي الذي ذكرته قبل قليل، أنه ما يكتم شيئاً من القرآن، ولا يزيد شيئاً، بل يبلغ القرآن للناس كما بلغه إياه جبريل، حتى إنه عليه السلام من شدة حرصه كان كما يقول ابن عباس كما في الحديث المتفق عليه: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه} انظروا سبحان الله! جبريل هو المعلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتلقي المتعلم، فإذا قرأ عليه جبريل آية، أو لقنه إياها، كان عليه السلام يحرك شفتيه حتى إن ابن عباس يقول: [[فأنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما]] وسعيد بن جبير يقول: [[فأنا أحرك شفتي كما كان ابن عباس يحركهما]] يحرك شفتيه حتى يضبط وراء جبريل، ولا يفوته شيء، {وكان يحرك شفتيه فنزل عليه قول الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16-17] } يقول: إن علينا أن نجمعه لك في صدرك فتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] يقول: اصبر حتى إذا قرأه عليك جبريل اقرأ بعده {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي أن نبينه لك لفظه ومعناه.
فكما بين عليه السلام البيان، وكان شديد الحرص عليه وهو البيان اللفظي، وهو المقصود من قوله تعالى: {رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164] وَيُزَكِّيهِمْ التزكية تعني أن يربي الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على القرآن الكريم، بحيث يتحول القرآن من مجرد كتاب مكتوب أو قرآن منطوق مقروء، يتحول إلى مع ذلك واقع وحياة عملية تتحقق على ظهر الأرض، حتى قال بعضهم: إن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم كأنه قرآن يدب على ظهر الأرض، وهذا التعبير ليس بعيداً فإن عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت للسائل كما في مسلم وغيره: [[أتقرأ القرآن؟ قال: نعم.
قالت: كان خلقه القرآن]] .
إذاً: هذا معنى قوله ويزكيهم، يزكيهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك الحسن، ويُعدهم للدور العالمي الذي ينتظرهم لقيادة البشرية.
ما كان عليه الصلاة والسلام يربي أصحابه فقط حتى يكونوا عباداً، يحسنون العبادة والصلاة فقط، ولا كان يربيهم حتى يكونوا قادة وساسة وإداريين فقط، ولا يربيهم حتى يكونوا تجاراً واقتصاديين فقط، بل كان يجمع ذلك كله صلى الله عليه وسلم، فتخرج من مدرسته العلماء، والعباد، والزهاد، والمدراء، والقواد، والساسة، وأصناف البشر الذين تحتاجهم الحياة، ثم قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] ما هو الكتاب؟ هو القرآن، وما هي الحكمة؟ هي السنة، كما قال الشافعي: فيما نقل من جماعة ممن أرضى علمهم يقولون القرآن هو الكتاب، والحكمة هي السنة، يقول الله عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] يعني من القرآن والسنة.
إذاً: يقول: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] ألم يسبق قبل قليل قوله: {يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] وهي القرآن، فهل قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [آل عمران:164] هل هو تكرار؟ كلا، ليس في القرآن تكرار ليس له فائدة، فإن مقصوده -والله تعالى أعلم- بقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [آل عمران:164] يعني يفقههم في معاني القرآن، إذاً في أول الآية قال: {يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ} يقرأ عليهم القرآن فإذا قرأوا القرآن، وحفظوه، وأتقنوه، انتقل إلى مرحلة أخرى يعلمهم الكتاب أي: يعلمهم معاني ما حفظوا وضبطوا، ثم مرحلة ثالثة يؤدبهم بهذا الكتاب، حتى يعملوا به، ولذلك قال أبو عبد الرحمن السلمي: [[حدثني الذين كانوا يقرؤننا القرآن من الصحابة كـ عبد الله بن مسعود وغيره، أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا معانيهن والعمل بهن، قال: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل معاً]] .
فاضبط هذه الآيات العشرة من حيث التلاوة، ثم انتقل بعد ذلك إلى فهم معانيها، ثم انتفل بعد ذلك إلى التطبيق العملي.
فإن القرآن لم ينزل ليكون مجرد كتاب يقرأ: ما أنزل القرآن كي يتلى على قبر تمدد فيه ميت لا يعي ما أنزل القرآن إلا حجة، إذاً من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ اللفظي والمعنوي، وقد قام بمهمة البلاغ بشقيها خير قيام صلى الله عليه وسلم.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنهم من زكاهم رب العزة عز وجل، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عرباً، يعرفون بالسليقة معاني الكلام العربي، فبمجرد ما يسمعون يفقهون، ولذلك في مكة حتى غير الصحابة من الكفار يعرفون عموم معاني الكلام العربي، والقرآن بلسان عربي مبين، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] .
إذاً: العرب فهموا القرآن من حيث الجملة حتى الكفار، ولذلك ردوه، وأذكر أن أحد الأئمة وهو الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقارن بين مشركي هذا الزمان، والمشركين الأولين، فيقول: إن المشركين الأولين كانوا أفقه بمعنى لا إله إلا الله ممن ينتسبون إلى الإسلام في هذا الزمان، أبو جهل وأبو لهب يفهمون معانيها في اللغة العربية، فلما سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله} عرفوا ما معنى الآيات وعرفوا أن معناها: لا عبادة إلا لله، ولا معبود إلا الله، ولا أحد يستحق العبادة إلا الله، ولذلك رفضوها وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] .
لكن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام في هذا العصر ومنذ عصور، يقولون لا إله إلا الله، ولا يفهمون منها حتى ولا المعنى الذي فهمه أبو لهب وأبو جهل، فيفهم كثير من المسلمين معنى لا إله إلا الله أنه: لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله، وهذا جزء من معناها، لكن المعنى الأصلي الذي أنكره المشركون هو إفراده الله بالعبادة، فالصحابة كانوا عرباً فصحاء أقحاح يفهمون معاني الكلام، ولذلك فهموا كثيراً من القرآن بمجرد تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، كما أن العربي اليوم بالسليقة يفهم من القرآن الكريم أشياء كثير لا يحتاج معه إلى الرجوع إلى كتب التفسير.
فأنت -مثلاً- إذا سمعت كلام الله تعالى عن الجنة، وعن النار، وعن الرسل، وعن القرآن الكريم، تفهم معناها مباشرة، وإذا سمعت آيات المواريث فهمتها، وأشياء كثيرة تفهم بمجرد سمعاها، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفهمون وراء ذلك أشياء.(111/10)
البيان اللفظي
ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ألفاظ القرآن الكريم بلاغاً تاماً، ولم يكتم شيئاً صلى الله عليه وسلم مما أنزل عليه، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكتم شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] آيات فيها عتاب شديد على الرسول صلى الله عليه وسلم {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] يا سبحان الله! ثم يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على الناس في الصلاة وفي غير الصلاة وهو المخاطب بها {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] أو كذلك يكتم هذه الآية: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1-10] عتاب شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (وَمَا عليكَ أَلَّا يَزَّكَّى) هل أنت مسئول عنه؟ ما عليك من حسابه من شيء، (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى) (وَهُوَ يَخْشَى) (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (كَلَّا) يا سبحان الله! اللهم صل وسلم على رسولك محمد.
إن الله تعالى اختاره على علم على العالمين، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] اختار رجلاً يعلم أنه لن يكتم شيئاً مما أوحي إليه، حتى الآيات التي عاتبه الله فيها ولامه على بعض ما صدر منه صلى الله عليه وسلم ينقلها للناس كما هي، كما ينقل الآيات التي مدح فيها، فيقرأ على الناس قول الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقرأ عليهم قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] فكما يقرأ الآيات التي فيها اللوم والعتاب يقرأ الآيات التي فيها المدح والثناء، هذه وهذه سواء، كلام الله أُبلِّغه لي أو علي.
إذاً يجزم كل موحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ القرآن الكريم لفظاً؛ بلاغاً تاماً لا ريب فيه.
هذه النقطة الأولى من البلاغ اللفظي لكن تأتى النقطة الثانية وهى:(111/11)
تفاوت الصحابة في فهم القرآن
ومع ذلك فإنهم كانوا يتفاوتون في فهمهم للقرآن الكريم، يتفاوتون لأسباب كثيرة، ومن أسباب تفاوتهم:(111/12)
تفاوتهم لاختلافهم في معرفة التواريخ والأحداث
من أسباب اختلافهم رضي الله عنهم اختلافهم في معرفة التواريخ، والأحداث، والأخبار، والعلوم الأخرى التي يستفاد منها في فهم القرآن الكريم، ولذلك جاء في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى نصارى نجران، يدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم، فكان من ضمن ما قرأ عليهم المغيرة بن شعبة سورة مريم {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] فقال النصارى: يا مغيرة! كيف يا أخت هارون؟! مريم بينها وبين هارون قرون طويلة، فكيف تكون أخته؟ فتحير رضي الله عنه ولم يستطع أن يجيبهم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، والصالحين منهم} فحل له الأشكال، وبين له أن هارون هذا المذكور في الآية، ليس هو هارون أخو موسى، لا.
بل هارون آخر سموه عليه؛ لأنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء، ولذلك يكثر في اليهود -مثلاً- موسى وهارون؛ لأنهم يسمون بأسماء أنبياء، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإشكال، ولا شك أن المغيرة لو كان يعرف هذا الأمر من الأصل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لكن لما سأله النصارى وقع عنده الأشكال فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه على ذلك.
فهذه من أسباب اختلاف الصحابة في فهم القرآن الكريم، ولذلك كان الصحابة يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام عن أشياء كثيرة من القرآن مما يحتاجون إلى بيانه فيبينه لهم، ولذلك نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين في سنته كل ما يحتاج إلى بيانه من القرآن، ولا نريد أن ندخل في جدل: هل بين القرآن كله أو بعضه؟ لأن من العلماء من يقول: ما بين الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن إلا القليل كما يقول السيوطي، ويستدلون بحديث مروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر من القرآن إلا آيات معدودة]] وهذا الحديث لا يصح، رواه الطبري والبزار وغيرهما، وهو معلول لأن في إسناده محمد بن جعفر الزبيري، وهو ضعيف ولا يحتج بحديثه.
ومن العلماء من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القرآن كله، ومقصودهم: أنه بين ما يحتاج إلى بيان فهناك آيات لا تحتاج إلى بيان لأنها هي بينة من نفسها، ولذلك ابن عباس رضي الله عنه كما ذكر الطبري عنه يقول: [[التفسير على أربعة أنواع: تفسير تعرفه العرب في لغتها، إذا قرئ على العرب فهموا معنى الآية، وتفسير لا يعذر أحدٌ بجهله، وذلك كتفسير الأحكام، والعقائد التي يحتاج الناس إلى معرفتها.
وتفسير يعرفه العلماء وهى المعاني الخفية التي لا يعرفها عامة الناس.
وتفسير أستأثر الله بعلمه]] فهذه أربعة أنواع.
إذاً يوجد تفسير تعرفه العرب من لغاتها، ولا يحتاج إلى البيان.
المهم والخلاصة أن كل ما يحتاج الناس إلى بيانه من القرآن الكريم؛ فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته.(111/13)
تفاوتهم لاختلاف مداركهم
أنهم يتفاوتون في مداركهم وعقولهم، فإن الله تعالى قسم بين الخلق أرزاقهم، وأخلاقهم، وعقولهم، فهذا عقله كبير عبقري نابغة، وهذا إنسان ساذج لا يفهم من الأمور شيئاً، ولا يوردها ولا يصدرها، وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم كانوا يشتركون في قدر من العلم بالقرآن، إلا أن بعضهم كان يفوق بعضاً في ذلك.
فمثلاً: في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن علي رضى الله عنه: أنه سئل هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء من دون الناس، وقد كان الناس في ذلك العصر يتسامعون، أو أشاع الشيعة بأن الله تعالى اختص أهل البيت بأشياء، فسئل علي:هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء قال: [[لا، والذي برأ النسمة وفلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً أوتيه رجل في كتاب الله تعالى، وما في هذه الصحيفة وأشار إلى صحيفة معلقة في سيفه، فقالوا: وماذا في هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل -يعني الديات- وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر]] وفيها أشياء من الأحكام، الشاهد قوله: إلا فهماً أوتيه رجلٌ في كتاب الله تعالى.
إذاً: قد يؤتى أحد الصحابة أو غير الصحابة من الفهم ما لم يؤته غيره، ولذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنه كما في الصحيح أنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره، أي الماء الذي يتوضأ به صلى الله عليه وسلم، فقال: {من وضع هذا؟} فقالوا: ابن عباس -وكان شاباً دون الحلم أي دون البلوغ في ذلك الوقت، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بعمله هذا، بذكائه، وأدبه- فدعا له: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل} فكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه، لا يشق له غبار في فهمه لكتاب الله تعالى، وله في ذلك قصص وأخبار، لعل من أعجبها وأغربها قصته مع نافع بن الأزرق الخارجي الذي أرسل إلى ابن عباس يسأله عن أشياء كثيرة، وكلما سأله قال: وهل تعرف ذلك العرب في لغاتها، فيقول: نعم، ثم يستشهد ابن عباس بأبيات من أبيات العرب وهي محفوظة وهي عجب من العجب، وهو من أكثر من نقل عنه التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أيضاً -لتفاوتهم في مداركهم- تجد الاختلاف بينهم، فمثلاً: اختلف الصحابة في معاني آيات كثيرة، وفهم بعضهم من معاني الآيات خلاف ما تدل عليه، كما سيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك.(111/14)
تفاوتهم لاختلافهم في اللغة
فمن أسباب اختلافهم: اختلافهم في فهم اللغة العربية، فإنهم -وإن كانوا عرباً- إلا أنهم متفاوتون في التوسع في فهم اللغة وألفاظها ومعانيها، ولذلك جاء في تفسير الطبري وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وفي رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه صعد على المنبر فقرأ قول الله تعالى: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:26-31] فقال: [[قد عرفنا الفاكهة فما "الأب"؟ ثم رجع إلى نفسه، وقال: والله إن هذا هو التكلف]] فما كان يعرف الأب تماماً وإلا فالأب معروف أنه من نبات الأرض، من رعي الأرض، لكن ما كان يعرف نوعه من بين أنواع النباتات، وفي رواية أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه سئل عن هذه الآية فقال: [[أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم]] فكانوا يتفاوتون في فهمهم للغة العربية.
كما كانوا يتفاوتون في فهمهم لمراد الله تبارك وتعالى بالآية، فهذا عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه وقصته في صحيح البخاري وصحيح مسلم من روايته، وهي في الصحيحين أيضاً بنحوه من رواية سهل بن سعد دون ذكر اسمه، أن عدي بن حاتم لما سمع قوله الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة:187] فهم أن الخيط هو الحبل المعروف، فلما نام وضع تحت وسادته خيطين، أسود وأبيض، فوضع الخيطين بجواره وصار يأكل وينظر، حتى أسفر وصار يعرف أن هذا هو الأبيض وهذا هو الأسود فأمسك، فلما أصبح غدا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا، إنما هو بياض النهار، وسواد الليل -الخيط الأبيض هو النهار، والخيط الأسود هو الليل- فإذا بان لك النهار -أي: طلع الصبح وطلع الفجر- فأمسك} وفي رواية أنه الرسول عليه الصلاة السلام قال له: {إنك لعريض الوساد إن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحتك} وقد اختلف الشراح في معنى هذه الكلمة ولا أجد داعياً للوقوف عندها لأن الوقت يمضي.
فهذا من اختلاف فهمهم لقول الله تعالى في القرآن الكريم، لأن اللغة العربية تحتمل أن يكون الخيط هو الحبل، وتحتمل أن يكون المقصود بالخيط هو الليل والنهار، فعدي فهم الأول فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني، ولا شك أن بقية الصحابة ما فهموا كما فهم عدي، بل فهموا الليل والنهار ولذلك ما وقعوا في الأمر الذي وقع فيه.(111/15)
أنواع بيان السنة للقرآن
وأنواع بيانه صلى الله عليه وسلم في السنة أو نقول بشكل أعم: السنة النبوية تفسر القرآن الكريم.
وأنواع بيان السنة للقرآن على أربعة أضرب:(111/16)
بيانه بمعرفة أسباب النزول
الضرب الثالث: الذي تبين فيه السنة كتاب الله، هو أن السنة تكفلت ببيان أسباب نزول القرآن الكريم، ولا شك أن من يعلم بسبب نزول القرآن يكن أقدر على فهم الآيات، وربطها بسبب النزول، ومعرفة على أي وجه أنزلت، وأضرب لذلك بعض الأمثلة.
فمن أقوى الأمثلة على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة بن الزبير أنه قال لخالته عائشة رضي الله عنها: يا خالة أو يا أماه -لأنها خالته وأمه في نفس الوقت، هي أمه أم المؤمنين وهي خالته فكان يقول لها: يا أماه أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فوالله ما على أحد من جناح ألا يطوف بالبيت -هكذا يقول عروة وكان شاباً صغير السن كما يقول، قال: إن الآية تقول: ولا جناح أي لا إثم ولا حرج عليه أن يطوف بهما، ففهم كأن الآية تقول: لا مانع أن يطوف- فقالت عائشة: [[بئس ما قلت يا ابن أخي، إنه لو كان الأمر كما تقول لكانت الآية: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)) وإنما كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية يهلون لمناة الطاغية التي يعبدونها بالمشكلة وهو صنم يعبدونه بالجاهلية، فكان من أَهَلَّ لمناة يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قال الأنصار لرسول الله: يا رسول الله نحن كنا في الجاهلية -معشر الأنصار- لا نسعى بين الصفا والمروة- كل من أحرم وأهل بمناة عادة ودين لا يسعى بين الصفا والمروة، فبين الله عز وجل أن هذا دين باطل وأن كل إنسان يسعى بين الصفا والمروة]] قال عروة: فحدثت بذلك، حدث به أبا بكر فقال أبو بكر بن الحارث: والله إن هذا لعلم، وقد حدثني من سمعت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بقية الصحابة -غير الأنصار- كانوا في الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام تحرجوا أن يطوفوا بينهما؛ لأنه أمر كانوا يفعلونه في الجاهلية فتحرجوا أن يفعلوا في الإسلام شيئاً كانوا يفعلونه ف الجاهلية، فنزل قول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ)) أي: لا حرج عليه أن يطوف بهما.
إذاً الآية نزلت للأمرين كلاهما، نزلت تقول للأنصار: طوفوا بين الصفا والمروة خلافاً لما كنتم تفعلونه في الجاهلية يوم كنتم تهلون لمناة، ونزلت تقول للمهاجرين ولسائر المسلمين: طوفوا بين الصفا والمروة كما كنتم تطوفون بهما في الجاهلية، لأن هذا من شعائر الله وليس من عادات الجاهلية.
إذاً معرفة سبب النزول هاهنا تبين معنى الآية بياناً شافياً.
مثله أيضاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ما المقصود بالفضل؟ يشمل الدعاء، والذكر، والأجر، فالآية شاملة جامعة لهذا كله، لكن من معاني الفضل: التجارة في الحج، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كما في البخاري أنه قال: كانت العرب في الجاهلية لها أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فكانوا يتاجرون بها، فكان الرجل يذهب للتجارة وللحج فتحرجوا من ذلك، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: لا مانع أن يذهب الإنسان للحج ويتاجر في الحج، يكون قصده الحج وأيضاً بهدف التجارة في الحج، لا مانع من ذلك، فبين سبب النزول معنى الآية.
ومثله قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ما المقصود بالتطهر؟ ثبت عند أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة، وعند غيرهما من حديث عويمر بن ساعدة، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه أن هذه الآية نزلت في أهل قباء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فقال: {إن الله يثني عليكم يا أهل قباء، فماذا تصنعون؟! قالوا: يا رسول الله إنا نجاور هذا الحي من اليهود وكانوا يتطهرون فيستنجون بالماء، -يستخدمون الماء في الاستنجاء- قال: بهذا أثنى الله عليكم} وهناك رواية مشهورة {أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء} عند البزار وهذه رواية ضعيفة جداً، ليست صحيحة، وليس المقصود أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء أي: يستنجون بالحجارة ثم بالماء، بل كانوا يستنجون بالماء ليس بالحجارة.
مثله قوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49] هذه الآية يستدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات القدر، وأن كل شيء بقدر وقضاء من عند الله تعالى، وقد رأيت بعضاً من ينكر ذلك ويقول: إن معنى الآية خلقناه بقدر، يعني مقدراً مفصلاً مناسباً لأوانه ووقته وزمانه، وهذا لا مانع أن يكون جزءاً من معنى الآية، لكن أيضاً بقدر يعني مكتوباً عند الله تعالى، والذي يفصل هذا ويبين المعنى الصحيح للقدر هو ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة في سبب نزول هذه الآية: {أن المشركين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية} .(111/17)
بيانه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
الضرب الرابع: من أضرب بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن هو بيانه للقرآن بفعله، ولذلك قال بعض الأئمة المهتدين في هذا العصر لما سئل عن تفسير القرآن، قال: أعظم كتاب نفهم منه تفسير القرآن هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سيرة النبي عبارة عن ترجمة عملية للقرآن الكريم، بأقواله، وأفعاله، وتقريراته عليه الصلاة والسلام، ولذلك عائشة قالت: {كان خلقه القرآن} كما أسلفت، وجابر أيضاً قال كما في صحيح مسلم في حديثة الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعلم تأويله فما فعل من شيء فعلنا مثله]] يعنى: في الحجة وغير الحجة.
ومن أمثلة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي تفسر القرآن: صلاته عليه السلام حيث قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي} فالصلاة كلها داخلة تحت قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] .
وحج عليه السلام ونسك المناسك كلها من الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف، والنحر، وقال: {خذوا عني مناسككم} فكل أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج داخلة في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] .
وهكذا بين لنا أحكام الصيام، فكلها داخلة تحت قوله تعالى: {كُتِبَ على كُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] .
ويبين لنا مقادير الزكاة فكلها داخلة تحت قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] .
ومن الأمثلة التفصيلية لذلك -على سبيل المثال- يقول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] هذه الآية تحدد مواقيت الصلوات الخمس، لدلوك الشمس يعني: زوال الشمس، إلى غسق الليل يعني: منتصف الليل، وقرآن الفجر يعنى: صلاة الفجر، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان الكافي الشافي بالقول والفعل، فلما زالت الشمس صلى الظهر، وهذا هو دلوك الشمس، إلى غسق الليل -وطبعاً صلى العصر قبل الغروب فهذا وقت صلاة الظهر والعصر- ولما غابت الشمس صلى المغرب، ثم أخر العشاء في بعض الأوقات إلى ما قبل نصف الليل، ليبين أن هذا آخر وقت العشاء، فبدأ بدلوك الشمس وهو الزوال، وانتهى بغسق الليل، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر فهذا قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] .
ومثله أيضاً في الحج: السعي بين الصفا والمروة فإن الله قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158] وهذا يدل على أنه لا يحرم السعي بين الصفا والمروة أيضاً ولا يجب، لكن لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم علم أنه واجب، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث السابق: {والله ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة} .
إذاً: كل أفعاله صلى الله عليه وسلم هي بيان للقرآن الكريم وكذلك أقواله، ولذلك ذهب من ذهب من أهل العلم كـ الشافعي إلى أن كل السنة إنما هي استنباط من القرآن الكريم، فهمها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبذلك نعلم أن القرآن والسنة متلازمان مترابطان، وأنهما لايفترقان إلى يوم القيامة، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وإنما تحدثت في هذا الموضوع لأشيد وأبين أهمية السنة في فهم كتاب الله تبارك وتعالى، وأنه لا يمكن أن نفهم القرآن إلا على ضوء السنة، وأعتبر أن هذه المحاضرة هي الدرس الثاني ضمن الدروس التي كنت وعدت بها سابقاً بعنوان: (دفاع عن السنة النبوية) وسبق أن ألقيت المحاضرة الأولى منها في حائل قبل نحو شهر وكانت بعنوان (دفاع عن السنة) وهى لبيان مكانة السنة النبوية في الإسلام، وهذا هو الدرس الثاني من هذه الدروس وهو لبيان تفسير السنة النبوية للقرآن الكريم.(111/18)
بيانه بالاستنباط النبوي منه
الضرب الثاني: هو ما جاء في السنة النبوية استنباطاً واستخراجاً من القرآن الكريم، فهو تفصيل لمعانيها، وهذا ضرب لطيف، أن تستخرج الآيات التي تدل على الحديث، أي: تأتي إلى معنى جاء في السنة؛ فتستخرج من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف عني به الحافظ ابن كثير في تفسيره، وبعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتاباً يشمل كل ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجاً من القرآن الكريم، استنباطاً من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن لطيف ذلك -مثلاً- قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} هل تعرفون آية من القرآن الكريم تدل على هذا المعنى؟ نعم، إنها قوله تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] .
أيضاً جاء في مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الإنسان إذا ذكر الله عند دخوله وعند عشائه، قال الشيطان لجنوده: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذا نسي ذكر الله عند الدخول قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا نسي ذكر الله عند العشاء قال الشيطان أدركتم المبيت والعشاء} هل تعرفون الآية التي تدل على هذا المعنى؟ نعم، إنها قوله تعالى: {وَاسْتَفْززْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء:64] إذاً: من مشاركته في الأموال أن يأكل معك، ويشرب معك، وينام معك، ومتى ذلك؟ إذا لم تذكر الله تعالى.
ومن لطيفها -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن علي يوم الأحزاب أنه صلى الله عليه وسلم قال: {شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وأجوافهم ناراً} والحديث نفسه جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود، ففي القرآن الكريم ما يمكن وهذا ليس جزماً، بل هو ظن والعلم عند الله تعالى، ونستغفر الله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نعلم أن في القرآن ما يمكن أن يستأنس به على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] فهذه الآية تدل على أن الأوقات تبدأ بالفجر وتنتهي بالعشاء، إذن يكون الوقت الأوسط هو العصر، قبله الفجر والظهر وبعده المغرب والعشاء، فبدأ بقوله، من قبل صلاة الفجر، وانتهى بقوله: من بعد صلاة العشاء، إذن أول الأوقات هو الفجر، ولذلك سلك بعض الفقهاء وكثير من المحدثين في مسلك ذكر المواقيت في الفقه، أن يبدء بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، وبعضهم يبدأون بالظهر، والأجود أن يبدأ بالفجر، وإن كان الأمر في ذلك واسعاً.
ومثل ذلك -أيضاً- ما جاء في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} .
وفي السنن عن بريدة وغيره: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر} ففي القرآن الكريم ما يدل على أن ترك الصلاة كفر، وقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فهم هذا من كتاب الله تعالى واستنبطها من كتاب الله تعالى، وذلك كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] فكأن الآية تدل على أن مالم يؤد الصلاة يكن من المشركين، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فقد روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن هذه الآية تنزلت لما حولت القبلة إلى الكعبة، فقال المسلمون: فكيف بمن ماتوا قبل تحويل القبلة وكانوا يصلون إلى بيت المقدس؟! فقال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] ومن الكفر بالصلاة تركها بالكلية، فإن هذا كفر بها، فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط من هذه الآية أو من غيرها ما قرره في كفر تارك الصلاة.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر {أن بني سلمة -وهم حي من الأنصار- كانوا بعيدين من المسجد، فأرادوا أن يبيعوا منازلهم لينزلوا بقرب المسجد، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم} أي: الزموا دياركم وابقوا فيها وكأنه صلى الله عليه وسلم كره أن يعروا المدينة فأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، فلا يكونون موجودين فقط حول المسجد وبقية الأحياء تخلو منهم.
فقد يكون صلى الله عليه وسلم فهم ذلك واستنبطه من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] فمن الآثار التي تكتب: خطاك إلى المسجد ذاهباً وآيباً.
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده، عند مالك في الموطأ، والحاكم، وحكيم بن حزام وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يمس القرآن إلا طاهر} يعني: متوضئ؛ هذا معنى طاهر، هذا المعنى قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استنبطه، والحديث حسن بمجموع طرقه، وله ما يشهد له، والمقصود بالطاهر على الراجح من أقوال أهل العلم: هو المتوضئ الطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، فقد يكون استنبط ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:77-80] .
فقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) وكل ما بعده وصف له، فهو في كتاب مكنون، وهو لا يمسه إلا المطهرون، وهو تنزيل من رب العالمين، ولذلك استدل أهل العلم على تحريم مس المصحف لغير المتوضئ من هذه الآية.(111/19)
بيانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم
الضرب الأول: بيان القرآن بالقول: أي بقوله صلى الله عليه وسلم وهذا كثير جداً، حتى صنف فيه العلماء مصنفات مستقلة، مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن مردويهوتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير الطبري، وجمع السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور جمع من ذلك أشياء طيبة، وكثير من كتب السنة تفرد باباً خاصاً بالتفسير النبوي، فمثلاً جامع الأصول لـ ابن الأثير خصص مجلداً تقريباً للمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن، ولم يستقص ما في الكتب الستة وهي: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ومالك في الموطأ، ولم يستقص، بل فرق بعضها في مواضع أخرى، وهو قريب من مجلد كامل.
إذاً: فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وفسر أشياء كثيرة من القرآن الكريم بقوله صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة تفسيره صلى الله عليه وسلم للقرآن ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عجرة في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فقوله: من صيام، أو صدقة، أو نسك، هذا مجمل يحتاج إلى تفسير، ما الصيام؟ ما مقداره من الصدقة؟ ما النسك؟ ففي الصحيحين: أن كعب بن عجرة قال: أتى بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى! فهل تجد شاة؟ أو هل تستطيع أن تصوم ثلاثة أيام؟ أو تطعم ستة مساكين؟ أي ذلك، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه} .
فبين عليه الصلاة والسلام تفسير هذه الآية في هذا الحديث.
كذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] بينها الرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك حين تطلع الشمس من مغربها فقال: {إذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فحينئذٍ لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} .
كذلك ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ثم قال: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي} ففسر القوة بالرمي، الرمي بكل شيء، الرمي بالبندقية، وبالمدفعية، الرمي بأي شيء.
ومثله -أيضاً- قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] فعن عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين: {أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إنما هو العرض، من نوقش الحساب عذب} فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود بالحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله وذنوبه ولا يناقش عليها، وإلا لو نوقش الحساب وحوسب لعذب.
ومثله -أيضاً- ما جاء في حديث البراء في الصحيحين في تفسير قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] قال: {إن المؤمن إذا حُضر يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] } وأمثلة ذلك كثيرة جداً، فهذا هو الضرب الأول أن يبين الرسول صلى الله عليه وسلم مراد كلام الله تعالى بكلامه.(111/20)
الأسئلة(111/21)
محاربة الشيطان
السؤال يقول: أحياناً عندما يضيق صدري ألجأ إلى قراءة القرآن الكريم، لكن أجد صدري لا ينشرح بل يزداد ضيقاً؟
الجواب
قد يكون هذا من الشيطان أنه يحاول أن يضيق صدرك عند قراءة القرآن، لتبتعد عن القرآن، ولذلك فالعلاج أن تقرأ دائماً، فإذا عرفت أن الشيطان يحاول بشيء، فالعلاج أن تزيد، وأمعن في الأمر، فهذا كشخص يقرأ القرآن فضاق صدره، لا أقول: يترك القرآن، بل زد في القراءة، ضاق صدرك زد، لأن الشيطان ترغمه حينئذٍ، مثال آخر: إنسان يأتيه الشيطان من قبل الرياء؛ إذا قام يصلي قال له الشيطان: أنت مرائي اترك الصلاة، إذا قرأ يقول الشيطان: اترك القراءة أنت مرائي، وهكذا إذا أراد أن يتصدق قال له الشيطان: أنت مرائي، فلا يتصدق، فالعلاج ليس أن يترك العمل الصالح خشية الرياء، بل نقول: زد من العمل الصالح، واستبعد الرياء، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، أما إذا وسوس لك بالرياء ثم أنت تركت العمل؛ فقد عرف طريقتك وبدأ يسلك معك هذا الأسلوب ويعاملك بهذه الطريقة.(111/22)
تعريف بالغزالي
السؤال
ذكرت فيمن فسر القرآن حسب معتقده الغزالي، من هو الغزالي؟
الجواب
الغزالي هو الإمام أبو حامد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين.(111/23)
ترك مجالس العلم خشية إقامة الحجة
السؤال
لي صديق أدعوه كثيراً لحضور مثل هذا المجالس، لكنه يقول: أخشى أن أسمع شيئاً ولا أعمل به فيكون حجة علي فما ردكم عليه؟
الجواب
هذا مسكين، ما سمع بالقرآن؟ هذا وسواس من الشيطان الرجيم، إذا سمع بالقرآن فالقرآن حجة عليه، فالقرآن يأمره بالعلم والتعلم، ولذلك إذا ارتكب خطأ بسبب الجهل الذي كان يستطيع أن يتعلمه من خلال هذه المجالس؛ لكان غير معذور بهذا الجهل لأنه تركها خشية أن يتعلم.(111/24)
تأخير الصلاة
السؤال
سمعت الشيخ محمد بن عثيمين في نور على الدرب يقول: إنه من أخر الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر لم تقبل منه، ونحن شباب نخرج إلى البر في المساء ولا نعود إلا في وقت متأخر من الليل، ولا نصلي صلاة العشاء بحجة أن وقتها طويل، ثم نتفرق دون أن نصلها جماعة، وبعضنا ينسى فلا يصلي إلا بعد خروج الوقت، أو بعد يوم أو يومين إذا ذكر، فهل نحن آثمون، مع أنه ليس لنا عذر في ذلك سوى النسيان والتفريط؟
الجواب
ما دمتم في البر لا تسمعون المؤذن؛ فلا بأس أن تؤخروا صلاة العشاء إلى آخر وقتها، وآخر وقتها من ثلث الليل الأول إلى منتصفه، فإذا كان الليل -مثلاً- اثنتي عشرة ساعة، يبدأ الوقت الفاصل بالنسبة لصلاة العشاء بعد مضي أربع ساعات منذ غروب الشمس إلى ست ساعات، فما بين أربع إلى ست ساعات هذا وقت صلاة العشاء الفاضل، وما قبلها بعد خروج المغرب وقت العشاء، أما تأخير العشاء بعد ذلك بغير ضرورة؛ فإنه لا يجوز مطلقاً، لكن لو أخرها إلى وقت الفجر أي بعد نصف الليل؛ فإنه يصليها على الراجح في نظري من أقوال أهل العلم، يعني لو ما صلاها إلا الساعة الثامنة يكون آثماً مفرطاً، لكن لو أخرها إلى ما بعد طلوع الفجر فهذا هو الذي قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم والشوكاني وهو رأي جماعة من فقهائنا المعاصرين أنه إذا أخرها حتى خرج وقتها بالكلية لا يصليها، فهؤلاء الإخوة لا شك أنهم إذا فرطوا وأخروا الصلاة حتى خروج وقتها فإنهم يأثمون بذلك فلا يجوز لهم تأخيرها.(111/25)
إفساد العامل على صاحب العمل
السؤل: رجل استقدم عاملاً للعمل في محل يدر عليه رزقاً بتوفيق الله، وهذا العامل مخلص وأمين، وقد أعجب أشخاصاً آخرين كثيرين وطلبوا منه أن يستقدم لهم عمالاً مثله في الأمانة والإخلاص، فبدأ بهذه المهمة، وأخذ يتغير كثيراً في عمله ويتساهل في عمله لكونه يأخذ على هؤلاء العمال الذين يستقدمهم مبلغاً، مما أضر به كثير وأفسدوه عليه، فما حكم تصرف هؤلاء؟ وما حكم كسبهم من وراء العمال الذين يستجلبونهم بهذه الطريقة؟
الجواب
المسلم أخو المسلم يتعاون معه في أمور الخير، فإذا كان هؤلاء فيما طلبوا من هذا العامل لم يشقوا عليه مشقة يترتيب عليها تقصير في عمله، فكان ينبغي أن يكون هذا الأمر تعاوناً، كان ينبغي عليهم هم أن يتم الأمر عن طريق الكفيل، حتى يأتوا البيوت من أبوابها، أما وقد حصل الأمر ووقع الخطأ منهم، فأرى أن على الكفيل أن يحتسب الأمر عند الله ويقول: إخواني المسلمين وإن أخطأوا علي أتحمل هذا الأمر منهم، وينبغي أن ينصح هذا العامل ويبين له أنه لا يغتر بكونه فلان وفلان قد يغرونه، أو قد يستقدمونه أو ما أشبه من ذلك فإنه إذا لم يكن جاداً في عمله وتدرب على الكسل والإهمال فلم يعبأ به أحد.(111/26)
قراءة الأئمة من أواخر السور
السؤال
نلاحظ كثيراً من ألائمه يقرءون أواخر السور، وكنت أنا ممن يعمل ذلك فأخبرني أحد الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر عنه أو يعلم عنه أنه قرأ سورة ما في كتاب الله من آخرها، إنما يبدأ السورة من أولها ولا ينتقل عنها إلى سورة أخرى فهل هذا صحيح؟
الجواب
نعم، لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الصلاة أواخر السور كما هو موجود عند كثير من الأئمة اليوم، لكن أواخر السور قرآن كأوائلها وكأواسطها، فالذي ينبغي للإمام أن يقرأ في الصلاة من أول السورة وأوسطها وآخرها ولا شيء في ذلك إن شاء الله.(111/27)
الحث على بعض الكتب
السؤال
أريد تكوين مكتبة في منزلي فما هي الكتب التي ترشدني باقتنائها؟
الجواب
بالنسبة لكتب التفسير فقد ذكرتها، أما ما يتعلق بكتب الحديث فأنصحك بالكتب الستة وجامع الأصول، ومجمع الزوائد، وفى مجال العقائد أنصحك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وفى مجال الأحكام الشرعية أنصحك بعدد من الكتب منها كتاب العدة إن كنت مبتدئاً، ومنها الكافي إن كنت متوسطاً، والمغني إن كنت متوسعاً، أو اجمعها كلها، ويمكن أن تضيف إلى ذلك كتاب ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وكذلك كتاب فقه السنة لـ سيد سابق، ونيل الأوطار للشوكاني، والمحلى لـ ابن حزم فهذا حسن جيد، اجمع مجموعة من كتب السيرة النبوية مثل سيرة ابن هشام وغيرها، كذلك اجمع بعض الكتب المعاصرة المفيدة التي تسلم من الأخطاء وهي كثيرة.(111/28)
اختلاف الحدود
السؤال يقول: من المعلوم أن الله تعالى قد جعل جزاء القاتل القتل، وجزاء الزاني الرجم، ونعلم أن القتل أشد من الزنا، فما الحكمة من أن القاتل يقتل بالسيف دون أن يعذب، والزاني يرجم حتى يموت، وفي ذلك أشد التعذيب له وقتل في آن واحد، أرجو من فضيلتكم توضيح هذا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
القاتل يقتل، هل يقتل بالطريقة التي قَتل بها، أو يقتل بالسيف خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول يقتل كما قَتل، إن قتل بالسيف يقتل بالسيف، وإن قَتل بالحجارة قُتل بالحجارة، كما ورد في الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بين حجرين} لأنها رضت رأس جارية، وهذه ناحية ينبغي أن يفهمها السائل.
أما بالنسبة للزاني وأنه يرجم فذلك لأن كل جزء من جسد هذا الزاني خاصة المحصن قد تلذذ بهذه المعصية، وكل موضع من البدن قد ثار وتفجر أثناء الشهوة، فكانت العقوبة أن ينال التعذيب كل موضع من البدن وهذا مجرد التماس.
لكن فيه أمر أكبر من هذا وأعظم وهو الأصل أن نقول: إن القضية مرتبطة بالدين أصلاً، ولذلك العلماء يقولون الكفارات وغيرها ليس فيها قياس، ولا تضرب لها الأمثال، إذا أنت مقتنع بأن الله هو الإله الذي يعبد ويشرع، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يبلغ، وأنا وأنت نتلقى مادام اقتنعنا بالله تعالى وآمنا به وبأسمائه وصفاته واقتنعنا بالرسول صلى الله عليه وسلم وأنه صادق فيما بلغ، ما عندنا مجال، حتى لو جاء الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف ما نتوقع، ليس بغريب، لأن عقلي وعقلك قد يكون قاصراً في كثير من المجالات، وهذه قضية ينبغي أن يتربى عليها كل إنسان.(111/29)
حسن الصوت في الإمامة بالناس
السؤال يقول: أنا شاب ملتزم والحمد لله الجماعة يقدموني للصلاة بهم أحياناً لحسن صوتي، مع العلم بأني أقرؤهم لكتاب الله، فأتقدم وأحسن من صوتي لعلمي السابق بذلك، وأخشى من الرياء والإعجاب؟
الجواب
لا، ليس في ذلك رياءً ولا إعجاب، لكن استعذ بالله من الشيطان الرجيم إن عرض لك الشيطان، وقل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه.(111/30)
الاستسماح للغيبة
السؤال
أنا شاب متمسك بدين الله والحمد لله إذا كان على إثم قبل التمسك بدين الله مثل الغيبة والنميمة، فهل عليَّ أن أذهب لمن أخطأت في حقه وأطلب منهم السماح؟
الجواب
إن كان هؤلاء الناس من ذوي الأريحية والنفوس القوية، فاستأذن منهم واستسمحهم، وإن كنت تخشى أن يقع في نفوسهم شيئ ويحقدون عليك ويكرهونك فلا تخبرهم، ولكن أكثر من الاستغفار لهم وأمدحهم بما تعلم فيهم من الفضائل.(111/31)
مباشرة الحائض
السؤال
ما حكم مباشرة الحائض فيما دون الفرج والإنزال من جراء ذلك؟
الجواب
لا بأس في ذلك، الصحيح أنه جائز بالقبلة والضم وغير ذلك من أنواع المباشرة في غير الفرج لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اصنعوا كل شيء إلا النكاح} وفي المسألة أقوال أخرى.(111/32)
إعادة أمانة لورثة متوفٍ
السؤال
يوجد لدي ثلاث أشرطة غنائية لشخص قد توفي، وقمت بمسح الغناء بمحاضرات دينية وتبرعت بقيمة الأشرطة لصالح المتوفي، فهل هذا يكفي؟ أم أن أعيد قيمتها لورثة المتوفى؟
الجواب
لابد أن تعيد قيمة الشريط فارغاً لورثة المتوفى، لا ترده بما فيه من أغانٍ، جزاك الله خيراً، إذا أعدته وفيه المحاضرات طيب، لكن إذا كنت تريد أن تقول: أنا لا أريد أن أدفع إلا ما علي، نقول لك: كم قيمة الشريط فارغاً؟ ريال، إذاً ادفع لهم ثلاثة ريالات.(111/33)
التسمية بكريّم
السؤال
هل يجوز تسمية كريّم.
أم لا، أفيدوني؟
الجواب
يجوز تسمية الولد كريم، أما إذا كان اسمه عبد الكريم ويسمى كريّم تصغيراً له فلا أرى هذا، أرى أن لا يفعل.(111/34)
صلاة الاستخارة
السؤال
كيفية صلاة الاستخارة، وما هو الدعاء المأثور في ذلك؟
الجواب
ركعة الاستخارة إذا هَمَّ الإنسان بأمر وتردد لا يعرف وجه الصواب فيه؛ يركع ركعتين من غير الفريضة في أي وقت فإن كان وقت نهي أجلهما إلا إن كانت الاستخارة تفوت، فيصلي ولو كان في وقت نهي فيصلي ويقول -إما في السجود أو قبل السلام- ثم يقول: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن في هذا الأمر -ويسمي الأمر- خير لي في ديني، ودنياي، وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(111/35)
ترك حفظ القرآن خشية نسيانه
السؤال
ما رأيك فيمن يقول: إنا لا أريد أن أحفظ القرآن خشية أن ينالني الوعيد الشديد إذا نسيته؟
الجواب
الحديث الوارد: {عرضت على ذنوب أمتي فلم أجد أعظم ذنباً من رجل حفظ آية من كتاب الله ثم نسيها} ذكر بعض أهل العلم أنه ضعيف وعلى رأسهم سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله باز، فلا يحتج بالحديث، ولذلك الذي يترك حفظ القرآن خشية نسيانه هذا مخطئ، لكن احفظ القرآن واعمل على أن لا تنساه، فإذا نسيته مع اجتهادك فأنت إن شاء الله مأجور ولا إثم عليك.(111/36)
التكرار في الحفظ
السؤال
ما هي الطريقة المثلى لحفظ القرآن؟ وقد حاولت عدة مرات ولكني عجزت؟
الجواب
لابد من التكرار، وأذكر أن الإمام أبا إسحاق الشيرازي -وهو من أحد فقهاء الشافعية وأصولهم ومقدمتهم يقول: إنه إذا أراد أن يلقي الدرس على تلاميذه يقرأه مائة مرة، فلابد من التكرار، وأعرف ناساً عندهم بطء في فهمهم لكن مع كثرة التكرار يتعودون.(111/37)
التفسير المنصوح به
السؤال
ما هو أسهل وأشمل تفسير توصي به من عزم على قراءة تفسير كتاب الله؟
الجواب
أولاً: أوصي من عزم على قراءة كتاب الله أن يقرأ في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم لكتاب الله تعالى، وأتمنى من قلبي أن يوفق أحد طلبة العلم ليجمع كل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من التفسير بقوله أو بفعله في كتاب يكون بين أيدي الناس، وأرجو الله أن يوفق بعض طلبة العلم المهتمين والمختصين لذلك فحاجة الناس ماسة لهذا خاصة في هذا العصر، وما دام هذا الكتاب لم يوجد فارجع -مثلاً- إلى كتاب جَمَعَ الأحاديث الواردة في التفسير كما أشرت قبل قليل إلى جامع الأصول، وكذلك ارجع إلى مجمع الزوائد للهيثمي في كتاب التفسير، مع مراعاة استبعاد الضعيف.
ثانياً: أنصح بتفسير ابن كثير أو أحد مختصراته الموثقة، فهو كتاب نافع ومفيد، هناك مختصر لتفسير الشوكاني أختصره الشيخ الأشقر، وأعتقد أن هذا المختصر سيكون نافعاً ومفيداً فأنصح به.(111/38)
نصيحة في الإقبال على القرآن
السؤال
كثير من المسلمين في هذه الأيام ليس لهم من القرآن نصيب إلا ما شاء الله، فيمر على أحدهم اليوم والشهر والسنة لا يفتح المصحف، فضلاً عمن يختم ويقرأ ويتدبر كتاب ربه، مما كان ذلك سبباً في انحرافهم ووقوعهم في المحاذير لقلة زادهم من هذا الكتاب العظيم، فهل من كلمة تحث بها في هذا الشأن؟ وتبين لهم في أي شيء فرطوا؟
الجواب
هذا ليس سؤالاً بل هو نصيحة سمعتموها على لسان هذا الأخ الكريم، وهي نصيحة لي وللسائل ولكم أجميعين؛ ألا نكفر هذه النعمة التي رزقنا الله عز وجل إياها فقد سمعتم عقوبه كفران هذه النعمة، والخاسر من خسر تدبر القرآن، الآن يا إخواني كبار العلماء في آخر حياتهم لا يتأسفون على شيء مثل تأسفهم على أنهم ما صرفوا وقتهم للقرآن كله أو جله، فهذا ابن تيمية رضي الله عنه كان كل وقته جهاد وعلم وعمل -وهذا معروف- ولكن في آخر عمره تمنى لو كان قضاء جل وقته مع القرآن، وغيره كثير.(111/39)
المحافظة على حفظ القرآن
السؤال
أنا حفظ دائماً أجزاء من القرآن ولكنها تتفلت مني، فماذا تنصحني به لإنني لا أستطيع أن أحفظ القرآن؟
الجواب
هناك قواعد كثيرة لحفظ القرآن، أذكر أن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق كتب قواعد في كتيب صغير مفيد يمكن مراجعته، أما من يتفلت منه القرآن، فأنصحه بكثرة المراجعة، لإنها من أهم أسباب حفظ القرآن، كذلك ضبط الحفظ أي لا تنتقل من موضع حتى تضبط حفظاً هذا الموضع، خاصة والآيات المتشابهة، تضبطها لئلا تلتبس عليك وتتقنها بدقة وتعطيها عناية خاصة، كذلك عود نفسك أن تقرأ القرآن في كل حال، عبد الصلاة في الفرض وفي النفل وأنت ذاهب وآيب؛ تقرأ بعض ما حفظت حتى لا تقوت عليك.(111/40)
التعريف ببعض التفاسير المعاصرة
السؤال
أرجو التعريف بالتفاسير التالية: في ظلال القرآن، تفسير المنار، صفوة الآثار والتفاسير والمفاهيم؟
الجواب
التفاسير كثيرة جداً، قديماً وحديثاً، وأذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية له رسالة مفيدة في التفسير عنوانها (مقدمة في أصول التفسير) أنصحكم بالرجوع إليها، فإنه من خلال هذه المقدمة عمل تقييماً -كما يقال موجزاً- لبعض الكتب المشهورة كالكشاف، وتفسير ابن عطية، وتفسير الطبري، وتفسير البغوي، وتفسير الثعالبي، وغيرها من التفاسير، تكلم عنها وإن كانت كلمات مختصرة، لكن كلام ابن تيمية رحمة الله عليه ثمين ونفيس.
أما بالنسبة لكتاب في ظلال القرآن فإنه تفسير معاصر للأستاذ سيد قطب رحمه الله، والكتاب فيه فوائد عظيمة جداً ومزايا، من أبرزها وأعظمها أسلوبه الفذ؛ فإن الرجل أديب بارع، ذو أسلوب قوي أخاذ، ولذلك تجد في كتابه من القوة والبلاغة والجودة والتأثير ما لا تجده في كثير من الكتب الأخرى.
الميزة الثانية أن الرجل كتب تفسيره ليس فقط بعقله، ولكن بعقله وقلبه، بعاطفة حية، فأنت تشعر وأنت تقرأ هذا الكتاب أن الرجل يتكلم بصدق، هذا الذي نحسبه والله تعالى حسيبه ولا نزكي على الله أحداً، تحس بأنه يكتب بقلبه وبعواطفه، وفعلاً له وقفات مع بعض الآيات يطول العجب منها، ارجع إلى تفسير قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] تجد العجب العجاب، ارجع إلى تفسير قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] تجد العجب في مواضع كثيرة.
الميزة الثالثة: أن الرجل قتل، ونرجو أن يكون شهيداً في سبيل الله تعالى، فزكى ما كتب بدمه، وهو الذي كان يقول: إن كلماتنا وأفكارنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء انتعشت وعاشت بين الأحياء، وفي لفظ يقول: إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها أصبحت حية وعاشت بين الأحياء هذه مميزات الكتاب.
وعلى الكتاب بعض المآخذ، لعل أهم مأخذ أنبه إليه أنه فيما يتعلق بالتصور الاعتقادي، الجوانب الاعتقادية التفصيلية في أسماء الله وصفاته وأمور الآخرة، ولا ينبغي أن تؤخذ من هذا الكتاب، بل تؤخذ من المصادر المعتمدة، أولاً كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتفسير الطبري وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، كذلك تفسير ابن كثير فهو من أهل السنة الجماعة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهم، وفي الكتاب ثغرات أخرى لا أرى داعي الإطالة فيها.
أما تفسير المنار فهو للشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا، وهو تفسير عصري، فيه فوائد اجتماعية في سنن الله عز وجل في الكون والمجتمع، وربط الإسلام بواقع الناس اليوم، ومكتشفات حديثة، والكلام عن بعض القضايا، وفيها نظرات ولمحات عقلية نافعة ونفيسة، ولكن فيه أشياء كثيرة جداً ينبغي الحذر منها، منها أنهم يغلبون النزعة العقلية في فهم كتاب الله تعالى، ولذلك جاءوا بآراء قد تكون غريبة فيها مخالفة لما عليه الجماعة، فينبغي الانتباه منه، فلا أرى أن يقرأ في تفسير المنار إلا إنسان متمكن.
أما صفوة الآثار فهو للشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله ورحمنا وإياهم أجمعين، وقد صدرت منه أجزاء، وهو كتاب طيب نافع وجامع، ومؤلفة قد تعب فيه وكان رحمه الله كثيراً ما يشيد به، ويعد بإخراجه، حتى إنه مرة سئل عن كتاب في ظلال القرآن فقال: إنه هو الكتاب المناسب لهذا العصر، ولا أعلم كتاباً أفضل منه إلا كتابي (صفوة الآثار والمفاهيم) إذا كتب الله له الإتمام.
وأنا أنصح بقراءة هذا الكتاب، فهو كتاب نافع ويعالج بعض المشكلات المعاصرة أيضاً.(111/41)
الوسائل المعينة على تدبر القرآن
السؤال
ما هي الوسائل المعينة على تدبر القرآن والبكاء من خشية الله تعالى؟
الجواب
أن يرزق الإنسان قلباً ليناً، فهذه نعمة كبرى من الله تعالى، وأن يكون عند الإنسان عاطفة حية فهذه نعمة أخرى، والدعاء -أيضاً- من أسباب لين القلب لأنه يحقق للعبد الانكسار، وكأن العبد لا يدخل على الله تعالى من باب أوسع من باب الدعاء: الصادق ولذلك قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] والنعمان بن بشير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح عند الترمذي وغيره أنه قال: {الدعاء هو العبادة} .
كذلك التغني بالقرآن الكريم أي ترقيق الصوت وتحسينه بالقرآن وضبط القرآن وفهم معانيه، والوقوف عند آياته، فقد كان بعض الصحابة يقف عن آية يرددها حتى الصباح ثم يمرض فيجلس في بيته أياماً يزار.(111/42)
لماذا يخافون من الإسلام
الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين الإسلام والكفر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حقيقته وأهدافه وكيفية خوض هذه المعركة، هذه أشياء قد تكون مهملة أو منسية في بعض مراحل التاريخ لأسباب كثيرة.
وفي هذا الدرس المبارك يرحل بنا الشيخ سلمان العودة حفظه الله في آفاق جديدة في جوانب هذا الموضوع.(112/1)
وقفة مع سورة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أنزل عليه ربه عز وجل.
وبعد:- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:1-8] .(112/2)
وهذا البلد الأمين
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:1-2] الإشارة إلى هذا البلد الذي فيه تقطنون، وإليه يحن المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، قصبة الإسلام، وعاصمة التوحيد، ومهبط الوحي، ومنطلق الرسالة.
وطأت أرضها أقدام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشهدت تربتها البداية الأولى لدعوة الإسلام العظيمة، التي اكتسحت البلاد كلها شرقاً وغربا.
فيقسم الله تبارك وتعالى بها، ويسميها البلد الأمين، كما سماها أم القرى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:7] ومن حولها كل بلاد الإسلام، قرى تحن إلى هذه القصبة العظيمة والعاصمة الكريمة قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96-97] .
بلادي كل أرضٍ ضجَّ فيها نداء الحق صداحاً مغنى ودوي ثمَّ بالسبع المثاني شباب كان للإسلام حصنا تمنيت الحجاز أكون فيه فأعطى الله قلبي ما تمنى سقى الله الحجاز وساكنيه وأمطر كل ساقية ومغنى أخي إن زرت بيت الله تبغي رضاً أو تشتكي هماً وحزنا ففي تلك الرحاب عظيم أنسٍ لناءٍ إن دعاه الشوق حنا لطيبة يأرز الإيمان حباً ويشتاق لها القلب المعنى لحى الله اليهود فما أقاموا لعهد الله في المحراب وزنا ترى القدس الحزين لنا ينادي وما من سامعٍ قد هب منا ينادي المغرب المقدام مصراً ويدعو القدس لبنان المعنى ويهوى القلب شهباء المعالي وفي بغداد للإسلام معنى إذا كابول آذتها جراح ففي صنعاء إخوان المثنى ثم يقول الله عز وجل: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:5-6] وهذه الآية ذات علاقة وثيقة بموضوع الحديث إليكم هذه الليلة، فإن الله تعالى حكم على الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم، بأنه يرد إلى أسفل سافلين، انحرافاً وظلالاً وضياعاً وتيهاً، ويستثنى من ذلك طائفة قليلة هم الذين آمنوا، قال الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف:179] .
وفي صحيح مسلم: {يقول الله: يا آدم أخرج بعث النار.
قال: يا ربي وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحدٌُ إلى الجنة} والعادة على جاري اللغة ومقتضى الفصاحة والبلاغة والبيان، أن المستثنى يكون أقل من المستثنى منه، فأنت تقول مثلاً: عندي لك عشرة إلا واحد، لكن ما تقل عندي لك عشرة إلا تسعة، وهكذا قوله -تعالى- هنا: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:5] هو دليل على إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قليل: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] أما البقية فرُدوا إلى أسفل سافلين.(112/3)
حقيقة العداء بين الغرب والمسلمين
لماذا يكرهون الإسلام؟ في هذا الموضوع عدة عناوين: أولها: هل الغرب علماني؟ وهل الغرب يؤمن بدين العلمانية؟ لقد ظن الكثيرون حتى من الأخيار أحياناً أن الغرب قد أصبح علمانياً، لا فرق عنده بين المسجد والكنيسة، ولا بين المصحف والإنجيل، وإنما همه قطرة النفط التي يصر على استمرار وصولها إليه، حسب رغبته وحسب مواصفاته.
فهل الغرب نفسه يقبل مثل هذا التصور أو يقره، أو يوافق عليه، سواءً من الناحية العملية أو من الناحية النظرية؟ هذا سؤال؟ وإليك الجواب.(112/4)
حقيقة الغرب الدينية من الناحية العملية
أما من الناحية العملية، فإنني قد أعددت كلاماً لأقوله لكم عن البوسنة والهرسك، وبينما نحن في الطريق إذا بنا نسمع إذاعة لندن، وإذا بها تقول كلاماً يوجع القلب، ويستخرج الدموع بالقوة من الأعين، حتى القلوب الصلدة القاسية، لا بد أن تهتز وتضطرب.
يقول: إن الصرب الآن يحاصرون إحدى المدن الشرقية وذكرها، التي غالبية سكانها من المسلمين، وفر إليها سكان مدنٍ أخرى سوَّاها الصرب بالأرض، بدباباتهم ومدافعهم وطائراتهم؛ ففر السكان إلى تلك المدينة، وإذا بهم يفرون من معاناةٍ إلى معانة أخرى أشد منها.
ويقول: إن السكان الآن بلا طعام، ولا شراب، ولا مؤن، ولا أغذية، ولا أدوية، وإنهم يواجهون خطر الفناء التام، بعدما فر الكثير منهم، وبقي نحو مائة ألف في هذه المدينة، حتى إن الأطباء يجرون عمليات البتر للأعضاء، الأيدي والأرجل وغيرها، دون أن يستخدموا المخدرات أو المهدئات أو غير ذلك؛ لأنهم لا يجدونها، فيبترون ساق الإنسان أو يده للحاجة وهو ينظر ويتألم ويحزن.
!! ويقول: إن الصرب يضربونها الآن بشراسة، براجمات الصواريخ، والمدافع، والدبابات والرشاشات وغيرها، وإذا سقطت هذه المدينة كان الطريق أمامهم مفتوحاً تماماً إلى سراييفو، أي أن تتوجه كل قوات الصرب إلى العاصمة التي هي القلعة الأخيرة في هذه الدولة.
وأيضاً سمعنا خبراً آخر، يقول: إن فرنسا قد أجلت إرسال الطائرات المروحية والجنود الذين كانت تنوي أن ترسلهم يوم الأربعاء القادم، لأسبابٍ أمنية، وبناءً على طلب الأمم المتحدة، هنا يبرز دور بطرس غالي، الذي كان من المفروض أن يطلب التدخل أصبح يطلب منهم التريث، حتى يتمكن الصرب من اقتحام سراييفو وحشد كل قواتهم حولها.
الحروب كثيرة والاحتكاكات كثيرة، سواءً في الدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي، أو في البوسنة والهرسك والهجمات الصربية عليها كما ذكرت، وفي كل يومٍ منذ أربعة أشهر خبر تتقطع له القلوب أسى، فهذا راديو سراييفو يعلن أن جثث القتلى في الشوارع لا تجد من ينتشلها، ولا من يؤوي الفارين والمشردين، ويكفي الناس شر الجراثيم المتصاعدة منها، والروائح المنتنة.
وأخبار أخرى تقول: إن مدينة سراييفوا قد هدمت بالكامل، وإنه لا يوجد ولا حتى مبنىً واحد سلم من القصف المدفعي المتواصل.
وأخبار عن مدن على الحدود الشرقية بمحاذاة صربيا، على امتداد ما يزيد على ثلاثمائة كيلومتر قد دمرت بأكملها، وأبيد شعبها في مجازر وحشية تقشعر لهولها الأبدان، وأخبار عن احتلال مبنى التلفزيون، وقطع الاتصالات، ومنع الضحايا من أن ينقلوا إلى المستشفيات.
وأخبار عن إحاطة الصرب بسكان بعض المدن، وحصد أهلها بالرصاص في إحدى الساحات العامة، وأخبار عن كبار السن الذين لم يستطيعوا الهرب، يقولون: إنهم لم يعانوا خلال السنوات الأربع التي شاهدوها في الحرب العالمية الثانية، شيئاً يذكر، بالقياس إلى ما عانوه في هذه الثلاثة الأشهر الماضية.
وأخبار عن مدينة ذوبوي، وغالبية سكانها من المسلمين؛ أن الصرب يهددونها بالتسليم، وعندما رفضت انهالت عليهم الحمم من كل جانب، ثم قتل من قتل تحت الأنقاض، ومن هرب منهم سقط به الجسر الذي قصفه الصرب، حينما كان المسلمون يعبرون عليه، أما النازحون من المسلمين، فتقدرهم بعض الإحصائيات بأكثر من مليون ونصف.
والخطورة هنا تكمن في أن تغييراً كبيراً يحدث في التركيبة السكانية للمناطق، وهذا نائب رئيس وزراء البوسنة يصرح في تركيا؛ أن الصرب يقتلون المسلمين بالهوية ويلعبون برءوسهم كرة القدم.
لا تظنوا هذه مبالغات، لقد أحضر مجموعةً من الإخوة الذين ذهبوا إلى هناك، عشرات الأشرطة والصور، التي تؤكد أن ما يقال هو بعض الحقيقة وليس كلها، وقمة المأساة عندما فجر الصرب مكاناً يكتظ بأعدادٍ كبيرةٍ من المسلمين، كانوا ينتظرون دورهم لشراء الخبز، فأحالتهم قنابل الصرب إلى كتلةٍ من الدماء والأشلاء.
كل ذلك يجري على أنغام الموسيقى، والأناشيد الكنسية التي تحث الشباب الصربيين المنتسبين إلى صربيا الكبرى حماة المسيحية، على أن يحتفلوا ويرقصوا على أجساد الكفار، أي المسلمين، نشيدهم المفضل يقول: أنا أشرب دم التركي أولاً، فمن يشربه ثانياً.
وأما النشيد الثاني فيقول: وهي كلمة للزعيم الصربي يتناقلونها، وقد أصبحت نشيداً لهم: مستعدون أن نخسر ثلاثمائة ألف جندي؛ لإبادة الإسلام من سراييفو إلى مكة.
هذه هي المأساة، فماذا كان موقف الغرب؟ كان موقفهم عبارة تعاطف كلامي: يجب على الصرب أن يكفوا وإلا! يجب عليهم أن يحترموا القرارات الدولية! تهديد بالمقاطعة! حتى كادوا أن يقاطعوا صربيا رياضياً فيمنعوا فريقها من دخول المباراة، الله أكبر!! ويقولون -عندما تدخلوا فعلاً من أجل الإغاثة والإمدادات والمعونات الإنسانية، ثم صارت الحرب- قالوا: إذا لم تتوقف الحرب فسوف ننسحب!! ثم يقولون: لقد اكتشفنا أن كلا الفريقين يمتلكون الأسلحة.
والواقع أن المسلمين مساكين، في بلادهم في سراييفو العاصمة نفسها، ومع ذلك يستكثر عليهم أن يملكوا السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم، وهو سلاح بسيط وقليل، يشترى بالقرش والريال الذي يدفع من جيوبكم، أما الأسلحة الحقيقية فيمتلكها الجيش اليوغسلافي، وذهب غالبيتها إلى الصرب.
هذا تعاطف كلامي من الغرب، ومساعدات إنسانية محدودة، بعد ثلاثة أشهر كان المسلمون خلالها يعيشون في السراديب، تحت وابلٍ من القصف المتواصل، وهذه المساعدات، وهذا التعاطف الكلامي تراجعت عنه أوروبا، والتفت عليه حينما طالبت المسلمين في البوسنة والهرسك بإنشاء ثلاثة كانتونات، أي ثلاثة أجهزة أو ثلاث جهات.
للصرب كانتون خاص بهم أشبه ما يكون بالحكم الذاتي، لأنهم يمثلون (30%) من الجمهورية، وللكروات كانتون خاص بهم وهم يمثلون (18%) ، وللمسلمين وهم يمثلون نحو (44%) كانتون خاصٌ بهم.
إذاً طالبوا بوجود جمهوريات داخل الجمهورية الكبرى، واحدة للصرب وواحدة للكروات وواحدة للمسلمين، لكن أوروبا والغرب لم يطالب صربيا بذلك، مع أننا نعلم -مثلاً- أن مدينة كوسوفو الواقعة تحت حكم الصرب، فيها مليونا مسلم؟! مليونان لم يطالبوا لهم بالحكم الذاتي، وإن السنجق نصف مليون مسلم لم يطالب لهم بالحكم الذاتي.
إذاً: القضية حرب صليبية، الغرب إن لم يكن مؤيداً لها، فإنه ليس معارضاً لها، وهناك معلومات تسربت على أن رجال الأمم المتحدة يساعدون الجنود الصرب على نقل السلاح، ونحن نعلم يقيناً أن المسلمين لو كانوا نصارى؛ لكان للغرب موقف آخر، كما نعلم يقيناً أن المسلمين الذي يعيشون تحت الحصار الشديد الآن، في جبال الأكراد، أو في شمال العراق أو في جنوبه أو في وسطه، أنهم لو كانوا من النصارى لكان للغرب موقف آخر.
ولما رضي أن يعيش (18) مليوناً تحت آلام الفقر والجوع والحرمان؛ حتى أصبحت علبة البيبسى كولا -إن وجدت- تباع بما يزيد على مائة ريال، وأصبحت الدجاجة -إن وجدت أيضاً، ولا يجدها إلا الخاصة وكبار الأثرياء- تباع بما يعادل خمسمائة ريال، وأصبحت المرأة حتى الفتاة الحصينة العفيفة مضطرة أن تتاجر بعرضها، وانتشرت تجارة البغاء والرذيلة، لأنها تبحث عن اللقمة التي تسد جوعتها، وأصبح الإنسان الشريف مضطراً إلى أن يقفز في الليل على أحد البيوت؛ حتى يسرق منه طعاماً يأكله من الجوع.
بل وصل الحال إلى أن البعض يقتل أولاده -وحصل هذا فعلاً في العراق- لماذا؟! قال: لم أجد شيئاً أطعمهم إياه، لا أريد أن أراهم يتضورون أمامي جوعاً ثم يموتون.
فلو كان هذا الشعب نصرانياً، لتنادت أمم النصارى من المشرق والمغرب لرفع هذا الظلم الواقع عليه، وكانت تستطيع أن تنتقم من طاغية بغداد بغير هذا الأسلوب.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فماتت فدخلت بها النار} فما بالك بشعبٍ بأكمله يموت جوعاً وعطشاً، حتى إن الإحصائيات تقول: عدد الموتى يزيد على مائة وخمسين ألفاً خلال الشهور الماضية، وغالبيتهم من الأطفال.
المهم أن الغرب ينطلق من منطلق صليبي حاقد نظرياً وعملياً.(112/5)
حقيقة الغرب الدينية من الناحية النظرية
أما من الناحية النظرية، فإنني أترك الجواب لطاغية من طغاة الغرب، وكبيرٍ من أكابرهم كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام:123] .
ذلكم هو رئيس النظام الدولي الجديد، ورئيس الولايات المتحدة الذي ألقى خطاباً قبل أيام هو في غاية الدهشة، وأنا أقرأ عليكم الآن أحرفاً يسيرة من هذا الخطاب، لتكتشفوا أن أكبر متحدث باسم النظام الدولي الجديد، الذي يريد أن يفرض هيمنته على العالم، يتحدث من منطلق ديني بحت، فهو يقول بالحرف الواحد: إنه لولا الإيمان وحرية العقيدة في أمريكا لما قامت هذه الدولة العظمى، ولا فتحت ذراعيها لكل المضطهدين في أوروبا وفي العالم، فمنذ أن اكتشف كولمبس أمريكا سنة (1492م) ، وكل موجوع القلب والعقل والمعدة، يحزم متاعه ويتجه إلى أرض الخير الوفير، والثروات الهائلة، والتسامح الديني.
ثم يقول: يستحيل أن يكون الإنسان رئيساً لأمريكا دون أن يكون مؤمناً.
قال: إنها قدسية الحياة والعمل، وإنها الشجاعة الأمينة في قول الحق وشجب الخطأ، والإيمان بالأسرة، وهي القوة الحقيقية لأمريكا، إنها حرية التفكير والخيال والإبداع والعبادة، إن بلادنا في هذا القرن اشتركت في خمسة حروب، في أماكن مختلفة في العالم؛ دفاعاً عن الحق ورفعاً للظلم عن المظلومين -هكذا يقول- ثم أشار إلى انتصار الحرية في حرب الخليج، ثم ذكر: إن الذين حرَّموا الدين على مئات الملايين في الاتحاد السوفيتي قد أعادوه مرةً أخرى، ففتحوا المعابد للصلاة والتوجه إلى الله، إن هذا انتصارٌ للإيمان، وإنها لضرورةُ حيوية، وإن كل إنسان حر في أن يعبد الله -والكلام له- على طريقته دون أن يتدخل أحد بينه وبين الله.
ثم قال: إن الشاعر الأمريكي أوتيمان عندما كان يتحدث وسئل عن سر عظمة أمريكا، فقال: إيمانها بالله.
ثم يقول: إن الإحصائيات الرسمية المؤكدة تقول: أن (90%) من الشعب الأمريكي يؤدون الصلاة في أوقاتها.
والرجل يتكلم من خلال إحصائيات، (90%) من الشعب الأمريكي يؤدون الصلاة في أوقاتها، (90%) يتعبدون ويذهبون إلى الكنائس، والمعابد والمساجد إلى آخر الكلام.
هذا الكلام تجاهلته الصحف العربية، بل وبعض الصحف الغربية، ونشر على استحياء في مجلة اليقظة العدد [1208] في شوال من عام ألف (1412هـ) بعنوان: لولا الإيمان بالله ما كانت هذه العظمة.
دعونا من كل التعليقات على مثل هذا الكلام، فالرجل نحن نعلم أنه نصراني، وأنه قبل أن يخوض أي حرب من الحروب الخمس التي تحدث عنها، كان يذهب إلى الكنيسة، ويصلي من أجل الغرب ومن أجل أمريكا ومن أجل المصالح، ولكنه لم يخجل أن يتكلم بهذا الكلام الواضح البين، وأن يفخر بأن الشعب الأمريكي يؤدي الصلوات في أوقاتها.
قد يقول البعض: إن هذه مناورة انتخابية وهو يستعد الآن لخوض المعركة الانتخابية.
وأقول: لنفترض أن هذا الكلام صحيح، فكون الرجل يتكلم عن الدين، ويمدح الشعب الأمريكي بأنه متدين، أليس دليلاً فعلاً على أن العاطفة الدينية عاطفة قوية هناك، وأنه هو الذي قد ينجح في مخاطبتها، وأن الرئيس نفسه يتودد إلى شعبه من خلال الثناء عليه، والإطراء لتدينه ومحافظته؟ بلى.
هذا من الناحية النظرية.(112/6)
حقيقة الغرب في القرآن الكريم
النقطة الثانية: تعليم القرآن.
لسنا بحاجةٍ إلى أن نثبت هذا من خلال الأدلة والوثائق، ومن خلال كلام فلانٍ أو علان، لأن القرآن الكريم قد وضع قواعد واضحة في هذا المجال، ويكفي أن أذكر بعض النصوص، والمسلم لا يقرأ القرآن من أجل التبرك فحسب، ولا من أجل الحصول على الأجر والمثوبة أيضاً فحسب، ولكنه يقرأ القرآن ليتعلم منه ما يجب أن يكون عليه اعتقاداً وقولاً وعملا.
يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ويقول سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ويقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] وقس ما خفي على ما ظهر.
ويقول جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ويقول: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ويقول سبحانه: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:119-120] .
هذا هو القرآن هذا هو الحق: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] يقرر لك عقيدة هؤلاء النصارى والمشركين واليهود بالنسبة للمسلم، وتصورهم عنه، وطموحهم في شأنه، وتمنياتهم حوله.(112/7)
القضية الثالثة: حربٌ أم سلام
كثير من الفقهاء والكتاب يبحثون، هل الأصل في علاقتنا بالكفار الحرب أم السلام؟ هل يمكن أن تسود العلاقات الودية بين المسلمين وبين الكفار؟ بعض الفقهاء المعاصرين يميلون إلى الليونة في مثل هذا الكلام، مثل ما كتب الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله وغفر له، والدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ حسين خالد، والدكتور وهبة الزحيلي وغيرهم كثير.(112/8)
قضية واضحة
وأنا أرى أن أمامنا الآن قضية واضحة جداً، ليس المهم الآن هو الافتراض المثالي، المهم هو الواقع المشهود المستمر، وأعطيك مثالاً: لو عرض الإسلام بتجرد ووضوح ونقاء، وفصاحة وبلاغة، وأسلوبٍ ناجح وناضج وقوي للعالم كله، أليس من المتوقع أن يسلم أكثر الناس؟ بلى.
ولا تعني هذه الفرضية أنهم أصبحوا بمجرد هذا الافتراض مسلمين، فالتاريخ كله تاريخ الحرب مع الكفار، والواقع اليوم وأمس هو واقع التوتر الدائم الذي يتوجس فيه كل من الآخر، والقضية لا تعدو أن تكون -في الغالب- نوعاً من المخادعة أو كسب الوقت -كما يقال- في نظر الطرف الآخر.
فإذا قال بعض الغربيين مثلاً: موقفنا من الإسلام موقف تسامح، فهو يقصد بذلك كسب الوقت.
وإذا قال بعض المسلمين -في الغالب-: إن الإسلام لا يبغض الغرب ولا يكرهه، وإنما يسالمه ويهادنه، فالواقع أنهم يعرفون في قرارات أنفسهم أن الإسلام له موقف آخر لو كان يملك القوة التي يواجه بها الغرب، والله عز وجل يقول: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فالكفر قرين الظلم، ويقول سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] .
فطبيعة الكافر في الأعم الأغلب أنه فاسد التصور، مختل التفكير، ومنحرف العقل، وهامد الإحساس والقلب، فتصوراته ومشاعره غير سوية، وقد يحتج بعض الإخوة بحالات، فيتحدث عن مسلمين يسلمون في أمريكا أو بريطانيا أو غيرها هنا وهناك، خاصةً من النساء في الغالب، وهذه تظل حالات محدودة، وأعتقد أنه من البعيد جداً تصور أن تتحول تلك الدول إلى دول إسلامية والله تعالى أعلم.
وحينما تحس تلك الدول بأن الدعوة الإسلامية خطرٌ عليها؛ فسوف يضعون العراقيل والقيود في طريقها، وسيحاربونها علانيةً وبدون مواربة، وسيتخلون عن الديمقراطية والمؤسسات الليبرالية، كما يحارب المشرق والمغرب العربي الإسلام علانية.(112/9)
الديمقراطية الهشة
إن دعاوى الديمقراطية هشة، لا يكمن أن تقاوم الإحساس بالخطر من الإسلام في الغرب، كما يحتج البعض -أحياناً- بأشخاص من المستشرقين أو غيرهم الذين قد يكون لديهم نوعٌ من الأنصاف والاعتدال في كتبهم وأطروحاتهم، وأقول: هذا الاعتدال -أحياناً- هو إمعانٌ في الخداع، فهو قد يكون معتدلاً لإقناعنا بأنصاف الحلول.
مثال: أن يأتي مستشرق نعتبره من الغلاة المحاربين المتشددين، فيقول: الإسلام دين الدماء، ودين الحرب، ودين القوة، دين انتشر بالسيف.
فيزعجنا هذا الكلام، فيأتي مستشرقٌ آخر ويتطوع ليظهر بمظهر المعتدل المنصف، ويقول: لا يا أخي، الإسلام دين التسامح، والإسلام دين المرونة، والإسلام دين العقل، والإسلام لم ينتشر بالسيف، والإسلام لا يرضى الحرب -أيضاً-، ولا يخوض الإسلام الحرب إلا مضطراً للدفاع عن نفسه.
فنجد أنفسنا حرجين، فنوافق هذا الإنسان على أن الإسلام لا يؤمن بالحرب إلا دفاعاً عن نفسه، وبذلك نبطل مفهوم الجهاد الشرعي: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] .
وأقول: قد يوجد من بين أفراد العوام في البلاد الغربية؛ من لا يحمل حقداً على الإسلام، ونحن نعرف أنه كان في الجاهلية من التاريخ العربي مشركون، مثل عبد الله بن أريقط الذي كان دليل الهجرة كما في حديث عائشة في صحيح البخاري، وذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى الغار، كان هذا الرجل هادياً خريتاً دليلاً، ولكنه كان مأموناً، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المهمة الصعبة الخطيرة.
وهناك مواقف شخصية لبعض المشركين، كـ النجاشي مثلاً الذي كان ملكاً على الحبشة، قبل أن يسلم ذهب إليه المسلمون وأقاموا عنده، ومدحه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {ملكٌ عادل لا يظلم عنده أحد} كما في حديث أم سلمة وهو في مسند الإمام أحمد وغيره وسنده صحيح.
لكن تظل هذه النسبة قليلة جداً ومحدودة جداً، والعبرة أيها الإخوة بالقيادات الكبرى، الرؤوس السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، والقيادات في كل مجتمع، التي تسير هذه المجتمعات، وتؤثر في سلوكها، وفي نظرتها وفي تفكيرها، وفي عواطفها، هذه القيادات في بلاد الغرب واعية ومدركة، وغير متجاهلة للعداوة الدينية بينها وبين المسلمين، وهي تستثير مشاعر الجماهير عند الحاجة، كما كان يعمل بطرس في الحروب الصليبية، لقد مسح أجزاء من أوروبا على حماره، وكان يدعو الناس إلى غزو هذه البلاد التي يقول لهم: إنها تفيض لبناً وعسلا، وتطهير بيت المقدس -كما يزعم- من الكفار، يعني بهم المسلمين.
ولا زال الجميع يحتفظون بذكريات الحروب الصليبية التي قادها هؤلاء، ولقي المسلمون من جرائها أمراً عصيباً، حتى سجلها بعض الشعراء أو سجل جزءاً من المعانات يشبه ما نتحدث عنه اليوم: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيب فحق ضائعٌ وحمىً مباحٌ وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيبُ وكم من مسلمٍ أضحى سليباً ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً على محرابه نُصب الصليبُ دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريقُ المصاحف فيه طيب فقل لذوي الكرامة حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا أما لله والإسلام حقٌ يدافع عنه شبانٌ وشيبُ(112/10)
المسلمون والعرب في العقلية الغربية
كيف ينظر الغرب إلينا؟ المواطن الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي أو الغربي، كيف يتصورني أنا؟ وكيف يتصورك أنت؟ وبشكل عام كيف يتصور العربي والمسلم؟(112/11)
الصورة التي يظهر بها العربي المسلم عند الغرب
كيف يظهر المواطن العربي هناك؟ يظهر كالتالي: أولاً: إنسانٌ جائعٌ للجنس، منهمكٌ في استخدام واستغلال الفتيات المراهقات جنسياً، كل همه أن يشبع غريزته، وتظهر أفلام غربية تصور العربي بهذه الصورة فقط، وأنا أعجب حقيقةً، نحن نعرف عن أولئك الأقوام أنهم كالبهائم، يتسافدون في الطرقات، وفي الحدائق، والسيارات وفي كل مكان، ويرقصون عراةً أحياناً، ويمارسون ألوان الشذوذ الجنسي حتى مع الحيوانات، والجنس الجماعي، والشذوذ.
وما أخبار الإحصائيات المذهلة عن مرض الإيدز إلا مؤشر واحد، يدل على ما وصولوا إليه من إباحية وتحلل، ومع ذلك هم لا يفتئون يذكرون ذلك عن المسلمين، حتى المواطن العادي منهم، تلاحظه في الشارع ينظر إليك، ويعتبر أن كل همك هو الجنس والجنس فقط!! وأذكر أنني سمعت من بعض الشباب العربي المسلم في فرنسا، أن بعض المحطات التلفزيونية الفرنسية تعرض فلماً عن إحدى الدول الخليجية، كل نصف شهر، وتكرر عرض هذا الفيلم حتى لا ينسى الانطباع السيئ عن المواطن العربي والخليجي حينما يظهر بغترته وعقاله، أميراً أو شخصاً عادياً أو ثرياً أو تاجراً أو غير ذلك، بالطائرة وهو ينظر بالمكبر؛ فإذا وجد في الطائر فتاة تعجبه في حسنها وجمالها؛ دعاها وأصبح يمارس معها الجنس في الطائرة، ويسكر، وبعد قليل يصطفون لأداء الصلاة.
إمعاناً في إظهار التناقض لهذا الإنسان، وهم دائماً وأبداً يصورونه بصورة بشعة، تثير التقزز في نفس الطفل والمرأة والكبير والصغير والعامي وغيره.
ثانياً: يصوروننا على أننا ساديون مصاصو دماء، كل همنا القتل وسفك الدماء.
ثالثاً: نحن نطعن من الخلف، وليس لنا عهد ولا ميثاق.
رابعاً: نحن شيوخ البترول والنفط الأثرياء، نملك الجمال والسيارات الفخمة الفارهة، ونهدد الغرب وأمريكا إذا زادوا علينا في قيمة السيارة، أن نستخدم ضدهم سلاح النفط.
هذا تصويرهم للمواطن العربي والمسلم، هذه صورة تاريخية ليست جديدة، لا يستثنى منها حتى سيد البشر، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن نعلم أي عقيدةٍ يحملونها عن الرسول عليه الصلاة والسلام، هم يعتقدون وأستغفر الله عز وجل أنه كاذب فيما أخبر، ومفترٍ على الله عز وجل وأن القرآن من وضعه واختلاقه، ويصورنه في أفلامهم صوراً بشعة أستعظم أن أتحدث عنها.(112/12)
الغرب يعزون أسباب هذه الشخصية لأمور
ومنذ قديمٍ كان الرحالة الغربيون الذين يأتون إلى البلاد العربية والإسلامية ينقلون هذه الصور، فيصورون العرب على أنهم شحاذون، وقراصنة، ولصوص، ومستغلون، يتاجرون بالرقيق والبغاء والرذيلة، الكتب الشعبية عندهم هناك تؤكد هذا المعنى وتعزوه إلى أمرين: الأمر الأول: النفسية والعقلية التي يتكون منها العربي، فمن طبيعته العداء والاستبداد والعنف والقسوة والحدة.
وثانياً: ينسبون هذا ويعزونه إلى القرآن والدين، الذي يحرض العربي على القتل وسفك الدماء، -هكذا يتصورون- ولا يعرفون من هذا الدين إلا ثلاثة أمور: الأول: الرق.
الثاني: السيف والقتل.
الثالث: تعدد الزوجات.
الرسوم والصور، أو ما يسمى بالكاريكاتيرات التي تظهر في صحفهم، كلها تصور العربي دائماً وأبداً بعباءة، وكوفية أوطاقية أو غترة وعقال، وخنجر في الماضي، أو كلاشنكوف في الحاضر، وهو حافي القدمين، ومن وراءه تظهر آبار النفط، وهو يحتضن مالاً أو دولارات أو شيئاً آخر.
وفي حرب 56م صورت إحدى الصحف البريطانية ستة عشر رسماً للعرب، على أنهم معتدون، وسفاكون للدماء، وعاجزون عن زراعة الأرض أو إحيائها أو الاستفادة منها، إضافةً إلى صورة الحريم التي لا تفارق العربي، فهو يجلس على الأرض أحياناً واضعاً ساقاً على الأخرى، وبكرشٍ كبير، وأنفٍ طويل مقوس، وعينان تموران بالجشع، وابتسامة شريرة، ومن خلفه إحدى عشر امرأة، كل واحدةٍ منهن ترفع يدها وتطالب بالطلاق ولكن هيهات! وأيضاً الأفلام وهناك فيلمٌ حاز على واحد من مائة فيلم من أشهر الأفلام، يسمونه: فيلم الشيخ، يصور العربي بالأسلوب الشهواني، حيث يخطف امرأة ويجبرها على أن تحبه وتقع في غرامه بالقوة، كذلك فيلم آخر اسمه: الريشات السبع.
يصور العرب كأوغاد وتجار رقيق، وغدارين ومتعصبين ومتعطشين للدماء.(112/13)
أهم العوامل التي ساهمت في تكوين هذه الصورة عند الغرب
وهناك عوامل كثيرة ساهمت في صياغة هذه الصورة البشعة للمسلم والعربي، في نظر المواطن الغربي العادي، منها الظروف التاريخية، والحروب التي قامت بيننا وبينهم.
ومنها: الدين، وهو من أهم العوامل.
ومنها: التعليم الذي يعلمهم هذه الصورة منذ نعومة أظفارهم.
ومنها: الإعلام، وهو في الكثير الغالب إعلامٌ مستقلٌ غير مرتبط، ويركز على هذه الصورة.
ويؤسفني أن أقول: إن الإعلام حتى مع الدول التي يعتبر معتدلة، وحتى في حالة الحاجة، لا يفتأ يتحدث عن هذه الدول بهذه الصورة، فمثلاً: أثناء حرب الخليج، كان الإعلام الغربي والأمريكي بالذات، يشن حملةً شرسة على هذه البلاد، وينشر من التقارير والصور والأفلام وغير ذلك في أجهزة إعلامه ما تقشعر منه الأبدان، ليس عن العراق، بل عن دول الخليج، ومصر وبلاد الشام وغيرها.
الدول التي لم تقف ضده، بل وقفت معه ضد العراق، وضد عدوان العراق على الكويت.
ومن المؤثرات: السيطرة الصهيونية واليهودية، والكلام في هذا الموضوع يطول.
ولكن ينبغي أن تعرف أن الرجل الأوروبي العادي أو الأمريكي العادي ثقافته محدودة، جداً، دعك من المثقفين والساسة، المواطن العادي ثقافته محدودةً، تقول له: أنا عربي -أحياناً- لو كنت بغير الملابس الخاصة بأهل هذه البلاد، لا يعرفك، ولكن يقول لك: عربي من أي ولاية؟ وربما لا يعرف أصلاً العربي، كلمة عربي أو أنه من دولةٍ معينة، مثلاً سعودي، أو كويتي، أو سوري، أو غير ذلك.
هذا في الغالب ربما لا يعرف إلا مدينته، وحتى داخل مدينته يمكن يعرف الطريق إلى العمل الذي يذهب إليه والذي يرجع منه!! وبعضهم لا يعرف حتى اسم رئيس الدولة عندهم، هذا مؤكد، ليس أمراً مضطرداً، لكنه موجودٌ وبكثرة.
فالمواطن العادي عندهم محدود الثقافة، ويتأثر كثيراً بما يشاهد في التلفاز، فمجرد صورة عربي بهذا الزي العربي -مثلاً- تستطيع أن توجِدَ عنده انطباعاً عميقاً لا ينساه أبداً.
وأود قبل أن أغادر هذه النقطة أن ألفت نظر الإخوة إلى أن هناك كتاباً مفيداً، وهو كتاب علميٌ قويٌ جداً اسمه: صورة العرب في الصحافة البريطانية، وهو رسالة دكتوراه للدكتور حلمي خضر ساري، وهو من طباعة مركز الدراسات العربية، مطبوع ويباع في الأسواق، فيمكن مراجعته لمزيد من الاستيضاح حول هذه النقطة.
المهم أن تدرك أن الغربي ينظر إلى العربي هذه النظرة السيئة السوداوية.(112/14)
تحقيقات وسائل الإعلام الغربية عن الإسلام والأهداف منها
أولاً: التحقيقات التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية عن الإسلام والدراسات، هي موجهة لعدة أهداف: الهدف الأول: الدفاع عن ما يسمى بإسرائيل، فالغرب ينظر إلى إسرائيل على أنها معقل الحضارة الغربية في وسط الأدغال الإسلامية.
ثانياً: من أجل الاحتفاظ بالذكريات الحية المخيفة عن الإسلام، وحضارته، ودوله، وآخرها الدولة العثمانية التي احتلت أجزاءً من أوروبا، ونحن نعرف مثلاً أن البوسنة والهرسك دخلها الإسلام أيام الدولة العثمانية.
وهناك دراسة تحليلية كنموذج واحد فقط، لمضمون ثلاث مطبوعات غربية من أشهر الصحف قبل فترة، وهي: نيويورك تايمز، لوس أنجلوس تايمز، واشنطن بوست، وهي صحفٌ أمريكية، هذه الصحف كلها تتحدث بلهجةٍ مؤيدةٍ لإسرائيل خلال الصراع السابق عام 67م، ونادت بأن على أمريكا ليس أن تؤيد إسرائيل، أو ما يسمى بإسرائيل دبلوماسياً وسياسياً فحسب، بل عليها أن تمدها بالمساعدات العسكرية.
إذاً هم يعتبرون العلاقة بينهم وبين إسرائيل علاقةً تاريخية، وإستراتيجيةً وثيقة، وفي النهاية نجد أن أمريكا مستعدة لخوض الحرب مع إسرائيل جنباً إلى جنب ضد أي تهديد عربي أو إسلامي.(112/15)
شهادة الغرب على نفسه
النقطة الخامسة: هي عبارة عن شهادات.
جاك بيرك، هذا مستشرقٌ فرنسي جاوز الثمانين من عمره، يقول في مقابلةٍ له مع جريدة الحياة: إن الغرب لا يزال يجهل الإسلام جهلاً كلياً، حيث يضع الإسلام في موقع التعارض مع العقل، ويندفع دائماً في معادلات مثل: الإسلام يساوي التعصب، هكذا يقول.
أقول: هل المشكلة لدى الغربي مشكلة الجهل فحسب؟ لا أعتقد ذلك، وأعتقد أن القضية ليست كذلك، وحتى لو افترضنا أن القضية قضية جهل، ف
السؤال
متى سنفلح في إزالة الجهل عن شعوبٍ تعد بمئات الملايين، في حين أن إمكانياتنا محدودة، بل حتى عن تعديل الصورة لدى الغربيين الموجودين في بلادنا والذين يعيشون بين أظهرنا؟! يقول أحد الصحفيين الأمريكيين: إن الأمر -أي تعديل الصورة- سيستغرق وقتاً طويلاً؛ حتى يفهم الأمريكان ويتخلوا عن الصورة الجامدة التي يحملونها عن العرب.
وأعتقد أن الأمر لن يكون أصلاً، قد يتم تعديل بعض الصورة، لكن أعتقد أن القضية ليست في طريقها إلى الحل، فعبر التاريخ الغربي كانت الصورة قاتمة.
وهذا إدوارد سعيد باحث متخصص، معظم حياته في أمريكا، يقول في كتاب له مهمٌ اسمه: التغطية الإعلامية للإسلام، يقول كلمةً مهمة: لم أستطع أن أكتشف أي فترة في التاريخ الأوروبي والأمريكي منذ القرون الوسطى، نوقش فيها الإسلام هناك خارج إطار العاطفة والتعصب والمصالح السياسية.
هذه شهادة مهمة جداً.
كانوا يناقشون الإسلام عبر تاريخهم مناقشةً عاطفيةً متعصبة، تنطلق من مصالحهم السياسية ضد الإسلام.
وأقول: إن وعي الغرب بالإسلام سيزيده حقداً وكراهيةً للإسلام، وخوفاً من الإسلام، فالإسلام الذي قد يقبلونه، أو يتأقلمون معه، هو الإسلام المهجن المدجن، الإسلام الأمريكي كما سماه بعضهم تجاوزاً، الذي لا ينافسهم على دنياهم، بل يتحدث كما قال أحدهم: عما تحت الأرض وما فوق السماء، عن القبر والموت والعالم الآخر، وعن الله والملائكة، أما الدنيا فإنه يدعها لقيصر: دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
ولهذا هناك دراسةٌ نشرت في صحيفة التايمز في هذا العام، تحدثوا فيها عن أن الإسلام قادمٌ لا محالة، بعنوان: سيف الإسلام.
يقولون: الإسلام قادمٌ لا محالة، لكن علينا أن نختار إما الإسلام الأصولي المتشدد، وإما الإسلام المرن المتسامح.
إن الغرب لم يكن أكثر وعياً بالإسلام منه اليوم، وفي نفس الوقت لم يكن أشد خوفاً وهلعاً وفزعاً من الإسلام مما هو عليه الآن، فالإسلام الحق يخيفه.(112/16)
المخاوف من الإسلام
النقطة السادسة: المخاوف من الإسلام.
كان السفير الألماني في المغرب واسمه هوفمان، كان يستعد لإصدار كتابه الذي هو بعنوان: الإسلام هو البديل، عندما بعث إليه وكيل وزارة الخارجية هناك ببرقيةٍ سريةٍ عاجلة، يحذره فيها من الوضع الخطير الناشئ عن دعوته إلى الأفكار الإسلامية، ويحذره من تجاهله لوظيفته باعتباره ممثلاً لدولة غربية ديمقراطية وهي ألمانيا، وتلك الرسالة كانت تمهيداً لقرار استدعائه ومناقشته، وكان هذا الرجل قد أسلم منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة.
وفي جمعية دراسات الشرق الأوسط قبل سنوات، في خطاب لرئاسة الجمعية، يقول: إذا كان الإسلام لم يعط التغطية الكافية منذ سنوات -أي: لم يتم التعريف به، أو كان الجهل بالإسلام هو سمة الماضي- فإنه يستطيع الكثيرون الآن أن يؤكدوا أن الأمر قد تغير في السنوات الأخيرة، وكما قال أحد الزملاء: إن الصحوة الإسلامية، بل دراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية أصبحت مهنة نامية، والخبراء جاهزون وموجودون بكثرة، من رؤساء الدول، ووزراء الخارجية، ووزراء الدفاع، والصحفيين، والأكاديميين، ومن كل الأشكال والأحجام والألوان.
ويقول هذا الخطاب أيضاً: إننا فهمنا المجتمعات الإسلامية في الماضي خطأً، لأسبابٍ منها: أولاً: الانسياق وراء العلمانية، وفصل الدين عن الحياة.
ثانياً: أننا انخدعنا بالنخبة المثقفة المستغربة من العرب والمسلمين، وارتحنا إليها، وظننا أنها تمثل الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وتجاهلنا دور العلماء الشرعيين والدعاة والمعاهد الإسلامية.
وفعلاً عقدت ندوات كثيرة، وصدرت كتبٌ ودراسات عن الإسلام والصحوة الإسلامية، فماذا كانت النتيجة؟ نتيجة علمهم ومعرفتهم بالإسلام.(112/17)
أقسام العالم الإسلامي في نظر الغرب
ثم ينصح هذا الكتاب صناع السياسة الأمريكية، أن يكونوا حينما يتعاملون مع المسلمين، أن يناوروا داخل وكر أفعى، ويقسم الاتجاهات الإسلامية في العالم الإسلامي إلى ثلاثة أنماط: 1- الأصولية وهي: مخيفة إرهابية.
2- الديكتاتورية.
3- التحديثية، أي: العلمانية، كتركيا، ومصر، وباكستان، وإندونيسيا.
ويقول: نتعاون مع الأصوليين ومع الديكتاتوريين تعاون تكتيك فقط، لا يتعدى متطلبات اللحظة الحاضرة، ويجب أن نتعاون معهم عندما تكسبهم قوتهم مكاناً على الطاولة، أما ما زاد عن ذلك فلا، ويجب ألا ندخل معهم في شركةٍ أبداً.
أما بالنسبة للفئة الثانية وهم التحديثيون، فيجب أن نصنع معهم شركة وبالذات مع الدول الأربع.
ثم يتحدث عن السلام، وضرورة التهديد الغربي للعرب بإقراره الآن، حيث ضعف الدول العربية يمكن إسرائيل من تحقيق ما تريد وما تطلب، وإذا لم يعترف العرب بإسرائيل الآن -يقول- وبعد أربعة وأربعين سنة؛ فإنهم يكونون غير مهتمين بالتسوية السلمية إذاً.
ويقول: إذا وافقت إسرائيل على السلام، فإنه يمكن في حالة وقوع هجوم تقليدي، أن يعامل وكأنه هجوم على الولايات المتحدة ذاتها، وعلينا أن نصر على تحجيم القوات العربية المجاورة.
هذا الكتاب خطير وهو موضع حفاوة وعناية من الغرب.
المثل السادس والأخير: في التايمز مقالٌ طويل، أسلفتْ الإشارة إليه عنوانه: سيف الإسلام، يقول: إن صناع السياسة الغربية مهتمون بدراسة الإسلام، وهل هو الخطر القادم؟! ويقول: إن أدوات نشر الفكر الإسلامي هي البندقية والقنبلة والرصاصة والتفجير والاغتيال.
ويقول: إن المسلمين يشعرون بالغيظ للغرب والكراهية له؛ لأنه تسبب في سقوط حضارتهم وتأخرها.
ويقول: إن الفكر الإسلامي فكر منغلق متحجر، ولا أدل على ذلك من موقف العالم الإسلامي من قضية سلمان رشدي، وهي قضية شهيرة معروفة.(112/18)
أمثلة على خوف الغرب من الإسلام
إليك مجموعة سريعة من الأمثلة والنماذج: نشرت صحيفة واشنطن بوست، في (16) مارس من هذا العام، مقالاً عنوانه: مقارعة حكم الأصوليين الإسلاميين، وقالت: إن خصمنا الرهيب هو الإسلام، وإن كان يحلو للبعض أن يجعلوا خصم الغرب هو اليابان، ولكن الواقع أن الخصم الرهيب هو الإسلام، وأن مصطلحات الحرب الباردة التي كانت تستخدم ضد الاتحاد السوفيتي، أصبحت الآن تستخدم ضد الإسلام.
فمثلاً: الاحتواء، أصبح الغربيون يطلقونه في شأن الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي، محاولة احتوائها عن طريق تركيا وإدخالها في تيار العلمنة.
أيضاً مصطلح الخطوط الحمراء ضد تصدير الثورة في السودان، أي أنهم يطالبون السودان، ويحذرونه من تصدير ثورته إلى الخارج، وأن يتعدى الخطوط الحمراء، كما كان هذا المصطلح يستخدم ضد الاتحاد السوفيتي.
أيضاً: القبضة الحديدية.
استخدموها ضد الإسلام في الجزائر، لما أوشك أن يصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات، فأطلقوا على الانقلاب لفظ القبضة الحديدية، وهذه كانوا يستخدمونها أيضاً ضد الاتحاد السوفيتي، ثم أثارت تلك الصحيفة إشكالية غريبة جداً، قالت: إن الغرب يريد الديمقراطية في بلاد الإسلام، ولكنه يخاف من الديمقراطية في بلاد الإسلام؛ أن تكون سبباً في إبعاد أصدقائه الموالين له والإتيان بالأصوليين، ولذلك فهو يعيش تناقضاً خطيراً بارزاً، كما هو الحال في الجزائر وفي غيرها من البلاد.
وضربت الجريدة نفسها مثلاً بالجزائر، فقالت: تناقض كبير في الموقف، لماذا لم تقف أمريكا مع الديمقراطية كما تدعي؟ يقول أحد الباحثين الجزائريين -والكلام للجريدة- وهو باحث في جامعة غربية: إن الجزائر على مشارف التطور -هكذا يتمنى- ولكنه لن يصل إلى التطور إلا بعد أن يجرب الحكم الإسلامي ويثبت فشله.
إذاً هو سوف يجرب الإسلام في الحكم، وسيثبت فشله، وحينئذٍ تنتقل الجزائر إلى التطور.
تقول الصحيفة تعليقاً على هذه الأمنية: فكرةٌ جميلة، ولكننا لن نراهن عليها بالمزرعة.
أي: ليس لدينا استعداد أن نجرب الإسلام ليثبت فشله، لأننا نخشى أن يثبت نجاحه كما ثبت نجاحه في أكثر من بلد.
مثال آخر: عقد في ميونخ في أوائل العام الميلادي الحالي مؤتمرٌ للأمن، وقد عبر هذا المؤتمر عن قلقه مما يسميه بالقنبلة النووية الإسلامية، وأكد أن الأصوليين -كما يسميهم- ساخطون على الغرب، لماذا؟ قال: ليس سخطهم لأن الأصوليين متعاطفون مع العراق، ولكن سخطهم بسبب أن الغرب مصمم على تجريد العراق من أسلحته النووية وبرنامجه ومواده، في الوقت نفسه الذي يتجاهل فيه البرنامج النووي لإسرائيل.
وقال رئيس الأركان البريطاني في مقابلة: حتى المسلمون المعتدلون، يمكن أن يطرحوا مشكلات لنا، ويقول إن صواريخ دول الخليج يمكن أن تشكل تهديداً لنا، ويمكنها أن تضرب لندن إذا نقلت غرباً على طول ساحل الشمال الإفريقي، ثم أعرب عن أمله في أن تتمكن تركيا من نشر علمانيتها في الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي.
مثالٌ ثالث: صدر في أمريكا كتابٌ أثار ضجةً إعلامية كبيرة اسمه: قيام الدول العظمى وانحطاطها، وقد أبدى مؤلف الكتاب مخاوفه من الإسلام كأحد الأعداء المحتملين للديمقراطية الليبرالية الغربية.
وصدر كتاب آخر عنوانه: نهاية التاريخ يرد على الكتاب الأول، ويؤكد أن الديمقراطية الغربية هي نهاية التاريخ، وأنها خالدة لا زوال لها.
قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] وأثار الكتاب الآخر أيضاً ضجةً كبيرة، وكان أحد الردود عليه كتاباً صدر من فرنسا ألفه أحد القسس النصارى، وتكلم عن انهيار الديمقراطية، وقد أبرز بقوة وشدة وعناية الخطر الإسلامي، وقال: إن المشكلة ليست تكمن في المتطرفين أو الأصوليين، أو الذين لا يفهمون الإسلام فهماً صحيحاً.
إنما المشكلة تكمن في الإسلام ذاته، وليس في خطأ المتمسكين به، وإن المتسامحين من المسلمين قليل، فأنا لا أعرف إلا ثلاثة من المتسامحين، وسماهم واحد ٌمنهم هو ابن جلون الذي قتل في المغرب، وآخر يقول منبوذ لا يلتفت إليه أحد، والمسلمون لا يستمعون إليهم، إنما يستمعون إلى الأصوليين والمتشددين.
وأعاد إلى الأذهان أخبار الغزوات التركية التي وطأت أرض أوروبا، وآذنتْ بالسيطرة عليها، كما أبدى سخطه على العرب المهاجرين في فرنسا وبريطانيا، وأنهم يشكلون خطورة كبيرة على تلك المجتمعات؛ لصعوبة ذوبانهم فيها، وتأقلمهم معها، وتكاثرهم السكاني الكبير.
مثالٌ رابع: أصدر نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق، كتاباً وهو الكتاب التاسع، تحت عنوان: انتهزوا هذه الفرصة أو الفرصة السانحة، وقد ترجم إلى العربية عدة تراجم، أحدها طبعتها دار الهلال، وقد عرضته أيضاً مجموعةٌ من الصحف والمجلات العربية، والكتاب عبارة عن خمسة فصول، يتكلم بطبيعة الحال عن أمريكا وأنها القوة العالمية الوحيدة، التي تسيطر الآن سيطرة كاملة على الحضارة، وتنفرد بقيادة العالم والبشريةَ جمعاء، ويؤكد هذا المعنى، ثم يتحدث في فصولٍ خمسة عن العالم كله.
الفصل الخامس منه يوضح النظرة الأمريكية للمسلمين؛ بأنهم غير متحضرين، ولا يغتسلون، وبربريون، وهمجيون، وغير عقلاء، يجذبون اهتمامنا فقط، لأن بعض قادتهم لديهم ثروة كبيرة، ولأنهم يحكمون منطقةً تحوي -بالمصادفة- ما يزيد على ثلثي احتياطي النفط في العالم، ولا توجد -كما يقول- دولة ولا حتى الصين الشعبية، تحظى بصدارة سلبية، ونظرة قاتمة في الضمير الأمريكي، كما هو الحال بالنسبة للعالم الإسلامي.
ويحذر بعض المراقبين -ولا يزال الكلام لـ نيكسون - من أن الإسلام سوف يصبح قوة واحدة ومتعصبة، وأن تزايد عدد السكان والقوة المالية التي يتمتع بها المسلمون، سوف تشكل تحدياً رئيساً، وأن الغرب سيضطر إلى تشكيل حلف جديد مع موسكو، لمواجهة العالم الإسلامي المعتدي العادي في المستقبل.
وتقول وجهة النظر هذه: إن الإسلام والغرب متناقضان، والمسلمين ينظرون إلى العالم على أنهم معسكران: دار إيمان ودار كفر، أو دار توحيد ودار شرك، وأن العلاقة بينهما علاقة حرب وتناقض ومناوئة.
ويقول نيكسون: إن هذا الكابوس -أي: توحد العالم الإسلامي ومواجهته للغرب- لن يتحقق أبداً، لأن العالم الإسلامي كبيرٌ جداً ومترامي الأطراف، ومتناقض ومتباعد، ومن قوميات وعرقيات مختلفة، ولا يمكن أن يزحف ليقرع طبلاً واحداً.
وأقول: بلى، يمكن أن يتوحد الإسلام والعالم الإسلامي، ربما يتوحد على وقع أقدام الغزاة، فحينما يشعر المسلمون بأنهم مهددون فعلاً، وأنهم على أبواب حرب صليبية قادمةٍ، بلا شك سوف ترتفع مشاعرهم، ويكون لديهم إحساس عميقٌ بالخطر الذي يمكن أن يوحدهم.(112/19)
عنصرية العالم الغربي
النقطة السابعة: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] : هذه آيةٌ من كتاب الله تعالى، تجعل الكفر يساوي الظلم، وتجعل الكافر ظالماً، ويقول عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فلننظر عملياً كيف تحققت هذه الآية في الحضارات الغربية الكافرة.
من العجيب أن نستغرب نحن انحيازها، أو نستغرب عنصريتها، أو نستغرب تجاهلها لإنسانية الإنسان في العالم الثالث، أليست حضارة غربية؟ أليسوا حصلوا على هذا التقدم بأعمالهم، وبعقولهم؟ فهل نتصور أن الأمريكي سيتعامل مع المسلم الصومالي مثلاً، أو المسلم في الخليج، أو المسلم في مصر، أو المسلم في أي بلدٍ، سيتعامل معه كما يتعامل مع الرجل الأبيض الأمريكي؟ كلا! فهم ينظرون إلى العالم على أنه هو الغرب، أما العالم الشرقي هذا، فهو عالمٌ في آخر الاهتمامات، ولولا وجود النفط فيه ربما لم يكن العالم الغربي يعلم بوجوده ولا يهتم له أصلاً، ولذلك تجد أن كثيراً من الدول يقع فيها معارك وحروب كثيرة، وتترك هذه المعارك تطحن في رحاها أعداداً غفيرة دون أن يلتفت إليها أحد {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] .(112/20)
تصدير التلوث إلى العالم الثالث
{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] اجتمع وزراء البيئة في دول أوروبا -واسمع هذه الأخبار- وكان أكثر الموضوعات التي طرحوها إثارةً للجدل: اقتراحٌ يدعو إلى تصدير التلوث إلى العالم الثالث، وبصورة أكثر وضوحاً، يدعو إلى نقل النفايات والمواد الملوثة إلى العالم العربي والإسلامي، وقبل هذا المؤتمر بأسابيع، كان هناك خبيرٌ اسمه: ألويس سومرز، وهو كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي، يقترح تصدير الصناعات التي ينتج عنها التلوث إلى دول العالم الثالث.
وأستأذنكم أن أقرأ عليكم تقريراً منشوراً في غاية الخطورة عن هذه القضية، قضية نقل التلوث إلى العالم العربي والإسلامي، هذا التقرير نشر في عدد من الصحف، منها صحيفة المجتمع الكويتية، ومنها جريدة المدينة التي تصدر في هذا البلد، وهو تقرير -كما ذكرت- غريب وخطير في نفس الوقت.
يقول -بعد كلامٍ طويل- يتكلم عن أن الغرب يصدر كل شيء ملوث إلى العالم الإسلامي دون تحفظ، ويقول: إن أمريكا اكتشفت أن هناك بعض البيجامات المصنوعة تسبب السرطان، وفوراً منع تداول هذه البيجامات، وفوراً قامت الشركة التي أنتجتها بتصديرها إلى دول آسيا وإفريقيا، وفي خلال تسعة أشهر بعد المنع، استطاعت أن تصدر ما يزيد على مليوني بجامة إلى أطفال هذا العالم آسيا وإفريقيا.
رغم أن حكومة كارتر في الأسابيع الأخيرة، قد تيقظت أو تيقظت إنسانيتها فيما يزعمون، وطالبت بعدم تصدير أي مواد ملوثة إلى العالم العربي والإسلامي، إلا بعد أن يُخطَروا ويُخْبروا بذلك، أي: لا يصدر إليهم أي شيء ملوث دون أن يعلموا، بل ينبغي أن يخبروا أن هذه المواد ملوثة، وأنتم وشأنكم بها، رغم ذلك، وأن هذا تم قبل خمسة أيام فقط من انتهاء الحكم، إلا أن أول شيء فعله الرئيس ريجان بعده، وبعد وصوله إلى كرسي الرئاسة هو إلغاء القرار السابق، القاضي بعدم تصدير مواد سامة إلى العالم الثالث دون علمه.
وصدر قرار ريجان بعد بضعة أيام من وصوله إلى الحكم، ولا تزال القوانين الأمريكية والأوروبية حتى هذه اللحظة تبيح تصدير جميع المواد السامة، والأغذية الملوثة، والمواد المسببة للسرطان، والمبيدات الحشرية الممنوعة في أوروبا وأمريكا، تبيح تصدير ذلك كله إلى أي دولةٍ من دول العالم الثالث، ودون أن تخبر هذه الدولة بالمواد السامة المرسلة إليها.
ورغم وجود لجان لحقوق الإنسان في الكونجرس، وكثرة الحديث عنها في أجهزة الإعلام، إلا أنه يبدو أن تعريف الإنسان عندهم يختلف من بلد إلى آخر، فالإنسان الأوروبي أو الأمريكي أو الأبيض؛ هو فقط الجدير بهذه الحقوق، أما الإنسان المسلم، أو الإنسان الموجود في آسيا أو إفريقيا فليس إنساناً أصلاً عندهم، ولا يمكن أن تكون له حقوق، حتى مثل الكلاب.
أقول: حتى الكلاب تتمتع في المجتمعات الأوروبية والأمريكية بحقوق لا يتمتع بها الإنسان هنا في نظرهم، لو أعطي كلبٌ في أوروبا أو أمريكا مواد سامة، لقامت المظاهرات والاحتجاجات، وقد حصل هذا فعلاً، مظاهرات ضخمة قامت، وكان يتقدمها أعضاء الكونجرس أنفسهم، وكذلك رجال الكنيسة، لماذا؟ لأن هناك كلب أو كلبة اسمها (لايكا) ، أرسلها الروس إلى الفضاء في أول رحلة فضائية، قبل أن يرسلوا أي إنسان، وسالت دموع رجال الكهنوت، وقامت لجان المدافعة عن حقوق الكلاب والخنازير، تحتج على إرسال الكلبة (لايكا) إلى الفضاء! ودموع التماسيح هذه ما سالت من أجل إرسال السموم إلى دول العالم الثالث، دول العالم الإسلامي.
إن جميع البضائع والمنتجات التي تصدر للعالم الثالث، لا تخضع أبداً للمقاييس والشروط الموجودة في أوروبا وأمريكا، فلأوروبا وأمريكا شروطٌ شديدة في السلامة، بينما المواد المصدرة إلى العالم الثالث تخلو من هذه الشروط.
وقد نشرت مجلة نيوزويك في العدد (17) بحثاً طويلاً عن أخطار المبيدات الحشرية المرسلة إلى العالم الثالث، والتي تستخدم خاصة في الزراعة، وذكرت قائمة طويلة من المواد السامة التي ترسل إلى العالم الثالث، دون أي تحذير من الشركات المصدرة، وذكرت ما هي هذه المواد.
وفي كل مجالٍ ترسل المواد السامة والخطرة، والمواد الغذائية الملوثة، وغير الصالحة، والأدوية الممنوعة، أو التي لا تزال على الأقل خاضعة للتجارب ولم يصرح بعد باستخدامها هناك، ترسل إلى دول العالم الثالث وبأثمان باهظة، وتدفع أثمانها هذه الدول الفقيرة من قوتها.
أما الآلات والأدوات الكهربائية، والأدوات المنزلية، والسيارات، والجرارات والجرافات وغيرها، ومواد البناء التي تصدر إلى العالم الثالث، فإنها جميعاً لا تخضع لنفس المقاييس المفروضة في أوروبا وأمريكا، حتى السجائر المصدرة إلى دول العالم الثالث، تحوي ثلاثة أضعاف ما تحويه مثيلاتها المصرح بها في أمريكا وأوروبا من النيكوتين والقطران.
إنها صورة بشعة لحضارة ذلك الإنسان الغربي، حضارة الطين لا حضارة الإيمان والدين.
نماذج لولا أنها حقائق تتكلم عنها الصحف؛ لظنها الإنسان ضرباً من الخيال والمبالغات.(112/21)
خلاصات ونتائج
أخيراً: أقف معكم مع بعض هذه الخلاصات والنتائج، وأذكرها باختصار لأنها جاءت في النهاية:(112/22)
الإسلام محارب في الغرب
أولاً: الإسلام محارب في الغرب؛ لأنه الإسلام المنزل من عند الله -تعالى- على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا لشيءٍ آخر، واسترضاء أولئك القوم عبث، والله تعالى يقول: (وَلَنْ تَرْضَى) هم غير واثقين حتى بأوليائهم وحلفائهم، بل حتى بعملائهم.(112/23)
وجوب الدعوة إلى الله في وسط الكفار
ثانياً: الدعوة إلى الله تعالى في أوساط الكفار واجبة، وتصحيح الصورة القائمة في نفوسهم عن العرب والمسلمين أيضاً واجب، ولا بد من ذلك، وينبغي أن يبذل المسلمون جهدهم في هذا وذاك، ولكن هذا لا يعني أن الغرب سيغير موقفه -والله أعلم- إنما يمكن أن يهتدي من أراد الله تعالى هدايته، والله تعالى ويهدي من يشاء، ويمكن أن يحيد من الغرب من يحيد، ويبقى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} [الأعراف:179] ويبقى: {يا آدم أخرج بعث النار} .(112/24)
الإسلام لا يرضيهم
ثالثاً: الإسلام المنزل من عند الله تعالى لا يرضيهم، لماذا؟ لأنه يقول لهم: أنتم كفار، وأنتم حطب جهنم، وحصب جهنم أنتم لها واردون، جهادكم واجب؛ ما دمتم محاربين له، إذاً لإسلام المنزل لا يرضيهم لأنه هكذا يقول، أما الواقع فهو لا يرضيهم أيضاً، لأنه واقع مؤسف من كل ناحية، لا أقول لا يرضيهم، لكنه وإن كان يرضيهم من ناحية، لكنه يعطيهم انطباعاً سيئاً عندما، يتصوروننا عاجزين مفرطين ضعفاء، فالتخلف العلمي، والجهل، والاستبداد السياسي، وعدم الشعور بالمسؤولية، والتوتر الدائم، والسلوكيات المتخلفة كل ذلك قائم، فكيف نريد من العالم أن يقدرنا ويحترمنا، ونحن لم نسع إلى ذلك بأنفسنا وبأعمالنا وأخلاقنا، وبسلوكياتنا وبسياستنا، وباقتصادنا، وعلمنا وإعلامنا؟ الواقع مر، ولعل هذا الواقع يتجلى في تجمعات المسلمين.
وأقرب مثال -زماناً ومكاناً-: الحج.
فهو نموذج كبير للتجمعات الإسلامية العظمى، لو نظر الغربي إلى المسلمين، أو نظرت أي مؤسسة عالمية إلى المسلمين، وهم يؤدون مناسك الحج، ماذا تجد؟ ستجد أن كثيراً من المسلمين لا يهتمون بالأخلاقيات، ولا يهتمون بحقوق الآخرين، ولا يهتمون بالنظافة، فيفترشون الأرض جوار القمامة، تصرفات صعبة وسلوكيات مريضة، وأوضاع شائنة.
وهذا يرجع في جزءٍ منه -كما يقول البعض- إلى جوانب تنظيمية أو إلى تقصير، أنا أقول: نعم هذا يرجع في جزءٍ كبير منه إلى التقصير، ولكن أيضاً لا يمكن أن نتجاهل الجانب الثاني وهو سوء التربية لدى المسلم العادي، الذي لم يتربى على حسن الخلق والأدب والنظافة وعلى إتيان الأمور من أبوابها.
ولذلك تجد التضارب والتصادم والأوضاع السيئة التي لا تحتاج إلى شرحٍ أو بيان.
فمثل ذلك يعطي انطباعاً سيئاً لدى أي إنسانٍ عاقل، إذاً لا بد أن نصحح أوضاعنا حتى نفرض على العالم احترامنا، أما التناقض بين سلوكيات المسلم، وبين عقيدته فأمرٌ لا مفر منه، ولا ريب في أنه واقعٌ ويجب أن يزول، والمثال الذي ذكرته في الفيلم الفرنسي يتكرر في واقع المسلمين، فتجد المصلي يأكل الربا، وقد يتعاطى الحرام، ويغش ويكذب، وينقل الكلام على غير وجه، إلى غير ذلك من ألوان السلوك المحرم.(112/25)
العناية بإبراز الجانب الأخلاقي
رابعاً: من الضروري أن يُعنى الدعاة الإسلاميون بإبراز الجانب الأخلاقي من الإسلام، والتركيز عليه والعناية به؛ لعظم تأثيره في مثل هذه المجالات، وشدة وقعه في نظر الإنسان الغربي، وأنه يمكن أن يلفت نظرهم إلى الإسلام، ويحدوهم إلى دراسته، فهو من أوجه وأساليب دعوتهم إلى دراسة الإسلام وتأمله، وقد يهتدي منهم من يشاء الله تعالى له الهداية كما أسلفت.
وكذلك الجانب العقائدي، وكذلك العلمي، وكذلك الجانب الحضاري.(112/26)
العناية بأوضاع المسلمين وتصحيحها
خامساً: لا بد من العناية بأوضاع العالم الإسلامي وتصحيحها، وتوجيه الدعوة إلى الأمة الإسلامية كلها- جماهير الأمة- لأن هجمة صليبية شرسة؛ تعد الآن ضد المسلمين، فالأمة كلها مستهدفة، في أخلاقها، وفي عقيدتها، وفي سلوكها، وفي اقتصادها، وفي أمنها، وفي سياستها، بل وفي وجودها.
ويجب أن يعي الناس هذا الأمر، ويخاطبوا خطاباً جماهيرياً عاقلاً قوياً رشيداً، يربطهم بالدين والعقيدة والنص والقرآن والسنة، ويكشف لهم حقيقة العداوة القائمة بينهم وبين اليهود والنصارى.(112/27)
الاستعداد للمنازلة مع الأعداء
وأخيراً: لا بد من الاستعداد للمنازلة مع خصوم الإسلام.
وأقول: هذا ليس حلماً، وإن كان هذا الأمر حلماً الآن، فإن أحلام اليوم هي حقائق الغد، ونحن ندعو كل مختصٍ أن يشارك في هذه المعركة الكبرى معركة الإسلام الكبرى.
أسأل الله تعالى أن ينصر الإسلام وأهله، وأن يذل الشرك وحزبه، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه إنه على كل شيء قدير.(112/28)
الأسئلة(112/29)
كتاب وملاحظة
السؤال
ما رأيك في كتابات محمد أحمد الراشد، وخاصة كتابه: صناعات الحياة؟
الجواب
الحقيقة كتاب قيم، وجدير بالقراءة، ومع ذلك عليه ملاحظات.(112/30)
في كل بلدٍ آلام
السؤال
لا يخفى عليكم نظام الحكم في ليبيا، وما فيها من محاربة للإسلام والمسلمين، فما هو واجب المسلمين هناك، أيفرون بدينهم ويهاجرون؟
الجواب
يا أخي، في كل بلد يواجه المسلمون هذا، وأرى أن يبقى المسلمون في بلادهم، وأن يبذلوا وسعهم في الدعوة إلى الله تعالى.(112/31)
قراءة كتب السلف والكتب الفكرية المعاصرة
السؤال
كيف يوفق طالب العلم بين قراءة كتب السلف، والكتب المعاصرة وخاصة الكتب الفكرية؟
الجواب
لا تناقض بين هذا وذاك، فيقرأ الكتب العلمية السلفية؛ لما فيها من تأصيل العقيدة والعلم الشرعي الصحيح المؤصل، ويقرأ بعض الكتب المعاصرة لما فيها من بيان الواقع، وبيان بعض الظروف، وبعض المتغيرات، والأفكار الهدامة، والرد عليها وما أشبه ذلك.(112/32)
مكة نموذج العالم الإسلامي
السؤال
يعاني أهل البلد الطيب من سلبية عجيبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل من كلمة؟ لعل فيها إحياء للقلوب.
الجواب
مصيبة كبيرة جداً، هذا بلد الله الحرام، هذا نموذج لبلاد العالم الإسلامي، والناس يحتجون بها -وقد رأيتهم في إندونيسيا، وفي بلاد العالم- يحتجون بما يجري في مكة، رأيت اختلافاً بينهم في أذان الفجر الأول.
والثاني، وهل يؤذن أولا يؤذن؟ ومتى يؤذن؟ فوجدتهم يحتجون بما يقع في هذا البلد الحرام.
فالمسلمون يحملون لهذا البلد قدسية وتعظيماً، ويعتبرون ما يجري فيه نموذجاً وقدوة وحجة، هذا هو الواقع، وإن كان هذا ليس بصحيح، فينبغي على أهل هذه البلاد أن يخافوا الله تعالى في هذا الأمر، وأن يكونوا خيراً من غيرهم من المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة وغير ذلك.(112/33)
الصحف والاستهزاء بالدين
السؤال
إلى متى هذا الاستهزاء بديننا، وهذه الصحف تدخل إلى هنا وهاهنا جريدة الحياة عدد السبت، وفيها اثنان: واحدٌ منهما ملتحي والآخر كأنه جندي عليه خوذة، فهذا يمسك لحية هذا، وهذا يمسك خوذة هذا، كأنه إشارة إلى معركة بين الطرفين!
الجواب
الله المستعان لو اطلعت على أشياء لرأيت أمراً عجباً غير هذا.(112/34)
واجب الجهاد
السؤال
يقول: ما دورنا؟ وهل علينا واجب الجهاد؟
الجواب
علينا واجب الجهاد في موضوع البوسنة والهرسك، بالمساعدة المالية والدعاء لإخواننا هناك، وأيضاً المساعدة بدعوتهم إلى الله تعالى، وتربيتهم على الإسلام؛ لأنهم محتاجون إلى ذلك.(112/35)
المؤمن للمؤمن كالبنيان
السؤال
من منطلق قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم} نأمل تحديد دورنا في هذا العصر المليء بالفتن، وماذا علينا نحن الشباب تجاه المسجد الأقصى والمسلمين في أنحاء العالم؟
الجواب
الحديث فيه ضعف، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {المؤمن للؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} والحديث في الصحيح، وفي الصحيح أيضاً: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} .
