إيجاد البديل عن أجهزة التلفاز في البيوت
والاقتراح الخامس والأخير: كثير من البيوت تشتكي من وجود أجهزة إعلام فيها كالتلفاز، والصحف، والمجلات، وربما الفيديو في كثير من الأحيان، وكثير من البيوت أيضاً بدأت تصحو على هذا الخطر وتدرك مغبة وجود مثل هذه الأشياء في متناول الشباب والفتيات -خاصة المراهقين-.
وقد تفلح بعض البيوت في إخراج هذه الأجهزة والتخلص منها، وهذا أمر حسن طيب لا شك فيه، ولكن بيوتاً أخرى ما زالت تبحث عن حل، ونحن نقول: إن من طبيعة النفوس ألا تترك شيئاً إلا لشيء، فلا بد أن نسعى دائماً وأبداً إلى إيجاد البديل؛ على سبيل المثال حين يكون عندك في البيت أطفال صغار من البنين والبنات تعودوا أن يجلسوا أمام ما يسمى بأفلام كرتون، أو غيرها من الأفلام المخصصة، أو الرسوم المتحركة أو سواها، وبذلك ينشغلون عن أهلهم، فلا يؤذون الوالدة، ولا يسببون إزعاجاً، ولا يتلفون الأثاث، ولا يعملون صراخاً في البيت؛ لأنهم جالسون مسمرون أمام ذلك الجهاز يشاهدونه فلا يحدثون شيئاً، فأنت بجهودك الطيبة قمت وأخرجت هذا الجهاز من المنزل وقد أحسنت صنعاً.
لكن ما الذي حصل؟ حصل أن هؤلاء الصغار صاروا يعيشون فراغاً، ليس لديهم وقت مشغول، فبدءوا يضربون هذا، ويكسرون هذا، ويحرقون هناك، وهذا باب كسروه، وهذا إناء حطموه، وهذا زجاج نثروه، حتى إن أهل البيت يتضايقون منهم، فربما تقوم الأم ولو كانت أحياناً فيها خير، تنادي وتقول: هاتوا لهم أي شيء يشغلهم عني، فهم أشغلونا ولم يتركوا لنا وقت لنعمل في المنزل، وما نصلحه نحن في يوم يفسدونه هم في ساعة، هذه الأطعمة نثروها هنا، وهذا السجاد قد أصابوه بما أصابوه به من المياه وغيرها، وهذه الجدران قد كتبوا عليها، وهذه المياه قد نثروها، وهاهنا أشياء كثيرة.
وبالتالي ربما تضغط الأم، أو يضغط الأب على الأولاد من أجل إعادة جهاز التلفاز إلى البيت لإشغال الأطفال، هذا أقل عذر ممكن أن يقال، والسبب هو: أنك اعتبرت أن مهمتك تنتهي بإخراج الجهاز، ونسيت أن مهمتك في الواقع تبدأ بعد إخراج الجهاز.
لأنهم أصبحوا يعيشون فراغاً الآن، فماذا أنت صانع لهم؟! هل خرجت بهم معك في السيارة في نزهة ولو بسيطة، ليس شرطاً أن تخرج بهم إلى البر البعيد، ولو ذهبت لمدة ساعة على سيارتك تريهم أماكن في البلد؛ وهذا المكان الفلاني وهذه الجهة الفلانية وهذا كذا وهذه المؤسسة الفلانية وتجعلهم يطلعون على بعض المعالم العادية في البلد لكان هذا عملاً طيباً، لو ذهبت بهم خارج البلد لمسافة كيلو متر واحد أو اثنين كيلو متر ولعبت معهم لعباً خفيفاً سريعاً كان هذا أمراً طيباً تشغل به بعض وقتهم، لو جعلت لهم درساً في المنزل لكان هذا الدرس بديلاً مناسباًَ، تجمع فيه الشباب الصغار من البنين والبنات وتجعل في الدرس آية من القرآن، وحديثاً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وقصة، وأنشودة، ومسابقة فيها جوائز، ومنافسة فيما بينهم، وتدريب على بعض العبادات: كيف تتوضأ؟ كيف تصلي؟ وأشياء تناسب عقول الأطفال، وتربيهم تربية سليمة وتملأ عليهم الفراغ الذي وجد عندهم بعد ما أخرجت هذه الأجهزة المدمرة من البيوت، لكان هذا أيضاً من الحلول، وهناك حلول أخرى أيضاً مثل وجود الألعاب، فهناك ألعاب مباحة تناسب الأطفال وهي كثيرة جداً، وأنت الآن في عصر تغيرت أوضاع الناس فيه إلى حد كبير، وما كان في الأمس ليس ضرورياً أصبح اليوم ضرورياً بالنسبة للكثيرين.
فينبغي أن تتفطن لذلك، فإيجاد بعض الألعاب للصغار في المنزل يتسلون بها شريطة ألا تكون ضارة بهم ولا تحدث لهم أثاراً جسمية، أو ما أشبه ذلك هذا أمر طيب، وفيه تسلية لهم وإشعار بأن هذا جائزة لهم أو هدية، وإشعار بأنك مهتم بأمرهم بحيث يحبونك ويمدحونك.
ومع الأسف إن بعض الشباب الصغار إذا كان في البيت شاب متدين قد يقولون: نحن لا نحب فلاناً، وقد يحدث ذلك، لماذا لا تحب فلاناً؟ قال: لأنه أخرج من عندنا التلفاز ولم يأتنا بشيء.
لكن لو أنك كنت تقدم لهم بعض الأشياء، وربما إذا أتيت في بعض الأحيان اشتريت لهم بعضاً من الحلوى، أو الكاكاو، أو غيرها أو خرجت بهم يوماً من الأيام، واشتريت لهم بعض اللعب، لا بد أنهم سوف يحبونك ويطيعونك ويعتبرونك مثلاً أعلى ويقدرونك، وهذا أمر مطلوب وهو من أهم وسائل القبول.
ومن ضمن الأشياء التي قد تعين على حل هذا الأمر: استخدام بعض أجهزة الكمبيوتر التي فيها برامج مفيدة: بعضها برامج مسابقات أو برامج علمية أو تربوية أو تدريس، أو غيرها من الأشياء المباحة العادية فهذه البرامج مع أنها ليست باهظة الثمن إلا أنها من الممكن أن تكون بديلاً عن جهاز التلفاز، وتشغل الأطفال عنه ولو لبعض الوقت، خاصة إذا وجد في البيت من يتابع مثل هذا الأمر، ويشتري لهم الجديد، ويقوم بعملية تبادل مع الآخرين الذين قد يوجد عندهم برامج أخرى.
وأخيراً: فإن من الأشياء التي ينبغي أن يتفطن لها: إيجاد مكتبة صغيرة في البيت؛ مكتبة منزلية وهذه المكتبة تحتوي على مجموعة من الرسائل الصغيرة التي تخاطب المرأة المسلمة، أو تخاطب الطفل المسلم، مجموعة من القصص، وأحاديث مختارة، وأناشيد إسلامية، إضافة إلى مجموعة أخرى من الأشرطة الإسلامية- الأشرطة المتعلقة بالمرأة المسلمة، وأشرطة للأطفال، وأيضاً بعض الأناشيد الإسلامية التي ليس فيها محظور، وبعض المسابقات ولا مانع أن يكون فيها بعض الطرائف والأشياء التي تناسب عامة الناس.
وبالنسبة للكتب فقد اقترح عليَّ بعض الإخوة أن أقدم لكم مجموعة من أسماء الكتب ولكن في الواقع أن وقتي لم يسمح بكتابة هذه الكتب والأشرطة، فمبدئياً أرشح لكم فيما يتعلق بالكتب؛ الكتب والرسائل التي أصدرتها دار الوطن، فإن هذه الكتب والرسائل كلها كتب ورسائل مختارة صغيرة وهي منوعة فيها كتب خاصة بالمرأة والفتاوى، وفيها كتب للشباب، وكتب للمجتمع، وفيها ألوان من الفواكه العلمية التي يمكن الاستفادة منها.
أما بالنسبة للأشرطة فأيضاً يوجد لدى أصحاب محلات التسجيلات قوائم بالأشرطة المخصصة للمرأة، فمن الممكن للشاب أو للأب أو للولي أو للمرأة أن تطلبها وترسل أحداً لاستلامها ثم تختار منها ما يناسبها وتضعها في المنزل، وبعد فترة يتم تجديد هذه المكتبة بإضافة كتب وأشرطة جديدة مما جد في الساحة إليها مع العناية بها.
وأرجو أن تلقى هذه الاقتراحات -إن شاء الله- منكم قبولاً حسناً، وأن تحسنوا ضيافتها، وكما أحسنتم الاستماع إليها فإني أطمع منكم أيها الأحبة أن تحسنوا تطبيقها والعمل بها.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(86/6)
الأسئلة(86/7)
الدعاء للأخ بالهداية
السؤال
لي أخ متزوج يتساهل في الصلاة حتى في رمضان، ويتثاقل عن صلاة الفجر ونحن في هذا الشهر الكريم الذي يصلي فيه أصحاب التخلف، بل الأدهى والأمر أنه ينام عن كثير من الصلوات، ويؤخر صلاة العصر والمغرب في هذا اليوم، فأشكو إلى الله وأطلب أن تدعو لأخي بالهداية.
الجواب
أسأل الله تعالى أن يهدي أخاك إلى سواء السبيل، ويرزقه الإقبال على عبادته وتعظيم حرمات الله تعالى وشعائره التي من أهمها الصلاة مع الجماعة.
وعليك أن توصل إليه بعض الأشرطة والكتب التي تتكلم عن موضوع الصلاة وأهميتها وخطر التكاسل فيها.(86/8)
الأكل بعد أذان صلاة الفجر في رمضان
السؤال
أنا شاب أسأل عن صحة صيام هذا اليوم، حيث إنني لم أستيقظ للسحور إلا مع أذان الفجر الآخر، وبدأت آكل حتى انتهى مؤذننا من الأذان، وقد تساهلت حتى أكلت بعد انتهائه من الأذان، وما دعاني لهذا إلا أنني منذ بدايتي في الأكل وأنا أقول لنفسي أنني على استعداد لقضاء الصيام؟
الجواب
لا يجوز هذا، حتى لو كنت على استعداد، وعليك أن تقضي هذا اليوم.(86/9)
الزكاة عن الراتب إذا بلغ نصاباً
السؤال
أنا موظف في إحدى الدوائر منذ أربع سنوات، ولم أزكِ على ما أخذته من الراتب، رغم عدم وجودها لدي، ولم أقبضها لأحد فماذا أفعل؟
الجواب
عليك أن تزكي كل السنوات الماضية، إذا كان بلغ عندك النصاب.(86/10)
شغل الفراغ بذكر الله
السؤال
شاب يبلغ من العمر (25عاماً) ، يحدث أحياناً لي أوهام؛ ويخيل إليَّ أني أصاب بمرض ما، أو أخاف من الموت، مع أني ولله الحمد أؤدي ما علي من فرائض.
فبماذا تنصحني؟
الجواب
أنصحك: بكثرة ذكر الله، والتوكل عليه، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن تشغل نفسك بصالح الأعمال؛ لئلا يبقى عندك وقت فراغ يشغله الشيطان بهذه الوساوس التي تشغلك.
مع أن تذكر الموت إذا كان بحدود معتدلة فهو خير، ولكن إذا بلغ وزاد وصار مخاوفاً وأوهاماً فإنه يضر بالإنسان.(86/11)
حكم القراءة مع الإمام
السؤال
ما رأيك في بعض المصلين الذين يتابعون -مع الإمام وهو يقرأ- في مصحف، وبعضهم يقرأ مع الإمام بصوت رفيع؟
الجواب
هذا لا ينبغي، بل ينبغي له أن يسكت: ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)) [الأعراف:204] .(86/12)
حكم الذهاب للعمرة لأئمة المساجد
السؤال
بعض الأئمة يذهبون إلى العمرة، ويتركون الجماعة، ولا يترك من يصلي بدلاً عنه، فهل هو مأجور في ذلك، أو يجلس عند جماعته؟
الجواب
لو ذهب يوماً أو يومين فإنه لا حرج عليه، فيحصل على أجر عمرة وكذلك يهتم بجماعته.(86/13)
التنبيه على بعض المخالفات في المساجد
السؤال
يوجد من رواد هذا المسجد وغيره بعض المخالفات، فنرجو التوجيه، كالتدخين، وقصر ثياب المرأة، وطول ثوب الرجل، حتى أني رأيت امرأة ثوبها قصير مرتفع عن الكعب أربعة أصابع، كذلك تخفيف الغدفة؟
الجواب
أولاً: ننصحك ألا تنظر، امرأة ثوبها قصير، وهذه ثوبها طويل، وهذه غدفتها خفيفة، وهذه طويلة، نعم.
إن كانت النظرة الأولى فقد عفى الله عنك ولكن ليست لك الثانية.
ثانياً: ننصح الإخوة والأخوات بأن يراقبو الله تعالى، فهم الآن أصبحوا في موضع القدوة لرواد المساجد.
وينبغي على الرجال والنساء أن يلتزموا بأوامر الله تعالى في الأمور الظاهرة كأمور الثياب، والهدي الظاهر، وكذلك في الأمور الباطنة المتعلقة بأعمال القلوب.(86/14)
استغلال وقت فراغ العامل في القراءة
السؤال
هل يجوز للمسلم الموظف أن يقرأ القرآن، أو الكتب النافعة، أو ما عمت به البلوى من الجرائد والمجلات داخل مكتبه الرسمي في دائرة عمله، علماً بأنه قائم بعمله؟
الجواب
إذا وجد وقت فراغ لا يتعلق بالعمل، فلا داعي لأن يضيع وقته هكذا بمجرد الجلوس، بل ينبغي أن يستفيد من وقته بقراءة القرآن، أو التسبيح، أو الذكر، أو ما شابه ذلك، على ألا يخل هذا بعمله.(86/15)
تحية المسجد بعد الوتر
السؤال
إذا أدى المسلم صلاة العشاء والتراويح والوتر في المسجد مع الإمام، وبعد خروجه سمع في المسجد المجاور صوت محاضر وذهب ليستمع إليه، فهل يؤدي تحية المسجد؟
الجواب
نعم.
يؤدي تحية المسجد، ولو كان هذا بعد الوتر.(86/16)
الترديد بعد المؤذن في الحيعلتين
السؤال
إذا سمع المسلم المؤذن وهو داخل المسجد ينتظر الصلاة فهل يقول عند حي على الصلاة، أو حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله؟
الجواب
نعم.
يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.(86/17)
إخراج الزكاة مواداً غذائية للفقراء
السؤال
هل يجوز إخراج الزكاة مواداً غذائية، وإذا عرفت أنهم محتاجون إلى هذه الأغذية؟
الجواب
إذا وكلك الفقراء لتشتري لهم بالزكاة غذاءً فلا بأس بذلك.(86/18)
حكم العمل في الأجهزة الإعلامية
السؤال
يقول: ركزت في الدروس الماضية على وسائل الإعلام، ومنها الصحف المحلية وكونها تبث السموم، فهل تعتبر جريدة عكاظ منها، مع أنها تولي اهتماماً بالفكر الإسلامي، وقد خصصت ملحقاً أسبوعياً يُعنى بالأمة الإسلامية، وتحول إلى شبه يومي في رمضان المبارك؟ وسؤال آخر له صلة بما قبله: بماذا تنصحون الأخيار الذين يعملون في وسائل الأعلام؟ هل يتركونها لغير الأخيار؟ أم يجتهدون في نشر وإذاعة كل ما هو مفيد على قدر اجتهادهم؟ وهل يؤجر من يعمل في حقل التوعية الدينية في الصحف أم إنه يأثم بانتمائه لهذه الوسائل الفاسدة؟
الجواب
بينت أنه إذا كانت نيته صالحة وقصده حسن وله تأثير؛ فإن بقاءه خير من تركه، وهو -إن شاء الله تبارك وتعالى- مأجورٌ على عمله.
وكلامي ليس شاملاً في الصحف كلها؛ فالصحف فيها بعض الخير، وهناك صحف قد تكون تهتم ببعض الأمور أكثر من غيرها، وبعض الشر أهون من بعض.(86/19)
حكم استبدال الذهب بذهب
السؤال
ما حكم استبدال الذهب المستعمل بذهب آخر جديد على أن يقوم المشتري بدفع الفرق بين سعريهما بحيث يصبح الذهب القديم كجزء من سعر الآخر الجديد؟
الجواب
الذهب كما هو معروف من الأصناف الربوية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء} فيشترط في بيع الذهب بالذهب شرطان: الأول: التساوي؛ يعني في المقدار.
الثاني: التقابض؛ أن تأخذه بيد وتعطي باليد الأخرى.
وما عدا ذلك فهو ممنوع، ويكون داخلاً في الربا.(86/20)
حكم الصدقة عن الوالدين الميتين
السؤال
ما حكم ما يعمله بعض العوائل بجمع الأقارب للعشاء، ويسمونه عشاء الوالدين؟
الجواب
الصدقة على الميت لا بأس بها، لكن تكون الصدقة للفقراء والمحتاجين والمساكين.(86/21)
مدة الاعتكاف
السؤال
هل الاعتكاف مدة محدودة، وما هي أقل مدته؟
الجواب
ليس له مدة محدودة، لكن اعتكاف الإنسان ساعة، أو أقل في المسجد هذا لم يرد.(86/22)
حكم مرور أحد بين الصفوف
السؤال
ما رأيكم في الذين يمرون بين الصفوف والناس في الصلاة هل هم يقطعون الصلاة؟
الجواب
إذا كان الناس وراء الإمام فلا يقطع صلاتهم مرور أحد بين أيديهم.(86/23)
المقصود بانصراف الإمام
السؤال
ما المقصود بانصراف الإمام في قوله: (حتى ينصرف) ؟
الجواب
أي حتى ينتهي من صلاته.(86/24)
حكم صرف الزكاة لمشاريع الزواج
السؤال
لاحظت يا شيخ! أنكم ذكرتم اقتراحاً لجمع الصدقات لجهات، وقد نسيت جهة بحاجة ماسة إلى الصدقة ألا وهي لجنة مساعدة ترغيب الزواج، فأرجو الجمع لها وحث الإخوة على مساعدتها؟
الجواب
هي أيضاً أحد مصارف الزكاة والمال، فينبغي صرف بعض المال إليها.(86/25)
حكم الزكاة في الأمانات
السؤال
عندي لأخي في حسابي في البنك مبلغ وقدره (19000) ريال، وقد زكيت عليه العام، فهل أزكي عليه هذه السنة؟ حيث أن أخي لا يوجد عنده غير هذا المبلغ، وهو لا يعمل الآن، وهو ممن تدفع لهم الزكاة، فنرجو الإفادة؟
الجواب
هذا المبلغ لأخيك حسب ما يظهر أنه أمانة عندك فالزكاة فيه واجبة.(86/26)
حكم الأكل وقت أذان فجر رمضان
السؤال
قامت والدتي مع الأذان، وأكلت قليلاً من التمر وشربت قليلاً من الماء، فما حكم صيامها؟
الجواب
إن كان أكلها هذا بعد طلوع الفجر فعليها أن تعيد ذلك اليوم.
وأما إن كان قبل طلوع الفجر فصومها صحيح.(86/27)
حكم تزويج الأب لأحد أبنائه دون غيره
السؤال
هل يجوز أن يزوجني أبي على نفقته خاصة مع أنه لم يزوج إخوتي الأكبر مني؟
الجواب
إذا كان إخوتك قد استغنوا، أو وافقوا على ذلك، فلا بأس أن يزوجك والدك.(86/28)
تزويج الصالح ولو كان غير غني
السؤال
جاءنا خطيب يريد الزواج بأختي وعندما أبديت رأيي، قال أبي: اسكت هذا راتبه قليل لا يتعدى (3000) ريال، مع أنه شاب ملتزم، فما هو العمل؟
الجواب
يا أخي! (3000) ريال خير كثير من يحصل عليه اليوم؟ أنا جاءني واحد يقول: أريد أن أتوظف ولو بـ (600) ريال، المهم أنفق على نفسي وأمي التي ليس لها بعد الله غيري.
فمبلغ (3000) ريال خير كثير، والله عز وجل يقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ولذلك من أراد الغنى فعليه بالتزويج، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} .(86/29)
حكم مساعدة الوالد لولده في الزواج
السؤال
أبلغ من العمر 27 سنة وأريد أن أتزوج، لكن أبي يقول لي: إذا أردت أن تتزوج فاجمع المال، وأنا لن أدفع ريال واحداً، فهل الواجب في الشرع أن أبي هو المسئول عن زواجي؟
الجواب
إذا كنت لا تستطيع أن توفر المهر؛ فعلى والدك أن يساعدك في تزويجك، وهذا جزء من قيامه عليك، ومن النفقة الواجبة عليه.
أما إذا كان والدك غير مستطيع، أو كنت أنت مستطيعاً، فلا شك أنك أولى حينئذٍ بأن تزوج نفسك.
فإن عجزت أنت، وعجز والدك، فالحمد لله أعمال الخير موجودة واللجنة لمساعدة المتزوجين هنا قائمة، وفي رئاستها الشيخ عبد الرحمن العجلان رئيس المحاكم -حفظه الله- ومجموعة من العلماء والمشايخ: الشيخ صالح الهنيان وغيرهم، بإمكانك أن تأتي بتزكيات من بعض طلبة العلم أو من حولك لأخذ المساعدة.(86/30)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
هل يشرع رفع اليدين في الدعاء بعد صلاة النافلة، ومسح الوجه بها؟
الجواب
لا.
فرفع اليدين وخاصة المحافظة على ذلك بعد النافلة أو بعد الفريضة ليس بمشروع، وإن فعله بعد النافلة أحياناً فينبغي أن لا يحافظ عليه.
أما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، فهذا اختلفوا فيه: من أهل العلم من صحح الحديث: كـ الترمذي وابن حجر رحمهما الله ومنهم من ضعف الحديث كـ ابن تيمية وهو أقوى، لأن الحديث ليس بقوي، وبناء عليه نقول: الأولى ألا يمسح الإنسان وجهه بيديه بعد الدعاء، لكن لو فعل لا ننكر عليه ولا نقول: هذا بدعة.
ما دام جاء فيه حديث صححه بعض أهل العلم فلا ننكر عليه.(86/31)
حكم غسل الجمعة
السؤال
هل غسل الجمعة واجب؟
الجواب
غسل الجمعة ليس بواجب، وإنما هو سنة، وفي الحديث عن سمرة {من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل} .(86/32)
حول صحة حديث: تباركوا بالنواصي والبقاع
السؤال
يشتهر على ألسنة الناس: {تباركوا بالنواصي والبقاع} هل هذا الحديث له أصل؟
الجواب
لا.
ليس له أصل.(86/33)
حكم الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأوسط
السؤال
هل تشرع الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأول، يعني: اللهم صلِّ على محمد؟
الجواب
نعم.
تشرع أحياناً، وقد ثبت هذا عن بعض الصحابة كـ أبي بكر وغيره، أنه كان يفعلها أحياناً.(86/34)
صفة السلام على النبي في التشهد
السؤال
هل صفة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بالتشهد تكون بلفظ المخاطب: السلام عليك أيها النبي، أم بلفظ الغائب: السلام على النبي؟
الجواب
كل ذلك حسنٌ، إن قال: السلام عليك أيها النبي، فهذا المشهور من حديث عائشة وابن عباس وعمر وابن عمرو وأبي موسى الأشعري وابن مسعود أيضاً.
وإن قال: السلام على النبي؛ فلا حرج أيضاً فهذا قد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه.(86/35)
التخلص من أسهم الشركات والبنوك
السؤال
لدي أسهم في شركة صافولا، وقد اكتتبت في البنك الأهلي، وقد شرح الله صدري في هذا الشهر المبارك، وأريد أن أتخلص منها فهل أبيعها، أو آخذ رأس مالي؟
الجواب
الحمد لله، ونسأل الله عز وجل أن يثبتك بقوله الثابت، ويبارك لك في رزقك، وأهلك ومالك وولدك، أما ما يتعلق بالأسهم الموجودة لديك فلا أرى أمامك حلاً إلا بيعها؛ لأن هذا هو الحل الوحيد.
لكن إذا بعتها فما يتعلق بأسهم البنك فعليك أن تتخلص من جميع الأرباح مطلقاً وجوباً.
أما شركة صافولا فإن تخلصت من الربح كله فحسن، أو تتخلص من نصفه، أو نحو ذلك.(86/36)
حكم قراءة الفاتحة للمأموم
السؤال
يقول هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟
الجواب
الذي أراه في الصلاة الجهرية، أنه لا يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، فإن سكت الإمام قرأ، أما إن كان الإمام لا يسكت بعد الفاتحة بل يشرع في السورة فعليه أن يسكت هو، امتثالاً لأمر الله جل وعلا: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] والحديث في مسلم: {وإذا قرأ فأنصتوا} وقال عنه الإمام مسلم: إنه حديث صحيح.(86/37)
حكم ترك الوتر مع الإمام في التراويح
السؤال
ما حكم من يقوم بعد سلام الإمام من الوتر فيأتي بركعة ويوتر في آخر الليل؟
الجواب
الأولى أن ينصرف مع الإمام، وفي السنن من حديث أبي ذر: {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} فهذا فيه خير كثير، وبإمكانه بعد ذلك أن يقرأ ما تيسر له من القرآن، ولو قام في آخر الليل من دون ترتيب فصلى ما تيسر له فلا حرج عليه أيضاً.(86/38)
العمل للدين مسئولية الجميع
السؤال
من يعمل لهذا الدين؟ هذه الكلمة طالما ذكرتها لإخوانٍ لي في الله تقاعسوا عن العمل في الدعوة إلى الله، ولكنهم جلسوا لطلب العلم فقط بحجة كثرة الفتن وانتشارها، ما رأيك في هذا العمل؟ وهل كثرة الفتن مسوغ لترك الدعوة؟
الجواب
كثرة الفتن مسوغ لكثرة الدعوة إلى الله لمقاومة هذه الفتن، وطلب العلم جزء من الدعوة إلى الله تعالى؛ لأننا نريد داعية إلى الله تعالى يكون قد تزود بالعلم النافع فيدعو إلى الله تعالى على علم وبصيرة.
والأمة كما تحتاج إلى الدعوة والعلماء تحتاج كذلك إلى طلبة العلم، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام ينبغي أن يحفظها لا يؤتى من قبلها.
والداعية ينبغي أن يكون لديه من العلم ما يحفظه من الخطأ.
وطالب العلم ينبغي أن يكون لديه من الدعوة ما يجعل علمه حجة له، ويجعل خيره يتعدى إلى غيره.(86/39)
حكم العقيقة عمن مات
السؤال
امرأة تسأل عن أولادها، توفوا وهم صغار، هل يلزمها أن تتمم لهم؟
الجواب
التميمية أو العقيقة سنة، عن المولود الذكر شاتان، وعن الجارية -البنت- شاة واحدة، إذا ولد وهو حي.(86/40)
حكم أرباح بيع الأسهم
السؤال
لعلك لم تفهم سؤالي بالأمس.
وهأنذا أجدده ثانياً، فأقول: إني اشتريت أسهماً من شركات عدة -المواشي والنقل البحري- وبعد مدة بعت هذه الأسهم بربح، فما حكم ربح البيع؟ وليس ربح الأسهم؟
الجواب
أفيدك يا أخي أنني قد فهمت سؤالك بالأمس وهو سؤالك اليوم، وجوابي لك بالأمس هو جوابي لك اليوم، أن هذا الربح الذي أخذته سواء كان من ربح بيع الأسهم، أم من ربح الأسهم نفسها، أنك تنصح بالتخلص من نصفه في أعمال الخير.(86/41)
تأجير البيت للفساق
السؤال
يوجد كثير من الناس يؤجرون بيوتهم لأشخاص لا يصلون في المساجد، وبعضهم يؤجر مؤسسات فيها مجموعة كبيرة لا يصلون مع أنه يدعي أنه من أهل الدين؟
الجواب
إذا كان الإنسان لديه بيت، فينبغي ألا يؤجره إلا على من يعلم أنه من أهل الخير والصلاح، أما أن يؤجر بيته لمن يستعين به على معصية فهذا لا ينبغي.(86/42)
حكم الحلف بالله
السؤال
هذا يسأل عن الحلف بكلمات الله؟
الجواب
بالنسبة للحلف بكلمات الله -والمقصود بها الكلمات الشرعية- فهو جائز، لأن كلام الله تعالى هو أحد صفاته، والحلف بالله تعالى، أو أسمائه، أو صفاته جائز.(86/43)
حكم قص الشعر للمرأة
السؤال
أرجو بيان المسألة في تحريم أو جواز قص الشعر للمرأة، وما هي أوجه الحلال والحرام في هذا؟
الجواب
إن كان القص على صورة تسريحة معروفة أنها من خصائص نساء الكفار التي يعرفن بها، فإذا رأيت امرأة تقص هذه القصة تظن أنها يهودية أو نصرانية فهو لا يجوز.
وإن كان القص أيضاً على سبيل التشبه بالرجل بحيث تبالغ في قصه، وإنهاكه حتى كأنها رجل، فهذا أيضاً لا يجوز، لأن التشبه بالرجال وبالكفار ممنوع.
أما إن لم تكن على هذا السبيل ولا ذاك، فهذا -إن شاء الله تعالى- جائز، خاصة إن كان للتجمل للزوج وفي صحيح مسلم من حديث عائشة {أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة} .(86/44)
حكم ترك الوالدين بإذنهما لعمل الخير
السؤال
إحدى الأخوات تقول: لي زميلةٌ أحثها على دخول المركز الصيفي لتحفيظ القرآن، لكنها ترفض معللة ذلك أنها لن تدخل حتى لا تترك والدتها بالمنزل وهي تخجل من تركها، وخصوصاً في العطلة، علماً أن والدتها راضية بدخولها وأنا أعلم بصدقها في ذلك إن شاء الله؟ فهل أصر على الإلحاح عليها بالدخول أم إنني أصبح مانعاً لها من البر بوالدتها؟
الجواب
لا شك أن تركها لوالدتها ما دامت ليست بحاجتها، وما دامت ذاهبة إلى حفظ القرآن ودراسته لا يعتبر من العقوق في شيء، فلا بأس أن تلحي عليها وتبيني لها أنها على خير إن شاء الله حتى ذهابها فيه بر لوالدتها؛ لأن الإنسان إذا حفظ القرآن نال والداه بذلك أجراً إن كانا ممن أعاناه عليه.(86/45)
الحيل النفسية
كثيرة هي حيل الشيطان التي يقذفها في نفوس الناس ليصرفهم عن الأعمال الصالحة المقربة من الله عز وجل، وهذه الحيل هي طريقة العاجز والكسول، فمن التواضع الكاذب واحتقار النفس الزائد عن اللزوم، مروراً بالخوف بأنواعه الكثيرة والعديدة، وتعريجا على حيلة طلب الكمال وعدم السعي له، وحيلة القناعة الزائدة بما هو حاصل، إضافة لحيلة إلقاء المسئولية على الغير، وانتهاء بحيل أخرى، يتلاعب الشيطان بالإنسان أيما تلاعب.(87/1)
بيان منهج المحاضرة
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فشكراً للمركز الصيفي بجامعة أم القرى بالطائف على تنظيمه لهذه المحاضرة وحرصه عليها -وجزى الله تعالى- القائمين على هذا المركز خير الجزاء، على جهدهم ومشاركتهم وتبنيهم لهذه المحاضرة في مركزهم.
وهذه ليلة الجمعة التاسع من شهر صفر، من عام (1413هـ) والعنوان كما علمتم: "الحيل النفسية" وأود أن أقول للإخوة في البداية إن هذا الموضوع: استكمال لموضوع كنت قد بدأته من قبل، وخرج بعنوان: (الأمة الغائبة) .
ولعل هذا الموضوع هو تشخيص لبعض أسباب غياب الأمة، وهو أيضاً مثل سابقه، فهو عبارة عن مطالبة بالمشاركة، أي لون من ألوان المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل، إذ نحن لا نشترط حين نطالبك أنت بشخصك وعينك، أيها القاعد بين أيدينا! لا نشترط لمشاركتك في العلم والدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف شكلاً معيناً، ولا مقداراً معيناً، ولا حجماً معيناً، لكن نطلب منك مطلق المشاركة بقدر ما تستطيع، لأننا نعلم: أولاً: أنك تقدر فإن الله تعالى خلقك إنساناً، وكلمة إنسان بذاتها قبل الدخول في أي لفظ شرعي يقول أهل اللغة: هي مشتقة من النوس، ناس ينوس إذا تحرك، إذن أنت متحرك بطبيعتك، وفعال بطبيعتك، فأنت تستطيع أن تصنع الكثير، فنحن نطالبك أولاً بهذا.
ثانياً: لا نشترط قدراً معيناً، لأننا نعلم أن الناس ليسوا نسخة واحدة طبق الأصل بعضهم من بعض، كلا! فالذي في كبينة القيادة هو شخص واحد، أو اثنان، والبقية هم أفراد.
لقد حرصت أيها الإخوة في هذه المحاضرة على الوضوح والمباشرة وعدم التعقيد العلمي، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليسوا هم النخبة أو علية القوم من المثقفين والخاصة والدعاة، كلا! بل نريد أن نخاطب بهذه الكلمات كل إنسان مسلم، بغض النظر عن مستواه العلمي والثقافي، وعن عمره وعن أي شيء آخر، ولذلك فلا غرابة أن أحرص على توضيح العبارات وبسطها والبعد عن أي لون من ألوان الترتيب العلمي، الذي قد يصعب ويشق على الناس فهمه.
ومن قبل كان ابن قتيبة رحمه الله يقول في بعض كتبه: " ينبغي أن يكون الخطيب متخير اللفظ، قليل اللحظ، لا يحرص على تدقيق العبارة ولا على تخصيص المعاني " أي: أنه يذكر معان مجملة عامة يسهل على كل إنسان فهمها، وليس فيها من الغموض والدقة أي مقدار، ومن بعده كان الإمام الشاطبي يقول: " إن السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم لا يهتم بالألفاظ، بل يلقي الكلام على عواهنه وكيفما اتفق، متى ما علم أن هذا الكلام يؤدي المعنى المقصود، ويصل إلى ذهن السامع ويبلغ المعنى الشرعي ".
إذاً: لندرك أننا في هذه الجلسة لا يعنينا تزويق الألفاظ ولا تصفيف العبارات، ولا الترتيب العلمي والموضوعي، بقدر ما أمامنا من الحيل النفسية التي نتستر بها أحياناً، وينبغي أن نكتشفها ونفضح أنفسنا أمامها، ونضع أنفسنا أمام الحقيقة وجهاً لوجه، ولا نبقي عذراً لمعتذر ينبغي أن يقوم بعمل في سبيل الله عز وجل.
إذاً: فلا تنتظر مني استكمالاً للموضوع ولاتطويلاً فيه، ولا تنظيراً؛ بل ولا حسن ترتيب، وحسبي أن تفهم الكلام الذي أقوله، وتوقن بأنه حق وأنه ينبغي أن نعالجه.
وبادئ ذي بدء نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن العجز واستعاذ منه، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وهو حديث طويل: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز} فهذا نهي: (ولا تعجز) ، فاحتفظ بكلمة العجز، حتى نفكر بعد قليل ما هو العجز.
ثم تنتقل فتجد أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عن جماعة من الصحابة مثل أنس بن مالك أو غيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من العجز: {أعوذ بك من العجز} والحديث جاء عن أنس وزيد بن أرقم وهو في الصحيح وغيره، وتجد في القرآن الكريم كلمة العجز موجودة في مواضع منها: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31] فهنا يبرز أمامك العجز.
فالعجز إذن مرض سببه الغفلة، وعدم الاهتداء، حتى إن هذا الإنسان لم يكن عاجزاً عن أن يحفر الأرض ليدفن أخاه الذي قتله، ولكنه غفل عن هذا المعنى ولم يتفطن له حتى رأى الغراب يبحث في الأرض، فاستيقظ وتنبه، ولام نفسه أن يكون الغراب معلماً له، ويسبقه إلى هذه القضية، فيحفر في الأرض فقال: {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31] .
ولذلك قد نكتشف أن العجز هو صفة ملازمة للمعتدين أحياناً، لأن هذا الإنسان كان معتدياً، فالاعتداء غلّف قلبه، وغطى على فطرته حتى لم يتفطن إلى مسألة أن يحفر الأرض ليدفن أخاه.
فالزيادة، أو النقص، أو التفريط كل هذه الأشياء تكون سبباً في ابتلاء الإنسان بالعجز والقعود عن العمل، ولذلك وصف الله المنافقين الذين تخلفوا أنه أراد سبحانه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، وكذلك بعض المؤمنين الذين هربوا وتولوا من المعركة، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] .
فالإنسان يتعلم حتى من الحيوان، وأنت تعرف قصة الإنسان الذي أراد أن يتعلم النحو، حتى تروى هذه القصة عن سيبويه أو غيره، ففشل مرة أو مرتين وثلاثاً، فبعد ذلك رأى نملة تصعد وكلما صعدت تسقط ثم تكرر المحاولة، فتلقن من ذلك درساً أنه يجب أن يحاول ويكرر المحاولة فيستفيد حتى من الحيوان، أو الطير، أو غيره.
وهذا العجز الوارد في الشرع هو ما يمكن أن نعبر عنه -أحياناً- بالعوائق النفسية أو الحيل النفسية، وهو داء في القلب أو في النفس، لكن قد لا يصل إلى حد الضرورة كما قد يفهم البعض أن صاحبه مريض مرضاً نفسياً، أو مجنون لا، لكن عنده نوع من الخلل، وأنت تلاحظ الفرق بين إنسان سوي النفس، سليم القلب، ملتزم بالكتاب والسنة، كثير الإقبال عليهما، شديد التوكل على الله، فتجد أن موازينه وحساباته مضبوطة، وآخر: أعماله النفسية كلها غير طبيعية، بل هي مصابة بالخلل بسبب نوع من عدم الاعتدال عنده، فتجد مثلاً قضية الإدراك غير منضبطة، لا يدرك الأمور إدراكاً صحيحاً ولا يتصورها تصوراً صحيحاً، ولا يتذكرها، ولا يتخيلها بشكل صحيح، فهو يدركها على غير صورتها؛ ولذلك يخطئ الحسابات -كما سيأتي أمثله لذلك بعد قليل- وبالتالي تجد أن هذا الإنسان لا يعمل.
وأحياناً تجد إنساناً قاعدة لا يعمل، ولو قلت له لماذا لقال: عسى الله أن يهديني! فأنا قادر ومستطيع، فلا يخدع نفسه أو يضحك عليها، لكن آخر تجد أنك إذا حادثته لماذا لا تقدم شيئاً؟ بدأ يفلسف هذا العجز، ويظهره بصورة العقل أحياناً، أو بصورة الفهم، أو الحكمة، أو حتى بصورة الشرع، كما سوف يبدو لك، فما هي هذه الأعذار التي نتستر وراءها -أحياناً- حتى نترك العمل؟ وقبل أن أذكرها أود أن أقول لك شيئاً؛ حتى تدرك هل أنت تعيش نوعاً من الحيل النفسية أو لا؟ تصور -وأنت قاعد بين يدي الآن- هل تشعر أن الكلام هذا موجه لك مباشرة أو تشعر أنه يعني أناساً آخرين غيرك؟ فإن كنت تتصور أن الكلام موجه لك أنت بالذات دون غيرك، فهذا دليل على نوع من الوضوح والصراحة مع نفسك، لكن إن كنت تشعر أن المخاطبين أناس موجودون في كوكب آخر، فيجب أن تتنبه إلى أن هذه هي بداية الحيل النفسية، أنك تجعل الكلام يزل عن يمينك وشمالك ولا يصيبك.(87/2)
حيلة التواضع الكاذب
وأول هذه الحيل هو: التواضع الوهمي الكاذب، فيرى الإنسان أنه ليس أهلاً لشيء، لا لعمل، ولا لوظيفة، ولا لشهادة، ولا لإمامة، ولا لخطابة، ولا لدعوة، ولا لتصدر، لا لإدارة ولا لشيء، يقول: أنا أعرف نفسي، لا تظن أني متواضع، لا، هذه الحقيقة ولو تعرف ما في نفسي من العيوب لعذرتني، وأدركت أنني لا أقول إلا الحقيقة، فدعني وما أنا فيه، وعبثاً تحاول إخراج بعض هؤلاء الناس من تواضعهم الوهمي الذي أصبح يحول بينهم وبين أي عمل.(87/3)
مثال معاصر
أضرب لكم مثالاً يسيراً، وإنما اخترته لكثرة تكرره، فقد رأيت الكثيرين من الشباب وهم أئمة مساجد، وأساتذة مدرسين في حلقات، ومشرفين على نشاطات خيرية، تجد الواحد منهم يتبرم من عمله، ويتضايق، ويهم بالترك حتى كأنه عصفور في قفص، وقد التقيت بالكثيرين منهم، فأسأله لماذا، يقول: عندي عيوب، عندي أخطاء، أنا لا أستحق هذا العمل! وبعد ما أحدثه واكتشف ما في نفسه، أكتشف -مثلاً- أن هذا الإنسان مبتلى بما يسمى بالعادة السرية، صحيح هذا خطأ، وينبغي أن تبذل جهدك في الخلاص منه، ولو لم يكن من سيئاته إلا ما أوجده في قلبك من الضيق والتبرم والحسرة والشقاء والخجل لكفى.
ولكن هذا الذنب -حتى مع القول بتحريمه، وهو قول كثير من أهل العلم وإن لم يقولوا: بأنه من كبائر الذنوب، بل هو من صغائرها- هل يوجب ترك الإمامة والدعوة وترك الخطابة، والتعليم والتوجيه؟! بل ربما يغفر لك بسبب إنسان علمته، أو دعوته أو وجهته، أو ركعة ركعتها، أو صلاة صليتها بالمسلمين، وهذا ضرره قاصر على نفسك لا يتعدى إلى غيرك.
فأعمال الخير التي تقوم بها أنت نفعها متعدٍ إلى الأمة كلها، فلا يخدعنك الشيطان، ويجرك من الأعمال الصالحة بهذه الحجة الواهية، ثم بعد ذلك لا أنت تركت المعصية أو الذنب الذي أنت واقع فيه، ولا أنت قمت بهذه الأعمال الصالحة التي تقاوم الإثم والسيئة.
والله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها} .
إذن لا بد من النزول إلى الميدان، ولا بد من المشاركة في الأعمال، ولا بد من التوكل على الله عز وجل، ولا بد من العلم الصحيح الذي يضيء للإنسان الطريق الصحيح، ويبين له ما يأخذ وما يدع، ولا بد من أن يهتم الإنسان بأمر نفسه ودعوته، فيهتم بموضوع القدوة، ويهتم -أيضاً- بموضوع الدعوة، فإذا أراد أن يقوم بالأعمال الصالحة، فإنه يحرص على إتقانها وأدائها.(87/4)
الرغبة في العمل الديني مطلب شرعي
عثمان بن أبي العاص كما في الصحيح يقول: {يا رسول الله اجعلني إمام قومي!! قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} فـ عثمان بن أبي العاص لم يمنعه تواضعه وهضم نفسه من أن يطلب عملا دينياً، والإمامة ليست عملاً دنيوياً وإلا والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه} لكنه ديني، ولهذا وصف الله تعالى المتقين كلهم بأنهم عباد الرحمن وبأنهم يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .
فلم يطلبوا أن يكونوا من المتقين فقط، بل طلبوا أن يكونوا أئمة للمتقين، فليسوا أئمة للمؤمنين أو للمسلمين فقط؛ بل للمتقين.
ولا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده: واجعلنا للمتقين إماماً، ثم يطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة، أو إصلاح، أو قيادة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول: لا أستطيع! لا أستطيع! لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت: واجعلنا للمتقين إماماً فينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] ولما قال ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال: أعني بكثرة السجود} فإذا دعوت بشيء فعزز دعاءك بفعل الأسباب.
وكما قال عمر رضي الله عنه: [[اخلط مع دعاء العجوز شيئاً من القطران]] كانوا يقولون: إذا أصاب إبل الصدقة الجرب، يقولون نذهب إلى عجوز هناك لتدعو فيشفيها الله تعالى، فقال عمر: لا، بأس! هذا جيد، اذهبوا إلى العجوز تدعو، وهاتوا القطران -وهو نوع من العلاج- فاطلوا به هذا الجرب فيزول بإذن الله تعالى، فالسبب لا بد من فعله، والدعاء سبب، وفعل العمل الصالح من السجود أو السعي إلى الإمامة في الدين بالصبر والتقوى واليقين هو أيضاً مطلوب.(87/5)
الاعتذار بالمعصية
وأحياناً تجد أن المعصية أو النقص أو التقصير تتسبب للإنسان في ترك العمل الصالح، وكأنه يظن أنه لا يعمل للخير إلا الكاملون أما الناقصون فلا يعملون، مع أنك لو نظرت إلى النص الشرعي لوجدت غير هذا، يا فلان لماذا لا تدعوإلى الله؟ قال: الله المستعان! روائح ذنوبي فاحت، وأنا أستحي أن أقف أمام الناس، وأستحي من الله تعالى، وأخجل أن أعظ الناس، وأنا أحتاج إلى من يعظني.
يا أخي! عندك الآن مال فهل تزكيه؟ فيقول: نعم أزكيه؛ لأنه بلغ النصاب، فنقول: المال إذا بلغ النصاب وجب عليك تزكيته، ألم تعلم أن العلم عليه زكاة أيضاً؟ مع أن العلم ليس له نصاب.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بين النصاب في الأموال الزكوية ولكن بالنسبة للعلم فإنه قال: {بلغوا عني ولو آية} كما في الصحيح، آية واحدة فقط، أو حديثاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه} فنصاب العلم آية واحدة أو حديث واحد! وهل من المسلمين كلهم من لا يحفظ آية أو حديثاً، فينبغي أن تتفطن أن كل قدر من العلم ولو قل عندك، عليه زكاة وأن تقصيرك أنت بفعل المعصية ليس موجباً بل ولا مبيحاً لترك النهي عنها وتقصيرك بترك الطاعة ليس موجباً بل ولا مبيحاً بترك الأمر بها، بمعنى يجب أن تأمر بالمعروف ولو كنت تاركاً له، ويجب أن تنهى عن المنكر ولو كنت واقعاً فيه: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد ولا شك في هذا؛ بل يكاد أن يكون إجماعاً لأهل العلم، إذ كونك تركت المعروف بنفسك هذا خطأ فلا تعالجه بخطأ آخر وهو أنك -أيضاً- لا تأمر به، وكونك فعلت المنكر فهذا خطأ، لكن تعالج هذا الخطأ بخطأ آخر وهو أنك لا تنهى عن المنكر.
أضرب لك مثالاً: أنت -وحاشاك- مبتلى بشرب الدخان؛ لأنك نشأت في بيئة لم تعودك على ترك هذا، فأخذته بالتقليد والعادة، وأصبح صعباً عليك بسبب الإدمان تركه، فتزوجت ورزقت بأولاد، فوجدت ابن عشر سنوات من أبنائك يدخن، فهل تقول حينئذٍ: لا أنهاه لأني مدخن؟ قطعاً لا، بل ستقول: سأمنعه، وستتخذ من كونك مدخناً حجة لك، وستقول: يا ولدي أنا جربت قبلك، وابتليت بهذا الداء الذي أتمنى أن أخرج من مالي وأتركه، ولكن عجزت، فأنت الآن ما دمت في بداية الطريق، ابتعد عن هذا الشيء.
فتستفيد من الخطأ الذي وقعت فيه في نهي الناس، مع أنك مطالب بترك المعصية، ومطالب بفعل الطاعة، لكن ليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعلاً له، ولا من شروط النهي عن المنكر أن تكون تاركاً له.
أما قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] فهذا نعم، ولا شك أنه يوبخ؛ لأن الآمر للناس عالم وكان المفروض أن يكون أول الممتثلين، كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] ولكن كونك قصرت في هذا لا يبيح لك أن تقصر في الثاني.
ومثل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أسامة في صحيح البخاري: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} .
فنقول: هل هذا دخل النار؛ لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ كلا! الأمر بالمعروف والنهي عن المكر بالنية الصالحة عمل صالح يدخل الجنة ويباعد عن النار، وإنما دخل النار؛ لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف؛ أو لأنه كان يأمر وينهى على سبيل النفاق والخداع والتغرير، لا على سبيل الصدق والإخلاص والعمل الصالح.
والإنسان الإيجابي الفعال له منطق آخر، تجده يلقي درساً عن قيام الليل ويرغب الناس فيه، فإذا قالت له زوجته -التي تعرف أنه لا يقوم الليل- أو قال له زميله - الذي يعرف أنه لا يقوم الليل- يا فلان تحث الناس على قيام الليل وأنت منجعف على فراشك تتقلب! ألا تخاف الله؟! ألا تستحي؟! حاولَ أن يقوم، وبذل جهده، لكنه يقول في نفسه: ربما قام أحد هؤلاء الناس الذين سمعوا موعظتي فدعا الله تعالى، فكنت أنا شريكاً له في الأجر؛ لأنه قام بسبب موعظتي، وربما أشركني في دعوة صالحة، والدال على الخير كفاعله.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه} .
وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها} فيأخذ الأمر من هذا المنطلق.(87/6)
تحديد المشكلة
وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء، أو باحتقار، أو يهضم نفسه، أو يوبخها- هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري، بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بعجب، ولا غرور، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيح [إن المؤمن يرى ذنوبه مثل جبل على رأسه يخشى أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على وجهه، فقال به هكذا بيده فطار] .
إذن لا نعيب عليك أن توبخ نفسك، ولا أن تزدريها، ولا أن تحتقرها، فهذا لا شيء فيه، ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك، فإذا قلنا لك: يا فلان تول أمر المسجد وصلِّ بالناس! أو درّس، أو اشغل هذه الوظيفة المهمة، أو ألف كتاباً، أو ألق محاضرة، أو درساً، أو مر بالمعروف وانه عن المنكر هززت رأسك، وقلت الله المستعان! "لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني" فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل، وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، لكن المشكلة أن يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح، مثلاً أبو الوفاء بن عقيل، صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد، وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه، نقله ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر وقال ابن الجوزي بعدما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال: وقد رأيت الإمام أبو الوفاء بن عقيل ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها هاهنا، ماذا قال أبو الوفاء بن عقيل؟ قال كلاماً طويلاً مقصده أن أبا الوفاء بن عقيل يخاطب نفسه ويقول: يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت أن يقال لك: إنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، وعما قليل تترك ذلك بالموت، بل وحتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب أقوى منك عبارة، لربما موهوا له بالقول، وركضوا وراءه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك، ثم قال: " والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها، فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا، وعما قليل أموت، فيقول الناس: مات الرجل الصالح العالم الورع التقي، ووالله لو علموا حقيقتي ما دفنوني " وكلام من هذا القبيل طويل.
ثم قال: " والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله تعالى أن يرحمني بذلك " ولعل الكثير منكم يحفظ نونيه القحطاني: والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان إلى آخر قصيدته.
لكن
السؤال
أن أبا الوفاء بن عقيل وابن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم؛ حتى الصحابة رضي الله عنهم، لهم كلام كثير في ازدراء النفس، فهل هذا الشعور بالنفس جعلهم لا يعملون ولا يجاهدون، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر؟ لا! أبو بكر هو الخليفة، وأمور المسلمين كلها في عنقه، ومع ذلك وكثيراً ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال: [[اللهم اغفر لي مالا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون]] وكثيراً ما كان أبو بكر رضي الله عنه يقبل على نفسه يوبخها ويذمها.
ومثله عمر الخليفة وتعرف ماذا فعل عمر؟ رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك كان يقول: [[بخٍ بخٍ يـ ابن الخطاب! بالأمس ترعى غنم الخطاب واليوم أمير المؤمنين! والله لتتقين الله أو ليعذبنك]] .
إذاً فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة عن العجب والاغترار، وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح، ولا تمارس أي دور.
وكلام أبي الوفاء بن عقيل وابن الجوزي والقحطاني، ومن قبلهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يمنع آخرين من أن يتكلموا مما وهبهم الله من الخير والنعم، لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل:83] فأول مراحل شكر النعمة المعرفة، فإذا كان الله قد أعطاك مواهب فلا بد أن تعرف هذه المواهب، حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكراً لنعمة الله عليك.
فهذا يوسف عليه السلام نبي الله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد اختصه بهذه المزايا، بن عباس يقول: [[أنا من الراسخين في العلم في قوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) [آل عمران:7] وفي قوله تعالى: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] قال: أنا من القليل الذي يعلمه]] فلم يمنعه تواضعه أن يقول هذا.(87/7)
حيلة الخوف
الحاجز الثاني أو الوهم الثاني: هو وهم الخوف، والخوف أذل أعناق الرجال، وكما أسلفت حينما يكون عند الإنسان خلل في نفسيتة يكون عنده خلل في تصوره، وإدراكه للأمور، وتخيله لها، فتجد أنه يخطئ في الحسابات، ويضخم الأمور تضخيماً مبالغاً فيه.(87/8)
الخوف من الفشل
من ألوان الخوف وهو نوع من الحيل النفسية: الخوف من الفشل، فتجد الإنسان لا يقوم بأي عمل، يقول: أخشى من الفشل! أقترح عليك أن تقوم تلقي كلمة، قال: أخاف أن أخطئ باللغة أو آتي بكلمة مضحكة فيسخر الناس مني ثم بعد ذلك لا تقوم لي قائمة! لماذا لا تفتح مؤسسة تجارية تستفيد منها ويستفيد من ورائها المسلمون؟ قال: أخاف من الخسارة.
إذاً هذا الخوف يمنع الإنسان من أي عمل، وبناءً عليه يجب أن تدرك أن أي عمل في الدنيا يتطلب قدراً من التضحية، وقدراً من المغامرة.
فالعمل التجاري خاصة إذا كان عملاً مدروساً قد يفشل فعلاً، لكن كم نسبة فشله؟ قد تكون (10%) ، وهذه النسبة لا يلتفت إليها، ثم لو حصل الفشل فالنتيجة: ربما تخسر عشرة آلاف ريال، أو خمسة عشر ألف ريال، أو عشرين ألف ريال فقط! وتستطيع أن تسددها، وليس معنى الفشل أنك خسرت الدنيا والآخرة، ولذلك تفكر بقدر إمكانياتك، لا تفكر تفكيراً خيالياً.
والكلمة التي نطالبك أن تلقيها أمام الناس، تقول: يمكن أن أخطئ، فإذا أخطأت سيكون ماذا؟ سأستحي وأخجل، لكن هذا الخجل سينتهي خلال يوم أو يومين، وتمتنع عن الكلمة أسبوعاً، ثم في الأسبوع الثاني ربما تكررالمحاولة، ولا تعود إلى الفشل بإذن الله تعالى، ومع ذلك نقول: ينبغي أن تحتاط وتضبط الكلام، وتعده إعداداً جيداً حتى تطمئن -إن شاء الله- أنك لن تخطئ، وإن كان خطأً فسيكون خطأً يسيراً ويمكن أن يحتمل -مثل أن يكون خطأ في اللغة-.
حتى لو تصورت السباحة، كم شخصاً لا يجيد السباحة؟ ولماذا؟ وهي عملية بسيطة لا تحتاج إلى جهود ولا إلى تعب.
فإن الحيوانات تسبح -تلقائياً- إذا وضعت في الماء، لكن تجد الإنسان؛ لأنه تعلم الخوف تجده يخاف ولا يسبح لأنه يخاف من الغرق، وبهذا الخوف توقف عن أي عمل إيجابي ومثمر.
إذاً فلا بد أن تعمل أعمال الخير؛ بل أعمال الدنيا المطلوبة منك باجتهادك، ولأن تعمل باجتهاد ويتبين لك فيما بعد أن هذا الاجتهاد مرجوح خير من أن تقعد ولا تعمل، الذي يعمل ويخطئ أحب إلينا من الذي لا يعمل أصلاً، فكونك تأمر بالمعروف ثم اكتشفت أنك أغظت هذه المرة في الأمر بالمعروف، أنت أحب إلينا من الشخص الذي لم يأمر بالمعروف، خاصة إذا كان الإغلاظ بقدر معقول، لأنك استفدت درساً من الإغلاظ هذه المرة، فالمرة الثانية سوف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحسنى، والحكمة، والكلمة الطيبة، ولن تغلظ لأحد بقول ولا فعل، لكن ذاك الإنسان الذي لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر قد قصر في أصل الواجب، وأنت مطالب بأن تعمل وتصحح وتواصل، ولا تقف عند الخطأ، بل صحح الخطأ وواصل.
ولو تأملت القرآن والحديث لوجدت أن ترك العمل وخوف الفشل من سيما المنافقين، فإياك أن تكون منهم: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] فإذا خضنا معركة وقتل منا من قتل، جاء أحد، وقال: قتل هؤلاء ونزفت دماءهم! لوأطاعونا وجلسوا في بيوتهم ما قتلوا: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران:168] .
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره قتل هؤلاء في المعركة شهداء في سبيل الله، كم يموت ويقتل في سبيل الطاغوت؟ كم يقتل في سبيل الدنيا؟ كم يقتل من مهربي المخدرات؟ وكم يقتل وكم؟! أعداد غفيرة من الناس، ثم كم يموت بالمرض؟ وكم يموت بالجوع والعطش والعري والبرد والحر؟! أعداد غفيرة من الناس، فلماذا تستكثر أن يموت في سبيل الإسلام بضعة أشخاص أو مئات أو ألوف ولا تستكثر أن يموتوا في سبيل الدنيا؟ فإن الموت حتماً على كل إنسان.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا * لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:153-154] نحن لم يكن رأينا الخرج إلى المعركة، كان رأينا أن نجلس في المدينة فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشارنا ما قتلنا هاهنا: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] .
إذاً: المؤمن بالقضاء والقدر لا يأتي دائماً وأبداً ويقول: لو ولو…!! ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في نفس الحديث الذي سقته سابقاً حديث أبي هريرة: {لا تعجز} فهناك عن العجز، ومن أسباب العجز الخوف من الفشل.
ولذلك قال: {وإن أصابك شيء -أي عملت ووقع عليك شيء- فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان} .
من صور الخوف أيضاً: الخوف من النقد والتبرم به، فالكثيرون من الناس يمتلكون حساسية مفرطة شديدة، لا يحب أن يسمع كلمة نقد، وإذا انتقد يحس بأنه اختل توازنه ويتمنى أن تنفتح الأرض لتبتلعه خجلاً، أو تجد بعض الناس يستكبر على النقد، ويتعجرف على أن يسمع، مع أن الواقع أن الإنسان إذا قام بعمل فهو عرضة للنقد، ولهذا قالوا: من ألَّف فقد استهدف، أي أنك إن كتبت كتاباً وقدمته للناس فسيقرؤه مئات أو ألوف، فهذا أعجب بالكتاب، وهذا لم يعجبه، وهذا أعجب به ولكن عليه بعض الملاحظات، كل هذا شيء طبيعي.
وحينما تلقي درساً أو محاضرة، سيقول هذا زاد، وهذا نقص، وهذا أخطأ، وهذا لحن، وهذا أفرط، وهذا فرط إلى آخره، وهذا شيء طبيعي، فأنت عندما تقوم بأي عمل ضع في اعتبارك أنك عرضة للنقد، حتى الأعمال الدنيوية كالتجارة، سيقول لك أحدهم: والله يا فلان لو كان المتجر في المكان الفلاني لكان أفضل! وآخر يقول: العامل الذي وضعته هنا غير مناسب، أخلاقه سيئة، وغير مأمون! إذاً فأنت عرضة للنقد، فينبغي أن يكون لديك استعداد للعمل واستعداد لتقبل النقد، واستعداد للتصحيح -أيضاً- لأن الناقد -كما يقول بعضهم- يفترض الكمال فيما قلت أو فيما فعلت، ولهذا يطالبك بالمزيد.
ولهذا قال الشاعر حتى عن خصومه: عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا ما رأيك في إناء تشترك في غسله أيادٍ كثيرة من أيدي الأصدقاء والأعداء، لا بد أن يتنظف هذا الإناء ولو بعد حين.
ومن ألوان الخوف: الخوف على المكاسب: فهذا موظف كسب في وظيفته مستوى معيناً، أو رتبة معينة، فتجده لا يحاول أن ينتقل إلى إدارة أخرى، لأنه يخاف على بعض المكاسب التي حصل عليها من إدارته، فيقول أنا أقمت علاقة جيدة مع الرؤساء، فربما لو انتقلت إلى إدارة أخرى قد لا يحصل هذا! فهذا قد يقع، لكن -أحياناً- تجد أن هذا الخوف قد يحول بينك وبين عمل أفضل لك.
كذلك التاجر إذا اقترحت عليه الانتقال إلى عمل تجاري أمثل وأفضل خاف! حتى بائع المسامير في السوق، لو تأتي وتقول له: يا فلان أنت تتاجر بالمسامير! الناس الآن بنت الدور وملكت القصور، وأنت رجل عندك عقل وتفكير وكذا فيتصور هذا الإنسان أنه لو ترك بيع المسامير أنه سوف يموت هو وأولاده جوعاً، لأنه حصل على كسب بسيط، وهو يخاف على هذا المكسب أن يضيع! مثله داعية قام بعمل طيب لكن هذا العمل محدود، مثلاً أقام مكتبة، ونشط في هذه المكتبة، وهدى الله على يديه أفراداً من الحي، فتقول له: يا أخي أنت ليس من حقك أن يهدي الله على يديك خمسة أو عشرة، أنت من حقك أن تخاطب بلداً أو أمة بأكملها، قال لك: نعم، لكن عندي هؤلاء العشرة، وهؤلاء أخاف عليهم أن يضيعوا، ليس لهم أحد غيري.
فالخوف على هذا المكسب تسبب في أنه يفوت على نفسه خيراً أكبر وأعظم، قد يكون هو قدره، قد يكون هؤلاء الأفراد هم الحجم المناسب لإمكانياته، لكن أحياناً قد تجد الإنسان يمتلك مواهب أكبر وأوسع وأكثر وقدرات وإمكانيات قد أهدرها وضيعها، لأنه ارتبط بهذا الواقع أو هذا الوضع، فصار يخشى على هذا المكسب، وهو مكسب حقيقي ولكنه محدود.
فهذا يمكن أن يقوم به إنسان آخر أقل منه موهبة، فخسرنا بذلك وخسر هو أموراً أكبر لماذا؟ لأنه دائماً يمد يداً قصيرة، وهو يحامي دون هذه المكاسب ويخاف عليها، ولذلك كلما قيل له تعال إلى هذا الميدان، قال: لا، أنا أخاف على فوات بعض ما كسبت.
فلا بد من كبر الهمة وعلوها وحسن الظن بالله تعالى، والعوام يقولون في أمثلتهم: قل خيراً يقله الله عز وجل، ونحن لا نقول هكذا، لكن نقول كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي وهو صحيح: {أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء} فَظُنَّ بالله خيراً.
واعتقد أن الله سفتح لك أبواب الخير، متى ما كبرُت همتك، واتسع نطاق تفكيرك، وانتقل من مكسب إلى مكسب، ومن نصر إلى نصر أكبر منه، ولا تقف عند حد معين وتقول: هذا يكفيني.(87/9)
الخوف من الناس
فمثلاً: إنسان عنده وسواس -ولا شك أن الوسواس نوع من الخلل- فتجد أن هذا الموسوس يخاف من الكفردائماً، فيقول لأخيه: أنا قلت كذا، فهل يعتبر هذا كفر؟ فإن قلت له: لا، وأتاك بعد فترة، وقال: أتيت وكان في قلبي كذا، فهل يعد هذا من الكفر؟ تقول له: لا، وربما سألك في اليوم عشرين سؤالاً كلها تدور حول هل يعد من الكفر؟ هل يعد من الكفر؟ فنقول لهذا: أنت إنسان موصول القلب بالله عز وجل، مقبل على الله تعالى، محب لله ولدينه، حريص على تجنب الشبهة، فضلاً عن الحرام، فضلاً عن الكفر! فكيف تحول الأمر إلى خوف في قلبك؟ لكن هذا بسبب أن عنده خلل في نفسيته، فصار عنده خلل في إدراك الأشياء وتصورها، وتخيلها ومعرفتها.
تجد بعض الناس يخاف من الطلاق، حتى إن بعضهم مجرد خاطر في قلبه يأتيه الشيطان، فيلقي عنده خاطر أنه إذا لم تتجاوز هذه السيارة تسبقها فزوجتك طالق! مجرد خاطر! فتجده يسرع بقوة حتى يسبق هذه السيارة! فإذا وصل إلى الإشارة وضع الشيطان في قلبه وَهماً أنه إذا لم ترجع من عند هذه الإشارة وتأخذ الدورة -مرة أخرى- من عند الرصيف فزوجتك طالق! فتجد هذا المسكين يركض كالمجنون، تركض وراء ماذا؟! وعمَّ تبحث؟! مجرد أوهام يلقيها الشيطان نتيجة خلل في النفسية واضطراب، وعدم وضع الأمور في مواضعها.
هذا نموذج قد يكون واضحاً وربما يضحك البعض منه؛ لكن خذ أمثلة مشابهة، قد لا تضحك منها، تقول أنا مبتلى بها-مثلاً- الخوف من رجال الأمن، والخوف من أجهزة المخابرات، وأجهزة المباحث، تجدها ترسم بصماتها -أحياناً- على بعض الناس فيخاف من كل شيء ويقرأ الخوف في كل حركة وفي كل لفتة، وفي كل نظرة، يخاف من المباحث، ويخاف من الاستخبارات، ويخاف سواء الدول العظمى أو غيرها.
حتى يقول أحدهم وكان إنساناً أخطأ فهرب، فيقول معبراً عن هذا المعنى بالضبط يقول: لقد خفت حتى لو تمر حمامةٌ لقلت عدو أو طليعة معشرِ فإن قيل خيرٌ قلت هذي خديعةٌ وإن قيل شرٌ قلت حق فشمرِ أي: إن جاء أحد يطمئنني ويقول: اطمئن الأمور على خير، قلت: هذا يخدعني، هذا مرسل ليخدعني، وإن جاءني أحد يقول: خف وأهرب، الطلب في إثرك، قلت: هذا صادق؛ ثم شمرت وركضت من الخوف.
وآخر يقول: حتى صدى الهمسات غطاه الوهن لا تنطقوا إن الجدار له أذن والثالث يقول: لو كنت أستطيع… أن أقابل السلطان قلت له: يا حضرة السلطان! كلابك المفترسات دائماً ورائي كلابك المفترسات مزقت حذائي ومخبروك دائماً ورائي أنوفهم ورائي عيونهم ورائي آذانهم ورائي كالقدر المحتوم كالقضاء يستجوبون زوجتي… ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي.
والرابع الذي يقول: إن هناك مخبراً يدخله مع الشهيق، ويرسل التقرير مع الزفير كما يقول.
وهذا شاعر، ومن عادة الشاعر أنه يحب المبالغة، وليس بالضرورة أنه يعيش هذه الأوهام، لكن هو يصور حقيقة إنما بالغ في تصويرها، ولكن هذه المبالغة تتحول إلى إحساس حقيقي عند بعض المرضى وبعض المصابين، فتجد أنه يخاف من كل شيء، ولا يعمل شيئاً.
تخايله الأوهام دائماً وأبداً، وبالعكس تجد أحياناً دولاً أو مسئولين في دول أو شخصيات، تجده يخاف من الناس، يخاف من شعبه ويفسر كل حركة، وكل خطوة، ولكل سكنة، وكل محاولة، وكل شيء بأنه ضده، وأنه المقصود منها، فتجده يواجه هذا، ويحارب هذا، ويفرق المجتمع، ويجمع المتفرق، ويقوم بحركات تنبئ عن الخوف.
فهذا الخوف: هو في كثير من الأحيان، عبارة عن وهم نفسي، وليس حقيقة واقعة، وبالتالي يتصور أنه يستطيع أن يؤذي الناس أو يبطش بهم أو يشكل أو يكمم الأفواه وما أشبه ذلك، ولكن هيهات!! وهذا ما يسمى -أحياناً- بعقدة المؤامرة التي توجد لدى الفرد أو الجماعة أو الدولة، وهو: شعورك بأن كل شيء مؤامرة، ومخطط ضدك، أو ضد هذه الدولة أو ضد الإسلام، أو ضد جماعة بعينها، نعم نحن ندرك بأن هناك مؤامرات، ويجب أن نعرف الواقع، ونعرف حجم عدونا، ونعرف كيف يفكر، وكيف يعمل، وحتى لا نبالغ، فنحن في أحيان كثيرة نتكلم عن مؤامرات الأعداء، ونشخصها، وقبل أيام كان لي درس عن وسائل المنصرين، وسأتحدث عن هذا الموضوع أيضاً مرات أخرى.
وهناك فرق بين أن تدرك الواقع على طبيعته، وبين أن تضخم هذا الواقع حتى يتحول إلى عقدة عندك، فتتصور أن كل شيء وراءه مؤامرة، حتى لو كان شيئاً صالحك تخيلت أن وراءه مؤامرة فتوقفت عنه، مثل إنسان يقدم له طعام جيد، فيقول: يمكن أن يكون في هذا الطعام شيء.
إذن لا داعي لأكله، فيتركه خوفاً أن يكون وراءه شيء، فيحرم نفسه بذلك من خير قد أتيح له.
وينبغي أن تدرك أن الأعداء وأن أجهزة المخابرات العالمية مثل الـ C.
I.
الجواب
هذه المخابرات الأمريكية، أو الموساد الإسرائيلية، أو المخابرات الروسية أو أي جهاز مخابرات في العالم، بل الدول بنفسها تعتمد على ما يسمى بالحرب النفسية، حرب التخويف والتضليل وإلقاء الرهبة في نفوس الشعوب، حتى تجد أن الواحد ينهزم قبل أن يخوض المعركة؛ لأنه يشعر أنه ضعيف لا يملك شيئاً، في حين أنه يواجه عدواً مدججا يملك كل شيء، ولعلكم تعرفون على سبيل المثال أفلام الرعب التي تعرض الآن في التلفاز، أو في الفيديو، وأكثر من يشاهدها الأطفال من مسلسلات الرعب، التي تغرس في نفوس الأطفال المخاوف، حتى إن أحد المستشفيات استقبل في أسبوع أكثر من أربعين حالة نفسية لبعض الأطفال بسبب فيلم أو مسلسل عرض في التلفاز.
والكتب التي تتكلم عن التجسس والجاسوسية وأعمال الجاسوسية تعد بالآلاف، بعضها حقيقية، وبعضها خيالية، ولكن ربما بعض الوكالات تقوم بالتأليف عن نفسها من أجل أن تضخم حقيقتها في نفوس الشعوب لأن الخوف - أحياناً - يريحهم من أشياء كثيرة.
فإذا كان مجرد الخوف منعك من العمل، ومنعك من المشاركة ومنعك من الإقدام، فلا يحتاجون بعد ذلك إلى شيء آخر، وهم يعتمدون على التهويل والمبالغة.
ويقومون -أحياناً- بتسريب بعض المعلومات والأخبار غير الصحيحة من أجل الحرب النفسية.
وأقرب وأوضح مثال: اليهود، الآن هناك عشرات الكتب تتكلم عن اليهود: القوة الخفية في العالم، اليهود الذين يملكون الاقتصاد، ويملكون الإعلام، ويملكون أمريكا، ويملكون روسيا، واليهود الذين يملكون التصنيع، حتى تصور البعض أن اليهود وراء كل عمل، وسبب كل شيء وأن أمريكا دمية بيد اليهود، وكذلكروسيا والعالم كله كذلك.
وبناءً عليه فلا داعي أن نواجه اليهود، وليس هناك أمل في الانتصار عليهم! إذاً: لماذا لا تفترض أن هذه الصورة الوهمية الخيالية المبالغ فيها أن اليهود هم الذي سعوا إلى رسمها في نفوس المجتمع حتى يبقوا خائفين؟ ولا شك أن الخوف بداية الهزيمة، خاصة إذا تصورنا أن اليهود عندهم خطط ناجحة في الحرب النفسية، في مجال الإعلام والمخابرات، فلا غرابة أن يخططوا لمثل ذلك، لكن تصور أن اليهود يتحكمون في كل شيء هذا وَهم! والأمر كما قال أحد الكتاب: اليهود لا يصنعون الأحداث ولكنهم يستغلونها، فهم أعجز من أن يديروا كل شيء، ويعملوا كل شيء، لكن عندهم قدرة على استثمار الأحداث -بقدر الإمكان- لصالحهم، وهذا لا ينكر، واليهود لديهم قوة ولديهم قدرة، ولديهم تغلغل في أمريكا وفي روسيا وفي عدد من البلاد، وأعطاهم الله بعض التمكين.
لكن مع ذلك أقول: الصورة التي ترسم في أذهاننا هي في كثير من الأحيان صورة خيالية ومبالغ فيها عن حقيقة القوة اليهودية.
ومثل ذلك قصص التعذيب، فكثير من الشباب -شباب الدعوة- أول ما يبدأ في القراءة، يقرأ -مثلاً- كتاب البوابة السوداء، في الزنزانة لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه في غياهب السجون؟ وعشرات الكتب التي تتكلم عن سجون جمال عبد الناصر وألوان التعذيب أو السجون الآن في تونس أو في الجزائر أو في أي بلد آخر.
فالشاب الذي هو في أول حياته لم ينضج بعد، ولا يزال غضاً طرياً نشأ على هذه المعاني، وعلى هذه المفاهيم، فولد عنده رعب وخوف ونشأ على نوع من الضعف والهزيمة، فأصبح مثل الشجرة التي نشأت في الظل، ليس فيها قوة واخضرار ونماء، تجد فيها صفرة وفيها ضعف، خاصة إذا كان هذا في أول عمره وتربى عليه، وأكثر من قراءته، فالغالب أن هذا يحدث عنده أثراً سلبياً.
إذاً لا بد من تحطيم هذه المخاوف، وهذه الهيبة، والحديث بصورة معتدلة عن كل هذه الأمور.
ولماذا لا نتحدث الآن عن سقوط أمريكا؟ وقد ظهرت الآن كتب ودراسات وتحقيقات علمية، عن بداية سقوط أمريكا، ليس بأقلام علماء ومشايخ وكتاب مسلمين بل بأقلام أمريكان.
ومن آخر هذه الكتب وأخطرها وأكثرها شهرة كتاب اسمه: صعود القوى العظمى وانحطاطها، يتكلم عما جرى للاتحاد السوفيتي ويقول: إن السُّنة ماضية، وأمريكا تسير على الأثر، ثم رصد عدداً من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والعسكرية التي تؤكد أن أمريكا سوف تتفكك وتنهار، بطريقة أو بأخرى كما انهارالاتحاد السوفيتي.
فلماذا لا نتكلم عن هذا المعنى؟ حتى نزيل الرهبة الموجودة في نفوس البعض، والذين يتصورون أن أمريكا تستطيع أن تفعل كل شيء، وأنها تهيمن على كل ما يقع في هذا الكون، حتى تحولت إلى شبح رهيب ليس في نفوس البسطاء والسذج! بل في نفوس الساسة أحياناً!! وفي نفوس المفكرين! وفي نفوس الصحفيين والإعلاميين! ولعلكم تسمعون وتقرءون كيف يتكلمون عن هذه القوة التي يقدسونها! ويسبحون بحمدها! ويضفون عليها من أوصاف الجلال والقوة والقدرة والهيمنة شيئاً لا عهد للتاريخ بمثله، لماذا لا نحطم هذه الهيبة بالكلام عن سقوطأمريكا؟ هذا السقوط الوشيك، بعد خمس سنوات، أو عشر سنوات الأمر يسير-إن شاء الله-!! لماذا لا نتكلم عن سقوط اليهود سواء من خلال الأحداث الواقعية، أو من خلال النصوص الشرعية؟ لماذا لا نتكلم عن ضعف البشر؟ وأن جميع أجهزة البشر وإمكانياتهم مهما بلغت في القوة والدقة فهي ضعيفة؟! ولو أردت أن أحدثكم في هذا الموضوع لفعلت -ولكن ليس هذا هو الموضوع- المهم: أن نثبت أن البشر ضعاف ومهازيل، ويفوتهم الكثير وتنطلي عليهم أمور كثيرة جداً وأنهم لا يدركون إلا القليل، وحتى هذا القليل الذي يدركونه قد لا يدركونه تماماً وعلى حقيقته بل يدركون شيئاً منه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] .
وبالمقابل لا بد من تعظيم الله(87/10)
حيلة طلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله
من الحيل النفسية: طلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله، فتجد الإنسان أحياناً يفترض هدفاً عظيماً وكبيراً جداً لا يستطيعه ولا يسعى إليه، وإنما يستحسر في نفسه ويدع العمل، وخذ بعض الأمثلة:- فمثلاً: يفترض المسلم اليوم وجود دولة إسلامية نظيفة ناضجة كاملة على الكتاب والسنة، يؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، وتقام الحدود، ويمنع الربا ولا يوجد فيها منكر ولا معصية، ويدعى فيها إلى السنة، فيفترض دولة إسلامية كاملة من كل الجوانب، ثم ينظر إلى واقع العالم كله اليوم، فيجد أن هذا الأمر بعيد المنال، ثم يصبح عنده فيصبح عنده حيئذ نوع من الإستحسار ويترك العمل.
مثال آخر: إنسان بدأ في طلب العلم، فأحياناً تبرز إلى ذهنه صورة عالم فقيه مفتٍ لا يسأل عن مسألة إلا أجاب فيها بالدليل والتعليل والتفصيل، وأحياناً تبرز إلى ذهنه صورة ذلك الأديب الشاعر اللغوي المتكلم، وأحياناً تبرز إلى ذهنه صورة ذلك الخطيب المتكلم الذي يهز أعواد المنابر، فتجد هذا الإنسان مشتتاً، يتصور أنه يمكن لأن يكون كل واحد من هؤلاء يتصور نفسه خطيباً وداعية وعالماً وشاعراً، فيتصور أن هذا الأمر بعيد المنال، فيستحسر ويدع طلب العلم، لأن هذه الصورة التي رسمها هي صورة مثالية خيالية كمالية، قد لا يصل إليها أحد وقد لا تكون واقعة أصلاً أو ممكنة.
مثال ثالث: إنسان يتصور أنه مطالب بتربية الشعوب كلها على الإسلام قبل أن يتحقق للإسلام نصر، فيقول: متى نربي الشعوب كلها على الإسلام؟ الواحد منا يجلس -أحياناً - سنوات يربي شخصاً على الإسلام أو أشخاصاً، وقد لا يتم له ما أراد فكيف تربى شعوب بأكملها؟ فيظن أن هذا أمر محال فيستحسر ويدع العمل، وينسى أنه ليس بالضرورة أن تكون تربية الشعوب كلها على المنهج الكامل أصولاً وفروعاً، واعتقاداً وسلوكاً، وعملاً، وعبادة في جميع الجوانب، هذه سنة الله في البشر أن فيهم وفيهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلم لما جاء إلى صلح الحديبية كان معه ألف وأربعمائة رجل، وفي فتح مكة زاد العدد.
فلم يُكَلّم أحداً بعد الصلح يعقل إلا أسلم، وبعده في حنين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف مقاتل، وهؤلاء خلال فترة محدودة جداً-أقل من سنتين- بطبيعة الحال لم يتلقوا من التربية قدراً كبيراً، ولهذا لما مروا على قوم ينوطون أسلحتهم على شجرة، قالوا: {يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: إنها السنن قلتم: والذي نفسي بيده لقد قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} .
ثم صلى بهم عليه الصلاة السلام على إثر سماء كانت من الليل، فقال: {هل تدرون ماذا قال ربكم؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر إلى آخر الحديث} المهم أنها تربية عامة، تربية جماهيرية على قدر معقول من الدين، وعلى قدر معين، ولا يلزم أن يكونوا كلهم في الدرجة العليا من الفهم والوعي والعلم والإدراك بل قد علم كل أناس مشربهم، وكل إنسان له سقف، وله مستوى يكفي أن يصل إليه.
مثلاً - عندما يتكلم إنسان أو يلقي محاضرة ويفترض في نفسه أن يحضر له جماهير غفيرة! فإذا جاء إلى المسجد وقد تعب، وأعد وجد أن الحضور صف أو صفان، أصيب بإحباط ونكسة، وتصور أن هذا العمل خطأ، فلماذا تفترض كمال العمل من البداية؟ لماذا لا تعود الناس القوة والجودة في الإعداد والتجديد والبذل؟ وسيتكاثر حولك الناس حتى ينتفعوا بك ويستفيدوا من علمك.
ومثل ذلك أو قريباً منه قضية ترك العمل بحجة عدم صلاح النية، فتجد أحدهم يترك الأعمال، ويقول: أخاف من الرياء، وليس الحل هو ترك العمل؛ بل استمر في العمل، وجاهد نفسك على ترك الرياء، وصحح النية، وادع الله عز وجل، وقل كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه} واستمر على العمل ولا يكن هذا سبباً في ترك العمل خشية فساد النية.(87/11)
لابد مع قبول المكاسب الجزئية المطالبة بما هو أكبر منها
إذن لا بد من الإيمان والقبول بالمكاسب الجزئية، والمطالبة بما هو أكبر منها كما سبق، فليست الأمور كلها (100%) أو صفراً فتطلب دائماً الطفرات، أو تفسر المكاسب تفسيراً غير دقيق بناء على أن المقصود منها المجاملة أو الاحتواء أو غير ذلك، وأضرب لك مثالاً يوضح لك ما قصدت: أنت تطلب الكمال، فوجدت -مثلاً- في أسواقنا وفي كل مكان أن الأسواق ممتلئة بأماكن الخياطة النسائية، والخياطون رجال، وهذه الصورة في الواقع صورة شاذة؛ لأنه رجل تقف أمامه امرأة لمدة نصف ساعة أو ساعة أو ساعتين أحياناً ويرى بعض مفاتنها، وتتحدث معه، وقد تضحك معه وقد تتصل معه بالهاتف إلى آخره، فهذه الصورة صورة شاذة، ولكنها أصبحت مألوفة في المجتمع؛ لأنها موجودة، فبعد فترة نجد أنه وجد في المجتمع أماكن خياطة نسائية للنساء، -يعني: الخياطات نساء-.
ووجدت أن كثيراً من الناس يقول لك: هذه أماكن الخياطة النسائية غير مريحة وهي مشبوهة، وأنا لست أزكيها ولا أدري عنها شيئاً، لكني أقول: على كل حال هي أفضل إجمالاً من أماكن الخياطة الرجالية؛ لأن الأصل أن المرأة، تتعامل مع امرأة مثلها، وينبغي أن تضبط ويحافظ عليها أو تراقب بالوسائل الممكنة، لكن لا ينبغي أن تحارب بحجة أنه يتسنى للمرأة أن تتصل بها وتفسدها أكثر مما يتسنى للرجل، لأن الأصل أن تتعامل المرأة مع امرأة.
مثلاً المضيفات: تعرف أن المضيفات في الخطوط هنا قد ألزمن بالحجاب، ومثلهن الممرضات في بعض المستشفيات، فهذا مكسب، وهو مكسب جزئي ولا شك أنه ليس كل ما ننادي به، ولا كل ما نطالب به، لكن احسب أنه واحد من ألف أو عشرة آلاف مما هو مطلوب، وينبغي أن نسعى إلى تحصيله، فأنت تنظر حينئذ على أنه مكسب تفرح به وتطلب المزيد، فلا تتوقف؛ لأنه حصل لك ما تريد، فهذا شيء مما تريد، وهو ليس جديداً لأنه هو الأصل.
وكان يفترض ألا يوجد الخطأ حتى يحتاج إلى تصحيح، فكان يفترض ألا يوجد في المجتمع إلا المتدينات المحجبات، والمتسترات البعيدات عن أي لون من ألوا ن التبرج، لكن إذا وجد هذا المنكر، فالسعي في إزالته واجب، والفرح بزوال المنكر أو بعضه هو أمر فطري، لا يملك الإنسان حياله إلا أن يفرح.
مثله -أيضاً- البنوك الإسلامية الأصل ألا يوجد في أي مجتمع مسلم إلا بنك إسلامي على وفق الشريعة، وهذا ممكن، وليس أمراً مستحيلاً، وتهويل هذا الأمر هو من الحيل النفسية، فمن الممكن أن تكون كل بنوكنا إسلامية، وكل معاملاتنا إسلامية، ولا يشترط أن تكون كذلك بين يوم وليلة، بل نعطي الفرصة لترتيب هذا الأمر، والمقصود أنه عندما تفتح المجالات لإقامة بنوك إسلامية، فهذا مكسب جزئي أفرح به باعتبار أنه خطوة، لا باعتبار أنه المطلب النهائي، فوجود بنك إسلامي يجعل من يريد الحلال يجده، فلا يتجه إلى البنك الربوي إلا من أصروا عليه، كما أن هذه البنوك الإسلامية بإذن الله تعالى سوف تقاوم وتنافس البنوك الربوية، خاصة مع ازدياد الوعي الديني عند الناس، ثم إنها مع الوقت سوف تثبت إذا نجحت، وهي ستنجح بإذن الله، إذا وجد الغيورون وراءها فسوف تثبت أن وجود اقتصاد إسلامي نظيف أمر، ممكن ولا حجة لأحد في تركه.
إذن من الممكن أن أقبل بالمكاسب الجزئية وأطالب بالمزيد، وليس شرطاً ألا أقبل إلا الشيء الكامل مائة بالمائة، أو أتصور كما قلت دولة إسلامية كاملة، أو أتصور علماً غزيراً، أو شعوباً كاملة تربت على الإسلام، أو غير ذلك.(87/12)
من صور هذه الحيلة انتقاص جهود الآخرين
ومن صور تطلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله أنك تجد الإنسان ينتقص الآخرين أحياناً أو يعكر على جهودهم، فمثلاً قيام دعوة إسلامية وانتشار الشريط الإسلامي؛ هذه ظاهرة إيجابية بكل المقاييس ولا شك في أن هذه، ظاهرة إيجابية، وإن كانت هذه الظاهرة بلا شك عليها سلبيات، فتجد إنساناً يقول لك: هذه الأشرطة في الواقع طيبة، ولكن يغلب عليها طابع سياسي، ودائماً تتكلم في موضوعات سياسية، وفي أحوال المسلمين، وغير ذلك.
وأنا قد أتحدث عن نفسي في هذا الجانب- وإن لم يكن هذا من الموضوع لكن الدفاع عن النفس مشروع، ومن حق الإنسان أن يدافع عن نفسه- فأنا أقول -مثلاً- حين تقول هذه الكلام: لماذا تغفل أكثر من مائة وثلاثين درساً في شرح بلوغ المرام؟ ولماذا تغفل عن أكثر من ثلاثمائة درس، بل ضعف هذا العدد في شرح البخاري ومسلم؟ ولماذا تغفل أحياناً عن أشرطة تصل إلى مائة في الدعوة والتربية والإصلاح، وبالجملة فإن الأشرطة التي تعالج موضوعات سياسية لا تتجاوز (10%) لكن من طبيعة الناس أنهم يتابعونها، ويسمعونها ويهتمون بها، فيتصورون أن فلاناً لا يقول إلا هذا الكلام، ولا يعرفونه إلا من خلال هذه الأشرطة.
على كل حال دعك من هذا الأمر، ولنفترض أن هذا الأمر نقص عندي أو عند زيد، أو عبيد من الناس: فإنسان فتح له باب من الخير، أو بورك له في شيء، ونفع الله به في هذا الجانب، لماذا لا تكمل أنت الجانب الآخر؟ ولماذا تفترض الكمال؟ وأن فلاناً إن تكلم فلا بد أن يتكلم في كل شيء، يمكن أن يكون الإنسان فقيهاً ولا يحسن التفسير، وآخر مفسر ولا يحسن في الحديث، وثالث محدث ولا يستطيع الخطابة، ورابع خطيب ولكن ليس عنده علم، وخامس يستطيع أن يقرر أمور العقيدة لكن لا يستطيع أن يقرر أمور الأحكام، وهذا من عمر الدنيا وهو موجود وقائم، فإذا وجد نقص عند فلان أو علان من الناس -وهو موجود بطبيعة الحال- فلماذا أنت لا تكمل هذا النقص الموجود عندهم، وتعتبر أنك أنت والثاني والثالث والرابع في مجموعكم يمكن أن يشكل منهجاً صحيحاً للناس؟ أما تصور أن فلاناً بذاته وبما يطرحه هو منهج متكامل فهذا مطالبة بما لايطاق ولا يمكن.
مثال آخر من انتقاص الآخرين: تتحدث عن المسلمين في يوغسلافيا وضرورة دعمهم، أو المسلمين في روسيا، ويأتيك إنسان ويقول لك: يا أخي هؤلاء عندهم معاصي ويشربون الخمور، وبعضهم لا يصلي، والنساء متبرجات إلى آخره.
فنقول: هذا الأمر جزء كبير منه موجود بسبب أن هذه البلاد ظلت زماناً طويلاً تحت تسلط الشيوعية، وتحت تسلط الكفر، وحيل بينهم وبين المسلمين، فلا تعليم ولا دعوة ولا إصلاح، ومن الطبيعي أن إنساناً يعيش في مثل هذه الأماكن أن تكون هذه هي النتيجة، لكن لديهم من الرغبة في العلم الشيء الكبير، حتى إن بعض الإخوة الذين ذهبوا إليهم يقولون: إذا رأونا جلسوا بين أيدينا لا يعرفون لغتنا، فلا يملكون إلا البكاء والدموع، واستعدادهم للتعلم عجيب، وليس لديهم أي لون من ألوان التعصب، والله تعالى أعلم.
فلديهم استعداد للتعلم، فلماذا بدلاً من أن تكون القضية قضية تنقص لهؤلاء وأن فيهم وفيهم، فبدلاً من هذه الحيلة النفسية التي نقنع بها أنفسنا ألا نعمل ولا نساعد، لماذا لا نقوم نحن بدعمهم؟ ومن دعمهم تعليمهم دين الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف بالحسنى، ونهيهم عن المنكر بالحسنى، والتسلل إلى قلوبهم ومساعدتهم مادياً وإنسانياً وإغاثتهم، ومساعدتهم بالسلاح أيضاً والوقوف معهم بالنفس والمال حتى نستطيع أن نخرجهم من محنتهم، وأن نجعلهم مسلمين أقوياء صالحين.
فهذه حيلة نفسية أنك تنتقص هذا الإنسان أو تنتقص هذا الجهد، أو تنتقص هذا الطريق، أو تنتقص هذا المنهج لتبرر لنفسك ترك العمل، وبشكل عام لا نعذرك أبداً أن تنظر إلى الجانب السلبي وتترك الجانب الآخر.
وأضرب لك مثلاً بسيطاً وبعيداً عن الموضوع، لكن من أجل أن تدرك: إنسان خرج من صلاة الفجر، فلما خرج مر، فوجد شخصاً آخر قد خرج لتوه من صلاة الفجر، وهو يقلم أشجار الحديقة أو المنزل، فقال هذا الإنسان: فلان مسكين ما وجد شيئاً يشغل وقته إلا أن يقلم الأشجار! لماذا لا يذهب ليقرأ القرآن في المسجد؟ نقول: قراءة القرآن أفضل من تقليم الأشجار، ولا شك في هذا، لكن تقليم الأشجار عندنا أفضل من النوم، وأنت ذاهب للفراش، فلماذا تنتقد ذلك الشخص؟ فلا بأس أن توجهه، لكن أيضاً لا بد أن توجه نفسك وتنتبه إلى أنك ذاهب إلى عمل أقل قدراً حتى من تقليم الأشجار الذي تنتقد به صاحبنا.(87/13)
من أسباب حسن العمل وجود الهدف المعقول
وإن وجود هدف معقول هو من أسباب حسن العمل، فأنت -مثلاً- تنشر العلم وليس بشرط إن كنت مدرساً أن تكون عالما فحلاً يشار إليه بالبنان، ولكن لو كان عندك معرفة بمتن من المتون، فمن الممكن أن تدرسه للناس بقدر طاقتك، وتحفيظ القرآن لا يشترط أن تجلس لتحفيظ القرآن أن تكون حافظاً للقرآن بالقراءت السبع، والوجوه وغير ذلك، بل لو كان عندك قدرة على الحفظ ووتحفظ طلابك في آن واحد.
فإذا لم يوجد غيرك ممن هو أفضل منك، فلا بأس من ذلك، وهكذا الخطابة، ليس شرطاً أن تكون سحبان بن وائل أو خطيباً يهز أعواد المنابر ويحرك عواطف الجماهير من أول وهلة، المهم أن يكون عندك قدرة على أدنى حد معقول من الخطابة، لتستفيد من هذا، وتتدرب وتترقى في مراقي ومعارج الكمال شيئاً فشيئاً.
ولا بد أن تدرك أن الأمور نسبية، وأننا نحن الآن في زمن الغربة، وهذا آخر الزمان، وأنت لست الآن في القرون الفاضلة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كثرت الفتن، وكثرت الشهوات، وكثرت الصوارف لك أنت ولغيرك من الناس عن الخير، فينبغي أن تضع ذلك كله في اعتبارك.(87/14)
حيلة القناعة الزائدة
ومن الحيل النفسية القناعة الزائدة: وهي شعور الإنسان أنه كامل وأن هذا العمل الذي يقوم به عمل كامل، وأنه لا مزيد عليه بحال من الأحول، وأن كل الإمكانيات الموجودة لديه قد صرفها في سبيل العلم، أو الدعوة، أو الجهاد، أو الأمر والنهي، ولهذا لا يطلب ولا يسعى إلى الكمال.
وعلى سبيل المثال -من أوضح الأمثلة- أحوال الدول والجماعات، تجد أن هذه الدولة أو تلك ترى أنها قد بلغت الكمال في اقتصادها وإعلامها وسياساتها وجيشها وأمنها وغير ذلك، ولهذا لا تقوم بأي لون من ألوان الإصلاح، لماذا؟ لأنها ترى الكمال وأن الإصلاح يعني وجود نقص سابق، وبذلك يتبين لك خيانة الإعلام الرسمي المضلل في كثير من الأحيان الذي لا يذكر إلا الصورة الإيجابية ويتجاهل السلبيات، وهو بذلك يخالف أولاً: المنهج الشرعي القائم على النقد والنصيحة، وفي حديث أبي رقية تميم الداري في صحيح مسلم: {الدين النصيحة} .
وهو أيضاً مخالف للمنهج الغربي -مع الأسف- الذي يقلده العرب والمسلمون اليوم، فإن النهج الغربي قائم على حرية النقد للأفراد والدول والأحزاب والمؤسسات، وبالتالي فإن الإعلام لا يصلح إلا في جو من الحرية الشرعية التي تجعله يقوم بدوره ليس فقط في الثناء على المكاسب والمبالغة في ذلك، بل في نقد الواقع وتصحيحه وحث الناس وحفز الهمم إلى التغيير نحو الأفضل، وينبغي أن ندرك ذلك ونعيه.
كان عمر رضي الله عنه يقول: [[أشكو إلى الله عجز التقي وجور الفاجر]] فلاحظ أن التقي الآن قد وصل إلى درجة معينة فلا يطلب المزيد، أما الفاجر فتجده يطالب، الداعية تجده يتحرك على استحياء يتسلل، يأتي -كما يقال- من أبواب الخدم.
والمطلوب: أن الإسلام يدخل من أبواب الملوك لا من أبواب السوقة، أما الخصم العدو والمحارب للإسلام فإنك تجده يصيح دائماً وأبداً، وينادي بالويل والثبور، ويتبجح مع أنه هو الغالب.
مثلاً: المرأة في التلفاز: أول ما ظهرت المرأة في التلفاز كان لا يظهر منها إلا اليد فقط أثناء عملية إعداد الطبخ، ثم ظهر حزء من البدن، ثم ظهرت محجبة ثم ظهر الوجه، ثم ظهر الشعر، ثم بدأ الثوب ينحسر، حتى أصبحت ترى المرأة في التلفاز يظهر منها إلى ما فوق نصف الفخذ، وبأبهى زينة.
وقد يحصل بعض الأحيان ما هو أدهى من ذلك، فتجد أن بعض الفاسقين يقول: إن الإعلام لا يزال محافظاً، وأنه ينبغي تحرير الإعلام وينبغي وينبغي…!! لكن الأخيار حين يطالب الواحد منهم بتصحيح وضع، أو يرسل ملاحظة على برنامج فإنه يرسل على استحياء، وإذا حصل أدنى استجابة تجده وكأنه حصل على كل ما يريد، وكأنه قد حقق كل شيء.
فإذاً كان الداعية خاصة في مجال الدعوة -ومع الأسف- قد يكون هو مسئول الدعوة، أو مدير مركز من المراكز، وتجد أنه لا يأخذ صلاحياته، ولا يقوم بأعماله، وإنما يمد يداً قصيرة ويرى أنه قد قام بكل شيء وأنه لا مزيد على ما قد قام به.
لكن تجد أن أندية رياضية -فضلاً عن المراكزالصيفية- كما هو الحاصل الآن -مثلاً- تجد أحياناً نوادي رياضية أو جهات ليس لها علاقة بالدعوة تجد أنها؛ تنشط في مجال الدروس والمحاضرات وتحطم بعض الحواجز، وبعض الموانع، وبعض السدود، فتمارس عملها بكل قوة وشجاعة وجرأة -مع الأسف- يفقدها حتى بعض المنتسبين إلى مؤسسات دينية رسمية، وأحياناً يشعر الإنسان -داعية أو موظفاً متديناً- بالتهمة التي تقال عنه، ويتقبل هذه التهمة، فتجد أنه يدافع عن نفسه ويتحرك على ضوئها، ولهذا لا يقوم بالأعمال قياماً صحيحاً، بل يقنع قناعة زائفة بأدنى نجاح يتحقق له!!(87/15)
حيلة تحميل الآخرين المسئولية
ومن الحيل النفسية: تحميل الآخرين المسئولية، أنت بريء والمسئولون هم الآخرون، وأحياناً المسئول هو الشيطان، فتجد الإنسان يلقي باللائمة على الشيطان، وأحياناً يحتج الإنسان بالقدر، وأحياناً بالعدو أو الاستعمار والصهيونية أو الغرب أو غيرهم.
وأحياناً الحكام هم المسئولون عن كل شيء في نظر البعض، -وأحياناً -العلماء إذا صلحوا صلح الناس، -وأحياناً- وهذا شيء مضحك- الناس؛ فمن هم الناس، إلا أنا وأنت؟! تجد كثيراً من الأدباء يؤلف كتباً، ويعمل فصولاً في هجاء الناس: ما لقي الناس من الناس، والناس كذا، فمن هم الناس إلا أنا وأنت، والمؤلف معهم؟! فهو عندما يهجو الناس يهجو نفسه.
ونحن نقول: الشيطان موجود وله دور، والقدر حق، ولا شك فيه، والعدو يخطط، والحكام عليهم مسئولية كبيرة أكبر من غيرهم، والعلماء كذلك، لكن لا يعني هذا وأبداً أنك أنت بشخصك وبذاتك وعينك ونفسك أنك خارج المسئولية، وبعضهم يقول: كل المشاكل التي نعانيها الآن هي من صنع الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق ونحن خارج الدائرة لا صنعنا المشاكل ولا شاركنا في حلها! فهذا لا يجوز بحال.(87/16)
اعتقاد أن الساحة ملأى
ومن ألوان تحميل الآخرين المسئولية: اعتقادك أن الساحة ملأى، وأنه لم يعد هناك مجال! والحمد لله أن الخير كثير والأصوات كثيرة، والعلماء كثيرون، وليس هناك مجال لك، وهذا خطأ، فالله عز وجل يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] وأنت إذا اعتذرت عن أعمال الخير الآن بحجة أن الساحة مليئة، فأخشى أن تعتذر يوم القيامة عن دخول الجنة، كما في الحديث الصحيح: {إن الله عز وجل قال لرجل: اذهب فادخل الجنة، فذهب فلما اقترب منها وجد أنها ملأى -خيل إليه- فقال: يا رب إني وجدتها ملأى! فقال له الله عز وجل: اذهب فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها} فهذا من آخر من يدخل الجنة، فربما تتأخر منزلتك في الجنة بسبب تأخرك عن العمل الصالح الآن بحجة أن الساحة ملأى، وأن الأخيار كثيرون! أما الشرع فهو في هذا واضح، فلم يعطك الشرع حجة، ولا ترك لك مجالاً للاعتذار بأن هناك كفاية في عدد الدعاة أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أو المصلحين أو المجاهدين أو الباذلين في سبيل الله، أو بأي لون من ألوان الخير، مثلاً: يقول ربنا جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] كلكم بشر كلكم خلائف في الأرض، وكلكم مبتلون بما أعطاكم الله تعالى، سواءً كان علماً أم جاهاً أم مالاً أم شجاعة أم رياسة أم إدارة أم خط رسم أم خطابة أم بلاغة، أم منزلة، أم أي لون من ألوان المواهب والعطايا ابتليت بها، يقول تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء:13] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} وهو في الصحيحين، وفي الحديث الآخر وهو عند الترمذي وهو صحيح: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن، عمره، وعن شبابه، وعن ماله، وعن علمه ماذا عمل به} .
كذلك قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فبعض الإخوة يفرح مما يفهمه من الآية، لكن يا أخي هذه حجة عليك، لماذا أنت تفهم من الآية الإعفاء، ولم تفهم من الآية المسؤولية؟ فالله تعالى كلفك وسعك، ولم يكلفك ما هو فوق وسعك، فالبعض إذا احتج على ترك العمل، قال: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يدري أن هذا دليل على أن الله قد كلفك وسعك وطاقتك، فنحتج عليك به على أنك مسئول قبل أن تحتج به على أنك غير مسئول وعلى أنك غير مكلف.
ومثله أن بعض الإخوة يقول: يا أخي من الورع أن أترك هذا، فيرى أن الورع في ترك الشيء، ولا يذكرون أن الورع - أحياناً- في فعل الشيء، نعم من الورع ترك المكروه، وترك الذي يشتبه بالمكروه، أو يشتبه أنه من الحرام، وهذا كله من الورع، لكن أيضاً ألست تعرف أن من الورع أن تفعل ما يشتبه أن يكون واجباً، أو يشتبه أن يكون مستحباً عليك؟ فالشبيه بالمستحب أو الواجب من الورع يجب عليك أن تفعله، لكن تجدنا دائماً نحب ترك العمل! ولهذا فالورع الذي فيه ترك يمكن أن نتركه، لكن الورع الذي فيه فعل نتأخر عن فعله؛ لأننا دائماً وأبداً نتأخر إلى الوراء، ولا نرغب في أن نقوم بعمل، فهذا هو العجز كما ذكرته قبل قليل.
تجدنا نقرأ هذه الآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وننسى أن معنى الآية أن الله تعالى قد كلفنا تكليفاً شرعياً أن نعمل بكل وسعنا.
بقى لنا في موضوع الحيل النفسية موضوع التسويف وموضوع اليأس، وموضوع تعظيم الأمر أو تهوينه، وأتركها لأن الوقت ضاق.
وأسأل الله تعالى أن يجعل ما قلته سبباً إلى أن نقوم جميعاً بما أوجب الله تعالى علينا من الأقوال والأفعال، ونجاهد في سبيل الله كما أمر الله، وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق.(87/17)
انتظار المفاجآت
وبعض الإخوة من تحميلهم المسئولية على الآخرين تجد أنهم ينتظرون المفاجآت، إما مفاجآت ربانية، أي: خوارق أو معجزات أو آيات، كما ما ينتظر بعضهم المهدي أو عيسى، ونحن نؤمن بالمهدي أنه يأتي في آخر الزمان، ونؤمن بعيسى أنه ينزل في آخر الزمان، وهذا فيه نصوص صريحة، لم نؤمر شرعاً أن ننتظر المهدي ولا عيسى ولا غيرهم، حتى المجدد الذي يبعثه الله على رأس كل مائة سنة، فلم نؤمر بالانتظار، بل أمرنا أن نعمل ما نستطيع ولا نحمل المسئولية الآخرين ولا ننتظر أحداً.
كذلك بعضهم ينتظرون مفاجآت يصنعها الآخرون، فبعضهم ينتظر مفاجآت يصنعها الكفار؛ وهو أن الكفار -مثلاً- سوف يعلنونها حرباً ضروساً على المسلمين حرباً صليبية، تستثير همم المسلمين العاديين، وتدفعهم إلى القوة وإلى المشاركة، وهذا ليس بلازم، بل ينبغي أن نقوم نحن بالعمل ولا ننتظر عدونا.(87/18)
التلاوم
ومن تحميل المسئولية الآخرين: التلاوم، والتلاوم مبناه سوء الظن بالناس، فأنت تسيء الظن بالناس فتلومهم، فالقائد مثلاً يلوم المقود ويقول: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت وكما يقول بعضهم -هذا مثل عام- يقول الناس حزمة سلوخ، يعني لو شددتها بالحبل تشتت وتفرقت، إذن لا أهتم بالناس ولا أكترث بهم، أيضاً وقد يقول القائد كما قال الأول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر أما جمهور الناس المقودين فيقول قائلهم: تاه الدليل فلا تعجب إذا تاهوا أو ضيع الركب أشباح وأشباه تاه الدليل فلا تعجب إذا انحرفوا عن الصراط للات الشرك عزاه تاه الدليل فلا تعجب إذا تركوا قصد السبيل وحادوا عن سجاياه فهذا يلوم هذا، وهذا يلوم هذا، والواقع أنه في غياب القائد يجب أن نكون كلنا قواداً، وفي معركة مؤتة لما قتل القواد الذين حددهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكاد المسلمون أن يقتلوا قام رجل محتسب ثابت بن أقرم العجلاني وحمل الراية، وقال: أيها المسلمون إلي إلي!! فهي مبادرة شجاعة حتى تجمع الناس، وقال: اختاروا من بينكم، قالوا: أنت، قال: لا لست أنا لها بأهل، فاختاروا خالداً فسلمه الراية.
تجد أن البعض يقول: الناس ليس عندهم اليوم استعداد للتضحية، والناس لا يفعلون شيئاً، والناس لا يقدرون الجهود، يا أخي الآن الكفار يفعلون الكثير! والكفار يقدرون الجهود! والكفار مستعدون أن يضحوا من أجل دينهم الباطل كما رأيت الصرب الآن! وكما رأيت من قبل الروس كيف قاوموا الانقلاب الشيوعي الفاسد، وكما رأيت أمم الكفر! قامت وواجهت القوة بأجساد عارية، وبسواعد لا تملك شيئاً، ومع ذلك حققوا انتصاراً، فهل تظن أن المسلمين -وهم حسب الإحصائيات الرسمية ألف مليون- عاجزون عن أن يدافعوا عن دينهم؟! بلى والله إنهم لقادرون! لكن لو أفلح الدعاة في تحريك مشاعرهم ومخاطبتهم ودعوتهم إلى الميدان، وإقناعهم بضرورة المشاركة بكل صورها وألوانها.(87/19)
الأسئلة(87/20)
الحث على دروس العلم
السؤال
يقول: تزخر الطائف في هذه الأيام بالعديد من الدروس العلمية لنخبة من علمائنا الأفاضل، بل ومن هيئة كبار العلماء، فهل من كلمة تحث بها الشباب عامة وطلبة العلم خاصة لاغتنام مثل هذه الدروس؟
الجواب
نعم، هذه من الفرص التي ينبغي اغتنامها، خاصة المشايخ الذين لا يتواجدون في الطائف إلا في أثناء الإجازة، فينبغي أن يلزمهم الشاب، ويقترب منهم ويستفيد من علمهم، وعليه أن يتذكر الكلام الذي قلته قبل قليل، فبعض الشباب يأتي وهو يتصور أنه من خلال درس أو درسين أنه سيحصل على العلم كله، فإذا جاء مرة أو مرتين لم يواصل، لماذا؟ قال: والله الأمر طويل، ولا يدري أن العلم طويل، وأعطه كلك يعطك بعضه، ولا بد من الصبر والأناة والدأب، وأسأل الله لي ولك التوفيق.(87/21)
ضرورة اختلاط الدعاة بالناس
السؤال يقول: لاحظنا على إخواننا الدعاة الاحتكاك الضعيف بالعامة من الناس حتى من طلبة العلم؟
الجواب
ينبغي على الدعاة أن يختلطوا بالناس في مجالسهم ومجامعهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على، أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} .(87/22)
الأصل في الوسائل الإباحة
السؤال
أنا شاب أبذل جهدي في الدعوة إلى الله، وأحياناً أشارك مع إخواني بالدعوة في المراكز وغيرها، ولكن سمعت من أحدهم أن عملنا هذا بدعة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
ليست الدعوة إلى الله بدعة، والوسائل الأصل فيها الإباحة؛ فكل وسيلة إذا كانت مباحة في الأصل جاز استخدامها في الدعوة، ومن العجيب أن يتصور البعض أن الوسيلة يجوز أن تستخدم في الأمور العادية، ولا يجوز أن تستخدم في الأمور الشرعية، ومعنى ذلك أن العمل يكون حلالاً، فإذا أصلحت النية أصبح حراماً، وهذا من الغرائب والعجائب!(87/23)
الإصلاح في المؤسسات
السؤال يقول: أنا صاحب مستشفى كبير بالطائف، والمستشفى يعاني مما تعاني منه معظم المستشفيات من الاختلاط ووجود التلفاز بكل غرفة وغير ذلك، فبماذا تنصحني بارك الله فيك؟
الجواب
أنصحك أن تحرص على الاتصال بأطباء متخصصين، وتستعملهم في هذا المستشفى، وتسعى إلى إصلاح الأوضاع في المستشفى بقدر ما تستطيع شيئاً فشيئاً، ومن الممكن أن تجعل مكتباً أو مجلس إدارة هو المسئول عن كل القضايا في هذا المستشفى، ويكون له صلاحيات قوية، يتحمل المسئولية أمام الله، ثم يتحمل المسئولية أمام الناس في ذلك.(87/24)
ضرورة التربية
السؤال يقول: إن الضعف تغلغل في نفوس المسلمين إثر تربية طويلة أورثتهم تواضعاً زائفاً وخوفاً من كل شيء، وبعداً عن الجرأة، ولا يتصور إزالة ذلك من خلال جهود فردية غير متكاملة، ولذلك ما هي المقترحات على مستوى الأفراد والخطباء والدعاة.
والمدرسين والموجهين والهيئات العلمية والدعوات الإسلامية في الداخل والخارج؛ لإزالة هذا الأثر الكبير من نفوس الناس؟
الجواب
أعتقد أن من أهم الأسباب مناقشة الموضوع، لأن اكتشاف الإنسان خللاً في نفسه أو حيلة قد يجعله يتخلص منها، كما أن هذا الأمر الذي حدث نتيجة التربية الطويلة لا بد أن يزول بتربية طويلة أيضاً، فينبغي أن يكون هناك عناية من المربين أساتذة أو خطباء أو دعاة أو موجهين أو علماء، عناية بتربية الناس على الثقة بالله عز وجل ثم بأنفسهم وبإمكانياتهم.(87/25)
العمل في الأجهزة الأمنية
السؤال يقول: ما رأيك في العمل ببعض الأجهزة الأمنية التي قد تضر؟
الجواب
المهم هل أنت تعمل عملاً يرضي الله تعالى، فتحرص على أن تكون ناصحاً صادق النية حسن القصد، ولا تؤذي أحداً ولا تضر أحداً، أم أنك تستخدم وظيفتك في إيذاء عباد الله والاعتداء عليهم وكشف عوراتهم، وما أشبه ذلك؟ وإنما لكل امرئ ما نوى.(87/26)
النزول للميدان
السؤال
أنا إنسان مبتلى بالعاطفة، وأعمل جاهداً على التخلص منها، لكن هذا الداء يمنعني من النزول إلى الميدان، خوفاً من تضخم المرض؟
الجواب
ينبغي أن تنزل، وليس عدم النزول، بل العلاج هو أن تنزل، وتجاهد نفسك من خلال الميدان ولا يغلبك الميدان فتغفل عن مرضك.(87/27)
المراكز الصيفية
السؤال يقول: نرجو توجيه كلمة عن المراكز الصيفية؟
الجواب
المراكز الصيفية هي أحد أوجه النشاط في هذه البلاد وفي هذه العطل، وأنا أحث الشباب على المشاركة فيها سواء كانوا أساتذة أو مربين أو موجهين أو كانوا طلاباً، وأحث أولياء الأمور على دعوة أبنائهم إلى المشاركة في هذه المراكز لما فيها من خير عميم، والمشاركة فيها جوانب تربوية كثيرة، وتنمية لبعض مواهب الشباب.(87/28)
ضرورة التعود على الإمامة
السؤال
أنا أولى من غيري في إمامة المسجد، ولكن المشكلة تكمن في كوني حينما أقف في المحراب أصاب بزيادة خفقان في القلب، وانهيار في الأعصاب وضعف شديد؟
الجواب
هذا يمكن أن يزول بالتكرار والتعود، وإذا وجدت أن هذا الأمر استمر معك لسنوات طويلة، فنعم يمكن أن تغير طبيعة العمل الذي تقوم به، وعليك بكثرة الدعاء والاعتماد على الله والتوكل عليه.(87/29)
التطبيع
مكر اليهود وعداؤهم للإسلام والمسلمين على مر العصور لا يخفى، ووسائلهم في الدهاء والمكر لتمييع الإسلام وتضييعه أمر ظاهر لا يحتاج إلى برهان، ولما كان هذا الأمر مهماً ففي هذا الدرس بيان شافٍ وكشف فاضح لليهود وعملائهم وأشياعهم فيما يسمونه بعملية السلام (التطبيع اليهودي العربي) وهو درس مهم لكل مسلم وحصانة قوية لكل شاب تكسبه وعياً تاماً بما يدور حوله من التآمر عليه وعلى دينه.(88/1)
حقيقة التطبيع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:- أيها الإخوة: أفادني بعض الإخوة من أصحاب التسجيلات أن رقم هذا الدرس هو السابع والأربعون، خلافاً للتسلسل الذي سرنا عليه منذ عدة دروس، فلذلك تم هذا التعديل بناءً على أنني ربما أسقطت رقم أحد الدروس.
أما هذه الليلة فليلة الإثنين التاسع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة (1412هـ) وعنوان هذا المجلس هو: التطبيع، ولعل الكثير يتساءلون عن التطبيع، وماذا نعني بهذه الكلمة.
وأقول أيها الإخوة إذا أدركنا أن الحرب اليوم في العالم كله ليست مجرد حرب في ميدان السلاح والقتال، وإنما هي حرب تتعدى ذلك إلى ميادين أخرى من ميادين الفكر، والعلم، والتقنية، والتقدم، وغيرها، بل وميادين الصراع في المجالات الاقتصادية، والمجالات الزراعية، ومجالات المياه، وغيرها، وأدركنا أن مفهوم الحرب قد تطور وأصبح مفهوماً شاملاً واسعاً، فكذلك مفهوم السلام لم يعد مفهوماً ضيقاً مقصوراً محدوداً، بل هو الآخر مفهوم شامل واسع.
فالتطبيع هو مصطلح من مبتكرات الصراع العربي الإسرائيلي، يقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام، والمهادنة والتقارب بين الأطراف المتصارعة، وهو يعني: التبادل السلمي النشط في كافة المجالات.
مثلاً: - التسليم بوجود إسرائيل.
- مراجعة العقل العربي المسلم الذي يناصب اليهود العداء، تصحيح تصورات المسلمين في زعم اليهود أيضاً، تصحيح تصوراتهم عن اليهود ليفهموهم من جديد، على أنهم شعب -كما يريد لهم اليهود أن يفهموا- شعب وديع محب للسلام.
- إحداث تغيير في نمط السلوك الإسلامي حيال اليهود ودولتهم إسرائيل.
- التسليم بالمطالب الأمنية والإقليمية التي تحتم بالتالي قيام علاقات دبلوماسية وتبادل سياسي واقتصادي وسياحي، وتكامل في كافة المجالات الحيوية بين اليهود وبين جيرانهم من العرب والمسلمين.
فهذا هو المقصود بكلمة التطبيع إذاً، وهي خلفية السلام الذي يتكلمون عنه، ويكون غطاء لأمر آخر أبعد منه.(88/2)
لماذا نتحدث عن التطبيع
وهاهنا أمر آخر يطرح نفسه، لماذا نتحدث عن التطبيع؟ بل لماذا نخص التطبيع بجلسة خاصة بعد ما تكلمنا عبر أسبوعين عن السلام مع اليهود؟(88/3)
التطبيع عملية يهودية
النقطة الثالثة التي تدعو إلى تناول هذا الموضوع ومعالجته: إن عملية التطبيع عملية سعى اليهود ويسعون مع حلفائهم من الداخل، -من داخل الأمة الإسلامية- وهم كثير وخاصة ممن يتسلمون ويتسنمون مناصب القيادة والتسلط على مقدرات الأمة وخيراتها وشعوبها، أو من خارج الأمة من الشرق والغرب، سعى الجميع لتحقيق هذه العملية، وقطعوا في ذلك أشواطاً بعيده شملت ربع البلاد العربية من حيث العدد، فهناك مصر، ولبنان، والأردن، والمغرب، كلها قد شملتها عملية التطبيع، وشملت من حيث العدد السكاني نصف أو البلاد العربية، وتورطت فيها هذه البلاد وتلك، والبقية لا بد أنها في الطريق على حسب المخططات المزعومة المرسومة إذا كتب لمؤامرة السلام أن تكتمل وتتم، فمن حق هذه الشعوب المستهدفة أن تعرف ماذا يراد بها، وأن تمارس دورها المنشود في الحفاظ على هويتها الإسلامية وعقيدتها الربانية، حتى تلقى الله تعالى غير مبدلة ولا مغيرة ولا محرفة.
إننا لا نطالب هذه الشعوب أن تقوم بالمستحيل، ولا نطالبها الآن أن تحمل السلاح فربما أنها لم تدرب لهذا الأمر ولم تعد له يوماً من الأيام، ولكننا نطالب هذه الشعوب أن تحتفظ بهويتها الإسلامية، أن تحافظ على عقيدتها، أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها، وأن لا تتخلى طرفة عين عن قرآنها الذي يذكرها صباح مساء بالعداوة مع الكافر ولو تظاهر بغير ذلك، وأن لا تتخلى عن إيمانها بقول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وأن لا تتخلى عن قول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ولا تتخلى عن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] .
إننا نعجب -أيها الإخوة- في الوقت المبكر الذي نشرت إحدى الصحف الكويتية خبراً يقول إن هذه الدولة ليس لديها مانع من مشاركة بعض الشركات العالمية المتورطة في التعامل مع إسرائيل في إعمار الكويت، وأنها سوف تخفف هذه الشروط وإن لم تتخل بشكل نهائي عن المقاطعة لإسرائيل.
ونعجب أكثر حين نجد رجلاً ذا علاقة بموقع السلطة يكتب في صحيفة سيارة أيضاً، ويقول: لماذا نظل نصر على محاربة إسرائيل مع أنها أثبتت خلال حرب الخليج أنها معنا بشكل مباشر أو غير مباشر، ولماذا نظل على عدائنا لها مع الأشياء الكبيرة التي قدمتها لنا والتضحيات الجسيمة التي تحملتها في سبيل إنجاح موقفنا في حرب الخليج، إن هؤلاء لم يعد الفيصل بينهم وبين كل الناس هو القرآن والسنة فيقربون الناس أو يبعدونهم بحسب هذا أو ذاك، كلا.
بل أصبح الفيصل بينهم وبين شعوب العالم كلها هي قضية حرب الخليج، فمن كان معهم في حرب الخليج فهو أحب الناس إليهم ولو كان أكبر الكافرين وأشد الأعداء، وأشد الطغاة، ومن كان ضدهم أو على الأقل التزم بموقف ليس واضحاً في شجب العدوان العراقي فإنه يعتبر عدواً لدوداً لهم، ولا مانع لدى هؤلاء -أعني أولئك الصحفيين الذين كتبوا مثل هذه المقالات ومن كان على شاكلتهم وعلى مذهبهم- أن يستعينوا بإسرائيل ومن وراء إسرائيل ومن دونها، وأن يستعينوا حتى بالشيطان في مواجهة بعض القوى وبعض الدول التي تحالفت مع العراق، أو اتخذت موقفاً عادياً ليس مؤيداً ولا رافضاً.
ونحن نقول وبكل تأكيد: إن الدول التي وقفت مع العدوان العراقي هي دول ظالمة آثمة مهما كانت وبأي زي تزيت، وأي شعار رفعت، وهذا أمر لا شك فيه، ونحن كنا من قبل ولا زلنا نقوله ويقوله معنا كل المخلصين وكل المطالبين بالعدل، ولكن هذا لا يعني أبداً أن نتجاهل أصول العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومبادئها الراسخة من أجل موقف واحد، بل ينبغي أن يكون العدو عدواً لنا أمس واليوم وغداً، وأن يكون الصديق صديقاً لنا، وليس صحيحاً أن نظل نغير خريطة أعدائنا وأصدقائنا كل يوم بحسب متغيرات الأحوال، فيوم كانت الحرب العراقية الإيرانية مستعرة قائمة، كانت خريطة الأعداء مختلفة تماماً عما هي عليه الآن، ولما كانت حرب الخليج الأخيرة قائمة كانت الخريطة مختلفة، وأخشى ما أخشاه أن يغير هؤلاء خريطة عداوتهم يومياً فتصبح إسرائيل في نظر هؤلاء المفكرين المتقلبين وأمثالهم من الزعماء والساسة والصحفيين أن تصبح في قائمة الأصدقاء، بل ربما على رأس قائمة الأصدقاء، لماذا؟ لأنها تتميز بالقوة، ولأنها دولة ذات أهداف ومرامٍ بعيدة، ولأنه يهمها كثيراً أن تُوجد قدراً كبيراً من الانشطار، والانشقاق، والتفتيت، في الصف الإسلامي والصف العربي.
إن إسرائيل -أيها الإخوة- ومن ورائها العالم الغربي تسعى بكل إمكانياتها وقواها إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، من الناحية العقلية، والعقدية، والفكرية، ثم من الناحية السياسية والاقتصادية والحضارية، والسياحية، والعلمية، ولا يعني أن هذا حلم قد يتحقق أبداً.
فقد يقول قائل بعد سنة أو سنوات: ما كنتم تقولونه لم يجر، ونقول: هذا ما يخططونه ويسعون له بكل وسيلة، ولا يعني أنه سيتحقق، فنحن نظن بالله تعالى ظناً حسناً، ونجزم بأن الله تعالى سيحول بينهم وبين ما يشتهون، ولكن يجب أن نعلم أن من أهم وسائل إحباط هذه المخططات الوعي بها، والوعي بها لا يتم إلا بالحديث عنها وإدراكها وكشف أبعادها للخاص والعام من الناس.
أيها الإخوة: إنني أعترف إليكم بالعجز عن تناول هذا الموضوع الطويل لأسباب كثيرة، منها:- أولاً: أنه موضوع علمي إحصائي دقيق يعتمد على المعلومات والأرقام، ويعتمد على الخرائط والتواريخ التي يثقل على المستمع في مثل هذا المجلس، أو حتى على مستمع الشريط أن يتابعها بصورة جيدة.
ثانياً: ثم إن هذا الموضوع موضوع متشعب من الناحية التاريخية ومن الناحية الواقعية، ثم إنه موضوع يمس أطرافاً عديدة قد يكون تناولها أو تناول بعضها أحياناً في حساسية مفرطة من الصعب الحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي في مقدمة هذا الحديث بالإحالة إلى أهم مراجع هذا الموضوع الخطير.
فأقول: إن أهم كتاب قرأته يتناول هذا الموضوع بصورة جيدة جداً هو كتاب الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية لـ محسن عوض، وهذا الكتاب قد طبع في مركز دراسات الوحدة العربية ضمن سلسلة الثقافة القومية، هذا الكتاب بالتأكيد ليس كتاباً موثقاً من جميع النواحي، فهو يتكلم عن دور القوميين العرب، كما يتكلم عن دور الماركسيين العرب في مواجهة التطبيع، وفي مواجهة إسرائيل، ولعل له نبرة قومية واضحة.
ولكن الحقيقة أن هذا الكتاب يحفل بحشد هائل من المعلومات والحقائق والتحليلات لا أعتقد أن كتاباً آخر يحفل بها على الأقل في حدود ما اطلعت عليه، مع اختصار وجودة في لغة الكتاب، كما أن هناك كتاباً آخر اسمه التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني لـ غسان حمدان، وهناك كتب أخرى لـ جمال عبد الهادي، ورفعت فوزي عبد المطلب، وأحمد لبن، وغيرهم من الكتاب والمؤلفين.(88/4)
سبب الحديث عن السلام
الأمر الآخر الذي يدعو إلى معالجة هذا الموضوع ومناقشته، أن إدراك هذا الهدف الكبير لليهود؛ -هدف التطبيع، وهدف الهيمنة على المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية بأسرها، هذا الإدراك هو يقضي على هذه النبرة الغريبة المؤذية التي تقول: لماذا تتحدثون على السلام؟ إن السلام قضية أكبر منا ومن إمكانياتنا، إنها قضية دولية، وقضية عالمية، فلماذا لا نتحدث عنها؟ فأقول: إن السلام ليس صفقة سياسية بحتة كما يتصورون، بل هو عملية متكاملة شاملة، تبدأ من عقل الفرد المسلم، ومن قلبه أيضاً، وتستهدف تغيير العقل والقلب المسلم، واستخراج ما يسمونه بجرثومة العداوة للكافر، سواء أكان هذا الكافر يهودياً، أم كان نصرانياً، وزرع روح المحبة والمودة والسلام والوئام لكل شعوب العالم، سواء أكانوا يهوداً أم نصارى أم غير ذلك، وهذا هو المنطلق الأساسي للتطبيع كما سوف يتضح بشكل أكبر.(88/5)
التطبيع هو الهدف من عملية السلام
أقول: إنما تكلمت عن التطبيع في هذا المجلس لأسباب: منها: إن هذا التطبيع وهذا المصطلح الذي لابد أن يكون واضحاً في الأذهان، هو في الحقيقة هو الهدف الأساسي من عملية السلام، وإذا كان الأصوليون والفقهاء يقولون: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" فإن من السذاجة أن يحكم أحد على عملية السلام مع إسرائيل أو مع اليهود، أنها هدنة بين طرفين متحاربين، كما يتكلم الفقهاء عادة عن موضوع الحرب والسلام.
إنه لا يؤسفنا -أيها الإخوة- أن يتهالك على امتداح السلام وأطرافه ورموزه، بعض المنافقين والمرتزقة، فهم هكذا دائماً وأبداً وكما قيل: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لاقيت معدياً فعدنان ولا يغيظنا أن يتكلم المنافقون والمرتزقة عن السلام، وأن يمتدحوه ويتحدثوا عن رابين، وعن رموزه ويعتبرون أنهم هم أبطال الأمة العربية، وهم رجال الموقف الذين أنقذوا الأمة في أحلك المواقف وأشد الظروف، فهذا هو دأبهم وهذا هو ديدنهم.
كما لا يغيظنا أن يتكلم اليساريون والقوميون الذين كانوا بالأمس يتظاهرون أنهم أعداء لإسرائيل، لأنهم ينطلقون من موقف خدمة الاتحاد السوفيتي الذي يتظاهر بالعداء لإسرائيل من باب المناورة مع المواقف الغربية، فإذا بهم اليوم يسودون صفحات جرائدنا ومجلاتنا المحلية وغير المحلية بالكلام عن السلام المزعوم والتطبيل له واتهام معارضيه بأنهم ليسوا واقعيين بل هم خياليون، أو أنهم متاجرون بالشعارات، فهؤلاء لا نجاة منهم بحال، فإنك إن وافقتهم قالوا: هذا عميل، وهذا مؤيد لإسرائيل، وإن خالفتهم قالوا: هذا متاجر بالشعارات.
وإني لأعجب -أيها الإخوة- من هؤلاء، وقد قرأت قبل زمن مقالاً لأحد هؤلاء وهو يتكلم عن أحد رجال الفكر الإسلامي، فإذا به يصممه بوصمة وهي أنه كان مؤيداً للسلام مع إسرائيل الذي قام به أنور السادات، وإذا به اليوم هو نفسه يتكلم عن الصلح مع إسرائيل على أنه ضرورة من ضرورات المرحلة لابد منها، وعلى أن هذا الأمر لا يعارضه إلا الذين لا يدركون الحقائق ولا يدركون أبعاد الأمور.
لكننا لا نخفي أسفنا من بعض المنسوبين أو المحسوبين على الدعوة الإسلامية الذين تورطوا من قبل في تأييد خطوات السادات الخيانية حينما ذهب إلى القدس للزيارة التي ظنوها مفاجئة، ولم يدركوا ما أبعادها وما وراءها من خطط ومراحل، وهم الآن يرفعون عقيرتهم لتأييد مؤتمر مدريد للسلام، وقد كان لهؤلاء في الصمت مندوحة إذا قصرت بهم أفهامهم عن إدراك أبعاد المؤامرة ومراميها.