فعلى المسلمين أن يعوا قضايا إخوانهم في كل مكان، وأن يتعاطفوا مع قضايا المسلمين في فلسطين والمسجد الأقصى، وأفغانستان، والسودان، والجزائر، والأردن، ومصر، ويوغسلافيا وكل مكان.(112/36)
مؤلفات الشيخ مجموعة ومطبوعة
السؤال
سمعنا أن أحد طلاب العلم قد جمع مؤلفاتك، وأنها قد تطبع فيما بعد، فما صحة ذلك؟
الجواب
نعم جمعها، أما أنها ستطبع فيما بعد فهي مطبوعة أصلاً.(112/37)
إنهم قادمون خيال لا حقيقة
السؤال
أسلمت امرأة بريطانية عجوز، فسألها أحد المسلمين: ما موقف قومك وجماعتك من إسلامك؟ فردت عليه قائلة: إنهم قادمون، فكيف نخاف من الغرب مع علمنا بأنهم قادمون، فقد ضاع عليَّ القياس أيها الشيخ الفاضل؟
الجواب
نعم يا أخي، قد يسلم عشرة أو مائة أو ألف، لكن أن نتوقع أن العالم الغربي سوف يتحول إلى عالَمٍ مسلم، أنا أعتبر هذا ضرباً من الخيال، لأن الغرب إذا قوي الإسلام، فسوف تقوم القوى الشريرة في داخله وتطالب بالوقوف في وجه الإسلام، وسوف تقام السجون -لو حصل هذا- للمسلمين هناك.(112/38)
النظرة الناضجة لواقع الجهاد الأفغاني
السؤال
هناك بعض من إخواننا الدعاة يشكك في نجاح الجهاد الأفغاني، ويشكك في بعض القادة، ويقصد أن وصول هؤلاء إلى قمة السلطة نتيجة غير مرضية للجهاد الطويل في أفغانستان؟
الجواب
بعض الإخوة ينظرون نظرة مثالية، ويريدون أن تقوم دولة إسلامية راشدية بين عشية وضحاها، وأقول: هذا أمر بعيد ومخالف للسنة، فنحن الآن نرضى بدولةٍ إسلامية في أفغانستان، أو السودان عليها مآخذ وفيها تقصير، ونعتبر أنها -بإذن الله تعالى- ذريعة ووسيلة إلى مزيد من النضج في قيام دولة إسلامية ناضجة ومؤمنة، سلفية ملتزمة بالكتاب والسنة.(112/39)
المجالس النيابية والولاء والبراء
السؤال
كنتم قد سئلتم في محاضرة الولاء والبراء، ومفهومه في الإسلام: هل يجوز الدخول في المجالس النيابية؟ وقلت إن المسألة محتاجة إلى البحث والاستماع لرأي العلماء في هذا الموضوع، وبينتم منهج أهل السنة والجماعة في قضية الولاء والبراء، ودساتير هذه الدول مستمدة من الشرق والغرب ولا تحكم بما أنزل الله، فهل من جديد في المسألة؟
الجواب
الحقيقة ليس لدي جديد، ولا زلت أعتقد أن المسألة بحاجة إلى مزيد من البحث في هذا الموضوع؛ لأن فيه جوانب عديدة وفيه مجال للنقاش والحوار.(112/40)
خطة للتقتيل
السؤال
ألا ترى أن قصر المساعدات الإسلامية لإخواننا في البوسنة والهرسك على المواد الغذائية فقط، ومنع مساعدتهم بالسلاح خطة لتقتيلهم على مرأى من إخوانهم؟
الجواب
نعم هذا خطأ، وينبغي أن يساعدوا بالسلاح قبل أن يساعدوا بالإغاثة والإعانات الإنسانية، ومع الأسف أن بعض الإعانات، نشر في جريدة الشرق الأوسط أنها سوف توصل إليهم عن طريق شركات ومؤسسات ألمانية نصرانية، تقوم بإيصال مساعدات المسلمين إلى المسلمين.(112/41)
أفغانستان الثانية
السؤال
هل يتوقع أن تكون يوغسلافيا أفغانستان الثانية؟ وهل بالإمكان المشاركة في الجهاد؟
الجواب
نسأل الله تعالى أن يبرم للإسلام هناك أمر رشدٍ، وأن ينصر الإسلام ويجمع كلمة المسلمين على الحق.(112/42)
الفرق بين المصلحين والصالحين
السؤال
قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] وهناك حديث عائشة: {أنهلك وفينا الصالحون} كيف نوفق بين هذا وهذا؟
الجواب
لا اختلاف، لأن الآية: وأهلها مصلحون، وفي الحديث: وفينا الصالحون، ما قالت وفينا المصلحون، ولهذا قال: {نعم إذا كثر الخبث} لا يكثر الخبث والمصلحون قائمون يعملون ويجتهدون، لأن صوت الحق قوي، ويكتسح الساحة إذا ظهر.(112/43)
المراكز الصيفية أحد أوجه النشاط
السؤال
هل من كلمة لهذا الجمع المبارك تدعوهم فيها إلى استثمار أوقاتهم في المراكز، ومنها هذا المركز الذي نسأل الله أن ينفع به الجميع؟
الجواب
المراكز الصيفية -كما أسلفت- هي أحد أوجه النشاط التي يمكن أن يستفاد منها في هذه الإجازة، وفيها حفظٌ لوقت الشباب، وتنميةٌ لمواهبهم وقدراتهم.(112/44)
التصويت لصالح الإسلاميين
السؤال
أنا من أحد الدول المجاورة المسلمة التي فتحت باب الحزبية، فتحزب بعض المسلمين فيها، وبعد شهورٍ ستقام الانتخابات، فهل أشارك في هذه الانتخابات مع المسلمين، علماً أن معتقدي سلفي ولله الحمد ما دخلت الحزبية؟
الجواب
أرى في مثل هذا الواقع، أن على الإنسان المسلم إذا كان مخيراً بين أن يصوت لصالح إسلاميين -ولو كان يخالفهم في بعض الأمور- أو لصالح أناسٍ آخرين، أو يسكت، أن الأولى أن يصوت لصالح الإسلام والمسلمين.(112/45)
الدش ونقل التعاسة الغربية
السؤال
نرجو أن تتكلم عن الدشات وآثارها على المجتمع، وتنبيه الخطباء إلى الكلام في هذا الموضوع؟
الجواب
هذه أحد وسائل الحرب الغربية على الإسلام، ونقل التعاسة الغربية إلى عقول المسلمين وبيوتهم وقلوبهم، وقد يحتج البعض بأنها تنقل بعض الأخبار مصورةً ودقيقة، وهذا صحيح؛ ولكنه يشكل نسبة محدودةً من مجموعة ما يبث عبرها، وقد أشرت إليها البارحة، وأدعوا الخطباء إلى تناول هذا الموضوع.(112/46)
الدعوة إلى الجهاد
السؤال
ألا تظنون أن إعلان الجهاد على أرض البوسنة والهرسك من قبل أئمة المسلمين، أمثال الشيخ ابن باز، وحث كل من يستطيع الجهاد بالنفس والمال إلى الذهاب إلى هذه الأرض، ألا تظنون أنه كفيل لإرعاب الصليبيين؟
الجواب
هم يخافون الآن من هذا، وأعتقد أن الغرب الآن ينتظر سقوط سراييفو والقضاء على هذه الدولة الإسلامية؛ خوفاً من أن تكون أفغانستان أخرى.(112/47)
آخر الأخبار عن مجاهدي الأفغان
السؤال
ما هي آخر أخبار إخواننا المجاهدين الأفغان؟ ولماذا هذه المشاكل التي نسمع عنها؟
الجواب
آخر الأخبار أن الأستاذ برهان الدين رباني تولى الرئاسة، والأستاذ عبد الصبور فريد تولى رئاسة الوزراء وباشر عمله، أما المشاكل فأعتبر أنها في الجملة لا بد منها، لكن الأمر الذي نتمناه وندعو إليه، هو أن تتوحد الجبهات والأحزاب الإسلامية المتقاربة فيما بينها ضد الشيوعيين، وضد الشيعة، وضد الميليشيات، وضد الأعداء الخارجيين.(112/48)
المرأة المسلمة
المرأة هي مربية الأجيال، وهي أحد ركني المجتمع ويقوم على كاهلها عبء كبير في بناء المجتمع، وقد تفطن الغرب لأهميتها، فهو يحاول إفسادها بكل ما يستطيع حتى يفسد المجتمع كاملاً.
وفي هذا الدرس يحدثنا الشيخ حفظه الله عن أهمية المرأة ودور الغرب في إفسادها، ذاكراً صوراً مشرقة لنساء من التاريخ كان لهن دور كبير في بناء المجتمع المسلم.(113/1)
أهمية الحديث عن المرأة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] .
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن اللقاء يطيب في مدارسة الأمور الخيرية المهمة، التي تتعلق بنا جميعاً، ذكراناً وإناثاً، والتي من شأنها أن تقوِّم سلوكنا، وتثبيت أقدامنا على طريق الإسلام، وإن الحديث عن موضوع المرأة في كل وقت هو أمر مهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إن النساء قلن له يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً تعظنا فيه، فجعل لهن يوماً، فأتاهن ووعظهن وذكرهن} فالحديث عن المرأة ووجوب تمسكها بقيمها وبدينها، أمر مهم في كل وقت، ولكن تتأكد أهميته في مثل هذا الوقت، وفى مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، وذلك لأسباب ثلاثة:(113/2)
الغزو الفكري لجأ إليه أعداء الإسلام
أما السبب الثالث: فهو مبني على السبب الثاني، وهو: أن أعداء الإسلام بمختلف أصنافهم من اليهود، أو النصارى، أو المشركين، أو الشيوعيين، أو غيرهم، أدركوا أن معركتهم مع الإسلام بالسيف معركة خاسرة، وقد جربوها مراراً وتكراراً فوجدوا أنها تكلفهم الكثير، وأن نتائجها أقل مما يتصورون، وذلك لقوة الروح الجهادية لدى المسلمين، فلجئوا إلى طريقة من المكر والحيلة والدهاء، هي أفتك وأخطر من ألوان الأسلحة المادية، لجئوا إلى غزو المسلمين غزواً فكرياً، وتصدير الفساد والانحراف والرذيلة إليهم بشتى الوسائل، وجعل المجتمعات الإسلامية تتطلع إلى تقليد المجتمعات الغربية، والسير على خطاها، وقد ركزوا في هجماتهم الشرسة هذه على المرأة، فلماذا ركزوا على المرأة؟ لأن المرأة إذا فسدت وانحرفت غدت فتنة لكل مفتون، وسببت الفساد والدمار في المجتمع، وركزوا على المرأة، لأن المرأة هي التي تتخرج على يديها الأجيال التي ينتظر منها أن تبعث مجد الأمة، والتي يتخرج على يديها الشباب الذين سوف يملئون الفراغ الذي وقعت به الأمة الإسلامية، فإذا انحرفت ونسيت مهمتها فقد ضمن أولئك الأعداء أن تتخرج من المسلمين أجيال لا تعرف من أمر دينها شيئاً، ولا تتحمس لدينها، ولا لأمتها، ولا لكرامتها، إنما تتحمس للتوافه من الأمور، لهذا وذاك ركزوا في هجمتهم الشرسة على المرأة وحاولوا إفسادها بكل وسيلة.(113/3)
حساسية موقف المرأة وخطورته
أما السبب الثاني: حساسية موقف المرأة وخطورته، حيث إن المرأة هي حارسة الحصون الإسلامية، وهي مربية الأجيال، ومعلمة الرجال، وإذا أصيب هذا الحارس بالضعف والوهن، فإن معنى ذلك أن الحصون أصبحت مفتوحة على مصراعيها للأعداء ولو نظرنا إلى المهمات التي أنيطت بالمرأة، لوجدنا أنها مهمات خطيرة جداً، ويكفي أن الرجل مهما كُلف بتكاليف أو مهمات، لا يستطيع أن يقوم بها أو يؤديها، إلا بعد أن يكون تربى في طفولته تربية صحيحة، وهذه التربية تقوم المرأة بجزء كبير منها، ولذلك يقول بعضهم: خلف كل عظيم امرأة، وهو يقصد بذلك أن عظماء الرجال، الذين غيروا وجه التاريخ إنما هم في أول أمرهم كانوا، أطفالاً في أحضان أمهاتهم، وتلقوا على أيديهن التربية والتوجيه، وهذا معنى لاشك أنه معنى صحيح.(113/4)
المرأة مخلوق مكلف بالتكاليف الشرعية
السبب الأول: هو أن المرأة مخلوق بشري مكلف بالتكاليف الشرعية ومحاسب عليها، فهي مخاطبة بالشريعة أصولاً وفروعاً، وعقائد وأحكاماً، كما يخاطب الرجل سواء، وإن تميزت ببعض الأحكام الخاصة بها، فهي مطالبة بتطبيق الأحكام العامة والخاصة، وهي مأجورة إن استقامت، وآثمة إن انحرفت كما نطق بذلك كتاب الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] ويقول في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .
إذاً: فتبليغ الدين والأحكام والحلال والحرام، أمر يجب أن يوصل إلى المرأة كما يوصل إلى الرجل، والإسلام ليس ديناً مقصوراً على الرجال، كما يشيع في بعض المجتمعات عن جهل، حيث يعتبرون توجه المرأة للدين، وإكثارها من الصلاة، علامة غير طيبة، بسبب الجهل وسوء الظن لديهم، كلا.
بل الدين خطاب للرجل والمرأة على حد سواء.(113/5)
خطر الأمراض الخلقية
أيها الإخوة والأخوات: إن الأمراض الجسمية، والأوبئة الصحية المحسوسة، حين تنتشر في المجتمعات، خاصة إذا كانت أمراضاً معدية يتسامع بها الناس كلهم، ويتساندون في القضاء عليها، وتهتم الجهات الرسمية بمحاصرة هذا الداء والقضاء عليه، والوقاية منه، فسريعاً ما ينتهي هذا الداء أو يتقلص، وليست كذلك الأدواء والأمراض الخُلُقِية، فهي أمراض خطيرة، وهي أيضاً بطيئة الظهور تسري سرياناً هادئاً بطيئاً، ولكنها تتغلغل في القلب وفي الجسم للإنسان، تتغلغل في قلب الإنسان، وتتغلغل في قلب المجتمع حتى تفسده بصورة هادئة لا تلفت الأنظار، ولذلك فإن الإنسان الذي عايش المجتمعات منذ بداية انحرافها، قد يتأقلم مع هذه الأشياء، ولا يستغربها في كثير من الأحيان، لكن أولئك الناس الذين عاشوا أزماناً كانت المجتمعات فيها مجتمعات نظيفة خالية من الانحرافات، إذا انتبهوا إلى واقعهم أصيبوا بالذهول، ودهشوا من الأمر الذي آلت إليه أوضاع هذه المجتمعات، وتعجبوا كيف تم هذا، ونسوا أن هذا تم خطوة خطوة، بحيث لم يلتفت إليه كثير من الناس.
ونظراً لأن الأمراض الخلقية بطيئة التأثير، فإن الإنسان الذي يسمع التحذير منها، ويسمع المصلحين يدقون ناقوس الخطر، ويقولون تداركوا الأمر، ينظر هذا الإنسان في الواقع، فيجد أن الفساد منتشر في كثير من المجتمعات، ومع ذلك لم يصبها العذاب، ولم ينزل عليها عقاب الله، فيظن هذا الإنسان المتعجل، أن جميع النذر التي يسمعها إنما هي خرافات وأساطير.
والواقع أن العقاب قد لا ينزل ضرورة في الجيل الأول، الذي وقع في الفساد والانحراف، بل قد لا ينزل في الجيل الثاني، وقد يتعدى ذلك، ولكن كما ذكرت إن الفساد الخلقي بطيء الانتشار، ولكنه ينتشر بعمق، وقد تظهر الآثار بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة بحسب قوة انتشار الفساد، وبحسب المقاومة لهذا الفساد من المصلحين.(113/6)
أسلوب أعداء الإسلام في محاربة المسلمين
وإذا كان أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم، أعداء خارجيين يسهل التحرز منهم وكل إنسان يدرك عداوتهم، فإن هؤلاء الأعداء أدركوا بعد قرون من صراعهم مع الإسلام، أدركوا، كما قال أحدهم: " إن شجرة الإسلام لا يمكن أن تجتث إلا بغصن من غصونها" أي أن المهمات التي يريدون تحقيقها في المجتمع الإسلامي في عالم المرأة وغيره لا يمكن أن تتحقق فعلاً إلا إذا وجد من المحسوبين على الإسلام من ينادي بها ويطالب بها ولذلك عملوا على تربية أجيال من الجنسين من الرجال، ومن النساء تربية خاصة، فرضع هؤلاء ألبان الغرب وأشربوا حبه وحب ما جاء به من آراء وأفكار ونظريات، وصاروا في بلاد المسلمين طابوراً خامساً ينادي بما ينادي به الغربيون، من الدعوة إلى تحرير المرأة كما يزعمون، أو إلى خروج المرأة للعمل، أو إلى تحريك نصف المجتمع المعطل، أو إلى غير ذلك من الشعارات التي يتشدقون بها بألسنتهم، والواقع أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، بل هؤلاء أصحاب شهوات ونزوات، يسعون لتحقيقها، فهم يريدون أن تكون المرأة متعة على قارعة الطريق، وقد كشف الله عز وجل مقاصدهم في كتابه فقال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] .
وقد أصبحت حال المرأة مع هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يطالبون بحقوقها وهم في الواقع يسعون إلى تكبيلها، وجعلها في موقع العبودية للرجل، وكل همها أن تسعى إلى كسب إعجابه بكل وسيلة، حال هؤلاء القوم مع المرأة، يذكرنا بالخبر الطريف، الذي ذكره الأستاذ العقاد في أحد كتبه حينما قال: "إن المندوب البريطاني في مصر كان إذا أراد أن يسجن رجلاً أو يعاقبه، أرسل إليه خطاباً وختم هذا الخطاب بقوله خادمكم المطيع فلان" هو يدعوه إلى السجن أو التعذيب، ومع ذلك يوقع باسم "خادمكم المطيع فلان".
فهكذا هؤلاء الأدعياء، الذين يزعمون أنهم محامون عن المرأة، وهم في الواقع طلاب شهوات، يريدون أن يستمتعوا بالمرأة بلا قيد ولا شرط.
إن الرجل المستعمر استعماراً عقلياً، والذي تعشش في فكره وخياله النظريات الغربية الكافرة، لا يستطيع أن يفهم معنى حرية المرأة في الإسلام، وهذا الأمر الخطير، هو الذي يحذرنا منه أحد الشعراء الإسلاميين، في قصيدة يخاطب بها المرأة المسلمة، يقول: أيتها المرأة كُفِّي من دلالك واسمعي النصح يجنبك المهالك ذلك العُري الذي آثرته رجعة للغاب لو تدرين ذلك خَلْفه أيدي الكواهين التي لا يروي غلها غير اغتيالك ثم يقول وهو يصف بالضبط خطورة انحراف المرأة: قد دَرَت أنكِ معيار القوى فإذا اختل هوى الخزي بآلك وقديماً يئسوا من قهرنا حينما أعياهم لمح خيالك غير أن الذل قد أرهقنا منذ أن خضت بنا تلك المسالك فمتى العود إلى الله وقد وضح الدرب ولا عذر لهالك أيها الإخوة إن المرأة المسلمة في هذا الزمان، وفى كل زمان، مُطالبة بتحقيق معنى كونها امرأة، مُطالبة بأن تؤمن بأنها خلقت امرأة فعلاً ولم تخلق رجلاً، وأن تدرك أن كمالها وجمالها وقوتها وسعادتها، ليست في محاولة التخلص من طبيعتها، ومحاكاة الرجال في طبائعهم، بل إن قوتها وسعادتها وكمالها، تكمن في تحقيقها لطبيعتها البشرية التي جُبلت عليها.(113/7)
صور ونماذج للمرأة المسلمة
وإننا حين نلتفت إلى الواقع نجد الأمثلة والنماذج التي نتطلع إليها، قليلة في كثير من الأحيان، ونجد أن كثيراً من المجتمعات قد اندفعت وراء تقليد المستعمر الكافر اندفاعاً أعمى، فلا تكاد تجد الأمثلة والنماذج، التي تعتبر قدوة ومثلاً أعلى لغيرها.
وفى مثل هذه الظروف والأحوال، يفزع الإنسان إلى التاريخ، يحاول أن يستلهم العبر من الأحداث والوقائع التي حدثت عبر التاريخ، ولذلك فإنني أجدني مسوقاً إلى استعراض بعض الصور والنماذج، التي ضربت فيها المرأة المسلمة أروع الأمثلة في الصبر، وفي القوة، وفي الاعتزاز بدينها، وفي معايشتها السراء والضراء مع زوجها.
أيها الإخوة والأخوات: لقد أشاد الله عز وجل في القرآن الكريم بموقف عدد من النسوة، فها نحن نجد أن الله عز وجل يضرب لنا المثل بقصة امرأة فرعون التي نشأت في هذا القصر المليء بالمغريات، المليء بالملذات الذي يقف فيه هذا الطاغية الأكبر المتأله، فرفعت رأسها في وسط هذه الظلمات تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] .
لقد أعرضت عن هذا القصر الذي تعيش فيه، وزهدت في زينته، فطلبت من الله عز وجل أن يبنى لها عنده قصراً في الجنة، وهذه المرأة قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع -منهن- مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون} .
فهذا أنموذج للمرأة المسلمة وبجواره أنموذج آخر يَمُت إليه بسبب، ألا وهو أنموذج ماشطة بنت فرعون.(113/8)
المرأة المسلمة لم تترك أعمال بيتها حتى مع قيامها بأمور دينها الخارجية
هذه صورة أولئك النسوة، على رغم المستوى الإيماني الرفيع الذي وصلن إليه، وعلى رغم المهمات الجسام التي قمن بها، سواء مشاركة المسلمين في الأعمال الجهادية المتعلقة بسقي الجرحى ومداواتهم، وحملهم وما أشبه ذلك من الأعمال المساندة، أو في حمل العلم ونقله، أو في غير ذلك، مع كل هذه المهمات الجسام، لم تنس أولئك النسوة، أن من مقتضى جبلة المرأة وطبيعتها، أن تمارس أعمالها الفطرية التي جبلت عليها، فتؤدي من هذه الأعمال ما تستطيع وتظل محتفظة بقدر من ذلك.(113/9)
أسماء رضي الله عنها في جانب آخر من حياتها
وهذه صورة أخرى لـ أسماء رضي الله عنها وهي تتعلق بجانب آخر من حياتها، فإذا كنا عرفنا قبل قليل نموذجاً لتحملها وصبرها، فإن هذه القصة تدلنا على جانب آخر من عمل هذه المرأة، وهو البيت وقيامها بالواجبات، ومشاركتها لزوجها في أفراحه ومسراته وأحزانه.
يروي الإمام مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: [[تزوجني الزبير رضي الله عنه وليس له في الأرض من مال ولا مملوكٍ ولا شيء، غير الفرس الذي كان يستعمله، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن الخبز، فكن نساء صدق من الأنصار جيراناً لي يساعدنني في ذلك، قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهذه الأرض على مساحة ثلثي فرسخ من بيت الزبير -أي بقدر ميلين- قالت فجئت ذات يومٍ وقد حملت النوى على رأسي، فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره فهمَّ صلى الله عليه وسلم لينيخ بعيره ليركبها خلفه إلى دارها قالت: فاستحييت وعرفت غيرة الزبير فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما يجول في نفسها، فواصل المسير وتركها]] وفى رواية أخرى لـ مسلم أضاف: [[أن رجلاً فقيراً قال لـ أسماء: يا أم عبد الله إنني رجل فقير، وأريد أن أبيع في ظل دارك، يريد أن يتخذ من ظل بيتها مكاناً يبسط فيه بضاعته- فقالت له: إن رخصت لك في ذلك أبى الزبير ولكن ائتني وأنا عند الزبير فاطلب مني ذلك، فجاءها وعندها الزبير فقال: لها يا أم عبد الله إنني رجل فقير وأريد أن أبيع في ظل دارك، فقالت له: مستنكرة عليه -وهي تتظاهر بذلك أمام الزبير - أما لك في المدينة إلا داري؟ فقال لها الزبير: مالكِ أن تمنعي رجلاً فقيراً أن يبيع في ظل دارك، فقالت: فكان يبيع إلى أن كسب فبعت عليه أمة -أي عبدة- كانت عندي.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أبو بكر أرسلها إليها، قالت: فكانت تحمل عني سياسة الفرس فكأنما أعتقتني قالت: فبعت عليه هذه الأمة، فدخل علي الزبير وثمنها في حجري، فقال: ألا تهديه إلي؟ قالت: إني قد تصدقت به]] .(113/10)
نموذج فاطمة رضي الله عنها
يروي أبو داود في سننه، عن علي بن أعبد عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قال له: {ألا أحدثك عني وعن فاطمة، قال: بلى، قال: إنها كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أهله إليه، وكانت عندي -أي أنه تزوجها- قال: فجرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وطبخت بالقدر حتى دكنت ثيابها، فسمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه رقيق أو خدم، فقلت لها: لو ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألتيه خادماً، فذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى بيت أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد أن تسأله خادماً، فلم تجده، أو وجدت عنده حُداثاً -أي: قوماً يتحدثون- فاستحيت فرجعت إلى بيتها، فلما أخذا هي وعلي مضاجعهما، طرقهما الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء حتى جلس بينهما، فقال: ما الذي جاء بك يا بنت رسول الله؟ فاستحيت وسكتت، فقال علي -رضي الله عنه وأرضاه- أنا أخبرك يا رسول الله، إن فاطمة قد جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، وأوقدت على القدر حتى دكنت ثيابها، وإني سمعت أن خداماً أو أعبداً جاءوك، فقلت لها: اسأليه صلى الله عليه وسلم خادماً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم، إذا أويتما إلى مضاجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين فإنه خير لكم من خادم} والحديث أصله في الصحيح، وخرج من عندهما صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن هذه الأذكار قد جربت لمن حافظ عليها عند النوم أنه يجد من القوة والقدرة على معاناة الأعمال ما لا يجد غيره" وهذا سر فيها، يدل عليه توجيه النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلي إلى ذلك، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه [[فوالله ما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: ولا ليلة صفين قال: ولا ليلة صفين]] .
وهذه القصة أيضاً ليست هي الوحيدة، بل إنني أقول: إن معظم نساء الصدر الأول من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم أو زوجات الصحابة كن على مستوى قريب من هذا المستوى.(113/11)
نموذج أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها
يروي الإمام مسلم في صحيحه [[أن الحجاج حين صلب عبد الله بن الزبير، وضعه على جذع في عقبة المدينة وهو موضع في مكة، وكانت تمر به قريش ويمر به الناس، فمر به عبد الله بن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- فوقف عليه -أسيفاً حزيناً- فقال: السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، ثم قال: أما والله إنك إن كنت ما علمتك إلا صواماً قواماً وصولاً للرحم، والله لأمة أنت أشرها لأمة خير.
ثم نفذ عبد الله بن عمر في طريقه، فسمع الحجاج بالخبر، فأمر بإنزال عبد الله بن الزبير من الجذع فأنزل وألقى به في مقابر اليهود، والحجاج طاغية آخر من الطغاة الذين حفل بهم التاريخ، فألقى هذا الصحابي الجليل الذي له من المآثر العظيمة، التي لا يتسع المجال لذكرها وهو أول مولود بعد الهجرة في المدينة، وأول ما وصل إلى بطنه هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح، ومع ذلك يجرؤ هذا الرجل على أن يلقي به بين قبور اليهود، ثم يرسل هذا الطاغية رسولاً إلى أمه أسماء رضي الله عنها يرسل إليها رسولاً لتأتي إليه، فترفض أسماء وتقول: لا آتى إليه، وحين يأتيه الرسول، يقول له: ارجع إليها وقل لها لتأتيني أو لأبعثن إليكِ من يسحبك بقرونكِ، فتقول: لا والله لا آتيه، فليبعث إلي من يسحبني بقروني.
فلما رأى الحجاج صلابتها قال: أروني سبتيتي -أي أعطوني حذائي- فلبس نعاله وذهب إليها، فدخل عليها مغاضباً مستفزاً لها يقول: هل سرك ما صنعنا بعدو الله؟ وهو يعلم أنه ليس بعدو الله؟! وهو يعلم أنه ابنها الذي غذته بلبنها، وفرحت به صغيراً وربته كبيراً، ويعلم أن فقده عليها عزيز، ومع ذلك يقول: هل سرك ما صنعنا بعدو الله؟ -قالت: " أما والله إن كنت أفسدت عليه دنياه، فلقد أفسد عليك دينك" فانظر إلى حكمة هذه المرأة وقوة منطقها وغلبتها لمثل هذا الطاغية بالحجة والبيان، ثم قالت رضي الله عنها: بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين -كأنه يعيره بهذا- وأنا ذات النطاقين، كان لي نطاقٌ فشققته نصفين، أحدهما أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي بكر على الدواب وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه -وكأنها تقول: فكيف تعيره بهذه الفضيلة والمحمدة، فيصبح الأمر كما قيل: إذا ما محاسني اللاتي أدل بها صارت عيوباً فقل لي كيف أعتذر ولقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فقد عرفناه -وتعنى بذلك والله أعلم المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي نسب إليه ادعاء النبوة- "وأما المبير" -ومعنى المبير: الذي يكثر القتل في الناس- فوالله ما أحسبه إلا أنت، فخرج الحجاج من عندها يجر ثوبه منكسراً ولم يرد عليها، بل إنه قال في بعض الروايات: جئنا لنعلمها فعلمتنا أو نحو ذلك]] فهو يشعر بأنه جاء ليوبخها فوبخته هي، وخرج من عندها بهذه الصورة! فهذه صورة امرأة فقدت ابنها فلم تتزعزع ولم تتزلزل، بل إن بعض الروايات تقول: إن ابن الزبير حين حصر بمكة جاء إلى أمه يقول لها: [[يا أماه أنت ترين الآن وقد حاصرني العدو، وقَلَّ من معي من الجند، ولا بد من الهزيمة، فما رأيك أن أستسلم لهم وأدع القتال، فقالت له: إن كنت إنما تقاتل في سبيل الله، فلا يسعك أن تتخلف عن القتال ما دامت روحك في جسدك، وإن كنت تقاتل في سبيل الدنيا فبئس العبد أنت، فقال لها: والله يا أم ما قلت ذلك إلا لأختبر صبرك فقد عرفت]] وفعلاً حققت هذه الأم من الصبر ما حققت.
أيها الإخوة: هذه صورة من صور القوة، تُطالب المرأة المسلمة اليوم بأن تجعلها نصب عينيها، وأن تدرك أن بإمكانها أن تقاوم الفساد والانحراف، وأن تقف في وجه المغريات الكثيرة التي تضج بها المجتمعات.
وهناك صور أخرى تعبر عن جوانب غير جانب القوة والصبر الذي سبق فمن ذلك جانب القيام بالمهمات، والأعمال الطبيعية التي أنيطت بالمرأة، فالمرأة خلقت لمهمات محددة واضحة، تتعلق بمشاركة الزوج في البيت وخدمته، ورعاية الأولاد، وبناء الأجيال، وما أشبه ذلك من الأعمال.
وانظروا إلى صورة أخرى، وهى صورة امرأة من أفاضل النساء، وكفاها فخراً وشرفاً أنها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم، أفضل الأولين والآخرين.(113/12)
نموذج ماشطة بنت فرعون
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه شأن هذه المرأة وأولادها، تُرى ما شأن هذه المرأة، التي وجد النبي صلى الله عليه وسلم طيب ريحها وزكاه في السماء، وهو في الملأ الأعلى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قلت: وما شأنها يا جبريل؟ فقال جبريل: إن هذه الماشطة، بينما كانت تمشط ابنة فرعون، إذ سقط المدرار -وهو المشط- من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: (أبي) -تربَّت هذه البنت على أن أباها هو الله فلم تكن تعرف غيره وفق التربية، وإن كانت الفطرة موجودة- فلما قالت هذه المرأة: بسم الله، فسألتها: أهو أبي، فقالت الماشطة: لا، ربي وربك ورب أبيك هو الله الذي في السماء، فقالت: هل أخبر أبي بذلك؟ قالت: نعم.
أخبريه -هذا التحدي من امرأة خادمة في قصر فرعون، تتحدى هذا الفرعون الطاغي، ولا تأبه فتقول: نعم أخبريه- فتذهب البنت إلى أبيها وتقول له: يا أبتي إن الماشطة تقول: إن ربى وربها وربك هو الله، فدعا فرعون الماشطة وسألها: أو لك رب غيري؟ قالت نعم.
ربي وربك الله، فأمر هذا الطاغية المتأله بنقرة من نحاس -أي قدر- فأحمي عليه في النار حتى أحمر، ثم أتى بأولادها وبدأ يقذف بهم في هذا القدر واحداً بعد الآخر، على مرأى من أمهم المؤمنة المحتسبة، وتجلدت هذه المرأة في وجه الطغيان وصبرت ولم تهن عزيمتها، أو تضعف قوتها، حتى كان معها صبي يرضع فكأنها أشفقت عليه ورحمته وترددت هي بعض التردد، فأنطق الله عز وجل هذا الصبي فقال: يا أماه اصبري فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فتقدمت وألقت بنفسها في هذا القدر، وقالت لفرعون: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟ قالت: إذا قتلتنا أن تضع عظامي وعظام بني في بيت أو قبرٍ واحد، فقال: ذلك لكِ علينا من الحق} .
يقول ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه: [[تكلم في المهد أربعة -أربعة صغار- عيسى بن مريم، وابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب قريش]] والحديث رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورواه بإسناد آخر ابن ماجة في سننه.
هذه الصورة العظيمة، التي لا تكاد تتكرر على مدار التاريخ، إنما صنعتها امرأة لم تصنعها بقوتها، بل بقوة الله، ولولا أنها تملك من قوة الإيمان، ورباطة الجأش ما تملك، لما استطاعت أن تقف هذا الموقف الذي ينهزم فيه أكابر الرجال وليس هذا الموقف فريداً أو يتيماً في تاريخ المرأة المسلمة، فإننا نجد في هذه الأمة المختارة المصطفاة، امرأة جددت لنا موقفاً شبيهاً بهذا.(113/13)
عناية المرأة بطلب العلم وتحصيله
إخواني وأخواتي: إن هذه النماذج المتعلقة لعرض صور من الحياة الطبيعية التي كان يعيشها الجيل الأول يقابلها نماذج في الجانب الثاني أو الثالث وهو عناية المرأة بطلب العلم وتحصيله، فلم يلهها هذا عن هذا، وأكتفي بعرض صورتين ناطقتين معبرتين عن ذلك:-(113/14)
تأثر الصحابة بموت الرسول صلى الله عليه وسلم
انظر هذا الفقه الدقيق من هذه المرأة، إن فقد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ليس بالهين على أناس قد عايشوه مدة طويلة وحل منهم محل الروح من الجسد صلى الله عليه وسلم، وأحبوه أشد ما يكون الحب وأذكاه، ولما مات صلى الله عليه وسلم أنكروا أنفسهم حتى أظلم كل شيء في المدينة، وحتى كانوا كالغنم المطيرة، وبلغ التأثر بهم مبلغه، مع كل هذا تقول: إنني لم أبك فقط لفقد الرسول صلى الله عليه وسلم لأنني أعلم أنه انتقل إلى خير مما كان فيه، ولكنني أبكي انقطاع الوحي من السماء! إنها تدرك أن الوحي هو الطريق الوحيد لمعرفة دين الله، وشرعه، وأن السماء لن تفتح أبوابها أبداً.
هذه أيها الإخوة والأخوات ثلاثة جوانب: الجانب الأول: جانب قوة المرأة وصبرها وتحملها لما تلقى في سبيل الله.
والجانب الثاني: إن المرأة مع ذلك، ومع اشتغالها بشئون دينها ودعوتها، فإن هذا لم يصرفها عن القيام بأعمالها الطبيعية التي كلفت بها.
والجانب الثالث: أن هذا وذاك لم يصرفاها عن السعي في طلب العلم وجمعه وتحصيله.
أسأل الله عز وجل أن يصلحنا جميعاً رجالاً ونساءً وأن يحمينا من كيد أعدائنا، وأن يبصرنا بمواطن الضعف في أنفسنا.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(113/15)
نموذج أم أيمن رضي الله عنها
والأنموذج الثاني: هو ما ورد في الصحيح أيضاً عن أنس بن مالك -رضي الله عنه وأرضاه- قال: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر: انطلق بنا إلى أم أيمن -وكانت أم أيمن حاضنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم- انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فذهبا إليها فلما دخلا عليها بكت! -وكانوا حدثاء عهد بقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنني أبكي انقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها!]] .(113/16)
نموذج عائشة رضي الله عنها
فقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، على رغم صغر سنها يوم دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم وهى بنت تسع سنين، كما في الصحيح وتوفى عنها وعمرها (18) سنة، ومع ذلك فقد كانت أنموذجاً للحفظ والضبط والعلم، حتى إنها حفظت للأمة خيراً كثيراً، وقال أبو موسى -رضي الله عنه وأرضاه-: [[ما سألنا عائشة رضي الله عنها عن شيء إلا وجدنا عندها منه علماً]] فهي معلمة الرجال.(113/17)
الأسئلة(113/18)
حكم خروج المرأة دون علم زوجها
السؤال
ما حكم خروج المرأة دون علم زوجها؟
الجواب
إذا كان خروج المرأة لغير غرض، وبدون إذن الزوج، فهي معصية للزوج، بحيث إذا رفض الزوج أن تخرج فلا تخرج، ولو لم يرفض لكنها تعلم أنه لا يوافق، فلا ينبغي ولا يجوز لها أن تخرج بدون علمه، كما أن الخروج لغير حاجة أصلاً ليس مطلوباً من المرأة.(113/19)
حكم تأخير المرأة للصلاة
السؤال
كثير من النساء يؤخرن صلاة العشاء إلى قبيل الفجر الساطع، ذلك لأنهن يقعدن في الأعراس، فلا يأتين إلا متأخرات، وحين يأتين يغفلن عن الصلاة، أو يتساهلن بداعي الكسل والتثاؤب والنوم، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
لا ينبغي للإنسان أن يتعامل مع الصلاة، التي هي مُثول بين يدي الله عز وجل بهذه الطريقة، ويجب أن نؤدي الصلاة في أي مكان حللنا فيه، وليس بالضرورة أن للصلاة مكاناً خاصاً، وثوباً خاصاً لا يمكن أن تؤدى إلا فيه، بل إذا التزمت المرأة بالستر في صلاتها، فلها أن تصلي في أي مكان وبأي ثوب، أما صلاة العشاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم ربما أخرها إلى ثلثي الليل، وفي بعض الروايات إلى نصف الليل، فلا ينبغي أن يتعدى بها هذا.(113/20)
حكم سفر المرأة بدون محرم
السؤال
ما حكم سفر المرأة في الطائرة لوحدها؟
الجواب
هذا يدخل في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن أن تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من المتعظين {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(113/21)
نصيحة حول الخشوع في الصلاة
السؤال
تقول السائلة: أنا فتاة مسلمة أخاف ربي وأصلي بفضل الله، لكني لا أخشع في صلاتي وأفتقر إلى الخشوع، أي أنني كثيرة التفكير أثناء الصلاة، بماذا تنصحني؟
الجواب
الخشوع -أيها الإخوة والأخوات- هو أول علم يفقد من الأرض، ولذلك في الحديث الصحيح بمجموع طرقه عن زياد بن لبيد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هذا أوان يختلف العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء، فقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله، كيف وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت أعدك من فقهاء المدينة، هؤلاء اليهود والنصارى عندهم التوراة والإنجيل، فما أغنت عنهم} .
قال الراوي وهو سالم بن أبي الجعد: فلقيت عبادة بن الصامت فسألته، فقال: [[إن شئت لأحدثك بأول علم يرفع من الأرض: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع، فلا ترى رجلاً خاشعاً]] والخشوع: حالة في القلب -ليس هو تكلف الدمع والبكاء- لا يملك الإنسان لها دفعاً، وهي مرحلة تحتاج إلى صبر ومجاهدة ووقت واستمرار.
أما الذي يظن أن هذه الأشياء سوف تأتيه بمجرد أنه يريدها فهذا صعب، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه على تفهم القرآن، وعلى استحضار القلب في دعائه وذكره، وعلى تغيير الأذكار الذي يدعو بها والتنقل بين الأذكار الواردة، وكذلك التنقل بين السور القرآنية فلا يداوم على سورة يقرؤها في كل صلاة، بحيث قد يقرءوها وقلبه غافل، بل يحرص على أن يختار اختياراً حتى يستحضر قلبه، ومع المجاهدة تحصل الهداية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .(113/22)
حكم ذهاب المرأة إلى المدرسة أو السوق بدون محرم
السؤال
كثير من الفتيات يأتين إلى الأسواق والمدارس بدون محرم فهل هذا جائز؟
الجواب
يأتين إلى الأسواق والمدارس بدون محرم، هل المقصود أنهن يركبن مع رجال أجانب كالسائقين -مثلاً- فهذا الأمر فيه خطورة كبيرة جداً كما تعلمون، والمرأة حين تركب في السيارة مع هذا السائق تكون في وضع يشبه الخلوة من بعض الوجوه، ويمكن أن يجري بينهما حديث أو أحاديث، ويمكن أن يكون هناك نوع من الألفة بسبب استمرار هذا العمل، وهذا أدعى إلى وقوع المحظور.
فعلى المرأة أن تحتفظ بكرامتها، وتصون عفافها، وتبتعد عن كل ما يمكن أن يدنسها.(113/23)
حكم خروج المرأة متزينة متطيبة
السؤال
إذا خرجت المرأة متزينة أو متطيبة فما الحكم في ذلك؟
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الأسواق أو غيرها متطيبة، لأن النهي ورد عن خروجهن إلى المساجد متطيبات، بل قال صلى الله عليه وسلم: {وليخرجن وهن تفلات} فكيف بالخروج إلى غير المساجد، إلا أن تكون ستذهب إلى مجتمع من النساء، فهذا أمر آخر.(113/24)
حكم سماع الأغاني
السؤال
ما حكم سماع الأغاني مع ذكر دليل مختصر؟
الجواب
سماع الأغاني لا يجوز، وأقصد بالأغاني ما يتبادر إلى أذهانكم جميعاً، من سماع هذه الكلمة، وهو الغناء الذي فيه الغزل، والدعوة إلى الفساد، وهو ما ينشر ويبث بين الناس اليوم، أما الأدلة على ذلك، فقد استدل بعضهم بقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] وأقسم بعضهم أنه الغناء، وورد في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث أبي مالك الأشعري في صحيح البخاري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: {ليكونن في آخر أمتي أقوام يستحلون الحِر والحرير، والخمر والمعازف} والحر هو الفرج.
فهم (يستحِلُّون) ، معنى ذلك أنها أشياء محرمة استحلوها، كالزنا ولبس الحرير، والخمر، وقرن بها المعازف، فدل دلالة واضحة على حرمتها، ومن أراد المزيد عن هذا فليرجع إلى كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان للإمام ابن القيم.(113/25)
حكم مصافحة المرأة لغير المحارم
السؤال
ما حكم مصافحة النساء للرجال غير المحارم؟
الجواب
لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: {لأن يطعن في يد أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له} وفي حديث عائشة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة قط، إلا امرأة يملكها، إنما كان يبايعهن كلاماً} .(113/26)
حكم أخذ المرأة من مال زوجها دون علمه إذا كان لحاجة
السؤال
إذا أخذت الزوجة مبلغاً من مال زوجها دون علمه فاشترت به حوائج لبيته وبيتها، هل هذا جائز؟ وهل للأخذ إذا كان جائزاً مقدار؟
الجواب
إذا كانت الحوائج التي أخذت لها حوائج ضرورية، بخل الزوج بالإنفاق فيها، فإنه يجوز لحديث هند بنت عتبة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: {إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، فهل آخذ من ماله لي ولولدي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك} .(113/27)
حكم رفع الصوت بالبكاء على الميت
السؤال
هل يجوز رفع الصوت للنساء في البكاء أثناء التعازي مثلاً أو فقد الأحياء؟
الجواب
البكاء هو فطرة وطبيعة، وقد دمعت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من المواقف، دمعت عينه حين مات عثمان بن مضعون، ودمعت عينه حين مات ابنه إبراهيم، وفي مواقف أخرى، فاستغرب الصحابة وقالوا: {ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} .
لكن رفع الأصوات بالبكاء هو النياحة المنهي عنها.(113/28)
مشكلة رفض المرأة للزواج بحجة إتمام الدراسة
السؤال
كثير من الفتيات يتقدم لهن بعض الشباب فيرفضن ذلك بحجة إتمام الدراسة، مع أن المتقدمين أكفاء أمناء فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
هذه الحقيقة من المشكلات الكبيرة في مجتمعنا، والتي أصبحت ظاهرة خطيرة، ونحن ننادي دائماً بأن المرأة يجب أن تنسجم مع فطرتها، ويجب ألا تغالب الفطرة، لأن الذي يغالب الفطرة والجبلة فهو مغلوب، فالمرأة تعرف بلا شك، أن الغريزة فطرة مركوزة فيها، وأنه لا بد من إشباع هذه الغريزة بالطريقة الشرعية الصحيحة.
في حين أن الدراسة أمر مهم ولا شك، لكنه ليس بنفس القدر، فتجد كثيراً من الفتيات يرفضن الزوج الكفء بحجة مواصلة الدراسة، فيواصلن الدراسة فتكبر أعمارهن، فيعزف عنهن الخطاب، لأن قطار الزواج أو شك أن يفوت، فيتقدم لها إنسان أقل من الأول الذي تقدم لها، فترفضه؛ لأنها تطمع أن تحصل على نفس النوعية أو أفضل، فتظل تقدم تنازلات بعد فوات الأوان.
فلذلك تجد عدداً من الفتيات يتقدم بهن السن، ويتركن الزواج، أو يصرن إلى حال لو تصورنها قبل لبادرن إلى الزواج.
فأقول: قضية الزواج قضية فطرية، وأنصح كل مسلمة أن تعتبر الزواج أهم من الدراسة وأهم من غير الدراسة، إلاَّ إذا أمكن التوفيق بين الأمرين فهو شيء طيب.
أما أن تكون طالبة وقد تكون في كلية الطب -مثلاً- فتقضي سبع سنوات في الدراسة بعد المرحلة الثانوية، ثم بعد هذه كله تريد أن تحصل على الزوج الذي يناسبها، فهيهات لا أظن أن الزوج سوف يجلس في انتظارها، بل قد يضطر بعض الناس الطيبين إلى الزواج بنساء غير متعلمات، وأقل مستوى من المطلوب لهذا السبب.(113/29)
استعمال حبوب منع الحمل في رمضان لمنع الطمث
السؤال
هل حبوب منع الحمل جائز استعمالها في رمضان، لتأخير الطمث؟
الجواب
الأولى ألا تستعمل المرأة هذه الحبوب في رمضان؛ لأن هذه أيضاً قضية فطرية، والحيض وظيفة عضوية، يجب أن تؤدي دورها بصورة طبيعية ولا نتعرض لها، وكثرة استعمال المرأة للحبوب المانعة للحمل، يؤثر عليها كما ذكر ذلك الأطباء، والشرع أباح لها أن تفطر، بل أمرها وأوجب عليها أن تفطر إذا كانت حائضاً وتقضي أياماً أخرى.
أما لو كانت المرأة في الحج، وحاضت قبل أن تطوف بالبيت، أو خشيت الحيض قبل أن تطوف بالبيت، ففي مثل هذه الحالة يمكن أن تتناول هذه الحبوب، حتى تتمكن من إتمام حجها، خاصة إذا كانت مع رفقة قد يسافرون ويتركونها، أو قد تتعرض لبعض الإحراجات.(113/30)
من صام الست من شوال لا يلزمه صيامها كل عام
السؤال
هل يلزم من يصوم الست من شوال -مثلاً- يصومها في أول سنة تطوعاً، هل يلزمه بذلك أن يصومها كل عام، بمجرد صيامه لها لأول مرة؟
الجواب
أبداً لا يلزمه ذلك، بل هي تطوع لو شاء صامها ولو شاء لم يصمها، ولو صام بعضها أُجر على ما صام، ولو صام في سنة وترك الصيام في سنة أخرى، فهذا أيضاً لا شيء فيه، ولكن الأفضل دائماً أن يصومها الإنسان لما ورد من فضلها.(113/31)
مخاطبة المرأة للرجل عبر التليفون بعبارات لينة
السؤال
تتساهل كثيرٌ من الفتيات بالمكالمات الهاتفية، أو مخاطبة الرجال بعبارة لينة، فهل في ذلك خضوع في القول؟
الجواب
نعم، إذا كان فيه تساهل، وعبارات لينة، واسترسال في الحديث أيضاً، فإن هذا نوعٌ من الخضوع بالقول، الذي نهيت عنه المؤمنات، ونهيت عنه أمهات المؤمنين بالدرجة الأولى، في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] .
وإذا كانت أم المؤمنين منهية عن الخضوع بالقول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، فما بالك بغيرها.
فيجب على المرأة أن تبتعد عن هذه الأشياء التي لا تنفعها في دينها ولا في دنياها، بل هي مجرد مضيعة للأوقات وإشغال للقلب.
أقول: ومن الخضوع بالقول سلام المرأة إذا دخلت على صاحب الدكان، فالنتيجة والعلة ظاهرة فيطمع الذي في قلبه مرض.(113/32)
نصيحة لمواجهة المضايقات التي تجدها الفتاة الملتزمة
السؤال
تجد الفتاة المتدينة مضايقة في بعض الأحيان من أهلها، ومن بعض زميلاتها، فكيف تصنع؟
الجواب
ذكرنا خلال المحاضرة نماذج لصبر المرأة المسلمة، فليس أمام الفتاة المسلمة إلا الصبر، وتحمل هذه المضايقات، مع الحرص على أن يكون جانبها سليماً، بمعنى ألا تكون هي بادأت غيرها بنوع من التعدي، فعليها أن تؤدي حقوق والديها -مثلاً- وحقوق زميلاتها، وحقوق معلماتها، بقدر ما تستطيع، وتتجنب الأشياء التي تثيرهم من الأمور التي ليست واجبة في الدين، ثم إذا حاربوها لأنها متدينة، أو متمسكة بدينها، فعليها أن تصبر وتواجه ذلك قدر ما تستطيع بالهدوء، هدوء الأعصاب، ورباطة الجأش، وتستعين بالله عز وجل فإن الله عز وجل قريب يسمع دعاء الداعين، ويجيبهم كما وعد سبحانه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .(113/33)
حكم مخالفة أمر الوالدين بغير علمهما
السؤال
والدي حلف ألا يدخل الفيديو بيته، فقد عصيته بذلك وأدخلته سراً وهو لا يدري، هل ذلك ينافي بر الوالدين؟
الجواب
لا شك أنه ينافي بر الوالدين، وينافي طاعة الله عز وجل والمصلحة، فإن إدخال هذا الجهاز إلى البيت الأعم الأغلب من أحواله، أنه تعرض فيه الأفلام الساقطة، فهو مدعاة إلى انحطاط المجتمع وفساد البيت بمن فيه، ولهذا وقف هذا الأب ضد دخوله في البيت كما يقف ضد دخول اللصوص والسراق، بل أشد من ذلك، لأن لصوص الأموال أهون وأخف ضرراً من لصوص الأعراض ولصوص الأخلاق.
فهذا الفعل هو عصيان لله عز وجل، ثم هو عصيان للوالد ومخالفة لبره، لأنه أمرك بأمر فيه طاعة لله فعصيته وخالفت أمر الله عز وجل.
وهناك من يقول: إنني قد أستعمل هذا الجهاز في أفلام نافعة، فأقول: الواقع أن الأفلام المفيدة النافعة اليوم تعد على الأصابع، فهي قليلة، فيشاهدها الإنسان ثم تنتهي فيذهب لينظر كما ينظر غيره من الناس.(113/34)
وجوب قضاء صوم من أفطر جاهلاً
السؤال
تقول السائلة: لم أصم في العام الذي بلغت فيه، فهل علي قضاء ذلك حيث إنني صغيرة ولا أدري، بعدما علمت أمارات البلوغ علمت وعرفت بأني فَوَّتُّ على نفسي عاماً لم أصمه في بداية البلوغ، فهل أصومه أم ماذا، وأنا كبرت الآن؟
الجواب
نعم، عليها أن تقضي ما فاتها من الصيام، سواء بلغت قبل الشهر فتصوم الشهر كله، أو بلغت في أثناء الشهر فتصوم ما أدركت منه.(113/35)
تغطية الوجه
السؤال
هل الحجاب منه تغطية الوجه، أم لا بأس من إظهاره؟ وهل هناك دليل على ما تقولون؟
الجواب
أما الحجاب فتغطية الوجه منه، وقد أمر الله عز وجل نساء المؤمنين، أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، والضرب بالخمار على الجيب هو أن الخمار ينزل من أعلى الرأس إلى الجيب، فيشمل هذا تغطية الوجه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح أبو الأعلى المودودي رحمه الله ألف كتاباً سماه: الحجاب، وهو كتاب نافع، ومنهم الشيخ الإمام ابن تيمية، ومنهم الشيخ محمد بن عثيمين، وهناك أيضاً رسالة مفيدة اسمها رسالة الحجاب لـ عبد القادر السندي.(113/36)
زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم زيارة المرأة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الذي يظهر أن الأولى بالمرأة ألا تزور المقابر كلها لعموم النهي، كما في قول أم عطية رضي الله عنها في الصحيحين: [[نهينا عن اتباع الجنائز]] ولما يترتب على ذلك من خوف الفتنة، وإذا كانت الفتنة مخوفة بزيارة قبر إنسان عادي، فهي أخوف بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وكذلك لا يجوز لرجل ولا امرأة أن يسافر لزيارة قبر ما، وإنما يقول ذهبت أو سافرت لزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأثناء وجودي أسلم على رسول الله -إذا كان رجلاً- وإذا كانت امرأة فالحديث كما سمعتم عامٌ ومطلق: {لعن الله زائرة القبور} .(113/37)
حكم دخول المرأة للمسجد وهي حائض
السؤال
ما حكم دخول المرأة المسجد لسماع الخطبة وهي حائض؟
الجواب
ورد في حديث فيما يتعلق بصلاة العيد عن أم عطية أيضاً وفيه قولها: [[فأمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحُيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين]] .
أي: أنه لا يجوز لها أن تدخل المسجد وتمكث فيه وهي حائض، وإن كانت تستمع خارج المسجد أو في بيتها فلا بأس، هذا ملخص الإجابة والله أعلم.(113/38)
حكم قراءة القرآن للحائض
السؤال
ما حكم قراءة القرآن للضرورة للمرأة الحائض؟
الجواب
حقيقة لا أستطيع أن أفتي بهذا، لكنني أنقل لكم فتوى للشيخ محمد بن عثيمين، أن هذا يرخص فيه للضرورة الملحة، ويحسن ألا تمس المصحف، بل يكون من وراء ستار.(113/39)
حكم مجامعة الرجل لزوجته وهي حائض وهو لا يعلم
السؤال
ما حكم الرجل إذا جامع زوجته وهي حائض ولم يعلم بأنها حائض إلا بعد ذلك وهي تعلم، فما الحكم على الرجل وعلى المرأة؟
الجواب
لا شك أن القضية إن كانت كما وصف، فالإثم في هذه الحالة على المرأة، حيث مكنت الرجل من نفسها، دون أن تشعره بذلك، أما الرجل فإن كان لا يعلم فإن الله عز وجل لا يؤاخذه على ذلك.(113/40)
نصيحة إلى موسوس
السؤال
إذا صليت أكثر من الوسواس في صلاتي، فاضطر إلى إعادة الصلاة، فهل هذا جائز في حقي؟
الجواب
هذه الوساوس هي من كيد الشيطان بلا شك، والله عز وجل يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] لكن لا بد من نوع من المجاهدة فالإنسان الذي ابتلي بهذه الوساوس سواء كانت وساوس في الوضوء أو في الصلاة، أو في غير ذلك.
لكن على الإنسان أن يقف وقفة حاسمة وسيجد أنه خلال مدة وجيزة قد تخلص من هذا الوسواس، وقد جرب ذلك مراراً، وثبت أنه يمكن فعلاً خلال مدة قصيرة التخلي عنه، لكن بشرط أن يكون لدى الإنسان إرادة قوية، ينفذ فيها ما يقتنع به، فعلى الإنسان -مثلاًً- إذا كان يوسوس في الصلاة بزيادة، أو نقص، ثم يعيد الصلاة، فإذا أعادها وسوس مرة أخرى، عليه ألا يلتفت إلى هذا الوسواس، فيصلي ولا يلتفت إلى هذا الوسواس، ولا يسجد للسهو أيضاً، ويظل على هذا الأمر ولا يلتفت لهذا الوسواس أصلاً، ولا يعيد الصلاة بطبيعة الحال، ولو وسوس له الشيطان بأن وضوءه سقط لا يقبل.
وسيجد خلال عشرة أيام -مثلاً- أو نصف شهر، أن هذه الوساوس بحمد الله قد زالت، وقد ذكر بعض الناظمين الحالات التي لا يؤثر فيها الشك، يقول أحدهم: والشك بعد الفعل لا يؤثر وهكذا إذا الشكوك تكثر فإذا كثرت عند الإنسان الشكوك والوساوس، فإنها لا تؤثر ولا يلتفت إليها.(113/41)
حكم كشف الوجه لغير المحارم
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تكشف وجهها عند أخي زوجها مثلاً؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الدخول، قال: {إياكم والدخول على النساء، فقيل يا رسول الله: أرأيت الحمو؟ -والحمو هو قريب الزوج، أخوه أو ابن أخيه، أو ما أشبه ذلك- قال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} إشارة إلى خطورة التساهل به، وذلك لأن كثيراً من الناس بسبب اجتماع العائلات في بيت واحد يتهاونون بهذا الأمر، فتتهاون المرأة بالكشف لأقارب زوجها، ويتهاون الزوج بذلك أيضاً فلا يأمرها به.
وقد يحدث أن يقبل إنسان من هؤلاء الأحماء على زوجة أخيه مثلاً، فيرى من جمالها ما يغريه بها، ويدفعه إلى الفتنة، أو يحدث العكس، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا لكثرة وقوعه في الناس، وكثرة وقوع الناس فيه، فأخو الزوج لا يقل خطورة عن الرجل الأجنبي في ذلك.(113/42)
انقطاع نفاس المرأة قبل الأربعين
السؤال
إن مدة الطهر من النفاس المعتادة أربعون يوماً، فإذا طهرت قبل هذا المدة بعشرة أيام مثلاً، أو أكثر أو أقل قبل الأربعين، فهل تغتسل وتصلي وقت طهرها، وتبيت إلى جوار زوجها؟
الجواب
نعم.
إذا طهرت المرأة من النفاس في أقل من أربعين يوماً بعشرة أيام أو أكثر أو أقل، فإنها من حين طهرت مطالبة شرعاً بالاغتسال، وأداء الصلاة ولها أن يعاشرها زوجها.(113/43)
كلام المرأة مع الرجل في الهاتف
السؤال
ما حكم تكليم المرأة للرجل الأجنبي من خلال الهاتف، وذلك لأنها مضطرة في تكليمها له؟
الجواب
التكليم إذا كان يؤمن فيه الفتنة فهو جائز، أما إذا خشيت الفتنة فهو لا يجوز، وكثير من الأمور المباحة عند خوف الفتنة تتحول إلى محرمات، فإذا اضطرت المرأة إلى تكليم رجل أجنبي سواء في التلفون أو مباشرة، فإن لها ذلك، سواء كانت هذه الضرورة لسؤال، أو كانت لخبر، أو لغير ذلك من الموضوعات.(113/44)
مساعدة الرجل لزوجته في العمل المنزلي خاصة أثناء الحمل
السؤال
مما لا شك فيه هو وجوب طاعة الزوجة لزوجها، ولكن ما هو حق الزوجة في تعاون زوجها معها، وخاصة أثناء الحمل، أو الوضع، أو الرضاع، والأوقات التي تحتاج لتعاون الرجل معها في شئون الحياة، فهل عليها أن تسند إليه بعض أعمال المنزل أو البيت لكي يقوم بها؟
الجواب
أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يكون في مهنة أهله، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة، لكن مَنْ مِن الرجال يستطيع ما يستطيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رغم كثرة أعبائه.
فتكليف الرجل ببعض أعمال البيت، هو أمر غير عملي، ولا أظن أنه مناسب، لكن لو وجد عند رجل من الرجال أريحية، وتبسط، ومشاركة في هذه الأمور دون مبالاة فهذا أمر طيب.
إنما على الرجل أن يتعاون مع المرأة ويقدر ظروفها، فرفقة الزوج لزوجته هي رفقة عمر، وليست أمراً مؤقتاً، الأصل أنها مستمرة حتى الموت، ومثل هذا يحتاج إلى نوع من التنازل من الطرفين، يحتاج إلى تنازل من الرجل فلا يتحقق له كل ما يريد، ويحتاج إلى تنازل من المرأة أيضاً، بحيث تقدم على عمل كثير من الأشياء تلبية لرغبة زوجها ولو لم تكن راغبة في ذلك أصلاً.
وإذا أصر كل واحد من الطرفين على تحقيق رغبته فالزوج يصر على تحقيق ما يريد، والزوجة تصر على ألا تحقق إلا ما تريد، فإن ذلك قد يؤدي إلى مشاكل زوجيه، وقد يتعدى الأمر إلى الطلاق.(113/45)
صلاح المرأة في نفسها وعدم إصلاحها لغيرها
السؤال
هناك بعض الشابات الملتزمات، ولكن التزامهن يقتصر على أنفسهن وينطوين ولا يقمن بإصلاح المجتمع، فما هي وصيتكم لهن؟
الجواب
بالنسبة للفتاة التي التزمت بنفسها، ولم يتعدَّ خيرها إلى غيرها، فإنني أقول -وباختصار- إننا بحاجة إلى الفتاة التي ترفع راية الدعوة إلى الله في أوساط بنات جنسها، وتحرص على أن تكون مؤثرة فيهن، من خلال المدرسة وغيرها، وهذا الأمر لا بد منه، وهناك أملٌ كبيرٌ جداً أن يتحقق هذا الأمر، لأن الصحوة كما قلت قد عمت جميع البلاد الإسلامية.(113/46)
حكم خروج المرأة إلى العمل خارج البيت
السؤال
ذكرتم في محاضرتكم أن الغرب يدعون المرأة إلى المساواة مع الرجل إلى قولكم والخروج إلى العمل، فهل خروج المرأة إلى العمل محظور، أو منهي عنه، خصوصاً إذا كانت تخرج متحجبة وتعمل فقط في مجال النساء؟ وكيف يكون الحجاب الشرعي؟
الجواب
أعتقد أن هذا السؤال جاء تعقيباً على محاضرة أخرى فيما أتوقع، بحيث أنني لم أتطرق في هذه المحاضرة لقضية المساواة بين الجنسين، وخروج المرأة إلى العمل، وذلك لسبب وهو أن هناك نية لدى بعض طلبة العلم متجهة إلى جمع بعض المحاضرات، وتسجيل محاضرات أخرى في سائر الشئون المتعلقة بالمرأة ونشرها على شكل سلسلة من الأشرطة، ولعل موضوع هذا السؤال يكون موضوعاً لأحد هذه الأشرطة.(113/47)
كيفية غسل الجنابة للمرأة
السؤال
كيفية غسل الجنابة للمرأة؟ وضحوها لنا مأجورين؟
الجواب
إن المرأة تفيض على رأسها ثلاث حثيات، وتغسله دون أن تحتاج إلى حله، ثم تغسل بقية جسدها ثلاثاً ثلاثاً وتبدأ بميامنه، وقد سمعت من بعض النساء أنهن لا يغسلن رءوسهن من الجنابة، لسبب أو لآخر، لأن الشعر يبطؤ في الجفاف، وهذا لا يجوز أبداً، بل إن المرأة لو صلت وقد تركت غسل رأسها من الجنابة، فإن عليها حينئذٍ أن تعيد الصلاة، لأنها صلت على غير طهارة.(113/48)
حكم الصلاة التي طهرت المرأة بعد خروج وقتها
السؤال
إذا انتهت المرأة من الحيض فهل تصلي الصلاة التي اغتسلت في وجوبها أم أيضاً الصلاة التي كانت قبلها؟ كأنها تريد أن تقول إذا اغتسلت من الحيض فهل أصلي فوراً الصلاة التي اغتسلت من أجلها، أم أني أصلي الصلاة السابقة التي قبلها، والتي قد دخل وقتها وخرج قبل أن أطهر؟
الجواب
الذي صححه جمع من علمائنا، أن المرأة لا يلزمها أن تقضي شيئاً من الأوقات التي مرت بها وهي حائض، إنما عليها أن تصلي الصلاة التي طهرت فيها، بمعنى أنها لو طهرت في وقت صلاة العصر فيكفيها أن تصلي صلاة العصر، ولا يلزمها أن تصلي صلاة الظهر معها، والله أعلم.(113/49)
حكم إتيان الرجل المرأة في دبرها أثناء الحيض
السؤال
هل يجوز أن يأتي الرجل المرأة في دبرها أثناء الحيض فقط؟ فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا لا يجوز لا في حالة حيض، ولا في غيره، بل قد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً، وقال عليه الصلاة والسلام: {إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن} .(113/50)
حكم إزالة المرأة لشعر جسدها، وحكم قص شعرها ووضع المكياج
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تزيل الشعر من وجهها وجسدها، وأن تتجمل لزوجها بقص شعر رأسها، ووضع الأصباغ عليه، ووضع ما يسمى بالمكياج؟
الجواب
بالنسبة لإزالة الشعر فإزالة شعر الحاجبين لا يجوز، وقد ورد فيه حديث صحيح وأسوقه لأنه مهم، فقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة المتفلجات بالحسن المغيرات خلق الله} وقال: [[وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت امرأة فقالت له: يا ابن مسعود لقد قرأت ما بين الدفتين -أي: دفتي المصحف- فما وجدته- ما وجدت ما تقول- قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، ألم تقرئي قول الله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7]] ] .
ثم ساق بذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه صورة من موقف المرأة في استيضاحها وسؤالها عما أشكل عليها، وأنتم ترون أن هذا المرأة تقول: أنها قرأت ما بين الدفتين.
أما إزالة الشعر الموجود في اليدين، أو الساقين فالظاهر أنه لا بأس به، أما قص المرأة شعرها فإن الحديث الذي ورد في صحيح مسلم عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة.
فاستدل بهذا بعض العلماء على جواز قص المرأة شعر رأسها، وذهب آخرون إلى منع ذلك خاصة إذا كان منطلقه وسببه التشبه بالنساء الكافرات الأجنبيات، لكن لعل المرأة إذا كانت ذات زوج، ورأت في هذا مزيداً من التحبب إليه، وأن هذا أمر يعجبه، ولم يدر في بالها أنها تتشبه بالنساء الكافرات أنه أقرب إلى الجواز، وإن كانت الاستقلالية عند المرأة المسلمة في العادات والمظاهر مطلوبة.(113/51)
كتب تنصح المرأة بقراءتها
السؤال
ما هي الكتب التي توصون النساء باقتنائها وفهمها؟
الجواب
أولاً هناك كتب عامة ليست في مواضيع المرأة الخاصة، فهي تصلح للرجل والمرأة، وهذه الكتب كثيرة وفي فنون مختلفة، وأظن أنه سبق في هذا المكان أنني ذكرت بعضها في محاضرات سابقة.
أما الكتب المتعلقة بالمرأة خاصة، فإنني أحب قبل أن أذكر بعضها أن ألفت نظر المرأة المسلمة إلى أن ذكر كتاب معين لا يعني بالضرورة توثيق هذا الكتاب توثيقاً مطلقاً، فقد أذكر كتاباً ويكون فيه بعض الأخطاء ولكنه في الجملة كتاب طيب ومفيد، فمن ذلك كتاب للأستاذ أحمد محمد جمال عنوانه: مكانك تحمدي، ومن ذلك كتاب للأستاذ عمر الأشقر بعنوان: المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم، ومن ذلك كتاب للدكتور مصطفى السباعي عنوانه: المرأة بين الفقه والقانون، وهناك كتب لامرأة هي حرم الدكتور محمد رضا، أحدها: كتاب يتعلق بالتبرج وهو كتاب طيب ومفيد، وهناك كتب لامرأة اسمها حنان لحام، بعضها يتعلق بتفسير آيات أو سور من القرآن الكريم، وهي أيضاً كتب قيمة ومفيدة.
المقدم: ولنا أن نتفضل على محاضرنا، ونضيف كتاباً آخر من الكتب التي نراها مهمة فعلاً، وهو كتاب الشيخ البليهي، عنوانه: يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي، فحق على كل فتاة ولكل فتاة، أن تقف عنده وتطلع على ما فيه حتى لا تخدع.(113/52)
طريقة توعية المرأة المسلمة، وخطر المسلسلات الهدامة
السؤال
الحقيقة أن المرأة في البيت لا تصل إليها الثقافة الإسلامية، والتوعية الدينية الصحيحة، بل إن المرأة غالب وقتها أمام التلفاز والمسلسلات التلفزيونية، والحقيقة أن المرأة المسلمة يخفى عليها من يخطط ضدها من خلال هذه المسلسلات، فهل من إلقاء الضوء على هذه المسألة خصوصاً؟
الجواب
أولاً: أقول: إن هذا الذي ذكره السائل الكريم، هو شأن طائفة من النساء، وليس شأن النساء كلهن، فإننا نجد بحمد الله وهذه بشارة يكثر تكريرها وتردادها؛ لأن النفس تفرح وتسر بها، فهي كما يقول الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع إننا نجد صحوة إسلامية في أوساط النساء، كما نجد ذلك في أوساط الرجال، ونجد من فتيات العصر الحاضر من فاقت كثيراً من النساء الكبيرات سواء في الفهم، أم في العلم، أم في التحجب وعدم ظهور شيءٍ من جسدها للأجانب، أو في غير ذلك من جوانب الالتزام بالسلوك الإسلامي، وهذه والله مفخرة للأمة الإسلامية أولاً التي على رغم الضربات القاسية الموجهة إليها لم تعقم هذه الأمة، ما عقمت، بل لا زالت تخرج لنا المستقيمين الصالحين الثابتين من الرجال ومن النساء، وهو مفخرة للمرأة التي تلتزم بهذا فإنه يدعو إلى الإكبار والإعجاب، وأنت حين ترى امرأة متهتكة متبذلة، تشعر بنوع من السخرية أو عدم التقدير لها، وتحس أنك أمام إنسانٍ غير سوي، لكنك حين ترى هذه المرأة المتحجبة حجاباً إسلامياً صحيحاً، وقد غطت يديها ورجليها وأسبغت الحجاب على رأسها، ولبست ثياباً فضفاضة فإنك تحس بالإكبار والإجلال لمثل هذا النوع من النساء.
وهو أنموذج يوجد في كل بلد، ويجب أن يحتذى ويُسار على منواله، لكن لا شك أيضاً في وجود نوع من الجهل لدى كثير من النساء، بسبب ضعف الوسائل المستخدمة في إيصال الثقافة الإسلامية للمرأة، فالمرأة تقضي معظم وقتها في البيت وهذا صحيح بل هو مطلوب أصلا، ولكن يمكن أن تصل إليها أشياء كثيرة من العلم وهي في عقر دارها، وخاصة في هذا العصر فإننا نجد الكتاب الإسلامي قد انتشر بشكل كبير، وهناك كتب إسلامية كثيرة ألفت فيما يتعلق بالمرأة، وهناك الشريط الإسلامي، وهناك أيضاً عددٌ من الأشرطة الإسلامية والمحاضرات المتعلقة بالمرأة، والتي يمكن سماعها.
مع أن ما تقرؤه المرأة من كتب أو ما تسمعه من أشرطه، ليس هو فقط ما يخصها أو يتحدث عنها، فهناك أشياء كثيرة تشترك فيها المرأة مع الرجل، فكل موعظة توجه للرجال، هي أيضاً مهمة بالنسبة للنساء، ولكن يجب علينا أن نسعى في نشر العلم الشرعي، وترويج الكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي في البيوت وبين النساء بكل وسيلة، حتى نحقق نوعاً من انتشار الوعي والثقافة الإسلامية.
أما ما يتعلق بالمسلسلات سواء أكانت في التلفزيون أم كانت عبارة عن أفلام فيديو أم غيرها، فإنني أقول إن المصيبة أيها المسلمون والمسلمات، إن المصيبة كل المصيبة أن نقع أحياناً في ورطات ندرك نحن أننا مخطئون فيها، ولا يمكن أن يوجد مسلم فيما أظن وأعتقد، يجلس يستمع لهذه المشاهد السيئة، التي ليس فيها إلا ألفاظ الحب والعشق والغرام، والتأوهات والشوق واللقاء وما أشبه ذلك، بل تزيد على ذلك إلى حد أن تصبح دعوة صريحة إلى الزنا في العديد من الحالات.
خطر الأفلام والمسلسلات الهابطة: وما أظن أن مسلماً يشاهد هذه الأشياء وهو يحس بأنه يمارس عملاً عادياً أبداً، بل يدرك أنه يتعرض لسخط الله في هذا العمل، وإذا كان يدرك ذلك أصلاً فماذا عسى الواعظين أن يقولوا؟ سيقولون له إن هذا العمل حرام، ويجلب عليك سخط الله، وقد يجر المجتمع إلى عدد من المشاكل التي لا نهاية لها، لكن هذا كله لا أظنه يخفى على أولئك القوم.
بل قد تجد بينهم من هو مستعد أن يلقي محاضرة عن أضرار هذه المسلسلات، أو عن أضرار هذه الأفلام، فالقضية قضية إرادة مهزومة، وعزيمة واهنة لم تستطع أن تقف أمام الإغراء، مع أنه إغراءٌُ بسيط.
أيها الإخوة هناك مشكلة كبيرة جداً وهي أن الإسلام حين جاء كان من أبرز القضايا التي ركز عليها: هو التفريق بين المسلم والكافر، والتمييز الكامل، ووجود الولاء والنصرة بين المؤمنين، والعداء للكافرين، ومن ذلك جاء النهي عن مشابهة المشركين حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فاليوم أصبح العالم كله جزيرة واحدة، وأصبح ما يعرض في أحط وأردأ وأخس البيئات الغربية الكافرة التي لم تذق طعم الإيمان يوماً من دهرها، دول كافرة لم تكن مسلمة على مدى التاريخ، ولا عرفت الطهر والعفاف، هذا الشيء الذي يعرض في هذه الدول المنحطة، أصبحت تجده في كثير من الأحيان يعرض في أوساط المسلمين بصورة أو بأخرى، وهذا معناه أن الأمة الإسلامية، أصبحت مجرد أمة متطفلة على موائد الغرب، وأصبحت مصانع اليهود في هوليود وغيرها، تصدر الأفلام والمسلسلات، وتملؤها بما يثير الغرائز، ويحرك كوامن الشهوات، ويحطم القيم والأخلاق، وتملؤها بما يبلبل الأفكار، ويهز العقائد، ثم تصدرها إلى هذه الأمة التي أصبحت جاهزة لتقبل مثل هذه الأشياء.
فأين الولاء والبراء؟! وأين النهي عن التشبه بالمشركين؟! وأين الاستقلالية التي فطرت عليها الأمة المسلمة؟! فهذه بلية عظيمة تحتاج إلى حديث خاص، قد لا يتسع له هذا المجال.(113/53)
حوار مع الشباب
الشباب هم عماد الأمة ومصدر قوتها ونهوضها، ولابد من طرح قضاياهم ومحاولة دراستها وإيجاد الحلول لها، ومنها الوحشة بين غير المتدينين والمتدينين، وخطورة وسائل الإعلام ورفاق السوء والسفر إلى دول الكفر والفراغ العاطفي عليهم؛ وكذلك مواضيع أخرى مهمة كالزواج والانشغال بالتوافه.(114/1)
ضرورة الحوار مع الشباب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: عباد الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن رقم هذا الدرس (93) وعنوانه كما كنت أسلفت لكم (حوار مع الشباب) هذه ليلة الاثنين، الرابع عشر من شهر صفر، من سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة، ويأتي هذا الحديث ضمن سياق محاضرات ودروس حول الشباب، فقد ألقيت في المجلس السابق درساً هاهنا كان عنوانه: (يا شباب) أما اليوم فقد انتقلت من المحادثة إلى الحوار مع إخواني من الشباب.
والحوار مع الشباب ضرورة، وأتمنى من قلبي أن نفلح في إقناع إخواننا من الشباب؛ أن يبوحوا بما لديهم من الأسرار والأخبار والمشكلات، وما يعانونه أو يواجهونه في حياتهم من العقبات، فإن ذلك ولا شك هو السبيل الأقوم والأسلم لحل هذه الأمور وتوحيد وجهة المجتمع.
إنني قبل أن أبدأ في حواري معهم أو معكم، أشكر كثيراً أولئك الإخوة الذين راسلوني وواصلوني، فقد جاءني كم طيب من الرسائل والاتصالات والمحادثات الشفهية، التي كانت -بعد توفيق الله تعالى- هي عماد هذا الدرس الذي أقدمه لكم الآن، فلأولئك الإخوة الذين بذلوا مجهودهم وكتبوا إليَّ شيئاً قليلاً أو كثيراً، خبراً أو رسالة أو سؤالاً أو محادثةً أو نقداً، أو أي شيء يتعلق بالشباب، لهؤلاء مني جزيل الشكر وصادق الدعاء أن يوفقهم الله جل وتعالى لكل خير في دنياهم وأخراهم.
إن أمامي الآن أكثر من عشرة عناوين: أولها: وجه عابر.
ثانيها: ماذا عن شباب الهيئات.
ثالثها: حديث عن العشق.
رابعها: سؤال يطرحه أحد الشباب: متى أتزوج؟ خامسها: موضوع عن الشباب والرياضة.
سادسها: شلة الأصدقاء.
سابعها: مسافرون إلى الخارج.
ثامنها: كلام عن الإعلام والإعدام.
تاسعها: عقبات في طريق الالتزام.
وأخيراً: تجربة شخصية.(114/2)
وجه عابر
ولكن أيها الإخوة: عفواً؛ فأنا لا أريد حضور المحاضرات بعد الآن، ولا المشاركة في الدروس العلمية، ولا المجيء إلى هذه التجمعات الأخوية الخيرية، لقد أصبحت أضيق بها ذرعاً وأكره الحضور إليها، وأجد نفسي في ضيق وأنا بين رواد الدروس العلمية، والقادمين إلى المحاضرات والكلمات في المساجد أو المراكز أو غيرها.
هكذا يتحدث أحد الشباب، وحين تسأله عن السبب، فإنه يقول لك: نعم، أنا أجلس في استراحة أو مزرعة مع مجموعة من أصدقائي صغيرة أو كبيرة؛ وأعترف أن في جلستنا بعض مالا يرضي، وبعض ما نعرف أنه إثم، ولهذا نستره عن الآخرين.
فربما كان فيها جهاز التلفاز أو حتى الفيديو، وربما كان الدش منصوباً على سطحها يستقبل القنوات من الشرق والغرب، ولا تخلو تلك المزرعة أو الاستراحة أو المجلس أو حتى الشقة لا تخلو من الدخان أو الشيشة، وربما آلات الغناء والطبول وغيرها.
كل هذا يجري ولكننا مع ذلك -بحمد الله- محافظون على صلواتنا حتى مع الجماعة، بعيدون عن ارتكاب الفواحش والموبقات والكبائر، التي نص الله على تحريمها في القرآن وحذر من مغبتها وسوئها، وكنت أطمع قبل ذلك في صلاح قلبي واستقامة حالي، وأن أجد نفسي منتظماً في سلك مجموعة من الشباب الملتزمين، في حلقة من حلق تحفيظ القرآن الكريم، أو في درس علمي أو ما شابه.
لكن الأمر تغير، فإنني أصبحت أجد نفسي بين الإخوة الملتزمين كما لو كنت غريباً، تلاحقني النظرات والعيون الجائعة، العيون التي تسأل ما الذي جاء بك إلى هنا؟ لأي غرض أتيت؟ كما لو كان مجيئي إلى ذلك الدرس عاراً أو عيباً أو أمراً مستنكراً.
لقد كنت أتوقع أن يفرح بقدومي الشباب الملتزمون، وأن يستقبلوني بالبشاشة والترحاب، وأن يعبروا لي عن أجمل المشاعر والفرحة والسرور.
ولكني أنظر عيوناً زائغة، وأقرأ فيها أسئلة تقول: لماذا جئت؟ ما هدفك؟ هل أنت طالب علم؟ هل أنت راغب في الاستفادة أو في تغيير أو إصلاح؟ ولقد سمعت أكثر من النظرات؛ سمعت كلمات وعبارات تلاحقني وتقول لي: هذا الإنسان وجهه ليس بوجه محاضرات، ولا بوجه دروس علمية، ولا هو من روادها، فأي ذنب جنيته؟ نعم أنا مخطئ، لكن ربما يكون من ينتقدني هو الآخر مخطئاً بأمر آخر ظاهر أو خفي، وأعظم الذنوب ذنوب القلوب.
إن هذه الكلمات والنظرات، التي واجهتني وصعقتني من إخواني الملتزمين؛ أبعدتني أمتاراً بل كيلو مترات عن مجال الخير والمشاركة فيه.(114/3)
الفضول
الملاحظة الخامسة: ألحظ أننا نتميز جميعاً -أهل هذا المجتمع- وربما أستطيع أن أقول: المجتمعات العربية والإسلامية على وجه العموم في كل البلاد، نتميز بنوع من الفضول في نظرتنا التي لا معنى لها في مجتمعاتنا.
فالإنسان منا ينظر إلى كل أحد، هذا قَدِم، وهذا خرج، وهذا دخل، وهذا قام، وهذا قعد، وينظر نظرات طويلة، ثم بعد ذلك يصدر حكماً وكلاماً وتقريراً، فلان مع فلان شكله كذا ويعمل كذا، يقدم أحياناً ملاحظات دقيقة وعجيبة، فيقول أشياء، عن حال هذا الإنسان أو ملبسه أو طريقته في غاية الغرابة، مع أنه خلق مذموم، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: {أن رجلاً نظر من ثقب الباب إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: لو أعلم أنك تنظر -وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى، مشط يسرح به رأسه- فقال: لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر} أي: لا تجعل عينك تتلصص على الآخرين، تنظر إلى هذا وذاك، وتراقب هذا وتلاحظ القادم وتتلفت يمنة ويسرة وتطيل النظر، فإن هذه النظرات الفضولية عيب لا يليق بأي إنسان صادق.
رأيت الناس -مع الأسف الشديد- في بلاد غربية، يلتزمون هذا الخلق أكثر مما يلتزمه المسلمون، قدمنا إلى تلك البلاد بملابسنا المعتادة وغترنا وثيابنا، وكان منظرنا مثيراً عندها، لأول مرة يشاهده بعض أطفالهم ورجالهم، فكان الأطفال -أحياناً- يتلفتون وينظرون ببساطة وبراءة، فكان الأب يجر ولده ويزجره وينهاه أن ينظر إلى الآخرين مثل تلك النظرات، مع أنه مشهد يعد مثيراً أو غير مألوفٍ عندهم.
لو مر إنسان من أمام أحدنا، كان من الممكن أن يحدثك الآخر عن نوع ثيابه، بل عن عدد الأزارير الموجودة فيه، ولون الحذاء، وطريقة لبس الغترة أو الشماغ والطاقية، وصفة الشعر، وغير ذلك من التفاصيل، إنه نوع من نقص التهذيب الذي يحب أن نتدرج على تركه والابتعاد عنه، وأن نشتغل بالأمور الكبار ولا نضع أنفسنا لمثل هذه القضايا.
إن البحث عن الآخرين لا معنى له، ولا قيمة لأن يكلف الإنسان نفسه عناء مراقبة الآخرين، ويترك مراقبة نفسه وضبط تصرفاتها.
لنفسيَ أبكي لست أبكي لغيرها لنفسيَ من نفسي عن الناس شاغل هذا إنسان غير ملتزم وغير متدين في الظاهر يشاهد شخصاً ملتزماً، فتجده ينظر إليه من أعلاه ومن أسفله ويصعد النظر ويصوبه، ثم يقول ويطرح سؤالاً: هل الالتزام أن يخرج هذا الإنسان وهندامه -كما يقولون- مقلوب، والثوب غير مكوي، والشعر غير مسرح ولا مرجل، هل هذا مما يأمر به الدين؟ حسناً، لماذا أنت طرحت السؤال؟ طرحت السؤال لأنك تنظر إلى هذا النوع من الناس نظرة فيها كثير من المعاتبة، والبحث عن أي شيء يمكن أن يصلح للملاحظة.
وبالمقابل شخص ملتزم يعمل -كما يقولون- تشييكاً على آخر مر من عنده، فيقول: الطاقية إلى نصف الجبهة وهي منقطة، الشعر -كما يقول أحدهم- قصة مايكل جاكسون، الأزرار مفتحة إلى نصف الصدر وهكذا.
إذاً لماذا يفعل هذا أو هذا مثل هذه الأشياء؟ لماذا ننظر إلى الآخرين دائماً وكأننا نتفقد عيوبهم، بل المؤسف أنها نظرة سطحية، تقتصر على النظر إلى الغترة أو الطاقية أو الثوب أو البدلة أو البنطلون الذي يمكن أن يلبسه الإنسان، وهذا الأسلوب عليه ملاحظات كثيرة، من أهمها: أنه يعبر عن قلة التفكير وسطحيته وضعفه؛ حيث أن الإنسان لا يتعدى نظره الثوب أو الغترة أو ما أشبه ذلك.
الملاحظة الثانية: أنه يعبر عن العجز عن إصلاح النفس، فإن العادة أن الإنسان إذا عجز عن إصلاح نفسه، ربما يتجه إلى الآخرين لينتقدهم أو يلاحظ عليهم.
الملاحظة الثالثة: أن هذا نوع من فرض الرأي على الغير، والجميع يطالبون -أحياناً- أن يكون للإنسان حرية في حدود المباحات في مثل هذه الأشياء، فلماذا تفرض على الآخرين شيئاً من غير وجه صحيح؟ هذه هي النقطة الأولى.(114/4)
الجفوة
الملاحظة الرابعة: من الملاحظ -فعلاً- أن هناك جفوة بين الأخيار وبين غيرهم، يقام مثلاً نشاط في مدرسة متوسطة أو ثانوية أو جامعة، فتجد هذا النشاط يقتصر على أربعين طالباً، بينما طلاب المدرسة يناهزون ثمانمائة طالب، أي أنه لا يتجاوز عدد المنتسبين إلى النشاط الخيري في المدرسة نسبة (5%) .
إذاً لمن نترك (95%) من شبابنا وفلذات أكبادنا، الذين هم عدة المستقبل وهم روح الأمة وهم سر قوتها وبقائها بإذن ربها؟ هؤلاء الشباب الذين يملكون الاستعداد للخير وتقبل النصيحة، إذا وجدوا حسن الدعوة وحسن المعاملة وسعة الصدر والصبر عليهم، لمن نترك هؤلاء؟ هل نتركهم -مثلاً- لقرناء السوء! أو لتجار المخدرات، أو ضحايا الإعلام الفاسد؟! إن ذلك لا يحوز بحال، ألم يغش رسول الله صلى الله عليه وسلم نوادي قريش ومجالسها، ألم يغش خيام الحجيج في مكة ومنى وعرفات يدعوهم إلى الله، وكانوا على عصيان وعلى شرك وعلى عبادة الأوثان، وربما شربوا الخمور وتناشدوا الأشعار الجاهلية، التي ليس فيها إلا الفخر والخيلاء والكذب والزور، ومع ذلك كان يغشاهم عليه الصلاة والسلام بصبر عميق طويل، ويدعوهم إلى الله تعالى، فيرده هؤلاء ويرده أولئك، ولا يزال صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في صبره وإصراره على دعوته.
إذاً فلماذا لا نتصل بجمهور الشباب، في مدرجات الرياضة أو تجمعات السمر، أو الاستراحات التي يذهبون إليها في وقت الفراغ، أو في شوارع التفحيط، أو في الأرصفة التي يجلسون عليها حتى الهجيع الأخير من الليل، بل حتى طلوع الشمس أحياناً، أو في خيامهم التي ينصبونها في البر؟ لماذا لا نتواصل معهم ونتعرف إليهم بالود والمحبة والشفقة؟ نعاملهم معاملة الطبيب، الذي يحنو على المريض ويعمل على إقناعه بالعلاج بكل وسيلة، أو الأب الذي يبحث عن العافية لأولاده مهما كلفه ذلك من الصبر والمشقة، دون أن نشعرهم أبداً أننا نتعامل معهم معاملة الأستاذ، أو أننا نستعلي عليهم، أو أننا أكبر منهم، أو أننا أعرف منهم.
لا أتعامل معهم من هذا المنطلق، بل أتعامل من منطلق أخوي بحت، محض نصيحة وود وإخاء لهؤلاء الشباب، الذي هم في الجملة أصحاب فطر سليمة وقلوب قابلة للخير والهداية.
وكثير من هؤلاء -ويجب أن تثق بهذا- كثير من هؤلاء سيكونون في المستقبل خطباء جوامع، وأئمة مساجد، ورواد حلقات، ومدرسين ومدراء، وصالحين بكل حال إن شاء الله تعالى، وإنني أقول لكم عن تجربة وخبرة.
أيها الإخوة: أتذكر زملائي الذين كنا معهم على مقاعد الدراسة؛ فأجد أن الذين برزوا منهم، برزوا دعاة إلى الله، أو خطباء أو معلمين أو مرشدين، أو عاملين في أي حقل من الحقول الخيرية، فأجد نسبة ربما تزيد على (50%) ممن كانوا على مقاعد الدراسة بهيئة وصفة أخرى مختلفة، ثم هداهم الله تعالى فكانوا نموذجاً للمهتدي، الذي آلى على نفسه وقطع على نفسه إلا أن يكفر عما مضى بأعمال صالحة عظيمة.
لقد أفلح بعض إخواننا من الشباب في فترة مضت؛ أن يحولوا شارع الموت في الرياض إلى شارع يضج بالحياة، ويضج بالقوة والهداية والتوبة، والإقبال على الله عز وجل، وارتفعت فيه الأصوات، وبدأت فيه القلوب تهفو إلى باريها، وتتطلع إلى الخير والهداية، ولو أن حركة الدعوة دُعمت دعماً خفيفاً؛ لآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
بل أقول: لو خُلي بين الدعاة وبين الناس لرأينا العجب العجاب، وقديماً قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيننا وبين الناس، فإن أظهر فعزي عزهم ونصري نصرهم وكانوا أسعد الناس بي، وإن أقتل فقد كفوا بغيرهم} .(114/5)
سوء الظن
الملاحظة الثانية: سوء الظن.
وسوء الظن مشكلة عند الجميع، لماذا تفترض أيها الأخ الملتزم أو الداعية -مثلاً- إذا رأيت عند شخص معصية -أياً كانت هذه المعصية- خصوصاً المعاصي الظاهرة، ليكن -مثلاً- طويل الثوب، أو ليس على وجهه شعر، أو أن عنده ذنب، أو أنه يسمع الغناء، لماذا تفترض أنه مجرم يرتكب الفواحش الأخرى الخفية؟ ولماذا لا تفترض أنه يمكن أن يكون عند هذا الإنسان نقاء في الفطرة وصلاح في السريرة.
ولكن سوء التربية، أو مضرة قرناء السوء، أو التقليد الأعمى؛ جره إلى بعض ما رأيت، وأن هذا الانحراف الموجود عنده سهل الاندفاع قريب الزوال؟ فلا تطلق العنان لخيالك أن يتصور أن هذا الشاب الذي عنده بعض المعاصي؛ أن وراء ذلك ركام طويل من الذنوب والآثام والفواحش والمنكرات.
وكذلك أنت أيها الشاب الآخر، إذا غشيك في مجلسك شاب متدين ظاهراً، فلماذا تفترض -مثلاً- أنه جاء ليوقع بك، أو يكتشف سرك، أو أن هذا الإنسان يبطن خلاف ما يظهر؟ لماذا لا تتعامل مع الناس بالظواهر وتدع السرائر لله رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى؟ أيسرك -مثلاً- أن يقول عنك هذا الإنسان: من كان هذا ظاهره وهذا عنوانه فعنده من المعاصي الباطنة كيت وكيت، فيدعي عنك ما لم يعلم؟ حتى لو كان موجوداً فإنك تقول: سترني الله تعالى فلماذا تفضحني أنت.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فينبغي أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
لماذا لا نجعل حسن الظن شعارنا ودثارنا؟ ولماذا لا نتعامل مع الآخرين دائماً ببساطة ووضوح وبعيداً عن العقد والمشكلات والأوهام والظنون؟(114/6)
التواضع
الملاحظة الثالثة: التواضع وهضم النفس.
إنها خصلة من أهم خصال المؤمن الصادق، الإنسان العاقل إذا لقي -ولو كان صالحاً- إذا لقي شخصاً كبير السن قال: هذا سبقني إلى الطاعات.
وإذا لقي صغيراً قال: هذا سبقته إلى المعاصي.
وإذا لقي مطيعاً قال: هذا أطوع لله مني وأقرب زلفى.
وإذا لقي عاصياً قال: لعل عند هذا العاصي من الإخبات والانكسار وذل القلب لله جل وعلا؛ ما يجعله أطوع لله تعالى مني وأقرب إلى الرحمة، وربما كان في عملي الصالح من الغرور أو الإعجاب أو الرياء؛ ما يحبطه ويزيل أثره.
فلا يرى إنساناً مسلماً كبر أو صغر إلا اعتقد أنه أفضل منه وأطوع وأدين لله تعالى.
إنك حين تدعو شخصاً ما، لا يلزم بالضرورة أن تكون أفضل منه أو أتقى منه أو أعلم منه، قد تكون أعلم منه في هذه النقطة أو هذه المسألة التي دعوته إليها، وربما كان هو أعلم منك في أشياء أُخَر، وربما كان أفضل منك، وربما كان على خير هو لا يوجد عندك أنت.
إنما الدعوة من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب التناصح، ومن باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر كما أمر الله عز وجل، وهي نوع من المشاركة، فما منا إنسان إلا وهو داعٍ ومدعو في الوقت ذاته، وربما تجد الفائدة أو العلم أو الحكمة عند شخص لم تكن تظن أو تتوقع أن تجدها عنده.
ولهذا روى أبو نعيم وغيره [[أن سلمان الفارسي رضي الله عنه، دخل في بيت امرأة نصرانية، فقال لها: هل هاهنا مكان طاهر أريد أن أصلي فيه؟ قالت له تلك المرأة: طهر قلبك وصلِّ حيثما شئت، فخرج سلمان وهو يبتسم ويتعجب من حكمة هذه المرأة، على رغم أنها كانت كافرة]] .(114/7)
حسن الخلق
وهذا يقود إلى قضية: العلاقة بين الشباب الملتزمين المتدينين وبين غيرهم.
إنها علاقة يغلب عليها طابع الجفوة والمباعدة والتوجس والترقب، والطرفان يتحملان جزءاً من المسئولية، ولا أريد أن أجعل من نفسي اليوم حكماً بين هؤلاء وأولئك، ولكني سوف أقدم للطرفين -من الإخوة الملتزمين ومن غير الملتزمين- سوف أقدم لهم مجموعة من الملاحظات، أرجو أن تسهم -كما يقال- في تذويب الجليد بينهم، وإزالة الجفوة، وإقامة الجسور المقطوعة؛ حتى يتمكن كل طرف من الاستفادة من الطرف الآخر، فإنه لا غنى لأحد الطرفين عن الآخر.
حتى أنت أنت أيها الداعية أو الملتزم أو طالب العلم، إذا لم يوجد لك علاقة وصلة بآخرين، عندهم نقص أو خطأ أو انحراف تتمكن من دعوتهم، فأنت حينئذٍ تفقد معنى كونك داعية إلى الله عز وجل أو مجاهداً في سبيله.
الملاحظة الأولى: أن حسن الخلق من الإيمان، وهو خير كله، وقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال له ذلك حينما كان يجهر بالدعوة في مكة، ويدعو الناس إلى الخير، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فكان عليه الصلاة والسلام ذا خلق عظيم مع كل الناس، حتى أولئك الذين يدعوهم كانوا كفاراً مشركين عبدة أوثان، ثم في المدينة كانوا يهوداً أو منافقين أو نصارى أو مشركين أيضاً، مع كل ذلك تذرع النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم بالخلق العظيم.
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .
لقد كان عليه الصلاة والسلام مع أهله ومع أقربائه ومع أصحابه، على درجة عليا من الخلق الفاضل، لكن الأعجب أنه كان حتى مع خصومه وأعدائه على درجة من الخلق، {جاءه رجل فسله بثوبه حتى أثر الرداء في رقبة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد -بكل جفاء الأعراب وقسوتهم- مر لي بعطاء -أعطني مالاً- فإنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك، فضحك النبي صلى الله علية وسلم وأمر له بعطاء} .
إننا ينبغي أن نتذرع بالبشاشة مع أصدقائنا ومعارفنا وهذا لا شك فيه، لكن لماذا إذا اقتحم مجلسنا شخص جديد انقبضنا عنه وازوررنا، وتوقفت الكلمات، وقرظت الشفاه، وأصبح الجميع صامتون متسمرون لا يتحدثون ولا يبتسمون؛ كما لو كان دخل عليهم عنصر غريب، يتقون الحديث معه أو يتجنبونه.
إن الشاب الملتزم يعتبر نفسه داعية إلى الله تعالى، وهو إن شاء الله كذلك؛ إذاً فالابتسامة والبشاشة والكلمة الطيبة والهدوء، هي المدخل الطبيعي إلى قلوب الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإذا أردت أن تنادي أخاك أو تحادثه أو تدعوه إلى الله تعالى، فقدم بين يدي نجواك صدقة، ليست صدقة مال، لكن صدقة ابتسامة تعبر عن قلب رَضِيٍ نديٍ، لا يحمل للآخرين إلا الحب والود، وليس فيه أدنى رائحة من كبر أو عجب أو غرور أو أي معنى آخر يظنه الآخرون.
كثيراً ما نسمع من ينتقد بعض الأخيار بأنهم مكفهرون، أو حواجبهم مقطبة، أو لا يبتسمون مع الآخرين، وقد يعبر عن ذلك بأنهم سوداويون أو ما أشبه ذلك.
ونحن اليوم نسمع ضجيج الإعلام وصخب الإعلام العالمي والعربي على وجه الخصوص، يحاول أن يشوه صورة المتدينين، وأنهم إرهابيون ودمويون وأهل عنف إلى غير ذلك، أتدري أن ابتسامة صادقة تستقبل بها الآخرين؛ أنها كفيلة بمحو هذا الركام والزبد الذي ضل الإعلام يقذفه في عقول الناس وقلوبهم؟ إذاً ماذا تخسر إذا ابتسمت للآخرين؟ إنك مأجور لأنك تتصدق حينئذٍ، ويكتب هذا في أجرك وثوابك وميزانك يوم القيامة.
ثم أنت أيها الشاب الآخر، الذي يعتبرك الناس أو تعتبر نفسك؛ أنك غير ملتزم وغير متدين، لماذا تنكمش أحياناً وتكشر عن أولئك الإخوة من الملتزمين والمتدينين؟ لماذا تعتقد -لو جاءوك- أنهم جاءوا من كوكب آخر أو من عالم آخر؟ لماذا لا تتعامل معهم بشيء من الأريحية والكرم؟ هل تظن أن كل من جاءك يكون أتى لغرض لا تريده أنت أو لا تستحبه؟ هب أنه جاء ليدعوك إلى الله وأنك غير مهيأ الآن لقبول الدعوة، عليك أن تتعامل معه بالاستقبال الحسن، كما هو واجب في شريعة الإسلام، وكما هو عادة عند الإنسان العربي في كل زمان ومكان، ثم إذا دعاك إلى الله فإن وجدت خيراً فاقبل، وإن كانت نفسك لا تساعدك فرد رداً جميلاً، وربما يوفقك الله تعالى لقبول الحق يوماً من الأيام.(114/8)
ماذا عن شباب الهيئات
أما العنوان الثاني فهو: ماذا عن شباب الهيئات.
إنهم رجال الحسبة، الشباب العاملون في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كانوا عاملين في قطاعات رسمية، أو محتسبين لوجه الله تعالى في إنكار المنكرات بقدر المستطاع، أسمع كثيراً من الشباب وفي كثير من المجالس يتحدثون عن هذه النوعية من الشباب، وعن بعض الملاحظات على الأساليب والطرق التي يسلكونها.
وأبرز الملاحظات التي يقدمها إخواننا الآخرون من الشباب؛ تتعلق بأسلوب المعاملة فيمن يوجد عليه تقصير أو معصية، وأن هذا الأسلوب يعتمد كثيراً على نوع من الشدة والعنف والقسوة في العبارة.
وآخرون يقولون: إن هؤلاء الشباب -أو بعضهم- قد يطلق العنان لخياله ويقيس الآخرين بعضهم على بعض، فربما وجد إنساناً على معصية، فيتصور أن كل شاب يمكن أن يكون كذلك، ويتعامل معه من هذا المنطلق، وربما وجد أنه هو نفسه تثيره هذه الأشياء، لولا أنه يخاف الله تعالى وينهى النفس عن الهوى.
فيقول في نفسه: إذا كنت أنا الشاب الملتزم المتدين تثيرني هذه الأشياء؛ فأجد رادعاً من ديني وخوفي من الله تعالى، وأولئك الشباب الذين يوجد ما يثيرهم، وربما لا يجدون رادعاً من خوف الله تعالى أو خشيته فيقعون في المعاصي.
وأود أن أعلق على مثل هذه الأمور -فضلاً عن قضايا كثيرة تتعلق بهذا الموضوع- مثل بعض الأقوال وبعض القصص والأخبار والحكايات، التي أقول قد يصدق منها (10%) ولكن تبين لي أن (90%) من بعض القصص قد تكون من نسج الخيال، وقد سألت عدداً من الشباب عن قصص يتداولونها عن إخوانهم من العاملين في هذا المجال، فأقول له مثلاً: هل وقفت بعينك أو بنفسك على هذا الأمر؟ فيقول: لا، لكن حدثني شخص موثوق، وربما لو أتيت إلى هذا الشخص الموثوق، لقال لك: لم أر هذا ولكن حدثني شخص آخر موثوق، وهكذا تكون السلسلة طويلة، وقد أذكر لكم أنني سمعت من ذلك أشياء، وبعد ما تحريت بنفسي؛ تبين لي أن بعض هذه الأشياء مختلق تماماً، وأن بعضها الآخر قد يكون لها أصل ولكنه كُبِّر، وأن هناك نسبة قد تكون (10%) أو قل عشرين أو حتى ثلاثين قد يكون لها أصل وقد تكون صحيحة، لكن: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه(114/9)
تعليقات على الأخبار المتداولة على شباب الهيئات
وهنا لي مجموعة من التعليقات: أولاً: إن الدين يا أخي ليس ملكاً لفئة خاصة، الدين ليس ملكاً لشباب الهيئات، والدين ليس ملكاً للشباب الملتزمين، والدين ليس ملكاً للقضاة -مثلاً- والدين ليس ملكاً للدعاة، ولا ملكاً لطبقة معينة، الدين دين الله عز وجل، والكل مطالبون بتقوى الله ومطالبون بعبادته، ومطالبون بفعل الخير، ومطالبون بترك الشر، والجنة خلقت لكل مطيع، والنار خلقت للعاصي والكافر والمعاند، بغض النظر عن أي اعتبار آخر.
الدين دين الله عز وجل، ووجود فئة قلت أو كثرت صغرت أو كبرت؛ في نظرك أنت وفي ظنك وفي قياسك، باعتبارك أن هذا الفئة لا تمثل الدين أو لا تقوم به أو لا تطبقه تطبيقاً صحيحاً، أو أن أخلاقيات هذه الفئة أو أساليبها أو طرقها لا تمثل الدين، لا يعني ذلك أنك تنحرف عن الدين، كلا! بل الواجب عليك أن تكون أكثر تديناً وإخلاصاً وصدقاً؛ حتى تنجح أنت في تطبيق ما تقول إن الآخرين عجزوا عنه أو قصروا فيه.
وهذه قضية أساسية، يقول الله عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] حتى الثياب ما عليك ثياب {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكم} [الأنعام:94] .
إذاً المسؤولية يوم القيامة مسؤولية فردية وكل إنسان يحاسب، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13-14] المطلوب من كل فرد أن يزكي نفسه، ويسعى في صلاحها، ويبعدها وينأى بها عن كل أساليب التجفية والضلال {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] .
ثانياً: كل قطاع أو جهة أو مؤسسة أو شركة أو مجموعة من الناس، لا بد أن يكون فيهم أخطاء، اسأل نفسك سؤالاً: كم أخطاء رجال المرور مثلاً؟ كم أخطاء رجال الدوريات؟ كم أخطاء الشرط؟ بل اسأل نفسك: كم أخطاء الأجهزة الأمنية بشكل عام؟ أنا لا أتحدث عن هذا البلد فقط.
أقول هذا البلد وكل بلاد الدنيا، البلاد الإسلامية خاصة، والبلاد العالمية كلها عامة كم يوجد فيها من الأخطاء والتجاوزات؟ بل أحياناً تصل إلى درجة الفضائح التي يتكلم عنها الإعلام، وتفرح بها الصحف، وتبدئ وتعيد حولها، ويستغلها بعض الخصوم أو بعض المعارضين.
أصدقاؤك الذين تجالسهم وتتحدث معهم، كم تجد عليهم من الملاحظات، ربما تعتب عليهم كثيراً، وقد تقاطعهم، وقد تغضب من فلان أو تسخط من علان.
إذاً لا يمكن أن تتصور أن مؤسسة أو هيئة أو جهازاً أو مجموعة من الناس، فئة الملتزمين -مثلاً- أو فئة المتدينين أو فئة الشباب الأخيار، أو فئة شباب الجمعيات في المدرسة، أو أي فئة من الفئات المنتسبة إلى الدين، ضع في اعتبارك أن من السنن الطبيعية أن هؤلاء بشر، وإذا كان الواحد منهم لا بد أن يوجد عنده خطأ على الأقل، فما بالك إذا اجتمعوا؟ لا بد أن يكون هناك مجموعة من الأخطاء.
إذاً هناك أمر طبيعي لابد أن يوجد، لكن أعتقد أن هناك ميزة في أوساط المتدينين، وأنا لا أريد أن أبالغ في إثباتها ولكني أزعم أنها موجودة، وإذا كان ما أقوله خطأ؛ فأتمنى من إخوتي أن يصححوا لي ما أقول.
أقول: إن الملتزمين بشكل عام أو المتدينين، سواء كانوا في أجهزة رسمية، أو كانوا محتسبين قائمين بالدعوة إلى الله والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يوجد لديهم إمكانية الحوار، وإمكانية التفاهم، وإمكانية معرفة الخطأ والتنبيه عليه والسعي في إزالته، أو على أقل تقدير الاعتراف بأنه خطأ، وأحياناً إذا أخطأ عليك إنسان ثم جاءك وقال: والله يا أخي أنا أخطأت وأعتذر إليك، ربما يكفيك هذا لأنك تقول: لا أريد منك أكثر من الاعتراف بالخطأ وإظهار الندم عليه، ولو كلف الإنسان نفسه عناء تجربة ذلك، فإنه لن يخطئ -إن شاء الله- من يظهر له الاستعداد في تصحيح الخطأ ومراجعته ومحاولة إيقافه عند حده.
ثالثاً: لا تنسى أن الإنسان بطبيعته ذو هوى، وهو لا يحب من يمنعه من هذا الهوى، فإذا حيل بينه وبين ما يريد؛ فإنه لابد أن يجد في نفسه على هذا الإنسان، أو إذا تعرض صديقه أو قريبه أو جاره أو من يحب لموقف، حتى لو كان هو المخطئ، لابد أن يجد في نفسه على من تسببوا له في هذا الموقف، إنما تذكَّر أيها الأخ الكريم، كم من الوقت يبذله المخلصون الساهرون على حماية المجتمع، والمحافظة على أخلاقياته وعلى أمنه وعلى استقامته، وعلى حفظ نسائنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا وقريباتنا، كم من الوقت يبذلون؟ وكم من الليل يسهرون؟ في سبيل حماية المجتمع.
ولعلك على -سبيل المثال- تعرف أنهم قد يتعرضون أحياناً للمخاطر، وربما ضُرب أحدهم، وربما هُدد، وربما أُوذي، وربما أُطلق على أحدهم النار، فجلس أياماً أو أسابيع طريح الفراش في المستشفى؛ وما كان السبب إلا لأنه وقف ضد جريمة يمكن أن تقع في المجتمع، ولعلك تعرف من الأخبار ما يقع اليوم -وفي هذه الأيام بالذات- ما يصدق ما قلته لك.
إذاً ينبغي أن نضع الأخطاء في حجمها الطبيعي، وبالمقابل نعمل على تصحيحها بالمستطاع، ثم نلاحظ الجانب الآخر وهو الجانب الإيجابي، جانب العمل على وقاية المجتمع وحمايته.(114/10)
قضية العشق
ثالثاً: قضية العشق.
إنها مشكلة كبيرة، وأعتقد أن تعلق القلب بإنسان، سواءً كان فتاة بنتاً أو كان شاباً صغيراً أمرد حسناً وسيماً، تتعلق به بعض قلوب الشباب وتركض وراءه، وربما أركبه أحدهم في سيارته ليل نهار، وسعى إلى تهيئة الفرص والأسباب بأن يجلس حوله في مزرعة أو استراحة أو شقة، وربما كان هذا الرجل أحياناً كبير السن أو متزوجاً أو ذا أطفال، ومع ذلك لا يقوم ولا ببعض الجهد لزوجته أو أطفاله، مثل: ما يقوم به لهذا الإنسان الذي استولى على قلبه، وأصبح يعتبره ولداً لهواه، يسميه ولد الهوى -مثلاً- أو محبوبه أو معشوقه، ويعتبره خاصاً به، ويسعى إلى إرضائه بكل المستطاع، وربما هجره هذا الإنسان؛ فجلس أياماً طويلة يبكي وينتحب كما تنتحب الثكلى.
إن ذلك من أخطر الأمراض التي تودي بالإنسان إلى الهاوية في الدنيا وفي الآخرة، فهو يلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وأي مكان في القلب المشغول بحب ليلى وسلمى ولبنى، أو المشغول بحب فلان وفلان من المردان الحسان، أي مكان في القلب لذكر الله تعالى أو محبته.
بل ربما يكون في حال عبادة مع الناس وهم في واد وهو في واد آخر، يذهب للحج فيبكي الناس في عرفة ويجأرون إلى الله تعالى وتنهل دموعهم، حتى العصاة والفساق والمقصرون؛ ترى عندهم من الانكسار والبكاء والنحيب والصياح -أحياناً- ما تتكسر له القلوب، ومع ذلك هذا الإنسان في واد آخر، يقول: وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشجان الفؤاد ولا يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـ ليلى طائراً كان في صدري أو يصلي فيسجد الناس ويرفعون لرب العالمين، يعفرون جباههم، ويستغفرون ويسألون الله تعالى، ويبللون بدموعهم خدودهم، أما هو فيبكي معهم، ولكن يبكي لشيء آخر مختلف تماماً.
أصلي فأبكي في الصلاة لأجلها لك الويل مما يكتب الملكان بل ربما أدى به ذلك إلى أن يعترض على قضاء الله، ويتبرم ولا يرضى بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، كما قال أحدهم: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا وربما تمنى هذا العاشق الوقوع في الفاحشة، لنفسه أو حتى لغيره من الناس، فأحب ما يكرهه الله تعالى ويبغضه، وأبغض ما يحبه الله تعالى ويرضى به، أبغض العفاف وأبغض الطهارة وأبغض النقاء، وأحب الفاحشة والمنكر والفساد، حتى يتحقق له ما يريد، كما قال محمد إقبال رحمه الله: لقد سئم الهوى في البيد قيس ومل من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب يقول المجنون: فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان فيقضي حبيب من حبيب لبانة ويرعاهما ربي فلا يريان إنه يتمنى أن يفضي كل محبوب إلى محبوبه، فيما يجد في نفسه من التعلل والتعلق الذي يصل إلى حد التعبد لغير الله عز وجل، إن هذا قد يفضي بالإنسان أحياناً إلى الشرك والكفر.
روى ابن الجوزي، كما في كتاب تسجيل الأشواق، أن شاباً خرج فرأى جارية نصرانية، فعلق قلبه بها وأشرب حبها، وسهر الليل وتعب ومرض، وحيل بينه وبينها فلم يستطع؛ حتى أصيب بخبل في عقله وحمل إلى المستشفى، مستشفى الأمراض العقلية كان وقتها يسمى المارستان-.
حمل هذا الإنسان إلى المستشفى، وكان له صديق يتردد عليه قال: فلما جاءه أحد المرات، قال له هذا الإنسان العاشق المريض: إني قد يئست من لقاء فلانة في الدنيا -وهي كانت نصرانية- قال: فأريد أن أتنصر لعلي ألقاها في الدار الآخرة، حتى ولو كان في نار جهنم والعياذ بالله تعالى.
قال: فتنصر ومات من ساعته، ثم خرج هذا الإنسان فجاء إلى تلك الفتاة يوماً من الأيام، وإذا بها قد أصابها ما أصابها من الوله والعشق والتعلق بذلك الإنسان، ولم تدر ما خبره، فإذا بها تقول: إنني قد أيست من لقاء هذا الإنسان في الدنيا، وقد رأيته مسلماً وأنا أحب أن ألقاه في الآخرة، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ثم أسلمت وصدقت ثم قبضت على الإسلام، فانظر كيف يمكر الله تعالى بمثل هؤلاء الذين فتنوا أنفسهم، وضلوا وأضلوا، والله تعالى قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فعلى العبد أن لا يأمن مكر الله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] .(114/11)
علاج العشق
العلاج: وإن كنت أود أن أقول: في الأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- سوف أتحدث بعنوان طالما وعدت الإخوة به، وماطلت وسوفت، وطلبوه وطلبوه حتى ملوا وسئموا وتركوا الأمر، وهو سيكون نهاية الحديث مع إخواني من الشباب في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى، وتحت عنوان: مصارع العشاق.
لكن لا بأس أن أعرض الآن بسرعة ما دمت عرضت موضوع العشق، أن أشير إلى بعض ألوان العلاج باختصار: أولاً: غض البصر وحفظ الجوارح، الأذن وغيرها.
قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وكل هذه الجوارح هي عبارة عن سواقٍ وأنهار تصب في القلب، فما تراه بعينك أو تسمعه بأذنك أو حتى تتكلم به في لسانك؛ فإنه يظهر أثره في القلب.
ثانياً: البعد عن مواطن الشبهة والشهوة والإثارة، وتجنب ذلك ما أمكن.
ثالثاً: الفرار إلى الله تعالى واللجوء إليه، فإنه كما قال الله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] وقال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] .
رابعاً: الزواج للجنسين الذكر والأنثى، فإنه هو السبيل الشرعي لتفريغ هذه الشهوة والغريزة والعاطفة، بطريقة شرعية مباحة، تبني ولا تهدم وتعمر ولا تدمر.
خامساً: شغل النفس بالأمور الشرعية، من طاعة الله تعالى، والصلاة، وطلب العلم، وقراءة القرآن وحفظه ومذاكرته، أو على أقل تقدير بالأمور المباحة التي تملأ العقل والقلب والوقت، كأن يشتغل الإنسان بالتجارة -مثلاً- أو الزراعة أو الدراسة أو الرياضة المباحة، أو ما أشبه ذلك مما لا يضر وربما ينفع.
سادساً: استعمال العقل واستخدامه، فإن الله تعالى وهبك العقل حتى تميز به بين النافع والضار، والعقل بإذن الله تعالى يعصم الإنسان عن الشهوات وعن الشبهات، ففيما يتعلق بالشبهة يستطيع أن يصل إلى الحق بإذن الله تعالى متى صدق الله، وفيما يتعلق بالشهوة فإنه لو فكر في عواقبها لتركها، لو فكر في عواقب الشهوة، كم تورث من الحزن الطويل، وكم تورث من المرض، وكم تورث من القلق والتوتر، وكم تسبب من الأمراض النفسية، وكم تجني على العبد، وكم لها من الآثار والأضرار والعواقب الأخروية، التي منها: أن يكوى هذا الجسد الذي تلذذ بلذة محرمة في الدنيا، أن يكوى بالعذاب في الدار الآخرة جزاءً وفاقاً.
ثم لو أنه أعمل عقله في حال معشوقه أياً كان ولداً أو بنتاً، ثم تذكر هذا الجسد الذي عشقه أنه جسد بشري، فيه نقائص البشر وعيوب البشر، ما قيمة أن يزين الإنسان ظاهره بالثوب الجميل المكوي، واللباس والهندام، والشعر المسرح المصبوغ، وغير ذلك، وألوان الطيب والزينة والجمال الظاهر، لكن هناك عيوب فطرية خلقية لا سبيل إلى دفعها بحال من الأحوال، فلا تغتر بلحظة تزين، وتذكر العيوب المختلفة الموجودة في هذا الإنسان.
ثم تذكر حال هذا الإنسان وبشريته، هذا العرق الذي يخرج ويؤثر فيه، الإفرازات التي تخرج منه من أنفه ومن فمه، الفضلات التي مجرد سماعها أو تذكرها يثير الاشمئزاز.
إن هذه الأشياء كلها عيوب جعلها الله تعالى في الإنسان؛ حتى يعتدل الناس في نظرة بعضهم إلى بعض، كما أن الله تعالى أقام الحجة على الناس بالنسبة للمسيح الدجال، لما ادعى الألوهية جعل الله فيه نقصاً فطرياً وهو أن إحدى عينيه طافية فهو أعور، حتى يعلم الناس أن هذه الدعوى العريضة التي يقولها؛ منقوضة بالصورة الحقيقية التي يشهدها.
سابعاً: من الأشياء ومن العلاجات: تذكر الموت.
فإنه يقطع كل لذة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن، وهو حديث صحيح: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} أي: قاطعها، فإن الموت كما قال عمر بن عبد العزيز [[: ما ذكرته في سعة إلا ضيقها عليك، ولا في ضيق إلا وسعه عليك]] .
ثامناً: تذكر الدار الآخرة والعقاب الذي جعله الله تعالى للعصاة والمفسدين قال الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17-19] وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] هذا يوم القيامة.(114/12)
شاب يتساءل متى أتزوج
العنوان الرابع: شاب يتساءل متى أتزوج؟ أحد الشباب بعث إلي برسالة عقب درس المجلس السابق، ملخصها: أنه يبحث عن بنت الحلال، التي تعف فرجه وتغض بصره، وتملأ بيته سروراً وابتهاجاً وسعادةً وأطفالاً أيضاً، ولكنه لم يوفق ولم يجد البنت التي يبحث عنها؛ لأسباب كثيرة، منها: رفض بعض الفتيات بحجة مواصلة الدراسة أو غيرها، ومنها رفض بعض الأسر، ومنها عقبات قد تكون من قبل الوالدين أو غيرهم، وحول هذا الموضوع لابد من تعليقات سريعة:-(114/13)
دور المجتمع
وأخيراً: دور المجتمع.
فللمجتمع دور كبير، الإعلام مثلاً له دور كبير في إقناع بعض الفتيات بتأخير الزواج مثلاً، أو بعدم قبول فرد إلا بمواصفات معينة، الأسرة لها دور، فقد تشير على البنت أو على الولد بشيء أو تشير عليها بضده، وعموماً جهاز الدعوة في المجتمع.
والدعاة -كما أسلفت- وخطب الجمعة، والكتب، والأشرطة وغيرها، لها دور كبير في مثل هذه القضية.(114/14)
مهمة الدعاء والخطباء
النقطة الخامسة: مهمة الدعاة والخطباء في توعية الناس بقضايا الزواج، والعلاقات الزوجية، وتخفيف المهور وتخفيف التكاليف وغير ذلك مما نجد أن المجتمع قد ابتلي به كثيراً، إن علينا معاشر الخطباء والدعاة مسؤولية كبيرة في هذا الجانب، توعية الناس بهذا الأمر، ودعوتهم إلى التزام الحدود والضوابط الشرعية فيه، وعدم تعدي ذلك إلى المبالغة والمباهات والإفرط.
ومن ذلك: أن لا يكون هناك ضرورة لقصور الأفراح، يكون الزواج في استراحة من استراحاتنا أو في بيوتنا، أو حتى في بعض المناطق الغير مبنية في الحي التي تستخدم كمراقص عامة، بحيث لا يكون ثمة حاجة إلى المزيد من التكاليف.(114/15)
الانتقال من الكلام إلى البرامج العملية
النقطة السادسة: ضرورة الانتقال من الكلام إلى البرامج العملية التطبيقية.
لماذا لا توجد برامج لما يسمى بالزواج الجماعي؟ أن يتم تزويج خمسين أو ستين في ليلة واحدة، وقد قرأت في صحفنا أن مجموعة من شباب الشيعة في المنطقة الشرقية فعلوا ذلك ونشرت أخباره في الجرائد، بل وفي التلفاز، وتحدثوا عنها كتجربة يعتبرونها إيجابية وسليمة.
فلماذا لا يتم تعميم هذه الظاهرة على شباب أهل السنة في كل مكان؟ وفي منطقة الخليج العربي، وفي البحرين -مثلاً- قامت زواجات جماعية لشباب أهل السنة ناجحة بحيث تختصر التكاليف إلى أبعد الحدود.
كذلك أمر آخر وهو: القدوة العملية، ما أحوج المجتمع إلى القدوة! سئمنا من الكلام عن تخفيف المهور، وإلقاء الكلمات، ونشر المقالات عن هذا الأمر، بقي علينا أمر واحد؛ أن يقوم بعض المحتسبين والمعروفين والأخيار، بعمل ميداني في هذا المجال، فيتم التزويج مقابل مهر معقول ومحدود، وحتى يتسامع الناس بذلك، ويسن لهم فيه سنة حسنة.
ومثله أيضاً ما يتعلق بالوليمة والدعوة والعرس وغير ذلك، وأرجو الله تعالى أن يوفقني إلى أن أقوم مع بقية إخواني وزملائي من طلبة العلم بشيء من هذا السبيل، وأطلب من الإخوة أن يقترحوا علي بما يعتقدون أنه صورة مثلى لتحقيق مثل هذه البرامج العملية.(114/16)
واجب الفتيات
النقطة السابعة: واجب الفتيات.