أما أن يتكلموا عن قضية السلام ويؤيدوها وهم يستحضرون في أذهانهم الكلام الذي يقوله الفقهاء عن الهدنة مع عدو يعتقدون أنهم لا يستطيعون مواجهته ومقاتلته، فهذا أمر في غاية الغرابة، وهل بلغ بنا الغباء، هل بلغت بنا السذاجة أن نعتقد بأن السلام مع إسرائيل الذي يتحدثون عنه هو مجرد هدنة مؤقتة تضع الحرب خلالها أوزارها لسنة أو لعشر أو حتى لخمسين سنة؟ كلا، وألف كلا! إن السلام الذي يتكلمون عنه هو عبارة عن مسخ وتغيير للعقلية العربية والإسلامية أولاً، ثم عبارة عن ترسيخ لدعائم الوجود الإسرائيلي الموجود في هذه الأرض حتى يكون منطلقاً للعلم، والحضارة، والتقدم والصناعة، والاقتصاد، بل والأمن في المنطقة العربية، بل في المنطقة الإسلامية بأسرها، هذا هو السلام الذين يتكلمون عنه وهو في حقيقته التطبيع الذي أحاول أن ألقي عليه بعض الأضواء.(88/6)
أهم أهداف التطبيع
إن هدف إسرائيل في الحرب والسلام هدف واحد، وإنها لا يمكن أن تعيش بمعزل عن جيرانها، أو في ظل مقاطعة عربية صارمة، ولا تريد الاندماج وفق الشروط العربية، ولكنها تريد أن ترغم العرب على القبول باستغلال إسرائيل لثرواتهم، أو بمعنى أصح: مشاركة القوى العالمية التي تنهب ثروات العرب النفطية وغير النفطية، فتريد أن يكون لها نصيب الأسد في نهب هذه الثروات ومشاركة القوى العالمية في نهب الثروات العربية والإسلامية.
إنها تريد القبول بالقيادة اليهودية للأمة الإسلامية سياسياً، وحضارياً، واقتصادياً وبشكل عام، فلو أجرينا مقارنه بين العمل العسكري الذي يمكن أن تقوم به إسرائيل، والعمل السلمي لوجدنا الأمر واضحاً جدا، فالعمل العسكري في متناول إسرائيل أن تقوم به، بإمكانها أن تشن حرباً أو عدواناً شاملاً على كل المحاور وكافة الأطراف، ولكن هذا العمل العسكري الذي قد تتفوق فيه إسرائيل نظراً لتفوقها في المجال الجوي وفي مجال الأسلحة الاستراتيجية وفي المجال النوعي، هذا العمل العسكري لا يمكن أن يضمن لإسرائيل حدوداً آمنة، ولا يمكن أن يضمن لها اقتصاداً نشطاً قوياً، ولا يمكن أن يضمن لها حدوداً مفتوحة مع جيرانها.
إن إسرائيل صغيرة الحجم، صغيرة الموارد، تعتمد كثيراً على ما يأتيها من الدعم الخارجي، سواء الدعم من القوى الدولية كأمريكا وغيرها، أو من دعم الأفراد اليهود والأثرياء اليهود الموجودين في العالم، وهي قليلة العدد، صغيرة المساحة، ومع صغر مساحتها فإن نصف هذه المساحة هي عبارة عن صحراء جرداء قاحلة، ويكفي أن تعلم في قلة موارد إسرائيل أن حجم البترول والغاز الذي تستخدمه إسرائيل من أرضها لا يعادل إلا (1%) مما تستخدمه، ومعنى ذلك أنها تستورد (99%) من الطاقة النفطية والغاز من الخارج، فضلاً عن المشكلات المائية التي قد تواجهها إسرائيل عام (2000م) كما تقول كثير من التحليلات والدراسات الغربية والإسرائيلية، ولذلك تدرك إسرائيل أن مشكلتها لا يمكن أن تحل عن طريق الحرب والعمل العسكري بأي حال من الأحول، ولا يمكن أن تحل إلا عن طريق العمل السلمي، ولهذا سعت إسرائيل إلى عملية التطبيع، لضمان أهداف عديدة منها:(88/7)
الهدف الأول: كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود
بحيث يتقبل المسلمون وجود إسرائيل كما يتقبلون وجود أي دولة أخرى إسلامية غير عربية، أو حتى غير إسلامية مثل تركيا وإيران وأثيوبيا وغيرها، ومثلما تقبلوا أي دولة ذات أقلية في المنطقة.(88/8)
الهدف الثاني: إلغاء المقاطعة العربية
فقد أفقدت هذه المقاطعة اليهود إلى حد ما مزايا التعامل التجاري مع جيرانها العرب، ويقدر بعض الخبراء خسائر إسرائيل من جراء القطيعة بينها وبين العرب في الحدود بأكثر من عشرة بالمائة من الناتج القومي، وهذا يعتبر عبئاً على الاقتصاد الإسرائيلي.(88/9)
الهدف الثالث: تهيئة الظروف لاستقبال ملايين آخرين من اليهود
وذلك من خلال توفير واستثمار مصادر المياه الضرورية للحياة وللزراعة في إسرائيل، ومن ذلك -مثلاً- تصريف مياه نهر الأردن فقد سعت إسرائيل منذ زمن بعيد إلى الاستفادة من مياه نهر الأردن، بل وبيع مياه نهر النيل التي أعلنها رئيس مصر السابق، فقد أعلن في أكثر من مناسبة الاستعداد لبيع كمية من مياه نهر النيل إلى إسرائيل، وقد بدأت دراسات وبحوث لمثل هذا الأمر ربما توقف العمل بها لظروف خاصة، ولكن يبدو أن هذه الخطة كانت من ضمن الخطط الأساسية المدروسة بين مصر وإسرائيل.(88/10)
الهدف الرابع: إزاحة العقبات التي تكذر الحياة اليهودية
وذلك تمهيداً لتحقيق الحلم الكبير بإسرائيل الكبرى، وأرض الميعاد، فمثلاً يجب أن نعلم أن عدد اليهود الذين يقطنون في إسرائيل إلى الآن أقل من (30%) من يهود العالم، واليهود يحاولون تهيئة إسرائيل لاستقبال اليهود من العالم كله تمهيداً لإقامة الحلم الكبير بإسرائيل الكبرى، وذلك يستدعي ضرورة ضبط الوضع الأمني والاقتصادي في إسرائيل.(88/11)
الهدف الخامس: فتح مجالات وآفاق جديدة للتعاون بين الأصدقاء الجدد
وأعني بذلك: إسرائيل وجيرانها، وذلك في مجالات الطاقة وإقامة المشاريع المشتركة مثل مصانع البتروكيماويات، والتنقيب عن النفط واستخراجه، وإلغاء العقوبات ضد الشركات والسفن التي تزود إسرائيل بالنفط، خاصة أنها لم تعد من الدول المنتجة للنفط -أعني إسرائيل- خاصة بعد تسليمها سيناء إلى مصر.(88/12)
مجالات ووسائل التطبيع
يشمل التطبيع مجالات عدة كما هو ظاهر، وهو بالدرجة الأولى يشمل المجال الديني، والثقافي، والفني، أي مجال تغيير العقليات العربية والإسلامية للقبول بإسرائيل كواقع لا بد من الاعتراف به، وإزالة خلفيات الصراع العقلية لدى المواطن العربي المسلم.
إن الآلة المباشرة للتواصل بين الشعوب هي المجالات الثقافية، والفنية، والإعلامية، ولا بد من تغيير قناعاتها ضد إسرائيل، والصراع من المعروف أنه يوجد في وعي الشعوب قبل أن ينتقل إلى الواقع، والمطلوب ببساطة في نظر اليهود هو نزع العداء من العقل المسلم استكمالاً لنزع السلاح من اليد المسلمة، وهذه عند اليهود ليست مهمة مستحيلة، بل هي مهمة ممكنة وإن كانت صعبة، فإذا كان العداء الموجود في عقل المسلم يأتي عن طريق التعليم فيجب تغيير مناهج التعليم وإزالة كل الأسباب التي تغرس العداء في عقل المسلم عن اليهود.
وإذا كان هذا العداء يأتي عن طريق الإعلام، فيجب صياغة الإعلام ورسم سياساته بما يضمن وجود قدر من التفاهم بين شعوب المنطقة، وقدر من الإيمان والقناعة لدى المواطن والفرد العادي بإسرائيل وحقها بالعيش بسلام ضمن دول المنطقة.
وإذا كانت الحقائق التاريخية الماضية هي التي تشوه الصورة وتغرس في العقل العربي والمسلم العداء لليهود؛ فإنه من الممكن تصفية الأحقاد عن طريق تجاهل الحقائق التاريخية الماضية ونسيان السيرة النبوية ونسيان كيد اليهود للأمة الإسلامية عبر التاريخ، والتركيز على ما يمكن أن يعتبروه من الجوانب الإيجابية مثل وجود يهودي في بلاد الأندلس، أو في المغرب، أو في المشرق كان طبيباً له دور في تنمية الطب في هذا البلد أو ذاك، أو وجود مغنٍ يهودي أو تاجر يهودي، أو ما أشبه ذلك.
إن اليهود يضربون المثل بألمانيا وفرنسا، فيقولون: إن ألمانيا وفرنسا خاضت حروباً طويلة قبل الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك فقد ذابت العداوة بينهما، وأصبحت فكرة نشوب حرب جديدة بينهما لا تخطر في بال أحد من الناس، كما يضربون كذلك مثلاً بأمريكا واليابان، حيث خاضتا حرباً شاملة من (1941م - 1945م) واستخدمتا أكثر الوسائل قتلاً وفتكاً، وهاهما الآن حليفتان ليس بينهما حرب ولا يخطر في بال أحد -فيما يظنون- أن تقوم بينهما حرب، بل إن شعوب أوروبا المتناثرة المتناحرة لمئات السنين؛ هاهي الآن قضت على مشاعر العداء بشكل حاسم دون أن تطمس الخصائص الثقافية والوطنية لكل دولة من هذه الدول.
إن اليهود يجهلون، بل يتجاهلون الفرق بين حرب كانت هي السبب في العداوة وبين عداوة كانت هي السبب في الحرب، فإن العداوة بين أمريكا واليابان أو بين دول أوروبا كان سببها الحرب، والخلاف على المصالح، أما الخلاف بين المسلمين وبين اليهود فهي سبب الحروب، وليس سبب العداوة بيننا وبين اليهود أننا خضنا معهم حرباً، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المرعى، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المياه، ولا سبب الصراع بيننا وبينهم الصراع على أشجار الزيتون في فلسطين كلا بل سبب العداوة بيننا وبين اليهود وغير اليهود أننا مسلمون وهم كفار، ونحن ننطلق من هذا المنطلق، ونقول كما قال سيد الحنفاء إبراهيم عليه السلام ومن كان معه: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] .
إذاً: القضية بيننا وبين خصومنا من اليهود وغيرهم ليست قضية اقتصادية ولا قضية أرض ولا قضية مياه، وإنما القضية بيننا وبينهم هي قضية العقيدة، وقضية الدين، وقد فرق الإسلام بيننا وبينهم ولذلك فرق الإسلام من قبل بين العربي وأخيه العربي، بل فرق الإسلام بين القرشي وأخيه القرشي، بل فرق الإسلام بين الأخ وأخيه الشقيق.
كم أب حارب في الله ابنه وأخ حارب في الله أخاه وكان المسلم يقول لأخيه: كذبت لست أخي فرق الإسلام بيني وبينك.
إذاً: القضية بيننا وبين اليهود ليست قضية صراع دنيوي، إنما هي قضية صراع ديني، وكل مظاهر الصراع الدنيوي هي أثر من أثار ذلك الصراع والخلاف الديني، الأساسي والجوهري بيننا وبين اليهود.
ولذلك نقول: إن الأمر بيننا وبين اليهود لا يُعبر ولا يمكن أن يقام عليه جسر بأي حال من الأحوال ما داموا على ما هم عليه من الكفر والضلال، ويدخل في هذا الخندق مع اليهود كل الكفار سواء أكانوا من الغرب أم من الشرق، أم حتى من العرب الذين هم عرب في ألفاظهم وكلماتهم وخطبهم النارية الرنانة ولكنهم يهود في قلوبهم، ويهود في عقولهم، ويهود في أفكارهم: ألفاظهم عرب والفعل مختلف وكم حوى اللفظ من زور ومن كذب إن العروبة ثوب يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب واحسرتاه لقومي غرهم قَرِم سعى إليهم بجلد المنقذ الحدب حتى إذا أمكنته فرصة برزت حُمد المخالب بين الشك والعجب وأعمل الناب لا شرع ولا خلق في الجسم والنفس والأعراض والنشب وحارب الدين والإسلامُ قاهرُه وكم خلا مثله في سالف الحقب لكن اليهود لا يعقلون، ومن وراء اليهود، ومن أمامهم، وعملاؤهم في المنطقة العربية أيضاً لا يعقلون، ولهذا يتصورون أنه بالإمكان نزع فتيل العداوة لليهود، وأن بالإمكان أن يتغير قلب المسلم، فيحل محل العداوة والبغضاء لليهود، شامير، وعزرا، وحاييم وأمثالهم يحل محل العداوة والبغضاء الحب والرحمة والإنسانية والعطف واللطف، ومحال أن يكون هذا في قلب يخفق بلا إله إلا الله، محال أن يكون هذا بعقل يؤمن بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة, وأن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، محال أن يوجد هذا في قلب المسلم الذي يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ معارك الإسلام مع اليهود، ويعرف قضايا خيبر وبني قينقاع وبني النضير وأمثالهم، ويدرك خطط اليهود عبر مراحل الخلافة الإسلامية، وماذا كادوا للإسلام، وماذا خططوا! إن المسلم حتى وإن كان أميّاً بسيطاً ساذجاً حتى ولو كان قروياً حتى ولو كان راعي إبل أو غنم يدرك أن اليهودي عدو له، وأن هذا اليهودي وإن كان مؤدباً في مظهره، وإن ملأت الابتسامة وجهه، وإن تأدب في عباراته وأحاديثه، وإن كتب الكلام الجميل، وإن نطق بالعبارات الحلوة إلا أن قلب هذا اليهودي مملوء ببغض المسلمين، يعرف المسلم هذا بشكل لا يحتاج إلى نقاش، ولا يقبل عنده النقاش، كما يعلم المسلم علم اليقين أنه ليس مسلماً قط إذا تخلى عن بغض الكفار، فإن كلمة: لا إله إلا الله التي هي عتبة الدخول في الإسلام هي نفي وإثبات، فهي تنفي الألوهية عن غير الله وتثبتها لله، لا معبود بحق إلا الله، وكذلك تبعاً لهذا تنفي أن تكون المحبة لغير المسلمين، فتعني نفي الحب عن جميع الكفار من اليهود والشيوعيين والنصارى والوثنيين وغيرهم، وتثبت المحبة لأهل الإسلام حتى ولو قصروا في حقك، حتى ولو ظلموك، ولو بخسوك، ولو أساءوا إليك يبقى حبهم ليس من باب المصلحة الدنيوية ولكن من باب الحب الديني.
أما أولئك الأعداء من اليهود والنصارى فيبقى بغضهم وعداوتهم حتى ولو أحسنوا إليك، حتى ولو تظاهروا بألوان المودة والقرب؛ فإنهم يبقون أعداء يبغضهم المسلم من منطلق أنه مسلم وهم كفار، لا يجتمع الإسلام وحب الكفار في قلب واحد أبدا، لكن اليهود وأعوانهم يعتقدون أن بإمكانهم إخراج هذه العداوة من قلب المسلم، ويعتقدون أن مناهج التعليم، ومناهج الإعلام، وتزوير الحقائق التاريخية كفيل بإزالة هذه العداوة من قلوب المسلمين.
أيها الأحبة: إنه في الوقت الذي يتكلم فيه اليهود عن التطبيع، وعن إزالة العداوة من قلوب المسلمين فإنهم لا يمكن أن يتقبلوا بحال من الأحوال أن يتجاهل أي مسلم الأساس العقائدي الديني لدولة اليهود، فإنها لم تقم على أساس عرقي بحت، ولا على أساس سياسي أو جغرافي، إنما قامت إسرائيل على أساس ديني، ويقول بعضهم: ليس اليهود هم الذين حفظوا التوراة، ولكن التوراة هي التي حفظت اليهود، فعقيدة دولة إسرائيل هي رخصة تسمح لهم بالتوسع وطموحات المستقبل، وهي مستند الشرعية لأعمال العنف والإبادة الجماعية التي يقومون بها، وهي مسوغ ضم القدس والجولان، واللعب بالخريطة الجغرافية في المنطقة كل يوم، فهذه حدود آمنة لإسرائيل وهذه حدود تاريخية، وهذه حدود يمكن الدفاع عنها، وهذا نطاق أمن لإسرائيل، وهذه أرض مشى فيها الأسباط الإثنا عشر إلى آخر هذه المصكوكات الدموية، ومن غير هذا يمكن أن تتلوث ثياب بني إسرائيل وأيديهم وقلوبهم من حمامات الدم التي أجروها أنهاراً في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغيرها.(88/13)
مرتكزات العقيدة اليهودية
إن هذا ليس جناحاً متطرفاً في إسرائيل، ولكنه إجماع فكري، يلتف حوله المخططون كلهم ويقومون بتنظيره من خلال مراكز البحوث العلمية في إسرائيل.
وتدور هذه العقيدة اليهودية الراسخة حول النقاط التالية: أولاً: ضرورة تبادل المعلومات والثقافة، وتقوية الصلة الإنسانية بين كافة الأطراف.
ثانياً: مراجعة البرامج الدراسية وتحديد ما يجب حذفه من تلك البرامج وما يجب إضافته.
ثالثاً: دراسة البرامج المتبادلة في وسائل الإعلام.
رابعاً: إزالة المفاهيم السلبية في عقائد المسلمين تجاه إسرائيل.
وبذلك ندرك أن المحور الأكبر للصراع بين المسلمين وإسرائيل هو الإسلام، وإسرائيل تدرك ذلك حقاً، وتسعى جاهدة إلى نزع هذا من قلوب الناس.(88/14)
الإسلام مصدر كراهية المسلمين لليهود
إن الإسلام هو مصدر كراهية المسلمين والعرب لليهود أو ما يسمونه باللاسامية العربية، يعني العداء لليهود، فهم يدركون أن الإسلام هو مصدر الكره لليهود من خلال أربع نقاط: أولاً: تأسيس إسرائيل يناقض الفقه الإسلامي الذي يتعامل مع اليهود على أنهم أقلية وأهل ذمة، فإن الكتب الإسلامية كلها تتكلم عن معاملة اليهود من منطلق أنهم أهل ذمة أو أقلية، أو ما أشبه ذلك، ولا يمكن أن يقبل المسلمون باليهود كدولة قائمة مستقلة بذاتها.
ثانياً: أن القاعدة الشرعية تمنع الصلح مع اليهود أو مع غيرهم على أرض حكمها المسلمون ثم استولى عليها غير المسلمين من اليهود أو من غير اليهود.
ثالثاً: إن الإسلام والقرآن والسنة النبوية فيها حديث مفصل عن اليهود وعداوتهم لله عز وجل وللملائكة وللأنبياء والمرسلين وللمسلمين، وأي مسلم يؤمن بهذا لا بد أن يحمل شعور العداوة والكره لليهود.
رابعاً: إن الإسلام يربط المسلمين بالقضية الأساسية -القضية الفلسطينية- وذلك من خلال ترديد قضية المسجد الأقصى وقداسته ومدينة القدس، والأرض المباركة التي بارك الله فيها وبارك حولها: مسرى الرسول وأولى القبلتين بها واحر قلباه ماذا للفخار بقي عيناي ويل الهول صورته في أدمعي حيث ما يممت من أفق مالي أرى الصخرة الشماء من كمد تدوي وعهدي بها مرفوعة العنق ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحبو الدنا من طهره الغدق واليوم دنسه فُجْر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفَسِقِ وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفي على الغرق لو استطاع لألقى نفسه حمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق وولت الكعبة الغراء باكية وغُمّ كل أذان غمة الشرق إذاً: الإسلام -دائماً- يربط المسلمين بقضية المسجد الأقصى، قضية الأرض المباركة التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، الأرض التي بارك الله حولها، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] وفي آيات آخري كثيرة.
خامساً وأخيراً: إن مدلول الجهاد في الإسلام هو مصدر من مصادر التعبئة ضد أعداء الدين بما في ذلك اليهود.
إن الدعوة إلى حرب مقدسة هو أعظم خطر يمكن أن تسمع به إسرائيل، ولذلك عززت إسرائيل دراسة هذه المفاهيم فكتبت دراسات وكتباً وبحوثاً كثيرة في جامعاتها عن خطر الإسلام، وتأثير الإسلام على عقلية المسلم، أو عقلية العربي.
فمثلاً: هناك كتاب لأحد اليهود اسمه: أثر الفكر الإسلامي في الصراع ضد الصهيونية، وهذه عبارة عن أطروحة دكتوراه في جامعة تل أبيب، وهناك أطروحة أخرى في معهد: أترومان لأبحاث السلام في الجامعة العبرية في إسرائيل اسمها: أثر الإسلام في السياسات الإفريقية في الماضي والحاضر، وهناك دراسة ثالثة اسمها: دور الإسلام كعنصر من عناصر الصراع العربي، وهذا عبارة عن بحث في وحدة الشرق الأوسط للسلام في إسرائيل.(88/15)
السعي اليهودي لتمييع الإسلام في المجالات المختلفة
أيها الإخوة: حين نقول هذا؛ فإننا لسنا بذلك نقصد أن نبدي تخوفنا على الإسلام من اليهود، إن الإسلام عاش أربعة عشر قرناً من الزمان، يواجه حملات التشكيك من النصارى واليهود، حملات عسكرية، وحملات اقتصادية، وحملات سياسية، وحملات فكرية في الداخل والخارج، وحروباً ضارية ضروساً على مدى قرون، وحملات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، ومع ذلك ظل الإسلام شامخاً برأسه، يقاوم الأعادي، وليس أحد يجهل دور اليهود في الحرب ضد الإسلام، سواء كانت حرباً عسكرية يجندون لها النصارى والأوباش من كل مكان، أو كانت حرباً تشكيكية من خلال ما زرعوه في كتب الإسلام من الإسرائيليات، أو كانت حرباً مذهبية من خلال المذاهب التي غرسوها في تاريخ الإسلام، أو كانت حرباً لتمزيق المسلمين من الداخل، ولا أحد يجهل ذلك، ومع ذلك كله ظل الإسلام شامخاً قوياً.(88/16)
المجال الإعلامي والتعليمي
هناك نقاط كثيرة لكن أرى أن الوقت لا يتسع لها فأرى أن أشير إلى عناوينها، فمن النقاط المهمة الباقية، هناك جوانب مهمة في قضية التطبيع مثل: قضية التطبيع في المجال الإعلامي والتعليمي.
وهناك قضية أن التطبيع عبارة عن استراتيجية أمريكية، وهذه قضية مهمة جداً، وخلاصتها أن هذه العملية التي يقوم بها اليهود ليست مجرد مناورة من اليهود، وإنما يقف وراءها الغرب، وتقف وراءها أمريكا، وأمريكا قد أعدت عدة جهات، منها شبكة أبحاث الشرق الأوسط، وهي أداة للسيطرة والتطبيع وتذليل العقبات، ومنها أيضاً جهات ومؤسسات أخرى.(88/17)
المعونات الأمريكية للعرب
المعونة التي تدفعها أمريكا للعرب هي معونة مشروطة، والمقصود منها أن تساهم في التطبيع وتكون إطاراً يربط الاتجاهات الموالية للسياسة الأمريكية، ويعزز الأهداف المقصودة.
ولذلك تشير بعض المصادر الأمريكية إلى أن مشروعات التعاون الإقليمي تضمنت بحوثاً مشتركة في مجال زراعة الأراضي القاحلة، والعلوم البحرية، والأمراض المعدية، وأنواع الأعلاف المغذية إلى غير ذلك، وقد عقد مؤتمر موسع في واشنطن شارك فيه خمسون عالماً مصرياً وإسرائيلياً بدعوة من الوكالة الأمريكية للتنمية، لتدارس ما تم تحقيقه من أوجه التعاون بين العلماء اليهود والمصريين في فترة ست سنوات وفقاً لبرنامج التعاون في الشرق الأوسط الذي أقره الكونجرس.
المهم أن التطبيع هو عبارة عن استراتيجية وخطة أمريكية والكلام في هذا يطول.(88/18)
المجال الاقتصادي
أولاً: المجال الاقتصادي.
إن من الضروريات في نظر اليهود لتعزيز السلام، هو تدفق السلع التدفق الحر من إسرائيل إلى البلاد والأسواق العربية، ومع تدفق السلع تدفق الأفكار، فهاتان هما الدعامتان القادرتان في نظر اليهود على تعزيز السلام، وفي دراسة في إسرائيل عنوانها: الشرق الأوسط عام (2000م) قامت بها رابطة السلام في تل أبيب، أجرت هذه الدراسة في عام (1970م) وهي دراسة مستقبلية عن التوقعات لما تكون عليه الأحوال في ذلك الوقت، وقد قام بها دارسون من اليهود متعددون، وتوقعوا أن تقوم سوق شرق أوسطية مشتركة بين اليهود والعرب، أو على الأقل أنه سوف تقوم سوق لدول البحر الأبيض المتوسط، وتنبئوا بأن إسرائيل سوف تستحوذ على النصيب الأكبر في إدارة هذه السوق بين دول المنطقة، بل وسوف تعتبر قلب المنطقة ومركز إدارتها، وأساس تطورها في المجالات الاقتصادية ومجالات البحوث العلمية.
وأغرب من ذلك وأكثر أن هذه الدراسة تنبأت بأن دول المنطقة سوف تتخصص في المستقبل في ضوء المزايا الإنتاجية، فمثلاً تتخصص مصر في إنتاج الصناعات التحويلية، والهندسية وصناعة السيارات والصناعات المعدنية، وتتخصص سوريا في صناعة المنسوجات والمواد الغذائية، والصناعات الاستهلاكية، ويتخصص العراق وبلدان الخليج في الصناعات البتروكيماوية، ويتركز نشاط لبنان في مجال الخدمات.
أما إسرائيل فسوف تتخصص في الصناعات الإلكترونية الرفيعة المستوى، والمركبات الحديثة، وإنتاج آلات الحساب المتطورة، والأجهزة الطبية، والكيماويات المتطورة، والآلات الهندسية والكهربائية، والصناعات الحديثة المعتمدة على التحكم المركزي، والتسيير الذاتي، ويقوم التطور المستقبلي على أساس تزاوج الخبرة التكنولوجية الإسرائيلية، مع فائض رأس المال العربي، ومع الموارد العربية الوفيرة بما فيها العنصر البشري، من أجل تحقيق تطور اقتصادي سريع، ومكاسب مشتركة للطرفين.
إذاً: الدراسة تنظر إلى المنطقة على أنها منطقة موحدة، حتى أن هناك طرحاً الآن لإدخال إسرائيل ضمن جامعة الدول العربية، أنا لا أقول: إن هذا طرح على المستوى الرسمي.
لكنه طرح لبعض المثقفين العرب، فهو يقول: ما هو المانع من إدماج إسرائيل ضمن الأمة العربية وإدخالها في جامعة الدول العربية؟ إلى هذا الحد بلغ بهم المستوى!! ومن الأشياء التي تحلم بها إسرائيل من جراء مثل هذا التعامل الاقتصادي: - إقامة مشروعات بين إسرائيل ومصركالمشروعات المحتملة والتي بدأ بعضها فعلاً.
- تنمية النفط والمعادن في سيناء.
- بيع مياه نهر النيل لإسرائيل لتنمية المناطق الجرداء في جنوب إسرائيل.
- إمكانية إقامة مشروعات مشتركة بين إسرائيل والأردن في مجال التعدين في البحر الميت، إمكانات التعاون في تسويق وإنتاج الفوسفات.
- تنمية خطوط سكك الحديد.
- تعاون بين ميناء إيلات، والعقبة.
- كما أنه يحتمل إحياء مشروعات الاستغلال المشترك لمياه الأردن والتي حاولها الرئيس الأمريكي إيزنهاور من قبل.
وفي لبنان يمكن أن يستغل اللبنانيون كفاءتهم، وعلاقاتهم، واتصالاتهم في التجارة، وبالذات في الوطن العربي، لتسويق المنتجات الإسرائيلية في الدول التي تتجاهل المقاطعة العربية لإسرائيل، كما يمكن التعاون مع لبنان في مجال المصارف والمال أيضاً.
وهناك على كل حال مجالات واسعة للتعاون في مجال الاقتصاد بين مصر وإسرائيل، وبين إسرائيل والأردن، وبين إسرائيل ولبنان، وبين إسرائيل وبقية الدول العربية، والكلام في مثل هذه المجالات يطول، وأترك بقية الكلام وأنتقل إلى المجال الآخر وهو المجال الأمني.(88/19)
المجال الأمني
إن إسرائيل تسعى من هذه الوحدة الاندماجية وهذا التطبيع إلى توسيع نطاق التجسس، ولا شك أن السفارات الإسرائيلية في مصر وغيرها هي عبارة عن أوكار للتجسس وقد ثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، كما تسعى إسرائيل إلى إقامة صلات قوية مع أجهزة الأمن في مصر والأردن والتبادل الاستراتيجي بينها، ولعل من الطريف أن إحدى البلاد العربية -هذا ذكرته مصادر لا بأس بها- زودت إسرائيل بمحاضر ووثائق اجتماع على أعلى المستويات عُقدت في ذلك البلد، فقامت بتصوير محاضر ذلك الاجتماع على مستوى القمة وزودت بها إسرائيل لتستفيد منها في مجال رسم سياساتها.
إن إسرائيل وبعض هذه الأنظمة تعتبر أن هناك عدواً مشتركاً، وهذا العدو المشترك هو ما يمكن أن يعبروا عنه جميعاً باسم الأصولية، فالأصولية الإسلامية هي العدو المشترك لليهود ولكثير من العرب الذين ضلوا وأصبحوا الآن مع اليهود في خندق واحد، ولهذا لا غرابة أن تتعهد عدد من الدول التي لها حدود مع إسرائيل بحماية حدودها، ومنع التسلل إليها، بل تتعهد بأكثر من ذلك، فهي تتعهد بمحاربة كل من يقف ضد عملية السلام ومحاكمته، ومنع إقامة أي حزب -في بعض هذه البلاد التي تسمح بقيام الأحزاب- إلا بعد أن يعترف بمعاهدة السلام ويؤمن بها على أنها ضرورة لا بد أن يقتنع بها من قبل.
إنني أقول قبل أن أغادر هذه النقطة: إننا نعلم جيداً أن معظم الشعوب الإسلامية والعربية لا يمكن أن ترضى بهذا أو تقر به بحال من الأحول، وهذه هي المسألة الوحيدة الكفيلة -بإذن الله- بإحباط كل محاولات اليهود وأصدقائهم من العرب.
وهي أن الشعوب العربية في مصر والشعوب المسلمة في لبنان، وفي سوريا، وفي الأردن، وفي المغرب وفي كل بلاد الدنيا لا يمكن أن تقر بمثل هذه الأمور، ولا يمكن أن ترضى بها ولا يمكن أن تحول روح العداء من العداء لليهود إلى العداء لإخوانهم المسلمين، إلى العداء لمن يسمونهم بالأصوليين وهذا هو ما يحاوله الإعلام العربي اليوم، وتحاوله -أيضاً- وسائل الأمن العربية اليوم، وهي تتحالف مع اليهود في مكافحة الأصولية، وفي مكافحة الإرهاب وغير ذلك من الأسماء.
والحقيقة أن الأمر ربما يتعلق بمكافحة ظواهر الدعوة الإسلامية، وفي الوقت الذي يتمتع اليهود فيه بسياحة آمنة في مصر ولبنان والأردن والمغرب، نجد أن عدداً كبيراً من المسلمين والدعاة وطلبة العلم والمخلصين وأصحاب اللحى يزج بهم في غياهب السجون في تلك البلاد وغيرها، ويعتبرون مجرمين: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] وما ذنبهم إلا أنهم يرفضون معاهدات السلام والاستسلام، ويرفضون محبة اليهود ومودتهم، ويصرون على التمسك بدينهم وعلى الالتزام بشريعة ربهم مهما بذلوا في سبيل ذلك من التضحيات.
إذاً: هناك محاولات كبيرة بين إسرائيل وحلفائها لتوحيد الجهود الأمنية في مقاومة هؤلاء، وتبادل المعلومات، ولا مانع في المستقبل من تبادل المجرمين أيضاً، ومعروف من هم المجرمون؟! إنهم ليسوا مجرمي المخدرات، وإنما هم مجرمون من نوع خاص يعرفهم الجميع!(88/20)
التواصلات الفكرية والسياسية والثقافية
مع التغيير العقدي للمسلمين، -تغيير العقول وتغيير القلوب، وتغيير الثقافة الإسلامية- تسعى إسرائيل أيضاً إلى إيجاد مجالات للتواصل مع بعض التيارات الفكرية والسياسية في المنطقة العربية من منطلق التخصصات -مثلاً- أو المهن، أو الهموم المشتركة، فالأطباء يلتقون بالأطباء، والفنانون يلتقون بالفنانين، والبرلمانيون يلتقون بالبرلمانيين، وهكذا تسعى إلى إيجاد روابط فكرية وسياسية وثقافية مع نظرائهم في المنطقة العربية.(88/21)
السعي إلى إقامة تحالفات الأقليات في المنطقة
وكذلك تسعى إلى تحالف محتمل مع الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة؛ فمثلاً اليهود يسعون إلى استغلال النصارى في المنطقة، وأبرز مثال لذلك هو النصارى في لبنان فقد استطاعت إسرائيل أن تجندهم لمصلحتها، وكذلك حزب الكتائب وغيره في ذلك على حد سواء.
ولذلك استطاعت إسرائيل أن تعبث بلبنان كما يحلو لها، واستطاعت أن تقضي على المسلمين من الفلسطينيين وغيرهم، والمثال الآخر لتحالف إسرائيل مع النصارى هو: تحالفها مع نصارى الجنوب في السودان، فإن إسرائيل تدعم الثورة في الجنوب -ثورة جون قرنق وغيره- دعماً بلا حدود، خاصة في الظروف الحاضرة وبعد وجود دولة في السودان ترفع شعار الإسلام، وبغض النظر عن أي شيء آخر في تلك الدولة؛ إلا أنها تنظر إليها إسرائيل على أنها جزء من الأصولية العربية التي ينبغي أن تحاربها، ولهذا لا غرابة أن تستميت إسرائيل ويستميت حلفاؤها من العرب أيضاً في دعم الثورة النصرانية في جنوب السودان.
كما تسعى إسرائيل إلى إقامة علاقة مع الدروز سواء في الجولان أو في غيره، وتسمح لهم في الانخراط في الجيش الإسرائيلي، وتعطيهم جنسيات إسرائيلية، وتسعى إلى تغيير عقولهم، وقد وجدت منهم تجاوباً كبيراً في ذلك، وحاولت إسرائيل أن تستغل الشيعة في لبنان بشتى المحاولات، وربما أن نجاحها في هذه المجالات أقل من نجاحها في المجالات الأخرى.
إذاً القضية الأولى والكبرى في قضية التطبيع هي أن إسرائيل تسعى إلى تغيير العقل والقلب العربي والمسلم لاستخراج روح العداوة والبغضاء لليهودي والكافر يهودياً كان أو نصرانياً، وإحلال روح المحبة والتعاطف والإنسانية محلها، وهذه القضية يجب أن نعيها جيداً لأنها تتعلق بلب العقيدة وبصلب العقيدة، فإنني لا أعتقد أن مسلماً واحداً فضلاً عن داعية، فضلاً عن طالب علم، فضلاً عن عالم، يمكن أن يقول: إننا نستطيع أن نجلس مع اليهود على طاولة واحدة للمفاوضات في مثل هذه القضية، فقضية البغضاء لليهود قضية لا مساومة عليها، حتى لو انتصر اليهود، وزادت قوتهم، وملكوا السلاح والإمكانيات، فهذا كله شيء؛ لكن بقاء العقيدة الربانية في قلب المسلم التي تحمله على بغض اليهودي والكافر ولو كان يذبحه الآن، فهذه القضية لا يمكن المساومة عليها بأي حال من الأحول، وأول ما يهدف إليه التطبيع هو استخراج هذه العقيدة وإزالة روح العداء لليهود.
وهناك مجالات أخرى تكون تبعاً لذلك، ولعلي لا أستطيع أن أشير إلا إلى أقل القليل منها، ولعل عزائي في ذلك أني أسلفت قبل قليل أن ثمت مراجع يمكن الاستفادة منها.(88/22)
تغيير العقل العربي وتوحيد الأديان
إن المشكلة التي نعانيها الآن، والتي يجب أن نعيها جيداً: أننا لسنا بصدد مجرد تنظير من اليهود للحرب ضد الإسلام، أو نزع فتيل العداوة من قلوب المسلمين ضد اليهود! بل نحن الآن بصدد مخططات للنفاذ والتأثير، وهي مخططات التطبيع والمطالبة بالتبديل والتغيير في معتقداتنا وعقولنا وإعلامنا وتعليمنا، فلم تعد مجرد نظريات، أو أفكار، أو دراساتٍ، أو بحوث، أو أطروحات، بل أصبحت عبارة عن أشياء، فتجتمع المؤتمرات في مدريد وغير مدريد، بل وقبل ذلك في كامب ديفد، وفي لبنان وفي بلاد المغرب، وفي الأردن، تجتمع لتتكلم عن سبل التنفيذ، ولترسم المخططات التفصيلية، ولتبدأ عملياً وتناقش أولاً بأول ما تم تنفيذه من هذا.
إذاً: القضية لم تعد مجرد نظريات أو مخاوف، بل أصبحت أموراً يسعون إلى تنفيذها واقعياً بشكل كبير، إن هذا التخطيط الإسرائيلي تجاه القضية الإسلامية قد اتخذ أنماطاً متعددة بدأت بتوجيه جهد مركز لتأسيس علاقات مع جامعة الأزهر، وإجراء ما يسمونه بحوار ديني على المستوى الشعبي، ويمكن أن يشار بهذا الصدد إلى المؤتمر الذي يسمى: مؤتمر التوحيد بين الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام، وقد عقد هذا المؤتمر أول مرة في مدينة القدس عام (1979م) ، وشارك فيه من الجانب المصري مجموعة بدعوة من معهد إسبن الأمريكي للدراسات، ومؤتمر وحدة الأديان الذي عقد في إحدى المدن في أمريكا.
وبعد ذلك عقد مؤتمر في سيناء عام (1984م) ، وضم يهوداً ومسيحيين ومسلمين، وقام الجميع بأداء صلاة مشتركة من كل الأديان، وهي عبادة عن صلاة موحدة يقوم بها المسلمون واليهود والنصارى في وقت واحد، وعلى حد سواء، إضافة إلى مؤتمر يسمونه مؤتمر النساء المقدسيات -بل هو مجموعة من المؤتمرات بالأصح- قامت بها مجموعة من النساء اللاتي تأسست لهن منظمة عام (1979م) في ظل ظروف ما يسمى بكامب ديفد، وذلك بهدف توثيق السلام بين مصر وإسرائيل من خلال الحوار الثقافي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في الدولتين، وممثل هذه الأديان في أمريكا الشمالية، وقد عقدت هذه المنظمة النسائية العديد من الندوات، منها ندوتان في القاهرة: ندوة في التقارب بين الإسلام واليهودية، عقدها المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة بعد تأسيسه عام 1982م وهناك محاضرة نظمها المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة.
كما أخذ هذا المخطط شكل رموز وشعارات كان أبرزها مشروع مجمع الأديان الذي حاول الرئيس المصري السابق تأسيسه في سيناء وكان يهدف -كما هو معروف- إلى إقامة مجمع يضم مسجداً إسلامياً وكنيسة مسيحية، ومعبداً يهودياً في سيناء، وقد تبناه الرئيس السابق لمصر بحماس بالغ، وروج له منظرو فلسفة التطبيع، واشترك في تصميم المشروع ثلاثة مهندسين أحدهم مصري مسلم، والثاني فرنسي مسيحي، والثالث يهودي إسرائيلي، والمؤكد أن الفكرة لم تكن رمزاً لوحدة المصير الإنساني، أو تجسيداً لمفهوم الإيمان لدى جميع المؤمنين بالأديان الثلاثة، كما كان يقول الرئيس المصري السابق، وإنما كانت رمزاً لخلط المفاهيم والعقائد، وسرعان ما ظهر على الساحة من يبشر بأن الإسلام هو الإيمان بالله فحسب، ويقول بأن اليهود مسلمون، وقد ظهرت كتب في الأسواق المصرية مطبوعة في حيفا، تدعو إلى المذهب القادياني، كما ظهرت فكرة الصلاة المشتركة في سيناء، والذي يتتبع الشهادات الحية -التي أوردها رجل اسمه حازم هاشم، الذي كان حاضراً في تلك الصلوات- يُذهل من حجم التدليس، ومحاولة تمييع العقيدة الإسلامية، وتشويه العبادات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم تقتصر جهود اليهود والصهاينة على مواجهة الفكرة الإسلامية فحسب، بل اتجهت إلى مواجهة التنظيمات الإسلامية في مصر كالإخوان المسلمين مثلاً والجماعات الإسلامية الأخرى، ويلمس المتتبع للإعلام اليهودي نغمة تخويف مستمرة من دور هذه التنظيمات ورغبتها في تحقيق ثورة خمينية، أو على الأقل طبعة منقحة من تلك الثورة الخمينية، أو التأكيد على دور التنظيمات الأصولية في عرقلة السلام والتطبيع إلى غير ذلك.
ونحن ندرك أن هذه النغمة قد ظهرت من جديد، فهاهم حلفاء اليهود أصبحوا يخوفوننا من ثورة خمينية، أو نسخة منقحة منها، ويخوفون من التنظيمات الأصولية ومن العلماء، والدعاة، وطلبة العلم، باعتبار أنهم أقوى جهة معارضة لمشروعات السلام والتطبيع في المنطقة.
إن من أخطر الأمور التي تواجهنا الآن هي عقد المؤتمرات التي تسعى إلى التوحيد بين الأديان، أو ما يسمونه بالإخاء الديني، وهو الذي بدأ يبرز، وإنني لأعلم أن ببعض البلاد الإسلامية التي لا تسمح أصلاً بإقامة أي جمعية؛ إلا بعد أن توقع على معاهدة الوحدة الوطنية التي تضمن أن لا تمس أي جمعية بحقوق الأقليات الأخرى، ونعلم دولاً أخرى أصبحت تجعل يوماً من إعلامها للمسلمين، ويوماً آخر لليهود، ويوماً ثالثاً للنصارى، ويوماً رابعاً للبوذيين، ويوماً خامساً للهندوس، ويوماً سادساً للعلمانيين، وفي اليوم المخصص للمسلمين لا تكاد تأتي إلا بطفل يتعلم في الكُتّاب ومعه عصا يشير به إلى المصحف، ويعتبرون أن هذا هو ما يمكن أن يقوموا به في الدعوة إلى الإسلام، وإبراز الصورة الإسلامية من خلال جهاز الإعلام، أما في بقية الأيام فإنهم يأتون بإعلام متطور متقدم استخدم التكنولوجيا المعاصرة في الوصول إلى عقول المسلمين وتشويهها وتبديلها.
ونعلم بلاداً إسلامية ليس لديها استعداد أن تقيم معهداً للدراسات العربية أو الإسلامية إلا بشق الأنفس، لكنها تقيم وبكل سهولة عشرات المعاهد الفنية في الموسيقى، أو في التعليم، أو في الرقص، أو في الفن، أو في غيرها لليهود ولغير اليهود، ونعلم بلاداً إسلامية تعتذر عن استقبال العلماء، ولكنها تستقبل بكل حفاوة وبكل رحابة صدر، بل وبكل حرارة فناناً يهودياً أعمى، وتجلب بخيلها ورجلها في استقبال هذا الفنان، وتعتبر هذا من ضمن منجزات ذلك العصر وذلك الرئيس الذي بليت به تلك البلد، كما بليت بلاد أخرى بأمثاله ونظرائه لا كثرهم الله.(88/23)
تاريخ التطبيع ومراحله
وهناك نقطة أساسية وهي قضية تاريخ التطبيع، وباختصار شديد أقول: مَرَّ التطبيع بمراحل: المرحلة الأولى: هي التطبيع القهري في الأرض المحتلة، فبعد ما احتل اليهود بلاد المسلمين عملوا على تغيير عقول الناس من خلال التسلط الإعلامي القهري عليهم، ومن خلال محاولة صهرهم في المجتمع اليهودي، سواء كان ذلك في الأرض المحتلة أو الجولان أو غيرها.
المرحلة الثانية: هي التطبيع الاختياري في مصر من خلال معاهدة السلام بكامب ديفد، واستطاع اليهود أن يتغلغلوا من خلال جهود سياحية، وإعلامية، ومن خلال عشرات المراكز البحثية ومن خلال السفارة الإسرائيلية في مصر التي هي وكر للتجسس، ومن خلال التغلغل في الشعب المصري، ومن خلال عقد الصداقات مع الشباب ومع الفتيات، ومع رجال الفكر والأدب، ودعوتهم إلى الجامعات الإسرائيلية العبرية لإلقاء المحاضرات، وعقد الندوات المشتركة، إلى غير ذلك، ولا زالت الإذاعة المصرية مشغولة بالأغنية التي تقول: "سيناء رجعت تاني لينا" في الوقت الذي يسعى فيه اليهود إلى إحكام السيطرة على مصر.
المرحلة الثالثة: هي ما يسمى بسياسة الجسور المفتوحة مع الأردن، فإن الأردن ظلت مفتوحة الجسور؛ فمنذ عام (1962م) وتاريخ الأردن مع إسرائيل تاريخ مكشوف، وتاريخ الخيانة قديم جداً، بل هناك تعاون مع إسرائيل في سبيل القضاء على الوجود الفلسطيني، أو القضاء على الأقل -سابقاً- على منظمة التحرير الفلسطينية حين كانت تعتبر هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.
المرحلة الرابعة: مع المغرب، فهناك لقاءات قديمة جداً على أعلى المستويات بين المسئولين اليهود، وبين المسئولين في المغرب، وآخرها عقد في المغرب وتم فيه تبادل وجهات النظر حول كافة القضايا، وتم الاتفاق على حلول سلمية، واليهود يقيمون مناسبات عدة في المغرب ويحضرها مسئولون على كافة المستويات.
المرحلة الخامسة: مع أثيوبيا وكان ذلك من خلال ترحيل مجموعة من اليهود الأثيوبيين إلى إسرائيل، وهي المعروفة باسم عملية الفلاشا، وقد شاركت فيها المخابرات، بل أدارتها المخابرات الأمريكية.
المرحلة السادسة: هي المرحلة القائمة، وهي مرحلة التكامل مع الدول العربية، حيث يكون فيها المال والنفط العربي والأسواق العربية، والخبرة اليهودية، جنباً إلى جنب.(88/24)
تعليقات
نذكر هنا تعليقات لا بد منها، وهي عبارة عن تعليقات خفيفة على ما سبق.
أيها الأحبة: إن جناية القادة الذين جلسوا على طاولة المفاوضات مع اليهود على أمتهم وشعوبهم جناية عظيمة، وإن خدماتهم لليهود لا تقدر بثمن، فإنهم سوف يصنعون لإسرائيل بعملية السلام والتطبيع ما تعجز إسرائيل أن تعمله بالعمل العسكري، هذا من جهة، كما أنهم استطاعوا أن يدجنوا شعوبهم ويذللوها ويجعلوها شعوباً خاضعة ذليلة مستسلمة، لقد أورثت هذه الشعوب الذل، والتبعية، وعدم الاكتراث بالمخاطر والأهوال التي تواجهها، مما جعلها ترد موارد الهلكة.
والواقع -أيها الأحبة- أن هذا الأمر الذي وضعوه في نفوس الشعوب غير صحيح، إن إمكانية مواجهة اليهود قائمة في كل وقت: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وكذلك أعوان الشيطان وحلفاؤهم؛ كيدهم ضعيف في كل وقت، وينبغي أن نعلم أن القهر الذي يمارسه اليهود -مثلاً- في داخل فلسطين قد ولّد جيل الانتفاضة، الذي يواجه الدبابة بالحجر، فأطفال هناك في عمر خمس وست سنوات يواجهون ذلك بمثل هذه الطريقة، ويجب أن نعلم أن مجموعة من العمليات الفدائية في لبنان وفلسطين قد أزعجت اليهود، وغيرت مقاييسهم إلى حد بعيد، فليس صحيحاً أن هؤلاء القوم يخططون فيقع ما يخططون، بل كم رتبوا وخططوا فجاءت النتائج عكس ما كانوا يريدون ويتوقعون، ولسنا أبداً ممن ينادي بتضخيم دور اليهود أو التهويل بقوتهم أو المبالغة في إرهاب الشعوب منهم، وإن كنا ننادي بضرورة أنه يجب أن نعرف حجم قوة عدونا، وندرك مدى قوته حتى نكون على استعداد له؛ لأن الاستهانة بقوة العدو خطأ كما أن المبالغة في تضخيم قوة العدو هي خطأ آخر.
إن الحكام قد جنوا حين غيبوا الرمز الذي يمكن أن يظل حياً، بمعنى: إننا قد لا نستطيع أن نواجه اليهود الآن بالسلاح؛ لأسباب كثيرة، ولا شك أن هذا الوقت ليس وقت مواجهه عسكرية مع اليهود في ظل الظروف الحاضرة، فالأمة المفككة، والأمة التي تسلط عليها عدوها، لايمكن أن تواجه عدواً آخر، إن الأمة التي تتقاتل فيما بينها لا يمكن أن تواجه عدواً خارجياً، فالأمة التي مزقتها الخلافات بين الأنظمة، والخلافات بين الشعوب، والخلافات بين الأقاليم، والخلافات بين الأحزاب، والخلافات بين الجماعات، والخلافات بين الطوائف، هذه الأمة التي مزقتها تلك الخلافات حتى لم يبق فيها مكان إلا وفيه حرب ضارية بين طرف وآخر.
هذه الأمة في ظل ظروفها الحاضرة وفي ظل تخلفها العلمي والتكنولوجي، والاقتصادي، والسياسي بكل تأكيد ليست على مستوى مواجهة العدو الإسرائيلي في الظرف الحاضر هذا صحيح، لكن بقي وجود الرمز الذي يقول للشعوب وللشباب، وللأمة، يقول للكبار والصغار، وللرجال للأطفال: إن هذا عدو يجب أن نحاربه، ويجب أن نستعد له، ويجب أن نخطط ولو بعد عشرة أو خمسين أو مائة سنة للقضاء عليه، هذا الرمز يحاول هؤلاء تغييبه، ويحاولون أن ينسوا الأمة ذلك الرمز، ويحاولون أن يؤثروا تأثيرات نفسية على الشعوب بحيث تتناسى عداوتها لليهود وتدرك بأنها في حال آمنة، وتنام نوماً عميقاً هادئاً بطيئاً.
ولذلك لا غرابة أن أقرأ في أحد صحفنا المحلية مقالاً طويلاً عريضاً ساخطاً غاضباً، فما هو السبب؟ هل سبب الغضبة لما يجري في الساحة الآن؟ كلا.
بل سبب الغضبة هو ملاحظة عدد من الراصدين تسرب جمهور كرة القدم، ووجود غياب مذهل عن مدرجات الكرة، مما يعكس مخاوف ومخاطر شديدة، ولا بد من دراسة هذه الظاهرة، وإجراء مقابلات مع كافة المختصين لمعرفة الأسباب وأبعادها وظروفها، ومحاولة عمل اللازم، ومعالجة هذه الظاهرة قبل أن تستفحل ويصعب القضاء عليها!! إذاً: هناك محاولات جادة لتغييب هذه الشعوب، وإشغالها بأمور تافهة وصغيرة وهموم يومية عن قضيتها ومعركتها الكبرى مع أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين والعلمانيين، والمنافقين في أي مكان كانوا، فهذه أعظم جناية يمكن أن يجنيها شخص، أو تجنيها طائفة، أو جهة على هذه الأمة.(88/25)
الأمل في وعي الأمة الإسلامية
نقول: إن وعي الأمة ووعي الشعوب الإسلامية -بإذن الله- كفيل بإحباط هذه المؤامرات، فنحن وإن تكلمنا عن جهود -في هذا المجلس وغيره- بين مصر وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل، وبين لبنان وإسرائيل، وبين المغرب وإسرائيل، وبين كثير من الدول وإسرائيل، فإننا على ثقة بأن شعوب هذه البلاد ترفض هذه المؤامرة، ولا أدل على ذلك من محاولات عديدة لإجهاضها، بل إنهم استخدموا السلاح في مرات عديدة، فنحن نعرف بما يسمى بطل سيناء وماذا عمل، ونعرف مقتل السادات وكيف حصل، وما أسبابه وما أبعاده؛ ونعرف محاولة اقتحام السفارة الإسرائيلية وإحراقها مرات، ونعرف اغتيال عدد من اليهود في مصر وغيرها وما هي أبعاده، بغض النظر عن مدى جدية هذه الخطوات، ومدى فائدتها، ومدى جدواها، ولكنها تعبير عن الرفض الإسلامي الشعبي لليهود أفراداً وسياحاً وعلماء، ومختصين، ورفضهم لليهود كدولة تقيم في قلب الأمة الإسلامية، ولكن الأمة بليت في مثل هذا الظرف بمثل هؤلاء الحكام الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فهم على اليهود أو مع اليهود حملاناً وديعة أما مع شعوبهم فهم ذئاب مفترسة.(88/26)
عداوة الأخ وصداقة العدو
إن فرص السلام تظل ضعيفة -فرص السلام الحقيقي الذي يطالبون به حتى في نظرتهم هم هي فرص ضعيفة- فعلاقة الأنظمة العربية بعضها ببعض، وعلاقة الأنظمة العربية بشعوبها علاقة سيئة جداً، وما من دولة عربية أو نظام عربي إلا وبينه وبين جيرانه عداوات تبدأ ولا تنتهي، وكأن لسان حالهم يقول: من لم يلوث يده بدم جاره فإنه على الأقل صفّق للعدوان على جاره، وهذا يجعل الدول العربية في الوقت التي تسعى فيه إلى إقامة علاقات ممتازة مع إسرائيل.
فإنها قد نجحت في تمزيق الروابط والجسور مع الدول العربية الأخرى، فلم تكن الدول العربية والإسلامية في ظرف من الظروف، أو في أي وقت من الأوقات أكثر منها تفككاً، وتمزقاً، واختلافاً، وعداوةً منها الآن، وهذا يعطي فرصاً كبيرة لإسرائيل للحصول على مزيد من المكاسب، فضلاً عن أن القوى المعادية نجحت في نقل العداوة من عداوة بين الحكومات إلى العداوة بين الشعوب مع بعضها، فإن كثيراً من الشعوب العربية اليوم أصبحت عدوة للشعوب الأخرى.
وعلى سبيل المثال تجد كثيراً من المسلمين -دعك من العرب- إذا ذُكر الفلسطينيون شتم وسب، بل إنك تسمع من يقول هم شر من اليهود، ويقول: لأنهم فعلوا في الكويت كذا وكذا، فكم عدد الذين فعلوا في الكويت؟ كم عدد الذين تحالفوا مع الغزو العراقي للكويت من الفلسطينيين؟ لا أحد يستطيع أن يقدر عددهم ولكنهم بالتأكيد ليست هذه قضية شعب وإنما قضية أفراد وربما أن السبب في هؤلاء الأفراد هو أن الشعب الفلسطيني ظل طيلة الوقت وهو ألعوبة بيد الحكام، بمعنى أنه ليس النظام العراقي هو النظام الوحيد الذي حاول أن يبتز بعض الشعوب العربية والإسلامية، بل قد عملتها أنظمة عربية أخرى كثيرة، كذلك تجد العداوة مع الشعب اليمني، والعداوة مع السعودي، ومع السوري، ومع العراقي، فأصبحت القضية عداوة بين الشعوب وليست عداوة مع الحكام، وليست عداوة مع فئة ظالمة من الشعوب.
فنحن جميعاً نعادي -مثلاً- الشيوعيين، سواء كانوا فلسطينيين، أو أردنيين، أو يمنيين، أو مصريين، أو حتى كانوا من السعوديين، أو من أي بلد آخر، ونعادي المنافقين أيّاً كان لونهم، ونعادي الكافرين أياً كان مذهبهم وأياً كان بلدهم، وبالمقابل نحب المسلم الذي يحب الله ورسوله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي الصلوات الخمس مهما كان بلده ومهما كانت جنسيته، فإن جنسية المسلم عقيدته، ولا يجوز أن ننساق وراء هذه الأشياء التي لم تقتصر على نطاق محدود، بل أخذت مأخذ التعميم والشمول، فينبغي أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، فالظالم ظالم، والمخطئ مخطئ ولابد أن ينال جزاءه، لكنه لا يمكن أن يؤخذ أحد بجريرة غيره بحال من الأحوال.(88/27)
الأسئلة(88/28)
دور المسلم في خدمة دينه
السؤال
المسلم دائماً في حماس لدينه وإسلامه، لكن كثيراً ما يرى الطريق مسدوداً أمامه، فماذا يعمل؟ وماذا يقدم؟ وما هي أول خطوة؟
الجواب
في الواقع أن المسلم يستطيع أن يقدم الكثير، فهو كما يقول المثل الصيني: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فثق ثقة تامة أن محافظتك على الصلاة شيء، وقيامك بالواجبات شيء، وأداءك للتكاليف الشرعية شيء، وتربيتك لأولادك على هذا شيء، وتعلمك للعقيدة الصحيحة، ومعرفتك بتاريخ الإسلام، والثقافة الإسلامية الواعية، ودعم الأعمال والمشاريع الإسلامية، والمشاركة في الدعوة إلى الله: نشر الكتاب، نشر الشريط، حضور الحلقة، حضور الدرس، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، كل هذه الأعمال يجب أن لا نحتقرها أو نزدريها أو نعتقد أنها لا علاقة لها بالقضية الكبرى.
فكل قضية مهما كانت صغيرة في عينك -وليس في دين الله صغير- فينبغي أن تعلم أنها خدمة أنها تنفع بها نفسك ثم تنفع بها دينك، ولا داعي أن تربط نفسك بقضية تشعر بأنها مستحيلة، مثلاً تقول: أنا ما هي علاقتي بقضية السلام، وقضية اليهود؟ وأنا لا أملك قدرة على إخراج اليهود من فلسطين، إذاً أجلس مكتوف الأيدي وأنام ملء جفني، لا يا أخي، بل عليك أن تربي أولادك على الخوف من الله، وربِّ أولادك على محبة الله ورسوله، وربهم على الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، ربِّ أولادك على أن فلسطين أرضٌ إسلامية مثلها في ذلك مثل سوريا والأردن والباكستان وأفغانستان والأندلس ومثل أي بلد آخر وأنه ينبغي أن تكون هذه البلاد كلها أرضاً إسلامية يحكم فيها بدين الله وشرعه، وتقام فيها العقيدة الصحيحة وتعلم فيها حدود الله، ويعلم فيها القرآن والسنة النبوية، ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر، وإذا لم تقدر أنت قد يقدر أولادك، وإذا لم يستطيعوا هم فقد يستطيع من بعدهم، فينبغي أن يدرك كل إنسان منا أن العمل البسيط اليسير في نظره الذي يقوم به أنه يعتبر خدمة ونفعاً في هذا المجال ولبنة يمكن أن تساهم في هذا البناء الكبير.(88/29)
نظرة في الظروف الراهنة وموقع المسلمين منها
السؤال
ألا ترون أن أموراً عصيبة تلاحقت وتتابعت كمنظوم انفرط على الأمة في الوقت الحاضر، فما تفسير ذلك في نظركم؟ أرجو طرح التفاؤل، مع العمل على عدم خضوع عقول الناس لهذا الواقع؟
الجواب
نعم.
إن هناك أموراً كثيرة تلاحقت، والواقع أن العالم اليوم ينطبق عليه مقولة: الأيام حبلى بكل جديد، وهناك أحداث جرت خلال سنة واحدة أو سنتين إلى الآن لم يكن أحد يتوقع أن تجري خلال عشر أو عشرين سنة، فأنا اليوم أقرأ في كتاب يتكلم عن التوقعات الأمريكية لما تكون عليه روسيا، والكتاب نوعاً ما قديم، فيتكلم عن أن أمريكا -مثلاً- تتمنى القضاء على روسيا، ولكنها في مجال التوقع، فإن توقعات أمريكا هي توقعات متواضعة، فهي لا تتوقع أن تتفوق عليها تفوقاً باهراً خلال عقد أو عقدين من الزمان، ولكن الواقع جاء بنتائج مفاجئة جداً؛ حتى مراكز الدراسات والبحوث، والناس الذين يشتغلون في هذا الأمر ويسهرون الليل، ويجمعون الوثائق والأوراق والمعلومات إلى آخره، وكانت النتيجة خلافاً لما كانوا يتوقعون.
أيضاً قضايا كثيرة جداً، قوة العراق -مثلاً- حيث كانت من أعظم القوى الضاربة في المنطقة، وقفت أمام إيران أكثر من إحدى عشرة سنة، وكان من المتوقع أن هذه القوة قد تبسط جناحها على المنطقة أو تحاول ذلك، وقد تكون تهديداً ليس لإسرائيل فقط، بل لغيرها من دول المنطقة، ومع ذلك تغيرت الأمور والموازين.
إذاً: ينبغي أن يدرك الإنسان أنه: وأستار غيب الله دون العواقب الناس يخططون ويرسمون ويتوقعون ويتكلمون، لكنّ في غيب الله تعالى أموراً لم تخطر لي ولا لك، ولا لغيرنا، ولا للمحللين الخبراء على بال بحال من الأحوال، على كل حال من الواضح جداً أن هناك حالة مخاض في العالم كله، وتغيرات في الخارطة الدولية في الأوضاع، وفي التحالفات السياسية وفي موازين القوى، وهذه التغيرات نحن نطمح ونطمع إلى أن تكون لصالح المسلمين، فمثلاً الأوضاع في روسيا يمكن أن تخدم المسلمين -إن شاء الله- إلى حد ما، وقد ظهرت بعض الرءوس الإسلامية، وبعض الدول الإسلامية ذات الطابع العرقي التي تنتمي إلى أصول إسلامية، وهي تحاول أن تستعيد هويتها ولو وجدت يداً تمتد إليها لكان من وراء ذلك خير كثير.
ولذلك الغرب وإسرائيل ينظرون بتوجس وخيفة إلى روسيا، مع أن الغرب وإسرائيل مغتبطون من سقوط الإمبراطورية السوفيتية، إلا أنه في نفس الوقت بدأ يتوجس خيفة من هذا السقوط، وماذا يمكن أن يجره عليه من ويلات ومخاطر.
أقول وبكل تأكيد: والله الذي لا إله غيره؛ لو كان هناك مسلمون على مستوى المسئولية في طاعتهم لله، وإخلاصهم وصدقهم مع الله عز وجل، والتزامهم بدينهم الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم دون تغيير ولا تحريف ولا تبديل، مع العمل بالأسباب الممكنة لهم والمتاحة لهم، لاستطاعوا أن يكسبوا في ظل الظروف الحاضرة أشياء كثيرة جداً؛ لكن المصيبة أنه حتى لو أن الغرب أصابه ما أصاب الشرق فتهاوت دوله دولة دولة، أو خاضت فيما بينها معارك طاحنة، فإن المسلمين في الغالب في ظل ظروفهم الحاضرة سيظلون لفترة -ليست بالقصيرة- أقل من مستوى القدرة على استغلال الأحداث لصالحهم، ونسأل الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رُشد تخرج مما هي فيه من ويلات ونكبات.(88/30)
استغلال اليهود لغيرهم
السؤال
مما تقدم من كلامك تبادر إلى ذهني هذا التصور، وهو أن اليهود يخططون ويضعون العناصر والخطوات، لكن الذين يقومون بالعمل والتنفيذ غيرهم؛ لأن هذه الأعمال كبيرة بالنسبة لعددهم وتفرقهم؟
الجواب
نعم، اليهود يستغلون غيرهم من الشعوب؛ لأنهم يقولون كما في التلمود: إن الشعوب الأممية -يعني من غير اليهود- ليسوا إلا حميراً خلقوا ليركبهم شعب الله المختار، وكل ما نفق منهم حمار ركبنا حماراً آخر، فهم يعتبرون العرب وغير العرب من حلف ائهم يعتبرونهم بهذه المثابة ويستغلونهم بهذه الصورة.(88/31)
السلام مع اليهود تطبيع لا خير فيه
السؤال
إن هذا السلام قد يكون فيه خير للمسلمين؛ وإذا كان الجواب نعم، فما هو هذا الخير؟
الجواب
ينبغي أن تسأل هذا الشخص ما هذا السلام أولاً؟ وما هذا الخير الذي يمكن أن يكون من ورائه للمسلمين؟ أنا أقول: إنه من التضليل أن نقول هذا سلام، كما إن من التضليل أن نقول: إن هذا صلح مع اليهود، كما أنه من التضليل أن نتكلم عن هذا على أنه هدنة، وهذا التضليل مع الأسف وقع فيه حتى بعض طلبة العلم، الذين لم يدركوا أبعاد الأمور.
القضية قضية تطبيع، والقضية قضية إزالة روح العداوة وجعل اليهود كأي دولة أخرى في المنطقة، من حيث التبادل الثقافي، والعلمي، والاقتصادي، والدبلوماسي -على كافة المستويات- السياحي، والحضاري، وهذه القضية لا يمكن أن يقبل بها مسلم أبداً مهما كان مستواه من الضعف والجهل.(88/32)
السلام مقابل تنازل اليهود عن بعض الأراضي
السؤال
يقول من منطلق عقيدتنا نعرف موقفنا من اليهود وغيرهم في أي مجال من مجالات الحياة، لكن ما رأيكم لو قيل في ظل الوضع الراهن لعل ما يمكن الحصول عليه بالمفاوضات من أراضٍ إسلامية لدى اليهود يُعد خديعة من قبلنا لهم، وإذا قوي المسلمون فدينهم يأمرهم بأمور أخرى يصعب سردها؟
الجواب
لنفترض -يا أخي- مع أني تكلمت سابقاً أن اليهود يقولون: إنه ليس عندهم استعداد للتنازل عن أي شبر- لكن لنفترض أن اليهود تخلوا عن بعض ما احتلوه، أو عن كل ما احتلوه عام (1967م) ، السؤال الذي يجب أن تطرحه وتسأل نفسك عنه سيتنازل اليهود من أجل ماذا؟ هل من أجل سواد عيوني وعيونك سوف يتنازلون؟! وما قيمة أن تأخذ شبراً من الأرض وتدفع مقابله اقتصادك، بل تدفع قبل ذلك عقيدتك ودينك، وتاريخ أمتك وتراثك، وعقول أبنائك؟ وما قيمة أن نرد الأرض إلى أصحابها وتكون حكماً فيدرالياً مع اليهود، أو مع الأردن، أو بأي صورة من الصور، أو بإدارة مشتركة بين الأطراف كلها ومع ذلك يتاح لليهود أن ينساحوا على الأمة؟ وما قيمة أن يتخلى اليهود عن شبر من الأرض في مقابل أن يحتلوا بلاد الإسلام كلها باقتصادهم وإعلامهم وبخبرتهم وتخطيطهم؟ مع أنه ينبغي أن نعلم أن اليهود دائماً يتميزون بالقدرة على المكر والتخطيط والدهاء.(88/33)
العداء الديني لليهود والنصارى
السؤال
يقول: أنتم تقولون: إن العداء بيننا وبين اليهود عداء ديني، فلماذا هذا العداء لا ينطبق على النصارى؟
الجواب
والنصارى أيضاً، فنحن نعتبر أن النصارى واليهود كما قال الله عز وجل: ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)) [المائدة:51] .
لذلك فعداوتنا لليهود وعداوتنا للنصارى واحدة، وإن كان اليهود أشد عداوة من هؤلاء، وإذا كنا الآن نتكلم عن اليهود، فلا مانع أن نخصص، وسوف أخصص -إن شاء الله- أحاديث ودروساً تتكلم عن النصارى، ومن ضمن الدروس التي تحتاج إلى تقديم -وسوف تقدم ضمن هذه الدروس بإذن الله سبحانه وتعالى، وعونه- الكلام عن الخطر التنصيري، وجهود النصارى في تحويل المسلمين عن دينهم، وهذه هي إحدى القضايا، لكن الإنسان في كل مناسبة قد يتكلم عن جزئية ويترك جزئيات أخرى.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(88/34)
اعترافات مذنب
إن الاعتراف بالذنب علامة على وجود الإيمان في القلب؛ ولكن ما هي حقيقته؟ وما هي مقتضياته؟! هذا ما أجاب عليه الشيخ -حفظه الله- في هذا الدرس، الذي بين فيه أن حقيقة الاعتراف بالذنب ليست الإقرار بفعله فقط؛ بل إنه يكون أولاً: اعترافاً بالقلب ونطقاً باللسان والاعتراف بنعمة الله، وقد ذكر الشيخ أدلة ذلك من الكتاب والسنة ومن أحوال السلف، ثم رغب في التوبة وحث عليها وحذر من اقتراف الذنوب مهما حقرت، وحذر كذلك من اتباع خطوات الشيطان، ثم بين أن باب التوبة مفتوح وأن رحمة الله واسعة.(89/1)
الاعتراف بالذنب دليل الإيمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، ثم أما بعد: فهذا اعتراف مذنب: كنت قد كتبت لأخي رسالة قبل أيام عاتبته فيها على شطحات وهفوات، وتحدثت عن مشاعر وأحاسيس في نفسي، فظن هذا الأخ الكريم أني أعنيه بشخصه وأقصده بذاته، فكتب إلي متبرماً متنصلاً وقال: إن سياط عتابك أوجعتني، وكلماتك آلمتني، والحق أني ما قصدته بذاته.
بل أنا لا أعرفه لا باسمه ولا برسمه، ولكني أتحدث عن أعمال وأقوال وأحوال ربما كان يلابسها الكثير منا، -إن لم يكن كلنا؛ فجلنا- فما منا إلا وهو ذلك المخطئ المذنب، وفي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فكلنا ذلك الخطَّاء، وكلنا ذلك المذنب.
بل وفي حديث آخر عند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه -وسنده صحيح أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، أي إن المؤمن خلق مفتناً، تواباً، نسياً، إذا ذكر} .
فحديثي لم يكن إلى ذلك الأخ الكريم بعينه، ولقد سمعت عدداً من الإخوة يقول: أنا المقصود لولا أنني لا أفعل كذا، وأنا المراد لولا أني لم أقل كذا، وأظن أن الخطاب لي لولا أنني ما وقعت في كذا.
إن اعتراف الإنسان بذنبه؛ هو دليل الإيمان، ودليل الشعور بالخوف من الله عز وجل، ولهذا قال الله تعالى عن المؤمنين، بل عن المستقيمين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن أبي أمامة، وهو حديث صحيح-: {إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك؛ فأنت مؤمن} .(89/2)
كثرة استغفار الرسول
حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بأن يعترف بذنبه، ويستغفر الله تعالى منه، فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وقال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:106] .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار فكان إذا انصرف من صلاته، قال -وهو مستقبل القبلة قبل أن ينصرف إلى الناس-: {أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله} كما في حديث عائشة وهو في صحيح مسلم، وكما في حديث ثوبان وغيرهما فقال هذا الاستغفار عقب طاعة من الطاعات وهي الصلاة.
كما أمره الله تعالى أن يستغفر عقب طاعة أخرى في مناسك الحج فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] .
فإذا كان العبد حتى النبي المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يستغفر بعد طاعة، وصلاة، ونسك، وبعد ذكر، فما بالك بالخطائين المذنبين الذين غرقوا في أوحال المعصية إلى أذقانهم وتلطخوا بها؛ واشتملوا عليها! وما بالك بالعبد وهو يخرج من ذنب، أو يقلع من معصية، أو يتوب مما لا يرضي الله عز وجل! فإنه أولى أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يستغفر الله عز وجل استغفاراً يتواطأ فيه اللسان مع القلب، فإنه خير الاستغفار.
أما أن يستغفر بلسانه وقلبه مصر على المعصية، فإن هذا لا يكون قد استغفر الله تعالى حقاً، ولهذا قال أحدهم: أستغفر الله من أستغفر الله من كلمة قلتها لم أدرِ معناها إنه يستغفر من أنه ينقض بفعله ما قاله بلسانه، فذلك الإنسان الذي يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت؛ ثم ينقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه، ويقطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل، ويترك ما أمر الله تعالى أن يفعل، ويفعل ما أمر الله تعالى أن يترك، أين هو ممن يعترف بذنبه، أو يقر به، أو يفي بعهد الله تعالى وميثاقه؟! إن هذا هو الاعتراف الحق أن يعترف العبد بقلبه بما وقع من الذنب والحوب والمعصية؛ ثم ينطق اللسان بما اشتمل عليه القلب من الإقرار لله تعالى، والتوبة إليه، والندم على ما فات، والعزم على ألا يعود.
وهذا هو ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقال سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] .(89/3)
حقيقة الاعتراف بالذنب
وإن الاعتراف بالذنب في الإسلام لا يعني الإقرار بفعل الذنب، بل إن العبد ليس مطالب بأن يقر بفعل الذنب في هذه الدنيا، وربما لو تاب وستر نفسه؛ لكان خيراً له في الدنيا والآخرة من أن يفضح نفسه، أو أن يعرض نفسه للعقوبة، أو لإقامة حد من حدود الله تعالى عليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من بلي بشيء من هذه القاذورات؛ فليستتر بستر الله عز وجل} .
ولكن المقصود أن يعترف بين يدي ربه جل وعلا، الذي يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية أن يعترف بأن ما فعله خطأ، وذنب، ومعصية، وذلك دليل الإيمان بالله تعالى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك؛ فأنت مؤمن} .
فالمؤمن هو ذلك الذي يلدغ الشعور بالذنب قلبه، ويكوي فؤاده، ويؤرقه فيتقلب على فراشه على مثل جمر الغضى؛ من الشعور بالذنب وقلق المعصية، والتوتر والخوف من عقاب الله تعالى أن ينزل به ليلاً أو نهاراً، اليوم أو غداً.
إنه اعتراف بأن ما فعله خطأ؛ ولذلك تراه يتوب ويستغفر وهاهو المؤمن يقول -في صباح كل يوم ومساء كل ليلة- كما أمر وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري، أنه قال عليه الصلاة والسلام: {سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك علي، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
من قاله حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة} وذلك لما احتواه هذا الاستغفار من الإقرار بالذنب، والاعتراف به، والإقرار بنعمة الله تعالى على العبد.
وفي الحديث الآخر -أيضاً- الذي رواه البيهقي وأبو نعيم عن عائشة -وهو صحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً} .(89/4)
فضل الاستغفار
جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله، فقال له: إني تاجرت فخسرت، قال: عليك بالاستغفار! ثم جاءه آخر، فقال له: إني عقيم لا يولد لي، فقال له: عليك بالاستغفار! ثم جاءه ثالث، فقال: إن بلادنا قد وقف عنها المطر وقحطت وأجدبت الأرض، قال: عليكم بالاستغفار! فقال له رجل: يا أبا سعيد: شكوا إليك أمراضاً شتى، وذكرت لهم دواءً واحداً! قال: إن الله تعالى يقول: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10-11] .
فثمرة الاستغفار الأولى المطر من السماء: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ} [نوح:12] ومن ثمار الاستغفار أيضاً الكثرة في المال والبركة في الرزق: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح:12] وهذا أيضا من ثمار الاستغفار أن يجعل الله للعبد أولاداً صالحين، وذرية تخلفه من بعده.(89/5)
أفضل أوقات الاستغفار
إن الفرصة المثلى للاستغفار أن تستغفر الله تعالى وأنت صحيح شحيح؛ في حال قوتك، وقدرتك، وشبابك، وغناك؛ وأكثر الناس إنما يتوبون ويستغفرون إذا عجزوا عن المعصية! فإذا وقع أحدهم في الفخ -في المصيدة- مرضاً، أو هرماً، أو كبراً، أو عجزاً لا يطمع بزواله أبداً؛ استغفر حينئذٍ ولا شك أن هذا استغفار قد يقبل عند الله تعالى؛ ولكن أكمل الاستغفار وأصدق التوبة؛ أن يقلع الإنسان عن المعصية وهو قادر عليها.(89/6)
الاستغفار عند الموت
هذا يكثر المعترفون عند الموت؛ بل ما من عبد ينزل به الموت إلا واعترف واستغفر، لكن شتان بين من يعترف طالباً للمزيد، وبين من يعترف بعدما أفلتت من يده كل الفرص! فشتان بين الإمام الشافعي وبين شاعرٍ كـ أبي نواس فالإمام الشافعي لما نزل الموت به تلفت فيمن حوله، ثم أراق قطرة من دموعه، ثم قال: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما فلله در العارف الندب إنه تفيض لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل شد إزاره على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفيما سواه في الورى كان أعجما ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول حبيبي أنت سؤلي وموئلي كفى بل للراجين سؤلاً ومغنما ألست الذي غذيتني وهديتني وما زلت مناناً علي ومنعما عسى من له الإحسان يغفر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما ثم فاضت روحه الطاهرة رحمه الله.
فماذا عمل الإمام الشافعي؟ إنه قضى ليله في الصلاة ونهاره في طلب العلم، وكان صاحب تقوى وعباده، إماماً في الفقه، إماماً في الحديث، إماماً في الزهد، إماماً في التقوى، إماماً في الورع، ومع ذلك هذا اعترافه وهذا ذنبه وهذا ندمه؛ لأنه ما من عبد ينزل به الموت إلا ندم، فإن كان مؤمناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نزع عن إساءته ومعصيته، كما جاء في الأثر.
فشتان بين رجل -كالإمام الشافعي - هذا اعترافه في تلك اللحظات الأخيرات، وبين رجل -كـ أبي نواس - ملأ الدنيا ذنوباً ومعاصي، وما من جريمة إلا وله فيها سهم ونصيب، وامتلأت كتب الأدب بقصائده وأشعاره وقصصه وأخباره، وغير ذلك مما يطول به الوقت ويضيق عنه الحصر؛ ثم إذا بالموت يصرعه، فيتلفت أين أصدقاؤه؟ أين ندماؤه؟ أين قيانه؟ أين الكئوس؟ أين الجلوس؟ كل ذلك فر عنه، وبقي يصارع الموت وحده! -وحينئذٍ: علم أنه لا باب إلا بابه جل وعلا، الذي ما رد طالباً، ولا رجع عنه أحد خائباً من قرع بابه بجد؛ فتح الله تعالى له وأجابه، فنظر هذا الرجل فحاول أن يستدرك فصاح: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم رب دعوت كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم إن العبيد لا يتحجرون رحمة الله تعالى، وقد قبل الله تعالى رجلاً قتل مائة نفس، وما عمل خيراً قط سوى أنه ذهب إلى بلد صالح ليتوب ويعبد الله عز وجل؛ بل إن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال جبريل: {يا محمد! كيف لو رأيتني وأنا آخذ من وحال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة!} .
فلما غرق فرعون في اليم قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91-92] فجبريل خشي أن تدركه رحمة الله تعالى حين نطق بكلمة التوحيد؛ فكان يأخذ من طين البحر فيدسه في فمه لئلا يكرر هذه الكلمة، أو يستغفر الله تعالى في تلك اللحظة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} .
لكن أيها الأخ الكريم: ما الذي يدريك أن تتمكن من توبة صادقة وأنت على فراش الموت؟ ربما يحال بين العبد وبين ما يشتهي، وبينه وبين ما يريد، كما فعل بأشياعه من قبل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة} .
لكن كم من إنسان حيل بينه وبينها! فلما أراد أن يقولها ثقل لسانه، أو جرى على لسانه ما كان يردده في حال حياته، -كأغنية، أو كلمة فاجرة، أو ما أشبه ذلك- وربما مات على غير ملة الإسلام! -والعياذ بالله تعالى من ذلك- ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
فإن العبد إذا عاش على الإسلام؛ مات عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من الموت، فإن عرف العبد ربه في الرخاء فذكره، وشكره، وصلى، وصام، وتاب إليه، وأقلع عن معاصيه، وأكثر الاستغفار؛ رحمه الله تعالى في الشدة الكبرى عند الموت؛ فختم له بخير أما إن كان من المسرفين على أنفسهم، فيخشى أن يحال بينه وبين التوبة في آخر لحظة يمكن له فيها أن يعترف.(89/7)
التحذير من الذنوب واتباع خطوات الشيطان
أيها الأخ الكريم: لا تحقرن من الذنوب شيئاً؛ فإنها تجتمع على الرجل حتى توبقه في نار جهنم، ماذا كانت الخطوة الأولى في المعصية؟ ربما كانت -كما حدثني ذلك الأخ الكريم المشار إليه- نظرة دافعها حب الاستطلاع لا غير، تمر من عنده المرأة فيقول: أريد أن أنظر هل هذه المرأة محجبة فعلاً؟ هل هي لابسة للقفازات؟ هل هي قد أسبلت ثوبها فلا يُرى من قدمها شيء؟ فإذا نظر إليها بهذه النظرة؛ فربما كانت هذه النظرة بداية للفتنة.
أو يقع في يده كتاب، فيقول: أريد أن أنظر ماذا يحتوي، وعلى ماذا يشتمل، أو يتصل به هاتف في أول الليل أو في آخره لا يدري أذكر هو أو أنثى؛ فيقول: أريد أن أعرف، أريد أن أدري ماذا يقصد أريد وأريد ثم تكون تلك هي بداية الطريق الطويل كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] إنه يغزل لك غزلاً طويلاً، ويرسم لك طريقاً لا تدري أين بدايته؛ ولكنك تدري نهايته.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى جرك إلى الكأس الأولى، والكأس الأولى قد تكون كأس خمر؛ لكن هذا ليس ضرورياً -وقد يعبر بالخمر عن غيرها- فقد تكون سيجارة، وقد تكون أغنية في شريط، وقد تكون علاقة تقتصر أول الأمر على حديث بريء -كما يقال- وقد تكون سفرة مع رفقة سوء، وقد تكون جلسة لمجرد المتعة وإزجاء وقت الفراغ، ثم يجر ذلك إلى ما بعده -وقد يظن الظان أنه يمنع نفسه- ولا يدري أنه إذا انزلق في هذا الطريق فقد لا يكون له قرارٌ إلا في ذلك الوادي السحيق.
ولهذا قال الله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:14] .
فالعبد فتن نفسه حينما أوقعها في أول المعاصي؛ ثم انتقل إلى الخطوة الثالثة، وهي: أن نفسه تعلقت بهذه الأمور، فأصبحت تستحسنها وتستعذبها، وربما يكون صاحب المعصية -أحياناً- يجد لذة في معصيته أثناء مواقعتها، ثم يجد بعد ذلك ندماً في قلبه وحسرة؛ ثم تزول هذه الحسرة ويرجع إلى المعصية، وهكذا يظل عمره ضائعاً بين شهوة يتلذذ بها، وحسرة يتبعها إياها، وينتهي الأمر بعد ذلك إلى أن تصبح المعصية جزءاً من تكوينه وشخصيته وحياته؛ فلا يطيق بعداً عنها، ولا يصبر عن أصحابها.
فيكون هذا الأمر والعياذ بالله! آخر ما يتصور الإنسان أنه ينتهي إليه، وربما كان الواحد يفعل المعصية وهو يبكي، لأن هذه المعصية أصبحت جزءاً من حياته، سرت في دمه، ورسخت في قلبه، وتصورها في عينه؛ فإذا غاب عنها قفز خياله إليها.
وإني أعرف الكثيرين من هؤلاء، يتمنى كثير منهم الخلاص، ولكن شباك الشيطان قد أحكمت من حوله، فهو يصيح ويمد يده ولكن الأمر عظيم؛ لأن المعصية قد أصبحت شجرة في حياته، فامتدت جذورها في التربة، وبسقت، وتعرضت سيقانها، وهو: قد ضعفت إرادته وفترت همته، وقل إيمانه، فلا يستطيع أن يتخلص منها.(89/8)
شهر رمضان شهر التوبة
إن هذا الشهر الكريم هو شهر التوبة، فحيهلا أيها العصاة -وكلنا خطاء- حيهلا لنتوب إلى الله تعالى، ونرفع إليه أكف الضراعة، ونريق دموع الندم على خدودنا، ونعفر وجوهنا بالتراب ذلاً له جل وعلا، ونتخلى عن حولنا وقوتنا، ونعلم أنه لا حول ولا قوة إلا به، ونتذكر أنه إذا لم نتب في هذه المواسم -التي هي مواسم الطاعات، وفيها تحصل رقة القلوب، وسلامة النفوس، وكثرة الذكر، وجود الله تعالى على عباده، وتصفيد الشياطين، -شياطين الجن والإنس- فمتى نتوب؟! هل نتوب حينما تزول هذه المواسم، وحينما تطلق الشياطين، وحينما يتسلط شياطين الجن والإنس على بني آدم؟!! إن من لم يتب في هذا الشهر؛ يخشى عليه ألا يتوب وما يدريك أنه قد يحال بينك وبين رمضان آخر! فإن الحزم كل الحزم، والعزم كل العزم أن تجدد لله تعالى نية صادقة، وتعترف له تعالى بذنوبك، وتتوب إليه تعالى من كل ما أسلفت من ذنب أو خطيئة.
خاتمة: اللهم تب على التائبين، اللهم تب علينا أجمعين، اللهم وفقنا للتوبة النصوح ما دامت ممكنة وبابها مفتوح، اللهم تب علينا يا أرحم الراحمين، اللهم إننا نعلم أنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم ظلمنا أنفسنا، اللهم أسرفنا على أنفسنا، اللهم إنا نعترف بذنوبنا، اللهم إنا نعترف بعجزنا وتقصيرنا، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ليس لنا غنى عن رحمتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نعترف إليك بعجزنا عن أن نقلع عن ذنوبنا إلا بقوة من عندك؛ فجد بها علينا يا جواد يا كريم، اللهم خذ بأيدينا من ذل المعصية إلى عز الطاعة، اللهم أخرجنا من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، اللهم تب علينا يا تواب يا رحيم، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين.
اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل صالح مبرور، وكن لنا في جميع الأمور يا عزيز يا غفور.
نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمدننا بأموال وبنين يا أرحم الراحمين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.(89/9)
سعة رحمة الله وقبوله لتوبة عبده
إن المعصية كانت بالأمس نبتة ضعيفة، هشة، سهلة الكسر، كان بإمكانه أن يقتلعها، وإيمانه كان أقوى وأرسخ مما هو عليه الآن؛ أما اليوم فقد عظمت المعصية وتعمقت وامتدت وضعف إيمانه، فهو أعجز عن إزالتها؛ ولهذا فإن السعيد كل السعيد هو من يبادر المعصية في أوائلها ويحاذرها من بداياتها، ويتقيها.
أما إذا وقع فيها فقد يكون الخلاص صعباً، ومع ذلك فإن أولئك الذين ولغوا في المعاصي إلى أذقانهم، وغرقوا في تيارها؛ فإن الله تعالى يناديهم بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
أي: إنه لا ذنب أعظم من القنوط من رحمة الله عز وجل، فإن القنوط من رحمته ضلال وكفر، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] حتى أولئك الذين كفروا، وقتلوا، وزنوا، يقول الله عز وجل عنهم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68-70] .
ولربما جاء يوم يتمنى فيه أهل المعاصي أن لو كانوا قد استكثروا منها؛ لأنهم قد تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً، كما جاء ذلك في حديث صحيح: {إن الرجل يقف بين يدي الله تعالى فيذكره بذنوبه -لا يذكر إلا صغارها، وينحي عنه كبارها- فيقول الله تعالى له: قد غفرتها لك وأبدلتها حسنات، فيقول العبد: يا رب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!! فتبسم النبي صلى الله عليه سلم حتى بدت نواجذه} .(89/10)
ونبلو أخباركم
البلاء شرط للتمكين، وقد جعل الله تعالى من سننه في الكون أن يبتلي من ادعى الإيمان به سبحانه وتعالى، والناظر في أحوال الأنبياء جميعهم وأولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره كموسى ويوسف وشعيب عليهم السلام، والمتأمل في أحوال أتباعهم والصحابة والتابعين وسواهم، يجد الأمثلة الكثيرة المتناثرة هنا وهناك لمثل هذه الابتلاءات، وكيف تعامل هؤلاء الصالحون معها بقوة وصبر وثبات حتى اكتسبوا رضا الله تعالى وقبوله.(90/1)
من طرائف المحن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
في هذا المسجد المبارك جامع الغنام في الزلفي، وفي هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الحادي والعشرين من شهر شعبان من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، يكون هذا المجلس الذي أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يجعله اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
أحبتي الكرام: جزاكم الله يا أهل الزلفي من أهل ومن عشيرة خيراً، فإنكم نعم الأهل والدار والجار، ولو أن الإنسان وجد من وقته فسحة وأتبع نفسه هواها لما كان له أن يفارقكم، فإن المرء حين يلقاكم يلقى الكرم وحسن الخلق، والأمانة والديانة والرجال الذين يطمع أن يكون لهم نصيب وبلاء في خدمة هذا الدين والقيام عليه.
وليست بالمرة الأولى التي أزوركم فيها، فإننا ونحن قادمون إليكم في الطريق تذاكرنا الزيارات والمحاضرات التي ألقيتها في هذا البلد، وبدون أن أفصح لكم وأبوح بهذا السر إلا أنني أقول إنها بالتأكيد كانت دون العشرين، وأسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان الأعمال الصالحة، وليس ذلك تذكيراً بشيء مضى إلا أنه اعتذار عن التقصير والإخلال، ورجاؤنا ألا يكون هذا التقصير شديداً وإلا فحقكم كبير، ولكم مكانة في القلب يعلمها الله عز وجل، وكل أهل هذا البلد الطيب -من أهل الخير والصلاح- لهم في سويداء القلب منزلة عظيمة، ولعلي أذكر مكتب الدعوة في هذا البلد، وجهده وبلاءه وقيامه بالنشاط الخيِّر، سواء في دعوة العلماء والمحاضرين وطلبة العلم للدروس والمحاضرات، أم في القيام على النشاطات المختلفة وتنظيم البرامج والمخيمات وغيرها، أم توزيع الكتب أم سواها أم في دعوة غير المسلمين من خلال المكتب التعاوني العامر الذي يقوم عليه رئيس المحاكم في هذا البلد الطيب، الشيخ محمد المعيتق حفظه الله.
ذلك الرجل الذي شاب مفرقه في الإسلام ولكنه في روح شاب، فنحن نجده أمامنا إن ذهبنا إلى بريدة وإلى عنيزة وإلى الغاط وإلى المجمعة وإلى الشرقية وإلى جدة فحيث ما ذهبت وجدته أمامك، سباقاً إلى الخيرات حريصاً عليها فأسأل الله تعالى أن يجزيه عني وعنكم يا أهل البلد كل خير، وأن يجعله مباركاً أين ما كان، وأن يكثر في العلماء والمشايخ من أمثاله.
ثم إني أشكر أيضاً كل الأساتذة والقضاة والعلماء والأخيار والأحبة الذي يسمعون لي الآن، سواء أكانوا من هذا البلد أم من القادمين إليه، وأسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعاً بما نقول ونسمع.
أيها الأحبة: عنوان المحاضرة كما سمعتم (ونبلو أخباركم) ولعلكم سوف تلاحظون في هذه المحاضرة ثورة على روتين المحاضرات والدروس، فلن أبدأ فيها كالعادة بأهمية هذا الموضوع وسبب التحدث عنه إلى غير ذلك كما جرت بذلك العادة في الدروس والمحاضرات، رغبة في التغيير والتنويع لا أكثر.
بل سأبدؤها بعنوان يقول: "من طرائف المحن"، وهي عبارة عن بعض القصص الخفيفة والسريعة التي حصلت لبعض الصالحين والعلماء في حياتهم، وهي إعراب ودليل على أن هذه الحياة بطبيعة وأصل تركيبها لا تخلو من بعض الكدر والمحن والمصائب، سواء للأغنياء أو الفقراء، للكبراء أو الضعفاء، للرجال أو النساء، للمسلمين أو الكفار، فالجميع لا بد أن يلقوا في هذه الحياة بعض الأذى، فالأمر كما قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] إلى آخر الآية:- جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هارِ(90/2)
أحد القراء الصالحين مع العبيديين
القصة الثامنة: في عهد الفاطميين العبيديين الذين حكموا مصر وحكموا بعض بلاد الشام وحكموا بلاد المغرب جزءاً من الزمان، وهم كانوا يدعون أنهم من أولاد فاطمة رضي الله عنها ونسبهم ليس بصحيح كما حقق ذلك السيوطي وغيره، المهم أن بعض هؤلاء الفاطميين من غلاة الرافضة ادعى الألوهية، وكان الحاكم يدعي الألوهية حتى قال له الشاعر أبياته المشهورة: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار فألهه من ألهه من عباد الدنيا وعباد المال وطلاب المناصب وطلاب الشهوات، الذين لا يمانعون أن ينالوا ذلك كله ولو أراقوا ماء وجوههم، ولو تمرغوا في الوحل ولو تدربوا على الذل؛ بل ولو ذبحوا إيمانهم، على هذا فإنه لا مانع لديهم.
ادعى هذا الحاكم أنه الإله الرب المدبر، فكان من صنع الله تعالى أن هذا الحاكم ظهر للناس في وقت الصيف، وقد كثر الذباب وقد كان من حوله يبعدون عنه الذباب فيبتعد ثم يعود مرة أخرى، فيبعدونه فيبتعد ثم يعود والناس قد طال عجبهم من تسلط الذباب عليه، وكان في المجلس قارئ حسن الصوت بالقرآن الكريم، خاشع ديِّن صدوق داعية مضحٍّ فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73-74] فصاح الناس كلهم الله أكبر الله أكبر! وكأنما تنزلت تلك الآية في تلك اللحظة، وانجفلوا عن الحاكم حتى سقط عن كرسيه فخاف من القتل فهرب، ثم أضمر شراً لهذا الرجل، وصار يتألفه شيئاً فشيئاً حتى اقترب منه، فقال: إن عندي رسالة أحب أن أرسلك بها إلى فلان، فأخذ الرجل هذه الرسالة وركب البحر فدبر الحاكم مؤامرة لإغراق هذا الرجل، فلما كان في ثبج البحر، وتلاطمت الأمواج، وأظلم الليل، سارع الربان إلى هذا الرجل، فأخذه وألقاه في البحر فأغرقه، ثم واصل طريقه، ومات هذا الرجل، ولما مات رؤي في المنام -رآه رجل في المنام- فسلم عليه، وقال له: والله ما قصر معي ربان السفينة، لقد أوقفني على باب الجنة.
إنه موقف سهل يسير لم يزد هذا الرجل على أن قرأ آية من كتاب الله تعالى، ولكن التوقيت والمناسبة والظروف جعلت هذه الآية تفعل فعلها، فآمن الناس وأدركوا أنه يجب أن يرفضوا هذا المتأله، الذي قال لهم كما قال فرعون الأول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فقالوا: الله أكبر، وقاموا حتى كادوا أن يقتلوا هذا الحاكم، ولو أنهم كانوا أكثر شجاعة وأكثر قوة وأكثر تضحية لكان في هذا الموقف البسيط الشرارة التي تحرق عرش العبيديين المتألهين، الذين حاربوا القرآن وحاربوا السنة وأحرقوا صحيح البخاري وقتلوا العلماء وقضوا على أهل السنة في ديارهم ونشروا البدعة حيث حلوا وأين أقاموا.
الوقفه الثانية: المحن الكبار: وإذا ذكرت المحن الكبار فمن يستطيع أن ينسى أو يترك ذكر رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، طالما لقوا ما لقوا في سبيل الله تعالى، وكذبوا وأوذوا ومنهم من حبس كما حبس يوسف عليه الصلاة والسلام، ومنهم من قُتل كما قُتل يحيى، ومنهم من ضُويق وحاولوا قتله كما فعلوا بعيسى عليه السلام، ومنهم من أخرج من بلده كما أخرج موسى وهارون ومحمد صلى الله عليهم جميعاً وسلم.
إنهم قادة الموكب وأئمة الركب والحديث عنهم يطول ولكني أعرض نماذج لهؤلاء كما عرضت فيمن كان قبلهم.(90/3)
سفيان الثوري مع أبي جعفر المنصور
القصة السابعة: دخل سفيان الثوري على أبي جعفر المنصور -وسفيان الثوري رجل معروف تاريخه كله تاريخ صبر ومصابرة، وبلاء وجهاد، وإيذاء في سبيل الله وصبر واحتساب- دخل مرة على الخليفة أبي جعفر فضرب سفيان البساط برجله بقوة، ثم تقدم وجلس فقال له الحجَّاب: كيف تجلس قبل أن يأذن لك أمير المؤمنين، فقال: إني لا أحتاج إلى إذن أحد، ثم تكلم على أمير المؤمنين ونصحه بقوة وشدة.
فقال الحراس والحجاب للخليفة: يا أمير المؤمنين إن ترك مثل هذا يكون سبباً في الجراءة عليك وعلى سلطانك وقد يمرغ سمعة الدولة ويعرضها للخطر، فلو قتلته "فتبسم الخليفة" وتبسم سفيان، قال الخليفة: إنه سيقول لكم قولاً عظيماً، ما تقول في هؤلاء يا سفيان؟ قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله غيره شر من بطانة فرعون، فإن بطانة فرعون قالوا له: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف:111] يعني من الإرجاء والتأخير: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:36] أما هؤلاء فهم طلبوا قتلي سريعاً، فتبسم الخليفة وقال له: قم سليماً معافى، وأخرجه ولم يتعرض له، وإن كان سفيان قضى بقية حياته كلها مختفياً متوارياً، بل مات ودفن وهو مختفٍ متوارٍ رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.(90/4)
عراك بن مالك مع يزيد بن عبد الملك
القصة السادسة: يزيد بن عبد الملك خليفة أموي، فقد نفى يزيد بن عبد الملك رجلاً إلى جزيرة اسمها دهلك، وكان هذا الرجل اسمه عراك بن مالك، وهو رجل صالح ديِّن خيِّر؛ ولكن لم يعجب الخليفة في هديه وطريقته وعلمه، فغضب منه وكرهه وأبعده وأقصاه، وطالما حصل مثل هذا وغادر المؤمنون ديارهم وبلادهم وأخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، وطالما أوذوا في سبيل الله عز وجل فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله عز وجل، فنفاه إلى تلك الجزيرة -جزيرة دهلك- وكان عمر بن عبد العزيز من قبله قد نفا رجلاً آخر إلى تلك الجزيرة.
ولكن البون شاسع فياترى من هو الرجل الذي نفاه عمر بن عبد العزيز؟ هل نفى عمر رجلاً لصلاحه أو لتقواه أو لورعه أو لفتواه أو لمجاهرته بمسائل العلم؟ كلا، وإنما نفى عمر بن عبد العزيز شاعراً خليعاً يقال له الأحوص إلى تلك الجزيرة، ففي عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى ورضي الله عنه- كان النفي والإبعاد والطرد يكون للشعراء المجان، شعراء الفجور والحداثة والخلاعة والدنيا، ويكون التقريب والإعزاز والإكرام لأهل العلم، وأهل الورع وأهل التقوى وأهل الزهد وأهل العبادة، ولذلك نفى عمر الأحوص إلى دهلك.
أما يزيد بن عبد الملك فقد نفى عراك بن مالك، والطريف في الأمر أن أهل دهلك كانوا يدعون لـ يزيد بن عبد الملك، ويقولون: جزاك الله عنا خيراً يا يزيد فقد أحضرت إلينا رجلاً علّم أولادنا القرآن والسنة والحديث، وكان عمر بن عبد العزيز من قبلك نفى إلينا رجلاً علم أولادنا الشعر والشر، فانظر: مصائب قوم عند قوم فوائد.(90/5)
عطاء بن أبي رباح
القصة الخامسة: عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة وفقيههم وعالمهم ومفتيهم، كان عبداً نوبياً أسود ولكن الله تعالى أعزه بالعلم وكرمه بالطاعة، فسوده أهل مكة عليهم حتى كان الخليفة يأتي فيجده في المسجد يصلي، فيجلس إلى جواره ينتظر السلام ليسأله عن مسألة في المناسك، فإذا سلم عطاء سأله الخليفة فأجابه عطاء جواباً مختصراً ثم قام واستقبل القبلة وقال: الله أكبر، وأعرض عن الخليفة.
حتى قال الخليفة لأولاده: يا أولادي تعلموا العلم، فو الله لا أنسى ذلي بين يدي ذلك العبد الأسود وأنا أسأله عن مسائل العلم.
عطاء كان ملء سمع الدنيا وبصرها، وترجمته ترجمة حافلة مشهورة مشهودة، كان يوماً من الأيام يصلي في بيت الله الحرام، وكان هناك رجل من الحجاج قد نام، فجاءت الريح فدفعت ثوبه فظهرت منطقته، وهو الحزام الذي يتمنطق به وكان به ماله، فعدا عليه بعض اللصوص وأخذوه، فاستيقظ هذا الرجل فلم يجد أحداً، ثم تلفت فلم ير إلا عطاء قائماً يصلي، فجاء إليه وأمسك بتلابيبه وهزه هزاً عنيفاً، فقال له: يا كذا ياكذا أخذت مالي فلما ظفرت بك ووجدتك فزعت إلى الصلاة، يعني: ظن أن عطاء هو الذي أخذ هذا المال.
فقال عطاء: هل علم بهذا أحد؟ قال: لا، إلا أنت.
قال: هلم معي، كم في منطقك من المال؟ قال: مائتا دينار، قال: تعال أعطيك إياها ولا يعلم بذلك أحد، لأن عطاء قد خشي عليه أن يبطش الناس به حينما أذل عالمهم وإمامهم وفقيههم ومفتيهم، فذهب به عطاء إلى بيته وأعطاه مائتي دينار وقال له: اذهب في حال سبيلك، فلما رآه الناس سألوه عن الخبر فأخبرهم فقالوا: أتدري من هذا قال: لا، قالوا: هذا عطاء بن أبي رباح سيد من سادات التابعين، وإمام فقيه حجة ثبت.
فتعجب! وجاء إليه يعتذر إليه فقال: خذ المال، فقال: هيهات، أما المال فقد وهبه الله لك، وأما الحل فأنت مني في حل، فانظر إلى هذا الإمام كاد أن يبتلى بقضية، وكان من الممكن أن تُرَتَّب -لو وجدت مثل هذه المسألة- بعض الأجهزة المتخصصة في التشويه والتشهير، لرتبت منها قضية خطيرة وقالت ونشرت في الصحف وبالخط العريض: عطاء بن أبي رباح يقبض عليه متلبساً بتهمة كذا وكذا، سرقة الحجيج.
ولكان هذا مادة لعدد من التعليقات الإذاعية والإعلامية، بل وربما عُملت أشياء كثيرة من أجل تضليل الناس عن حقيقة هذا الخبر وهذا الأمر، وتشويه صورة هذا الإمام العالم الجليل، ولكن الأمر انتهى عند ذلك الحد، فانظر كيف تحمل عطاء رضي الله عنه ذلك الأمر، وعفا عن هذا الرجل، وأنهى هذه القضية؛ لأنه كان يعمل لله تعالى لا للناس، فليس يضره أن يتكلم الناس فيه ولا أن يعيبوه ولا أن يتهموه بما هو منه براء: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] .
وانظر إلى الناس كيف وقفوا إلى صف عطاء رضي الله عنه، وعرفوا هذا الرجل بحقيقته وطلبوا منه أن يذهب إليه ويتحلل منه ما دام الأمر ممكناً.
وانظر كيف انتهت القضية عند هذا الحد، وأصبح الناس يتندرون بهذه القصة، ويعرفون كم كان مبلغ هذا الرجل من الخطأ وكم كان هذا الرجل بعيداً عن العلم والمعرفة، إذ من هو الذي يجهل عطاء بن أبي رباح وهل يخفى القمر، كلا!(90/6)
أحمد الخزاعي مع الواثق
القصة الرابعة: وهي قصة عجيبة: أحمد بن نصر الخزاعي -هذا من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكان رجلاً فاضلاً عالماً بُلِيَ بمسألة القول بخلق القرآن، في عهد المأمون ثم في عهد الواثق وأبى بأن يقول بأن القرآن مخلوق، بل أصر أن القرآن كتاب الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فحاولوا معه فأبى، فضربوه فأصر، فسجنوه فاستمر حتى أحضره الواثق بين يديه، وقال له: ما هي حجتك في إثبات أسماء الله تعالى والصفات؟ فذكر له أحاديث وأحاديث وآيات حتى مر على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء} .
فقال له الواثق: تثبت هذا الحديث! قال: نعم، قال: أي تثبت أن لله يداً وأصابع! قال: نعم، أثبت ذلك كما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الواثق: وهذا تشبيه وهذا تجسيم وهذا وهذا، فغضب أحمد بن نصر الخزاعي وخرجت منه كلمة شديدة على الخليفة، فقال للخليفة: ما أنت والعلم! كيف تتكلم في مسائل العلم وأنت لا تتقنها، إنما أنت نطفة سكران في رحم قينة، يعني إن أباك كان يشرب الخمر وأمك كانت أمة، قال هذه الكلمة الغليظة للخليفة لأنه تصاغر في عينه لما رأى أنه منابذ للحق معارض للسنة، فغضب عليه الخليفة وأمر بصلبه، فصلب في بعض شوارع بغداد، وكان الإمام أحمد يمر عليه فيترحم عليه ويدعو له؛ ويقول: ذلك رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى، ثم يقول الإمام أحمد: هذا رجل قد قضى ما عليه، صلب مصراً على العقيدة الصحيحة التي توارثتها الأمة: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق.(90/7)
شريك القاضي مع المهدي
أولاً: ذكر الإمام أبو العرب التميمي في كتابه الموسوم بكتاب: المحن، أن الإمام شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي الخليفة العباسي مسلِّماً، فقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فنظر إليه المهدي ولم يرد السلام، فأعادها شَرِيك مرة أخرى، فما رد عليه السلام، فقال له مرة ثالثة: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال المهدي: عليَّ بالنطع، عليَّ بالسيف، عليَّ بالجلاد، قال القاضي شريك: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إني رأيت في المنام البارحة أنك تطأ بساطي وأنت عني معرض، فأتيت بالعابر الذي يفسر الأحلام فسألته فقال: إن هذا الرجل يقبل عليك بظاهره وقلبه مع أعدائك، فأريد أن أقتلك وأنتصف منك، فتبسم شريك بن عبد الله وقال: والله يا أمير المؤمنين ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا معبرك بمعبر يوسف عليه السلام، أفبرؤيا مثل هذه أو تعبير كهذا تراق دماء المؤمنين بغير حق، فلما سمع المهدي هذا الكلام سري عنه وزال ما في قلبه، واعتذر إلى هذا الرجل وقال له: اخرج من مجلسي، فخرج منه وهو يقول لمن حوله: أفرأيتم أعجب من هذا الرجل، يريد أن يقتل امرأً مؤمناً برؤياً رآها.
إنها مثلٌ من محنة خفيفة ألمت أو كادت أن تلم بهذا القاضي المعروف، وفي ذلك عبر وأسوة تدل على أن هناك من الناس من شأنهم وديدنهم دائماً وأبداً الوقيعة والنكاية والتشهير ومحاولة إيقاع خصومهم بأي سبب، وبأي وسيلة، ولعل عابر الرؤيا كان من هذا الصنف، فأراد أن يستغل الرؤيا للإيقاع بخصم من خصومه، وهو شريك بن عبد الله القاضي، كما تدل على أن الحكمة والمنطق السليم من أهم الأسباب في النجاة من مثل هذا الأمر، وهذه الرؤيا والقصة تذكرنا أيضاً بقصة أخرى.
ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة شريك بن عبد الله في ميزان الاعتدال: أن شريكاً هذا أتى به رجل من الرجال إلى مجلس الخليفة العباسي، وذلك أن رجلاً يقال له أبو أمية أمسك بـ شريك وأدخله على المهدي، وقال له: إن هذا الرجل يعني: شريك بن عبد الله القاضي حدثني عن الأعمش عن سالم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استقيموا لقريش ما استقاموا لكم} يعني لحكام قريش، لأن الحكام كانوا من قريش: {فإذا زاغوا عن الحق فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم} يعني نابذوهم وقاتلوهم، فقال الرجل للخليفة: إن شريكاً حدثني هذا الحديث، وهذا الحديث فيه تحريض على الخلفاء في ذلك الوقت وأمر بقتالهم إذا زاعوا عن الحق، وانحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل وحادوا عن المنهج النبوي النبيل.
فقال المهدي لـ شريك: أفأنت حدثته بهذا الحديث؟ قال شريك: لا يا أمير المؤمنين كذب والله ما حدثته، قال ذلك الرجل -وهو أبو أمية -: يا أمير المؤمنين عليَّ الحج إلى بيت الله تعالى ماشياً وكل ما في ذمتي صدقة لله تعالى إن لم يكن حدثني بهذا الحديث، فقال لـ شريك: ما تقول أنت، قال: يا أمير المؤمنين وأنا عليَّ مثل الذي عليه إن كنت حدثته، فقال الخليفة: صدق، وزال ما في قلبه، فقال ذلك الرجل: يا أمير المؤمنين إنه يقول عليَّ مثل الذي عليك يعني عليَّ ثياب مثل الذي على أبي أمية، وليس يقصد أنه في ذمتي أن أحج إلى البيت الحرام ماشياً ولا أن أتصدق بمالي، فاطلب منه أن يحلف كما حلفت، فقال: صدق، احلف يا شريك مثلما حلف هذا الرجل، قال: لا والله لا أحلف بل ما جاءك هو الصحيح، أنا حدثته بهذا الحديث، فغضب الخليفة وقام يسب الأعمش لأنه روى هذا الحديث عن الأعمش، وكان الأعمش قد مات -رحمه الله- وقتها، فقال الخليفة يسب الأعمش: والله لو أعلم قبر هذا السكران لأحرقته، وصفه بأنه سكران وأنه يشرب الخمر، لأن الأعمش كان يتأول في بعض ألوان النبيذ الذي يتأول فيه أهل العراق، وليس من الخمر المسكر ولكنه من النبيذ الذي يسمونه هم بالمنَصَّف، فقال: والله لو أعلم قبره لأحرقته، قال: لا، يا أمير المؤمنين، والله ما كان يهودياً، بل كان رجلاً صالحاً.
الآن انظر كيف تحول شريك من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، وبدأ يدافع عن هذا الرجل الفاضل الأعمش وهو إمام معروف مشهور؛ في وجه الخليفة، ويقول: ما كان يهودياً حتى تحرق قبره، وما أحرقت قبور اليهود، فلماذا يكون اعتداؤك وبلاؤك وعذابك للمؤمنين والأخيار والعلماء ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ما كان يهودياً كان رجلاً صالحاً، قال الخليفة: زنديق، قال شريك: لا، ولا هو بزنديق إن سيما الزنديق معروفة، فالزنديق يشرب الخمر، ولا يحضر الصلاة مع الجماعة، ويلعب مع القيان، يعني لو أراد أن يقولها صريحة لقال: المتهم أنت وليس هو، لأنك تشرب الخمر وتسهر مع القيان ولا تؤدي الصلاة مع الجماعة، فغضب الخليفة وهَمَّ به وقال: والله لأقتلنك، قال: إذاً تلقى الله تعالى بمهجة نفس قتلتها بغير حق، فقال: أخرجوه، فأخرجوه ثم تناوله الحراس يخرقون ثيابه وقلنسوته بالسهام، وخرج هذا الرجل من عند الخليفة سالماً.(90/8)
العبرة من قصة شريك والمهدي
وفي هذه القصة أيضاًَ عبرة، أولئك الرواة الذين يسمعون الحديث؛ وليس همهم أن يرووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يتلقوا العلم ولا أن يستفيدوا ويستضيئوا بنوره، وإنما همهم الوشاية به إلى الخليفة، روى فلان كذا وروى فلان كذا، إن من حق الأعمش ومن حق سالم ومن حق ثوبان ومن حق شريك أن يرووا ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهبوا به على وجهه السليم فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال هذا الحديث لم يقصد به ولم يكن معنى الحديث الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بالشريعة إذا أخطأ أو قصر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح حديث عبادة: {وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان} .
إذاً فالأمر معلق بأن يرى المؤمنون الكفر البواح الصراح، الذي لا لبس فيه ولا خفاء ولا مناورة فيه ولا مداورة، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: {استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإذا زاغوا عن الحق} أي: انحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل إلى الكفر البواح الذي عندكم من الله تعالى فيه برهان، ولكن بعض هؤلاء يسمعون الحديث ويسمعون الأخبار ويسمعون الروايات؛ وإنما همهم منها أن ينقلوا إلى غيرهم وأن يتشفوا من خصومهم، هذا جانب.
الجانب الثاني: ما جبل عليه علماء السلف الصالح كما يظهر في سلوك أسلوب شريك بن عبد الله رضي الله عنه من الصدق والوضوح والصراحة والشجاعة والصبر في ذات الله تعالى، حتى ولو كان في ذلك حتفهم وعطبهم وهلاكهم، فإن شريكاً كان يرى لمعان السيوف ويسمع القعقعة ويسمع أصوات الجند، وبين يديه أعداد متطاولة من الجند ربما لا يدرك البصر مداهم، كل واحد منهم منتظر أن يؤذن له حتى يخطف رأس شريك، وأمامه الخليفة وقد غضب وأحمرت أوداجه وأحمرت عيناه وأرغى وأزبد وزمجر، وكاد أن يفقد صوابه، ومع ذلك ظل شريك محتفظاً برباطة جأشه وقوة قلبه وصبره، حتى دافع عن الأعمش رحمه الله تعالى في مجلس الخليفة وذب عن عرضه لتذب عنه النار يوم القيامة.
ثم إن في ذلك دليلاً على ما تحلى به أولئك الخلفاء في الزمن السابق من التحري والدقة والصبر وحسن الظن، فإن المهدي في المرة الأولى لما قال له شريك: لماذا تستحل دمي برؤيا قد تكون حقاً أو باطلاً، وبمعبر قد يكون أصاب أو أخطأ؟ رجع إلى الحق وأذعن له ولم يمس شريكاً بشيء، وفي المرة الثانية لما حلف له شريك صدقه وكذب الراوي فيما روى أنه أخذ عنه، ثم طلب منه بعد ذلك أن يقسم قسماً صريحاً، فلما أصر لم يتسرع في قتله ولا إيذائه ولا إنزال العقوبة به، لأنه يدري أنه عالم له مكانته وله فضله وأن الأمة لا تعز ولا تعلو ولا تنتصر ولا تقوى ولا تجتمع كلمتها إلا على إعزاز العلماء وإكرامهم، وحفظهم وحفظ مكانتهم وحفظ هيبتهم وعدم المساس بهم، فإن كل أمم الأرض قاطبة منذ فجر التاريخ تعتز بأكابرها وسادتها وأهل العلم فيها، وتفخر بهم وتطلق أسماءهم على معالمها، وتسمي أولادها بأسمائهم، وتذكرهم بالذكر الحسن، وتدرس كتبهم وتحفظ علمهم، لأن الأمة التي ليس لها ماضٍ ليس لها حاضر ولا مستقبل.
مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيّ في الناس انتساباً(90/9)
ماهان مع الحجاج
القصة الثالثة: أرسل الحجاج وهو من هو في بطشه وظلمه وعدوانه، كان والياً معروفاً في العراق، فأرسل إلى رجل يقال له: ماهان - أبي صالح المسبح - وكان رجلاً فاضلاً ديناً عالماً، فقال له الحجاج: إنه بلغني عندك دين وعلم وصلاح، وإنني أحببت أن تلي القضاء، فقال: أنا! قال: أنت، قال: كيف ألي القضاء وأنا لا أستطيع أن أعد من واحد إلى عشرة؟ قال: أنت تتباله عليَّ -يعني: تدعي البله في مجلسي- وتكلم عليه الحجاج وسبه، وقال: أنت مراءٍ، فغضب ماهان من كلام الحجاج وسبه، وخرج من عنده إلى النهر وكان قريباً فقال بأعلى صوته -والناس يسمعون ويرون-: اللهم إن كنت مرائياً فأغرقني، ثم وقع في النهر، فوقف على النهر قائماً وحفظه الله تعالى فلم يغرق حتى خرج يمشي إلى ضفة النهر، فجاءوا به إلى الحجاج، فأمر الحجاج بصلبه، فصلب على باب داره وهو مصر على ذلك، فكان الناس يحيطون به، وفي مثل هذا الموقف رأى هذا الرجل الفاضل بعض التابعين وبعض العلماء والفضلاء ينظرون إليه ويشاهدونه، فقال لواحد منهم: أنت تنظر إلي وتقف مع النظارة! لا تفعل، فإني أخشى أن ينزل عليك سخط الله، اذهب عني.
فانظر إلى هذا الرجل كيف ثبت على موقفه، وكيف أصر على موقفه، ورفض أن يعمل عند هذا الحاكم الظالم المتغطرس الحجاج بن يوسف، الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وصراخاً وسفك دماء المؤمنين بغير حق على ما هو معروف من سيرته وتاريخه، حتى قام عليه من قام من القراء المعروفين على ما هو معروف تفصيله في التاريخ، المهم أن هذا الرجل أبى أن يلي له عملاً واجتهد في ذلك حتى صلب بسببه، ولم ينس وهو في موقف الصلب أن يقدم هذه النصيحة لبعض الحضور من طلبة العلم: أنت يا طالب العلم ليس هذا موقعك، تأتي تتفرج علينا ما نفعت ولا دفعت ولا أنكرت وأصبحت متفرجاً، لا.
إذا كانت المسألة مسألة تفرج فاذهب إلى بيت أبيك وأمك واستخفِ فيه لا ينزل عليك غضب الله عز وجل.(90/10)
محنة يوسف عليه السلام
أولاً: يوسف عليه الصلاة والسلام، لقد كان يوسف نموذجاً للصبر على الابتلاء، ونموذجاً للرجل الذي تجرد لله عز وجل واحتسب، فلم تزده الفتنة والمحنة إلا قوة ونضجاً وصبراً وثباتاً حتى كتب الله تعالى له العزة في الدنيا والرفعة في الدار الآخرة.(90/11)
محنة السجن
المحنة الثالثة: محنة السجن: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] سجنوه: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] كما ذكر الله عز وجل، فماذا كان حاله في السجن: أولاً: كان داعية مؤثراً، أصبح السجن بالنسبة له أمراً عادياً، بل إن السجن بظلمته وجدرانه الطويلة وجلاوزته وحراسه وحدوده أحب إليه وأفضل في نظره من ذلك القصر الفاره الضخم الواسع، نعم.
السجن أحب إليه، ففي السجن يعبد الله ويأمن على نفسه، أما في ذلك القصر فإنه يخاف أن تجره تلك المرأة إلى الفتنة، كان في السجن داعية مؤثراً ولم يجد في السجن غضاضة، بل كان أمره كما قيل: صلابة أرض السجن إن كان قربكم ألذ وأشهى من طري النمارق {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:39-40] وظل يدعو حتى أثر في المساجين وهدى منهم من هدى إلى الله عز وجل، ثم جاءه الفرج بعد حين، وجاءه الرسول يقول: الملك يطلبك! فماذا قال؟ هل استقبل الرسول عند باب السجن وقال: لماذا تأخرتم عليَّ! لا، قال: ارجع إلى ربك، فلن أخرج: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] لا أريد أن أخرج ثم تلاحقني التهم والظنون والأقاويل الباطلة: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] فلما حصحص الحق: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51] ؛ وحينئذٍ يخرج يوسف عليه السلام، وهو مرفوع الهامة عزيز الجانب، قوي الإيمان بريء الساحة، عرضه أطهر من السحابة في سمائها، لا يستطيع أحد أن يقول فيه ولو بالباطل ولو بالسوء.
إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد نجح في هذه الثلاثة الاختبارات كلها، فما سر النجاح؟ لقد بينه تعالى بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] فالقضية مرهونة بمسألتين يسيرتين في اللسان عظيمتين، وإنهما ليسيرتين على من يسرهما الله تعالى عليه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90] .(90/12)
فتنة النساء
المحنة الثانية: فتنة النساء، فهو في قصر العزيز رئيس الوزراء، في قصره الفخم الضخم المشيد: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] إنه امتحان عظيم عسير، يوسف عليه السلام شاب وفي الشباب قوة وشِرَّة وشهوة واندفاع، والشهوة أحياناً تغطي العقل حتى يسير الإنسان أسير شهوته وهو لا يبصر ما أمامه، ويوسف عليه السلام كان شاباً وهو كان عزباً أيضاً لم يتزوج، والمتزوج ربما وجد في زوجته ما ينهي شهوته أو يدفعها أو يدافعها أو يؤجلها، ولكنه كان شاباً عزباً، وهو أيضاً كان غريباً والإنسان في وطنه ربما يمنعه في الوقوع في المحذور خوف الفضيحة والمعرفة والأقارب والأهل والجيران، أما الغريب فهو أجرأ في الوقوع في المعصية وأبعد من الفضيحة، ولهذا تجد الكثيرين إذا هموا بأمر سوء ذهبوا إلى بلاد بعيدة ليفعلوا ما يفعلون بعيداً عن أعين الرقباء، وعن أعين الأهل والمعارف والجيران والأصدقاء والزملاء، وهو أيضاً كان في صورة العبد المملوك، والعبد المملوك جرت العادة أن يؤمر فيطيع، ويوجه فيمتثل وهي كانت سيدة.
فكان موقفه في نظر الناس ضعيفاً ولكنه في الحقيقة قوي، أما المرأة فكانت ذات منصب فهي -إن صح التعبير- سيدة البلاد الأولى زوجة العزيز، فهي ذات منصب وثانياً هي ذات جمال، وما اختار العزيز امرأته إلا وفق معايير في الحسن والجمال مضبوطة معروفة، فهي ذات منصب وجمال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم فيمن يظلهم الله في ظله: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وهي أيضاً المطالِبة بالأمر، فإن المرأة في العادة تكون مطلوبة لا طالبة، والرجل قد يعرض عن طلب المرأة خشية أن ترده، ولكنها الآن هي التي تطلبه وتقول له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] وهي أيضاً في بيتها، في بيت العزيز في القصر وفي خلوة وقد غلقت الأبواب، فأمنت من أعين الرقباء ومع ذلك مارست معه أسلوب الترغيب والترهيب: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] .
فاستعلى يوسف على هذا كله ونجح في هذه المحنة الثانية؛ وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] إذاً: استعان يوسف بربه عز وجل، وسأله العصمة وقال -والله تعالى يعلم أنه صادق-: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] .
نعم.
الشهوة مركبة في كل إنسان وقد جاء في بعض الروايات الإسرائيلية؛ أن يوسف عليه السلام تزوج هذه المرأة بعدما مات العزيز، فدعاها مرة فأبت، فقال: كنت تطلبينني في الحرام والآن أنا أطلبك في الحلال فترفضين! على كل حال هذه روايات إسرائيلية، فإذا صحت هذه القصة؛ فإنها تؤكد هذا المعنى الذي لا شك فيه، وهو أن الإنسان بطبيعته عنده شهوة وعنده ميل، ومنظر المرأة الجميلة يشده ويأسره لكن الإيمان هو الذي يعصمه: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فالذين صدقوا الله تعالى وتعرفوا إليه في الرخاء تعرف الله إليهم في الشدة فحفظهم.
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من أن يتعرض شاب في مثل هذا الحال إلى فتنة وإغواء وإغراء، وهو يتعرض للتهديد والوعيد إن لم يفعل، بل وتنقلب المسألة عليه: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] لقد قلبت امرأة العزيز الأمر وزعمت لسيدها أن يوسف راودها عن نفسها.(90/13)
حسد إخوة يوسف
المحنة الأولى: كانت أول محنة يوسف: حسد إخوته، حسدوه على مكانته عند أبيه ومحبته له وقالوا: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:8-9] لقد ألقوه في البئر فبيع، وعومل معاملة الرقيق وبعد عن الأهل وحيل بينه وبين أبيه وإخوته، وتغرب عن وطنه وعاش غريباً في بلد لا يعرفها، ولا يعرف أهلها وهم لا يعرفونه أيضاً، وبيع في المزاد العلني كما يباع الرقيق، بل بيع بثمن بخس: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] .
ولكن.
هل ضره ذلك؟ لقد لقي الأذى، وعاش في ظلمة البئر، وأوذي وخاف ومشى مع قوم لا يعرفهم وجلس في القصر زماناً طويلاً، ولكن العجب أن الله تعالى عقَّب على هذه المحنة الأولى في حياته بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:21] .
هذه هي بداية التكريم وبداية العلو وبداية الصعود: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف:21] .
فقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] .
نعم.
كانت هذه المحنة بداية تمكين له في الأرض، وتعليم الأحاديث له، وقد عقب عليها سبحانه بقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] .
فالناس لا يرفعون ولا يضعون، ولا يقدمون ولا يؤخرون ولا يقربون ولا يبعدون فإنما الأمر كله لله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] .
كم أراد الناس حطة إنسان فرفعوه، وكم أرادوا تقليله فكثروه، وكم أرادوا ضره فنفعوه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس قال: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] .
ويقول تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] .
إذاً: كانت المحنة الأولى بداية في التمكين والتأييد والرفعة ليوسف عليه السلام، والتعليم الذي علمه الله تعالى وآتاه الله تعالى بعده حكماً وعلماً لأنه كان من المحسنين، لأنه تعامل مع المحنة تعاملاً سليماً نظيفاً صابراً فلم ينقل عنه أنه سب إخوته ولا شتمهم ولا قال فيهم ولا عاملهم بالمثل، بل هو كما قال الله تعالى في آخر السورة: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] فجعله نزغاً من الشيطان بينه وبين إخوته، ولم يقل لإخوانه أنتم فعلتم وفعلتم، وقلتم وذهبتم وجئتم، لا: {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] فكأن الأمر على السواء بين يوسف وبين إخوانه، وأن الشيطان نزغ بينه وبينهم.(90/14)
محنة شعيب عليه السلام
شعيب عليه السلام دعا قومه فـ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88] خياران لا ثالث لهما إما الطرد والنفي والإبعاد، لا تصلحون للوطنية أنتم، لأنكم تشقون الصف الواحد وتمزقون الوحدة الوطنية وأنتم تهددون بحرب أهلية، لماذا؟ لأنهم يدعون إلى دين جديد وعقيدة جديدة وتوحيد جديد، وبموجب دعوة شعيب وغير شعيب عليهم الصلاة والسلام من رسل الله وأنبيائه، سوف ينقسم الناس وينشطرون وينصدعون إلى فريقين: مؤمنين وكافرين: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] .
وهذا لا شك يهدد الوحدة الوطنية، لكن ما هي الوحدة الوطنية؟ إن أي وحدة أو وجود على غير الإيمان وعلى غير الإسلام وعلى غير التقوى فهو إلى ضلال وظلام.
إذاً: لا بد أن تخرج من قريتنا أو تعود، أمامك فرصة -مثلما تعلن بعض الحكومات الآن: أمام المتطرفين مهلة مائة يوم للتوبة وأن يسلموا أنفسهم للأجهزة الأمنية- فقالوا له ذلك: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88] فماذا كان جواب شعيب عليه السلام؟ كان جوابه واضحاً صريحاً مباشراً ليس فيه لف ولا دوران، قال: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [الأعراف:89] إن رجعنا إلى ملتكم فنحن خاسرون كاذبون على الله مفترون مرتدون عن ديننا، وما كان لنا أن نفعل ذلك إلا أن يشاء الله، فالقلوب بيد الله يقلبها كيف شاء.
ومثل ذلك ما قال أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] .
مرة أخرى أصر القوم وتطورت اللهجة وارتفع الخطاب، فـ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] إذاً تطور الأمر من مجرد النفي إلى التهديد بالرجم، يرجموكم: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] إذاً ما خافوا من الله تعالى ولا راقبوه؛ إنما قالوا: تركنا قتلك رعاية للأسرة والعائلة التي تنتسب وتنتمي إليها، ولذلك قال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود:92] .
إذاً تطورت اللهجة -لهجة قوم شعيب عليه الصلاة والسلام- فهددوه بالقتل بل القتل بطريقة بشعة وهي الرجم، وما منعهم من ذلك إلا رهطه: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] بل إن شعيباً عليه السلام طلب منهم أن يصبروا وينتظروا حتى يحكم الله بينه وبينهم، دعوني واتركوني أدعو من هداه الله تعالى، أدعو الناس إلى الدين وإلى التوحيد، فأبوا ورفضوا وهذا يؤكد أن مثل هؤلاء القوم لا يمكن أن يهادنوا أمر الحق أبداً.