فإن كثيراً من الفتيات يرفضن الزواج؛ بحجة مواصلة الدراسة أو غير ذلك، وهذا لا شك أنه خطأ، فإذا جاء للفتاة من ترضى دينه وخلقه؛ فعليها أن تقبل به لئلا يقع في المجتمع الفتنة والفساد العريض، الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وربما ترفض الفتاة شاباً صالحاً فلا يأتيها إلا من هو دونه، فعلى الفتاة أن لا تفرط بالشاب الذي يتقدم لها بل تسعى إليه، ولا مانع من مواصلة الدراسة وفق التفاهم بينها وبينه.(114/17)
جمعيات البحث عن الفتاة الصالحة
رابعاً: هناك جمعيات أخرى لتسهيل مهمة البحث عن الفتاة الصالحة، وهذه الجمعيات ينبغي أن يعتنى بها، أو حتى أشخاص مستقلون يقدمون خدمات في هذا المجال، إنني أقرأ في بعض الصحف والمجلات، فعندما تقرأ مجلة كمجلة الوطن العربي؛ فتجد أنها تعلن -في كل عدد من أعدادها- عن مجموعة كبيرة من الشباب والفتيات ممن يسمونهم الجنس الآخر، كل واحد يعرض اسمه وعنوانه يطلب الزواج من فتاة، أو فتاة تطلب الزواج من فتى بشروط معينة.
إن مثل هذا الأسلوب قد لا يكون أسلوباً سليماً قط، وذلك لأنه يتخذ -في أحيان كثيرة- وسيلة إلى نوع من الاصطياد -كما يقال- في الماء العكر.
ولكنني أقول: هناك طرق سليمة يمكن أن تفلح، كإقامة جمعيات سليمة نظيفة منضبطة، أو وجود أشخاص يتبرعون بجهد في هذا السبيل، ويحتسبون أن يجمعوا بين قلبين على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن التهريج والتشويق والمبالغة والخداع، وما أشبه ذلك مما قد يقع في كثير ممن يبحثون عن الزوجات، أو بنات يوافقن على أزواج صالحين.(114/18)
دور الآباء
أولها: دور الآباء.
فإن على الآباء مسؤولية كبيرة في مساعدة أبنائهم على الزواج، بعض الآباء قد يكون ثرياً يملك أموالاً طائلة أو أرصدة في البنك، ولكنه مع ذلك يرفض أن يزوج ولده، أو حتى يساعده على الزواج، أو على أقل تقدير أن يعطيه سلفة من المال، أعطه مائة ألف ريال وقل له: هذه سلفة تردها متى أغناك الله عز وجل، حتى تبعث فيه روح البحث عن الرزق الحلال، وتشعره بالمسؤولية.
وأقول: هذا واجب شرعي، على كل أب قادر مستطيع أن يسعى في تزويج أولاده وإعفافهم، ولا يحل لأب أبداً أن يمتنع من ذلك، وهو يرى أن الفتن تنزل اليوم في البيوت والأسواق والشوارع وفي كل مكان؛ ومع ذلك يرضى أن يسلم ولده إلى مثل هذه الفتن التي قد تجره إلى الهاوية، وهو يملك أن يساعده في موضوع الزواج.
وبعض الآباء قد يمتنع -ليس لهذا الغرض- لكن لاعتبار آخر، فلا يوافق ولده على الزواج، والواجب على الآباء أن يعملوا على إقناع أولادهم بالزواج، حتى في حالة إن كان الولد عازفاً عن الزواج، أو غير راضٍ أو غير موافق، ينبغي للأب أن يسعى في إقناعه بالزواج بالوسائل، ويسلط عليه من يستطيعون إقناعه حتى يتخذ قراراً بالموافقة، وليس أن يرغب الابن فيرفض الأب في وقت يطلب فيه الولد مثل هذا.(114/19)
الاعتماد على النفس بعد الله تعالى
ثانياً: ينبغي على الإخوة من الشباب أن يسعوا إلى الاعتماد على الله عز وجل، ثم الاعتماد على أنفسهم، فالشاب الذي في سن العشرين أو أكثر من ذلك، لماذا لا يسعى أن يعتمد على نفسه بعد الله تعالى، في طلب الرزق والوظيفة، في محاولة توفير المهر وإعداد البيت والمسكن وغير ذلك من الوسائل؟ وأعتقد أنه مهما قلنا من الأعذار والوسائل والأسباب والأشياء، إلا أننا ينبغي أن نستسلم في النهاية إلى أن هناك فرصاً لطلب الرزق وكسبه، فرصاً شرعية مباحة موجودة في المجتمع، لو أننا تخلينا عن بعض الكبر الموجود في نفوسنا، وبعض الأشياء التي نأنف من ممارستها وعملها.
حدثني رجل أثق به فقال: أعطيت شاباً مبلغاً من المال وقلت له: خذ هذا المبلغ تاجر به ولك نصف الربح.
قال: فأخذ هذا المبلغ وجلس عنده زماناً طويلاً ثم لم يتاجر به، لماذا؟ لأنه يأنف أن يشتغل بالتجارة أو بغيرها.(114/20)
الجمعيات الخيرية
ثالثاً: هناك جمعيات خيرية كثيرة لمساعدة المتزوجين، منها جمعية في منطقة القصيم وجمعية في الرياض وجمعية في جدة، وهناك جمعيات خارج المملكة في مناطق الخليج العربي وغيرها، تعلن المساعدة لكل من يرغبون في الزواج، سواء عن طريق الدعم المادي كهدية أو تبرع، أو عن طريق القرض الحسن، أن يقرضوه مبلغاً من المال يرده متى أغناه الله تعالى، أو يقتطع من راتبه أو بأي طريقة.
وأقول: هناك أعداد كبيرة من الدعاة المعروفين في هذه البلاد، وطلبة العلم وأئمة الجوامع، لديهم استعداد -وإن لم يعلنوا ذلك- لدعم الشباب الراغبين في الزواج ومساعدتهم، أو على أقل تقدير الكتابة معهم إلى بعض الأثرياء وبعض المحسنين، ليقوموا بهذا الدور.
وإنني أقول لإخوتي من الشباب: إنني مستعد أن أساهم بقدر وسعي واستطاعتي في هذا الأمر، دون نظر إلى أي اعتبار من الاعتبارات، أي أنه لا يهمني أن يكون الشاب -مثلاً- من هذا البلد أو من بلد آخر، من هذه المنطقة أو من غيرها، كل شاب مسلم يرغب في إعفاف فرجه، فحق علينا أن نسعى في إعانته بقدر ما نملك وما نستطيع.(114/21)
الشباب والرياضة
النقطة الخامسة: الشباب والرياضة.
وقت كبير جداً ذلك الوقت الذي نقضيه في الرياضة، حسبت -على سبيل المثال- إحدى المباريات، كانت المباريات قبل حرب الخليج يحضرها عشرات الألوف، ثم بعد الأزمة تقلص الحضور كثيراً، وأصبحنا نقرأ في الصحف عن ندرة الحضور وقلتهم، ومحاولات مستميتة لإقناع الشباب بالرجوع إلى مواقعهم في المدرجات.
ومع ذلك هذه المحاولات -التي تصل إلى إعلانات وإغراءات وتسهيلات وخدمات وغير ذلك- مع ذلك لم تنجح في إعادة الجمهور كما كان، ولكن لنفترض أن مباراة نهائية حضرها عشرة آلاف متفرج، استغرقت المباراة وما قبلها وما بعدها من الوقت خمس ساعات، عشرة آلاف متفرج، اضرب في خمس ساعات، النتيجة خمسون ألف ساعة.
إذاً من عمر الأمة والمجتمع وطاقتهم، ضيعنا في أمسية واحد خمسين ألف ساعة، آلاف الأيام وعدد من السنوات، كم كان يمكن في مثل هذا الوقت أن ينتج هؤلاء الشباب لدنياهم من الأرباح والمكاسب المادية؟ وكم كان يمكن أن ينتجوا لأمتهم ومجتمعهم، من الخدمات العلمية والابتكارات والاختراعات والتصنيع؟ ولو أنهم كانوا في ناد علمي -مثلاً- أو مختبر أو معمل أو حقل تجارب؛ لأفادوا واستفادوا كثيراً، ونموا عقولهم ومعارفهم وتقدموا بأمتهم وأنفسهم إلى الأمام.
هذا فضلاً عن المشاهدين عبر الشاشة، وعبر الشاشة يشاهد -أقول وأنا متأكد مما أقول- أحياناً يشاهد مئات الألوف خاصة بعض المباريات الكبيرة، ويوم من الأيام نقل التلفزيون مباراة بين منتخب هذه البلاد ومنتخب اليابان أو كوريا، ونقلت عبر الشاشة.
ففي تلك الضحوة بعض المدارس ما حضرها أحد، مدرسة بنات في إحدى المدن المقدسة حضرها تسع بنات من بين ثمان مائة طالبة، جامعات لم يوجد في الفصول أحد، أساتذة ودكاترة ربما لم يأتوا من أجل مشاهدة تلك المباريات، أي لهاث مسعور وراء مثل هذا الأمر! هؤلاء الناس كم كانوا سيرتقون بأنفسهم وأرواحهم وإيمانهم وقلوبهم؛ لو أنهم خصصوا جزءاً من هذا الوقت في عبادة الله تعالى أو طاعة أو قربة إليه عز وجل.
أيها الإخوة، أيها الشباب: إلى متى الركض المحموم وراء الكرة، حتى إن مبانيها أحياناً تفوق أفخم المباني في بعض المدن والقرى، وربما تفتقر إليها كثير من المدارس والمؤسسات.(114/22)
بماذا يكون الإنسان إنساناً
نقطة أخيرة: إن الإنسان لا يعد إنساناً بجسمه فقط، وإنما يعد إنساناً بعقله وتفكيره وقلبه وروحه وفهمه وثقافته ولسانه قبل أي شيء آخر.
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم فاللسان المعبر عن الإنسان، هو من علامات رجولة الإنسان ومعرفته وعلمه وثقافته، ويقول المتنبي: لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدي الكماة عوالي المران يقول: لولا العقول لكان الأسد أدنى إلى الشرف من الإنسان لأنه أقوى منه، ونعم لو كان إنسان ببدنه لكان الفيل أقوى منه، ولو كان الإنسان بماله لكانت الجبال أكثر منه ذهباً وفضة، ولو كان الإنسان بقوته الجنسية لكانت العصافير أقوى منه جنسياً، ولو كان الإنسان بشكله وهيئته وملبسه لكان الطاووس أجمل منه وأحسن مظهراً، إنما الإنسان بهذين الاثنين: بعقله وقلبه، وبما يعبر عنهما وهو لسانه.
ينبغي أن أضيف أيضاً: إن هناك شغلاً للشباب بما يسمى بالفن، وسواء عن طريق متابعة الأشرطة، أشرطة الغناء أو أشرطة الفيديو والمسلسلات، أو الضرب بالطبول والتدرب على ذلك، والخروج إلى البراري والصحاري وعمل هذه الأشياء، وربما تكون هذه الأمور -أحياناً- مما يتزين بها بعض الشباب لبعض، أو يعمل على كسب إعجاب الآخرين وودهم.
إنني لا أرضى لإخواني من الشباب أن ينهمكوا في مثل هذا الأمر، أو يغتروا بالصحافة التي تقدم بعض هؤلاء الشباب على أنهم مقبلون ناشئون أو واعدون، وتحاول أن تغريهم بكل وسيلة للمواصلة في هذا الطريق الذي لا يؤمن.(114/23)
تعليق على الانغماس في الرياضة
إنني أعلق وبسرعة على هذا الموضوع بالنقاط التالية: أولاً: تقوية الجسم مطلوب، وأنا لا أعترض على أن يوجد فينا أقوياء في أجسامهم وعقولهم وقلوبهم، ولكن المشكل أن الرياضة لا تحقق ذلك، إذ يلعب عشرون أو خمس وعشرون، أما هذه الألوف فهي مكدسة على مدرجات الملاعب، لا تلعب ولا تمارس الرياضة ولا تتحرك ولا تركض، إنما أعصابها مشدودة وأصواتها مبحوحة، وهي مشغولة تماماً بما تشاهد، إذاً الرياضة لم تحقق قوة جسمية إلا لفئة محدودة، أما الأكثرون فهم مجرد متفرجين، وربما أثر هذا على صحتهم وأبدانهم، بل إنني قرأت منذ أيام طويلة في بعض الصحف، أعداداً عن أولئك الذين ماتوا على المدرجات في هذا البلد وفي مصر وفي غيرها؛ بسبب هدف لفريقه أو هدف على فريقه.
ثانياً: إن التعارف مطلوب بين الناس، بين المسلمين في بلادهم المختلفة، وبين المناطق، لكن التعارف لا يجب أن يكون بالضرورة في مدرجات الرياضة وملاعب الكرة، إنما يغلب على التعارف الذي يتم على ملاعب الكرة؛ أن يكون مقارناً بالعداوة والبغضاء، أو العلاقات المريبة بين مستويات مختلفة من الشباب الكبار والصغار، وكلنا ندري أن هذه الكرة ربما تفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين الناس، وربما قرأ بعضكم في صحفنا أشياء غريبة في هذا الباب.
ثالثاً: شغل وقت الفراغ واجب، لكن يشغل بما يفيد، ولو أن الرياضة كانت في حدود المعقول والاعتدال، وكانت في أوقات معينة لما كان لنا اعتراض عليها، أما أن تكون هي جل هم الشباب، وجل وقت الإعلام أن يشغلهم بذلك، حتى في أيام الاختبارات أحياناً، وحتى في أوقات المواسم، يأتي رمضان فتشغل لياليه بدوري يشغل الليل كله من أوله إلى آخر، تأتي الاختبارات وتأتي الإجازات، فنجد أن أثمن وأفضل ما نقضيه في مثل هذه الأشياء هو الرياضة، فلا شك أن العاقل يدري ويدرك -حينئذ- أن المقصود تلهية الناس وشغلهم عن الجد وعن الإقبال وعن الفهم وعن الوعي، واليهود يقفون وراء مثل هذه الأشياء في الغالب؛ لمحاولة تلهية الشعوب عن مؤامراتهم وخططهم، أما هم فمنهمكون ومنشغلون بالإعداد والتسليح والتقوية والتدريب، حتى بناتهم يدربونهن على الحرب وفنون القتال.
رابعاً: المدربون واللاعبون الأجانب موجودون كثيراً في مجتمعاتنا وفي نوادينا، وأعني بالأجانب الكفار، بل ربما تعاقد البعض مع مدربين من صربيا التي تحارب المسلمين وتقاتلهم، وكثير من بلاد الغرب أو روسيا أو غيرها التي توجه سهامها وطعناتها للمسلمين؛ ومع ذلك نستقبلهم ونؤويهم ونبجلهم، ونصرف لهم أضخم الرواتب، ونصفهم بأضخم العبارات، ونقدمهم لشبابنا قدوة حسنة، وهم في الحقيقة قدوة سيئة، وبعض هؤلاء قد يكونون -أو كثير منهم كما أسلفت- من النصارى، فيعملون حركات، مثل حركة التصليب التي يفعلها بعضهم في الميدان وهو يلعب الكرة، وتنقل في التلفاز فيراها الشباب والكبار والصغار، ويقلدونها وهم لا يفقهون أن المقصود منها الإشارة إلى الصليب، حينما يشير إلى جبهته ثم صدره ثم جانبه الأيمن والأيسر.
خامساً: المعسكرات الخارجية.
نعم للمعسكرات التي تدرب الشباب، وتقوي أجسامهم وتقوي عقولهم بالثقافة، وتقوي إيمانهم بالصلاة والمحافظة عليها والدروس العلمية، لكن لا يمكن أن يقبل بتلك المعسكرات التي تضعف الرقابة عليها، وخاصة إذا كانت في الخارج، وربما تكون فرصة لبعض ضعاف النفوس في ارتكاب ما لا يحل.
سادساً: إن من المعلوم أن المجتمع كلما زاد وعيه قل نصيبه من الرياضة، وكلما ضعف وعيه أصبح مشغولاً منهمكاً في متابعة الكرة، والركض وراء أخبارها ودورياتها وبرامجها وجداولها.
سابعاً: لا أعني بكلامي قط؛ أن كل لاعب أو متابع أو مشجع أو مشغول بالكرة بعض الوقت أنه إنسان منحرف، كلا، وأرجو أن لا يسبق هذا الفهم الخاطئ إلى ذهن أحد من الناس، بل إنني أعرف من بين هؤلاء صالحين وأخياراً، أو على الأقل فئة أخرى فيهم خير وصلاح، وربما يقتصدون في ذلك بقدر معقول لا إسراف فيه ولا مبالغة، وإن كان هذا الأمر ربما أستطيع أن أقول إن ساعة أصرفها في هذا المجال أعتبر أنها خسارة.
لكنني أقول: إنه يوجد من بين هؤلاء أبرار أخيار ولا شك، وهم يتحرون الحلال ويسألون عن الأحكام الشرعية، ولا يقدمون على عمل إلا بعد ما يستفتون في حكمه.
ومن ذلك مثلاً: لما أعلن النظام الجديد الذي يسمى: نظام الاحتراف والتفرغ، أن الكثيرين يسألون قبل أن يقدموا عليه هل يجوز مثل هذا العمل؛ أن يكون متفرغاً موظفاً كلاعب في النادي يقبض منه مرتبه أم لا يجوز؟(114/24)
مجموعة الأصدقاء
النقطة السادسة: شلة الأصدقاء.
الشلة التي يقضي فيها ذلك الشاب وقته في الاستراحة، أو مع الفريق الرياضي أو في مجموعة السفر أو السمر، إنهم جزء كبير من حياة هذا الإنسان وكيانه، وهم بلا شك من أقوى العوامل على بقائه على ما هو عليه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وله شاهد من حديث أنس، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة} فهذا يكشف عن أثر الجليس، وقديماً قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي(114/25)
صفات الجليس الصالح
إذاً إذا كنت تريد أن تعبد الله تعالى، وتبحث عن التوبة التي بحث عنها ذلك القاتل السفاح، فعليك أن تبحث عن العابدين لرب العالمين، وأن تلقي بنفسك بينهم، وأن تحرص على مصاحبتهم، وأن تتمسك بهم، فإنك الغريق الذي إذا لم يضع يده في أيديهم، يُخشى عليه أن يذهب إلى القعر ويهلك هناك، ثم عليك قبل ذلك، أن تعتصم برب العالمين وتسأل الله تعالى أن ينقذك من كل إثم وسوء.
بعض الشباب كتب إلي ورقة يسألني عن جليس يقول إنه لا بأس به، ولكنني إذا جلست معه أشعر بضعف في إيماني ورقة في ديني، فهل أجلس معه أو لا أجلس؟ أقول: مثل هذا لا يحتاج إلى سؤال، قال عيسى عليه السلام لأصحابه من الحواريين: سوف يوجد بعدي قوم يدعون النبوة.
قالوا: يا نبي الله، كيف نعرف هؤلاء؟ كيف نعرفهم وكيف نميزهم؟ فتبسم عيسى وقال: من ثمارهم تعرفونهم.
وهذا أصبح مثلاً يضرب: من ثمارهم تعرفونهم.
لكي تعرف هل جليسك صالح وينبغي أن تجالسه أو غير ذلك، انظر ما هي ثماره وآثاره على نفسك.(114/26)
موافقة الشاب لجلسائه
إن الشاب يتزين لجلسائه أياً كانوا، فيظهر الموافقة لهم على ما هم عليه، وربما أظهر الموافقة حتى ولو كانت بالكذب، ويتشبع بما لم يفعل، فإن كانوا أشراراً مجتمعون على معصية الله تعالى؛ فإنه يظهر لهم أنه مثلهم على معصية وعلى مخالفة ويفعل كيت وينوي كيت ويفكر كيت، على أقل تقدير من أجل أن لا يزدروه، ولا يعتبروا أنه معقد -مثلاً- أو أنه لا يعيش حياته وشبابه كما يجب، أو أنه محروم من بهجة الحياة الدنيا.
ومثله أيضاً لو كان مع مجموعة من الأخيار؛ فإنه قد يتزين لهم بما يحبون، ويعمل على موافقتهم، ويظهر لهم بعض الأعمال الصالحة في أول الأمر، ثم يعتادها وتصبح جزءً من حياته.
أما أولئك الرفقة من الأشرار، فإنهم يجرونه أولاً إلى السفر، مرة إلى الرياض وأخرى إلى جدة، أما في المرة الثالثة فإلى ما يعلم الله تعالى في مكان ناءٍ من الأرض.
وعموماً الإنسان يختار من الأصدقاء من يوافقونه، فهو لن يبحث عن هؤلاء إلا لما يشعر أن هناك نوعاً من الالتزام والتواطئ بينه وبينهم، ولهذا كما قال مالك بن دينار وغيره: [[إنك ترى أن الطيور بعضها مع بعض]] فأنت تجد العصافير بعضها مع بعض، والصقور بعضها مع بعض، والحمام بعضها مع بعض وهكذا بنو آدم.
ولذلك فيما يتعلق بالبشر انظر من هو صديق النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، انظر من هو قرين أبي جهل -فرعون هذه الأمة؟ إنهم عتبة وشيبة أبناء ربيعة وأمثالهم من الكفار المشركين، انظر من هو قرين فرعون؟ إنه هامان وقارون وأمثالهم من المستكبرين.
ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27-29] .(114/27)
الأقربون أولى بالمعروف
إن الإنسان ربما يستميت مع جلسائه، ويطيل البقاء معهم، ويخدمهم ويهمل والديه، وربما ذهب الشاب بأمه إلى السوق -مثلاً- فأنزلها وهو مسرع؛ لأنه على موعد مع بعض الأصدقاء أو مع من يعشق ويحب، فيذهب إلى هؤلاء راكضاً ويتأخر عن أمه.
فإذا جاءت أصبح يتكلم معها بشدة وينهرها ويغلظ لها في القول، ويتعذر ويتعلل دائماً بأنه مشغول وعلى ارتباط وعلى موعد، ولو أنه صارح نفسه وكشف الأمر، لأدرك ودرى أن مثل هذا الأمر لا يدعو أبداً إلى أن يتعامل مع أهله بمثل هذه الطريقة، فيكون إمبراطوراً على أمه أو أبيه أو أخته أو أخيه، وأما مع أصدقائه فهو حملٌ وديع، فالأقربون أولى بالمعروف.
البعض من الشباب يعيبونه إذا كان خاضعاً لإرادة والديه، أو كان والده مسيطراً عليه، ويعتبرون هذا دليلاً على نقصه وعدم قدرته على التخلص من الضغوط والاستقلال بنفسه، ولا يزالون يزينون له التمرد على سلطة الوالد؛ حتى يستطيعوا أن يتفردوا به ويذهب معهم كيفما شاءوا.
أعرف بعض الشباب كانوا صالحين، وكان الشاب الصالح مطيعاً لوالده لا يخرج إلا بإذنه، فكان أبوه ربما يمنعه حتى من مجالس العلم والخير وحلقة القرآن، والخروج مع الأخيار في رحلة، أو المشاركة في المراكز الصيفية، ثم انحرفوا بسبب بعدهم عن الأخيار والحيلولة بينهم وبينهم.
فذهبوا مع الأشرار، فكان الواحد منهم لا يلتفت إلى أبيه ولا إلى أمه، وربما نام خارج المنزل، وربما لم يروه اليوم واليومين والثلاثة، ومع ذلك استسلموا له، ولم يعودوا يعاتبونه ولا يغضبون عليه؛ لأنهم يقولون نريد أن نصبر عليه لعل الله أن يهديه.
وليتهم استخدموا هذا الصبر يوم كان شاباً صالحاً، وشجعوه على مقارنة الأخيار ومصاحبتهم؛ ليكون ذلك سبباً في هدايته وثباته.
إن الإنسان مدني بالطبع -كما يقال- ولا بد له من مجالسة، فعليك أن تبحث عن البديل الصالح، إذا أردت أن تترك جلساء السوء فابحث عن الأخيار، ولما جاء ذلك الرجل التائب من بني إسرائيل إلى الرجل العالم وقال: {إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، اذهب إلى قرية كذا وكذا فإن فيها قوماً يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم} والحديث في صحيح البخاري.(114/28)
السفر إلى الخارج
النقطة السابعة: مسافرون إلى الخارج.
السفر إلى الخارج -مع الأسف- أصبح ظاهرة عند بعض الأسر وبعض الشباب، بل الكثير الكثير من ذلك، وهناك مغريات كثيرة تدعو إلى ذلك الأمر.
منها: الدعايات في وسائل الإعلام المختلفة، التي تعرض مناظر في بعض الدول وأشكالاً وصوراً وفنادق وغير ذلك.
ومنها: الدعايات التي تقدمها الخطوط، سواء الخطوط السعودية أو غيرها، والتي تقدم الرحلات المتتابعة والمنظمة، وتعلن عن الفنادق وعن الأماكن الرئيسية، ويا ليتها على الأقل تعلن مع ذلك عن المراكز الإسلامية والتجمعات الخيرية لمثل هؤلاء المسافرين.
ومنها: التسهيلات من خلال وكالات السفر والسياحة، التي تعلن باستمرار في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام، عن رحلات منظمة وسياحة كاملة، تقوم هي بتوليها لمن لا يجيدون ذلك، أو ليس لهم خبرة مقابل مبلغ من المال.
ومنها: الأصدقاء الذين يغرون صاحبهم بالسفر، ويحاولون أن يزينوا له السفر إلى الخارج.
ومنها: التخفيضات التي تقدم للشباب لتذاكر السفر، وتسمى تخفيضات الشباب أو الطلاب.
واعتياد السفر يجعل الإنسان -والشاب خاصة- ينتظر الفرصة أو الإجازة ليذهب إلى هنا أو هناك.(114/29)
مفاسد السفر إلى الخارج
المفاسد المترتبة على هذا كثيرة منها: أولاً: -وهو أهمها- تدمير الأخلاق من خلال المناظر والمشاهدات والاختلاط الذي يراه الإنسان، يراه في الفندق، ويراه في المطعم، ويراه في الشارع، ويراه على شاطئ البحر، ويراه في أي مكان، فضلاً عمن يبحثون عن مثل هذا الأمر في النوادي الليلية والملاهي والمراقص وغيرها.
الإغراء بالرذيلة، من تعاطي المسكرات والمخدرات وارتكاب الفواحش والمحرمات.
أقول: ليس كل المسافرين كذلك، هناك كثيرون يسافرون للدعوة إلى الله، وهناك الكثيرون يسافرون للتجارة، وهناك الكثيرون يسافرون لأعمالهم، وهناك من يسافرون للعلاج، أو للدراسة، إنما أنا أتحدث عن فئة مخصوصة، ممن يسافرون لهذا الغرض الذي تحدثت عنه وبحت به.
ثانياً: من أضرار ذلك: القضاء على الحيوية والصحة والشباب، فما قيمة الشباب والقوة، إذا كان سوف يريقها على أماكن الرذيلة والعهر والفساد، في بلاد لا تعرف الحياء ولا العفاف.
ثالثاً: إضعاف الثروة الاقتصادية للبلاد.
إن السياحة من أهم مصادر الدخل في بلاد كثيرة منها بلاد عربية كمصر وتونس وبلاد المغرب، ومنها بلاد أجنبية مختلفة على سبيل الخصوص بلاد جنوب شرق آسيا، إنها بلاد الرذيلة؛ بلاد الإيدز، وبلاد الأمراض الجنسية، وبلاد الإعلام المكشوف السافر؛ الذي تراه في الفندق، وتراه في البقالة، والصيدلية، والشارع، ومع الأسف توجد شوارع معروفة بأسماء العرب، تعلن عن الرذيلة بشكل صريح مكشوف.
رابعاً: التهديد السياسي والأمني لوجود شبكات استخبارات من "الموساد"، الاستخبارات اليهودية أو غيرها، تسعى إلى تجنيد شبابنا من خلال الكأس والغانية، ومن خلال توريطهم في فضائح، فتجندهم ضد دينهم وضد بلادهم وضد مصالح أمتهم وتستخدمهم لهذا الغرض، أو على أقل تقدير من خلال شبكات ترويج المخدرات، التي تجند هؤلاء الشباب وتلقي بهم في أتون الرذيلة.
وقد ذكر تقرير نشر في بعض الصحف قبل سنوات؛ أن بعض الشباب من شباب دول الخليج العربي، في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة في عمر الزهور، يذهبون إلى هناك -مع الأسف الشديد- ويتورطون في قضايا المخدرات والفساد، وقد رأيت شباباً أصيبوا بمرض الإيدز في هذه البلاد، وهم في مثل تلك السن، لا زالوا في قوة شبابهم وفي أول أعمارهم، فمن المسؤول عن هؤلاء؟(114/30)
الحلول لمشكلة السفر إلى الخارج
أصبح من يريد الفساد اليوم يجده، الذي يريد الشر يجده، فلم يبق إلا التوعية الصادقة المباشرة للشباب، ومخاطبتهم وتجنيدهم في أعمال الخير، ودعوتهم إلى الله تعالى، وتحريك الخوف من الله تعالى في قلوبهم، فإن ذلك هو الرادع والوازع، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] .
إنني أعرف أعداداً كبيرة من الشباب ذهبوا إلى بلاد الغرب للدراسة، فكان الواحد منهم أول ما ذهب يسأل عن جامعة تكون قريبة من شاطئ البحر، أو جامعة تكثر فيها النوادي الليلية، أو جامعة في بلد يتمتع بالحرية، فيذهبون إلى هناك؛ فإذا ذهبوا تغيرت عقولهم واستقاموا وصلحوا والله العظيم، ثم تغير الواحد منهم ورجع مرة أخرى يقول: أريد جامعة يقرب منها مركز إسلامي، وفيها مسجد، وفيها أكثرية أو جالية إسلامية يمكن أن أتعاون معهم.
إن السبب في ذلك التغير؛ هو أنهم خوطبوا بالدعوة إلى الله تعالى، في جو حرية كاملة، ولكنهم دعوا إلى الله وذكروا بالله؛ فتحركت قلوبهم وعادوا إلى رشدهم، فينبغي أن نخاطب هؤلاء الشباب.
أمر آخر: أن نجند الشباب إلى السفر -إن كان ولابد- إلى البلاد الإسلامية المنكوبة، إلى الصومال -مثلاً- أو أفغانستان، أو إلى بلاد البوسنة والهرسك، أو إلى طاجكستان أو إلى غيرها من البلاد؛ إما أن يذهبوا للدعوة إلى الله، أو يذهبوا للتربية أو يذهبوا للأعمال الإنسانية، من المساعدات والخدمات وغيرها، ولا شك أنهم سوف يتأثرون نتيجة مشاهدتهم، أو يذهبون للتعليم أو لغير ذلك من الأغراض.(114/31)
خطورة الإعلام
النقطة الثامنة: الإعلام والإعدام.
الفتنة في التلفاز أصبحت طاغية اليوم، عند الكبار والصغار والرجال والنساء، فقلَّ بيت يخلو من هذا الجهاز، التلفاز يعرض الرياضة للجنسين، يعرض المسلسلات الفاضحة العربية والأجنبية، والتي ليس لها أي معنى سوى عرض الجميلات من الممثلات وإغراء الشباب بهن، وهناك صور ونماذج موجودة عندي.
أقول: إنها مؤذية جداً وغريبة ومستنكرة، لكني لا أطيل بها لضيق الوقت، ولأني سوف أقدم للإخوة موضوعاً خاصاً، عنوانه إن شاء الله تعالى: كلام في الإعلام.
أما البرامج الدينية أو العلمية فهي أقل من القليل، ويؤسفني أن أقول: إن التلفزيون في هذا البلد يقدم برامج دينية أقل حتى مما تقدمه دول خليجية أخرى كقطر أو غيرها، وهذا نتيجة إحصائية منشورة في مجلة سعودية هي مجلة قافلة الزيت، وهي موجودة عندي، مع أن كثيراً من البرامج العلمية والدينية تفتقد الجاذبية والإثارة والقدرة على مخاطبة الجمهور، فأكثر الناس يعرضون عنها أو يغلقون الجهاز عند ظهورها.
الدش موجود في البيوت والاستراحات، يقول البعض: إنه يتابع الأخبار، في الواقع أن معظم القنوات التي تبث تبث بلغة غير العربية، ومعظم الذين وضعوا هذا الجهاز لا يحسنون إلا اللغة العربية، أيضاً لم يبلغ مستوى الوعي والمتابعة الإخبارية عند الناس إلى هذا الحد، ولهذا لا تجد عندهم عناية في أحاديثهم وأقوالهم وتفكيرهم ونظرتهم، للمتابعات الإخبارية ومعرفة المجريات، إنما الغالب أن الدافع هو الإطلاع على عروض الأزياء، وعلى الرياضة، والرقص، والمسلسلات الغربية، والبرامج المنحلة.
وأقول: لقد سمعت بأذني برنامجاً في إذاعة "هنا لندن" يتكلم عن جهود الحكومة البريطانية، في وقاية الشعب البريطاني من البث الخليع الذي يأتي عن طريق هذه القنوات، والتفكير في الحماية الأخلاقية للمجتمعات الغربية، مع أنهم قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يدينون دين الحق.
فما بالك بالمسلمين، إنهم أولى أن يقوموا بهذا الأمر، ولقد أعجبني كثيراً ما نشرته الصحف أن قطر قامت بمنع تركيب الدشوش وحاربتها وصادرتها، وهذا خبر مؤكد، وينبغي على جميع البلاد أن تسعى حذوها في منع التأثير الأخلاقي والديني والعقائدي على شعوبها؛ فإن ذلك يحمل أعظم الخطر عليها.
الفيديو: لقد ضعف دور الفيديو نوعاً ما بوجود الدشوش، لكن لا يزال هناك مجال من خلال الاشتراك، أو شراء ومتابعة أحدث الأفلام والمسلسلات؛ وما يحدثه ذلك من الأثر الكبير في نفوس المشاهدين أو المستمعين.(114/32)
حلول فساد الإعلام
من الحلول: الأول: الإقبال على القراءة.
فهي جزء من الإعلام، وسماع الأشرطة الإسلامية، ولها دور كبير في مثل هذا المجال، لتوعية الإنسان وملء عقله وقلبه.
قد يقول الإنسان: أنا خرجت من المدرسة، تريدني أن أرجع لأقرأ -مثلاً- وأضيع وقتي في القراءة! أقول: نعم، القراءة غير المدرسة، فأنت تختار ماذا تقرأ، وفي أي وقت تقرأ، وأي لون من المعلومات، تقرأ قصة أو رواية أو تاريخاً أو شعراً أو مجلةً مفيدة أو علماً نافعاً أو ما أشبه ذلك، أو تستمع إلى شريط ينفعك في دينك أو دنياك، أو ينور لك الطريق، أو يزيد في خبرتك ومعلوماتك.(114/33)
آثار أجهزة الإعلام الفاسدة
إن من أعظم الآثار: أولاً: ضحالة الثقافة والمعلومات، فأنت تجد هؤلاء المتابعين ليس لديهم أي ثقافة يعتزون بها، ولا معلومات حقيقية، إنما هم خطافون يجتمعون أو يشاهدون، وقد تقلصت معلوماتهم وضاع وقتهم.
ثانياً: القضاء على الوقت، فلم يعد عند الإنسان وقت يذكر للقيام بأمور جادة، لا يقرأ ولا يكتب ولا يعمل في دنياه، ولا يقوم بأي عمل مثمر.
ثالثاً: وهو من أهم الأشياء وأخطرها: تغيير الأفكار والأخلاق، فإن الإنسان يتأثر بما يشاهده ويسمعه قطعاً ويقيناً، بعض الإخوة والأخوات يقولون لا نتأثر، أقول: هذا غير صحيح، وأضرب لذلك مثالاً: لو فرضنا أن هناك مسرحية أو تمثيلية مؤثرة ومبكية؛ ألا تجد أن الإنسان يبكي وتدمع عينه، مع أنه يعرف أن الأمر تمثيل.
لو كان هناك مسلسل عنف وإثارة؛ ألا تجد أنه يتابعه وأعصابه مشدودة؟ بلى.
مع أنه يعرف أن القضية تمثيل، إذاً الإنسان يتأثر بكل ما يشاهد وبكل ما يسمع، ومع الوقت يتعود الإنسان -مثلاً- على أن كون الرجل مع امرأة أجنبية ما يضر، وكذا ركوبها معه في السيارة، والمغازلة، والاتصال الهاتفي، وظهور الأوراق واكتشافها، وكلام الحب والغزل والغرام.
هذه المدرسة دربت بناتنا وأولادنا على كثير من أنواع الاتصالات المحرمة، والعلاقات الغير نظيفة ولا شريفة، إنها مدرسة كبيرة اسمها: مدرسة التلفزيون.
رابعاً: تمزيق الشخصية بين ما يعيشه الإنسان في مجتمعه، ويدرسه في مدرسته، ويسمعه في المسجد من التعاليم الدينية الشرعية، وبين ما يراه عبر الشاشة من المخلفات.
خامساً: التهييج والإثارة، وأعني بذلك على سبيل الخصوص: التهييج والإثارة بما يتعلق بالعواطف والغرائز.
نعم، كلٌ بحسبه، حتى صورة تلك المرأة التي تعرض في مسلسل عربي، إنها ربما تكون -أحياناً- أكثر إثارة أو تهييجاً من صورة في مسلسل أجنبي، أو حتى مما لو كانت أمراً مكشوفاً يتعاطى فيه الجنس علانية، فإنها قد تتفنن في وسائل الإغراء والإثارة، وربما يكون المستور أحياناً أكثر إثارة من المكشوف.
سادساً: ملء ذهن الإنسان وعقله بالأمور الفارغة: التعلق بالصور، والتعلق بالأشكال، والمفاهيم الخاطئة، والنظرات القصيرة إلى غير ذلك.(114/34)
عقبات في طريق الالتزام
النقطة العاشرة: عقبات في طريق الالتزام: السفر عقبة، الأصدقاء عقبة، التعلق بالرياضة أو بالفن عقبة.(114/35)
عقبة الفراغ
عقبة الفراغ: لقد هاج الفراغ علي شغلاً وأسباب البلاء من الفراغ نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، من أنجح الأساليب التربوية عند الآباء الواعين الفاهمين، أن يشغلوا أبناءهم بالأمور الجادة منذ الصغر، مذاكرة، أو مشاركة في تجارة أو عمل، أو إدارة، أو زراعة، مع منح المغريات والمكافآت التي تحدوهم إلى هذا العمل وترغبهم فيه، القيام بالخدمات في المنزل، تربيتهم على الاستقلالية في شخصياتهم، وأن لا يكونوا تبعاً لغيرهم، أو تربيتهم على القدرة على اتخاذ المواقف السليمة وتحمل المسئوليات.(114/36)
عقبة العادة
هناك عقبة إضافية وهي: عقبة العادة.
أن تكون عادات الإنسان عادات سيئة، كما يشتكي الكثيرون -مثلاً- مما يسمونه بالعادة السرية، قد تصبح المعصية عادة أياً كانت، اعتاد الإنسان التدخين أو شرب المسكر أو السفر أو ممارسة الحرام، أحياناً يمارسها لمجرد العادة دون أن يجد لها لذة، ودون أن تتطلع نفسه إليها إلا لمجرد أنه إذا وجد وقت فراغ، انصرف تلقائياً إليها، الذي تعود على المعاكسات الهاتفية، في كل وقت فراغ يجد أمامه جهازه يحركه دون أن يوجد هناك أي دافع إضافي إلا دافع العادة فحسب، أما اللذة فقد ذهبت مع المكالمات الأولى أو مع الاتصالات الأولى.
فهذه الأشياء كما قيل: أولها لعب وآخرها عطب.
وبالمقابل أصبح الإنسان لا يجد -بسبب عاداته السيئة أو المحرمة- أصبح لا يجد رغبة نفسية مثلاً في الصلاة، وربما يضيق بالأذان، وربما يذكره ذلك بشيء يريد هو أن ينساه، أو يشعره بالذنب وينغص عليه لذته العابرة التي يقضيها الآن، أو يجعله يقارن نفسه بتلك الفئة الملتزمة المهتدية من الأخيار والصالحين، ولا يجد أدنى دافع يفتح المصحف أو يقرأ شيئاً من القرآن؛ مع أن القرآن علاج وشفاء، كما قال الله جل وتعالى: {هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] {مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] .
الوحشة من الطاعة وأهلها؛ من أعظم آثار الذنب والمعصية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الخير عادة} من الممكن أن يكون الخير هو العادة التي تدرب نفسك عليها، فتعتاد على أداء الصلاة في أوقاتها، أو قراءة الورد اليومي صباحاً ومساءً، أو المحافظة على السنن الرواتب والوتر أو سنة الضحى، أو سماع الأشرطة أو قراءة الكتب، أو ملازمة حلقة القرآن والذكر؛ بحيث تكون هذه عادة لك تنزعج لتركها.
ولهذا لما ذكر الله تعالى المنافقين قال: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:13-14] .
إذاً الفتنة جاءتك من الداخل {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:14] تربصتم: أي انتظرتم وقلتم العمر طويل، نحن شباب، إذا كنا مثل فلان وفلان في السن نتوب إن شاء الله، هذا هو التربص.
{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:14-15] .(114/37)
الأسئلة(114/38)
طريقة التوبة
السؤال
أنا شاب أتيت مع أخيار، ولأول مرة أحضر محاضرة، لي بعض الأخطاء الصغيرة والكبيرة، ما هي نصيحتك لى حيث أني أريد أن أتوب إلى الله؟
الجواب
نصيحتي أن تسمع شريط "أريد أن أتوب ولكن" الذي ذكرته لكم قبل قليل.
فنترك بقية الأسئلة ونجيب على المهم منها في فترة قادمة إن شاء الله تعالى، في الأسبوع القادم سأقوم بإعداد موضوع مصارع العشاق، وهو الحلقة الأخيرة في سلسلة الحديث مع إخواني الشباب.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(114/39)
خبر مزعج للغاية
السؤال
خبر مزعج للغاية، في الواقع يقول أحد الإخوة: أطرح هذا السؤال لإرساله إلى أهل الزوجين حتى ينكروا المنكر، آه ثم آه لما حصل في بلدنا قبل ثلاثة أيام في أحد قصور الأفراح، حيث أتى الرجال مع النساء، واستمر الغناء والموسيقى حتى الساعة الثالثة ليلاً تقريباً، والله ثم والله قد حصل هذا، وفي زواج آخر دخل الزوج مع زوجته بين نساء أجنبيات عنه، فإلى متى تبقى هذه المظاهر وتستمر هذه المنكرات؟ فاتقوا الله يا شباب الأمة.
ونرجو أن تخصص موضوعاً لمنكرات الأفراح؟
الجواب
سبق أن خصصت موضوعاً عنوانه: تنبيه الناس على ما يقع في الأعراس.
أما هذا الخبر فإذا كنت أنت أو غيرك ممن يسمع هذا السؤال ومتأكد من حصوله فينبغي أن ينكر هذا في وقته ويثبت، ويمكن أن يتم إنكاره بطريقة يمكن أن يتأكد بها -إن شاء الله- من عدم تكرار مثل هذا العمل الشنيع الفضيع، وفعلاً والله أصبحت تصلنا الآن رسائل واتصالات في غاية الإزعاج مما يقع في الزواجات.
أخبرتني امرأة أن هناك زواجات يستأجرون قصر الأفراح بمائة وخمسين ألف ريال فقط؟ بل خمسمائة ألف ريال لمجموعة من الشباب؛ وأخرى بل مجموعة أثبتن أنه يتم رقص نساء شبه عرايا، عليهن ملابس لا تستر إلا إلى نصف الفخذ، هذا يوجد حتى بين الفتيات الغير متزوجات؛ وربما رقصت الزوجة مع زوجها أمام الرجال والنساء، سبحان الله! فتن يرقق بعضها بعضاً، أصبح مجتمعنا يصل إلى مثل هذه الأمور، ونحن في كثير من الأحيان نقف موقف المتفرج.(114/40)
نوع المساعدة على الزواج
السؤال
قلتم إنكم على استعداد لمن يريد مساعدة للزواج؟
الجواب
أنا ما قلت على استعداد المساعدة من يريد الزواج، لأنه قد يظن أني على استعداد لمساعدته في البحث عن الفتاة، ومثل هذا العمل لا يمكن أن أورط نفسي به، لكني على استعداد لمساعدته فيما يتعلق بالمساعدة المادية إذا كان ذلك ممكناً.(114/41)
كتاب عن أهل الحسبة
تنويه: يقول: هناك كتاب للشيخ محمد الدويش يتكلم ويجيب على أسئلة عن أهل الحسبة وهو يجيب على أسئلة كثيرة مطروحة، اسمه أهل الحسبة، فلذلك نلفت الأنظار.(114/42)
العالم الشرعي بين الواقع والمثال
ما أحوج الأمة إلى العالم الرباني الذي يصدع بكلمة الحق ولا يخاف لومة لائم، والذي تهفو إليه القلوب وتجتمع حوله لحسن خلقه وطيب باطنه وظاهره.
نعم.
هناك علماء كثر، لكن خصائصهم لا تتطابق مع خصائص العالم الرباني، لقد كان علماء السلف بحق هم العلماء الربانيون، وحتى ندرك الفارق بين علمائنا وعلماء السلف الصالح فما علينا إلا أن نقرأ هذه الصفحات.(115/1)
مقدمة عن منزلة العالم وصفاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العالم: هو من خير البرية ويتبوأ منزلة دونها منازل الناس أجمعين، كما ذكر الله تعالى في كتابه، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] و {العلماء هم ورثة الأنبياء} وإنما يقصد بالعالم في هذا، العالم بالشرع أصوله وفروعه، أما غيرها من العلوم الدنيوية فليس لها هذا الشرف مهما يكن نفعها ومهما تكن ثمرتها.
وقد كان علماء هذه الأمة من السلف الصالح رضي الله عنهم ترجمة واقعية حقة لما كان الإسلام يريده من العالم، في مظهره ومخبره في علمه وعمله ودعوته وسائر تقلباته.
وكلما تقادم العهد بهذه الأمة، وبعدت عن المنابع الأصلية، وطال عليها الأمد، ضعف هذا الأمر، وقل العلماء العاملون المخلصون، وبهتت الصورة التي كان عليها العالم المسلم في عهود السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
ولذلك تحتاج الأمة بين كل آونة وأخرى إلى أن تستعيد صورة ما كان عليه أولئك العلماء، ليكون ذلك حافزاً لها على السير على خطاهم وتقفي آثارهم.
ولا شك أن الصورة المثالية للعالم التي جاءت في القرآن والسنة بشكل نظري، وطبقت في واقع الحياة في العصور الأولى بشكل عملي، هذه الصورة المتكاملة لاشك أن مقاييسها بالصورة الحالية لطلاب العلم أمر يطول، فإن الفرق ليس محصوراً في جانب واحد حتى يمكن استقصاؤه والحديث عنه، بل الفرق في المنهج، في طريقة التعلم، والتعليم في الأسلوب، وفي الهيئة الظاهرة والباطنة وفي كل شيء،؛ولهذا فإنني سوف اقتصر في هذه الدقائق على الحديث عن ثلاثة جوانب مع بيان الفرق فيها بين ما كان عليه علماء السلف الصالح وما آل إليه الأمر في هذا الزمان، وهذه الجوانب الثلاثة هي: الجانب الأول: فيما يتعلق بموضوع المواصلة في طلب العلم.
والجانب الثاني: ما يتعلق بموضوع التأثر بالعلم والعمل به.
والجانب الثالث: فيما يتعلق بموضوع القوة في الحق.(115/2)
إمكانيات لطلاب العلم اليوم
وقبل أن أدخل في هذه الجوانب الثلاثة أحب أن أشير إلى أن هناك ميزات وإمكانيات أصبحت في مقدور طالب العلم اليوم لم تكن ميسورة لطلاب العلم في المرحلة الماضية.(115/3)
الرفاهية وتيسير العيش
فمثلاً: نحن ننظر اليوم إلى الرفاهية المادية والرخاء المعيشي الذي يعيشه طالب العلم، ونجد أن طالب العلم قد كفي كثيراً من الجهد في طلب الرزق، وأصبحت الأمور ميسرة لديه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب، بصورة لم تكن متيسرة لطلاب العلم في أي عصر مضى.
وعلى النقيض من ذلك كان علماء السلف رضي الله عنهم يلاقون المشاق والصعاب في حياتهم بسبب ضيق ذات اليد.
ولعلي أكتفي بالإشارة إلى القصة المعروفة التي حدثت لأربعة من كبار الأئمة والعلماء، وهم محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح، ومحمد بن هارون الروياني، فقد كان هؤلاء العلماء الأربعة ممن جمعتهم الرحلة وذهبوا إلى مصر في طلب العلم، فهناك أصابهم من شظف العيش ما أصابهم حتى كانوا يبيتون الليالي الطويلة بلا غداء ولا عشاء.
حتى إنهم اتفقوا على أن يضربوا القرعة فيما بينهم ومن وقعت عليه القرعة فإنه يذهب ليسأل لهم طعاماً، فلما أداروا القرعة وقعت على ابن خزيمة -رحمه الله- فما بالك إمام الأئمة كما يسمى ابن خزيمة صاحب المصنفات الشهيرة سوف يضطره ما يلقاه من ضيق ذات اليد إلى أن يسأل غداء أو عشاء له ولأصحابه؟! فكأنه رحمه الله استثقل ذلك الأمر، وقال: دعوني حتى أصلي صلاة الخيرة، أي: صلاة الاستخارة، فذهب يصلي ركعتين، ولعله دعا الله تعالى فيها، فما انتهى من صلاته إلا والباب يطرق، وإذا برسول من عند الأمير يقول: أين محمد بن نصر المروزي؟! فقال: هاأنا! فأعطاه خمسين ديناراً ثم قال: أين الروياني؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، ثم قال: أين محمد بن جرير الطبري؟! فأعطاه خمسين ديناراً، فقال: أين محمد بن إسحاق بن خزيمة؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، وقال: إن الأمير كان نائماً فرأى في المنام خيالاً يقول له: إن المحاميد قد طووا كشحهم من الجوع! فاستيقظ وعرف أن المقصود هؤلاء الأئمة الأربعة؛ لأن كل واحد منهم اسمه محمد، فأرسل إليهم ذلك، وسألهم بالله إذا انتهت واحتاجوا أن يبعثوا أحدهم إلى الأمير ليأخذ مثلها.
وما من عالم من العلماء المشهورين إلا ومرت به مواقف تشبه هذا الموقف وقد تزيد عليه، فلم يكن لدى أولئك العلماء من سعة ذات اليد وتوفر هذه الأمور الضرورية ما هو موجود لدى طالب العلم اليوم.
كذلك لم يكن لديهم من توفر وسائل الاتصال، فقد كان الواحد منهم يضطر إلى الرحلة من الحجاز إلى مصر أو إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى العراق في طلب حديث واحد، وقد يرحل رحلات عدة في طلب حديث واحد، ولهم في ذلك قصص وطرائف ويمكن أن تراجعوا مثلاً كتاب الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي أو غيرها.
وأما اليوم فإن وسائل الاتصال أصبحت ميسرة؛ فإن الإنسان عندما يريد السفر يستطيع أن يقطع آلاف الأميال في ساعات وبكل راحة وهدوء، وخلال سفره يستطيع أن يستثمر وقته في قراءة، في طلب علم، في مراجعة، في حفظ، في أي أمر من الأمور، وقد لا يحتاج إلى السفر في كثير من الأحيان لتوفر وسائل الاتصال الأخرى أيضاً، فهذه ميزة متوفرة اليوم لم تكن متوفرة من قبل.(115/4)
توفر الكتب
من الميزات المتوفرة اليوم توفر الكتاب، فأنت تجد أن المكتبات تقذف يومياً بأعداد كبيرة من الكتب في شتى ألوان المعرفة، بما في ذلك المعارف الإسلامية من فقه وتوحيد وتفسير وأصول ولغة وغيرها، ومن السهل أن يحصل الطالب على هذه الأشياء، أما في ذلك العصر فلم يكن من الميسور لأحدهم أن يحصل على كتاب إلا بأغلى الأثمان، لأنهم كانوا ينسخون الكتاب نسخاً، وكان هذا يكلف، وفي الوقت نفسه كان هذا يجعل الكتاب نادراً وقليلاً لا يتوفر إلا للخاصة من الناس، هذه كلها إمكانيات هي متوفرة اليوم لطالب العلم لم تكن متوفرة لهم في ذلك العصر.(115/5)
ميزات السلف الصالح
وبالمقابل نلاحظ أن هناك أشياء كثيرة تميزوا بها رحمهم الله، وهي أمور أساسية إذا وجدت عند طالب العلم، فإنه يستطيع أن يتجاوز الصعاب والعقبات في طلب العلم، وإذا لم توجد فلا ينفع الطالب أن تكون الأمور كلها ميسرة، فماذا ينفع الطالب إذا كانت كتب العلم كلها بين يديه، وهو لا يجد الرغبة في تحصيل العلم؟! أولا يملك الدأب على تحصيله؟! لا يستفيد شيئا من هذه الأمور، ولو كان العلم بالكتب لصار أصحاب المكتبات أعلم الناس.(115/6)
القدوة الصالحة وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخيراً فإن من الميزات الواضحة لهم على غيرهم: أنهم رضي الله عنهم كانوا يجدون القدوة الصالحة في هذا السبيل، والقدوة كلما تقدم الزمن تضعف.
فالجيل الأول كانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، والجيل الثاني على جلالة أقدارهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ثناء الله تبارك وتعالى عليهم كانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأشخاص الذين عايشوهم وأخذوا عنهم كانوا من الصحابة، كـ معاذ بن جبل وابن مسعود وعمر بن الخطاب وفلان وفلان، الجيل الثالث كان مشايخهم من التابعين … وهكذا، فكلما تقدم الزمن ضعفت القدوة.
ولذلك ذكر الإمام الذهبي في التذكرة قول بعضهم: " إن الإمام أبا داود صاحب السنن كان أكثر الناس شبهاً بالإمام أحمد، والإمام أحمد كان أكثر الناس شبهاً بـ وكيع، ووكيع كان أكثر الناس شبهاً بـ سفيان، وسفيان كان أكثر الناس شبهاً بـ منصور، ومنصور كان أكثر الناس شبهاً بـ إبراهيم، وإبراهيم كان أكثر الناس شبهاً بـ علقمة، وعلقمة كان أكثر الناس شبهاً بـ عبد الله " يعني ابن مسعود رضي الله عنه.
إذاً: كلما تقدم الزمن ضعفت القدوة، فكانوا يجدون في واقع حياتهم قدوةً حسنة في الدأب في تحصيل العلم، وفي العمل، وفي تحمل المشاق والصعاب وغير ذلك، وهذه لا تزال موجودة ولكنها لاشك ليست كما كانت موجودة عندهم، لا من حيث الكم والعدد ولا من حيث الكيف، فهذه مقارنة عامة لا أقول إنها مستوعبة لكل الفروق بين هؤلاء وأولئك لكنها إشارة إلى بعض الجوانب التي تحضرني الآن.(115/7)
الإخلاص
فمن ميزاتهم رضي الله عنهم التي امتازوا بها: الإخلاص، فقد كان دافعهم أو دافع كثير منهم ابتغاء وجه الله تعالى فيما يعلمون، ولم يكن قصد أحدهم مثلاً أن يُحَصِّلَ علماً ليباري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أو يتصدر به في المجالس أو ليقال هو قارئ، إنما كان قصدهم معرفة ماذا يريد الله منهم ليعملوا، وقصدهم حفظ الشريعة وتعليم الناس وما أشبه ذلك من المقاصد المشروعة، وهذا الأمر يصبح يسيرُ العلمِ معه كثيراً مباركاً.(115/8)
علو الهمة
ومن الميزات التي امتازوا بها رحمهم الله ورضي عنهم: قوة الهمة، فقد كانوا يمتلكون من الهمم العالية القوية ما يسهل كل صعب، وما قطعهم للمسافات وتحملهم للمشاق في تحصيل العلم إلا لوجود الهمة القوية، أما اليوم فأنت تجد طالب العلم إذا تعسر عليه فهم باب من أبواب العلم تشرح له مرة فلم يفهمه يلقي بالأمر ويقول: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ويخيل إليه أنه بذل وسعه في التحصيل فلم يفلح!.(115/9)
التفرغ لطلب العلم
من ميزاتهم التفرغ لطلب العلم، ولذلك كان الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة، وهذا ليس معناه كما قد يتبادر أن طالب العلم في عصرهم أصبح عالة على غيره لا يأتي ولا يذهب، وإنما هو متفرغ، والمحسنون ينفقون عليه، لا! لكن المقصود أن طالب العلم لديه جو مناسب لتحصيل العلم، ولديه تفرغ قلبي من الشواغل، لكن لو تنظر لطالب العلم اليوم تجد عنده مزرعة يشتغل فيها، وتجد عنده دكاناً، وتجد له أصحاباً وخلاناً يأخذون وقته، ولذلك فرحمة الله على السلف حين كانوا يقولون: " من أراد تحصيل العلم فليهجر دكانه، وليخرب بستانه، وليفارق خلانه " أي أن يوجد قدراً من التفرغ في طلب العلم وتحصيله.(115/10)
الاستمرار في تحصيل العلم بين عصر السلف وعصرنا
أما فيما يتعلق بالأمور الثلاثة التي ذكرت أنني سوف أقارن فيها بين ما كان عليه السلف الصالح وبين ما نحن عليه اليوم فإن الأمر الأول منها هو: - استمرارهم في تحصيل العلم، واستمرارهم في تحصيل العلم هو امتثال لقول الله عز وجل {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فإن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالعبادة وحدد وقتا ينتهي فيه هذا العمل الذي كلف به وهو الموت {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أما قبل ذلك فلا يزال في عبادة ومجاهدة.(115/11)
مساوئ التخصص
نلحظ قضية أخرى وهي: في موضوع التخصص، وإذا كان السلف على ما وصفت فإننا نلحظ أن التخصص أخذ بعداً آخر في هذا العصر، فنجد الطالب أحياناً قد يتخصص في سن مبكرة حتى إنهم الآن أوجدوا التخصص حتى على مستوى المدارس الثانوية، فقد يتخصص الطالب في المرحلة الثانوية أحياناً في علوم شرعية أو علوم لغة عربية أو في غيرها، ثم إذا انتقل إلى الجامعة استمر في تخصصه نفسه.
وقد نفترض أن إنساناً أنهى أعلى المراحل الدراسية في تخصص معين كالفقه مثلاً ماذا سيكون؟ ربما يأخذ في المدرسة الثانوية قولاً واحداً هو المشهور من المذهب في بعض المسائل دون بعض وهو موزع على سنوات، ويختلف تحصيله بحسب جودة الأستاذ وجودة ذهن الطالب وإمكانياته، وهناك ظروف كثيرة تؤثر في التحصيل.
ينتقل إلى كلية الشريعة مثلاً فيقرأ في كتاب ككتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع، وحينئذٍ يكون الطالب أيضاً أخذ قولاً في المذهب ومعه دليله في أحيان وتعليله في أحيان أخرى، وينتهي من الكلية بهذه الصفة، وإذا تخصص في مرحلة الماجستير أخذ موضوعاً واحداً، ولنفترض مثلاً أنه بحث في موضوع أحكام الطهارة في الماجستير، وجمع الأقوال المختلفة وقارن بينها، وجمع الأدلة وخرج منها بنتائج محددة، ولكنها تبقى في موضوع واحد، ثم انتقل إلى ما يسمى بمرحلة الدكتوراة، فكذلك تخصص في موضوع واحد آخر، وليكن لا أقول الصلاة لأنه لا يمكن أن يأخذ دكتوراه في موضوع الصلاة كلها، لكن يأخذها في جزء مثلاً: في صلاة النوافل، أو في أحكام المسافر، أو في أحكام المريض، أو في أحكام الإمام وما أشبه ذلك.
يبقى الطالب فيما سوى ذلك من العلوم أشبه بالأمي! فهذه من سلبيات التخصص المبكر، خاصة من الإنسان الذي لا يجد في نفسه رغبة شخصية في متابعة العلم وتحصيله، وإلا فالذي يجد الرغبة والهمة والإقبال سوف يُحَصِّلُ -بإذن الله- العلم، حتى لو لم يتخرج من الجامعة وحتى لو لم يحصل على شهادة، إنما الكلام في جمهور المتفقهين والقراء وهم الذين يسلكون هذا الطريق الذي أشرت إليه.(115/12)
سعة الاطلاع على كثير من العلوم عند السلف
إضافة إلى ذلك لم يكن طلبهم للعلم مقصوراً على جانب معين، أي: فلو نظرت في أي عالم من علماء السلف تجد أنه وإن كان مشهوراً في فن معين، مثلاً في الأصول أو في الفقه أو في اللغة العربية، إلا أنك تجد أنه واسع الإطلاع على كثير من العلوم، ولعل من الأمثلة المناسبة: بعض علماء اللغة، فأنت لو نظرت مثلاً للأصمعي أو ابن الأعرابي أو ابن فارس أو سيبويه أو ابن قتيبة، لوجدت أنهم كانوا مشهورين بالجوانب اللغوية والنحوية والأدبية، إلا أنهم كان لهم مشاركات ومساهمات أو على الأقل اطلاع واسع على العلوم الشرعية.(115/13)
انتهاء الطلب بالتخرج من الجامعة في عصرنا
وفيما يبدو أن المعرفة بعلوم الشريعة وعلوم اللغة العربية كانت قاسماً مشتركاً بين كافة العلماء في ذلك العصر، ثم يتخصص الواحد منهم في علم من العلوم يبرز فيه أكثر من غيره.
إذا نظرنا إلى الصورة المقابلة في واقعنا وجدت أن كثيراً من طلاب العلم يعتبر أن تخرجه من الكلية مثلاً هو آخر عهده بطلب العلم، فهو يخيل إليه أنه بعد أن حصل على هذه الشهادة أنه قد حصل على العلم المطلوب وتوجه إلى عمل أو تدريس أو وظيفة أو غيرها، وتوقفت بذلك جهوده في طلب العلم وتحصيله، مع أننا ندرك جميعاً أن أي علم يمكن أن يحصله الطالب في كليات الشريعة أو أصول الدين أو غيرها، لاشك أنه علم لا بأس به، ولست أقلل من شأنه، لكن هو علم يمكن أن يفتح أبواب العلم الواسعة على الطالب، وييسر له سبيل الوصول إلى العلوم، أما أن يكون هو العلم الذي يكفي الطالب فليس الأمر كذلك.
ومنهم من يعتقد أن إنهاء ما يسمى بمرحلة الماجستير أو الدكتوراة هو آخر عهده بالعلم، مع أن من المعلوم أن هذه الرسالة قد تكون في موضوع واحد، مهما أجاد فيه الطالب إلا أنه يبقى معزولاً عن غيره من الموضوعات، بل عن غيره من الفنون التي قد يجهلها بأكملها أحياناً.(115/14)
انقطاع التحصيل بالترؤس
ومن الأشياء الملحوظة أيضاً في هذا الجانب: أن بعض المعاصرين قد يظن أن وصوله إلى التصدر والترؤس والسؤدد هو غاية النهاية في تحصيل العلوم والمعارف، فإذا صار فقيهاً وجلس للطلاب أو أفتى أو تكلم توقف عند ذلك تحصيله، وهذا أمر ملحوظ جداً، ولذلك كان عمر رضي الله عنه خبيراً بالنفوس حين كان يقول: [[تفقهوا قبل أن تسودوا]] كما في سنن الدارمي وذكره البخاري في صحيحه، أي: أن الإنسان إذا صار سيداً، سواء برئاسة دنيوية على قبيلة أو على بلد أو على عمل أو مؤسسة أو كانت رئاسة دينية وعلمية وشرعية، فإن فرصة الإنسان في التحصيل تقل، فقال: [[تفقهوا قبل أن تسودوا]] وعقب الإمام أبو عبد الله البخاري على كلمة عمر هذه بقوله: " وبعد أن تسودوا" أي ليس فقط قبل أن تسودوا، وإنما أيضاً بعد السيادة ينبغي للإنسان أن يواصل في طلب العلم وتحصيله، مع أن من الملحوظ أن حركة العلم دائبة لا تنقطع.
ولعل من أبرز ما يدلل على هذا ما نلحظه اليوم في هذه النهضة العلمية، كم من مخطوط كان كثير من العلماء المشهورين يتمنون الحصول عليه في وقت من الأوقات أصبح الآن في متناول كل طالب، وتجده مطبوعاً محققاً مخدوماً رخيص الثمن، وكم من كتاب كانت المعلومات فيه غير مرتبة ككتب المسانيد مثلاً أو بعض كتب الثقات ككتاب الثقات لابن حبان وكتب التراجم أو غيرها، فكان العالم يجتهد في البحث عن طلبته وبغيته فلا يحصل عليها، وأصبح هذا اليوم ميسراً لطلاب العلم، عن طريق هذه الفهارس التي أصبحت تعد بالمئات، بل ربما أكثر من ذلك.
كم من مسألة كانت مفرقة بين بطون الكتب في الماضي، فقيض الله في هذا العصر من يجمع أشتاتها وأطرافها في بحث واحد ويقربه للناس، وهذا لا يعني التزكية المطلقة لهذه الأشياء.
قد يقول بعضكم: ولكن كثيراً من هذه التحقيقات والبحوث والفهارس فيها نقص وفيها وفيها؟ أقول: هذا صحيح، وليس المجال مجال توثيق أو تقويم لهذه الأعمال العلمية، إنما المقصود فقط الإشارة إلى أن حركة العلم في هذا العصر في تزايد مستمر ووسائل تحصيل العلم أصبحت ميسورة، فالتوقف عند حد معين ليس له ما يسوغه أو يبرره كما يقولون.(115/15)
نماذج عجيبة
ولا شك أن العلم من أجل الطاعات وأعظم العبادات، بل ذكر عدد من أهل العلم أنه أفضل من نوافل العبادات من وجوه عديدة، فكان العالم منهم يعتبر أنه طالب عالم حتى الموت، ولهم في ذلك قصص وحكايات كثيرة لعل منها ما هو معروف عن الإمام أحمد، وقد رأى بعضهم معه محبرة في آخر عمره وعلى كبر سنه، فاستغرب ذلك وسأل الإمام أحمد فقال: الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] لا يلقي عصا التسيار والترحال في طلب العلم حتى يأتيه الموت.
- عبد الله بن المبارك كذلك تعجب الناس من كثرة علمه وتحصيله ومع ذلك، يغشى المجالس ويسمع الحديث، وسألوه عن ذلك فقال: "لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أسمعها بعد" ربما تكون الكلمة التي فيها حياة قلبه -هكذا كلمته- ما زال بحاجة إليها، ولعله لم يسمعها حتى الآن.
ومثل ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي القاسم الصوفي أنه خرج إلى الحج وهو شيخ كبير، فكان معه مقلمة ومحبرة وبياض -أي ورق بياض- وكانوا يسمونه "الكاغد" وأجزاء، فكان كلما نزل في مكان قرب قرية أو بلد قال لأحد تلاميذه: هلم! فيذهبون ويحضرون مجالس الحديث ويسجلون الفوائد، فإذا مر به أحد سأله إن وجد عنده فائدة قيدها، حتى ذكر أنه كان في وادي محسر، والناس يحاولون أن يخففوا من أحمالهم التي معهم، فكان في هذا المكان الضيق المزدحم معه المقلمة والمحبرة والبياض والأجزاء فقال له تلميذه: يا إمام في هذا المكان الضيق المزدحم والناس يتخففون من أمتعتهم معك هذه الأشياء، فقال: لعلي أسمع فائدة من جمال أو غيره فأقيدها! صورة معبرة من صور الدأب في تحصيل العلم وعدم الوقوف عند حد معين.(115/16)
الخشية والسمت الحسن والخلق الفاضل
أما القضية الأخرى التي هي موضوع المقارنة أيضاً: فهي ما يتعلق بالخشية والسمت الحسن والخلق الفاضل، فقد مدح الله أهل العلم بقوله: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَخِرُون لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيْدُهمْ خُشُوعاً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء:108] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن العلم هو ما أورث الخشوع والخشية والخوف من الله والعمل، ولا أدل على ذلك من الحديث الصحيح الذي رواه أبو الدرداء: {أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء ذات ليلة وقال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، فقام رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد فقال: يا رسول الله! كيف وقد قرأنا القرآن؟! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى فما أغنت عنهم} .
قال: جبير بن نفير راوي الحديث، فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له: ألا تسمع ما يقوله أخوك أبو الدرداء؟ وحدثته بالحديث فقال: [[صدق! إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الأرض، الخشوع! يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً]] أحياناً العامي الذي يكون في قلبه خشوع وخشية يسمع المواعظ فيهتز لها ويتأثر ليقظة قلبه، فالقرآن والسنة مواعظ، والحديث الذي ذكرته رواه الدارمي وغيره عن أبي الدرداء، وجاء عن زياد بن لبيد وعن وحشي وعن غيرهم من الصحابة فهو حديث صحيح.(115/17)
العلم عند السلف مرادف للخشية
أقول: السلف رضي الله عنهم كانوا يفهمون العلم هكذا ما كانوا يطلقون لفظ العلم على المعلومات المجردة، وهذا من المصطلحات التي تغيرت اليوم عما كانت عليه في الماضي، فالسلف -حين كانوا يقولون: فلان عالم أو يقولون اطلب العلم- كانوا يقصدون العلم وثمرته التي هي العمل والتأثر، التأثر القلبي والسلوكي بالعلم، أما مجرد تحصيل المعلومات فلم يكن عندهم فقهاً ولا علماً، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .
هل إنذار الناس يكون فقط بالأحكام الفرعية؟! هل إنذار الناس يكون بأن تبين لهم مثلاً أحكام الحيض أو أحكام النفاس أو أحكام سجود السهو؟! كلا! إنما الإنذار يكون بالعلم الذي ينفذ إلى القلب، العلم بالله تعالى، العلم باليوم الآخر، وكذلك معرفة هذه الأحكام الفرعية الشرعية على سبيل العمل بها والدعوة إليها وعبادة الله تعالى بامتثالها، هكذا كان العلم.
ولذلك روى الخطيب البغدادي في كتابه المفيد الذي سماه الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع عن ابن سيرين أنه قال: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" يتعلمون الهدي -وهو السمت والخلق والسلوك- كما يتعلمون العلم! وذكر الخطيب أيضاً في كتابه المشار إليه عن أبي زكريا العنبري أنه كان يقول: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم" أما قوله: "علم بلا أدب كنار بلا حطب" فمعناه والله أعلم: أن العلم يقتبس منه فلا ينقص، مثل النار الذي يوضع عليها الحطب يقتبس الناس منها فلا تنقص، فالعلم الذي ليس معه أدب هو كالنار التي ليس معها حطب، وما هو مصير النار إذا لم يكن معها حطب؟ أن تخبو وتنطفئ، وكذلك طالب العلم إذا لم يتحل بالأدب والخلق الحسن، فسرعان ما يعرض عن العلم ويشتغل بالدنيا.
وروى الإمام الدارمي في سننه أن الحسن البصري -رحمه الله- تكلم في مسألة من مسائل الفقه في مجلس من المجالس، فقال له رجل اسمه عمران المنقري: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء! كأنه رأى أن ما قرره الحسن البصري مخالف لما يقرره أهل العلم والفقه فقال: له الحسن البصري: [[وهل رأيت فقيهاً قط- أي هل سبق أنك رأيت فقيهاً في حياتك- إنما الفقيه: العالم بأمر الله، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المداوم على عبادة ربه تبارك وتعالى]] فهكذا كانوا يفهمون العلم، وكانت حياتهم تطبيقاً لهذا الفهم.(115/18)
سلامة السلف الصالح من الأمراض التي تصاحب طالب العلم عادة
ولذلك لو نظرتم في سير السلف الصالح، لوجدتهم أنهم يسلمون من الأمراض التي تصاحب طلب العلم عادة، وذلك كمرض العجب والغرور، فإنه من الأمراض التي تسرع إلى طالب العلم، فما أن يتصدر للتعليم ويلتفَّ الناس حوله ويطؤون أعقابه إلا ويصيبه شيء من الزهو والعجب والخيلاء ويخرج عن طوره، وكذلك الحسد الذي قد يجعل طالب العلم يحسد غيره على ما آتاه الله من فضله، فإذا تعب في تحصيل العلم، ثم رأى أن غيره حصَّل أكثر مما حصل بتعب أو بغير تعب، وإن كان العلم لا يستطاع براحة الجسم كما قال يحيى بن أبي كثير، المهم إذا رأى غيره فاقه أصابته الغيرة والحسد، إضافة إلى غير ذلك من الأمراض الكثيرة، فلو نظرت في سير السلف وجدت الغالب عليهم السلامة من هذه الأمراض، لأنهم فهموا العلم كما ذكرت.(115/19)
حالة المدارس في عصرنا
أما نحن لو نظرنا في هذا العصر لوجدنا أن كثيراً من المدارس على غير ذلك، وحين أقول: المدارس أعني المدارس التي تدرس الطلاب العلم الشرعي، وهي كثيرة في أنحاء العالم الإسلامي، وليست كلها مدارس رسمية كما تتصورون، ففي كثير من البلاد -وخاصة في بلاد الهند- يوجد جامعات إسلامية ليست رسمية وإنما هي أهلية، والطالب فيها يتلقى العلم الشرعي من فقه وحديث وغيره ومناهج هذه الجامعات تختلف.
المقصود أن هذه المدارس بشكل عام التي تدرس اليوم العلوم الشرعية سواء كانت مدارس رسمية أو كانت غير رسمية تعنى بحشو المعلومات في ذهن الطالب، وإعطائه أكبر قدر ممكن من المعارف والأحكام والأدلة؛ ولذلك تربي الطالب على أن الفائدة والعلم هو تحصيل هذه المعارف الفرعية، فإذا جلس الطالب إلى شيخ وقال له الشيخ: المسألة الفلانية فيها عدة أقوال هذا قولُ فلان ودليله كذا، والراجح كذا، وبدأ يعطيه بعض الفوائد، فإنك تجد الطالب يسارع بتقييد الفوائد، وإذا خرج قال: أنا والله استفدت من هذه المحاضرة أو من هذا الدرس.
لكن حين يجلس الطالب فيسمع ترقيقاً للقلب أو تذكيراً بالله عز وجل أو بناءً لشخصيته في جانب من الجوانب المهمة أو تحذيراً من خلق ذميم، فقد لا يشعر بأنه استفاد، فهذا أثر التربية التي تلقاها الطالب في المدارس التي قصرت همها على حشو ذهن الطالب بالمعلومات فقط دون القيام ببناء شخصيته وسلوكه وتربيته تربيةً إسلاميةً متكاملةً.(115/20)
علاقة المدرس بالطالب في عصرنا وفي عصر السلف
أمرٌ آخر علاقة الدرس بالطالب: أن السلف الصالح رضي الله عنهم كان الشيخ قدوة لطلابه في كل شيء، أما اليوم فتجد علاقة المدرس بالطالب تنتهي حين يخرج من المحاضرة وبصفة أكيدة تنتهي حين ينتهي الطالب من دراسة هذه المادة أو هذا المقرر الذي يدرسه له هذا الشيخ، فلم يستفد من هدي المدرس وسمته وأدبه وخلقه وهديه، إنما استفاد مما ألقاه إليه من علوم خلال محاضرات معدودة محدودة، ولذلك غاب القدوة عن الطالب وأصبح كثير من المدرسين في العلوم الشرعية وغيرها ليسوا على المستوى الذي يدعو الآخرين إلى الاقتداء بهم، بل في كثير من البلاد الإسلامية الأخرى قد يكون مدرس العلوم الشرعية هو أضعف المدرسين؛ لأنه لا يتخصص في العلوم الشرعية في تلك البلاد إلا من تكون إمكانية التحصيل عنده ضعيفة، فلا يستطيع أن يتخرج مثلاً من الطب أو من الهندسة أو من العلوم فيتجه للكليات الشرعية، آل الأمر إلى الصورة التي ذكرها ابن جماعة الكناني لبعضهم في تدريس من لا يصلح، ذكر أن بعض الشعراء كان يقول: تصدر للتدريس كل مهوس جهول يسمى بالفقيه المدرسِ فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلسِ لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلسِ ومع الأسف فإن ابن كنانة -رحمه الله - كان يهجونا جميعاً بمثل هذه الأبيات وله الحق في ذلك وإن كان هذا لا يمنع من استثناء العلماء الأفاضل والفقهاء المخلصين والدعاة العاملين، الذين نجزم ونقطع بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أن هذه الأمة لا يمكن أن تخلو منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل.(115/21)
الاهتمام بالجانب العملي
من الملاحظات المتعلقة بهذا الباب أيضاً أن المعلومات التي تعطى للطالب أيضاً هي في الغالب معلومات نظرية أكثر منها معلومات عملية بحيث أن العلوم المتعلقة بواقع الطالب والتي يحتاج إليها في حياته العملية وفي سلوكه قد يغفل عنها، والملاحظات التي تلاحظ على مسلكه في الحياة ومنهجه أين يعيش هذا الطالب؟ من يصادق؟ ممَّ يأكل؟ إلى آخره، هذه ليس لها وجود في قاموس الدراسات العصرية.
ومن العجيب أن بعض العلماء ذكروا عن الإمام أبي عمرو بن الصلاح الفقيه الشافعي المشهور، أنه كان إذا جاء إلى مجلسه أحد من الطلاب ليس عليه عمامة أو قد فتح أزاريره فإنه يطرده من مجلسه! وكانوا يراقبون الطالب: من يجالس من الأصدقاء؟ وكيف يعيش؟ ومع من يمشي؟ فإذا رأوا مثلاً أن طالب علم مبتدئاً صغيراً يماشي سفهاء وكبار سن وغير ذلك، فإنهم يحذرونه مرة وثانية وثالثة، فإذا لم يستجب فإنهم يطردونه من هذه المدارس والحلق التعليمية.(115/22)
الانفصال بين العلم والعمل
ولهذه الظواهر التي أشرت إليها في هذا العصر برز الانفصام والانفصال بين العلم والعمل، فأصبحت تجد في كثير من البلاد عالماً أو قل طالب علم، فحين تنظر في مظهره تجده مثلاً: حليق اللحية مسبل الثوب يلبس ثياباً لا تليق إلا بسفهاء الناس، ومظهره لا يدل على ما يحمله من العلم، ثم حين تأتي إلى بيته تجد عدداً من المخالفات الشرعية على أولاده وزوجته، وما ندري ماله من أين يكتسبه؟ …إلى غير ذلك، لا تجد السلوك والسمت الحسن المتناسب مع هذا العلم، هذا موجود وحين أقول موجود لا أقصد التعميم، وإنما أقصد أنه موجود ويعتبر ظاهرة ملحوظة، أي: ليس وجوده نادراً أو حالات فردية، بل وجوده يصل إلى حد يمكن أن يقال: إنه ظاهرة ملحوظة على المستوي العام، ولا يمنع وجود غيره كما أسلفت من العلماء العاملين الملتزمين بالسنة في مظهرهم ومخبرهم في كل مكان في الأرض ولا يخلو عصر من قائم لله بحجة.(115/23)
بروز الأمراض التي تصحب طالب العلم
كذلك برزت الأمراض والآفات التي تخشى على طالب العلم فأصبح التنافس في مجالات العلم على أشده تنافساً غير شريف، لأنه لو كان تنافساً في مجال تحصيل العلم فلا بأس، لكن قد يأخذ التنافس في هذا العصر صورة أن يأتي طالب علم أو محقق إلى كتاب اشتغل به غيره، وتعب في تحقيقه ومقارنة نسخه وضبط نصوصه وتخريج أحاديثه، فيسرق جهد غيره ويطبعه باسمه، دون مراعاة خوف من الله ولا حياء من الناس، وفي كثير من الأحيان تجد في المكتبة عدداً من الكتب والمحققون لها عدد، أي أن كل طبعة لها محقق يختلف عن الآخر، وحين تقارن الهوامش تجدها متطابقة! وأضرب لكم مثالين بأسماء الكتب فقط دون الحديث عمن حقوقها: الكتاب الأول كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني، والكتاب الثاني هو كتاب تحريم النرد والشطرنج والملاهي للآجري.
وكذلك برز الحسد بين طلاب العلم أو بعضهم بسبب التنافس الدنيوي، فأصبحت تجد الطالب يقع في غيره بل قد يقع في شيوخ لهم قدم صدق ومكانة وثقة، وكم من كتاب صدر في النيل من علماء أجلاء أطبقت الأمة على تقديرهم، ولعله لا يغيب عن الأذهان مثلاً ما يلقاه الشيخ الألباني من هجوم ذريع من عدد من الكتاب وطلاب العلم، بل وربما من العلماء أو من بعض العلماء، ولا يبعد أبداً أن يكون الحسد هو أحد الدوافع في كثير من الأحيان، إضافة إلى العجب والغرور والزهو والخيلاء بما عند الإنسان وفرحه بما أوتي من العلم، كل هذا بسبب غياب الفهم السلفي للعلم الذي يعتبر أن العلم هو التقوى والخشية والورع والعمل.(115/24)
القوة في الحق
النقطة الثالثة: هي مسألة القوة في الحق، كان علماء السلف رضي الله عنهم يعتبرون أنفسهم قوامين على المجتمعات الإسلامية، وهكذا المفهوم الشرعي فالله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] من هم أولو الأمر؟ هم العلماء والحكام، والعلماء والأمراء، هؤلاء هم أولو الأمر، فكان العالم له مكانته وثقله وتأثيره، ولم يكن غريباً أن الوالي والعامل على المصر يهاب العالم ويخشى منه ويمشي إليه.(115/25)
قيام العلماء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المهم أن العلماء كان لهم شأن أي شأن وتأثير في المجتمعات، وسوف أُبِرزُ هذا التأثير من خلال عدد من القصص الغريبة التي هي أحياناً أشبه ما تكون بالخيال لشدة بعدها عن واقعنا اليوم.
منها القصة التي رواها البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولا شك أن الصحابة هم أعلم العلماء بعد الأنبياء، فـ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذكر أن مروان بن الحكم وكان والياً على المدينة خرج لصلاة العيد في يوم أضحى أو فطر، فلما خرج اتجه إلى المنبر ليخطب، فجذبه أبو سعيد وجره، فجر مروان نفسه من أبي سعيد، وارتقى المنبر وخطب، فقال له أبو سعيد: خالفت السنة! قال: يا أبا سعيد قد ترك ما هنالك! -أو قال: قد ترك ما تعلم- قال أبو سعيد: والله! لما أعلم خير مما لا أعلم، فقال مروان: إن الناس كانوا لا يجلسون لنا، أي: إذا صلوا العيد خرجوا ولم يستمعوا الخطبة، فقدم الخطبة حتى يضمن جلوس الناس لاستماعها، والمهم أن أبا سعيد اتخذ هذا الموقف القوي من مروان.
وبعد ذلك تكرر الموقف مرة أخرى -والله أعلم- من مروان، فخرج في يوم عيد وذهب إلى المنبر، فقام له رجل يبدو أنه معتز بعشيرته وقوي منيع، ونهى مروان عن ذلك، وقال: الصلاة قبل الخطبة! فقال له مروان: قد ترك ما هنالك! فقام أبو سعيد وقال: أما هذا فقد قضى ما عليه -وهذه الرواية في صحيح مسلم- أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} .
وهذا النص كان وراء تصرفات عدد من العلماء العاملين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منهم محمد بن المنكدر رحمه الله، ذكر الإمام المالكي ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع، أن محمد بن المنكدر كان يخرج إلى السوق مع طلابه فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقد أوذوا في ذلك من السلطان.
ومن أعجب المواقف ما ذكره أبو نعيم في الحلية، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن عالم يقال له أبو الحسن الزاهد وهي أشبه بالخيال كما أسلفت: أن أبا الحسن الزاهد عِلمَ بما يفعله حاكم مصر أحمد بن طولون من البطش بالرعية وقهرهم والتنكيل بهم؛ حتى إنه قتل -كما يقال- ثمانية عشر ألف إنسان صبراً، أي: بحبسه حتى يموت أو يحبسه ويرميه بشيء حتى يموت، فتبرم الناس منه وضاقوا ذرعاً بقهره واضطهاده لهم، فجاء إليه أبو الحسن وأمره ونهاه وأنكر عليه، فتميز هذا الطاغية غضباً عليه، وأمر بسجنه وأن يلقى إلى أسد جائع حتى يفتك به، فجيء بأسد قد جوع أياماً، ووضع أبو الحسن وهو أعزل في فناء أو ساحة وجيء بهذا الأسد الضخم العظيم الذي مجرد زئيره يقطع نياط القلوب، فكيف بمرآه وهو طليق؟! فكان هذا الأسد يزأر والناس ينظرون خائفين فزعين، أما أبو الحسن الذي يعنيه الأمر، فإنه كان جالسا مطرقاً كأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد، فما إن اقترب منه الأسد حتى تغير حاله، أي حال الأسد، وهدأ وأقعى على الأرض، ثم اقترب قليلاً قليلاً من هذا الإمام وبدأ يمسحه، ولم يصبه بأذى بل انصرف عنه! فوسط تهليل الناس وتكبيرهم جاء ابن طولون هذا الطاغية، وأخذ هذا العالم وأخذ يسأله: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول حين أقبل عليك الأسد؟ ربما تصور الناس أن هذا العالم عندما كان جالساً ساكناً أنه قد أصابته القشعريرة والرعدة وأصابه الخوف، فأعجزه عن القيام أو الفرار مثلاً أو أنه كان ساحراً أو مشعوذاً كما يلبس كثير من الجهال على بعض الناس، فلذلك سأله ابن طولون: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول؟ قال: ليس عليَّ منه بأس، إنما كنت أفكر هل لعاب الأسد طاهر أم نجس، أي هو مشغول بمسألة فقهية فرعية هل لعاب الأسد طاهر أم نجس؟! أما قضية الأسد وفتكه به فهو كان يثق بالله عز وجل، ويدري أنه موقف لله، والله يدافع عن الذين آمنوا، وقد حصل مثل هذا مواقف كثيرة لكثير من العلماء، حين كانوا يقفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواقف شجاعة، كان الله تعالى يحفظهم ويرعاهم.
والأمثلة كثيرة منها: المنذر بن سعيد البلوطي العالم الأندلسي له مواقف شجاعة مشهورة، العز بن عبد السلام في الشام ثم في مصر له مواقف مشهورة، ابن تيمية رحمه الله له مواقف: منها أنه كان يخرج بتلاميذه إلى السوق فيكسرون أواني الخمور، ويكسرون آلات الغناء والطبول وغيرها، ويهرقون الخمور في الشوارع، ويؤدبون المعتدين، حتى إنهم خرجوا إلى جبل كسروان وأدبوا النصيرية وفرضوا عليهم أحكام الإسلام، وتعدى الأمر إلى أن هذا العالم حين جاء التتار إلى الشام خرج إلى حكام مصر وكانوا من المماليك، وخاطبهم بأسلوب عجيب كان يقول للحاكم: إن كنتم أعرضتم عن الشام وأهله، فإننا نجعل له من يحوطه ويحميه في زمن الخوف، ويستغله في زمن الأمن، أي نجعل للشام ولاةً وحكاماً يدافعون عنه في الشدة ويستفيدون منه في الرخاء، ثم قال: لهم لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، ثم استنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وملوكه؟! وتلا عليهم القرآن الكريم، حتى خرجوا من مصر إلى الشام، والتقوا مع التتار، فنصرهم الله تعالى نصراً مؤزراً، كما هو معروف.
وليست هذه المواقف مقصورة على ذلك العصر حتى حين نأتي للعصور المتأخرة نجد مثلاً أمثال الشيخ العقاد وكان من علماء الشام، والشيخ عبد العزيز البدري كان من علماء العراق، لهم مواقف مع الطغاة مشهورة معروفة، ولعلماء نجد في ذلك القدح المعلى، فقد كان لهم مواقف مشهورة محمودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الخاص وعلى المستوى العام، لكن في المقابل مع كثرة طلاب العلم والمنتسبين إليه والفقهاء، فإننا نجد كثيراً منهم قد آثروا السلامة، واشتغلوا إما بالعلم الذي لا تعلق له بواقع الحياة، وإما بأمور دنيوية من وظائف ومناصب يتنافسون فيها ويحرصون عليها ومن وقع في هذه الأشياء فإن لسانه يعقد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمجتمعات الإسلامية اليوم تتعرض لغزو خطير من أعداء الإسلام، يستهدف لا أقول بعض أحكام الإسلام بل يستهدف اجتثاث الإسلام من أصوله، عن طريق نشر الإلحاد والعلمانية والإباحية والفجور في الأمة كلها، فما أحوج الأمة إلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين.(115/26)
هيبة العلماء
حتى إن من الطرائف أن الإمام الشافعي لما هَمَّ بطلب العلم وذهب إلى المدينة المنورة، كان معه خطاب إلى الوالي يطلب منه أمير مكة من أمير المدينة أن يذهب إلى الإمام مالك ليوصيه بالإمام الشافعي خيراً، فلما قرأ والي المدينة الكتاب أصابه ما قرب وما بعد، وقال: إن الإمام مالكاً رجل نَهابُه، ولا نستطيع أن نكلمه في أمر أو كأنه قال من يصل إليه؟! فقال الإمام الشافعي: أصلح الله الأمير! لو أمرت به إلى مجلسك! -لو دعوته ليأتي إليك- فضحك الأمير، وقال: ليته يخرج إلينا بعدما يصيبنا غبار العقيق ونقطع الطريق إليه، فلما ذهب الوالي إلى الإمام مالك وقالت الجارية: إن الوالي بالباب قال لها: قولي له: إن كان عنده سؤال يكتبه في رقعة ونجيب عليه، وإن كان يريد التدريس فهو يعرف موعد التدريس، فيأتي إليَّ، فقال: إنني أريده في أمر مهم، فخرجت الجارية، ونصبت كرسياً للإمام مالك، فخرج بجلالته وهيبته ووقاره، وانتصب على كرسي … إلى آخر القصة.(115/27)
صفات طلبة العلم الذين تحتاجهم الأمة
في ختام هذا الحديث الموجز أشير إلى أن الأمة محتاجة إلى نهضة إصلاحية، مدرسة تخرج الطلاب الذين يتميزون بالصفات التالية: أولاً: العلم المربوط بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة أو الإجماع الصحيح، وليس العلم الذي ليس له زمام ولا خطام.
ثانياً: الجمع بين العلم والعمل، بحيث يشعر الطالب، وهو يحصل العلم أنه إنما يعلم ليعمل بنفسه ويعمل غيره.
ثالثاً: معرفة الواقع ومعايشته، ومعرفة أسلوب تغييره، ومعرفة حكم الله ورسوله في كثير من النوازل التي ألمت بالناس اليوم، فلا يكادون يجدون في عدد من البلدان من يبين لهم حكم الله ورسوله فيها.
رابعاً: أن يتربى طالب العلم على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدرك أن طالب العلم لا يليق به أن يكون معتزلاً عن الناس، بل ينبغي أن يخالطهم ويدعوهم ويصبر على أذاهم، فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
وإن كان بقي وقت فأترك المجال لبعض الأسئلة المتعلقة بالموضوع.(115/28)
الأسئلة(115/29)
المقصود بالعلم في أحاديث فضل العلم هو العلم الشرعي
السؤال
ذكرت في بداية الحديث أن علماء الشريعة لهم فضل وميزة على غيرهم، وتواردت أسئلة يبدو أنها من الطلاب الذين يشتغلون بغير التخصص الشرعي الدقيق، يسألون يقولون: التخصص في هذه العلوم لمصالح تخص المسلمين أو تهم المسلمين، هل ذلك يعارض، وهل في الحديث وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً للجنة} يشمل العلم الشرعي وغيره.
الجواب
النصوص الواردة في فضل العلم جملتها، في فضل العلم الشرعي وأهله وحملته، بما في ذلك النص الذي ساق السائل، أما العلوم الأخرى فمنها ما هو علوم آلة ووسيلة كعلوم اللغة العربية وهذه تابعة وعالم الشرع لا يستغني عنها بحال من الأحوال، ومنها علوم يحتاج إليها المسلمون، وهي فرض كفاية إذا لم يقم بها من يكفي أثم الجميع، وكثير من العلوم التي يدرسها الطلاب اليوم هي من هذا الباب، فالطالب الذي يتعلم بنية صالحة ويقصد أن يسد ثغرة عن المسلمين فهو لا شك مأجور، وقد يقوم بفرض كفاية ما قام به غيره، ولعل من الأمثلة على ذلك مثلاً: علم التربية، والنفس، والتاريخ، والإدارة، والاقتصاد، بل الاقتصاد له جانب شرعي، هذه العلوم أصبحت اليوم تدرس في الجامعات الإسلامية ولأولاد المسلمين كما هي في نظريات الغربيين، لعدم وجود العالم المسلم المتخصص الذي يستطيع أن يصيغ هذه العلوم صياغة إسلامية، حتى أصبح بعض الناس ينفرون منها؛ لأن فيها أشياء ليست منسجمة مع التعاليم الإسلامية، فما أحوج الأمة إلى علماء في هذه المجالات وغيرها يصوغون تلك العلوم صياغة إسلامية، لأنها علوم لابد للناس منها، ومن قام بهذا وكان هذا قصده ونيته، فلا شك أنه على ثغرة، وله في هذا أجر عظيم بقدر نيته.(115/30)
الاطلاع والقراءة ومشكلة النسيان والانشغال بالقرآن عن طلب العلم
السؤال
إن مشكلة الكثيرين وأنا منهم أنني أقرأ وأحب القراءة، ولكنني أنسى كثيراً مما يجعلني أنتهي إلى طريق مسدود قد أيأس معه من القراءة بعد فترة؟ وآخر يقول: أنا أشتغل بتعليم القرآن وتدريسه، وهذا يشغلني عن طلب العلم، فهل أستمر في هذا أم انصرف إلى طلب العلم؛ لأن رغبتي في أن أحصل لنفسي ولإخواني العلم؟
الجواب
أما بالنسبة للجانب الأول من السؤال، أنه عندما يقرأ بعض الكتب تضيع منه هذه المعلومات، ومن ثم ييأس، فهذا أمر طبيعي، فلو كان الواحد منا كلما قرأ شيئاً حفظه، لأصبح الواحد منا أمة في رجل، فأنت بوسعك مثلاً أن تقرأ تراث شيخ الإسلام ابن تيمية كاملاً وابن القيم وابن حجر والنووي والذهبي وابن كثير، فتصبح أنت كأنك هؤلاء كلهم، لكن الأمر أن الإنسان يقرأ ويقرأ ويقرأ وينسى، ثم إذا قرأ بعد ذلك حفظ، أي قد تقرأ المسألة أو العلم في موضع فتنساها، لكن لو سمعتها مرة أو قرأتها قلت: والله هذه مرت معي لكن لا أدري أين، فبقيت في ذهنك أكثر، يمكن أيضاً أن تنساها، لكن تمر مرة ثالثة فترسخ في الذهن، وهذا هو الأمر الموجود، فلا تظن أن الإنسان عندما يحفظ ويذكر ويستشهد، يكون حفظها من المتون كذا وكذا وكذا أنه حفظها من خلال مرة أو مرتين أو عشر.
ذكر عن الإمام أبي إسحاق الشيرازي صاحب المهذب وغيره وهو من فقهاء الشافعية أنه كان إذا أراد أن يلقي الدرس كما ذكر في ترجمته في مقدمة كتاب المعونة في الجدل، كان يقرؤه أو يلقيه مائة مرة، وأعتقد أن أقلنا حفظاً وأكثرنا شكوى لا يردد المسألة التي يريد أن يحفظها مائة مرة، يرددها مرتين أو ثلاثة أو عشر ثم يريد أن يحفظها لأننا نريد أن نطلب العلم بسرعة.
أما مسألة من يشغله القرآن عن طلب العلم، فإن القرآن هو العلم يقول الله تعالى عن القرآن الكريم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وأنت حين تتأمل هذه الآية تجد أن الله تعالى وصف الذين يحفظون القرآن في صدورهم وصفهم بأنهم أوتوا العلم، فالقرآن هو العلم، ومن حفظ القرآن فقد أخذ من العلم بحظ وافر، لكن عليه أن يفهم القرآن ويعمل به ويدعو إليه، وفهم القرآن هو على ضوء السنة النبوية، ولذلك ذهب بعض العلماء كـ الشافعي إلى أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كلها مستنبطة من القرآن الكريم، فالقرآن هو أساس العلم ولبه والانشغال به انشغال بجزء مهم من العلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(115/31)
العالم بين التأليف والتعليم
السؤال
من خلال تتبعكم لحال السلف، وخاصة العلماء منهم يقول: أيهم أعظم فائدة في النفس العالم الذي يشتغل بالتأليف أم العالم الذي يشتغل بالتعليم؟
الجواب
كلاهما! كان العلماء يشتغلون بالتأليف ويشتغلون بالتعليم، والذين خلد ذكرهم في التاريخ هم من هذين الصنفين أو من أحدهما، وكثير منهم جمعوا بين الأمرين، فإن كثيراً من مؤلفات هؤلاء العلماء كانت دروساً يلقيها في مجلس الإملاء، فيسجلها طلابه ويأخذونها عنه، سواء كانت حديثاً يحدثهم به أو علماً يلقيه إليهم، فكلا الأمرين مهم ومفيد، وإن كان التأليف والله أعلم أبقى؛ لأن المؤلفات تبقي على القرون والأجيال، ولذلك هناك علماء ليس لهم تلاميذ، ولم يعرفوا بنشر العلم، لكنهم ألفوا، فبقي ذكرهم وبقيت مؤلفاتهم وانتفع الناس بها.(115/32)
الإخلاص في العلم منذ بداية الطلب
السؤال
ما هو تفسير كلمتين إحداهما مشهورة وهي قول أبي حامد، أو يزيد بن هارون كما يقول السائل تعلمنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، والكلمة الثانية ما ينقلها عن ابن الجوزي وهذه الكلمة هي: "وأما ما في العلم من حب الرياسة فإنما أوجد لحكمة كما أوجد النكاح لحكمة الولد"؟
الجواب
أما الكلمة الأولى وهي كلمة "تعلمنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون العلم لله" فهذه نقلت عن جمع من السلف، وذكرها عنهم الذهبي في السير وغيره، ومقصودهم فيها -والله أعلم- أن الطالب في بداية الطلب قد لا يكون قصده ظاهراً ولا نيته خالصة، خاصة وأنهم كانوا يتعلمون العلم على صغر أعمارهم، ربما بدأ الواحد منهم في طلب العلم في صغر سنه، وقبل أن يتميز له قصد ونية، وقبل أن يشعر بأهمية الإخلاص، فلما كبر وحصل العلم ورأى العلم بين يديه دعاه هذا إلى الإخلاص وأن يكون العلم لله، دعاه من عدة جوانب: أولاً: أن الاشتغال بالعلم وقال الله وقال رسوله يرقق القلوب ويقربها إلى الله تعالى، فتكون قابلة للخير والإخلاص.
ثانياً: أن طالب العلم يسمع الوعيد على من قصد الدنيا بعلمه، فيورثه هذا كراهية هذا الأمر ومجاهدة النفس عليه حتى ينجو منه، ومن المزالق التي يقع فيها بعض الطلاب في هذا الباب أنه إذا خشي من سوء القصد والنية ترك طلب العلم، وهذا مدخل ربما يجعل الإنسان يترك حتى أمور الخير.
فمثلاً: شاب يبكر إلى الصلاة فقال له الشيطان: أنت ربما تبكر بقصد الرياء وأن يمدحك الناس، فترك المبادرة إلى المسجد، وربما يترك الجماعة لهذا الغرض أيضاً، فهذا الأمر لا ينتهي ولذلك على الإنسان السالك في هذا السبيل أن يدرك أن النجاة من ذلك هي بمجاهدة هذا المقصد السيئ ومدافعته عن القلب، والحرص على الإخلاص والدعاء في ذلك وتوبيخ النفس عليها على عدمه وما أشبه ذلك.
أما كلمة ابن الجوزي فإن ظاهر العبارة الإشارة إلى أن كل أمر من الأمور يوجد الله تعالى في النفس من الحوافز الطبيعية ما يكون داعياً لبقائه واستمراره، فكما أن النكاح الذي هو سبب في بقاء الأمة وتكاثرها هو أمر فطري غريزي جبلي عند الإنسان، فلو لم يوجد عند الإنسان شهوة النكاح لربما عزف عنه، فحصل بذلك انتهاء الأمة أو نقص أفرادها وقلتهم، فكذلك العلم ربما يوجد عند بعض العلماء من حب الرئاسة ما يدعوه إلى طلب العلم، وقد يكون هذا في بداية الأمر، ثم إذا طلب العلم صار -كما ذكر في الكلمة السابقة- صار لله بعد أن كان لغير الله، أي ربما كان من وسائل التوظف مثلا حتى في العصور السابقة، بعض الناس يتصورون هذه قضية حادثة، حتى الأقدمون كان الإنسان منهم الذي يريد أن يكون في الديوان أو في الكتاب أو ما أشبه ذلك، يحتاج إلى أن يتعلم العلوم ليكون قاضياً أو عالماً أو مقدماً عند السلطان أو ما أشبه ذلك، فإذا تعلم العلم لهذا الغرض أبى العلم إلا أن يكون لله، إذا فحسنت في ذلك نيته وحسن قصده، هذا محمل كلمة ابن الجوزي رحمه الله.(115/33)
تفسير هجر الخلان الذي يلزم لطلب العلم
السؤال
أسئلة كثيرة يريدون تفسيراً جلياً للكلمة التي أوردتها، وهي قول بعضهم: "من أراد طلب العلم فليهجر دكانه، وليخرب بستانه، وليفارق خلانه" ويخصون الكلمة الأخيرة، إذ كيف نوفق بين الدعوة إلى الله عز وجل ومخالطة الناس وبين قول هذا العالم: وليفارق خلانه"؟
الجواب
كما ذكرت حين إيراد هذه الكلمة أنه ليس المقصود منها ظاهر لفظها، لأننا نعلم مثلاً أن الأمة والعلماء لم يكونوا رهباناً في صوامعهم، بل حتى الأنبياء عليهم السلام، ولماذا نضرب المثل بالعلماء؟ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم أزواج وذرية كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويحتكون بالناس ويخالطونهم ويأمرونهم وينهونهم، وهذا نوح عليه السلام يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5-9] فليس المقصود من هجر الخلان وتوابعه حقيقة معناه، لأن السلف كان يعبرون عن المعنى بالرمز أحياناً، هذه قضية يجب أن تعرف، أحياناً، عندما يقولون: فلان لا يعرف الدرهم من الدينار! هل يقصدون حقيقة معناها أنه -فعلاً- لو جاءه درهم ودينار لا يعرف، لا! ليس الأمر كذلك.
لكن هذه أمثال تضرب وكلمات تنقل، يقصد منها أن الطالب عليه أن يعلم أن العلم لا يستطاع براحة الجسم، فالطالب مثلاً الذي ينام بعد صلاة الفجر حتى يأتي وقت دراسته أو عمله، ثم يذهب إلى الدراسة والعمل، ثم يأتي بعد الظهر متعباً فيتغدى ثم ينام، ثم بعد العصر يجلس يشرب الشاي مع أهله حتى الغروب، ويقول: وقت العصر في هذه الأيام قصير بعد المغرب يجلس يتعشى مع أهله، وبعد العشاء يسهر مع أصدقائه، وهذا برنامجه! هذا لن يحصل علماً ولا عملاً ولا دعوة ولا غير ذلك، لكن على الإنسان أن يضحي ببعض راحته فلا يكثر من الجلوس في المجالس التي لا فائدة منها.
ربما لو حسب بعض الإخوة وقت النوم لوجد أنه يزيد على تسع ساعات في يومه وليلته، لو حسب وقت الأكل والشرب لوجد أنه أضعاف ما يكفي لهذا الأمر، ثم تجد البعض يقول: أنا عجزت عن التوفيق بين طلب العلم وبين الدعوة وبين القيام بحقوق الأهل، نعم! عجزت لأنك أمضيت وقتك في نوم وأكل وشرب وأحاديث لا فائدة منها، لكن لو ضبطت وقتك فالوقت فيه بركة، فلو ضبطت وقتك استطعت أن توفق بين هذه الأشياء جميعها.
طالب العلم يحتاج إلى أقران يعينونه على العلم ويشجعونه ويقوون همته والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده} فهذا وعد لمن اجتمعوا {وما اجتمع قوم} فلا يناله الفرد بكامله إنما يناله القوم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم} فذكر الله وطلب العلم والدعوة وسط مجموعة من القرناء الذين يعينون الإنسان على هذا السبيل يبينون له أخطاءه ويوقفونه عند حده أمر مهم جداً.
من أبسط الأمور التي اضرب بها المثل: طالب العلم أحياناً يخيل إليه أنه -ما شاء الله- حصل من العلوم ما لم تستطعه الأوائل! هذا يحصل وهو شعور طبيعي، لكن إذا جالس الآخرين ممن لديهم علوم ليست عنده، وسمع منهم، واطلع على ما لديهم، عرف قدر نفسه وتذكر أنه ليس عنده من العلم إلا النزر اليسير، وأن غيره قد فاته في ذلك بكثير فدفعوا عنه شراً كاد أن يقع فيه.(115/34)
ترك الدعوة بحجة التفرغ للعلم
السؤال
يتعلل كثير من الشباب ممن تفرغوا لطلب العلم عن ترك الدعوة ومخالطة الناس، بأن ذلك يشغلهم عن طلب العلم، فما توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
فيما يظهر لي أن الإنسان يجب ألا يضرب أمور الدين بعضها ببعض، فالذي أمرنا بالعلم هو الذي أمرنا بالدعوة، هو الذي أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأشياء يزكي بعضها بعضا، فإن زكاة العلم نشره والدعوة إليه، ومن دعا إلى الله تعالى احتاج إلى العلم فطلبه، ثم إن الإنسان يستطيع أن يوفق بين هذه الأشياء بأساليب كثيرة جداً، فإنه إذا حدد لنفسه منهجاً في التعلم واستمر عليه، واقتصر على نوع من مخالطة الناس فيه فائدة ونفع لهم، فإن الوقت يتسع لهذا وذاك.
لكن ينبغي أن يعرف أن الإنسان إذا اعتزل في فترة طلب العلم وطال هذا الأمر، فإنه يصعب عليه فيما بعد أن يحتك بالناس، أي لا يجب أن تتصور أن الإنسان هو عبارة عن آلة إن شئت أن توجهها هاهنا أو توجها هاهنا، إن شئت تشغلها أو توقفها، لا! الإنسان ليس كذلك، الإنسان لحم ودم ومشاعر، فالذي ما تعود على مخالطة الناس اكتفاءً بطلب العلم وتحصيله، حين يشعر بالحاجة إلى مخالطتهم، تخونه نفسه أحوج ما كان إليها، ولذلك بعض الناس لا يستطيع أن يتحدث مع الآخرين، إذا دخل على صاحب بقالة مثلاً لا يستطيع أن يماكسه في الثمن، إذا قال له: هذه السلعة بكذا أخذها ولو كانت بضعف الثمن، لا يستطيع أن يماكسه في الثمن، لماذا؟ لأنه ما تدرب على الاحتكاك بالناس ومخالطتهم، فإذا ما ربى الإنسان نفسه على هذا الأمر فقد لا يطيقه إذا ما احتاج إليه.(115/35)
الشهادة الكبرى
بدأ الشيخ حفظه الله المحاضرة بالكلام عن توحيد الله تعالى، ثم تكلم عن سنن الله تعالى الجارية في الأمم من الإشراك بالله تعالى والانحراف عن التوحيد، وتكلم بعد ذلك عن الأصلين العظيمين للتوحيدوهما: 1- الشهادة بتوحيد الله تعالى.
2- الشهادة برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تكلم بعد ذلك عن ثمار التوحيد العظيمة منبهاً على بعض الشركيات والخرافات مثل: حكم برنامج (كنز العربي وخرافة رومانية في شعار طبي) ثم ذكر أخباراً توحي بأن النصر للإسلام وأنه قادمٌ بإذن الله، ثم تحدث بعد ذلك عن الخطر الإعلامي الذي يهدد المملكة، وفي النهاية حذر من كتاب الخيرات.(116/1)
بين يدي الحديث
أولاً: بين يدي الحديث، إنه انقطاع طويل عن الدرس تخلله شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، ولا بد من التذكير في عجالة بوجوب المحافظة على الطاعات واغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] لقد تعلمت في رمضان الصيام، والقيام، وتعلمت الإنفاق، والحلم، فاجعل من العام كله مجالاً لتطبيق ذلك كله، ثم إن الله تعالى قد أنعم على البلاد خلال هذه الفترة الماضية كلها بنعم، منها: هذا الغيث المدرار الذي اكتست منه الأرض حلةً خضراء، وهذا أيضاً مما يوجب الشكر {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] .
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الفترة الماضية التي ربما طالت تخللها عدد من الدروس والمحاضرات المتعددة، التي سأل عنها عدد من الإخوة، وطلبوا أن أسجلها في مستهل هذا الدرس؛ ليتسنى لهم متابعتها ومعرفتها والحصول على أشرطتها، على رغم أن أمر انتشارِ الشريط وتوزيعه وتداوله أصبح أمراً عادياً ميسوراً والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً، فمن هذه المحاضرات (مفاتيح الخير) في الرياض ثم (الثبات حتى الممات) في الخرج (حديث حول منهج السلف) في مكة (مقياس الربح والخسارة) في جدة (ونبلو أخباركم) في الزلفي (أسئلة صريحة) في حائل و (صائمون ولكن) قبل رمضان بليلة في بريدة، فضلاً عن دروسٍ متفرقة هنا وهناك، وعن دروس رمضان والتي أشير إلى درسين منها فحسب أولهما: (عشرون كلمة عتاب للرجل) ، و (عشرون كلمة عتاب للمرأة) وقد أخرجته بعض التسجيلات بعنوان (شريك الحياة) وهذا عنوان لا بأس به، وكذلك درسٌ آخر أخرج مستقلاً بعنوان (رسالة خاصةٌ جداً) وإنما ذكرت هذا لهؤلاء الإخوة الذين يسألون ويخشون من انقطاع بعض الأشرطة - والحمد لله تعالى- على التيسير.
أما بالنسبة للدروس المستقبلية فهناك موضوعات كثيرة، وفيها مادة غزيرةٌ جداً وافاني بها الإخوة الكرام - جزاهم الله تعالى عني وعنكم خير الجزاء - وأسأل الله تعالى العون عليها.
من هذه الدروس مجموعة رسائل موجهة إلى المسلمين في عدد من البلاد منها: رسالة إلى المسلمين في الجزائر، ومنها: رسالة إلى المسلمين في أرض الكنانة في مصر، ومنها مجموعة من الموضوعات المتعلقة بالجانب الاقتصادي والمالي، وأحد هذه الموضوعات سيكون في الأسبوع القادم - إن شاء الله تعالى - وسيكون عنوانه (دعوة للإنفاق) .
ومن هذه الموضوعات أيضاً (همسة إلى شباب الصحوة) ومنها (حديث إلى الغرب) ومنها (كلام في الإعلام) ومنها (حتمية السقوط) وسيكون عن البشائر بانهيار النظام الصليبي النصراني الغربي، ومنها درس عن الهندوس في الخليج، وأسأل الله تعالى الإعانة.(116/2)
حديث عن التوحيد
أيها الإخوة! أتيتكم وأنا فرح مسرور والحمد لله؛ لأنني سوف أحدثكم عن الله، الله الذي نحن بعض خلقه، ونحن بالقياس إلى الأكوان والأجرام والعوالم ذرة تائهة صغيرة لا نكاد نعد شيئاً، ولكن الله تعالى من علينا وتفضل وأنعم، فسخرها لنا، وميزنا بالعقل والإدراك، واختارنا للمسؤولية واختص من بيننا رسلاً تتنزل عليهم الملائكة: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] الله الذي له كل شيء، له الدنيا والآخرة، والأرض والسماء، والإنسان والمادة، وله كل شئ: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل:13] فلله الآخرة والأولى، فإذا رضي عن العبد أعطاه بلا حساب {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] .
الله الذي سنقدم عليه وسنلقاه وسنلاقيه وسيحادثنا ويحاضرنا سبحانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الإنشقاق:6] فأي شيء أعظم وألزم وأهم من التعرف إليه، والثناء عليه، والكلام عنه، والتمدح بصفاته، والتحبب له، إننا حين نتحدث مثلاً عن عبادةٍ من العبادات كما تحدثنا مرةً عن الصلاة، وأخرى عن الصيام، وثالثةً عن الحج، فإنما هذه الأعمال والعبادات لا تعدو أن تكون وسائل وأسباباً وذرائع لتحصيل مرضاة الله تعالى، وإدراك عفوه، والفوز بكرامته.
وحين نتحدث عن الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن الدعوة إلى الله تعالى، فإنما نتحدث عن بعض آثار التوحيد، التي تقع من الموحدين المؤمنين، العارفين بالله تعالى، العالمين بأسمائه وصفاته، العابدين له، الذين يعملون لله لا للناس، ويجاهدون في سبيله لتكون كلمته هي العليا، فيحبون في الله، ويبغضون في الله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعملون لله، ويتركون لله.
ألا في الله لا في الناس شالت بداودٍ وإخوته الجذوع مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلباً تحوّم حولهم طيرٌ وقوع إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهمُ ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع لهم تحت الظلام وهم سجودٌ أنينٌ منه تنفجر الضلوع وخرسٌ بالنهار لطول صمتٍ عليهم من سكينتهم خشوع يعالون النحيب إليه شوقاً وإن خفضوا فربهمُ سميع وحين نتحدث عن جوانب من الخلل في الحياة الإسلامية، في الواقع السياسي، أو الأخلاقي، أو العبادي، أو الإعلامي، أو الاقتصادي، أو التعليمي، فإنما نتحدث عن ترسيخ قاعدة التوحيد الشاملة، والدينونة لله تعالى في كل الأمور {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119] .
ونتحدث عن منابذة طريق المغضوب عليهم والضالين، وأهل الشرك والتجزئة، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والذين جعلوا القرآن عضين، فليس التوحيد نصاً يقرأ ولا منهجاً يدرّس فحسب، ولا درساً يلقى فقط، ولا جانباً من جوانب العقل أو القلب مقطوعاً عما سواه وما عداه، بل التوحيد منهج يهيمن على الحياة كلها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
فما من طاعة من الطاعات إلا وهى تزيد في التوحيد وتكمله، وما من معصية صغرت أو كبرت إلا وهى تخدش التوحيد وتنقصه وتنافيه أو تنافى كماله.(116/3)
إنها السنن
إنها السنن: إن الأمم الكتابية ثلاث، المسلمون واليهود والنصارى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:156] فقد أنزل الكتاب على اليهود، ثم أنزل على النصارى، ثم أنزل على المسلمين، على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الخاتم، أنزل عليه القرآن، وقد حذّرنا الله تعالى مما آلت إليه الأمم السابقة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا سوف نتبع سننهم وطريقتهم حذو القذة بالقذة.(116/4)
الغلو الشركي عند أهل الرسوم
هذا أحدهم يعبر عن محبته لرجل من الناس فانظر كيف خلع عليه -لا أقول أوصاف الأولياء- وهو ولي فعلاً، لأنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا أقول خلع عليه أوصاف النبوة، بل خلع عليه أوصاف الإلهية! لقد سمعت يوماً من الأيام شاعراً لبنانياً معاصراً، رافضياً، يخاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب في قلوبنا، والله إننا نحبه أشد الحب، وأكرمه وأزكاه، الحب اللائق به، فهو رابع أربعة من الخلفاء الراشدين، والمبشرين بالجنة، وأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحبه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحبه لبلائه وجهاده، ونحبه لسابقته، لكن يظل علي بن أبي طالب بشراً من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس نبياً مرسلاً، ولا إلهاً معبوداً، لقد سمعت شاعراً لبنانياً يخاطبه ويقول: أبا حسن أنت عين الإله وعنوان قدرته السامية وأنت المحيط بعلم الغيوب فهل عنك تعزب من خافية لك الأمر إن شئت تنجي غداً وإن شئت تسفع بالناصية فاندهشت لذلك وقلت سبحان الله! كيف يوجد إنسان قرأ ولو شيئاً من القرآن، وسمع ولو شيئاً من الحديث، أو حافظ على نقاء فطرته فقط، كيف يعطي بشراً مثل ذلك؟! فإذا بي أفاجأ بهذه الورقة توزع في بعض مدارسنا، وفى بعض مؤسساتنا، وفى بعض دوائرنا الحكومية، وفيها الشرك الأكبر البواح الصراح! أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قصيدة لمن يسمي نفسه الشيخ علي بن سليمان المزيدي في مدح الإمام حيدر عليه السلام: أبا حسن أنت زوج البتول وجنب الإله ونفس الرسول وبدر الكمال وشمس العقول ومملوك ربٍ وأنت الملك لا حول ولا قوة إلا بالله! قال في المقدمة:" أنت مملوك" وذكرني بالمشركين الأولين الذين كانوا يقولون في التلبية: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فقالوا: لا شريك لك إلا شريكاً واحداً، ثم جعلوا لهذا الشريك الذي هو اللات والعزى كل شيء، ولم يجعلوا لله تعالى شيئاً قط، يقول: ومملوك رب وأنت الملك.
دعاك النبي بيوم الغدير ونص عليك بأمر القدير بأنك للمؤمنين الأمير وعقد ولايته قلدك إليك تصير جميع الأمور وأنت العليم بذات الصدور وأنت المبعثر ما في القبور وحكم القيامة بالنص لك ماذا بقي لرب العالمين؟! وأنت السميع وأنت البصير وأنت على كل شيء قدير ولولاك ما كان نجمٌ يسير ولا دار لولا ولاك الفلك وأنت بكل البرايا عليم وأنت المكلم أهل الرقيم ولولاك ما كان موسى الكليم كليماً فسبحان من كونك سرى سر اسمك في العالمين فحبك كالشمس فوق الجبين فمن ذاك كان ومن ذا يكون وما الأنبياء وما المرسلون وما القلم اللوح ما العالمون وكلٌ عبيدٌ مماليك لك أي شرك وكفر وردة وجراءة أعظم من هذا؟ الأنبياء والمرسلون والقلم واللوح والعالمون كلهم عبيد مماليك له!! أبا حسن يا مدير الوجود وكهف الطريد ومأوي الوفود ومسقي مجيبك يوم الورود ومنكر في البعث من أنكرك ولاؤك لي في ضريحي منار واسمك لي في المضيق الشعار وحبك مدخلني جنتك فالجنة والنار أصبحت له في نظر هذا المرتد، الكافر الكبير! يقول: المزيدي علي -هذا اسمه- بك المزيدي علي ٌّ دخيل إذا جاء أمر الإله الجليل ونادى المنادي الرحيل الرحيل وحاشاك تترك من لاذ بك {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2-7] .
والله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ما كان يدور في خلدي أن يصل الجهل والكفر والجراءة بإنسانٍ ينتسب إلى الإسلام، ولو نسبة ضعيفة، أن يقول مثل هذا الكلام، خاصة في مثل هذا الوقت الذي أصبح الناس فيه، متصلٌ بعضهم ببعض ويجامل بعضهم بعضاً، ويستحي بعضهم من بعض، فحتى صاحب الفكر الدخيل والكفر، ربما يداري أو يواري أو يتقي، أما أن يعلن ذلك ويصرحه ويبوح به، فهذا والعياذ بالله أمر عجيب! إن مثل هذا الكلام لم يمدحوا به رب العالمين جل وعلا، وأقسم بالله على ذلك، ولو قرأت الكتب الضخمة الكبيرة لن تجد قصيدة يُمدح فيها الله جل جلاله بمثل هذه البلاغة، ومثل هذه الألفاظ، كما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يمدح فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بمثل ما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] .(116/5)
العناية بالرسوم وإهمال المعاني
إن من سنن أهل الكتاب السابقين العناية بالرسوم، وإهمال المعاني والحقائق، فقد كان من شأنهم مثلاً: بناء المساجد على قبور الأنبياء تعظيماً لهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا ينسبون إلى الأنبياء كثيراً من النقائص والآثام، ويخالفون هديهم في كثير من الأمور حتى بناء المساجد على قبورهم، كان مما نهاهم عنه الأنبياء فأبوا وأصروا {وقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] .
إن الأنبياء لا يأتون بمثل ذلك أبداً، وهذه الأمة تعاني من هذا ما يطول منه العجب! فمثلاً: عناية الأمة بالرسوم وإهمالها للحقائق والمعاني كثير، فالقرآن نزل ليقرأ ويُفهم، ويعمل به، ويحكّم في واقع الحياة الفردية والجماعية، فماذا صنع المسلمون؟ أعرضوا عن قراءته، وعن فهمه، وعن تحكيمه، وعن التحاكم إليه، وذهبوا يطبعونه على ورق، ويذهِّبونه بأغلى الأثمان، ويقبلونه، ويضعونه على جباههم، ويضعونه على موتاهم، ثم لا شيء بعد ذلك.
والكعبة {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97] هذه الكعبة جعلها الله تعالى أمناً وقياماً للناس يصلى إليها، ويطاف بها، ويتوجه إليها المؤمنون في عباداتهم ودعائهم وما سوى ذلك.
فماذا صنع المسلمون؟ أعرض الكثير منهم عن ذلك، وذهبوا يحافظون على الرسوم، لا تستدبر الكعبة وأنت ماش؛ بل امشِ على وراءك لئلا تستدبرها، لا تمد الرجل إليها وأنت قاعد، والتمسح بها وبكل جوانبها، بل وبخرقها، وبالماء النازل من ميزابها، أما الصلاة والطواف والدعاء وتعظيم حرمات الله عز وجل فالكثير عن ذلك بمعزل، والمساجد عموماً غير الكعبة أصبحت تبنى وتشَّيد وترفع مآذنها، وربما وضعت فيها ألوان من الأشكال والرسوم والصور، ولكن أين الصلاة فيها؟! أين رفع الأذان؟ أين البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟! مآذنكم علت في كل حيِّ ومسجدكم من العباد خالي حتى البلاد التي فتحت ذراعيها للمسلمين اليوم في آسيا الوسطى وغيرها، وفى ألبانيا، البلاد التي كانت شيوعية ذهب المسلمون من الأثرياء ومن الدعاة يتنافسون في بناء المساجد ووضع القباب عليها وتشييدها، لكن لم يهتموا بإيجاد الدعاة، وإيجاد الأئمة، وإيجاد الخطباء، وإيجاد المصلين، فاعتنوا بالمسجد وغفلوا عن الإنسان المصلي.