فإن الصراع بين الحق والباطل والإسلام والكفر والإيمان والضلال؛ صراع أبدي أزلي لا يمكن أن ينتهي أبداً، حتى لو وضع أهل الخير السلاح، وحتى لو تركوا الأمر، وحتى لو اقتصروا على مجرد أداء الصلوات والنوافل والعبادات، لم يرض منهم أهل الشر بذلك، بل لا يرضون منهم حتى يتركوا دينهم كما قال الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] .(90/15)
محن موسى عليه السلام
موسى عليه الصلاة والسلام إنه لقي من الأذى والبلاء الشيء الكثير.(90/16)
موسى مع بني إسرائيل
بدأت مشكلة موسى حينئذٍ مع بني إسرائيل، مع هؤلاء الاتباع فإنهم يتلونون ويغيرون ويبدلون ويتراجعون، ويحتاجون إلى جهد كبير مرير طويل، وإلى تربية وإلى صبر، فهم يقولون له يوماً: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] يعني: تتركون المن والسلوى طعاماً لذيذاً حلواً، عسلاً وطيوراً وتطلبون الثوم والبصل، ثم يقولون له: حين قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فقالوا له: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] أموسى يخاطب بهذا الأسلوب؟ أكان يهزأ وهو يقول لهم: إن الله يأمركم، هل يكون الهزو في أوامر ينقلها لهم: أن الله تعالى أمرهم بها؟! كلا! بل يأمرهم فيقولون: سمعنا وعصينا، ثم يقولون له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] بل قال لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:58-59] قالوا: حنطة، ودخلوا يزحفون ويقولون حبة في شعيرة، يعني كلاماً ليس له معنى على سبيل السخرية والاستهزاء.
ولهذا موسى عليه الصلاة والسلام لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج: {فقال له: بمَ أمرك ربك؟ قال: بخمسين صلاة، قال: إني قد جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، ارجع لربك فاسأله التخفيف} والحديث في صحيح البخاري، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت الصلوات خمساً، فقال الله تعالى في الحديث: {هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي} .
المهم أن موسى قال: وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، مع أن هذه الأمة لا تقارن ببني إسرائيل فهم أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، وأسرع في الخير، بل هم أفضل الأمم وأول من يدخل الجنة؛ كما أن نبينا محمداًصلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل وخاتمهم وأول من يدخل الجنة.(90/17)
موسى مع فرعون
فأولها: أذية فرعون له ولقومه واستعبادهم، حتى طغى واعتدى وتسلط على بني إسرائيل وعلى غيرهم، وآذاهم أشد الأذى وكانت السجون ملأى {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] أي: إن المساجين بمئات الألوف؛ وأنت سوف تكون واحداً منهم فقط، إذا عبدت غيري ووحدت الله تعالى، فعقابك سهل بالنسبة لنا، كل ما في الأمر أنك تكون واحداً من المسجونين، وننساك طيلة عمرك في السجن ولا نفطن لك أبداً.
ثم القتل والتعذيب حتى كان فرعون يقتل سنة كل المواليد خشية أن يكون من بينهم من زوال ملكه على يده، ثم بعد ذلك كله الاستعباد حتى كان يقول لهم: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ولا يسمح لأحد أن يفكر بغير طريقته، ولا أن يتعبد بغير ملته ومذهبه، ولا أن يعبد غيره، ونشأ على هذا الصغير والكبير، حتى إن ماشطة بنت فرعون لما سقط المشط من يدها؛ فقالت: بسم الله -وكانت مؤمنة- فقالت لها ابنة فرعون: الله، تعني فرعون أبي، قالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، قالت: سوف أخبر والدي، قالت: أخبريه، فلما أخبرته جاء بها فأقرت وأصرت، فأحضر لها نقرة من نحاس، وأوقد عليها بالجمر حتى أصبحت تتوقد حمراء، ثم أحضر أطفالها فوضعهم في هذه النقرة حتى احترقوا أمام ناظريها وعينيها وهي تراهم يسوَدُّون فحماً وحمماً أمامها.
وهي الأم الحنون العطوف التي يسيل قلبها رقة على أولادها، ومع ذلك تجلدت وصبرت صبر الرجال بل صبر الأشداء، ثم قالت له: لي إليك حاجة، وربما فرح الفرعون وظن أنها سوف تتراجع أو تتخلى، أو على الأقل تتظاهر بالموافقة، فقالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ثم أخذها وأحرقها معهم: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14] .
بل سلط فرعون أجهزة الأمن على الناس تراقبهم وتعد حركاتهم وسكناتهم وأنفاسهم؛ وتكتب عنهم التقارير، وتحصي عليهم كل شيء خشية من المؤمنين ومن الإيمان: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] كما هي العادة فرعون يخطب خطبة في شعبه فهو يريد أن يقول: هؤلاء قلة ليس لهم وزن ولا اعتبار ولا أهمية هم شرذمة قليلون: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55-56] وكلمة حاذرون هذه يدخل تحتها كل ألوان المكر والكيد والتخطيط والتدبير والمراقبة التي كانت أجهزة فرعون تعملها ضد الأخيار، وضد الذين يعتبرون متهمين في نظرهم، فلقي المؤمنون -موسى عليه السلام وهارون ومن معهم من المؤمنين- لقوا ألوان الأذى من تسلط فرعون وأذيته لهم.
ثم خرج موسى بقومه، وخرج فرعون وراءه حرباً لهم يريد أن يقتلهم ويستأصلهم، حتى كان البحر أمامهم وفرعون وجنده وراءهم، حينئذٍ ضرب موسى بعصاه البحر ونجا ومن معه من المؤمنين، وأغرق الله تعالى فرعون ومن معه فحينئذٍ مكن الله تعالى للمؤمنين ولبني إسرائيل ولموسى.(90/18)
محن خير البشر صلى الله عليه وسلم
لقد لقي محمد عليه الصلاة والسلام من قومه من أذاهم ما لقي: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] لقد هموا به عليه الصلاة والسلام أن يقتلوه، ويستريحوا منه -فيما زعموا- وأن يثبتوه فيُفرض عليه الإقامة الجبرية ويمنعوه من مغادرة مكة، أو يخرجوه فينفوه إلى بعض البلاد ويرتاحوا من دعوته، فلقد لقي صلى الله عليه وسلم من قومه ما لقي، وفي الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها: {ما أشد ما لقيت من قومك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال في الطائف، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم استفق إلا وأنا في قرن الثعالب -قريباً من منى لم يستفق عليه الصلاة والسلام إلا في ذلك المكان، من الطائف مشى وظل في هم كاد أن يغطي عليه عليه الصلاة والسلام فلما أفاق إذا سحابة قد أظلته وفيها جبريل، فنزل وقال: إن ربك قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وهذا ملك الجبال فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال وقال له: إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بمكة- فقال عليه الصلاة والسلام: لا، بل أستأني بهم، أنتظر وأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً} .
إن هؤلاء الأقوام قد تجردت نفوسهم من حظوظها، فلم يعد الواحد منهم ينتصر لنفسه ولا يغضب لذاته، بل كل أذى يناله في سبيل الله تعالى فهو هين، بل ربما فرح بالأذى كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالنعماء} يفرح لأنها عربون للصبر في ذات الله تعالى، وعربون الصدق في الدعوة وعربون الإخلاص، فإن الإنسان يعلم أنه إذا أوذي في الله فإن ذلك بقوة إيمانه وصدق يقينه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يبتلى الرجل على قدر إيمانه إن كان في إيمانه قوة زيد في بلائه حتى يظل البلاء بالمؤمن فيمشي على الأرض وما عليه خطيئة} .
وسئل صلى الله عليه وسلم -من أشد الناس بلاءً فقال: {الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل} فهؤلاء القوم لم يعد الواحد منهم يبالي لما يصيبه في ذات الله، لقد عمل المشركون ضد النبي عليه السلام وضد المؤمنين ألواناً من الأذى، فعلى سبيل المثال لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] فسمعوا من أهل الكتاب سخرية واستهزاء، بل كان اليهود كلما جدت شعيرة؛ دندنوا حولها وشوشوا وتكلموا وأجلبوا وشبهوا وظللوا، وحاولوا أن يوقعوا في قلوب المؤمنين من الريبة والشك.
وعلى سبيل المثال لما حولت القبلة إلى الكعبة تكلم اليهود وقالوا: لا يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا غيره وبدله، ورفضوا دعوته وأصروا على ما كانوا عليه، ثم سمعوا من المشركين أذىً كثيراً بل تجاوز الأمر الأذى بالقول واللسان، مع أن الأمر والبداية كلمات، ومن سل لسانه -كما يقال اليوم- سل سيفه غداً.
فهؤلاء تكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه وآذوه ثم تطور الأمر إلى الحرب والقتال، فلقيه في بدر صلى الله عليه وسلم ثم في أحد حيث قتل أكثر من سبعين من أصحابه صلى الله عليه وسلم وجرح أكثرهم، بل جرح النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وسقط في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق، حتى قال عليه الصلاة والسلام: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} فأنزل الله مباشرة: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] فالتأديب والتربية والتهذيب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما غضب لشخصه ولا لأنه محمد بن عبد الله القرشي المطلبي الهاشمي، ولا غضب لأنه من مكة ولا لأنه من العرب، لا، إنما غضب لأن هذا اعتداء على مقام النبوة، شجوا نبيهم ومع ذلك يوجه الله تعالى ويعلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] إنهم لم يتركوا سبيلاً إلا سلكوه.(90/19)
افتعال العداءات بين الصحابة
كذلك افتعل هؤلاء الخصومة والعداوة بين أصحابه صلى الله عليه وسلم وحاولوا أن يثيروا نعرات الجاهلية مرة بعد أخرى، وبذل المنافقون في ذلك جهداً وعناءً عظيماً، وكلما جاءت مناسبة؛ كما في قصة المريسيع التي قام فيها المنافقون، فقال قائل: يا للمهاجرين، وقال آخر: يا للأنصار، حتى كادوا أن يقتتلوا، ومرة أخرى كما في صحيح البخاري: {مر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم ودعاهم إلى الله، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: ما أحسن ما جئت به، لكن إن كان ما جئت به حقاً فلا تَغْشَنا في مجالسنا، اجلس في بيتك ومن أحبك جاء إلى بيتك، فقال بعض الصحابة: بل اغشنا يا رسول الله، فإنا نحب ذلك، فتثاور الحيان حتى كادوا أن يقتتلوا، فما زال النبي -صلى الله عليه وسلم يخفظهم حتى سكنوا} فحاولوا أن يفتعلوا الخصومة والعداوة بين المؤمنين، ويفرقوهم جماعات.
كان اسم المهاجرين واسم الأنصار اسم شرعي إسلامي ذكره الله تعالى في القرآن، وذكره النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث، ولم يرتبط بهذا الاسم عصبية ولا حزبية ولا قبلية ولا عداوة، بل كان سبيلاً للمنافسة في الخير، فاستغله المنافقون أو حاولوا أن يحولوه إلى عداوة، أن يكون المهاجرون ضد الأنصار؛ أو أن يكون الأنصار ضد المهاجرين من أجل أن تثور العداوة بينهم، لأنهم يعرفون أنه لا تروج بضاعتهم ولا تنفق سوقهم؛ إلا حينما يشتبك المؤمنون فيما بينهم، وينشغل بعضهم ببعض، فحينئذٍ سيكون لليهود فرصة، وسيكون للمنافقين فرصة، وسيكون للمشركين الوثنيين فرصة، أما إن كانت كلمة المؤمنين مجتمعة فإنه لا شأن لهؤلاء جميعاً.(90/20)
الحصار الاقتصادي
ثالثاً: الحصار الاقتصادي، أما في مكة ففي شعب أبي طالب ظلوا سنوات محصورين في الشعب، لا يصل إليهم طعام ولا شراب ولا لباس ولا شيء إلا على سبيل الاستخفاء، حتى سمع صياح الأطفال وتضاغيهم من بعيد، وقريش المشهورة بإكرام الضيوف والنجدة والكرم والحمية لا ترق على هؤلاء، لماذا؟ لأن المسألة مسألة كفر وإيمان، فحاصروهم في ذلك الشعب حصاراً طويلاً حتى زال ذلك الحصار.
أما في المدينة فقد قال المنافقون قولتهم المشهورة: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون:7] إنهم يظنون أن المال عندهم، وأن توقفهم عن الإنفاق أو الصدقة أو بذل المرتبات لمستحقيها أو ما أشبه ذلك، أنه يكون سبباً في بُعد المؤمنين وانحيازهم، والواقع أن هذا لا يزيد المؤمنين إلا صدقاً، لأن أولئك المؤمنين ما جاءوا يطلبون مالاً ولا دنيا ولا جاهاً إنما جاءوا يطلبون ما عند الله، والرسول عليه الصلاة والسلام -أيُّ رسول- ما كان يعدهم أبداً بالملك، ولا يعدهم بالمناصب الوزارية، ولا يعدهم بالتمكين الدنيوي إنما كان يعدهم على أن يبايعوه ولهم الجنة، أما دون ذلك فالأمر إلى الله إن شاء نصرهم؛ وإن شاء نصر الجيل الذي بعدهم، فالأمر بيد الله يؤتيه من يشاء، ولهذا فأولئك المؤمنون مقاييسهم مختلفة لا ينظرون إلى الدنيا ولا إلى زخرفها ولا إلى المال.(90/21)
التشكيك في المقصد
وكذلك التشكيك في مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ونيته: إنه يريد المال ويريد الملك ويريد الجاه، حتى قالوا له: إن كنت تريد مالاً! إن كنت تريد ملكاً! إن كنت تريد زوجة! وقالوا: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] هذا يريد الكبرياء، بمعنى واضح: يريد السلطة، يريد أن يجتمع عليه العرب، ويريد أن يتوج ملكاً، حتى لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بدأ المنافقون واليهود يتهامسون بمثل هذا الأمر، وأن محمداً يريد الرياسة ويريد السلطة ويريد الجاه ويريد المنصب، وليس داعياً إلى الله عز وجل.
لكن مثل هذه الأشياء من تخدع؟! من تدخل قلبه مثل هذه الأشياء؟! لقد ذهب عبد الله بن سلام -وهو يهودي في ذلك الوقت- كما في سنن الترمذي وهو صحيح، إلى النبي عليه السلام لما دخل المدينة مهاجراً، قال: فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب، ينطق الصدق في جبينه، وتنطق العقيدة الصافية في محياه، ويجري الحق في عروقه، فهو صلى الله عليه وسلم صادق كل الصدق، مخلص كل الإخلاص، متجرد كل التجرد، حتى يرى هذا في وجهه عليه الصلاة والسلام.(90/22)
الطعن في العرض
الطعن في عرضه صلى الله عليه وسلم وكان من أبرز ذلك الخطة التي دبرها المنافقون بالتعاون مع اليهود وضللوا بها بعض ضعفاء الإيمان؛ في الطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لأنه طعن في بيت النبوة، واتهام في امرأة يحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدخال للحزن والقلق على المؤمنين، وقد أصاب المؤمنين من جراء ذلك -شهراً كاملاً- أصابهم ضر وهَم وحزن وبلاء، ثم كان ذلك عين الخير للمؤمنين، قال الله تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] رفعة ومكانة ومن هي المرأة التي حظيت بتزكية الله تعالى لها من فوق سبع سماوات، ونزل القرآن يبرئ ساحتها ونزلت فيها آيات عظام من سورة النور تتلى وتقرأ حتى أصبح من يطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كافراً، لأنه مكذب لله تعالى فيما أنزل وأخبر.(90/23)
التشكيك في مستقبل الدعوة وسلامتها
التشكيك في مستقبل الدعوة وسلامتها: قالوا هذا رجل سينتهي انتظروا هي فترة وجيزة، مثلما ذهب النابغة، ومثلما ذهب فلان: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] نعم، تربصوا، الزمن في صالحنا، الوقت لنا: {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] وذهب هؤلاء.
لو سألتكم أنتم أيها الإخوة: من منكم يعرف اسم أبي جهل؟ الذي يعرفه منكم قليل، اسم أبي لهب؟ أنا لا أعرفه! حتى أسماؤهم لا تعرف، ولا يذكرهم الناس إلا باللعنة، لكن أقل واحد من الصحابة وأصغر واحد من أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح الناس لا يرون ذكره إلا مع الدعاء بالترضي، فكل صحابي يذكر: رضي الله عنه وأرضاه، فضلاً عن كبار الصحابة، فضلاً عن إمامهم وسيدهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم.
فهو ملء سمع الدنيا وبصرها، وملايين المآذن في مشرق البلاد ومغربها تصدع في كل يوم خمس مرات: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، إنها تعلن انتصار دين محمد صلى الله عليه وسلم -وأنه بقي وذهبوا، وانتصر وخُذِلوا، ومضى يجتاز الزمان والمكان والقرون والدهور عليه الصلاة السلام؛ ويعمر العقول والقلوب، أما هم فذهبوا- أعني من مات منهم على الكفر -ذهبوا إلى نار جهنم وبئس المصير، ولم يبقَ لهم ذكر في الدنيا أبداً، حتى أقاربهم يتبرءون منهم ويستحون أن يكون أحدهم ابن فلان أو حفيد فلان.(90/24)
الحصار الإعلامي
الحصار الإعلامي: قالوا: ساحر شاعر كذاب، حتى كان الرجل يأتي إلى مكة فلا يزالون به حتى يضع القطن في أذنيه خشية أن يسمع شيئاً من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم يستفيد النبي عليه السلام من مناسبات الحج وغيرها، واجتماع العرب في المواسم فيدور عليهم: {أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي} فماذا صنعوا؟ كان أقرب الناس إليه أبو لهب يمشي وراءه ويقول: لا تطيعوه لا تصدقوه، فإنه كذاب يريد أن تتركوا اللات والعزى وتتركوا حلفاءكم من الجن إنه وإنه بل يبعثون إلى ملك الحبشة من يقول له: أنت آويت بعض هؤلاء، ونحن قومهم وأبصر بهم إنهم قالوا وقالوا حتى قالوا، في عيسى قولاً عظيماً، ماذا قالوا في عيسى؟ قالوا: إنه عبد الله ورسوله.
فهذا هو الحصار الإعلامي.(90/25)
التصفية الجسدية
ثانياً: التصفية الجسدية، محاولات كثيرة لاغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام لقتله، حتى كان من آخر ذلك أنهم في ليلة الهجرة تآمروا عليه وجندوا مجموعة من الفتيان لقتل النبي عليه الصلاة والسلام بنية أن يتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع أهله ولا عشيرته أخذ الثأر من قبيلة بعينها، بل حتى في المدينة بعثوا إليه بعوثاً لمحاولة اغتياله عليه الصلاة والسلام.(90/26)
استمرار المحن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم
ثم كان بعد ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من ألوان الابتلاء ما يذكرك بما حصل للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حتى قيل للإمام أحمد رحمه الله وهو أحد الذي أوذوا في سبيل الله وعذبوا حتى جلس في السجن مرة واحدة ثمانية عشر شهراً متواصلة، قيل: لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً، لفضله وعلمه وجلالته ورفعة قدره في هذه الأمة.
وقد سبقت ترجمة الإمام أحمد في درس خاص، وهكذا الإمام مالك فأمره هكذا، قد لقي من العناء ما لقي وتحدثت عنه سابقاً، ومثله أيضاً العز بن عبد السلام والمنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم من علماء هذه الأمة ودعاتها وأئمتها، وسأتحدث إن شاء الله في فرص ثانية عن أئمة آخرين كالإمام الشافعي وأبي حنيفة وابن تيمية وابن القيم والنووي وابن حزم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
أيها الإخوة: إن الوقت انتهى ولم أصنع شيئاً فهذه وريقاتي في يدي كما كانت، ولذلك أترك بقيه الموضوع وقد بقي منه جزء كبير مهم جداً، أتركه إن شاء الله إلى محاضرة أخرى وأترك بعض الوقت لقراءة بعض الأسئلة.
كثيراً ما يسألني بعض الشباب عن كتب تزكى للقراءة، ويقترحون في كل درس أو محاضرة أن أقدم لهم كتاباً، وقد وقع في يدي هذا اليوم كتاب اسمه: قواعد الاعتدال لمن أراد تقويم الجماعات والرجال، بقلم عقيل بن محمد بن زيد المقطري من اليمن وقد طبع الكتاب في مكتبة دار القدس في صنعاء، ونشر في دار ابن حزم، هذا الكتاب على قصره قرأته اليوم فوجدته كتاباً قيماً ممتعاً مفيداً معتدلاً، وأنصح الإخوة من الشباب وغيرهم بقراءته ونشره أيضاً، لما احتواه من القواعد والفوائد والمعلومات والاعتدال فيما يطرح وما يقول.(90/27)
الأسئلة(90/28)
ضرورة اهتمام الموجهين بالمدرسين ظاهراً وباطناً
السؤال
بعض الموجهين التربويين يهتم بالأشياء الشكلية كحضور المدرس وتحضيره، أما سلوكه ومظهره، فلا، أرجو التنبيه على هذه النقطة؟
الجواب
من المفروض والواجب الاهتمام بالأمور كلها الظاهر والباطن، فكما يهتم الموجه مثلاً بالتحضير والحضور وهندام المدرس، فعليه أن يهتم -بصورة أعظم وأقوى- بأخلاق المدرس، ودينه، وتقواه، ونجاحه في مهمته العظيمة التي هي تربية الأجيال، أما هذه المظاهر، فلا تكفي وحدها.(90/29)
الدوافع الحقيقية لإبعاد الفلسطينيين عن بلادهم
السؤال
ما هي الدوافع الحقيقية لإبعاد الفلسطينيين عن بلادهم؟
الجواب
لقد أراد اليهود من وراء هذا وسعوا إلى أن تكون ضربة قاضية على منظمة حماس، وهي إحدى المنظمات الإسلامية القوية داخل فلسطين، وكذلك ضربة إلى الصحوة الإسلامية كلها حينما عمدوا إلى الخطباء والقضاة والمفتين والعلماء، وأساتذة الجامعات، وغيرهم من أهل العلم والدعوة والدين، فأبعدوهم، فقد انتخبوا هؤلاء الأربعمائة انتخاباً قوياً دقيقاً، ورأوا أنهم بذلك يطفئون نور الله عز وجل، ولكن خابوا وخسروا، فإن دين الله منصور وظاهر، وإذا أبعدوا أربعمائة، آلى المسلمون في فلسطين على أنفسهم أن يخرجوا بإذن الله تعالى أربعة آلاف يقومون مقامهم في العلم والدعوة والصبر والجهاد، بل إن الأخبار ذكرت أمس أن قوات الأمن اليهودية قتلت صبيين فلسطينيين في سن الخامسة عشرة، وجرحت أربعين، عشرون منهم دون الخامسة عشرة، نعم، إنه الإيمان يتحرك حتى في قلوب الصبية الصغار، حتى في أبناء الثامنة والتاسعة والعاشرة، فهم يعلنون الإيمان، ويعلنون رفضهم لدين وحكم وشريعة اليهود، ويطالبون بحكم الله تعالى ورسوله، وهم والله الذي لا إله غيره منصورون، أحلف بالله، ولا أستثني اليوم أو غداً، وإن غداً لناظره قريب، أقول هذه من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {تقاتلون اليهود، فتقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله} وأعتقد أن هذا ليس بالأمر البعيد، فإن الإرهاصات والبوادر والبشائر تؤكد أن يوم الإسلام الذي تخفق فيه راياته يوم قريب، والقريب في ميزان الله ليس هو القريب في ميزانك، ربما القريب عندك أنت أسبوع، وترجع الآن إلى البيت تتحرى أن تسمع شيئاً، لا، ليس الأمر كذلك، خمس سنوات، وعشر سنوات، وعشرون سنة لا تعد شيئاً في أعمار الأمم.(90/30)
تعليق على زيارة البابا يوحنا للسودان
السؤال
ما تعليقكم على زيارة البابا يوحنا للسودان؟
الجواب
زيارة البابا يوحنا للسودان هي مصيبة عظمى، ولا شك، وقد قرأت هذا اليوم في جريدة الحياة بعض التصريحات لبعض المسئولين في حكومة السودان، فأزعجتني وآذتني، وأقول: نعم نحن نعرف لماذا جاء البابا إلى السودان، لقد فرض البابا زيارته على السودان فرضاً؛ بل والعالم الغربي النصراني كله يرمي السودان عن قوس واحدة، ويتهمهم بأنهم أخلوا بحقوق الإنسان النصراني في الجنوب، وأنهم يحاربون النصارى حرباً دينية، وأن الحكومة الموجودة في السودان حكومة أصولية إسلامية، ولا بد من القضاء عليها، نعم الغرب يتواطأ على ذلك؛ بل المبكي والمحزن أن الدول العربية تؤيد الغرب على ذلك وتدعمه وتناصره في الحصار الاقتصادي والإعلامي، وإيواء من يسمونهم بالمعارضة، وهم من الشيوعيين والمنافقين في الغالب، فيلجئون إلى بعض البلاد، ويصدرون البيانات في النهار، أما في الليل، فهم يسهرون في الخمور والقمار وغير ذلك من المعاصي، كما نعلم ويعلم غيرنا هذا هو حال من يسمونهم بالمعارضة السودانية في معظم البلاد، الغرب يريد إفقار حكومة السودان، ولذلك جاء البابا في تلك الزيارة وتكلم، والتقى اليوم بالقساوسة، ومن يسمونهم برجال الدين النصارى في أحد الكاندرائيات الموجودة في الخرطوم، وتكلم البارحة بكلام معلوم.
ولكنني أقول: هذا كله يفسر الزيارة، ولكنه لا يبررها، ولا يسوغها، فنحن نقول للإخوة في حكومة السودان: إن المسلمين مهما كانت الأسباب لا يرضون منكم أبداً باستقبال هذه الطاغية الفاجر الفاسق، ولا بإحسان الظن به، ولا بالحديث معه، ولا بالجلوس إليه، وفوق ذلك كله لا يقبلون من بعض مسئوليكم أن يدلوا بتلك التصريحات التي نشرت اليوم في جريدة الحياة، الذي يقول فيها ذلك المسئول: إننا نريد أن نعلم العالم أننا مع النصارى في خندق واحد، وهو خندق المؤمنين، كلا، نحن في خندق، وهم في خندق آخر، نحن فقط في خندق المؤمنين، وهم في الخندق الذي ذكر الله بقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6] ، فهم كفار بنص كلام الله سبحانه وتعالى، ونص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للمسلم أن يحاورهم إلا على سبيل دعوتهم إلى الله تعالى، وإقامة الحجة عليهم، وإزالة الشكوك والشبهات الموجودة في قلوبهم، نعم، نحن نقدر بعض الظروف التي يعيشها السودان.
ولكننا نعتقد أن هذه الظروف لا تسمح أبداً بمثل هذا الكلام، وكان يمكن أن تعالج المسألة بغير هذا الأسلوب، وبغير هذه الطريقة، فهذا خطأ كبير وقع، وكوننا وقفنا مع السودان فيما مضى، وسنقف معه في المستقبل متى ما أصيب، لا يعني أبداً أننا نسكت عن الخطأ، وإنما نقول للخطأ خطأ، ويجب أن يرد على من وقع منه كائناً من كان، وأقولها لكم صريحة: ونحن لا تربطنا بالسودان، ولا بغير السودان، ولا بالقريب، ولا بالبعيد، ولا بالجماعات الإسلامية، ولا بالدعاة، والله الذي لا إله غيره لا تربطنا إلا رابطة واحدة وهي أن من رأيناه قال حقاً، قلنا له: أصبت، ومن رأيناه أخطأ، قلنا له: أخطأ بحسب اجتهادنا.
وفي الختام: ولعلنا أطلنا عليكم والأسئلة كثيرة وأود أن نجيب على بعضها لكن الوقت لا يسعف، فأختم هذا المجلس بهذه الدعوات التي أسأل الله تعالى أن لا يحجب عنها أبواب السماء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر جندك الموحدين فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اهدنا واهد لنا واهد بنا يا رب العالمين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك أن توفق جميع الحكام للعمل بشريعتك والعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وفقهم لإعزاز الحق والعمل به والدعوة إليه، اللهم اجعل كتابك وسنة نبيك هما الحاكمان في كل بلاد الإسلام، اللهم وفق المسلمين للحكم بكتابك وسنة نبيك يا حي يا قيوم، اللهم أصلح ولاة المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح الولاة في هذه البلاد، اللهم واجعلهم هداة مهتدين، اللهم وفقهم للعمل بالكتاب والسنة، اللهم وفقهم لتحكيم الشريعة، اللهم وفقهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم أعد المبعدين إلى ديارهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصر المسلمين في بلاد الشام يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في العراق، اللهم انصر المسلمين في أفغانستان، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم وحد صفهم، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تطفئ الفتنة الثائرة بينهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا؛ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تطفئ الفتنة الثائرة بينهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم وحدهم على الحق، اللهم وفقهم لتحكيم كتابك وسنة نبيك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك أن تنصر المسلمين في أرض البوسنة والهرسك يا حي يا قيوم، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم احفظ أعراض المسلمات، فإنا سمعنا أن عدد المسلمات المغتصبات يزيد على مائة وعشرين ألف مسلمة، وسمعنا أيضاً من الثقات أن ستين ألف مسلمة قد حملن من هذا الاغتصاب، وأن الصرب يرهنونهن حتى تتجاوز مدة الحمل ستة أشهر ليأمنوا أن لا تجهض المسلمة، ويطمئنوا أنها سوف تلد ولداً من سفاح لا من نكاح، فياذ الجلال والإكرام اجعلهم بعين رعايتك وحفظك وعطفك ولطفك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انتصر لهم، اللهم عليك بالصرب الظالمين، اللهم عاجلهم بالعقوبة يا حي يا قيوم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم عجل بهلاكهم، اللهم أحصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تبق على الأرض منهم أحداً أبداً يا رب العالمين، اللهم عليك بالكروات، اللهم عليك بأعداء الإسلام الشيوعيين في جمهوريات المسلمين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك للمسلمين في كل أرض وتحت كل سماء، أن تكون لهم بكل خير أسرع، اللهم انصرهم في بلاد المغرب، اللهم انصرهم في بلاد الجزائر، اللهم انصرهم في تونس، اللهم انصرهم في المغرب، اللهم انصرهم في موريتانيا، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم إن العالم كله قد تبرأ منهم ونفض يده عنهم لا شرقاً ولا غرباً حتى المسلمون تنكروا لهم بل ربما صافحوا عدوهم وربما ناصروا عدوهم؛ فياذا الجلال والإكرام ويا من بيده مفاتيح كل شيء ويا من يقول للشيء كن فيكون، إنا نسألك بكل أسمائك الحسنى وكل صفاتك العليا يا ذا الجلال والإكرام أن تنصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أَفْرِح قلوبنا بنصر الإسلام، اللهم عجل بالنصر للمسلمين، اللهم يا رب من دعا إلى دينك مخلصاً صادقاً من قلبه لا رياء ولا سمعة فانصره وأيده يا ذا الجلال والإكرام، وأعلِ شأنه وارفع كلمته ووفقه وأصغِ له الأسماع، وهيئ له القلوب، وانصره نصراً مؤزراً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا رب ومن دعا يقصد غير ذلك يقصد الرياء والسمعة أو الدنيا أو يقصد العاجل، فإنا نسألك باسمك الأعظم يا ذا الجلال والإكرام، أن تهدي قلبه وتصلح نيته وتوفقه لكل خير وتتوب عليه إنك أنت التواب الرحيم، اللهم يا رب: ومن سبق في علمك من هؤلاء أنه لا يهتدي، فاللهم يا رب إنا نسألك أن تجعل كيده إلى بوار، وأمره إلى خسار، وأن تدير عليه دائرة السوء، وأن تكشف أمره للمسلمين، وأن تفضحه ولو في عقر داره يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تب علينا، اللهم لا تفضحنا، اللهم استرنا، اللهم اغفر لنا، اللهم وفقنا، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(90/31)
دعوة للتبرع
السؤال يقول: شهر رمضان على الأبواب نسأل الله أن يبلغنا وإياكم وجميع المسلمين إياه على خير وعافية، وأعتقد أن لهذا المكتب التعاوني جهداً مضاعفاً في هذا الشهر المبارك ولمساعدته نأمل حث الجميع على التبرع لهذا المكتب؟
الجواب
نعم هناك المكتب التعاوني في هذا البلد وهو مكتب كبير ونافع، ويقوم عليه الشيخ محمد وثلة من المشايخ والعلماء الفضلاء والدعاة والقضاة وغيرهم، وله جهود كبيرة والحمد لله أصبح له سمعة حتى خارج هذا البلد، فأنا أدعوكم أيها الإخوة الحضور، بعد الصلاة إلى أن تبذلوا ما تجود به أنفسكم من الخير؛ ولو قليل في هذا العمل العظيم وليس من الزكاة إنما من التبرعات ومن الصدقات النوافل التي يبذلها الإنسان من غير الزكاة المفروضة.
كما أني أدعو التجار والمحسنين والأثرياء وأهل الخير إلى أن يسارعوا في البذل في مثل هذه الميادين، وأن لا يترددوا ولا يتأخروا، فإن الله تعالى قال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فلمن تدخر المال؟! لمن يأكله بعدك، أو ينفقه بعدك فيكون عليك وزره وله أجره! فسارع في الإنفاق: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10-11] .(90/32)
العمل في توزيع الخير
السؤال
أنا أعمل أيضاً في شركة أرامكو وجاءت أوامر من إدارتنا بمنع الأشرطة الإسلامية التي تحذر المسلمين من مشاركة الكفار في أعيادهم كأشرطتكم، وأشرطة الشيخ سفر والتي كان يوزعها بعض الشباب، فما حكم هذا العمل، وهل نطيع هذه الأوامر وما نصيحتكم؟
الجواب
الذي نراه أن للمسلم أن يوزع من الأشرطة والكتب والفتاوى كل ما يحتاج إليه المسلمون من الخير، ويساهم في توعيتهم وإرشادهم، ولكن ينشر بالطريقة التي توصل الخير دون أن تسبب له ضرراً.(90/33)
التثبت في الأخبار
السؤال
أريد نصيحة لأولئك الذين لا يترددون في نشر الأخبار المختلقة، والمشوهة لبعض الدعاة والمصلحين، وخاصةً رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنني كنت أصدق بعض الأخبار، ولكن حينما تكشفت الحقيقة، تركت ذلك.
الجواب
نعم، هذه من المشكلات، ويقولون -مع الأسف الشديد- أصبحت الإشاعات والأقاويل الباطلة تروج بين الناس، ولقد سمعت بأذني أخباراً وأقوالاً أحلف بالله العظيم أنها أخبار مكذوبةٌ مختلقةٌ لا أقول: يرددها عوام، ولا بلهاء، وإنما يرددها طلبة علم محسوبون، وقرَّاء لكتاب الله تعالى، وربما أئمة أحياناً، وهذا من الخطأ البين العظيم؛ والحمد لله اليوم تيسرت الأخبار، وسهلت الأمور، فالتحري والتثبت أصبح ميسوراً، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، وفي قراءة: (فتثبتوا) {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ، وليس شرطاً أن يكون الفاسق فاجراً معلناً بفجوره، فقد يكون فسوقه من جهة خفية؛ وقد يكون فاسقاً بالغيبة، أو بالنميمة، أو بالحسد، أو ببغض أهل الخير، وقد يكون فاسقاً بغير ذلك مما يعلم به فسق الإنسان، فإذا جاءك فاسقٌ بنبأ، سواء كان فسقه ظاهراً، أم خفياً، فعليك أن تتثبت، والتثبت سهل، فما عليك إلا أن تدير قرص الهاتف وتقول: يا فلان هل سمعت كذا، هل هو صحيح أم لا؟، أو تذهب برجلك إلى إدارة الهيئة، وتقول: أيها الإخوة: هل سمعتم كذا، وستجد الاستقبال والإيضاح، وسوف تعلم أن (90%) على الأقل مما يقال ويشاع وينشر كذب لا أصل له، أما (10%) الباقية، فقد لا تكون كذباً صراحاً بواحاً، فقد يكون لها أصل، ولكن زيد عليها ونقص وغير وبدل، فأدعو المؤمنين كل المؤمنين إلى التحري والتثبت، وألا يتعجلوا في الأمر، لئلا يندموا بعد ذلك حيث لا ينفع الندم، إياك وما يعتذر منه، فليس هناك داعٍ إلى أن تذهب غداً إلى فلان كي تعتذر منه، وتقول له: اسمح لي أنا وقعت في عرضك، أو كذبت عليك، دع هذا من الآن، وإياك وما يعتذر منه.(90/34)
العمل في شركة فيها كفار
السؤال
نحن إخوان لكم في الله أتينا من المنطقة الشرقية لمشاركتكم وزيارتكم في الله تعالى، مجموعة من الشباب نعمل في شركة أرامكو في الأمن الصناعي، وللأسف الشديد أنه في كل يوم جمعة تفتح الشركة أبوابها للنصارى الذين يعملون في المنطقة الشرقية لكي يؤدوا صلاتهم في الكنيسة التي تقع في الشركة، ويوزع عليهم مجاناً الإنجيل الذي وقع تحت يدي، ونحن نعمل في البوابات ولا يمكننا منع النصارى الذين يريدون الدخول لعدم وجود أمر بمنعهم فما موقفنا وبمَ تنصحنا؟
الجواب
الشر كبير وعظيم اليوم، وإذا لم يستيقظ الغيورون فأخشى أن يغزوا في عقر دورهم، فبالأمس هاتفني أحد الناس وقال لي: عندي عمال من الهندوس وقد أسلموا؛ فذهبت إلى بعض مكاتب العمل فقالوا: لا بد من مراجعة السفارة، قال: فذهبت بهم إلى السفارة ووجدت أن السفارة قد فرضت قيوداً وشروطاً عظيمة تعجيزية، وكأنها في الحقيقة تقول لهم لا تسلموا، قيود وإجراءات وأوراق والتزامات مالية حتى إن من الشروط أنه لا بد أن يعلن إسلامه في الصحف الهندية، وأعتقد أن إعلان المسلم الهندي الجديد إسلامه في الصحف الهندية أعتقد أنه انتحار، ومغامرة ومخاطرة لأنه تحدٍ صارخ صريح لهؤلاء القوم.
ونحن نرى اليوم المسلمين الأصليين يقتلون في الهند فكيف به ينتقل عن الهندوسية مثلاً أو البوذية إلى الإسلام، سيكون هذا تحدياً وسيكون نوعاً من انتصار الإسلام، ولن يقر للبوذيين ولا للهندوس قرار حتى يقتلوه وينتقموا منه لدينهم وآلهتهم المدعاة.
فيجب على المؤمنين أن يقوموا لله تعالى قومهً صادقة، وأن يبذلوا وسعهم وجهدهم وأن ينفضوا عنهم غبار النوم والكسل، وأن يصدقوا الله تعالى في الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل الوسع في ذلك والصدق مع الله تعالى.
فالأمة كلها مطالبة أن تدعو إلى الله، دعوة غير المسلمين وبذل الوسع معهم أعطه كتباً أعطه أشرطة، لا تمل من مناصحته ومناقشته والأمر بالمعروف، وكذلك المسلم المقصر ابذل كل جهدك في ذلك.
أما أولئك الإخوة الذين يوجدون في مثل تلك المواقع فأقول: إن كان بقاؤهم في مثل تلك المواقع فيه خير ودفع لبعض المفاسد؛ وتحقيق بعض المصالح، فعليهم أن يبقوا ولا ينتقلوا منه؛ إلا أن ينتقلوا إلى مجال آخر يكون نفعهم فيه أعم وأعظم.
أما إن كان وجودهم وعدمهم سواء، فهم لا ينفعون ولا يدفعون ولا يقدمون ولا يؤخرون، فعليهم أن ينجوا بأنفسهم ويبحثوا عن عمل يرضى الله تعالى عنه، وأبواب الرزق كثيرة والله تعالى لم يجعل رزق هذه الأمة فيما حرم عليها.(90/35)
وصايا الأنبياء والصالحين
تحدث الدرس عن أهمية الوصية وأن العلماء هم أصدق وأنصح الناس خاصة عند الموت، ثم ذكر وصايا بعض الأنبياء مثل نوح وإبراهيم ويعقوب، ثم ذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن العاص، ومعاذ، وأبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وهاشم بن ربيعة، وذكر فوائد هذه الوصايا، ثم أجاب على الأسئلة.(91/1)
شكر وعرفان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزى الله القائمين على هذا المركز خيراً؛ إذ تسببوا في هذا الاجتماع الطيب المبارك.
ولقد فعلوا بي معروفاً ربما لم يدركوه، بل أكثر من معروف.
أما المعروف الأول: فحين كانوا سبباً في مجيئي إلى هذا البلد الطيب، الذي كنت فيه في صغري وطفولتي، ودرست فيه السنين الأولى، وعشت فيه أيام الصبا، وتسنى لي بذلك رؤية المشائخ والإخوان الفضلاء، الذين طال العهد بهم.
أما المعروف الثاني: فذلك أنني حين قلت للإخوة: سوف أتحدث عن وصايا العلماء عند حضور الموت، أزمعت أن أجمع بعض هذه الوصايا، وكنت أذكر في مكتبتي كتاباً ألفه الإمام الربعي، وهو كتاب نفيس مفيد في بابه، يحمل نفس العنوان وصايا العلماء عند حضور الموت وجمع فيه وصايا العلماء وغيرهم منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى العلماء الذين جاءوا في دولة بني أمية وما بعدها.
ولكنني لم أظفر بهذا الكتاب حين احتجته، فرجعت إلى أوراق لي قديمة، كنت قد جمعتها قبل خمس سنوات، وهي عبارة عن مقتطفات من كتب السنة، فقد تسنى لي في تلك السنين أن أقرأ مجموعة من كتب السنة كالصحيحين، والسنن، والزهد لـ ابن المبارك، وغيرها.
وكنت أجمع كل ما يتعلق بوصايا العلماء، وأصور في أوراق عندي؛ فرجعت إليها بعد أن كنت نسيتها، أو كدت أن أنساها فكانوا بذلك سبباً في مراجعتي لهذه الأوراق من جديد، واستفادتي منها، ومنها جمعت بعض هذه الوصايا التي سوف أعرضها عليكم.(91/2)
سبب اختيار الموضوع
أما لماذا وصايا العلماء عند حضور الموت؟(91/3)
العلماء هم خير البرية
فأولاً: العلماء هم خير البرية، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:7-8] وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] .
فبين الله عز وجل أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن من خشي ربه فهو من خير البرية.
إذاً فالعلماء هم خير البرية، وهم أنصح الناس للناس، وأفصحهم، وأقدرهم على التعبير عما في نفوسهم.(91/4)
أنصح ما يكون العلماء عند الموت
أنصح ما يكون العالم عند حضور الموت، فإن الإنسان إذا حضره الموت فهي ساعة صدق وإخلاص، يؤمن فيها الكافر، ويصدق فيه الكاذب، ويزول فيها البهرج، ويظهر الإنسان فيها على حقيقته؛ فيقول الحق ولو كان على نفسه.
ولذلك، فإن نصيحة العالم عندما يحضره الموت هي من أعظم النصائح، وأجدرها بالأخذ، والقبول.(91/5)
أهمية الوصية وحكمها
إخواني وأحبتي الكرام: الوصية مما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180] فكتب الله تعالى على العبد إذا حضره الموت، وترك خيراً أن يوصي.
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة، وذهب آخرون إلى أنها محكمة، وفي الحديث الذي رواه الجماعة، البخاري، ومسلم وأصحاب السنن، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحق لامرئ له شيء يريد أن يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي لكل إنسان له شيء يريد أن يوصي به، له حقوق على الناس، أو للناس عليه حقوق، أو له أشياء يريد أن يكتبها ألا يبيت ليلتين، وفي رواية ليلة، وفي رواية ثلاث ليال، فكأن أقصى مهلة أعطيت لك أن تكتب وصيتك ثلاث ليال، ولا تمر عليك ثلاث ليال إلا وتكتب وصيتك، وتجعلها محفوظة عندك.
هذا إذا كان لك شيء تريد أن توصي به، أما إذا كنت تقول: لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا لي شيء، ولا علي شيء، حينئذٍ ليس عليك أن تكتب الوصية أو لا تكتب، لكن إن كان لك حقوق، وعليك حقوق فإنه ينبغي لك أن تكتب الوصية، وقيل يجب عليك ذلك، والجمهور على أنه يستحب أن تكتب هذه الوصية.
وقد جاء في الحديث الذي حسنه ابن حجر وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له رجل مات ميتة فجأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! كأنها أَخْذة أسف، أو كأنها أَخْذة آسف} ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالوصية.
إذاً الإنسان لا يدري، قد يصبحه الموت أو يمسيه، وما الأمر إلا نَفَسٌ يدخل فلا يخرج، أو يخرج فلا يدخل، فإذاً الحزم كل الحزم، والعقل كل العقل أن تكتب وصيتك، ولا تمهل أو تؤجل، فكم من إنسان كان يريد أن يوصي، لكن عاجلته المنية؛ فأصبح ما له لغيره: وأصبح مالي من طريف وتالد لغيري وكان المال بالأمس ماليا(91/6)
وصية نوح عليه السلام
إخوتي الكرام: أما وصية نوح عليه السلام، فقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها، كما عند الطبراني بسند رجاله ثقات كما يقول الهيثمي: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن نوحاً حين حضره الموت، قال لولده: " إني آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات، والأرض لو كانتا حلقة لفصمتهن، أو لقصمتهن لا إله إلا الله، وآمرك بسبحان الله وبحمده، فإنها زكاة الخلق، وبها يرزقون، وهي تسبيح كل شيء} ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] فأمر نوح ابنه عليه السلام بأن يكثر من قول (لا إله إلا الله) وأن يكثر من قول (سبحان الله وبحمده) فإنها زكاة الخلق، وتسبيحهم، وبها يرزقون.
"وأنهاك عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر أما الشرك: فشأنه معروف: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] .
وأما الكبر: فهو قرين الشرك، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، وغيره: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قالوا: يا رسول الله، أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} أي: جحد الحق ورده وبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم؛ فنهى نوح ابنه عن الشرك والكبر.(91/7)
وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام
أما الوصية الثانية: فهي وصية إبراهيم ويعقوب عليهما الصلاة والسلام.
وهي مثبتة في كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] .(91/8)
ظهور الحقائق عند الموت
وهنا يتعجب بعض الناس ويقول: هل الموت ونحن مسلمون بأيدينا؟! فنقول: نعم، ولم يكن الله عز وجل يكلفنا ذلك، إلا ونحن نطيقه ونستطيعه، فإن العبد يموت على ما عاش عليه، فإذا علم الله من عبده الصدق والإخلاص، والإيمان والاستقامة؛ فإن الله تعالى يقبض روحه على ذلك.
وإذ علم الله تعالى من عبده النفاق، وأنه يظهر ما لا يبطن، يعلن ما لا يسر، فإن الله تعالى يفضحه عند النزع، ويبين حقيقته للناس.
فإن العبد عند احتضاره تبين حقيقته، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس-، وهو من أهل النار.
وإن العبد ليعمل من عمل أهل النار -فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة} .
إذاً هذا إنسان يتظاهر بالإيمان والإسلام، ويقول ما لا يعتقد؛ فيفضحه الله تعالى على فراش الموت، وذاك عبد صادق، علم الله من قلبه الصدق، والإقبال، والإخبات، والانقطاع إليه فثبته الله تعالى، قال الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ولذلك جاء في حديث البراء الطويل، الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، بسند حسن، وأصله في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد المؤمن إذا احتضر بشر برحمة من الله تعالى، وحضرت الملائكة، فقالوا: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى رحمة من الله تعالى ورضوان، ورب غير غضبان، فتخرج روحه، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا احتضر، قيل: أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله تعالى وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فلا تخرج إلا بعناء} .
إذاً: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] إن كان العبد صادقاً قبض الله روحه على الإيمان والتقوى، وإن كان منافقاً، أو مخلطاً فربما يفتضح -والعياذ بالله تعالى- عند الموت.
وهذا من أسرار حسن الخاتمة أو سوئها، وقد تكلم الإمام ابن القيم في هذا الموضوع، وأطال الكلام فيه في مواضع عديدة من كتبه.
فقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] معناها: اسلموا لله تعالى إسلاماً حقيقياً حال اختياركم وحياتكم؛ يقبض الله تعالى أرواحكم على الأيمان {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] .
إذاً: يعقوب عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه؛ فاجتمعوا عنده، وكانوا أحد عشر أو اثنا عشر، فكان يسألهم ما تعبدون من بعدي؟ يريد أن يطمئن على تربيته، وعلى غرسه، وعلى ولده {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] فاطمأن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وارتاح لذلك قلبه، وهدأت له نفسه، وعلم أن أولاده سوف يرثون بضاعته من بعده، ويحملون راية التوحيد التي كان يحملها، وحملها من قبله آباؤه إبراهيم، وإسماعيل وإسحاق.(91/9)
وصايا محمد صلى الله عليه وسلم
ثم انتهت النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إمام الرسل، وخاتمهم عليه الصلاة والسلام وحامل لواء الحمد، والشافع المشفع، وأفضل ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض صلى الله عليه وسلم له من الخصائص والفضائل، والمزايا ما يضيق عنه الحصر، حتى صنف فيه العلماء كتباً خاصة، انتهت النوبة إليه صلى الله عليه وسلم فلننظر ماذا كان يقول عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت، والكلام في وصاياه عليه الصلاة والسلام عند موته يطول، ولذلك أحببت أن اذكر لكم بعض الوصايا المختصرة، وأعرض عن الوصايا الأخرى؛ لأن لها مناسبات غير هذه:(91/10)
حسن الظن بالله
الوصية الرابعة من وصاياه صلى الله عليه وسلم: ما رواه مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بثلاث يقول: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله} فكان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يحسنوا الظن بربهم، وذلك لأن الله تعالى يقول: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني} وفي حديث: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء} .
فينبغي للعبد أن يحسن الظن بالله جل وعلا، وحسن الظن من حسن العمل، فإن العبد إذا أحسن العمل رزقه الله تعالى حسن الظن، وإذا أساء العمل ساء ظنه: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه لقول عداته وأصبح في ليلٍ من الشك مظلم في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالوا: يا رسول الله: أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا حُضِِر بُشِّرَ برحمة من الله عز وجل ففرح، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِِر بُشِّرَ بسخط من الله وعذاب؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه} .
إذاً: من أحسن العمل، أحسن الظن، ومن أساء العمل، أساء الظن، فلا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ربي دعوتُ كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم(91/11)
صلة الأرحام
روى ابن حبان وغيره، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في مرض موته: {أرحامكم، أرحامكم} صلوا أرحامكم، صلوا أرحامكم، فأمر صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، وكان يوصي بذلك في مرض الموت، وذلك لما في صلة الرحم من أثر في تقوية الأواصر الاجتماعية، وتُوفيد القلوب، وإزالة العدوات والبغضاء، ونزول الرحمة، قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:22-24] .
وورد في حديث: {أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم} وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} قاطع الرحم لا يدخل الجنة، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان قد يصل أصدقاءه، ويحسن إليهم، ويستميت في خدمتهم، وتحقيق مطالبهم، والسهر على راحتهم، فإذا جاء الأمر فيما يتعلق بوالديه، وأرحامه، وأقاربه، فإنه لا يأبه بهم، ولا يتحمل من والديه كلمة خشنة، أو موقفاً صعباًً، وكثيرٌ من الشباب يستثقلون والديهم، ويضحكون من أعمالهم، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وقد يستهزئون بهم، وقد يقولون لهم كلمات خشنة بذيئة، لا تليق أن تقال لرجل بعيد، فكيف بالقريب؟!! أخي الشاب! إنك مطالب -أصلاً- إذاً رأيت كبير السن، الذي شاب في الإسلام مفرقه، وشابت لحيته، وظهر عليه هذا الوقار، فأنت مطالب أصلاً أن تقدره، وتجله، وتخدمه، وتتلطف معه في القول، وتقدمه في المجالس، وفي كل شيء، فكيف إذا كان قريباً! فكيف إذا كان أبا أو كانت أماً؟ الأمر في ذلك أعظم وألزم، فلينتبه الشباب، وليعرف أن الصلة والبر من الأشياء التي تعجل ثمراتها في الدنيا، فإن الإنسان إن كان باراً بوالديه؛ عجلت له ثمرة ذلك في الدنيا، وأقلها أن يوفقه الله تعالى لمن يبره من أولاده، وأحفاده، وإن كان عاقاً، فإن الله تعالى يسلط عليه من أولاده وأولادهم من يعقه.
كان رجلٌ في الجاهلية له ولد، فأساء إليه، وظلمه، وضربه، فكان هذا الرجل يرفع رأسه، ويدعو عليه، ويقول: جزت رحم بيني وبين منازلٍ جزاءً كما يستنزل الدّين طالبه وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه تغمط حقي باطلاً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه أئن رعشت كف أبيك وأصبحت يداك يدا ليثٍ فإنك ضاربه!! إذا: أصبحت يدا أبيك ترتعش من الكبر، والهرم، والضعف، والعجز، وأنت شاب قوي، فتيّ تستأسد عليه وتضربه! فكان يدعو عليه؛ فأصابه الله تعالى بالعقوبة العاجلة، والبلاء النازل.
وأخيراً: فإن من وصاياه صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ما رواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وابن المبارك، في كتاب الزهد، وغيرهم: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، ظهر منه بعض الجزع والحزن؛ فعرف ذلك بعض من حضروا.
فسألوه عن ذلك فقالوا له: ما الذي يحزنك ويجزعك؟ هل هذا جزع على الدنيا؟ فقال: كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، وقال لي عند موته: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب فجمعنا} قال: فجمعنا، إذاً سلمان الخير سلمان الفارسي حزين عند موته؛ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو يودعنا -وهو يفارق الدنيا- أوصانا بوصية، قال لنا: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} المسافر، فالمسافر لا يحمل من الزاد إلا قليل.
قال: فجمعنا.
ثم مات سلمان الفارسي، مات سلمان رضي الله عنه فجمعوا تركته، فكم كانت هذه التركة؟! كانت فقط خمسة عشر ديناراً!! خمسة عشر ديناراً، يموت عنها سلمان، يظهر أثرها في الجزع والحزن على وجهه وهو يموت رضي الله عنه والشاهد: وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، وأنه قال لأصحابه: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} .
فما بالكم بنا نحن الآن، ونحن نجمع القصور، والأموال الكثيرة، والسيارات الفخمة، والمراكب الفارهة، ونمد حبالاً طوالاً في هذه الدنيا، وكأننا نفعل فعل الخالدين.
سبحان الله! كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، يوماً من الأيام، صعد على منبر دمشق فقال: [[يا أهل دمشق؛ فاجتمعوا إليه -أبوالدرداء عويمر رضي الله عنه من خيار الصحابة وزهادهم وعلمائهم، كانوا يحبونه حباً شديداً؛ فلما سمعوه يصرخ ويصيح يا أهل دمشق: اجتمعوا إليه- لبيك يا أبا الدرداء.
قال: ألا تسمعون وصية أخٍ لكم، مشفق، ناصح؟ قالوا: بلى، قل -رحمك الله- قال: إن من كان قبلكم، كانوا يجمعون كثيراً، ويؤملون كثيراً، ويبنون كثيراً، فأصبح جمعهم بدداً، وأصبح بنيانهم بوراً، وأصبحت قصورهم قبوراً، هؤلاء عاد الذين ملكوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، تركوا ما تركوا، فمن يشترى مني تركتهم بدرهمين؟ من يشترى منى تركتهم بدرهمين]] فكان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر أن يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} غريب أو عابر سبيل، أما الغريب: فمثل إنسان مقيم في بلد إقامة معينة، وهو غريب غير معروف، لا يعرفه أحد؛ فتجد هذا الغريب يتقلل من الدنيا، لكن أشد من الغريب عابر السبيل -إنسان مسافر- لكن لما مر بهذا البلد قال: أريد أن أغير حاجيات السيارة، وأشتري ماءً بارداً، وأرتاح قليلاً، ثم أواصل السفر، عابر سبيل وكان ابن عمر يقول: [[إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]] .(91/12)
الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم
الوصية الثالثة: ما رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: {الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم} .
كانت هذه وصيته صلى الله عليه وسلم ويكثر من قولها، وتكرارها، وترديدها، {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} يحرضهم على الصلاة، ويحضهم عليها، ويبين لهم عظيم شأنها، فكانت من آخر ما فاض بها لسانه عليه الصلاة والسلام، حتى إن ابن حبان وغيره زاد -كما في صحيحه- أنه قال: {وكان يغرغر بها، وما يكاد يفيض بها لسانه} يعني: هذه آخر كلمة قالها صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بوصاياه، وقد ثقل لسانه، وأصبح نَفَسه لا يكاد يخرج، ولا يكاد يستطيع أن يتكلم بهذه الكلمة، ولسانه لا يكاد أن يقولها، فكان يقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} احرصوا على الصلاة، بكروا إلى الصلاة، التزموا بالصلاة، مروا بالصلاة، تعلموا الصلاة حثاً، وتحضيضاً على الصلاة، وما يتعلق بها.
وما ملكت أيمانكم، يعني: اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، من العبيد والأرقاء، أحسنوا ملكتهم، وأحسنوا إليهم، ولا تظلموهم، ولا تحملوهم مالا يطيقون.
وهذا من عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم، وشفقته، وحرصه على حقوق العباد، وأن يقوم الإنسان بحقوق الناس، ولا يقصر في شيء منها؛ والحديث صحيح وله شواهد عديدة.(91/13)
الرؤيا الصالحة
وصية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته أيضاً، رواها الإمام مسلم عن ومن الأشياء التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية: الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن، أو ترى له، وأنها هي الشيء الوحيد الباقي من آثار النبوة، وذلك لأن أول ما بُدِئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.(91/14)
عدم قراءة القرآن في الركوع والسجود
الأمر الثالث الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر حكماً يتعلق بالصلاة، وهو ألا يقرأ الإنسان القرآن في ركوعه، ولا في سجوده، أما الركوع فيقول: (سبحان ربي العظيم) وأما السجود فيقول: (سبحان ربى الأعلى) ويدعو بما شاء.
والمقصود ألا يقرأ القرآن على سبيل القراءة، أما لو قرأه على سبيل الدعاء فلا حرج، فلو قال المصلي في ركوعه أو سجوده {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] أو قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] أو ما أشبه ذلك من الأدعية القرآنية، لا على سبيل القرآن، لكن على سبيل الدعاء، فإن هذا لا يدخل في ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(91/15)
الوصية الثانية
وصية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته أيضاً، رواها الإمام مسلم عن ابن عباس، {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وكشف الستارة بينه وبينهم فرآهم صفوفاً خلف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات -وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم، أو ترى له- ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً، أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب يعني قوله: سبحان ربى العظيم وأما السجود فادعوا، فقمِنٌ أن يستجاب لكم} .(91/16)
عقيدة ختم النبوة
وفي هذه النصيحة أو الوصية النبوية أمور، أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن عقيدة من أخطر العقائد في الإسلام، ألا وهي عقيدة ختم النبوة، وأن هذه الدنيا لن يأتيها نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، صحيح أن عيسى ينزل في آخر الزمان، لكنه ينزل حاكماً بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس آتياً بدين جديد، ولا يتنزل عليه وحي جديد، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم ختم النبوة، وأنه لا نبي بعده، وأن السماء لن تتفتح لنزول وحي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا كان من الأسباب التي تبكي المسلمين وتحزنهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيح: {أن أبا بكر قال لـ عمر -بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها -وأم أيمن حاضنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فذهبوا إليها، فلما رأتهم خنقتها العبرة، وأسبلت دموعها وبكت، وارتعدت عندهم.
فقالا لها: يا أم أيمن، ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما أني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنى أبكي انقطاع الوحي من السماء.
لاحظ الفقه عند هذه المرأة، تقول: لا أبكي على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، فإن ما عند الله خير له وأبقى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء.
قال: فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها} .(91/17)
إخراج المشركين من جزيرة العرب
فمن وصاياه عليه الصلاة والسلام ما ذكره ابن عباس، كما في صحيح مسلم وغيره، {أنَّ ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى رضي الله عنه، فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعضهم يقول: هاتوا يكتب لكم، وبعضهم يقول: ما شأنه؟ أهجر، استفهموه -كأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، فقال قولاً يحتاج إلى بيان، وربما يكون فيه قول من غلبة المرض عليه- قال: فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فقاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، قال: وأوصاهم بثلاث، الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، الثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال سعيد بن جبير: ونسيت الثالثة} .
قوله عليه الصلاة والسلام: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} فقد كان في جزيرة العرب يهود، يهود في تيماء، وخيبر، وفي عدد من البقاع، وكان فيها نصارى في نجران وفي غيرها.
فأمر صلى الله عليه وسلم بألا يبقى في جزيرة العرب إلا مسلم، وكان صلى الله عليه وسلم، يقول: {لأخرجن المشركين من جزيرة العرب، اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلمٌ} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} .
هذه الجزيرة أيها الأحبة لها هذه الميزة التي ليست لأي بقعة في الدنيا.
هي جزيرة الإسلام، أرض الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، عاصمة الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام -فيما رواه مسلم وغيره: {إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها} يعني: يجتمع وينضم ويرجع بين المسجدين، مسجد مكة ومسجد المدينة.
إذاً: فهذه البلاد -حتى في أيام غربة الإسلام، وضعف شأنه-: هي بلاد الإسلام، وحصنه الحصين، وأهلها هم الذين يدفع الله تعالى بهم عن هذا الدين الغوائل، والعوادي على مر العصور، وكر الدهور؛ ولذلك أعظم، وأكبر وأخطر فتنة تمر بالمسلمين، بل تمر بالبشرية كلها من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة: هي فتنة المسيح الدجال.
من هو الذي يكسر هذه الفتنة، ويسقطها، ويكون بداية زوالها على يديه؟ إنه رجل من أهل هذه الجزيرة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم شأنه في حديث رواه البخاري وغيره: {أن المسيح الدجال يدخل كل البلاد إلا مكة والمدينة، فإذا كان قريباً من المدينة جلس في بعض السباخ فارتجت المدينة، أو رجفت ثلاث رجفات؛ فخرج إليه كل منافق ومنافقة.
والناس يفتنون به ويغترون بما معه من المظاهر، ومن الألاعيب، ومن الخدع، ومما سخره الله تبارك وتعالى له.
فيخرج إليه شاب من المدينة هو خير أهل الأرض يومئذ، أومن خير أهل الأرض يومئذ.
فإذا وقف أمام المسيح الدجال قال: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المسيح الدجال للناس: أرأيتم إن قتلت هذا الشاب، وقطعته إلى قطعتين، ومشيت بين قطعتيه، أتشهدون أني أنا الله؟ فيقولون: نعم.
فيقطعه، ثم يمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم فيستوي حياً بإذن الله عز وجل، فيقول لهذا الشاب: أتشهد أني أنا الله؟ فيقول هذا الشاب: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة -ما ازددت فيك إلا علماً، ومعرفةً، ووعياً- لأن الرسول عليه السلام أخبرنا بذلك، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، ويجعل الله عز وجل على رقبته شيئاً من نحاس أو حديد، فلا يستطيع الدجال أن يقتله} ومن حينئذٍ يبدأ -كما يقولون- العد التنازلي للدجال، فيغادر المدينة مخذولاً مهزوماً، ثم يذهب إلى الشام، وهناك يقتله المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
إذاً: أخطر وأعظم فتنة: فتنة الدجال، بداية زوالها على يد شاب من هذه الجزيرة، فما دونها من الفتن التي تنزل بالمسلمين، يتصدى لها شباب هذه الجزيرة بالدرجة الأولى، وغيرهم من شباب المسلمين في كل مكان، حتى يكتب الله تبارك وتعالى فضيحتها، وزوالها على أيديهم.(91/18)
من وصايا الصديق
أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه، خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخير هذه الأمة بعد نبيها، فإن خبره عجيب، ولولا أنه حق لظننا أنه من جملة الأساطير، لكن العلماء رووه لنا بالأسانيد الصحيحة، فانظر ماذا يقول أمير المؤمنين، يملك دنيا عريضة، ويدين له المسلمون في أنحاء الأرض، ويطيعونه في طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(91/19)
الوصية الثالثة
الوصية الثالثة لـ أبي بكر: كان يوصي عمر من بعده رضي الله عنه، قال: [[إني موصيك بوصية إن قبلتها مني يا عمر، إن لله حقاً بالنهار، لا يقبله بالليل، وإن لله تعالى حقا ًبالليل لا يقبله بالنهار، وإن الله تعالى لا يقبل نافلة، حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة؛ بإيثارهم الحق في الدنيا، ولو ثقل ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حق أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم في الآخرة باتباعهم الباطل في الدنيا، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يطيش، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة، فذكرهم بصالح أعمالهم، لئلا يقول إنسان: أنا خير منهم.
قال رضي الله عنه: فإن اتبعت أو حفظت وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولابد لك منه، وإن ضيعتها فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه، ولن تفوته]] أنت ميت بكل حال، رغبت أو لم ترغب، الموت لا يأخذ إذناً أو موافقة من الإنسان، قد يأتي الموت لإنسان ليس لوالديه غيره، ليس بالضرورة أن يراعي ظروف البيت أو ظروف الأهل، أو ظروف الجيران، هذه حكمة الله تعالى، قدره النافذ، وقضاؤه الذي يمضي على الكبير والصغير، وعلى الغني والفقير، وعلى المأمور، والأمير، وعلى الناس كلهم سواءً بسواء، هذا سر الله تعالى في خلقه {َوجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] .
في وصايا أبي بكر رضي الله عنه أمور: منها توقيت العبادات، لله حق بالليل لا يقبله بالنهار، وحق بالنهار لا يقبله بالليل، أمور كثيرة، منها الصيام، منها الصلاة، منها حقوق الخلق، حقوق الناس.
وفي وصيته رضي الله عنه إتباع الحق وإيثاره، وإن كان ثقل ذلك على الإنسان، وترك الباطل وإن كان خفيفاً عليك، فإن الله تعالى أمرنا بالحق، ونهانا عن الباطل.(91/20)
الوصية الثانية
الحسن بن علي رضي الله عنه يذكر عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة -انظروا يا أحبتي- والله أمور ينقضي منها العجب! أعجب من العجب! قال لها: [[يا عائشة، انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبح فيها -الإناء الذي كانوا يضعون فيه صبوحهم أو غبوقهم- والقطيفة التي كنا نلبسها فادفعيها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو ادفعيها إلى الخليفة من بعدي، فإنا كنا ننتفع بها حين كنا نلي أمر المسلمين، أما الآن، فليست منا، ولسنا منها في شيء]] .
يا سلام! يا سلام! على أبي بكر رضي الله عنه ليس عنده شيء! خليفة، أمير المؤمنين -يقول لـ عائشة: القطيفة التي نلبسها هذه ادفعيها للخليفة من بعدي، والإناء الذي نشرب فيه ادفعيه، والناقة التي نشرب لبنها ادفعيها للخليفة من بعدي، هذه أمور كنا نستعملها يوم كنا نلي أمر المسلمين، أما الآن ادفعيها إلى الخليفة، فلما مات رضي الله عنه دفعتها إلى عمر، فلما رآها عمر قعد في مكانه يبكي ويصيح، ويقول: [[رحمك الله يا أبا بكر، رحمك الله يا أبا بكر، لقد أتعبت من جاء بعدك.
من يصنع مثل صنيعك؟!]] هذا العمل الجليل الجبار، وهذه القصة رواها الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.(91/21)
الوصية الأولى
لما حضرته الوفاة بكت عائشة رضي الله عنها وبدأت تردد أبياتاً من الشعر، فقال: [[يا عائشة: دعي هذا، وقولي كما قال الله عز وجل: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)) [ق:19] ثم قال لها: يا بنية، في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت له: كُفِّنَ في ثلاثة أثواب يمانية.
فقال لها: إذا أنا مت فكفنوني في ثوبي هذين -كان عليه ثوبان- واشتروا لي ثوباً ثالثاً، وإياكم والجديد، -لا تكفنوني في ثوب جديد- فإن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة، والصديد]]-يقول: الثياب التي تكفنونني فيها هي للمهلة، والصديد- الذي يكون في الميت عندما يقبر، بعدما تمر عليه الأيام، فلا داعي أن تكفنوني في كفن جديد، بل كفنوني في ثوبي هذين، والحديث ذكره الطحاوي في مشكل الآثار وغيره، لكن لم يتسن لي أن أخرجه إلا من الطحاوي -كما ذكرت-.(91/22)
وصايا عمر(91/23)
الوصية الأولى
أما عمر -رضي الله عنه وأرضاه، فقد روى مالك عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه وسنده صحيح أنه قال: [[لما طعن عمر رضي الله عنه: أتيت أوقظه لصلاة الفجر، فقلت له: يا أمير المؤمنين، الصلاة الصلاة، قال: فاستيقظ، وهو يقول: نعم، أما إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
قال: فصلى عمر، وجرحه يثعب دماً]] .
طعن رضي الله عنه وأرضاه، سقط في المحراب، فحمل إلى بيته، ومات بعد وقت يسير، ومع ذلك لما أرادوا أن يعرفوا هل عمر في حالة غيبوبة، أم إنه في حالة صحو قالوا: لا نجد أمراً يلفت نظر عمر مثل الصلاة.
فقالوا له: الصلاة، الصلاة، يا أمير المؤمنين.
فلما سمع كلمة الصلاة ارتجف وارتعد، وقال: نعم، أما إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
كم هو مؤسف أن تجد من أصحاء المسلمين، وأقويائهم، وشبابهم الذين أنعم الله تعالى عليهم بالمال الوفير الكثير، والصحة، والعافية، والشباب، والقوة، والأمن، وجيران المسجد، يسمعون المؤذن ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ فلا يجيبونه، ومنهم من لا يجيبه في صلاة الفجر خاصة، وقد قال أنس وغيره: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] .
أما المؤمنون الذين يعرفون حق الله عز وجل، فإن الواحد منهم، وهو طعين، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول: نعم، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
ثم يصلي وبطنه تسيل دماً، جرحه يثعب، وهو يموت بعد وقت يسير.(91/24)
الوصية الثانية
قضية أخرى لـ عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري، وهي قصة طويلة جداً في نحو ثلاث صفحات، لا يملك مؤمن أن يقرأها إلا ويبكى وتسيل دموعه، لكنني لا أستطيع؛ لضيق الوقت أن أسردها عليكم، لكن أذكر لكم موقفاً واحداً فقط منها.
دخل عليه غلام من الأنصار، فسلم عليه، وقال: يا أمير المؤمنين، فعلت، وفعلت، وفعلت، وزكاه ومدحه، فلما أدبر نظر عمر فإذا هذا الشاب ثوبه فيه طول، طويل بعض الشيء، فقال: ردوا عليَّ الغلام.
فرجعوا إليه قالوا: أمير المؤمنين يريدك.
فقال: [[يا ابن أخي، ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك، وأبقى وأنقى]] أتقى وأنقى وأبقى، يلقي الحكمة وهو يموت.
كلمات حكمة تكتب بماء الذهب.
يا ابن آخي: ارفع إزارك، أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، لم يقل: هذا أمر بسيط، أو هذه قضية شخصية، لا، أمور الدين كلها عظيمة، لأن الدين عظيم جاء من عند عظيم (ارفع إزارك) .
ثم يوصيه ويبين له فوائد هذا الأمر من ناحية دينية، ومن ناحية دنيوية، هذا أتقى لله وأبقى للثوب؛ لأن الثوب إذا طال يمس الأرض فتصيبه، وسرعان ما يبلى، وأنقى له من أن يصيبه -أيضاً- وسخ أو قذر، فهو أتقى وأنقى وأبقى.
ولم يلهه ما هو فيه من أمر الموت أن ينبه هذا الغلام على أن ثوبه طويل.(91/25)
الوصية الثالثة
من وصاياه -أيضاً- ما رواه الدارمي، عن مروان بن الحكم، قال: لما طعن عمر رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم الذين حوله في الجد.
لاحظ عمر طعن في صلاة الفجر، ثم نقل إلى بيته، والناس يبكون، والقضية كلها ساعات محدودة، ثم لفظ نفسه رضي الله عنه وأرضاه، والموقف صعب، صعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن مع ذلك.
فلننظر أمير المؤمنين كيف يتعامل مع الموضوع، يناقش قضايا فقهية، وقضايا علمية، وتفاصيل، كأنهم خلق آخر سبحان الله العظيم! عمر رضي الله عنه وهو مطعون، وحاله كما تعملون، ولما جاءه الطبيب، قال: نسقيك خمراً؟ قال: لا أشربه، قالوا: نسقيك نوعاً من المخدر، قال: لا أشربه، قالوا اسقوه لبناً: فسقوه لبناً فخرج اللبن مع الجرح، فعلم الطبيب أنه ميت -علم أنه هالك- قالوا: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين، قال: إن كان الموت بأساً فقد مت {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] هذا ما كان يقوله عمر رضي الله عنه، ولما علم أن الذي طعنه أبو لؤلؤة تنفس الصعداء وأرتاح، وقال: [[الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجل سجد لله تعالى سجدة]] كان خائف أن يكون الناس ساخطين عليه لسوء عمل لم يشعر به؛ فقتلوه.
فلما علم أن المؤمنين راضون به، وأن الجميع يبكون حتى كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل ذلك، أرتاح وقال: الحمد لله.
الشاهد أنه كان جالساً يقول للناس كما يقول مروان فيما رواه الدارمي: [[إني قد رأيت في الجد رأياً، يعني مسألة الجد والإخوة وهي قضية تتعلق بالفرائض، يقول: إني رأيت في الجد رأياً، إن بدا لكم أن تتبعوه فاتبعوه، ثم ذكر لهم هذا الرأي الذي رآه]] إنها مسألة فقهية، فرضية، يشرحها لهم أمير المؤمنين وهو على فراش الموت، فقال له عثمان رضي الله عنه: إن نتبع رأيك فإنه رأي رشيد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك يعني أبا بكر رضي الله عنه فنعم ذو الرأي كان -رأيك حسن، ورأي أبي بكر حسن- وهو اجتهاد، وذاك اجتهاد، وكل إن شاء الله على خير.
ليس قصدي الآن القضية الفقهية، وإنما قصدي أن عمر رضي الله عنه لم يلهه ما هو فيه أن يتكلم عن قضية فقهية، يقول للصحابة ما رأيكم في موضوع الجد والإخوة، وقسمة المواريث، وأشياء من هذا القبيل، وهو يموت.
وهذا دليل على عنايتهم بأمور: أولها: عنايتهم بعلوم الشرع، حتى لو كان في مرض الموت، يحرص على أن يعلم الناس مسألة من الفقه، لعله يخشى أن يلقى الله تعالى، فيسأله الله تعالى: لمَ لم تقل للناس هذا الحكم؟ فحرص على أن يبلغه قبل أن يموت، وكان هذا أمر يهمّ الصحابة، حتى إن معاذاً رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب أحداً منهم مات لا يشرك به شيئاً، قال: قلت يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا) } .
لكن معاذاً رضي الله عنه خشي أن يسأل يوم القيامة لِمَ كتمت هذا العلم؟ لمَ لَمْ تبلغ به الناس؟ وهكذا يجب على العلماء أن يبلغوا الناس العلم، ولا يكتموه، وأن يحرصوا على إيصال الحق والعلم للناس بكل ما يستطيعون، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: قضية حرصهم على حفظ الوقت، هذا ما دام نَفَسه لم يخرج، وروحه لم تخرج، فهو حريص على أن يستفيد من الوقت، يعلم أو يتعلم، أو يبلغ شيئاً، ليكتب له بذلك أجر.
أما نحن الآن، فالواحد منا صحيح، شحيح، قوي، والوسائل ممكنة، بكل سهولة يستطيع الشاب أن يحصل العلم اليوم، يقرأ كتاباً، يقرأ مجلة مفيدة، يسمع شريطاً مفيداً، يرفع الهاتف ليتصل بفلان أو علان، يذهب ليحضر حلقة الشيخ، يحضر حلقة القرآن، يحضر درساً، يحضر محاضرة، ومع ذلك تجد الشاب يضيع وقته، وربما يذهب إلى مباراة رياضية، أو يسمع أغاني محرمة، أو يقضي وقته في قراءة جرائد، أو قراءة أمور تافهة، أو قيل أو قال، أو ما أشبه ذلك من الأمور، التي يتفنن فيها بعض الشباب في إضاعة الوقت، ولا يعلمون أن هذا الوقت، هو الذي به يجازون، وبه يدخلون الجنة، أو يدخلون النار، والناس كانوا عند الموت يستغلون دقائق بقيت من أعمارهم مثل الطالب -لاحظوا الطالب الآن في صالة الامتحان- طبعاً التشبيه مع الفارق، لكن مثال للتقريب حتى تلاحظوا.
أحياناً بعض الطلاب يكون طالباً جيداً، وحافظاً للمقرر كله، ومجتهداً، فمن حين أن يأخذ الورقة يبدأ يكتب الجواب، ولكن يكتب جواباً مضبوطاً، دقيقاً، مفصلاً، ولا يترك شاردة، ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا يكتبها في ورقة الجواب؛ فتجده يملأ الورقة -هذا شيء نلاحظه ونحن نراقب على الطلاب- فينتهي الوقت المحدد للإجابة، ينتهي، والطالب لم ينته بعد، فتجد الأستاذ يأتي عند هذا الطالب يقول له: باقي خمس دقائق.
والطالب يسرع، يكتب بسرعة؛ لأن الوقت يمضي، الوقت ليس في صالحه، يحاول أن يستغل -خاصة الدقائق الأخيرة- يحرص على الاستفادة منها أكثر مما يحرص على الاستفادة من أول الوقت، فتجده ينازع الأستاذ في الورقة؛ من أجل أن يكتب ولو إجابة، ربما يحصل منها على درجة؛ لأن الطالب حينئذ يشعر بقيمة الوقت، وهكذا كان الصالحون يشعرون بقيمة الوقت، فإذا قربت آجالهم حرصوا على مضاعفة الأعمال الصالحة بقدر ما يستطيعون، حتى قال بعضهم: والله لو أعلم أني أموت الليلة ما كان عندي مزيد.
يقول: بذلت، ثم بذلت، ثم بذلت، ثم ملأت وقتي بالأعمال الصالحة، حتى لو قيل لي: إنك الليلة سوف تموت.
ليس عندي شيء جديد أضيفه، كل وقتي صرفته فيما يرضي الله عز وجل، ليس عندي مزيد.(91/26)
وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
كما في الصحيحين: {أن سعداً أصابه في مكة، عام الفتح مرضاً شديداً، أشرف منه على الموت، وخشي أن يموت فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، وهو وجع اشتد به.
فقال: يا رسول الله، قد اشتد بي الوجع، ولي مال كثير، ولا يرثني إلا بنت لي، فأريد أن أوصي بكل مالي.
قال: لا.
قال: بثلثيه.
قال: لا.
قال: بنصفه.
قال: لا.
قال: الثلث يا رسول الله، قال: الثلث، والثلث كثير، يعني توصي بثلث مالك وهو كثير، يعني الأفضل ألا توصي بالثلث، توصي بأقل منه} .
ولذلك قال ابن عباس -كما في صحيح مسلم {وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع} {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} .
لاحظ ورثتك وهو ليس عنده إلا بنت، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ورثتك، وهذا علم من أعلام النبوة؛ لأن سعداً لم يمت في مرضه ذلك، بل عاش حتى عمِّر، ورزق عشرة من الولد.
{إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان مات بمكة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: ولعلك إن تخلف فيضر بك أقوام، وينتفع بك آخرون} وهكذا كان، فإن سعداً لم يمت، بل عاش حتى شهد فتوح العراق وفارس، وكان من قادة الفتوح في تلك البلاد، وما موقعة القادسية عنا ببعيد.
سعد رضي الله عنه لما جاءه اليقين من ربه جاءه الحق قال، كما في صحيح مسلم: [[الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم]] فأمرهم بأن يعتدلوا في دفنه، وأن يتبعوا السنة، فلا يبالغوا أو يفعلوا شيئاً من البدع، أو يفعلوا بدفنه، أو وضع قبره خلاف ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم.(91/27)
وصايا عمرو بن العاص
عمرو بن العاص، وما أدراك ما عمرو بن العاص!! له عند موته نبأ عجيب!!.
في صحيح مسلم {أن عمراً لما حضرته الوفاة، حول رأسه إلى الجدار، وجعل يبكي، فجاءه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص وقال: له يا أبت، ما يبكيك؟ يحاول أن يزيل همه وحزنه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ويذكر له بعض البشارات، فما زال به حتى التفت، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: {إني لا ألقى الله عز وجل بأعظم من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: إني كنت على أطباق ثلاث -على أحوال ثلاث- الحالة الأولى: كنت في الجاهلية، ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار.
قال: ثم قذف الله تعالى الإسلام في قلبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك أبايعك، قال: فبسط يده؛ فقبضت يدي.
فقال مالك يا عمرو قلت: يا رسول الله، أريد أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي.
قال: يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما قبله، والحج يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها، والتوبة تجب ما قبلها، قال: فبسطت يدي فبايعته صلى الله عليه وسلم فلم يكن أحد أعظم في عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إني لم أكن أطيق أن أنظر في وجهه؛ من شدة هيبتي له -عليه الصلاة والسلام فلو مت على هذه الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها أي من أمور الإمارة والحروب وغيرها، قال رضي الله عنه: فإذا دفنتموني فانتظروا عند قبري قدر ما تذبح جزور، ويقسم لحمها، لعلي أن أستأنس بكم، وأنظر بماذا أراجع به رسول ربي} يقول: انتظروا عند قبري، واستغفروا لي، وادعوا لي؛ لعلي أن أستأنس بكم، وهذا أمر خاص، اجتهاد خاص من عمرو بن العاص رضي الله عنه، لم يكن يفعله غيره من الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
المهم هذه من وصيته.
ومن وصيته، أو من أخباره عند موته ما رواه الحاكم وغيره، [[أن عبد الله ابنه قال له: يا أبت، أنت وأنت صحيح كنت تقول لنا: وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا عن الموت كان عمرو يقول: بودي أن إنساناً يحضره الموت يحدثنا ماذا يحصل عند الميت؟ ما الذي يجري.
فأنت الآن محدثنا؟ فقال: يا بني إن أمر الموت أعظم من أن يوصف، لكنني سوف أقربه لك، يقول: أرى شيئاً لا أستطيع أن أصفه، ولكن أقربه لك أحس كأن جوفي يشاك بالسلاح، كأن السكاكين والخناجر تختلف في بطني، هذا يخرج وهذا يدخل؛ من شدة الآلام، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وأحس كأن جبل رضوى على عنقي]] .
هذا بعض ما يعبر به عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الآلام، والصعوبات التي يلقاها المحتضر، ومع ذلك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] .
وقد روى نعيم بن حماد في زوائده عن ابن المبارك، عن عمرو بن العاص أيضاً عند موته أنه قال: [[اللهم إنك أمرت فعصينا، ونهيت فوقعنا، لا إله إلا أنت، ثم أمسك بإبهامه، فمازال يرددها حتى فاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه]] .(91/28)
وصية معاذ بن جبل
معاذ بن جبل قال له جلساؤه وهو في مرض موته: أوصنا قال: [[أجلسوني]] معاذ من كبار العلماء، علماء الصحابة، ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح أنه قال: {معاذ أمام العلماء برتوة} رتوة: يعني مسافة معاذ من العلماء الكبار، ومن كبار المفتين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا له: أوصنا، قال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال لهم: [[إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما]] يعني: لا تظنوا أن موتي هو موت العلم، العلم باق موجود، والإيمان باق موجود، من التمسه وجده.
ثم قال لتلاميذه، وأصحابه التمسوا العلم عند أربعة -أوصاهم، خذوا العلم بعدي عن أربعة- أولهم: أبو الدرداء عويمر رضي الله عنه، الثاني: سلمان الفارسي، الثالث: ابن مسعود، الرابع: عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا -كلام معاذ - يقول: {إنه عاشر عشرة في الجنة} خذوا العلم عن هؤلاء، فأوصاهم بأن يواصلوا طلب العلم، وأن يأخذوا من بعده عن غيره.(91/29)
وصية أبي الدرداء
أما أبو الدرداء رضي الله عنه فإن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: [[إن أبا الدرداء رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال: من يعمل لمثل ساعتي هذه، من يعمل لمثل مصرعي هذا، من يعمل لمثل يومي هذا، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]] ] ثم قضى رضي الله عنه وأرضاه.(91/30)
وصية عبادة بن الصامت
عبادة بن الصامت.
قال الوليد بن عبادة بن الصامت: [[لما حضرت أبي الوفاة -كما في سنن الترمذي- قلت له: أوصني.
قال: أوصيك بتقوى الله، والإيمان بقضائه وقدره، خيره وشره، فإنك لو مت وأنت لا تؤمن بالقدر خيره وشره أدخلك الله النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أول ما خلق الله القلم قال: اكتب؛ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة} ]] .
أما وصيته الثانية: فهي وصيته للصنابحي -وهي مشهورة-[[دخل عليه الصنابحي - وهو أحد تلاميذه-، فلما رآه الصنابحي وهو في حالة النزع حزن وبكى، فقال له عبادة: ما يبكيك، أما والله لئن استطعت لأنفعنك، ولئن شفعت لأشفعن لك، قال: وما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله حرمه الله تعالى على النار} ]] .(91/31)
وصية أبو هاشم بن عتبة
أبو هاشم بن عتبة -كما في سنن النسائي-[[جاءه معاوية بن أبي سفيان يعوده، وهو في مرض الموت فبكى، فقال له معاوية: يا خال! ما يبكيك؟ أَوَجَعٌ يُشْئِزُك؟ -يعني ألم تحس به- أم جزع على الدنيا؟ فقد ذهب صفوها وبقي كدرها؟ فقال: على كلٍ لا، لا أبكي من وجع، ولا أبكي على الدنيا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً فوددت إني حفظته، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يكفيكم من الدنيا خادم ومركب} قال: فأدركنا فجمعن.
]] وفي الختام: أحبتي: وصايا العلماء أمرها يطول، وقد ذكرت لكم هذه الوصايا مما التقطته من كتب السنة النبوية -كما ذكرت لكم في مطلع حديثي- ومن أراد المزيد من وصايا العلماء، من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، فليرجع إلى الكتاب الذي يعتبر مكملاً لهذه المحاضرة، وهو كتاب وصايا العلماء عند حضور الموت للإمام الحافظ الربعي، وقد حققه الأرنؤوط تحقيقاً جيداً، وخرج في حلة قشيبة.(91/32)
الأسئلة(91/33)
صلة الأرحام
السؤال
لقد بينتم عظم حق الأرحام ووجوب صلتهم.
من مِن الأرحام تجب صلتهم، ومن منهم لا تجب صلتهم، ويسقط هذا الحق عنه، ألا يسقط عندما يكون الأرحام لا يأبهون بصلته؟
الجواب
صلهم وإن كانوا لا يأبهون بصلتك، أما الأرحام، فالأقرب، فالأقرب، الوالدان، الأخوال، الأعمام، الإخوة، الأخوات، لا شك هؤلاء لهم حقوق، ثم الذين بعدهم حقهم يقل، وهكذا، والصلة تكون لكل أحد بحسبه، من الناس من يحتاج إلى زيارة في الشهر مرة أو مرتين، أوفي الأعياد، ومنهم من يحتاج إلى أكثر من ذلك، ومنهم من يحتاج إلى دون ذلك، ومنهم من يكفيه أحياناً تتصل به ولو بالهاتف وهكذا، كل إنسان بحسبه.
هذا ما تيسر، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب هذا المجلس وأجره وبره وذخره لي ولكم في موازيننا يوم نلقاه.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم اجعلنا ممن تتنزل عليهم الملائكة عند الموت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، اللهم توفنا وأنت راض عنا غير غضبان، اللهم احشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(91/34)
البكاء من خشية الله
السؤال
نسمع ونقرأ في سيرة السلف رضي الله عنهم أنهم كثيراً ما يبكون عند سماع القرآن وأخبار الصحابة، لماذا نحن لا نبكي عند سماع القرآن ابتداءً، وعند المواعظ، والخطب؟! وكيف السبيل إلى البكاء من خشية الله تعالى؟
الجواب
نعم {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] فالخشية، والخشوع هو العلم يا أخي الكريم، العالم الحق هو الذي يخشى الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] قال الله عز وجل عن الذين أمنوا من أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن مسعود: {اقرأ علي القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41-42] قال: حسبك الآن، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم} .
وقد قام ليلة حتى أصبح بآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:11] يرددها ويبكي.
أبو بكر رضي الله عنه كان رجلاً أسيفاً، إذا قرأ القرآن بكى، حتى لا يسمع صوته، ولا يدرى ما يقول يختلط كلامه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: {مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف يبكي، إذا بكى لم يسمعه الناس.
} عمر رضي الله عنه قرأ قول الله عز وجل في سورة يوسف: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] فبكى قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيجه وأنا في آخر الصفوف.
هذا عمر الرجل القوي الجلد، كان يبكي، بل كان يقرأ رضي الله عنه وأرضاه الآية من كتاب الله تعالى فيمرض فيجلس أياماً يعاد في بيته.
القرآن الكريم هو دواء القلوب أقبل على القرآن، تغن بالقرآن، اقرأ القرآن في خلواتك، تدبر الآيات، قف عندها، رددها، تأملها، عالج قلبك بالقرآن.
والقلب الذي لا يشفى بالقرآن هذا لا حيلة فيه {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] الذي لا يشفيه القرآن لا شفاء له، والذي لا يتعظ بالقرآن لن يتعظ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) .
هناك وسائل أخرى لترقيق القلوب، منها: الإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين، منها: صلة الرحم، منها قيام الليل، منها طلب العلم، منها كثرة الدعاء، منها الجلوس في مجالس الذكر، منها صحبة الأخيار.(91/35)
حكم مقاطعة قاطع الصلاة
السؤال
يوجد بعض من الأقارب على معصية ظاهرة: عدم الاهتمام بالصلاة.
فهل مقاطعة هؤلاء تعتبر من قطيعة الرحم؟
الجواب
ينبغي أولاً: أن تبذل النصح لهؤلاء بقدر ما تستطيع، وتوسل إليهم بكل وسيلة مباحة لإيصال النصيحة إلى قلوبهم، وأشفق عليهم، أوصل إليهم بعض الكتب، بعض الرسائل، بعض الأشرطة، انصحهم، ذكرهم بأيام الله، أكثر عليهم، أحسن إليهم.
فإذا يئست منهم، يئست، فحينئذ فإن هجرانهم مشروع مطلوب، خاصة إن كان الهجر سبباً في استقامتهم، فحينئذ يجب عليك أن تهجرهم.(91/36)
طبع كتاب
السؤال
هذا يسأل عن كتاب "شرح بلوغ المرام" وهل شرحي لهذا الكتاب سوف يطبع؟
الجواب
أقول له: نعم إن شاء الله عز وجل، وأنا الآن بصدد تبييض الجزء الأول، وهو يتعلق بكتاب الطهارة، وإن شاء الله تعالى خلال أشهر سوف يطبع هذا الجزء.(91/37)
أداء الأذكار
السؤال
أحياناً أذكر أذكار المساء قبل المغرب، وأحياناً بعد المغرب.
فهل هذا جائز؟
الجواب
نعم جائز، أذكار المساء إن قالها بعد صلاة العصر، أو قبل المغرب، أو بعد المغرب كل ذلك جائز.(91/38)
الخشوع في الصلاة
السؤال
هذا يسأل في موضوع الخشوع في الصلاة:
الجواب
الخشوع في الصلاة له أسباب.
السبب الأول: إزالة الشواغل القلبية، أن تقبل على الصلاة بقلب خال، أما إذا أقبلت على الصلاة بقلب متفرق في أودية الدنيا، جزء منه في المزرعة، وجزء منه في البنك، وجزء منه في المتجر، وجزء منه في البيت، وجزء منه يميناً وجزء منه شمالاً، وجزء منه هنا، وجزء منه هناك، فلا مكان للصلاة.
فلابد من تفريغ القلب من الشواغل الدنيوية.
السبب الثاني: إزالة الشواغل المادية، مثل: أن يصلي الإنسان، وهو مقبل على صلاته، يبكر، يتوضأ يصلي ركعتين، يقبل وينظر في موضع سجوده، لا ينظر إلى ما أمامه، لا يصلي وهو حاقن أو حاقب، لا يصلي وهو يسمع الأصوات المزعجة، لا تكون في قبلته أمور تصرف بصره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اذهبوا بأنبجانيتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانيته؛ فإن أعلامها لا تزال تعرض لي في صلاتي} ولذلك كره أهل العلم الصلاة في أماكن المعصية، كره أهل العلم الصلاة في الأماكن الملهية؛ لأن الإنسان ينشغل بها.(91/39)
إخراج الكفار من جزيرة العرب
السؤال
قلت إن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى أن يخرج الكفار من جزيرة العرب.
فلماذا يوجد الكثير من الكفار هنا؟
الجواب
لماذا يوجد الكثير من الكفار هنا؟ هذا سؤال وجيه.
الكفار الموجودون هنا أنواع، أكثرهم وجودهم لغير سبب، بمعنى أنه يمكن أن يستغنى عنهم بغيرهم من المسلمين، ونقول لمن استخدم كافراً -أياً كان هذا المستخدم، كبيراً، أو صغيراً- نقول له: ألا اتخذت حنيفاً: لقد زل صاحبكم زلة أقر بها أعين الكافرين تخير كاتبه كافراً ولو شاء كان من المؤمنين الحمد لله، المؤمنون والمسلمون اليوم فيهم إمكانيات، ومواهب، وعندهم قدرات كبيرة، هناك أطباء ومتخصصون وعلماء على مستوى رفيع في أنحاء العالم، لكن مع الأسف يشتغلون في بلاد كافرة؛ لأنهم لم يجدوا المكان المناسب في البلاد الإسلامية، وقد رأينا من هؤلاء كثيراً وسمعنا عنهم، تجد في ألمانيا ألوف مؤلفة من الأطباء المسلمين، يشتغلون هناك، متدينون، وعلى مستوى رفيع من الكفاءة والجودة، ولكنهم وجدوا هناك الخدمات المتوفرة، والرواتب المغرية والاهتمام، ولم يجدوا مثل هذا في كثير من البلاد الإسلامية.
فكثير من الكفار يمكن الاستغناء عنهم، الإنسان الذي عنده مزرعة فيأتي بعامل كافر، أليس هناك في الدنيا عامل مسلم يستطيع أن يقوم بالمزرعة!! عنده مؤسسة فيها أربعون عاملاً، ما بين خياطين، ونجارين، وسباكين، ودهانين، هل الدنيا ليس فيها مسلم يعرف السباكة ولا الدهان، ولا مثل هذه الأعمال، حتى تأتي من الفلبين بنصراني، أو مشرك أو وثني أو بوذي أومن كوريا أو غيرها!! هذا دليل على ضعف الولاء والبراء، ضعف مشاعر الأخوة تجاه هؤلاء المسلمين.
الصنف الثاني: وهو قليل، بل لعله أقل من القليل، صنف قد يكون هناك ضرورة لوجوده (حاجة) بمعنى ألا يوجد من يقوم مقامه، فهذا لا حرج، لو فرض أنه وجد مثل هذا، فلا حرج أن يوجد بقدر الحاجة، ثم إذا وجد من يقوم مقامه، أو استغني عنه يسرح.(91/40)
بداية طالب العلم
السؤال
شاب يريد أن يبتدئ في طلب العلم في هذه الساعة، فبأي شيء ترشدونه أن يبدأ، ويثني ويثلث؟ جزاك الله خيراً؟
الجواب
أرشده أن يبدأ أولاً: بكتاب الله تعالى قال الله عز وجل عن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] .
فيبدأ بحفظ القرآن الكريم، هذا أولاً.
فإن كان عنده فراغ، وزيادة في الوقت، فيمكن أن ينتقل إلى دراسة السنة النبوية، وليحفظ متناً مختصراً، يبدأ بالأربعين النووية مثلاً، هي اثنان وأربعون أضاف إليها ابن رجب ثمانية أصبحت خمسين حديثاً، يبدأ بحفظها، يمكن تحفظها في الإجازة تستفيد وتفيد، وهذا يتطلب منك وقتاً، وإذا انتهيت منه إن شاء الله أرشدك أو يرشدك غيري إلى أمور أخرى.(91/41)
المقصود بالجزيرة العربية
السؤال
يسأل عن المقصود بجزيرة العرب في الأحاديث الواردة في الإخراج؟
الجواب
اختلف العلماء، بعضهم قال: جزيرة العرب هي الحجاز وبعضهم قال: الحجاز واليمامة.
وبعضهم قال: جزيرة العرب هي جزيرة العرب المعروفة بحدودها المعروفة.(91/42)
بقاء اليهود في اليمن
السؤال
لماذا بقي اليهود في اليمن إلى وقتنا هذا، فلم يخرجهم الخلفاء الراشدون ولا من بعدهم؟
الجواب
نعم، هذه من أدلة من قالوا: إن جزيرة العرب المقصود بها الحجاز واليمامة، هذه من أدلتهم، بل من أقوى أدلتهم، وإن كان عدم إخراج اليهود ليس دليلاً؛ لأنه قد يكون هناك صعوبات في إخراجهم فبقوا.(91/43)
تفسير المسيح الدجال تفسيراً باطلاً
السؤال
نسمع أن المسيح الدجال يؤول أنه الحضارة الغربية، وكونه أعور هذا لأن الحضارة ذات جانب مادي فقط؟
الجواب
هذا تأويل باطل أشبه بتأويلات الباطنية، وإنما المسيح الدجال -رجل إنسان- أعني بشر من البشر شخص معين، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له خصائص في شكله وهيئته وسنه وعمره، وما يأتي به، وأخباره وأحاديثه متواترة، صنف فيها أحد العلماء كتاباً التصريح بما تواتر في نزول المسيح حتى أن من اطلع على هذه الأحاديث وأنكرها فإنه يخشى عليه أن يكون كافراً، وهذا التأويل الذي ذكره الأخ -مع الأسف- تورط فيه بعض المفكرين الإسلاميين، أظن أن محمد أسد المستشرق النمساوي الذي كان يهودياً فأسلم، تورط في هذا التأويل، ووافقه عليه بعض المعاصرين، وهذه غلطة كبيرة ترتض منها العظام.(91/44)
صراع مع النفس
السؤال
أنا شاب هداني الله إلى الطريق المستقيم، وظاهري الصلاح -إن شاء الله-، لكن القلب يحدثني باللهو والشهوات، ولله الحمد لا أستجيب للشيطان، فهل هذا يدل على أن الإيمان لم يلج في القلب؟
الجواب
لا بالعكس، هذا - إن شاء الله- يدل على أن الإيمان دخل القلب، والآن الشيطان يصارع في قلبك، ولعله -إن شاء الله- في الرمق الأخير ويخرج، ومسألة مجرد وجود الهوى في القلب هذا طبيعي، يقول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] لكن المهم هو أن تنهى نفسك عن الهوى، وأن تحرص على صحبة الأخيار والطيبين، وأن تملأ وقتك بالأعمال المفيدة؛ لأن الإنسان إذا كان في وقته فراغ، فإن الشيطان يجره إلى أن يملأ الفراغ بالمعصية، ولذلك قال الله عز وجل في آخر سورة الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:70-71] وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كفر الله تعالى عنه كل سيئة كان أزلفها، وكتب له كل حسنة كان أزلفها} حسنات العبد حتى قبل الإسلام تكتب له إذا حسن إسلامه، وسيئاته تكفر عنه، بل تقلب له حسنات {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] لكن بشرط ليس كل تائب تبدل سيئاته حسنات، الذي تبدل سيئاته حسنات هو التائب الذي حسنت توبته، وعمل صالحاً (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} إذاً املأ وقتك؛ لأن النفس إذا ما مُلأِتْ بالأعمال الصالحة يصبح بعد فترة عندها حنين للمعاصي السابقة، فحذار حذار!!.(91/45)
سوء الخاتمة
السؤال
هل يعني سوء الخاتمة دخول صاحبه في النار؟
الجواب
يختلف هذا الأمر، إن كان سوء الخاتمة بنطق كلمة الكفر والعياذ بالله فإنه يعني أن صاحبه من أهل النار، مثلما ذكر لي أحد الشباب، الثقات، قال: كان لي صديق، له أخ مسرف على نفسه، ومرض مرضاً شديداً، وحضرته الوفاة، قال: فحضر عنده أخوه، وكان حريصاً على هدايته، ويكلمه بالكلام الطيب، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر.
قال: فلما دنت وفاته قال له: هات لي المصحف، قال: فقام أخوه مسروراً فرحاً مستبشراً، قال: لعله أن يختم له بخير، قال: فلما أعطيته المصحف قال له أخوه والعياذ بالله: أنا كافر بهذا الكتاب وما فيه!! ثم مات على ذلك.
يقول: فلاحظت على قسمات أخيه زماناً طويلاً أنه كان يعيش حزناً مريراً، فقلت له: ما حزنك؟ هل لموت أخيك؟ كل الناس يموتون.
قال: لا، ليس حزني لموته، لكن الأمر كذا وكذا.
فهذا والعياذ بالله نسأل الله السلامة.
أما إن كان سوء الخاتمة بكلام لا يدل على الكفر فلا يلزم أن يكون صاحبه من أهل النار، الذين هم المخلدون فيها، مثلاً ذكر مثل الإمام ابن القيم، ويذكر بعض الوعاظ أحياناً إنساناً إذا حضرته الوفاة وهو يتكلم باسم امرأة كان يعشقها، أو كان من أهل الدنيا يتكلم باسم المال، والتجارة، والبيع والشراء؛ فهذا لا يعني أن صاحبه من أهل النار الذين هم أهلها، لكن لا شك أن من علامات توفيق الله العبد وختمه له بخاتمة خير، أن يكون آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي سعيد وغيره: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} .(91/46)
أعمال تعين على الثبات
السؤال
هل هناك أعمال وردت في الشرع لتعين الإنسان على الثبات عند الممات؟
الجواب
كل الأعمال التي وردت في الشرع تعين الإنسان على الثبات عند الممات، فإن العبد إذا كان مع الله تعالى في حال الرخاء، كان الله معه في حال الشدة، كما في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس عند الترمذي، وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح: {يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} .
إذاً: من الرخاء حال، الصحة، العافية، السلامة.
ومن الشدة حال الموت.
مَنْ حفظ الله حفظه الله، ومن ضيع الله ضيعه الله، جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] .(91/47)
حقوق العبادة
السؤال
أنا شاب عندي مشكلة، وهي: أنه يراودني الشيطان الرجيم بأن للعباد حقوقاً يجب أن أؤديها لهم، رغم أنني أجتهد في ذلك، حيث يذكرني بأعمالي السابقة كالسرقة، ونحوها، وجهوني وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إن كان بقي عليك حقوق للعباد فينبغي أن تعمل على التخلص منها، مثل: إذا كنت تذكر أنك سرقت من أحد، فينبغي أن ترد إليه السرقة.
إن كنت تذكر أنك اغتبت أحداً فينبغي أن تتحلل منه.
إن كنت لا تستطيع ذلك، أولا تعرفه، أو تخشى أن يحقد عليك، فينبغي أن تكثر من الاستغفار له، وذكره في المجالس التي اغتبته فيها بخير، فإذا أديت ما عليك فأكثر من الاستغفار لله عز وجل فإن العبد لا يمكن أن يقوم بجميع الحقوق، لكن الله عز وجل يقبل منك اليسير، ويعفو عنك الذنب الكبير.
لكن، لا تظن أنك تقبل على الله تعالى بأعمالك، إنما: {لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته} .
فاعلم أنك لن تقبل على الله تعالى وتدخل جنته بعملك، لكن برحمته جل وعلا، وأعمالك الصالحة التي تعملها تجعلك -إن شاء الله- أهلاً لرحمته: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] .(91/48)
التوكيل في كتابة الوصية
السؤال
ذكرت أن الوصية تكتب قبل الموت، فهل يجوز توكيل شخص آخر في كتابة الوصية بعد الموت؟
الجواب
لا، لا يصلح أن توكل أحداً يكتب عنك وصيتك بعد موتك، فإنه بعد الموت يصبح المال لفلان، وفلان، وليس لك، فهذا الذي وكلته لا يصلح أن يكون نائباً عنك بأن يقول -مثلاً-: أوصي بالثلث أو الربع.
لأن المال أصبح للورثة، فحينئذ هذه الوصية التي فعلها الوكيل باطلة.
لكن يجوز أن توكله في حياتك.(91/49)
علامات الموت
السؤال
هل هناك أمور تحدث للشخص توجب له كتابة الوصية قبل الموت، أو علامات تظهر على الشخص؟
الجواب
قد يكون هناك علامات.
هناك من يرى رؤيا تدل على قرب أجله، وهناك من يمرض والمرض بريد الموت، الحمى بريد الموت، وهناك وإن كان المرض ليس بالضرورة: وكم من فتىً أمسى وأصبح سالماً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدرى وكم من صحيح مات من غير علة وكم من مريض عاش حيناً من الدهر لكن هذه قرائن يستدل بها، كبر السن من الأدلة، ثم مع ذلك موت الفجأة! موت الفجأة اليوم أصبح كثيراً عن طريق السيارات، الصدم، والانقلاب، وغيرها.
عن طريق أحداث كثيرة.
موت الفجأة مباشرة: ارتفاع الضغط، انخفاض الضغط، السكتة القلبية.
أحداث كثيرة جداً، وأمراض كثيرة جداً جدّت اليوم توجب للإنسان إن كان له شيء أو عليه شيء أن يكتبه، هذا هو الحزم كل الحزم.(91/50)
أمارات الرؤيا الصالحة
السؤال
أسمع كثيراً عن الرؤيا الصالحة، فما هي أمارتها؟ وكيف نفرق بينها وبين توهيم الشيطان؟
الجواب
الكلام في هذا يطول، لكن الرؤيا الصالحة: هي أن تكون مبشرة، فيها خير، فيها بشارة، فيها سرور للعبد في دينه ودنياه، ولي محاضرة في شريطين عن "الرؤى والأحلام" يمكنك أن تراجعها.(91/51)
لزوم الطهارة
السؤال
هل ورد الترغيب في بقاء الإنسان على طهارة كل وقته؟
الجواب
نعم، ورد الترغيب في بقاء الإنسان على طهارة كل وقته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون طاهراً، كان يتوضأ صلى الله عليه وسلم إذا أحدث كثيراً، وفي البخاري وغيره قال لـ بلال: {حدثني بأرجى عمل عملته} فذكر أنه يتوضأ، ويصلي ركعتين.
وكان يعجبه صلى الله عيه وسلم أن يكون على طهارة، حتى إنه صلى الله عيه وسلم إذا كان جنباً يغتسل قبل أن ينام، فإذا لم يغتسل فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ قبل أن ينام؛ لأن الوضوء يخفف من الجنابة.
وقلما كان ينام عليه الصلاة والسلام وهو جنب دون غسل ولا وضوء.(91/52)
التسجيل في المراكز
السؤال
كثير من الشباب يأبى التسجيل في المراكز، بحجة حفظ الوقت، مع أنه يستفيد منها ويفيد فيها، فما رأيك في ذلك؟
الجواب
في الواقع أنه من كان يستفيد ويفيد، ينبغي أن يبذل، ويزكي بعض ما آتاه الله عز وجل، فإن مثل هذه المراكز يجتمع فيها -كما تعرفون وتلاحظون- جمع غفير من الشباب، فمن كان يستفيد فينبغي أن يأتي ليستفيد، ومن قال: لا أستفيد.
فنقول: معنى ذلك أنك لديك علم، ولديك معرفة، ولديك خير كثير، فينبغي أن تأتي لتفيد، ولا تترك هؤلاء الشباب بدون أن يوجد من بينهم من يوجههم ويرشدهم.(91/53)
حديث: لا هجرة بعد الفتح
السؤال
ما صحة الحديث الذي في مسند أحمد {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} ؟
الجواب
الحديث ليس فقط في مسند أحمد، بل رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح} يعني لا هجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة أصبحت بالفتح دار الإسلام، فلا يهاجر منها بل يهاجر إليها: {ولكن جهاد ونية} فالجهاد باق إلى قيام الساعة كما قال صلى الله عليه وسلم: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} جهاد ونية: والنية -أيضاً- باقية إلى قيام الساعة: {فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} .(91/54)
مقدمة الوصية
السؤال
يقول نرجو إيضاح مقدمة الوصية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم لكون كثير من الناس يجهلون ذلك؟
الجواب
في الواقع، لا أعلم وصية أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أي بلفظ معين، لكن ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا يوصون: أن الإنسان يكتب في وصيته " هذا ما أوصى به فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور" ثم يوصي أهله وولده بتقوى الله عز وجل والمحافظة على الصلوات الخمس، وإقامة الفرائض، وتجنب المناهي، والبعد عن قرناء السوء، ويكتب ما في باله من الوصايا من الأمر بتقوى الله، ثم يوصي بما يتعلق بأمواله، يوصي بثلث ماله أو ربعه أو خمسه، ويوصي بما عليه من الديون ونحوها.(91/55)
لقاء مفتوح مع طالبات كلية البنات بحائل
تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن اهتمام الإسلام بالمرأة، وعن مكانتها في المجتمع وبين أشكال العبودية التي تقع فيها المرأة عند الابتعاد عن الإسلام، ووضح المجالات التي تستطيع فيها المرأة خدمة دينها ومجتمعها.(92/1)
اهتمام الإسلام بالمرأة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: إنها فرصة ولحظة مباركة أن يهيأ مثل هذا اللقاء الذي أرجو الله تعالى أن يكون سبب خيرٍ، وفرصة مناسبة للحديث في بعض الموضوعات المهمة.
أيها الأخوات الكريمات في هذه الكلية المباركة! أود أن أقدم بين يدي إجابتي على هذه الأسئلة الموجودة أمامي الآن، بمقدمة سريعة أتحدث فيها عن آفاق ومجالات، المرأة المسلمة، في ميادين العمل الدعوي، والإصلاحي، والجهادي.
إن المرأة هي صنو الرجل وشقيقته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {، إنما النساء شقائق الرجال} وإنما جاء الإسلام ليرفع من شأن الإنسان، كل الإنسان رجلاً كان أو امرأة.
إذاً: الذكر والأنثى كلاهما متعبد بهذا الدين، وكلاهما مطالب بالتكاليف، ومحاسب بين يدي الله تعالى يوم القيامة، وواجب على الأخت المسلمة أن تدرك هذه المسئولية.
نعم.
قد يوجد في بعض المجتمعات نوع من النظرة الدونية للمرأة، وقد ينظر إليها بعض الناس على أنها مخلوق من الدرجة الثانية، أو الثالثة -مثلاً- وقد تكون محتقرة في بعض المجتمعات، ولكن هَدي الإسلام لا يؤخذ من خلال المجتمع، ولا يؤخذ من خلال التطبيق في بلدٍ أو مدينةٍ أو منطقةٍ أو أسرة معينة، إنما هدي الإسلام يؤخذ من خلال نصوص القرآن والسنة أولاً، ويؤخذ من خلال التطبيق الصحيح النموذجي للإسلام في عهود الصحابة رضي الله عنهم، وعهود السلف الصالح، حيث كانت المرأة تتبوأ أرقى المنازل وأعظمها، كانت مكرمة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع يحتقر المرأة ويزدريها، فلم يهادن هذا المجتمع، ولم يجامله، بل صرخ بين أظهر الناس بضرورة إعادة الاعتبار والاحترام للمرأة، وتكريمها أُماً، أو بنتاً، أو أختاً، أو زوجةً، وإعطائها حقها الواجب لها.(92/2)
دور المرأة في الدعوة
لا تقتصر الفتاة على مجرد الرصد لهذه الظواهر أو دراستها أو تسجيل الإحصائيات حولها أو دراسة أسبابها، بل يتعدى الأمر للتصدي للتوجيه والتعريف والدعوة والإصلاح العام داخل المجتمع.
نحن لا نوافق أبداً على أن مجتمع النساء مجتمع قائم بذاته، ومعزول علمياً عن مجتمع الرجال، هو معزول عملياً، ولكن من الناحية العلمية فالمجتمع يحتاج بعضه إلى بعض، فالمرأة تحتاج إلى العالم لتستفتيه فيما أشكل عليها، وليس ضرورياً أن يكون في كل بلد مفتياً من الرجال، ومفتياً من النساء، لكن من الضروري أن يوجد في مجتمع النساء أعداد كافية من الفتيات المحتسبات في التعليم، والتوجيه، والإصلاح، والدعوة، وأن يكون لهن تأثير كبير في أوساط المجتمع لماذا يقع هذا؟ يقع لأسباب: منها: أننا ندرك أن هناك في الطرف المقابل -ولا يخلو أي مجتمع من ذلك- عناصر تسعى إلى الهدم، وإلى الفساد، وإلى التخريب، لأي سبب!! قد يكون بسبب الظروف التعيسة الاجتماعية التي عاشتها البنت، وقد يكون بتأثير بعض الكتب، التي قرأتها، والأفلام التي رأتها، أو الصلات التي عقدتها، وقد يكون لسبب آخر.
إذاً هناك عناصر تسعى للفساد، وتسعى للهدم، وليس صحيحاً أن يُسَلِّم المجتمع لهذه العناصر، بل يجب أن يوجد في مجتمع المرأة فتيات معروفات بالدعوة، أنهن في المدارس بالنشاط الإسلامي والبيوت قائمات، وفي المساجد من خلال تجمعات النساء في رمضان أو في غيره، ومن خلال كل الوسائل الممكنة يبذلن المستطاع في الدعوة إلى الله، إما مباشرة، وإما بواسطة الكتاب، أو الشريط أو غير ذلك من الوسائل.
ونحتاج -أيضاً- إلى مثل هذا اللون من النساء الداعيات، العالمات، المربيات، الموجهات؛ لأن هناك أشياء كثيرة لا يمكن أن يقولها الرجل، ولا يمكن أن يتحدث فيها، قد لا يكون يعلمها -أيضاً- لأنها من خصائص النساء التي لا تعلمها إلا المرأة، أو لأنه حتى ولو تحدث عنها قد لا يلامس قلب المرأة، ولا يستطيع أن يصل إلى نفسها، ولا أن يخاطبها بالأسلوب الذي تفهمه وتحسنه، لكن المرأة تقدر مع بنات جنسها، ما لا يقدر عليه الرجل، وتستطيع أن تصل إلى قلوبهن بما لا يصل إليه غيرها، فهي تستطيع أن تصل إلى آفاق ومجالات وأبعاد لا يصل إليها الرجال، ولذلك هي مطالبة بهذا الجانب المهم في حياة المرأة المسلمة، ولذلك نحن ننادي من ينتدب لعملية الدعوة في أوساط النساء ومن تقول: أنا وترفع الراية وسط النساء، وتحمل المشعل، وتبذل جهداً في هذا السبيل.
ويكون من همها -أيضاً- تخريج أعداد من الفتيات الداعيات المصلحات، ليس همها فقط أن تبذل نفسها كداعية، بل ينبغي أن تحرص على تجنيد الجميع، حتى تلك الفتاة المقصرة التي قد تكون عندها خطأ أو عندها تقصير، يجب أن نربيها، وأن نطالبها بأن تقدم ما تستطيع للدين، ولو كانت مقصرة، وليس من شرط الفتاة الداعية أن تكون كاملة، ولا من شرطها أن تكون معصومة، فالعصمة للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، المهم أن يكون عندها نية صالحة واحتساب، وإخلاص لتقوم بالدعوة إلى الله تعالى في أوساط النساء.(92/3)
أهمية التعرف على المشكلات الاجتماعية
إن من الواجب على المرأة أيضاً أن تعمل على التعرف على المشكلات الاجتماعية، وعلى قضايا المرأة بصفة خاصة، وأن تسعى في حلها، لماذا لا يكون للمرأة مشاركة في دراسة أوضاع المجتمع ومشكلاته والظواهر السلبية الموجودة فيه وإعداد بعض الاستبيانات في هذا الموضوع ودراستها، والخروج منها بنتائج؟ مثلاً: قد توجد ظاهرة سلبية عند بعض البنات في المدارس أو في غيرها، وهي تختلف من مجتمع إلى آخر، فقد تكون هذه الظاهرة السلبية في بعض المجتمعات المنحرفة تصل إلى حد انتشار المخدرات، لكن في مجتمعات أخرى قد لا يكون الأمر كذلك، وقد تكون هذه الظاهرة السلبية ظاهرة الإعجاب المتبادل بين البنات، والذي يتعدى درجة المحبة المعتدلة، أو الصداقة المعقولة إلى لون من التعلق القلبي الكبير والخطير الذي تذوب فيه شخصية الفتاة، وتضيع فيه معالمها، وتصبح فيه مجرد ظل لفلانة، أو صورة عنها، أو تقليد لشخصيتها، فتفقد استقلالها، وتفقد ذاتها، وشخصيتها، وتذوب في شخصية معلمة أو زميلة أو صديقة أو ما أشبه ذلك، هذه ظاهرة سلبية ويجب أن تعالج، لكن أيضا العلاج يجب أن يكون مبنياً على معرفة.
ومن هو الذي يستطيع أن يدخل في أوساط البنات، ويطرح عليهن بعض الأسئلة، ويكتب الأجوبة بأمانة وبدقة وبعيداً عن التسمية -مثلاً- من أجل معرفة أسباب هذه المشكلة، ويدرس الأسباب، والحلول بشكل جيد ويقدم بعض المقترحات على شكل محاضرات، أو دروس، أو توجيهات، ولا مانع أيضاً أن يقدمها لمتحدثين من الرجال، يمكن أن يعالجوا هذه الظاهرة، ويمسوها بشكل يخدم وينفع ويزيل هذه المشكلة؟ قد تكون هناك مشكلة أعمق وأبعد في المجتمع كله، ليست مقصورة في أوساط الطالبات -مثلاً- ولا في مجتمع معين أو مدرسة معينة، مثلاً: ظاهرة تفشي الطلاق، ظاهرة خطيرة، ويجب أن تخيفنا فعلاً، فنسب الطلاق مرتفعة قد تصل في بعض المجتمعات أحيانا إلى (50%) من نسب الزواج، يعني (50%) من المتزوجين قد يطلقون، وربما -أيضاً- في السنة الأولى من الزواج، وهذا لا شك أنه خطر كبير، فكم بذل الإنسان في الزواج، تجربة نفسية ومالية والطرفان كلاهما خاسر في عملية الطلاق، ولكنه قد يجد نفسه مضطراً إليه لتجنب ما هو أخطر منه.
دراسة هذه الظاهرة: أسبابها، عددها، تكثر في أي فئة، وفي أي طبقة، وفي أي مستوى، دراسة أحوال المطلقات -مثلاً- وأحوال أزواجهن إلى غير ذلك، هذه الظاهرة جزء كبير منها يمكن أن تقوم به الفتاة، ولا يشترط أن تكون فتاة دارسة في قسم علوم اجتماعية، ولا أن تكون فتاة مختصة، إنما هي فتاة معنية بأمر مجتمعها، ومعنية باستقامة هذا المجتمع على الدين، ومعرفة ظواهره السلبية، وتدرك أن أي ظاهرة سلبية توجد في المجتمع هي ضد الدين، وضد التدين الصحيح، لأن الدين إنما جاء لإقامة المجتمع على أحسن وأقوم السبل، والله تعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4-6] .
إذاً إدراك هذه المشكلة، وأبعادها وأسبابها، وحلولها، ونسب انتشارها، وتقديم الحلول المناسبة قد يقلل من هذه المشكلة، وقد يحجمها، ومشاركة الفتاة في مثل هذا المجال هي مشاركة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها بحال.(92/4)
أهمية القراءة للمرأة
إن مسئولية المرأة المسلمة كبيرة في المجتمع، فهي مطالبة أولاً: أن تبني نفسها بناءً صحيحاً، وأن تشعر بأنها كيان مستقل بذاته، مسئول ٌيوم القيامة مسئولية خاصة، ومحاسب، ومكلف، ومطالب، كما يطالب غيره، لذلك أقول: لماذا نجد إعراض الكثير من الفتيات -مثلاً- عن القراءة، بألوانها وأنواعها وعدم الاشتغال بذلك؟ فإنك تجد الكثير من الناس والفتيات على وجه الخصوص ليس لديها رغبة في القراءة والمطالعة، والمتابعة للكتب المفيدة، والدروس النافعة وغير ذلك مما تستفيد منه، سواء في دينها أو في دنياها، حتى في القضايا العلمية التي تحتاجها في أمورها الدنيوية، ربما يكون ذلك قليلاً أم غير موجود أحياناً، وربما تنهمك الفتاة بأمور لا تلام في الأصل على إعطائها قدراً من العناية، فالمرأة بل الإنسان قد لا يكون ملوماً أن يهتم بمظهره، ويحرص على أن يبرز أمام الآخرين بصورة حسنة جميلة، وأن يحرص على ذلك بقدر معتدل، وكذلك أن يحرص على الاتصال بالآخرين مباشرة أو هاتفياً بقدر ما يحتاج إليه، ويتحدث معهم وينبسط إليهم، لكن أن يتحول ذلك كله إلى هم يشغل كل وقتنا، وكل حياتنا، وفراغنا، ثم لا نجد وقتاً لنقرأ، أو نراجع، أو أن ندرس، أو أن نتابع، أو أن نفكر، فإنني أعتقد أن هذا خطأ.
وأحياناً ربما أستطيع أن أقول: إن الفتاة تساهم من حيث تدري أو لا تدري في تلك النظرة المنحرفة التي ينظر إليها بعض الناس، من خلال أنها لا تكوِّن نفسها تكويناً صحيحاً، ولا تحفظ وقتها حفظاً جيداً، إنني أسمع الكثيرين يقولون: إن المرأة لا هم لها إلا العناية بمظهرها وجمالها، وإن الفتاة تقضي أمام المرآة ساعات لإصلاح الماكياج، وإن المرأة تقتني عشرات الثياب والملابس، وتغيرها في كل يوم، نعم.
أنا أعرف أن هذا الكلام فيه تحامل، وفيه تجنٍّ، وفيه عموم، وأنه ربما كان هذا الإنسان يستطيع أن يتكلم عمن يعرف من النساء أنهن كما وصف، لكنه لا يستطيع أن يعمم هذا الحكم على كل بنات حواء، فإن كثيراً من النساء ممن هن على مستوى من الوعي، والعلم، والعقل، والإدراك، والفهم، والدعوة، والنشاط، يجب أن يذكرن ويشكرن، وتعميم السلبيات خطأ.
ولكن مع ذلك أقول: ينبغي لنا أن ندرك، ولو أقل قدر من الخطأ الموجود عندنا فنعمل على تلافيه.(92/5)
القيود التي تواجهها المرأة
يجب على المرأة أن تدرك هذا الدور، وأن تدرك أن استعادتها لمكانتها لا يكون بتأثرها بتلك الدعوات العلمانية التي تدعو المرأة إلى خلع ما يسمونه بالمألوف، أو التقاليد البالية، أو العادات المتوارثة، والتحرر من ربقتها.
إن هذه الأصوات لا تعدو أن تكون استغلالاً لواقع قد تعيشه المرأة في بعض البيئات وفي بعض البلاد، ولكن النداء الحق والصوت الحق هو الذي ينادي ويدعو إلى تحرير المرأة من رق العبودية لغير الله عز وجل، ومن قيود التبعية للشرق أو الغرب.
نعم.
قد تخرج المرأة -مثلاً- من قيد التبعية، أو التأثر بأوضاع اجتماعية لا تكون مرضية، ولكنها تقع في قيدٍ آخر وهو قيد أشد وأعظم وأنكى، فتقيد نفسها بقيود الموضة ورسومها، أو العادات الغربية المستوردة التي تفرض نفسها على المرأة حتى لا تجد لها عنها مخرجاً، وهناك فرق بين هذين النوعين: النوع الأول من القيود التي تعانيها النساء في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، هي: قيود ربما يفرضها المجتمع، فتشعر المرأة بكراهيتها، وتتنصل منها.
النوع الثاني من القيود التي أتت بها الحضارة الغربية، هي: قيود تقيد المرأة بها نفسها بطوعها واختيارها ورغبتها، وهذا سر خطورتها.
إن المرأة يجب أن تتخلص من كل تلك القيود لتعيش في ظل الإسلام، والإسلام فيه تكاليف ولا شك، وفيه ضوابط، وأوامر، ونواهي، وقد يسمي البعض هذه الأشياء قيوداً، ولكنها قيود من عند الله عز وجل، وتكاليف أمر بها رب السماوات والأرض، وهي على المرأة، كما هي على الرجل أيضاً، هي على جنس الإنسان؛ لأن الإنسان عبد في هذه الدنيا، وليس حراً في الواقع، عبد ولكن لمن؟ ليس عبداً للمادة والشهوة، والدرهم والدينار والكراسي والعادات والتقاليد القبلية، وإنما هو عبد لله عز وجل، ومقتضى عبوديته لله تقتضي أن يطيع الله تعالى فيما أمر ونهى، وأن يدرك أن العبودية لله هي أعظم مظاهر الحرية الحقيقية، فمن كان عبداً لله تحرر من العبودية لغير الله، أما من رفض هذه العبودية وتمرد عليها، فإنه يكون عبداً لآلهة شتى: يكون عبداً للشهوة، وللمادة، وللحب، وللهوى، وللعشق، ولألوان من المذلة في حياته، ولهذا قال القائل: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعتُ لكنت حرا فعبودية الطمع في المال، أو فيما يريده الإنسان من أغراض وأعراض الحياة الدنيا هي أخطر ألوان العبودية.
إذاً: واجب أن تدرك المرأة المسلمة أن حريتها الحقيقية، وأن نجاتها، وخلاصها، ليس أن تخرج من قيد إلى قيد، ولا أن تهرب من مشكلة إلى مشكلة أعظم منها، ولا أن تعالج المرض بمرض مثله أو أشد، ولكن أن تخرج من ذلك كله وتتخلص من هذا الإسار والأغلال إلى الإيمان، والدين، وإلى طاعة الله تعالى، وأن تكون المرأة المسلمة منادية بكل ذلك.(92/6)
مجالات المسلمة في العمل الدعوي
هناك مجالات كثيرة تنتظر الفتاة المسلمة، أذكرها بإيجاز، من هذه المجالات:(92/7)
مجال الجهاد المالي
المجال السابع الجهاد المالي: وهو موضوع مهم جداً، فأنا أعرف -مثلاً- أن هناك عشرات الآلاف من الأخوات، إما مدرسات، أو موجهات، أو موظفات، أو أي مجال من المجالات، وقد تتقاضى الأخت مرتباً ضخماً هو كمرتب الرجل الذي يساويها في الشهادة -مع أن هذا لا يوجد حتى في بلاد الغرب الذين يدعون مساواة المرأة بالرجل، ويطالبون بحرية المرأة، فهم يعطون المرأة نصف راتب الرجل أو (60%) من راتب الرجل، وهذا في أمريكا- وفي نفس الوقت الإسلام يطالب الرجل بالإنفاق على المنزل، ليس على المنزل فقط، ولا على الأطفال، بل حتى على المرأة، ولو كانت المرأة تتقاضى -مثلاً- عشرين ألف ريال مرتباً شهرياً، فإن زوجها مُطالب بأن يوفر لها الملابس، والأحذية، والطعام، والفراش، وغير ذلك مما تحتاجه في نفسها أو في بيتها، وهذا واجب شرعي عليه.
إذاً: هذا المبلغ الضخم الذي تستلمه المرأة أو تأخذه كيف يمكن تصرفه؟! الذي ألحظه أن الكثير من النساء تجد هذا المال فرصة لعدم المبالاة في المال، فهي تخرج للسوق، وكلما أعجبها شيء اشترته، وإذا اكتشفت بعد الرجوع إلى المنزل أنه لم يكن مناسباً لا يعنيها الأمر، لأنها أصلاً ليس عندها مشكلة في قضية المال، فتُسرف على نفسها وعلى غيرها، وربما نستطيع أن نقول: إن هذا المال أخذه شخص لا يستفيد منه ولا تعرفه هي، شخص أجنبي صاحب الدكان مثلاً، أو صاحب المتجر، أو المعرض، أو غير هؤلاء، وهي لم تستفد منه!! والواقع أن الإنسان العاقل يجب أن يُخطِّئ مثل هذه الطريقة، وأن يوقن أن المطلوب، والمفروض: أن يكون هناك نوع من الترشيد في إنفاق المال، والاعتدال في صرفه.
نعم.
المرأة من حقها أن تشتري ما تحتاج، لكن بروية ودراسة وتأمل ومعرفة أن هذا هو الذي تحتاجه، وهو الذي يناسبها، وألا تتساهل في قضية المال أبداً، وإذا وجدت استغناءً عن المال، فأمامها طريق آخر، هذا الرجل الذي أخذ منها -مثلاً- أربعة آلاف ريال على فستان، بعدما رجعت البيت اكتشفت أنه لا يناسبها، وهي لم تنتفع به، وهي لا تؤجر -أيضاً- على هذا، بل هي آثمة لأن هذا إسراف!! وتضييع للمال!! ولكن لو أنها وضعت هذا المال، أو حفظت هذا المال -مثلاً- لا تكون ملومة، فتحفظ المال؛ وتستعد به للمستقبل، فقد تحتاجه هي، أو أقاربها، أو غير ذلك، وقد تنمي هذا المال بطريقة أو بأخرى، هذا مسلك لا تُلام عليه المرأة، من حقها أن تتاجر بمالها بواسطة أحد، أو بالطريقة التي يحبها الله، أو يرضى الله عنها، ولا أحد يلومها.