والرسول صلى الله عليه وسلم، تجد كل المسلمين حتى العصاة، حتى الفجار، تصيبهم الحميّة له عليه الصلاة والسلام، ومما أذكر في القصص أنني قرأت في كتاب الطريق إلى المدينة لـ أبي الحسن الندوي، أن شاعراً هندياً كان سِكِّيراً لا يكاد يصحو أبداً، فجلس مع شاب عربي في أحد المطاعم أو المقاهي، يتعاطون الخمر، ويتكلمون فيما حرم الله عز وجل، حتى نزل هذا الشاب العربي، وكان شيوعياً، فتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونال منه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، فغضب ذاك الشاعر الهندي وكان ثملاً، فقام إلى ذلك الشاب العربي وضربه بيده ورجله ونعله حتى ظل طريحاً في غيبوبة أياماً، وهو يقول له: كل شيء فعلناه، ولم يبق لنا إلا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأنت أيها العربي! الذي تنتسب إلى نفس الجنس الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] تأتي إلى بلاد الهند، إلى بلاد العجم، لتنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكل المسلمين حتى المسرفين والمقصرين والخطاة والجناة يغارون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصيبهم الحمية له، وأكثرهم يقيمون الموالد والاحتفالات والمناسبات التي تتلى فيها السير بما صح وما لم يصح، وتتناشد فيها الأشعار في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وجماله وكماله وغير ذلك، بل وفى بعض البلاد تصدع الأغاني المختلطة بالموسيقى وتختلط الرجال بالنساء كما يفعل النصارى فيما يسمونه بعيد (الكريسمس) !(116/6)
الرسوم غالبها محدثة لا أصل لها
لتتبعن سنن من كان قبلكم، إنها السنن، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، هذه واحدة، والأخرى أن هذه الرسوم التي لا زال المسلمون يعتنون بها دون أن ينتقلوا إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، ولزوم شريعته، والأخذ عنه، والدفاع عن عقيدته وعن دينه، هذه الرسوم التي يعتنون بها هي في غالبها محدثة لا أصل لها، فعظّمت هذه الأمور عند العامة كثيراً، كما يتحدث الرافضة مثلاً عن يوم عاشوراء، ويقولون كما يقول مجددهم المعاصر الخميني، يقولون: إن يوم عاشوراء هو الذي حفظ دين الرافضة، لأن هذا اليوم وما فيه من التمثيليات التي يعرضونها، وشق الجيوب، وخمش الوجوه، وضرب الظهور، وسيلان الدماء، وارتفاع النياحة، والأصوات والضجيج والصراخ، هذا أصبح رمزاً وشعاراً ومناسبة يربطون بها العوام الجهلة إلى ذلك الدين المحدث.(116/7)
الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى ولا حق رسوله
هذه الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى، إذ حفظ حق الله تعالى هو بمعرفته، وعبادته، وحبه وخوفه ورجائه، ولم تحفظ حق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ حفظ حقه صلى الله عليه وسلم هو بحبه أشد الحب، وطاعته واتباعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم والدفاع عن دينه، ولكن هذه الرسوم خلطت الأوراق، فجعلت ما لله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلت ما للرسول للأولياء، وجعلت ما للأولياء للمشايخ، بل لغير الصالحين أحياناً، بل جعلت حق الله تعالى لبعض المجهولين، وبعض الفجار، وبعض الفساق، وكم من ضريحٍ يزار، ويطاف به، ويعبد مع الله تعالى، أو من دون الله، وتنذر له القرابين، وتبرم عنده العقود، ويتبرك بتربته، وهو مرقد لشخص لا يُدرى أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، بل إن بعضهم مما يعلم بأنهم من أهل النار، لأنهم من الكافرين، وإنني أقرأ لكم خبراً مضحكاً، نُشر في عدد من الصحف، وأذاعته وكالة اسمها وكالة إينا من باريس، ونشر في عكاظ (3/6/1413هـ) ونشر في الندوة أيضاً (29/5) من العام نفسه، هذا الخبر يقول: إنه تم تأجير ضريح أحد الأولياء في بلد إسلامي، في شمال إفريقيا بمبلغ يزيد على مليون دولار، ويشمل الإيجار القبر والقبة، وصندوق جمع التبرعات والنذر، ويستأجر هذه القبور النصابون والمحتالون، الذين يحصلون على مبالغ ضخمة، توضع في صندوق التبرعات، يضعها بعض العامة من البسطاء والجهلة، الذين يتصورون أن الولي الميت، أو أن الميت ولو لم يكن ولياً سيحل مشاكله، وهناك تخصصات مختلفة يعتقدونها، فبعضها للشفاء من الصرع والجنون، والبعض الآخر لعلاج النساء من العقم، في حين يحرص النصابون والمشعوذون على نشر القصص الخيالية والأكاذيب بين الناس، لدفعهم إلى زيارة القبر، وطلب مساعدة المقبور، وبعض القبور التي يزدحم حولها الزوار لطلب العلاج من الميت تصبح -كما يقول الخبر- بؤراً للدعارة والفسق، في حين يقوم المستفيدون من هذه الظاهرة بخداع الناس، كالتكلم من وراء حجاب، أو عمل خدع بسيطة لإيهام الناس بأن الميت يسمعهم ويتحدث إليهم.
يقول الخبر: وذكر أنه في بلد إسلامي، أسيوي يتسابق أصحاب النفوذ والسلاطين في الدولة على إعطاء حق الإشراف على القبور لأقربائهم، حتى يتمتعوا بالدخل اليومي الوفير.
وفى بلد إسلامي آخر، يقع على البحر المتوسط، قبر يزوره الناس، ويطلبون من صاحبه الوساطة والمساعدة على أساس أن الميت من الأولياء، ثم تبين أن المدفون في القبر صياد سمك يوناني، وبعض المحتالين يلجأ إلى وضع كومة من الأحجار في مكان ما، ويزعم كذباً أنها قبر لولي صالح، ويبدأ الناس في تصديقهم، ويجمعون الأموال مع أنه ليس في المكان ميت ولا قبر أصلاً، ومن المعروف أن الحسين رحمه الله ورضي الله عنه، له ثلاثة قبور، قبر في العراق وقبر في الشام، وثالث في مصر، وقد ضحك بعض المتندرين وقال: لعل رأسه في العراق، وصدره في الشام، ورجلاه في مصر، وهذا على سبيل التندر والطرفة، يبذلون الأموال الضخمة عند هذه القبور نذوراً للميت، وقرابين، وذبائح، على رغم أنهم يعانون أشد ألوان الفقر، فحيهم يموت جوعاً، أما ميتهم فتذبح عنده القرابين، وتنذر له النذور! إنها أُضحوكة على هذه الأمة التي قال شاعرها الأول: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم أحياؤنا لا يرزقون بدرهمٍ وبألف ألف ترزق الأموات من لي بحظ الميتين بحفرةٍ قامت على أحجارها الصلوات يسعى الأنام لها ويجري حولها بحر النذور وتقرأ الآيات ويقال هذا القطب باب المصطفى ووسيلةُ تقضى بها الحاجات {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20-21] .
حتى جحا شيدت له القبور في ثلاث دول إسلامية، وفي تركيا قبرٌ لـ جحا، نصر الدين خوجة، يذهب إليه من يريدون عقد الزواج، يعقدون الزواج عند قبره تبركاً بتربته، ويطوفون حوله، وربما توجهوا إليه بالدعاء، بل وربما استقبلوه بالصلوات، وقد حدثني شهود عيان، أن بلداً إسلاميا بمجرد ما ينزل السائح إلى ذلك البلد، في المطار يخلع نعليه؛ لأنه في البلد الذي حوى تربة الولي الصالح فلان فمن تكريمه أن تخلع نعليك مند أن نزلت المطار، وتكون خاشعاً مطرقاً مخبتاً، فإذا وصلت إلى القبر رأيت العجب العجاب رأيت استقباله بالدعاء والصلاة إليه والسجود، ولقد حدثني شهود عيانٍ بذلك كله، في غير ما موضع.
ومما يذكر أيضاً في هذا، أن جريدة أو مجلة اسمها الأولى، نشرت في الحادي عشر من جمادى الآخرة، من هذا العام خبراً طويلاً عنوانه (الأولى في حضرة ولي الله الصالح الشيخ العيدروس وذكرت الجريدة أخباراً وصوراً عن الابتهاج والاحتفال عند هذا الولي، وكيف يتوجهون إليه، وينشدون الأناشيد، وترتفع الأصوات بالغناء المصحوب بالموسيقى، وتختلط الرجال بالنساء، وتكون هناك طقوس وعبادات ومشاعل، ويحضر كبار الشخصيات، تعلوهم الابتسامات التي تزاحم - كما تقول الجريدة - تزاحم أصداح نغمات الموسيقى النحاسية، التي جاءت للمشاركة في الاحتفال، وبدون تمايز اختلطت النساء بإخوانهن الرجال في لوحة بديعة أطلقوا عليها لوحة العيدروس وقد حازت تلك الجريدة قصب السبق الصحفي حيث شغلت صفحتين كاملتين لبيان الطقوس والمراسيم، التي كانت في مثل ذلك الاحتفال البدعي الوثني.
إننا قلما نسمع في دنيا المسلمين من ينتصر لحق الله تعالى، أو يقول لقومه مقالة نوح عليه السلام: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13-14] أو يرمي قوماً بأنهم ما عرفوا الله حق معرفته، ولا قدروه، حق قدره كما قال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] .
لكننا كثيراً ما نسمع حتى من العامة، من يقول: إن فلاناً لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن فلاناً لا يحب الأولياء الصالحين، ولا شك أن الذي لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بمؤمن، كما يقول سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} .
فيجب على كل مؤمن أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون أحب إليه من نفسه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، بل أحب إليه من الماء البارد على العطش والظمأ الشديد، والذي يبغض الأولياء والصالحين هو أيضاً قد بارز الله تعالى بالمحاربة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} .
لكن ما هو المقياس في حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الأولياء الصالحين؟ لعل هذا الذي ترميه بأنه لا يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، قد رفض الرسوم الحادثة، التي يعبر بها هؤلاء عما يزعمونه حباً، وعبر هذا المؤمن عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع طريقته الشرعية، التي ترضي محبوبه وتوافق هديه.(116/8)
أصلان عظيمان
إن الشهادة الكبرى هي شهادة التوحيد، وهي دين الإسلام، فالإسلام مبنيٌ على أصلين:(116/9)
الشهادة برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الركن الثاني: فهو الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم.
أولاً: بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي من السماء، ينزل عليه جبريل بخبر السماء بكرة وعشياً.
ثانياً: أنه خاتم النبيين لا نبي بعده {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] .
ثالثاً: تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في أخباره، سواء ما أخبر به عن الأمم السابقة، أو ما يخبر به عن المستقبل في الدنيا أو في الآخرة، فإن خبره صدق، لأنه من خبر الله ومن كلمة الله (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام:115] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .
رابعاً: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، فإن هذا هو المحك الحقيقي للإيمان به ومحبته.
خامساً: محبته صلى الله عليه وسلم محبةً بحيث يؤثره على نفسه وأهله وولده، وأمه وأبيه، وزوجته، وكل حبيب لديه، ومحبة ما أحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، محبةً تنبعث من شغاف القلب، فلا يذكر صلى الله عليه وسلم، إلا وسارع بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وطربت نفسه لذلك شوقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وارتياحاً لذكره وهي تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من محبتها لقرابتها، بل لنفسها، وكما عبر عن ذلك الشاعر دعبل الخزاعي في قصيدته الشهيرة، التي لا تصلح إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحب قصي الرحم من أجل حبكم وأهجر فيكم أسرتي وبناتي وأكتم حبكم مخافة كاشحٍ عنيدٍ لأهل الحق غير مواتي لآل رسول الله بالخيف من منى وبالركن والتعريف والجمراتِ مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ ومنزل وحيٍ مقفر العرصاتِ ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ همو أهل ميراث النبي إذا اعتزوا وهم خير قاداتٍ وخير حماةِ فلا بد من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على كل حبيب من البشر، فإن ذلك كله من شهادة أن محمداً رسول الله، وكيف لا نحبه وهو الذي أنقذنا الله به من الضلال إلى الهدى، ومن النار إلى الجنة {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] فهو أحق البشر بالمحبة والدعاء، والتعظيم والتكريم، وأن نُفدِّيه بأنفسنا وأرواحنا، وآبائنا وأمهاتنا، ونقول أعظم مما قال أبو طالب، ولو رآنا أبو طالب لعلم أنّا أحق بقوله: كذبتم وبيت الله نُبزَى محمداً ولما نطاعن دونه ونناضل ونُسْلِمَهُ حتى نصرَّع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل(116/10)
الشهادة بتوحيد الله تعالى
أولهما: أن نعبد الله تعالى وحده لا شريك له، فلا نصلي إلا له، ولا نصوم إلا له، ولا نحج إلا له، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نعبد إلا إياه، ولا ندعو سواه، فهو الله الذي تألهه القلوب بالحب والشوق، والمحبة والرغبة، والخوف والرجاء والتوكل، فهو الله الواحد الأحد الذي لا يُعبد بحق سواه، هذا هو الأصل الأول.
الأصل الثاني: أن نعبد الله تعالى بما شرع، فلا نعبده بالهوى، والتقاليد، ولا نعبده بالرسوم والطقوس، ولا نعبده بالبدع، بل نعبده بما شرع في كتابه، أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس للعبد أن يعبد غير الله لا ملَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ولهذا قال الله تعالى عن الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين} [الأنبياء:26-29] .
ولا يعبدون نبياً ولا يعبدون صحابياً، لا علي بن أبي طالب، ولا أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان ولا غيرهم، ولا يعبدون ولياً، ولا صالحاً، ولا شيخاً، ولا عالماً، ولا حاكماً، ولا رئيساًَ، ولا ملكاً، ولا مُشرِّعاً، ولا مقنناً، لا يعبدون إلا الله تعالى وحده، فهو المعبود بحقٍ دون سواه، ولا يعبد الله تعالى إلا بشريعته ودينه، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو معنى كلمة الشهادة العظمى، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهما توحيدان توحيد الله تعالى بالعبادة، وتوحيد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع.
إن لهذه الكلمة العظيمة شأناً أي شأن، فقد ذكرت في القرآن بلفظها في قوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فعلّم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة -كلمة الشهادة- بلفظ التعليم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] فغيره من البشر أحوج إلى التعليم بهذه الكلمة، وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] وذكرت في أكثر من أربعين موضعاً بألفاظ متقاربة، على حسب إحصاء الشيخ يحي، جزاه الله خيراً والعهدة عليه، وهي الكلمة الباقية بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] .
فها هنا البراءة من الشرك والمشركين والمعبودات من دون الله تعالى {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] فاستثنى من المعبودات ربه عز وجل، ثم قال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] ولهذا تبرأ المؤمنون من الأوثان والأنداد، والآلهة المدعاة من دون الله عز وجل، وأقروا بالألوهية لله تعالى وحده، وهذا معنى لا إله إلا الله، فأولها نفيٌ هو بمعنى (إنني براءٌ) وثانيها إثبات هو بمعنى (إلا الذي فطرني) ولهذا قال العلماء: ركنا الشهادة نفيٌ وإثبات، وكما قال الشاعر: والحق ركنان بناءٌ وهدّام فهي تبني العبودية لله، وتهدم كل عبوديةٍ لغير الله تعالى، فالنفي براءةٌ من الطواغيت حجراً كان أو بشراً أو شجراً أو مادةً، أو معنىً أو وثناً، أو قانوناً أو شخصاً، أو غير ذلك، والطواغيت كثيرة، ومن رؤوس الطواغيت الشيطان {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] .
الثاني: الحاكم الذي يحكم بغير شريعة الله، يحكم بالقانون الروماني، أو الفرنسي، أو العربي المخالف لشريعة الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] الفاسقون، الظالمون.
الثالث: المغير لأحكام الله تعالى، المقنن المشرع، الذي يضع القوانين والتشريعات والنظم، المبنية على أصول وقواعد غير الشريعة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] .
رابعهم: من يدعي علم الغيب {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن:26] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] فمن ادعى علم الغيب كأن يدعي أن يعرف متى تقوم الساعة، أو يعرف آجال الناس، أو يعرف الأسرار التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، فهذا طاغوت يجب الكفر به.
الخامس: المعبود من دون الله تعالى إذا رضي بهذه العبادة {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29] .
والبهرة اليوم وهم طائفة منشقة عن المسلمين، اتخذت لنفسها ديناً وثنياً شركياً، يعبدون فيه غير الله، وقد رُؤوا بالعيان يسجدون لـ أغاخان زعيمهم وشيخهم، ويقدسونه حتى في رباطهم في البلد الحرام في مكة شرفها الله تعالى.
وبعض الحكام أيضاً يسمعون من الإطراء والمديح والثناء ما يرفعهم إلى درجة الربوبية، ويعطيهم حق الألوهية، فلا يمتعضون بل يفرحون ويطربون، وقديماً وقف أحد الشعراء أمام الحاكم الفاطمي العبيدي فقال له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار فطرب لذلك وجازاه على هذا الشعر؛ فكل هؤلاء من الطواغيت، التي يجب الكفر بها ومحاربتها، والإيمان بالله تعالى وحده.
فمعنى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله تعالى، أما المعبودات بالباطل فهي كثيرة، وهي الطواغيت، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] كثيراً في راتبة المغرب، وفى راتبة الفجر، وفى آخر الوتر؛ وذلك لأن هاتين السورتين اشتملتا على النفي والإثبات، فأما الإثبات ففي (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) التي فيها الإيمان بالله تعالى وتوحيده رباً وإلها معبوداً والإيمان بأسمائه وصفاته، وأما النفي ففي (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) التي فيها البراءة من الشرك والمشركين، والكفر والكافرين.(116/11)
لماذا التوحيد؟(116/12)
التوحيد هو سبب النجاة في الآخرة
خامساً: التوحيد هو سبب النجاة في الآخرة، فإنه لا ينجو يوم القيامة إلا الموحدون لله تعالى {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87-89] سليمٍ من الشرك وعبادة غير الله تعالى، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال {والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار} .
وقال تعالى عن الكافرين {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم عن عبد الله بن جدعان، وكان يصل الرحم، ويكرم الضيف، ويطعم الفقير، ويتصدق "أينفعه ذلك؟ " فقال: {لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} .
إن العبد إذا لقي الله تعالى موحداً فهو إلى خير، ولو كان من أهل المعاصي، ولو عذب بالنار ما عذب، فإن مآله إن شاء الله إلى الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي ذر: {على رغم أنف أبي ذر} .
ومن أعظم ألوان النعيم واللذة النظر إلى وجه الله تعالى في الجنة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه النسائي: {اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة} .
إن العبد ينظر إلى شيءٍ من خلق الله تعالى في هذه الدنيا، ينظر إلى حديقةٍ جميلة غناء، أو صورة حلوة، أو مشهد بديع، فيعجب لذلك، ويطرب وتنبلج أساريره، وربما جادت قريحته بأعذب الشعر، وأجمله وأطيبه، فما بالك بالنظر إلى وجه الله تعالى، وهو الكمال والجمال والجلال؟! وفى صحيح مسلم: {إن الله تعالى جميل يحب الجمال} أما الكافر فهو محجوب عن ذلك كله {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15-16] .(116/13)
التوحيد هو الخير الذي لا شر فيه
سادساً: إن التوحيد هو الخير الذي لا شر فيه بوجه من الوجوه، والحق الذي لا باطل معه، والنفع الذي لا ضرر فيه، فإن محبة الله تعالى خير كلها، وكلما زادت المحبة زاد الإيمان، وزاد العلم، وارتفعت منزلة العبد في الدنيا وفي الآخرة، فلا يقال أبداً في حق أحد إنه زاد في محبة الله عن القدر المطلوب أبداً، بل هذا القدر من الحب ليس له حدٌ محدود، كلما زاد حبك لله كان ذلك أعظم وأفضل، أما محبة المخلوق فلا بد أن ينالها سأم أو ملل أو مفارقة، ومن أحب شيئاً لغير الله فلابد أن يضره ذلك الشيء وربما كان سبباً في عذابه كما قال بعضهم: من أحب شيئا لغير الله عذب به.
ولهذا ذكر الله تعالى الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله حباً لها، فذكر أنهم يعذبون بها في الدار الآخرة {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزُونَ} [التوبة:35] .
ومثله الخوف أيضاً، وهو من العبادة والتوحيد لله تعالى، فالخوف من الله تعالى هو القوة وهو الإيمان، وهو الصدق، وهو ثبات القلب، واستقراره وطمأنينته، ولذلك يقول المؤمنون وهم في الجنة: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} الطور:26] خائفين وجلين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] أما الخوف من المخلوقين فهو مذلة ونزول في الرتبة، وضعفٌ في القلب، وانحطاطٌ في الدرجة، وربما أدى إلى الضعة والهوان، بخلاف الخوف من الله فإنه كلما زاد كان أحسن، فيمدح العبد بشدة خوفه من ربه جل وعلا، كما مدح بذلك جبريل، وكان كأنه حلسٌ لاطٍ من مخافة الله عز وجل، وكما مدح بذلك الملائكة كلهم قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] وكما مدح بذلك الرسل والأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .
ومثله الرجاء أيضاً، فإن رجاء المخلوق ولو كان عظيماً، تاجراً أو سلطاناً أو كبيراً أو رئيساً، إن رجاء المخلوقين تعلق بما لا طائل وراءه، ولا نفع فيه، وهو ربما أراد نفعك فضرك، وربما أراد أن يدنيك فأبعدك، وربما أراد أن يفيدك فآذاك، وربما حاول فعجَز، أما الرجاء في رب العالمين فهو رجاء بالقدير الذي لا يعجزه شيء، والكريم الذي لا يخيب سائله، والحكيم العليم بعباده وما ينفعهم وما يصلحهم وما يحتاجون إليه.(116/14)
التوحيد من أسباب الثبات
ثالثاً: التوحيد من أسباب الثبات، وعدم التذبذب، وعدم التنقل والاضطراب، فإن الله تعالى واحد، وهو حي باق لا يموت ولا ينام، كما قال عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] .
أما المعبودات من غير الله تعالى فكلها فانيةٌ لا دوام لها، فإذا تعلق الإنسان بها انتقل من معبودٍ إلى معبود، ومن محبوبٍ إلى محبوب، ويتنعم بهذا في وقت ثم يتنعم بغيره في وقت آخر، وربما يضيق اليوم ذرعاً بما كان يتنعم به في الأمس، أما الله تعالى فلا بد للعبد منه في كل حال، وفى كل وقت، وأينما كان فهو معه كما قال الخليل عليه السلام: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76] ولهذا أيضاً كانت أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي؛ لأن فيها إثبات الحياة والقيومية لله تعالى ونفي السِنة والنوم عنه جل وعلا.(116/15)
التوحيد صلة للعبد الضعيف بخالقه القوي
رابعاً: التوحيد صلة للعبد الضعيف المحتاج الفاني بالحي الواحد القادر، الذي بيده العطاء والمنع، والضر والنفع، ولهذا تكثر الإشارة في القرآن الكريم إلى هذا {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فالطبيب ليس إلا سبباً عادياً مادياً للشفاء، أما العافية الحقيقية فمن الله، والطبيب نفسه ما خلق المرض حتى يزيله، وإنما الذي خلق المرض وخلق الجرثومة هو الله تعالى، ولا يقدر على ذلك إلا الذي خلقه.
والتجارة ليست إلا سبباً لتحصيل المال، وإنما الخزائن بيد الله تعالى، فكم من تاجر افتقر.
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يغيض والمرض ليس إلا سبباً للموت، وإلا فكم من إنسان تعرض للموت بأشد الأسباب، فخاض المعارك ووقعت عليه الحوادث ونجا منها، ثم مات في فراشه، فلتمنع الملوك من الموت حراساتهم وقصورهم، ولتحمِ التجار من الموت أرصدتهم وأرقامهم، وبنوكهم ومؤسساتهم.
لابد للإنسان من ضجعةٍِ لا تقلب المضجَع عن جنبه ينسى بها ما كان من عجبه وما أذاق الموت من كَربِه نحن بنو الموتى فما بالنا نعافُ ما لابد من شربه تبخل أيدينا بأرواحنا على زمانٍ هن من كسبه لو فكر العاشق في منتهى حسنِ الذي يسبيه لم يسبه لم يُرَ قرن الشمس في شرقه فشكت الأنفس في غربه ما رأى أحد الشمس في المشرق فشك أنها سوف تغرب.
يموت راعي الضأن في جهله موتة جالينوس في طبه وربما زاد على عمره أو زاد في الأمن على سربه نعم، يموت الراعي كما مات جالينوس الطبيب، وربما كان الراعي أطول عمراً من جالينوس، أو أكثر أمناً منه.
والسلاح ليس إلا أداة للنصر والغلبة، وكم من قوم ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، فلم تغن عنهم قوتهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين، فالأسباب كلها عقيمة إذا لم يبارك فيها الواحد الأحد الصمد، والبحث عن مرضاة الله تعالى هو أعظم الأسباب، والجد في طاعته وعبادته هو أولها وأولاها، والبراءة إليه هو أنجعها وأنفعها.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان(116/16)
التوحيد من أعظم أسباب الوحدة
أولاً: التوحيد من أعظم أسباب الوحدة فلا اجتماع إلا على التوحيد، قال الله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم:31-32] فإن الخلافات التي تعصف بالمسلمين اليوم الكثير منها سببه عدم تحقيق التوحيد، إذاً: فسبب الاجتماع والألفة، أن نجمع الدين ونعمل به كله ونعبد الله تعالى وحده لا شريك له، كما أمر بذلك ظاهراً وباطنا، وسبب التفرق ترك حظ مما أُمِرَ المسلمون به، والبغيُ بين المسلمين بسبب ذلك.(116/17)
التوحيد من أعظم أسباب السعادة في الدنيا
ثانياً: التوحيد من أعظم أسباب السعادة في الدنيا، إذ ليس في الكائنات كلها ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، يتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه وتعالى ومن عَبَدَ غير الله، أو طلب السعادة بمعصية الله، وإن حصل له نوع لذة، أو نوع سعادة، فهي مفسدة أعظم من مفسدة أكل الطعام المسموم، فقد يجد في أكل الطعام المسموم لذة، ولكن يعقب ذلك الموت، أو التمتع بالمرأة المصابة بالإيدز مثلاً ولكن يعقب ذلك هم طويل، وحزن كبير، فالغذاء الحقيقي والقوة هي الإيمان بالله تعالى، وعبادته ومحبته، وليست العبادة تكليفاً مخالفاً لرغبة القلب، ورغبة العبد، بل هي موافقةٌ للفطرة، ملائمةٌُ لها، منعشةٌ للقلب، ولهذا لم يسم الله تعالى العبادات تكاليف إلا في مقام النفي، كما في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .(116/18)
تعرف إلى الله
هذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس كما عند الترمذي وأحمد بسندٍ صحيح {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} .(116/19)
ذكره بأسمائه وصفاته وأفعاله
وإن من التعرف عليه سبحانه ذكره بأسمائه وصفاته وأفعاله، ذكر عبادة وذكر مسألة، فالعبد محتاج إلى الله تعالى في الدارين قال الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وهذا الذكر فيه نوع سؤال وتعرض؛ لأن العبد إذا ذكر الله فكأنما يسأله.
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك العبدُ يوماً كفاه من تعرضه الثناء وفى صحيح البخاري وصحيح مسلم {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} وقد سبق أن شرحت هذا الحديث في درس مستقل.(116/20)
عبادته جل وعلا
ومن التعرف عليه: عبادته جل وعلا، فهي تقرب العبد من الرب، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه} .
أما الإلحاد في أسماء الله تعالى فهو محادةٌ لذلك كله، ولهذا قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] .
إن من الإلحاد أن تسمى الآلهة والأصنام، والمعبودات من الحجر أو من البشر، بأسماء الله تعالى، كما سمى المشركون اللات والعزى من الله ومن العزيز، وكما يخاطب بعضهم بشراً من البشر بألوان من التعبد، والثناء، لا تليق إلا بالله، وقد قام أحدهم يمدح طاغية من طغاة العصر الحاضر، في وسيلة إعلام تلتقط في منطقة عريضة، ويقول له: يا فلان تباركت في الأرض، كما تبارك الله في السماء، وقام آخر في بلد منكوبٍ معروف، يخاطب الرئيس، ويقول له: لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في مقام الذي لا يُسأل عما يفعل، فطاش صواب هذا الرئيس، واغتر وطرب وقال: اسمعوا لا يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعبيد، وما هي إلا ساعات حتى أردته رصاصة طائشة واحدة، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت، آلآن وقد عصيت قبل! وإن من الإلحاد: تسمية الله تعالى بما لا يليق، كما سماه النصارى أباً، أو سماه الفلاسفة موجباً، أو علةً فاعلة، أو ما شابه ذلك.
وإن من الإلحاد في أسمائه وصفه بصفات النقص، كما قالت اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] .
وإن من الإلحاد: تعطيل أسمائه الحسنى أو بعضها، أو صفاته أو بعضها، وجحد معانيها وحقائقها كمن يقول: إنها ألفاظ مجردة، لا تدل على معانٍ ولا تتضمن حقائق.
وإن من الإلحاد: تشبيه صفات الله تعالى بصفات خلقه، وهو سبحانه أحدٌ صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فهو لا يشبه خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا تحيط به العقول، ولا يحيطون به علماً، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وكل ما خطر ببالك من الصور والرسوم والخيالات والكيفيات والأشكال، فالله تعالى ليس كذلك، لا تدركه العقول، ولا تحيط به العلوم، سبحانه عز وجل.
وهذا الموضوع موضوع كبير وطويل، وسيكون له بقية إن شاء الله في مناسبات أخرى.(116/21)
التعرف إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله
أولاً: التعرف إليه سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وربوبيته وألوهيته، فإنها تزيد العبد حباً له، وخوفاً ورجاءً.
لقد صورت أساطير اليونان لهم آلهتهم المدعاة على أنها أشباح مخيفة، تطارد الإنسان وتهاجمه، وتغضب عليه وتحاربه، وتكيد له، وشاع هذا عند اليونان، ثم انتقل عبر ثقافاتهم وكتبهم المترجمة إلى سائر الأمم الأخرى، أما أمة الإسلام فإن أكثر كلمة يرددها المسلم هي كلمة بسم الله الرحمن الرحيم، اشتملت على ثلاثة أسماء لله عز وجل: أولها: الله ثم الرحمن ثم الرحيم، وهذان الاسمان متعلقان برحمته بعباده، رحمةً عامة وخاصة، فهو رحيمٌ بعباده، رحيمٌ بالمؤمنين، رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة، إنها دعوة إلى التوبة إلى الله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى جنابه تعالى، والتفويض إليه عز وجل، فإن لله تعالى من الأسماء والصفات ما يدعو العبد إلى القرب من الله تعالى، والدنو إليه، والفرار منه إليه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] .
فكل شيءٍ إذا خافه العبد فر منه، إلا الله تعالى فإنه إذا خافه فر إليه، كما أن له من الأسماء والصفات ما يزجر الوالغ في المعصية عن معصيته، ويردعه عن التمادي فيها، ولهذا قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:50] .
ولأن الله تعالى رحيم ودود، حليم كريم جواد لطيف، لما سمع أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجة وأحمد يقول: {ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره} أي: تغيير حال الناس، سأل الأعرابي رسول الله وقد تعجب بفطرته وبساطته، وبعده عن التعقيد، وعن التأثر بالمنطق والكلام الوافد على هذه الأمة، الدخيل على ثقافاتهم فقال: {يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟! قال: نعم، قال: لن نعدم من ربٍ يضحك خيراً} وفى صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لقد عجب الله من صنيعكما البارحة} ومثله أيضاً في الصحيحين: {يضحك الله عز وجل إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة} والحديث معروف.
إن الرجل الفطري لا يحتاج إلى قوانين المنطق، ولا إلى تطويل الكلام وتهويله وتصفيفه، فيأخذها سهلةً ميسرة إن أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ربه بشيء.
فهو أولاً: صادقٌ أمين، وما هو على الغيب بضنين عليه الصلاة السلام.
وهو ثانياً: بليغ في ذروة الفصاحة، فلا يمكن أن تخونه العبارة أو يخطئ في اللفظ.
وهو ثالثاً: ناصحٌ لأمته عليه الصلاة والسلام.
فإذاً يجب التسليم بكل ما قال، ولا يعني هذا أن صفة الله تعالى كصفة المخلوق، فإن الله تعالى لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد من خلقه، فالصفة الثابتة لله تعالى لا تشبه صفة المخلوق، حتى يحتاج الإنسان إلى تأويلها أو صرفها عن ظاهرها، بل للخالق صفة تليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وكماله وكمال غناه، وللمخلوق صفةٌ تليق بفقره وذله وحاجته، ولا يشبه هذا هذا.
والخطأ الأساسي الذي وقع فيه المؤولون هو قياسهم الخالق على المخلوق، واعتبارهم أن المخلوق أصلٌ يقاس عليه، ولهذا لجئوا إلى التأويل، ظناً منهم أن إثبات الصفة لله يقتضي إثبات الصفة كالصفة التي يعرفها بشأن المخلوق، وهذا خطأ، فإن الإنسان بشرٌ ضعيفٌ قاصر، وتكييف الصفة أمرٌ لا يطيقه الإنسان، ولا يحيط به علمه، ثم عصم الله تعالى أهل الحق من العبث بالنصوص، فأجروها على ظاهرها وآمنوا بها وقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] .(116/22)
دروس متفرقة(116/23)
حكم برنامج كنز العربي
هذا برنامج وزع ونشر، اسمه برنامج (كنز العربي) : وهو عبارة عن برنامج في البنك العربي الوطني، يقدم فرصة للادخار مقابل أرباح ربوية، ومقابل هدايا ثمينة خلال هذا العام الميلادي، الذي نحن فيه عام ثلاث وتسعين، وهناك ثلاثون هدية مجانية، يحصل عليها الإنسان إذا أتم برنامج الادخار يقدم هذا البرنامج للتلاميذ وربات المنازل، والأطفال فقط، ولاحِظ من يخاطبهم هذا البرنامج! لحفزهم على الادخار، والحصول على ما يحتاجونه من سلع مفيدة تكون بمثابة جائزة فريدة لهم عند تحقيق الهدف، وللاشتراك في البرنامج لا بد من فتح الحساب واختيار الهدية المناسبة من كتلوج الهدايا، وتسجيل رقمها في قسيمة الاشتراك؛ ثم باستطاعته الاشتراك بأكثر من حساب جميع أفراد العائلة، ثم طلبوا زيارة البنك، وقدموا هذه الهدايا.
فمثلاً يقول: ادخر مبلغ خمسة آلاف ريال شهرياً لمدة اثنا عشر شهراً، واحصل على إحدى هذه الهدايا مجاناً، قلم حبر باركر، مكواة فيليبس، أو سوني، وهكذا فيما بقي من هذه الأوراق، كلما زادت نسبة أو كمية الادخار زادت الهدية بعدما يعبئ الإنسان القسيمة، ولا شك أن هذا دعوة إلى الربا، وإعانة عليه.
وواجبنا جميعاً أن نحرص على محاربة هذا البرنامج، والتنبيه عليه من خلال الدروس والخطب، والكلمات، وفى المجالس، حتى يحذره المسلمون، خاصة أنه يخاطب طبقة قد تكون لا تدرك بعض الأحكام، كالصغار مثلاً، إضافة إلى أنه يخاطب ربات البيوت، من المدرسات والموظفات وغيرهن، فحق علينا أن نوعيهم توعية كاملة بهذا البرنامج وخطره وأن درهماً يكسبه العبد من ربا قد يكون سبباً في إتلاف ماله كله قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] .
وواجبنا جميعاً محاربة هذه البنوك، والسعي في كسادها وإفلاسها، لأنها تحارب الله تعالى ورسوله، فمن أحب الله، وعظم الله، ووحد الله فلا بد أن يحارب من حارب الله، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279] .(116/24)
خرافة رومانية في شعار طبي
وهذه أيضاً ملاحظة أخرى: أننا نجد أن في كثيرٍ من الصيدليات والمستشفيات شعاراً يضعونه، عبارة عن إناء أو قارورة أو كأس، وعليه أفعى مستديرة، وهذا الشعار أصله خرافة رومانية قديمة وهو أن الإله المعروف عند اليونانيين والذي يسمونه إكليبوس ظهر على شكل ثعبان، وشفى المرضى من الطاعون، الذي اجتاح روما كما يدعون ويزعمون، فمن هذه الخرافة جعلوا علامة الطب والعلاج هذا الكأس الذي عليه أفعى مستديرة، وحقٌ على المسلمين أن يكونوا مستقلين بشعاراتهم، وأمورهم ورسومهم، ولهذا ينبغي علينا أن نوعي الناس، من الصيادلة والأطباء والقائمين على المستشفيات وغيرهم، بهذا الأصل، ووجوب تغيير ذلك، وعدم اعتماده.(116/25)
أخبار توحي بأن النصر للإسلام
هذا خبر نشر في جريدة (المسلمون) ، وهو يدل على أن النصر للإسلام، طال الزمن أم قصر: تركيا التي كانت مركزاً للعلمانية، ووكراً انطلقت منه إلى العالم الإسلامي، وكانوا يعتقدون أن كمال أتاتورك الذي جاء بالعلمانية وهدم الخلافة وهو يهوديٌ في الأصل من يهود الدونمه، اغتروا به وجعلوا تماثيله في الساحات العامة وفى كل مكان، يعظمونه ويقدسونه وكان المساس به جريمة يعاقب عليها القانون، والمساس بالعلمانية كان جريمة أيضاً، وقد حصل في يوم من الأيام أن تكلم عالم في هذه البلاد عن العلمانية، فاحتجت دولة تركيا على ذلك الكلام.
أما اليوم فإن الرئيس التركي نفسه يعتذر للمحجبات، ويقول: كنا نطردهن من الجامعة وهذا خطأٌ كبير، ثم يقول: العلمانية ليست أمراً مقدساً، والقرآن به كل ما نحتاجه، والخبر نشر في الجريدة، ويسهل الرجوع إليه ولا أريد أن أقرأه، لكني أريد أن أعلق عليه، لا يهمني أن أسأل هل الرئيس التركي صادق فيما قال أو غير صادق؟ هذا السؤال لا يعنيني، لأننا نحن المسلمين مستفيدون في الحالتين، فلو كان صادقاً لكان هذا خيراً إن شاء الله، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لكان ذلك دليلاً على أن الإسلام بلغ من القوة والنفاذ، والشمول والتأثير، بحيث أن رؤساء الدول وزعماءها أصبحوا يجاملون الإسلام، ويخافون منه، ويراقبون أهله، ويحرصون على كسب ودهم، وأنتم تعلمون أن الحزب الذي يعلن برنامجاً إسلامياً في تركيا، وهو يسمى حزب السلامة، أو حزب الرفاه، هذا الحزب فاز بأغلبية في تركيا، أغلبية أدهشت جميع المحللين، وصوت له أكثر من (25%) من الشعب التركي هناك، فتفوق على حزب الأمة وعلى حزب الصراط المستقيم، وذلك لأنه حزب يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه، وذلك بدوره يزعج الغرب ويقلقهم، ولذلك صدرت منهم تقارير كثيرة، متشائمة من وجهة نظرهم، تقول: إن الإسلام قادم وقوي، والشعوب الإسلامية قد استيقظت وهي تريد الإسلام، وتريد تحكيمه، والحكومات العلمانية المهيمنة على البلاد الإسلامية حكومات مهلهلة ضعيفة غير قادرة على مواجهة المد الإسلامي، فلله تعالى الحمد على ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وبالمقابل هذا خبر آخر، نشر في مجلة الرسالة في شهر رمضان لهذا العام، وقد أطربني هذا الخبر حقاً يقول: خبراء الاقتصاد يقرعون أجراس الإنذار ألف وتسعمائة وخمس وتسعين، يعني بعد سنتين، عامُ السقوط الأمريكي، ثم يقول الخبر: أمريكا أكبر مدين في العالم وكلينتون هو آخر رؤسائها، والخبر طويل وسوف أخصص له جلسة إن شاء الله تعالى عما قريب.
ومثل ذلك أيضاً خبر نشر في جريدة الرياض في الثاني من رمضان لهذا العام يقول: سبعة ملايين ونصف مليون مسلم في أمريكا، ومسلم أمريكي جديد يقول: المستقبل للإسلام، ويقول الخبر: أكد مهتدٍ جديد للإسلام أن المستقبل في الولايات المتحدة سيكون للإسلام، وقال تشارلز بلال، المسلم الذي أصبح رئيساً لبلدية مدينة كوينتز الواقعة شرق ولاية تكساس الأمريكية، يقول: لقد أصبح الآن ممكناً أن يكون رجل مسلم أسود رئيساً لبلدية إحدى المدن.
فليس الوقت ببعيد بإذن الله حيث يكون مسلم أسود أو أبيض رئيساً للولايات المتحدة، مؤكداً أن الناس لن يجتمعوا بمختلف أجناسهم وألوانهم إلا تحت راية الإسلام، وأوضح في رسالة وجهها إلى مدير الرابطة في كندا، أن اجتماعاته يبدؤها بقراءة سورة الفاتحة، ويذكر بلال الذي يبلغ أربعة وأربعين عاماً، وكان عضواً في إحدى الكنائس ثم أعلن إسلامه، يُذكر أنه كان نشيطاً في ذلك ثم تخلى عنه، وفى تلك المدينة تصل نسبة المسلمين السود إلى (30%) من مجموع السكان، وذكرت إحصائية شبه رسمية أن عدد المسلمين في أمريكا كما أسلفت يزيدون على سبعة ملايين ونصف، منهم (42%) من المسلمين الأفارقة (15%) من العرب (20%) من الهند والباقون من أصول مختلفة.
وأشار مسئول يعمل في مجال الدعوة، إلى أكبر ثلاث جمعيات إسلامية في أمريكا -وذكر الجمعيات الثلاثة- وذكر أن هناك مؤتمرات سوف يحضرها أكثر من عشرة آلاف مسلم في المستقبل القريب، فنسأل الله تعالى أن يرينا بأعيننا نصر هذا الدين، وتقر عيوننا بخذلان الشرك والمشركين، والنصارى واليهود وسائر أعداء الإسلام.
ومثل ذلك أيضاً مقال جيد نشر في جريدة المدينة، في الحادي عشر من رمضان، للدكتور مصطفى عبد الواحد عنوانه (نعم إنها الصحوة) وقد استهل المقال بذكر برنامج أذاعه القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، في الليلة الثانية من رمضان عن مظاهر الصحوة في العالم الإسلامي، وقال: إن المذيعة ختمت البرنامج بسؤال كان مثيراً للدهشة إذ قالت: هل هي صحوة أم نكسة؟! طبعاً هو تساؤل خبيث يدل على ما وراءه وقد وجهته إلى مجموعة من الناس منتقين بعناية وتحدثوا عن وجهات نظرهم، ثم تكلم الدكتور مصطفى عبد الواحد عن هذا الموضوع في هذا المقال الطيب، وهذا يعد نكسة بالنسبة لهم لأنهم يهمهم أن يظل المسلمون مخفوضي الرءوس، مطأطئي الجباه، مستغلين اقتصادياً، منهوكين سياسياً، جهلة بدينهم، متفرقين فيما بينهم، حتى يسهل على العدو أن يستغلهم حسبما يريد، ويسوؤهم ولا شك أن يعي المسلمون دينهم، ويجتمعوا عليه ويحاربوا من أجله، ولا نلومهم على ذلك.(116/26)
خطر يهدد المملكة
وهذه قُصاصة من أخطر القصاصات التي وصلتني، وهي تدعو إلى أمر خطير، محلات في الرياض تعلن وتقول: نضع أوروبا بين يديك، هل سمعت بالقنوات الأوروبية من أقمار (استرا ويورستات) إنها لدينا نحن فقط، فنحن نتحدى من ينافسنا في التقاط البرامج الأوروبية من هذه الأقمار إلى الآن ولفترة طويلة، يعني هم أخذوا أو حصلوا على حق الامتياز.
عزيزي المواطن تأكد قبل أن تشتري هوائي الأقمار الصناعية، هل هذا الهوائي يستقبل قمر استرا، هل هو يستقبل هذه القنوات التالية؟ ثم رسموا مجموعة من القنوات وهي تقريباً سبعة وعشرين قناة.
تقول الشركة الوحيدة في المملكة، التي تعطيك هذه القنوات وإلى فترة طويلة الأمد ويطلبون الاتصال، وقد وضعوا عنوانهم ومكانهم بل والهاتف، لمن أراد أن يتصل ثم يقول في الورقة الأخرى، لنفس المكان؛ هل سمعت عن محطة الأفلام الحديثة؟ إنها تعطيك أحدث الأفلام السينمائية -لاحظ- هذا الآن ليس فقط بثاً، إنما هي تتابع الأفلام السينمائية الأمريكية عن طريق جهاز فك التشفير الموجود لدينا، وباشتراك سنوي يصل إلى أربعمائة وخمسين دولاراً سنوياً وهم يعطونك اشتراكاً سنوياً ثلاث سنوات، كل سنة بأربعمائة وخمسين دولاراً أمريكياً، ثم بعد ثلاث سنوات يعطونك اشتراكياً -مجاني إلى الأبد- في هذه الأفلام السينمائية الأمريكية، إنها أول شركة سعودية معتمدة في جهاز فك التشفير، لجميع المحطات المشفرة، ولا توجد شركة في المملكة غيرنا لديها هذه الإمكانيات، ومرة أخرى لا تتردد في الاتصال بنا.
إنه خطر عظيم، ومنكر كبير، واجب علينا جميعاً أن نحتسب في إزالته، إن هذه (الدشوش) التي غزتنا في كل مكان، وفى بريدة رأيناها في عدد من الأبنية، بل لا أودعكم سراً، اتصل بي أحد الشباب وحدثني عن قرية نائية من مناطق القصيم سكانها قليل وقال لي: يوجد في هذه القرية أكثر من اثني عشر دشاً، وفى قرية مجاورة أكثر من سبعة عشر دشاً، إنك بالتأكيد لن تجد مثل هذا العدد من الدعاة في تلك القرية، هذا خطر عظيم علينا، والواجب أيضاً يحتاج إلى حديث، وقد وعدتكم قبل قليل، أن يكون لي إن شاء الله درس عنوانه (كلام في الإعلام) لكن إليك بعض هذه النقاط الملخصة: أولاً: لا يجوز أن يكون موقفنا هو فقط التململ والتضجر مما يجري، بل ينبغي أن ننتقل خطوات إلى الأمام، ينبغي في المقابل أن ننشر الإعلام الإسلامي، ننشر الشريط، وقد أصبح نشر الشريط بحمد الله ميسوراً ممكناً، وليس هناك عقبات حقيقية أمامه، فعلينا أن نشمر عن ساعد الجد، وننشر الشريط بطريقة مدروسة، وطريقة مهذبة منظمة، وما المانع أن يكون في بيتك بدلاً من بيت جارك الذي فيه دش، أن تجعل في بيتك جهاز سحب الأشرطة؟! وهو رخيص تشتريه بأربعة آلاف ريال، أو باشتراك مع مجموعة من زملائك، وتسحب على الأشرطة ليصبح السعر رخيصاً وتوزع على معارفك وجيرانك، وأقربائك وأهل بيتك.
ومن الأشرطة التي يمكن توزيعها تلك الأشرطة التي تتكلم عن خطر البث المباشر، وخطر الإعلام الغربي، ووجوب حماية الأهل من مثل هذا الغزو الخطير، وهذا واجب، ونشر الكتاب أيضاً، نشر الدعوة، والمحاضرة، الدعوة إلى الخير، قيام الدعاة بواجبهم، ترك التململ والتضجر والاعتماد على الآخرين، وكون الإنسان يقول: أنا لا أصلح لشيء، غيري قد كفاني المهمة.
يا أخي! عدوك الآن دخل إلى البيت، دخل إلى غرفة النوم، الإعلام والتقنية والتصنيع ووسائل الاتصال ليست حكراً على الغرب الكافر، المسلم يستطيع أن يستغلها ويستثمرها، ولو كان المسلمون أقوياء وعلى المستوى المطلوب، ولديهم مؤسسات لاستطاعوا أن يغزوا الغرب نفسه من خلال قنواته، ومن خلال وسائله، فالمسلمون قادرون على أن يشتروا محطات وأجهزة وإذاعات وقبل مدة ليست بالبعيدة عرضت إذاعة شهيرة للبيع، مونتكارلو وعرض لها بلغتها العربية فقط خمسين مليون ريال سعودي، وخمسين مليون ريال سعودي بإمكان أي تاجر أن يوفرها ومن الممكن أن تتحول هذه الإذاعة إلى إذاعة إسلامية.
فلو كان هناك مسلمون على المستوى المطلوب، أن تتحول من إذاعة تبث التنصير --كما تعلمون- إلى إذاعة تخاطب أكثر من سبعين مليون بالإسلام، والدعوة إلى الإسلام، ونشر الخبر الصحيح، والعلم الصحيح، والتحليل الصحيح، وترفع صوت العلماء إلى العالم كله، وليس إلى العالم الإسلامي فقط، أين الإعلاميون المسلمون؟! أين ذووا الاختصاص؟! لماذا لا يفكرون في جريدة إسلامية يومية، أو أسبوعية، تصدر في أي بلد، وتخاطب المسلمين، وتنشر أخبارهم، وتحذرهم من الأخطار المحدقة بهم، وتكون لساناً ناطقاً للصحوة وأهلها، لماذا نكتفي دائماً وأبداً بالتضجر وهز الرءوس؟! إن هذا وحده لا يكفي، ثم هذه الدشوش الموجودة لماذا لا نناصح أهلها؟ لماذا لا نحدثهم بالعقل والمنطق والحكمة عن الأخطار المحدقة على أُسَرهم، وعلى بيوتهم.
أيها الأحبة لقد كتبنا واتصلنا، وكتب سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز وأصدر فتوى، والمؤسف جداً أن هذه الفتوى أصبحت تُحارَب في بعض الأماكن وتلاحق، ويؤذى من يوزعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ما دام أن هذه الدشوش وجدت وانتشرت، وشاعت وذاعت، ورخص لها وسمح بها، على الرغم من أن هذا مخالف للأنظمة والقوانين على أقل التقدير، لتعامل الفتاوى العلمية التي تصدر في تحريمها، وتحريم استيرادها أو تركيبها، أو التعامل معها، لتعامل بالطريقة نفسها.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم يسر لنا اليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا أرحم الراحمين! اللهم وفقنا لكل خير، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك فإن خزائن الأمور كلها بيدك، اللهم إنا نسألك لإخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك أن تعجل لهم فرجاً يا حي يا قيوم! ونسألك لعبيدك المستضعفين في الجزائر يا رب العالمين! أن تنصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أسْمعنا من الأخبار ما تقر به عيوننا يا رب العالمين! اللهم أسْمعنا من الأخبار ما تقر به عيوننا، اللهم انصرهم يا ناصر المستضعفين! اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أنزل على عدوهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم فرق شمل عدوهم وخالف بين قلوبهم يا رب العالمين! اللهم عليك بأعداء الإسلام في الجزائر، اللهم عليك بأعداء الإسلام في فلسطين، اللهم عليك بأعداء الإسلام في مصر، فإنهم طغوا وبغوا، واعتدوا على عبادك الصالحين، وجاوزوا الحدود وأنت أعلم يا حي يا قيوم! اللهم عليك بأعداء الإسلام.
اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم اجمع كلمة المسلمين في أفغانستان، اللهم انصر المسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم انصر دينك يا رب العالمين! اللهم اجعلنا من أنصار الدين، اللهم اجعلنا من الدعاة إليك على بصيرة، اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يا أرحم الراحمين! اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(116/27)
العائدون إلى الله
تناول المحاضر في محاضرته عن بعض ما يحتاجه العائد إلى الله، وقبل أن يدخل في موضوعه أَحَبَّ أن ينبه أنه على الناس أن ينظروا إلى واقعهم بنظرة مليئة بالتفاؤل، وأن يقللوا رواية الأحاديث التي تفيد أن الناس هلكى وبيَّن مواضع هذا الذكر، ثم نبه إلى أن هذه الأمة كلما كثر فيها العائدون فإن هذا يعلم منه إرادة الله لهذه الأمة بالخير، ثم استدل على بعض المبشرات التي أخبر بها الصادق المصدوق وما جاء به من عند ربه أن الخير وطريق الخير وإصلاح النفس كلها باقية إلى أن يأتي وعد الله الحق، ثم نبه إلى ثلاث قضايا ليرشد بها ويستفيد منها العائد إلى الله ومن أراد المواصلة على السير إلى الله؛ لأن المسافر قد تعترضه بعض الصعوبات فعليه مواجهة كل صعوبة بعلاجها.(117/1)
الحديث عن الظواهر الإيجابية والسلبية
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن عنوان هذه المحاضرة: العائدون إلى الله، وبين يدي هذه المحاضرة، أقدم مقدمة قد تستغرق بعض الوقت ولكنها لا تخلو من فائدة، بل إنني قصدت من ورائها التنبيه إلى قضية تربوية مهمة، فقد يجد بعض الإخوة أنني أميل إلى الحديث عن الظواهر الإيجابية، والأحداث السارة في المجتمع، أكثر من الميل إلى الحديث عن الظواهر السلبية والأحداث المؤلمة، وهذا ليس تعامياً مني عن الواقع وما يجري فيه، وإنما هو استجابة لما أفهمه من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يقول كما في الصحيحين: {ويعجبني الفأل} وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، فيفرح بالرؤيا الحسنة يراها هو أو يراها بعض أصحابه، ويكره ضدها، ويعجب للاسم الحسن الجميل، ويكره ضده وقد يغيره كما قد حصل في عدد من الحالات.(117/2)
أسباب خطر الحديث عن الفساد الأخلاقي
وبمناسبة هذا الحديث فإنني أرى أن الحديث عن الفساد الخلقي بالذات، والشذوذ والانحراف والمبالغة في تضخيم ذلك ونشره، أخطر من الحديث عن أي لون آخر من ألوان الفساد، وذلك لأسباب: السبب الأول: منها أن الميل إلى الإشباع الغريزي فطرة مركوزة في قلب كل إنسان ذكراً كان أو أنثى، فالحديث عن الفساد في هذا الإطار يحرك منطقة في النفس لصورة قد لا أستطيع أن أصفها لكم الآن، ولكن يمكن أن يدركها كل واحد منكم إذا حاول أن يراقب نفسه وهو يسمع الحديث عن ألوان الفساد، وخاصة -كما قلت- الفساد الخلقي.
السبب الثاني: أن الأصل في هذه القاذورات التي يتلبس بها بعض الناس هو الستر وعدم الفضيحة، وبقاء المتلبسين بها متوارين عن أعين الناس بعيدين عن ذلك؛ فنشرها وفضحها قد يدخل في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فلا يحسن كثرة الحديث عنها.
السبب الثالث: هو أن الحديث في هذه المفاسد ومواطنها قد يصادف قلباً مريضاً أو نفساً منحرفة، فتتحرك إلى مواطن هذه الرذيلة وتقع فيها بقصد أو بغير قصد.(117/3)
متى نتحدث عن الفساد؟!
وقد يسأل سائل، متى نتحدث عن هذا الفساد، وبالذات عن الفساد الخلقي؟.
فأقول: هناك مناسبات قد يسوغ ويحسن أن نتحدث فيها عن هذا الفساد، وأضرب لها بعض الأمثلة: فيحسن بل يجب أن نتحدث عن هذا الفساد إلى من بيده القدرة على التغيير -بأي صورة من صور التغيير- حتى يتحركوا للقضاء على هذا الفساد وردع القائمين به والمتلبسين به.
وهناك صورة أخرى وهي: إذا علمت -مثلاً- أن هناك إنساناً قد يقع من حيث لا يدري -وهو غافل- في موطن من مواطن هذا الفساد، فعليك أن تنبهه من هذا الموطن لتحذره من الوقوع فيه، لأنك تعلم أنه واقع في غفلة، والغفلة تُزال بالتحذير والتنبيه.
والصورة الثالثة التي يسوغ ويحسن أن نتحدث فيها عن الفساد وبالذات الفساد الخلقي: أن يكون ذلك لغرض تربوي تقصد فيه بناء جانب معين في نفس المربى، وقد توجد صور أخرى غير هذه الصور التي ذكرت، إنما الخطأ الذي أشير إليه وأرى أنه واقع هو مبالغة البعض في الحديث عن الفساد.(117/4)
لا تزال أمة محمد بخير
أيها الإخوة: تجلس أحياناً إلى بعض الناس، من المتحمسين للخير والمتمسكين، بل والمتشددين، فيبدأ يسرد لك من القصص التي يشيب لها الرأس، سواء في عقوق الوالدين، أو في أنواع الجرائم الخلقية، أو في غيرها حتى يخرج الإنسان وهو يشعر أن قلبه قد تلوث بما سمع واسود، ولو أنكرت على هذا الإنسان وقلت له: يا أخي، لا تزال أمة محمد بخير، ويجب عليك أن تنظر إلى جوانب الخير المشرقة في المجتمع مثلما نظرت إلى الجوانب السوداء المعتمة؛ اتهمك بأنك مغفل وأنك طيب القلب، وأنك لا تدري، وهو بهذا يصور نفسه بأنه هو الوحيد الذي يدري ويعلم ويدرك ويفهم، وأن غيره ممن ينكر هذا الأسلوب مصابون بالغفلة وعدم الإدراك، وهذا -كما قلت- خطأ تربوي، يجب أن نتفاداه وأن ننبه عليه من يقع فيه.(117/5)
حديث: {من قال: هلك الناس فهو أهلكهم}
ويصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي رواه مسلم - الذين يكثرون من الحديث عن الأحوال السيئة، والانحرافات الفكرية والخلقية في المجتمع، ويرددون هذه الأشياء بمناسبة وبغير مناسبة، بأنهم من أهلك المسلمين، فيقول: {من قال: هلك الناس فهو أهلكهم} .
ويقول أبو إسحاق صاحب مسلم لا أدري هل الرواية بالرفع أم بالنصب، يعني: أن الرواية لهذا الحديث تحتمل وجهين:- الوجه الأول: {من قال: هلك الناس فهو أهلكَهم} بفتح الكاف، فيكون فعلاً ماضياً، ويكون معنى الحديث على هذه الرواية أن من قال: هلك الناس، وأكثر من الحديث عن الانحراف الواقع في المجتمع، فهو الذي تسبب في هلاك المسلمين.
ولماذا تسبب في هلاك المسلمين؟ لأنه أشاع في نفوس المسلمين اليأس من الإصلاح، وأشاع في أنفسهم التهاون بالفاحشة والجريمة، وأشاع في نفوسهم اليأس من رحمة الله تبارك وتعالى ومغفرته، وهذه كلها من أعظم أسباب وألوان الفساد.
الوجه الثاني: {من قال: هلك المسلمون فهو أهلكُهم} بضم الكاف، ويكون معنى الحديث على هذه الرواية أنه أكثرهم هلاكاً، فتكون أهلكهم هنا صيغة تفضيل، ويكون معنى الحديث: إن المكثر من الحديث عن الفساد بمناسبة أو بغير مناسبة هو أكثر المسلمين هلاكاً وأشدهم فساداً، ووجه فساده وهلاكه في هذه الحالة في الغالب: أولاً: أنه مصاب بالعجب بنفسه، أو الاغترار بعمله.
وثانياً: أنه مصاب باستصغار الناس واحتقار شأنهم، إضافة إلى معنى ألمحُهُ في هذه الرواية، وهو أن المكثر من ترداد الفساد وذكر صوره، إنما ينطلق في الغالب من قلب مريض بالشك وبالشهوة، فلذلك تجد أن جميع الصور التي في الواقع تنعكس على هذا القلب الذي هو كالمرآة الصدئة، فكل صورة لا تظهر فيها إلا مشوهة أو مشوشة، حتى لو كانت الصورة في الأصل واضحة أو سليمة، فإنها تظهر في هذه المرآة الصدئة مشوهة أو مشوشة.(117/6)
الحديث عن الواقع باعتدال
إذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أن يكون حديثنا عن الواقع والفساد الموجود فيه حديثاً معتدلاً، لا نتعدى فيه حدود الحاجة.
وقد يقول قائل في هذا الموقف: إذن هل يجب علينا أن نتعامى عن الفساد القائم والواقع ولا نتحدث عنه، فلا نذكر إلا الخير والصورة المشرقة، ونغمض أعيننا عن الصور المعتمة والقاتمة في المجتمع؟! فأقول: كلا، بل إن الحديث عن الفساد وما يجري في المجتمع من انحراف وانحلال هو كالملح في الطعام، إن زاد أفسد الطعام، وإن نقص -أيضاً- أفسد الطعام، بل يجب أن يوضع فيه بقدر، فلا يزيد ولا ينقص، ولذلك لما روى الإمام أبو داود رحمه الله هذا الحديث في سننه أعقبه بكلمة للإمام مالك بن أنس رحمه الله، حيث يقول الإمام مالك فيها عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم السابق: إذا قال ذلك تحزناً لما يرى في الناس -أي في أمر دينهم- فلا أرى به بأساً، وإذا قال ذلك عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس فهو المكروه الذي نُهي عنه.
ويشير الإمام مالك رحمه الله إلى التفصيل في معنى هذا الحديث، وأن الحديث عن هلاك الناس يختلف بحسب الظروف والملابسات والمناسبات التي قيل فيها، كما أن الهلاك المقصود في الحديث، يحتمل في ظني معنى آخر، حيث يكون قول: هلك الناس، في الحديث فيه شرٌ من كل وجه، وهو الحديث عن هلاك الناس في الآخرة، فإنك تجد بعض الناس، وبعض الوعاظ يقنط الناس من رحمة الله عز وجل، وهو يقول: هلك الناس، ويشير بذلك إلى أنهم قد هلكوا وعذبوا في الآخرة، ولا طمع لهم في رحمة الله سبحانه وتعالى.
وهذا لا شك أنه خطأ تربوي وقع فيه كثير من السابقين من أصحاب الملل الضالة والأهواء المنحرفة، كالخوارج وغيرهم، ووقع فيه بعض أهل السنة من الوعاظ والقصاص الذين يقفون أمام الناس فيقنطونهم من رحمة الله تعالى، فيجب أن نضع الأمر في موضعه وفي إطاره الصحيح.
ونحن نجد في القرآن الكريم الحديث عن الجنة إلى جانب الحديث عن النار، والحديث عن رحمة الله إلى جانب الحديث عن غضبه، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:50] ولذلك قال بعض السلف: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، أو كما قال.(117/7)
العودة إلى الله هي الظاهرة الطبيعية
وبعد أن نقول: إن تلك المقدمة التي قد تكون طالت بعض الوقت أردت منها أن تكون تمهيداً إلى الحديث عن موضوع: العائدون إلى الله، ومن هذا المنطلق خصصت الحديث عن ظاهرة طيبة في المجتمع يلمسها الجميع، وهي اتجاه كثير من الناس -وخاصة الشباب ذكوراً كانوا أم إناثاً- إلى الخير وسلوكهم طريق الإسلام، وعودتهم إلى الله عز وجل تائبين نادمين.
ومن العجيب أنني بعد أن اتفقت مع الإخوة على عنوان هذه المحاضرة وموضوعها، سمعت بدون قصد عدداً طيباً من الأخبار التي تصب في هذا الوادي، وهذا يدل على أن التوجه إلى الإسلام، وأن الأحداث الفردية التي نسمعها يوماً بعد يوم، تدل على أن الله عز وجل قد أراد بهذه الأمة خيراً.
وهذه الظاهرة يشتغل الكثير من الناس بتحليلها وبيان أسبابها، وقد أصدرت إحدى المجلات التي تصدر في الكويت عدداً خاصاً تحدثت فيه عن ظاهرة التدين بين الشباب، وما يسمونه أيضاً بالتطرف ويقصدون به الغلو في الدين، واستقطبت فيه عدداً من المختصين وغير المختصين ممن يحسنون الحديث في هذه الموضوعات، وممن ليسوا على نفس المستوى وليسوا بنفس الدرجة، وأشغل بعض هؤلاء أنفسهم بدراسة هذه الظاهرة وتحليلها.
وأقول: إنني لست أنكر أن كل شيء له سبب، ومن ذلك التوجه إلى الخير له سبب، ولكني أقول: إن ظاهرة الاتجاه إلى الخير والعودة إلى الله ليست ظاهرة غريبة حتى نحتاج إلى تعليلها وتفسيرها، بل هي ظاهرة طبيعية وخلافها هو الوضع الشاذ، وهو الوضع الغريب، فنحن يجب أن نشتغل بالحديث عن أسباب الفساد، ولم انحراف الشباب عن الإسلام، وكيف يعودون إليه.
أما أن نشتغل بالحديث لماذا عادوا إلى الإسلام، فهذا ليس فيه كبير طائل في كثير من الأحيان -وليس في كل الأحيان- لأنه هو الوضع الطبيعي الذي ننتظره، والذي يجب أن يكون عليه الجميع.(117/8)
مبشرات دوام الخير في هذه الأمة
إن هذه الظاهرة هي مصداق لبشارات نبوية أخبر بها سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في العديد من الأحاديث.(117/9)
الوعد بتجديد الدين
والبشارة الثانية: هي ما رواه أبو داود في سننه وأطبق العلماء على تصحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} وإذا كان بعض العلماء قد تحدث عن التجديد في القرون الأولى، وأشاروا إلى أن عمر بن عبد العزيز في القرن الأول، وأن الشافعي في القرن الثاني وهكذا، فإن المقصود ليس فرداً واحداً، بل إن الراجح من أقوال العلماء أن المجددين لأمر هذا الدين ولهذه الأمة؛ إنما هم طوائف مختلفة من شتى أصناف الناس، بعضهم يجدد أمر العلم، وبعضهم يجدد أمر الدعوة والتربية، وبعضهم يجدد أمر الجهاد والقتال.
وهكذا لكل لون من ألوان الحياة صورة من صور التجديد يقوم عليها طائفة من الطوائف، ومن العسير أن تنحصر صور التجديد كلها في فرد واحد، ولو أمكن أن يقال ذلك في عمر بن عبد العزيز باعتباره اجمع له ما لم يجتمع لغيره، فإن من العسير -كما قال الحافظ ابن حجر - أن يتحقق ذلك فيمن بعده ممن ادعي لهم وصف الانفراد بالتجديد.
إذاً: فيجب أن يكون عندنا أمل كبير -ولا أقول أمل- بل يجب أن يكون عندنا قناعة تامة بأن الله عز وجل وعدنا وعداً ثابتاً على لسان رسوله صلى الله وعليه وسلم، أنه سيجدد لهذه الأمة أمر الدين كلما اندرس، وهذا الوعد قائم حتى يأتي أمر الله، وآخر من يجدد أمر هذا الدين هو المهدي أو عيسى ابن مريم عليهما السلام، ولذلك لما تحدث الحافظ العراقي عن المجددين حتى وصل إلى القرن السابع قال رحمه الله في منظومة له: والظن أن الثامن المهدي من ولد النبي أو المسيح المهتدي فالأمر أقرب ما يكون وذو الحجى متأخرٌ ويسود غير مسود فظن رحمه الله أن المجدد في ذلك القرن هو المهدي أو عيسى عليهما السلام، وقد تبين لنا خطأ هذا الظن، فقد وجد بعد هذا القرن قرون ولازلنا الآن في القرن الخامس عشر، والغيب بيد الله.(117/10)
فتح باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها
والبشارة الثالثة: هي إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح باب التوبة إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فعلى سبيل المثال روى الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه عن صفوان بن عسال: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر باباً قبل المغرب مسافته أربعون -أو سبعون- عاماً، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} وقال: حسن صحيح، وهو كما قال.
إذاً فباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذا شرط يجب أن يضاف إلى شروط التوبة التي يذكرها الناس، فإذا ذكرت شروط التوبة الأربعة، فينبغي أن يضاف إليها للإيضاح: أن تكون التوبة قبل أن يغرغر الإنسان، وأن تكون قبل أن تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، وحينئذٍ: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] .(117/11)
بقاء طائفة من الأمة على الحق
فالبشارة الأولى التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، هي: ما رواه واحد وعشرون من أصحابه عليهم الصلاة والسلام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} وأمر الله الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم، هو ما أخبر به في الحديث الآخر الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص {أنه إذا كان في آخر الزمان وقبيل قيام الساعة بعث الله تبارك وتعالى ريحاً طيبة، فقبضت روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة} .
فهذا هو أمر الله، وقبل هذه الريح لا يزال في أمة محمد قائم بأمر الله، وقائم بالحجة على عباد الله، يهدي بالحق ويعدل به، ويربي الناس على منهج النبوة، وعلى طريقة محمد صلى الله وعليه وسلم، فهذا مصداق لوعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.(117/12)
قضايا في طريق الهداية
أيها الإخوة: إن فرحنا بهذه الظاهرة واستبشارنا بها؛ يوجب علينا أن نحرص على ترشيدها وتوجيهها الوجهة الصالحة، ولذلك أشارك في هذه العجالة في طرح ثلاث قضايا، وأرجو أن تنتبهوا معي لهذه القضايا، لأنني أحب أن تكون موضع نقاش وحديث بيني وبينكم، فهي لا تعدو أن تكون اجتهادات اجتهدت فيها، فإن أصبت فمن الله وبتوفيقه، وإن أخطأت فمني، والله ورسوله منه بريئان.(117/13)
أنواع التائبين
والقضية الثالثة: هي في نظري مهمة جداً ليس للتائبين أنفسهم، بل لنا نحن الذين نسمع هذه الأحداث، وإن كنا يجب أن نكون جميعاً تائبين من جميع الذنوب والمعاصي، وهي: أن التائبين على أنواع؛ فليسوا كلهم يجب أن يصنفوا في جدول أو قائمة واحدة.
النوع الأول: تائب قابل للتوبة فمن التائبين من لم يوفق في أول عمره بالتوجيه السليم والتربية الصحيحة، مع أنه يملك الاستعداد أصلاً لذلك، وعنده القابلية له، فإذا وفق هذا الإنسان لموجه أو لكلمة طيبة أو لموقف اهتدى واستنار قلبه بنور الإيمان، وأشرقت نفسه به، وعظم شأن الدين عنده، فجدد لنا بذلك أخبار السابقين، كـ خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم من السابقين التائبين، رضي الله عنهم أجمعين.
بل جدد لنا أخبار الصحابة كلهم فما منهم إلا وقد قارف عملاً من أعمال الجاهلية، فله بذلك أسوة وقدوة، وهم خير أسوة وقدوة، فهذا صنف من التائبين وهم كثير.
بل إنني أقول: إنهم أكثر التائبين، ولذلك فليفرح التائبون وليقروا عيناً بأن الله عز وجل أوصل قلوبهم إلى مكانها الصحيح، وليحمدوا الله ويشكروه على هذه النعمة، وشكر النعمة نفسه نعمة تستحق أن يشكر الله عليها، وكما قيل: إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر فلست أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر النوع الثاني: تائب متذبذب.
ويجب أن ننتبه للصنف الثاني ممن يسميهم الناس بالتائبين، وهم فئة قليلة من الناس يكون شأنهم تذبذب الشخصية واضطرابها، فلا يستقر واحدهم على حال، فأنت تجده اليوم طيباً متحمساً حماساً زائداً، ثم تجده غداً وقد ضعف وتغير حاله، ثم تجده بعد غد وقد اختلف عما كان، وقد تقابله بعد شهر فتجده قد عاد لحاله الأولى، سواء في مظهره أو في مخبره، ومع الأسف أن أخبار هذه الطائفة تشيع في المجتمع، أكثر مما تشيع أخبار الطوائف الأولى.
ويتداول الناس أنباء تحولاتهم، خاصة إن كانوا على علاقة بأمر يعرفه الناس، فقد يكون الواحد منهم على علاقة بالفن أو الصحافة أو الرياضة أو التمثيل، ويعرفه الناس قبل ذلك، فيتسامعون بأنه اهتدى وصلح وأصبح متحمساً للخير، ثم يفاجئون بعد حين أنه قد ضعف وابتعد واختلف عما كان يعهده الناس، فيشعر كثير منهم أن صلاح هؤلاء القوم كسب عظيم للإسلام، ويتعلقون بهم ويتابعون تحركاتهم، بل لا أبالغ إذا قلت: إن بعض الناس يمنحونهم الولاء، ويعتبرونهم قادة على مستوى معين من الوعي والإخلاص يجب أن يسير الناس خلفهم، ونحن يجب أن لا نسير وراء الطفرات والتأثرات، فهذه الطفرات لا تأتي بخير، ويعجبني أن أتمثل بقول الشاعر: يا عجباً من سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول فنحن نريد أناساً من هذا النوع، يمشي رويداً ويجيء أولاً، وكلكم شاهدتم السباقات -مثلاً- سباق الأقدام، فتجد المتسابقين حين يبدءون في السباق يبرز منهم عدد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، حتى يخيل للمشاهدين أن هؤلاء هم الفائزون، وتجد الفائزين الحقيقيين في مؤخرة الركب، وما يزال المتسابقون يسقطون واحداً بعد الآخر، أو يضعفون ويهدأ سيرهم، والمؤخرون يتقدمون حتى تأتي النتائج في الغالب مخالفة لتوقعات المشاهدين، ويكون هذا الإنسان الذي يمشي مشياً هادئاً رزيناً متزناً هو السابق، وهكذا نريد في شأن السير إلى الله عز وجل.
هذه أهم الملاحظات والأفكار التي قلت إنني أريد أن أتحدث فيها، ونيتي ليس أن أتحدث وتسمعوا، ولكن أن أسمع منكم أو من بعضكم ما قد يكون من اعتراضات أو مناقشات أو إضافات ليكون الحديث أكبر فائدة من هذا وأكثر متعة وأبعد عن الضجر، ولكن ضيق الوقت يحول دون ذلك.
وأسأل الله أن يرزقني وإياكم التوبة النصوح، ويثبتنا على الإسلام، ويهدينا صراطه المستقيم، ويقبلنا في عباده الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.(117/14)
عدم التشديد على النفس
الحل الرابع: هو أن يدرك الإنسان أن تشديده على نفسه، وهضمه لحقوقها، وجوره عليها؛ قد يؤدي به إلى حالة من الكبت والملل من العبادة، ربما تصل في النهاية والعياذ بالله إلى الانحراف والانتكاس.
وما أشرت إليه من أن الإنسان إذا هضم حقوق النفس الطبيعية البشرية التي خلق وفطر عليها، وجار على نفسه وشدد عليها، وأن هذا قد يؤدي به إلى حالة من الكبت والملل في العبادة وربما تصل في النهاية إلى الانحراف والانتكاس، وهذا هو الخطر الثاني الذي أحب أن أحذر منه.
فالخطر الأول الذي انتهينا منه: هو أن يكون عند الإنسان ارتداد فعل لما سبق، فيغلو أو يزيد في العبادة والدين.
والخطر الثاني: هو أن الإنسان قد ينتكس ويرتكس ولو بعد حين إلى الحال التي فارقها، فيعود إلى الانحراف من جديد لسبب أو لآخر.
ومن الأسباب المرصودة التي يمكن أن يلحظها كل واحد منكم: أن الانحراف قد يكون بسبب ما ذكرت أولاً، من تنكر الإنسان لفطرته وجبلته التي لا تلبث أن تتمرد وتنتفض وتثور؛ فيرجع الإنسان إلى صورة من الانحراف، قد تكون أعنف مما ترك قبل.
والسبب الثاني: هو الفراغ، فالشاب الذي يكون قد اهتدى إلى هجر المجالس السيئة والمخالطات والأعمال والمجالات التي كان يشغل وقته بها، وكانت تستغرق كل طاقاته ومواهبه، بعد أن ترك هذه الفرص ربما لا يجد من المجالات الخيرية بنفس القوة ما يعوضه ويشغل وقته ويصرف طاقاته إليه، فيترتب على هذا الفراغ ولو بعد فترة، نوع من الحنين إلى الماضي، وإلى بعض الأعمال المنحرفة التي ألفها وتعود عليها، فيشتد ذلك حتى ينتكس الإنسان ويرتكس والعياذ بالله، وهذا خطر، وقد تلاحظون وجود بعض الناس -ولو كانوا قليلاً، ولكن حتى هذا القليل يجب أن نعالجه- قد يعاودون بعض ما كانوا عليه وإن تركوه لفترة من الفترات، فمن العلاج المفيد: أولاً: إنه يجب على الصالحين والمستقيمين أصلاً تهيئة الفرص المتنوعة التي تستوعب هؤلاء الطيبين المهتدين وتشغل وقتهم، كالدروس والمحاضرات والمراكز وإقامة الصداقات والعلاقات وغيرها.
ثانياً: إن هذا القلب التائب يجب أن يرتبط بعدد كبير من القلوب بالحب، والحب هو الرباط الذي يظل ملحاً على الإنسان ويقاوم جميع التحديات، فإذا ارتبط قلب التائب الراجع إلى الله بقلوب عدد من الصالحين بالمحبة، فهذا الارتباط قضاء مبرم على الفراغ، لأنه يشعر باستمرار أن قلبه مشغول بمحبتهم، إن رآهم فرح بهم، وإن غابوا عنه حن إليهم، بحيث يصعب بكل حال أن يفك هذا الارتباط.
ثالثاً: إنه يجب على التائب أن يكثر من عمل الصالحات في حدود ما تطيق نفسه، دون أن يؤدي ذلك إلى كلال نفسه ومللها، ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] .
فقال العلماء في معنى هذه الآية قولين كلاهما يتعلق بالنقطة التي أتحدث عنها.
القول الأول: إن من تاب وأقلع عن المعاصي وحسن إسلامه -وهذا الشرط- وعمل الصالحات قلب الله سيئاته في صحيفته حسنات، وهذا المعنى صحيح، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، يؤتى برجل فيقول الله لملائكته: نحوا عنه كبار ذنوبه واعرضوا عليه صغاره، فيقولون له: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيذكرون له ذنوبه الصغيرة، وهو خائف منها مشفق وجل، فإذا انتهوا مما عنده من الصغائر.
قال الله عز وجل: إنني أقلبها لك حسنات، فيفرح هذا الإنسان ويقول: يا رب عملت ذنوباً لا أراها هاهنا} .
فانظر إلى طبيعتك الطماعة -أيها الإنسان- حتى في هذا الموقف العجيب، فعندما كانت الذنوب ضده وليست في صالحه كان ساكتاً عنها، وبطبيعة الحال لا يذكر بها، والله عز وجل أعلم وهو يعلم أن الله أعلم، لكن طبيعة الإنسان لا تغادره ولا تفارقه، فهو ساكت فلما قلبها الله حسنات قال: يا ربي عملت ذنوباً لا أراها هاهنا.
ولذلك ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: {يمر بالإنسان يوم القيامة موقف يفرح فيه بسيئاته} والمقصود بالإنسان هاهنا التائب، فهذا هو المعنى الأول، وهذا المعنى يجعل الإنسان: أولاً: لا يقنط كما ذكرت في أول الحديث.
ثانياً: يجعله يحسن إسلامه ويكثر من عمل الصالحات؛ لأن ظاهر الآية وظاهر الحديث مقيد بحسن الإسلام وعمل الصالحات، أما من أسلم وآمن ولم يحسن إسلامه، ولم يعمل الصالحات، فظواهر النصوص على أن سيئاته تمحى عنه ولا تقلب حسنات كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أسلم العبد فحسن إسلامه، محا الله عنه كل سيئة} وروى البخاري الحديث معلقاً عن مالك بن أنس رضي الله عنه، ولم يشر فيه إلى هذا المعنى.
إذاً الشرط هو أن يحسن العبدُ الإسلام.
المعنى الثاني للآية: هو أن الله يبدل السيئات حسنات، بمعنى أن الإنسان بدلاً من أنه كان يعمل السيئات أصبح يعمل الحسنات، فيبدله الله بالشرك إخلاصاً، وبالفجور إحصاناً وعفافاً، وبعمل السيئات عمل الطاعات والقربات، وهذا المعنى يدعو الإنسان إلى أن يعوض عن كل عمل سيء عمله بعمل صالح، وأن لا يكون كما قيل: جباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام.
كما إنني أحب أن أنبه بمناسبة عمل الصالحات، إلى أن الإنسان له خط بياني، فهو يرفع أحياناً ويهبط أحياناً، فالإنسان ليس ملكاً: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] فالإنسان بشر، ولذلك يجد الإنسان من نفسه أحياناً نشاطاً إلى العبادة وإقبالاً عليها، ويجد في أحيان أخرى في نفسه نوعاً من الفتور وبرود الهمة، فيجب على الإنسان في هذا الموقف أن يتذكر ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: {إن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد هلك} .
إذاً: يجب أن يكون الإنسان في ارتقائه أو ضعفه حد أدنى لا ينزل عنه ولا يقبل لنفسه أن تنحط عنه هذه المرتبة، وهذه هي القضية الثانية التي أشرت إليها، وهي الخطر على التائبين من وجهين: إما أن يغلو فيزيد، وإما أن يشعر بالفراغ أو غيره من الملل فيؤدي بهم ذلك إلى الانتكاس والارتكاس والرجوع إلى حالهم السابق.
وأختم الحديث بالقضية الثالثة: وأختصر الحديث فيها، وقد أحببت أن أعرض الموضوع كاملاً وإن كنت أشعر أنني أطلت بذلك.(117/15)
الحذر من الاندفاع أمام الحماس والعاطفة
القضية الثالثة: أن يحذر الإنسان من الانسياق والاندفاع أمام الحماس والعاطفة غير المنضبطة، وقد يندفع الإنسان أمام عاطفته ويلبس هذه العاطفة لبوس الدين وتعظيم حرمات الله، وأضرب لكم قصة طريفة ذكرها عدد من العلماء، وأنقل لكم لفظ الإمام البيهقي في السنن لأنه أقرب إلى إيضاح المعنى الذي أقصد إليه.
فقد روى الإمام البيهقي في سننه في كتاب الحج، جِماع أبواب جزاء الصيد قصة عن قبيصة بن جابر الأسدي رضي الله عنه وأرضاه قال: [[خرجنا حجاجاً فكثر مراؤنا ونحن محرمون -يعني جدلنا- أيهما أسرع شدّاً الظبي أم الفرس، قال: فبينما نحن كذلك إذ سنح لنا ظبي -وهم على خيولهم أو فرسانهم- فرماه رجل منا بحجر فما أخطأ خششاءه -العظم الناشز خلف الأذن- فقتله، فأسقط في أيدينا، فلما قدمنا مكة انطلقنا إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه -وعمر هو الخليفة يومئذ- قال: فدخلت أنا وصاحب الظبي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فذكر له أمر الظبي الذي قتل قال: فقال عمر رضي الله عنه: عمداً أصبته أم خطأ؟ قال: تعمدت رميه وما أردت قتله، زاد رجل -راو في القصة- فقال: عمر رضي الله عنه: لقد شرك العمد الخطأ ثم اجتنح إلى رجل -كان عمر بجواره رجل من الصحابة فمال عمر أو التفت إليه -فوالله لكأن وجهه قلب -يعني فضة- وربما قال: ثم التفت إلى رجل إلى جنبه فكلّمه ساعة ثم التفت إلى صاحب الظبي، فقال: خذ شاة من الغنم فأهرق دمها وأطعم لحمها وربما قال: فتصدق بلحمها واسقِ إهابها سقاءً، فلما خرجنا من عنده أقبلت على الرجل والآن قبيصة بن جابر في موقف المتحمس رضي الله عنه، ومن كمال عدله وإنصافه أنه ذكر لنا القصة حتى نأخذ منها الدرس، فـ قبيصة بن جابر لم يعجبه أسلوب الخليفة في حل هذه المشكلة، حيث إن عمر بن الخطاب تعرض له مشكلة في الدين فيلتفت إلى واحد من الناس ويتحدث معه ساعة، ثم يلتفت على صاحب الشأن ويقول: خذ شاة فأهرق دمها وتصدق بلحمها واسق إهابها سقاءً، فلم يعجبه هذا الأسلوب، بل تصور أن عمر سيقول له: قال الله كذا وقال الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، أو أن يقول له على الأقل انحر ناقتك.
أيها الإخوة: قال قبيصة: أقبلت على الرجل فقلت: أيها المستفتي عمر بن الخطاب، إن فتيا عمر لن تغني عنك من الله شيئاً، والله ما علم عمر حتى سأل الذي إلى جنبه، فانحر راحلتك فتصدق بها -هذا نموذج للتشديد- وعظم شعائر الله، وأنا أضع تحت هذه الكلمة خطاً (وعظّم شعائر الله) إذاً كم وكم على مدار التاريخ وفي واقعنا القريب من يشددون على الناس بما لم يشدد الله، من باب تعظيم شعائر الله في ظنهم، والحقيقة أن تعظيم شعائر الله يكون بمخالفة الهوى في طاعة الله.
يقول: فنما هذا ذو العوينتين إليه -يعني الجاسوس سمع الكلمة وأخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- والله ما شعرت إلا به يضرب بالدِّرة عليّ -ودرة عمر لها شأن وخبر في التاريخ، فيضرب عمر بالدِّرة على رأسه- ويقول: قاتلك الله! تَعدَّى على الفتيا، وتقتل الحرام، وتقول والله ما علم عمر حتى سأل الذي إلى جنبه، أما تقرأ كتاب الله، فإن الله عز وجل يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] ثم أقبل عليَّ وأخذ بمجامع ردائي أو قال ثوبي -وكان هذا الشاب ذكياً فطناً، فلما رأى هذا الشأن من عمر خاف فقال:- يا أمير المؤمنين! إني لا أحل لك مني أمراً حرمه الله عليك -أي: والله لا أحل لك أن تضربني ضرباً لا يحل لك، أو تعاقبني بأي لون من ألوان العقوبة لا يجوز لك- فسكت عمر وأطلقه -ولكنه لم يرضَ حتى لقنه درساً تربوياً هو في الحقيقة درس لنا جميعاً وللأجيال كلها- فقال له عمر: إني أراك شاباً فصيح اللسان، فسيح الصدر وقد يكون في الرجل عشرة أخلاق، تسعة حسنة -أو صالحة- وواحدة سيئة، فيفسد الخلق السيئ التسع الصالحة، فاتق طيرات الشباب]] .
وفي الرواية الأخرى عند البيهقي أيضاً [[وإياك وعثرة الشباب]] .
إذاً: الحل الثالث: هو عدم الاندفاع وراء هوى النفس، وإلباسه لبوس تعظيم شعائر الله.(117/16)
الاستقامة على الطريق القويم
القضية الثانية: أنه يجب على إخواننا التائبين -ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً تائبين- تحقيق معنى الاستقامة، والحذر من خطرين كلاهما مهلك وكلاهما يهدد كل واحد من هؤلاء القوم، وأرجو الانتباه لهذين الخطرين: الخطر الأول: هو التشدد والغلو في الدين كردة فعل للانحراف والبعد عنه، والعلماء يقررون أن كل فعل له ردة فعل مساوية في القوة ومعاكسة في الاتجاه، فمثلاً: لو كان عندك كرة فضربتها برجلك بقوة، فاصطدمت في الجدار ارتدت بقدر القوة التي ذهبت بها، وهكذا بقدر مبالغة الإنسان في الفساد في السابق قد - وهنا أضع خط تحت كلمة قد، لأن الأمر للاحتمال لا للتوكيد وإنما هو خطر أنبه إليه وأحذر منه- يدعو هذا الحال التي كان يعيشها الإنسان والإنسان إلى الغلو والتشدد كما ذكرت، ويتبعه إلى الزيادة والإفراط لمحاولة التكفير عن الماضي، فينتقل الإنسان من طرف إلى طرف.
ومن الحلول التي أطرحها في هذا المجال: أولاً: البحث عن الرفقة الصالحين المعتدلين المجانبين لمذهب التشدد في الدين بما لم يأذن به الله، ولذلك روى الإمام اللالكائي في كتابه شرح أصول أعتقاد أهل السنة والإمام ابن بطة في كتاب الإبانة عن عبد الله بن شوذب رحمه الله أنه قال: [[إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يؤاخي صاحب سُنة يحمله عليها]] إذا نسك يعني: تعبد واتجه للخير-.
ومفهوم هذه الكلمة: أن من شقوة هذا الإنسان أن يؤاخي صاحب هوى يحمله على هذا الهوى، فيكون الأمر كما قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا الأمر الثاني: أن يتفقه الإنسان في دينه، والتفقه في الدين يكون بمعرفة القرآن والسُنة وأقوال العلماء المحققين من اللاحقين أو السابقين، ويستعين الإنسان على ذلك بكتبهم وأشرطتهم وغيرها من الوسائل الممكنة في تحصيل العلم ومعرفته، ولذلك أيضاً أنقل لكم قول أحد التابعين وهو الإمام أيوب السختياني رحمه الله، وهو يماثل أو يقارب قول عبد الله بن شوذب من قبل، يقول أيوب السختياني: [[إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى بعالم من أهل السنة]] والحدث هو: الشاب.
وذلك لأن الشباب إذا لم يلتفوا حول العلماء العالمين الملتزمين بالنصوص الشرعية، تفرقت بهم السبل ذات اليمين وذات الشمال، فعلينا إذن أن نوجه هؤلاء إلى الالتفاف حول العلماء وطلاب العلم والدعاة الملتزمين بالنصوص، وأؤكد على هذه القضية (الملتزمين بالنصوص) .
أما الهوى فكل إنسان يختلج في نفسه الهوى كائناً من كان، ولا يقاوم الهوى إلا التمسك بالنص الشرعي، وأهواء الناس تختلف، فقد تجد من هواه أن يشدد على الناس ويميل إلى كلمة محرم أكثر مما يميل إلى كلمة مباح.
وهذا النوع من الناس موجود، فليحذر الإنسان أن يميل مع الهوى، والضابط في ذلك هو: أن يلتزم الإنسان بالنصوص الشرعية قرآناً وسُنة، وما يوضحها ويجليها من أقوال العلماء المحققين السابقين واللاحقين.(117/17)
عدم القنوط من رحمة الله
القضية الأولى التي من المهم أن نشير إليها ونتحدث عنها هي: أن التائب إلى الله عز وجل يحتفظ في ماضيه في الغالب، بسجل أسود من المعاصي والخطايا كان يفعلها غير آبهٍ ولا مبالٍ، وسبحان مقلب القلوب وسبحان من جعل هذا القلب ملكاً للأعضاء! هذا الإنسان الذي كان بالأمس يقدم على المعصية غير هيابٍ ولا وجل، أصبح -اليوم- ذكر المعصية يقلقه ويؤرقه ويزعجه، وقد يصل الحال به إلى أن يقنط من رحمة الله تعالى وييأس، وهذا مدخل من مداخل الشيطان على التائبين، وهو أن يجعل ذنوبهم وخطاياهم أمامهم؛ فيغلق بذلك باب التوبة والقبول لدى الله تبارك وتعالى أمامهم، وهذا من جانب أمر موجود في كل مؤمن.
ولذلك صح عن ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أنه قال رضي الله عنه وأرضاه: [[إن المنافق يرى ذنوبه كذباب طار على وجهه، فقال به هكذا، وإن المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يوشك أن يقع عليه]] وقد يتعمق وينمو هذا الشعور حتى يتحول -كما قلت- إلى يأس وقنوط، قال تعالى: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولذلك كيف نعالج هذا الأمر؟ أولاً: نعالجه بالنصوص التي تفتح الأمل أمام التائبين، وبالذات أضرب لها مثالاً واحداً، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي أيوب يقول صلى الله عليه وسلم: {لولا أنكم تذنبون لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم} والحديث ورد في العديد من كتب السنة عن العديد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يقول قائل: سبحان الله! كيف يُحرِّم اللهُ الذنوب ثم يقول لنا الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟! فأقول: هذا الحديث هو علاج وبلسم يوضع في موضعه الصحيح، فتعالج به جراح التائبين النادمين المقلعين، الذين أقلقتهم ذنوبهم حتى كادت أن تودي بهم في مهاوي القنوط واليأس من رحمة الله، وهذا هو العلاج الأول.
العلاج الثاني: هو أن نفتح أمامهم باب التعويض، بحيث يُكَفِّرُ الواحد منهم عن كل ذنب عمله بعمل صالح يحدثه، يزكي به قلبه ويُصدِّقُ به توبته، فهذه هي القضية الأولى.(117/18)
الدفاع عن السنة
في هذا الدرس تجد تعريف السنة وأقسامها وعلاقتها بالقرآن الكريم، مما يزيح شبهات المضلين الذين لا هَمّ لهم إلا رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف ترى أمثلة كثيرة تبين لك ضرورة الرجوع إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم حتماً للعمل بكثير مما جاء في القرآن الكريم، وتقضي على شبهات هؤلاء القوم قضاء مبرماً.(118/1)
كثرة الدعاوي الباطلة في هذا العصر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة كما سمعتم: دفاعٌ عن السنة النبوية، وفي هذا العصر كثرت الدعاوى التي يريد أصحابها من ورائها أن يقوضوا أركان الإسلام ودعائمه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8] .
إنهم كما قال الشاعر: كناطح صخرةً يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل بل هم كمن يحاول أن يطفئ نور الشمس بنفخةٍ من فيه: أتطفئ نورَ الله نفخةُ كافرٍ تعالى الذي بالكبرياء تفردا والدعاوى اليوم عجيبة، كل ما يخطر في بالك، وهناك من يدعي هذا الذي يخطر في بالك.(118/2)
الهجمة الشرسة على السنة النبوية
أيها الإخوة! من ضمن الأشياء التي كثر حديث الناس عنها في هذا العصر: موضوع السنة النبوية.
فقد تعرضت السنة منذ عصور قديمة لهجمات شرسة من أهل البدع، كالخوارج، والمعتزلة، والشيعةوغيرهم، لكنها لم تتعرض كما تعرضت في هذا العصر لحملات ضارية، تستهدف القضاء على السنة النبوية، وإقصاءها عن واقع الأمة الإسلامية، ولذلك وجب على القادرين منا أن يتحدثوا في موضوع السنة النبوية، ويدافعوا عنها، ويبينوا للناس حقيقة السنة ومكانتها بالنسبة للقرآن الكريم ومدى حجيتها حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
ولست أزعم أنني في هذه المحاضرة أستطيع أن أقول كل ما يتعلق بهذا الموضوع، أو كل ما عندي مما يتعلق بهذا الموضوع، كلا! ولكنني سوف أبدأ في هذه المحاضرة بعرض جوانب مهمة تتعلق بالسنة النبوية، وأعد أن أكمل هذا الموضوع في مناسبة قادمة إن شاء الله؛ ليكون الموضوع بين أيدي الناس، وليسمعه جمهور المسلمين وجمهور المثقفين؛ ليأخذوا صورة عن الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفوه من السنة النبوية.(118/3)
دور الإعلام في نشر الدعاوى الباطلة
عصرنا هذا مليء بالدعاوى العريضة الطويلة، والمصيبة أيضاً في هذه الدعاوى؛ أن أجهزة الإعلام أصبحت تنشر كل شيء ويقرؤها كل أحد: العالم، والجاهل، والأمي، والمثقف، والكبير، والصغير، والقوي والضعيف، وبذلك أصبح كل من ادعى دعوة وجد من يشايعه عليها ويوافقه عليها، وهذا أحدث شرخاً كبيراً في علم المسلمين وفقههم، وجعلهم مادةً خصبة لكل ناعق.(118/4)
ادعاء الألوهية
بل هناك من ادعى ما فوق النبوة! فقد قرأت في مقابلة صحفية مع رجل اسمه/ أغاخان، وهو يعبد من دون الله في شبه القارة الهندية، له أتباع يعبدونه ويسبحون بحمده وله يسجدون! فمن ضمن الأسئلة التي وجهها إليه أحد الصحفيين أن قال له: لماذا ترضى وتقبل من هؤلاء البشر الذين هم في منزلتك أن يعبدوك ويسبحوك ويعظموك؟ فابتسم، وقال له: ألا تراهم يعبدون البقر؟! وهل أنا أقل منزلة من البقر حتى تستكثر علي أن يعبدوني؟!(118/5)
ادعاء النبوة
هناك من يدعي النبوة، وليسوا قليلاً، وبالأمس وصلتني رسالةٌ من أحد الشباب، يشكو فيها من شخصٍ ظهر منذ زمن ليس باليسير في أمريكا، واسمه/ رشاد خليفة يدَّعي أنه نبيٌ يوحى إليه من عند الله، ودعا الناس إلى الإيمان بدعوته، وتوعدهم إن لم يؤمنوا! وقال هذا الشاب: إن هذا الرجل خدع بدعوته أناساً، وله نشرات يصدرها، وقد اطلعت على بعض هذه النشرات؛ فوجدت أن هذا الرجل يقول: إن عنده مئات الأدلة على أنه رسول ونبي، ما هذه الأدلة؟! قال: من الأدلة أن حروف البسملة تسعة عشر حرفاً، والله قال: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] .
وعدد حروف القرآن من مضاعفات العدد تسعة عشر، وعدد كلماته من مضاعفات تسعة عشر، ورشاد خليفة ولد في التاسع عشر من شهر نوفمبر، أو شهر سبتمبر، كما يقول، فمعنى ذلك أن هذا دليل على أنه نبي، ويطلب من الناس أن يؤمنوا به بمقتضى هذا الكلام السخيف.
نحن لماذا لا نقول: إن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ لأنه ولد في التاسع عشر من نوفمبر، وهو الرقم الذي يساوي عدد حروف البسملة، والله تعالى يقول عن جهنم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] .
فليس القول بأن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ بأقل من دعواه أنه نبي لأنه ولد في تسعة عشر، وهذا منتهى السخف، ومع ذلك يجد من يتقبل دعوته.
وأذكر أن بعض الصحف الإسلامية والعربية -وفي بلادنا أيضاً- نشرت منذ زمن طويل، دعاية عن إنجاز علمي كبير سوف يحقق معجزة القرآن في القرن العشرين -على حد تعبيرهم- وهو ما يسمونه بمعجزة القرآن العددية، وهذه المعجزة العددية هي الأسطورة والخرافة التي ابتكرها/ رشاد خليفة، ليدعم بها دعواه للنبوة.(118/6)
تعريف السنة النبوية وأقسامها
وأول ما يلاقينا في هذا الموضوع تعريف السنة النبوية، وللسنة النبوية تعريفات كثيرة لن أعرضها، ولكنني سوف أختار منها تعريفاً واحداً، وهو تعريف علماء الأصول، حيث قالوا: إن السنة النبوية هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية.
وهذا التعريف هو أوسع التعريفات وأكثرها انتشاراً، والتقسيمات المختلفة في السنة تدور عليه، وهو يتضمن أن السنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:(118/7)
السنة التقريرية
والمقصود بتقريراته، أو بالسنة التقريرية: أن يفعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيء، أو يفعل بغيبته لكنه يعلم به، ثم يقر هذا الأمر ويسكت عنه، أو يستحسنه ويرضى به، فيدل على جوازه أو على استحبابه بحسب الحال.
وأمثلة التقرير كثيرة منها قصة الجارية كما في صحيح مسلم، التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: {أين الله؟ قالت: في السماء -وفي رواية- أشارت بأصبعها إلى السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة} فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على إشارتها إلى السماء، وعلى قولها: إن الله في السماء، فدل هذا على عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي أن الله تبارك وتعالى فوق سماواته، وهذه العقيدة موجودة أيضاً في القرآن الكريم، لكن هذا الحديث يزيدها إيضاحاً.
ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم: ما سبق في قصة الضب، فإن خالد بن الوليد أكل الضب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه؛ فدّل أن أكله مباح.
ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو سعيد الخدري: {أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذهبا في سفر، فأدركتهما صلاة فلم يجدا الماء، فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأمّا أحدهما فتوضأ وأعاد الصلاة، وأما الآخر فلم يعد الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أعاد الصلاة: لك الأجر مرتين -أي مرة على صلاته الأولى ومرة على صلاته الثانية- وقال للذي لم يعد الصلاة: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك} فزكى النبي صلى الله عليه وسلم عمله، وبيّن أنه هو الموافق للسنة، وأن صلاته الأولى مجزئة له.
هذه نقطة في هذه المحاضرة وهي تعريف السنة، وخلاصة هذه النقطة أن السنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية.(118/8)
الأصل في أفعال الرسول الاقتداء
وإذا حصل نوع من التردد في هذه الأشياء، فيجب أن نعلم أن الأصل في أفعال النبي عليه الصلاة والسلام أنها للتأسي والاقتداء، كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فإذا وجد تردد فالأصل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رأيت بعض المصنفين -وقد يكون من بينهم من هو محسوب على أهل العلم وإلى الله المشتكى- من يتوسعون في هذه المسألة توسعاً غير محمود، فكلما تضايقوا من سنة من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ردوها وقالوا: هذه فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بحكم العادة، وهذه فعلها بحكم الخبرة، وهذه فعلها بحكم الجبلة؛ ثم رفضوها وأخذوا بسنن الكفار والمشركين واليهود والنصارى! وأضرب لكم على ذلك بعض الأمثلة: قرأت في أحد الكتب لعالم يشار إليه بالبنان، وقد تحدث عن موضوع إعفاء اللحية، فقال: إن إعفاء النبي صلى الله عليه وسلم للحيته، إنما فعله عليه السلام بمقتضى العادة الموجودة في عهده، وليس تشريعاً يقتدى به! وبناءً على ذلك؛ فتح الباب على مصراعيه للناس ليفعلوا بشعورهم ما شاءوا، من التهذيب والتشذيب والحلق، وهم في منجاة من أن يقول لهم قائل: لماذا تخالفون سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ونسي أو تناسى الأحاديث الكثيرة الصحيحة، التي يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإعفاء اللحية، وينهى عن التشبه بالمجوس والمشركين الذين يحلقون شعر لحاهم -هذا مثال-.
وسمعت عن رجلٍ آخر، وقد يكون داعيةً وكاتباً مرموقاً، وهو يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: {إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم ليرفعه فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء} رواه البخاري وأبو داود وزاد أبو داود {وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء} أي أن الذباب يسقط على الجناح الذي فيه الداء، والحديث عن أبي هريرة، لكن له شواهد عن جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، ومنهم علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة.
ورد الحديث عن جماعة من الصحابة وبأسانيد صحيحة، ومع ذلك لم يجد أحد الدعاة حرجاً أن يقول: إن هذا الحديث من الأمور الدنيوية، التي تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بحسب الثقافة الموجودة في عصره، ولا يلزم أن يكون هذا الأمر صحيحاً نعوذ بالله من ذلك! وهذا يعتبر تكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم جميعاً أن الرسول عليه السلام ذكر أن {من تتطبب ولم يعلم منه طب فإنه يضمن ما أتلف} أي لو أن إنساناً ادعى أنه طبيب، فعالج إنساناً فقتله، وعالج آخر فأمرضه، فإنه يحاسب على هذه الأعمال التي يعملها، وهو غير جديرٍ بها، ولا متأهل لها.
فما بالك أن الرسول عليه السلام -فيما يزعم هذا الزاعم- أنه يتكلم في قضية وهو لا يعلم عنها شيئاً، حاشاه من ذلك! ومتى كانت الأمة العربية تعلم أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء؟! ما كان العرب يعرفون ذلك، وهذا أمر دقيق لا يمكن أن يعلم إلا بأحد أمرين: إما بالوحي الصادق عن الله جل وعلا، وإما بالعلم اليقيني التجريبي الذي يخضع الذباب للتحليل والدراسة، ثم يكتشف الداء والدواء.
ولما قطعنا بأن هذا العلم لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ عرفنا أنه عليه السلام لم يتكلم عن الهوى قال الله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4-5] ومثالٌ ثالث: أحد العلماء يتكلم عن باب كبير في الطب النبوي، فيقول: إن هذا الطب كله مبناه على اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم، بحسب الخبرة الموجودة لديه والموجودة في مجتمعه، أشاعها بين أصحابه، ولا يلزم أن تكون كلها وصفات وعلاجات صحيحة ومناسبة! هذا أيضاً يفتح الباب على مصراعيه؛ لأن يرفض الناس جميع تشريعات الإسلام، فيرفضون -مثلاً- أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الاقتصاد؛ بحجة أنها اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم أن تكون دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السياسة؛ بحجة أنها اجتهادات قد لا تكون بالضرورة دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال تنظيم شئون المجتمع، وبالتالي يرفضون الإسلام كله، ولا يبقى لهم منه شيء.
وهكذا يتبين لكم خطورة توسع بعض الناس في قولهم: إن هناك سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيها مجال للاقتداء.
لا ثم لا!! الأصل فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال وغيرها؛ أنها للتأسي والاقتداء به عليه الصلاة والسلام، ولا يخرج شيء عن الاقتداء والتأسي إلا بدليل واضح أو بحجة قائمة، وذلك ينحصر في الأمور الأربعة التي أسلفتها سابقاً، وكما أننا لا نقبل من أحد أن يقول بخصوصية شيء للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل، كذلك لا نقبل منه أن يقول عن أمر من الأمور: إن هذا الأمر ليس فيه مجال للتشريع إلا بحجة واضحة قائمة لا لبس فيها.(118/9)
السنة الفعلية
وهي أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي نقلها عنه أصحابه سواء كانت هذه الأفعال متعلقةً بالعبادات أو متعلقةً بالمعاملات.
وهذه السنة الفعلية تنقسم أيضاً إلى قسمين: القسم الأول: ما يعتبر تشريعاً ينبغي على الناس الاقتداء به والالتزام به، إباحة أو إيجاباً أو استحباباً أو تحريماً، وهذه الأشياء التي تدل على التشريع، ويجب على الناس الالتزام بها، إما أن تكون بياناً للقرآن الكريم، أو تكون تأسيساً لحكمٍ جديد لم يرد في القرآن، كما سوف يأتي بعد قليل.
القسم الثاني: ما لا يعد تشريعاً، وهو أربعة أشياء: الأول منها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة والطبيعة البشرية، مثل نومه عليه السلام، وأكله وشربه وقضائه لحاجته، وغير ذلك من الأشياء التي فعلها بمقتضى الجبلة والطبيعة.
فهذه لا دخل فيها للاقتداء أصلاً، ولكن قد يكون الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في شيءٍ يتعلق بأخلاقيات هذه الأشياء.
كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا آداب النوم وآداب الجماع، وآداب التخلي وقضاء الحاجة، وآداب الأكل وآداب الشرب، لكن أصل الفعل ليس فيه مجال للاقتداء، فهو أمر طبيعي فطري جبلي موجود عند الإنسان، فهذا ليس من باب التشريع.
هذا هو النوع الأول مما لا يعد تشريعاً من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة.
فقد يكون هناك عادات اجتماعية موجودة في المجتمع، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، وليس لأنها مشروعة أو مستحبة، أو أمور تركها أيضاً بمقتضى العادة، وليس لأنها مكروهة أو محرمة.
ومثال ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، كما ذكر بعض أهل العلم: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لشعر رأسه، فقد كان النبي عليه السلام له شعرٌ يضرب إلى منكبيه، وفي رواية إلى "شحمة أذنيه"، والأظهر -والله تعالى- أعلم أن إطلاقه عليه السلام لشعر الرأس، إنما أطلقه لأن هذه عادة معروفة عند العرب، والإسلام لم يرفض هذه العادة، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض أهل العلم قالوا: بل هذه سنة.
ومثال ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة والكراهية البشرية، تركه عليه الصلاة والسلام لأكل الضب ففي الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم قُدِّم له الضب على مائدة ليأكل منها، فأراد أن يأكل، فقالت إحدى أمهات المؤمنين: أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا اللحم الذي يريد أن يأكله، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا ضب، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وكان بحضرته جماعة من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، فاجتره خالد بن الوليد رضي الله عنه، فأكله بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم} .
فترك النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب ليس تشريعاً يدل على كراهية أكل الضب، لكنه أمر كرهته نفسه، وعافته نفسه فتركه.
النوع الثالث من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الخبرة والتجربة في الأمور الدنيوية البحتة.
فكونه صلى الله عليه وسلم في الغزو يرتب الجيش ترتيباً معيناً، أو إذا أراد أن ينزل على ماء نزل عند هذا الماء أو عند ذاك، أو فعل أمراً يتعلق بالحرب، أو الزراعة، أو بالسفر أو بالإقامة، أو غيرها من الأمور الدنيوية البحتة المتعلقة بخبرة الناس، فهذا الأمر أيضاً ليس فيه مجال للتشريع والتأسي والاقتداء.
النوع الرابع من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي من عند الله، ولكن دل الدليل على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نسوة؛ فإن الله تعالى أباح للأمة أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، ولا يجوز الزيادة على أربع، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام مات عن تسع نسوة، فدل على أن هذا الأمر خاص به.
كذلك تحريم النكاح عليه في آخر عمره على قول، كما في قول الله تعالى: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] .
فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم، وخصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداً، حتى إن بعض أهل العلم صنفوا فيها كتباً ككتاب" الخصائص الكبرى " للسيوطي، والذي ذكر فيه، ألف خصلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعضها يقال: إنه خاص، لكن عند الدراسة والبحث يتبين أنه ليس خاصاً، لكن بالتأكيد هناك خصال خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا يجوز لأمته أن تتأسى به فيها.
إذاً السنة الفعلية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يقصد به التشريع.
والقسم الثاني: ما لا يقصد به التشريع: وما لا يقصد به التشريع هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة، أو ما فعله بمقتضى العادة، أو ما فعله بحكم الخبرة والتجربة، أو ما دل الدليل على خصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم.(118/10)
السنة القولية
القسم الأول: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالتشريع.
وهي كثيرة جداً، منها على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: {لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة} .
فهذا قول من النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن أحكاماً شرعية، منها تحريم لبس الحرير والديباج على الرجال، ومنها تحريم الأكل أو الشرب في آنية الذهب والفضة وصحافها؛ لأن هذا من شأن المشركين الذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم.
هذا هو القسم الأول من السنة النبوية، وهو السنة القولية.(118/11)
وظائف القرآن مع السنة
ووظائف القرآن الكريم مع السنة النبوية عديدة، يمكن تلخيصها في الوظائف التالية:(118/12)
السنة تأتي مفسرة للقرآن
الوظيفة الثانية وهي مهمة جداً: وهي أن السنة تأتي مبينة ومفسرة لكتاب الله تعالى، ولذلك يقول مطرف بن عبد الله أحد التابعين، يقول رضي الله عنه: [[والله ما نريد عن القرآن بديلاً، ولكننا نريد من هو أعلم منا بالقرآن]] أي: أننا حين نبحث عن السنة ونعمل بها ونأخذ بها، ليس معنى ذلك أننا نبحث عن شيء غير القرآن، لكننا نبحث عن أحد أعلم منا بالقرآن، نتبعه في معرفة القرآن، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بمراد الله تعالى بكلامه، فبيَّنه وفسره وأخذته عنه الأمة.
وكذلك يقول يحيى بن أبي كثير، ويقول الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام يقولان -كما ذكر البيهقي في كتاب المدخل-: السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة.
وهذه الكلمة لها معنى لا بد من فهمه قبل أن يسارع الإنسان بقبولها أو ردها، فإن معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن، معناه -كما ذكر الإمام البيهقي رحمه الله: أن السنة جعلها الله تعالى للقرآن مبينة له وموضحة مراد الله تعالى فيه، وليس المعنى أن شيئاً من السنن يأتي على خلاف ما في القرآن الكريم.
وزاد الإمام السيوطي الأمر بياناً فقال: إن القرآن يحتاج إلى توضيح وبيان، بخلاف السنة فهي بينة بنفسها فلا تحتاج إلى أن تبين بالقرآن؛ وذلك لأن السنة كالشرح للقرآن، والعادة أن الشرح يكون أبسط وأوضح من المشروح.
فهذا معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن أي أن السنة النبوية تبين وتوضح مراد الله تعالى في القرآن، فقد يفهم الإنسان من الآية معنى، فإذا درس السنة تبين له أن هذا المعنى الذي فهمه غير صحيح، وسيأتي أمثلة عديدة لذلك، لكن لا بأس أن أعجل بمثال منها حتى يتضح المقصود: يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فظاهر الآية يدل على أن قصر الصلاة مشروط بحال الخوف؛ لأنه قال: {فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فهذا المعنى يسبق إلى ذهن أي إنسان يسمع الآية، لكن إذا درس السنة وعرفها علم بالسنة القطعية المتواترة العملية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يقصرون في السفر، ولو لم يكونوا خائفين.
ولذلك جاء في صحيح مسلم، عن عمر رضي الله عنه [[أنه سئل فقيل له: كيف وقد أمن الناس؟ -أي: كيف نقصر وقد أمن الناس؟ - فقال للسائل: عجبت مما عجبت منه، فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته]] أي أن قصر الصلاة في السفر صدقة تصدق الله بها عليكم في حال الأمن وفي حال الخوف، فاقبلوا صدقته واقصروا الصلاة ولو كنتم آمنين إذا كنتم مسافرين، هذا يوضح معنى أن السنة قاضية على القرآن.
ومن العجب أن أحد المرموقين وهو يناقش رسالة ماجستير في إحدى الجامعات مر بموضع نقل فيه الطالب هذه الكلمة، وقال الطالب: إن السنة تقضي على القرآن، فقال هذا الأستاذ للطالب -وقد سمعته في شريط مسجل بأذني- قال له الأستاذ: كيف تقول إن السنة تقضي على القرآن؟! هذه عبارة فيها سوء أدب مع القرآن الكريم، ثم استدرك الأستاذ قائلاً: مع أن العبارة ليست صحيحة، إلا أن الطالب هذا لم يأت العبارة من عند نفسه؛ بل هو ناقلٌ عن غيره، وناقل الكفر ليس بكافر! هكذا يقول: وناقل الكفر ليس بكافر.
!! يا سبحان الله! وهل صار قولنا: "إن السنة تقضي على القرآن" كفراً حتى نقول: ناقل الكفر ليس بكافر.
صحيح أنه قد يقصد أن الكلمة هذه: "ناقل الكفر ليس بكافر" تجري مجرى المثل، لكن حتى وضعها في هذا الموضع ركيك جداً.
بل هي كلمة صحيحة: أن السنة تقضي على القرآن بالمعنى الذي بينت، وإذا كان هذا حكم الأستاذ على الطالب؛ أن ناقل الكفر ليس بكافر، فما حكم الأستاذ على يحيى بن أبي كثير وعلى الأوزاعي اللذين قالا هذه الكلمة وقالا: "السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة"؟! إننا نواجه في هذا العصر -أيها الإخوة- خصومة مفتعلة بين القرآن والسنة! عدد غير قليل؛ بل كثير من الكتاب والمؤلفين والمصنفين والمتحدثين، يفتعلون دائماً خصومة بين القرآن الكريم وبين السنة النبوية؛ ليتوصلوا من وراء ذلك إلى رد السنة بالقرآن الكريم.
ولم يعد هذا الأمر مقصوراً على المنسوبين إلى العلم، وإلى الدعوة وإلى الفقه؛ بل تعدى الأمر إلى كل من هب ودب، حتى إنني أحدثكم عن شاعرة لا تورد أمور الدين ولا تُصْدُرها، ولكنها كتبت مقالاً في إحدى الصحف، وذكرت فيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، في قصة الأعمى الذي جاء وقال: {يا رسول الله! إنني ليس لي قائد يلازمني، وأنا رجل بعيد الدار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب} والحديث في صحيح مسلم، فقالت هذه الشاعرة: هذا الحديث في متنه علة.
الله أكبر! في متنه علة!! كأنك أمام أبي حاتم، أو أبي زرعة الرازي، أو الدارقطني، أو البخاري.
ما هذه العلة؟ والعلة في الواقع هي في عقلها! ما هذه العلة؟ قالت: إن هذا الحديث يعارض القرآن الكريم! كيف يعارض القرآن الكريم؟ قالت: لأن الله يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وهذا الحديث فيه مشقة وكلفة وحرج على الناس، فهذا الحديث ليس بصحيح! بهذه السهولة يرفض عدد ممن يتكلمون اليوم دون أن يحاسبهم أحد في قضايا الإسلام، يرفضون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد سمعت أيضاً بأذني شخصاً، وقد عرض مجموعة من الأحاديث في صحيح البخاري، ومجموعة أخرى من الأحاديث في صحيح مسلم، لكن هذه الأحاديث لم ترق له ولم تدخل مزاجه -كما يقال-! فرفض هذه الأحاديث، ولما راجعه أحد الحضور فيها، قال بالحرف الواحد: كل حديث يعارض القرآن ضعه تحت رجلك؛ الله أكبر! وقاحة، جراءة، قلة أدب، قلة حياء! افتعال الخصومة بين القرآن وبين السنة، ثم يرفض السنة بحجة أنها تعارض القرآن، والمعارضة هي في عقولهم القاصرة، وليست في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والغريب أن بعضهم يحتجون بحديث نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الحديث سيفشو عني، فما آتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني} وهذا الحديث غير صحيح، بل هو ضعيف فإن في إسناده خالد بن أبي كريمة، وهو ضعيف، وهو أيضاً منقطع لأن الحديث ينتهي إلى أبي جعفر وليس بصحابي وجميع طرق الحديث ضعيفة لا تصح.
ولا يحتج كذلك بحديث {إن ما أتاكم يوافق القرآن فاقبلوه، وما أتاكم يعارض القرآن فردوه} ولا يعتبر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث ليس يخالف القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين معنى ما أراد الله تعالى، خاصاً أو عاماً، ناسخاً أو منسوخاً، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل.
وهؤلاء الذين يعترضون ويفتعلون الخصومة بين القرآن والسنة؛ يتهمون الأمة بأنها لم تكن تفقه كتاب الله تعالى، يتهمون الأمة وبالذات العلماء الذين دونوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم لم يكونوا يفقهون القرآن، ولذلك أثبتوا هذه الأحاديث المعارضة للقرآن، حتى جاء هؤلاء في القرن العشرين بعدما غلب الجهل وقل العلم، وغلب على الناس الهوى، فبدءوا يفهمون القرآن، ويرفضون السنة بمقتضى هذا الفهم الذي فهموه من كتاب الله تعالى، وهذه تهمة للأمة كلها في جميع أجيالها السابقة.(118/13)
السنة تأتي موافقة للقرآن
أما الوظيفة الأولى: فهي أن السنة تأتي أحياناً مؤكدةً لمعنى جاء في القرآن الكريم، ومقررةً له، وموافقةً لمعناه، وهذا لا إشكال فيه، وأمثلته كثيرة، ولعل من أمثلته: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: {بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا إله الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان} فهذا الحديث موافق لما في القرآن الكريم، فإن الله تعالى يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ويقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] فهذا تضمن الشهادتين.
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة جاء فيها قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] .
والصوم جاء فيه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] .
والحج جاء فيه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] .
فلم يأت هذا الحديث بشيء غير ما جاء في القرآن الكريم، من جعل هذه الأشياء أركاناً يقوم عليها بنيان الإسلام، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، لما سأله عن الإيمان قال: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر} والحديث متفق عليه.
فهذا أيضاً جاء في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء:136] .
وكما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] إلى غير ذلك من الآيات، والقدر كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر:49] إذاً هذا الحديث معناه موجودٌ في القرآن.
أيضاً الحديث المتفق عليه {عن أبي هريرة في قصة الرجل الذي قال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، وقال في الرابعة: أبوك} فهذا جاء معناه في القرآن الكريم، كما في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] فهذا القسم الأول من السنة، أو الوظيفة الأولى للسنة مع القرآن الكريم؛ أنها تأتي موافقةً ومقررةً لمعنى جاء في القرآن الكريم.(118/14)
منزلة السنة من القرآن
فهذه النقطة هي بيت القصيد وهي نقطة مهمة، وهي موقع السنة من القرآن الكريم ما موقع السنة من القرآن؟ بعض الناس يقول: نستغني بالقرآن! وفي هذا العصر بالذات ظهر في الهند والعراق ومصر جماعة من الضُّلَّال المرتدين يقولون: لا حاجة بنا إلى السنة، يكفينا القرآن، ويسمون أنفسهم -أو يسميهم الناس- بالقرآنيين وهم يرفضون السنة كلها جملة وتفصيلاً، وأذكر أحدهم يقول مخاطباً لغيره من الناس: فاحمل أزوادك واتْبَعْني يا عبد الله يكفينا زاداً في الدنيا هذا القرآن يكفينا زاداً في الدنيا هذا القرآن، ولعل هذا يعني إنكار السنة النبوية ورفضها، وهؤلاء لا شك مرتدون لا إشكال في ردتهم وخروجهم عن دائرة الإسلام.
بقي أن نسأل: ما موقع السنة من هذا القرآن الذي أطبق الناس -حتى هؤلاء- على الإيمان به والاعتراف بثبوته وتواتره؟ السنة هي قرينة القرآن الكريم في كتاب الله تعالى وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله - عز وجل - مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] ويقول: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] أما آيات الله فهي القرآن وهي الكتاب، لكن ما الحكمة؟ يقول الشافعي رحمه الله سمعت غير واحدٍ ممن أرضى من العلماء يقول: الحكمة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً الحكمة هي السنة وهي قرينة القرآن، وفي كتاب الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] أي القرآن والسنة {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] أي من القرآن ومن السنة.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي} فقرن السنة مع القرآن الكريم.
ولذلك فالسنة مصدر تشريعي كالقرآن الكريم.
ويعجبني في هذا المقال الكلمة التي يقولها الإمام محمد بن علي الشوكاني يقول: إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتقرير الأحكام الشرعية ضرورة دينية لا ينكرها إلا من لا حظَّ له في الإسلام! فاعتبر أن ثبوت حجية السنة، وأن السنة تؤخذ منها الأحكام كما تؤخذ من القرآن ضرورة دينية لا يمكن أن ينكرها أحد إلا من لا حظَّ له في الإسلام.(118/15)
أمثلة على بيان السنة للقرآن
لذلك لا بد أن أذكر أمثلة من بيان السنة للقرآن، يتبين من خلال هذه الأمثلة أنه بدون السنة النبوية لا يمكن أن يقوم المسلمون بما أوجب الله تبارك وتعالى عليهم في القرآن.(118/16)
السنة تأتي بحكم جديد
والوظيفة الثالثة: أن السنة تأتي بحكمٍ جديد لم يكن مذكوراً في كتاب الله تعالى.
وأمثلة ذلك كثيرة لعل منها حد الرجم للزاني المحصن، والذي أجمع عليه أهل العلم، فإنه لم يرد في القرآن الكريم، وكذلك النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، لم يرد في القرآن الكريم، وكذلك النهي عن كل ذي نابٍ من السباع وكل ذي مخلب من الطير، لم يرد في القرآن الكريم إلى غير ذلك.(118/17)
السنة تأتي ناسخة للقرآن
الوظيفة الرابعة: قال بعض أهل العلم: إن السنة النبوية تأتي ناسخةً للقرآن، وهناك كلام في ثبوت النسخ، وأظهر مثال يذكره بعضهم؛ هو قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي أمامة عند الترمذي وغيره: {إن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه؛ فلا وصية لوارث} مع قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ومعنى الآية فرضية الوصية للوالدين والأقربين، فقالوا: نسخت الوصية للوالدين والأقربين بالسنة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: {لا وصية لوارث} وقال آخرون: إنما نسخت الوصية للورثة بآيات المواريث.(118/18)
السنة تفرع على أصل ثابت في القرآن
ومن بيان السنة للقرآن: أن السنة قد تفرع على أصلٍ ثابتٍ في القرآن الكريم، فمثلاً يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] فدلت الآية على رفع الجناح - وهو الإثم والحرج- عن الإنسان فيما أخطأ به.
فجاءت السنة بأشياء كثيرة بينها النبي صلى الله عليه وسلم، تدخل تحت هذه الآية، ومن ذلك: ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله تعالى وسقاه} فكونه جعل الناسي إذا أكل أو شرب وهو صائم معذوراً يتم صومه، قد يكون مفهوماً فهمه النبي صلى الله عليه وسلم من الآية السابقة، وهذا البيان الذي ربما أكون أستطرد فيه بعض الاستطرات -بيان السنة للقرآن الكريم- كما يقولون: يضع النقاط على الحروف، بحيث لا يستطيع أحد أن يتلاعب بالقرآن الكريم إذا وجدت السنة، ولذلك كان السلف يعتمدون في جدال أهل البدع على السنة.
روى اللالكائي والدارمي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: [[سيأتي أناسٌ يجادلونكم بمتشابهات القرآن فجادلوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]] فبين أن أهل البدعة سوف يجادلون بمتشابهات القرآن، وسبحان الله! هذا هو الذي وقع، فإن أهل البدع يتكئون كثيراً على عمومات موجودة في القرآن الكريم، جاء في السنة ما يبينها، أو يقيد مطلقها، أو يخصص عامها، أو ما أشبه ذلك.