لكن إذا استطاعت أيضاً أن تجعل هذا المال في سُبل الخير، وتساهم في مشاريع الدعوة، وفي أحوال الجهاد، وفي دعم المسلمين، فإن هذا -أيضاً- من أعمال الخير الكبيرة.
أُختك المسلمة في البوسنة والهرسك محتاجة إليك، أنت ربُما سمعت مثلاً أن هناك (120) ألف امرأة مسلمة، تعرضن للاغتصاب -يعني: الزنا بالقهر والقوة- من قبل الجنود الصرب النصارى، أصغرهن بنت سبع سنوات، وأكبرهن، عجوزاً في الستين من عمرها!! وأنت تعلمين ربما أن (60) ألف من هؤلاء قد حملن نتيجة الاغتصاب!! وقام الصرب باعتقال هؤلاء، ورهنهن خشية أن يقمن بعملية إجهاض، فالصرب يريدون أن يتم الحمل، وأن يتم الإنجاب، مبالغةً في إذلال أختك المسلمة وقهرها، وتذكيرها طيلة عمرها بالإهانة التي لا تنساها، وإنها لم تنس تلك الإهانة، ولا ذلك الاعتداء، لأنه تمخض عنه ولدٌ بين يديها، يجدد لها الآلام صباح مساء، ثم هذا الولد سيعيش طيلة عمره عقدة كبيرة، هذه أمه؟ نعم.
لكن من أبوه؟! أبوه رجل من الصرب الأعداء الملاعين الكفار، ألا يتحرك قلبك لمثل هذا الأسى؟!! ألا تدمع عينك؟!! افترضي أن واحدة منهن قريبة لك فما هو موقفك؟! مع أن رابطة الإيمان والدين أقوى من رابطة النسب، لو أن أحداً صور لك مأساة طفل، في قصيدة أو قطعة أدبية، وقرأها عليك لبكيت كثيراً، أفلا يحق لنا أن نبكي وندمع على (120) ألف أخت مسلمة.
ونحن نتصور تلك اللحظات التي تقضيها بين يدي جندي صربي متوحش يعتدي على عرضها، أفلا يحقُ لنا أن نبكي ونحن نتحسس المشاعر الموجعة المؤلمة التي تتحرك في قلبها، أفلا يحق لنا أن نبكي ونتأثر ونحن نتصور هذا العدد الكبير من الأطفال من أولاد المسلمات الذين أتوا نتيجة ذلك الاغتصاب يعيشون في ضياع، وربما أخذتهم الكنيسة -أيضاً- لتحولهم إلى نصارى، وقسس، ورهبان.
أنتِ -أيضاً- تعرفين أن أخواتك المسلمات في الصومال يتعرضن لأقصى ألوان الفقر والجوع، بل ولأقصى ألوان الإذلال على يد الجنود الكفار من الأمريكان والفرنسيين الذين ينتقلون -أحياناً- من بيت إلى بيت للاعتداء على المسلمات، أفيجدر بي وبك أيتها الأخت المسلمة أن نسمع أن فتاة -كما حدثني الإخوة الذين جاءوا من هناك- في سن الثامنة عشر من عمرها، تترك بلادها أوروبا حيث النعيم والرفاهية، والعيش الرغيد، والحضارة وألوان التيسيرات، وتأتي إلى الصومال حيث الفقر، والجوع، والمرض، والذباب، والآلام، والمشاهد البشعة، والأوساخ المتجمعة، والمخاطر، وتنتقل من خيمة إلى خيمة بين الأطفال تداوي هذا، وتعالج ذاك، وتطعم ذاك، وتبذل ما تستطيع، حتى تسود قدماها، ويداها من أثر العمل!! والمطلوب من المسلمة هو أن تساهم في شيء من الجهاد المالي، الذي تستطيعه هي، ولتعتبر أن ميدان الدعوة هو أحد الميادين الأخرى، يعني -مثلاً- إذا كانت خصصت جزءاً من مرتبها للملابس، وآخر للأثاث، وآخر للتوفير، فلماذا لا تخصص جزءاً من مرتبها للإنفاق في سبيل الله؟ {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] .
فالله تعالى أعطاك هذا المال، ليس مُلكاً لكِ، إنما هو مِلك مؤقت، ينتقل عنك حتماً لا محالة، أو تنتقلين أنت عنه لا محالة، إذاً سارعي إلى الإنفاق ما دام الميدان مفتوحاً.(92/8)
مجال الكتابة
المجال الخامس الكتابة: ربما يَقِل أو يندر، ونحن نعجب ونفرح في نفس الوقت إذا رأينا كتاباً ألفته امرأة!! خاصة إذا كان كتاباً جيداً ومفيداً، وبصورة أخص أيضاً إذا كان يعالج قضايا المرأة، ما هو المانع؟! الذي أعلمه وألحظه أن قدرة كثير من الفتيات على الكتابة، والترصد والتعبير، أكبر من قدرات الشباب، وهذا أمر مشاهد، ولديهن أساليب أدبية قوية، ولديهن عواطف جياشة، إذا استطاعت الفتاة أن تفرغ هذه العواطف على الورق ستكون مؤثرة تأثيراً كبيراً، فما هو الذي يَحوْل بين الفتاة وبين أن تكتب في بعض المجلات، أو الصحف التي يكون اتجاهها أسلم من غيرها، تكتب بعض الكتيبات، تكتب بعض الكتب، تكتب بعض الرسائل التي تعتقد أنها مفيدة ونافعة، بحيث تستغل هذا الميدان المهم المثمر في هذا المجال، وليس صحيحاً أبدا أن يرضى مجتمعنا أن يكون النساء المعروفات في بالكتابة، في الصحافة والإعلام والكتابة وغيرها، والدراسات، والشهادات، -أيضاً- والكتابة العلمية، أن يكون هذا مقصوراً على بعض النساء اللاتي درسن في الغرب، ورضعن من لبانه، وأتين يحملن جرثومة الانهيار المادي والحضارة الغربية!!(92/9)
مجال الصداقة مع المدعوة
المجال السادس: قضية الصداقة بين الفتيات: فإن من أهم وسائل التأثير على البنت إقامة العلاقة معها والاتصال بها، والصلة الفردية معها، فإذا وجد ذلك، أمكن لها أن تؤثر على زميلتها في خلقها وسلوكها، تنهاها عما لا يرضي الله عز وجل، تأمرها بطاعة الله، تنبهها على أداء الصلوات في أوقاتها، على قراءة القرآن، على ذكر الله عز وجل، على طاعة الوالدين، على تجنب ألوان المعاصي، والفواحش، والموبقات، فتكون بذلك سبباً في هدايتها، ولا شك أن المرافقة والمصاحبة من أهم الأسباب.
ولكنني أنبه إلى الخطر الذي يتعلق بهذا، وهو: أن هذه الصداقة أحياناً تتجاوز حدودها، وتصبح نوعاً آخر يسمى بالإعجاب، حتى إن البنت تقلد الأخرى في حركاتها، وملابسها، وحذائها، وقصة شعرها، وأسلوبها، وطريقتها، وفي كل شيء، حتى تكون كالظل لها، ولا تصبر عنها، فتجلس معها طيلة الوقت، فإذا ذهبوا إلى البيت فالاتصال الهاتفي، أو الزيارة بشكل مستمر، وهذا لا شك أنه في غاية الخطورة، فهو خطر على دين الفتاة!! لأنه قد يفضي بها إلى نوع من الانحراف الذي لا يرضاه الله عز وجل، وهو -أيضاً- خطير على شخصية الفتاة، لأنها تذوب شخصيتها حينئذٍ في غيرها، ولا تصبح لها تلك الشخصية المستقلة، ولا شك أن الواقع يتطلب امرأة ذات استقلال، فهي سوف تكون ربة بيت، وزوجةً لرجل ينتظر منها شيئاً، وأماً لأطفال ينتظرون منها شيئاً.
فإذا كانت ظلاً للآخرين معناه: أنها لن تستطيع أن تستقل بشيء، وإذا وكل إليها شيء سوف تجد نفسها لا تستطيع القيام به، وإذا تزوجت قالت: شعرت أنني تزوجت قبل الأوان، وأنني غير مهيأة لدخول منزل الزوجية، ليس عندي استعداد على تحمل المسئوليات، ومن أهم الأسباب أنه لم يكن هناك تربية ناضجة سليمة، وأنها انهمكت -مثلاً- في حالة إعجاب مع أخرى، جعلتها تصغر في عينها كل الأمور الكبار، فلا مكان لديها للقراءة، ولا مكان لديها للتعبد ولا للدعوة، ولا ولا! بل حتى لا مكان لديها أن تقوم بأعمال المنزل التي تحتاج إليها، وحين نقول: أعمال المنزل، نقول: إن هذا جزء من تربية الفتاة، فشئتِ أم أبيت، أنت غداً زوجة في بيت، والزوج ينتظر منزلاً نظيفاً، ينتظر أثاثاً جميلاً، ينتظر خدمة معينة، وأنت ستكونين محرجة جداً لو قصرت في هذا.
إذاً: لابد من التهيء والاستعداد لهذا الوضع الذي تدرك الفتاة أنها صائرة إليه لا محالة، ولابد أن تعد نفسها من خلال العمل في بيت أمها وأبيها.
المقصود ألا تنهمك الفتاة -مثلاً- في صداقة مغرقة مع أخرى تشغلها عن بناء شخصيتها، واستقلاليتها وعما أوجب الله تعالى عليها.(92/10)
مجال معالجة المشكلات الاجتماعية
المجال الثالث: قضية معالجة المشكلات الاجتماعية كما ذكرت، يعني: أن تنزل الأخت للميدان، وتحرص على أن تكون ملجأً وكهفاً لمن يعانون من المشكلات، وتبذل من وقتها، هناك الأغنياء الذين يبذلون من أموالهم، لكن قد يكون بذل الوقت -أحياناً- أهم من بذل المال، فهذه تعاني مشكلة، وهذه عندها قضية، وهذه عندها أزمة، ربما أنها تحتاج إلى قلبٍ يحنو ويعطف عليها، ويسمع مشكلتها، ويتعامل ويتعاطف معها، ويحاول أن يحل المشكلة لها، حتى -أحياناً- قد لا يكون الحل جاهزاً، وربما أن المرأة أو الفتاة التي تعاني من مشكلة جربت الأمر، وجربت كل الحلول، وربما تشعر بأن الطريق أمامها مسدود، فأنت تقولين: لماذا تأتي وتشغل وقتي بالكلام عن هذه المشكلة؟! وأن فلانة قالت لي، وفلانة وأمي وأبي وأخي وقريبتي الخ.
ألا تدرين أنه -أحياناً- مجرد تنفيسها عن المشكلة، ومجرد كونها تشكو، أو تتكلم عن هذه المشكلة هذا يعتبر نوعاً من العلاج، فدعيها تتحدث معك، وتقول ما تعاني من مشكلات، وحاولي أن تظهري التأثر بما تقول، والتأثر بما تعاني، وتَدْعِين لها بالإعانة، والتسديد، والتوفيق، فإن هذا يعتبر جزءاً كبيراً من العلاج، وأحياناً: ولابد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع.
ليس شرطاً أن تحل المشكلة، لكن مجرد كونها تشعر أن قلبك معها، قد يكون هذا سبباً في حلها، وهذا من أعظم أسباب حفظ المجتمع من الانحراف، ولا مانع أن أضرب لك مثالاً واحداً.
مثلاً: فتاة تواجه في بيتها مشكلة، أبوها قاسٍ عليها يضربها، ويهملها، ويؤدبها أدباً غير شرعي، لأن الأدب الشرعي مطلوب، ويُسيء إليها، ويتهمها، وقد تكون أمها مطلقة، فيمنعها من زيارتها، فتعاني البنت الأمرين في بيتها، لم تسمع طيلة عمرها كلمة حلوة، ولا عبارة جميلة، ولا أحست بأن هناك قلباً يحنو عليها، ألا تعتقدين أن هذه البنت عرضة للذئاب؟ إذا اتصل بها بالهاتف صوتٌ متهدج -صوت رجل- يظهر الليونة، ويخاطبها بأرق العبارات، وأحسن الألفاظ، وأجمل الكلمات، ويقول لها: إن قلبه يخفق بحبها، وأنه وأنه حتى ولو كان كذاباً كبيراً، ودجالاً خطيراً، سوف تجد في قلبها، وفي داخلها دافعاً لتصديقه فيما يقول ومجاراته، وستحس بأن هذا نفقاً فتح لها أو نافذة، وهنا مكمن الخطورة، لكن لو وجدت قلب فتاة مثلها مخلصة، دينة، داعية، ففتحت لها صدرها، وعالجت مشاكلها واستمعت إليها، وتعززت لها، وصارت تتصل بها، وتوجهها، وترشدها، وتقف معها، لكان هذا بإذن الله تعالى عصمةً ووقاية من الانهماك في مهاوي الرذيلة والانحراف.
إذاً: لابد أن تقوم الفتاة بدورها في معالجة المشكلات الاجتماعية، والدخول مع الناس.(92/11)
مجال إقامة الأنشطة في المدارس
إقامة الأنشطة في المدارس: فليس من الأسرار أن نقول: إنه إن لم يكن (99%) فـ (100%) من أولاد وبنات المسلمين يدرسون بالمدارس، خاصة في هذه البلاد، معنى ذلك: أنه لو تمكن أهل الدعوة إلى الله وأهل الاحتساب، والخير، من أن يصلوا إلى كل مدرسة، ويقيموا فيها نشاطاً، ويعملوا على إيصال صوت الحق إلى كل بنت، وليس فئة خاصة، لكان معنى ذلك أنهم استطاعوا إيصال صوت الدعوة إلى كل النساء المسلمات!! وهذا مكسب ليس بالسهل، لكنه يتطلب بعض الجهود، وبعض التضحية، فعلى أقل تقدير أن يوجد في كل مدرسة واحدة معروفة بأنها داعية ذات خلق كريم، وعلم، وأدب، وفهم، وحسن تعامل مع الناس، وذات اجتهاد في مجال الدعوة، تقيم الحلقات والدروس في المسجد، وتوزع الكتب، والأشرطة، بطريقة أو بأخرى، وتعطي الناس من وقتها، ومن جهدها، ومن عمرها بقدر ما تستطيع، ولا تألوهم جهداً ولا نصحاً، حتى يجمع الجميع على أن هذه المرأة مخلصة، وأنها داعية صادقة، لا تريد إلا مصلحة الناس، وهذا مكسب عظيم للدعوة أيضاً.
فلابد من العناية -أيضاً- بالمدارس، وإقامة الأنشطة فيها.(92/12)
مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المجال الثاني: هو مجال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ففي أوساط المرأة، كما في أوساط الرجل تنتشر المنكرات، ولمجتمعات النساء منكرات لا توجد في مجتمعات الرجال، وربما لا يسمعها الرجال -أيضاً- وربما تكون من نوع خاص، والمطلوب من المرأة أن تحتسب على المرأة من بنات جنسها، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بما تستطيع: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} .
وحين قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] لم يخص الرجل دون المرأة أبداً، ولا خص العالم دون الجاهل، بل كل من علم أن هذا منكراً وجب عليه إنكاره إن استطاع بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن عجز فعلى أقل تقدير يعلم الله من قلبه أنه له كاره، ويقوم بمغادرة المكان الذي يعمل فيه هذا المنكر.
إذاً: على المرأة أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر بالأسلوب الحسن، بالكلمة الطيبة الهادئة، البعيدة عن التجريح، والإثارة، والاندفاع، وأن يكون حرص المرأة على الإصلاح دائماً وأبداً، وأن تتجنب قدر المستطاع حظ النفس، فقد تدعو المرأة فلا يستجاب لها فتغضب حينئذٍ، لماذا لم يستجب لها؟ لا.
بل عليها ألا تغضب وأن تصبر، وأن تكرر الدعوة، وألا يدخل في الأمر شيء شخصي على الإطلاق، ولا تقل: لماذا لم يستجيبوا لي وأنا فلانة؟! بل ينبغي أن أحاول أن أصبر عليهم، وأتدرج معهم شيئاً فشيئاً؛ حتى أتمكن من هدايتهم والتأثير عليهم بإذن الله تعالى، والله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فعلينا أن نكون لبقين في إصلاح الخطأ سواء كان هذا الخطأ عند عامة الناس، أو عند كبيرات السن، وكبيرات السن أحوج للباقة وإلى الهدوء وإلى التدرج معهن، منه عند بعض المتعلمات وبعض الطالبات، فإن الطالبة قد تكون -أحياناً- في فترة مراهقة وبحاجة إلى صبر، وإلى سعة صدر، وإلى حلم وقلب ينفتح لها، لتبث همومها، وشئونها، وشجونها، ومشكلاتها، وماذا تعاني في البيت، وما هي المشكلة التي وقعت فيها، ليمكن بعد ذلك انتشالها مما تعانيه، وإخراجها من المشكلة التي تواجهها.
كذلك قد تكون المخالفة على زميلة من زميلاتها، بل قد تكون على داعية أو طالبة علم، فحينئذ لا يجوز أبداً أن تكون الدعوة من خلال التشهير والنيل، ومن خلال الكلام الجارات، فإن هذا يزيد القلوب تفرقاً، ويزيد الصفوف انقساماً، ويسبب الشحناء، والبغضاء، وهو من مداخل الشيطان، ولذلك قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53] .
إذاً: من أعظم مداخل الشيطان في النزغ بين العباد هو: القول السيئ، فالكلمة النابية، والعبارة الخشنة توغل الصدور، وتغير القلوب، وتسبب الإعراض، والبغضاء، والشحناء، والأحقاد، وأظن أننا نحن المسلمين لسنا بحاجة إلى شيء من ذلك، نحن أحوج ما نكون إلى وحدة الصف، والبعد عن الانقسامات، والاختلافات، ولذلك أقول: إذا وجد ما تعتقدين أنت أنه خطأ عند داعية أخرى، أو زميلة أو حتى مجموعة من الداعيات أو من البنات، فلا يجوز أبداً أن تكون القضية تبادل التهم والقيل والقال، والتشهير وما أشبه ذلك؛ لأن أمامكنَّ مجتمع مليء بالمخاطر، وبالمنكرات، وبالانحرافات، وهو يناديكنَّ، وهو بأمس الحاجة إليكن، فلماذا نعرض عن هذا المجتمع، ونغفل عنه، وننشغل فيما بيننا بمشكلات أو خلافات، أو مسائل هي اجتهادية قابلة للأخذ والرد، وقابلة للخطأ والصواب، ومن الممكن المراجعة فيها، ومن الممكن استشارة من يكون أعلم منا بها.
وإن مما يؤسفُني ويحزنني أن أسمع أنه يوجد أحياناً في أوساط بعض الفتيات الطيبات مثل ذلك، من تبادل التهم، والأقوال، والألقاب، وهذه الأسماء والمُسَمَّيَات التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذه كذا، وهذه كذا، مع أنها أمور ليست واقعية، إنما هي أوهام كبيرة، نفخت فيها الشياطين، وكبرتها، واختلقتها، وجعلت من لاشيء شيئاً؛ حتى صدقنا ذلك، وصرنا نسير به، وكأنه واقع وكأننا نعتبر أن العقل، والحكمة، والفطنة، والذكاء، تقتضي أن نقول ذلك، وأننا إذا جادلنا في وجود هذا الشيء، أو جادلنا فيه، فمعنى ذلك: أننا مغفلون، أو لا ندري عن الأوضاع، أو لا ندري عن الحقائق.
عندنا قاعدة شرعية هي أخذ الناس بالظاهر - دعك من باطنه دعه- حتى المنافقون الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث كعب بن مالك وهو في الصحيحين لما جاءوا يعتذرون منه عليه الصلاة والسلام بعد معركة تبوك، مع أنهم تخلفوا عن الغزو والجهاد وقعدوا، مع ذلك لما جاءوا يعتذرون من رسول الله عليه الصلاة والسلام قَبِلَ مِنْهُمْ وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، فليسعك أيها المسلم، وليسعك أنتِ أيتها المسلمة، أو أيتها الداعية ما وسع رسول الله عليه الصلاة والسلام مع المنافقين، وهم منافقون في الدرك الأسفل من النار بايعهم، واستغفر لهم، وقبل منهم على نيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.
ترك السر ليوم الحساب، ودع السر لرب الأرباب، أنت تتعامل مع الظاهر، أما الخفي فدعه، واعتقد أننا لو عملنا بهذه القاعدة الذهبية العظيمة -وهي أصل واضح- لزالت كثير من الإشكالات، والقضايا، والتهم، والأمور، التي قد نقوم بها ونظن أن ذلك نوعاً من الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواقع إنما هو نفخٌ في نار الخلاف والفتنة التي قد تقع بين المسلمين والمسلمات.(92/13)
مجال الدروس التوجيهية والعلمية
المجال الأول: الدروس التوجيهية والعلمية والحلقات سواء كانت حلقات لتحفيظ القرآن، أم حلقات لتحفيظ السنة النبوية، واختيار متن من المتون المختصرة، وتحفيظه لمجموعة من النساء، حتى ولو كان كتاب الأربعين النووية، أو غيرة من الكتب المفيدة النافعة، أو إقامة حلقة للذكر وتعليم النساء بعض الأحكام المتعلقة بهن، كأحكام الطهارة، والصلاة، والحيض، والنفاس، والمعاشرة الزوجية، وغير ذلك، أو حلقة لتعليم الأخلاق الفاضلة، أو لتعليم العقيدة السليمة وتربية النساء عليها، ممكن أن تقوم المرأة بهذه الحلقة في المدرسة، سواء في الفسحة أم في حصة مخصصة، أو ما أشبه ذلك، ومن الممكن أن تقوم بها في بيتها، من خلال دعوة النساء إلى هذا المنزل، وإقامة حلقة أسبوعية تدعو إليها نساء الجيران، ومن الممكن أن تقوم بها مع نساء أقاربها، فيجتمع الأقارب وتستغل إحدى الداعيات هذا الاجتماع للدعوة إلى الله، ونشر الكتب والأشرطة.
ليس ضرورياً أن تكون الحلقة حلقة رسمية دائماً وأبداً، وليس ضرورياً أن تكون الحلقة تبدأ بشكل رسمي وتنتهي بشكل رسمي، بل أحياناً بمجرد الاجتماع، وليس شرطاً أن تنتدب من بينهن واحدة فتسكت الجميع، وتبدأ بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم وما أشبه ذلك، ثم تطرح خطبة أمام النساء، قد يكون ذلك غير مناسب في بعض الأحيان، لكن من الممكن أن تدير المرأة الحديث وتوجهه في موضوعات مفيدة، وتجعل الجميع يشاركون، ويطرحون ما لديهم، ويسألون ويستفسرون، وبعد ذلك يصل الجميع إلى نتيجة مفيدة، وقد يكون ذلك من خلال الحفلات -أحياناً-: الزواج، الأعراس، المناسبات، فينظم برنامج تتحدث فيه بعض الأخوات عن بعض الموضوعات المهمة، وهنا أنبه إلى ضرورة أن يكون الحديث مضبوطاً، لبقاً، فإن الكثير من الأخوات يدندن دائماً حول موضوعات معينة، ولا يحسن الانتقال إلى غيرها.
وأنا أقول: يجب أن يكون هناك حديث في التربية على العقيدة وتقويتها في نفوس النساء.
يجب: أن يكون هناك حديث عن الأخلاق، والعلم، وشخصية المرأة، والمعاملة بين الزوجين، ونصائح للمرأة في حياتها الخاصة، وتربية الأطفال، ويجب أن يكون هناك حديث -أيضاً- عن اللباس الشرعي، وحدوده وضوابطه، وعن شعر المرأة وأحكامه -مثلاً- عن خروج المرأة وآدابه، ومتى يجوز ومتى لا يجوز وما أشبه ذلك من القضايا التي تحتاجها المرأة.(92/14)
الأسئلة(92/15)
قص الشعر
السؤال
عن قص الشعر؟
الجواب
بعض الفقهاء يقولون بكراهية قص الشعر، وجاء في صحيح مسلم، أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة؟ فالأظهر أنه ليس بحرام، ولا نستطيع أن نقول -أيضاً- أنه مكروه، إنما -كما أسلفت- على الفتاة إذا قصت شعرها، ألا تجعل التسريحة عبارة عن موضة تتابع فيها وتقلد فيها أولاً بأول كل جديدٍ في هذه الساحة.(92/16)
حكم اليدين والقدمين في الصلاة
السؤال
خروج اليدين والقدمين في الصلاة؟
الجواب
في المسألة خلافٍ فقهي مشهور، بعضهم يرى وجوب سترهما، والراجح كما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في رسالته المعروفة، حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة لا يجب على المرأة ستر كفيها، أو قدميها في الصلاة، وإن سترتهما كان أولى.(92/17)
المسح على الجوربين
السؤال
إذا لبس الإنسان جوربين فانتقض وضوءه فخلعهما ومسحهما فما الحكم؟
الجواب
يجب أن يلبس الجوربين على طهارة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، للمغيرة: {إني أدخلتهما طاهرتين} فإذا لبسهما على طهارة، جاز له أن يمسح عليهما، منذ مسح عليهما أول مرة خمسة أوقات - يوم وليلة- ثم لا يمسح بعد ذلك، فإذا خلع الجورب، وإن كان خلعه بعد الوضوء مباشرة، غسل القدمين، أي: إنسان توضأ وضوءاً كاملاً، ثم لبس الجورب، فحينئذٍ نقول: إنه إذا خلع الجورب فوضوءه لا شك باق لأن الوضوء -أصلاً- ليس مبنياً على مسحه، وإنما مبني على وضوء، لكن لو مسح على هذا الجورب، ثم خلعه، فإن الأظهر والأقرب ينتقض وضوءه بذلك، وعليه أن لا يصلي بذلك الوضوء، بل أن يتوضأ من جديد، وهناك قولٌ آخر، بأنه لا ينتقض وضوءه، ولكن لا يجوز له أن يلبس الجورب مرةً أخرى إلا بعد طهارة.(92/18)
وقت إمساك الصائم
السؤال
متى يمسك الصائم عن الأكل؟ عند سماع الأذان الأول، أو بعد الانتهاء من الأذان؟
الجواب
يمسك الصائم عن الأكل عند طلوع الفجر الثاني، فإذا كان هناك مؤذن موثوق مأمون، أمسك عندما يسمع أول جملة من الأذان.(92/19)
خروج الدم من الأسنان
السؤال
ما الحكم إذا خرج دمٌ من الأسنان، هل ينقض الوضوء؟ علماً بأن سبب ذلك، هو استخدام عود الأسنان؟ الجواب، الراجح أن خروج الدم من الأسنان ونحوها لا ينقض الوضوء، وهناك قولُُ آخر عند بعض الفقهاء: أن خروج الدم ينقض الوضوء، وبعضهم يحده بالدم الفاحش والراجح: أن مجرد خروج الدم من البدن لا ينقض الوضوء، إلا أن يخرج من القبل أو من الدبر.(92/20)
كيفية وضع القدمين عند الوقوف في الصلاة
السؤال
عند وقوف المرأة للصلاة، كيف يكون موضع القدمين ملتصقتين، أو بينهما مسافة؟
الجواب
بينهما مسافة، وليس هناك حد محدود لهذه المسافة.(92/21)
وضع المصحف بجانب الطفل أو النائم لإذهاب القلق
السؤال
ما حكم وضع المصحف، بجانب الطفل المولود ووضعه بجانب الشخص النائم، لكي يذهب القلق، أو يمشي ويصرخ وهو نائم، فقد سمعنا أنه لا يجوز؟
الجواب
نعم، هذا لا يجوز فهو من البدع التي لا تشرع ولا تفعل، وإنما لا بأس أن يقرأ هذا المريض من القرآن، أو يقرأ عليه -كبيراً أو صغيراً- شيءٌ من القرآن وينفث عليه، فربما كان هذا سبباً في شفائه.(92/22)
المجاملة
السؤال
ما حكم المجاملة بين الناس؟
الجواب
المجاملة هي تعبير عن نوع من المصانعة بين الناس، وتقديم المودة للآخرين، وذكرهم والثناء عليهم والسؤال عن حالهم، وهو محمود والمدارات لا بد منها، كما قال عمر رضي الله عنه: [[مدارات الناس صدقه]] فهي مشروعة.(92/23)
ظاهرة المحبة بين البنات
السؤال
لقد ظهرت في هذه الأيام ما يعرف بالمحبة بين البنات، فما رأيك في هذه الظاهرة؟
الجواب
هذه ظاهرة سلبية وخطيرة وقد أشرت إليها فيما سبق، وهي تسمى بظاهرة الإعجاب، وقد تتطور إلى صور من الأوضاع التي لا تحمد ولا تليق، ويجب معالجة هذه الظاهرة على الأخوات المربيات والموجهات والمعلمات والداعيات، وبذل الوسع في تجنبها، وألا تتطور، وهي نوع من الانحراف العاطفي على أقل تقدير.(92/24)
الطرفة
السؤال
ما حكم الطرفة التي يتداولها الناس؟
الجواب
هذه الطرف التي يتداولها الناس الكل يعرف أنها ليست أخباراً تساق على سبيل الحقيقية، وإنما هي أشياء تقال للترويح عن النفس، لكن ينبغي أن يشترط في هذه الطرفة شروطاً، مثل ألا يكون بها سخرية، وألا تكون بشيء من الأشياء الدينية، مثل القرآن أو الدين أو الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما أشبه ذلك، وكذلك ينبغي أن لا تكون هذه الأشياء غالبة على الإنسان، بحيث تكون كل حياته سخرية ونكتة وطرائف؛ لأن هذا يفقد المرأة شخصيتها، أي: احترامها في عيون الآخرين، فعلى الإنسان إذا فعل ذلك أن يكون بقدر الاعتدال، وأشير أيضاً إلى شريط: النكت والطرائف.(92/25)
حكم الحلف لمن كان صادقاً
السؤال
هل يجب القسم على الشخص إذا كان صادقاً فيما يقوله، وللثقة بنفسه لم يحلف لأن الأمر تافه ولا يستحق الحلف على هذا الشيء؟
الجواب
الله تعالى يقول: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224] والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب} والله تعالى قال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] .
فكثرة الحلف على لسان الإنسان ليست علامة خير، فلا يجوز للعبد أن يجعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه، ولا يتعامل إلا باليمين دائماً وأبداً، وهذا -أيضاً- يفقد اليمين عنده قيمته، فالإنسان الذي لا يحلف، والناس يعرفون عليه الصدق، مجرد كلامه كافٍ للتأثير، ويلقى القبول، لكن إذا كان يحلف ربما -أحياناً- يحتاجون إلى الحلف، ولا بد أن تحلف، أو تكرر الحلف، وبعضهم والعياذ بالله يقول: لابد أن تحلف بالطلاق، وهذا لا يجوز.(92/26)
نصيحة لفتاة تواجه مشاكل في حياتها
السؤال
أنا فتاة أعيش دائماً متضايقة من أشياء كثيرة في الحياة، ولا أرتاح إلا بعد بكاء طويل، لكثرة المشاكل في حياتي فما هي نصيحتكم للتغلب على هذه المشاكل التي تواجهني؟
الجواب
أولاً: عليك بالشكوى إلى الله، فإن الله تعالى سميع، يسمع شكوى العبد، قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] .
فمن فوق سبع سماوات سمع الله تعالى بكاء تلك المرأة وشكواها، وأجابها عز وجل بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، وكانت تقول: [[أشكو إلى الله، أطفالاً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا]] وعائشة تقول: [[أنا في ركن الدار لا أسمع، والله تعالى سمع من فوق سبع سماوات]] وقال {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] .
فعليك دائماً وأبداً بالشكوى إلى الله، ضعي جبهتك على الأرض ساجدة، وابكِ بكل ما عندك من الدموع، وابكِ بين يدي الله، واسألي الله وستجدين سعادة كبيرة في قلبك.
ثم لا مانع -أيضاً- من استشارة المخلوقين الذين تثقين بعلمهم ونصحهم، فتختارين لكِ أختاً فاضلة، تبثين لها الأشجان، وتستعينين بعقلها ورأيها ونصحها، وبشارتها، والناس لا بد لهم من الناس، والإنسان لا يستغني عن الآخرين.(92/27)
حكم الفطر للعلاج
السؤال
أنا إنسانة أعاني من أمراض في الصدر والكلى، ورمضان على الأبواب، وأخاف أن لا أستطيع الصوم، بالرغم من أني استطعت الصوم في رمضان السابق وأنا أعاني من هذا المرض، فهل علي ذنب لو تركت بعض الأيام لمتابعة العلاج؟
الجواب
إذا نصحك الطبيب الموثوق بترك الصيام لبعض الأيام للعلاج، فلا حرج في ذلك، وعليك أن تقومي بقضائها فيما بعد.(92/28)
معنى حديث: (صنفان من أهل النار)
السؤال
في حديث: {صنفان من أهل النار لم أرهما إلخ} ما معنى الحديث؟
الجواب
نعم الحديث في صحيح مسلم، يقول النبي عليه السلام: {صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس - هؤلاء الشُرط الظلمة الذين يضربون الناس بغير حق- ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام} ومعنى كاسيات عاريات، قيل: كاسيات من الثياب عاريات من الخلق، وقيل: كاسيات من وجه وعاريات من وجه آخر، كأن تلبس القصير الذي لا يستر أو الشفاف الذي يصف ويشف عما تحته، أو الضيق الذي يحجمها ويحددها، ويكون إلى الفتنة، أو الإثارة أقرب منه إلى التستر والتصون والعفاف، ومثل ذلك قوله أيضاً: {مائلات مميلات} قيل: مائلات عن الأخلاق مميلات غيرهن عن ذلك، وقيل: مائلات في مشيتهن مميلات غيرهن، وقيل: إن المقصود المشطة الميلاء، ولا شك أن الأولى أن يكون المعنى: مائلات عن الدين والخلق والاستقامة، ومميلات غيرهن عن ذلك.(92/29)
مكان إحرام أهل جدة
السؤال
أريد السؤال عن أشخاص ذهبوا إلى جدة، وهم لم ينووا العمرة، ولكن بعد قضاء حاجتهم، أرادوا أخذ العمرة من أين يحرمون؟
الجواب
يحرمون من المكان الذين هم فيه.(92/30)
حكم جمع الصلاة في المدينة التي سافر إليها الشخص
السؤال
ما حكم جمع الصلاة في المدينة التي سافر إليها الشخص، مثل من سافر من حائل إلى الرياض، ويجمع الصلاة في الرياض، وليس المقصود الطريق، وإنما في المدينة نفسها؟
الجواب
الجمع إنما يكون عند الحاجة، وليس الجمع رخصة إلا إن احتاج إليها الإنسان، سواء كان في السفر أو في إقامة، ولهذا المريض إذا احتاج إلى الجمع جمع الصلاة، ومثله أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمستحاضة التي معها حدث دائم أن تجمع الظهر والعصر، وأذن لها أن تجمع المغرب والعشاء، فإذا احتاج الإنسان للجمع -مثلاً- إذا كان سيسافر بعد الظهر مباشرة، وقال أريد أن أصلي الظهر والعصر ثم أنطلق، ولا أتوقف، هذا له أن يجمع.(92/31)
رد الدعاء للقضاء
السؤال
هل صحيح أن الدعاء يرد القضاء؟
الجواب
نعم ورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لا يرد القضاء إلا الدعاء} .(92/32)
حكم نزول الدم أثناء استعمال حبوب منع الحمل
السؤال
ما حكم نزول الدم أثناء أكل حبوب منع الحمل، لفترة نسيانها، وهل تعتبر صلاتها وصيامها صحيحاً؟
الجواب
إذا نزل دم العادة المعروف بلونه ورائحته وآلامه، فإن عليها أن تترك الصيام والصلاة حينئذٍ، ويعتبر هذا من العادة.(92/33)
دعاء الاستفتاح
السؤال
هل دعاء الاستفتاح واجب في الصلاة؟
الجواب
ليس بواجب بل هو مستحب، ولعل هذا إجماع من أهل العلم، وهو أن دعاء الاستفتاح: {سبحانك اللهم وبحمدك} أو {اللهم باعد بيني وبين خطاياي} أو غيرهما من الأدعية وهي كثيرة، وإنما على الإنسان أن يقرأ هذا الدعاء، ثم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمي، ويقرأ الفاتحة، ثم يقرأ ما تيسر له من القرآن.(92/34)
مجيء الدورة الشهرية بعد غروب الشمس
السؤال
إذا جاءت الدورة الشهرية في رمضان، بعد صلاة المغرب، وقبل صلاة العشاء، هل يعتبر صيامي في ذلك اليوم تاماً أم لابد من صلاة العشاء؟
الجواب
إذا جاءت دورتك بعد آذان المغرب، وليس بعد صلاة المغرب فصومك صحيح، ولو لم تصل صلاة المغرب، المهم إذا غربت الشمس وأنت طاهرة فصومك صحيح.(92/35)
اليمين المشروط إذا تحقق الشرط
السؤال
هناك امرأة حلفت يميناً إن شفاها الله من مرضها أن تصنع طعاماً أو ما أشبه ذلك، ومرت مدة والآن لا تستطيع أن تصنع ذلك لظروف عائلية فماذا تفعل؟
الجواب
عليها أحد أمرين: إما أن تلتزم بما حلفت، ما دام أنها حلفت ولم تنذر، فتوفى بهذا الحلف، وتصنع هذا الطعام، فإن لم تفعل فعليها أن تكفر كفارة يمين، تطعم عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو تكسوهم.(92/36)
حكم من يرى أن سعادته في الغناء
السؤال
إني عندما أنوي أن أترك الغناء ولا أستمع إليه، وأقول أني سوف ألتزم، أشعر بضيقٍ شديد، لا أعرف لماذا، وأشعر أنني لن أصبح سعيدةً بعد ذلك، فانصحني جزاك الله خيراً؟
الجواب
هذا من الشيطان، وعليك أيتها الأخت الكريمة: أن تعلمي أن السعادة في طاعة الله تعالى، فالعبد إذا وجد الله تعالى فماذا فقد، إذا كان الله معك: يحبك ويؤيدك وينصرك ويوفقك، فماذا يضرك أن تفقدي من الدنيا؟! وإذا تخلى الله عن العبد، فلم يبال في أي أودية الدنيا هلك، فماذا ينفعه أن تكون الدنيا كلها معه؟! فإذا كان الله تعالى يريد منك أن تتركي الغناء، أفلا تتركينه لله تعالى؟! ومن ترك شيئاً لله تعالى عوضه الله تعالى خيراً منه، فعليك أن تقبلي على القرآن الكريم، وسماع القرآن وحفظه، وسماع الدروس المفيدة والمحاضرات، والأشرطة النافعة، ولا بأس -أيضاً- أن تسمعي بعض أشرطة الأناشيد المفيدة، التي ربما تكون تعويضاً ولو بصورة مؤقتة عن هذا الغناء الذي اعتادت عليه أذنك.(92/37)
متابعة المرأة للموضة
السؤال
المبدأ الذي تنطلق منه الفتاة في لبسها وأزيائها وتسريحاتها مرجعه مجلات الأزياء المنتشرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم} ؟
الجواب
موضوع الأزياء، وتسريحات الشعر، هذه القضية الكلام فيها يطول، وسبق أن تحدثت عنه في أكثر من مناسبة، وحل قضاياه في شريط: طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب، وهموم المرأة، وهموم فتاة ملتزمة، فقد تحدثت في هذه الأشرطة عن هذا الموضوع، والذي أراه أنه لا ينبغي للمسلمة أن تسير وراء الموضة والتسريحة، وكل يوم يغيروا، وكلما جد الجديد غير؛ وهذا يعني أنها أصبحت فعلاً مقلدة للغرب، متشبهة، ومعجبة بهم، ومتابعة لهم بمجرد أن ترى -مثلاً- لباساً على ممثلة، أو زياً على رقصة، أو تسريحة على عارضة تلتقط ذلك وتطبقه، فهذا لا شك ضياع لشخصيتها، وذوبان، وتقليد للكفار، واللحقوق بهم في المظهر، وهو لا شك عندي بهذه الصورة محرم، إنما هذه الأزياء تنتشر بين المسلمين، ويتداولونها، ويراعون فيها الضوابط الشرعية، إن كانت ضيقة وسعوها، وإن كانت قصيرة طولوها، وتحروا فيها مراعاة الضوابط الشرعية، ثم انتشرت بينهم، وأصبحت متداولة، هذه إنشاء الله لا نرى فيها حرج.(92/38)
صلاة الفريضة بوضوء فريضة سابقة
السؤال
هل تجوز صلاة الضحى بوضوء الفجر، وصلاة الظهر بوضوء الضحى؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك.(92/39)
حكم زكاة الذهب الملبوس
السؤال
هل يزكى على الذهب الذي تلبسه المرأة دائماً؟
الجواب
مسألة الذهب الذي تلبسه المرأة فيها خلاف مشهور فالأئمة أحمد والشافعي ومالك لا يرون وجوب الزكاة فيه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وطائفة من أهل العلم المعاصرين، ومذهب أبي حنيفة وجماعة من العلماء أن فيه الزكاة، وهو اختيار أيضاً جماعة من علمائنا المعاصرين، منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، وجماعة أيضاً من العلماء، الأمر إن شاء الله في ذلك واسع، فإن زكت المرأة على سبيل الاحتياط فهو خير إن شاء الله، وما تخرجه فهو نافع وهي مأجورة عليه، ولن يقول لها أحد: لماذا زكيت؟ ولماذا أخرجت المال؟ فإن لم تزك فإني لا أرى أن الزكاة واجبة عليها.(92/40)
اتباع المؤذن للصلاة
السؤال
إننا نرى ولله الحمد كثرة المآذن في بلادنا، لذلك عندما يُعلم المؤذن بدخول الوقت، نرى كل واحدٍ منهم يؤذن بعد فترة معينة، فهل نصلي عندما نسمع مؤذناً واحداً؟
الجواب
إذا دخل الوقت جاز للمرأة أن تصلي، فإذا كان المؤذن الأول يؤذن على الوقت يجوز لها أن تصلي بعد ما يؤذن المؤذن الأول، أما إذا أذن قبل الوقت، أو كان متساهلاً، فلا يجوز لها أن تصلي إلا بعد ما يدخل الوقت، وإذا كان المؤذن مأموناً ومعلوماً، فعليها أن تصلي، فإذا شكت فلا حرج عليها أن تنتظر أربع أو خمس دقائق، حتى تطمئن إلى أن الوقت دخل فعلاً.(92/41)
كيفية الوقاية من العين
السؤال
نجد أن بعض الناس يصابُ بالعين -مثلاً- ويذهب إلى المسجد، ويأخذ قطعة من قماش إلى آخره؟
الجواب
إذا أصيب الإنسان بالعين و: {العين حق} كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وأيضاً علينا أن لا ننسب كل شيءٍ إلى العين، فأنا أعتقد أن هناك في مجتمعاتنا مبالغة، فكل من أصيب، أو تأخر في الدراسة، أو صار عنده عقدة من الدراسة، أو مرض، أو فشل في زواج، أو فشل في تجارة، قلنا هذه عين، والواقع أن الأسباب كثيرة، والعين واحدة من الأسباب، إذاً علينا أن ندرك هل الذي أصاب الإنسان عين أم ليس بعين، فإذا ظهر أو ترجح أنه عين، فإنه يمكن معالجته بأسباب شرعية، من ذلك الاستعاذة، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ ويعيذ أولاده الحسن والحسين ويقول: {أعيذكما بكلمات الله التامّةِ من كل شيطانٍ وهامّة، ومن كل عينٍ لامّة} فما المانع أن تعيذ المسلمة نفسها، حتى لو لم تصب؟! فتقول: {أعوذ بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّة، ومن كل عينٍ لامّة} وتقول: {أعوذ كلمات الله التامّة من شر ما خلق} وتكرر ذلك، فهذا بإذن الله تعالى حفظ ووقاية من هذا الضرر الذي قد يصيبها من الآخرين.(92/42)
حكم الذهاب إلى إحدى المدن لالتماس الشفاء من الله
السؤال
طُلب مني الذهاب إلى إحدى المدن لالتماس الشفاء من الله، ثم من أحد المشايخ، فرفضت وحلفت أن لا أذهب، فبعد إلحاح الوالدة وحاجتي لذلك ذهبت، فماذا أفعل؟
الجواب
عليها أن تكفر عن يمينها بإطعام عشرة مساكين، كل مسكين نصف صاع من الرز، وقد يكون معه شيء من اللحم، ولا مانع من الذهاب إلى ذلك المكان.(92/43)
الحائض إذا طهرت في نهار رمضان
السؤال
إذا طهرت الحائض في نهار رمضان، فهل يجب عليها أن تمسك عن الطعام والشراب بقية النهار؟
الجواب
هذا موضع خلاف، فالعلماء منهم من رأى أن عليها الإمساك، ومنهم من يقول: لا يلزمها أن تمسك، لكن عليها أن تسر بالأكل، والراجح أنه لا يجب عليها أن تمسك؛ لأن ذلك اليوم غير محسوبٍ لها.(92/44)
حكم صلاة المسافر
السؤال
زارنا ضيوف من الرياض، وطوال مدة إقامتهم في حائل كانوا يصلون الصلاة قصراً بحجة أنهم مسافرون، فما الحكم؟
الجواب
المسافر يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين -كما هو معروف- لكن إن كان رجلاً أقام في البلد، ويسمع النداء، فعليه أن يصلي مع جماعة المسلمين، وإذا صلى مع الإمام -فإنه لا شك- يصلي أربعاً، أما إن فاتته الصلاة فإنه يقصر الصلاة، وكذلك المرأة تقصر الصلاة، هذا إذا كانت الإقامة إقامةً محدودة وكانوا مسافرين، أتوا في إجازات وما أشبه في ذلك لمدةً معينة، ثم سيرجعون.(92/45)
حكم الاجتماع قبل رمضان بيوم للأكل
السؤال
توجد في مجتمعنا هنا عادة تتم قبل رمضان بيوم، حيث يجتمعون للأكل، ويسمونها تجريش ما الحكم؟
الجواب
هذه ليست من الأمور المشروعة، وهي من عادات الناس التي ليس متعبداً بها.(92/46)
حكم العشاء الذي يقام في رمضان صدقة عن الميت
السؤال
ما حكم الذبيحة التي تذبح صدقة عن الميت في رمضان؟
الجواب
الصدقة عن الميت بشكل عام مشروعة، ولا بأس أن تتصدق عن الميت بمالٍ أو طعامٍ أو غيره، لكن اعتياد بعض الناس أن يقيموا ما يسمونه بالعشاء في رمضان، ويجمعوا الأقارب وما أشبه ذلك، ويلتزم بذلك، هذا بذاته ليس له أصل محدد، والأولى أن يكون العشاء للفقراء والمساكين والمحتاجين.(92/47)
حكم قضاء الصيام في شعبان
السؤال
امرأة عليها صيام من رمضان ولم تقض إلا في شهر شعبان؟
الجواب
لا حرج في ذلك.(92/48)
التوبة من الغش
السؤال
عندما كنا في المرحلة الدراسية المتوسطة والثانوية، كنا نتساهل في مسألة الغش، ولكن الآن عندما أتينا إلى الكلية عرفنا أن ذلك حرام ولا يجوز فتركنا الغش، فهل تكفينا التوبة عن ذلك، علماً بأن نجاحنا لم يكن بسب الغش، ولكنه رفع درجاتنا، فما الحكم؟
الجواب
أولاً: هذا يؤكد ضرورة تربية البنات في المدارس، وأن أي واحدة منكن تنتقل إلى قطاع التعليم عليها أن تحرص وتبذل قصار جهدها في النصيحة للبنات وتصبر عليهن، وتعود نفسها على ذلك.
ثانياً: لا حرج عليها إن شاء الله فيما جرى، ما دام أنها تابت إلى الله تعالى من هذا الغش، وما دام أنها أصبحت الآن في المرحلة الجامعية، فإن التوبة تجب ما قبلها، وتلك الشهادة المتوسطة والثانوية لم يعد لها قيمة مع وجود الشهادة الجامعية التي حصلت عليها نتيجة جدها واجتهادها.(92/49)
الواجب على من يرى طالباً يغش في الامتحان
السؤال
ما موقفي الآن عندما أرى طالبة تغش في لجنة الامتحان؟
الجواب
عليك أن تنصحيها وتبيني لها أن هذا لا يجوز، ويجب من يقوم على المراقبة أن يمنع الغش بقدر المستطاع.(92/50)
شراء المرأة من الباعة الرجال
السؤال
سمعت من أحد المشايخ أنه لا يجوز أن نشتري ملابسنا من البائعة الرجال، وقال: إن صحابية تصدقت بثوب بمجرد أن رجلاً أجنبياً قد رآه، فما الحكم؟ وهل نأثم ونحن لا نجد إلا هذه الطريقة، وكيف نفعل وملابسنا يخيطها لنا الرجال؟
الجواب
لا، ليس بصحيح أنه لا يجوز شراء الملابس من البائع إذا كان رجلاً، بل يجوز أن تشتري الملابس من الرجل، ولكن عليها ألا تخضع بالقول، وعليها أن يكون خروجها بقدر الحاجة، وإذا أمكن لزوجها أن يقضي حاجاتها أو قريبها فهو أولى إذا استطاعت ذلك، فيكون خروجها لحاجتها التي لا بد لها منها، هذا هو الذي يجب التنبيه عليه.(92/51)
حكم صوت المرأة
السؤال
ما حكم صوت المرأة، خاصة ونحن نكلم الرجال المدرسين عبر الهاتف للمناقشة، فما الحكم؟
الجواب
الصحيح أن صوت المرأة ليس بعورة، وأن للمرأة أن تتكلم بما تحتاجه مع الرجال، ولكن عليها أيضاً، ألا تخضع بالقول، قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} ليس نساء عامة المسلمين فقط، بل حتى نساء النبي عليه الصلاة والسلام، أمهات المؤمنين، يؤدبْنَ بهذا الأدب: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32-33] .
فهذا توجيه للجميع، وإذا كانت أمهات المؤمنين مأمورات بذلك فغيرهن من باب أولى، وقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] قد يكون الرجل الذي أمامك في قلبه مرض، سواء كان بائعاً، أو غير ذلك، فعليك ألا تخضعي بالقول، وأنت -أيضاً- عرضة للافتتان، فالمرأة قد تفتن غيرها، وقد تفتن نفسها، والله تعالى قال: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] .(92/52)
حكم من أفطر رمضان
السؤال
فتاة عندما بلغ عمرها ثلاث عشرة سنة، أتتها الدورة لأول مرة، وجاء رمضان ولم تصم، وجاء رمضان آخر أيضاً ولم تصم، فما الحكم؟
الجواب
يجب عليها أن تقضي الأيام التي فاتتها، فمنذُ أن جاءتها الدورة وجب عليها الصيام، فعليها أن تصوم قدر أيام الدورة وما بعدها من رمضان، وتصوم رمضان الذي بعده، فتقضي الجميع، وكل يومٍ قضته، بعد ما جاء رمضان الآخر، عليها أن تطعم مقابله -أيضاً- مسكيناً.(92/53)
حكم من تسكن هي وزوجها مع أقرباء الزوج
السؤال
أنا امرأة متزوجة وأسكن في بيت يضم زوجي وإخوته، وليس بمقدرتي التزام الحشمة الكاملة كتغطية اليدين والأرجل، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً؟
الجواب
عليها أن تحرص قدر المستطاع على الحشمة وتغطية ما أمكن من يديها ورجليها، وألا تكثر من الجلوس والمحادثة معهم، والاحتكاك بهم، بقدر ما تستطيع: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(92/54)
حكم خروج سائل أبيض من الفرج بعد الوضوء
السؤال
توضأت لأداء الصلاة، وبعد ذلك خرج سائل أبيض قبل أداء الصلاة، فهل أصلي؟ أم أعيد الوضوء؟
الجواب
لا بد في هذه الحالة من إعادة الوضوء وتطهير الثياب إن كان هذا السائل وصل إلى شيء من الثياب على القول بأنه نجس، وهو الذي يظهر لي، والله تعالى أعلم.(92/55)
حكم صبغ الشعر بغير السواد
السؤال
حكم الصبغة بغير الأسود علماً أن من أن تقوم بذلك لا تأخذه من مجلات الأزياء؟
الجواب
لا نرى حرجاً أن تصبغ المرأة شعرها بغير الأسود، فالصبغ بالأسود ممنوع عند كثير من أهل العلم، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: {غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد} أما ما سوى في ذلك، فالأصل أنه جائز.(92/56)
حقيقة مناهج قسم اللغة الإنجليزية
السؤال
لقد سمعت في أحد الأشرطة الإسلامية شيخاً يتحدث عن طالبات قسم الأدب الإنجليزي، وأنهن غير صالحات للزواج، ولا لتربية الأجيال، ولا لفتح بيوت في المستقبل، وأننا بعيدات عن الدين، فما رأيكم؟ أليس في كلامه هذا تشويه لنا ولأخلاقنا؟ رغم أننا ولله الحمد، نعرف الله تعالى جيداً؟
الجواب
لم أسمع هذه الكلمة، ولذلك لا أستطيع أن أعلق عليها، لكنني أستطيع أن أعلق على أقسام اللغة الإنجليزية، فالذي أعرفه أن هذه الأقسام كغيرها من الأقسام في كليات البنات في هذه البلاد، وفي غيرها من بلاد العالم الإسلامي ولله الحمد، أنها عمتها الصحوة، فليس الأمر مقصوراً علينا، في تركيا أكثر من عشرة آلاف طالبة متحجبة في الجامعة!! في أندونيسيا، وفي مصر على رغم القيود والضغوط والحرب النفسية والمباشرة، على رغم ذلك المرأة المسلمة أثبتت أنها ورثت من امرأة فرعون صبرها وإيمانها، حين قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فالأقسام كلها تشهد توجهاً طيباً، وفي كل الأقسام فتياتٌ صالحات، دينات، صينات، مخلصات ملتزمات، خيرات، ومثل هؤلاء هن صالحات لبناء البيوت، وبناء الأجيال، وهي الزوجة التي يبحث عنها الرجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} وهذا لا يمنع أن يوجد شيء من ذلك في تلك الأقسام -كما يوجد في غيرها- فالشر والخير صنوان موجودان في كل مكان.
أمرٌ آخر أود أن أنبه عليه وربما كان هو مقصوداً لذلك المتحدث: أن مناهج اللغة ومناهج أقسام اللغة الإنجليزية مناهج سيئة، وهي مناهج غربية، وعندي نماذج من هذه المناهج تسود وجوه الذين وضعوها، وأمروا بها، ووجهوا رضوا بها أيضاً، وتسوِّد وجوهنا جميعاً، لأنها تدرس بناتنا وأخواتنا، وزوجاتنا، ولا يجوز لنا أبداً أن نسكت عليها، كيف يدرس هذا القسم كتاباً يتحدث -مثلاً- عن فتاة بريطانية، لكن كيف تدرسه فتاة مسلمة في هذه البلاد الطاهرة، وتدرس فيه كيف أن هذه الفتاة تعيش مع صديقها، وتنام معه على السرير، وتخرج معه في النزهة وتراقصه، وتجلس معه على شاطئ البحر، بل إن بعض هذه الكتب فيها انحرافات خطيرة في العقيدة، وفيها سخرية بالله عز وجل، وفيها سب للدين، لئن كانت هذه الكتب تدرس -مثلاً- في جامعات لندن وواشنطن وتنقل بقضها وقضيضها وبحذافيرها تدرس في جامعات المسلمين، هذا خطأ كبير، وانحراف خطير؛ لأن الأجيال تتربى على مثل ذلك، ومستحيل أن نتصور انعزال عقل البنت، وقلبها ووجدانها عما تدرس، إذا قلنا إن المناهج لا تؤثر في البنت، والتلفاز لا يؤثر في البنت، والإذاعة لا تؤثر في البنت، إذاً ما هو الذي يؤثر في البنت؟!(92/57)
الشك بعد انقضاء الصلاة
السؤال
ما الحكم إذا شك المصلي بعد التسلم أن صلاته ناقصة أو زائدة؟
الجواب
إذا كان الشك بعد الانتهاء من الصلاة، فهو لا يؤثر ولا يلتفت إليه.(92/58)
حكم تعلم اللغة الإنجليزية
السؤال
هل من الضروري تعلم اللغة الإنجليزية، مع أنني أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {تعلموا لغة أعدائكم} وهناك بعض الطالبات يعتبرن تعلم اللغة الإنجليزية غير ضروري نرجو التوضيح؟
الجواب
أما تعلم لغة أعدائكم، أو {من تعلم لغة قومٍ أمِنَ مكرهم} فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بعض أصحابه بتعلم لغة اليهود -العبرية- وقال: {إني لا آمنهم على كتابنا} يعني: على القرآن وعلى الإسلام، وهذا يدل على أنه يجب أن يوجد في المسلمين من تقوم بهم الكفاية في حاجتهم إلى تعلم هذه اللغة، خاصةً أن هذه اللغة اليوم هي اللغة الغازية، وهي اللغة المسيطرة، وهي لغة الحضارة المادية التي تهيمن على العالم كله، ولهذا فإن هذا الوضع يستدعي أن يوجد في المسلمين ذكوراً وإناثاً من يتعلم هذه اللغة، لكن لماذا يتعلمها؟ يتعلمها ليدعو إلى الله تعالى، يتعلمها ليترجم ما يحتاج إليه المسلمون، في أمورهم الدينية، أو في أمورهم الدنيوية، أيضاً يتعلمها لمصالح حقيقية للأمة أو للمجتمع، ولا يتعلمها لأمور محرمة، أو محذورة.(92/59)
حكم استخدام الحبوب لمنع الدورة الشهرية في رمضان
السؤال
سؤال عن أكل حبوب منع الدورة الشهرية في رمضان من أجل إقامة الصلاة والمشاركة في الصيام وما أشبه ذلك؟
الجواب
إذا كانت هذه الحبوب لا تضر بصحة المرأة، ولا تؤثر عليها تأثيراً واضحاً، فيجوز لها أن تأكل هذه الحبوب في شهر رمضان، من أجل أن تُصلي وتصوم مع الناس، ولكن الأولى أن لا تفعل، لأن هذه الحبوب من المرجح طبياً أنها ضارة بالمرأة، والمرأة عليها أن تفطر إذا جاءتها العادة، ثم تصوم مثل هذه الأيام بعد ذلك، وكذلك تركها للصلاة، ما دامت تصلي وقت طهرها، ما كتب لها من صلاة الليل، وتذكر الله تعالى، وتصلي التراويح والقيام، فإنها إذا تركت هذا العمل بسبب الدورة، فإن الله تعالى يكتب لها إن شاء الله نيتها واحتسابها أجر الصلاة التي كانت تصليها.(92/60)
كيفية قضاء صيام رمضان لمن أفطر بعذر
السؤال
امرأة أفطرت طوال شهر رمضان بسبب الولادة في أول الشهر، فهل عليها أن تقضي صيام الشهر بأيام متتابعة أم لا، أو أن تتصدق بأيام الصيام؟
الجواب
عليها أن تقضي الأيام التي أفطرتها من رمضان، ولكن لا يلزم أن يكون القضاء متتابعاً، بل يجوز أن تفرق قضاءها، فتصوم -مثلاً- من هذا الشهر يومين أو ثلاثة، ومن الشهر الثاني مثل ذلك، حتى ينتهي ما عليها، قبل مجئ رمضان الآخر.(92/61)
حكم الصلاة في الملابس المكتوب عليها كلمات إنجليزية
السؤال
عندي بلوزة مكتوب عليها (لندن) فهل يجوز أن أصلي بها، أو ألبسها، علماً بأني اخترتها لشكلها؟
الجواب
نعم يجوز أن تلبسيها وتصلي بها، وإن كنتُ أحذر الفتيات من لبس الملابس التي تكون عليها كلمات باللغة الإنجليزية، لأنه ثبت أن كثيراً من هذه الكلمات تكون كلمات رديئة أو بذيئة، وبعضها تعبر عن معانٍ وثنية، مثل بعض الملابس مكتوب عليها، كلمة معناها "الإله" في الإغريق أو آلهة النصر عند الإغريق، وكذلك بعض الملابس يكون مكتوب عليها عبارة قد تكون غير أخلاقية، وبعض الملابس قد تدل على معنىً سيئ، وتلبسها الفتاة دون قصد أو إرادة منها، والمفروض أن مثل هذه الملابس تمنع من بلاد المسلمين، ومن أسواق المسلمين، لكن علينا نحن واجب وهو: أن نقاوم مثل هذه الملابس ولا نشتريها، وعلى فرض أن الأخت اشترت مثل هذه الملابس، ثم اكتشفت أن فيها معنىً شركياً أو غير أخلاقي، فإنه يجب عليها أن تتركها، وأن تبلغ عنها حتى يمكن مصادرتها.(92/62)
كيفية سجود السهو
السؤال
هذا السؤال عن سجود السهو، وهل يكون قبل التسليم أو بعد التسليم، وهل له دعاء مخصوص؟
الجواب
سجود السهو له أحوال: الحالة الأولى: أن يكون عن نقص، مثل أن تنسى المرأة التشهد الأول في الصلاة، وتقوم عنه إلى الركعة الثالثة، فحينئذٍ عليها أن تسجد للسهو قبل السلام، لأن السجود للتعويض عن نقص، ولجبر نقص.
الحالة الثانية: أن يكون سجود السهو عن زيادة حيث تزيد في الصلاة عملاً من جنس الصلاة سهواً، سواء زادت ركوعاً أو سجوداً أو ركعة أو ما أشبه ذلك سهواً، أو حتى زادت سلاماً في أثناء الصلاة، فحينئذٍ يكون سجود السهو بعد السلام، لأنه لا يجتمع في الصلاة زيادتان.
الحالة الثالثة: وهي الشك في الصلاة: إذا شك الإنسان، ولم يدر كم صلَّى، ثلاثاً أو أربعاً، هذه أيضاً لها حالتان: الحالة الأولى: أن لا يترجح عنده شيء، يقول: لا أدري أهي ثلاث أم أربع، ولا يرجح شيئاً، فهذا يسمى شكاً، وحينئذٍ يأخذ بالأقل، ويبني على اليقين، فيعتبرها ثلاثاً، ويأتي بالرابعة، ويسجد للسهو قبل السلام، لتعويض هذا الشك الذي حصل في قلبه.
الحالة الثانية: أن يترجح عنده أحد الأمرين، فيكون: الغالب على ظنه أنها أربع، فحينئذٍ يبني على أنها أربع ويسجد سجدتين للسهو بعد السلام.
أما بالنسبة لسجود السهو فإنه ليس له دعاء مخصوص، إنما هو كسائر السجود.(92/63)
كيفية صلاة الاستخارة
السؤال
كيفية الاستخارة؟ وأفضل وقت لصلاة الاستخارة؟
الجواب
بالنسبة لصلاة الاستخارة، فليس لها وقت فاضل، إنما يتجنبها الإنسان في أوقات النهي، بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر، إلا أن يكون مضطراً إلى ذلك، أي: في أمرٍ يفوت، فيصلي ركعتين، ثم يدعو إما في السجود أو في آخر التشهد قبل السلام بالدعاء الوارد في حديث جابر في صحيح البخاري: {اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر وتسمي حاجتها، زواجاً أو سفراً أو ما أشبه ذلك- خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلمه غير ذلك، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به} .(92/64)
مسائل في التوبة
أهمية التوبة والحث عليها في القرآن والسنة، وهي نوعان: واجبة ومستحبة، وهناك قصص في التوبة كثيرة للعظة والعبرة، وشروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، وعقد العزم على عدم العود، والندم، وأن تكون في زمن القبول، والتخلص من حقوق الآدميين، ولا مانع من تكرار التوبة مع تلك الشروط، وهناك عوامل تساعد على التوبة منها: قوة العزيمة، وكثرة الدعاء، وترك بيئة المعصية، وعدم القنوط.(93/1)
الحث على التوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، الحمد لله الذي فتح بابه للتائبين، وبسط غناه للراغبين، ومدَّ عطاءه للطالبين، الحمد لله الذي وسع جوده، وكرمه، وفضله وعطاءه جميع خلقه، ففتح لهم أبواب السعادة في الدنيا والآخرة.