ومثل ذلك: ما رواه ابن سعد في طبقاته من طريق عكرمة عن ابن عباس: [[أن علياً رضي الله عنه أرسل ابن عباس إلى الخوارج ليجادلهم، وقال له: لا تجادلهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمَّال وجوه، ولكن جادلهم بالسنة، قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! أنا أعلم بالقرآن منهم، إن القرآن نزل في بيوتنا.
قال علي رضي الله عنه: نعم، ولكن القرآن ذو وجوه فتقول ويقولون -أي تفسر القرآن بوجه ويفسرونه بوجه آخر- القرآن تقول ويقولون، ولكن حاجهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً]] وفعلاً ذهب إليهم ابن عباس فحاجهم بالسنة، فرجع كثيرٌ منهم عن بدعتهم.
وكذلك روى سعيد بن منصور، والبيهقي في المدخل، عن إبراهيم التيمي: أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى ابن عباس يسأله يقول له: كيف تختلف هذه الأمة وربها واحد وكتابها واحد ونبيها واحد؟ يتعجب عمر رضي الله عنه من احتمال اختلاف الأمة مع أن ربها واحد وقرآنها ونبيها واحد.
فقال ابن عباس رضي الله عنه: [[يا أمير المؤمنين! إن القرآن نزل علينا فعلمنا فيم نزل، وسيأتي أقوام لا يعلمون فيم نزل القرآن، فيختلفون في تفسيره، فإذا اختلفوا تنازعوا، فإذا تنازعوا اقتتلوا]] .
وهذا هو الواقع اليوم! انظر كم من الناس مَنْ يفسرون القرآن الكريم، أعداد هائلة من الناس يفسرون القرآن! بل إنني ألحظ أن كثيراً من أهل البدع لهم تفاسير للقرآن الكريم، ويتكئون على القرآن الكريم، ويرفضون السنة؛ لأن القرآن أتى بأصول وقواعد وكليات عامة، يحاولون أن يفهموا منها ما شاءوا، وكم من إنسان صاحب بدعة حاول أن يستر بدعته بظاهرٍ فهمه من كتاب الله تعالى أو رد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى غير صحيح ألصقه بالقرآن الكريم! وهكذا.
فالوظيفة الأولى: أن السنة تأتي مقررةً لمعنى جاء في القرآن الكريم.
والوظيفة الثانية أن السنة تأتي مبينةً وشارحةً للقرآن الكريم!(118/19)
السنة تقيد مطلق القرآن
من بيان القرآن بالسنة أن السنة تقيد مطلق القرآن، فمثلاً قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] بينت السنة المقصود بالسارق، وهو من يسرق ربع دينار فصاعداً كما في حديث عائشة في الصحيحين.
وكذلك بينت أن اليد في قوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] إنما تقطع من مفصل الكف، كما ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه رضي الله عنهم، وإلا لما كنا نعلم المقصود باليد.
ومثله قوله تعالى في التيمم: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] لا ندري ما المقصود باليد؟ هل اليد إلى مفصل الكف، أم اليد إلى المرفق، أم هي اليد إلى الكتف؟ لا ندري، القرآن قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] لكن جاءت السنة لتبين أنه يمسح بالكف أي إلى الرسغ، كما في حديث عمار المتفق عليه: {أنه صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر كفيه ووجهه} واليتيم ضربة للوجه والكفين.(118/20)
تخصيص السنة للقرآن
ومن بيان السنة للقرآن: أن السنة تأتي بتخصيص ما جاء عاماً في القرآن الكريم، فقد يأتي في القرآن لفظ عام فتأتي السنة فتخصصه، وذلك كما في قوله تعالى بعدما ذكر المحرمات من النساء قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ولكن جاء في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تنكح المرأة على عمتها، ولا تنكح المرأة على خالتها} فلا يجوز للإنسان أن يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها، هذا الحكم ليس موجوداً في القرآن، ولكنه موجود في السنة، فهو تخصيص لعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] .
كذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] فهذه الآية عامة تدل على وجوب الإنفاق من جميع الطيبات، لكن بينت السنة أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كما في حديث أبي سعيد في الصحيحين: {ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة} إذاً فمعنى الآية: أنفقوا من طيبات ما كسبتم، مما كان خمسة أوسق فصاعداً، أما ما كان دون خمسة أوسق فلا زكاة ولا صدقة فيه.
ومثله آيات المواريث، خصصها قوله صلى الله عليه وسلم: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا صدقة} فالمواريث لا تجري على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل ما تركوه وراءهم فإنه لا يرثه أقاربهم بل هو صدقة.
ومثله: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] فقد بينت السنة أن من الميتات ما هو مباح، وهي ميتة الحوت والجراد، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عند أصحاب السنن والبيهقي وسنده صحيح موقوفاً قال: {أحل لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت} .
وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] هذا دليل على تحريم جميع الدماء، لكن الحديث السابق نفسه دل على أن من الدماء دماء مباحة حلال، وهي الكبد والطحال.
قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] دلت السنة النبوية على تحريم كل ذي نابٍ من السباع، كما في الحديث في الصحيحين: {كل ذي ناب من السباع فأكله حرام} .
ومثله قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] هذه الآية دليل على إباحة جميع الزينة، فظاهر الآية يدل على إباحة جميع الزينة، لكن دلت السنة على أن هناك زينة محرمة، وهي الحرير والذهب للرجال، كما في قوله صلى الله عليه وسلم وقد خرج وبيده قطعة من الذهب وقطعة من الحرير، فقال: {هذان حرام على ذكور أمتي حلٌ لإناثها} .
والأمثلة كثيرة، لكن من خلال سرد هذه الأمثلة؛ يتبين لكم أن القرآن لا يمكن أن يستغنى به عن السنة بحال من الأحوال، وأن الاستغناء بالقرآن عن السنة ضلالٌ أي ضلال.(118/21)
بيان تفصيلات أركان الإسلام
فمن البيان أن الله-تبارك وتعالى - أمرنا في القرآن بالصلاة والزكاة: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وأمرنا بالحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] .
وأمرنا بالصوم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] لكن هل نجد في القرآن الكريم صفة الصلاة، أو مقادير الزكاة، أو صفة الحج، أو صفة الصوم؟ كلا! لا نجد ذلك، لكننا نجد في السنة تفصيلاً للصلاة حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه صلاةً تامةً، وقال لهم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} .
وتفصيل حج النبي عليه الصلاة والسلام ومعه عشرات الألوف من أصحابه، ينتقلون معه من مكة إلى منى إلى عرفة إلى مزدلفة إلى الجمرات، إلى الطواف إلى السعي وهو يقول لهم: {خذوا عني مناسككم} فنقلوا تفاصيل أفعاله صلى الله عليه وسلم، وهكذا نقلوا مقادير الزكاة، وأحكام الصيام.
ولذلك لعل من الطريف أن أذكر القصة التي رواها البيهقي عن شبيب بن أبي فضالة: [[أنه كان جالساً عند عمران بن حصين رضي الله عنه، فذكر عمران رضي الله عنه الشفاعة في يوم القيامة، فقال رجل من الحضور: يا أبا نجيد! -وهذه كنية عمران - إنكم تحدثوننا بأحاديث لا نجد لها أصلاً في كتاب الله تعالى -هذا رجل كأنه يحتج بالقرآن ويرفض السنة، فيرفض الشفاعة مثلاً لأنه ليس لها نص في القرآن الكريم، أو بعض أنواع الشفاعة- فغضب عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال له: هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل تجد في القرآن أن صلاة العشاء أربع، وأن صلاة المغرب ثلاث، وأن صلاة الغداة -أي: الفجر- ركعتين، وأن صلاة الظهر أربع، وأن صلاة العصر أربع؟ قال: لا أجد في القرآن.
قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم أخذتموه عنا، ونحن أخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فهل تجد في القرآن أن في كل أربعين شاةٍ شاة، وفي كذا من الإبل كذا، وفي كذا من الدراهم كذا؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم أخذتموه عنا، ونحن أخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فهل تجد في القرآن، والله تعالى يقول: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] فهل تجد في القرآن الطواف بالبيت سبعاً، وصلاة ركعتين خلف المقام؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم أخذتموه عنا، ونحن أخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهل تجد في القرآن "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شغار في الإسلام"؟ قال: لا، ثم قال عمران رضي الله عنه: فنحن أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء لا علم لكم بها.
جاء في رواية أن هذا الرجل قال لـ عمران: أحييتني أحياك الله -أي أزلت الشبهة عن قلبي بهذا الجدال بالتي هي أحسن- قال الحسن البصري: فوالله ما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين]] .(118/22)
تفسير وبيان الظلم
خذ أمثلة تفصيلية لبعض البيان الذي جاء في السنة لكلام الله تعالى، بعد ما ذكرت أمثلة من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيره.
يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فقد وعد الله المؤمنين الذين لم يخلطوا إيمانهم بشيء من الظلم؛ أن لهم الأمن يوم القيامة وهم مهتدون في الدنيا، ولو أردنا أن نأخذ الآية بمقتضى اللغة العربية البحتة فقط، لقلنا: يدخل في ذلك كل ظلم، ظلم الإنسان لنفسه، وظلم الإنسان لغيره، فمن ظلم ولو قضيباً من أراك فليس من أهل هذه الآية، لكن جاء الحديث النبوي مبيناً لمعنى هذه الآية كما في الصحيحين: {أن الصحابة لما سمعوا هذه الآية شق ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس كذلك، إنه الشرك، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم؟!} فبين صلى الله عليه وسلم أن قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] معناه: لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
مثال آخر- وإن كان قد سبق- وهو قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] فقد بينت السنة أن شرط الخوف غير معتبر للقصر.(118/23)
وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم
أخيراً أشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد الله تبارك وتعالى مهمته، فلننظر ولنقف مع هذه الآية لئلا يوجد عندنا أدنى التباس، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] هذه واحدة {وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2] هذه الثانية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة:2] هذه الثالثة {وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] هذه الرابعة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] .(118/24)
تلاوة الآيات
الوظيفة الأولى للرسول عليه الصلاة والسلام: يتلو عليهم آياته، وهذا يعني أنه عليه السلام يبلغ القرآن للناس، فيقرؤه عليهم كما أنزل، ويعلمهم طريقة قراءته المشروعة.(118/25)
التزكية
الوظيفة الثانية: ويزكيهم، والتزكية تعني: أنه يطهرهم ويربيهم ويهذبهم، وذلك بتكميل المحاسن وإبعاد المساوئ، فتكميل المحاسن بتعويدهم على الأعمال الفاضلة، والخصال الفاضلة الظاهرة والباطنة، وإبعاد المساوئ يكون بنهيهم عن المنكرات والأخلاق الرديئة.
ولذلك قال الله عز وجل لرسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي: تدربهم على الفضائل، وتنقيهم من الرذائل.
هذه هي الوظيفة الثانية: ويزكيهم.(118/26)
تعليم الكتاب
الوظيفة الثالثة: ويعلمهم الكتاب، ما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناها يعلمهم تلاوة القرآن؟ لا، لأن التلاوة جاءت في الآية الأولى {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] إذاً {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة:2] تعني معنى آخر غير مجرد تلاوة القرآن، فهي تعني شرح القرآن وبيان معانيه وبيان المقصود منه.(118/27)
تعليم الحكمة
الوظيفة الرابعة: الحكمة: وهي كما ذكرنا شيءٌ آخر غير القرآن، وهذا مذهب اتفق عليه جمهور العلماء والمفسرين، ولذلك قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] فالحكمة وهي السنة هي أيضاً مفسرة وشارحة وموضحة للقرآن الكريم.(118/28)
الأسئلة
أنتقل بعد ذلك للأسئلة، وقد استعرضت الأسئلة استعراضاً سريعاً، فأعجبني فيها أن معظمها يدور حول موضوع المحاضرة، وهذا يهمني كثيراً لأنه ليس من هدفي في المحاضرة أن تكون مجرد كلمات عابرة، بل أحببت أن تكون موضوعاً علمياً يخرج منه المستمع بفائدة، ويثور عنده أسئلة أو إشكالات فيعرضها، وأقول لجميع الإخوة: أحبكم الله كما أحببتموني فيه.(118/29)
علاقة الإلهام بالوحي
السؤال
هل السنة المفسرة وحي أم إلهام للنبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الإلهام نوع من الوحي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب} ومثل ذلك أحاديث كثيرة، فالإلهام نوعٌ من الوحي.(118/30)
كيفية الوقوف على صحة الحديث
السؤال
كيف أرد على جاهل يقول: إنني أومن بالسنة، ولكن من يضمن لي أن كل تلك الأحاديث صحيحة صريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
ترد عليه بردود منها: أن تقول: قد كفيت المؤنة، فعندك صحيح البخاري وصحيح مسلم، كل ما فيهما صحيح، وقد اتفقت الأمة على تلقيهما بالقبول، ولهما من الجلالة والمكانة والمهابة ما هو معروف، فعليك بالصحيحين فكل ما فيهما صحيح، ثم ما عدا الصحيحين فإنك تأخذ بأقوال أهل العلم في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وكل عصر له علماؤه الذين يسهلون للناس هذه الأشياء، فبإمكانك مثلاً أن تستفيد من كتب الشيخ الألباني باعتبارها كتباً مرتبةً وميسرة، وإن كان حكمه لا يلغي حكم غيره فتنتفع بذلك، أما كونك تترك الأحاديث كلها باحتمال أن يوجد من بينها ضعيف فهذا ليس بصحيح.
هل هناك أحد يترك أكل الطعام لأن هناك طعام قد يكون مسموماً؟! إذاً لمات جوعاً!(118/31)
حكم شاتم الرسول
السؤال
ما حكم من يشتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ نعوذ بالله من ذلك!
الجواب
مرتد زنديق لا يستتاب، بل يجب أن يقتل حتى ولو تاب، ومن أراد المزيد من ذلك فعليه مراجعة الكتاب القيم" الصارم المسلول على شاتم الرسول" للإمام ابن تيمية.(118/32)
حكم من يكذب الأحاديث
السؤال
ما حكم من يكذب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
إن كان يكذب الأحاديث بناءً على دراسة، يكذب أحاديث معلومة لأن هذا الحديث فيه فلان وهو كذاب، وفيه فلان وهو وضاع فهذا لا بأس، أما إن كان يكذب الأحاديث بمجرد رغبته وشهوته، فهذا من أهل البدع المفتونين عن دينهم نسأل الله لنا ولهم الهداية.(118/33)
صحة حديث يبين دعوى الاقتصار على القرآن
السؤال
يقول: ما صحة هذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام: {يوشك رجلٌ شبعان جالس على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن! فما وجدتم فيه حلالاً فأحلوه، وما وجدتم فيه حراماً فحرموه} ؟
الجواب
هذا حديث صحيح، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي رافع، في سنن أبي داود والبيهقي، وسنده صحيح، وجاء عن غيره من الصحابة، وهو علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، ونحوه جاء عن المقدام بن معد يكرب عند أصحاب السنن والبيهقي وأحمد.
خاتمة: جزاكم الله خيراً على صبركم على هذه المحاضرة، التي قد يكون فيها شيء من الجفاف بحكم أن موضوعها -كما ذكرت لكم في البداية- موضوع علمي، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب مجلسنا هذا في ميزان حسناتنا، إنه على كل شيء قدير، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(118/34)
التمذهب
السؤال
هل يجب على كل إنسان أن يسلك في حياته على مذهب من المذاهب الأربعة؟
الجواب
ليس بواجب، بل على الإنسان إن كان قادراً على الأخذ بالدليل أن يأخذ به، وإلا اتبع من يثق بعلمه كما سبق، من الأحياء أو من الأموات، وله أن يترك المذهب الذي يتمذهب به في أي مسألة إذا عرف أن الحق في خلافها، فحتى لو كنت عامياً وأنت مقلد -مثلاً- للشافعي، ثم سمعت أحد العلماء يقرر مسألة على خلاف مذهب الشافعي، واقتنعت بتقريره، فإنه يجب عليك أن تأخذ بقول هذا العالم، وتترك مذهبك في هذه المسألة.(118/35)
التحذير من سب العلماء
السؤال
ما هو رأيك في الإنسان الذي يلعن بعض العلماء؟
الجواب
لا شك أن لعن الإنسان العادي؛ بل لعن الفاسق المعين لا يجوز، فلا يجوز أن تقول: لعن الله فلاناً لأنه يشرب الخمر، فكيف بالمسلم العادي؟! فكيف بالعالم من العلماء كالأئمة الأربعة الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم؟! لا شك أن الذي يلعنهم هو أحق باللعن، ويجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، ويجب على من يسمع منه هذا أن ينهاه ويزجره، فإن ازدجر وإلا فيرفع أمره إلى ولاة الأمر ليعزر هذا الإنسان ويؤدب.(118/36)
كتاب محمد الغزالي والرد عليه
السؤال
سائل يستفسر عن كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ويرغب في معرفة ما للشيخ من ملاحظات عليه؟
الجواب
لا شك أن هذا السؤال سبقت الإجابة عليه في عدد من الدروس، وطبعت في كتاب بعنوان" حوار هادئ مع الغزالي" يمكن للسائل أن يطلع عليه.(118/37)
الكتب التي دافعت عن السنة
السؤال
أرجو ذكر بعض الكتب المعاصرة والقديمة، والتي دافعت عن السنة النبوية؟
الجواب
سؤال جيد، في الواقع الكتب التي دافعت عن السنة كثيرة، أذكر منها: كتاب"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للشيخ مصطفى السباعي، وأذكر منها كتاب"السنة قبل التدوين" لـ محمد عجاج الخطيب، وكتاب"دفاع عن أبي هريرة" لـ عبد المنعم صالح العلي، وكتاب" معنى السنة وبيان الحاجة إليها" للشيخ سليمان الندوي، وكتب أخرى كثيرة، وهناك كتاب "الحديث النبوي" للصباغ، و"دفاع عن الحديث النبوي" نسيت مؤلفه الآن.(118/38)
معنى (أنتم أعلم بأمور دنياكم)
السؤال
أرجو توضيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنتم أعلم بأمور دنياكم} ؟
الجواب
هذا الحديث له قصة، كما في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أهل المدينة مهاجراً من مكة، ومكة كما تعلمون ليس فيها نخل، فلما جاء إلى أهل المدينة، وكانت بلداً فيه نخل كثير، رأى أنهم يلقحون النخيل، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما أظن أن هذا يغني عنه شيئاً -أي ما أظن أن هذا التلقيح ينفع شيئاً أو أنه ضروري- فلما سمع بعض الأنصار كلام النبي صلى الله عليه وسلم تركوا تلقيح النخل، فخرج شيصاً، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ماله؟ قالوا: سمعناك تقول كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ظننت ظناً فإذا حدثتكم عن الله فخذوه، وإذا حدثتكم عن الدنيا فأنتم أعلم بأمور دنياكم} .
وهذا من الأشياء التي تعلم -كما ذكرت - بمقتضى الخبرة والتجربة، وليس لها مدخل في التشريع، فإن المزارع أدرى من غيره في أن النخل يحتاج إلى تلقيح كما يحتاج إلى سقي، وكذلك التاجر أعرف بكيفية إدارة الصفقات التجارية من الناحية العادية البحتة، وليس من الناحية الشرعية، ولذلك الرسول عليه السلام في أول الحديث قال: {ما أظن يغني شيئاً} فبين أن هذا مجرد ظن سبق إلى ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى.(118/39)
اختلاف المذاهب
السؤال يقول: أريد أن أسألك سؤالاً يلازمني في أكثر أوقاتي، وهو أن بعض الأعمال المسنونة تختلف من مذهب إلى آخر، فأي واحدٍ منها آخذ بقوله في ذلك العمل المسنون؟
الجواب
المذاهب تختلف في الأعمال المسنونة بل وفي الواجبات، فقد يكون العمل واجباً في مذهب ومحرماً في مذهب آخر، كمواقيت الصلوات؛ صلاة الظهر مع صلاة العصر، كذلك ما يتعلق بالحيض قد تكون المرأة حائضاً عند مذهب وطاهراً عند مذهب آخر، فمن يقول حائض يحرم عليها الصلاة، ومن يقول طاهر يوجب عليها الصلاة وهكذا، لكن على الإنسان أن يجتهد في معرفة الحق، فإن كان طالب علم بحث في المسألة، وما ترجح عليه أخذ به، وإن كان عامياً مقلداً فإنه يقلد من يثق بدينه من الأحياء أو من الأموات، يقلد أحمد، أو الشافعي، أو أبا حنيفة، أو مالكاً، أو يقلد عالماً من العلماء المعاصرين كـ ابن باز، أو ابن جبرين، أو ابن عثيمين، أو غيرهم من علماء المسلمين الموثوقين، وهو مأجور إن شاء الله فيما أخذ به في ذلك.(118/40)
تقصير الثوب إلى نصف الساق
السؤال
ماذا تقول في رجل يعد قدوةً للشباب، ويقول: إن الذي يقصر ثوبه إلى منتصف الساقين يكون لباسه لباس شهرة؟
الجواب
في الواقع أن ما يتعلق بتقصير الثوب إلى منتصف الساقين أمر ورد به أحاديث في السنة، وورد من فعل بعض الصحابة، ومن فعله لا يمكن أن يلام على هذا الأمر أو يَثَّربَ عليه؛ لأن من فعل سنة واردة فليس لنا حق أن نلومه، لكن إن كان يسأل عما نعتقد أنه أحسن في هذه الظروف فقط، فهو ألا يقصر الإنسان ثوبه تقصيراً يلفت إليه النظر، بل عليه أن يكون ثوبه فوق الكعبين، ولا يكون مرتفعاً ارتفاعاً يلفت إليه النظر، ويكون مدعاةً إلى أن يقع الناس في عرضه، ويرفضوا ما لديه من الخير والدعوة؛ لأنه داعية يريد أن يدعو الناس إلى صلاة الجماعة، وتربية الأولاد، ترك الربا وترك الحرام وإلى تجنب آلات الملاهي، له أغراض كثيرة مع الناس، فإذا تمسك بهذه السنة حرم الناس من خير كثير، نقول: ترك الأولى تحصيلاً لأمور ومصالح عظيمة قد يكون هو الأفضل، وهذا أمر يدرك بالعقل والحساب، خاصةً أننا نجد في السنن أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة وصحيحة، تدل على أن تقصير الثوب إلى ما فوق منتصف الساقين لم يكن أمراً مطرداً موجوداً بين الصحابة في جميع الظروف.
أرأيت ما في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس، خرج فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة} لو كان إزار النبي صلى الله عليه وسلم فوق منتصف الساق؛ لما كان يعقل أن ينزل إلى حد أن يجره من العجلة، كذلك حديث أبي بكر في البخاري {لما قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي -أي ينزل دون الكعب- إلا أن أتعاهده، فقال: لست ممن يصنعه خيلاء} لا يعقل أن يكون إزار أبي بكر فوق منتصف الساق، ثم ينزل بالاسترخاء إلى أن يكون دون الكعبين.
لكن هذه الأشياء لا تمنع من القول بأن رفع الإزار إلى ما فوق منتصف الساق سنة، لا تمنع من أن نقرر أن هذا سنة حسب ما يظهر لي الآن، ولا مانع أن يترك الإنسان الأولى إلى أمر مباح وجائز بلا خلاف، وهو أن يرسل ثوبه فوق الكعبين لتحصيل مصالح كبيرة لا تخفى على إنسان يعيش في هذا العصر.(118/41)
الفرق بين الحكمة والضعف
السؤال يقول: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين، فمنها قصته مع الأعرابي عندما بال في المسجد، وكذلك مع الذي لبس خاتم الذهب فهل الأولى بالحكمة، والثانية بغير الحكمة حيث التبس معنى الحكمةبالضعف؟
الجواب
ملحظ جيد، فليست الحكمة في الدعوة تعني دائماً الضعف، بل الحكمة هي وضع الأمر في موضعه، ولذلك يقول الشاعر: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى فوضع الضعف في موضع القوة ليس من الحكمة، ووضع القوة في موضع الضعف ليس من الحكمة، هناك شخص لا يصلح له إلا القوة، والحكمة أن تأخذه بالشدة، وهناك شخص لا يصلح له إلا اللين، والحكمة أن تأخذه باللين، وهناك وقت لا يصلح له إلا اللين، وهناك وقت آخر لا يصلح له إلا الشدة.(118/42)
صحة إسلام الشيعة
السؤال
هل الشيعة مسلمون أم كفار، آمل الإيضاح أثابكم الله؟
الجواب
الشيعة باعتبارهم طائفة، والمقصود بالشيعة الإثني عشرية الجعفرية؛ حكم جماعة من العلماء بأنهم ليسوا مسلمين، وهذا مذهب الأئمة الأربعة؛ بل نقل الإجماع عليه عدد من العلماء كـ السمعاني في الأنساب والملا علي القاري وغيرهم، نقلوا الإجماع على أن الشيعة غير مسلمين، لكن هذا لا يعني تكفير أعيانهم وأفرادهم، فقد يكون الواحد منهم شيعياً، لكن لا يدري ما عقيدة الشيعة، ولا يؤمن بالخرافات والأباطيل الموجودة في كتبهم.(118/43)
معنى التشريع
السؤال
هل المسلم ليس ملزماً من السنة إلا بالتشريع فقط؟
الجواب
التشريع يشمل الواجب والمستحب، وفعل الواجب وفعل المستحب، ويشمل ترك المحرم وترك المكروه، وهذا ما جاءت به السنة، أما المباح فإن الإنسان ليس ملزماً به، وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة والجبلة أو ما أشبه ذلك، فليس موضع قدوة واتباع.(118/44)
بداية النقد في الفكر المعاصر
السؤال
ذكرت في مقدمة حوارك مع الغزالي أن ذلك بدايةً لنقدٍ في الفكر المعاصر، فهل هناك نية لنقد فكرٍ معين في هذا الوقت لتوضيح بعض الشبهات الذي يطرحها هؤلاء الكتاب؟
الجواب
قد يكون في النية شيءٌ من ذلك، لكن متى؟ قل عسى أن يكون قريباً.(118/45)
تعدد الزوجات
السؤال
كيف نرد على من يقول: إن تعدد الزوجات خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأن زواجه لحكمه؟
الجواب
أما كونه زواجه صلى الله عليه وسلم لحكمه، فلا شك أنه لحكمة، أما أن تعدد الزوجات خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ينقضه القرآن يقول الله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] فبين أنه يجوز للإنسان أن يتزوج بواحدة واثنتين وثلاث وأربع، أي أن أقصى حد أربع (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] .(118/46)
الإعجاز العددي في القرآن
السؤال
ذكرتم أن بيان الإعجاز العددي للقرآن الكريم أمرٌ غير مرغوب -على حد فهمي- وكثير من العلماء أضاف الإعجاز العددي إلى الإعجازات الأخرى للقرآن، وألف في ذلك كثير من العلماء الثقاة وبأجهزة متطورة كجهاز الكمبيوتر، فكيف يكون البحث في هذا الأمر لا يجوز في نظر الشرع؟ وأرجو أن يكون هذا عن دراية كافية وإجماع من علماء الإسلام، فأرجو إيضاح ذلك حتى نكون عن بينة في الأمر؟
الجواب
في الواقع أنا لم يكن حديثي عن مسألة الإعجاز العددي في القرآن بذاتها، كان حديثي عن استغلال رشاد خليفة للإعجاز، أو لجوانب من الإعجاز العددي؛ ليدعم به دعواه الكاذبة في أنه نبي يوحى إليه، نعم يوحى إليه من قبل الشيطان، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] .(118/47)
حديث غمس الذباب
السؤال
هل توصل العلم إلى أن أحد جناحي الذباب فيه داء، وفي الآخر دواء؟
الجواب
هناك دراسات كثيرة في عدد من البلاد الغربية، وفي هذه البلاد في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وقد توصلوا إلى أن في أحد جناحي الذباب داء، وفي الجناح الآخر دواء يقاوم الداء الموجود في الجناح الآخر.(118/48)
تسمية الرسول بأحمد
السؤال
يقول: لماذا سمي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المسيحية باسم أحمد، وسمي في القرآن والسنة باسم محمد؟
الجواب
أحمد ومحمد كلاهما اسمان للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما مشتقان من الحمد، فهو في القرآن والسنة أحمد ومحمد، وهذان من أسمائه، وله صلى الله عليه وسلم أسماء أخرى غير هذه.(118/49)
تقصير الثوب
السؤال
كيف نرد على من قال: إن بعض السنن التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها، إنما كانت موافقةً لعصره عليه الصلاة والسلام، ولا يصلح تطبيقها في هذا العصر المختلف، عنه مثل تقصير الثوب، وهو يقول: إنهم ليس لديهم المال ليشتروا ثوباً يجر خلفهم، واكتفوا بطول نصف الساق؟!
الجواب
لو كان هذا مجرد فعل من النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمكن أن يقول مُشَبِّهٌ ومُلَبِّسٌ على الناس مثل هذا، لكن الرسول عليه السلام لم يكتف بمجرد الفعل حتى شفعه بالقول، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} وقال في الحديث الآخر: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه} وفي الحديث الثالث قال: {حد الإزار هكذا، فإن أبيت فهكذا، فإن أبيت فهكذا، ولاحظَّ للكعبين في الإزار} إلى أحاديث كثيرة جداً قولية من قول النبي صلى الله عليه وسلم، تدل على تحريم إسبال الإزار: {وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة} .(118/50)
آداب في المأكل والملبس والمشي
السؤال يقول: هل هذه الأشياء من الأمور التي لا تعد شرعاً: الأكل بثلاثة أصابع، التيامن في كل شيء، استعمال الطيب، ارتداء البياض من الملابس، الإسراع في المشي، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
أما بالنسبة للأكل بثلاثة أصابع، وإن كان هذا -لا شك- يختلف بحسب نوع الطعام الذي يأكله الإنسان، لكن هذا من الآداب المتعلقة بالأكل، والتي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها أمته؛ لما في ذلك من البعد عن الجشع والنهم في أكل الطعام.
وكذلك التيامن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن، وقد أمر بذلك في قوله: {إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم، وإذا لبستم} وهو عند ابن حبان وسنده صحيح، فأمر بالبدء باليمين في اللباس، وكان يعجبه صلى الله عليه وسلم، وله في ذلك أحاديث كثيرة، فالبدء باليمين سنة مستحبة.
واستعمال الطيب كذلك هو من هديه صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من الرائحة الطيبة والتجمل للناس، وهو أمر محمود ومشروع في هديه عليه السلام قولاً وفعلاً.
ارتداء البياض كذلك ورد في سنة قولية من قوله صلى الله عليه وسلم: {البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم} وقد ورد هذا الحديث من طرق.
وكذلك الإسراع في المشي، فإنه يدل على القوة والبعد عن التماوت والذل، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يفعلونه من بعده، فهو سنة مستحبة مأثورة.(118/51)
حكم من يرد السنة كلها أو بعضها
السؤال
ما حكم من رفض شيئاً من السنة النبوية وأخذ شيئاً آخر، وحجته أن بعض السنة لم يسلم من التحريف بعد الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدين، ويقول مثلاً: هل صحيح مسلم سليم من الزيادة والنقصان؟ وغيره من كتب السنة، ما هو الرد على هذا؟ وجزاكم الله خيرا!!
الجواب
أولاً: أخطر شيء أن يرفض الإنسان السنة بأكملها، فهذا الذي يعتبر مرتداً خارجاً عن الإسلام، واحد يقول: أنا لا أقبل السنة، يكفيني القرآن هذا مرتد، لكن واحد يقبل السنة، وإنما هناك أشياء لضعف إيمانه، وقلة علمه، وقلة فقهه، يمكن أن يتوقف فيها أو يردها، فهذا لا نقول: إنه يكفر بهذا الأمر، كما سأل الأخ عن حكمه لكن لا شك أنه ناقص الإيمان، وقد يكون عاصياً بحسب ما وقع فيه.
وأما أن السنة لم تسلم من التحريف، فصحيح أن هناك من وضع على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، ولعلني أفرد محاضرة خاصة بالوضع في السنة النبوية، ولكن هذه الأحاديث التي وضعها الوضاعون يعيش لها الجهابذة، فما من حديث وضع إلا وتكلم العلماء فيه، وبينوا أنه موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان العلماء يسافرون الأيام الطوال إلى مصر والشام والحجاز والعراق وخراسان ومرو وغيرها، بحثاً عن حديث واحد، أو للقاء راوٍ واحدٍ والتأكد من روايه، والأخذ عنه مباشرة.(118/52)
الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه
يغفل كثير من الناس أن مسائل الاتفاق في الفقه الإسلامي أكثر من مسائل الاختلاف، وسبب ذلك أن الأمر المألوف لا يلفت النظر بخلاف غيره، وللخلاف العلمي الشرعي بين العلماء أسباب عدة معظمها أسباب طبيعية لا تستلزم إنكاراً أو انتقاصاً من حق العالم، فالحذر الحذر من اتخاذ الخلاف بين العلماء وتعدد الأقوال ذريعة لأن يأخذ الإنسان منها ما يوافق هواه أو يدعي دعوى الاجتهاد والتجديد ويأتي بأقوال جديدة مستحدثة، فطالب العلم حقه الترجيح، والعامي حقه السؤال والتقليد.(119/1)
مسائل الاجتماع بين المسلمين أكثر من مسائل الخلاف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن مثل هذا اللقاء الطيب، من المجالس التي نعتقد ونظن -إن شاء الله تعالى- أنها تغشاها الرحمة وتنزل عليها السكينة، وتحفها الملائكة، ويذكرها الله تعالى فيمن عنده.
إنها واحات إيمانية، ورياض علمية في وسط هذه الصحراء الملتهبة؛ إنها صحراء وإن كانت أرضها خضراء، إلا أنها هجير؛ وذلك بسبب فقدان الروح الإيمانية والخلق والسلوك الإيماني عند أهلها ولذلك فإنني أقول: إن مثل هذه المجالس هي واحات خضراء مورقة في وسط هذا الهجير القاتم، فكم هي نعمة الله تعالى علينا وعليكم عظيمة؛ أن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى هذه المجالس الطيبة، التي إن احتسب الإنسان سعيه ومجيئه وجلوسه فيها؛ فهو يتقلب في الأجر والثواب وكأنه في روضة من رياض الجنة.
إنني أعبر لكم عن شعوري وشعور إخواني وزملائي، بالود والمحبة الخالصة الشخصية لكم جميعاً؛ فإن هذا الحب هو الذي ربط الله تعالى به بين قلوبنا؛ فأصبح الواحد منا يهش للقاء أخيه ويفرح، وإن كان لا يعرف اسمه ولا يذكر أنه التقى به من قبل، لكن تكفي علامات الإيمان وشعارات الإسلام؛ لتحريك القلوب وإحياء المودة، فجزى الله القائمين على هذا المؤتمر خيراً على صنيعهم ومسعاهم.(119/2)
أنواع الخلاف بين أهل السنة
ولعلني أعمل تحويراً بسيطاً في عنوان هذه المحاضرة وموضوعها، فقد رأيت أن من المصلحة أن أتحدث عن الخلاف بشكل عام، وليس فقط عن الخلاف بين العلماء كما هو المقرر والمطلوب أصلاً، سواء في ذلك الخلاف العلمي أو الخلاف العملي.
فالخلاف العلمي أقصد به: الخلاف في قضية علمية في مسائل الفقه مثلاً أو الأصول أو غيرها.
وأما الخلاف العملي: فهو التنازع بين المسلمين في واقع حياتهم، في مسعاهم وطريقهم في الدعوة إلى الله جل وعلا.
ولست أعني -أيضاً- الخلاف الجوهري، فإننا يجب أن نقول بوضوح: إن هناك طوائف وفئات وإن كانت تنسب إلى هذا الدين وتدعي أنها تمت إليه بسبب، إلا أن الخلاف بيننا وبينهم عبارة عن هوة واسعة، لا يمكن أن تعبر ولا أن يقام عليها معبر، إلا أن يعودوا إلى الحق الذي فارقوه وخالفوه، فنحن نقول لهم: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] نقول لهم هذا وإن انتسبوا بطريقة أو بأخرى إلى الإسلام؛ فإن مجرد النسبة لا تكفي، وكما قيل: "والدعاوي إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء".
لكنني أتحدث عن الخلاف داخل إطار أهل السنة والجماعة، أهل السنة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، في معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم، علماً وعملاً وعبادةً وسلوكاً.
فداخل هذا الإطار العام الذي يشمل أهل السنة والجماعة يأتي مثل هذا الكلام.(119/3)
الخلاف العلمي
وأبدأ بالجانب الأول من الخلاف، وهو الخلاف العلمي: أي الخلاف في بعض القضايا العلمية، كالاختلاف -مثلاً- في قضية فقهية أو أصولية، أو في تفسير آية أو حديث أو ما أشبه ذلك.
وهذا الخلاف -أولاً- لابد من تحديد حجمه أي إلى حد يوجد هذا الخلاف بين العلماء في القضايا الشرعية؟ الناس في هذا بين مُفْرِط ومُفَرِّط، من الناس من يفتر فمه عن ابتسامة صفراء إذا جاء ذكر الأقوال؛ ويقول: كل شيء فيه خلاف.
وهذا لا شك أنه كلام يدل على أن فيه تسرعاً وعدم دقة؛ لأننا نعلم أن هناك ألوفاً، بل ربما عشرات الألوف من المسائل ليس فيها خلاف، إنما لأنه ليس فيها خلاف لا تثار.
فمثلاً: كون صلاة المغرب ثلاثاً، وصلاة العشاء أربعاً، وصلاة الفجر ركعتين هذه الأمور صارت طبيعية؛ لأنه لا خلاف فيها.
كون صلاة المغرب -مثلاً- لا تقصر في السفر وكذلك صلاة الفجر؛ بل تصلى تامة، هذا ليس فيه خلاف؛ ولذلك يكون طبيعياً ولا يلتفت إليه إنسان.(119/4)
ليس كل مسألة فيها خلاف
فقضايا الإجماع كثيرة جداً، حتى صنف فيها العلماء، ولعلكم تعرفون كتاب الإجماع لـ ابن المنذر وغيره من كتبه الأخرى، التي كان يحكي فيها إجماع العلماء.
ومثله كلام الحافظ ابن عبد البر والنووي وغيرهم من أهل العلم الذين يذكرون إجماع العلماء في مسائل معلومة.
إذاً ليس صحيحاً أن كل مسألة فيها خلاف، بل هناك مسائل كثيرة جداً فيها اتفاق وإجماع، إنما لا تلفت النظر.
وأضرب لذلك مثلاً واقعياً مادياً: الآن تجد في الشارع عشرات الألوف من السيارات تمشي بانتظام، والأمر في ذلك طبيعيٌ ولا أحد يلتفت إليه، لكن حين يوجد حادث صدام بين سيارتين؛ يلفت الأنظار ويتجمهر حوله الناس، وهكذا الشأن في قضية الاتفاق، فما دام العلماء متفقين على مسألة تمضي الأمور عادية، ولا أحد يلتفت إليها، لكن حين يوجد خلاف يلتفت الناس إلى هذا الأمر، فإذا تكرر ظنوا أن كل شيء فيه خلاف.
والواقع أن العلماء يوجد بينهم من الاتفاق والإجماع مثلما يوجد بينهم من الاختلاف؛ أقل أو أكثر لا أستطيع أن أحدد نسبة دقيقة، لكن المهم التأكيد على أن العلماء بينهم اتفاق في مسائل كثيرة جداً، كما يوجد بينهم خلاف في مسائل كثيرة جداً.
أحياناً الخلاف قد يمتد امتداداً طويلاً، حتى أنني أذكر -على سبيل المثال- أن الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري لما ذكر ليلة القدر وأي ليلة هي، ذكر أن في المسألة نحو خمسين قولاً للعلماء، رغم أن ليالي الشهر الكريم ثلاثين ليلة، لكن الأقوال خمسين قولاً، في تحديد ما هي ليلة القدر.
ومثلاً {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] ما هي الصلاة الوسطى؟ الصلوات كلها خمس لكن أقوال العلماء في هذه المسألة أكثر من عشرة؛ لأن هناك من يقول الوسطى هي: الفجر، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، وهناك من يقول بعدم التحديد إلى غير ذلك.(119/5)
أسباب اختلاف العلماء
كذلك أذكر مسألة: ساعة الإجابة في يوم الجمعة، فيها أقوال كثيرة جداً، تزيد على عشرة، ذكرها ابن القيم في زاد المعاد إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.
ولكن يجب أن ننتبه جيداً إلى الأسباب التي تدعو إلى هذا الاختلاف، حتى يكون الأمر طبيعياً، وأستطيع أن أحاول حصر الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف العلماء في ستة أسباب:(119/6)
الهوى والتعصب
السبب السادس: الهوى والتعصب، وهذا السبب لاشك أنه مدعاة للاختلاف المذموم، فلسنا نعتقد أن جميع من خالف في مسألة معه الحق، بل غالب العلماء، وقد يوجد من بين المنتسبين للعلم والفقه من يقول في مسألة على سبيل التعصب والهوى، والتعصب له شأن عظيم في تاريخ المسلمين، وكم هدم من أمم ودول ومدن، وأنشأ من فتن وصراعات وقتال ودماء إلى غير ذلك.
فقد يكون التعصب والهوى أحياناً من مظاهر أو أسباب الاختلاف، بحيث أن الإنسان يتمسك بقول مع أنه يعرف أنه قول ضعيف ولا دليل عليه، لكن لمجرد أنه قال به فلان مثلاً، وأمثلة ذلك كثيرة جداً ولا أحب أن أضرب مثلاً، لأن الأمثلة في هذا الموضع بالذات لها حساسية معينة.(119/7)
عدم اعتماد دلالة الحديث
السبب الخامس: وجود معارض راجح لهذا الدليل.
أي: الدليل ثابت عندي وصحيح، لكن عندي دليلٌ آخر، وهو في نظري أقوى منه، فأترك هذا الدليل؛ لأن عندي دليلاً آخر أقوى منه فأغلبه عليه، وغيري يرى هذا الدليل هو الأقوى فيغلبه وبالتالي يقع الاختلاف.
ولعل من الأمثلة -أيضاً ضمن ما ذكرنا في قضية نوا قض الوضوء- مسألة مس الفرج، هل ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟ فعندنا فيه حديثان متعارضان أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: {من مس ذكره فليتوضأ} هذا دليل على وجوب الوضوء من مس الذكر، وكذلك المرأة تتوضأ إذا مست فرجها، لحديث: {من مس فرجه فليتوضأ} .
والحديث الثاني: {أن الرسول عليه السلام سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء؟ قال: لا إنما هو بضعة منك} أي: قطعة منك كما لو مسست رجلك أو أنفك أو أذنك فلا وضوء في ذلك، فهذان دليلان متعارضان في الظاهر، فبعض العلماء يرجح الأول فيقول: بوجوب الوضوء من مس الذكر، وبعضهم يرجح الثاني فيقول بعدم الوضوء.
وأذكر أن جماعة غير قليلة من العلماء رجحوا الدليل الأول وقالوا بوجوب الوضوء، وذلك لأنه ناقل عن الأصل، لأن الأصل عدم وجوب الوضوء فلما جاء هذا الدليل عرفنا أن هناك نسخاً، وأن حديث: {إنما هو بضعة منك} منسوخ وآخرون جمعوا بين الدليلين باستحباب الوضوء من مس الذكر وعدم وجوبه.
هذه الأسباب الخمسة هي أسباب شرعية وطبيعية، لا لوم ولا تترتب على من وقع في اختلاف سببه واحد منها، ويمكن أن نعيدها باختصار وهي: أن لا يبلغ الدليل للعالم.
أو يبلغه ثم ينساه.
أو يبلغه لكن لا يثبت عنده.
أو يبلغه لكن يرجح عليه دليل آخر أقوى منه؛ لأن دلالته ظنية وليست قطعية.
وألا يعتقد دلالة الحديث على المقصود.(119/8)
نسيان الدليل
السبب الثاني: أن الدليل قد يبلغ العالم لكن ينساه، ومن طبيعة الإنسان أنه قد ينسى أحياناً، ينسى نسياناً مطلقاً، وأحياناً نسياناً مؤقتاً، حتى القرآن قد ينسى الإنسان آية منه أحياناً.
حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم عن أُبي بن كعب مرفوعاً يقول: {رحم الله أبياً كم من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} .
يعني: ينسى الرسول عليه الصلاة والسلام آية فيذكره بها أبي بن كعب، لكن هذا ليس نسياناً مطبقاً مطلقاً، بل ينسى فترة ثم يتذكر.
إنما -أحياناً- يوجد نسيان كامل للنص، ولذلك علماء الحديث عندهم باب يسمونه: "من حدث ونسي"، وقد صنَّف فيه السيوطي كتاباً سماه "تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي".
حتى أن بعضهم يقول: حدثني فلان أنني حدثته بكذا وكذا، فيروي عن فلان؛ لأنه حدثه ثم نسي الحديث، فصار يرويه عنه بالواسطة، يرويه عن نفسه بالواسطة، هذا كثير وله أمثلة ذكرها ابن الصلاح وغيره من العلماء.
أما كون الإنسان يقول بقول أو يعمل عملاً ناسياً فدليله: القصة التي رواها الحاكم وغيره، وسندها صحيح، قصة أبي مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقد كان حذيفة وأبو مسعود بالمدائن فصلى حذيفة إماماً بالناس، وكان يصلي على دكة -على مكان مرتفع- والناس على الأرض، فجره أبو مسعود حتى نزل إلى الأرض وصلى بالناس وهو مساوٍ لهم، فلما سلَّم قال أبو مسعود لـ حذيفة: ألم تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن ذلك، يعني ينهى عن ارتفاع الإمام عن المأموم لغير حاجة، فقال له حذيفة: بلى نسيت، ولكنني ذكرت حين سحبتني يعني حين جررتني، فذكر الحديث وإلا من قبل كان ناسياً لهذا الحديث، فلما ذكر الحديث انصاع له حالاً ونزل من على الدكة ولم يتمسك برأيه السابق.
وأما قضية الصلاة على المكان المرتفع ذكر العلماء أنها تجوز للحاجة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في مكان مرتفع كما في القصة المتفق عليها، أنه لما بني له المنبر وصعد عليه وكبر؛ وصلى بعض الصلاة وهو على المنبر، فلما أراد السجود نزل القهقرى وسجد على الأرض، وفي الركعة الثانية صعد حتى يرى الناس صلاته، وقال: {إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلَّموا صلاتي} .
فالقضية لا تعنيننا كقضية فقهية أو فرعية بل يعنينا أن من أسباب الاختلاف أحياناً أن العالم قد يبلغه الدليل لكنه ينساه، فيفتي بخلافه فإذا ذكر له تذكر ورجع إلى الدليل.(119/9)
عدم ثبوت الدليل
السبب الثالث: هو عدم ثبوت الدليل عند العالم، يعني قد يبلغه الحديث لكن لم يثبت عنده.
وأنتم تعرفون أن علماء الحديث عندهم من الاختلاف مثل غيرهم، فهم يختلفون -مثلاً- في توثيق الرواة، ففلان ضعيف عند بعضهم ومقبول عند آخرين، ويختلفون في اتصال الأسانيد وانقطاعها، ويختلفون على العموم في صحة الأحاديث وضعفها، قد يصحح عالم حديثاً ويضعفه عالم آخر، وبالتالي يقع اختلاف بينهم بسبب الاختلاف في ثبوت الدليل عندهم.
وأمثلة ذلك كثيرة جداً، وأيضاً لا يمكن أن أحصرها، لكن من أقرب وأسهل الأمثلة: اختلافهم في جواز مس المصحف لغير المتوضئ، اختلفوا في ذلك فالأئمة الأربعة يقولون لا يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف، وذلك أخذاً من حديث: {لا يمس القرآن إلا طاهر} وهو حديث حسن بمجموع طرقه من حديث عمرو بن حزم، وحديث حكيم بن حزام وعبد الله بن عمر، وكذلك الآية الكريمة {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] لكن الطبري وابن حزم وجماعة من العلماء يقولون: يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف؛ لأن الحديث لم يثبت عندهم، فاختلفوا في الحكم نظراً لاختلافهم في ثبوت الدليل.
ولعل من هذا السبب الاختلافات المذكورة بين الصحابة رضي الله عنهم فيما يتعلق باستدراك عائشة عليهم، فقد استدركت عائشة على جماعة من الصحابة استدراكات كثيرة على عمر وعلى ابن عمر وعلى أبي هريرة وعلى ابن عباس، حتى أن الزركشي جمع استدراكات عائشة على الصحابة في كتاب سماه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة".
فـ عائشة رضي الله عنها يبلغها الدليل وتعلم به، لكنه لا يصح عندها وتعتقد أنه حصل وهم من الراوي، وأحياناً يكون الصواب معها وأحياناً يكون الصواب مع غيرها.
فمثلاً: لما سمعت عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر يقول -كما في الصحيحين- أن الرسول عليه الصلاة والسلام: {اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب} تبسمت عائشة وقالت: غفر الله لـ أبي عبد الرحمن -تعني ابن عمر - والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا وهو شاهده -تعني حاضر معه- وما اعتمر في رجب قط، فنسبت إليه الوهم أنه غلط، وفعلاً الصواب معها رضي الله عنها في هذه المسألة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط، ولذلك وافقها غيرها من الصحابة.
وأحياناً يكون الصواب مع غيرها، كما استدركت في قطع المرأة للصلاة وقالت: [[كان يصلي رسول الله وأنا معترضة بين يديه، اعتراض الجنازة على السرير، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطها]] وكان الصواب مع غيرها في هذه المسألة، وكما اعترضت على عمر في مسألة وعلى غير عمر أيضاً في مسألة أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ومسائل كثيرة، فهذا لأن الدليل بلغها لكن لم يثبت عندها رأت أن الراوي وهم في هذا الدليل.(119/10)
الاختلاف في فهم النص
السبب الرابع: هو عدم دلالة الحديث أو النص على المقصود، وأنتم خبيرون بأن دلالة النصوص تنقسم إلى قسمين: هناك نص يسمى قطعي الدلالة، والنص قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحداً فمثلاً قول الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] .
هذه الآية لا يمكن أن يختلف اثنان في فهمها؛ لأن كلمة النصف معروفة عند الجميع، ولذلك يتفق العلماء على دلالة الآية ومعناها، وهذا يسمى قطعي الدلالة، والمخالف فيه يعتبر مرتداً عن الإسلام إذا خالف فيه.
لكن هناك نوعاً آخر من النصوص دلالته ظنية ليست قطعية، ومن أبرز الأمثلة قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] أي: المرأة المطلقة تنتظر العدة ثلاثة قروء، ما هو القرء؟ بعض العلماء قال: القروء: هي الأطهار، أي ثلاثة أطهار، وبعضهم قال: لا، القروء هي الحيض، فتتربص ثلاث حيض، واللغة العربية تحتمل هذا وهذا؛ لأن الكثير من العلماء قالوا: إن القروء من أسماء الأضداد تطلق على الطهر وعلى الحيض، فالمهم أن القرء هذا دلالته على أحد المعنيين دلالة ظنية، وليست قطيعة، أي: مختلف فيها.
فقد يبلغ العالم الدليل ويثبت عنده ولا ينساه، ولكنه لا يعتقد أنه يدل على الأمر المقصود فيخالف في ذلك، ولعل من الأمثلة الفرعية أيضاً: اختلاف العلماء في لحم الجزور، هل ينقض الوضوء أم لا ينقض الوضوء؟ هذا ورد فيه حديث: {أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم} وقبله {أنتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت} .
فدلالة الحديث على وجوب الوضوء من لحوم الإبل ليست قطيعة بل ظنية؛ لأن احتمال أن يكون قوله: نعم توضئوا، على سبيل الاستحباب، كما في قوله فيما بعد: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا، أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فالصلاة في مرابض الغنم ليست واجبة، وإنما هي جائزة.
فبعضهم قال: إن الحديث يدل على الاستحباب فقط، بعضهم حمل الحديث على أن المقصود الوضوء مما مست النار، وقالوا: إنه منسوخ وبالتالي ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يجب الوضوء من لحوم الإبل، وذهب الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من العلماء إلى وجوب الوضوء من لحوم الإبل لصحة الحديث وثبوته عندهم، المهم هذا من أسباب اختلافهم.(119/11)
عدم بلوغ الدليل
السبب الأول: هو عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء.
فنحن نعلم أن السنة النبوية -التي هي الشارحة والمفصلة لما أبهم وأجمل في القرآن الكريم- قد لا تصل إلى كل العلماء؛ خاصة في الزمن الماضي؛ بحيث أن العالم الذي يكون في العراق أو في مصر لا يكون اطلاعه على السنة النبوية كالعالم الذي -مثلاً- في الحجاز أو الشام.
وبالتالي: فإن هذا العالم البعيد الذي لم تصل إليه السنة كلها مضطر إلى أن يجتهد بقدر ما لديه من أدلة، وهذا واجب شرعي عليه، فمن غير المعقول أن يقول: لا أتكلم ولا أحل مشاكل الناس حتى أطلع على الأدلة الشرعية كلها هذا لا يمكن؛ بل هو يجتهد بحسب ما يتوفر لديه من العلم ومن الأدلة.
بل إن هذا كان موجوداً بين الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم فقد يوجد دليل عند صحابي ويخفى الدليل نفسه على صحابي آخر، ولذلك إذا بلغ به وأخبر به فإنه يرجع إليه، وهذا كثير جداً، حتى كبار الصحابة.
فمثلاً عمر بن الخطاب رضي الله وأرضاه -والقصة في الصحيحين-: {أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن عليه، فطرق الباب واستأذن على عمر فلم يأذن له وسكت، فاستأذن مرة أخرى ثم ثالثة ثم انصرف، وكان عمر رضي الله عنه مشغولاً في بعض شئونه، فلما التفت قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ قالوا: نعم.
فقال: عليَّ به.
فقالوا: ذهب.
ثم جاءوا بـ أبي موسى رضي الله عنه إلى عمر.
فقال له: ألم أسمع صوتك؟ قال: بلى، ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع، فاستأذنت ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت.
فقال له عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت -أي: قال له عمر: أريد أن تأتيني ببينة تؤكد لي ما قلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل سمع هذا الحديث معك أحد؟ وهدده إن لم يأت بالبينة.
فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار وهم جلوس؛ وأخبرهم بالخبر -وكان يظهر عليه شيء من الفزع والخوف.
فقالوا له: لا يقوم معك إلا أصغرنا، وقام معه أبو سعيد الخدري فذهب إلى عمر وأخبره بأنه سمع من الرسول عليه الصلاة والسلام مثلما سمع أبو موسى، أن يستأذن الإنسان ثلاث مرات فإذا أذن له وإلا رجع، ثم جاء أبي بن كعب يعاتب عمر رضي الله عنهم أجمعين، ويقول له: يا ابن الخطاب، لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا تفزع أبا موسى بتهديده؟ فقال عمر رضي الله عنه: أما إنني ما أردت ذلك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد} .
فكان مقصد عمر أن يتعلم ويتربى الناس على التثبت في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينقلوا إلا ما يقتنعون ويطمئنون لصحته ودقة فهمهم له، فرجع عمر رضي الله عنه إلى هذه المسألة.
بل إنك تجد أحياناً جماعة من الصحابة يخفى عليهم حديث، فإذا علموا به قالوا به، كذلك أيضاً في البخاري وغيره، قصة الصحابة لما قدموا إلى الشام فبلغهم أن وباء الطاعون موجود في الشام، فترددوا، هل يدخلون أو لا يدخلون؟ فاستشار عمر رضي الله عنه كبار المهاجرين وكبار الأنصار؛ فأشاروا عليه بأن ندخل -لا نمتنع عن الدخول إلى الشام بسبب الوباء والمرض، ندخل ونتوكل على الله.
فاستشار مسلمة الفتح، فأشاروا عليه بأن لا ندخل بل نرجع، فتردد عمر حتى جاء عبد الرحمن بن عوف -وكان غائباً في بعض حاجته- فقال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون {إذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم عليه في بلد فلا تدخلوا عليها} فوافقت رواية عبد الرحمن بن عوف الرأي الذي كان يميل إليه عمر رضي الله عنه في عدم توريط المسلمين في الدخول في الشام على الرغم من أن الطاعون كان قد استشرى فيها، فرجعوا.
ومسائل كثيرة جداً لا أستطيع أن أحصيها؛ لكن أكتفي بأمثلة أن الصحابة رضي الله عنهم كان يخفى على الواحد منهم حديث فإذا سمعه من غيره أخذ به، وكذلك من بعدهم من العلماء، فهذا سبب أنه قد لا يكون الدليل وصل إلى هذا العالم فيقول بخلاف الدليل.
ولذلك الشافعي رحمه الله: ماذا كان يقول للإمام أحمد، -انظروا إلى جلالة قدر الإمام الشافعي وتواضعه رحمه الله- كان يقول للإمام أحمد: إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نقول به، وكل الأئمة الأربعة ثبت عنهم أن الواحد منهم يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كل واحد منهم كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأحياناً يعلقون المسألة على ورود حديث في هذا الباب.(119/12)
أخطاء في خلافات العلماء
فمن الأخطاء التي يقع فيها المخالفون والمختلفون:(119/13)
الإنكار في المسائل الخلافية لغير المصلحة
أخيراً من الأخطاء -في موضوع الخلاف بين العلماء- أن البعض ينكر أشياء لا مصلحة للإنكار فيها وهي خلافية، والعلماء يقولون: الإنكار في مسائل الاجتهاد لا يسوغ، وهذه الكلمة ليست على إطلاقها، فهناك مسائل الدليل فيها واضح أو المصلحة فيها ظاهرة؛ فهذه ينكر فيها على من خالف.
وهناك مسائل الأمر فيها محتمل والمصلحة غير ظاهرة، فهنا قد يتسامح في الأمر -بحسب المسألة التي يتحدث فيها- لكن هناك أمور مثل مسائل (قضايا السنن، قضايا خلافية، ظاهرة جداً) لا ينبغي الإنكار فيها، مع أن عدم الإنكار لا يمنع من المناقشة فأنا قد أرى إنساناً يعمل برأي وعندي رأي آخر قد أناقشه فيه وأتحدث معه، فإما أن أرجع لرأيه إذا كان عنده علم جديد، أو هو يقبل رأيي، أو كل واحد منا يبقى على ما لديه، لكن لا مانع من المفاوضة والمحادثة في هذا الأمر.
الآن أريد أن أنتقل إلى نقطة أخرى ثم إلى الموضوع الثاني، فلعلني أجعل هذه الجلسة مقصورة على الخلاف بين العلماء وأترك الجانب الآخر، وهو في نظري مهم جداً وهو الخلاف العملي (الخلاف بين الدعاة) وهذا الموضوع يهم الجميع في اعتقادي، فلعلي أتركه إلى فرصة أخرى إن أمكن ذلك.(119/14)
أزمة فيها قولان
من الأخطاء الكبيرة أيضاً، في العصر الحاضر أننا نعيش هذه الأزمة، أزمة "فيها قولان" -إن صح التعبير- فالإنسان يفعل -مثلاً- ما يشاء، وإذا قلت له شيئاً قال: فيه قولان.
إذاً فيه قولان ماذا تعني؟ أهذان القولان لله وللرسول أم للعلماء؟! للعلماء! أما الله والرسول فلهما في كل واقعة حكم واحد، وهذا لا شك فيه قاعدة ينبغي أن تفهم، ونعتبر أنها مهمة جداً للشباب في هذا العصر، وخاصة في هذه البلاد، أن يعرف أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن للإسلام في كل واقعة -في كل واقعة مطلقاً- لله وللرسول فيها حكم واحد فقط وليس أكثر، وهذا الحكم يصيبه بعض العلماء ويخطئه آخرون، وقد نصب الله أمارات على الحكم وهي الأدلة حسب اجتهاد الناس.
إذاً الخلاف في مسألة: هل يجعلني أختار ما يناسبني، وأقول: فيه خلاف؟ هذا لا يصح؛ لأن معنى ذلك أن الإنسان تحلل من قيود الدين كلها، كما قال بعض السلف: لو أن إنساناً أخذ بشذوذات العلماء، لاجتمع فيه الشر كله، فكثير من العلماء الجهابذة يكون له رأي شاذ، أطبق العلماء على رده وإنكاره وأجمعوا على خلافه قبله وبعده.
أذكر لكم أمثلة على هذه الشذوذات حتى تعرفوا أهمية عدم الاستدلال بالخلاف، فعلى سبيل المثال أذكر أن أحد العلماء وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن كان يقول بأن الإنسان إذا تيمم -أي لم يجد الماء أو احتاج إلى التيمم ثم تيمم عن الوضوء للحدث الأصغر أو للجنابة أيضاً- ثم وجد الماء بعد ذلك أنه لا يلزمه استخدام الماء، بل يكتفي بالتيمم، والتيمم رفع الحدث إلى أن يحدث مرة أخرى، وهذا القول مخالف للإجماع وللنص أيضاً؛ فإن المجمع عليه عند العلماء أن الإنسان إذا تيمم ثم استطاع أن يستخدم الماء أو وجده، وجب عليه أن يمسه بشرته، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا القول شاذ جداً.
عالم آخر: قال: أن الإنسان إذا نام في المنام وبعدما استيقظ، وجد بللاً في ثيابه يدل على أنه احتلم، لكنه لم يذكر أنه احتلم إنما أثر الاحتلام واضح في ثيابه، قال: لا يجب عليه الغسل في هذه الحالة، وهذا القول شاذ يخالف إجماع العلماء ويخالف النص أيضاً، وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {إنما الماء من الماء} وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح -وكلا الحديثين في الصحيح أيضاً- لما سئل: {هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم إذا هي رأت الماء} فالغسل مربوط بخروج المني سواء في يقظة أو احتلام، فإذا خرج المني وجب الغسل، هذا القول شاذ بأنه لا غسل عليه إذا لم يتذكر، لكن وجد من قال به من العلماء فإذا أراد الإنسان أن ينتقي، فيأخذ قولاً شاذاً وقولاً شاذاً أصبح الإنسان مجموعة شذوذات، وهو يدعي أنه ينتسب إلى الدين وإلى العلم.
إذاً: فعلينا أن نحذر -كل التحذير- من الاعتماد على قضية فيه خلاف، من الممكن أن تقول لي: إن المسألة هذه فيها خلاف؛ لأنني بحثت المسألة وتوصلت بالأدلة إلى أن الراجح هو ما أفعله الآن، حينئذ أقول لك: لك ذلك، فمثلاً: إنسان زوجته سافرة الوجه، فتقول: لو حجبتها أو أمرتها بالحجاب قال لك: المسألة فيها خلاف، صحيح نحن لا ننكر أنه فيها خلاف؛ ليس عندنا إشكال في هذا مطلقاً، الخلاف قائم وموجود ولا أحد يتجاهله، لكن أنا أسألك الآن: أنت عندما جعلت زوجتك سافرة هل بحثت المسألة وتوصلت إلى أن الراجح أن الحجاب غير واجب؟ فلا بأس لك ذلك، ومن حقك أن تفعل ذلك، خاصة إذا كنت في بلد لا يلزم بالحجاب، وإلا لو كنت في بلد يلزم بالحجاب، تلتزم بالبلد وأنظمة البلد، ويكون فيه مصلحة اجتماعية في ذلك، لكن بمجرد أن يكون فيه خلاف، فأنا آخذ بما أرى وما أشاء؛ فهذا غير صحيح ولا يجوز.(119/15)
القطع والجزم في أشياء لا مجال للقطع فيها
من الأخطاء التي يقع فيها البعض أنهم قد يقطعون ويجزمون في أشياء لا مجال للقطع والجزم فيها، بعض طلاب العلم قد تعود على القطع والجزم في بعض القضايا، والاستغراب ممن يخالفه في ذلك، مع وضوح الدليل فيما يزعم.
وفي الواقع أن قطعه بسبب نقص العلم؛ فأحياناً الإنسان ليس عنده إلا دليل واحد في المسألة، ولا يعرف ما يعارضه، وقد يتصور أن المسألة واضحة وهذا شيء جربناه من خلال طلب العلم الشرعي، أن الإنسان أحياناً قد يتبين أو يظن أن المسألة هذه واضحة؛ لأن عنده فيها دليل، لكن إذا بحث وجد أن هناك أدلة أخرى تعارض هذا الدليل، وبالتالي أصبحت القضية أقل وضوحاً.
ولذلك تجد العالم الفقيه أكثر قدرة على هضم الخلاف من العامة؛ لأن العالم يعرف أسباب الاختلاف، وبالتالي يقدر المواقف، لكن العامي لا يفهم ذلك، وبالتالي تجد أنه يغضب ويتبرم من هذا الاختلاف.
فلا ينبغي القطع في قضيةٍ الخلاف فيها موجود وقائم، وإن قال الإنسان بالراجح؛ لأنه أيضاً من غير المعقول أنني أجعل الناس في بلبلة، لا يعرفون الخطأ من الصواب بسبب أنه فيها قولان.(119/16)
تحويل الفرع إلى أصل
أنهم أحياناً يحولون الفرع إلى أصل، ومع الأسف الشديد هناك من يحولون الأصل -أيضاً- إلى الفرع.
فالذين يحولون الفرع إلى أصله مثاله: أن أختلف معك في قضية جزئية من مثل القضايا التي سردتها قبل قليل، فتجدني أقيم الدنيا وأقعدها على هذه المسألة الفرعية، وأعتبر أن موقفي منك يتحدد على ضوء هذه المسألة.
أو قد نختلف مثلاً في جلسة الاستراحة التي تفعل بعد الركعة الأولى والركعة الثالثة هل هي سنة أو ليست سنة؟ بعضهم يبالغ فيقول: واجب، وبعضهم يقول: مكروه، فتكون هذه المسألة سبباً للبعد بيني وبينك، والهجر -أحياناً- والمباعدة بسبب هذه القضية الجزئية.
فهنا حولت الفرعية إلى أصلية، وبعض الشباب يلتمسون تأويلاً لهذا، يقولون: هذه الأمور أصبحت سيما للملتزم بالسنة، فإذا صار الإنسان لا يفعلها عرفت أنه ليس ملتزماً بالسنة، وبالتالي ابتعدتُ عنه، فهذا غلط آخر؛ لأنه كيف نجعل علامة للالتزام بالسنة ليست هي العلامة التي جعلها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الخطأ كل الخطأ أن يبالغ الشباب ويستغرقوا في جزئيات لا نهاية لها.
أذكر أنني قرأت في مسألة جزئية -ربما الأحاديث فيها قليلة- قرأت فيها نحو أربعة عشر بحثاً ما بين كتاب إلى بحث إلى مجلة، وهو موضوع (كيفية تحريك الإصبع في التشهد) كيف تحرك إصبعك في التشهد؟ هل تجعل الإصبع هكذا ساكناً؟ أم تحركه باستمرار دون توقف؟ أم تحركه عند الدعاء وذكر الله جل وعلا؟ أم ماذا تفعل؟ ويُحدثني أحد طلاب العلم أنه صلى في الحرم إلى جوار أحد الشباب؛ فقال أنه كان يدير إصبعه بطريقة دائرية هكذا، يعني يرسم دوائر بإصبعه السبابة أو السباحة، فيقول: وعندما سلَّم سألته: ما هو السبب في هذا الصنيع الذي تقوم به؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلق إصبعه، التحليق كان للإبهام مع الوسطى يعني هكذا، فيجعل إبهامه مع الوسطى حلقة؛ لكن الأخ فهم أن التحليق هو للسبابة، فصار يعمل حلقة بشكل مستمر عليها، وبذلك أضاف قولاً جديداً أظنه محدثاً ما سبقه إليه أحد.
المهم: أن القضية كلها لا تستحمل هذا الجهد الكبير المبذول لها، أما إني لا أقول: ينبغي أن نتركها وهذه أمور لا قيمة لها، لا، هذا غلط، هي قضية من الدين وكلكم يعلم أن جبريل عندما جاء للرسول عليه الصلاة والسلام، سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ولما انتهى، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
إذاً كل هذه الأشياء من الدين، ولا ينبغي أن نزدري شيئاً منها.
لكن ينبغي أن نعطي لكل شيء من الأهمية بقدر موقعه، فليس الاهتمام بالأصول أو بالعقائد مثل الاهتمام بالجزئيات، أو مثل الاهتمام بتفاصيل بعض العبادات، أو بالسنن التي فعلها حسن ولكن تركها لا يبطل أو يبخل بالعبادة.
بعض الذين يحولون الأصول إلى فروع، قد يتجاهلون الخلاف مع بعض الناس في قضية أصولية، ويقول: يا أخي يكفينا أننا نتفق على كذا وكذا، وبعض الشباب أيضاً عندهم حماس مفرط للوحدة الإسلامية، ويعيشون على هذا الأمل.
ولذلك الواحد منهم يتجاهل -أحياناً- خلافاً واقعاً، وهذا خطأ، فإنك عندما تجد أمامك إنساناً مريضاً، وتقول: عليَّ أن أتجاهله، ولعله أن يكون غير مريض -بحكم أنه يستطيع أن يمشي- والمرض ينخر فيه، وبعد فترة تفاجأ أن الرجل هلك ومات.
فالتجاهل ليس حلاً، فحين تعلم أن بينك وبين طائفة من الطوائف -وإن كانت منتسبة إلى الإسلام كالصوفية مثلاً، أو الرافضة أو أي طائفة أخرى- بينك وبينهم خلاف جذري أصولي لا يمكن تجاهله؛ ففي هذه الحالة لا يمكن أن أتجاهل الموضوع، وأقول: نتفق على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه حتى هذا في الواقع لا اتفاق عليه إلا في اللفظ فقط، لكن المعنى مختلف.
بعض الناس ربما يهدر كرامة أخيه، بسبب اختلافه معه في قضية جزئية، وربما يعمل على التنقيص منه في المجالس والدروس والمحاضرات أو في غيرها، بسبب أنه اختلف معه في مسألة.
وهنا نفرق بين كونه قد يستدرك عليه، وهذه من الأشياء التي أقول لكم: لا نضيق فيها، فمن الممكن أن أكتب وأن أقول قولاً فيرد عليه إنسان آخر؛ ويقول: إن القول الذي قلت، يبدو لي أنه مرجوح، والدليل كذا؛ فهذا ليس فيه حرج؛ لكن المهم ألا يكون عنده محاولة لإسقاط شخصية الذي يختلف معه، لمجرد أنه اختلف معه في قضية جزئية، ويهدر كرامته ومكانته وأخوته الإسلامية، وينسى الفضائل التي قد يكون تحلى بها.(119/17)
انقسام الناس في المسائل الخلافية إلى قسمين
الموقف السليم من خلاف العلماء أمام هذه الخلافات الفقهية: الناس ينقسمون إلى قسمين في هذا الموضع.(119/18)
طالب العلم
القسم الأول: هناك إنسان يستطيع أن يبحث ويصل بالأدلة بنفسه إلى القول الراجح -الراجح في نظره هو وليس الراجح مطلقاً- فيكون راجحاً عنده وليس راجحاً عند غيره، كطالب العلم الذي عنده معرفة -ولو مجملة- في أصول الفقه، ومعرفة بدلالات اللغة، وعنده قدرة على الرجوع إلى مظانِّ البحث، فإذا أشكلت عليه مسألة فقهية رجع إلى الكتب، وقرأ أقوال أهل العلم، ونظر في الأدلة، ووازن بينها، ثم توصل إلى نتيجة أن هذا القول أرجح، هذا ينبغي له أن يفعل هذا الأمر ويبحث بنفسه، خاصة في المسائل الكبيرة.
وإلا من غير المعقول أيضاً أن نقول للناس اتركوا أعمالكم ودراساتكم وبيعكم وشرائكم، والطبيب يترك الطب، والمهندس يترك الهندسة وغيرهم؛ ليتجهوا إلى البحث في هذه المسائل؛ لأن الذي يبحث فيها بالتأكيد سوف يستنفذ عمره كله دون أن يصل إلى جميع المسائل، لكن المسائل التي يحتاج فيها إلى رأي واضح وتكون قضايا كلية وكبيرة، أو التبس عليه الأمر فيها، أو عرف الحق بأي طريق أو عرف الدليل من خلال عالم من العلماء؛ فينبغي له أن ينصاع للدليل.(119/19)
عامة الناس
القسم الثاني: هم من يمكن أن نصفهم بالعامة، وحين أقول العامة، لا أقصد فقط الذين لا يقرءون ولا يكتبون، بل قد يكون العامي طبيباً -مثلاً- في مختبره أو معمله، أو مهندساً أو مسئولاً وعالماً في فنه، لكن في مجال الأمور الشرعية لم يتلق علماً، يقول: في المجال الشرعي ليس عندي علم، أنا أعتبر نفسي عامياً في المجالات الشرعية، في فني قد أكون مجتهداً في علمي، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، هذا الإنسان هكذا يقول عن نفسه.
وقد يكون العامي إنسان لم يتلق العلم بأنواعه، فهذا العامي ما موقفه؟ في حدود علمي ومعرفتي أن هذا العامي فرضه وحكمه التقليد، أن يقلد من يثق به وبعلمه من الأحياء أو من الأموات، الممكن أن يقول: أنا سوف أُقلِّد عالماً من العلماء أقلد -مثلاً- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو الألباني أو فلان أو علان، أي عالم معتبر من المسلمين يقلده فله ذلك.
لكن نقول لهذا العامي: واجب عليك أن تختار من سوف تقلده في دينك، وفق ضوابط شرعية، فلا تقل: إني أختار فلاناً لأنه -مثلاً- سمح، ويوسع علينا في القضايا فقط، لا، هذه القضية ليست قضية أمزجة وأهواء ورغبات؛ لكن العامي يختار من يعتقد في قلبه أن آراءه أقرب إلى حكم الله ورسوله، فيقلده في الحق.
وهل يلزم العامي أن يسأل على الدليل أم لا يلزم أن يسأل؟ إن سأل العامي عن الدليل فحسن، إذا كان يستطيع أن يسأل عن الأدلة ويفهما، لكن كثيراً من العامة لا يفقه الدليل، ولا يميز بين الآية والحديث، ولا يميز بين الحديث إذا كان موضوعاً أو من صحيح البخاري، ولو قلت له: هذا الحديث في صحيح البخاري لا يدري ماذا يعني صحيح البخاري فهو لا يفقه من هذا شيئاً.
ولذلك نقل ابن قدامة الإجماع على أن العامي فرضه التقليد، ويقول الأصوليون: العامي مذهبه مذهب مفتيه، فإذا سأل عالماً يثق بعلمه ودينه، وجب عليه أن يلتزم بفتواه التي أصدرها، وهذا العمل هو الذي عليه المسلمون منذ عهود الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم.
حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي رواه جابر وابن عباس وغيرهم، في قصة صاحب الشجة، لما ذهب مجموعة من الصحابة في سرية، فأحدهم أصابته شجة في رأسه ثم أجنب، فسأل الصحابة: ماذا أصنع؟ لأنه إن اغتسل قد يضره الماء، فأمروه بالاغتسال، فاغتسل ومات.
فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يقول بيديه هكذا، وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة فمسح بها وجهه وكفيه} .
وجه الدلالة من الحديث: أن هذا الرجل الصحابي سأل الصحابة، وبالتأكيد ما أعطوه دليلاً معيناً في هذه المسألة! ولذلك قال: الرسول عليه السلام: {قتلوه قتلهم الله} وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وجههم بقوله: ألا سألوا إذا لم يعلموا، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] فالعامي ومن في حكمه يسأل أهل الذكر -أهل العلم- فإن كان يستطيع أن يفهم الأدلة سأل عن الأدلة، وإذا كان لا يستطيع أن يفهم؛ فإنه يكتفي بالسؤال عن الحكم.
وأذكر أن أحدهم -عامي وإن كان يدرس الطلاب ويتصدر لهم في علوم معينة- كان يجلس أمام الطلاب ثم يقول: سمعت يوماً من الأيام كلمة لا أدري أهي آية أو حديث أو مثل أو حكمة؟! فمثل هذا لا معنى لأن تقول له اسأل عن الدليل، إذ لو أتيت له بآية ظنها حديثاً أو العكس ولو أتيت بحديث موضوع التبس عليه، ولو أتيت بحديث صحيح لا يدري عنه؛ فلا معنى من تكليفه بأمر لا جدوى ولا معنى من ورائه.
إذاً: هذا هو موقف العامي، وكذلك الموقف لطالب العلم أو القادر على البحث في أي مسألة، والوصول إلى القول الراجح بالدليل، في موضوع اختلاف أهل العلم، ولا أريد أن أطيل في المسألة أكثر من ذلك، فأترك بقية الحديث -إن شاء الله- كما وعدت إلى فرصة أخرى إن أمكن ذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(119/20)
الأسئلة(119/21)
مفهوم التجديد
السؤال
مجموعة من الأسئلة يجمعها مفهوم "التجديد أو الدعوة إلى التجديد" فمجموع الأسئلة تدور حول: أنه ما دام أن الكتب قد جمعت، والمكتبات قد توفرت، والفهارس قد فهرست، وأن زماننا غير زمان السلف، وهناك قضايا جدت في هذه الأمة ولم تكن موجودة في الأزمنة السابقة، فلماذا نضيق الأمر ونقول: نتبع فلاناً ونقلد الآخر؟ لماذا لا نعطي الفرصة أكثر لكثير من مشايخنا أن يجتهدوا في كثير من القضايا بما يتعلق ويناسب هذا الزمان؟ ويأتي سائل آخر ويقول: أن هناك دعوة ليست فقط بالاجتهاد؛ لكن لتجديد أصول الفقه ككل، ويدعي ويقول: بأنها ليست ملزمة، وقد قال بهذا -كما أعرف- بعض الناس في هذا الزمان.
فالموضوع يدور حول مفهوم التجديد في الأمور الفقهية، واستنتاج واستخراج الأدلة من الأصول.
فلا أدري ما تعليقكم على هذا؟!
الجواب
أعتقد أن هناك محاضرة أو جلسة خاصة للكلام ولذلك أريد أن أطلب الأسئلة من الأخ الكريم؛ لأنه هناك محاضرة خاصة عن موضوع مفهوم التجديد في الإسلام، وإن شاء الله سأتناول هذا الموضوع من خلال المحاضرة.(119/22)
الردود العملية
السؤال
الموضوع يناقش رد الشيخ سلمان على الشيخ الغزالي هل هناك من تعارض فيما تناولت في محاضرتك الليلة، وبين ردك على الشيخ الغزالي في كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث"؟
الجواب
أعتقد أن ما أشرتُ إليه ينسجم مع ما في الكتاب، أو مع ردي على الشيخ الغزالي؛ لأنني قلت لكم: إني أرثي لبعض الإخوة الذين يضيقون ذرعاً بالاختلاف؛ لأن الاختلاف أمر طبيعي والقضاء على الخلاف مستحيل، وبالتالي فالخلاف يمكن أن يوجه وجهة تثري الفكر.
دعنا مثلاً من الغزالي أو من غيره الذين يكثر الحديث عنهم، لكن أفترض -عن جدل- الآن ما هو السبب للشهرة التي قد تحصل لشخص ما؟ أليست أجهزة الإعلام هي التي تساهم في صياغة عقول الناس وتؤثر فيهم، وبالتالي هي التي تضع أمامهم الشخص التي تريد؟ وأجهزة الإعلام نحن نعرف وضع هذه الأجهزة، وبيد من تدار.
إذاً: أجهزة الإعلام يمكن أن تحول قناعتنا بفلان إلى عدم قناعة، أو تقنعنا بشخص ليس كذلك.
فالتلميع والإبراز له تأثير في عقلية الإنسان ونفسيته، وبالتالي ربما يقع كثير من الناس ضحية هذا التضليل الإعلامي في أي شخص آخر -دعنا من موضوع الحديث- فأنا أقول: إنه ليس من الحفاظ على تكوين شخصية الشاب المسلم أن يتعود على أن يكون طَيِّعاً لفلان من الناس، هذا التقليد الذي فعلاً يذم، أنني أنجر لآراء وأقوال لمجرد قناعتي بالشخص، وهذا من التقليد المذموم أيضاً.
لكن على سبيل العموم أنا أقول وجهة نظري في هذه الأمور وغيرها: أننا يجب أن نتعود على تطبيع هذه القضايا، أي: تحويلها إلى أمور طبيعية، أي: ليست مشكلة أن فلاناً رد على فلان؛ وهل هذه أول قضية تحدث؟ أبداً على مدى التاريخ كانت المناقشات والردود، بل العكس هذه الأشياء هي التي تثري الفكر، وتحرك الساحة وتزيد من معلومات الإنسان، فربما بعضنا لم يقرأ كثيراً من الأشياء وليس عنده علم بها.
لكن من خلال المناقشة والأخذ والرد؛ وجد نفسه مضطراً لأن يقرأ ويراجع ويبحث، فيتكون لديه ثقافة صحيحة وعلم صحيح مبني على أصول.
الشيء الذي أكرهه كثيراً في هذه المسألة وغيرها هو: التبرم من الخلاف، واعتقاد أن تخطئة إنسان في مسألة أو في مائة مسألة يقتضي أن هذا الإنسان انتهى، وليس من الضرورة أصلاً.
فلماذا نعتقد العصمة في شخص، بحيث نرفعه إلى عنان السماء، ثم عندما نكتشف أنه أخطأ؛ نسقطه إلى الحضيض، دائماً الاعتدال هو المنهج المطلوب، فنضع الشخص في موضعه الطبيعي، بأنه إنسان -مثلاً- مجتهد وفاضل، لكن الخطأ وارد عليه.
وبالتالي: من الممكن أن نتقبل أنه أخطأ في هذه المسألة، أو تلك، أو حتى في عشر مسائل، أو مائة؛ ليس لأنه الذي رد عليه فلان أيضاً، لا يعنيني من الراد ولا من المردود عليه، فعليَّ أن أنظر في جدال الآراء والأدلة وأختار ما أعتقد أنه هو الصحيح، ودين الله ليس وقفاً على أحد، وليس هناك متحدث رسمي باسم الإسلام أو باسم الرسول صلى الله عليه وسلم.
يعني هو يعطي الكلمة الأخيرة، خلافاً لما يوجد في الكنيسة -مثلاً- فالأمور كلها قابلة للنقاش والأخذ والرد، والإنسان يأخذ الحق بغض النظر عن الذي قاله أو من قيل فيه.
وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(119/23)
إبلاغ العامي بالدليل
السؤال
هذه مقولة الشيخ الأخيرة هي استدراك لبعض الإخوة، ولعل بعضاً من المشايخ يقول: بالنسبة لكون العامي لا يفهم الدليل، ألا يحسن بنا أن نقول لهذا العامي أو لا بد أن يذكره العالم بالدليل بطريقة سهلة يطيقها عقل هذا العامي، أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بذلك أو نهى عن ذلك؟
الجواب
نرجع إلى قضية التقليد، فالعامي -الآن- ما يدريه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، أليس تقليداً لهذا العالم؟ فهو لا يدري، لكن العالم أخذ بيده وقال له قول، ولو كان العالم لا يخاف الله، فاختلق دليلاً أو ذكر دليلاً موضوعاً وسكت، انطلى الأمر على العامي، هذا من جهة، من جهة أخرى أن الدليل -أحياناً- قد لا يكون دليل نص، ففي كثير من المسائل ليس الدليل نصاً كقال الله تعالى أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحياناً الدليل مبني على قاعدة أصولية، أو على اتفاق وإجماع، أو على قياس صحيح، فيحتاج إلى أنك تعطي هذا العامي درساً في الأصول، بل دروساً في الأصول، حتى يفهم أصول الفقه، ثم تذكر له الدليل بعد ذلك.
فأرى أنه لا إلزام، وأنه لا دليل على الإلزام بأن يفهم العامي الدليل أو يبين له، بل الأمور تختلف، فبعض العامة قد يناسب ذكر الأدلة له؛ لأنهم كما ذكرت عندهم اشتغال وكثرة مجالسة للعلماء، وبعضهم أناس بعيدون عن المعرفة لا يفقهون شيئاً، بل إنه أحياناً إذا قلت له: حلال أو حرام فهذا الذي يهمه.(119/24)
الأخذ بالأحوط
السؤال
ما رأيك في من يقول: نأخذ بالأحوط خصوصاً في مسائل الخلاف، حتى نصل إلى السلامة ولا نقع فيما وقع فيه بعض الناس الآخرين؟
الجواب
هذا السؤال يذكرني برأي الدكتور موسى الموسوي الشيعي المعروف صاحب كتاب الشيعة والتصحيح والثورة البائسة، ففي الكتاب الشيعة والتصحيح لاحظ أن الفقهاء الشيعة يبتزون أموال الناس عن طريق الفتيا وغير ذلك، فقال: إنني أرى حلاً لهذه المشكلة حتى لا يحتاج الناس إلى الفقهاء، أن يأخذوا بالأحوط في هذه المسائل حتى لا يحتاجوا إلى فقيه، وأعتقد أن الأخذ بالأحوط يصلح في حالات معينة.
مثلاً: إذا التبس الأمر على الإنسان وما اتضح له الحق وهذا كثير ما يقع للعالم فضلاً عن غيره؛ فيقول: آخذ بالأحوط براءة لديني وهذا جيد وحسن خاصة في أموره الخاصة، أو فيمن له عليهم ولاية، لكن أحياناً يكون الأمر ليس فيه احتياط وأضرب لكم أمثلة على الأمور التي ليس فيها احتياط.
لو فرضنا على سبيل المثال فيما يتعلق بمواقيت الصلاة، صلاة العصر متى يدخل وقتها؟ الجمهور على أن وقت صلاة العصر يدخل إذا صار ظل الشيء مثله، ومتى يخرج الوقت؟ الجمهور أيضاً على أن وقت صلاة العصر يخرج عند اصفرار الشمس، والحنفية يرون أن دخول وقت صلاة العصر مختلف، فالمهم أن هناك خلافاً بحيث أنك أحياناً لو راعيت مذهب أبي حنيفة في الوقت، لكنت مصلياً في غير الوقت عند الجمهور، ولو صليت على مذهب الجمهور لكنت مصلياً في غير الوقت عند أبي حنيفة؛ لأن الوقت خرج فهذه ناحية.
مثال آخر: قضية الحيض، قد تكون المرأة في حالة مشكوك فيها، هل هي حيض أم استحاضة؟! فهنا لا مجال للاحتياط؛ لأنه إن صلت المرأة وقلت لها: صلي، فقد تكون أمرتها بالصلاة وهي حائض وصلاة الحائض لا تجوز، وإن قلت: دعي الصلاة، فقد تكون أمرتها بترك الصلاة وهي طاهر، فتكون تركت الصلاة.
إذاً هنا لا يوجد احتياط؛ لا بد من الحسم في المسألة، إما هنا أو هنا.
كذلك: أحياناً الاحتياط يكون في مشقة؛ لأنه إذا كانت المسألة اختيارية بحتة فهو أمر سهل، لكن -أحياناً- قضية يترتب عليها آثار عملية صعبة -أي في مشقة عليه في هذا الأمر- أنا لن أتركه إلا إذا كان ممنوعاً؛ فالاحتياط يلجأ إليه الإنسان في حالة الاشتباه أو الالتباس كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} .(119/25)
المذهبية
السؤال
هل يأخذ المسلم الحكم من أي مذهب شاء أم يلزمه اتباع مذهب معروف ومعين أو واحد عند الحاجة؟ ويقول: إن المذاهب لا تحصر في أربعة مذاهب -كما نراها معروفة- لكن هناك آراء لبعض الأئمة ممن لم تنتشر مذاهبهم، فهل نتبع بعضها إن وجدنا عندهم الدليل الصحيح أم لا؟
الجواب
بالنسبة للأئمة الأربعة وغير الأربعة: نعم الأئمة ليسوا أربعة، وأذكر أحد الإخوة يحدثني أنه صلى في مسجد جمعة إلى جوار رجل، فرأى هذا الرجل يعمل في صلاته عملاً استغربه، أظنه كان يرسل يديه في الصلاة ولا يضم، أي لا يضع إحداهما على الأخرى، فلما سلم من الصلاة سلم عليه، وجلس يتحدث معه بأسلوب هادئ وبعيدٍ عن الإنكار، إنما حادثه عن وضع اليدين في الصلاة، وأن السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة، فلما قلت له ذلك، قال: ليست المذاهب أربعة -كما تزعم وما زعم الأخ شيئاً- ولا ذكر شيئاً من المذاهب الأربعة، لكن الآخر قال له: ليست المذاهب أربعة كما تزعم- وإنما هي عشرة.
وأقول أيضاً: المذاهب ليست عشرة كما يزعم؛ وإنما هي أكثر من ذلك بكثير، فهناك أئمة متبوعون كثيرون، هناك فقهاء المدينة السبعة، هناك فقهاء في العراق، هناك فقهاء في الشام، وفي مصر، لكن غالب مذاهبهم اندرست أو كادت، بحيث لا يكاد يوجد من يقول بها إلا قلة؛ فمثلاً: الأوزاعي يوجد من يقول بمذهبه خاصة في الشام وكان إمام أهل الشام؛ وهم قلة.
وكذلك يوجد في بعض مناطق المملكة من يتمذهبون بمذهب الأوزاعي، وكذلك الإمام ابن جرير الطبري يوجد من يدين بمذهبه، وكانوا يسمون في التاريخ بالجريرين -نسبة إلى ابن جرير - وكثير من العلماء كانوا متبوعين ثم اندرست مذاهبهم.
والسؤال: هل الحق محصور في هذه المذاهب الأربعة، أو في أحدها؟ أبداً ليس الحق محصوراً في واحد من المذاهب الأربعة، ولو قال إنسان: إن مذهب الإمام مالك كله حق وما عداه باطل، أو مذهب الشافعي أو مذهب أحمد أو أبي حنيفة، لكان في ذلك مخطئاً -بلا خلاف عند أهل العلم- فالحق ليس محصوراً في مذهب واحد، لكن هؤلاء العلماء كلهم اجتهدوا وكما قال الشاعر: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وهم يحاولون أن يقتبسوا ويلتمسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الحق في مسألة عند واحد وفي مسألة أخرى عند غيره.
فليس الحق محصوراً في أحد هذه المذاهب، بل وليس بالضرورة في أحد المذاهب الأربعة فقط، قد يخرج الحق عنها، فليس هناك نص شرعي يدل على منع ذلك.
لكن من واقع تجربتي القصيرة في موضوع البحث في مسائل فقهية، وتجربتي مع بعض الشباب الذين يتحدثون في قضايا شرعية، تكون لدي قناعة، هي أن الشاب وطالب العلم ينبغي أن يحرص على الاعتصام بمذهب الجمهور، إلا في المسائل التي دليلها شديد الظهور، فغالباً رأي الجمهور هو الصواب، والجمهور ليس شخصاً بعينه أو جهة بعينها، فأحياناً الجمهور -مثلاً- مالك وأبو حنيفة والشافعي، وأحياناً يكون الجمهور أحمد وإسحاق وأبو حنيفة ومالك، المهم الأكثرية -أكثرية العلماء- وذلك إذا كنا نعرف أن العلماء يعتبرون الإجماع حجة شرعية.
وبالمقابل -كما أسلفت قبل قليل- الشذوذ: انفراد واحد برأي، يعتبرونه رأياً منطرحاً متروكاً.
إذاً: إذا كان الأغلبية من غير المعقول أن نقول سواء أغلبية أو غير أغلبية أن الأمر سيان في ذلك، فالغالب أن أكثرية العلماء يكونون على الصواب، لكن لا يمنع الإنسان من النظر في الأدلة، حتى يكون اتباعه لرأي الجمهور على بينة وبصيرة ودليل.
لكن نقول: تقليده للجمهور أولى من تقليده لرجل واحد -مثلاً- كما أن الإنسان أحياناً قد يجد أن هناك رأياً مخالفاً للجمهور ومع ذلك رجحانه ظاهر، ولعلي أضرب مثالاً في هذا.
مسألة الخمر هل هي نجسة أم طاهرة؟ طبعاً موضوع تحريم الخمر فيه حكم بنص القرآن الكريم: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ولا خلاف في موضوع تحريم الخمر، أما الكلام في نجاسة الخمر إذا أصاب ثوب الإنسان، هل هي نجسة أم طاهرة؟ الجمهور والأئمة الأربعة أيضاً، على أن الخمر نجسة، لكن هناك قولاً آخر لـ ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك وللمزني تلميذ الإمام الشافعي ولكثير من فقهاء الشافعية البغداديين والقرويين وغيرهم، ولجماعة من الأئمة المتقدمين، ولجماعة من الأئمة المعاصرين كالشيخ محمد رشيد رضا وغيره، أن الخمر طاهر بذاته وليس بنجس.
ومن خلال النظر في الأدلة يبدو أن القول بطهارة الخمر قول فيه قوة، وكأن الأدلة على نجاسة الخمر لا يمكن أن تثبت بحيث لا تجد دليلاً صريحاً بأنها نجس، فهنا قد يجد الإنسان أنه بإمكانه أن يخالف؛ لكن في مسائل محدودة، وإلا فالأصل أن يحاول أن يتمسك بقول الجمهور.
وأقول لكم: من خلال ملاحظتي أن الإنسان إذا تأمل -المهم ألا يستعجل بالأخذ بظاهر النص- إذا تأمل يجد لقول الجمهور متانة أحياناً، ولعلي أضرب لكم مثالاً واجهته في حياتي: حين تلقيت بعض المسائل على شيوخنا كنت أسمع بعضهم يقول: إن الإنسان المستيقظ من نوم الليل يجب عليه أن يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء، في الماء، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا أستيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده} وهذا دليل يدل على تحريم غمس اليد، كنا نتابع شيوخنا أو بعض شيوخنا في هذه المسألة لكن لما تسنى لي وبحثت المسألة ونظرت في أقوال العلماء القدماء والمعاصرين وجدت أولاً: أن الجمهور على أنه لا يجب ولكن يستحب له، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وهو أيضاً رواية في مذهب الإمام أحمد، ورجحه عدد من علمائنا المعاصرين.
نظرت في الدليل الذي يستدلون به على وجوب غسل اليد وهو قوله: {فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثاً} فوجدت أن هناك أشياء كثيرة يمكن أن تصرف هذا الدليل عن القول بالوجوب وجوب الغسل إلى الاستحباب فقط، مثلاً قوله: {حتى يغسلها ثلاثاً} لو قلنا بالوجوب؛ لكان معنى ذلك يجب أن نغسلها ثلاث مرات؛ لأن هذا نص الحديث ولا أحد يقول بهذا، الذين يقولون بالوجوب يقولون يغسلها ولو مرة، إذاً التقييد بثلاث دليل على أنه لا يجب ويستحب أن يغسلها ثلاثاً.
كذلك التعليل في قوله: {فإن أحدكم لا يدري} فمثلاً الآن، لو كان على يد الإنسان نجاسة يشاهدها بعينه وغسلها مرة واحدة فزالت النجاسة، هل يجب غسلها مرة ثانية؟ لا يجب، المقصود أن تزول النجاسة، فلو غسلها مرة واحدة فزالت النجاسة؛ فلا يجب أن يغسلها مرة أخرى، يغسلها تنظيفاً واطمئناناً حسن، لكن لا يجب، فمن باب الأولى إذا لم يكن هناك نجاسة متيقنة أنه لا يجب عليه ذلك.
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم: {فلا يغمس يده في الإناء} مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خيشومه} ولا أحد يقول بوجوب الاستنثار عند الاستيقاظ من نوم الليل إلا ابن حزم، ولا دليل له؛ لأنه حتى هذا الحديث ورد {إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فتوضأ فليستنثر ثلاثاً} فيكون الأمر إذاً على الاستحباب لا على الإيجاب.
هذا مثال، وأحياناً الإنسان إذا تأمل يجد أن قول الجمهور له قوة ووجاهة، بشرط أن لا ينحل كثيراً إلى ظاهر النص ويتجاهل نصوصاً وقرائن أخرى.
وهناك نقطة أخرى أشارة إليها السؤال فيما يتعلق بالتفريق بين الاتباع والتقليد.
الاتباع هو: أن تسأل العالم عن الحكم والدليل.
والتقليد هو: أن تسأله عن الحكم دون الدليل، وتقلده بغير حجة.
وهذا الفرق يوجد أحياناً، لكنه غير مضطرد، بمعنى أنه: قد يوجد -أحياناً- إنسان ليس طالب علم متمكن يستطيع أن يفهم هذا المسألة، ولا هو أيضاً عامي بحت، لكنه بين بين.
يعني عنده اهتمام وعنده مطالعات، فيفهم الأدلة إجمالاً وإذا فُهِمَ فَهِمَ، فهذا نقول له: نعم، الأولى أن يسأل العالم عن المسألة وعن دليلها، أما العامي البحت فلا نطالبه بالسؤال عن الدليل للتعليل السابق.(119/26)
متى يكون الخلاف رحمة
السؤال
محاولة ربط الشباب الحديث غير الصحيح الذي يقول: {اختلاف أمتي رحمة} بموضوع المحاضرة، وكلهم يحاول أن يربط بشكل أو بآخر، والمطلوب تعليق عن هل فعلاً هناك ربط أم أن الموضوعين مختلفان؟
الجواب
أولاً: حديث {اختلاف أمتي رحمة} كما أشار السائل، ذكر أهل العلم أن هذا الحديث لا أصل له، أي: ليس له إسناد لا صحيح ولا حسن ولا حتى ضعيف، ليس له إسناد مطلقاً، ولذلك بعض أهل العلم قال: لعل له إسناد لكنه ضاع، وأعتقد أنه إن ضاع، لا نستطيع أن نتكلم عنه، بمعنى: أن ضاع الإسناد، ضاع المتن معه، فليس للحديث أصل، هذا من ناحية.
أما من حيث المعنى: فإن الحديث يمكن أن يفهم بأكثر من وجه، له وجه صحيح وله وجه آخر غير صحيح، فأما الوجه الصحيح فهو الاختلاف الذي يمكن أن يعبر عنه بأنه اختلاف تنوع، كون الأمة فيها واحد يهتم بالطب، وآخر مهندس، وثالث عالم شرعي، ورابع أستاذ، وخامس مسئول في مجال وهكذا، اختلاف في الميادين العملية في المجالات التي يخدمون من خلالها، فهذا لا شك أنه رحمة.
وهناك أيضاً اختلاف آخر، لا يمكن أن يوصف بأنه شر وعذاب؛ وهو الاختلاف المبني على أسباب صحيحة، مثل الاختلاف في قضية فقهية بحسب اختلاف الأدلة، فأنا -مثلاً- أقول في المسألة قولاً وأنت تقول قولاً آخر، وكل واحد منا عنده دليل، هذا الخلاف -كما أسلفت- لا بأس به، ولا ينبغي أن نضيق به ذرعاً، وليس شراً كله، بل قد يكون فيه خير وتوسعة على الأمة وتحصيل لمصالح متشابكة.
وأما الاختلاف الذي هو اختلاف تضاد وتطاحن وتناقض، بحيث أن الإنسان يهدم ما يبنيه الآخر؛ فهذا لا شك أنه عذاب، وكذلك الاختلاف في أمور أدلتها واضحة وصحيحة وبينه، فإن هذا الاختلاف شر، وينبغي العمل على تلافيه بقدر ما يمكن.(119/27)
أحاديث غير عابرة
بدأ الشيخ حفظه الله بالكلام حول واقع الأمة الإسلامية اليوم، وعن أهمية الدين في الصراعات العالمية اليوم، ثم تكلم عن الوعي الموجود في أوساط المسلمين، وتحدث بعد ذلك عن ذكاء خطط المنافقين، وعن مبدأ احترام القوة، وعرج بعد ذلك على ذكر بعض جراحات الأمة، وتلا ذلك بالكلام حول العودة إلى الذات والتوبة ومحاسبة النفس، ثم وقف مع جريدة الندوة وذكر عليها بعض الملاحظات، وتكلم بعدها عن أهداف العلمانيين من التشهير بالدعاة، وقرأ رسالة موحية أرسلها إليه أحد الشباب المسلمين الدارسين في أمريكا، وختم المحاضرة بعد ذلك بقراءة بعض الأوراق المتفرقة.(120/1)
دمعة على الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرًا.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] .
أما بعد:- عباد الله: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، هذا المجلس (82) من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين (20/جمادي الثانية/1413هـ) ، وعنوان هذه الجلسة: "أحاديث غير عابرة ".
إن المتتبع لأخبار المسلمين في هذه الأيام، يكاد يمرض من هول ما يسمع، ففي كل بلد نكبة، وفي كل زاوية مصيبة، وفي كل بيت مأتم ونياحة، ومع أننا لا نملك دموعنا، ولا ندارى أحزاننا، إلا أن ثقتنا بالله عز وجل وإيماننا بوعده الصادق، الذي لا يتخلف أكبر من تلك المصائب والآلام.
ولهذا يتفجر الأمل والثقة بما عند الله تعالى، من عمق المعاناة وقلبها، ففي الهند هدم الهندوس المسجد البابري، الذي كان من عهد المغول، وعمره أكثر من أربعمائة وخمسين سنة، كان طيلة هذه الأزمنة مكاناً للعبادة والصلاة والذكر وقراءة القرآن، وكم شهدت أرضه من مصلِّ وساجد، وباك بين يدي الله تعالى! وإذا به في هذا الزمن يسلط عليه أولئك المتوحشون من الهندوس، فينقضون عليه بمئات الألوف بأيديهم الفئوس والمعاول حتى سووه بالتراب، ليس هذا فحسب، بل ويقتل في أنحاء الهند ما يزيد على ألف قتيل، معظمهم من المسلمين، بسبب ما يسمونه بأعمال العنف، من الهندوس وغيرهم.
إنها مصيبة وكارثة، ولكن في عمق هذه الكارثة بشائر اللطف الرباني من الله عز وجل، والدروس المهمة التي تتجلى من خلال هذه الوقفات.(120/2)
احترام القوة
إن الحكومة الهندية لم تفعل شيئاً إزاء ثلاثمائة ألف هندوسي قاموا بهدم المسجد، بل وقفت متفرجة، وقال رئيس الحكومة: إنني قد بعثت بقوات إلى تلك المدينة، ولكن محافظ المدينة منع القوات من التدخل، وقام المسلمون يعربون عن غضبهم، فتصدت لهم قوات الأمن، وضربتهم وقتلت منهم من قتلت.
أثخنوهم بالجراح ثم قالوا لا تصيحوا إن في هذا الصباح بعض ما يبغي الجريح ووعدهم بأن يعيدوا بناء المسجد من جديد.
إن بعض الإجراءات التي عملتها حكومة الهند، لا تعدو أن تكون مدارةً للغضب الإسلامي المتزايد، وخوفا من أن تنجر منطقة الهند بأكملها، إلى أنواع وألوان من العنف المتبادل، بين الهندوس والمسلمين، وبقية الطوائف الأخرى.
العالم اليوم يحترم القوة، وهو لا يؤمن بمبادئ السلام والعدل والإخاء والإنسانية، وإنما يتبجح بهذه الكلمات ليخدر بها مشاعر البسطاء والسذج من المسلمين، وإلا فالعالم اليوم يحترم القوة، ومنطق العالم هو منطق السباع: ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها هذا أحد الجراح.(120/3)
ذكاء خطط المنافقين
الوقفة الثالثة: ذكاء خطط المنافقين، الذين أدركوا كيف يعبثون بالمسلمين، وعرفوا من أين تؤكل الكتف، فهم يحافظون على الشكل، ويسرقون اللب والمضمون، فهم يدركون مثلاً أن هدم مسجد يثير مشاعر البسطاء من المسلمين، ويحركهم ويزعجهم ويغضبهم.
ولهذا قد لا يتعرضون للمساجد، بل ربما حموها وحفظوها، وحافظوا عليها لسبب أو لآخر، حتى إن منهم من يحافظ عليها بحجة أنها جزء من التراث، أو معالم سياحية يتردد عليها الناس، حتى يكون من جراء ذلك تنمية وتقوية للدخل، ولاقتصاد البلاد، وقد يحافظون عليها من منطلق حماية مشاعر المسلمين، أو لغرض آخر.
ولكن -نحن جميعاً- ندرك أن هدم مسجد، بل هدم عشرات المساجد، على خطورته أنه مما يُغضب الله تعالى، والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] وهدم المساجد خطير، ولكن قتل مسلم واحد أخطر وأعظم.
لأن هذا المسلم هو الذي به إحياء المساجد، وعمارتها، وذكر الله تعالى فيها، والمساجد إنما أقيمت ليذكر الله فيها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] .
فهؤلاء الرجال أهم من المساجد، وأعظم حرمة عند الله تعالى منها، ولكننا نجد المسلمين اليوم يغضبون لهدم مسجد، أكثر مما يغضبون لا أقول لقتل مسلم، بل لقتل عشرات، ومئات، وألوف، وعشرات الألوف من المسلمين، في كل مكان، وهذا يدلك على عمق المكر اليهودي، والنصراني ضد الإسلام، الذي يتجنب الأشياء التي تثير مشاعر المسلمين ويتجه إلى تلك الأشياء التي تكون أقل إثارة، وأكثر فاعليه، وأعظم جدوى.
بل إنني أقول: إن فتنة مسلم واحد عن دينه، وإخراجه عن الإسلام إلى الكفر والشرك والوثنية، أو إلى النصرانية، أو إلى اليهودية، أو إلى اللادينية والعلمانية، إن فتنة مسلم واحد عن دينه، هي أعظم عند الله تعالى بكثير من قتله، كما قال الله عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] .
وقال في الآية الأخرى، وكلا الآيتين في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] .
إن هذا المسلم القتيل قد يكون ولياً لله تعالى، فيكون قتله تعجيلاً له إلى {جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] لكن هذا المسلم الذي ظل حياً بجسده، ولكنه ميت بقلبه، لا روح فيه، ولا إيمان، ولا تقوى، ولا دين، ولا توحيد، ولا شهادة أن لا إله إلا الله، ولا شهادة أن محمداً رسول الله، لا شك أن موته خير له من الحياة.
إن سلب إيمانه، الذي به عزته وكرامته ونجاته في الدنيا، وفي الآخرة، وفتنة المسلم عن دينه أعظم بكثير من قتله، وكم من المسلمين يفتنون اليوم عن دينهم، بالتكفير، والتنصير، والتضليل، والتجهيل، وغير ذلك.
إننا يجب أن نغضب لهدم مسجد في الهند وفي أي مكان، خاصة إذا تصورنا أن هدم هذا المسجد بالهند، قد يترتب عليه هدم مساجد أخرى، وقد أعلنت صحيفة هندوسية.
أن هدم هذا المسجد تمهيد لهدم ما يزيد على ثلاثمائة وسبعة وخمسين مسجداً آخر في الهند، فيجب أن نغضب لهدم هذا المسجد، لكننا يجب أن نغضب أكثر وأكثر، لهدم هذه الأجساد، التي تذكر الله تعالى، وتسبحه وتصلي له وتشهد له بالوحدانية في كل مكان.
ينبغي أن نغضب لقتل المسلمين في كل مكان وإبادتهم، وينبغي أن نغضب أكثر من هذا ومن ذاك، لفتنة المسلمين عن دينهم، بإتاحة سبل الفساد لهم، وتحريضهم على الجريمة، ودعوتهم إلى التنصير، ومحاولة سلخهم عن دينهم، بكافة الوسائل، ذلك الموضوع الكبير الخطير الذي طالما تحدثت عنه، وتحدث عنه غيري.
إنه ليس من العدل، ولا من الغيرة على دين الله تعالى، أن نهون الأمر بالنسبة للمسلمين، وأن نقول لهم: اطمئنوا، ناموا قريري العيون، فدينكم في أمان والمسلمون كلهم بخير! كلا إن المسلمين اليوم يتعرضون لعملية مسخ لعقولهم وقلوبهم، وإخراج لهم عن دينهم في كل مكان.
وقد اطلعت هذا اليوم ببالغ الأسف، على خبر يقول لي فيه أحد الإخوة من بلاد الغرب: جاءنا في المركز رجل بريطاني نصراني، يريد أن يتعلم العربية، فسألناه لماذا؟ قال: فتلكأ بعض الشيء، ثم دخلنا معه فإذا به يبوح لنا بالسر الدفين، إنني صديق لفتاة من دولة خليجية محافظة، واسم هذه الفتاة (م.
ش) وقد تمكنت من دعوتها إلى النصرانية، وتنصرت، واتفقت معها على الزواج، وأن يعقد الزواج في كنيسة في بريطانيا، في ظل موافقة عائلية، ولكن حالت بعض الظروف دون ذلك، ولا زالت المراسلات جارية، ونحن بصدد التأثير على أخواتها الباقيات، وهناك نتائج إيجابية في هذا السبيل.
إذاً: لا يجوز أبداً أن نتهاون بخطط أعداء الإسلام، في إخراج المسلمين عن دينهم، سواء أخرجوه إلى النصرانية، أو أخرجوه إلى الإباحية واللادينية والعلمنة، أو أخرجوه إلى المادية والاهتمام بالدنيا والغفلة عن الآخرة، والله تعالى وصف الكافرين بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.(120/4)
أهمية الدين في الصراعات العالمية
أولاً: لابد أن ندرك أهمية الدين في الصراعات العالمية اليوم، وأن ندرك أثره في الأحداث التي تقع في كل مكان.
إن العالم كله اليوم، يعيش فترة استقطاب ديني على كافة المستويات، في جميع الدول، فليست الصحوة فقط بين المسلمين، بل إن النصارى يشهدون صحوة قوية في كل العالم النصراني، وهناك جماعات إنجيلية، وجماعات أصولية نصرانية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وفي بلاد الروس، وفي غيرها، تتمسك بالنصوص الحرفية لأناجيلها وكتبها.
وكذلك في شأن اليهود، فإن هناك جماعات يهودية كثيرة، تتمسك بحرفية نصوصها، التي تزعم أنها مقدسة، وتتحمس وتتعصب لدينها، وتطالب بالقضاء على المسلمين، وتحقيق ما يسمى بدولة إسرائيل الكبرى، بل يقول أحد كبار المسئولين في إسرائيل: إن أكثر الأحزاب الموجودة في التحالف القائم اليوم، أو التكتل القائم، إن أكثر تلك الأحزاب حمائمية وتساهلاً، لا يمكن أن ترضى بتسليم الأرض إلى المسلمين، التي احتلها اليهود.
وهكذا الحال بالنسبة لأهل البدع، فإن جميع أهل البدع يوجد عندهم تعصب لدينهم اليوم، وإقبال على إحياء بدعهم؛ فلو نظرت إلى أحوال الرافضة، سواء في بلاد إيران، أو في العراق، أو في مناطق الخليج العربي كلها، وبدون استثناء، لوجدت أنهم قد تحمسوا لدينهم، وتعصبوا لبدعتهم، وبدءوا يعودون من جديد إلى الدعوة إليها، وتربية أولادهم وبناتهم عليها، والاجتماع على ضوئها، والمطالبة بالاعتراف بها إلى غير ذلك.
ولو نظرنا إلى الإباضية، سواء في عمان، أو في الجزائر، أو في ليبيا أو في غيرها، من المناطق التي توجد فيها الأقلية الإباضية، وهم فئة أقرب ما يكونون إلى الخوارج، وإن كانوا يختلفون معهم في بعض جوانب الاعتقاد، لوجدنا أن هؤلاء تحمسوا من جديد وعادوا، وبدءوا يطبعون كتبهم، ويحيون تراثهم، ويقيمون الدروس والأعمال العلمية، ويحاربون كل من يخالفهم في ذلك.
وإذا نظرنا إلى الأمة الإسلامية، وأهل السنة لوجدنا -بحمد الله- أن الله تعالى أنعم عليهم، هم الآخرين، بنعمة عودتهم إلى الدين، وانتشار الصحوة الإسلامية في أوساطهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، وهذه نعمة من الله تعالى نحمده سبحانه عليها.
المهم أن قضية الدين اليوم، أصبحت قضية ذات أهمية كبرى، في الأحداث التي تجرى في العالم كله، ومن المحال أن يقبل المسلمون بتلك الدعوات التي تدعو إلى أن يعودوا علمانيين، وأن يتخلوا عن ولائهم للإسلام، وأن يتخلوا عن هذا التوحيد الذي ميزهم الله تعالى به، كيف والقرآن الكريم يدعوهم أن يعبدوا الله تعالى وحده، لا يشركوا به شيئا؟! كيف وهم يرون أن أهل الضلال تحمسوا لضلالهم، وأهل الكفر تحمسوا لكفرهم؟! فكيف يطالب أهل التوحيد، وأهل الإيمان، وأهل السنة بأن يتخلوا عن الحق الذي ائتمنوا عليه؟! ليكونوا علمانيين، يرضون بفصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الإعلام، وفصل الدين عن الفن، وفصل الدين عن الأخلاق، وفصل الدين عن أمور المجتمع، ليكون الدين علاقة بين العبد وربه، تختصر في الصلوات وفي المساجد وحسب.
إن هذا ما كان ولن يكون، فإن الله تعالى أنزل كتابه مهيمناً على كل شيء، وأنكر وعتب على أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض الكتاب، فقال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] .(120/5)
تزايد الوعي في صفوف المسلمين
الدرس الثاني: تزايد الوعي الإسلامي، في صفوف المسلمين وغلبة الإسلام على رغم الكيد المدبر له.
إننا نعلم أيها الإخوة، أن اليهود قاموا بحرق جزء من المسجد الأقصى، قبل بضع سنوات، وكانت جميع الدول العربية والإسلامية وقتها في حالة عداء معلن مع اليهود، على أقل تقدير، وكانت ترغب أن تثور ثائرة الشعوب الإسلامية، ضد هذا العمل اليهودي المجرم المتجني.
ولكن مع ذلك كله كان رد الفعل الإسلامي، مع أنه تعرض للمسجد الأقصى، الذي بارك الله تعالى حوله، وذكره في كتابه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن: {الصلاة فيه بخمسمائة صلاة} كما في الأحاديث.
ومع أنه مسجد تاريخي، مع ذلك كانت ردود الفعل الإسلامية لا تعدو أن تكون مظاهرات، وصخب إعلامي، وربما كانت الحكومات وراءه في الأعم الأغلب، ثم هدأ الأمر، وانتهى كل شيء.
أما اليوم فمع أن الهجوم الهندوسي هو لمسجد لا يحمل قداسة خاصة عن غيره من المساجد، إلا أنه مسجد تاريخي، ومع ذلك فقد وجدنا أن المسلمين قد غضبوا لذلك غضباً شديداً، وثارت ثائرتهم، وسارت المظاهرات في الشوارع، في طول العالم الإسلامي وعرضه، وقامت الاضرابات في كل بلد، حتى تعطلت الموانئ في الهند وغيرها، وتكدست البضائع، ولم تجد من يحملها، ووقف المسلمون عن العمل، خاصة من الهنود في بلاد شتى.
بل وهدمت معابد الهندوس في الهند، وفي باكستان، بل وفي لندن وفي برمنجهام وفي غيرها من بلاد العالم الغربي، غضباً للإسلام.
بل إنني أعلم أن هناك أعداداً من الشركات والمؤسسات الإسلامية ورجال الأعمال والمسئولين في منطقة الخليج العربي، وفي غيرها قاموا بتسريح عشرات، بل مئات، بل ألوف من العمال الهندوس، الذين كانوا تحت كفالتهم، تعاطفاً مع إخوانهم المسلمين، وغضبا لله تعالى ورسوله، وهذه على كل حال، نعمة نحمد الله تعالى عليها.
ونقول: إن هذه ظاهرة إيجابية في الجملة، بغض النظر عن الأساليب، التي عبر بها المسلمون عن سخطهم، وبغض النظر عن تحفظات أخرى، سوف أتحدث عنها، إلا أن مجرد هذه الظواهر وردود الفعل القوية، يدل على أن المسلمين يوجد في قلوبهم إيمان، ويوجد عندهم غضب للدين، وتوجد عندهم غيره، متى شعروا بأن دينهم مستهدف، وأن مقدساتهم محل نظر من أعدائهم.(120/6)
الجرح الدامي في الصومال
أما الجرح الثاني: ففي الصومال حيث تدخلت أمريكا، وأذلت المسلمين أيما إذلال، حتى أعرب بعض الغربيين الكفار، عن امتعاضهم من الطريقة التي يعامل الجنود الأمريكان فيها المسلمين هناك، إذ أنهم بمجرد أن يروا مسلماً يطلبون منه أن ينبطح على الأرض، دون أن يحرك ساكناً، وفي حالة إذا ما تردد، أو توقف أو تباطأ، فإن الأسلحة تصوب إليه، ليفعل تحت وطأة التهديد بالسلاح، ويجر المسلمين جراً، كما كان يفعل بأهل الكتاب، ويعاملون بذلة وصغار.
بل إن من العجائب أنه وزع على الجنود الأمريكان كتاب من ثمان عشرة صفحة، يعلمهم كيف يتعاملون مع الصوماليين، ومن ضمن هذه التعليمات، يقول: إياك أن تقبل الفتاة الصومالية.
الله أكبر ما أرخص أعراض المسلمين اليوم! فقد أصبحت بنات المسلمين في كل مكان، عرضة لاعتداء جنود الكفار عليهن بكل سهولة، وقد كان بإمكان ألفي جندي فرنسي موجودين في جيبوتي، حماية قوافل الإغاثة الموجودة في الصومال.
وكما يقول أحد النصارى في جريدة الحياة، ولولا أن المقصود ترتيب الوضع في القرن الإفريقي كله، وحمايته والمحافظة على المكاسب الغربية في أثيوبيا وفي غيرها، وتحجيم دور الإسلام في إفريقيا كلها، بل القضاء على الإسلام فيها، لولا أن هذا هو المقصود، لم يكن ثمة حاجة بالدفع بأكثر من ثلاثين ألف جندي أمريكي إلى هناك.
وقد أعلن الرئيس الأمريكي السابق، أنه يتراجع عن المدة التي حددها، وقال: إن ستة أشهر سبق أن أٌعلِنتْ غير كافية لتواجد الجنود الأمريكان في الصومال، إن هذا يذكرنا بكلمة سبق أن سمعناها، وهي أن النصارى يريدون أن تكون إفريقيا قارة نصرانية في عام (2000م) .
وكنت أتعجب من ذلك! وأقول كيف يقولون هذا وهم يرون أن النصرانية تزحف ببطء، وأن الإسلام أسرع منها وأقوى؟! فالإسلام يكتسح القبائل الوثنية، وهم يدخلون بحمد الله في الإسلام أفواجاً، فكيف يظنون هم أنهم سيحولون إفريقيا إلى قارة نصرانية عام (2000م) ؟! أما اليوم فكأن الأمر بدأ يتضح بعض الشيء.(120/7)
المبشرات في أرض الصومال
ثم إن من المبشرات أن السفير الأمريكي في كينيا حذَّر قومه من هذا العمل ومغبته، وقال: إن هذا تورط، وانتقد التسرع الذي فعلوه، وقال: إنكم قد دخلتم في عش الزنابير، وإذا كنتم أحببتم بيروت فسوف تعشقون مقديشو، يذكرهم بما جرى لقوات المارينز في بيروت، حينما فُجِّرَ مقهى وقتل أكثر من مائتين وستين جندي، ويقول لهم: ما جرى في بيروت سوف يجرى لكم أكثر منه في مناطق الصومال.
وهناك جماعات إسلامية مثل الاتحاد الإسلامي، وكذلك هناك جمهورية الصومال، التي استقلت وأعلنت استقلالها حديثاً، وغيرها من الأطراف قد أعلنت رفضها للتدخل الغربي، وأنها سوف تواجههم.
ونحن نسأل الله تعالى أن يصدق ظن هذا السفير في إخواننا المسلمين في الصومال، وأن لا تمر هذه المؤامرة الكبيرة على المسلمين بسلام، فإن أعداء الإسلام قد جربوا منا الذل والصغار، ورأوا أن جميع أمم الأرض تدافع عن نفسها، وتدافع من منطلقات وطنية، ومن منطلقات عرقية، ومن منطلقات قومية أو قبلية أحياناً، كما حصل في فيتنام وفي غيرها.
أما المسلمون فقد جرب العدو معهم أنهم مستسلمون، وأنهم لا يدافعون عن أنفسهم، لا نتيجة غيرة دينية، ولا نتيجة نخوة وطنية، فنسأل الله تعالى أن يرينا في هؤلاء الظالمين عجائب قدرته، ونسأل الله أن يسلط عليهم من جنده، إنه على كل شئ قدير.
ومن المبشرات أيضاً: ذلك الحشد العالمي والعربي، الذي سعت الأمم المتحدة إلى أن يساهم في القضية، ولو بصورة شكلية رمزية، فإن القوى الدولية والعربية التي شاركت هي قوى رمزية، لمجرد إشعار المسلمين أن العملية ليست احتلالاً أمريكياً للصومال، وإنما هي قضية دولية تشترك فيها دول كثيرة، وأن الذي يواجهها يواجه العالم بأكمله.
وهذا يؤكد أنهم يخافون اليوم من انفجار المسلمين، ومن وقوف المسلمين ضد هذه الأعمال التي تستهدف استقلالهم، وتستهدف إيمانهم، وتستهدف قوتهم، وتستهدف تحكيمهم بشريعة الله عز وجل.
وإن من الأشياء التي نعتبرها من المبشرات أيضاً العودة إلى الاستعمار المكشوف اليوم، والوصاية المباشرة، فإن ذلك وهو يقع فعلاً في أكثر من مكان، يوحي بأن الغرب أدرك فشل الخطط السابقة التي تعتمد على وجود وكلاء وأوصياء، يقومون بالمهمة عنه.
فالغرب اليوم لم يعد يثق بحلفائه الأصليين وهذه -أعني التدخل الغربي المباشر في مناطق الإسلام فقط، دون غيرها من المناطق العالمية- هي أحد الأسباب التي نظن بإذن الله تعالى، أنها سوف تؤجج مشاعر المسلمين، وتحرك فيهم روح العداء للغربي الكافر، وتجعلهم يدركون أنه لا ثقة بأعداء الله تعالى، مهما أرضونا بمعسول القول، ومهما خدعونا بعبارات الإنسانية، ومهما ادعوا أنهم علمانيون، وأنهم ديمقراطيون، وأنهم لا يتحركون لدين، إلا أن الواقع أنه لا ثقة بأعداء الله تعالى، طال الزمن أم قصر.(120/8)
أهداف أمريكا في الصومال
إن تحويل إفريقيا إلى قارة نصرانية، كما يريدون ويرغبون، لا يلزم منه أن تتحول الشعوب كلها إلى شعوب نصرانية، بل يكفيهم أن تكون الحكومات نصرانية، وأن يكون عندهم هيمنة على إفريقيا، وأن يكون هناك نوع من الوصاية، والحماية الغربية على إفريقيا.
فإن هذا يعني في مقاييسهم أن تكون إفريقيا قارة مسيحية، أما وجود مجموعات من القبائل المسلمة، أو شعوب مستضعفة لا تملك من أمرها شيئاً، فإن هذا لا يشكل عندهم خطراً يذكر.
لقد قلت في محاضرةٍ سابقة: إن الخطر لا يتهدد الصومال وحدها، بل يتهدد الجيران كلهم، والقرن الإفريقي، بل ما وراء ذلك، وقد بدأت بوادر ذلك تظهر.
فقد أعلنت الأمم المتحدة عن إدانة لحقوق الإنسان في السودان، وأنتم تعرفون لماذا يدان السودان؟ لأن الذين وقع عليهم الظلم كما يدعون، هم النصارى في الجنوب، الذين حاربهم المسلمون وانتصروا عليهم، فثارت ثائرة الغرب، ووقف إلى جانبهم وتدخل، وأحد أهدافه دعم النصارى في الجنوب، وإعادة ترتيب الأوراق من جديد.
كما إنني ذكرت من قبل قضية اليمن، وقد كنا نسمع عن تصعيد الأوضاع في اليمن، ووجود عدد من ألوان التفجيرات الأمنية، التي نسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرها.
في هذا القطر الإسلامي العريض، الذي يوجد فيه اليوم صحوة إسلامية عارمة، ويوجد فيه دعوة إلى الله تعالى، ويوجد فيه علماء مخلصون، ويوجد فيه دعاة غيورون، وتوجد فيه مراكز ونشاطات إسلامية، عمل أعداء الإسلام من العلمانيين وبقايا الشيوعيين على إزالتها، فألغوا المعاهد العلمية التي كانت تخرج طلاب العلم والدعاة والمصلحين، وكانت من مراكز الإشعاع والتعليم، وفرضوا التضييق والحصار على أهل الدعوة، وحاولوا أن يماطلوا ويسوفوا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وقاموا ببعض الأعمال الإرهابية، ونسبوا إلى المسلمين جرائم هم منها أبرياء.
كل ذلك في محاولة لإغراق هذا البلد في بحر من الدماء، والحيلولة دون أن يحكم هذا البلد العريق بالإسلام، ونحن على وعد من النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: {الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية} ويقول عليه الصلاة والسلام: {أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة} .
وفي قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال: {هم هذا وقومه} أي أن أهل اليمن ممن يعودون إلى الإسلام إذا خرج الناس منه، ويحيونه إذا اندرس، ويعملون بالسنة إذا تركها الناس، ويقومون بالجهاد إذا غفل عنه الغافلون.
فنحن على أمل كبير، وثقة بوعد الله تعالى، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يكفي الله تعالى هذا البلد العريق، شر الأشرار من المنافقين الموجودين في داخله، أو من أعداء الإسلام الذين قد يتناوشونه من الخارج.
إن مما يثير الأسى أن يجتمع الطرفان المتحاربان في الصومال بوساطة أمريكية، وأن يتصافحا بعد سنة من القطيعة والحرب، وأن يصدرا بياناً مشتركاً لإيقاف الحرب، وإزالة الخطوط الفاصلة بينهما.
بل أن يقوموا بدعوة الغرب إلى أن ينزع السلاح من المتحاربين في الصومال كلها، إن هذا يؤكد على دور العلمانيين في بلاد الإسلام، وأنهم دائماً وأبداً ضد مصالح البلاد وضد استقلالها وضد اجتماعها على الخير، فهم بالأمس يتحاربون ويتقاتلون، وكل الأطراف المتحاربة من العلمانيين، ويتقاتلون بدعم من إيطاليا ومن الغرب.
أما اليوم فهم يجتمعون -أيضاً- في ظل وساطة أمريكية، ويوحدون صفهم، ويعطون العدو الخارجي مبرراً ومسوغاً وسنداً للتدخل، حيث يطلبون منه التدخل والبقاء، وأن يقوم بنزع السلاح من المتحاربين.
وإن مما يؤسف أيضاً، أن يجتمع في كينيا أكثر من أربعين ممثل عن جمعيات صومالية، وقبائل وغيرها، وأن يستقبلوا السفير الإسرائيلي هناك، ليلقي عليهم كلمة، ويتحدث عن أن أمن الصومال مرتبط بأمن إسرائيل، وأن إسرائيل لا يتحقق أمنها إلا باستقرار القرن الإفريقي، والقضاء على بوادر الإسلام فيه، وأن أي فئة تدعو إلى الإسلام ولو كانت قليلة العدد، ضعيفة العُدد، ولو كانت في الصومال، فإنها تخيف اليهود والنصارى، وتثير الرعب في قلوبهم.(120/9)
الجرح الدامي في مصر
أما الجرح الثالث: ففي مصر، حيث سُنَّ قانون مكافحة الإرهاب، وباسم هذا القانون قتل آلاف من الشباب المسلم في الشوارع، دون تحقيق أو إدانة، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا بذلك لمحزونون، حين نرى شباباً في سن السادسة عشرة، وفي سن السابعة عشرة والعشرين، يطلق عليهم الرصاص، فيردون قتلى دون أن يسأل عنهم أحد، وفي حي أمبابة في القاهرة، جندوا أكثر من عشرين ألف شرطي، بقيادة أكثر من ألفي ضابط لتمشيط هذا الحي، هذا في حي واحد فقط، يقولون: إنه مركز الأصوليين والمتطرفين والإرهابيين.
ماذا يفعل هؤلاء الأصوليون؟ ما هي جريمتهم؟ قالوا: أحرقوا سبعة محلات للفيديو، ولو أحرقت محلات الفيديو في إسرائيل أوفي أمريكا أو في فرنسا، هل كان جزاؤهم أن يجند عشرون ألف جندي لتمشيط هذا الحي، ثم يعتقل حسب الإحصائيات الرسمية أكثر من ستمائة إنسان؟! وإذا كان الاعتراف الرسمي يقول ستمائة، هذا فقط في هذا الحي فضلاً عن ألف ومائتين قبله بأيام، فمعنى ذلك أن السجون قد امتلأت، ولابد أن الحكومة جادة في طلب الإعانات من دول مختلفة، لبناء سجون جديدة لمزيد من الشباب المسلم هناك.
وقاموا بتمشيط من قبل في مدنٍ كثيرة في الصعيد، وحاصروا مساجد بأكملها، وكانوا يأتون إلى المسلمين وهم في صلاة الجمعة، فيكدرون عليهم صفو عبادتهم، ليأخذوا من بينهم أعداداً من الشباب بحجة التحقيق معهم، ومن ذا الذي سوف يسأل أجهزة الأمن، بأي ذنب قتل هؤلاء؟! وبأي ذنب اعتقلوا؟! وعلى أي قضية أوقفوا؟! إنه لا أحد يسألهم.(120/10)
خطر الإعلام في تشويه الحقائق
وإنني أريد أن أقول: إن الإعلام اليوم العالمي والعربي يكذب ويكذب، وشعاره يقول: اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، إنهم يدركون أن تكرار الكذب ونشره في الجريدة، ثم في الإذاعة، ثم في التلفاز، ثم في الكتاب، ثم عبر الأخبار، وتكريره أن من شأن ذلك أن يوجد تراكمات في عقول الناس، تصدق ما يقال.
ولكنني أقول: الحذر الحذر أيها الإخوة مما يروج إعلامياً، إن من الأمثلة الواضحة مثلاً، أن يتهم الدعاة بأنهم على صله بإيران، وهذا كذب صريح، فإن دعاة الإسلام في مصر وفي غيرها، لا علاقة لهم بإيران، وهم من أهل السنة وغالبيتهم يحاربون الرافضة حرباً لا هوادة فيها، وإنما يتهمون بأنهم عملاء لإيران، لغرض أو لآخر.
ولعل من الطرائف أنه قبض على اثنين في الأردن، بتهم شتى، منها أنهم عملاء لإيران.
وقام رجل وأدلى بشهادته قائلاًَ: إنني كنت وسيطاً في نقل بعض الأموال من إيران إلى هؤلاء، وبعد أيام إذا بهذا الشاهد يرسل إلى جريدة خضراء الدمن "الشرق الأوسط" مقالاً يقول فيه: إن شهادتي كذب وزور، وإنني أدليت بهذه الشهادة في ظل ضغوط معينة، والأمر مختلق لا أساس له، فكشف الله تعالى كذبهم وزيفهم، وبين باطلهم، حتى يعتبر الناس ويدركوا أن ما يسمى الآن بالأصولية، وهي في الحقيقة الدعوة إلى الإسلام، والعودة إليه، والصحوة أصبحت خطراً عالمياً يهدد الغرب، وإسرائيل، يهدد الدول والأنظمة العلمانية في جميع البلاد.
ولذلك تحالف هؤلاء جميعاً، بل ويهدد العلمانيين، الذين يمسكون بأزمة الصحف، ووسائل الإعلام في كل مكان.
ولأن هؤلاء جميعاً شركاء في العداوة لهذا الإسلام، أو لهذه الصحوة، أو الأصولية، أو التطرف أوالتشدد، -كما يسمونه ويعبرون عنه- فقد اتفقوا جميعاً على الكذب، وعلى تبادل الأكاذيب في هذا الشأن، وهم يعتبرونها تبادلاً للأخبار والحقائق، فأنا أحذر كل المستمعين من الإعلام في هذا الجانب خاصة، وفي غيره عامة.
وأقول: قد تبين بما لا يدع مجالاً للشك، أن الإعلام يكذب كذباً بواحاً، صراحاً، منظماً، مدروساً، ولا يجد في ذلك غضاضة، فيجب أن نتلقى ما ينقل عبر وسائل الإعلام عن المسلمين، بكثير من الشك والريبة والتردد، بل والرفض، وأن لا نعتمد عليه فيما يتعلق بمثل هذه القضايا.(120/11)
موقف النظام المصري من المتدينين
بل إن النظام هناك قد جند الإعلام والصحف والتلفاز والإذاعة والسينما وغيرها، من أجل تشويه صورة المتدينين، واتهامهم بكل نقيصة، ورسم الكاريكاتيرات التي تصورهم بأبشع الصور.
إن الإنسان يعجز أن يتكلم في مثل هذه الأمور، لأنها أصبحت قضايا لا يفيد فيها مجرد الكلام، وأصبح مجرد صفحة واحدة في جريدة يتفطر لها القلب ألماً، فكيف إذا تصورت أن جهازاً إعلامياً متكاملاً مجنداً لتأييد ما تقوم به الدولة، وتشويه صورة المتدينين والملتحين.
لماذا؟ لأنهم يطالبون بحجاب المرأة مثلاً، أو لأنهم يقولون: إن الصورة حرام، أو لأنهم يطالبون بتحكيم شريعة الله عز وجل، أو لأنهم يحاربون الربا، أو لأنهم يعارضون السلام مع اليهود فيما يسمى بدولة إسرائيل، أو لغير ذلك: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9] .
ثم إنهم جندوا أجهزة الدولة كلها لحرب المسلمين، وتأييد تلك الخطوات، ووأد الأصوات المخالفة، فقد قام أساتذة الجامعات باستنكار ما يجري، وقالوا: إنه تدمير لقوة الدولة وللمجتمع وغير ذلك، ولكن هذه الأصوات توأد في مهدها، ولا يسمح لها بالظهور إلا على استحياء وبصورة قليلة، أما الصوت الظاهر الغالب، فهو ذلك الصوت الذي يؤيد ويبارك تلك الخطوات، سواء داخل مصر أو خارجها.
بل إن العالم الغربي المنادي بحقوق الإنسان، يتحدث عن ذلك بكثير من الارتياح والاغتباط.
بل يتكلمون عن طرد أحد رجال الدعوة الإسلامية في مصر، وزعيم لإحدى الجماعات، وهو الدكتور الشيخ عمر عبد الرحمن، وهو رجل كفيف مقيم في أمريكا، لأنه مطرود من مصر أو هارب بالأصح، فيتكلمون عنه أنه سوف يطرد، لأنه يطرح آراءً مناهضة للسياسة الأمريكية.
ماذا أجدت عشرات السنين من حرب الإسلام في مصر وفي غير مصر؟ ماذا أجدت؟ وماذا نفعت؟ إن الإسلام لم يكن أقوى، ولا أرسخ، ولا أعمق، ولا أعظم منه اليوم في مصر، تعاطف من الشعب، وقوة في التوجه الإسلامي، وصدق، وفي مستوى الجامعات والأطباء والمهندسين، وفي جميع الدوائر وعلى كافة المستويات، يوجد ولاء قوي للإسلام.
إن الشباب الذين يودعون في الزنازين والمعتقلات والسجون، إنهم يهتفون للموت، ويرتلون أناشيد الفداء، ليس عبر مكبرات الصوت، لكن داخل السجون وفي ظل ترقب أحكام الإعدام، وقد صدر في حق ثمانية حكم بالإعدام، ولكن محكمة الاستئناف رفضت هذا الحكم.
وهذا يدل على مدى ما وصل إليه القضاء في مصر من التردي، لأننا نعلم أن رفض هذا الحكم لم يكن بالأمر اليسير، لولا أنهم تجاوزوا كل حد، ولم يقفوا عند مستوى معين، فثارت بذلك بذلك بعض المشاعر ورفض هذا الحكم.
إن تدمير طاقات الأمة بهذه الصورة، جريمة لا ينساها التاريخ أبداً، فإن هؤلاء الشباب هم الذين يعمرون البلاد، وهم الذين ينقلون العلم، وهم الذين يدعون إلى الله تعالى، وهم الذين يعرفون في ميادين الجهاد، وهم الذين تقوم عليهم الأمم والشعوب والحضارات، في كل مكان، وكل أمم الدنيا اليوم، يهودها ونصاراها وكفارها، بل وعبدة البقر يهتمون بشبابهم، ويحتفلون بهم، ويوفرون لهم الخدمات، ويحاولون أن يرفعوهم إلى أعلى المستويات.
أما في بلاد الإسلام فيسلط على شباب الإسلام التجهيل، والتضليل، والرياضة، والفن، والمسلسلات، وحفلات الرقص والغناء، لسلخهم من دينهم.
أما الذين يصرون على التمسك بالإسلام، فتُعد لهم الزنازين والسجون والمعتقلات، ومقاصل الإعدام، فلا حول ولا قوة إلا بالله {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197] قال الله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:56] .
إننا على يقين أن هذه الأمة إذا لم تنتصر لدينها، وتغضب لربها، وتقف في صف دعاة الإسلام، فإنها معرضةٌ لعقاب الله عز وجل.
إننا نتعجب أنه في الوقت الذي يضيق فيه على المؤمنين، يسمح ويمنح النصارى التسهيلات والفرص الوظيفية في مصر وغيرها! ويمكنون من ناصية الاقتصاد، وتقوم أجهزة الأمن بحمايتهم وحراستهم، ويمكن اليهود من العبث باسم السياحة، أوباسم الدراسات والبحوث الميدانية، ويقبض على مجموعات تتجسس لصالح اليهود، فسرعان ما يطلق سراحها.
وأما المتطرفون فيكفي أن يتهموا بأنهم عاشوا في أفغانستان جزءاً من الوقت، أو تدربوا في السودان ليودعوا في السجون والمعتقلات، مع أننا نعلم أن هذه الأشياء هي أكاذيب.(120/12)
الجرح الدامي في المغرب
أما الجرح الرابع: ففي بلاد المغرب، حيث القضاء على الوجود الإسلامي، باسم مكافحة الإرهاب، ففي تونس إعدامات سابقة بعد محاكمات صورية، وحرب للإسلام باسم الحرب على حزب معين، وهو حزب النهضة.
ولكن الواقع أن الحرب إنما هي حرب على الإسلام، فالذين في السجون أكثر من خمسين ألفاً، منهم من جماعة التبليغ، ومنهم من الإخوان المسلمين، ومنهم من الجماعات السلفية، ومنهم من حزب النهضة، ومنهم من المتدينين الذين لا ينتسبون إلى جماعة، ولا طائفة، ولا حزب، بل ذنبهم الوحيد أنهم أطلقوا لحاهم، أو تدينوا.
إن مجرد إعفاء اللحية، وتقصير الثوب، والتردد على المسجد في عرف أجهزة الأمن هناك تهمة يحاسب عليها، ويسجن بسببها.
لقد أقفلوا أكثر من سبعمائة مكتبة، لماذا؟ لأنه يوجد في ضمن ما تبيع بعض الكتب الإسلامية، ونزعوا الحجاب من المسلمات في الشوارع، وأصبح المرء لا يستطيع أن يعفي لحيته، إلا بعد أن يأخذ ترخيصاً من أجهزة الأمن بذلك، ومُنع المتدينون رجالاً ونساءً من المدارس، لا يُدرِّسون ولا يُعلِّمون، وفصل أكثر من أربعة آلاف منهم، ومنعوا من الوظائف، وزج بهم في غياهب السجون، وقُتل منهم من قتل، وجُرحَ من جرح.
وعندي صور وزعتها منظمات غربية، عن ألوان التعذيب التي يلاقيها المسلمون داخل السجون، وشرد منهم من شرد، وحطمت أسر بأكملها، وألصقت التهم بالأبرياء، وروج لها الإعلام فاتهموا فلاناً بأنه مدمن مخدرات، مع أنه رجل صالح من الأخيار، وصوروه في الصحف، وكتبوا هذه التهم، واتهموا فلاناً بأنه يغازل سكرتيرته الجميلة الحسناء، وصوروه وفبركوا كما يقال، أو صوروا صوراً خادعة.
ونشروها في الصحف، في الوقت الذي يتسترون فيه على المجرمين الحقيقيين، فقد تكلم الإعلام العالمي، عن أن أخ رئيس هذه الدولة قبض في فرنسا، بجريمة ترويج المخدرات، فمنعت جميع الصحف الفرنسية من الدخول إلى تلك الدولة.
أما المسلمون فيتهمون بالباطل، ويروج -بالباطل- عنهم مثل هذه الأكاذيب.
ونزع الحجاب بالقوة من الطالبات، ومن المؤمنات، في الوقت الذي تلزم فيه طالبات كلية الشريعة بجامعة الزيتونة بلعب كرة الطائرة، بملابس قصيرة مع الرجال.
بل تلزم بالسباحة بالمايوه الذي لا يستر إلا العورة المغلظة، على مرأى ومسمع من الرجال، ومنعت دروس القرآن الكريم، والحديث الشريف، والعلم الشرعي، والفقه، والتفسير، ليسمح للمحطات الإيطالية، التي تبث أربعاً وعشرين ساعة الدعارة الصريحة المعلنة، والمحطة الفرنسية التي تبث أربعة عشر ساعة، ألواناً من أفلام الدعارة، التي تصل إلى عرض الجريمة عياناً سمح لها لتقوم بغسيل عقول المسلمين، وتغير أخلاقهم، وعُيّن الشيوعيون المحترفون المخترقون في أكثر من خمس وزارات مهمة، منها وزارة التربية والتعليم، في حين لا يسمح للمسلم المتدين بمجرد الحياة الكريمة.
أما في الجزائر فقد صودرت الحريات، ومنع الناس من مجرد المشي في الأسواق، وحوصرت المساجد، وقتل الشباب المسلم في الساحات العامة، بمجرد الظن وأُغلِقت جميع الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإصلاحية، في اليمن، وفي طاجكستان، وفي أفغانستان، وفي البوسنة والهرسك، وفي غيرها، والله تعالى هو المستعان.(120/13)
عودة إلى الذات
إننا إزاء ما يجري، يجب أن نعود إلى أنفسنا، ونعلم أن ما أصابنا هو من عند أنفسنا، وبما كسبت أيدينا، وجزاء ببعض ما عملنا، ولو آخذنا الله وعاقبنا بكل ذنوبنا، لعذبنا وعذبنا ثم لم يظلمنا {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65] هل نعي؟! هل نفقه؟! هل نعود إلى الله تعالى؟! قال العباس رضي الله عنه وهو يستسقي المطر من السماء: [[اللهم إنه ما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة]] فلنعلم أيها الأحباب، أن هذه الأحداث والمصائب ليست إلا بعض أعمالنا، وبعض ذنوبنا: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] وإنها ليست عقاباً فقط للشعب الذي أصيب بها، أو الفئة أو الجماعة، التي ابتليت بها، كلا إنها عقاب للأمة جميعاً.
{فالمؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا} كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
فواجب علينا، يا معشر الذين آمنوا بالله ورسوله، هنا أو هناك، أو في كل مكان، أن ندرك هذه الضربات الموجعة، فهي دروس يجب أن نعيها، وعِبَر ينبغي أن نفقهها، وأنها بعض التأديب السماوي لنا على ذنوبنا، على معاصينا في أشخاصنا، وفي بيوتنا، وأموالنا، ومعاملاتنا، وأقوالنا، وفي تقصيرنا في عبادة الله عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي فعل الربا، وترك مؤسساته وبيوته قائمة بلا نكير.
بل وفي دعم الشر بألوانه، وعدم التعاون على البر والتقوى، وفي ألوان وألوان من الذنوب والمعاصي، الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي يعاقبنا الله تعالى عليها بسببها.(120/14)
التوبة ومراجعة الذات
فواجب علينا أن نتوب من جميع الذنوب، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فرض على الناس أن يتوبوا لكن ترك الذنوب أوجب والدهر في صرفه عجيب وغفلة الناس عنه أعجب والصبر في النائبات صعب لكن فوات الثواب أصعب وكل ما ترتجي قريب والموت من كل ذاك أقرب وكان الأمام أحمد رحمه الله تعالى كثيراً ما يردد:- إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب أيها الأحبة: توبوا إلى الله توبة نصوحاً واستغفروه، توبوا إلى الله توبة نصوحا، اصدقوا الله، أقبلوا على الله تعالى من كل قلوبكم، واذرفوا دموع الندم، وعودوا إلى الله تعالى عوداً حميداً.
ويجب أن يكون هناك مواطئة بين القلب واللسان، فيكون باللسان استغفار، وبالقلب ندم صادق، وعودة إلى الله تعالى، وفي الجوارح تخلص من كل الذنوب والمعاصي، وإقبال على الطاعات، وفعل لما يرضي الله عز وجل.
ولنكن على يقين مثل الشمس، أننا متى صدقنا الله تعالى، وأقبلنا عليه، وتخلينا عن ذنوبنا ومعاصينا، وتبنا توبة نصوحاً، أن الله تعالى سيسُدد نقصنا، ويغفر ذنبنا، ويعيننا على ما نعاني من أمر الدنيا والدين، وإن كل ما نجده من نقص في العلم، أو في السلاح، أو في المال، أو في القوة، أو في العدد.
فإن الله تعالى سريع بكل خير إلينا، متى صدقنا الله تعالى، ومتى توجهنا إليه، وتخلينا عن كل ما يخالف أمر الله عز وجل، واعترفنا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو وحده القادر على كل شيء، له الأمر والنهي، وله الحول والقوة.
فلا تحول للعبد من حال إلى حال إلا بإذنه، ولا قوة للعبد على فعل ما يرضى الله تعالى وترك ما يسخطه، إلا بقوته جل وعلا، فمتى نصدق الله تعالى؟! ومتى نخلص له؟! ومتى نتوب إليه؟! ومتى نتبرأ من ذنوبنا؟! ومتى نتخلص من معاصينا؟! بل متى ندرك أن ما أصابنا لا ينزع ولا يرفع إلا بأن نصحح أعمالنا، ولا يتغير ما بنا إلا أن نغير أنفسنا؟! قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] يجب ألا نحتقر ذنباً مهما صغر، ولا نتهاون به مهما قل، فإن الذنوب الصغيرة تجتمع على الرجل حتى تهلكه، وتورده الموارد.
ويجب أن نعلم أن الذنوب هي المخالفات كلها، صغيرها وكبيرها، سواء كانت ذنوب أفراد، أو ذنوب أسر، أو ذنوب دول، أو ذنوب جماعات، أو ذنوب مؤسسات، فهذه كلها الذنوب يجب على فاعلها أن يتوب.(120/15)
دعاء
ثم إنني رأيت أن نتجه إلى الله بقلوب صادقة بهذه الدعوات الحارة، التي أسأله جل وعلا أن لا يغلق دونها أبواب السماء: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] .
اللهم إن عبادك هؤلاء اجتمعوا في بيت من بيوتك، يرجون رحمتك، ويخافون عذابك، اللهم فحقق لهم ما يرجون، وأمنهم برحمتك مما يخافون، اللهم استجب لهم ما يسألون، اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم نفس كربهم، اللهم اهد ضالهم، وعلم جاهلهم، وعافِ مبتلاهم، وقوِّ ضعيفهم، واجمع شتاتهم، وأطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، واحمل حفاتهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهي فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم يا بديع السماوات والأرض! يا أول! يا آخر! يا ظاهر! يا باطن، يا من هو بكل شيء عليم، ومن هو على كل شيء قدير، يا من يقول للشيء: كن فيكون! يا من بيده مفاتيح كل شئ، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، الطف بهذه الأمة المبتلاة، وارفع عنها البلاء والذل، يا حي يا قيوم! اللهم أعزها بطاعتك، ولا تذلها بمعصيتك، اللهم اكفها شر أعدائها، الظاهرين، من اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم اكفها شر أعدائها المستترين، من المنافقين والعلمانيين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه.
اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم انتقم منهم لدينك وعبادك يا حي يا قيوم! اللهم انتقم من الظالمين، اللهم احفظ على المسلمين دينهم، اللهم احفظ على المسلمين أخلاقهم.
اللهم احفظ على المسلمين أعراضهم، اللهم احفظ على المسلمين أموالهم وثرواتهم، اللهم احفظ على المسلمين نساءهم، اللهم احفظ على المسلمين بلادهم يا حي يا قيوم، يا خير الحافظين.
اللهم أدر لهم فلك النصر بحولك وقوتك يا ذا البطش الشديد، يا ذا الأمر الرشيد، يا فعال لما يريد، اللهم اكفهم شر اليهود والنصارى، اللهم اكفهم شر الهندوس، والكفار والمنافقين والعلمانيين، اللهم يا ولي الإسلام وأهله! من قام يدعو إليك، ويغضب لدينك، ويغار على شريعتك، اللهم انصره وأيده وأعلِ كلمته يا رحمن يا رحيم، اللهم ومن قام رياءً وسمعة، أو لأجل الدنيا، أو لأجل فلان وفلان، فاهده لما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير.
اللهم إن سبق في علمك أنه لا يهتدي فاهتك أستاره، اللهم اهتك أستاره وافضح أسراره، وأدر عليه دائرة السوء يا حي يا قيوم! اللهم إنا نناديك بقلوب قد أمضتها المصائب، وندعوك بأنفس أقلقتها المحن، ونهتف إليك بألسن أثقلتها الخطوب عن الخطاب، ونحن لا نملك لأنفسنا، ولا لغيرنا حولاً ولا طولاً.
اللهم إن كنا حزنا للمسلمين، لأنهم عبيدك المنتسبون إلى دينك، لا لقرابة، ولا لمصلحة دنيوية، ولا لنعرة عصبية، اللهم بقوتك وحولك يا حي يا قيوم! أجب فيهم دعاءنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
يا مالك يوم الدين! انصر إخواننا المسلمين في مصر، وانصر المسلمين في الجزائر، وانصر إخواننا المسلمين في السودان، وانصر إخواننا المسلمين في الصومال، وانصر إخواننا المسلمين في تونس، وانصر إخواننا المسلمين في اليمن، وانصر إخواننا المسلمين في إرتيريا، وانصر إخواننا المسلمين في الهند، وانصر إخواننا المسلمين في أفغانستان، وانصر المسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء.
يا من يقول للشيء كن فيكون! يا واحد يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد! يا سميع الدعوات، يا قاضى الحاجات، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك وأنت الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، أن لا تردنا خائبين، ولا من رحمتك مطرودين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.(120/16)
وقفة مع جريدة الندوة
أما النقطة الثالثة: فهي وقفة مع جريدة الندوة، عبر ثلاثة أعداد تكلمت هذه الجريدة، عن التطرف والمتطرفين، وكتب محررها يوسف دمنهوري مقالاً يحرض فيه على المتطرفين في كل البلاد، وأنهم يهددون مكاسب الأمة، وأن الشارع العربي كما يعبر قد ضرب المكاسب التي حققتها الأمة عبر عشرات السنين، ويحرض عليهم، ويطالب بالقضاء عليهم، في مصر وفي تونس، وفي كل البلاد.
ثم تكلم في العدد الثاني والثالث، عن الحوار مع من؟ وأين؟ ورَّد فيه حسب ما يزعم على الدكتور الشيخ صاحب الفضيلة/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي -حفظه الله تعالى- ثم أدخل فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني أيضاً في الحلبة، وتكلم بكلام غريب، وقد استاء منه الناس، وهذه بادرة خير.
حتى إنني لا أحصي الذين اتصلوا بي عن هذا الموضوع، والذين أوصلوا إليَّ تلك القصاصة يعدون بالعشرات، وقد ساءهم ما حصل، فإن الرجل قد أطال لسانه، وتكلم بكلام غريب.
وفي المقالة الأولى كان يواري ويداري، أما في بقية المقالات فقد صرح بما ينطوي عليه قلبه، ووصف فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، بأنه هو وجماعته من المتطرفين، الذين يعتقدون أنهم يتقربون به إلى الله تعالى، والذين قد غيرت عقولهم، وتكلم بكلام شديد، واستغل موقعه في الجريدة للتنفيس عن بعض ما في قلبه من الضغينة والحقد.
ورمى الآخرين بكلمات متطرفة متشجنة، تنم عن عدم توازن وعدم اعتدال.(120/17)
من أهداف العلمانيين عبر الصحافة
أيها الأحبة: إنني لا ألومكم، ولا غيركم، على أن تغضبوا حينما تقرءوا في صحف تصدر في هذه البلاد، ومثل هذا الكلام، في الوقت الذي تتكلم فيه بكثير من الحفاوة عن الفنانين، وعن رجال السياسة، وعن رجال الاقتصاد الغربيين منهم والشرقيين.
ولكنني أقول: ما الذي يمنعك أن تقوم بزيارة إلى بلد الله الحرام، وتعتمر فتكسب أجر العمرة، وتطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ويكون لك بذلك أجر كبير، ثم تُعرّج على هذا الرجل وتقف معه؟! وتعطيه من فمك مباشرة دون واسطة، ما الذي يمنعك من ذلك؟! إن من حق الأمة أن تغضب، وأن تبتئس لذلك، لكن من حقها -أيضاً- أن تسأل ماذا وراء الأكم؟ إنني أخشى أن يكون وراء ذلك تحريض على أهل الخير في هذه البلاد، ويتزامن هذا الطرح الذي نشرته جريدة الندوة، يتزامن مع طرح أمريكي غربي مكثف، عن الصحوة في هذه البلاد.
وآخر ذلك، أن إذاعة صوت أمريكا أذاعت البارحة، وهذا الشريط معي الآن، أذاعت تقريراً وتحقيقاً عن الصحوة في الجزيرة العربية، وتكلمت عن عدد من الدعاة، وأذاعت جزءاً من شريط سبق أن ألقي في هذا المكان، بعنوان: لماذا نخاف من النقد؟ سبق أن أصدر برنامج تلفزيوني لمدة ساعة ونصف هناك، وهناك صحف كثيرة تكتب، وأظن أن ذلك كله على سبيل التحريض والإثارة، ولفت الأنظار.
لقد أصبح من السهل أن يقال في الإعلام كله -ومع الأسف الشديد! إعلامنا المحلي يشارك في هذا الوزر- أصبح من السهل أن يقال عن فلان إنه أصولي، أو متشدد، أو متطرف، أو حتى إرهابي.
أيها الأحبة: لقد أصبح من السهل أن يتهم فلان بأنه ينتسب إلى الجماعة الفلانية، أو يدعو إلى تلك الجماعة، أو يتعاون معها، وأصبح من السهل أن يتهم هذا الداعية أو ذاك، بأن له اتصالات خارجية، وأن هناك أموراً أنت لا تدري عنها، لكن يعرفها الخبراء ويعرفها المختصون، ويعرفها الخبيرون ببواطن الأمور.
إنني أقول لكم والله على ما أقول شهيد، أقول: مع أننا لا نُحَارب الجماعات الإسلامية المخلصة، الملتزمة بمنهج السلف الصالح، والسنة والجماعة، البعيدة عن الانحراف، بل نعتبرها نموذجاً من النشاط الإسلامي الشرعي، الذي يؤيَّد ويُصحَّح، كما هو منهج والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز -ولعلي أقرأ لكم فتواه بعد قليل- إلا أننا نرى أن الأفق الواسع الرحب للمسلمين جميعاً، دون أن نقيد أنفسنا بقيد هذه الجماعة أو تلك، أو نقصر أنفسنا في إطار هؤلاء أو أولئك، فكلهم ما داموا من أهل السنة، كلهم إخواننا على حد سواء، ونحن لا نحصر أنفسنا في إطار معين، ولا في انتساب خاص.
أما الاتصال بالخارج، فمع أننا لا نقر بالفواصل أصلاً، والحدود الجغرافية والسياسية بين المسلمين، بل نعتز بأي مسلم في أي مكان كان، ونعتبره أخاً لنا، وصوتنا جواب لصوته، وحديثنا رجع لحديثه، ومشاعرنا هي خفق قلبه، ونحن أيضاً ندعو إلى مساعدته، والتعاون معه على البر والتقوى، كما أمر الله عز وجل، إلا أننا نستنكر هذه التهم الملفقة المدروسة، بالانتماء إلى فئات معينة، أو الاستمداد منها، أو التنسيق معها، أو الاتصال بفئة في الداخل أو الخارج.
إنه كذب مُفترى، وإنه كلام يروج له اليوم، من أجل التشهير بالدعاة إلى الله تعالى، من أجل الحيلولة بين الدعاة وبين المجتمعات الإسلامية، لأن الناس ربما يصدقون أو يتصورون أن هناك أشياء، ومع كثرة الكلام، اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، والترويج الإعلامي المتواصل الذي تؤيد الصحف فيه الإذاعة، ويؤيد التلفاز الصحف، ويؤيد هؤلاء وأولئك الفحيح الإعلامي الذي لا يتوقف، إنه ربما يهز قناعات المسلمين، أو يؤثر فيهم.
وهدف هؤلاء أن يحولوا بين المسلمين وبين دعاة الإسلام، أولاً: لئلا تتأثر الشعوب الإسلامية بالدعاة، ولا تتقبل منهم شيئاً، ثانيا: ليسهل القضاء على الدعوة والدعاة في غفلة الأمة وغيبتها.(120/18)
ملاحظات على كلام الدمنهوري
وقد لاحظت في هذه المقالات المتعددة عدة أمور:- الأول: أن الرجل يطالب بالحوار، ويقول: يجب أن يكون حواراً هادئاً متزناً عقلانياً بعيداً عن التشنج، ولكنه هو كان يرمى الناس بالحجارة، وبالخشب، وبالعصي، وبالعبارات النابية، وأقل ما يرمي به أمثال المشايخ الفضلاء، بأنهم متطرفون، وأنهم يرتقون باسم العلم، وباسم الدين، وهم ليسوا من أهل العلم، ولا يستحقون مثل هذه الأمور، ويتكلم بلهجة متشنجة، هي أبعد ما تكون عن الهدوء، وأبعد ما تكون عن الحوار.
ثانياً: أن الرجل يتهم المشايخ والعلماء والدعاة، بأنهم يسعون إلى تمزيق المجتمع وتفريقه، وهذه تهمة قديمة، هو يردد كلاماً قيل من قبل، ولكن الغريب أن الرجل في الوقت الذي يتهم فيه الآخرين بتقسيم المجتمع إلى مسلمين وعلمانيين.
وهذه حقيقة قائمة شئنا أم أبينا، فإن الإسلام لا يقسم الناس على أساس دولي أو وطني، أو هذا -مثلاً- من بلد وذاك من بلد، إنما يقسمهم على أساس الدين، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] .
فهذا مقياس شرعي لابد منه شئنا أم أبينا، ولكن الغريب أن الرجل في الوقت الذي يتهم فيه الدعاة، بأنهم يسعون إلى تفريق المجتمع وتمزيقه، إلا أنه هو عمل على تمزيق المجتمع بطريقةٍ جاهلية، حيث إنه وصف الدعاة والمختصين والصادقين بأنهم من المتطرفين، وأنهم يتعاطفون مع إخوانهم المتطرفين في كل مكان، وأنهم قد احترقوا وهلكوا بدعم حسن الترابي، وراشد الغنوشي وغيرهم، من رجال التطرف كما يقول.
فهذا لون من تمزيق المجتمع، والإسلام لا يعرف معتدلاً ومتطرفاً، الإسلام يعرف مسلماً صادقاً أو كافراً، والمسلم قد يكون مقصراً كما هو الحال بالنسبة للكثيرين، لكن ما عهد أن المسلم المقصر، أو المخطئ، يعيب ويتهم أولئك المسلمين الصادقين المجتهدين المخلصين، وينتقد عليهم صدق إيمانهم، وصحة يقينهم، وعظم بلائهم وجهادهم.
الأمر الثالث: أن الرجل يقوِّل العلماء ما لم يقولوا، ويتمسح بأسمائهم، فقد ذكر الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بغير مناسبة، ثم ذكر سماحة الوالد عبد العزيز بن باز، بغير مناسبة أيضاً.
بل إن من الطريف المضحك المبكى، أنه نقل كلاماً للشيخ عبد العزيز بن باز قاله الشيخ دفاعاً عن الشيخ سفر الحوالي وأمثاله من الدعاة، والله تعالى يشهد على ذلك، وأنا ممن وقفوا على هذا بنفسي، أن ذلك البيان المشهور، صدر دفاعاً عن مجموعة من الدعاة، فالرجل جعل هذا المقال الذي كتبه الشيخ دفاعاً عن الدعاة، جعله كلاماً ينتقده فيه، أويجيره ضد خصومه.
الأمر الرابع: أن هذا الرجل يقول في أحد المقالات: إن الشارع العربي حطم مكاسب الدول العربية والإسلامية، أي أن الشارع العربي تحول إلى شارع أصولي، شارع متطرف، وبتعبيرنا نحن، تحول إلى شارع التدين، فهو مستاء من أن نتدين، لم يعد حكراً على طائفة من الناس -في المسجد مثلاً- وإنما أصبح الشارع كله -يعني جمهور الناس- أصبحوا متدينين.
فهو يقول: إن الشارع يحطم مكاسب الدول، ويشير بذلك إلى ما يجري مثلاً في الجزائر، ومصر، وفي تونس، في عدد من البلاد التي جمهور الناس فيها ضد أي إجراء يعملونه ضد المسلمين، وفي الوقت نفسه كتب هذا الرجل في العدد الأخير، يقول: إن المواطن يقف مع رجل الأمن جنباً إلى جنب، في مقاومة التطرف.
فسبحان الله! المواطن الذي بالأمس يقول: إنه أصولي وإنه متطرف، وإنه يحطم مكاسب الدول.
كيف تحول في لحظة واحدة، إلى أن يقف جنباً إلى جنب مع رجل الأمن؟! إننا نعلم أن رجال الأمن في مصر مثلاً، جاءوا إلى أحد المساجد، بهدف القبض على بعض الشباب، وقت صلاة الجمعة، فواجههم الناس كلهم جميعاً ووقفوا ضدهم.
وقالوا: لا يمكن أن تأخذوا أحداً وإذا أصررتم على البقاء، فسوف نقاتلكم، فاضطرت أجهزة الأمن إلى الانسحاب، وهذا الخبر قرأته بنفسي في جريدة الحياة، وقد سمعنا ورأينا أن هناك مسيرات تسير في شوارع الخرطوم وغيرها، قوامها أحياناً أكثر من مائتين وثلاثمائة وأربعمائة ألف، تأييداً للمكاسب والانتصارات الإسلامية.
وهذا يدل على أن الشعور الإسلامي أصبح شعوراً متزايداً متنامياً في العالم الإسلامي كله، وما يجرى في الهند هو نموذجٌ جديد أيضاً، كيف استطاع الرجل أن يتجاهل كل هذه الحقائق! وجريدته إحدى الجرائد التي تذكرها أحياناً، ليقول: إن المواطن يقف جنباً إلى جنب مع رجل الأمن، إنها ظاهرة غريبة، لقد تكلم أحدهم قبل سنوات، أثناء حرب الخليج، وألَّف كتباً عن بعض الدعاة، وأصدرها في كتيب بعنوان "حتى لا تكون فتنة" وكان لتلك الكتابة ظروفها، التي جعلت قائلها يحاول أن يتنصل منها في إحدى المقابلات معه، في جريدة إسلامية، تصدر في أمريكا.
أما أن يحدث اليوم في صحيفة محلية سيارة، وفي مثل هذه الظروف الهادئة نسبياً، أن يستغل منصبه الوظيفي والصحفي، في التشفي من خصومه، فهذا عمل غير شريف، إنه بالتأكيد لن ينشر أي رد، حول هذا الموضوع، يكتب من قبل بعض المخلصين الغيورين، بل إنه اليوم لا يرد حتى على الهاتف، ولا غيره، فأين الشجاعة إذن؟!(120/19)
رسالة موحية
النقطة الرابعة: وهي رسالة موحية: لقد بعث إليَّ بعض الإخوة من الخليج، وكانوا قد أقاموا مؤتمراً إسلامياً في أمريكا، بعثوا إليَّ لمشاركتهم، ونظراً لبعض الظروف الخاصة، فإنني لم أتمكن من المشاركة إلا برسالة بعثت بها إليهم، ورد عليَّ مجموعة من الإخوة، وكان هذا أحد الردود التي أثلجت صدري، وأحيت مزيداً من الأمل في قلبي، فأحببت أن أشارككم، أو أشرككم في هذه الرسالة يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:- قبل عدة ساعات سمعنا رسالتكم الهاتفية، التي بعثتم بها إلى مؤتمر الطلبة الكويتيين، فحركت في نفوس الحاضرين المعاني الكثيرة، خاصة أن الشيخ أحمد القطان قد ألقاها، وحركت في نفسي أن أكتب لكم هذه الرسالة، التي كانت تجول في ذاكرتي منذ أمد تكلم الأخ بعد ذلك عن مشاعره تجاهي، وتجاه إخواني من الدعاة، فأعتذر عن قراءتي ذلك.
يقول: وأودُّ أن أعبر لك عن جل مشاعري تجاه أمتي وديني ورسالتي، فأنا مسلم عربي من أرض الجزيرة، يجري في عروقي شيء اسمه همّ الإسلام، لا تغادر مخيلتي صباحاً ولا مساءً تلك المآسي، التي تعصر قلوب المسلمين في شتى بقاع الأرض، حتى صدق قول الشاعر:- أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه ثم إني أبعث لطلابك بتحية إعجاب وتقدير، فبلغهم إياه وقل لهم إن الأمة في انتظاركم، فأنتم أملها بعد الله تعالى، وأنتم الورثة الشرعيون لأمجاد أبي بكر، وعمر، وخالد، وسعد، أما نحن الذين قضينا السنين الطوال في علوم الطبيعة -الهندسة- فلسنا إلا مكملين لكم، ولا قيمة لنا بدونكم.
ثم إني أردت أن أبشرك كما بشرنا المصطفي صلى الله عليه وسلم، بأن المستقبل في العالم كله هو مستقبل الإسلام، وأود أن أصور لك شيئاً من هذا المستقبل، كما التزم به أنا، أستسمحكم العذر في أن أتكلم عن نفسي، وليس هذا -والله تعالى يشهد- حباً في الذكر أو المديح.
وإنما لكي يعلم علماء الأمة، أن في عامة الأمة عروقاً تنبض، تنبض بالحياة، فأنا كما أسلفت أدرس الدكتوراه في أحد التخصصات الهندسية، ومن المتفوقين في الكلية، ثم إني حريص على تلاوة القرآن يومياً، ومطالعة بعض الكتب المفيدة، في السنة والسيرة، ثم إني حريص على التصدق في سبيل الله، وأكفل من اليتامى اثنين، وأُمِّثل إحدى الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات في مدينتي، وأحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، وجماعة كلما أمكن، كما إنني أعتقد جازماً، أنه لا عودة للإسلام إلا على منهاج النبوة، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث {ثم تكون خلافة على منهاج النبوة} وأرى أن وعد الله لن يتخلف، إذا التزم المسلمون بتعاليم دينهم، وأقاموا أوامره واجتنبوا نواهيه.
وأعلم أن رسالتي في التعليم هي إعداد المهندسين المسلمين، الذين يحملون بين أضلعهم قلوباً تهندس للإسلام، وتعمل من أجله، ثم إنني ألمس من زملائي هنا، أكثر مما قلت عن نفسي، وتصور أن أحدنا وهو طالب الدراسات العليا في الهندسة أيضاً، يشغل وقته بدراسة الجامع الصحيح للبخاري، والعقيدة الواسطية للشيخ الإمام ابن تيمية، وآخر يصدر نشرة شهرية تطبع بالمئات، توزع في مشارق أمريكا وفي غيرها.
وذلك بمجهوده الشخصي فقط، وهو طالب دكتوراة أيضاً، ومرة أخرى أبلغ تلاميذك الذين يكبون على ركبهم في الدروس، بأن يتقنوا علمهم، وأن يتقنوا الحديث، وأن يستعدوا أن يدرسوا سواهم أو أبناءهم القرآن والتفسير والحديث، لا أقول في بريدة أو جدة، وإنما في دمشق وفي الخرطوم، وفي إسلام آباد، بل وإن شاء الله في واشنطن دي سي، وما ذلك على الله بعزيز.
وفي الختام أبلغكم أن السواد الأعظم من المبتعثين هنا، يحبون العلماء والدعاة، ويدعون لهم ولطلابهم بالتوفيق، وهم معهم، ومع علمائنا هنا ملتحمين معهم، كما يلتحم اللحم بالعظم، والله تعالى يحفظ ويرى، ويسدد الخطا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعتذر عن كتابة اسمي، حتى لا أكون مرائياً، التوقيع: طالب مسلم.
هذه أحد البشائر، وأحد الأخبار المبهجة، التي تعيد الأمل إلى القلوب، وتؤكد قرب تحقق ما أخبر عنه الله تعالى، وأخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، من نصر هذا الدين.(120/20)
أوراق متفرقة
وهذه بعض الأوراق المتفرقة: أولاً: هذه الفتوى التي أحلت إليها، نشرت في مجلة الحرس الوطني، عدد جمادى الآخرة.
السؤال
هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟
الجواب
وجود هذه الجماعات فيه خير للمسلمين، ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله، وألا تتنافر بعضها عن بعض، وأن تجتهد في التعاون فيما بينها، وأن تحب إحداها الأخرى، وتنصح لها، وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها.
ولا مانع أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يترسموا طريق الحق ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين، بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، ولكن بالكلمة الطيبة، والأسلوب الحسن، وأن يكون السلف الصالح قدوتهم، والحق دليلهم، وأن يهتموا بالعقيدة الصحيحة، التي صار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضى الله عنهم.
انتهت فتوى الإمام الشيخ عبد العزيز.
وإنني أقول: إن هذه الفتوى بحروفها هي ما ندين الله به، وهو ما يعلمه الله تعالى من قلوبنا، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا في ذلك بصيرة، وأن يتوفانا عليه وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق.
هذا خبر نشر في الحياة قبل ثلاثة أسابيع، ثم نشر أيضاً في خضراء الدمن قبل أسبوعين.
يقول: مع إعلان تأسيس مركز البحرين للتحكيم في فبراير، دول الخليج تستعد لتطبيق القانون النموذجي للتحكيم التجاري، وهو يتكلم عن محكمة تقام في البحرين.
خلاصة الخبر: وسوف تستعد دول الخليج كلها للتعامل مع هذه المحكمة، التي سوف تنفذ وتطبق قانون التحكيم التجاري.
ولا شك أن هذه إحدى الخطوات الخطيرة، لفرض القوانين الوضعية، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم، وهذا يؤكد ما سبق أن تكلمت عنه في موضوع التنصير، من أن النصارى بدءوا الآن محاولة أن يقدموا النصرانية للمسلمين في ثوب إسلامي.
وقلت لكم: إنهم حاولوا تقديم الإنجيل بصورة القرآن وبناء الكنائس بصورة المساجد، وتقديم إذاعة البرامج الدينية بصورة شرعية، وقد جاءتني قصاصة وصورة فيها كتابة للإنجيل على شكل كتابة الآيات القرآنية، ومفصول بينها بفواصل وأرقام، ومكتوبة، وفيها أشياء مثيرة.
حتى أنهم قد قاموا بتشكيل الحروف، وفيه باب السكينة مقدسى، سبعة وعشرين، هذه وضعت كما توضع أسماء الصور في المصحف، ثم بسم الله الرحمن الرحيم (1) قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقا، فآمنوا بي ولا تخافوا، إن لكم عند الله جنات نزلا (2) فلأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم، ثم لآتينكم نزلة أخرى (3) وأنكم لتعرفون السبيل إلى قبلتي العليا، فقال له تومى الحواري: مولانا إنا لا نملك من ذلك علما (4) فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقا، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلا (5) ومن عرفني فكأنما عرف الله الخ ما ذكر.
لقد أصدروا هذا على شكل القرآن، حتى يضللوا المسلمين ويخدعوهم عن الدين، ويجب أن تعلم أن المسلمين بسطاء وسذج ومغفلين، وقد وجد اليوم مجموعة يسمون أنفسهم بالعيسويين المسلمين، وهي دعوة جديدة في وسط المسلمين، المسلم العيسوي هو: الذي يقبل أن يكون نصفه مسلماً ونصفه نصرانياً.
ونحن في ديننا وعقيدتنا نعلم أنه ليس هناك حلول وسط، إما مسلم وإما كافر كما سبق، ولكنهم حاولوا أن يضللوا بسطاء المسلمين بذلك المسلم العيسوي، وهي دعوة جديدة بدأت تجد لها رواجاً في أكثر من بلد إسلامي، وهذا يدعو إلى مزيد من بذل الجهد في مقاومة ومواجهة النصارى، وبالمناسبة فإنني أقول: إن من الواجب علينا أن نسعى في نشر جميع النشرات التي تبين وتحذر من التعاون مع النصارى، أو من المشاركة لهم في أعيادهم.
ثالثاً: ومن ذلك الفتوى الذي سبق أن أفتى بها الشيخ محمد بن صالح العثيمين، عن تحريم مشاركة النصارى في أعيادهم، وهناك فتوى أخرى للشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله، فينبغي أن نسعى إلى نشر هذه الأشياء، وإشاعتها بين المسلمين.
هذه أيضاً فتوى للشيخ عبد الله بن جبرين، وقد سئل عما يتعرض له إخواننا في بقاع الأرض من التعذيب والتشريد والتقتيل وهتك الأعراض.
ومن ذلك ما جرى ويجرى لإخواننا في الهند، على يد الهندوس عليهم من الله ما يستحقون، والتي كان من آخرها ما هز مشاعر المسلمين في العالم أجمع، بهدم المسجد البابري، وهو يزيد كيدهم يوماً بعد يوم.
ونحن نرى في بلادنا الكثير من الطائفة مستقدمين -يعني: من الهندوس- مستقدمين للعمل فيها، فما الحكم في استقدامهم، بل وفي استقدام كل من هو على ملة الكفر إلى هذه الجزيرة؟ أفتونا سدد كم الله وبارك الله فيكم.
الجواب: قال فضيلة الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:- فإن الكفرة والمشركين في كل زمان ومكان يكيدون للإسلام وأهله، ويبذلون قصارى جهدهم في إذلال المسلمين وإهانتهم، والقضاء على معالم الدين، حيث علموا أن الإسلام قضى على أديانهم الباطلة، وحاربهم وأباح قتلهم، واستولى على بلادهم ورقابهم.
ولذلك نصبوا العداء لجميع المسلمين في كل مكان، فكان من الواجب على أهل الإسلام، أن يأخذوا حذرهم، وأن يتفطنوا لكل كافر، وأن يجتمعوا جميعاً على إذلال الكفر وأهله، ولا يجوز إكرامهم، ولا رفع أعلامهم، ولا استخدامهم بما فيه إعزاز لهم، مع وجود المسلمين، الذين يقومون مقامهم.
ثم بعد هذه الحادثة التي ذكرت في السؤال على المسلمين في كل البلاد، أن يقاطعوا هذه الفئة من الهندوس والسيخ وغيرهم من الكفرة، وأن يقطعوا الصلة بهم، ويردوا إليهم العمالة التي تعمل في بلاد المسلمين، حتى لا يعينوا الكفر على الإسلام، وذلك من الجهاد في إظهار الإسلام وإذلال الكفار، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، في (15/6/1413هـ) عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.
وأود أن أقول للإخوة أن هذه الفتوى، وفتاوى الشيخ الأخرى، وبعض الأوراق المتعلقة بالنصارى، والتوعية لهم، وكذلك تحريم مشاركتهم في أعيادهم كلها، موجودة لدينا، وممكن أن نصورها لمن أراد، ومن أحب أن يحصل عليها أيضاً من مكتب الدعوة، ومن اللجنة العلمية في مكتب الدعوة فبإمكانه الحصول عليها إن شاء الله تعالى، وهذا كله من باب التعاون على البر والتقوى.
هذه قصاصة مفتى الجمهورية أجاركم الله في مصر، وقد سبق أنه أفتى بإباحة الفوائد الربوية من البنوك، وأفتى بالمؤاخاة مع النصارى، والحوار معهم، هاهو اليوم يقول: حماية السائح واجب إسلامي حتى لو كانت دولته معنا في حرب، ثم يقول: الاعتداء على السياح عمل غير أخلاقي، يؤكد نذالة وخسة فاعله.
فأسال الله تعالى أن يهدي هذا الرجل إلى سواء السبيل، ولا أقول أكثر من ذلك، لا أريد أن أطاوع لساني، فأسال الله تعالى أن يهديه، وهذا الرجل في الوقت الذي يتكلم فيه عن مجموعة من السواح الفرنسيين، الذين يقال أنهم تعرضوا للضرب من بعض من يسمونهم بالمتطرفين، وجد غيره حماساً للسواح والسياحة، ووصف هؤلاء بأنهم أخساء وأنذال، أو نسب إليهم ذلك على الأصح.
لأننا لا نصدق أجهزة الإعلام، أين هو من أعداد غفيرة من الشباب المسلمين، الذين يقتلون في الشوارع، ألا يخاف الله، ألا يتقى الله؟! {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6] .
أسأل الله أن يولي على المسلمين خيارهم، وأسال الله أن يهدي المسلمين حكاماً ومحكومين، أفراداً وشعوباً إنه على كل شيء قدير، وأسأل الله أن يهدي علماء المسلمين، إنه على كل شئ قدير.
هذه جريدة خضراء الدمن التي سبق أن حذرناكم منها مراراً، ولا زلت أطالبكم بمزيد من الحصار عليها، بعد ما تبين لنا أن الحصار قد فعل فعله.
وقد كتبت في عدد الأربعاء (29/2/1992م) مقالاً تقول فيه: إقبالٌ واسع لسيدات الأعمال على رياضة الجولف، وتكلمت عن هذه الرياضة وتعميق أواصر الصداقة، وعقد الصفقات التجارية والترويح عن النفس بين السيدات، وتشجيع النساء على ممارسة رياضة الجولف، وصورت في الجريدة لاعبة الجولف الأمريكية في انتظار دخول كرتها إلى الحارة.
وكذلك كتبت في عدد آخر مقالاً عنوانه " مخاوف من انتشار الأفغنة " وذلك في يوم الخميس (29/6/1413هـ) تكلمت فيه عن مخاوف انتشار الأفغنة أي الاتجاهات الإسلامية القوية، في الجمهوريات السوفيتية وفي أفغانستان، وفي باكستان وفي مناطق المغرب العربي، بل وفي منطقة الخليج العربي.
ونقلت كلاماً لمتحدث إسرائيلي عن خطر ذلك على بلاده، وأن بلاده تملك السلاح النووي، وأنه لابد أن تدافع عن نفسها، وقال المتحدث الإسرائيلي: إن بلاده تمتلك بالفعل السلاح النووي، وقال: إن أكثر الأحزاب حمائمية في الائتلاف الحاكم الآن، وهو حزب لرتس، ليس على استعداد لمناقشة فكرة نزع السلاح النووى إلخ التقرير والمقال.
وسبق أن ذكرت لكم الجهاز الذي يغير الصوت من رجل الى امرأة، ومن كبير إلى صغير، وأن هذا الجهاز يباع، وهو يباع فعلاً، ولكن هذا تعميم لبعض مراكز الهيئات في القصيم، يطالب فيه رئيس الهيئة سابقاً، المكلف الشيخ إبراهيم بن عبد الله الضالع، بسحب هذا الجهاز، بناءً على التعليمات الصادرة من مصلحة الجمارك، لعدم السماح لدخول مثل هذه الأجهزة، واتخاذ الإجراءات النظامية لمن وجدت لديه، ومع ذلك ومع شكرنا للهيئة على جهودها الكبيرة، إلا أننى أقول: إن هذا الجهاز لا يزال يباع في أماكن عدة في جدة والرياض وغيرها.
هذا أيضاً ضمن ما يتعلق بخضراء الدمن، فقد كتبت مقالاً في الوقت الذي يذبح فيه المسلمون، كتبت مقالاً عنوانه "بنات روسيا يبحثن عن فتى الأحلام في أمريكا".
وذكرت الجريدة كتلوجات تصور البنات الروسيات الجميلات، وصورت نموذجاً من ذلك، من أجل إغراء الرجل الأمريكى بالزواج منهن، وكأن المسلمين ليس لهم قضية، وهى معنية كثيراً بمثل هذه الأخبار، التي تثير الشباب وتحرك غرائزهم.
هذه قضي(120/21)
أسباب تحصيل السعادة
إن السعادة هي غاية يطلبها كل البشر، والإنسان دائماً يبحث عنها بكل ما أوتي من قوة، والناس بين مصيب في البحث عنها، ومخطئ، وهم كثير، فالسعادة ليست في جمع المال، ولا في تحصيل الملذات والشهوات، فيا ترى ما هي السعادة؟ وما هو السبيل إلى تحصيلها، وما هي الطريق إليها؟ هذا هو ما تتناوله هذه المادة.(121/1)
السعادة غاية يقصدها كل البشر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فشكر الله للإخوة القائمين على هذه المراكز جهودهم الكبيرة المحمودة في توجيه الشباب، وشغل أوقات فراغهم، فيما يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم، وإن هذه الجهود لتستحق الإشادة والثناء، ونسأل الله عز وجل أن يجزيهم عنها خير الجزاء، وأن يشد على أعوادهم، ويقوي عزائمهم، ويهبنا وإياهم الصبر والثبات، إنه على كل شيء قدير.(121/2)
البحث عن السعادة
إنك -أيها المسلم- حين تتلفت حولك في هذه الدنيا، فتجد جموعاً غفيرةً من الناس، مختلفةً ألوانهم وأشكالهم وأديانهم وأخلاقهم وأجناسهم، وتجد هذه الجموع الغفيرة كلها تكدح في الحياة كدحاً، وتسعى فيها سعياً حثيثاً.
تقف لتسائل نفسك: عن أي شيء يبحث هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ وأي غاية يقصدون؟ تقف لتتأمل فتجد أغراضهم شتى، ومقاصدهم مختلفة متباينة، وهنا تقف لتسأل نفسك سؤالاً آخر: هل توجد غاية أو هدف محدد معين يتفق الناس كلهم، أولهم وآخرهم على البحث عنه والرغبة فيه والحرص على تحصيله؟ هل يوجد هدف معين يتفق عليه هؤلاء الكادحون جميعاً على البحث عنه؟
الجواب
إنه لا يوجد هدفٌ يسعى الناس جميعاً في تحصيله إلا هدفٌ واحد، وهو السعي لطرد الهموم عن قلوبهم، وتحصيل ما يسمونه: بالسعادة.
أما ما عدا ذلك من الأغراض مهما تكن فإن الناس لا يتفقون على طلبها، فإن من الناس -مثلاً- من لا يسعى في العمل للآخرة وطلب مرضات الله عز وجل؛ لأنه غير مؤمن وغير مسلم وغير مستعدٍ ليوم المعاد، ولا راغبٍ في رضوان الله تعالى، ومثل هذا لا يعمل للآخرة.
وهناك من الناس من لا يرغب في تحصيل العلم، وهم عامة العوام الموجودون في زمانك هذا وفي كل زمان، لا يشعرون بقيمة العلم، ولا يرغبون في تحصيله.
ومن الناس من لا يرغب في المال، وذلك كالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لا رغبة لهم في الأموال، زاهدون فيها معرضون عنها، ومن الناس من لا يرغب في الشهوات الدنيوية المحضة، وهكذا كل مطالب الدنيا التي يركض البشر خلفها، يتفاوتون فيها، فيسعى بعضهم إليها، وبعضهم الآخر لا يسعى إليها، ولا يرغب في تحصيلها، إلا أن هناك مطلباً واحداً يتفق الجميع على أنه مطلب محمود، بل ويسعون إليه بكل ما أوتوا من الوسائل، هذا المطلب هو: الحرص على دفع الهموم والغموم عن قلوبهم، أو بعبارة أخرى: الحرص على تحصيل السعادة.
والسعادة كما يعرفها علماء اللغة هي: أصل يدل على الخير والسرور، وهي: ضد الشقاوة، وخلاف النحس.(121/3)
نظرة خاطئة في طريق السعادة
أيها الإخوة: إذا عرفنا جميعاً أن الناس يتفقون في البحث عن السعادة، فإننا يجب أن نعرف أيضاً أن كثيراً منهم يخطئون طريقها، فالفقير يحسب السعادة في الغنى، فيسعى لجمع المال بكل وسيلة، والمريض يحسب السعادة في الصحة والعافية فيسعى إلى نيلهما وتحصيلهما، والضعيف يظن السعادة في القوة، والشخص الخامل المغمور يظن السعادة في الجاه والشهرة، والمخفق يظن السعادة في النجاح، وهكذا يظن كثيرٌ من الناس أن السعادة في تحصيل المطالب التي طويت عنهم، وحرموا نيلها وتحصيلها، فيسعون إلى نيل هذه المطالب بكل وسيلة.
وأنت إذا نظرت إلى هذه الأشياء التي يسعى الناس إلى نيلها وتحصيلها؛ وجدت أنها في الحقيقة لا توصلهم إلى نبيل السعادة؛ لأن السعادة كما سبق هي: طرد الهم والغم عن القلب، وطلب هذه الأشياء -من المال، أو الجاه، أو الشهرة، أو المنصب، أو الصحة، أو النجاح- بمجردها ولذاتها لا لغيرها، لا يزيل الهم عن القلب، وإن تخيله بعض الناس كذلك، بل إن طلب هذه الأشياء ونيلها؛ يجر إلى الإنسان آلاماً وهموماً كثيرةً، فيا ترى ما هذه الآلام والهموم والغموم، التي يجرها سعي الإنسان لتحصيل هذه الأعراض الظاهرة من مالٍ، أو جاهٍ، أو صيتٍ، أو غيرها؟! أولاً: يصيب الإنسان الهم والغم، بعدم تحصيله لكل ما يريد، فكم من إنسان سعى سعياً حثيثاً لنيل المال -مثلاً- فأخفق في ذلك، وكانت نتيجة سعيه أن أثقلت كاهله الديون الكثيرة.
إذاً فقد يصيب الإنسان الهمُّ، بحرمانه من هذه الأشياء التي يسعى في تحصيلها، أو من بعضها، وقد يصيبه الهم من خوفه من زوالها بعد الحصول عليها، فكم من إنسان جاءته الدنيا وأقبلت عليه، فتجده مع ذلك قلقاً خائفاً أن ترتحل عنه هذه الأعراض، وأن تزول عنه بين عشيةٍ وضحاها، ولذلك كان كثيرٌ من المتشائمين، وإن أقبلت عليهم الدنيا، فإن قائلهم يقول: يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً فحتى والإنسان يتمتع بهذه الأعراض، فإن الهم يأتي إلى قلبه من خوف زوالها، ثم إن هذه الأعراض قد تزول -فعلاً- بعدما حصل عليها الإنسان، فيبقى الهم لا يغادر قلبه، وكلنا يعرف كم من غنيٍ افتقر بعد غنى، وكم من حاكم دانت له الرقاب، وذلت له الرءوس، فإذا هو بين عشية وضحاها شريداً طريداً، وكلكم يذكر -مثلاً- قصة حاكم إيران، الطاغية المتجبر، الذي كان يحلم بإقامة امبراطوريةٍ عظمى، فإذا به بين عشيةٍ وضحاها يخسر عرشه، ويخرج طريداً من بلاده، ويهرب من بلدٍ إلى آخر لا يأمن على نفسه، ولا على ماله أو ولده، ثم يموت شرَّ ميتة بالصورة التي يعرفها الجميع.
إذاً: فهناك همٌ ثالث يصيب الإنسان، وهو: زوال هذه الأعراض بعد حصوله عليها.
وهناك هم رابع يصيب من نالته أو من نال هذه الأعراض، وهو: أن يخشى أن يزول هو عنها، فإن هذه الأعراض إن لم ترتحل عنك، فإنك سوف ترتحل عنها بالموت لا محالة، ولذلك فالموت سيفٌ مصلتٌ على رقاب الجبارين، لأنه لا أحد مطلقاً يطمع في النجاة منه والخلود أبداً، وهذا همٌ لا يغادر قلوبهم أبداً.
الهم الخامس الذي يصيبهم؛ هو: ما يغشى قلوبهم ويعتريها، حين يرون من يفوقهم في هذه الأعراض، فالغني إذا رأى من هو أغنى منه اكتأب، والحاكم إذا رأى من هو أكثر منه في رقعة البلاد التي يحكمها، أو عدد البشر، أو غير ذلك اكتأب، والقوي إذا رأى من هو أقوى منه اكتأب، وهكذا الهم السادس: هو ما يصيب قلوب هؤلاء الذين حصلوا على بعض الأعراض الدنيوية، مما يسمعونه من ذم الناس لهم، وعيبهم لهم، فأنتم تعرفون -مثلاً- أن هناك أغنياء يملكون الأموال الطائلة، ثم تجدون كثيراً من الناس يتكلم فيهم، وينال منهم بأي صورةٍ من الصور، فالإنسان الذي يملك الغيرة الدينية، يقول: تعساً لهؤلاء الأغنياء، ما أغنى عنهم مالهم، إن هذه الأموال يعذبون بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كارهون، ويعذبون بها في قبورهم وآخرتهم، والإنسان الذي يحس بالغيرة الوطنية يقول: تباً لهؤلاء الأغنياء، إنهم تنكروا لأوطانهم وبلدانهم، فأصبحوا ينفقون الأموال الطائلة في بلاد أوروبا وغيرها، ولا تستفيد منهم بلدانهم التي ينتسبون إليها، وأقاربهم يقولون: ليس لنا إلا الاسم، أما غير ذلك فلم ننتفع منهم وهكذا فيشقى هؤلاء الأغنياء، بالذم الذي يسمعونه على ألسنة الناس.
وأخيراً يشقى هؤلاء كلهم أو معظمهم بما يعرفونه من العذاب الذي أعده الله عز وجل لمن استعمل هذه الأعراض في غير مرضاته، فسواء آمنوا بهذا العذاب المنتظر لأمثالهم إيماناً حقيقياً، أو ظنوا أنه سيصيبهم، أو خافوا، ففي جميع هذه الحالات هم يعذبون بالوعيد الذي ذكره الله عز وجل في كتابه لأمثالهم.
لذلك كله، فإن الإنسان يخطئ حين يعتقد أن السعادة، وطرد الهم والغم عن قلبه، يكون بتحصيل الأعراض الدنيوية، وتحصيل المال، والسمعة والصيت والجاه، أو بتحصيل المركز والوظيفة، أو القوة، أو بتحصيل الشهادة الدراسية، أو الشهوة الحيوانية، يخطئ الإنسان طريق السعادة حين يقضي عمره وأيامه في البحث عن هذه الأعراض الزائلة، وحينئذٍ يسأل الإنسان: وهل هناك سعادةٌ أو لذةٌ يشعر بها الإنسان غير هذه السعادة؟(121/4)
السعادة الحقيقية
لقد ذكر شيخ الكاتبين في مصر الأديب المشهور/ مصطفى المنفلوطي، في كتابه الذي سماه"بالنبرات" قصة سماها "قصة الصياد" وخلاصة هذه القصة: أن أحد أصدقائه قال: إن رجلاً قرع عليه الباب، فخرج فإذا هو بصياد ممن يصيدون السمك، وإذا معه سمكةٌ كبيرة، وقال له -بعد أن سلم عليه وحياه- أتشتري مني هذه السمكة؟ قال: فلم أساومه عليها بل سألته مباشرةً: كم تريد عليها؟ فقال: أريد عليها كذا وكذا.
قال: فنقدته الثمن حالاً، فارتاح الصياد لهذا، وشكرني ودعا لي، وقال لي -وقد رأى علي مظهر الغنى والثرى.
قال: جعلك الله سعيداً في نفسك كما جعلك سعيداً في مالك.
قال: فقلت له: أيها الصياد، وهل هناك سعادة غير سعادة المال؟ قال لي: أجل! إن سعادة المال لا قيمة لها، ما لم يكن الإنسان سعيداً في نفسه.
فقال له: وهل أدركت سعادة النفس؟ قال: نعم، إنني وأنا الرجل الفقير، أحس في قرارة قلبي بسعادة لا حدود لها.
قال: وكيف تشعر بالسعادة، وأنت ترى هؤلاء الأغنياء أصحاب الأموال الطائلة والقصور الفارهة والمراكب الفخمة؟ قال له الفقير البسيط: وأي شيءٍ أغنت عنهم هذه الأموال التي وجدوها، وهي لم تمنحهم السعادة التي يبحثون عنها، إن هذا مما يزهدني في المال، أنني أرى الذين حصلوا عليه هم أكثر الناس شقاءً به، يشقون في جمعه، ثم يشقون في المحافظة عليه، ويشقون في تنميته، ويشقون به في الدنيا والآخرة.
أما أنا -الصياد الفقير- فإني أجد لذةً في حياتي حياتي البسيطة البعيدة عن التكلف والتعقيد، بين أولادي وزوجي في هذا الكوخ المتواضع، ولا أشعر لأحدٍ بمنةٍ علي إلا لله عز وجل، فأتوجه إليه بالعبادة والشكر والتعظيم، وأتعرف عليه بأسمائه وصفاته، وأتقرب إليه بألوان العبادة بكرةً وعشياً.
فتعجب هذا الرجل الغني من هذا المنطق القوي، الذي يتحلى به هذا الفقير.
أيها الإخوة: إنك حين تبحث عن السعادة الحقيقية تجد أنها شعورٌ في النفس والقلب، حيث ينفسح وينشرح فيشعر بالسعادة، حتى مع فقد جميع الأعراض الدنيوية، ويضيق القلب ويظلم، فيشعر بالقلق والشقاء، حتى مع وجدان جميع الأعراض الظاهرة الزائلة.(121/5)
أعظم الناس شعوراً بالسعادة هم أكثرهم عملاً للآخرة
وأعظم الناس شعوراً بذلك، وإدراكاً لهذه السعادة هم أعظم الناس عملاً للآخرة، واستعداداً لها، وتضحيةً في سبيل الله عز وجل، ولذلك فإن للنبي صلى الله عليه وسلم من السعادة في الدنيا وفي الآخرة، أكملها وأزكاها وأوفاها، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4] أي: قد شرحنا لك صدرك، ووسعناه وطمأناه بالإيمان والعلم النافع والنبوة، وأعطاه الله عز وجل ما ذكره في هذه السورة، من الرفعة والنعيم في الدنيا والآخرة.
ولأتباع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الشرح والسعادة والنعيم في الدنيا والآخرة، بقدر كمال اتباعه له صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] فمن شرح الله صدره للإسلام ووسعه للإيمان، فهو على نورٍ من ربه، يتحرك في هذه الحياة وهو يعرف لماذا جاء إلى هذه الدنيا؟ وكيف يقطع هذه الرحلة القصيرة عليها؟ وإلى أين سينتهي به المقام؟ وما هو مصيره في الآخرة؟ فيشعر بالأنس والسعادة، ويتلذذ بطاعة الله تعالى ومناجاته.
أما الكافر فهو على الضد من ذلك، يسمع الآيات القرآنية، ويسمع ذكر الله عز وجل فيزيد هذا قلبه قسوةً وجموداً، فقلوبهم قاسيةٌ من ذكر الله، و (من) هاهنا سببية، أي: قلوبهم قاسية بسبب ذكر الله عز وجل وهكذا الكافر لا يزيده الله تعالى إلا قسوةً في قلبه، وقد تكون (من) ابتدائية، فيكون المعنى: أن قلوبهم قاسية بسبب بعدها عن ذكر الله عز وجل فهي معرضةٌ غافلةٌ عن ذكر الله، وهاهنا تكون من للابتداء، ويقول الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مثلاً} [الزمر:29] .
فهذا الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون، هو مثلٌ للمشرك الذي يعبد آلهةً شتى، فيصبح قلبه متشعباً في الأودية والشعاب، هذا يأمره بأمر، وذاك يأمره بضده، أما المؤمن الموحد لله عز وجل فقلبه على وجهةٍ واحدة.(121/6)
العمل لله عز وجل هو حقيقة السعادة
لذلك فإن السبيل الوحيد -إلى تحصيل السعادة، وإلى طرد الهموم- السالم من جميع المنغصات، هو: العمل لله عز وجل، والتوجه إليه تبارك وتعالى بكل النفس والقلب، والإعراض عن كل ما سواه من المخلوقين.
ولذلك فإن الإنسان الذي يعمل لله عز وجل يكون في سرور أبداً، فهو إذا حصل ما يعمل من أجله أصابه السرور، وإذا انتصر أصابه السرور، وإذا انهزم أو لم يحصل على ما يريد أو أخفق، فإنه لا يغتم لذلك؛ لأنه يعرف أن الأجر الذي وعده الله عز وجل مرتب على العمل وليس على النتيجة.
ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ما يصنع بي أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري، حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة.
فالسعادة مستقرها القلب، ولا سبيل لهم على القلب، فإن سجنوه تفرغ للعبادة، وإن آذوه شعر بأن هذا الإيذاء في ذات الله، فوجد من سرور القلب ونعيمه بهذا الأذى ما لا يجده الناس الذين يظن أنهم سعداء يتقلبون على فرش الحرير والديباج، وإن نفوه من بلده شعر بأن هذه سياحة، وأقصى ما يفعلون به أن يقتلوه، وهذه شهادة يتمناها كل مسلم صادق، ويدعو الله عز وجل أن يبلغه منازل الشهداء، فيحتار أعداؤه فيه.
وها نحن أمام داعية من الدعاة المعاصرين يشرد من بلده ويطرد ويؤذى بألوان الأذى، فلا يأبه بما يصنع الأعداء وما يضعون أمامه من العراقيل، فيقول ضمن قصيدة طويلة: ولو ملكت خياري والدنا عرضت بكل إغرائها في فنها العجب لما رأت غير إصراري على سنني وعادها اليأس بعد الهدِ والنصبِ قلبي خليٌ عن الدنيا ومطَّلبي ربي فليس سراب العيش من أربي ثم يقول وقد فقد كثيراً مما يجده الأغنياء والمترفون، وأخرج من بلده وتغرب، وفارق أهله وأصدقاءه، يقول بلسان المؤمن الصادق: ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا نفثت يوماً شكاة القلب في كرب فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وما شيء سوى الحمد في الضراء يجمل بي لك الحياة كما ترضى بشاشتها فيما تحب وإن باتت على عضبي رضيت في حبك الأيام جائرةً فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب وهذا الشعور ليس شعوراً خاصاً بهذا الداعية، أو بذلك الإمام الجليل، بل هو شعورٌ وجده كل مسلم صادق، وهو يفقد ما يفقد من زخرف الدنيا، وجده محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة، ووجده أصحابه وهم يطردون منها كل مطرد، ووجده المؤمنون في غزوة أحد وهم يهزمون , ووجده أصحاب الرجيع وهم يقتلون، ووجده كل مؤمنٍ يجد الأذى في ذات الله عز وجل فيعوض عما فقد من هذه الدنيا، بهذا السرور القلبي، الذي لا يمكن أن يوصف، وإنما عبر عنه هذا أو ذاك، عبروا عنه على لسان الجميع.(121/7)
أسباب تحصيل السعادة
وحين ننظر إلى الأسباب التي حصل بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو حصل بها أتباعه هذه السعادة نجد أنه يمكن تلخيصها واختصارها في الأسباب التالية:(121/8)
شجاعة القلب وجراءته
السبب السادس من أسباب السعادة: شجاعة القلب وجراءته.
فالإنسان الشجاع واسع البطان، مسرور القلب، بهيج النفس، وبضد ذلك الجبان، فإن السعادة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: حرام على كل جبان، كما هي حرام على كل بخيل، والمقصود بالشجاعة: هي قدرة الإنسان على ضبط نفسه، فيما يحتاج إلى ضبط وإحجام، وعلى الاندفاع والإقدام، فيما يحتاج إلى الإقدام.(121/9)
إخراج الأعراض الرديئة من القلب
السبب السابع: إخراج دغل القلب، وإخراج الأعراض الرديئة من القلب.
فالإنسان الذي يحس بالحسد للناس -مثلاً- أو بالحقد عليهم، لا يمكن أن يكون سعيداً؛ لأنه لا بد أن يجد سروراً يصيب من يحسدهم، وخيراً ينزل بهم، فيغتم لذلك، أما من يحب للناس الخير كما يحب لنفسه، فإنه يفرح بما أصاب الناس من خير، فيكون ما أصابهم سبباً أيضاً لسعادته وسرور قلبه.(121/10)
ترك فضول النظر والاستماع والكلام وغيره
السبب الثامن: ترك فضول النظر والكلام والاستماع، والأكل.
والمقصود بفضول هذه الأشياء: الزيادة منها التي لا حاجة إليها، لا تكثر من الكلام بلا فائدة، أو النظر بلا فائدة، أو الأكل، أو النوم، أو المخالطة التي لا فائدة منها، فإن الزيادة من هذه الأشياء حمى للقلب، ومن أكثر منها شعر بظلمة في قلبه، واسوداد فيه، ومن قلل منها واقتصر على القدر المطلوب المناسب وجد من اللذة ما يجد.(121/11)
الإيمان الحق بالقدر
السبب التاسع: الإيمان الحق بالقدر حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وهذا يجعل المؤمن مطمئناً لما يمكن أن ينزل به من المصائب والهموم، فإذا نزل به شيئٌ من ذلك، كان متوقعاً له هادئ النفس غير جزعٍ من ذلك.
هذه جماع الأسباب التي يحصل بها للإنسان السعادة في الدنيا، وكما ذكرت فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحقق بهذه الأسباب أعظم تحقق، فحصلت له السعادة من جميع نواحيها، فأنت إذا اقتديت به في ذلك، أدركت من السعادة بقدر كمال الإقتداء.
وليس المقصود السعادة الدنيوية فحسب، بل إن للمؤمن مع سعادة الدنيا سعادة الآخرة، ولذلك يقول الله عز وجل عن المؤمنين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ويقول سبحانه: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:31] ويقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .
أيها المسلم: إنك حين ترى الناس من حولك، وهم يركضون وراء المقاصد التي ظنوا فيها السعادة، يجب أن تدرك أن هؤلاء القوم قد أخطئوا طريقها، وأن طريقها أمامك واسعٌ واضحٌ مستقيم، فعليك أن تسلك السبيل الموصل إلى السعادة، حتى تحظى بخيري الدنيا والآخرة.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن عاشوا عيشة السعداء، وماتوا ميتة الشهداء، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(121/12)
محبة الله تعالى
السبب الثالث من أسباب تحصيل السعادة: محبة الله تبارك وتعالى بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بذكره.
ولذلك كان العباد والمحبون يعيشون في أعلى درجات السعادة، حتى يقول قائلهم: إنه لتمرُّ بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً، حتى إنني لأقول: إن كنت في الجنة في مثل هذا، فإني إذاً في عيشٍ طيب ساعات يرقص القلب فيها طرباً، ابتهاجاً بالقرب من الله تبارك وتعالى والأنس بذكره، والتلذذ بمناجاته، وبضد ذلك، فإن من أسباب الشقاوة أن يتعلق قلبك بغير الله عز وجل.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: من تعلق قلبه بشيءٍ غير الله تبارك وتعالى عذب به، وذلك لأن الإنسان قد يتعلق قلبه بغير الله، من المحبوبات والمعشوقات، بالصور الجميلة، سواء كانت صورة امرأة، أو صورة شاب، أو كانت تعلقاً بدنياً، أو بجاهٍ، أو بأي أمرٍ آخر، فيصبح قلبه متألهاً لهذا المحبوب متعبداً، حتى ليقول القائل من هؤلاء المصابين بلوثات الوثنية عن محبوبته: لا تدعني إلا بياعبدها فإنه أشرف أسمائي وحتى ليبلغ تقديس الوطن -مثلاً- على لسان أحد الشعراء أن يقول: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا ويقول آخر: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي إذاً: تعلق القلب بغير الله تبارك وتعالى سببٌ لأن يعذب الله هذا القلب المتعلق بغيره، بهذا الشيء الذي تعلق به، فتجد واحدهم -مثلاً- قضى حياته كلها بالتعلق بمعشوقة بغض النظر عمن تكون، ثم لم يتح له أن يجتمع بها، ولا أن يسعد -فيما يعتقد- هو بلقائها، فمات محروماً من الخير كله، لا هو حصل على ما يريد من هذه المحبوبة، التي ملأت عليه قلبه، ولا هو عاش حياته بعيداً عن هذا الشقاء، فمات ميتة التعساء الأشقياء.
وليس يغني عن هؤلاء العشاق شيئاً أن يكون بعض الناس يقرءون قصائدهم فيجدون المتعة فيها، فأي غنى لهذا العاشق وهو في ظلمة قبره أن يردد الناس اسمه، أو يتغنوا بقصائده، أو يتمدحوا بالمواقف التي حصلت له، إنها الشقاوة تحيط به، وتحيط بقلبه من جميع جوانبه، وهكذا من تعلق قلبه بغير الله تعلق حبٍ وذلٍ وتأله، فإنه يعذب بهذا الشيء الذي تعلق به.
ولذلك تجدون الشباب الذين يركضون خلف الأغاني المنحرفة، ويكثرون من سماعها، فتتأثر قلوبهم بذلك، تجد أنه لا مكان للقرآن، أو للذكر، أو للذة المناجاة في قلوبهم، وهذا مصداق ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبدٍ ليس يجتمعان(121/13)
ذكر الله تعالى على كل حال
السبب الرابع: دوام ذكر الله تعالى على كل حال.
وهذا أثر من آثار المحبة، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فإذا أحب العبد ربه تبارك وتعالى فإنه يأنس بذكره فيزداد لذلك أنساً، ويزداد به سعادة.(121/14)
الإحسان إلى المخلوقين
السبب الخامس: الإحسان إلى المخلوقين.
فإن الإنسان الذي يبذل نفسه للناس، وماله، وجاهه، وما يستطيع في إيصال الخير الدنيوي والديني إليهم؛ يجد في قلبه من السعادة واللذة الشيء العظيم، وهذا السر وضعه الله عز وجل في قلوب العباد، فتجد الناس الذين تتحرك أريحيتهم لخدمة الآخرين والإحسان إليهم، وإيصال ألوان المعروف إليهم يشعرون في قلوبهم بلذة وسعادة بالبذل، أعظم بكثير مما يشعر الآخذون بالأخذ، أي الكرماء والأجواد، الذين جبلوا وطبعوا على ذلك، يشعرون بلذة العطاء، أكثر بكثير مما يشعر الآخذ بالفرح والسرور واللذة، لهذا المال الذي أخذه.
ولكن يشترط لذلك: أن يكون هذا العطاء، وهذا الإحسان الذي تقدمه للآخرين، بدون انتظار مقابلٍ من الناس، فإن الذي يحسن إلى الناس، وهو يشعر بقيمة العطاء، ويشعر بأنه أعطى وقدم، ويدرك قيمة ما بذل، يصبح منتظراً أن يرد الناس إليه الجميل، وأن يقابلوا إحسانه بالإحسان، ومعروفه بالمعروف، فيفاجأ بأن كثيراً من الناس قد لا يكونون كذلك.
فكم من إنسان تحسن إليه فيسيء إليك، أو على الأقل لا يشعر بقيمة هذا الإحسان، فمن أعطى وهو ينتظر المقابل، فإن عطاءه لا يدوم، بل سرعان ما يخيب أمله في الناس، وينطوي على نفسه، ولذلك لو قرأتم في بعض كتب الأدب -مثلاً- لوجدتم فصولاً في ذم مخالطة الناس، وفي عيب الناس، ووجدتم كثيراً من القصص والأحداث.
فمن أعطى الناس من أجلِ الله عز وجل، ودون انتظار مقابل من الناس يشعر في قلبه بالسرور أكثر بكثير مما يشعر غيره من الناس، وبضد ذلك فإن الإنسان الذي يمنع عن الناس عطاءه؛ يجد في قلبه من الظلمة بقدر ذلك.
ولذلك جاء في الصحيحين عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للمتصدق والبخيل، فقال: {مثل المتصدق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من تراقيهما إلى ثدييهما، فالمتصدق إذا أراد أن يتصدق اتسعت هذه الجبة أو الجنة، حتى تقفو بنانه وتعفو أثره، أما البخيل فإنه إذا أراد أن يتصدق لزقت كل حلقةٍ من هذه الجبة مكانها وتضايقت، فلا ينفق أبداً} .
فهكذا الكريم إذا أراد أن يتصدق وهكذا البخيل، وأشد من ذلك من لم يقتصر على منع خيره عن الناس، بل تعدى ذلك إلى إيصال شره إلى الناس بالظلم -مثلاً- فإن الذي يظلم الناس لا يشعر للسعادة بطعم، فهو يدرك دائماً وأبداً أن هذا الظلم سيحيق به يوماً من الأيام، ويتذكر هؤلاء الناس الذين ظلمهم وأساء إليهم؛ فيشعر بالحزن والهم والغم؛ لذلك.
فاحرص -أيها المسلم- إن كنت باحثاً عن السعادة على أن تكون كريماً معطاءً جواداً، ليس بالمال فقط، بل جواداً بنفسك، تجود بالابتسامة للناس، وبالعطاء، والإحسان، تجود بالإحسان بكل صوره وألوانه، وانظر كيف كان إمامك ومتبوعك، صلى الله عليه وسلم يحسن إلى الناس، فاقتفِ أثره في ظروف الإحسان، تجد لذلك من اللذة ما يغريك للزيادة والمواصلة في هذا الطريق.(121/15)
العلم النافع
السبب الثاني من أسباب السعادة: العلم.
والمقصود بالعلم العلم النافع الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه، فإن هذا العلم يفسح القلب، فقد يطلب الإنسان العلم كما قال الإمام الزهري رحمه الله وقلبه شعبٌ من الشعاب، فما يزال في طلبه حتى يصبح قلبه وادياً من الأودية، وقد يكون مراد الإمام الزهري: أن الإنسان تتسع مداركه للعلم وهذا صحيح، ولكن يدخل في ذلك أيضاً: أن الإنسان كلما تزود بالعلم النافع اتسع صدره، وانشرحت نفسه، وبضد ذلك فإن الجهل ظلمة تخيم على قلب صاحبها، فلا يأنس بشيءٍ بعده أبداً.(121/16)
الإيمان والتوحيد
السبب الأول: الإيمان والتوحيد.
فإن للمؤمن من السعادة بالإيمان بالله عز وجل مالا يجده غيره، ولذلك تجد الكافر مظلم القلب والنفس، قلق الفؤاد، ولو قرأت ما تغنى به الشعراء الكافرون، وما عبروا به عما يحسونه في نفوسهم من الضيق؛ لشعرت ببعض ما يعانونه من ذلك، وهم يحاولون طرد هذه الهموم عن قلوبهم بالسكر -مثلاً- ليفقدوا عقولهم، ويفقدوا الشعور بالحياة، أو بغير ذلك من ألوان اللذائذ الدنيوية التي يتعاطونها، فلا يزيدهم هذا إلا قلقاً وظلمة.
فيلجئون أخيراً إلى التخلص من هذه الحياة الدنيا بالانتحار، وإن أعلى نسب الانتحار اليوم هي في أعلى بلاد العالم حضارة، وفي التيسيرات المادية الهائلة، وهي ما تسمى بالدول الاسكندنافية ففيها أعلى نسبة لدخل الفرد، وبالمقابل فيها أعلى نسبة للانتحار، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرقٍ موصولة ومرسلةٍ يشد بعضها بعضاً -كما يقول الحافظ ابن كثير - يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: يا رسول الله! وهل لذلك من علامة؟ قال: نعم.
التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله} .
إن هذا هو العمل في سبيل الله عز وجل والتوجه بكل النفس والطاقات إلى الله تبارك وتعالى والدار الآخرة.(121/17)
الأسئلة(121/18)
علاج السأم والملل
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: تمر على الإنسان أثناء عيشه مع إخوانه في الله، ومع العمل في الدعوة إلى الله؛ حالات يحس فيها بالملل والضيق، ما أدري ما السبب؟ وكيف علاج ذلك؟
الجواب
هذا قد يكون أمراً طبيعياً، فإن القوم الذين يعيشون أكثر حياتهم ووقتهم بعضهم مع بعض لا بد أن يجد بعضهم أحياناً نوعاً من السأم، أو الملل، أو الضيق، فعلى الإنسان أن يعرف إن كانت هناك أسباب خاصة، دعت إلى هذا الملل، فيسعى إلى إزالتها، كما إذا كان هناك -مثلاً- برنامجاً ثقيلاً، طويلاً وقته، من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالملل.
حينئذ يكون العلاج تخفيف هذا البرنامج، وصياغته بطريقة لا تدعو إلى الملل، مع أن الإنسان لا بد أن يصبر نفسه على طلب العلم، وعلى مجالسة الصالحين، حتى تجد لذة ذلك فيما بعد، وإلا فلا شك أن الإنسان -خاصةً في مثل هذا السن- قد تدعوه نفسه إلى قضاء الوقت في ميادين ربما تكون أروح لنفسه، وأسعد لقلبه -سعادة عارضة بطبيعة الحال- من كونه يجلس لسماع محاضرة، أو كلمة، أو للمشاركة في مسابقة، أو لغير ذلك من الأعمال التي يستعملها الشباب الصالحون.(121/19)
مجاهدة النفس
السؤال يقول ملخصه: إنه يجاهد نفسه في صلاة الفجر، وفعل كثيراً من الأسباب، ولكنه لم يستطيع، فما هو العلاج؟
الجواب
أولاً: الجهاد باب طويل يبدأ ولا ينتهي، ولذلك من الصعب أن نقول: إنسان جاهد ولم يستطع، تقول بدأ الجهاد فهذا صحيح، لكن هل انتهى الجهاد؟ فنقول له: إذاً اترك صلاة الفجر جماعة، وجاهد نفسك في ميدان آخر! كلا، شعار المسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فالمسلم مجاهد حتى الموت، وإذا كان أصحاب الأغراض الدنيوية يرفعون شعارات، يزعمون فيها أنهم مقاتلون حتى الموت، أو حتى النصر؛ فإن المسلم يجب أن يعرف أنه بحكم ربانيته -فعلاً- مجاهد حتى الموت، حتى تخرج الروح، وحين يكون المسلم على سرير الموت، أيضاً يكون مجاهداً، وربما تكون أخطر حالات المجاهدة، ومدافعة الشيطان هي في حالة النزع والاحتضار.
فأنت مطلوب منك المواصلة في المجاهدة، والتفكير في وسائل جديدة في هذا الجهاد، مثلاً: قد يكون جهادك أنك تضع ساعةً منبهة، أو تركب ساعة الهاتف، أو تطلب من جيرانك أو أحد أصدقائك، أن يطرق عليك الباب، لكن هناك نوع آخر من الجهاد، وهو معرفة الأسباب التي تؤدي إلى عدم استيقاظك، قد تكون تنام متأخراً، أو تجهد نفسك، فحينئذٍ عليك أن تحرص قدر الإمكان على النوم مبكراً؛ ليتسنى لك أن تستيقظ لصلاة الفجر، لكن لو افترض أن شخصاً مصاب بمرض وهذا المرض لا يجعله يستطيع أن يستيقظ لصلاة الفجر أبداً، فحينئذٍ لا شك أنه معذور، وعليه أن يصلي متى تمكن من الاستيقاظ، وفي سنن أبي داود وغيره، أن صفوان بن المعطل كان لا يستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي إذا استيقظ.(121/20)
الدعوة إلى الله تعالى في البيت بالحكمة
السؤال
هذا سائل يسأل عن أن والده، يمنعه من صحبة الطيبين، ويحول بينه وبين مجالستهم، فما العمل؟
الجواب
أقول: هذه الشكوى كثيراً ما تسمعها، وكثيراً من الشباب يضيقون بها، وعلى الإنسان أن يخلص في الدعاء لنفسه ولوالده، أن يخلص القصد، وأن يحرص على الأسلوب الحسن في معاملة الوالد.
وبعض الشباب -مثلاً- يقرءون في سير الصحابة، أن أبا عبيدة قتل أباه، وإن كان العلماء ضعفوا هذه الرواية، أو أن مصعباً أو علياً أو عمر قتلوا أقاربهم أو حاولوا، فتثور في نفوسهم روح التحدي والمواجهة للمنحرفين من أقاربهم، فتجد الشاب مستعداً ليواجه أبويه.
مثلاً: قد يكون الأب منحرفاً، وفاسقاً، ويترك الصلاة أحياناً، أو يسافر إلى الخارج لقضاء الإجازة بصورة غير صحيحة، أو يقوم بأعمالٍ كثيرة محرمة، فعلى الشاب حينئذٍ أن يدرك أن فتح جبهةً في البيت وهو لا يزال غضاً طري العود قد يعود عليه هو بالضرر، وسوف يصبح البيت كله ضده، وهو غير مؤهل في هذه المرحلة للمواجهة إلى نهاية المطاف، فالأصل أن من الصعب أن الشاب يخرج من البيت وهو في سن مبكرة، إلى أين يخرج؟ هناك حالات استثنائية ونادرة لها حكمها.
لكن نحن نتحدث عن الوضع الغالب، حينئذ يقول الشاب: إذاً أدع المنكرات في البيت كما هي، فنقول: لا.
هناك مرحلة بين هذه وتلك، عليك أن تحرص على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالأسلوب الحسن، حاول أن تؤثر في أهلك، حاول أن تدعوهم إلى الله عز وجل وقد وجد -وهو كثير بحمد الله- شباب صغار كانوا سبباً في إحداث انقلاب كامل في البيت، فأصبح الأب والأم، والبنات، والشباب الكبار، كلهم صالحين، بتأثير واحد قد يكون هو أصغر الأبناء، ولعل كثيراً منكم يعرف نماذج لهذا الأمر.
إذاً يمكن بالمحاولة أن تؤثر في البيت تأثيراً إيجابياً مع حرصك على تحصين نفسك من هذه المنكرات قدر ما تستطيع، وتجنبها وحرصك على الإحسان لوالديك، والبر بهما، والدعاء لهما، وقول الكلام الطيب لهما، والقيام في حاجاتهما المباحة، والمسارعة فيها، وإذا كان لك أصدقاء طيبين صالحين فلا بأس أن تعرف الأب عليهم إذا كان هذا قد يقنعه؛ فإن كان لا يمكن فعليك أن تعرض هذه القضية على أحد أساتذتك الذين يعرفون ظروفك، وربما يعرفون طبيعة أبيك، والموقف أو التصرف الذي يناسبه، وبالجملة فهذا الأمر أمر طبيعي، وهو أثر من آثار إقبال الشباب على الدعوة إلى الله عز وجل وتوجههم إليه.
والحمد لله رب العالمين.(121/21)
علاج التعلق بغير الله
السؤال
ذكرت أن من تعلق قلبه بغير الله كان سبباً لشقاوته وعذب هذا الشخص به، فما هو علاج التعلق بغير الله، مثلاً: بالصور، أو بالأخص بالأشخاص الذين يوجد فيهم ما يسبب التعلق القلبي؟
الجواب
غالباً ما يكون التعلق القلبي بالصور الجميلة سواءً كانت صورة امرأة، أو شاب، أو غير ذلك، فإذا وجد في الشخص الظرف، والملاحة، وخفة الدم، فإن هذا مدعاة لتعلق من حوله به، وهذا بصراحة موجود عند كثير من الشباب، وقد يأخذ أحياناً اسم الحب في الله، مع أنه ليس حباً في الله بالمعنى الصحيح.
صحيح أنهم متحابون في الله جملةً لكن هذا الحب الزائد ليس لأن هذا الشاب -مثلاً- يملك علماً أكثر، أو عبادةً أكثر، أو قرباً من الله أكثر، وإنما الصفات الشكلية التي ذكرتها، وهذا بابٌ خطير، وعلى الإنسان أن يحرص على حماية قلبه من ذلك؛ لأن القلب إذا وقع في هذا الشرك، فقد وقع في أمرٍ عظيم، فالحماية والوقاية خيرٌ من العلاج، خاصةً في هذا الباب، أما من ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يبحث عن الوسائل التي تخلصه من هذا الأمر، ويجاهد نفسه فيه، ويكثر من العبادة، وذكر الله، ودعائه، ويحرص على معرفة العيوب الموجودة في هذا الشخص الذي تعلق به.
فإنه إذا عرف عيوبه، وتذكر ما فيه من المعايب التي هي موجودة في كل إنسان زهد فيه وخف ميزانه عنده، ثم يحرص على ألا يستجيب لما تدعوه نفسه إليه، من كثرة مخالطته ومجالسته وممازحته، وإذا جلس إليه يحرص أن يكون في مجلس عام، وألا يكثر من الجلوس إلى جواره، والنظر إليه، وحب التعليق على الكلمات التي يقولها، وغير ذلك من الأشياء التي يكون دافعها التعلق بهذا الشخص، وهناك مقالات للإمام ابن القيم بسط في هذا الموضوع بسطاً جيداً يمكن أن تقرأه في زاد المعاد، وإغاثة اللهفان، والجواب الكافي، وغيرها من الكتب.(121/22)
علاج الظن بكلام الناس والحساسية الزائدة
السؤال
كيف التخلص من الحساسية الزائدة والمرهفة، حيث يتأثر الإنسان من كل كلمة تقال له، ويحسب لها ألف حساب ويفسرها تفسيرات قد تكون شيطانية، وربما ظن في إخوانه الظنون الخاطئة؟
الجواب
هذه الحساسية الزائدة لا شك أنها مرض يعتري الإنسان، وهي عذاب له ولمن حوله.
عذاب له؛ لأنه يحلل ويفسر تصرفات الناس، ويربط بينها بطريقة غير صحيحة، فيصبح وكأنه هو محط جميع التصرفات، الكلمة الفلانية هو المقصود فيها، والعمل الفلاني قصد فيه إبعاده، والخطوة الفلانية كانت من أجل الإساءة إليه، وهكذا.
وهي عذابٌ لمن حوله؛ لأن من حوله إذا أدركوا عنده هذه الحساية المرهفة بدءوا يجاملونه، ويحاولون تجنب الأشياء التي تثير هذه الحساسية، فيتعبون لذلك أشد التعب، ومع ذلك لا يفلحون بل لابد أن يقعوا في أشياء عفوية يفسرها هذا الإنسان تفسير غير صحيح.
وأول خطوات العلاج: أن يدرك هذا المصاب بالحساسية أنه حساس، حتى يكون عنده استعداد لقبول تفسيرات الناس لمواقفهم، فإذا قلت: أنت قلت في اليوم الفلاني كذا وكذا، وأنت تقصدني.
قال لك الطرف الآخر: لا -يا أخي- أنا لا أقصدك، إنما أقصد أمراً آخر.
ثم بينه لك فيكون لديك استعداد لقبول هذا التفسير، إذا عرفت أن عندك حساسية زائدة، ومن العوامل المعينة على إزالة أو تخفيف الحساسية: كثرة المخالطة في مثل هذه المراكز، وخاصةً أن يهدف الإنسان من خلال المخالطة إلى تدريب نفسه على الاختلاط بالناس وتفسير التصرفات تفسيراً صحيحاً، وتخفيف هذه الحساسية، والإنسان -وأعرف أشخاصاً جربوا ذلك عملياً- إذا عرف أن الحساسية موجودة لديه, وسعى في علاجها، فإنه ينجح في ذلك إلى حدٍ بعيد، وهذا من توفيق الله تبارك وتعالى.(121/23)
الحسد والغبطة
السؤال
فضيلة الشيخ، أشهد الله على حبك فيه، وبعد فإني أجد في نفسي حسداً لبعض إخوتي، عند تميزهم علي بأعمال مع أنها أعمال خير، ويصيبني بذلك شيءٌ من الغمة، وأشهد الله على كراهية ذلك، فكيف أدفعه عن نفسي؟
الجواب
أحبك الله أما من شأن الحسد، فلا شك أنه خلقٌ ذميم، والنصوص صريحة في النهي عنه، لكن ينبغي التفريق بين الحسد، وبين الغبطة؛ فإن الحسد هو: تمني زوال النعمة عن الغير، بحيث إذا رأيت أحداً قد أصيب بخير حسدته حتى تتمنى أن يزول هذا الخير عنه، أما الغبطة فهي: أنك إذا رأيت أحداً أصابه خير، تمنيت أن يصيبك مثل هذا الخير الذي أصابه، وأن ترتفع إلى مثل الدرجة التي وصل إليها.
وسواء كان الذي تحس به حسداً أو غبطة، فإن الحسد الممنوع المحرم يزول بإذن الله بالمجاهدة، وأحيل السائل على كتاب قيم، للإمام ابن حزم الأندلسي، اسمه كتاب" الأخلاق والسير في مداواة النفوس" فقد تكلم فيه عن موضوعات كثيرة مفيدة، تتعلق بعلاج النفوس ومداواتها؛ بل وذكر الإمام ابن حزم بعض الخصال الذميمة التي كانت موجودةً فيه، كالحدة والعجب وغيرها، وكيف استطاع بإذن الله أن يتخلص منها.(121/24)
المعوقات عن الدعوة إلى الله
السؤال
فضيلة الشيخ! لدي حماس للإسلام، والعمل له، والدعوة إلى الله، ولكن هناك ما يعيقني عن ذلك، وهو إحساسي بقيودٍ في داخلي تمنعني من عمل شيء، وهذا أمرٌ أعاني منه كثيراً فما الحل للمشكلة هذه؛ وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه القيود التي تعاني منها ليست ظاهرة، وهي إن كانت قيود نفسية، وموروثات، وأشياء تشكلت في نفس الإنسان وصارت تشكل عقداً تحول بينه وبين الاستمرار في طريق الدعوة؛ فإن هذا الأمر لا يكاد يخلو إنسان من شيءٍ منه، فمقل ومستكثر، وإنما الفرق بين الناس هو أن منهم من يملك الهمة، والعزيمة، والإرادة القوية فيقدم ويتغلب على هذه الصعاب، ومنهم من لا يملك الإرادة والعزيمة، فيحجم فتتضخم هذه القيود عنده.
وأضرب لذلك مثلاً -والمثال بسيط لكنه يوضح المراد-: من أساليب الدعوة: الكلمة الطيبة تلقيها أمام الناس، وكل إنسان يجد نوعاً من الصعوبة، والتردد في الوقوف أمام الناس، وقد يشعر بحرج، وقد يشعر برعدة تعتريه أحياناً وهو يهم بالقيام، فهذه صعوبة أو عقبة، تحول بينك وبين صورة من صور الدعوة إلى الله عز وجل فمن الناس من يظل يستجيب لهذا المانع، فيحجم عن الدعوة والقيام بالموعظة مرة بعد مرة.
وقد تأتي فرص يمكنه أن يقوم فيها ولو بشيء من الصعوبة، فيفوت هذه الفرص، وقد يستجيب لهمسات الشيطان ووساوسه، التي تقول له: لا تقم.
تقوم في مناسبة أخرى، في مرة قادمة تحضر وتعد الموضوع إعداداً جيداً، حتى لا تحرج أمام الناس، وأحياناً إذا كنت تريد أن تقوم، لتتحدث بعد الصلاة، يقول لك الشيطان: لا تقم الآن والناس يسبحون, ويهللون، وقد ارتفعت أصواتهم فتقطع عليهم تسبيحهم انتظر قليلاً، وهذا ليكن أهون لك أيضاً.
فإذا سكتوا قال لك: الآن غير مناسب؛ لأن الناس بدءوا يخرجون من المسجد، ولا ينتظرون أن يقوم أحد بعد هذا الوقت، وهكذا يضع الشيطان أمامك عقبات كثيرة، فإذا استمعت لهذه العقبات الذي يضعها، مع وجود عقبات وموانع فطرية انتهى عمرك وأنت لا تستطيع أن تتكلم.
لكن إذا حاولت أن تتدرب، وتتغلب على هذه العقبات من خلال المناسبات، والفرص الكثيرة، كالفرص في المراكز الصيفية، والمدرسة، والمسجد الذي يكون أهله قليل، أو بين الزملاء إلخ، فإنك تزيل هذه العقبة شيئاً فشيئاً وإلا فهل تتصور -مثلاً- أن الخطباء الذين يعتلون أعواد المنابر، ويتكلم الواحد منهم الساعات الطوال دون تردد قد ولد هكذا؟ الجواب: لا.
وأنا أضرب مثلاً واحداً بهذا الأمر، وإلا فأساليب الدعوة كثيرة، وطرق الخير كثيرة ليست مقصورة على هذا الباب، فقد يوجد مثلاً من ييأس من إمكانية علاج هذا الجانب، وحينئذ فعليه أن يدرك أن وسائل فالدعوة كثيرة جداً، الدعوة تكون بالتربية وتكون بالتعليم وبالصلات الفردية والمناصحة، وتكون بالكتابة، والمشاركة في الأنشطة المختلفة إلى غير ذلك.(121/25)
التوازن بين العلم والعبادة والدعوة
السؤال
عندما ينشغل بعض الدعاة خلال دعوتهم عن التفرغ لطلب العلم، أو كثرة التعبد لله سبحانه، فإن مشاغل الدعوة قد أخذت عليه جل وقته، فما هو إرشادك لهؤلاء، بحيث يتمكن من الجمع بين الثلاثة، دون الإخلال بأيٍ منهم؟
الجواب
لا شك أن المسلم مطالب بالتوازن، والحقيقة أن كثيراً من الناس وخاصةً الشباب يخلون بهذا المطلب الذي هو التوازن، فإذا أقبل الإنسان على أمر أقبل عليه كله، وإذا أدبر عنه أدبر عنه كله، فتجد الشاب اليوم -مثلاً- منشغلاً بالدعوة، حتى ربما تفوته صلاة الجماعة، وربما أخل بكثيرٍ من الواجبات، وربما سبب مضايقات لأهله ولوالديه، وقصر في أشياء كثيرة.
ثم تجده من الغد وقد ترك هذه الأشياء كلها، فتسأله ولم يا أخي؟ يقول لك: يا أخي أنا نظرت فوجدت أنني قد أهملت نفسي، وقد قصرت في العبادة، وقد قصرت في طلب العلم، وقد قصرت في حقوق الوالدين, ويبدأ في تعداد الآثار السلبية التي نتجت عن عدم توازنه الأول.
فيجعل من هذه الأسباب وسيلة لأن يخطئ مرةً أخرى، ويخل بالتوازن مرةً أخرى، فيترك أمر الدعوة بالكلية ليتجه لتحصيل العلم، فتجده متنقلاً من حلقةٍ إلى حلقة، ومن درسٍ إلى درس، وإذا خلا ببيته خلا للقراءة، وإذا اجتمع بأصدقائه فإنه يكون قد اصطحب معه كتاباً ليقرأه وهكذا، فيسيطر عليه هم العلم لفترة معينة، فيستيقظ بعد فترة، وإذا به قد أخل بأشياء أخرى كثيرة، فيلتفت إليها، وهكذا، لا يعرف التوازن إليه سبيلاً، هذا خطأ.
وقد لاحظت وقوع كثيرٍ من الشباب المقبلين على الدين وعلى الدعوة في هذا الأمر، والنصيحة التي أنصح بها نفسي وإخواني أن نحرص على أن نكون متوازنين في سائر أعمالنا، وحين نشعر بتقصيرنا في مجال من المجالات، يجب أن نشعر أنه من غير الممكن، أن نسدد النقص الذي نشعر به بين عشية وضحاها، ولذلك قال أحد العلماء، كما حكاه أبو هلال العسكري في كتابه "الحث على طلب العلم" قال: من أراد أن يحصل على العلوم كلها في وقتٍ قصير فهو مجنون.
وهذا حال كثيرٍ من الناس، فحين تشعر بالتقصير في مجال من المجالات، فتذكر أن الطريق الصحيح للتغلب على هذا التقصير الموجود لا بد أن يكون بالتدرج، لنفترض أنك قد أخللت، أو شعرت بالإخلال بواجب طلب العلم، فحينئذ عليك أن ترسم لنفسك برنامجاً معتدلاً معقولاً فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، وليكن -مثلاً- بدء هذا البرنامج، بأن تحفظ القرآن الكريم بصورة تدريجية، خلال سنتين أو ثلاث سنوات، مع مجموعة من زملائك في المسجد، أو في البيت، أو في أي مكان، وحفظ القرآن هو عنوان طلب العلم، قال الله عز وجل عن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فإذا حفظت القرآن، انتقل إلى أخذ علمٍ آخر، فإذا أتقنته أو أتقنت أصوله ابدأ بعلمٍ ثالث وهكذا.
وهناك طريقة أخرى وهي: أن تبدأ بحلقةٍ معينة -مثلاً- فتقرأ على شيخٍ مجموعة من الكتب، فإذا أنهيتها وأخذت ما عند هذا الشيخ، انتقلت إلى شيخٍ آخر، وهكذا.
طريقة ثالثة: قد تقول: ليس لدي وقت لملازمة حلقة هذا العالم، أو هناك موانع، فحينئذٍ ابدأ في تحصيل العلم مع نفسك، أو مع مجموعة من زملائك، باختيار مجموعة من الكتب، في ألوان شتى من العلوم والفنون، وتستعين على ذلك بسماع أشرطة العلماء؛ فإنك تجد اليوم بحمد الله مجموعة كبيرة من الأشرطة، قد سجلت عليها دروس علمية في سائر العلوم، وأنت حين تسمع هذه الأشرطة تستفيد منها فائدة كبيرة، حتى كأنك حاضرٌ في هذه الحلقة، مع وجود الفارق، لا أقول: إنك حاضر، ولكن كأنك حاضرٌ في هذه الحلقة، وإن كان للحضور فائدة وبركة أخرى، المهم: النصيحة مرةً أخرى حين تشعر بالتقصير في أي مجال من المجالات يجب أن تتذكر أن سد هذا التقصير لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، بل لا بد أن يأخذ صورة تدريجية شيئاً فشيئاً.(121/26)
الشعور بالكسل في العبادة بعد الجد والنشاط
السؤال
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إني أحبك في الله، وأسأل الله أن يظلنا في ظله، يوم لا ظل إلا ظله.
سؤالي هو: عند خروج رمضان، أو عند العودة من أحد المخيمات، بعدها بأيام قلائل، تذهب الروحانية التي كانت تلازمني في ذلك الوقت، فما سبب ذلك؟ وما هو علاج هذه الحالة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
مما لا شك فيه، أن لمجالس الذكر والعبادة والعلم أثرٌ كبيرٌ جداً في تقوية الإيمان، وتحريكه في القلوب، ولذلك يجد الإنسان في حضور هذه المجالس إشراقاً في قلبه، وحركة وارتفاعاً في مستوى إيمانه، وهذا شيء طبيعي، فإذا خرج الإنسان من هذه الأوقات أو الأمكنة أو المجتمعات، شعر بأن مستوى الإيمان قد ضعف عما كان عليه، وقد أدرك أو شعر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بذلك، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن حنظلة بن الربيع الأسدي، أنه جاء إلى أبي بكر ٍ رضي الله عنه وأرضاه فقال: {يا أبا بكر نافق حنظلة.
قال: وما ذاك؟ قال: إنا نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال من الإيمان، وقوة اليقين، واستحضار الآخرة، فإذا فارقناه وذهبنا إلى بيوتنا عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات، ونسينا كثيراً.
قال أبو بكر: والله إني لأجد مثل ذلك، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال حنظلة مثلما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لو تدومون على الحال التي تكونون بها عندي في جميع الأوقات؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعةً وساعة} .
وهذا الحديث فيه عبرة فهو: أولاً: دعوة إلى كل مسلم، أن يحرص على أن يكثر من حضور مجالس العلم والذكر والعبادة؛ لما فيها من تقوية الإيمان وزيادته.
ثانياً: إن الإنسان لا يمكن أن يبقى على مستوىً واحد، بل لا بد أن يشعر أحياناً بارتفاع، وأحياناً بشيء من الهبوط، ساعةً وساعة، أما الحال التي يطمح إليها حنظلة رضي الله عنه فهي إنما تجدر وتليق بالملائكة، ولذلك نبهه صلى الله عليه وسلم، إلى أنه لو كنتم على هذه الحال في كل أوقاتكم، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وطرقكم، والإنسان لم يخلق ليكون ملكاً، وإنما خلق ليكون إنساناً، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] .
فالله عز وجل يعلم بحكمته وعلمه وهو الذي خلقنا -أن الإنسان يشتجر في نفسه الهوى، وتتحرك في نفسه الشهوة، ولكن ليس المطلوب ألا يوجد الهوى أبداً، إنما أن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى، وهذا هو المستوى الإيماني الذي ينبغي للإنسان أن يجاهد في الوصول إليه.(121/27)
غربة الإسلام
لقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن غربة الإسلام، وهذه الغربة لها معان، وهي عائدة في آخر الزمان، والغرباء هم أهل الله فيها، وفي هذا الدرس تجد كلاماً مفيداً حول هذه الغربة وأحاديثها ومعانيها.(122/1)
حديث غربة الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فقد روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} ومعنى يأرز: أي يحن ويرجع، والمقصود بالمسجدين: مسجد مكة ومسجد المدينة.
وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} .
وروى الإمام أحمد رحمه الله في المسند بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، والذي نفس محمد بيده إن الإسلام ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} .
وروى الإمام أحمد أيضاً في مسنده بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: {طوبى للغرباء، قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أهل سوء كثير؛ من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عدد كبير من أصحابه رضي الله عنهم أنه أشار إلى غربة الإسلام، حتى قال بعض العلماء: إنه حديث متواتر يقطع بثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة الذين رووا هذا المعنى عبد الله بن عمر، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد الساعدي وسلمان الفارسي وأبو سعيد الخدري وأبو موسى الأشعري وابن عباس، وأبو الدرداء وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك وبلال بن مرداس الفزاري وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن التابعين.
فهو حديث متواتر ثابت ثبوتاً قطعياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فإن الحديث والكلام في معنى هذا الحديث وفي دلالته أمر مهم لكل مسلم، لأنه إذا تبين لك صحة هذا الحديث، وثبوته ثبوتاً قطعياً بقي عليك أن تعرف ما معنى الحديث.(122/2)
درجات غربة الإسلام
والغربة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم تقوم على ثلاث درجات.(122/3)
غربة المسلمين بين الكفار
الدرجة الأولى: غربة المسلمين بين الكفار: غربة الأمة المحمدية بين أمم الأرض الكثيرة الكافرة، فإن هذه الأمة قليل بالقياس إلى غيرها من أمم الكفر، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: شطر أهل الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم في أهل الكفر إلا كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أوكالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة} إنهم قليل {وقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] كما قال الله عز وجل.
فالمسلمون بين الكفار غرباء، وهذه هي الدرجة الأولى من درجات الغربة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم.(122/4)
غربة أهل السنة بين المسلمين
أما الدرجة الثانية: فهي غربة أهل السنة المتمسكين بها بين المسلمين، فإن المتمسكين بالسنة المتعلمين لها، العاملين بها اعتقاداً وقولاً وعملاً بين الناس قليل، ولذلك قال سفيان الثوري -رحمه الله-: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء، وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله: إذا سمعت بصاحب سنة في المشرق أو في المغرب فأرسل إليه السلام، ما أقل أهل السنة! بل قال بعضهم: إن غربة أهل السنة بين المسلمين أشد وأعظم من غربة المسلمين بين أمم الأرض من الكافرين، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: {إن اليهود افترقوا في دينهم على إحدى وسبعين ملة، وإن النصارى افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة} يعني الأهواء، يقول صلى الله عليه وسلم: {وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه} والكَلَب هو: داء يصيب الإنسان من عض الكلب المصاب، فيسري الداء في عروقه حتى يموت.
{وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه؛ لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله} إذاً فأهل السنة هم الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة، وهذا دليل على شدة غربتهم، وقلتهم بين الضالين والمنحرفين، فهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الغربة التي أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم.(122/5)
غربة الطائفة المنصورة بين أهل السنة
أما المرتبة الثالثة من مراتب الغربة: وهي أشرف هذه المراتب وأعظمها وأعلاها، وأهل هذه المرتبة هم ورثة الأنبياء والصديقين والصالحين فهي غربة الطائفة المنصورة الأمة القائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، ومحاربة الفساد في الأرض، والمجاهدة في سبيل الله، وهذه الطائفة هي أمة من بين أهل السنة والجماعة وقد أمر الله عز وجل أن توجد هذه الأمة فقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] .
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتواتر أن هذه الطائفة ستظل موجودة من عهده صلى الله عليه وسلم إلى أن يأتي أمر الله، فلا تخلو الأرض من طائفة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر مجاهدة في سبيل الله، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها ولا من ناوأها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.
فهذه ثلاث درجات من درجات الغربة، الأولى: غربة المسلمين بين الكفار.
الثانية: غربة أهل السنة بين المسلمين.
الثالثة: غربة الطائفة المنصورة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر بين أهل السنة.(122/6)
وقفات في معاني حديث الغربة
وهذا الحديث الذي بين أيدينا يحمل معانٍ عظيمة لا يتسع المقام للتفصيل فيها، ولكن يمكن المرور على بعض المسائل بشيء من الاختصار.(122/7)
أوصاف الغرباء
المسألة الخامسة: الأوصاف التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الغرباء، وقد وردت أحاديث عديدة في وصفهم، ولكن الصحيح منها أنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بالغرباء، ووصفهم بأنهم قوم صالحون قليل في أهل سوء كثير، ووصفهم بأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهم متمسكون بالكتاب والسنة حين يتمسك الناس بآراء الرجال، أو يعرضون عن الإسلام بالكلية، وهم داعون إلى القرآن والسنة حين يترك الناس الدعوة إليهما، وهم صابرون على ما يلقونه في سبيل هذه الدعوة من الإيذاء والعناد والمخالفة والتكذيب ولذلك وعدوا بما وعدوا به.(122/8)
مواقع عزة الإسلام
المسألة السادسة والأخيرة: هي الإشارة إلى المواقع التي بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بإعزاز الإسلام فيها، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بعزة الإسلام في هذه الجزيرة فقال: {إن الدين يأرز بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها أو في جحرها} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} وقال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وهذا دليل على أن هذه الجزيرة هي عاصمة الإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها إلا ما شاء الله.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الشام وأن فيه طائفة منصورة إلى قيام الساعة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: {وهم بالشام} وقال في الحديث الصحيح الآخر: {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} وقال في حديث آخر حين سئل: أين هم يا رسول الله؟ قال: {ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس} فهو دليل على أن الله عز وجل يُوجِد في الشام قوماً صالحين يحمون الدين، وقد يستغرب بعضكم هذا ونحن نعرف ما نعرف من الفساد في بلاد الشام اليوم، فأقول: إن علم الله عز وجل لا يمكن أن يحيط العباد بشيء منه إلا ما أطلعهم عليه، وقد أخبرهم بعزة المسلمين في الشام.
ولعل ما ترونه اليوم من تجمع اليهود في فلسطين وسطوتهم وعتوهم يكون تمهيداً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الملاحم بينهم وبين المسلمين في تلك البلاد، ومن عزة الإسلام في تلك الأرض.
كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن اليمن وقال في الحديث الصحيح: {إني لأجد نَفَس ربكم من قبل اليمن} أي تنفيسه عن المؤمنين وفرجه عنهم كما فسره بذلك ابن قتيبة وابن تيمية رحمهما الله فهذه بعض المواقع التي لا يزال يوجد فيها من يقوم بأمر الدين ويرفع رايته، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، ويثبتون على الإسلام حتى يلقون الله عز وجل غير مبالين بخلاف المخالفين، ولا نواء المناوئين، ولا خذلان المخذلين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(122/9)
طوبى للغرباء
أما المسألة الرابعة: فهي قوله صلى الله عليه وسلم {فطوبى للغرباء} وهذا وعد منه صلى الله عليه وسلم بطوبى للغرباء، واختلف في طوبى فقيل: هي: شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وقيل: هي: الخير الكثير الطيب والجزاء الحسن، وهذا القول أحسن لأنه يدخل فيه القول الأول، فمن الخير الكثير الحسن والجزاء الطيب هذه الشجرة المذكورة في الجنة، فقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الغرباء بالخير الكثير الطيب في الدنيا والآخرة.
فما هو الخير الكثير الطيب الذي وعدوا به في الدنيا؟ لقد وعدوا في الدنيا بسعادة القلب وسروره وطمأنينته بالإيمان، ووعدوا بأن يقيض الله لهم من يعينهم حتى من أعدائهم كما حصل للمسلمين حين هاجروا إلى الحبشة، ووعدوا أن يزيغ الله قلوب الناس لهم فيطيعونهم كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعه الأنصار في رجب، ثم استقبلوه في مدينتهم، ووعدوا بشيء كثير من الخير الطيب في الدنيا، فضلاً عما يجدونه في قبورهم من النعيم، فضلاً عما يلقونه يوم القيامة من الرضوان والجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، وهذا كله داخل في قوله: (فطوبى) .(122/10)
عودة الغربة الثانية
أما المسالة الثالثة: فهي إخباره صلى الله عليه وسلم خبراً يقينياً قطعياً أن هذه الغربة ستعود مرة أخرى، فقال: {وسيعود غريباً كما بدأ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} يحتمل أحد معنيين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الثامن عشر من الفتاوى.
المعنى الأول: أن تكون هذه إشارة إلى ما يقع في آخر الزمان بعد عيسى -عليه السلام- حين تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين فلا يوجد في الأرض من يقول: (الله الله) فقبل هذه الريح يوجد مؤمنون ولكنهم قليل، ثم تأتي الريح فتقبض أرواحهم بقدرة الله عز وجل فلا يبقى إلا الشيخ الكبير والعجوز يقولون: لا إله إلا الله أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها، وهم مع ذلك لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك! كما صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة ورواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح.
أما المعنى الثاني: الذي يحتمله قوله - صلى الله عليه وسلم-: {وسيعود غريباً} أن يكون هذا إشارة إلى ما سيقع في الأمة من ضعف الدين، وانحلال ربقته في كثير من البلدان بعد عصور النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيكون هذا إشارة إلى ما وقع من النقص من تلك الأزمنة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(122/11)
زوال الغربة الأولى
وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوال هذه الغربة، وهذا هو المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: بدأ، ثم قال: وسيعود، دليل على أن هذه الغربة قد زالت، وفعلاً زالت هذه الغربة ودافعها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة ثم في المدينة في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي فتح مكة، حتى زالت هذه الغربة، ويمكن أن تكون الموقعة التي انقشعت فيها الغربة انقشاعاً تاماً هي فتح مكة، حيث كانت قريش هم ملوك العرب وسادتهم وأهل البيت العتيق، فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة أسلم كثير من العرب، وجاءت الوفود من أنحاء الجزيرة العربية تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ودان له الناس، ودخلت الكعبة تحت طاعة المسلمين، ثم نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وكان هذا في حجة الوداع، فكمل الدين، وتمت النعمة، وزالت الغربة، وهذه هي المسألة الثانية.(122/12)
غربة الإسلام الأولى
فالمسألة الأولى التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم: هي الإشارة إلى أن الإسلام بدأ غريباً، أي: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وغربته الأولى تعني: أولاً: أنه كان دينًا وحيداً بين الأديان السماوية التي حرفها أهلها، وبين الأديان البشرية التي اخترعها الناس من عند أنفسهم.
وتعني ثانياً: أن أتباع الإسلام كانوا في بدايتهم عدداً قليلا، حتى كان الواحد منهم يقول: لقد أمسيت وإني ثلث الإسلام، وإني ربع الإسلام، وإني خمس الإسلام، وإني سدس الإسلام، أي أنه لم يكن في وقته إلا خمسة، أو ستة أو أقل من ذلك أو أكثر من المتمسكين بهذا الدين، فاتبأعه كانوا قليلاً.
أيضاً المعنى الثالث من معاني غربة الإسلام الأولى: أن كثيراً من الناس كانوا يجهلون أحكام الدين وشرائعه وعقائده، فكان غريباً بينهم، والذي يعرفه منه قليل، بل أقل من القليل.(122/13)
وقفات مع سورة ق
إثبات البعث ودرجات الإيمان به، والرد على منكريه نقلياً وعقلياً، تفاصيل البعث وحال المؤمن والكافر عند البعث، وأفضلية الإيمان المفصل على الإيمان المجمل، ولا بد من اتساع النظرة وعدم الانحصار في حدود الزمان والمكان، وأهمية الصبر للداعية والاستعانة بالله وعدم الاهتمام بالنتائج.(123/1)
الحروف المقطعة
بسم الله الرحمن الرحيم: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:1-15] .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فهذه السورة مكية، وهي موسومة باسم الحرف الأول منها تعرف باسم "سورة ق" وهو الحرف الذي بدأت به هكذا "ق" وشأن هذا الحرف كشأن غيره من الحروف المقطعة في أوائل السور كـ (الم) (الر) (كهيعص) (ص) إلى غير ذلك.
(ق) فيها أقوال كثيرة أقربها وأحسنها: أن يكون ذكر هذا الحرف إشارة إلى قضية الإعجاز والتحدي للعرب؛ أن هذا القرآن حروفه من جنس الحروف التي بها تنطقون، ومع ذلك فأنتم عن الإتيان بمثله عاجزون، بل بسورة من مثله، بل بشيء من مثله، فهذا أحسن ما قيل فيها، ولذلك غالباً ما يذكر بعد هذه الحروف المقطعة في القرآن مقروءاً أو مكتوباً: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فهذا قد يدل على رجحان ذلك المعنى.(123/2)
إثبات البعث
ثم إن هذه السورة العظيمة تُعنى بإثبات وبيان عقيدة البعث التي كانت موضع شك وإشكال عند العرب الذي بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقضية البعث قضية جوهرية، وهي مفرق طريق بين الإيمان والكفر، وبين التزام الشريعة والانحراف عنها، فالذي يؤمن بالبعث سوف يدخل مسألة البعث ضمن حساباته.
بمعنى أنه في كل مسألة تعرض له سيراعي عواقبها بعد البعث؛ لأنه يؤمن بالبعث ويعلم أنه صائر إليه، فسينظر في أي مسألة أو قضية تعرض له؛ هل هي تنفعه في يوم البعث أو تضره، والذي لا يؤمن لن يلتفت إلى ذلك أصلاً، بل يكون قصارى موضع النظر عنده الحياة الدنيا، فإذا وجد أن المسألة دنيوياً مربحة ومفيدة، فإنه يقدم عليها؛ لأنه ليس عنده حسابات أخروية، وبالتالي فالفرق بين المؤمن بالبعث والكافر بالبعث كبير جداً، بل هو فرق بين الإيمان والكفر.(123/3)
رد الله تعالى على من أنكر البعث
إذاً فسورة (ق) تدور حول محور البعث، فأول آية فهيا بعد: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] تشير إلى عجب المشركين واستبعادهم البعث: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] فهم ينكرون البعث، والغريب؛ أن حجتهم في إنكار البعث هي مجرد تصفيف الألفاظ والاستبعاد العادي، ليس استبعاداً عقلياً، ولكنه استبعاد بحكم العادة: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} هو مستعبد، لكن على أي أساس.
فلقد لهم أساس، ولهذا رد الله عز وجل على هذا الاستبعاد بردين:(123/4)
درجات الإيمان بالبعث
الإيمان بالبعث نفسه على درجتين: هناك إيمان ذهني عقلي مجرد، مثل ما إذا إنسان نظر وحسب فوجد نتيجة الحسابات أنه لا بد من البعث، لكن هذه النتيجة التي توصل إليها عقله لم يستشعرها قلبه، فلم تتحول عنده إلى عقيدة، وإيمان، وخشية، وخوف، بل ظلت قناعة ذهنية مجردة، وكما يقتنع بأي نتيجة رياضية اقتنع بهذا، ولهذا فرَّق الله تعالى بينهما، فمثلاً وصف الله تعالى المؤمنين المصلين في سورة المعارج فقال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] فهذا الأمر مجرد التصديق بأن هناك يوماً اسمه يوم الدين، ثم أعقبه بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27-28] فليست القضية مجرد تصديق، بل مع التصديق إشفاق وخوف من عذاب الله تعالى، ومن يوم الدين.
وكلما ازداد الإنسان استعداداً ليوم الدين، زاد خوفاً منه، وكلما قل إعداده واستعداده قلَّ خوفه منه، ولهذا تجد أن المؤمن جمع إحساناً وخوفاً كما قال الحسن البصري -رحمه الله- وأما المنافق فجمع إساءة وأمنا، فتجد الإنسان المفرط يمني نفسه بالمنازل العليا في الجنة، ولا تتحرك في رأسه شعرة من ذكر العذاب، وتجد المؤمن، بل تجد المبشرين بالجنة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عنهم_ تجدهم يخافون أن تحبط أعمالهم.
إذاً: الإيمان بيوم الحساب، والإيمان بالبعث على درجتين: الدرجة الأولى: الإيمان الذهني المجرد، وهذا قد نمثل له ببعض الذين عُرف عنهم الإيمان ولم يؤثر فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت فـ أمية بن أبي الصلت كل شعره تخويف من النار، وترغيب في الجنة، ومع ذلك آمن لسانه وكفر قلبه.
الدرجة الثانية من درجات الإيمان بالبعث: أن يتحول هذا الإيمان إلى عقيدة في القلب، وخوف ووجل، وهذا هو الذي يردع وينفع، ويحدو الإنسان إلى العمل الصالح ويردعه عن المعصية.(123/5)
الدليل النقلي الذي يرد على منكر البعث
الأول رد للمؤمنين الذين يكفيهم أن يقرر، أو يبين الله تعالى مسألة ليؤمنوا بها، فلا يحتاجون إلى دليل آخر، بل أعظم دليل عندهم هو كلام الله، فكلام الله عندهم يستدل به ولا يحتاج إلى أمر آخر، فهؤلاء يكفيهم أقل الكلام، لأن قلوبهم مشرقة، فاكتفى بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] فهذه للمؤمن كافية، البعث حق ولا غرابة فيه، ولا بُعد، لأن الله تعالى عالم بكل شيء، حتى عملية أكل الأرض لأجساد هؤلاء الموتى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [ق:3] تحول الجسد إلى تراب أمر معلوم لله تعالى، ومسجل عنده: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] تأكل وتأخذ منهم شيئاً فشيئاً {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] وهو اللوح المحفوظ الذي سجل الله تعالى فيه مقادير الخلائق كلها، قبل أن يخلق السماوات والأرض، وهنا انتهى الأمر بالنسبة للمؤمن والمسلم الذي لا يحتاج بعد هذا الكلام الإلهي إلى دليل آخر، فهذا هو الدليل الذي نستطع أن نسميه الدليل النقلي: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] فإذا كان ذلك كذلك فلا بعد، ويكفي أن الله تعالى قرر ذلك وأثبته.
ثم عقب الله ببيان أن الضلال الذي وقع فيه المشركون هو بسبب إعراضهم عن هذا الحق الذي قرره فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] فهذا هو الحق الذي كذبوا به، كذبوا بالبعث، كذبوا بعلم الله عز وجل، وأن لديه كتاباً حفيظاً، كذبوا بالنبوة، فليسوا على قاعدة يستقرون عليها، فلذا قال: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] والأمر المريج هو المختلط المضطرب، مِنْ مرج الشيء: إذا دخل في شيء آخر، كما في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] فالمروج يدل على دخول الشيء في شيء، ومعناه أيضاً الاضطراب والاختلاط، إذا دخل فيه، فقد اختلط به واضطرب هذا مع هذا، فهذه تصور حال المشركين ليس في زمن النبوة فقط، بل في كل زمان أنهم فقدوا القاعدة التي يستقرون عليها، وهي قاعدة الإيمان بوحي الله، فاضطرب أمرهم.
وفي هذه الآية دليل على أن من ترك الكتاب والسنة فإنه لا يستقر على حال، ولا يهتدي إلى الخير، ولا إلى صواب، لأن النص الشرعي والوحي الإلهي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على الناس، فإذا تركوها وأهملوها أو كذبوا بها، فيضطرب أمرهم، اضطرب أمر العلم عندهم -مثلاً- لأنه علم دنيوي مبني على الحدس والتخمين، لا على الحق واليقين، واضطرب أمر اجتماعهم، واضطرب أمر اقتصادهم، وأمر سياستهم، وحربهم وسلمهم، وعلمهم؛ لأنهم تركوا القاعدة اليقينية، وهي قاعدة الحق: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق:5] الذي نزلت به الكتب وبعثت به الرسل، وبالمقابل إذا كان الإنسان يقتبس من الوحي، فأمره مستقر، لأن الله تعالى بيّن كل شيء، فلا يكون عنده اضطراب.
إذاً: اضطرب المشركون لأنهم كذبوا بالوحي، وكان من اضطرابهم استبعادهم للبعث بعد الموت استبعاداً مجرداً عن الدليل، لكن عقولهم لم تتعود على ذلك، فلما سمعته استغربت، فلما استغربت استنكرت وأنكرت.
فهذا هو الدليل النقلي ثابت، فالوحي حق، والبعث حق: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وهكذا هنا: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] هذا الكلام لا يقنع الكفار بطبيعة الحال، لأنهم يجادلون فيه هو -أيضاً- فهم يجادلون في الله، ويجادلون في آياته، ويجادلون في علمه، ويجادلون في اللوح المحفوظ فلا ينفعهم هذا.(123/6)
إثبات البعث بالدليل العقلي
ولذلك انتقل إلى ما يمكن أن نسيمه بالدليل العقلي على مسالة البعث، فذكر لهم أربعة أدلة: أولاً: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] فهذا الدليل خلق السماء بما فيه من قوة وجمال.
ثانياً: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:7-8] فهذه الأرض أيضاً بما بسطها الله تعالى، ومدها، وجعل فيها من الاستقرار لصلاحيتها للحياة عليها، واستخدامها في البناء، وفي الإنبات والزرع، وفي غير ذلك.
ثالثاً: {وَنزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9-11] فالدليل الثالث هو إحياء الأرض بالمطر بعد موتها، وهي ظاهرة مرئية، فأنت ترى الأرض يابسة هامدة، فإذا أنزل الله عليها الماء انقلبت إلى خضراء تهتز بألوان النباتات، فهذا اُستُدِلَ به في القرآن الكريم لأمرين: الأول: إثبات البعث كما أن هذه الأرض بالأمس كانت ميتة فنزل المطر فأحياها الله تعالى به بعد موتها، فكذلك الإنسان يُحيا بعد موته، بل ويُحيا بالمطر، فقد جاء في حديث البعث: {إن الله تعالى ينزل من السماء ماء فتنبت به جثثهم، فكل ما في الإنسان يبلى إلا عجب الذنب} إلى أن قال: ومنه يعود مرة أخرى {فينبتون كما ينبت البقل} كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام فسواء بسواء كما تنبت الأرض بالمطر كذلك ينبت الإنسان بعد موته.
الثاني: اُستدل عليه بهذا، وهو حياة القلب بعد موته، فإنَّ القلب يموت بالإعراض عن الله وآياته، حتى يظن الناس أن هذا القلب لا حياة فيه.
وقبل يومين حدثني إنسان عن شخص، فذكر ما فيه من الضلال والانحراف، فقلت: لعل الله أن يهديه، قال: مستحيل أن يهتدي هذا الإنسان! قالها هكذا دون أن يفكر في معناها (مستحيل!) سبحان الله! نعم لو قلنا: إنك أنت الذي ستهديه ربما نصدق هذا، لكن إذا قلنا: إن الله يمكن أن يهديه فلا مستحيل على الله جل وعلا فقد هدى من هو شر منه، ولهذا تعرفون الموضع الذي نبه الله تعالى فيه على أنه كما تحيا الأرض بالمطر، كذلك القلوب تحيا بعد موتها بالوحي والإيمان، في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فهذه دعوة إلى إيقاظ القلوب بالخشوع لله تعالى وعدم القسوة، فأعقب ذلك إشارة إلى أنه كما أن الأرض تحيا بالمطر، فكذلك القلوب تحيا بالوحي، فلا ييئس الإنسان من إمكانية أن يعود ويؤوب قلبه إلى الهدى، ويلين بعد أن كان قلباً قاسياً أو منحرفاً ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحديد وغيره، وهو مأخذ حسن، وهاهنا في سورة (ق) ذكر الله تعالى إحياء الأرض بالمطر {وَنزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [ق:9-11] كل ذلك أتبعه بقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] كما تحيا الأرض بالمطر وينبت منها هذا الخير الكثير، كذلك يكون خروج الناس يوم القيامة.(123/7)
من الأدلة العقلية للبعث: الخلق الأول
ثم قال سبحانه: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] وهذا كالتعقيب على كل ما سبق، ففي الآية: أن الله خلقهم أول مرة -وهذا يمكن أن يعد دليلاً عقلياً رابعاً على أمر البعث- وهو خلق الإنسان أول مرة، فيضاف إلى أمر السماء والأرض والمطر الإنسانُ، وقد أشار الله تعالى إليه إشارة واضحة في آخر سورة (يس) : {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] ففيها موضع عجيب، أي أن الله عز وجل لم يذكر إلا البداية والحال، فالبداية من نطفة والحال الآن أنه خصيم مبين، وبين هذا مراحل، لكن الله تعالى طواها ليظهر العجب في الإنسان، فهو بالأمس نطفة، واليوم خصيم مبين لله جل وعلا: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] قبل أن يذكر المثل أتى بكلمة محت كل شيء -والمثل الآن لم يذكر في الآية- لكنه قال: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] هذه الكلمة {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] جملة اعتراضية -كما يقولون- لكنها مسحت كل ما سيقوله الإنسان: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ولو لم ينس خلقه ما قال هذا لأن مسألة الخلق واحدة، بل في مقياس البشر الإعادة أهون من البدء، فالذي بدأ فإن الإعادة أهون عليه، وإن كان الأمر بالنسبة لله جل وعلا كله هين كما قال في نفس السورة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فخلقه بالكلمة سبحانه: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] فأبرز قضية الاستدلال بخلق الإنسان أول مرة، على الاستدلال بإعادته مرة أخرى، وهاهنا في سورة (ق) قال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق:15] كلا {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] أي: التبس الأمر عليهم بالخلق الجديد الذي هو إعادتهم بعد بعثهم.(123/8)
من الأدلة العقلية للبعث قوله تعالى: (كذلك الخروج)
وقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] يدل على أمرين: الأول منهما: إثبات البعث، فيكون هذا من باب القياس، قياس الأمر الخفي المستقبل الذي لم يحدث على الأمر الظاهر الواقع الحادث الآن، فقاس أمر البعث الأخروي على هذا الأمر المشاهد بحياة الأرض بعد موتها.
الأمر الثاني: بيان صفة البعث يوم القيامة، وقد فصَّله النبي صلى الله عليه وسلم في {أن الله تعالى ينزل من السماء ماءً، فينبت الناس منه، ثم ينفخ في الصور، فتطير الأرواح إلى أجسادها} فيكون قوله أيضاً: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] يعني من حيث الصفة.
فهذه ثلاثة أدلة: السماء، والأرض، والمطر النازل من السماء للأرض، وهي أدلة متقاربة، فالدليل الأول يوجه أنظارهم إلى السماء فوقهم، والدليل الثاني يوجه أنظارهم إلى الأرض تحتهم، والدليل الثالث يذكر أمراً متراوحاً بين السماء والأرض، وهو المطر الذي ينزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، وهذا الدليل يذكره الله كثيراً؛ وأنه حجة على البعث وهو دليل واضح، وإنما ذكره الله عز وجل لأنه مما لم يكن للإنسان فيه يد، فالله تعالى هو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً، وهو الذي يبسطه في السماء كيف يشاء، وهو الذي ينزل المطر، وينزل الغيث من بعد ما قنطوا، وهو الذي ينبت الأرض دون أن يضع الإنسان فيها الحب، والزرع، والبذر، فهي أعجوبة كبيرة وإن كانت مألوفة للناس، وكونهم ألفوها قد يقلل من وقعها عليهم.
ولهذا تجد الناس إذا جاء وقت الربيع واخضرت الأرض، يمشون في مسافات بعيدة وطويلة خضراء، فيتعجبون من خضرة الأرض فقط، وهو أمر عادي عندهم، وقد يأتون إلى مدن وقرى ودول خضراء طول العام، فيمرون عليها وهم عنها معرضون، لكن لو جاء أحدهم للأرض في وقت الخريف، وقد يبست الأشجار، ثم وجد في وسط هذا الهشيم اليابس شجرة خضراء تهتز، تعجَّب واندهش وقال: سبحان الله! ما أعظم قدرة الله! فأدرك القدرة بهذه الشجرة لأنها مخالفة لمألوفه، أكثر مما أدرك القدرة بحياة الأرض كلها في وقت الربيع والخضرة، لأن هذا أمر مألوف عنده، وهذا من غفلة الإنسان التي تحتاج إلى إيقاظ، ولذلك تجدون الإنسان الذي يتعامل مع الأرض أحسن وأصدق إيماناً، وأقرب للفطرة من الإنسان الذي يتعامل مع بعض ما صنعه الناس، فالغالب أن الفلاح والمزارع أصدق إيماناً، وأسلم وأقرب للفطرة من الصانع، لأن المزارع يتعامل مع خلق الله تعالى مباشرة، فهو يلاحظ نزول المطر، ويلاحظ انشقاق الحبة عن النبات، وانفراج الأرض عنها، ويلحظ في ذلك القدرة الإلهية: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فيكون في قلبه تعظيم لله عز وجل ومحبة، خاصة إذا اهتدى بهداية السماء، أما الصانع فهو يتعامل مع الأدلة التي هي من صناعة أخيه الإنسان، فبينه وبين التعامل مع ما يلاحظ فيه قدرة الله تعالى واسطة أو وسائط أحياناً تزيده بعداً عن الله، لأنه ينظر في هذه الأدلة فيرى فيها شيئاً عجيباً من الصنع، وهذا الصنع من عمل يد أخيه الإنسان، فتجده يتحول إعجابه إلى إعجاب بالإنسان الذي صنع هذه الآلة مثلاً، وقوة عقله وحدة ذهنه، وما أشبه ذلك لأنه يتعامل معها مباشرة، ولو أنه كان أكثر ذكاء ولو بدرجة، لتذكر أن هذه الحدة في ذهن الإنسان، وهذه القوة والذكاء حصل له من الله، فرجعت القضية إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء، لكنها في الحالة الأولى حالة الزرع مباشرة، وفي الحالة الثانية في حالة الصناعة غير مباشرة.(123/9)
من الأدلة العقلية للبعث: الاعتبار بالأمم السابقة
فالمقصود أن العرب كانوا أهل زرع وحرث، فكانوا يفقهون مثل هذه المعاني، ومع ذلك أصروا على ما هم عليه من الكفر ولم يؤمنوا، ومن عادة الإنسان أنه ينهمك أحياناً في الواقع المحيط القريب منه، فيتخيل الدنيا كلها من خلال الأوضاع التي تحيط به، فإذا أحاط بالإنسان جو معين أصبح هذا الجو يؤثر في نظراته وتصرفاته، -فمثلاً- أهل مكة -جاءتهم الرسالة- فإذا نظروا خاصة في العهد المكي وجدوا أن أكثرهم كافرون بالبعث غير مصدقين بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نظروا إلى أهل المدينة وأهل الطائف والعرب في الجزيرة العربية، فإذا أكثرهم إن لم يكن كلهم على الشاكلة والطريقة نفسها، فلذلك أعطاهم هذا نوعاً من الإصرار على حرب الرسول عليه الصلاة والسلام، بل الضراوة في حربه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم يقولون: أنت أتيت بشيء لا يوافقك عليه أحد.
نأتي لليهود والنصارى، اليهود والنصارى يؤمنون بالبعث، فيلتمسون أسباب خلاف بين الرسول عليه الصلاة السلام وبين ما كان عليه أهل الكتاب، ولهذا قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:6-7] .
ويقصدون بالملة الأخرى النصرانية ففي مثل هذا الجو يوحون للسذج والعوام أن هذا لا يهمكم في شيء، هذا رجل يأتي بأمور غريبة والدنيا كلها ضده، والعالم كله يرفض هذه الأشياء التي يقولها، وقد أتى بشيء خالفنا ولم يوافق فيه أهل الكتاب، فلذلك هذا موضوع سينتهي قريباً، وهذه البلبلة الحادثة من جراء ظهور الدعوة في مكة سوف تحسم، وينتهي أمر الدعوة، وينتهي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في زعمهم، فالله عز وجل ينقلهم وينقل المؤمنين الذين قد يؤثر فيهم هذا الكلام أيضاً إذا سمعوه، خاصة الذين يكون إيمانهم قريباً -حدثاء العهد بالإيمان- ينقلهم إلى ميدان أوسع وأرحب من مجرد التفكير في مكة وما حولها، أو حتى في العالم الموجود آنذاك، وأنه عالم كافر، ينقلهم إلى التاريخ، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} [ق:12-14] وهذه ثمان حالات يُذكِّر الله تعالى بها {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: أن السنة جارية، فالذي جرى على قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وغيرهم يجرى على كل المكذبين، ولهذا قال: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: حق وعيدي على هؤلاء المكذبين بالعقوبة الدنيوية والأخروية، والوعيد حاصل ولو تغيرت صورته، فإن الله تعالى دفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال الذي أهلك به أمماً من أمم الأنبياء السابقين لكفرها وتكذيبها.(123/10)
فوائد المقطع
وفي هذا المقطع فوائد منها:(123/11)
استخدام الأدلة العقلية مع النقلية في النفي والإثبات
وفيه: استخدام الأدلة العقلية مع الأدلة النقلية في النفي والإثبات، حيث نجد أن الله تعالى ذكر هاهنا الأدلة النقلية ثم أتبعها بذكر الأدلة العقلية التي قد تدعو الكافر إلى التأمل، وتزيد المؤمن إيماناً إلى إيمانه.(123/12)
استخدام القياس
وفيه: استخدام القياس، كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] .(123/13)
فضيلة الرجوع إلى الحق
وفيه: فضيلة الرجوع إلى الحق، وأن العبد إذا كان رجاعاً إلى الحق، فإن الله تعالى يؤيده ويسدده، لا يصر على الباطل، ولهذا قال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] والمنيب: هو الرجاع، ِمنْ أناب إذا رجع، فإذا كان من عادة الإنسان أنه إذا ظهر له الحق اتبعه، ولم يقدم عليه لا عادة ولا عرفاً ولا ميراثاً ولا غير ذلك، فإن الله تعالى يسدده ويوفقه للحق، ويرزقه في قلبه البصيرة التي يعرف بها الحق من الباطل: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] .(123/14)
الاستبعاد ليس دليلاً
ومنها: أن مجرد الاستبعاد العادي للشيء ليس دليلاً على أمر من أمور الدنيا، أو الآخرة، فكم من شيء يستبعده الإنسان لأنه غير مألوف لديه حتى من أمور الدين! لو أن إنساناً عامياً اطلع لأول مرة على حكم من الأحكام الشرعية ربما أنكره لأنه لم يتعود أن يسمعه، وهذا كل ما لديه من الدليل، ولهذا كان من أعظم الأصنام والطواغيت التي حورب بها الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ طاغوت العادة كما سماه الإمام ابن القيم وغيره، العادة التي كثيراً ما ووجهت بها الدعوة ووجه بها الحق، والمؤمن ينبغي أن يكون متجرداً، فليست العادة عنده دليلاً، وإنما الدليل عنده الوحي قرآناً وسنة، وهاأنت ترى المشركين أنكروا أمر البعث بناءً على مجرد الاستبعاد: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] .(123/15)
الإقرار بالموت والحساب بعده
وفيه: أن أمر الموت يتفق على الإقرار به جميع الناس حتى المشركون، ولكن هذا لا يكفي في الإيمان بالموت، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أهل السنن عن علي رضي الله عنه: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع، وذكر منها الموت} فمعنى الإيمان بالموت هنا أمر أكثر من مجرد الإقرار بحصوله، بل يتعداه إلى معرفة أن الإنسان يحاسب بعد الموت، وينعم أو يعذب، ثم يبعث، وأن الأمر ليس تناسخاً للأرواح مثلاً -كما تزعمه طوائف من الناس- وأيضاً يكون هذا الإقرار بالموت عقيدة في قلبه تحدوه إلى العمل الصالح، وتزجره عن العمل الفاسد، فذلك كله يتحقق به الإيمان بالموت.(123/16)
كفر الأكثرية بالبعث
وفيه: أن أكثر المشركين من العرب كانوا لا يؤمنون بالبعث، والدليل على ذلك: ما ذكره الله تعالى في كتابه في هذا الموضع وغيره عن موضوع البعث والاستدلال له وتوجيه النظر إليه، وحكى عنهم سبحانه أنهم أنكروا ذلك، كما قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] وهذا لا يمنع أن يكون من بينهم أفراداً قلائل كانوا يؤمنون بالبعث، لما تسامعوا به من أخبار النبوات والرسالات السابقة، وما وصل إليهم من هدايتها، فيوجد عند العرب، وعند الأمم الأخرى الكافرة والوثنية أفراداً قلائل يؤمنون بالبعث، ولكن يؤمنون به بطريقة منحرفة فاسدة أيضاً.(123/17)
من تجاوز الحق فلا قرار له
وفيه: أن من تجاوز الحق فإنه لا يركن إلى قرار، لقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] وأن من أراد طمأنينة النفس، وسكون القلب، وسلامة العقل والتفكير، فعليه أن يقبل على الوحي (القرآن والسنة) ليجد فيهما الجواب الصحيح لكل ما يعرض له من إشكالات عامة أو خاصة، ومن تجاوز هذا ضل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:123-124] ولهذا لو نظرت اليوم إلى واقع العالم؛ رأيت مصداق هذه الآية: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] .
أحياناً تقرأ ما يسمونه نظرية فيها كلام طويل، ودراسات ومناقشات، وبحوث وأمور، وتجدها مبنية على أمر تافه.
على سبيل المثال الشيوعية كانت نظرية كبيرة، ولها أنصار يعدون بمئات الملايين في العالم، وألفت فيها من الكتب والدراسات عشرات الآلاف، وتبنتها دول وامبراطوريات كاملة، وظن أناس أنه لا زوال لها، وإذا بها تنتهي في لحظة، مجرد وجود سياسي انهار، انهارت معه النظرية، فمن الذي لا يستحيي الآن أنه يتكلم عن الشيوعية؟ أكثر الناس إخلاصاً وولاءً لها يستحيي أن يتكلم عنها، حتى ولو كان عنده شيء سيسكت لفترة حتى ينسى الناس الذي حصل ليتكلم على استحياء أيضاً، حتى إنهم يقولون في أحد المتاحف أو معارض الرسم في ألمانيا أحد الفنانين رسم صورة لـ ماركس الذي أنشأ هذه النظرية الفاسدة، وهو يعتذر إلى الرفاق -صورة خيالية- ويقول: أعتذر إليكم أنا كنت أمزح -كانت مزحة- يعني هذه النظرية التي ركضوا وراءها وهتفوا لها، وأقاموا عليها دول وكيانات، وحاربوا من أجلها، وأزهقت أرواح، وسالت دماء، وصارت أموراً عظيمة!! يقول: كانت مجرد مزح، وما ذلك إلا إشارة إلى أنها ليست مبنية على شيء، فهذه عاقبة الإعراض عن الحق، لكن تجد المسلم العادي البعيد عن العلم عنده من الخير والهداية الشيء الكثير الذي لا يملكه أحياناً علماء كبار بعدوا عن هداية الله عز وجل.(123/18)
عظمة القرآن
لقد أقسم الله تبارك وتعالى بالقرآن، فقال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] .(123/19)
قضية البعث مرتبطة بقضية وجود الإنسان
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:16-35] الشرح: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فقد سبق في الكلام على أول السورة، أن الله تبارك وتعالى أقام الحجج على الكفار المكذبين بالبعث، وذكرنا أن هذه الحجج التي مرت في القسم الأول من السورة، تنقسم إلى نوعين: النوع الأول منها: حجج سمعية نقلية في مثل قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] وهي الحجج التي ذكر الله تعالى فيها البعث في هذه السورة وفي غيرها، كما في قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] إلى غير ذلك، فهي أدلة شرعية نصية على إثبات البعث.
النوع الثاني: أدلة عقلية على ثبوت البعث، منها: إيجاد الأرض وإحياؤها بالمطر بعد أن كانت هامدة، ومنها خلق السماوات، ومنها خلق الإنسان نفسه وإعادته في العادة أهون، وكل ذلك على الله يسير كما في أدلة أخرى، ولذلك البعث والنشور.
فبناءً على هذه الأدلة من كان جاهلاً تعلم، وآمن أن الله تعالى يحيي الموتى وهكذا جاءت النصوص، ومن كان عنده شبهة أوشك زالت شبهته وزال شكه أمام الأدلة العقلية القاهرة القاطعة؛ لكن مع هذا وذاك قد يظل إيمانهم بالبعث مجرد اقتناع عقلي بارد، لو سألته قال: نعم.
هناك بعث، لكن توقف الأمر عند هذا الحد.
فأنت قد تختبر إنساناً، فتقول: هل يبعث الناس بعد موتهم؟ فيقول نعم، تقول: وما الدليل؟ فيقول: الدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] أو تأتي لإنسان آخر فتقول له: هل تؤمن بالبعث؟ يقول: أنا مقتنع بالبعث تقول: كيف اقتنعت؟ فقال: نظرت إلى السماء، والأرض، وحياة الأرض بالمطر والزرع، وخلق الإنسان، وأن إعادته أهون، وآيات كثيرة توصلت منها إلى أنه لا بد من بعث.(123/20)
أهمية التفصيل في أمور البعث
ولذلك بعد أن ساق الله تعالى أدلة عقلية، وأدلة نقلية على ثبوت البعث ذكر الله عز وجل تفاصيل البعث وما يجرى فيه؛ من أجل أن يتحول هذا الإيمان إلى يقين في القلب، وعادةً أن الإنسان إذا سمع التفاصيل يتأثر أكثر مما يتأثر بالإجمال، فأنت مثلاً لو قيل لك: إنه حصل في بلد كذا وكذا مذبحة عظيمة راح ضحيتها عشرات الآلاف، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لكن لو أن إنساناً شاهد عيان، جاء أمامك، وبدأ يتكلم لك عن الفظائع تفصيلاً فقال لك: رأيت امرأة بقر بطنها، ورأيت صبياً قطعت أطرافه، ورأيت شيخاً كبيراً ذبح كما تذبح الشاة، ورأيت، ورأيت، وأصبح يحدثك عن الفظائع بالتفصيل، تجد أنه يصيبك من الانفعال والدهشة والتأثر شيء عظيم لم يكن حصل لك من الخبر الإجمالي، بل ربما يزيد؛ فقد يفلح الإنسان في لفت نظرك إلى قتل عشرة أشخاص لأنه أعطاك تفاصيلاً أكثر مما يهزك مقتل عشرة آلاف لم تأخذ عنهم تفصيلاً وإنما أخذت الخبر الإجمالي، فالتفصيل عادةً له تأثير في النفوس، ولهذا ذكر الله تعالى في هذه الآيات تفصيل الأمر من بداية الدنيا إلى نهايتها، من أجل أن تعلم أن مسألة البعث هي المقصود الأساسي من الخلق كله، فابن آدم لم يخلق ليعيش في الدنيا، لكن خلق من أجل الدار الآخرة، كما قال بعض السلف: إن الله تعالى لم يخلق الإنسان للفناء، وإنما خلقه للبقاء، وإنما ينتقل من دار إلى دار، ولهذا بدأ هنا بالخلق فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} [ق:16] منذ خلق آدم (الإنسان الأول) وعبر الأجيال كلها.(123/21)
إحصاء الله لكل شيء
ثم قال: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] والمقصود من هذا العلم أولاً: إثبات العلم لله عز وجل لا شك، فالله تعالى عليم يعلم كل شيء، حتى مجرد الوسوسة التي في النفس، والتي قد يكون الإنسان نفسه -أحياناً- غافلاً عنها، فقد يسرح الإنسان في وسوسة أو تفكير وهو شارد الذهن، لكن ربك يعلم سبحانه، لكن المقصود مع العلم -أيضاً- كتابة هذا العلم: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] في لوح محفوظ، وقال تعالى عن الكفار: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} [النبأ:29] يعني: مكتوباً، والعلم والكتابة هي من أجل الجزاء والحساب، ليقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] .
إذاً قوله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] إشارة إلى أن كل شيء محصى على الإنسان للجزاء الأخروي، وهنا تبرز لك قضية البعث، أن خلق الإنسان والعلم به لكتابة ذلك ومواجهته به يوم القيامة ومجازاته عليه، إذاً رجعنا إلى قضية البعث والكلام فيها تفصيلاً، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] بعلمه تعالى، وبملائكته، وبإحاطته، وبعظمته، هو أقرب إلى الإنسان من حبل وريده.
قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] نموذج تفصيلي للعلم، ملكان عن اليمين وعن الشمال، أحدهما للحسنات والآخر للسيئات، ما يلفظ من قول يقوله الإنسان إلا لديه هذا الرقيب العتيد الحاضر المهيأ الذي مهمته أن يكتب، لذلك بعض الناس يقول: الكلام يطير به الهواء، الواقع أن الكلام لا يطير به الهواء بل هو محفوظ مضبوط، وبعض الناس يسترسل في الكلام في الهاتف، ويقول لك: يا أخي! الهاتف الآن بالمجان، نسي أن هناك رقيباً وعتيداً: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أنسيت هذا! فحفظت القضية الدنيوية ونسيت القضية الأخروية، هو مسجل عليك مثل فواتير الدنيا، وإن كان الأمر مختلفاً، وتواجه وتجازى به يوم القيامة.
وقد اختلف السلف في أمر الكتابة، فقال بعضهم: يكتب كل شيء ثم يمحو الله تعالى ما يشاء، ويبقى ما يجازى عليه الإنسان من خيرٍ أو شر، وهذا هو الصحيح، حتى الكلام العادي يكتب، مثل: ذهبت، وجئت مما ليس فيه إثم ولا بر، وقال بعضهم: لا يكتب إلا الخير أوالشر، والواقع أن كل شيء يكتب لأنه قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .(123/22)
أثر الإيمان بالبعث في الدار الدنيا
إذاً تبين لنا أن قضية البعث مرتبطة بقضية وجود الإنسان في هذه الدنيا، وأن البعث ليجازى بما عمل، وهنا يبرز أثر الإيمان بالبعث في الدار الدنيا، فليس الكلام عن البعث كلام عن عالم آخر لا علاقة له، بل هو كلام عن عالم مرتبط بهذه الدنيا، وهو الوجه الآخر لحياة الإنسان، وفي الآية دليلٌ على أن الإنسان لا يؤاخذ بما حدثت به نفسه إلا إذا تكلم به، فالوسواس الذي يدور في القلب والصدر، والخواطر التي تمر، والشبهات التي يلقيها الشيطان على قلب العبد لا يؤاخذ بها الإنسان إلا إذا تكلم بها، أما إذا دفعها، واستعاذ بالله تعالى منها فإنها لا تضره، ولا يسأل عنها أصلاً يوم القيامة، ولهذا قال سبحانه: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] ثم قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] إذاً: ما ليس بقول ولم يتكلم به العبد ولا أقره؛ فإنه لا يضره، ولا يسأل عنه يوم القيامة، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل} .(123/23)
النقلة من الدنيا إلى الآخرة
نحن الآن في دار الدنيا والناس يعيشون، يتكلمون، يعملون، يفكرون والملائكة يكتبون وهذا جانب، ثم ننتقل إلى الخطوة الثانية وهي: النقلة من الدنيا إلى الآخرة: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فالموت: هو عملية الانتقال في نظر المسلم من الدنيا إلى الآخرة، فما بينك وبين الآخرة إلا نفس يدخل فلا يخرج، أو يخرج فلا يدخل، وأكثر الذين ماتوا لم يكونوا متوقعين أنهم يموتون بتلك الطريقة ولا كانوا مستعدين للموت بما فيه الكفاية، بل كانوا يسمعون الكلام عن الموت، وكأنه يتعلق بأشخاص آخرين غيرهم، لا يخاطبهم أو يعينهم هم مباشرة.(123/24)
مفاجأة الموت
يقول الله تعالى: (وجاءت) وهنا يلاحظ مسألة المفاجأة، وهنا الكلام عن خلق الإنسان، والعلم بما يوسوس، وقرب الله تعالى منه والملائكة الذين عن يمينه وعن شماله، بعد ذلك تجد مفاجأة: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] هكذا بهذه السرعة!! ففي ذلك دليل على قصر الحياة وسرعة زوالها، وأن الموت في الغالب يفاجأ الإنسان، وحين نقول، يفاجئه لا يعني بالضرورة موت الفجأة الذي يأتي للإنسان وهو صحيح شحيح فيموت في لحظة، في حادث سيارة مثلاً، أو بالسكتة القلبية! ليس هذا شرط، بل حتى الذي مات بمرض قد يكون مرضه استغرق أسبوعاً أو شهراً؛ لكنه كان يتوقع أنه يعيش زماناً طويلاً، ولذلك قد مد حبالاً طوالاً؛ فهذه العمارة تعمر، وعنده مشاريع طويلة، وعنده أشياء، ولهذا تجد الإنسان أحياناً يبرم عقوداً عجيبة فيتصبر بيتاً لمدة مائة سنة وشيء، أو مائتي سنة وشيء، وأكثر من هذا، هكذا الإنسان يظن أنه خالد، أو معمر في هذه الدنيا، فيأتي النص القرآني: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] وفي ذلك دليل على ما يعانيه الإنسان عند الموت من الشدائد، والأهوال، يبين هذا في قوله: (سَكْرَةُ) فهي صحوة من حيث أن الإنسان عقل ما لم يكن يعقل، لكن الله تعالى سمَّاها سكرة لشدة ما يعانيه الإنسان، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول وهو في مرض الموت: {إن للموت لسكرات، ويمسح العرق عن جبينه، وكان يضع خميصة على وجهه يتغطى بها، فإذا اغتم وثقل نفسه كشفها، حتى رأت فاطمة ما يعانيه، فقالت: واكرب أبتاه! فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} فالموت كربة تهون عندها كل كرب الدنيا، فأين الملُك والجاه والمال والسلطان من إنسان مثل الفأر في المصيدة، قد قبض عليه والآن تنزع روحه؟!(123/25)
البعث من القبور
ثم ينتقل إلى الأمر الثالث الذي هو موضوع السورة أصلاً، وهو أمر البعث، لهذا قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] ثم بدأ في التفصيل لأن هذا هو الموضوع الأساسي: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] من الملائكة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] كشف الغطاء يبدأ من الموت، فعند الموت ينكشف شيء من الغطاء، فالإنسان إذا عاين الملائكة ورآهم قد تنزلوا أدرك حينئذ؛ لكن بعد فوات الأوان، ولهذا تجد أن الإنسان في الدنيا إذا تذكَّر الموت وصحَّ تذكره صار عنده شعور فيقول: يا ليتني لم أفعل كذا، ولم أفعل كذا، لكن إذا غفل انطلق مع الحرام ومع الشهوة، ومع ما لا يرضي الله عز وجل، فإذا عاين الموت حقيقة، كان الأمر أعظم بالنسبة له، فإذا كان يوم القيامة انكشف له حينئذٍ كل شيء، ولهذا حتى الكفار يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] و {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27] فالمقصود أن الأمر انكشف لهم، فلهذا قال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] قوله: حديد أي: شديد، أو بعبارة أخرى: قوي حاد ينفذ، فأصبحت ترى ما لم تكن ترى، وتسمع ما لم تكن تسمع.
ثم يقول: {بِالْحَقِّ} [ق:19] وفي ذلك دليل على أن الموت والاحتضار يبين للإنسان فيه بعض ما كان غائباً عنه، ويصدق ما كان مكذباً به، فسكرة الموت جاءت بالحق فكشفت للإنسان الحق، فالمكذب صدق، والكافر آمن، لكن لا ينفعه ذلك، والدليل على أنه لا ينفعه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} والدليل الثاني أيضاً من الحديث: {ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم يعني الروح قلت لفلان كذا، ولفلان كذا} .
أيضاً من الأدلة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] فإذا عاين الإنسان الملائكة فقد جاء الحق، لكن بسكرة الموت التي لا يقبل معها عمل، لأنه تحوّل حينئذٍ من إيمان بالغيب إلى إيمان بالشهادة، فقد رأى وعاين: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] تهرب عنه لكنه يلحقك، ولذلك تجدنا نكره حتى ذكر الموت، ولا نريد أن يكدر علينا، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئاً، فهذا هو الأمر الثاني وهو أمر النقلة من دار الدنيا إلى دار الآخرة، والإشارة إلى الموت تتضمن الإشارة إلى حياة البرزخ في القبور حيث الفتنة والسؤال عن الدين، وعن الرب، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام، وحيث النعيم أو العذاب في القبر.(123/26)
تذكر القلب الواعي
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] أي: أن من لم يتذكر فليس له قلب، نعم.
فيه تلك المضغة الموجودة في الصدر، وهي موجودة عنده ولو لم تكن موجودة عنده ما حيي، ولكن قلب الوعي، وقلب البصيرة أمر وراء ذلك.
ففي هذه الآيات والعبر ذكرى لمن كان له قلب، أما من ليس له قلب فهو لا يعتبر بذلك، حتى ميت القلب لو سمع سماع تفهم ربما حيي قلبه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] ولهذا قال هناك: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] ضع أذنك وفكر وقدر وتدبر، وربما يصحى القلب المريض، أو يحيا القلب الميت والله تعالى على كل شيء قدير: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] فنسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا بذكره وشكره وحسن عبادته، ونستغفر الله تعالى مما فرطت به ألسنتنا، أو زلت به أعضاؤنا وجوارحنا، ونسأل الله تعالى أن يشملنا جميعاً بصفحه وعفوه إنه على كل شيء قدير، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.(123/27)
فوائد الإيمان المفصل
الإيمان المفصل أقوى وأعظم تأثيراً في النفس، وأبعد عن أن ينساه العبد، وأبعد عن الشبهات، ولو أن إنساناً أُخبر بوجود بلد من البلدان العظام الآن في الدنيا، فآمن بوجود هذا البلد كان هذا إيمانا مجملاً، لكن إذا أعطي هذا الإنسان تفصيلاً، وقيل له: إن هذا البلد فيه عدد من المدن هو كذا، وعدد الولايات كذا، وعدد سكانه كذا، وجغرافيته كذا، وتربته كذا، وفيه من العجائب كذا، وفيه من الغرائب كذا، وصار ويسرد له التفاصيل، ويسرد، ويسرد فإنه يتولد حينئذٍ عند هذا الإنسان من هذا التفصيل مزيد من اليقين، ولم تبق عنده كلمة غامضة، بل أصبحت كلمة بمجرد ذكرها تتداعى أشياء كثيرة.
مثلاً: قيل له: أمريكا -إذا كان لا يعرف عنها أي شيء- وذكر أمريكا لا يوجد في ذهنه أي تداعيات، لكن إذا ذهب وزار البلد، ورأى فيه الخضرة، ورأى فيه الشلالات، ورأى فيه العجائب ثم رجع، فبمجرد ما يسمع كلمة أمريكا يتداعى إلى ذهنه -وهذا تركيب فطري عند الإنسان- صور عظيمة، فيتذكر في لحظة واحدة -والله جعل في العقل قدرة على هذا- كل الصور التي ذكرها والتي رآها، والتي سمع بها أو قرأ عنها، فتتداعى بمجرد ذكر كلمة واحدة.
وهكذا المؤمن بمجرد ذكر كلمة يوم القيامة، وهي كلمة مكونة -مثلاً- من خمسة حروف، تجد أنه مباشرة يقفز إلى ذهنه صورة الصراط المنصوب، وصورة الميزان الموضوع، وصورة هؤلاء الخلائق الذين يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وصورة النار وهي تفور، وصورة الجنة وقد قربت للمؤمنين، تداعت كل هذه المعاني في ذهنه بمجرد ذكر يوم القيامة؛ لأنها من ضمن الإيمان بيوم القيامة، فهذا من فوائد الإيمان المفصل.
كما أن الإيمان المفصل في أمر من أمور الدنيا، عندما تعطي تفصيل عن بلد تجد عندك رغبة ولهفة في زيارته، والانتفاع والاستفادة مما فيه، والوقوف على عجائبه، فكذلك الإيمان المفصل بالدار الآخرة يجعل عند الإنسان شوق، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: {وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة} فالإنسان الذي يرى في الدار الآخرة هذه الألوان من النعيم، ويرى فيها السلامة من الآفات، ويرى فيها رؤية الله عز وجل ولدينا مزيد: وهي الزيادة والحسنى التي ذكرت وآخر الموعد المذكور في الزبر رؤية الله عز وجل والنظر إلى وجهه في جنة عدن، وألوان النعيم، والحور، والحبور، والقصور؛ يتولد عنده شوق إلى الدار الآخرة -وهذا أيضاً- من فوائد الإيمان المفصل، فأنت ترى الآن أن هذا السياق كله هو في صدد الكلام عن موضوع البعث الذي افتتحت به السورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:1-3]
الجواب
سترجعون، وهذا هو التفصيل.(123/28)
التفصيل في إثبات البعث يزيد الإيمان
قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:33-35] فهذا السياق الآن ذكر فيه البعث ووقوف الإنسان بين يدي الله، والكلام والحوار الذي دار مع الملائكة الكرام الكاتبين، وكلام الشياطين القرناء، وتبرءهم من الإنسان، ثم ذكر فيه مصير أهل الجنة وما يلقون فيها من النعيم، ومصير أهل النار وما يلقون فيها من العذاب والنكال والجحيم، فهذا التفصيل ضمن الإجمال في إثبات البعث يقوي إيمان العبد بالبعث، فإن الإيمان يزيد وينقص -كما هو معروف- ومن زيادة الإيمان: الإيمان بالتفصيل، ولهذا قال الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] .
لماذا زادتهم هذه السورة إيماناً؟ كيف زادتهم إيماناً؟ لما فيها من الآيات والعبر، والأوامر والنواهي، فأدى ذلك إلى العمل بها هذا شيء.
وهناك شيء آخر، لأن الإيمان يزداد بزيادة الشيء الذي آمنت به، فأنت الآن نزلت سورة فآمنت بها فزاد إيمانك ثم نزلت سورة ثانية فآمنت بها فزاد إيمانك، كلما آمنت بشيء جديد زاد الإيمان، ولهذا من رحمة الله أن يفصل لعباده في أمور البعث وغيرها لأنهم كلما آمنوا بشيء جديد زاد إيمانهم.
فمثلاً لو لم يكن الإنسان يعلم إلا أن هناك بعثاً فقط فقال: آمنت بالله وصدقت رسله، وهذا إيمان قوي بالبعث، ثم وصل إلى الإنسان علم أنه بعد البعث هناك الجنة والنار فقال: آمنت بالله، بعد ذلك وصله علم جديد أن هناك الصراط المنصوب، والميزان الذي توزن به الأعمال فقال: آمنت بالله فزاد الإيمان، ثم وصل إليه أيضاً علم جديد في صفة أهل النار وما يلقون فيها من النكال فقال: آمنت بالله فزاد إيمانه، ثم وصل إليه علم جديد عن أهل الجنة وما يلقون فيها من النعيم، فقال: آمنت فزاد إيمانه، وهكذا كل شيء جديد وتفصيل ومعلومات جديدة تقدم للعبد فيؤمن بها، يزداد إيمانه بذلك.
فهذا التفصيل الذي ساقه الله عز وجل في أمر البعث هو زيادة في إيمان العبد لزيادة التفصيل، وهو أيضاً ترسيخ وتقوية لهذا الإيمان، فَفَرقٌ بين الإيمان المجمل والإيمان المفصل.(123/29)
حال المؤمن
وبالمقابل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31-35] فهذه هي النتيجة الثانية للاختبار، نتيجة من أطاعوا الله تعالى، واتصفوا بصفات المتقين وتركوا المعاصي، واتقوا الكفر بالإيمان واتقوا المعصية بالطاعة، وصبروا في هذه الدنيا فكان مصيرهم ذاك، وما بينهم وبين أن يلقوا هذا المصير إلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] .
ثم قال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33] لماذا اتقوا؟ وهل تعتقد أن الإنسان التقي أقل من غيره طمعاً في الدنيا؟ أو أقل من غيره في وجود الدوافع الشهوانية لديه؟ أو أقل من غيره بصراً ومعرفة بسبل الوصول إلى ما يريد؟! لا، فأنت قد تجد المتقي في نفسه من الشهوة مثلما في نفس غيره أو أشد، وعنده من تذوق اللذائذ في الدنيا مثلما عند غيره أو أشد، وعنده من معرفة الطرق والأسباب الموصلة إلى ذلك في الدنيا مثلما عند غيره أو أشد، ولكنه فطم نفسه عن هذا كله، وهو يعرف -لو أراد- الطريقة إليها.
إذاً لماذا حرم نفسه من ذلك كله؟ لأنه من المتقين، هذه هي التقوى.
ثم قال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33] أي: لأنه خشي الرحمن بالغيب، فخاف الله تعالى وهو لم يره، وأيضاً خاف الله تعالى وهو غائب عن عيون الناس، فهو لا يعمل العمل من أجل الناس فإذا خلا بمحارم الله تعالى انتهكها، ولكنه يخاف الله رب العالمين، فيراقبه في الملأ كما يراقبه في الخلا: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فياليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب وقد كان الإمام أحمد يتمثل بهذه الأبيات.
ثم قال: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] وأنت تلاحظ في هذه السورة وفي غيرها كثرة وصف الإنسان الخيِّر بالتوبة، والرجوع والإنابة، حتى هنا قال: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] وقال: {لِكُلِّ أَوَّابٍ} [ق:32] أي: رجَّاع وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] لأن الإنسان لابد له من زلات، ولابد له من أخطاء، ولابد له من غفلة، فالآيات هذه تحثه على أن يسارع بالتوبة، ويكثر منها أيضاً، ولا يقول: أخشى أن لا أصبر على هذه التوبة، بل يتوب ويرجو الله أن يثبته ويصبره عليها.(123/30)
حال الكافر العاصي
ثم يذكر الله تعالى نوعاً من الكلام الذي يجري يوم القيامة: {وَقَالَ قَرِينُهُ} [ق:23] الإنسان الذي هو مناط التكليف -هناك جدل حوله الآن- له قرين من الملائكة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وله أيضاً قرين من الشياطين -كما هو معروف- كلهم حاضرون معه، فالآن القرين من الملائكة يقدم كشف الحساب أمام الله عز وجل: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] يقدم أوراقه، وسبق أن الإنسان معه ملكان، فحينئذ يقول الله عز وجل للملكين: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:24-26] هذا إنسان عاصٍ فاجر فجزاؤه جهنم.
أما القرين من الشياطين فيتبرأ: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27] أي: لست أنا الذي أطغيته، إنما هو من نفسه كان محباً للشر باحثاً عنه، وقد ذكر الله تعالى براءة الشياطين ممن أطاعوهم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] فهاهنا قال: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27] الإنسان بطبيعته لا يقر بهذا، بل يلقي باللائمة على الشيطان ويلومه ويعاتبه كما جاء في آيات أخرى، فالله عز وجل يقول لهم: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:28-29] فهذا الذي قيل له: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق:24] هو صائر إلى النار، لأن أمر الله تعالى نافذ كما قال تعالى: (لا يبدل) {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] ألقي فيها ثم ألقي ثم ألقي كما أمر الله، وكما قال عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك:8] يعني يلقون فيها أفواجاً بعد أفواج، أمم: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف:38] حتى يقول الله عز وجل للنار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] أي: أريد المزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فينزوي بعضها إلى بعض، وينضم بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، وعزتك يا رب} وبعضهم يقول: إن قولها: هل من مزيد، أنها تقول: لا مزيد على ما وضع وألقي فيّ، ويحتمل إن كان الأمر كذلك أن يكون هذا بعد أن يضع الله تعالى فيها قدمه، فهذه هي النتيجة الأولى، نتيجة الإنسان العاصي الكافر.(123/31)
وقفات ومعالم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:36-45] .
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذا هو القسم الثالث من هذه السورة العظيمة سورة (ق) وفيه وقفات ومعالم:(123/32)
آيات الله معروضة في الكون والنفس
قال بعدها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] وفي هذه الآية الوقفة الثانية.
وهي أن آيات الله تعالى معروضة في الكون وفي النفس: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] ولكن العبرة بمن يتلقى هذه الآيات، ويستمع إليها أوينظر إليها بجوارحه، ثم يعتبر فيها بقلبه.
فالشمس آية من آيات الله، ولو تصور الإنسان الجرم الهائل لهذه الشمس، وكيف أن الله تعالى بقدرته جعلها تطلع من المشرق، ثم تذهب إلى المغرب بهذا الانتظام، لرأى أمراً عجاباً، فهذه الشمس ينظر إليها المؤمن فيزداد إيماناً وقوةً ويقيناً وثقة بالله عز وجل، وينظر إليها الكافر فلا تحدث عنده شيئاً مع أنها هي هي، وما الفرق إلا لأن هذا لديه أجهزة استقبال صحيحة (عقل وقلب وحواس) وأما الكافر فقد عطَّل هذه الأشياء، مع أنه قد يكون خبيراً أكثر من المسلم بهذه الأمور، فقد تجد الكافر عالماً فلكياً عنده أرقام وإحصائيات، وكم حجم الشمس، وكم جرمها، وكم بعدها عن الأرض، وما هي طبيعة حركتها، وما علاقتها بالأرض، وعلاقتها بالقمر، وعلاقتها بالأجرام الفضائية الأخرى، وفي وقت الصيف، وفي وقت الشتاء إلى غير ذلك، فقد تجده عالماً بالأفلاك ومع ذلك لم يستفد، أو تجده عالماً بالإنسان فهو يتكلم عن جسم الإنسان، وعن أعضاء الإنسان، وعن الأجهزة الموجودة فيه، وعن قوتها وعملها، وما فيها من الآيات والعبر، ولكنه يتكلم عنها كما لو كان يتكلم عن مسألة رياضية لا تحرك في قلبه ذرة من الإيمان، ولا من المحبة لله عز وجل، ولا من الخوف منه، لماذا؟! لأن أجهزة الاستقبال عنده معطلة، فالحواس التي أعطيها السمع والبصر وبقية الجوارح لم يستثمرها، وكذلك القلب لم يستثمره، فهو يشتغل بعقله لا بقلبه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] .
فلا بد للإنسان من أمرين: الأول: أن يكون له قلب، فالذي ليس له قلب لا ينتفع من سمعه ولا من بصره ولا مما يرى، فيرى العجائب والغرائب فيما خلق الله، وفي المصائب التي تنزل في الناس، وفي والحوادث وفي غيرها ولا يلتفت إليها، ويسمع بأذنه من العبر، والدروس، والأخبار، والوعد، والوعيد، والقرآن أشياء كثيرة، فلا ينتفع من هذا ولا من ذاك، لأنه ليس له قلب.
الأمر الثاني الذي لا بد منه للإنسان هو: هذه الجوارح التي هي منافذ ومعابر إلى القلب، فالله تعالى قد امتن على الإنسان بالسمع وبالبصر وبغير ذلك من القوى التي يتمتع بها، كما قال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وكما قال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء:36] أي: القلب: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فلابد من هذا وذاك، ومن لم ينتفع بقلبه لم ينفعه سمعه ولا بصره، ولهذا قال الكفار يوم القيامة اعترافاً: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10-11] .(123/33)
استغراق الكافر في واقعه
الوقفة الأولى: في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] فالله تعالى بعد أن أقام الحجة على كفار قريش بالأدلة العقلية والنقلية على ثبوت البعث وحصوله وإمكانه، ثم بيَّن لهم تفصيلاً ماذا يكون في البعث والنشور من الجزاء والحساب والمحادثة بين الإنسان وبين الملائكة وغير ذلك مما يدعم ذلك الإيمان ويقويه عقَّب بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [ق:36] ففي هذه الوقفة إشارة إلى أن الكافر مستغرق في واقعه، لا يعنيه شيء بقدر ما يعنيه هذا الواقع، فإن أتيت إلى آماله وطموحاته وجدتها محصورة في واقعه؛ أن يأكل جيداً، ويلبس جيداً، ويشرب جيداً، ويركب جيداً، ويسكن جيداً، وهذا كل منتهى أمله، لأنه لا يفكر فيما وراء الحياة الدنيا.
وكذلك إن أتيت إلى نظراته وتفكيره وآرائه وجدتها مرهونة بواقعه، فإذا قلت له مثلاً: الحق وانتصار الحق وزوال الباطل، قال لك: دعنا من هذا الكلام، هذا كلام لا حقيقة له ولا قيمة، المهم ما نراه بأعيننا، وما نسمعه بآذاننا، فنحن نرى أن الباطل منتصر والحق مغلوب، وأنكم أنتم يا أهل الإيمان لا شأن لكم، ولا وزن لكم، ومن قبل كانوا يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام كلاماً من هذا القبيل، فمثلاً ينظرون إلى الجانب المادي فيجدون الرسول صلى الله عليه وسلم عرياً من ذلك، لا مال ولا جاه -في أول الأمر- فيقولون منتقدين على الرسول عليه الصلاة والسلام: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8-9] أو ينظرون في كونه عليه الصلاة والسلام وحيداً فريداً أعزل ليس معه قوة، ولا سلاح، وليس له دولة في مكة فينكرون ذلك ويقولون: هذا إنسان فرد أعزل ليس معه قوة ولا سلطة، فلماذا نطيعه وهو مجرد رجل واحد ليس له وزن؟! هذا الكلام -أيضاً- قد يؤثر حتى في عقول، وقلوب بعض المسلمين، فإن من طبيعة الإنسان أن الواقع يؤثر عليه تأثيراً بليغاً.
أ/ حال الناس هذه الأيام: وقد تأملت أحوال أكثر الناس فوجدت أنهم مستغرقون في واقعهم، لا يتعدى تفكيرهم حدود هذا الواقع القريب المحدود في الزمان والمحدود في المكان، فلو نظرنا في واقعنا نحن الحاضرين -مثلاً- دعك عن الغائبين، لوجدنا أن الكثيرين منا لا يفكر إلا في حدود الناس الذين يراهم بعينه، أو يعايشهم في حياته، فإذا تكلم قال: الناس بخير، فمعنى ذلك أنه يصف أولئك الناس الذين يعايشهم، ويختلط بهم، وإذا قال ضد ذلك فهو يقصدهم -أيضاً- وإذا فكر تجد أنه يفكر في حدود منطقته، أو إقليمه، أو بلده، أو حتى حيه أحياناً، لكن القليل من الناس من يضيف في تفكيره بُعد الزمان، وبُعد المكان، فينظر مكاناً، فيجد أن خلق الله أعظم من ذلك، وإذا كان سكان بلدك الذي تعيش فيه ألف أو مليون، فسكان هذه الأرض أعداداً كبيرة، والمسلمون منهم يقدرون بألف مليون، وقد تجد في دولة واحدة مائة مليون، ومائتي مليون، فلماذا لا تضيف هذا الرقم إلى تفكيرك أيضاً؟ مثال: لو أن حاكماً طاغية سُلِطَ على مجموعة من المسلمين في بلد من البلدان؛ قد يكون عددهم عشرة ملايين، أو عشرين مليون؛ لوجدت أن كل إنسان ينظر إلى هذا ويتعجب، ويقول: كيف سُلِطَ عليهم وما أشبه ذلك!! ونسي أن هذا الحاكم مهما طغى واستبد؛ فإنه لا يتعدى حدود هؤلاء العشرين مليوناً، وأن غيرهم بمنجاة من ظلمه، وبطشه، ويستطيعون أن يتخلصوا من كيده ومكره، فلذلك إذا أضاف الإنسان عنصر المكان ووسع تفكيره، وجد أنه تغير نظره، فقد تفعل أنت شيئاً لا يرضي من حولك، ولكنه يرضي أضعاف أضعافهم ممن لا يراهم الإنسان بعينه، أو يسمعهم بأذنه، أو يحسهم بجوارحه، فلا يكون محط اهتمامه فقط هم من حوله؛ بل لا يكون أصل قضية رضاهم وسخطهم هي كل شيء عنده، فالمهم أن يرضى الله تعالى عنه.
كذلك مسألة الزمان: بأن تضع في اعتبارك الواقع الذي تعيشه الآن، لكن لماذا لا تفكر -أيضاً- في قرون وأجيال ذهبت؟! وقرون وأجيال سوف تأتي؟! الإنسان الذي يُفكِّر في حدود يومه فقط ينظر في المصلحة القريبة، وقد يفعل ما هو خطأ أو يترك ما هو صواب؛ لأنه يناسب يومه، لكن إذا فكَّر في أن هناك قرون وأجيال، وأنه هو حلقة ضمن سلسلة طويلة تغير تفكيره، فقد تجد أن هناك شيء لا يرضي من حولك في هذه الأيام، لكنه سيكون بالتأكيد له أثر عظيم في قرون وأجيال مستقبلة، فيزيد الإنسان قوة، ودائماً عَيْبَ الإنسان هو أنه يغرق في لحظته الحاضرة، وفي مكانه الحاضر، فهو مأسور بحدود الزمان وحدود المكان.
وكثيراً ما كان الكفار يحتجون على الرسل بالواقع، قد يقولون: أنت يا محمد -عليه الصلاة والسلام- الآن في مكة، أنت الآن تقول مبعوث للعالمين، أنت الآن في مكة لا تأمن على نفسك، أو في المدينة وليس لك أتباع، وليس لك قوة، وليس وليس فتجدهم يحتجون عليه بالزمان وبالمكان، لكن ينسون أن الزمان يتغير، والمكان يتسع، فلهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية جانباً يتعلق بهذين الأمرين، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] أي: لماذا ينظر كفار قريش فقط إلى واقعهم الآن؟! وإلى أن الله تعالى قد أمهلهم؟! وحلم عليهم فلم يعاجلهم بالعقوبة؟! ألا ينظرون إلى أزمنة ممتدة طويلة من قبلهم! فيها أناس مثلهم كذبوا فأهلكهم الله تعالى ولم يبق منهم باقية، ولم يكن لهم مهرب ولا ملجأ من عقوبة الله تعالى لهم! فلو فكروا في هذا لاعتبروا، أو فكروا في الزمان القادم -أيضاً- والأيام المقبلة تفكيراً سليماً لاعتبروا.
ب/ أبو طالب عم رسول الله: انظر مثلاً: أبو طالب حيث كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم -كما هو معروف- ويعظمه ويجله، وله في ذلك أقوال مشهورة مثلما هو معروف في قصيدته: ولقد علمتُ بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وصدقتني وعلمت أنك ناصحي ولقد بررت وكنت قبل أمينا ويقول أيضاً: لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فو الله لولا أن أجيء بسبة تجر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة من الدهر حقاً غير قول التهازل إذاً السؤال ما هو السبب الذي كان يمنع أبو طالب من الإسلام؟ أبو طالب مجرد مثال لأعداء غفيرة من الناس، وليس هو الوحيد، لماذا امتنع أبو طالب عن الإسلام، مع أنه مؤمن ومصدق، وكان يحب أن يفرح قلب النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا لم يسلم؟! لأنه كان يراعي حال قومه في الزمان والمكان، ففي مكة كان إسلام أبي طالب سبباً لأن يُسب أبا طالب، ويعاب، ويعير، وينتقص، وهو من شيوخ قريش، فيقال: إن أبا طالب على كبر سنه وجلالة قدره وجاهه، يذهب حتى يتبع ولداً من أولاده، ويصدقه، ويوافقه، ويطيعه فيما يأمر، وفيما ينهى، فكان يرى في حدود المحيط الذي يعيش فيه شيئاً من العار والعيب والمسبة، فتثاقلت نفسه عن الاستجابة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يرى حوله ما يشجع على هذا.
كذلك بالنسبة للزمان: يتوقع أبو طالب لأنه حكم على الغائب حكمه على الحاضر أي: قاس الغائب على الحاضر، فتوصل إلى أن القضية ستستمر، وبالتالي أبو طالب سيكون في المستقبل لو أسلم مسبة تجر على أشياخه في المحافل، ونسي أبو طالب أنه كان بذلك أسيراً لحدود زمانه ومكانه، ولو أنه انعتق من هذه القيود لأدرك شيئاً آخر؛ لأدرك أن إسلامه هو الخير له في الدنيا قبل الآخرة، فلو أسلم أبو طالب لكان أهل التوحيد، وأهل الإسلام عبر هذه القرون الطويلة التي مضت -الآن أربعة عشر قرناً- كلهم كانوا يحبونه ويمدحونه، ويدعون له، ويثنون عليه، أما الآن فلا يجرؤ مسلم على مدى هذه الأزمنة المتطاولة، أن يقول عن أبي طالب: رحمه الله! أو غفر الله له، لأنه مشرك، ولأن الله تعالى يقول في حق أبي طالب أولاً، وحق من مثله ثانياً: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] إلى آخر الآيات.
إذاً حسابات أبي طالب كانت صحيحة خاطئة قطعاً، فلو أسلم لكانت مديحة تعلن في المحافل، والمجالس في هذا الوقت، لكن الله تعالى غالب على أمره: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فها أنت ترى الكافر محدوداً بحدود الزمان، فينظر فيمن حوله، وحدود المكان، فينظر في الناس الذين يحيطون به، وهذا ليس خاصاً بالكافر فقط؛ بل حتى المسلم قصير النظر تجده محدود بهذه الأشياء، فهو قد يعمل عمل الخير، لكن في حدود الناس الذين حوله، ولا يُفكِّر في الأفق الأبعد، ولا يفكر في الزمان، والمكان.
جـ/ شيخ الإسلام ابن تيمية: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هو نموذج للعالم المجدد الذي تجاوز حدود الزمان، وحدود المكان؛ يفكر تفكيراً أوسع من الرقعة التي يعيش فيها، أو الفترة التي يعيش فيها، فلم يأبه ابن تيمية بأن يخالف بعض فقهاء عصره، ممن كانوا على غير الصراط المستقيم، ولم يأبه ابن تيمية أن تُصدر ضده الفتاوى، ولم يأبه ابن تيمية أن يودع في غياهب السجون، أو يمنع من التدريس، أو يحال بينه وبين طلابه، أو حتى يُضرب، أو يُؤذى، أو تُحرق كتبه، أو يُمنع من التدريس والفتوى، أو يسجن، مع أن هذه الأشياء لو نظر الإنسان إليها بالمقياس القريب ربما تغير في النظرة، فالواحد منا يستحي -أحي(123/34)
أهمية الصبر للداعية ووسائله
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40] .
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق:39] وهذا فيه تصبير، وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى قريش وتكذيبهم، وتعزية للرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه بيان أن الداعية لا بد أن يواجه من أسرى أنفسهم، وشهواتهم، وحدود زمانهم ومكانهم العناد والتكذيب، فلا بد له من الصبر، ومن لم يصبر لا يدعو أبداً، لأنه سيجد ما يثبطه ويقعد عزيمته.
فالناس يقولون له: يا فلان! لماذا أنت تخالف واقعك الذي تعيش فيه؟ ولماذا تتمرد على زمانك؟ ويظلون يحاربونه حتى يقعد إذا لم يصبر، ولهذا أوصى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر في آيات كثيرة، منها قوله تعالى هنا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] وهناك آيات أخرى كثيرة أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] وقال أيضاً: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:7] وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف:28] وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] وقال في مواضع: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] الداعية الذي لا صبر له لا يمكن أن يستمر على دعوته، لأن من طبيعة الدعوة أن تواجه الناس بما لم يألفوا، ولم يعرفوا، فستجد من يقول: لست بملزم، دع هذه الأمور التي تشغل نفسك بها، وستجد من يخطئك على هذا الشيء الذي تقول، وستجد من يعارضك، وستجد من يؤذيك، بل ستجد حتى ممن يحبك من يشفق عليك فيقول لك: لا تعرض نفسك للأذى، والزوجة تقول: لمن تركتنا؟! والولد يقول: لا تدعنا؟! والأم تعرب عن خوفها وقلقها عليك! والقريب وهكذا! فستجد من القريب والبعيد من يحاول أن يثنيك عن طريقك، فإن لم يتذرع الإنسان بالصبر فلا يمكن أن يدعو إلى الله تعالى حقاً، والصبر نفسه يحتاج إلى صبر؛ لأن الواحد قد يصبر أو تصبر يوماً، أو يومين، أو شهر أو شهرين، لكن إذا كثر الطَّرْق عليه تراجع وأثّر هذا فيه ضعفاً وقعوداً، وتركاً للدعوة إلى الله تعالى، أو طلب علم، أو التعليم، أو الجهاد في سبيل الله.(123/35)
الاعتبار بحال الأمم من وسائل الصبر
من الوسائل التي تصبر الإنسان الاعتبار بالأمم السابقة واللاحقة والموجودة الآن؛ ممن لا يقع تحت سمعه وبصره، أي أن ينعتق الإنسان من حدود الزمان وحدود المكان، افترض مثلاً أن من حولك يعارضونك ويؤذونك، لكنك تعرف أن المسلمين في بلاد أخرى قريبة وبعيدة ونائية وغير ذلك معك على ما أنت عليه، ألا يعتبر هذا تقوية وتسلية وتصبيراً للإنسان؟ بلى، بل حتى لو تصورت أن الناس ضدك، لو تذكرت أن ملائكة الله عز وجل يؤيدونك، وينصرونك، ويدعون لك، ويستغفرون لك، ألا يكون هذا تقوية وتصبيراً للإنسان؟ بلى، ومثله أيضاً الزمن المقبل، فلو وجد الإنسان أنه الآن يؤذى، ولكن الله تعالى سينصره بعد حين لصبر على ذلك، لكن حتى لو تصور أن الله سينصره ولو بعد موته، ويظهر حقه على باطلهم لصبر على ذلك، فهذا من وسائل الصبر التي بينها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.(123/36)
الاستعانة بالله أقوى وسائل الصبر
ولا شيء يقوي صبر الإنسان مثل أن يستمد العبد العون من ربه جل وعلا؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا قال هنا: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق:39] فليس صبرك أنت لأنك مجبول على القوة، ولا لأنك إنسان حديدي -كما يقولون- ولا لغير ذلك، بل الصبر منحه من الرب جل وعلا، فإذا استعان الإنسان بربه، وأكثر من ذكره، أعانه الله تعالى ورزقه الصبر، ولهذا قال بعدما أمر بالصبر: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39-40] وقبل طلوع الشمس المقصود به صلاة الفجر، وقبل الغروب: صلاة العصر، ومن الليل فسبحه: المقصود الثلث الأخير من الليل، والعشاء والمغرب فإنهما في الليل وقيام الليل هذا ذكر وتسبيح.
ولا شك أن أعظم الذكر هو أداء الفرائض، كمافي الحديث: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه} وتدخل في ذلك النوافل -أيضاً- كقيام الليل، والوتر، والسنن الرواتب وغيرها، وأدبار السجود المقصود به تسبيح الله أدبار السجود أي: بعد الصلوات المفروضة.
هناك جواب ثانٍ: هو أننا حين نقول أدبار الصلوات المكتوبات فهل بالضرورة إنه بعد الصلاة؟ لا.
بل حتى في صلب الصلاة في آخرها، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: دبر كل صلاة مكتوبة، كما جاء في أحاديث وليس بالضرورة بعد السلام، يمكن أن يقول قبل السلام في آخر الصلاة، فهذا من أدبار السجود، وكذلك الذكر الذي يقال بعد السلام هذا من أدبار السجود، ففيه الأمر بذكر الله تعالى في آخر الصلاة أيضاً، فكل هذه وغيرها مواضع يذكر العبد فيها ربه، ويسبحه، ويستعين به على الصبر على أمر الدعوة.
وأنت تجد الآن في هذه الآية أن الله تعالى أمر بالصبر، وأمر بالتسبيح، فها هنا تبين لك أن العبادة في الإسلام ليست أمراً منفصلاً عن طلب العلم، والدعوة، والتعليم، والجهاد في سبيل الله.
اليوم قد تجد من المسلمين من يتعب، ويقوم الليل، ويصوم النهار، ولكن لا يغار على حرمات الله، ولا يهتم بأمر المسلمين، ولا يدعو إلى الله، بل -وأعرف حالات من هذا القبيل- قد يكون أولاده في منزله على حال لا ترضي الله، ولا يأمرهم ولا ينهاهم، وهو من أهل قيام الليل، فانفصل عنده معنى العبادة عن (معنى الشعائر التعبدية) عن معنى الدعوة إلى الله، مع أنه بالنسبة للصحابة لم يكن هناك فاصل.
الصحابة رضي الله عنهم ليس عندهم هذه التقسيمات فهم يعبدون الله بالدعوة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلما يعبدوا الله بقراءة القرآن، والذكر؛ لكن المتأخرين آثروا الأعمال اليسيرة التي لا مشقة فيها لأنه لا أحد يمنعهم من الذكر، حتى كفار قريش أذنوا لـ أبي بكر أن يعبد ربه في داره ولا يستعلن بذلك، كما هو معروف في صحيح البخاري لكن لو أن أبا بكر مشى في السوق وقال: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فلن تسمح له قريش، فبالنسبة للمسلم الحق ليس عنده انفصال بين الشعائر التعبدية التي يتقوى بها على الصبر، وبين الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، إذاً من أقوى وسائل الصبر الاستعانة بالله عز وجل.(123/37)
البعث والنشور
ثم قال سبحانه: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] فهذا عودٌ إلى المعنى العظيم البارز في السورة، والموضوع الذي استغرق معظم آياتها، وهو موضوع البعث والنشور، وكأن الأمر قريب وهو كذلك، فالله تعالى يقول: (استمع) فكأن إنساناً وضع أذنيه يتسمع متى ينادي المنادي (من مكان قريب) فلا تغتر ببعد المكان، ولا بطول الزمان، فالأمر آتٍ ولهذا قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] وقال سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] وقال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وقال عليه الصلاة والسلام: {ويل للعرب من شر قد اقترب} فلماذا يهلكنا الواقع الذي نعيشه ولا نمتد إلى أبعد من ذلك، فنرى الساعة وقد قامت، ونادى المنادي من مكان قريب، ونسمع الصيحة بالحق، ونرى الناس وكأنهم يخرجون من قبورهم: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] فيعطي هذا الإنسان صبراً وقوةً وإصراراً، ويعطيه معاني عظيمة.(123/38)
ليس عليك هداهم
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:43-45] في الآية الأخيرة في قوله عز وجل: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] قوله: (بجبار) معناها أي: تجبرهم على الإيمان، فعلى هذا يكون المعنى، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] وكقوله تعالى في موضع آخر: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] فمهمة الرسول تتلخص في النذارة، والتذكير فقط، والتبليغ، أما اهتداء الناس أو عدمه فهذا ليس شأنك، إنما هو شأن رب العالمين: قال تعالى: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} [الرعد:31] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] فها هنا قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] وفي ذلك تسلية للداعية، لأن المؤمن ربما لشدة غيرته وفرط حماسه وإشفاقه عليهم، يصبه من ذلك هم شديد، ويحزن فيرى أن يدعوهم إلى النجاة، ويدعونه إلى النار، ومع ذلك يواجهونه بالكيد والحرب، والتكذيب وغير ذلك.
فالله تعالى يقول: لا تحزن عليهم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] لا تحزن، وقال: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] ما عليك إلا مهمة إذا قمت بها فنم قرير العين، هذه المهمة هي أن تدعوهم إلى الله عز وجل.(123/39)
ليس عليك إلا الدعوة
قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] أي هذه هي مهمتك، فهذا كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] أو قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] أو قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35] إلى غير ذلك من الآيات، فحصر مهمة الرسول بالدعوة، قد يموت الرسول أو الداعية ولم يستجب له أحد، ولم يغير من الواقع شيئاً يذكر، والنبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان فهذا لا يعني أنه فشل.
إن نجاحه في قيامه بما أوكل الله تعالى إليه، فإذا قام بدعوته فسواء استجاب الناس أو ردوا، صدقوا أو كذبوا، استطاع الرسول أن يقيم له دولة ودعوة وأن يتبعه الناس، وأن يتغلب على أعدائه فهذا من فضل الله، وإن لم يستطع فهذا قضاء الله وقدره، والدنيا ليست مقياساً، ولهذا الله تعالى في هذا الموضع وقبله أيضاً يقول: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41] .
هب أنك قضيت دنياك كلها شريداً طريداً لم تقبل دعوتك فالأمر يسير، انتظر قليلاً، وتسمع المنادي ينادي من مكان قريب، وفي زمان قريب أيضاً، أو يسمعون الصيحة بالحق ويخرجون من الأجداث سراعاً، وحينئذ يتبين الحق من الباطل، فالدنيا ليست دار قرار، وإنما هي دار ابتلاء واختبار، أما التمحيص والتمييز وظهور الحق الواضح، فهذا يوم القيامة، أما في الدنيا فقد يلتبس الأمر على الناس، وقد يغلب الحق وينتصر الباطل، وقد يكون صاحب الحق شريداً، وقد يكون أسيراً، وقد يكون سجيناً، وقد يكون مؤذى، وقد يكون وحيداً فريداً لا يتبعه أحد، وهذا لا يضره.
إذاً لا يعرف الحق بغلبته وانتصاره وكثره أتباعه، إنما يعرف بعلاماته وأماراته، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.(123/40)
قصة ذكرها الغزالي
يذكرون في الأمثال ما ذكره أبو حامد الغزالي ذكر قصة يقول: إن رجلاً خرج لقطع شجرة ومعه فأس، فلقيه الشيطان في الطريق، وقال له: إلى أين تذهب، قال: أذهب إلى شجرة كذا، شجرة تعبد من دون الله فأقطعها، قال: لا تستطيع، فأمسك الإنسان بالشيطان وهو لا يدرك؛ لأنه لا يدري أنه الشيطان، أمسك به حتى خنقه ثم طرحه أرضاً وقعد على صدره فقال: افعل ما شئت، فقام الرجل، ومضى في سبيله ليقطع هذه الشجرة، فعارضه الشيطان في موضع آخر، فقال: إلى أين تريد؟ قال: أريد أذهب إلى شجرة في مكان كذا وكذا تعبد من دون الله فأقطعها، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: وما هو، قال: أن تترك هذه الشجرة الآن؛ لأنك لو قطعتها الآن عبد الناس غيرها، وأنا أتكفل لك أن أضع تحت وسادتك كل يوم عشرين ديناراً، تأكل وتطعم المساكين، وأبناء السبيل، وتتصدق، وتنفق على نفسك وأولادك، ففكر الرجل فأعجبته الفكرة، وقال: حسناً، وعاد إلى بيته! نام الليلة الأولى فوجد تحت وسادته عشرين ديناراً، فأخذها وتصدق بها، وفي اليوم الثاني نظر تحت وسادته فوجد عشرة دنانير فأخذها، وفي اليوم الثالث وجد دينارين فأخذها، وفي اليوم الرابع لم يجد شيئاً، فأخذ فأسه ومشى في الطريق يريد أن يقطع هذه الشجرة، وغضبه هذه المرة من أجل الدينارين! فوقف له الشيطان وقال: إلى أين؟ قال: أريد هذه الشجرة أقطعها، فقال: هيهات، فأمسك به الشيطان وطرحه حتى كان بين يديه كالعصفور، فقال له الرجل: عجيب! أخبرني لماذا غلبتك أمس وغلبتني اليوم؟! قال: لأنك بالأمس خرجت غضباً لله فلم يقم لغضبك شيء، وأما اليوم فخرجت غضباً للدينارين فغلبتك.
فأنت تجد الكثير اليوم يتحملون الأذى ممن يدعونهم إذا كان أذى دينياً، مثل التقصير في أمر الدين، أو سماع الغناء، أو ارتكاب الفواحش، ويصبرون على المدعوين زمناً وهذا أمر حسن، ولا لوم، بل ينبغي أن يصبروا عليهم ويحلموا لعل الله تعالى أن يهديهم، لكن الواحد منهم لو أوذي في شخصه لغضب لنفسه غضباً.
وأنا أدعوكم إلى ملاحظة هذا في سلوككم، فقد رأيته عياناً في نفسي وفي غيري من الناس، ورأيت الكثيرين لا يغضبون غضباً شديداً إلا إذا نيل من أشخاصهم، أو تعرض لهم هذا المدعو بشيء يمسهم هم في ذاتهم، فإذا غضبوا لأنفسهم حشدوا بعد ذلك الأمور الدينية كلها، مع أنه غضب لنفسه، لكن تجد أنه يقول: يا أخي! هذا خبيث، وهذا لا يصلي، وقد يكون السبب أنه رآه لم يسلم عليه، أو لم يحترمه، أو ما أشبه ذلك، ففرق بين الغضب لله والغضب للنفس.
فالمقصود أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوذي فصبر، وفي أشد المواقف التي تعرض فيها للسخرية من بني عبد ياليل حتى قال: أحدهم: أما وجد الله غيرك، يعني: ما لقي واحداً أحسن منك يبعثه، وقال آخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كنت أنت مبعوث، وقال ثالث: ما ينبغي لي أن أكلمك إن كنت نبياً، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت تكذب على الله، فأنت أهون من أن أكلمك، فما تركوا شيئاً إلا ألصقوه به، وخرج مهموماً -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ونيل منه ومع ذلك في هذا الموقف: (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) فيكون جوابه عليه الصلاة والسلام: {لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا} أي: حتى لو ماتوا هم على الكفر، فربما يكون من ذراريهم من يعبد الله ويوحده، فهذا صبر الداعية، ولا غرابة أن يصبر هذا الصبر والله تعالى يقول له هنا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] ويقول له: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [طه:104] وفي الآية الأخرى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ما معنى قوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) ؟ المعنى على مرأى منا، كما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فقوله هنا: (نحن أعلم) هذا من أعظم أسباب التصبير فكل ما يقع فالله تعالى يعلمه، وأمضاه لحكمة.
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] فتجبرهم وتكرههم، لا تملك ذلك {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] ففي ذلك دعوة للإنسان إلى ألا تذهب نفسه حسرات على المدعوين، بل ينبغي أن يدعوهم ويبذل وسعه ويصبر، ويعلم أن ذلك كله بعلم الله جل وعلا ورؤيته.(123/41)
الفرق بين الغضب لله والغضب للنفس
وأنت تعلم ماذا لقي الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة في الصحيحين لما عرض النبي عليه الصلاة والسلام نفسه على أبناء عبد ياليل بن عبد كلال وهم في الطائف فردوه رداً قبيحاً، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مهموماً لماذا؟ هل كان يطلبهم ملكاً، أو جاهاً، أو سلطاناً، أو زوجة ينكحها؟ كلا.
ليس ذلك كله، إنما كان يطلبهم هذه الكلمة قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فردوه رداً قبيحاً، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهموم على وجهه حتى لم يستفق كأنه كان في ما يشبه الغيبوبة عما حوله إلا وهو بقرن الثعالب وإذا هذه السحابة قد أظلته، ومع شدة ما أصابه منهم صلى الله عليه وسلم هذا ملك الجبال، ثم يسلم ملك الجبال: (مرني بما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) لو كان غيره صلى الله عليه وسلم لقال افعلها، ويكونون عبرة لغيرهم، لكن من شدة الإشفاق والحرص قال: {لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً} الفارق بين دعوة النبي عليه الصلاة السلام وأخلاقه وغيره! الآن أنا وأنت لو كان عندنا جار لا يصلي تصبر عليه خمس سنوات، يمكن ندعوه أو لا ندعوه، ونقول: لعل الله يهديه، ونتلطف له بالقول، ونبذل له المستطاع، لكن لو أنك لقيت هذا الجار في الشارع يوماً، فقلت له: يا فلان لا نراك في المسجد، فقال: يا أخي! ليس لك علاقة، وأنتم أشغلتموني، أشغلكم الله، وكل يوم واحد واقف عند بابي، وأنتم فيكم وفيكم، ولا تستحون، ولا تخجلون، وصار يتكلم عليك، تجد أنك تغضب لنفسك اليوم، الشيء الذي صبرك خمس سنوات عليه لا يجعلك تملك نفسك هذه الساعة لأنه قد نيل من شخصك، فتجد أنك تغضب، ثم تبدأ تستعيد أشياء ماضية، وهذا فيه وفيه، وتجمع كل ما عليه، ليس ديناً الآن، وإنما غضبت من أجل نفسك.(123/42)
الأسئلة(123/43)
اجتماع القلب والسمع
السؤال يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] (أو) ما معناها؟
الجواب
حسب ما ذكرنا (أو ألقى السمع وهو شهيد) هل يكفي أحدهم دون الآخر؟ الأقرب -والله أعلم- من كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد أن (أو) بمعنى الواو لأن صاحب القلب ينفع بما يسمع إذا كان له قلب وسمع الموعظة اعتبر وازدجر.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(123/44)
وقفات حول الأحداث الجديدة
في هذه المحاضرة تفاصيل للأحداث التي جرت بين العراق والكويت، وفيها كذلك تحليلٌ قيمٌ لهذه الأحداث، كما احتوت المحاضرة على ذكر أهدافها، مع ذكر بعض المآخذ على المسلمين إزاء ردود أفعالهم حولها، وفي المحاضرة دروس وعبر مأخوذة من صميم هذه الأحداث، كما أن فيها كذلك تبييناً لواجبات المسلمين نحو مثل هذه الأحداث والنكبات.(124/1)
مقدمة حول الأحداث الجديدة
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله، حمل الرسالة وأدى الأمانة وقاد الأمة إلى ميادين النصر والتمكين، فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير الجزاء: {إن اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .
أما بعد: في هذه الليلة، ليلة الثاني والعشرين من شهر الله المحرم لعام (1411هـ) ، ينعقد المجلس السادس عشر ضمن الدروس العلمية العامة، وعنوان هذه الجلسة هو: وقفات حول الأحداث الجديدة.(124/2)
بديهيات ومسلمات
ليكن عنوان هذا الدرس: حول الأحداث الجديدة، وأجدني مضطراً إلى أن أجمل في كثير من المواضع، وذلك لأسباب كثيرة.
وأبدأ بالنقطة الأولى، وقد ارتضيت أن يكون العنوان الأول: بديهيات ومسلمات.
إشارة إلى بعض الحقائق والمسلمات التي يجب استحضارها:(124/3)
الولاء والبراء من أصول الدين
الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين والمشركين؛ أصلٌ من أصول هذا الدين، قال الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المجادلة:22] وهذا الولاء والبراء هو جزء من مفهوم "لا إله إلاالله" فإن "لا إله إلا الله" نفي وإثبات: نفي الألوهية عن كل أحد إلا الله، وإثبات الألوهية لله تبارك وتعالى وحده، ومعنى ذلك: أن المؤمن يعلن البراءة من كل معبودٍ سوى الله تعالى، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما حكى الله تعالى عنه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4] فأعلن إبراهيم -أبو الحنفاء وإمام الموحدين- أعلن البراءة من المشركين قبل أن يعلن البراءة من معبوداتهم {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4] .
وها هنا أود أن أشير إلى خطأ وقع فيه الكثيرون: من المعروف أن الرافضة يستخدمون لفظ البراءة من المشركين، حتى إنهم في أعمالهم العنيفة المنحرفة التي كانوا يؤذون بها حجاج بيت الله الحرام، كانوا يسمونها: مسيرة البراءة من المشركين، والواقع أن هذا الاصطلاح الذي يستخدمه الرافضة هو من باب التضليل، وذر الرماد في العيون، وإلا فمن هم المشركون في نظر الرافضة؟ نحن المشركون في نظرهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والمسلمون من ذلك العصر إلى اليوم، فهم حين يقولون: البراءة من المشركين، لا يقصدون -كما يتصور السذج فقط روسياوأمريكا وغيرها من الدول- بل يقصدون البراءة من المؤمنين الموحدين لأنهم في نظرهم مشركون.
وقد التبس هذا الأمر على بعض المتحدثين في أجهزة الإعلام، فقالوا: إن البراءة من المشركين أمر فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، حين كان في حالة حرب مع اليهود أو مع النصارى وقد زالت.
وهذا كلام خطير جداً؛ لأنه هدم ونسخ لأصل من أصول التوحيد، البراءة من المشركين حكم باقٍ إلى قيام الساعة، أليس إبراهيم عليه السلام يقول: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4] فليس صحيحاً أنه حين يستخدم أهل البدعة والضلالة مصطلحاً شرعياً نتخلى عنه نحن، ونحاول أن نفرغ هذا المصطلح الشرعي من مفهومه الصحيح.(124/4)
المصائب من صنع أيدينا
قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] حتم لاتردد فيه، كل بلية عامة أو كارثة تنزل بالأمة فإنما هي من صنع أيدينا، بل هي بعض ذنوبنا قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] وليس بكلها فقال الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] فقد يعاقب الله تعالى الظالم بمن هو أظلم منه، ولا أحد يستدرك على القدر، فالقدر سر الله وفعل الله وإرادة الله، ولا أحد يستدرك عليه، قد يعاقب الله الظالم بمن هو أظلم منه، وقد يعاقب الفاسق بالكافر، فلا يغتر الإنسان بأن فلاناً وفلاناً وفلاناَ قد وسع الله تبارك وتعالى عليهم وأعطاهم وأمهلهم، فإن الله تعالى قد يعجل بالعقوبه أحداً ويؤجل غيره ممن هو أظلم منه أو أكفر منه، وقد يعاقب المؤمنين بذنوبهم فيسلط عليهم بعض الظالمين أو الفاسقين أو الكافرين.(124/5)
الصراع بين الحق والباطل
أولاً: الصراع بين الحق والباطل باقٍ إلى قيام الساعة، ومن أجلى وأظهر صور هذا الصراع: الصراع العسكري.
يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الأنعام:112] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أن اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] وقال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] .
فالصراع باقٍ إلى قيام الساعة ومن أبرز صوره الصراع العسكري.(124/6)
الكفار صف واحد ضد الإسلام
ثانياً: الكفار بأصنافهم صف واحد في وجه الإسلام: اليهود قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] والنصارى قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والمشركون قال الله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أن اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] والمنافقون قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] .
وهذه الأصناف الأربعة: اليهود، والنصارى، والمشركون، والمنافقون، كلهم حزبٌ واحد في وجه الأمة الإسلامية، كما قال الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحر بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحداً شيوعيون جذر من يهودٍ صليبيون في لؤم الذئاب تفرق جمعهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب(124/7)
الأهداف من وراء أحداث العراق مع الكويت
ما هي أهداف هذه الأمور التي جرت وتمت على مرأى ومسمع من العالم كله؟ أولاً: الأحداث معروفه، ولا أحتاج إلى أن أتحدث عن تفاصيلها، ونهاية هذه الأحداث وجوهرها: هو حشود القوات العراقية على الحدود الكويتية، ثم اجتياح العراق لالكويت واحتلاله، وتكوين حكومة شكلية وَهْمُ، لا حقيقة له، تطلب الانضمام لالعراق، فيوافق على ذلك، ويعلن ضم الكويت إلى أراضيه لتصبح جزءاً من بلاده.
هذه هي الأحداث، ثم تلاها بعد ذلك ما خُشي أن يكون مطامع أخرى أكبر مما حصل بالفعل، فما هي أهداف هذا العمل؟ في نظري أنه يمكن تلخيص أهداف هذا العمل على المدى البعيد بخمسة أهداف:(124/8)
الهدف الرابع
من المعروف أن قوة العراق ليست ملكاً لرئيسه أو لغيره، فالأشخاص يذهبون ويجيئون، وهذه الأمة أمة معطاة، لابد أن يوجد فيها اليوم أو غداً من يحمل الراية، ولذلك فإن مما يزعج الغرب -بكل حال- أن يوجد بلد إسلامي فيه قوة عسكرية، سواءً من حيث العدد، أو من حيث السلاح، أو من حيث التصنيع؛ لأن هذه القوة ليست رهناً بوجود حاكم معين، فهذا الحاكم قد يذهب، ولذلك فإننى أعتقد أن الغرب يسعى إلى القضاء على هذه القوة التي خرج بها العراق، بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران، فقد خرج بما يزيد على مليون مقاتل، وأسلحة قوية متطورة، وقدرة تصنيعية وخبرة طويلة، فلابد من القضاء على هذه القوة التي تهدد إسرائيل وتهدد الغرب، وقد تكون سبباً في طموحات معينة لمن يقود ذلك البلد، ولسنا نشك أن صداماً أو غيره، أنه هو يسير في ركاب الغرب أو الشرق، ولا يمكن أن يضرب مصالحهم، ولكننا -كما أسلفت- إن هذه القوة لسنا نعتقد أنها ملك له، بل هي ملك للأمة، وقد يذهب فلان ويجيء غيره، فالناس يذهبون ويجيئون، وهذا الأمر يمكن أن يتم بأحد أمور: إما بافتعال معركة بين العراق وإسرائيل، بحيث أن إسرائيل تضرب المواقع الحساسة في العراق وتدمر قوته كما فعلت في مصر، وهذا محتمل، وإما عن طريق تشجيع تحريك الوضع الداخلى لتغير القيادات وتغيرالوجوه، وإما عن طريق أمر ثالث الله تبارك وتعالى أعلم به.(124/9)
الهدف الخامس
دعم الوجود الغربى، وتأمين غطاء إعلامى مقنع لهذا الوجود.(124/10)
الهدف الثانى
التخلص من الفلسطينيين، سواء بنقلهم إلى الكويت أو غيرها لتكون وطناً لهم، باسم الجيش الشعبي الذي ينادي به صدام ويضحك به على عقول السذج، فقد أعلن عن تكوين ما يسميه بالجيش الشعبى العربي، واستفز عقول الناس في تكوين هذا الجيش، ولعله يريد أن ينضم لهذا الجيش الفلسطينيون بالدرجة الأولى في أكثر من بلد عربي؛ ليأتي ويضعهم في الكويت بحجة أنهم جيش شعبي لحماية أراضى العراق، ليكون الكويت وطناً لهم، على حسب ما يخطط {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وقد يكون ذلك بإقامة دويلة فلسطينية منزوعة السلاح كما هي الفكرة القائمة.(124/11)
الهدف الثالث
ضرب الصحوة الإسلامية، ويتم ذلك بأمور:- أولاً: لا شك أن ما جرى في الكويت، هو ضربة عنيفة لنشاطات إسلامية كبيرة، وقد علم الناس في كل مكان أن الجمعيات والنشاطات الإسلامية والمشاريع الخيرية، في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا تدعم من بلاد الخليج كلها، وأن الكويت من أكثر بلاد الخليج نشاطاً في هذا المجال، حتى أن أموال دول خليجية أخرى تمر عبر جمعيات إسلامية في الكويت، كجمعية الإصلاح، وجمعية إحياء التراث، والهيئة الخيرية، ولجان المناصرة، وحيثما انتقلت في أي بلد من بلاد العالم؛ تجد جهود هؤلاء الخيرين ومشاركاتهم، فهي الآن أصبحت لا تجد الدعم الذي كانت تجده بالأمس، وبذلك تقلص النشاط الإسلامي إلى حد بعيد.
الأمر الثانى: من مظاهر احتواء الصحوة الإسلامية والقضاء عليها: هو احتواء المشاعر الإسلامية في الخليج وغيره بطريقة ذكية مخططة.
فقد رأينا كيف يستغل صدام البعثي، فيستخدم الأساليب الدينية لإثارة مشاعر الشباب، فيهز عواطف السذج في كل مكان، وتتعلق كثير من نفوس المغفلين به، وتظن أن الخلاص على يديه، حتى أصبحنا -بكل أسف- نجد المؤيدين له، ليسوا فقط من البعثيين أو من القوميين، بل ربما تجد من بعض المنتسبين إلى الصحوة الإسلامية وبعض رواد المساجد؛ من ينطلقون بالهتاف لهذا البطل المصنوع، الذي هو عبارة عن بالون منفوخ لا حقيقة له، لكن صنعوا منه بطلاً وليس كذلك.
وقد تخوض هذه الجموع الساذجة المغفلة، قد تخوض حرباً معه لا تدري ما نهايتها، ولا تدري ما هي أهدافها، وما أسرع ما نسيت الجماهير المسلمة أفعاله الشنيعة البشعة في العراق! بتدمير المسلمين والقضاء عليهم، وهدم المساجد على رءوس أهلها، وحرب الدعوة الإسلامية، وتشريد الدعاة، بل ما أسرع ما نسيت قتله لجموع غفيرة من المسلمين الأكراد في ما يسمى بمدينة حلبجة! حيث قتلهم بما يسمى بالأسلحة الكيماوية، ومات منهم -حسب بعض التقديرات-، ما يزيد على عشرين ألفاً، بضربة قاسية وجهها إليهم، وهو لا يرحم ولا يألو في مؤمن إلاً ولا ذمة، وكيف يرحم هؤلاء، وهو يقتل أقرب الناس إليه في سبيل الحفاظ على مصالحه وطموحاته الشخصية؟! ما أسرع ما نسي الناس ذلك كله، أمام هذه العواطف الخادعة والأمل الكاذب! وقد يواجه هؤلاء الشباب الذين يهتفون له، قد يواجهون في حروبهم شباباً مثلهم ينطلقون لمواجهة هذا السيل الكاسح، الذي هو في حقيقته وأهدافه سيل بعثي، يطمح إلى توحيد عددٍ من البلاد العربية المهمة، تحت راية حزب البعث الاشتراكي القومي المعروف.(124/12)
الهدف الأول
تأمين إسرائيل وحمايتها من أي خطر يهددها في المنطقة الإسلامية.
وذلك لأن أمن إسرائيل يعتبر هدفاً كبيراً في نظر الغرب، ولابد من دفع أي خطر يهددها في أمنها، سواءً كان من داخلها أو من خارجها.(124/13)
مخطط الأحداث
مخطط الأحداث وكيف جرت.(124/14)
التخلص ممن لا يريده الغرب
وبهذا حققوا أهدافاً عديدة سوف تظهر بعد قليل، لعل من أهمها: التخلص مِنْ وضع ربما لا يكونون راضين عنه تماماً، ربما يكون خرج عن المدار بعض الشيء، فضلاً عن الإيحاء الشديد بأهميتهم ومدى الحاجة إليهم في كل وقت، وفي نفس الوقت أعتقد أنهم أوقعوا العراق في فخ يصعب الخلاص منه، فهو أصبح ذئباً وإن كان ذئباً إلاأنه وقع في المصيدة أيضاً.
فبعد ذلك حصل وضع إعلامي، وحديث عن جدية التهديدات العراقية، ولابد من ضمان أن لا يتوسع العراق أكثر مما توسع، فكان الجو ملائماً لوجود تدخل أو ما يسمى بالقوات المتعددة الجنسيات، ومن بينها قوات عربيه كما هومعروف، وكانوا يصرحون بأن هدفهم في ذلك؛ أنهم لا يمكن أن يوافقوا على أن يتحكم مثل الرئيس العراقي في نصف مخزون النفط العالمي، فرافق دخول قواتهم صخب إعلامى مؤداه: جدية هذه التهديدات العراقية لاكتساح المنطقة، خاصة مع وجود تحالفات عراقية عربية تزيد من خطورة الموقف.
بوصول هذه القوات وجد نوع مما يسمى بالردع، فالقوات العراقية لا يمكن -والله تعالى أعلم- أو هذا الوضع لا يمكن أن يمنح القوات العراقية من التقدم، وفى نفس الوقت أعلنت القوات المتعددة الجنسيات؛ أن مهمتها مهمة دفاعيه وليست مهمة هجومية، بمعنى أنها فقط تريد منع العراق من التقدم، وليست تريد أن تهاجم الأراضي العراقية، هنا يمكن أن نلاحظ مشكلة، وهي وضع الكويت الذي يعتبره العراق جزءاً من أراضيه، ويعتبر الدخول فيه اعتداءاً على أرض عراقية، في حين أن دول العالم الأخرى كلها تعتبر أن أرض الكويت أرضاً كويتية، ويجب أن تعود للكويتيين أنفسهم، ويخرج منها العراق، ولهذا فليس من المستغرب؛ أن هذه القوات تفكر بأنه لابد من تطهير الكويت باعتبارها أرضاً كويتية وليست عراقية، وهذا يعتبر دفاعاً وليس هجوماً، وهذا يحتمل أن يكون فتيلاً قابلاً للاشتعال في أي لحظه، ويمكن أن تنتهي الأمور عند هذا الحد الذي وصلت إليه الآن، ويتوقف التصعيد في منطقة الخليج لفترة معينة، بحيث ينتهى الفصل الأول من المسرحية عند هذا الحد، ويبدأ فصل جديد يستثمر التحالفات العراقية العربية، الأردن وسوريا والجزائر واليمن إلى آخره، للتحضير لهجمة عراقية على إسرائيل، حيث تقول العراق: إن إسرائيل تستهدف العراق من خلال قواتها.
المهم أن إسرائيل إن حصل عليها اعتداء فسوف ترد بقوة، وهي بلاشك تفوق العراق من حيث التقنية المتطورة والإمكانيات التسليحية المتقدمة، وتستطيع بأن توجه إلى العراق ضربة قوية، وبذلك تدمر جزءاً كبيراً من قوته، وقد تدمر المفاعل النووي الذي سبق أن دمرته بمفاجأة غريبة، وبني مرة أخرى بمساعدة دول عربية.
فهذه أحد الأهداف لمثل هذا العمل، على أن هذه الامور كلها مجرد احتمالات: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] وليس ببعيد أن يأتى التدمير من الداخل -كما أسلفت- بتشجيع أي حركة بتغيير الوجوه والقيادات.
وعلى فرض نشوب حرب حقيقية أو حرب تمثيلية بين القوات العراقية والقوات المواجهة لها، فإن من أكبر المآسي التي يفزع لها القلب المؤمن؛ أن هذه الحشود التي يجمعها صدام تحتوي -كما أسلفت- على طائفة من المغفلين من أبناء الإسلام الذين خدعهم بالخطاب الديني، وحرك فيهم العواطف وألهب فيهم الحماس، فنسوا التاريخ الماضي، ونسوا التجارب السابقة، وانساقوا وراء هذه الشعارات الإعلامية الكاذبة، وما أكثر ما ينساق المسلمون وراء الإعلام المضلل! وقد يذهبون وقوداً للحرب بالوكالة عن غيرهم، لايعرفون نتائجها ولا أهدافها، ولايدرون أتنتهي لصالح هذا الطرف أو ذاك؟ وسيواجههم أيضاً مثلهم.
وهكذا يصدق ما ورد في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يأتى على الناس زمان لايدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قُتِل} مسلم مؤمن موحد يقتل تحت راية لا يدري أي راية هي! ولا يدري لماذا يقاتل؟ ولا لماذا قتل؟ تسيرهم أطماع الشرق أو الغرب، وأطماع فلان أو علان، فينساقون وراءه بدون وعي ولا بصيرة، لوكانوا من دهماء الناس وهمجهم ورعاهم؛ لقلت: هذا شأنهم في كل زمان ومكان.
لكن يؤسفك أن يكون هؤلاء من رواد المساجد، أو يكونوا من القوم الذين يُظن فيهم الصلاح.
كما أنه ليس من المستحيل أن يولد هذا الضغط العالمي المتزايد؛ دافعاً لأن يقول الرئيس العراقي كما قال شمعون: "علي وعلى أعدائي.
" ويدمر نفسه ومن حوله ويغرق المنطقة إن استطاع في بحر من الدم أو في جحيم من اللهب، ونسأل الله جل وعلا أن يقي المسلمين شره وشر غيره، وأن يقيهم شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ للمسلمين بلادهم وأمنهم واستقرارهم، ويحفظهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم إنه على كل شىء قدير.(124/15)
إغراق المنطقة في صراعات مستمرة
قد يتعجب بعضكم ويقول: ما علاقة هذه الأهداف بما جرى؟ فأقول: المنطقة الإسلامية والعربية منطقة مهمة، وخاصة منطقة الخليج العربي، حيث فيها أعظم مخزون نفطي في العالم، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي، فالغرب وضع دولة إسرائيل في فلسطين في قلب البلاد الإسلامية، وعقد معها حلفاً تاريخياً وثيقاً، هو الذي صنعها وأوجدها وحماها ولا يزال، ولا يأمن الغرب من التغيير الإسلامي في أي وقت، مهما وجد أمثال صدام وغيره من الذين يحالفونه، فإنه لا يأمن أن يقدم الإسلام وتصبح هذه القوة في أيدي المسلمين يوماً من الأيام.
ولذلك يسعى الغرب إلى إغراق المنطقة في صراعات مستمرة، وهذا في مصلحته لأن فيه إنهاكاً للمسلمين وشغلاً لهم عن التفكير بأن يصححوا أنفسهم، أو يتقدموا في مجالات الحضارة والعلم والصناعة وغيرها.
فلا غرابة أن يخطط الغرب لمثل هذه الأعمال، ولا غرابة أن يفتعل الغرب حروباً طاحنة ويدعم فيها الطرفين كليهما، حتى يخرجا من هذه الحرب في غاية الإنهاك.
ولعل من الأمثلة لذلك: الحرب العراقية الإيرانية.
فإن القوى الغربية كانت تدعم العراق وتدعم إيران في نفس الوقت، وكان من مصلحتها أن تستمر هذه الحرب إلى أجل معين.
ومثل ذلك ما يجرى في لبنان منذ سنين طويلة.
ومع تزايد الصحوة الإسلامية أصبح هناك خوفٌ مقلقٌ، كثيراً ما تردده التقارير الغربية ومراكز البحث ومراكز الدراسات المستقبلية، وهي تدق ناقوس الخطر من الإسلام القادم، وتضخم هذه الظواهر والحقائق، وتبالغ في تصويرها، حتى أصبح رجل الشارع العادي في أمريكا أو أوروبا؛ فزعاً مما يسميه بالأصولية أو الصحوة الإسلامية، أو ما يسمونه بالتطرف أو أي اصطلاح آخر.
ولذلك تحرص هذه القوى الغربية على إرجاع الأمة الإسلامية دائماً إلى الوراء، لتنتهى حيث بدأت، وتحرص على هز بعض الأنظمة التي تعتقد أنها خرجت عن المدار، وتستبدل بها أنظمة أخرى تكون أكثر ولاءً للغرب، وكل هذا يؤيد فكرة الغرب حول إسرائيل، وأهمية وجودها في المنطقة، كحليف تاريخي لمصالح النصارى في البلاد الإسلامية.
من هنا جاءت هذه الأحداث المرسومة بدقة، وحين نقول: بدقة، نقول: هم بشر يخطئون ويصيبون في أحداثهم وخططهم، ويجتهدون في تحقيق مصالحهم، لكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وكم حاولوا ثم فشلوا، ولعل ما جرى للروس في أفغانستان شاهد عيان، حيث جروا أذيال الخيبة وخرجوا منها مهزومين، وأدركوا بعد ذلك أنها كانت مغامرة خاطئة، وحاسبوا من كان سبباً فيها.
فليس معنى ذلك أن كل ما يخططونه فهو ناجح ولابد، بل قد يخططون أشياء، وتأتي الأمور على خلاف ما يريدون وخلاف ما يتوقعون، ولذلك ليس ببعيد أن يكون الغرب وأن يكون النصارى؛ وراء دفع العراق إلى دخول الكويت، وأنهم أعطوه الضوء الأخضر لذلك.
ومما يؤكد هذا: الحشود العراقية على الحدود الكويتية منذ زمن، ومن الظاهر جداً أن هناك حركة غير عادية، فضلاً عن التهديدات الصريحة، إضافةً إلى هذا وذاك، فإن الدوائر الأمنية في أمريكا وغيرها؛ أطلعت مسئولين في المنطقة على ما أسمته بمخططات عراقية لغزو دولهم.
وهذا معناه أنهم اطلعوا على مخططه لغزو الكويت، ولكن لمصلحة معينة يريدونها لم يريدوا أن يعلنوا هذا في حينه، ولا أن يتخذوا مواجهة ضد غزو العراق لالكويت، وسمحوا له بذلك لأمر يريدونه ويخططونه، وإن كانوا استنكروا ذلك وشجبوه في أجهزة إعلامهم.(124/16)
مآخذ على تفاعل المسلمين مع هذه الأحداث
الأحداث هي التي تكشف عن معادن الرجال وتبين حقائقهم، ولذلك أسرد لكم بعض المآخذ التي وجدتها فيمن أراهم أو أسمعهم من الناس، على إثر هذه الهزة العنيفة التي لم تكن لأحد منا في حساب.(124/17)
ضعف التوكل
مأخذ آخر على تعامل الناس مع هذه الأحداث: ضعف التوكل.
لقد كشفت هذه الأحداث عن ضعف توكل الناس على ربهم، وعن شدة تعلقهم بالأسباب والماديات، وهذا هوالفيصل بين الإيمان والنفاق.
لما جاء الأحزاب وأحاطوا بالمدينة، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً بانت الحقائق، فالمنافقون قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وقالوا: هذا محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب لقضاء الحاجة.
أما المؤمنون لما رأوا الأحزاب وادلهمت الأجواء وتكهربت، وأحيطت المدينة المنورة بقوة لا طاقة ولا قبل لهم بها، قالوا: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] فالإيمان حقيقة تتكشف مع شدة الأحداث، تكشف الأحداث عن قوتها وصلابتها وصمودها، أو يبين أن الإنسان قلبه والعياذ بالله خواء من الإيمان، ليس فيه إلا الخوف والرعب والفزع أن يتخطف بكرة أو عشياً.
والإيمان قرين التوكل، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] هودٌ عليه السلام حين جمعوا له قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوآخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فهذه القوة التي تجمعون، والمؤامرات التي تدبرون، هي بيد الله عز وجل، ولوشاء أن يحبطها أحبطها، فأنا متوكل على الله تعالى ربي وربكم وربها، فتحداهم وقال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55] لا تنتظروني ولا تمهلوني، وكل ما في أيديكم فاصنعوه، فأنا أملك القوة التي لا تملكون {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود:56] .
لا بد -أيها الإخوة- أن نعرف حجم الأسباب المادية، وأن القوة لله جميعاً، وأن المنع بيده، والإعطاء بيده، والنفع بيده، والضر بيده.
كم هومؤسف أن الواحد منا يردد بكرة وعشياً: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ولكنه -عملياً- يشعر بأن الحول والقوة بيد فلان أو فلان، أو الدولة الفلانية أو الدولة العلانية، وكم هو مؤسف أن يقول الانسان منا بكرة وعشياً: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم تجده يتعلق بغير الله، أو ينتظر من غير الله، أو يتوكل على غير الله.
وكم هومؤسف أن الواحد منا يقول دبر كل صلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذات الجد منك الجد.
ثم يعتقد أن المنع أو العطاء أو الضر أو النفع بيد أحد غير الله عز وجل.
فالخلق كلهم أدوات ينفذون ما أراده الله تبارك وتعالى منهم، والله تعالى يجري قدره بما يشاء.(124/18)
عدم توقع الأحداث وانتظارها
مأخذ ثالث في أسلوب تعاملنا: قضية المفاجأة بالأحداث.
وهذا من أكبر مظاهر الضعف عند المسلمين؛ أنهم يفاجئون بالأحداث ولا ينتظرونها ولا يتوقعونها، وهودليل قطعي على أنهم لا يساهمون في صناعة الأحداث، بل ولا يستطيعون رصد الأحداث، وتوقعها قبل وقوعها، وهذا -كما أشرت- هومن أعظم مظاهر ضعف المسلمين.
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ حتى الأحداث في مناطقهم وفي بلادهم في أموالهم، تدار في بلادٍ أخرى وتصنع، ويفاجئون بها دون أن يكون لهم علم، ودون أن يكون لهم أثر في تحريكها أو إيقافها أو توجيهها إلى وجهة معينه.
لعل رجل الشارع العادي في البلاد الأجنبية -أحياناً- أكثر إهتماماً بالأحداث من المسلم، والآن لونظرت إلى رجل الشارع في بلاد النصارى؛ لوجدته معنياً بالأحداث أكثر من عناية كثيرٍ من المسلمين، ويهتم لها أكثر مما يهتم لها، ويتابعها أكثر مما يتابعها، ويتصورها أكثر مما يتصورها.
وكم فوجئ المسلمون في تاريخهم بأحداث كثيرة، لعل من أكثرها المفاجآت التي تمت على يد اليهود في المنطقة، باعتبار أن اليهود -كما أسلفت- خلفاء تاريخيين للنصارى، ضرب الطيران المصري كان مفاجأة، وجولات إسرائيل على العراق، لضرب المفاعل كان مفاجأة، والضرب على تونس للقضاء على مجموعة من الفلسطينيين كانت مفاجأة، وأحداث أفغانستان كانت مفاجأة، وأحداث باكستان في أكثر من مناسبة كانت مفاجأة.(124/19)
ردة فعل غير متزنة
مأخذ رابع: قضية ردة الفعل غير المتزنة عند المسلمين.
وهي من آثار المفاجأة بالحدث، فإن الإنسان إذا فوجئ بشيء يتصرف -أحياناً- بصورة غير مدروسة؛ لأنه لا يدري ما هي الأسباب، ولا ما وراء الأحداث، فيندفع باتجاه الحدث، فيحقق هدفاً يراد منه أن يؤديه، مجرد دور يراد منه أن يصنعه، فيؤديه دون وعي منه بطبيعة الموقف.
مثال: عدوشرس مدجج، قوامة ثلاثة ملايين مقاتل مدرب، دخل بلداً إسلامياً واحتله بالقوة وهذا مثال تمثيلى خيالي وفي هذا البلد ألف من الشباب المتدين، لم يكن لهم من الأمر شيء، يُحكمون بغير ما أنزل الله، مضطهدون مضيقٌ عليهم، استسلم الناس لهذا الجيش الغازي كلهم، وحنوا رءوسهم للعاصفة حتى هدأت، وعادت المياه بعض الشيء إلى مجاريها، إلا هؤلاء الأشاوس، فقد قال قائلهم: علامَ نعطي الدنية في ديننا؟ هذا فلان لا نجوت إن نجا، هبي يا رياح الجنة.
وهكذا اقتحموا حتى قتلوا عن آخرهم، إنهم -إن شاء الله- شهداء، وكفاهم هذا فخراً وشرفاً، نسأل الله أن يكونوا كذلك -وهذا كما قلت لكم مثال- لكن ليس هذا طريق النصر للإسلام، لأننا تُعبدنا بالصبر كما تعبدنا بالجهاد، قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] كان المؤمنون في مكة ضعفاء، ولذلك كانوا يؤمرون بالصبر، ويتحملون أذى المشركين وقتلهم واعتداءهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويتعبدون الله تعالى، لا يقفون مكتوفي الأيدى، يتعبدون الله تعالى بشيء اسمه الصبر، والصبر أيضاً هو قرين الإيمان، وليس الإيمان مجرد اندفاعات عاطفية هوجاء ليس لها زمام ولا خطام.
كان المسلم في مكة يقتل وإخوته صابرون، بل هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين، لما دخل مصر وكانت معه زوجة جميلة حسناء، فأخبر بها الملك الجبار فدعا بها، يريد أن ينتهك عرضها ويعتدي عليها، ولم يكن لإبراهيم نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم حولٌ ولا قوة، إنما كان كل ما يملك أن يتجه إلى الله تعالى بالصلاة والدعاء، فلما دخلت على الجبار صَلَّت ودَعَت الله تعالى عليه، فقبضت يده، أصيبت يده بالشلل، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك.
فدعت الله فأنفكت يده، ومرة أخرى وثالثة.
فقال لمن حوله: إنما جئتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان، ثم أخرجها من عنده وأعطاها هاجر، وجاءت إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهويصلي، فأشار إليها بيده ما الخبر؟ قالت: رد الله كيد الكافر في نحره، وذكرت أنه أعطاها هاجر.
المهم أن المؤمن قد يتعبد بالصبر، حين يكون ضعيفاً يدرك أنه لا حول له ولا قوة، والله تعالى يقول في محكم تنزيله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66] هذه آية ناسخة، والتي قبلها المنسوخة: {إن يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] لكنَّ المسلمين في كثيرٍ من البلاد التي يواجهون فيها قوة عاتية، حتى لا يبلغوا ولا إلى مستوى الآية المنسوخة، ليسوا (20%) ولا مائة بالألف من عدد الكفار، ومع ذلك تجد أنهم يندفعون بعواطف أكثر مما يندفعون بتفكير وتخطيط سليم.
علىكل حال تولد لدي قناعة شخصية من جراء مواجهتي لكثير من الشباب؛ أن المسلمين يمتلكون التضحية والبذل، أكثر مما يمتلكون التفكير السليم والنظر البعيد، ولوحدث التكامل بأن تضبط هذه التضحيات وفق نظر سليم وتفكير مستقبلي؛ لتحقق للإسلام والمسلمين خيرٌ كثير.
وهنا يأتي
السؤال
إلى متى يظل المسلمون -عموماً- ورجال العلم والدعوة -خصوصاً- يلاحقون الأحداث ملاحقة ولا يسبقون الأحداث؟ إلى متى تسيرهم الأحداث ولا يسيرونها؟! إيضاح: لو اتجه المسلمون لخدمة الأمة وخدمة دينها في كل صعيد، التعليم والطب والتغذية والتصنيع والدعوة، … إلخ، واستمر الحال على ذلك -مثلاً- عشر سنوات أو خمس عشرة سنة؛ لوجدنا أن الأمة حققت خلال ذلك مستوى متقدماً من حيث القوة والصحة والتعليم والفهم والتدين، وهذا كله يصب في بحر خدمة الإسلام، ويدفعها نحوالنضج والعافية بإذن الله، وتستر بذلك إيمانها وثقتها بربها، ومعرفتها بنفسها، وتعود للحياة من جديد، لكننا مشغولون بالاندفاع وراء حماس، وهذا الحماس لا يشغلنا عنه إلا حماس لحدث جديد ننسى به الحدث الأول.
مثال: أفغانستان، التي سقيناها دماءنا وعرقنا وصحتنا وأموالنا ومهجنا وأرواحنا وشبابنا، ننساها الآن في حمى الاندفاع وراء حدث آخر نلاحقه، وهكذا لم نصنع في أفغانستان إلى الآن نصراً حقيقياً للإسلام، ولن نصنع في غيرها، وما ذلك إلا لأننا نتصرف على ضوء ردود الفعل.(124/20)
الخوف الظاهر على الوجوه والكلمات والنفوس
أولاً: شدة الخوف ظاهر على الوجوه، وعلى الكلمات المتقطعة، وعلى القلوب الراجفة، وعلى النفوس القلقة قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ أن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] {الَذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] وهكذا ندرك أن الخوف من الله تعالى وحده شرط للإيمان {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ أن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فمن الناس من يخاف على نفسه؛ فتجده يلجأ للهرب بنفسه أو بأهله أو بماله، من مجرد هذه الإذاعات والإشاعات التي أصبحت تدق نواقيس الخطر، وينسى هذا الإنسان أن هذه الإذاعات تتاجر بالأخبار، فقد يأتي خبر عادي فتحرص كثير من الإذاعات على تضخيمه وتكبيره وتهويله، حتى تلفت إليها نظر الناس وتكسب مزيداً من المستمعين إليها.
ولذلك حين تسمع طريقتهم في إذاعة الأخبار؛ تجدها طريقة فيها قدر من الإثارة، ويعرفون كيف يخاطبون نفوس الناس، فليس حقاً أن يتأثر الإنسان بمثل هذه الإذاعات والإشاعات، ويصاب قلبه بهذا الفزع والرعب، حتى كأن الإنسان لا يملك من الإيمان بالله والثقة والتوكل عليه رصيداً أبداً! حتى الخوف على الدين، حين تسمع بعض الغيورين على الدين؛ تجد خوفاً غير طبيعي في نفوسهم، نحن نقول بكل ثقة وإيمان: لقد انتهت مرحلة: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم} وأما الآن وإلى قيام الساعة مرحلة: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} لا زالت ترن في أذني -والله- كلمة جبريل عليه الصلاة السلام، حين جاء إلى ذرية إبراهيم وقد وضعهم في البيت الحرام عند الكعبة، فقال لهم: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه.
كم جيوشٍ تحطمت على صخرة الإسلام، هذه الجزيرة هي جزيرة الإسلام، الإسلام في كل شبر منها، في كل حفنة من ترابها، في كل ذرة من هوائها، في كل حجر من جبالها، في كل لحظة من تاريخها، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، هي من الإسلام بدأت وإلى الإسلام تعود.
أليس يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} ؟ أليس يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وكل هذا دليل على أن هذه الجزيرة جزيرة الإسلام وعاصمة الإسلام، وأن الدين يعود ويحن ويرجع ويجتمع وينضم إليها، حين تضيق عليه بلاد الدنيا.
حتى بلاد اليمن، صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، منها: قوله عليه الصلاة والسلام: {الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية} ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: {أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة} ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام: {إني لأجد نفَس ربكم من قبل اليمن} أي: تنفيسه وتفريجه عن كربات المؤمنين , ولا عبرة بوقت أو لحظة حاضرة، فإن العبرة بالوضع الغالب، فإن نصر الإسلام يأتي غالباً من هذه الجزيرة، فهي بلاد الإسلام، ولا خوف على الإسلام -أيضاً- لا في هذه البلاد ولا في غيرها، لا خوف على الإسلام أبداً، وكيف نخاف على الإسلام ونحن ندرك أن تاريخ الإسلام المستقبلي مرتبط بالعرب أيضاً، والقبائل العربية! وأذكر حديثاً قرأته في صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {مازلت أحب بنى تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيهم سمعته يقول: هم أشد الناس على الدجال.
وفي رواية مسلم: هم أكثر الناس قتلاً في الملاحم.
وجيء بصدقاتهم فقال صلى الله عليه وسلم: هذه صدقات قومنا.
وكان عند عائشة رضي الله عنها سبيّة منهم، فقال: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل} إذاً تاريخ الإسلام مرتبط بهذه البلاد في ماضيه وحاضره ومستقبله.
ومن الخطأ أن نعتقد أن الإسلام يضيع إذا حدث كذا وكذا، نحن قد نضيع.
وقد ننتهي، لكن الإسلام باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلى أن يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فتقبض أرواح كل مؤمنٍ ومؤمنة ولا يبقى إلا شرار الناس، أما قبل ذلك فالإسلام باقٍ، ومن المحال -شرعاً- أن تستحكم الجاهلية على بلاد المسلمين.
هذه حقائق قطعية ثابتة لاريب فيها ولا شك، وينبغى أن تكون مصدر أمن واطمئنان لكل قلب فزع مذعور يخاف على مستقبل الإسلام.
نخاف على مستقبلنا نحن، أو نخاف أن نكون قصرنا في حق الله تعالى وفي حق الإسلام، أو نخاف أن نكون فرطنا فنلقى الله تعالى آثمين مقصرين، كل هذا صحيح.
أما أن نخشى على الإسلام فهذا خطأ، الإسلام دين الله وللبيت رب يحميه، وفعلاً عبد المطلب كان يعرف حقائق الأمور، حين ذهب إلى أبرهة الذي غزا الكعبة بكل هدوء أعصاب وبرودة، ولما قال له ماذا تريد؟ قال: أريد إبلي، أخذتم مني مائة بعير أرجعوها.
قالوا له: عجيب! هذا البيت الذي هوتراثك وتراث آبائك وعزك، ونحن أتينا لهدمه ومع ذلك لا تطالبنا بالكف عنه! تطالب بمائة بعير، كيف سودك قومك وهذا عقلك؟ فقال عبد المطلب بلهجة الواثق: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه.
ومع أن عبد المطلب كان كافراً، فقد كانت ثقته كبيرة بالله جل وعلا، ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم يفتقدون هذه الثقة بالله تعالى، نحن بحاجة إلى أن نقول: نحن نعمل وندعو ونجاهد في سبيل الله عز وجل؛ حرصاً على أن لا يقع منا تقصير نؤاخذ به أمام الله تعالى، أما قضية الإسلام فهي محفوظة، وهذا دين الله تعالى.(124/21)
دروس وعبر(124/22)
المعصية أثرها مدمر
الدرس الرابع: أثر المعصية.
هوأثر مدمر، وحديث القرآن عنه كبير وكثير قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42-45] {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوهُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:4-5] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:94-99] {وَأَلَّواسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن:16-17] .
الإنهماك في المعاصي, الغفلة, الشهوة، الحكم بغير ما أنزل الله، موالاة أعداء الله، التمكن لهم، أكل الربا وقيام الاقتصاد عليه، والظلم الاجتماعي وسوء توزيع الثروة {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] ترك الإعداد المادي والمعنوي، والغفلة عن الصناعات التي يجب على المسلمين أن يتخذوها، سوءُ التخطيط، والاستبداد، كل هذه من المعاصي، وأعظم من هذه المعاصي كلها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد ثبت في أحاديث صحيحة أن الأمة إذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ عمها الله تبارك وتعالى بعقابٍ من عنده، وفي كل بلدة تعلن فيه الحرب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يترقبوا عذاب الله تعالى بكرة أو عشياً.
السنن الإلهية والنواميس الموجودة لا تحابي أحداً ولا تجامل أحداً، تجري على كل من استحقها، ولوكان قرشياً، ولوكان من آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإنه يجب علينا أن ندرك أن العلاج هوأن نعود إلى الله تعالى، ونصلح ما بيننا وبين الله تعالى، وأن نقيم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما نستطيع، فإن هذه الشعيرة كفيلة بالقضاء على جميع المنكرات الأخرى التي تحدثت عنها.(124/23)
أخذ الحياة بجد
الدرس الأول: لا بد من أخذ الحياة بجد فالحياة للشجعان الأقوياء العاملين، ولا مكان فيها للكسالى والبطالين والتنابلة والمتخاذلين، يجب أن يشق الشباب طريقه معتمداً على الله، بعيداً عن التفكير الهامشي التافه، التفكير في الشهوات الدنيوية، التفكير في الكرة والرياضة والركض وراءها، التفكير في الأهداف المادية القريبة، يحب أن يتربى الشباب على معالي الأمور ليصدق عليه قول الشاعر: شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا هم وردوا الحياض مباركات فسالت عندهم ماءً معينا إذا وردوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا ولم يتشدقوا بقشور علم ولم يتقلبوا في الملحدينا ولم يتبجحوا في كل أمر خطيرٍ كي يقال مثقفونا كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مسلماً حراً أمينا وعلمه الكرامة كيف تبنى فيأبى أن يُقيد أو يهونا أين هؤلاء الشباب؟ أين نجدهم؟ في المسارح! على مدرجات الملاعب! على الأرصفة! أو أمام شاشات التلفاز والفيديو! أو وراء الركض خلف المخدرات، كلا! ثم كلا! لا نجد هؤلاء إلا في حلقات العلم والتعليم، ودروس المساجد، وأماكن البناء والمصانع وأماكن التعبئة والإعداد.
فلكي نأخذ الحياة بجد أقول: يجب على المسلمين -جميعاً- الإعداد الحقيقي بجميع صوره وأشكاله، الإعداد المعنوي, وتعبئة الناس نفسياً وعقلياً, ملء قلوبهم بالإيمان والثقة بالله والتوكل عليه والرغبة فيما عنده، والاستعلاء على متاع الحياة الدنيا، والتطلع إلى الآخرة وإلى الموت في سبيل الله, أيضاً جعل الناس يعيشون واقعهم ويعرفون الأحداث، وكيف تتم الأحداث، وما وراء الأحداث ولا يعيشون في غيبوبة، لا يدرون كيف تقع ولا كيف تجري، أو يأخذون معلوماتهم من جهات غير موثوقه، فضلاً عن وجوب التربية، والإعداد العسكرى بالتدريب، في أي مكان يتاح فيه للمسلم أن يتدرب على فنون الرماية والقتال؛ ليدافع عن نفسة وعن دينه وعن عرضه، بل وحتى عن وطنه، فإن من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون وطنه فهو شهيد، وأعني بوطنه: ليس لأنه يقاتل دون التراب، وإنما يقاتل دون البلد الذي يعتبره بلداً إسلامياً، يريد أن ترتفع عليه راية لا إله إلا الله، وأن يحكم بشريعة الله، ويكون بلداً للإسلام كما تحدثت قبل قليل.
فلا شك أن كل هذه الأمور من الأمور المشروعة التي يجب إعداد الشباب لها، ولا شك أن أفغانستان من الفرص التي كان ولا يزال يمكن أن يستثمرها المسلمون في كل مكان؛ لتدريب شبابهم على بعض فنون الرماية والقتال، وغرس القوة في نفوسهم، وإزالة الجبن والرعب الذي يسيطر عليها.(124/24)
متى تنتهي مرحلة الغثائية
الدرس الثاني: متى تنتهى مرحلة الغثائية التي يعيشها المسلمون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {ولكنكم غثاء كغثاء السيل} كما في حديث ثوبان عند أبي داود وأحمد وهوحديث صحيح: ولكنكم غثاء كغثاء السيل؟! الشاب فقد إحساسه بنفسه، لا يعرف حقوقه ليطالب بها، ولا يعرف واجباته ليؤديها, بل هويحس أن هناك من يفكر بالنيابة عنه، ويدافع بالنيابة عنه، ويشتغل بالنيابة عنه، ويكسب الرزق بالنيابة عنه، وليس على هذا الشاب إلا أن ينتظر لقمة العيش، وينساق وراء شهواته وملاذه ويستمتع بالحياة كما يشاء، ولا شك أن الإعلام يتحمل مسئولية كبرى في ذلك، فإن الإعلام يستطيع أن يجند الشباب ويملأ نفوسهم بالقوة والثقة والرجولة، كما أنه يستطيع أن يجعل الشباب شباباً هامشياً، لا هم لهم إلا الركض وراء الأغنية الماجنة، والكلمة الخليعة، والصورة والكرة وغيرها.(124/25)
أهمية صناعة الإعلام
الدرس الثالث: أهمية صناعة الإعلام.
الإعلام هوالذي يبني عقول الناس، ويؤثر فيها في كل مكان، خاصة في الاحداث المصيرية، فهو يقلب الخطأ صواباً والصواب خطأً، ويستطيع أن يصرف اهتمام الناس عن أمر إلى أمر آخر، ويشغلهم عن شيء بشيء آخر، وما حدث الآن هوخير مصداقٍ على ذلك، فنحن وجدنا أن الإعلام في أكثر من دولة نجح في صرف أنظار الناس عن الجريمة، باجتياح العراق للكويت مثلاً، إلى قضية أخرى يدندن حولها وهي: قضية القوات متعددة الجنسيات.
وهكذا يستطيع الإعلام أن يصنع -كما يقولون- دكتاتورية بغير حديدٍ ونار، الإعلام في الغرب يمارس دوره بشكل قوي، لا يلزم الناس بما يراد لهم, ولكن توجه أجهزة الإعلام لإقناع الناس بأمر من الأمور، ثم يؤخذ رأيهم، فإذا كان رأي الناس موافق لما يراد، فيعرض عليهم الأمر الذي يراد أن يفرض بقناعتهم ورضاهم، فهي دكتاتورية مبطنة مقنعة.
ولذلك فالإعلام يمارس التضليل والتعتيم، ولسان الحال يقول للناس: لستم علىمستوى شيء من الأحداث، هذه الأمور لا تعنيكم اشتغلوا بغيرها، وخذوا هذه الأغاني وهذه التمثيليات الشعبية، وهذه الأمور اشتغلوا بها، أما الأحداث الكبرى فلا تعنيكم في قليل ولا كثير.(124/26)
أهم واجباتنا
وأخيراً: ما هي أهم واجباتنا؟(124/27)
واجباتنا نحو المنكوبين
أولاً: الصبر كما أسلفت.
ثانياً: أن نفتح صدورنا وبيوتنا وجيوبنا لإخواننا المنكوبين، بالدعم والعون والإغاثة، وأود أن أخبر الإخوة بأنه قد تم في ذلك خطوة جيدة في كل مكان وفي هذا البلد أيضاً، قامت بها جهات عديدة مشكورة، كالإمارة وجمعية البر، وإخوان لكم من الشباب يساهمون في هذا العمل بشكل جيد، وسأتحدث عن جوانب منه تستفيدون منها إن شاء الله.
أقول: لا بد من دعم هؤلاء الإخوة؛ لأنهم ولا شك مسلمون تربطنا بهم رابطة الإسلام، وهم ضيوف علينا -إن صح أنهم ضيوف- بل هم منا ونحن منهم , ولذلك فإن من الواجب علينا أن نعمل على مساعدتهم بقدر ما نستطيع، بالمال، وبالمساعدة، وبالتوجيه، وبالإرشاد، وبغير ذلك من الوسائل، وقد تم في ذلك خطوات، وهناك جهات متخصصة لإسكانهم، وهناك مساعدات لهم بالمال، وهناك مساعدات بالأشياء العينية التي يحتاجونها, وهناك -إن شاء الله- فكرة جارية في جمع بعض الأموال وإيصالها إليهم في أماكن تجمعهم، في المناطق القريبة من الحدود، فضلاً عن أن هناك فكرة إيجاد أماكن تكون بتجمعات سكنية تخصص لهم خارج البلد، وتجهز بالأشياء الضرورية، وبذلك يسهل وجودهم فيها على انفراد، ويمكن أن يُكَونوا من خلال هذه التجمعات فرصاً للإرشاد والتوجيه، والحديث عن بعض الأشياء التي يحتاجون إليها، ولابد من دعم ذلك كله من قبل كل فرد منا بقدر ما يستطيع.(124/28)
التوجيه والدعوة
الأمر الثالث: من واجباتنا: هي قضية التوجيه والدعوة.
فإنني أقول لكم -أيها الإخوة-: إننا نفتخر أن يكون القائمون بمساعدة هؤلاء الإخوة المنكوبين هم من المؤمنين المتدينين الصادقين، حتى إن الإنسان إذا نظر فوجد أن أصحاب اللحى وأصحاب الثياب الرفيعة، هم الذخر الذين تجدهم الأمة كلما ألمت بها ملمة، أو نزلت بها نازلة , فيقومون مع إخوانهم ويغيثونهم ويساعدونهم، وهذه في الواقع دعوة صامته للإسلام، وهي أبلغ من مائة خطبة وأبلغ من مائة محاضرة، وأحسن من مائة كتاب تعطيها له، هي دعوة صامته؛ لأن كل إنسان عاقل يعرف ما معنى أن يتخلى عنه القريب والبعيد، فيأتيه شاب متدين ربما كان بالأمس يسخر به وبأمثاله، فيساعده في محنته، ويحرص على إنقاذه وإعانته، ولا شك أن هذه لها دلالة كبيرة، ولهذا ينبغي أن نحرص على أن نكون نموذجاً حياً في دعم المؤمنين والمحتاجين والمستضعفين والمنكوبين في كل مكان، وخلال دعوة هؤلاء ينبغي مراعاة أمور: أولاً: اختلاف المجتمع، وهذا أمر لا بد من مراعاته، فهم عاشوا في مجتمع يختلف كثيراً عن المجتمع الذي عشنا فيه، ومن أراد أن يدعوهم أو ينبههم إلى بعض الأمور؛ فينبغي أن يراعي هذا الأمر؛ لئلا يقع في الخطأ؛ لأن الله عز وجل يحب الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فالعالم -مثلاً- غير الجاهل، والمعتاد على شيء غير الذي يفاجأ به لأول مرة، وينبغي مراعاة هذا الوضع والتدرج معهم شيئاً فشيئاً.
الأمر الثانى: مراعاة الهدوء وسعة البال وعدم العجلة.
الأمر الثالث: مراعاة البعد عن المن والأذى بما يعطيه الإنسان، أو باعتبار هذا ضريبة أننا ندعوكم وإلا وإلا، أو يكون هذا إعانة مشروطة، هذا لا يجوز أن يكون بحالٍ من الأحوال، فهو واجب عليك أن تساعدهم وهذا الأمر علينا جميعاً، ونشر الكتاب والشريط الإسلامي من أهم وسائل الدعوة بينهم، والمجمعات السكنية التي قد يتجمعون فيها هي فرصة، ولعله يتم تنظيم أشياء رسمية من خلالها للتوجيه والإرشاد.(124/29)
كيف نتناول هذا الحدث المؤلم
بقي نقطة أخيرة في الموضوع، وهي: كيف نتناول هذا الحدث المؤلم؟ من الناس من يتجاهل هذا الأمر، فقد تأتي إلى خطيب وكل نفوس الناس مليئة مشتعلة في هذا الموضوع، فتأتي إلى خطيب فتجد كأنه قد أصم أذنيه ولم يسمع شيئاً، يتكلم عن موضوع بعيد عن الحدث، إما أن يتكلم تحت الأرض، فيما يتعلق بأحوال الآخرة والقبر والموت، وإما أن يتكلم فوق السماء فيما يتعلق بأمور الجنة والنار والبعث والحساب وغيرها.
كل هذه أمور حق، والكلام فيها حق، لكن ينبغي أن يستغل الإنسان فرصة كون النفوس متهيئة للوعظ والإرشاد والتوجيه، وأخذ الدروس والعبر من هذه الأحداث، ويطمئن الناس على هذا الأمر، فيكون مصدر طمأنينة للناس مصدر سكينة لنفوسهم، يحيي المعاني الإيمانية في قلوبهم كما ذكرت، يبين لهم المخاطر التي تهددهم، بحيث يكون الكلام متعلقاً بالواقع، أما أن نعيش أحداثاً مؤلمة تحرك قلوبناجميعاً ثم نأتي للمتحدث أو الخطيب؛ فنجدة يتكلم في وادٍ آخر، فهذا في الواقع ذهول وغيبوبة لا يجوز أن يقع المؤمن أو العالم أو الداعية ضحيتها.
فالإسلام هو دين للواقع، والقرآن الكريم جاء لينظم أمور الناس، وكذلك السنة النبوية، في كل شيء، حتى في علاقة الإنسان بزوجته، حتى في كيفية قضاء الحاجة، والأمور الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية قال الله تعالى: {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] فليس صحيحاً أن نعزل الإسلام عن هذه الأمور، ولا نتكلم إلا في قضايا معينة، أمور الزهديات والوعظيات والأخرويات، هذه حق، ولكن غيرها حق أيضاً {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة:85] .
لا بد أن نتناول هذا الموضوع كما نتناول غيره، ليكون الطرق والحديد ساخن.
لكن كيف نتناول هذا الموضوع؟ إن من الخطأ أن نتحدث عن هذا الموضوع وكأننا نتحدث عن أمة أخرى أو شعب آخر، فنقول للحضور مثلاً: انظروا لما أصاب هؤلاء، إنه بسبب ذنوبهم، وانتبهوا أن يصيبكم ما أصابهم.
لا يصلح هذا الأسلوب في الطرق، يجب أن ندرك أن هذه مصيبة لنا جميعاً، ليست مصيبة لفئة دون فئة، ولا لفرد دون فرد، هي مصيبة للأمة كلها، وبناءً على ذلك؛ ينبغي أن نقول: إن ما أصابنا هوبسبب ذنوبنا، نحن المصابون، وهل نعتقد نحن حين نتكلم بضمير الغائب، أننا أقل من غيرنا ذنوباً؟ بل بالعكس، أحياناً في بعض المجالات قد تجد أن كثيراً من الناس والعياذ بالله وقعوا في ذنوب أكثر مما وقع فيه غيرهم، ولو أردت أن تحسب من حيث الكمية والعدد؛ لوجدت ما عندنا من المؤسسات والأجهزة والمنكرات أضعاف أضعاف ما يوجد في بلاد أخرى كثيرة، فليس صحيحاً أن تتكلم عن غيرك وتظن أنك بمنجاة من هذا الأمر، كلا، بل ينبغي أن نتحدث عن المصيبة على أنها مصيبة نزلت بنا جميعاً، وعلى أن هذا الدرس لنا جميعاً، وأننا يجب أن نتوب إلى الله تعالى ونقلع، حتى يرفع الله تبارك وتعالى عنا ما أصابنا، ويكبت عنا عدونا، ونقول كما قال موسى عليه الصلاة والسلام: {عَسَى رَبُّكُمْ أن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] .
وفي الختام: هذه الأسئلة التي أمامي، تتحدث عن ظاهرة هي أثر من آثار الرعب والفزع، وقلة التوكل الذي في قلوب الناس، حيث أصبحت السيارات أرتالاً وأسراباً لشراء المواد الغذائية بكميات هائلة، وكثير من الناس سحبوا أرصدتهم أو حولوها بعملات أخرى، أو بدءوا يشترون الذهب، أو يغادرون هذه البلاد، وكل هذا لا شك ينم لا أقول عن فقدان التوكل، لكن عن ضعف التوكل، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم أعزالإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، وترفع فيه كلمتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم اجعلنا من أنصار دينك المجاهدين في سبيلك، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم إنا عبيدك بنوعبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هولك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تكفي المسلمين شر هذه الأحداث والفتن، في أنفسهم وأموالهم ودينهم وبلادهم، إنك قريب سميع مجيب.
اللهم اكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم احيي بلادك ودينك وأهل دينك وأنصار شريعتك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم يا ذا العرش المجيد! من رفع راية يريد فيها رفع راية الإسلام، وكلمة التوحيد، وإعزاز الدين، وتحكيم الشريعة؛ فانصره نصراً مؤزراً، واجعل التوفيق حليفه حيث كان، ومن رفع راية يريد بها هدم دينك وشريعتك، وإذلال عبادك الصالحين والتمكين للكفر في الأرض؛ فأذله وخذه أخذ عزيز مقتدر إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا عبيدك ضعفاء بين يديك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك؛ فادفع عنا إنك على كل شيء قدير.
اللهم آمنا بك وتوكلنا عليك وفوضنا إليك، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(124/30)
لقاء مع منسوبي الرعاية الصحية
الانتماء لهذا الدين نعمةٌ ومنةٌ منَّ الله بها على عباده، وليس للإنسان مصدر فخر يفاخر به أعظم من فخره بالانتساب إلى هذا الدين، وليس الانتساب اسماً يباهي به المسلم، بل هو واقعٌ وجهاد وعمل يتطلب تضحيات وصبراً وثباتاً؛ ولكن -وللأسف الشديد- بتنا على حافة الهاوية بعيدين عن هذا المعنى وأعداؤنا قريبون منه رغم كفرهم وضلالهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.(125/1)
تقديم وترحيب بالشيخ سلمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: أيها الإخوة: يشرِّفُ إدارة الرعاية الصحية الأولية بالقصيم، أن تتشرف باستضافة هذا الجمع المبارك، والمتمثل بلقاءٍ مع فضيلة الشيخ الداعية سلمان بن فهد العودة فجزاه الله خيرًا على تجشمه الصعاب، ومجيئه إلينا في هذا الوقت, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها في ميزان حسناته يوم أن نلقى الله, وأول ما نبدأ به هذا اللقاء المبارك، هو القرآن الكريم ومع الأخ خالد الحسين فليتفضل جزاه الله خيرًا.(125/2)
قصيدة ترحيبية
أيها الإخوة! نشكر لسعادة الدكتور هذه الكلمات المباركة إن شاء الله, والفقرة الثالثة وقبل الأخيرة، نبقى مع قصيدة للأخ عبد الرحمن البليهي فليتفضل.
عفوًا أيها الإخوة! هذه القصيدة ليست لي وإنما هي للزميل إبراهيم السمحان، الذي جادت قريحته بهذه الكلمات، وهي قصيدة نبطية أبى إلا أن يشارك بها, فلنستأذن فضيلة الشيخ بإلقائها بين يديه.
بسم الله والحمد لله، فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة أيها الجمع الكريم! أحييكم بتحية الإسلام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الواقع أن بضاعتي مزجاة, ولكن طمعًا في الوقوف أمام هذه الوجوه الطيبة، كانت القصيدة، فأستميحكم عذرًا لإلقائها، والقصيدة بعنوان "قصيدة القلب": قصيدة القلب كيف الحبر يكتبها ويش لون بحر الورق يقوى مراكبها بحر شواطيه جفت واختفى المينا والموج راكب وموج النفس يتعبها وابحرت مجدافي الكلمة ومعناها زادي وقدامى الحكمة وكاسبها الحكمة التي غدت ويش لو نلقاها في مهمه الطيش ساق الحبل غاربها وبديت تقليد ديوان أمة ثكلى قريت خلف السطور وذي مصايبها نسأل على الغرب يهزمها ويهزمنا وعن الليالي لنا تعقد حواجبها نسأل عن الحرب تستوطن بعالمنا وعوالم الكفر ويش فيها تجنبها نسأل عن الجوع الاكبر عن تناحرنا وعن هتكة العرض والتهجير جالبها وعن كسرة الخبز تغرق ساحة البوسنة وعن عدة الحرب تعطى غير طالبها وعن مسجد البابري عن هيبة المقدس يا كيف الأنجاس تفتل به شواربها واحنا علينا البكاء ويا كثر ما نبكي وأخطر قراراتنا ننكر ونشجبها نسأل وكل الإجابة بعدنا السافر عن ديننا لا حظوظٍ بس نندبها قصيدة القلب طالت بس ما طالت أشجاراً بخاطري تصفق جوانبها والمعذرة منك يا سلمان ذا جهدي قليل والقلب عذر النفس مشجبها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والآن أيها الأحبة مع اللقاء المنتظر مع العالم العامل! مع الداعية المعروف, مع قائد من قواد هذه الصحوة الطيبة المباركة, مع فضيلة الشيخ سلمان العودة.(125/3)
آيات من الذكر الحكيم
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:13-23] .
أما بعد أيها الإخوة! فنبقى مع الفقرة الثانية من هذا اللقاء الطيب المبارك، ومع كلمةٍ ترحيبية لسعادة الدكتور/ طلال البياري، مدير عام الشئون الصحية بمنطقة القصيم, فليتفضل مشكورًا جزاه الله خيرًا.(125/4)
كلمة الشيخ/ طلال البياري
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله نبينا محمد, فضيلة الشيخ سلمان العودة , الإخوة الزملاء, وضيوفنا الأفاضل, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بفضيلة الشيخ، وأتقدم له بالشكر على تفضله بقبول الدعوة والمجيء لهذا اللقاء المبارك، وهو اللقاء الثاني خلال هذا الأسبوع, وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يثيب الشيخ على هذا الإقدام الطيب, وأن يجعل في نصائحه وكلماته الطيبة كل البركة, لرفع المعنويات لدى الزملاء.
ولا أشك أن هذه اللقاءات الطيبة والخيرة فيها ترويحٌ للنفس, وفيها أيضًا رفعٌ للمشاعر والمعنويات لدى الزملاء والعاملين في الشئون الصحية, وأعتقد جازمًا، أننا نحتاج لمثل هذه الجلسات الطيبة، حتى ترتقي المعنويات، ويزيد الالتزام والانتماء والحب فيما بيننا، ولأهدافنا السامية التي نعمل من أجلها, ألا وهى الخدمات الصحية, وأن نرتقي بهذه الخدمات للمستوى الذي يرضينا ويرضى الله سبحانه وتعالى عنا, ويلبي احتياج المواطن، وأيضًا يرتقي إلى المستويات التي تنشدها الدولة رعاها الله, فلعلَّ في هذه الاجتماعات ما يروح عن نفوسكم, وما يرفع المعنويات ويزيد الانتماء إلى أهدافكم السامية النبيلة, والتي تلتقي بإذن الله مع أهداف الأمة الإسلامية جمعاء.
وبودي أن أشكر كافة الزملاء في إدارة الرعاية الصحية الأولية، يتقدمهم الأخ عبد الرحمن البليهي، وهو الذي فكر في هذا الاجتماع مع زملائه العاملين، ومع الدكتور عصام الحركة، وبقية الزملاء الذين هيئوا لهذا الاجتماع الطيب المبارك, وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يثيبهم الثواب الحسن على هذا الإقدام, وكذلك أشكر الإخوة منسوبي الشئون الصحية من الحاضرين, والضيوف الذين أحبوا أن يشاركونا هذا اللقاء الطيب المبارك, وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يثيب شيخنا، وأن يوفقه في تقديم ما ينفعنا في دنيانا وأخرانا وما يزيد -كما ذكرتُ- من رفع معنوياتنا، والتزامنا وحبنا والتصاقنا بعملنا، وما يقدمنا إلى الأمام بإذن الله, أشكركم مرةً أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(125/5)
الانتماء إلى هذا الدين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الأحبة فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وإنني -بادئ ذي بدءٍ- أشكر سعادة مدير الشئون الصحية بالقصيم, كما أشكر جميع إخوانه العاملين معه, وزملائه الذين كانوا سببًا في ترتيب مثل هذا اللقاء, والذين حضروا إلى هذا اللقاء أيضًا, وأشكركم جميعًا وأدعو الله تعالى لكم بكل خير, وأقول لكم: إنني أحبكم في الله تعالى, وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا من المتحابين فيه, وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله, وأن يجمعنا جميعًا في دار كرامته إنه على كل شيءٍ قدير؛ ثم أما بعد أيضًا: فإن مثل هذه اللحظات هي لحظات نفيسة حقًا, فإن الحديث إلى مثلكم أنتم بالذات، أيها الأحبة حديث شيق, وحديثٌ طويل، وفي النفس خواطر, أحببت أن أقدمها بين أيديكم الآن.
أول هذه الخواطر، نقول: إننا جميعاً نعيش في خندقٍ واحد, ونحمل هماً واحداً, وإن اختلفت المهمات وتنوعت المسئوليات وتعددت المواقع, إلا أن الهدف يجب أن يظل واحدًا.(125/6)
قيمة الانتماء إلى هذا الدين وفضله
فنحن ننتمي وننتسب إلى هذا الدين الذي أكرمنا الله تبارك وتعالى به, وأي انتسابٍ أعظم وأكرم وأفضل من أن تكون أنت محسوبًا من المسلمين {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] .
فهذا الاسم الرباني الإلهي: تاجٌ على رأسي وعلى رأسك, وشرفٌ لا يقدِّر أحدٌ قدره, إلا الله عز وجل.
إنه علامة على كل معاني الخير والكمال, فكل خيرٍ أو كمالٍ فهو في الإسلام, وكل ضررٍأو نقصٍ أو عيبٍ فهو مما جاء الإسلام بذمه والنهى عنه.
إذاً: هذا الاسم الشريف العظيم الكبير الرباني، الإسلام هو التاج الذي نكلل به رؤوسنا, ونفتخر بالنسبة إليه, فليس فخرنا لأننا عرب, فإن العروبة بحد ذاتها قد يدخل فيها من هم حطب جهنم.
لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب ليس فخرنا بالعروبة بذاتها، فإن العروبة بذاتها لا تكفي؛ ما لم يكن الإسلام سرها, وليس فخرنا أيضًا بتاريخ نردده؛ فإن أجدادنا الذين مضوا, مضوا بمفاخرهم, ومضوا بجهادهم, ومضوا بصدقهم, وكتب التاريخ لهم أروع الصحائف, في كل المجالات، في العلم, وفي العمل, وفي الدعوة, وفي الجهاد, وفي الإخلاص, وفي النزاهة, وفي كل الكمالات مضوا بها, ولا ينفعك أن تكون أنت من أحفادهم فتكتفي بترديد مآثرهم, فتصبح إنسانًا كنتياً، أي: يتكلم أن أجدادنا كانوا وكانوا وكانوا.
كن ابن من شئت واكتسب أدبًا يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي والنار -أحياناً- تخلف الرماد كما هو معروف, فإذا كان أجدادنا السابقون نارًا تضيء وتشرق، وفيها تدفئة, وخير, ونور, فقد يكون من أحفادهم من انقلب وتحول إلى رمادٍ تذروه الرياح, وقد لاحظ هذا المعنى شاعر الهند محمد إقبال فقال: أرى نارًا قد انقلبت رمادًا سوى ظل مريض من دخان فليس فخرنا لأننا أبناء رجال, وأحفاد رجال, الفخر هو بما يقدمه الإنسان وينجزه، سواءً في الدنيا أو في الآخرة, فأما في الدنيا فإن العالم اليوم لا يحترمك احترامًا تاريخيًا, إنما يحترم القوة, ويحترم العمل, ويحترم الإنجاز, وماذا ينفعنا إذا صرَّح متحدثٌ رسمي أو غير رسمي في الشرق، أم في الغرب بأننا نحترم الإسلام ونقدره، ونعتبره دينًا تاريخيًا له فضلٌ على الحضارة الإنسانية؟ ماذا يقدم هذا وماذا يؤخر؟ لا ينفع شيئًا.
إنها مجرد إبرة للتخدير, لكن الذي ينفع هو الذي يملك قوة، ولا أعني بالقوة فقط قوةُ السلاح, بل كل ألوان القوة, حتى القوة العلمية, والفنية, والإدارية, والعملية, قوةُ وحدةِ الكلمة واجتماع الصف, كل ألوان القوة هي التي أصبح العالم اليوم يحترمها.
وكذلك الحال في الدار الآخرة: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة:48] {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] ومن حكمة الله تعالى أن يعلن الله تعالى لنا في القرآن أن بعض أقارب الأنبياء كانوا من الكافرين, ومن المعذبين بالنار أيضًا, كما هي الحال بالنسبة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان والده من أهل النار, كما صرح بذلك القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام:74] وفي الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] .
وفي الصحيح: {إن إبراهيم يلقى أباه يوم القيامة وعليه غَبَرة وَقَترة, فيقول له: يا أبت! ألم آمرك فعصيتني؟ فيقول: الآن لا أعصيك, فيذهب إبراهيم وكأنه يريد أن يشفع فيه, فيقول الله تعالى له: يا إبراهيم إني حَرمتُ الجنة على الكافرين} .
إذاً: العبرة في الدنيا وفى الآخرة ليست بالأمجاد الغابرة, ولا بالتاريخ الماضي أو بالنسب أو بالأرض, إذ أن ولادة الإنسان في هذه الأرض أو تلك، لم يكن باختياره، وليس له فيه يد, كما أن العبرة لا تكون بلون الإنسان ولا بأي صفةٍ أخرى من الصفات الشكلية الذاتية التي قد لا يكون للإنسان أصلاً يدٌ في اختيارها, إنما العبرة بعمل الإنسان.
فعمل الإنسان هو الذي يحدد موقعه في الدنيا, وهو الذي يحدد مستقره في الدار الآخرة, فإذا انتسبنا نحن إلى الإسلام؛ كانت هذه النسبة الحقيقة التي اختارها الإنسان ورضيها لنفسه، ثم لم يكتف بمجرد أن يكون انتسابه للإسلام وراثياً, كون أبيه أو أمه مسلمين؛ بل حقق هذه النسبة التي ورثها بالتطبيق العملي لهذا الانتساب, وأن يصدق هو في تطبيق هذا الدين والعمل به، والدعوة إليه, حتى يعرف أن كونه مسلمًا ليس أمراً عفوياً, أو أمراً وراثياً, أو أمراً بيئياً, وإنما هو أمرٌ رضيه الإنسان لنفسه، واختاره وارتضاه وآمن به, وصدق بفعله ما وجده في واقعه أو في بيئته.(125/7)
المسئولية تجاه هذا الدين
هذه النسبة أيها الإخوة! تقتضي منا أشياء كثيرة.(125/8)
عدم التخلي عن المسئولية
ألا يتخلى أحدٌ عن دوره ومسئوليته.
فكثيراً ما نسمع تعبيراً يقول: الناس الملتزمون يفعلون كذا, والناس الملتزمون يقولون كذا, إذاً وأنت, لماذا نرضى -فعلاً- بأن نجعل مهمة التدين والالتزام، والصلاح، والدعوة، ونشر الخير، مهمة فئةٍ معينة في المجتمع؟ أما نحن فنكتفي بأن نقول: الملتزمون فعلوا كذا, فقد نثني أحيانًا على ما فعلوه، وقد نعتب عليهم أحيانًا في خطأٍ أو تقصيرٍ وقعوا فيه.
والملتزمون بشر يخطئون ويصيبون ولا شك! وليس بشرط كون الإنسان ملتزمًا بدينه أن يكون معصومًا, إنما العصمة للأنبياء فقط عليهم الصلاة والسلام, أما غيرهم من الناس فيخطئ ويصيب, ولذلك يجب أن نضع الأمور في مواضعها، ونعدل وننصف في النظر إلى هذه الفئة من الناس.
وقد قلت لبعض الإخوة: كثيراً ما تردد الصحف والإعلام العربي -تبعًا للإعلام العالمي- لفظ المتطرفين والأصوليين والإرهابيين، وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقصد بها المتدينون, سواء ًكانوا من المعتدلين، أو كانوا من غير المعتدلين, إن صح هذا التقسيم -أيضًا- فلننظر قليلاً إلى اليهود ألا يوجد فيما يسمى اليوم بدولة إسرائيل وهي فلسطين المغتصبة, ألا يوجد عندهم اليوم في شعب اليهود أحزاباً ومجموعات كبيرة ممن يسميهم الإعلام العالمي ويسمونهم اليهود أنفسهم, ويسميهم العرب باليهود المتطرفين, كحزب غوش أمنيوم وغيره من الأحزاب؟ بلى.
يوجد أحزاب يهودية متطرفة، بعضها يؤمنون بما يسمونه دولة إسرائيل العظمى التي تمتد من الفرات إلى النيل, وبعضهم يؤمنون بحكومة العالم اليهودية الخفية، التي يجب أن تعلن لتحكم العالم كله باسم بني إسرائيل, وبعضهم يؤمنون بأشياء يرفضها العالم كله.
لكن هؤلاء المتطرفون -كما يسمونهم- اليهود أين يعيشون؟ هل هم يعيشون في غياهب السجون؟ لا.
هل هم يعيشون في زوايا المجتمع، حيث الإهمال والنسيان والضغط عليهم؟ لا.
إذاً أين يعيشون؟! لعلك تعلم أنهم يعيشون في الكنيسة, ويشاركون في الحكم, وفي القرار, ويؤثرون في اختيار المسئولين في تلك الدولة الممسوخة؛ ولذلك تجد أن مجتمعهم على ما فيه من تناقضات واختلافات وفيه حرية للمتدينين والبارحة كان هناك تهديدات لرئيس الوزراء وللحكومة بالموت, من قبل اليهود المتطرفين تهديدات هاتفية, وتهديدات عبر مظاهرات, حيث هناك حفريات في بعض المقابر، التي يقول اليهود إنها قبورٌ تاريخية لهم, وتقول الحكومة اليهودية: إنها قبورٌ للنصارى.
المهم أن أولئك القوم عرفوا كيف يتعاملون مع الآراء المختلفة, ومع التوجهات المختلفة, وأعطوا فرصةً لكل قوةٍ أثبتت وجودها في المجتمع, وبذلك سلم مجتمعهم من التناقض والاضطراب، والتشتت، وأن يقوم بقتل بعضه بعضاً، وبطعن بعضه بعضاً.(125/9)
المتدينين في وجهة العالم الغربي
وفى العالم الغربي أيضاً، حيث النصرانية تجد مثل ذلك, ففي أمريكا، التي هي موضع القدوة في نظر الكثيرين من المستغربين وغيرهم, في تلك الدولة التي هي أيضًا حكومة للعالم معلنة متوجة, يوجد أحزاب متطرفة نصرانية، يسمونها الأحزاب الإنجيلية، أو يسمونها الأحزاب الأصولية -وأصل كلمة الأصولية مأخوذة من الغرب- ويعنون بها تلك الأحزاب التي تأخذ النص مما يدعون أنه الكتاب المقدس؛ تأخذ به أخذًا حرفياً، وهى أحزابٌ كثيرة, وهناك دراساتٌ ضخمة جدًا عن هذه الأحزاب, وهي في ازدياد، ومنذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، لا يصل رئيس إلى سدة الحكم في أمريكا إلا وهو يخطب ود هؤلاء, ويعلن تدينه وتأييده للمتدينين, وأنه يسعى إلى أن تكون أمريكا مقرًا للدين والتدين, ومكاناً لمحبة الله -كما يزعمون ويعبرون ويقولون- صرح بذلك كارتر , وريجن , وبوش , وصرح به الزعيم الحالي, فهو لا يستحي من أن يعلن الدين والتدين, بل الرئيس السابق بوش، كان يتكلم عن تدين الشعب الأمريكي ويقول إن (99%) من الشعب الأمريكي يؤدون الصلاة, سواء في الكنائس أو في بيوتهم, لا يخجل من هذا؛ بل يعلنه ويفتخر به، ويقول: نفتخر بأن هذه الدولة أو هذه الأمة الأمريكية؛ أصبحت مأوى للمضطهدين والمشردين إلى غير ذلك.
المهم أن تلك الأحزاب الأصولية المتطرفة النصرانية، أصبحت ذاتَ تأثيرٍ كبيرٍ وخطيرٍ، وأصبحت تملك مئات المحطات للتلفزة، وآلاف الإذاعات, وعشرات الآلاف من المؤسسات، وعشرات الملايين من الناس الذين يتابعون مطبوعاتها ومنشوراتها، وبثها وإذاعتها, ويدفعون لها الضرائب والتبرعات, ويؤمنون بأطروحاتها ومذاهبها.
وبذلك استطاعوا أن يحفظوا مجتمعهم من الشتات والتفرق والصدام, وأن يستفيدوا من كل الطاقات الموجودة فيه(125/10)
موقف الحكومات العربية الإسلامية من المتدينين
ثم تنتقل إلى بلاد العروبة والإسلام؛ فتجد أن اليهود الذين استطاعوا أن يتعاملوا مع المتطرفين منهم بطريقةٍ صحيحة, والنصارى الذين استطاعوا أن يتعاملوا مع المتطرفين منهم بطريقةٍ صحيحة هؤلاء وأولئك يحرضون المسلمين على أن يضرب بعضهم بعضًا, ويقتل بعضهم بعضًا, ويسجن بعضهم بعضًا, وأنه لا مكان لهؤلاء المتطرفين إلا السجون والمعتقلات, ومقاصل الإعدام, والقضاء عليهم, ومحاولة الحيلولة بينهم وبين المجتمع, إنه تدميرٌ لمجتمعات عربية وإسلامية بأكملها, بتأييدٍ من أولئك، من اليهود ومن النصارى.
ثم ليست القضية قضية متطرفين، فنحن نعلم كما أن عند اليهود، وعند النصارى متطرفين؛ يوجد عند المسلمين غلاة, وهذا معروفٌ من فجر التاريخ, كالخوارج مثلاً، الذين وجدوا حتى في أفضل العصور، وجدوا في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم, وهو يوجدون اليوم, ولكنهم قلةٌ لا يُعبأ بهم, وإنما الأكثرية الساحقة من المتدينين هم من أهل الاعتدال، والتدين الموزون, والفكر المتعقل, والنظرة الهادئة, وإنما حاولوا تعميم هذا اللفظ؛ فأصبح كل متدين في نظر الإعلام العالمي والعربي -في كثيرٍ من الأحيان- يوصف بأنه متطرف أو أصولي, وفي بعض البلاد يكفي أن تعفي اللحية، أو أن تتردد على المساجد لتوصف وتصنف ضمن المتطرفين, ثم تكون عرضةً لكل ما يتعرضون له هم من الأشياء, وشوه الإعلام هذه الصورة عند الناس.
هاهنا أنتقل إلى الهدف الذي أقصد إليه الآن في هذه الكلمة, وهو: مجتمعنا -بحمد الله- أستطيع أن أقول: إنه يخلو من هذه النوعية, وإلا فعلى أقل تقدير أن هذه النوعية لازالت نوعية قليلة، لا يكاد يعلم أو يسمع بها أحد, وفيما يتعلق بمشاهدتي في الشخصية؛ فإنني على صلةٍ واسعة بقطاعٍ عريض من هذا المجتمع, سواءً من المتدينين, أو من الشباب الملتزمين أو من غيرهم.
وليس في منطقةٍ خاصة، بل في كل مناطق هذه البلاد, وأشهد بالله تعالى؛ أنني لم أر طيلة هذه الفترة شابًا أستطيع أن أقول عنه إنه يحمل فكرًا من أفكار الغلاة, أو من يصح أن يسموا بأنهم متطرفون أو أصوليون أو إرهابيون أو ما أشبه ذلك.(125/11)
ما هي العلاقة بين المتدينين والمقصرين
إذا أردنا تطبيق الموازين الشرعية وليست الموازين الغربية أو الموازين العلمانية.
يوجد في مجتمعنا -ولا شك- متدينون محافظون على كل قيم الدين وأخلاقه, ويوجد أيضًا المفرطون والمقصرون ولا شك, وهنا يجب أن نتساءل: ما هي العلاقة التي يجب أن توجد بين هؤلاء وهؤلاء؟ لا يجوز أن تكون العلاقة علاقة تنابز وتباعد, فلا ينبغي للملتزم مثلاً أن يكون سريعًا إلى عيب هؤلاء واتهامهم، وسوء الظن بهم, بل ينبغي أن يعطيهم فرصةً للمراجعة والرجوع, وأن يحسن الظن بهم ما استطاع, وأن يبذل لهم النصيحة, ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة, وبالكلمة الطيبة, والابتسامة التي أحيانًا تزيل كثيرًا مما في القلوب, وأن يسعى جهده إلى دعوتهم إلى الله, وتحسين صورة المتدينين في نفوسهم.
وأن يحرص على أن يكون منضبطًا قدر المستطاع في تصرفاته, فلا يبدر منه من الكلام أو الفعل ما يعاب به هو, لأن العيب -أحيانًا- لا يوقف على شخصٍ؛ بل يتعدى إلى عيب الملتزمين, فطالما سمعنا إنسانًا يعيب المتدينين كلهم أو يسبهم لأنه رأى موقفًا من واحد, أو سمع كلمةً من آخر.
حسناً يا أخي! أخطأ شخصٌ تنسب الخطأ إليه؛ لكن لا تعمم هذا الخطأ على كل المتدينين, أو على كل من تسميهم أنت بالملتزمين, فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] والإنسان مسئول عن فعله هو, ولا يجوز أبدًا أن يحمل غيره وزره.(125/12)
ليس من شرط التدين أن يكون الإنسان معصوماً
ثم يجب أن تعلم أنه -كما أسلفنا- ليس من شرط التدين أن يكون الإنسان معصومًا؛ بل قد يكون الإنسان متدينًا وهو عصبي، هذا وارد، كما أن إنساناً قد يكون موظفًا كبيرًا وهو يحمل نفسية شديدة, أو يحمل حسًا مرهفًا, أو يكون عنده نوعٌ من العصبية، والحدة والحرارة في طبعه.
وقد يكون الإنسان موظفًا في المرور، ويتعامل -مثلاً- مع القادمين والغادين والرائحين وهو كذلك, وقد يكون موظفاً يستقبل الجماهير وهو كذلك, وقد يكون مدرسًا وهو كذلك, وقد يكون إذاً لا تتصور أن جو المتدينين جوًا مثالياً، إنما هم من المجتمع، فهم كغيرهم, وأنت لو أخذت أي قطاعٍ في المجتمع, كقطاع الصحة, أو قطاع المرور, أو قطاع الشرطة, أو قطاع التعليم, أو قطاع الإعلام, أو أي قطاع، لو أخذته لوجدت أنه يوجد فيه نوعياتٍ شتى, منهم المتدين, ومنهم غير المتدين, ومنهم الأمين, ومنهم غير الأمين, ومنهم ذو الأخلاق الفاضلة, ومنهم من ليس كذلك, ومنهم العصبي, ومنهم الهادئ, إلى غير ذلك.
فهذا هو المجتمع أصلاً، وهؤلاء ما خرجوا وما جاءوا من كوكبٍ آخر, إنما خرجوا من هذا المجتمع، ولهذا فيهم وفيهم , ومن الظلم لهم أن تفترض أنهم يجب أن يكونوا مثاليين, هذا ظلمٌ وصعبٌ ومستحيل, بل ينبغي أن تعتقد أنهم كغيرهم، يحصل منهم ما يحصل من غيرهم، وإن كانوا أفضل من غيرهم من حيث أنهم قد يكونون قابلين للتوجيه, قابلين للإرشاد, قابلين للمناقشة بشرط أن يكون هذا كله من منطلق النصيحة.
وأعني بذلك: أن البعض -أحياناً- قد يلقى من إنسان متدين موقفاً معيناً، فيعلن عليه أنك فعلت، وفيك وفيك، ويريد من هذا الإنسان أن يقبل منه.
فمن الطبيعي إذا صار مثل هذا؛ أن هذا المتدين قد يظن أن في قلبك حقدًا على المتدينين، وأنك وجدتها فرصةً للتنفيس عما في نفسك, وحينئذٍ لن يقبل منك، وهذا أمرٌ طبيعي لكن لو انفردت به وقلت له بينك وبينه, يا أخي! حصل كذا, وأنا أعتقد أنه كان يجب أن تكون الأمور كذا, وأنت موضع نظر, وربما ينسب إلى غيرك هذا الفعل, وربما خطؤك لا ينسب إلى الملتزمين جميعًا، وإلى غير ذلك, فبالتأكيد سيقبل بك.
وأمس حدثني إنسان أنه رأى موقفاً لم يعجبه من بعض المتدينين، فانفرد بهذا الإنسان الذي أخطأ في نظره، وحدثه، فقال: وجدت تجاوباً كبيراً ورائعاً.
وبالمقابل هناك مسئوليةً كبرى -أيضاً- على كل الأطراف، فيجب أن يكون هناك اتصالٌ بين كل الطبقات والنوعيات, فأصلاً كلمة هؤلاء ملتزمون وهؤلاء غير ملتزمين؛ يجب أن ننظر فيها, يجب أن نكون جميعاً ملتزمين, ويجب أن نكون جميعاً معنيين بأمر الإسلام, ومعنيين بتطبيق أخلاقيات الإسلام وأحكام الإسلام، على أمورنا الخاصة والعامة, حتى ذلك الإنسان المقصر, أليس مطالبًا شرعًا بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ بلى, والله تعالى عندما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] هل هذه الآية خاصة بالملتزمين مثلاً؟ كلا! والرسول عليه السلام لما قال: {من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه} هل كان يخاطب فقط الملتزمين أو المتدينين؟ لا بل يخاطب كل من يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.
فكل هؤلاء مخاطبون بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، بأيديهم إن استطاعوا, ثم بألسنتهم, فإن لم يستطيعوا -فعلى أقل تقديرٍ- ينبغي أن ينكروا المنكر بقلوبهم, وأن يعلم الله تعالى من قلوبهم أنهم له كارهون, حتى ذلك الذي يقع في المنكر مطالبٌ بأن يساهم في تغييره، ويسعى في إزالته بقدر ما يستطيع.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد إذاً: يجب أن يكون هناك مبادرة من الجميع, بالتعاون على البر والتقوى, والاتصال بين سائر أفراد المجتمع, وما أدري ما هو السبب الذي يوجد نوعًا من الفجوة بين من يسمون بالملتزمين, وبين بقية أفراد المجتمع, لماذا لا يكون هناك اتصال؟ ولماذا لا يكون هناك مجالس؟ ولماذا لا يكون هناك حوار؟ وأنا أعلم أن الكثيرين ممن يقام لهم وزن ويحسب لهم حساب, لديهم استعداد أن يسمعوا أي اقتراح, أو ملاحظة, أو نقد, أو حوار, أو سؤال, أو نقاش؛ حتى يتم الوصول إلى الحق, وحتى نستطيع أن نضمن ولاء الجميع للإسلام, وللدعوة, وللخير وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الإنسان إذا لم يجد سبيلاً للتعبير عن وجهة نظره وعن ملاحظاته؛ ربما يتحول إلى إنسانٍ حاقد, أو كاره, أو مبغض, لمن يسميهم بالملتزمين, أو من يسميهم بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, أو من يسميهم بالمتدينين, أو ما شئت من الأسماء.
لكن إذا كانت القنوات مفتوحة، والمجالات قائمة، وإمكانية الصلة والحديث والحوار ممكناً، فلماذا لا يجربها الجميع؟ ولماذا لا نسعى كلنا جميعاً إلى العمل على ربط كل طبقات المجتمع بعضها ببعض, وتعارف أفراد المجتمع, والاتصال فيما بينهم.
وجرب يا أخي! هذا الكلام الذي أقوله فهو كلامٌ نظري؛ لكن جرب أنت، اذهب إلى من شئت من الناس، من المتدينين, أو ممن لك عليهم ملاحظة, أو ممن تعتقد أنهم ربما يسمعون منك, وحدثهم عما في نفسك، فستجد إن شاء الله تعالى أن هناك تجاوباً، ورغبة في سماع وجهة النظر الأخرى, ورغبةٌ في سماع الرأي الآخر, ورغبةً في تبادل الحديث فيما يخدم المصلحة العليا وهي مصلحة الإسلام.(125/13)
كيف نحقق هذا الإيمان عملياً
إنني أعلم أن هذا المجتمع متدين، لا أقول كله (100%) فهذا أمرٌ لم يحدث حتى في المجتمع الذي كان على رأسه محمد عليه الصلاة والسلام, ففي المدينة كان المنافقون, لكن أستطيع أن أقول: إن هذا المجتمع في غالب أفراده مجتمعٌ متدين, ومجتمعٌ مؤمن, ومجتمعٌ يؤمن بالإسلام, ويحب الخير للإسلام والمسلمين, ولذلك أطالب نفسي، وأطالبكم جميعًا وبدون استثناء, أن نحقق هذا الإيمان عملياً, ستقولون: كيف نحققه عملياً؟ أقول:(125/14)
نحن عصاة ولكن نملك قلوباً تحترق لأمر الإسلام
أيها الأحبة: إنه يسرني أعظم السرور؛ حينما اقرأ بعض الرسائل من إخوةٍ يقولون عن أنفسهم: إننا عصاةٌ ومفرطون ومقصرون, لكننا نحمل قلوباً تحترق لأمر الإسلام والحقيقة أن هذه بداية العافية وهذه بداية الصحة، وبداية التوفيق, وأنت مع من أحببت، وهذا دليلٌ على أن هذا القلب فيه حياة, وفيه إيمان، وفيه إقبال, وفيه تفاعل مع قضايا المسلمين, ولعل هذا يكون سبباًَ في توبتك من المعصية, فإن لم يكن، فلعل هذا يكون سببًا في تكفير الذنب الذي وقعت فيه.
فلا يجوز أبدًا أن نعتبر أن مصاب المسلمين أو قضاياهم مسئولية فئةٍ معينة, أو طرفٍ معين, أو أنها مسئوليةٌ الحكومات مثلاً، لا بل هي مسئوليةٌ كل فردٍ مسلم, يشارك ولو بأقل القليل, ولو لم يملك إلا المشاركة بالدعاء, والله لقد رأينا بأعيننا أثر الدعاء في دفع كوارث ومصائب عن المسلمين, وفي تحقيق ألوانٍ من الخير لهم, وما يدريك أن يكون الدعاء أفتك وأمضى من الأسلحة المادية, والدعاء هو العبادة، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاء ما يدريك أن تكون نجاتك يوم القيامة بسبب ركعتين، قمتَ في آخر الليل قبل أذان الفجر فصليت ركعتين ودمعتَ دمعتين, وقلت: اللهم يا رب إني أسألك لعبيدك المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
ما يدريك أن يكون هذا سر نجاتك؟ فيجب أن يكون عندنا تفاعلٌ مع قضايا الإسلام والمسلمين وأن لا يرضى أحدٌ منا قط بأن يقول: أنا غير ملتزم وأنا لست متديناً, وبالتالي يسلخ جسده من جسد هذه الأمة، لا يتفاعل مع قضاياها, ولا يشارك في همومها، ولا يقوم بواجباتها، لا يدعوا إلى الله، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر, ولا يسعى في إصلاح, ولا يتصل بأهل الخير, ولا يسعى إلى خير, هذا لا يكون ولا يجوز أبدًا.
أسأل الله تعالى أن يجمعنا جميعًا على طاعته وتقواه، إنه على كل شيءٍ قدير, وأعتذر إليكم إن كان الوقت قد طال بعض الشيء, فالحديث كما يقول الأول ذو شجونٍ، وأسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقًا معصومًا, وأسأله بأسمائه وصفاته أن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيًا ولا محرومًا, وأسأله تعالى أن يكتب لي ولكم الجنة والرضوان إنه على كل شيءٍ قدير, اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، والحمد لله رب العالمين.(125/15)
التفاعل مع قضايا المسلمين
الأمر الثالث: الذي تحقق به معنى انتمائك للإسلام وللإيمان، ومعنى انتمائك لهذه الأمة العظيمة: هو التفاعل مع كل قضايا المسلمين.
وأنت ترى وتسمع اليوم، ولعل آخر ما سمعنا تلك القصيدة الجميلة التي قرأها الأخ إبراهيم، وهي فعلاً قصيدة معبرة، وتعتبر نموذجًا من المشاركات، فكل إنسانٍ من موقعه يشارك, والتي تتحدث عن آلام الأمة الإسلامية اليوم، والتي أصبحت جسدًا ممزق الأوصالِ مليئاً بالجراح, كاد الأطباء أن يعجزوا عنه؛ ولكن لا يأس: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] كلما اشتدت الخطوب كلما زدنا إيمانًا بقرب الفرج من الله عز وجل.
اشتدي أزمة تنفرج قد آذن ليلك بالبلج والفجر يطلع حينما يشتد الظلام، فأشد ظلام الليل هو قبيل الفجر, ثم يأذن الله تعالى بصبحٍ جديد للأمة.
إذاً هذه الآم والنكبات والمصائب التي يعيشها المسلمون في يوغسلافيا, والصومال, وأفغانستان, وبلاد المغرب, وبلاد روسيا, والهند، في كل بلاد الأرض إلا ما ندر، وهذه المصائب هي إيذانٌ بقرب الفرج, فهي كآلام المخاض -كما تعرفون- الولادة لها آلام, والأمة اليوم بدأت تعي وبدأت تدرك, وبدأت تتفاعل, وبدأ المسلم يعيش هموم إخوانه في كل مكان، ولهذا أصبحنا ندري بما يقع، أما في السابق فكانت الأمور كلها تقع ولا يدري بها أحد.
فمثلاً الذي يجري في البوسنة والهرسك ليس أمرًا جديدًا, خلال الحرب العالمية جرى أكثر منه, ولكن ما علم به أحد، لأن المسلمين كانوا أوصالاً ممزقة، لا يدري أحدٌ منهم بمصيبةٍ غيره, أما اليوم فأصبح المسلمون يسعون إلى أن يكونوا جسداً واحداً, وإلى أن يحققوا معنى الأخوة الإيمانية, وإلى أن يتمثلوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} وبالتالي أصبح هذا الجسد يشعر بالألم ويحس بالوخز، بخلاف الماضي، فقد كان جسداً أشبه بالمشلول، الذي لا يحس بوقع الألم عليه.
ولذلك علينا أن نتعاطف ونتفاعل مع أحوال إخواننا المسلمين في كل مكان, وأن نشارك بقدر ما نستطيع, ولا يحقر أحد منا نفسه, هذا يشارك في التوعية ونشر قضية المسلمين, وهذا يشاركُ بنشر التقارير عن أحوال المسلمين, وهذا يشاركُ بنشر القضية على مستوى معين, وهذا يشارك بجمع التبرعات, وهذا يشارك بخطبة, وهذا يشارك بكلمة, وهذا يشارك بورقة, وهذا وهذا , حتى نستطيع أن نكون مجتمعاً -فعلاً- يتفاعل مع قضايا المسلمين.
وقد رأيت كثيرًا من المسلمين من البلاد الأخرى، فوجدت أنهم يحملون أرفع المشاعر والأحاسيس تجاه المسلمين في هذه البلاد, لشعورهم بأنهم يتعاطفون معهم, ويتفاعلون مع قضاياهم، وأنهم يصغون آذانهم لكل صوتٍ يستصرخ ويستغيث من أصوات المسلمين، المصاب كبير، والخطب جلل؛ ولكن أعيذك بالله يا أخي الكريم! مهما كنت تعتقد إنك مقصر وعاص ومسرفٌ وضال …إلى آخره, أعيذك بالله أن تسلخ نفسك من جسد هذه الأمة, أو أن لا تتفاعل مع قضاياها, بل يجب أن يكون عندك قلب يتحرق لها ألماً.(125/16)
إزالة كل ألوان الجفوة والتباعد
أولاً: بإزالة كل ألوان الجفوة أو التباعد, أو الجسور المقطوعة بين طبقات المجتمع, بين من نسميهم بالملتزمين وغيرهم, بين العلماء والعامة, بين كل الطبقات, وأن يكون هناك حوار، هذا الحوار ليس هدفه كسب المواقف, بل هدفه الوصول إلى الحق, وهدفه ردم الهوة, وهدم وإزالة كل ألوان سوء الفهم الموجودة بين المتدينين وغيرهم.(125/17)
المشاركة في مسئولية الدعوة
وأيضاً نحقق هذا الشعور، وهذا الإيمان الذي أكرمنا الله تعالى به؛ نحققه بالمشاركة, وأن لا نعتبر أن مسئولية الإسلام, أو مسئولية الدعوة, أو مسئولية نشر الكتاب, أو مسئولية نشر الشريط, أو مسئولية تطبيق الخُلق الإسلامي, مسؤولية فئة معينة, أو جهة معينة, أو إدارة معينة.
كل فردٍ منا يجب أن يشعر بأنه مسئول, -وأحيانًا- الإنسان الذي يرى أنه منحرف أو مقصر أو مفرط؛ يستطيع من ذلك ما لا يستطيعه الملتزم -كما يسمونه- أنت بشكلك، وصفتك وطبيعتك، وتكوينك وعلاقاتك وصداقاتك، ربما تطلع على أسرار في المجتمع لم يطلع عليها غيرك, وربما تعرف أشياء ما عرفها غيرك, وربما تدرك أموراً قد لا يدركها كثيرٌ من البعيدين عن هذه المجالات, وربما تعرف الأسلوب المناسب لمخاطبة هذه الفئة أو تلك, فلماذا لا تقيم العلاقة مع الأخيار, ومع طلبة العلم, ومع العلماء, ومع الدعاة, ومع خطباء المساجد, ومع المعنيين بأمر الإسلام, تقيم معهم العلاقة, وتوافيهم بكل جديد, وتبين لهم ما تراه, وتخبرهم بما تعتقد أن فيه مصلحةً، وأن في إطلاعهم عليه مصلحةً, وبذلك تكون مشاركًا في عملية تحقيق معنى إسلامية هذا المجتمع.
أيضاً أنت بحكم موقعك، مسئولاً أو طبيباً أو إدارياً أو غير ذلك؛ تستطيع مالا يستطيعه البعيد, وتطلع على مالا يطلعون عليه, فلماذا لا تحقق معنى انتمائك لهذا الدين من خلال موقعك؟: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] وإياك إياك أن تعتقد أن إخلاصك لله تعالى في عملك، وصدقك في تطبيق معاني التدين؛ أن هذا يضرك, لا والله الذي لا إله غيره, إذا رضي الله عنك, فلا يضرك أن يسخط الناس كلهم, وأنا أقول لكم أيها الأحبة واقعاً عملياً، أعرف مجموعات من الشباب في مواقع كثيرةٍ وكثيرةٍ جداً، عندهم وضوح وصدق وجرءة وعزيمة, هؤلاء، والله حصلوا على رتبٍ وظيفية، لم يحصل عليها جميع زملائهم الذين تخرجوا معهم, ما ضرهم أبدًا، بل حصلوا على أشياء ما حصل عليها غيرهم ممن سبقهم في هذه الميادين.
إذاً: من رضي الله تعالى عنه أرضى عنه الناس, ومن سخط الله تعالى عليه أسخط عليه الناس, وليست العبرة بيومٍ أو ساعةٍ أو شهرٍ أو سنةٍ، العبرة بحياتك كلها، وجرب تجد.
بل لا أقول لك: جرب، لأن المعاملة مع الله لا تحتاج إلى تجربة, أو تشك في وعد الله، حاشاك من ذلك, والله تعالى لا يخلف الميعاد, فاصدق مع الله تعالى، واحرص على أن تستخدم كل وظيفة بوأك الله إياها, حتى ولو كانت صغيرة, افترض أنك موظفٌ صغير في الأشعة أو في الصيدلية أم في الاستقبال، أم في أي جهازٍ معين، سواءً في هذا الجهاز الشئون الصحية أو غيرها, حاول أن تطبق كل ما تعلمه من الدين في مجال عملك, وأن تتعامل بالأخلاق الفاضلة, وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بقدر ما تستطيع, وأن تسدي النصيحة, وأن تحرص على أن تمنع كل أبواب الشر, وأن تفتح كل أبواب الخير بقدر ما تملك, وستجد أن الله تعالى لك بكل خيرٍ أسرع, يعطيك السعادة في قلبك, والتوفيق في حياتك, والسعادة في علاقاتك مع زوجتك, والرفعة بين زملائك, ويدفع عنك كل سوءٍ وشر, وستجد أنك موفقٌ في دنياك قبل آخرتك, وتلك عاجلُ بشرى المؤمن.
فعليك إذا أن تستخدم كل إمكانياتك، وكل صلاحياتك، وكل مواهبك، وكل الفرص التي تتاح لك؛ في تحقيق معنى كونك مسلماً: ومعنى كونك مؤمناً, ومعنى كونك متديناً, حتى لو لم تكن متديناً فيما يراه الناس؛ ولكن أنت مسلمٌ رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً, فواجبٌ عليك أن تحقق ولو قدرًا من ذلك.(125/18)
الأسئلة(125/19)
التجاوزات في مؤسسات الدولة ومخالفة النظام فيما لا يضر
السؤال
هذا موظفٌ في قسم المتابعة يقول: أنا مطالبٌ بتطبيق الأنظمة حرفياً، وذلك أثناء توقيع الجزاءات التأديبية, هل التجاوزات عن بعض الأخطاء التي لا تؤثر على المصلحة العامة، وعدم وقوع العقوبة، هل هذا يعد محرمًا من الناحية الشرعية؟ وهل نحن مطالبون بتطبيق النص النظامي حرفيًا؟ أم يكفي إزالة الأخطاء وبأي طريقة؟
الجواب
النظام كما هو معروف، هو من وضع البشر، بخلاف الشريعة فهي من عند الله تعالى, والله تعالى يقول عن القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ولذلك الأنظمة الهدف منها الضبط الإداري, ضبط العمل, ومن الممكن أن يكون النظام صالحاً في هذا العام, ولكنه غير صالحٍ في العام القادم, أو من الممكن أن نكتشف أن هذا النظام أصبح غير مناسب, وبالتالي لابد من تغييره، إلى غير ذلك مما هو معروف.
فعلى الإنسان أن يدرك أن النظام له هدفٌ يجب السعي إلى تحقيقه, وهو الضبط الإداري, وضبط الحضور والانصراف, وضبط القيام بالعمل, وضبط احترام المراجعين, وضبط المحافظة على الممتلكات, وضبط حسن المعاملة مع الرؤساء أو المرءوسين، إلى غير ذلك من الأهداف التي يسعى النظام إلى تحقيقها.
فأنت كقائمٍ على موضوع تنفيذ الجزاءات، فيلزمك أن تراعي كل هذه الاعتبارات, وكل حالةٍ تقدر بقدرها، ويجتهد الإنسان المسئول في تطبيق ما يتعلق بها, ومن الصعب أن أقول لك: نعم أو لا.
لأن هذه قضايا عينية, قضايا واقعية تفصيلية, الكلام الذي أقوله فيها، مهما كان سيظل كلامًا عامًا، قد يستخدمه إنسانٌ بصورةٍ صحيحة وقد يستخدمه آخر بصورةٍ عكسية, وبالتالي أعتقد أن مثل هذا السائل ينبغي أن يتحرى، ولا بأس أن يسأل بنفسه بشكل مباشر، فيسأل بعض أهل العلم عن بعض الأمور، وبعض الأشياء، وبعض الجزئيات، وبعض التفصيلات؛ بحيث يملك بعض الوقت قاعدةً منضبطةً مضطردةً يطبقها.
فمثلاً: نحن نعلم جميعًا أن الظلم محرم في جميع شرائع الله عز وجل, بل وفي جميع قوانين البشر، والله تعالى يقول: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة} ويهدد الظالم بالهلاك في الدنيا، وفي الآخرة ويهدد بأنه يسلط عليه من هو أظلم منه, فأحيانًا قد أكتشف يقيناً بأن هذه الحالة ظلمٌ على هذا الإنسان لسببٍ أو لآخر، هنا ينبغي أن أسعى في دفع الظلم, وأحيانًا قد أجد أن هذا الشيء قد يكون إهمالاً أو تساهلاً أو تفريطًا, وأن التفريط في مثل هذا الأمر قد يغري هذا الإنسان بمزيدٍ من الإهمال, أو يغري غيره أيضاً بأن يسعى وأن يفعل مثل فعله, فكل حالة لها حكمٌ، وتقدر بقدرها، وأرى أن مثل هذا الأخ لو اتصل مباشرةً ببعض طلبة العلم، وسأل عن بعض التفاصيل؛ ربما كان أجدى وأنفع.
(توضيح السؤال من السائل) يقول: يا شيخ أنا لا أقصد الظلم! وإنما الإصلاح.
الأمر هنا كما ذكرت، أي أن النظام، وضع لضبط العمل، فإذا كان هناك في النظام؛ عقوبة مثلاً على من أخل بالعمل, عقوبةً معينة, وأخل إنسانٌ بحيث أصبح مستحقًا لهذه العقوبة, الأصل هو تطبيق هذه العقوبة عليه، هذا هو الأصل، وليس يعتبر في هذه الحالة ظلمٌ، بل قد يكون هذا الأمر لا بد منه من أجل ردعِ هذا الإنسان كما أسلفت, أو منع غيره أن يحذو حذوه فهذا أمرٌ واضح.
لكن يوجد أحيانًا ملابسات، بحسب ما اطلعت فيه على أجهزةٍ كثيرة, يوجد ملابسات وأحوال تستدعي أن القائم على مثل هذه الأمور التأديبية؛ أن يسأل ويستبين ويطلع على جلية الأمر وعلى حقيقته، فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه في هذه الحالة, لأنه حينئذٍ إما أن يظلم هذا الموظف؛ بأن يكون أوقع عليه عقابًا لا يستحقه، فيكون ظالمًا بهذا الاعتبار, وإما أن يظلم العمل الذي يقوم عليه؛ بتفويت العقوبة للمخطئ الذي يستحق العقاب، وتجريء الآخرين على أن يعملوا مثل عمله, وكلا الأمرين خطأ, فهو مثل الذي يمشي على طريقٍ دحض مزلةٍ وعرٍ، يتطلب أن يكون يقظاً، وأن يحرص على العدل والإنصاف بقدر ما يستطيع.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل لصاحب الفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة , على تفضله بحضور هذا الاجتماع مع أبنائه وإخوانه، فشكر الله له, وجعل هذا العمل خالصًا لوجهه سبحانه وتعالى, ونفعنا بما سمعنا، وشكر الله للمسئولين على حضورهم، ولكم أيها الإخوة أجمل شكر, وإلى لقاءاتِ الخير دائمًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(125/20)
استقدام غير المسلمين في مجال العمالة
السؤال
فضيلة الشيخ: كيف الجمع بين التضييق على غير المسلمين, والحصول على أحسن ما عندهم في مجال العمل؟.
الجواب
على كل حال، غير المسلم إذا جاء إلى بلدٍ من بلاد المسلمين ليقوم بعمل, فيجب تمكينه من القيام بهذا العمل الذي جيء به من أجله، وإعطائه الوسائل والأدوات المادية والمعنوية، التي تمكنه من القيام بهذا العمل, هذا مفروغٌ منه, وينبغي أيضًا أن يبذل معه الجهد والوسع في دعوته إلى الله تعالى، سواء بالفعل أم بالقول, والله تعالى يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9] فهذه إجابةٌ عامة، وإن كنا نعلم يقيناً أن استقدام هذه الأعداد من غير المسلمين إلى بلاد الإسلام، هو أيضاً من الأمور التي تكون الأمة كلها آثمة إذا كان هناك تقصيرٌ أو تفريط ففي كثيرٍ من الأحيان، من الممكن أن يوجد مسلم يقوم بهذا العمل, مثل ما يقوم به غيره، أو أفضل، أو حتى أقل بقليل، بل إننا -مع الأسف أحيانًا- قد نأتي بغير المسلم بحجة أنه يملك الخبرة, ويملك التجربة, ويملك التدريب, والواقع أن غير المسلم إنما يملك الخبرة والتجربة والتدريب في بلادنا, حينما استقدمناه أول مرةٍ ومكناه, أما المسلم فمتى سيتدرب؟! ومتى سيملك الخبرة؟! ومتى سيتعلم، إذا كنا نستبعده أصلاً لأنه لا خبرة لديه؟.
إننا نجد في بلاد الإسلام: أنه حينما يكون القائم علي مؤسسةٍ أو شركة أو جهة نصرانياً فإنه يأتي بقومٍ من بني جنسه، وهذا أمرٌ موثق, وعندي فيه حقائق وأرقام لا تقبل الجدل, فلماذا نجد أن بعض المسلمين يكونون قائمين على مثل هذه الأشياء، أو قادرين على الاستقدام, أو على الإتيان ببعض الخبراء, أو بعمالةٍ معينة, أو بفنيين، ثم لا يهتم الواحد منهم أن يأتي بمسلمٍ أو غير مسلم, بل همه محصورٌ فقط في النواحي الفنية البحتة, نعم النواحي الفنية البحتة لها اعتبار، يجب أن توضع في الاعتبار, لكن ما هو المانع أن آتي بمسلمين أو بمسلمات، وأعطيهم دورة أو دورتين -وهذا يعطى الآن للجميع- تزيد من تأهيلهم وتعطيهم إمكانية أن يمارسوا العمل جيدًا، بحيث يكون في ذلك رفعٌ لمستوى المسلمين حتى في بلادهم, ومحافظةٌ على الأخلاقيات, وتحقيق لمعنى من معاني الإخاء الديني.(125/21)
أثر الاختلاط في التأخر العلمي
السؤال
فضيلة الشيخ -جزاك الله خيراً- نرجو الإفادة عن الحكم الشرعي في حضور ندوات علمية مختلطة؟
الجواب
أولاً يجب السعي إلى فصل الرجال عن النساء في كل المجالات, العلمية والطبية والندوات والتطبيب وغيرها, هذا واجبٌ علينا جميعاً، وعلينا أن نبذل فيه ما نستطيع، سواء كان الواحد منا يستطيع أن يقدم النصيحة, أو كان يستطيع أن يتخذ القرار, أو كان يستطيع أي شيء، واجب علينا أن نسعى إلى الفصل بقدر المستطاع وبقدر الإمكان, وهذا ممكنٌ ولا شك, وإذا تحقق هذا لم يكن هناك -أصلاً- مجالٌ للسؤال عن حضور ندوات مختلطة بين الرجال والنساء, لكن لنفرض أن هذا الأمر لم يتحقق, فأقول: يفتقر الأمر حينئذٍ إلى مسائل: أولها: أهمية هذه الندوة، فقد تكون هذه الندوة يغني عنها غيرها، أو فيها فائدةً محدودة، فلا داعي حينئذٍ أن نحضرها، بل ينبغي أن يكون تعبيرنا عن إنكار هذا المنكر -أحيانًا- بعدم الحضور؛ متى كان الحضور وعدمه متساويين أو متقاربين، والأمر لا يفرق كثيرًا.
وبالمقابل قد تكون هذه الندوة أحيانًا مهمة، أو يُتَوقَّف عليها على خبرةٍ معينة، أو على ترقيةٍ معينة أو ما أشبه ذلك.
الأمر الثاني: الذي يجب أن يوضع في الاعتبار: نوعيةُ الاختلاط -فأحيانًا- يوجد ندوات فيها شيء مما يسمى بالاختلاط, لكن يوجد الرجال -مثلاً- في الأمام، وتوجد النساء في الخلف, بحيث يكون المكان منعزلاً, ومخرجٌ مستقل للرجال, وهناك مخرجٌ مستقلٌ للنساء, فهذه الصورة -على ما فيها من الخطر، وعلى ما فيها من الضرر، وعلى ما فيها من أنها تكون ذريعةً إلى غيرها, وسبيلاً إلى غيرها- لكنها على ما فيها أهونَ من الصورة الثالثة، التي اطلعت -مع الأسف أنها تحصل أحيانًا, وهي صورةُ الاختلاط الكلي والاندماج الكامل، بحيث تجد الرجل إلى جواره امرأة, ويتبادلون الحديث وغير ذلك, مع أن الواقع أن هذا الجو ليس جواً تعليمياً, ولا جواً تربوياً مهما كان الأمر.
وقد أدرك الغرب أن الاختلاط من أهم الأسباب في التأخر العلمي, ولذلك عمد الآن إلى الفصل بين الجنسين، ويوجد في أمريكا أكثر من مائتي جامعة غير مختلطة, لأنه أدرك أن العلم الصحيح لا يمكن الحصول عليه في جو مختلط, يوجد فيه الرجال والنساء بعضهم إلى جوار بعض, بل هذا الجو مثارٌ للفتنة، وسببٌ للإعراض، وسببٌ للعزوف، وسببٌ في انشغال بعضهم ببعض, وليس جواً تعليمياً ناضجاً.
ونحن نجد اليوم ونعلم أن الإنسان المتدين المستقيم، ذا الخلق الفاضل المتزوج, إذا وجد في مثل هذه الأجواء يشعر بالضيق، ويشعر بالقلق ويشعر بالتبرم، وبالتالي نفسيته غير مؤهلة ولا مهيأة لتلقي العلم، فكيف بغيره من الناس؟ فالله المستعان.(125/22)
للضرورة أحكام
السؤال
فضيلة الشيخ! للضرورة أحكام, هكذا تنبت الإجابة، كلما تساءل أحدٌ عن قضية استشفاء المرأة لدى الرجل، أو العكس, فهل يرى فضيلتكم أن هذه الأحكام يمكن أن تمتد إلى هذا الجانب مطلقًا؟
الجواب
الضرورة من المعروف أنَّ لها أحكاماً في الشريعة؛ لكن ما هي هذه الأحكام أولاً؟ وما هي الضرورة ثانيًا؟ هذا بحثٌ أصولي وفيه كتبٌ ومصنفات، ولا أظن أن هناك داعياً للاستطراد والاسترسال فيه, ولكن ينبغي أن نعلم أن الأمة عليها واجب، قبل أن يكون الواجب على الفرد، فالأمةُ بأجهزتها ومؤسساتها؛ مطالبةٌ بأن توفر للفرد من أفرادها العلاج الصحيح الشرعي، الذي يحقق المطلب الصحي أو الحاجة, وفي نفس الوقت يحافظ على دين الإنسان، رجلاً كان أو امرأة وتحافظ على أخلاقه, هذا مطلبُ الأمة كلها وهي آثمة إذا قصرت أو فرطت فيه, بأفرادها ومؤسساتها وأجهزتها العامة والخاصة.
وأقول -كما قلت من قبل-: في بلاد الغرب.
حيث توجد قوانين تعتبر أن فصل الرجل عن المرأة نوعٌ من التمييز العنصري, فترفض الفصل، ومع ذلك يوجد عندهم فنادق خاصة بالنساء, وجامعات ومدارس خاصة بالنساء, ومستشفيات خاصة بالنساء, بل يفكرون بأكثر من ذلك.
فالمسلمون مطالبون من باب أولى، أن يشعروا بأن هذه المطالب الجدية الملحة التي تصيح الأمة بها صباح مساء, لا يمكن أن تصم عنها الآذان, ويجب أن نكون كلنا دعاة لمثل هذا الأمر, وأن نتحدث عنه، ونبلغه ونوصله, ونسعى بقدر المستطاع، وليس شرطًا أن الإنسان في يده المفتاح, ويملك كل شيء ويملك قراراً , لكن يستطيع أن يملك -على أقل تقديرٍ- أن يساهم في مثل هذا الأمر، وفي هذا الاتجاه ولو بالكلمة الصادقة القوية المؤثرة المعبرة عما يعيشه الناس, فهذا واجب الأمة.
أما بالنسبة لحال الأفراد، فلو افترض أن إنساناً عنده حالة مرضية؛ إذا استطاع أن يجد امرأة تعالج هذه المرأة فهذا هو الواجب عليه، ولو كانت هذه المرأة غير مسلمة، فالأصل أن يكون العلاج عن طريق امرأةٍ مسلمة, وإذا كان لا يوجد امرأةً مسلمة تعالج هذه المرأة فتتعالج ولو عند امرأةٍ كافرة بشرط أن تكون مأمونة في علاجها، لا يمكن أن تسيء إلى هذه المرأة المسلمة، أو تحقد عليها بما يضرها ويسيء إليها, فإذا لم توجد هذه المرأة التي تعالج المرأة, ينتقل الأمر إلى الطبيب المسلم المأمون, فإن لم يوجد هذا الطبيب, فالحل الأخير هو الطبيب الكافر المأمون أيضًا.
والضرورة لها أحكامها, فإذا كان الإنسان يستطيع أن يعالج زوجته عند امرأةٍ مسلمة ويملك ذلك دون مشقة, لم يكن جائزًا له شرعًا أن ينتقل إلى غيرها، أي إلى رجلٍ -مثلاً- ولو كان رجلاً مسلمًا، فينبغي أن ندرك هذا الأمر.
وفرقٌ بين الأمور التي يواجهها الإنسان وتواجهها الأسر والمجتمعات, فقد يكون التضييق عليه في مثل هذه الأمور صعباً مع وجود الحاجة، وإن كان على ولي الأمر، زوجاً كان أو أخا أو أباً أو ما أشبه ذلك، أن يحرص على ضبط الأمور، وعلى العناية وعلى الرعاية وعلى المتابعة، حتى يطمئن بنفسه إلى أن الأمر تم كله في جوٍ منضبطٍ، بعيدٍ عن كل ما يخدش أو يشين.(125/23)
كثر ولكن عديدٌ لا اعتداد به
السؤال
فضيلة الشيخ! جزاكم الله خيراً -كما تعلمون- أن الإسلام ما انتشر في الأرض إلا ببركة الله، ثم بخروج الصحابة والتابعين لنشر الإسلام بالكلمة الطيبة إلى كل مكان, واليوم ترى أن أعداد المسلمين الطيبين في تزايدٍ في داخل البلاد الإسلامية، وليس لهم جهدٌ واضح في الدعوة إلى الله, سواءً بين الكفار داخل بلادهم, ولا حتى في الخارج, وتبذل معظم جهودهم في قضايا خلافية قد تكون مهمةً، ولكنها ليست لها الأولوية, فهل الخلل في الدعوة أم المسلمين اليوم، أرجو التعليق؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
على كل حال, أعتقد أنه من المسلم به أن الإسلام هو دين الله عز وجل، وأنَّ العصمة هي لهذا الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم, فالمسلمون يصيبون بقدر قربهم من الإسلام, ويخطئون بقدر بعدهم عن الإسلام.
والإسلام هو الأمر الذي يجب أن ندعو المسلمين جميعاً إلى تطبيقه والعمل به, وندرك -بديهياً- أن كل خطأٍ فإنما قائماً هو بسبب بعدهم عن المنهج الرباني, فلو حسبنا عدد الصحابة؛ لوجدنا أن الإحصائية تقول: عدد الصحابة الذين حضروا فقط حجة الوداع, كانوا مائة وأربعة عشر ألف سؤالٌ آخر: عدد الصحابة الذين دفنوا في المدينة المنورة مقبرة البقيع محصورةٌ محدودة, وعدد القبور فيها قليل كما هو معروف.
إذاً: أين ذهب هؤلاء؟! منهم من دفن في الشام, أو العراق, أو مصر, أو تركيا, أو بلاد ما وراء النهر, أو في مناطق من الجزيرة العربية مختلفة كـ اليمن, إلى غير ذلك.
إذاً هذا يدل على أن جيل الصحابة فعلاً كان جيل دعوة, ولذلك ساحوا في الأرض كلها، وكانوا تجديدًا للأمم كافة.
أما اليوم فالصورة عكسية، المسلمون أصبحوا ليست القضية قضية مائة وأربعة عشر ألف، الإحصائيات الرسمية، وهي تحسب المسلمين الجغرافيين، تقول: ألف مليون ومائتا مليون عدد المسلمين؛ ومثل عدد الرمل والحصى والتراب، ولكن كما قال الشاعر: كثر ولكن عديد لا اعتداد به جمع ولكن بديد غير متسق حارت عقائدنا زاغت قواعدنا أما الرءوس فرأيٌ غير متفق يكفينا أن يوجد في المسلمين اليوم، ولو نسبة (1%) ممن يحمل في قلبه هم الإسلام, القضية هي قضية أن يوجد قلبٌ يشتعل بهم الإسلام, وإذا وجد هذا القلب انتهى كل شيء، لأن الإنسان يستطيع أن يعطى مما عنده وينفق مما عنده, هذا إنسانٌ استطاع أن يخدم من خلال موقعه وفى بلده، ونفع وسدَّ ثغرةً لا يسدها غيره, وآخر ذهب إلى بلاد أخرى, وبلاد العالم الإسلامي اليوم كلها تتطلع، ومع الأسف الشديد- لو نظرنا للنصارى؛ لوجدنا أنهم يأتون عمالاً -أحيانًا- وموظفين صغار، ويضحون بالكثير, ويأتي شباب النصارى ذكوراً وإناثاً في سن المراهقة، ويتركون الحضارة والرفاهية والتنعم وألوان الملذات في بلادهم, ويأتون إلى بلاد المسلمين إلى الصومال مثلاً، أو إلى غيرها, حيث الجوع والعطش والفقر والمرض والخطر ويتعرضون للموت, وقد حدثني أحد الشباب من هذا البلد: الذين ذهبوا إلى هناك، كيف أنهم رأوا أولاداً وبناتاً من أولاد الأوروبيين في سن الثامنة عشرة جاءوا إلى هناك, وتجد أن أصحاب الدماء الأوروبية وهؤلاء البيض، تجد أن أسفل أقدامهم وسيقانهم قد اسود من أثر الشمس والجهد والمشي والتعب, وتجدهم مع المسلمين ومع الأطفال, والذباب, والمرض, والخطر, والتلوث, والفقر, من أجل ماذا؟ يقول الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] .
الكنيسة ومجلس الكنائس يُجند مئات الألوف من المسلمين، في إندونيسيا, في بلاد المشرق العربي, وفي روسيا، وفي كل مكان, أما المسلمون فلا يزالون يتحدثون عن هذا الأمر مجرد حديث فقط, أو يتكلمون عما فعله الغرب وعما فعله النصارى, أما أن ينتقلوا إلى مرحلة المشاركة, فلا زال الأمر يتطلب جهدًا أكبر, ويتطلب إخلاصًا, ويتطلب مبادرات شخصية من الناس.
لا تنتظر أحداً يا أخي، من تنتظر أنت؟ هل تعلم اليوم أن هناك جهة هي المسئولة عن الإسلام؟ ليس هناك جهة في العالم الإسلامي كله مع الأسف, إنما القضية قضية مبادرات من المؤمنين، أفراداً كانوا أو مؤسسات، أو غير ذلك, مبادرات تأخذ الزمام وتتقدم، وتعلن للمسلمين، وتحاول أن تشركهم في مثل هذه الأعمال، ويبذل كلَّ واحد منا ما يستطيع في هذا السبيل، بحيث نستطيع أن نتغلب على هذه المشكلة.
أحياناً نحس أن هناك جموداً وخموداً في القلوب, على سبيل المثال تلك، الإحصائية التي أعلنت في الجرائد قبل شهر أو أكثر, أثبت التعداد السكاني أنه يوجد في هذه البلاد، أكثر أو قريب من أربعة ملايين إنسان من غير أبناء هذه البلاد, وأجزم أن هناك نسبةً ربما تصل إلى (50%) من غير المسلمين من هؤلاء الناس.
إذاً: مليوني إنسان مقيمون هنا، غالبيتهم ليسو أطفالاً أو صغارًا, إنما هم من الناس الراشدين، الذين يستطيعون أن يفهموا، وأن يسمعوا، ويقرءوا، ويناقشوا, إذاً ما هو مجهودنا مع هؤلاء؟! ماذا بذلنا معهم؟! هم في بلادنا, وتحت تأثيرنا، ويشاهدوننا، ونستطيع أن نخاطبهم ونحادثهم ونحاورهم، ونعطيهم الكتاب والشريط, وإذا لم نستطع -على الأقل- نأخذ بيد الواحد منهم إلى فلان وإلى علاَّن، دعه يفتح معه نقاش عن الإسلام, وعن الدعوة, فمن الممكن أن يسلم هذا الإنسان, وإذا لم يسلم؛ فعلى أقل تقدير أثرنا عنده تساؤلات، أو شككناه في دينه, وقد يسلم بعد خمس أو عشر سنين, وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك؛ فمن المؤكد أن مثل هذه المناقشات، ومثل هذه الجهود إذا كثفت وكثرت واستمرت، أقل تقدير أنها سوف تضعف من حماسهم لدينهم, وبالمقابل تجد من هؤلاء مع أنهم في بلادنا من يستميتون لدينهم.
وقبل فترةٍ ليست بالبعيدة، كشف رجلٌ هندوسي هو عبارة عن موظفٍ صغير مستخدم، لكنه تظاهر بالإسلام، وأتى بجوازاتٍ مزورة تدل على أنه مسلم, وهو هندوسي, وكان يجمع التبرعات، ويجمع زملاءه، ويقيم الطقوس، ويتواصى معهم، ويرسل التبرعات إلى بني جنسه في الهند, في هذه المنطقة بالذات، وظل سنتين, من أجل ماذا؟ ما كان للراتب نفسه؛ بل لأنه كان يجمع التبرعات ويرسل بها إلى جمعيات هندوسية, ويكشف.
ومن النصارى أمثال هؤلاء؛ بل الغريب أنهم يتعرضون للمخاطر الكبيرة في سبيل دينهم، ويعقدون الاجتماعات, ويتصلون حتى بأبناء هذه البلاد, ويفعلون أشياء كثيرة، وعندنا الوثائق, مع أنهم يتعرضون للخطر, ولكن عندهم حماس وعندهم استبسال.
أنت أيٌ خطرٍ عليك إذا دعوت إلى الإسلام؟! وأي خطر عليك إذا وزعت كتاباً باللغة العربية أو بغيرها؟! وأي خطرٍ عليك إذا وزعت شريطاً بلغةٍ أو بأخرى؟! وأيُّ خطرٍ عليك إذا أخذت واحداً منهم إلى أحد المشايخ أو الخطباء أو العلماء؛ ليناقشه ويدعوه إلى الإسلام؟ لكن القضية قضية وجود قلب يشتعل بهم الإسلام, وأنا أسألك يا أخي إذا كنت لا تحمل هذا القلب الآن, هل عندك نيةٌ بأن تحمله في المستقبل؟ أقول لك: كم سوف تعيش من عمر؟ ألا تعلم أن العمر واحد, وأن العمر ما يؤكل إلا مرةً واحدة, والفرصة المتاحة لك على ظهر هذه الأرض فرصةٌ واحدة لا تتكررُ أبداً, إذاً ليس أمامك مجالٌ آخر، ولا فرصة أخرى, إذا كنت لا تحمل القلب الآن فسارع إلى الحصول عليه, وهناك أناسٌ ما عندهم قلبٌ أصلاً, ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] أي: أنه وجد معه قلب صحيح المضغة موجوداً في الصدر, لكن خواء وهواء، لا يحمل هذا القلب أيَّ شعور, ولا عاطفة, ولا إيمان, ولا تفاعل, ولا تفكير, بل يرى الآيات والنذر؛ فلا يعتبر بها: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] .(125/24)
عقبات في مسيرة الدعوة
الصحوة الإسلامية نور بزغ في الأمة فبدد الظلام، وأرشد الحيران، وهذه الصحوة قد نفع الله بها الأمة، وقمع بها شبهات الكفر والضلال، ولكن لا تزال هناك في مسيرة الدعوة وفي طريق الشباب عقبات ربما أحدثت انفصالاً، وهذه يجب التغلب عليها، وهذا الدرس يتحدث عن ذلك.(126/1)
الإسلام والفطرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، رسم الطريق المستقيم لمن يأتي بعده من هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وما ترك صلى الله عليه وسلم خيراً يعلمه إلا دل الأمة عليه وأمرها به, وما ترك صلى الله عليه وسلم شراً يعلمه إلا حذر الأمة منه ونهاها عنه, حتى تركها على المحجة البيضاء المشرقة، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
أما بعد: أيها الإخوة وأيتها الأخوات الإسلام فطرة مركوزة في ضمير كل إنسان، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار المجاشعي، في صحيح مسلم: {قال الله تعالى: إني خلقت عبادي كلهم حنفاء -أي: مستقيمين في أصل الفطرة على التوحيد، مائلين عن الشرك- وإنهم أتتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً} .
هذه الفطرة قد يعتريها -في كثير من الأحيان- ما يصرفها عن طريقها إلى طرق الغواية، ولكنها سرعان ما تستيقظ إذا سمعت داعي الله عز وجل, وتئن تحت هذا الركام ثم تثور وتتمرد؛ حتى تجد طريقها المستقيم الذي هداها الله تبارك وتعالى إليه.(126/2)
دور الصحوة في نشر هذا الدين
هذه الظاهرة التي يعبر عنها بالصحوة الإسلامية، والتي أقضت مضاجع أعداء الإسلام, فانطلقوا مسعورين يكتبون عنها في صحفهم ووسائل إعلامهم، ويحذرون منها, ويقولون: انتبهوا إلى هذا الإسلام!! هذا العملاق النائم الذي إذا استيقظ فلن تقف في وجهه جيوش أوروبا ولا روسيا ولا غيرها!! هذه الصحوة الإسلامية، لست أقول كما يقول البعض: إنها بدون سبب وبلا مقدمات، كلا! فجهود العلماء والدعاة والموجهين، والجمعيات الإسلامية، والوسائل المختلفة، من الكتب والمجلات والأشرطة وغيرها, لا يمكن أن نتجاهل دورها.
لكن أعتقد -والله أعلم- أن حجم الصحوة الإسلامية أضخم مما يتوقع من تلك الوسائل, فالوسائل لها دورها لكن النتائج أعظم مما هو متوقع، ولا يمكن أن تفسر هذه الوسائل هذه الصحوة الإسلامية, لكن يفسرها لطف الله تبارك وتعالى بهذه الأمة, ولذلك يقال: وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمانُ إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده فإذا لم يرد الله بالإنسان خيراً؛ فمهما بذل من الوسائل والأسباب فهي تكون عليه لا له, وفي طريق هذا التوجه للإسلام عقبات وعوائق كثيرة وكثيرة!! وهذه العقبات قد تجعل بعض الناس يهم بالاستقامة ولكنه لا يقدم.
ومما لا شك فيه أن كثيراً من الواقعين في الانحراف بكافة صوره وأشكاله؛ في قلوبهم صوت يصيح بهم ويناديهم أن توبوا إلى الله عز وجل, وهذا الصوت هو مصدر إزعاج لهم وقلق, وقد ذكر بعض الشباب الذين كانوا يعيشون في أجواء منحرفة؛ أنه كان يحمل الطبل بيده أو العود في ساعة متأخرة من الليل، مع قرنائه الأشرار, وفي ضميره تأنيب وتقريع وشعور بالخطأ والذنب! ما استمر هذا الشعور فترة إلا وانتصر، فخرج هذا الشاب من الظلمات إلى النور, وهداه الله تبارك وتعالى.
وكثير من الشباب الذين يسافرون إلى الخارج، ويبحثون عن الرذيلة والمتعة الجنسية المحرمة, يذكر من تاب الله عليه منهم أن من أصحابهم من يجالس الفتاة المنحرفة في وقت, ثم يذهب بعده بلحظات إلى غرفة أخرى يئن ويبكي!! فهذا الشعور قد يظل شعوراً مغلوباً في قلب الإنسان؛ بسبب عوائق وعقبات تحول دونه ودون الواقع, وقد يتحول إلى خطوات عملية؛ فيتجه هذا الإنسان إلى الخير، ويستقيم ويصلح، ويسير في هذا الطريق خطوات, وربما توجد عوائق وعقبات توقف هذه الخطوات أو تضعف من شأنها.
وفي هذه اللحظات القصيرة سوف أعرض لخمسة عوائق أو عقبات؛ لا أقول إنها كل العقبات، لكنها في نظري من أهم العقبات.
وهي:(126/3)
حرص العدو على محاصرة الإسلام
وهذا يفسر لنا -أيها الإخوة- عدداً من الأمور؛ أولاً: ما نلاحظه من حرص أعداء الإسلام -في القديم والحديث- على ألا يصل صوت الإسلام إلى الناس, لأن صوت الحق مهما كان ضعيفاً فإنه يجد في داخل الإنسان تحركاً واستجابة.
ولذلك لما جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة، كما في الصحيح؛ ما زال القرشيون يفتلونه في الذروة والغارب؛ حتى أقنعوه بأن يضع في أذنيه قطناًَ؛ لئلا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما جاء إلى الكعبة ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ رجع على نفسه باللائمة وقال: لعمرك إنك رجل لبيب عاقل، فما يضيرك أن تسمع منه، فإن كان حقاً قبلته وإن كان باطلاً رددته.
فسمع فأسلم.
وقد حكى لنا الله عز وجل عن أولئك القوم من الجن، الذين استمعوا إلى قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، في واد بين مكة والطائف، لما رفضه أهل الطائف وردوا دعوته؛ خرج مهموماً محزوناً عليه الصلاة والسلام, حتى إذا كان ببطن نخلة جلس يصلي ويتلو القرآن, فصرف الله إليه نفراً من الجن من نصيبين، فماذا كانت النتيجة حين سمعوا هذا القرآن؟! قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] .
هذا هو السر (أنصتوا) مَنْ أنصت وجد الهداية في قلبه, ولهذا قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] بمجرد أن سمعوا آيات محدودة معدودة من القرآن الكريم؛ رجعوا ليسوا مسلمين فقط، بل منذرين ودعاة إلى قومهم.(126/4)
الاستجابة لدين الفطرة عند غير المسلمين
وهذا ما نجده اليوم في القوى التي تحارب الإسلام، فإنها تجند كافة طاقاتها وإمكانياتها للحيلولة بين الناس وبين سما ع صوت الدعاة إلى الله عز وجل، لأنهم يعرفون أن كثيراً من الناس إذا سمعوا بالقرآن والإسلام آمنوا, وهذا ما نلاحظه في هذه البلاد في هذه الأيام, ونحن نجد العمالة الوافدة من النصارى والبوذيين وغيرهم من كافة الأديان؛ يتقبلون الإسلام بصورة عجيبة, ويعلنون إسلامهم بالعشرات بل وبالمئات, وفي كل مكان.
ولكنني أشير إلى ما أعرفه في القصيم، أحياناً عقب محاضرة أو موعظة يأتي عشرون أو أكثر يعلنون إسلامهم, وهذا قد لا يكون غريباً بالنسبة للملحدين أو الوثنيين؛ لأنهم بلا دين.
لكنني أعتبره غريباً بعض الشيء بالنسبة للنصارى الذين هم على دين، ولديهم شبهات، وقد يكون عند بعضهم تعصب لدينهم, فهذا يفسر لنا أن الفطرة تستجيب لصوت الحق, وكذلك يفسره لنا هذا الأمر -وهو وجود الفطرة المركوزة المغروزة عند الإنسان- ما نلحظه اليوم من توجه كثير من الناس شيباً وشباناً ذكوراً وإناثاً إلى الإسلام.(126/5)
العقبة النفسية
وذلك أن نفوس كثير من الناس تحول دونهم ودون الاستقامة في بعض الأحيان, والله عز وجل قسم بين الناس أخلاقهم وطبائعهم كما قسم بينهم أرزاقهم.
تجد من الناس من هو مجبول على خصال الخير, من الكرم والرجولة والإخلاص والصدق والوضوح، وحب الإحسان للناس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشج زعيم بني عبد القيس، قال له: {إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل: الحلم والأناة.
قال: يا رسول الله! أخصلتان اكتسبتهما أم جبلت عليهما؟ قال: بل جبلت عليهما.
قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله} والحديث حسنه الترمذي وغيره.
فأنت ترى أن مثل هذا الرجل مفطور على خصال طيبة, فعنده قابلية للخير, واستعداد نفسي له, وبالمقابل تجد آخرين جبلوا على ضد ذلك، من البخل أو الشح أو الجبن، أو حب الفخر أو حب الرياسة, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام -أيضاً- في الحديث الثابت، لما فتح مكة قال: {من دخل دار أبي سفيان فهو آمن} وكان تعليل ذلك بأن أبا سفيان رجل يحب الفخر, كما قال العباس رضي الله عنه وأرضاه.
ولا شك أن الإسلام يهذب هذه الطباع، كما هذَّب أبا سفيان فأصبح المؤمن الباذل المجاهد, ولكننا نلحظ في واقع الناس تفاوتاً كبيراً, وعقبات سَبَبُها نفس الإنسان التي بين جنبيه, قد يهم الإنسان -مثلاً- بالإنفاق في سبيل الله, وبذل ما يملك في وجوه الخير، من مساعدة المحتاجين، أو دعم المجاهدين, أو القيام على المشاريع الخيرية أو سواها، فيحول دونه ودون هذا طبيعة البخل والشح الموجودة في نفسه، والتي تجعل يده تكف كلما همّ بالبذل والإنفاق, حتى كأنما هي مثقلة بقيود الحديد.
وقد يهم آخر بأن ينطلق لميدان الدعوة إلى الله عز وجل, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والتعليم والتعلم, فلا يكاد يبدأ بذلك حتى تخرج عنده طبيعة، وهي غلبة حب الراحة والكسل والخمول، فتقعده عن هذا المجال وتؤخره عنه.
وقد يوجد عند بعض الناس في طبيعته شيء من العجب والكبر والخيلاء وحب الفخر, فتجد هذا الإنسان لا ينشط إلا في المجالات التي يكون فيها فرصة للظهور والشهرة والبروز, فإذا قام بعمل من أعمال الخير، كقيام الليل -مثلاً- أو قراءة القرآن، أو الصلاة أو ما أشبه ذلك؛ بدأ هذا الشعور يحاول أن يجد مكانه في قلبه، إذا صلى فرآه أحد قالت له نفسه: لقد رآك فلان وسوف يحسن الظن بك، ويدري أنك إنسان صالح محافظ على العبادات, وإذا سمع أحد صوته وقراءته أو إنفاقه في سبيل الله؛ ثارت في نفسه مثل هذه المشاعر وربما تغلبت عليه!! وبعض الناس قد يكون لديهم عقد نفسية، مشاكل نفسية؛ إما بسبب تأثير البيئة التي عاشوا فيها، أو بسبب ظروف معينة مروا بها، أو بسبب انحراف وقع فيه بعضهم لفترة معينة ثم خرج منه, فترك هذا الانحراف أثره في نفسه, فهذه العقد النفسية لا يكاد الإنسان يتخلص منها بسهولة, وتظل تشده إلى الوراء, وقد يصاب من وراء ذلك بأنواع من الوساوس والأفكار والهواجس، إذا هم بالتوجه إلى عمل الخير, فربما يؤثر عدم الإكثار من الطاعات للسلامة من ذلك.
هذه العوائق النفسية -أيها الإخوة- هي أول ما يواجه الإنسان, لأن بقية العوائق من خارج النفس, لكن هذا العائق من الداخل، ولذلك إذا استطاع الإنسان أن يتغلب على نفسه؛ فهو أقدر على أن يتغلب على العوائق الأخرى, وكثير من الإخوة -وخاصة الشباب ذكوراً وإناثاً- يشتكون من مثل هذه الأشياء, ولكن يبحثون عن الطريق, وكأني ببعض الإخوة والأخوات يتصورون أن الطريق سهل ومفروش بالورود, وأقول: إن أعظم معالجة ومجاهدة يتطلبها السير في طريق الإسلام هي:(126/6)
الثقة بالنفس وتنمية الخصال الحميدة
الخطوة الثانية: أن يعلم الإنسان أنه -وإن كانت فيه خصال ذميمة- إلا أن فيه خصالاً حميدة.
أعرف أحد الشباب عنده بعض المشاكل النفسية، من كثرة التردد وكثرة التذبذب, وضعف الهمة, وعدم الإقدام وعدم الثقة بالنفس؛ بحيث إذا أراد أن يعمل عملاً تحمل له بشكل كبير, وفي أثناء العمل يبذل جهداً مضاعفاً، ولذلك فإنه يرغب عن الأعمال الصالحة ويتركها لهذا السبب, لكن حين تنظر في الزاوية الأخرى تجد عند هذا الإنسان -لو باحثته وحادثته- تجد عنده خصالاً فُطِر عليها، هي في الذروة العليا من الجمال والقوة, تجده -مثلاً- يحب الصالحين -وهذه فضيلة كبرى- كان الإمام الشافعي على جلالة قدره يفاخر فيها ويقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة فهذا الإنسان تجده يحب الصالحين ويحب العلم, تجده يحب الإحسان إلى الناس, ويحب التصدق.
فعلى الإنسان أن ينمي الصفات الطيبة الموجودة في نفسه, لأن الصفة الطيبة إذا نمت وكبرت تغلبت على غيرها.(126/7)
مجالسة الصالحين
الثالث: أن يبحث الإنسان -الشاب أو الفتاة- عن القرناء الصالحين الذين يتعلم منهم الخلق الفاضل, فإن العلم بالتعلم والحلم بالتحلم, والإنسان يقتبس من زملائه الأخلاق، كما يقتبس منهم العلوم والمعارف والفوائد, والخلق يعدي كما هو معروف, فأنت إذا صاحبت قوماً صالحين سرعان ما تدب إليك أخلاقهم وطبائعهم.
والعكس بالعكس, فمن صاحب الطيبين اقتبس من فضائلهم وخصالهم؛ ما يزين به نفسه في الدنيا وفي الآخرة.
هذا ما يتعلق بالعقبة الأولى وهي العقبة النفسية.(126/8)
مجاهدة النفس
مجاهدة النفس في إزالة هذه الأشياء والعقبات الموجودة فيها؛ فلا بد من المجاهدة المستمرة، بحيث يدافع الإنسان هذه الخواطر من نفسه, لأنه ما من إنسان إلا وفي نفسه شيء من هذه الخواطر تقل أو تكثر, وعلاجها أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً وعاشراً هو بالمجاهدة, ولذلك يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] .
هذا الشاب الذي يقول: كلما قمت بعمل صالح قال لي الشيطان: أنت مراء، أنت معجب بعملك، هذا العمل لن ينفعك بل سيضرك سيكون وبالاً عليك!! ويقول: إني أشعر بالعجب في نفسي.
كيف يتوقع أن يكون العلاج؟! وماذا يتصور؟! لا شك أننا نؤمن إيماناً يقينياً بأن العلاج موجود لهذه الحالة ولكل حالة, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ما أنزل الله من داء إلا له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله} وهذا يشمل الأدواء النفسية والقلبية والبدنية وغيرها, فنقطع ونجزم بأن العلاج موجود, لكن لا بد أن تتعاطى العلاج.
وأول خطوة هي المجاهدة ودفع هذه الأشياء ما استطعت, وينبغي أن يحذر الشاب من ترك الأعمال الصالحة بحجة الخوف من الرياء, لأن هذا مدخل من مداخل الشيطان.
ذكر لي بعض الإخوة: أن أحد الشباب المقبلين على الخير، كان يتردد على المسجد ويصلي خلف الإمام قريباً منه باستمرار، ويتلو القرآن ويتنفل, قال: فافتقدته حيناً من الدهر, ثم وجدته يصلي في أواخر الصفوف، ولا يتنفل ولا يقرأ القرآن.
فسألته عن السبب في ذلك؟ فقال: إنني أحسست أنني حين أبكر إلى المسجد وأصلي، ويسمع الناس صوتي بقراءة القرآن؛ أحسست أني مراءٍ, والمرائي توعد بالويل, وعمله الذي يعمله وإن كان في الظاهر صالحاً إلا أنه فاسد.
هكذا يقول هو.
ولذلك فإنني تركت هذه الأعمال؛ لأنجو من تبعتها وأسلم من الرياء.
وهذا منهج خطير لأن الشيطان يأتيك عند كل عمل صالح فيوقع في نفسك الرياء, والحل هو أن تعلم أن هذا باب من أبواب المجاهدة فتحه الله عليك, أن تجاهد في أشرف ميدان في القلب, في مدافعة الخواطر والواردات المنافية لإخلاص النية، وقصد الله تبارك وتعالى في عملك, وإذا علم الله منك الصدق في هذا؛ فأبشر أن الله قد وعدك في كتابه بأن يمنحك ما تريد حين قال: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فأول خطوة هي المجاهدة.(126/9)
العقبة الاجتماعية
لا شك أن المجتمع له ضغط كبير على الإنسان، ولذلك في الحديث المتفق عليه {في قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم جاء إلى راهب فسأله: هل لي من توبة؟ وذكر له أنه قتل تسعاً وتسعين نفساً, فقال: وأنّى لك التوبة؟! وأمره أن يخرج من صومعته, فقام هذا الرجل مغضباً وأكمل به المائة! ثم ذهب يبحث، فَدُل على عالم، فسأله: هل لي من توبة؟! فقال له: من يحول بينك وبينها.
ثم أمره ألا يعود إلى بلده لأنها بلد سوء، وأمره أن يذهب إلى قرية كذا وكذا, فإن بها قوماً يعبدون الله عز وجل, فيعبد الله تعالى معهم حتى يأتيه الموت, فقبضت روحه في الطريق} كما هو معروف في القصة.
الشاهد: أن هذا العالم بين له أنه لو عاد إلى مجتمعه الأول ربما عاد إلى خطيئته مرة أخرى, لأن بلده بلد سوء, وأمره أن يغير البيئة، ينتقل إلى بيئة صالحة تعينه على الاستقامة, ولذلك أمر الله تبارك وتعالى بالهجرة.(126/10)
علاج ضغوط المجتمع
والعلاج لمثل ضغط المجتمع يكون بأمور: أولاً: العلاج الذي ذكرته سابقاً، وهو البحث عن البيئة الطيبة, والبحث عن القرناء الطيبين، لأن الإنسان إذا كان عليه ضغط من جهة؛ يحتاج إلى أن ينفس من جهة أخرى, فإذا ارتبط بقوم صالحين يشكو إليهم أحزانه, ويجد أنهم على شاكلته, يصلون كما يصلي, ويصومون كما يصوم, وأخلاقهم أخلاقه, واهتماماتهم هي اهتماماته؛ فيشعر بالأنس معهم، فيزول عنه بعض ما يعاني من الأسى والحزن.
فلا بد من البحث عن بيئة طيبة يحقق الإنسان فيها رغباته وطموحاته.
ثانياً: لا بد من الصبر.
والله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] فأمرنا بالصبر، ولذلك كان الصبر واجباً على الإنسان, لكنه سبحانه ثنى بقوله: {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] أي: أنك قد تصبر مرة، لكن إذا تكرر عليك الإيذاء والسخرية والاستهزاء وعبارات التوبيخ؛ ربما ينفد صبرك وتجزع, ولذلك قال: (وَصَابِرُوا) والمصابرة تعني: استمرار الصبر, كلما آذاك الآخرون صبرت, إذا صبروا هم على باطلهم فصابر أنت على حقك، ثم قال تعالى: {وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] .
وأشد ما تكون حاجة الإنسان إلى الصبر في هذا الوقت, هذا الوقت الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، الذي رواه الترمذي وغيره، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر} القابض على الجمر يحس بلسع النار في راحته.
ولذلك هو في كل لحظة يهم بإلقاء هذه الجمرة حتى يسلم من إحراقها, وكذلك القابض على دينه في أزمان الغربة في أيام الصبر؛ يحس بصعوبة الاستمساك بالدين، فتحدثه نفسه في كل لحظة بالتخلي عن هذا الأمر الذي يتعذب من أجله, ولكنه حين يمسك بهذا الجمر يجزى بأوفر الجزاء, له أجر خمسين كما في الحديث الصحيح: {قالوا: يا رسول الله! أمنا أم منهم؟ قال: بل منكم} أي: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه لا يكاد يجد المعين والناصر، أما هم كانوا يجدون أعواناً على الخير.
فلا بد من الصبر، ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم وفي كتب السنة الأحاديث المرغبة في الصبر, ألم تعلم أن من الأنبياء من بعث فلم يؤمن به أحد؟ ولذلك في الحديث الذي في الصحيحين، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عرض الأمم عليه، وأنه يأتي النبي ومعه الرجل, والنبي ومعه الرجلان, والنبي وليس معه أحد.
نبي بعث ما آمن به ولا نفر واحد من أمته, كم عانى هذا النبي؟ كم تعب؟! كم سُخر منه؟! كم استُهزئ به؟! كم بذل؟! ولكنه لم يُقْبَل منه, ومع ذلك صبر, فيأتي يوم القيامة وقد أقام الحجة على أمته.
ومع الصبر فلا بد أن يعرف المسلم أن هناك ملجأًَ، إذا أغلقت جميع الأبواب فإنه لا يغلق, وهو باب الله تبارك وتعالى, باب الله لا يغلق في وجه طارق, والله أكرم الأكرمين, وأجود الأجودين, يعطي بلا حساب, فما من عبد يرفع رأسه إلى الله عز وجل سائلاً بصدق وإخلاص وإلحاح إلا أجابه الله تعالى, لا شك في هذا {ولكنكم قوم تستعجلون} كما أخبر صلى الله عليه وسلم.(126/11)
صور من ضغوط المجتمع على الإنسان
وضغط المجتمع يتجلى في أشياء عديدة، ففي مثل مجتمعاتنا؛ لينظر الإنسان حين يجد المجتمع يتعامل فيما بين أفراده بمعاملة معينة في موضوع التحية والسلام، والعبارات التي يتبادلونها عند اللقاء, هل من السهل عليك أن تغير هذه الأشياء؟! ليس من السهل.
حين يتعامل أفراد هذا المجتمع فيما بينهم بمعاملة معينة فيما يتعلق بنوع اللباس, هل من السهل عليك أن تغير هذا اللباس؟! ليس من السهل.
من الصعب جداً على الإنسان؛ أن يأتي إلى مجتمع كمجتمعنا، فيلبس ثياباً لا يلبسها أهل هذه البلاد, ويعيش بها بينهم وهو فلان بن فلان المعروف, صحيح أنه لو لبسها إنسان أجنبي أو من بلد آخر هي لباسه في بلده؛ قد لا يستغرب.
حين يتعامل المجتمع في طريقة الشعور بأسلوب معين يصعب مخالفته, فلو كان هناك مجتمع -مثلاً- اعتاد أفراده على حلق شعورهم؛ تجد الإنسان الذي يريد أن يلتزم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، في إعفاء اللحية وإحفاء الشارب؛ يجد مشقة كبيرة في ذلك, وقد يضعف أمام هذه الضغوط.
حين تجد الفتاة -مثلاً- أنها تعيش داخل مجتمع السفور فيه على أشده، ولم تجرِ عادة الجدات والقريبات بلبس الغطاء على الوجه، على الأقل عن الأقارب وأبناء العم وأزواج الأخوات وما أشبه ذلك, فإن الفتاة تجد صعوبة في الالتزام بهذه الشعيرة الإسلامية الثابتة في القرآن والسنة, لأنها تخالف المجتمع.
وقل مثل ذلك في عادات المجتمع في أمور الزواج والعلاقات الاجتماعية وغيرها.
فالمجتمع له ضغط، والشاب والفتاة قد يقعون ضحايا لضغط هذا المجتمع -مثلاً- فالشاب يلاحظ أنه لكي يكون له قيمته في المجتمع يجب أن يسلك مسلكاً معيناً، فيتجه بهذه الوجهة ولو كانت مخالفة؛ لأنه يريد أن يحتفظ بعلاقات معينة, يريد أن يحظى بإعجاب من حوله, يريد أن يسلم من استهزائهم وسخريتهم وطعنهم وقيلهم وقالهم, فهو يحس بأنه لا بد أن يسير مع التيار, وحين يخالف المجتمع يشعر بأنه كما يقال: يسبح ضد التيار! وحين تنظر إلى شرائح من المجتمع تجد هذه الصورة أوضح, انظر -مثلاً- إلى البيت، إذا كان البيت منحرفاً وخرج شاب أو فتاة في داخل هذا البيت كالريحانة في وسط النتن, يريد أن يستقيم ويريد أن يصلح, ماذا يجد من البيت؟ مع الأسف الشديد -أحيانا- يجد هذا الشاب وتجد هذه الفتاة، حتى من الوالدين الذين هم أقرب الناس إليهم؛ يجدون منهم المعارضة، والسخرية المرة، والاستهزاء والتحطيم، ومحاولة ثنيهم عن هذا الطريق بكل وسيلة, وحينئذٍ يكون الخطب عسيراً, لأن الشاب أو الفتاة يشعر بالحسرة، ويصدق عليه حينئذٍ قول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند أشد من وقع السيوف الباترة.
فتاة -مثلاً- تلتزم بالحجاب فتسمع من أمها عبارات سخرية وتقريع, فإذا صلت وأطالت صلاتها بعض الشيء قالت لها أمها: يا ابنتي، نحن لسنا في شهر رمضان، وما يصلح أن يكون كل الوقت صلاة! إن فعلت هذا رغب عنك الخُطَّاب ولا يريدك أحد.
إن رأتها لا تخرج من البيت عتبت عليها ولامتها، وطلبت منها أن تتفسح، وأن تزيل العقد النفسية -كما يعبر بعضهن وبعضهم- ولا يزالون يضعون العقبات في هذا الطريق؛ حتى يعيا الشاب أو الفتاة السائر في طريق الهداية، وربما كان هذا سبباً في إصابته بكثير من النكسات والمشاكل النفسية.
بعض الشباب يواجهون مشقة إذا عاشوا مثل هذا الجو، خاصة الفتاة؛ لأن الشاب قد يجد ما ينفس به عن نفسه خارج البيت, لكن الفتاة تشعر بالضغط والكبت, فربما يولد هذا عندها أمراضاً كثيرة جداً، فبعض الفتيات إذا وصلت إلى هذا المستوى؛ أصبحت لا تجد طعم الأنس بالحياة, لا تشعر إلا بالحزن والكآبة وضيق الصدر, وتجد معظم وقتها يمضي في بكاء مر, حتى أن بعضهن تجدها وهي تصلي وتبكي منذ أن تُكَبّر إلى أن تسلّم؛ بسبب ضغوط البيئة، وكثرة السخرية والاستهزاء, خاصة إذا كانت ضعيفة النفس ولم تجد من يعينها على تحمل هذا الضغط.(126/12)
الهجرة من البيئة الفاسدة المنحرفة
الهجرة بمفهومها الشامل، فالسلف رضي الله عنهم كانوا يفهمون الهجرة بأنها تعني: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام, والانتقال من بلد المعصية إلى بلد الطاعة, والانتقال من بلد البدعة إلى بلد السنة, والانتقال من بلد الجهل إلى بلد العلم, كل هذا من الهجرة.
وكان الإمام مالك -رحمه الله- يقول: لا أقيم ببلد يسب فيه أبو بكر وعمر فالهجرة إنما شرعت لإخراج الإنسان من البيئة الفاسدة المنحرفة، وإخراجه من ضغط المجتمع، ووضعه في بيئة صالحة تعينه على الاستقامة.
وقد يلحظ كل إنسان أنه حين يعيش في مجتمعات كافرة -مثلاً- لو اضطرته ظروفه كظروف الدراسة، أو ظروف العلاج، أو ظروف المعيشة؛ أن يعيش مثلاً في أوروبا أو أمريكا أو غيرها, في وسط مجتمع كافر، يلاحظ أنه وإن كانوا يقولون: هذه مجتمعات الحرية, وليس هناك أحد يحمل سيفاً على رأسه ليضطره أن يمارس الكفر, لكن الواقع أن ضغط المجتمع يُسيِّر هذا الإنسان -في كثير من الأحيان- على خلاف ما يحب هو, وعلى خلاف ما يرغب.
وما يعلم أن الدين يأمره به, سواء في ذلك ضغط القانون الذي يُسيِّر هذا المجتمع، أو ضغط الناس المحيطين به، وما لهم من عادات وتقاليد موروثة اعتادوا على فعلها.
وحين يرى الإنسان من حوله ملايين من البشر، كلهم يمارسون أموراً اتفقوا عليها, فإنه يشعر داخلياً بضرورة موافقة هؤلاء الناس على ما هم عليه, إلا أن يستعصم بالإسلام.(126/13)
عقبة قرناء السوء
وقرناء السوء هم جزء من المجتمع، ولكنني أشرت إليهم إشارة خاصة؛ لعظم تأثيرهم على القرين, لأن الشاب وكذلك الفتاة في فترة المراهقة بالذات قد يشعر بنوع من الانفصال عن البيت.
ولذلك تجد الشاب يحرص -في بعض الأحيان- على ألاَّ يأتي أصدقاؤه إلى بيته؛ لئلا يروا بعض الأشياء التي هو غير مقتنع بها, قد يحرص على ألا يروا والده مثلاً؛ لأنه غير مقتنع ببعض صفات والده، يحرص على ألا يدخلوا المجلس؛ لأنه مقتنع أن صفة البيت وشكله لا يناسب أن يراه أصدقاؤه.
عنده نوع من الانفصال عن البيت، وبالمقابل عنده نوع من الارتماء في أحضان القرناء والأصدقاء، وهو ما يسميه علماء التربية بالانتماء، الشعور بالانتماء إلى هذه الفئة.
ولذلك يتلقى عنهم كثيراً من الأخلاق والآداب والقيم والمعارف والأساليب وغيرها, وكثير ممن كانوا ضحايا، كضحايا المخدرات، وضحايا السفر إلى الخارج، وضحايا العكوف على الأفلام الهابطة؛ إنما عرفوا هذه الأشياء وتعرفوا عليها بواسطة القرناء السيئين، الذين زينوا لهم الباطل ودعوهم إليه, وشجعوهم عليه بكل ما يملكون من وسيلة.
ولذلك فعلى الإنسان أن يعرف أين يضع قدمه، وأن يبحث عن القرناء الطيبين، وعلى الأب أن يراعي أين يكون ابنه؛ فإنه لا بد له من قرين.
لكن إما أن يكون صالحاً يعينه على الخير أو يكون فاسداً يعينه على الشر.(126/14)
الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية
وهي الوسائل التي تؤثر على الناس وشخصياتهم وتعطيهم الثقافة, ولذلك يسمونها وسائل تثقيف.(126/15)
أساليب الغرب في استخدام وسائل الإعلام
في البلاد الأجنبية والغربية يقولون: إنها بلاد ليس فيها ديكتاتورية-كما يعبرون- فيها حرية، فيها ديمقراطية، إلى غير ذلك من الشعارات التي يطنطنون بها, لكن يكتشف العلماء أن في تلك البلاد التي تتشدق بالحرية والديمقراطية, فيها ديكتاتورية من نوع آخر, صحيح أنهم لا يفرضون عليهم الأشياء بالقوة؛ لكنهم يقنعونهم بما يريدون من خلال وسائل الإعلام, فإذا أرادوا إقناع شعوبهم بشيء؛ ركزوا عليه من خلال الأفلام والتمثيليات والبرامج وغيرها؛ حتى يقنعوا شعوبهم بهذا الأمر, ومن ثم يقبل الناس طائعين مختارين على ما يراد لهم وليس بالقوة, وهذا نوع من الديكتاتورية أخطر من الحديد والنار وغيره.
وهذه الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية لها رواج، وهي تدخل إلى كل بيت، بل أقول تدخل إلى كل قلب وإلى كل عقل.(126/16)
الموقف من الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية
ينبغي أن نعرف ما هو الموقف من هذه الوسائل.
أولاً: لا بد من اختيار الجيد المفيد: الكتاب المفيد, المجلة المفيدة, المقالة المفيدة, البرنامج المفيد, وتجنب ما يضر بالدين والأخلاق وهو الأغلب.
فكم من مجلة صالحة هي تعد بالأصابع, قد تقول: هناك مجلة الدعوة، ومجلة المجتمع، وهناك مجلة البلاغ، ومجلة البيان، ومجلة التوحيد، عشر مجلات أو عشرين, لكن كم يوجد في السوق من مجلة منحرفة؟! أعتقد أنها تعد بالآلاف، من مجلات للفن والرياضة والسينما، والمرأة إلى غير ذلك وقل مثل ذلك في أي وسيلة أخرى من الوسائل المرئية، من الكتب، والأفلام, كم شريط فيديو يتداول بين الناس وهو طيب وصالح يعرض أشياء مفيدة؟! إنها أشرطة محدودة عن المجاهدين -كما سمعنا- أو أشرطة علمية معدودة, أو أشرطة في الدعوة إلى الله عز وجل, ثم تجد ركاماً هائلاً في محلات البيع هي أشرطة تبدأ بالحب وتنتهي بالحب, ولا تعرف في قاموسها إلا الحب!! فعلى الإنسان أن يختار الجيد ولو كان قليلاً.
ثانياً: على الدعاة إلى الله عز وجل؛ أن يحرصوا على الاستفادة من هذه الوسائل بالصورة الصحيحة, وفي بلادنا -ولله الحمد- فرص غير قليلة للاستفادة من هذه الأجهزة، سواء المجلات، أو الجرائد، أو الإذاعة، أو التلفزة، أو غيرها, وهي تفرض نفسها على المجتمع شئنا أم أبينا.
فليس من السليم في نظري -والله أعلم بالصواب- أن تكون خلواً من الدعاة إلى الله عز وجل وطلاب العلم، الذين يخاطبون الناس ويزاحمون المواد المنحرفة الفاسدة, والفرصة كما ذكرت مواتية وممكنة.
ثالثاً: لا بد من الحرب على كل وسيلة أو مادة فاسدة, والحرب تأخذ صوراً شتى: تحذير الناس منها وبالذات من المواد المنحرفة، كذلك مخاطبة المسئولين عنها, وقد قرأنا قبل فترة أن وزارة الإعلام منعت ثلاثاً وعشرين مجلة من الدخول إلى هذه البلاد, وهذه بادرة طيبة, هذه المجلات كانت تدخل، وكان الطيبون يتضايقون منها ثم منعت, وهذا دل على أنه من الممكن أن يكون هناك خطوات أخرى مماثلة؛ لو أن أهل الخير بذلوا جهودهم في هذا السبيل.
هل جربت -مثلاً- أن تخاطب المسئولين، أو تطلب من العلماء أن يخاطبوا إن لم يكن لك مقام في ذلك, في شأن مجلة نشرت مادة فاسدة, في شأن شريط مخل بالحياء والأخلاق -وما أكثرها؟! بشرط أن يكون هذا الخطاب مدعوما بالوثائق والمعلومات الدقيقة, وليس مجرد خطاب حماسي, هل جربت ذلك؟!! الذين جربوا هذا الأمر يؤكدون أن هذا الطريق لا يخلو من ثمرات, صحيح أنها ليست (100%) لكنه مثمر بكل حال.(126/17)