الإخوة الكرام لعله فألٌُ حسن أن يكون الحديث في مثل هذا المجلس الطيب، عن موضوع التوبة، عسى أن يمن الله تعالى علينا جميعاً بأن يتوب علينا من ذنوبنا وخطايانا، وأن يكتبنا في عداد عباده الذين تابوا وأنابوا إليه، ولعله من المناسب أيضاً أن يكون الحديث عن التوبة في مثل هذه الأوقات التي كثرت فيها الذنوب والمعاصي، بل وكثرت فيها المجاهرة، التي تدل على الاستخفاف بالذنب، والتهوين من شأنه، بل ربما دلت على الشك، وعدم الإيمان بوجوب ما أوجب الله، أو تحريم ما حرم الله، وفي هذا الوقت بدأت الآيات والنذر، تتوالى من بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.
فنحن نسمع من المحن، والفقر، والجفاف، والفيضان، والزلازل، وغيرها الشيء الكثير، ونجد حتى فيما بين أيدينا شيئاً من ذلك، فنضرع إلى الله عز وجل، في صلاة الاستسقاء أن يغيثنا، يقول الله عز وجل على لسان نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] فمن أراد سقيا الله وبره وجوده وعطاءه في الدنيا والآخرة، فعليه بالاستغفار والتوبة إلى العزيز الغفار.(93/2)
الأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، من الأحاديث في ذلك الكثير الطيب، فمن ذلك ما في صحيح مسلم عن الأغر المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه ليغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة} وعن ابن عمر رضي الله عنه نحوه وفي صحيح مسلم -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها} وفي الحديث المتواتر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه ابن مسعود ٍ والنعمان بن بشير، وأبو هريرة، وأنس وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: {لله أشد فرحاً، بتوبة عبده، من أحدكم كان بأرضٍ فلاة، ومعه راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فنام تحت ظل شجرة فذهبت هذه الراحلة، فطفق يبحث عنها حتى إذا أيس منها، رجع إلى تلك الشجرة، ونام تحتها ليموت، فلما استيقظ نظر فإذا راحلته عند هذه الشجرة، قد أمسكت بها أغصانها، وعليها طعامه وشرابه وزاده، فقال هذا الرجل: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح!!} وهذا فيه دليلٌُ على إثبات صفة الفرح لله عز وجل، وإن الله ليفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه وأناب، أعظم وأشد من فرحة هذا العبد الذي ضيع راحلته، وعليها طعامه وشرابه؛ حتى أيقن بالهلكة، فساقها الله تعالى إليه على غير انتظار، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل التوبة.
وقد يتساءل كلُ فردٍ منا، أو كثير منا، فيقول: إنما التوبة للعصاة، والمذنبين، ولسنا بالضرورة عصاة أو مذنبين، فكيف نتوب؟! وهذه مشكلة تقع لكثير من الناس، حين تقول لإنسان: يا أخي استغفر الله، يقول لك: وهل عصيت الله حتى استغفره!! وجاء أحدهم إلى مريض على سرير مرضه، فقال له: (لا بأس عليك طهورٌ وتكفيرٌ لذنوبك إن شاء الله) فقال: وهل أنا عاصٍ حتى تكون هذه الآلام والأمراض تكفيراً لذنوبي، وهذا من جهل العباد بقدر أنفسهم وما يصدر منهم، وجهلهم -أيضاً- بحق الله تعالى عليهم، وأن العبد لو قضى حياته كلها ساجداً، راكعاً لله ما أدى حقه.
ما للعبادِ عليه حقٌ واجبُ كلا، ولا سعيٌ لديه ضائعُ إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّمُوا فبفضلهِ وهو الكريمُ الواسعُ(93/3)
التوبة في كتاب الله
لقد حث الله في كتابه الكريم، على التوبة في مواضع كثيرة، يقول الله عز وجل في صدر سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:1-3] .
ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53-55] .
ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] .
ويقول عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] .
ويقول سبحانه عن نبيه آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] .
إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الحث على التوبة والأمر بها.(93/4)
أنواع التوبة
أيها الإخوة التوبة نوعان: واجبة ومستحبة:(93/5)
التوبة الواجبة
فهي التوبة من فعل المحرمات، وترك الواجبات، وأعظم المحرمات الوقوع في الكفر، والشرك، والنفاق، فهي واجبة لاشك، وكذلك التوبة من سائر المعاصي، كأكل الربا، وأكل الحرام، وسماع الغناء، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، والغيبة، والنميمة، وقول الزور، وغير ذلك من المعاصي التي فشت في أوساط مجتمعاتنا اليوم، فهذه التوبة واجبة، وكذلك التوبة من ترك الواجبات، كترك الصلاة، أو ترك صلاة الجماعة، أو ترك الصيام، أو الزكاة، أو الحج، أو ترك تعلم العلم الذي يجب على الإنسان تعلمه، إلى غير ذلك من الواجبات التي قد يُقصر فيها الإنسان، فهذه التوبة واجبة.(93/6)
التوبة المستحبة
أما التوبة المستحبة: فهي التوبة من فعل المكروه، أو ترك المستحب، فالإنسان يتوب من ترك الوتر مثلاً، أو ترك السنن الرواتب، أو ترك الإكثار من قراءة القرآن، أو ترك قيام الليل، أو غير ذلك من الأعمال والطاعات والصالحات، كما يتوب من فعل الأمور المكروهة، التي لا يحبها الله ولا رسوله، ولكن ليست محرمة، وإذا عُلم أن التوبة هكذا، عُلم أنه لا غنى للإنسان أي إنسان عنها، فإنه ما من إنسان وإلا يقع في بعض المعاصي ويترك بعض الواجبات، أو يقع في بعض المكروهات ويترك بعض المستحبات، ولذلك في الحديث، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون} والحديث رواه الترمذي وغيره وحسنه، وفيه إشارة إلى أن من شأن الإنسان أن يخطئ، ويغلط، ولذلك قيل: وما سُمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلبُ إلا أنه يتقلبُ(93/7)
حاجتنا إلى التوبة
وإذا كنا نعلم جميعاً، أن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، كانوا على رأس التائبين، وكم منهم من كان يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] .
وكم منهم من يتوب إلى الله عز وجل، وكم منهم من يقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] ومنهم من قال الله عز وجل عنه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص:24-25] .
بل علم الله نبيه ومصطفاه وخيرته من خلقه عليه الصلاة والسلام، أن يستغفر فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] .
وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام في كثرة الاستغفار، أنه يحسب له في المجلس الواحد نحو مائة مرة، (أستغفر الله وأتوب إليه) وفي لفظ سبعين مرة، فإذا كان هذا شأن الرسل والأنبياء، فما بالك بنا ونحن في جَلْجَلتنا، وفي أوضارنا، وفي تقصيرنا، وفي غفلتنا، وقلوبنا قد أصابها من الران وغطى عليها من الغبار ما لا يدفعه إلا الله عز وجل، فنحن أحوج وأحوج إلى أن نتوب إلى الله عز وجل ونستغفره.(93/8)
الأمر بالإكثار من الاستغفار
وثمة أمرٌ ثالث يؤكد أهمية التوبة والحديث عنها، وهو أننا نجد أن الله عز وجل أرشدنا إلى أن نُكثر من الاستغفار، عند الأعمال الصالحة، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200] ويقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198-199] .
ويقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، وبعد أن فتح الله عليه الفتوح ودانت له جزيرة العرب: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] .
فكان عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عائشة، في الصحيح، بعد نزول هذه السورة، {يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن} يعني: ينفذ أمر الله عز وجل له بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] فبعد أن جاهد عليه الصلاة والسلام، وكابد، وعانى، وطُرِد، وأُوذي، وألقي السلى على ظهره، وشج رأسه، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وأدميت عقباه، وأوذي، وشرد أصحابه، بعد هذا كله، يقول الله عز وجل له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] .
وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان إذا صلى قال: {استغفر الله، استغفر الله ثلاث مرات} كما في حديث عائشة وثوبان في صحيح مسلم {أنه إذا صلى استغفر ثلاثاً ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام} فيتعود المسلم: أنه حين يعمل الأعمال الصالحة، ينبغي أن يستغفر، ولذلك قال الله عز وجل في وصف عباده المؤمنين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18] قيل معنى الآية: أنهم كانوا يقومون الليل تهجداً، قائمين، وراكعين، وساجدين، يراوحون بين أرجلهم، وجباههم، فإذا كان الفجر استغفروا الله عز وجل، وهذا له دلالات عظيمة جداً، منها: أن يدرك الإنسان أنه مهما بذل، فبذله شيء يسير بالنسبة لحق الله عز وجل، ولا يمكن أن يؤدي الإنسان حقيقة شكر نعمة الله تعالى عليه، لأنه كلما تعبد، كانت هذه العبادة نعمة جديدة، تستحق شكراً، فإذا شكر الله عز وجل على هذه النعمة، كان الشكر نعمة أخرى تستحق شكراً آخر، ولذلك يقول القائل: إذا كان شكري الله نعمة عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ فكيف أقوم الدهر في بعض حقهِ وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ المعنى الآخر: أن العبد قد يعتريه في أثناء عبادته تقصير من غفلة، أو سهو، أو نسيان، أو ما أشبه ذلك، فيستغفر منه.
المعنى الثالث: أن العبد إذا تعبد لله عز وجل، بعباده، أو طلب علم، أو تعليم، أو أمرٍ بالمعروف، أو نهيٍ عن المنكر أو غير ذلك، فإن الشيطان حينئذٍ يأتيه، ويقول له: أنت الذي فعلت وفعلت، وأنت الذي أتيت بما لم تستطعه الأوائل، جاهدت في سبيل الله، وعملت، وتعلمت، وبذلت، وأعطيت، الحقيقة: أنك إنسان مجهول القدر، مجهول القيمة، ولا يزال يفتله في الذروة والسنام، حتى يصيبه بالعجب والعياذ بالله الذي قد يحبط عمله، ولذلك يستغفر العبد ربه عقب العمل في آخره، لما قد يكون ورد على قلبه من مثل هذه الخواطر السيئة الرديئة، وبذلك ندرك أن كل إنسان محتاج إلى التوبة، فالعابد محتاج، والعالم محتاج، وطالب العلم محتاج، وكذلك العاصي، والمقصر محتاج، فضلاً عن غيرهم من الكفار والمشركين والمنافقين، فهم أحوج الناس إلى التوبة، والتوبة أوجب ما تكون عليه.(93/9)
حال المؤمن والمنافق من الذنوب
ثم إن هناك أمراً آخر وهو: إن الإنسان كلما قوي إيمانه، كان أخوف على نفسه، ولذلك تجد أن الذي يتبجح، ويقول: أي حاجة لي إلى التوبة!! هو غالباً إنسان يوصف بالغفلة والتقصير، ويظهر عليه أثر المعاصي، والإنسان المطيع المصلي، إذا ذكر بالتوبة أقبل عليها واستغفر ربه، ولذلك يقول ابن أبي مليكة كما في صحيح البخاري [[أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه]] وفي صحيح البخاري -أيضاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه كان يقول: [[إن المنافق يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه فقال بيده هكذا فطار، أما المؤمن فيرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يقع عليه]] وذنوب المؤمن -بالقياس إلى ذنوب المنافق- هي كقطرة في بحر، لكن لأن قلب المؤمن قلب فيه نور، وفيه إشراق، وفيه حياة، فإنه يحس بأثر المعصية وخطرها، فيحاسب نفسه عليها، ولذلك قال الله عز وجل: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2] .
فنفس المؤمن لا تزال تلومه على تقصيره، وعلى ذنوبه: ما أردت بهذه الكلمة، ما أردت بهذه الفعلة، ما أردت بهذه الأكلة، فيظل يوبخ نفسه!! أما المنافق: فإنه يمضي قُدماً لا يلوي على شيء!! ويرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه فقال بيده هكذا فطار، وانتهت القضية، ولذلك يقول الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] .
كثيرٌ من المسلمين اليوم وهم يواقعون العظائم، والجرائم، والكبائر، وقد يكون أحدهم مرابياً، معلناً الحرب على الله ورسوله، أو شارباً للخمر، أو عاقاً لوالديه، أو مستهزئاً بالمؤمنين، ساخراً منهم، فإذا ذُكِّر بالله عز وجل، فإما أن يقول: هذا الكلام الذي أفعله صحيح، كما نجد اليوم من بيننا من يقول: الفوائد الربوبية لا شيء فيها، وقد سمعنا هذا من محاضرين وقرأناه في نشراتهم، مع أنه قولٌ حادث، مخالف لما عليه إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أولها عن آخرها، ويتلمس لنفسه العذر في عيب المؤمنين، فيقول: هؤلاء متطرفون، هؤلاء متشددون، هؤلاء مغالون، هؤلاء فيهم وفيهم، أو يعترف على نفسه بالخطأ، ولكنه يقول: الله غفور رحيم.
وهكذا يكون العِوج، فإن الله عز وجل يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] إن ربك شديد العقاب، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] فلابد أن تأخذ هاتين الصفتين معاً، فلا يؤمن الإنسان ببعض الكتاب، ويكفر ببعض.(93/10)
قصص في التوبة
أيها الإخوة والتائبون الذين استجابوا لله والرسول كثير، وموكب التائبين قديم، يبدأ بآدم عليه السلام، أَبِيْنا الذي زين له إبليس المعصية، وأقسم له أنه لهما لمن الناصحين، فوقعا في الشَّرَك، ثم تاب الله تعالى عليهما، ومن حينئذٍ شرع الله التوبة لعباده إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وضمن هذا الموكب الجليل، أعدادٌ كبيرة من الناس ممن تاب الله عليهم، وفضلاً عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.(93/11)
تائبون من العصر الحاضر
أيها الإخوة وفي عصرنا الحاضر، نسمع كثيراً من القصص، والأخبار، والعجائب، لقومٍ وقعوا في المعاصي، وأسرفوا على أنفسهم، فتاب الله تعالى عليهم، فهذا إنسانٌ استجره قرناء السوء حتى أوقعوه في المخدرات، وصار يلهث خلفها، حتى ضاع وقته، وماله، وشبابه، وصحته، وصار في حالةٍ يُرثى لها، وقد تفرق عنه أحبابه وأصحابه، وتركه أهله وجفوه، ويئس منه أولاده، وزوجه، وما هي إلا لحظة حتى يستيقظ هذا الإنسان، فيلقي الله عز وجل في قلبه التوبة، فيقلع عما كان عليه، ويقبل على الله عز وجل، عبداً مؤمناً، تائباً، منيباً، إلى الله تعالى، ويُصبح بحكم خبرته السابقة حرباً، على المخدرات وأهلها، حريصاً على إنقاذ من يمكن إنقاذه من أصحابه الذين كان يعرفهم في تلك الحالة، ويكون له دور كبير.
وذلك شابٌ آخر، لم يترك شاذةً ولا فاذة من المعاصي إلا وقع فيها!! ولم يترك بلداً من بلاد الرذيلة والإباحية، إلا سافر إليها!! ولم يترك معصيةً قرأ عنها أو سمع بها، أو تخيلها، إلا سعى إليها!! حتى أصبح مضرب المثل، في الجراءة على الله تعالى، وعلى حدوده، وحين يأذن الله تبارك وتعالى له بالتوبة، ويفتح له بابها، ويرحمه برحمته، يكتب له أن يلتقي بداعية، أو طالب علم، أو يسمع كلمة خير، فتُلقى في قلبه، فيصبح في لحظات، كأنه خلق آخر، غير ما كان يعلمه الناس، وبقدر ما كان في الماضي جريئاً على المعاصي، أصبح الآن مسارعاً إلى الطاعات، وهو يقول: لا أندم على شيء إلا على لحظات ضيعتها في معصية الله عز وجل، ويتمنى أن يمد الله في عمره، حتى يعبد الله عز وجل، ويحسن بقدر ما أساء، وظلم، وتعدى، في ماضيات الأيام.(93/12)
توبة القعنبي
ومن قصص التائبين العجيبة، ما رواه أبو طاهر السلفي، من قصة عبد الله بن مسلمة القعنبي، تلميذ الإمام مالك، فإن عبد الله هذا كان بالبصرة، وكان رجلاً كثير المجون يكثر من الشرب، وله قومٌ من الأحداث المردان، يجلس معهم، وفي ذات يوم كان خارجاً، واقفاً عند بابه، ومعه سكين مثلما نلاحظ اليوم في كثير من الشباب في فترة المراهقة، حين يكون فيهم طيش واندفاع وغير ذلك فكان واقفاً في السوق، فمر به شعبة بن الحجاج، رحمه الله، أحد أئمة الحديث، فاستوقفه، وقال للناس لمن حوله: من هذا؟ قالوا هذا شعبة، قال: وما شعبة؟ قالوا: محدث من علماء الحديث، فأمسك به، وقال: حدثني، قال له شعبة: وقد رأى من شكله وملابسه، وهيأته أنه ليس من أهل هذا الشأن قال: لست بأهل بأن أحدثك بالحديث، لست من أهل الحديث، فقال: حدثني وإلا جرحتك بهذه السكين التي في يدي، فقال له شعبة: حدثني منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} وهكذا يكون العالم مؤتىً يستطيع أن يقول الكلمة المناسبة في الوقت المناسب، لأن هذا الحديث مناسب لحال هذا الغلام، في تلك الحال، فتركه القعنبي، ودخل إلى بيته، وقد وقع في قلبه الحياء من الله عز وجل.
كلمة وقعت في القلب!! وقال لأمه: إذا جاءك أصحابي، فأدخليهم البيت وأطعميهم، وأخبريهم، بما أحدث الله لي من التوبة، وإراقة الخمور، وكسر أوانيها، حتى لا يعودوا مرةً أخرى، ثم خرج إلى المدينة، وأخذ العلم عن الإمام مالك، ولما عاد إلى البصرة، كان شعبة رضي الله عنه قد مات، فلم يرو عنه إلا ذلك الحديث: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} .(93/13)
توبة أبي محجن
أيها الإخوة ومن قصص التائبين، قصة أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، وكان أبو محجن صحابياً، ولكنه كان مُولعاً بشرب الخمر، لا يسلو ولا يصبر عنها، حتى رُوي عنه أنه كان يقول: إذا مِتُ فادفني إلى جنبي كرمةٍ تُرَوِّي عظامي بَعد موتي عُروقُها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما متُّ ألا أذوقها والله أعلم إن صح هذا عنه، أو لم يصح، لكنه كان يشرب الخمر، فيجلد، فيشربها فيجلد، وأخيراً حبسه سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه وأرضاه، فلما كانت معركة القادسية، بين المسلمين والفُرس، نظر أبو محجن الثقفي رضي الله عنه إلى المسلمين، فكأنه رأى فيهم ضعفاً، وانكشافاً، فثارت حميته الدينية، وثارت غيرته الإسلامية، وهكذا كان عُصاة ذلك الزمان، الذين قد يقعون في بعض المعاصي، تجد أن الواحد منهم ولاؤه للإسلام، وحبه للإسلام، وعاطفته مع الإسلام والمسلمين وإن وقع في بعض المعاصي، لكن المُصيبة كل المصيبة في كثيرٍ من العصاة في الأزمنة المتأخرة، تسللت المعاصي إلى أعماق قلوبهم، فأصبح الإنسان ولاؤه لغير الله، وبراؤه لغير الله، وحبه، وعطاؤه، ومنعه، لغير الله عز وجل، فقد يعادي المؤمنين، ويوالي غيرهم، ويُحب الضلال والفساق، ومن كانوا أشباهه ونظراءه، وقد يأنس بالكافرين، والمجرمين، والضالين، ويستوحش من المؤمنين، والمطيعين، وهذه هي المصيبة التي لا جبر لها إلا التوبة، فالتوبة تجب ما قبلها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أبو محجن الثقفي انكشاف المسلمين، تحسر، وبكى، وأقبل، وأدبر، وهو يرسف في قيوده، وصار يتمثل بأبياتٍ من الشعر، يقول: كفى حَزناً أن تُطْرد الخيل بالقنا وأُترك مشدوداً عليَّ وثاقيا إذا قُمت عناني الحديدُ وغلِّقت مصاريعُ دوني قد تَصُم المناديا وقد كُنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ فقد تركوني واحداً لا أخا ليا ولله عهدُ، لا أخيس بعهدهٍ إذا فُرِّجت ألا أزور الحوانيا يعني ألَِا يزور حانات الخمر التي كان يتردد إليها، ثم قال لـ سلمى زوجة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه: [[إنني أُريدُ مِنك أمراً وأعاهدك أن أصدق فيه: فكي قيودي، وأعطيني هذه البلقاء -وهي فرس سعد رضي الله عنه- أُقاتل بِها، فإن قتلت فبها، وإن لم أُقتل، فإنني أحلف لك بالله، أن أعود حتى تضعي القيد في رجلي]] فلما رأت صِدقه، فعلت وفكت قيده، وأعطته البلقاء فركِبها، وصار يجول بالمشركين، فيبدأ بالميمنة، لا يبينُ له أحدٌ إلا قتله، حتى لعب فيهم لعباً، ثم جاء من خلف المسلمين إلى ميسرة الأعداء، ففعل بهم مثل ذلك، ثم جاء واقتحم صفوفهم في الوسط، وفعل فيهم الأفاعيل، والمسلمون ينظرون إليه ويتعجبون!! حتى إن سعداً، وهو قائد المعركة، يقول: [[والله لولا أن البلقاء مربوطة، لقلت هذه البلقاء، ولولا أن أبا محجن مأسور لقلت هذا أبو محجن، ما رأيتُ خيلاً أشبه بالبلقاء أشبه من هذه، ولا فارساً أشبه بـ أبي محجن من هذا]] .
فلما انتهت المعركة جاء أبو محجن، وعادَ إلى البيت، فوضعت سلمى زوجة سعد القيد فيه، فلما جاء سعدٌ قصَّ خبر ما رأى لزوجته، فقالت له: [[هو والله أبو محجن]] فجاء سعد رضي الله عنه، وفَك عنه القيد بيده، وقال له: [[له لا جَرم، والله لا حبسناك أبداً]] فقال: أبو محجن: [[وأنا واللهِ لا شربتُ الخمر أبداً]] والقصة رواها عبد الرزاق وغيره من المصنِفين، وفيها من العِبر ما هو ظاهر، ومن أبرزها: صدق أبي محجن وإيمانه على رغم وقوعه في هذه المعصية، ومنها أن الإنسان يكون له حالات، إذا وجد من يستحث الإيمان في قلبه، ويحركه فإنه يقلع عن المعصية، فهذا أبو محجن الذي لم يفد فيه الضرب، والجلد، والحبس، والقيد، أفادت فيه كلمة صادقة من سعد، فيها تقديرٌ لبلائه وجهاده، حين قال له: [[لا جرم، والله لا حبسناك أبداً فقال: لا جرم وأنا لا شربت الخمرَ أبداً]] .(93/14)
تائبون من بني إسرائيل
هناك نماذج أخرى للتائبين، لا تقل عجباً عن ذلك، وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم، عن توبة رجال من بني إسرائيل منها: ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً! -رجلٌ جبار، شديد البطش، لا يُمر على أحدٍ فيخالفه في مسألة، إلا أعلاه بالسيف، ثم غادره وهو جثة هامدة، غير آبه بذلك، وقد تمرن على هذا الأمر واعتاده، ولكن ضميره استيقظ ذات يوم- فطفق يسأل الناس هل لي من توبة، فقيل إن هنا راهباً، فاذهب فاسأله، فذهب إلى هذا الراهب، فدخل عليه، وقال: هل لي من توبة؟ وقد قتلتُ تسعة وتسعين نفساً؟ فقال له: وأنى لك التوبة، وأمره أن يخرج من صومعته، فعلاه بالسيف وأكمل به المائة الذين قتلهم، وخرج من هذه الصومعة، يبحث عن أعلم أهل الأرض، فدُل على عالم، فقال له: إني قتلت مائة نفسٍ، فهل لي من توبة؟ قال له هذا العالم: ومن يحول بينك وبينها -سبحان الله! باب الله عز وجل مفتوح- لكل إنسان في كل وقت يريد أن يتوب إليه، إذا كان صادقاً في توجهه- ولكن لا تعُدْ إلى أرضك فإنها أرض سوء، واذهب إلى قرية كذا، وكذا فإن بها قوماًُ يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله تعالى معهم -فنبهه هذا العالم إلى مسألة تغيير البيئة كما سوف أشُير إليه بعد قليل- فذهب هذا الرجل إلى هذه القرية، فلما كان في بعض الطريق، أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة تقول: إنه رجل جاء تائباً مقبلاً إلى الله تعالى، وملائكة العذاب يقولون: إنه رجل لم يعمل خيراً قط!! فأرسل الله تعالى إليهم ملكاً في صورة رجلٍ فحكموه بينهم فقال: قيسوا ما بين القريتين، فأوحى الله عز وجل، إلى هذه القرية أن تباعدي، وإلى هذه القرية أن تقاربي، -وفي رواية أخرى- أن هذا الرجل جعل ينوء بصدره، "أي جعل يزحف بصدره" وهو في الاحتضار إلى تلك القرية التي هاجر إليها- فوُجد أقرب إلى القرية التي هاجر إليها بشبر -فقط- فقبضت روحه ملائكة الرحمة!!} وهذا يذكرني بالقصة التي رواها الطبري وغيره، عند قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] .
فقد روى أن رجلاً من المسلمين حُبس بمكة، ومنعه أهله من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرض مرضاً شديداً، حتى أشفق عليه أهله ورقُّوا له، فكانوا يقولون: كما يقال للمريض -عادةً- تشتهي شيئاً؟ تريد شيئاً نحضره لك؟ فلا يرد عليهم، لا يريد طعاماً، لا يريد شراباً، لا يريد دواءً، إنما يرد عليهم بإشارة ضعيفة، يشير إليهم بيده هكذا، وهو في مكة، يعني أريد المدينة التي حرمتموني من الهجرة إليها، فرَقُّوا له وخرجوا به من مكة صوب المدينة، فلما خرج من مكة مات رضي الله عنه وأرضاه! وأنزل الله عز وجل قوله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] .
ومن عجيب قصص التائبين -أيضاً- من بني إسرائيل، ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن حبان وغيرهم، في قصة الكِفْل: أن الكفل كان رجلاً من بني إسرائيل، لا يتورع عن معصية، لا تبين له معصية إلا فعلها، كان رجلاً والغاً في الفجور والرذيلة، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك من الفواحش والموبقات، مقيماً عليها، فأعطى امرأة ستين ديناراً على أن تُخلي بينه وبين نفسها، فلما قعد منها، مقعد الرجل من زوجته انتفضت وبكت!! فقال لها: ما يبكيك؟ هل أكرهتك؟ قالت لا، ولكن هذا أمرٌ لم أفعله، قال: فما حملكِ على ذلك؟ ما حملك أن ترضي مني بهذا؟ قالت: الحاجة، فقام منها وتركها، وقال: الستون ديناراً لك، وقال: والله لا عصيتُ الله تعالى أبداً، فأصبح ميتاً، وغفر الله تبارك وتعالى له!! وهذا من عجيب شأن التائبين أن الله عز وجل يوفق بعض عباده للتوبة، قبل أن تُقبض أرواحهم، وبعد دنو آجالهم، فكم من إنسانٍ نعلمه، وكم من إنسان لا نعلمه، يكون إقلاعه عن المعصية قبيل موته بقليل، مع أن موته قد يكون فجأةً، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في المتفق عليه: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} .(93/15)
تائبون من الصحابة
نجد كثيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن كان لهم قصص عجيبة في التوبة، ولعل من أشهرها توبة أبي خيثمة، وأبي لبابة، وسعد بن مالك رضي الله عنهم وأرضاهم.
فتوبة ماعز، الذي جاء، -كما في الصحيح- إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يا رسول الله زنيت فطهرني، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعلك غمزت، لعلك قبلت، لعلك كذا، لعلك كذا، يفتح له أبواب العذر، قال: لا يا رسول الله قال: أبك جنون قال: لا.
وسأل عنه، فوجد رجلاً عاقلاً، واستنكهوه فلم يوجد فيه رائحة الخمر، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم، وأخبر بصدق توبته عليه الصلاة والسلام} .
وأعجب منه الغامدية الجهنية، التي جاءت إليه عليه الصلاة والسلام تذكره ذنبها، قالت: {يا رسول الله، لقد زنيت فطهرني، فكأنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم سيردها، فقالت: لعلك تريد أن تردني، كما رددت ماعزاً، فو الله إني لحبلى من الزنا} .
هذه هي التوبة، التوبة: ندم يحرق القلب، وخز في الضمير، عذاب يقلق الإنسان، فلا يستقر ولا يهدأ، حتى يكفر عن ذنبه، فتأتي هذه المرأة -وهي امرأة فيها طبيعة المرأة من الضعف الذي جبلت عليه- ومع ذلك تأتي، وهي تعلم، ما هي العقوبة المقررة على مثلها من الزناة المحصنين، أنه الرجم بالحجارة حتى الموت، ومع ذلك تقول: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنا، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: {أما لا فاذهبي حتى تلدي} عندها فرصة تسعة أشهر، أو ثمانية أشهر، فربما لم تعد، لكنها عندما ولدت أتت بالصبي، {يا رسول الله هأنا قد ولدت، قال لها: اذهبي حتى تفطميه} كما في بعض الروايات، فتذهب وأمامها ربما سنتان، فكان بإمكانها أن لا تعود، والعجيب أيها الإخوة، أن سنتين وتسعة أشهر كافيه في لهدوء هذا العذاب الموجود في قلب الإنسان، فالمعتاد أن الإنسان إذا وقع في المعصية يندم في ساعتها، لكن مرور الأيام والليالي يخفف من حدة العذاب الموجودة في قلبه، لكن هذه المرأة بعد سنتين وتسعة أشهر تأتي بالصبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كسرة خبز، وكأنها تريد أن تقدم الدليل المادي للرسول صلى الله عليه وسلم، أن هذا الصبي قد فطم فعلاً، وأصبح يأكل الخبز: {يا رسول الله هذا قد فطمته} فيرجمها المسلمون، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم بصدق توبتها -هي الأخرى- كما شهد بصدق توبة ماعز رضي الله عنهم أجمعين.(93/16)
شروط التوبة
دائماً ما تجد التائبين من أرق الناس قلوباً، وأقربهم دمعاً، وأكثرهم خشوعاً، وأسرعهم إلى الخير، ولذلك فإن مجالسة التائبين فيها ترقيق للقلوب، وإحياءٌ لما كاد أن يموت منها، وباب التوبة مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها.(93/17)
التخلص من حقوق العباد
أيها الإخوة وهناك شرط سادس لمن كان ذنبه تقصيراً في حقوق بعض العباد أو ظلماً لهم، بأخذ مال، أو غيبة، أو نميمة، أو ظلم بأي وجه من الوجوه، فإنه لابد أن يخرج من هذه الْمَظْلَمة، فإن كان مالاً رده، وإن كان غيبةً استحله، إلا أن يرى في ذِكْرِ ذلك له ضرراً، فحينئذٍ عليه أن يُكثر من الاستغفار له، وذكره بما في فيه من الحسنات والفضائل، في المجالس التي اغتابه فيها.(93/18)
قبل الغرغرة
هناك علامة خاصة بالنسبة لكل إنسان، وهي: (الغرغرة) فإن العبد إذا غرغرت روحه وبلغت الحلقوم، فحينئذٍ لا تُقبل توبته، ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:17-18] .
وفي الحديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} فحينئذٍ إذا غرغرت الروح، وعاين الإنسان الملائكة، لا تنفعه التوبة (الذين يعملون السوء بجهالة) .
كل من وقع في المعصية، فهو جاهل لحق الله تعالى وقدره، وكل من تاب قبل أن تُغرغر فقد تاب من قريب، ثم يتوبون من قريب، وإن كان في الآية دلالة على أن الإنسان ينبغي أن لا يتهالك في المعصية، ولا يتوغل فيها، ولا يؤخر التوبة، فربما يريد أن يتوب فتقبض روحه على غير توبة.(93/19)
أن تكون في زمن القبول
ومن شروط التوبة: أن تكون في زمن القبول، وزمن القبول يعني أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها، فحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها، كما قال الله عز وجل في محكم تنزيله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] .
ولذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} والحديث في صحيح مسلم، وفي الحديث السابق -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمسُ من مغربها} فهذه العلامة لا ينفع بعدها إيمان، وهي علامة عامة بالنسبة للناس كلهم.(93/20)
الإقلاع عن الذنب
من شروط التوبة الإقلاع عن الذنب، والاستغفار بنية صادقة، فإن الإنسان قد يستغفر الله، من قوله أستغفر الله، وهذا يقع مثل: أن يقول إنسانٌ أستغفر الله على سبيل السخرية، فيقول: معاقر الخمر -مثلاً- أستغفر الله، ثم يأخذ كأساً من الخمر، ويحتسيه، أو يقول آكل الربا: أستغفر الله، اكتب يا فلان، ثم يكتب عقداً ربوياً، أو ما أشبه ذلك، فهذا حاله حال المستهزئ، فحين يأذن الله له بتوبة نصوح، فإنه يستغفر الله من هذا الذنب، ويستغفر الله من استغفارٍ كان فيه ساخراً، مستهزئاً، غير جاد، ولا صادق، فلابد من الإقلاع عن الذنب الذي يقع فيه الإنسان، ولابد من عقد العزم الصادق على ألا يعود، إلى الذنب مرةً أخرى.(93/21)
الندم
ولابد من الندم على ما مضى، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {الندم توبة} فإن أصل التوبة الندم، أصل التوبة أن إنساناً وقع في معصية فندم، فصار يبحث عن مخرج، ولاشك أن النادم ندماً حقيقياً سيترك المعصية، ويبحث عن مخرج، ويتوب إلى الله تبارك وتعالى، فلابد من الندم على ما مضى.(93/22)
العزم على عدم العود إلى المعصية
ومن شروط التوبة (الإخلاص) ولذلك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] .
ولا تستغربون أننا نعلم من بعض الناس أنه قد يتوب إلى الله توبة مؤقته، وتلاحظون -مثلاً- أن بعض الناس أو بعض الشباب، إذا جاءته أزمة معينة، كأزمة الاختبار -مثلاً- بدأ يتردد على المسجد، فإذا انتهت هذه المناسبة، عاد إلى ما كان عليه من قبل، وشابُُ آخر إذا هم بالزواج، وأصبح يحس بأن من المهم أن يأخذ الناس صورة مشرفة عن شخصيته، بدأ يتردد على المسجد، فإذا حصل له ما يريد تنكر.
صلى وصام لأمرٍ كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما وهذا موجود، وملحوظ، ومن كان هذا شأنه، ففيه شبه من بعض الوجوه من الذين كانوا إذا {رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] فالله عز وجل معبود في حال الرخاء والشدة، والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول في حديث ابن عباس عند الترمذي وأحمد وغيرهما: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} .(93/23)
تكرر التوبة والمعصية
وبمناسبة ذكر شروط التوبة، أشير إلى مسألة تخفى على كثير من الناس، وهي أن بعض الناس يتوبون إلى الله عز وجل، ثم يقعون في المعصية مرة أخرى، ثم يتوبون، ثم يقعون في معصية، وهذا غالباً ما يقع لأصحاب الشهوات، تجد شاباً -مثلاً- ينظر نظرة حرام، ينظر إلى امرأة، ينظر في المجلات، ينظر في الأفلام، ينظر إلى النساء، ينظر إلى مردان نظرة شهوة، أو تجده يقع في العادة السرية -مثلاً- أو قد يقع في الزنا، إلى غير ذلك من الشهوات، التي يغلب أن الواقع فيها إذا انتهى منها يُحس بالندم، فيقلع ويتوب، ولكن مع مضي الأيام يضعف وازع التوبة، ويقوى وازع المعصية؛ لضعف الإيمان في قلبه، فيقع مرةً أخرى، فإذا انتهى من المعصية، وذهبت اللذة، تذكر الإثم وشعر بالندم، حتى يقول له الشيطان: يا هذا أنت تتلاعب، ولا داعي أن تتوب؛ لأنك تعلم أنك ستقع في المعصية مرة أخرى، فييئسه من التوبة، وبعضهم قد يستدل بكلمة مشتهرة على الألسنة وهي: "ذنبٌ بعد توبة أشد من سبعين ذنباً قبلها"، وهذا كلام لا أصل له، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر في الحديث الصحيح، في مسلم: {قصة الرجل من بني إسرائيل، الذي أذنب ذنباً، وقال: يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فغفر الله له، ثم أذنب أخرى، فقال: ربِّ إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فغفر الله له، ثم أذنب مرةً ثالثة، فقال: ربِّ إني أذنبتُ فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت، فقد غفرت لك} نحن لا نستطيع أن نقول: إن فلاناً من الناس، قال الله عز وجل له: افعل ما شئت، فقد غفرت لك، ولذلك لا يكون في مثل هذا مدعاة للإنسان: أن يُقدم على المعصية، لأن كل مؤمن في قلبه وازع يبعد عن المعصية، مهما كان الأمر، ولذلك الصحابة الذين قال الله عز وجل لهم: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] كأصحاب بدر، كانوا من أكثر الناس كراهية للمعاصي والآثام، وإحجاماً عنها، وإقبالاً على الطاعات، وخوفاً من رب الأرض والسماوات، مع أن الله عز وجل اطلع عليهم، وقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] فلا يغتر إنسان بمثل هذا، بل ينبغي أن يخاف من ذنوبه.
المهم أن الحديث يدل على أن تكرار وقوع الإنسان في الذنب، لا يدعوه إلى أن يترك التوبة، خوفاً من أنه ينقضها، وإذا تاب بصدق، تاب الله عليه، فإذا وقع في المعصية مرة أخرى، لا تنتقض توبته السابقة، بل توبته بحالها، ولا يكتب عليه إلا الذنب الذي فعله بعد التوبة، وهكذا، ولعل الإنسان أن يكتب له توبة نصوح، ولعله أن يموت على توبة.(93/24)
العوامل التي تساعد على صدق التوبة
أيها الإخوة أخيراً أذكر بعض العوامل التي تُساعد على التوبة وعلى صدق التوبة.(93/25)
تغيير البيئة
الأمر الثالث: ينبغي للإنسان أن يُغير البيئة التي تدعوه إلى فعل المعصية، فالمعصية لها أسباب، والطاعة لها أسباب، فمن جالس المصلين صلى، ومن جالس المولين ولى، ومن جالس قوماً كان منهم، وحُشِرَ معهم، ولذلك الإنسان غالباً ما يكون وقوعه في المعصية بسبب القرناء، والمجتمع والبيئة، فعليه أن يغير بيئته، يغير أصدقاءه ولذلك، قال ذلك العالم الإسرائيلي للرجل الذي تاب: لا تعد إلى قريتك فإنها أرض سوء، وهو يعلم أنه إذا رجع إلى القرية، ربما وقع في المعصية رقم مائة وواحد، ولكن اذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن بها قوماً يعبدون الله تعالى، فاعبد الله تبارك وتعالى معهم، فلابد من البحث عن القرناء الصالحين.(93/26)
عدم القنوط واليأس
الأمر الرابع: هو عدم القنوط واليأس، فإن هذا من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان، والإنسان الواقع في المعصية غالباً يداخله شيء من اليأس، مع شيء من الاحتقار للنفس، واحتقار النفس شعور طيب، لكن اليأس لا يجوز {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
وفي مثل هذه الحال، يُذكَّر العاصي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة، الذي رواه مسلم: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث السابق {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} وكيف يقنط الإنسان من رَوْح الله ورحمته؟! والله عز وجل يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:70-71] .
على العاصي أن يتذكر أنه بتوبته أبدل الله سيئاته حسنات، والمعنى والله أعلم: أن الله تعالى كتب له في كل ذنبٍ كان يفعله توبةً من هذا الذنب، والتوبة حسنة، يثاب عليها، فيكون له يوم القيامة بكل ذنبٍ فعله توبةُُ يؤجر عليها، ولذلك، جاء في حديث مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة.
ثم ذكر عليه الصلاة والسلام، أنه يؤتى برجل، فيقول الله عز وجل: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ونحُّوه أو ارفعوا عنه كبارها فيقال له: أتذكر يوم كذا ذنب كذا وكذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وكذا؟ وهو يقول: نعم، نعم.
لا يستطيع أن يُنكر شيئاً من ذلك، فيقول الله عز وجل له: فإنني قد غفرتها لك، وأبدلتها حسنات -أو كما قال عز وجل، وهذا الإنسان يتذكر أن له ذنوباً عظيمة، فعندما كانت الذنوب عليه وهو ساكت، لكن لما رأى أن ذنوبه قد أبدلت حسنات- قال: يا ربِ عملت ذنوباً، لا أراها هاهُنا، أين المعاصي الكبار؟! التي عملتها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه} .
هذا مما يدل على طبيعة الإنسان، الذي يفرح بالغُنْمِ، ويطالب به، ويسكت عن الغرم، فيوم كانت الذنوب عليه وهو ساكت، لكن لما صارت له، صار يطالب بها، وله بكل سيئة حسنة، كما رجح ابن القيم في طريق الهجرتين، وكما نقل عن الزجاج وغيره، أن المعنى: له بكل سيئةٍ حسنةٌ لتوبته من هذه السيئة، وإلا فالسيئة بذاتها، لا تكونُ حسنة.(93/27)
إظهار منابع الخير
وأخيراً: فإن من العوامل المساعدة على التوبة، أن يعمل الإنسان على تفكيك منابع الخير في نفسه، قد يكون الإنسان فيه ضعف من ناحية، ولكن فيه قوة من ناحية أخرى، وكل إنسان منا هو ذلك الرجل، ولضيق الوقت اكتفي بضرب مثال: قد يكون الإنسان باراً بوالديه، محسناً لأقاربه، حريصاً على صلاة الجماعة، حريصاً على الصدقة، مبسوط اليد بالإنفاق، كثير الاستغفار، سريع الدمعة، رقيق القلب، ولكن عنده عيب: وهو أنه عنده اندفاع في شهوته، فربما يقع في المعاصي، فيما يتعلق بالشهوات، وباب التوبة مفتوح من هذه المعاصي، لكن من الوسائل التي أشير إليها الآن، التي تساعد الإنسان على التوبة، أن يحرص على مضاعفة الأعمال الصالحة الموجودة في نفسه، وتكثيرها حتى تغلب على حياته وقلبه، والله عز وجل يقول: {َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] .
خاتمة: إخوتي الكرام أسأل الله عز وجل، في هذا المجمع الطيب المبارك، بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وهو الجواد، الكريم، المنان، الحنان، المتفضل، أن يمن عليَّ، وعليكم جميعاً، بتوبةٍ نصوح، وأن يكتبنا في هذه الساعة من التائبين المنيبين إليه، المقبولين لديه، وأن يقينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيءٍ قدير، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك، ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(93/28)
قوة العزيمة
فمن ذلك قوة العزيمة، فإن خور العزيمة وضعفها، من أسباب الوقوع في المعاصي والآثام، ومن أسباب كون الإنسان يتردد يتوب اليوم، ويعصي غداً، ويتوب غداً ويعصي بعد غد، ولذلك تلاحظون أن بعض الناس، الذين يكون عندهم إيمان، وعندهم معاصٍ، تجد أحدهم يقول: لله علىَّ نذرٌ أن لا أقع في هذه المعصية، لله علي نذرٌ إن وقعت في هذه المعصية أن أصوم ستة أشهر، أعاهد الله ألا أقع في هذه المعصية، والله لا أعود، إلى غير ذلك من الأشياء التي ينبغي أن يحذر الإنسان منها، لأنه لا يلجأ إليها إلا ضعيف العزيمة، الذي يشعر بأن في عزيمته خوراً وضعفاً، فيلجأ إلى تقويته بالنذر والعهد واليمين وما أشبه ذلك، والله عز وجل يقول: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] ويقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:75-77] .
وقد يجر الإنسان لنفسه بسبب العهد، والنذر، واليمين، حرجاً عظيماً لا يستطيعه، فعلى الإنسان أن يتجنب مثل هذه الطريقة، بل يحرص على تقوية عزيمته، بالوسائل الأخرى، ولكن قوة العزيمة من أعظم الوسائل المعينة على التوبة.(93/29)
كثرة الدعاء
ومن الوسائل: كثرة الدعاء، فإن الله عز وجل قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ينبغي أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا دعا الله بضرورة، فإن الله لا يرده، وقد يجيب الله دعاء الكافر؛ لأنه دعا بضرورةٍ تامة، أنه ليس له إلا الله عز وجل، وهذا أمرٌ مشهود في الواقع وفي التاريخ، وله نماذج كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها، فكيف بالمؤمن إذا دعا الله مضطراً؟ فكيف إذا كان دعاؤه يتعلق بالتخلص من معصية؟ والاستقامة على أمر الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والدعاء من الجهاد، ويقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] والدعاء من الهداية، إلى غير ذلك، فينبغي للعبد أن يُكثر من دعاء الله عز وجل.(93/30)
الأسئلة(93/31)
طريقة التوبة
السؤال
ابتلي بعادة سيئة، ويريد أن يتوب، فماذا عليه أن يفعل؟
الجواب
سبق أن بينت خلال هذه المحاضرة، من أولها إلى آخرها، ماذا عليه أن يفعل، والتوبة في الإسلام ليس فيها طقوس، كل ما في الأمر، أن تقبل على الله عز وجل، بقلبٍ صادقٍ نادم، وتقول: ربي إني أذنبت فاغفر لي، وتترك هذه المعصية، ولا تعود إليها، وتعمل على إزالة الأسباب التي توقعك في هذه المعصية، فإذا كانت معصية شهوة، اترك النظر الحرام، سماع الغناء، مشاهدة المسلسلات، والأفلام، النظر إلى المردان، النظر إلى النساء، صحبة الأشرار، وأقبل على الطاعات، حتى يمتلئ قلبك من حب الله ورسوله.(93/32)
كتب تناسب طلب العلم
4000115
السؤال
نحن نساء نريد أن نطلب العلم، فحبذا لو ترشدنا إلى بعض كتب العقيدة، والحديث والفقه والسيرة التي تناسبنا، كنساء في طلب العلم؟
الجواب
الكتب كثيرة فمن كتب العقيدة، كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وكتب الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، وكتاب معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وكتب الأشقر في العقيدة، فهذه كتب كلها طيبة، وينبغي أن يحرص المسلم والمسلمة على قراءتها، أما الفقه، فمن الكتب المفيدة: كتاب الروضة الندية، لـ صديق حسن خان، والدراري المضيئة للشوكاني، وكتاب فقه السنة لـ سيد سابق، وكتب وأشرطة الفقه لعلمائنا المعاصرين كالشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين وغيرهم، وأما الحديث فمن الكتب الجامعة في الحديث النبوي: كتاب رياض الصالحين، في المواعظ والآداب والرقائق، والأحكام العامة، وهو من أكثر الكتب فائدة وأكثرها قبولاً، ولا يستغني عنه بيت، ومن الكتب الموسعة في ذلك: جامع الأصول الذي جمع فيه مصنفه الكتب الستة، يعني الصحيحين وأبى داود والترمذي والنسائي، والموطأ للإمام مالك، وكذلك مجمع الزوائد للهيثمي الذي جمع فيه زوائد الطبراني في الكبير والصغير والأوسط والبزار، وأبي يعلى والإمام أحمد، وهذه الكتب جامعة وشاملة ومن أراد الاختصار، فيعليه كما أسلفت برياض الصالحين، وهناك كتب في الأحكام، جمعت أحاديث الأحكام، كعمدة الأحكام للمقدسي، والمنتقى للمجد ابن تيمية، وبلوغ المرام لـ ابن حجر، وغيرها من الكتب، أما في السيرة فإن عمدة أهل السير، سيرة ابن هشام، ولذلك كان محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في السيرة لسعة علمه بها، وقد تُلُقِّيت عنه بالقبول، وقد اختصرت سيرة ابن هشام، في مختصرات عديدة، أحدها لـ عبد السلام هارون، بعنوان تهذيب سيرة ابن هشام، وهو تهذيبٌ طيب مفيد، وهناك مختصرات أخرى يمكن الاستفادة منها، وهناك الفصول في اختصار سيرة الرسول للحافظ ابن كثير.(93/33)
نصيحة للمرأة
السؤال
نرجو منكم تقديم نصيحة للمرأة التي إن حُدِّثَتْ عن التوبة وضرورتها خشعت، وتحمست لها، ولكن عندما تأخذها الدنيا وزخرفها يظهر منها بعض التقصير، ثم إذا قرأت كتاباً مفيداً، أو استمعت إلى شريط إسلامي، عادها الحماس نفسه للاستقامة والتوبة، وجزاكم الله عنا خيرا؟
الجواب
هذا يدل على أن هذه المرأة معدن خير، وفيها خير وقابلية، ولذلك ينبغي عليها أن تحرص على أن تلقي بنفسها في وسط مؤمنات، كما ذكرت وكررت، وأكدت، ولا أمل من تكرار ذلك، إن الذي يتوب عليه أن يغير بيئته، كل من تاب إلى الله عز وجل، نقول: غادر بيئتك، فإنها أرض سوء، أو بيئة سوء، إلى بيئةٍ أخرى، ولا أعني بمغادرة البيئة أن يترك البلد إلى بلد آخر، لا.
قد يترك الزملاء والأصدقاء الذين هم سبب في وقوعه في المعصية، وينتقل إلى زملاء يكونون عوناً له على طاعة الله عز وجل، فالمرء من جليسه، كما أن على هذه المرأة أن تكثر من قراءة الكتب وسماع الأشرطة، فالحسنات، تجر الحسنات، والسيئات تجر السيئات، وأنت إذا رأيت عند هذا الإنسان المعصية، فاعلم أن عنده أخوات لها، وإذا رأيت عنده طاعة، فاعلم أن لها أخوات، وكلما أكثر الإنسان من الطاعات، هربت المعاصي، وإذا أكثر من المعاصي، هربت الطاعات، إذا كَثُرَ دخول الملائكة في بيت، تضايق الشياطين وخرجوا، وإذا كثر تردد الشياطين عليه، تضايقت الملائكة وخرجت، فهذه المواد المتقابلة المتضادة، لا تكاد تجتمع في قلب إلا يتغلب أحدها على الآخر فيطرده.
أسأل الله لي ولكم القبول، وصلاح القول والعمل، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، اللهم لا تؤاخذنا بسيئاتنا، اللهم لا تؤاخذنا بخطايانا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تظل بها من تشاء، وتهدي بها من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ وسلم، وزد وبارك، وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(93/34)
صلاة التوبة
السؤال
إذا تاب المسلم، فهل يجوز له أن يصلي صلاة التوبة التي هي ركعتان؟
الجواب
هذا مستحبٌ وهي في السنن، لحديث علي رضي الله عنه، أنه كان يقول: [[كنتُ إذا سمعتُ من النبي صلى الله عليه وسلم، حديثاً نفعني الله به، وإذا حدثني أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً استحلفته، فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبدٍ يذنب ذنباً فيصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أذنبتُ فاغفري لي، إلا غفر الله له} ]] أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فيستحب للتائب أن يصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أذنبتُ فاغفر لي، اللهم أني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.(93/35)
الاستغفار للوالدين
السؤال
ما هي كيفية الاستغفار للوالدين؟
الجواب
الاستغفار للوالدين أن يقول: ربنا اغفر لي ولوالديَّ، وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، وقد يدعو لأحدهما، فيقول: اللهم اغفر لأبي، وإن كان ميتاً، فلا بأس، فيقول: اللهم أغفر لأبي، اللهم ارفع درجته في المهديين، وبارك له في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره، ونور له فيه، إلى غير ذلك من الأدعية.(93/36)
أهمية الصلاة
السؤال
في هذه المحاضرة، شباب هداهم الله لا يصلون، أرجو منكم كلمة صغيرة عن الصلاة، لعل الله أن يهديهم أن يتوبوا؟
الجواب
مسألة الصلاة شأنها عظيم، والله عز وجل وصف المشركين بأنهم: هم الذين لا يصلون، فقالوا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] وفي الحديث عند مسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وقال: الشرك والكفر، فعرفه بأل، ولذلك ذهب كثير من أهل العلم، إلى أن كفر تارك الصلاة، حتى من غير جحود، ولا إنكار لوجوبها كفر أكبر ناقلٌ عن الملة، وفي السنن يقول صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وعند الترمذي، من قول عبد الله بن شقيق والحاكم من قول أبي هريرة: [[لم يكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر، غير الصلاة]] فمن كان مسلماً لا بد أن يصلي، وإذا كان يريد ديناً آخر غير الإسلام فهو وما أراد لنفسه.(93/37)
الذنوب في البلد الحرام
السؤال
ورد أن الذنوب في البلد الحرام مضاعفة، ما مدى صحة ذلك؟
الجواب
الصحيح الذي أعلمه أن الذنوب لا تضاعف، لأن الله من كرمه وعدله، أنه إذا عمل عبده ذنباً كتبه عليه سيئةً واحدة، كما في الحديث القدسي: {إذا هَمَّ عبدي بسيئة، فعملها، فاكتبوها عليه سيئةً واحدة} وهو في صحيح مسلم وغيره، وأما في البلد الحرام، فإن المعصية وإن لم تضاعف، إلا أن المعصية قد تكون أعظم من حيث الكيفية لا من حيث الكمية من المعصية في غير الحرم، فإن العاصي في الحرم، إضافة إلى وقوعه في المعصية انتهك حرمة البلد الحرام، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] .(93/38)
توبة بعد معصية
السؤال
إنني شابٌ كانت لي معاصٍ كثيرة، ووفقني الله تعالى إلى التوبة، فتركت المعاصي، والتزمت بالسنة، واستقمت على أوامر الله، واستبدلت أصدقاء السوء بأهل الخير؟
الجواب
الصحيح في العبارة: "استبدلت أهل الخير بأصدقاء السوء" فالباء تدخل على الذاهب لا على الذي جاء، ولذلك قال الله عز وجل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] .
وكذلك قول الأخ إنني فعلت وفعلت، فهنا نكتة يذكرها بعض الإخوان، لما ذكر سؤالاً كهذا، قال: لكنه لم يذكر أنه شهد بدراً! فلا ينبغي للإنسان أن يبالغ في الثناء على نفسه في مثل هذه الأوصاف، فهذا قد يكون نوعاً من تزكية النفس، وإن كان على الإنسان أن يذكر بعض حاله بأسلوبٍ آخر.(93/39)
عدم الندم على المعاصي
السؤال
المشكلة عندي: أنه في بعض المرات تعرض في ذهني الصور والمعاصي في الماضي، ولا أجد في قلبي الحسرة والندامة الحقيقية عليها، وهذا مما يجعلني أشك في قبول التوبة، وأنا أسأل هل هذه من وساوس الشيطان، أم أنها الحقيقة، فأرشدوني إلى الطريق الصحيح؟
الجواب
مما لا شك فيه: أن توبة الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، كما أن أعمالهم الصالحة تتفاوت، بحسب قوة النية ووازعها، والذي يظهر لي أن هذا الإنسان -إن شاء الله- تائب، ولكن توبته تحتاج إلى مزيد تقوية، وصدق، حتى يصبح عنده كرهٌ للمعاصي، ويصبح ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7-8] .
إن كون هذا الأخ يسأل هذا السؤال، يدل على أن عنده -فعلاً- كراهية لهذه المعاصي، وشعوراً بوجود كراهيتها، وحسرة أو شيئاً في قلبه على ما يجده، وهذا بشيرُ خير، لكن عليه أن يضاعفه ويزيد، لأن من عنده ضعيف، ينبغي أن يزاد لا أن ينقص.(93/40)
الستر أم التسليم للقضاء
السؤال
هل مطلوبٌ ممن وقعت منه معصية، وتاب إلى الله توبةً نصيحا، وندم أشد الندم، أن يسلم نفسه للقضاء ليأخذ مجراه، ويقام عليه الحد، أم ماذا؟
الجواب
الذي يظهر لي أن الأولى في حقه، أن يستر نفسه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ماعز، كما سبق، وقد ورد في بعض الأحاديث؛ أنه قال: {من وقع في هذه القاذورات بشيءٍ فليستتر، فإنه من يُبدِ لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله} والحديث السابق: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} فما دام أنه تاب إلى الله عز وجل وأناب، فأرى أن يستر على نفسه.(93/41)
معنى أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم
السؤال
ما معنى قول: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} ، وهل يدري الشيطان ما الذي في نية الإنسان وما في قلبه، مع أنه لا يعلم الغيب؟
الجواب
وهذا السؤال قد يرد وأمثاله كثير، لكنه من الأسئلة، التي لا طائل تحتها، ولا جدوى من ورائها، فإننا جميعاً نحس بوسوسة الشيطان، ونلمسها في واقعنا، وفي قلوبنا، وفي كونه يحاول أن يثنينا عن أعمالنا الصالحة، ولذلك تجد الواحد منا إذا وقف يصلي، فأطال الإمام في الصلاة، فقرأ -مثلاً- في صلاة المغرب -ولا أقول أطال إطالة غير مشروعة، لكن أطال عن غير المعتاد- فقرأ في صلاة المغرب، والسماء والطارق، والشمس وضحاها، خرج كل واحد منا، وهو يقول هذا الإمام هداه الله، يبدو أنه أخطأ وظن أننا في قيام رمضان، استثقلنا واستطلنا خمس دقائق بين يدي الله عز وجل، لكن حين يخرج الواحد منا من باب المسجد، يقف مع صديقه يتحدث معه في أحاديث طويلة وعريضة، وقصص وذكريات، وأمور دنيوية، فربما تمر عليهم ساعة أو ساعتان، فإذا نظر الإنسان إلى الساعة، فقال: -سبحان الله! - منذُ ساعة ونصف ونحن هنا، فقد مضى عليهم الوقت وهم لا يشعرون! فهذا من أعظم الأدلة على شدة وسوسة الشيطان للإنسان، تخلى عنك حين كنت خارج المسجد، لكن عند أن كنت واقفاً في الصف وسوس إليك، كيف يوسوس؟ هل هو ينفث في قلبك، حتى تصل الوسوسة، أم غير ذلك؟ هذا كله علمه عند الله عز وجل، وعليك أن لا تشتغل بذلك، لكن تشتغل بدفع هذه الوسوسة، بقدر ما تستطيع.(93/42)
تجزئة التوبة
السؤال
هل لكل ذنبٍ توبة، أم أنه يشترط التوبة لجميع الذنوب جملةً واحدة، لكي يتم قبولها، من هذا الشخص؟
الجواب
في الواقع أن التوبة تَتَبَعَّض، فقد يتوب الإنسان مثلاً من الكفر، ولكنه يظل مصراً على شرب الخمر كما هي الحال فيما سبق في قصة أبي محجن، وإن كان تاب أخيراً من كل ذلك، وقد يتوب المسلم من بعض المعاصي دون بعض، فالتوبة تجب ما قبلها، فمن تاب تاب الله عليه، وعفا عنه ما عفا من هذه المعصية، لكنه يؤاخذ بجرمه في معصيةً أخرى.(93/43)
نصيحة لمن يفتخرون بالمعاصي
السؤال
يوجد بعض الذين يقولون: إنهم تابوا من فعل المعاصي، كالزنا وغيره، ثم بعد ذلك التقوا في مجلس من المجالس تذكروا تلك الأيام، وتذكروا من كانوا يعاشرون بالحرام، ويضحكون، ويوردون التفاصيل عن هذه الماضي، ثم لا يذكرون نعمة الله عليهم، بِأنْ منَّ عليهم بترك هذه الكبائر، أرجو الوقوف عند هذه المسألة؟
الجواب
أولاً: الواقع أن هناك قضية خطيرة أيها الإخوة، لا تقل خطورة عن المعصية ذاتها، وهي مسألة المجاهرة، والرسول عليه الصلاة والسلام، يقول في الحديث -الذي أشرتُ إليه فيما سبق-: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عز وجل، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، وأصبح يكشف ستر الله عليه} والمجاهرة من أخطر ألوان المعاصي، المستتر يدل استتاره -غالباً-: على أنه يدرك أنها معصية، ويستحيي من إظهارها، وأما المجاهر: فهو يدل على وقاحته، وقلة دينه، وربما دل على عدم إيمانه بتحريم هذه المعصية، ولذلك حكم الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن المجاهر غير معافى، فكيف يتصور أن إنساناً تاب من معصية، يفتخر بها!! حقيقة هذا الافتخار يدل على أن هذا الرجل مجاهر بالمعصية، فالواقع أن التائب يكره ذكرها، بل إذا مر ذِكرها في قلبه أسود وجه، وأظلمت الدنيا في عينيه، أما من يتبجح بالمجالس بأنه فعل كذا وفعل كذا، وفعل كذا، فهذا في توبته نظر، وكلامه في هذا المجلس هو في حد ذاته معصية عظيمة، يجب التوبة منها.(93/44)
اختيار القرين الأصلح
السؤال
نفسي تواقة إلى التوبة إلى الله عز وجل، وكنتُ تعرفتُ في بداية التزامي على شبابٍ يلتزمون بالإسلام، ويدعون إليه، لكن ألاحظ عليهم التساهل في أمور الدين، وإقبالهم على الحياة، ومع ذلك فإني صاحبتهم، وكلما أردت أن أتركهم وأتوجه إلى غيرهم، ممن أحسبهم -والله حسيبهم- أهل خيرٍ وتقوى، عذلني أصحابي، وقالوا: كلنا على خيرٍ وصلاح، فما رأيك؟ وللأسف نتيجة صحبتي لهم، تتردى حالي يوماً بعد يوم؟
الجواب
الذي أنصح به الأخ، ألا يُقْصِر صحبته على هؤلاء القوم من أصحابه، فإنهم ماداموا فيهم خير وأهل خير، لا ينبغي تجنبهم والبعد عنهم، لكن لا ينبغي للإنسان أن يقصر نفسه عليهم، بل ينبغي أن يتجه إلى من ذكر ممن يعتقد أنهم أهل خير وصلاح، وأنهم أقرب إلى الله تعالى زلفى، ويستفيد مما عندهم، وينبغي أيضاً أن يدرك أنه مسئول عن نفسه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] فالعبد محاسب يوم القيامة وحده، ليس معه زملاء، ولا إخوان ولا أصدقاء.(93/45)
كيف ننشر السنة؟
إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، بل لا يكون العمل متقبلاً إلا إذا كان موافقاً للسنة، فلابد علينا أن نعزم على اتباع السنة، وتعلمها وتعليمها للناس، والدعوة إليها والصبر في سبيل ذلك، والسنة هي سفينة نوح، من ركب فيها نجا ومن لم يركب فيها هلك وزاغ وضل؛ لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن مفهوم السنة، ثم ذكر واجبنا تجاه السنة، وبعض الوسائل التي تعين على نشر السنة بين الناس.(94/1)
مفهوم السنة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة كلمة السنة تطلق على معانٍ متعددة لا بد من الإشارة إليها في البداية، حتى يكون الموضوع أكثر تحديداً.(94/2)
مفهوم السنة عند الفقهاء
وهناك معنىً ثالث للسنة وهو ما يستخدمه الفقهاء, فالفقهاء حين يقولون -مثلاً-: هذا العمل سنة, يقصدون أنه ليس بواجب، وإنما هو سنة يثاب فاعلها تديناً وتعبداً لله جل وعلا، ولا إثم على تاركها.
فيستخدمون السنة بمعنى أنه أمر مشروع لكنه ليس بواجب, فلذلك يقولون في كثير من الأشياء: إن هذا الأمر سنة, كرفع اليدين في التكبير، يقولون: سنة, يقصدون أنه ليس بواجب, لكنه مطلوب من الإنسان على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب.(94/3)
المقصود بالسنة في هذا الحديث
فأي من المعاني نريد الآن؟ حين نتحدث عن السنة، وكيف ننشرها بين الناس؟ الحقيقة أن المقصود الأصلي، هو أقرب إلى المعنى الثاني، وإن كان ليس مطابقاً له؛ لأن هناك معنىً عرفياً شائعاً عند الناس حول السنة, هو الذي أقصده في هذا الحديث, وذلك أن الناس إذا قالوا: فلان ملتزم بالسنة يعنون أن فلاناً هذا ملتزم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم, الهدي الظاهر المتعلق بالهيئة والصفة, كأن يكون هذا الإنسان معفياً لشعر لحيته مقصراً لثوبه محافظاً على الصلاة في الجماعة, وغيرها من العبادات بالصفة الشرعية التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدخل فيه أشياء واجبة, وأشياء مستحبة ومندوبة, وكلها تسمى عند الناس السنة, ولا بأس بهذا, لأن هذا من باب إطلاق اللفظ على بعض أفراده, فإن هذه الأشياء ليست السنة كلها, لأن السنة تشمل الدين كله في الواقع, إنما هذه بعض السنة, ولا بأس من إطلاق الكل وإرادة الجزء, فهذا هو المقصود بهذه السنة.
المقصود بالسنة: التزام الإنسان بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم الظاهر، في هيئته وسلوكه العملي، من مأكل ومشرب وملبس وهيئة ظاهرة, إضافة إلى التزامه بالسنة في أبواب العبادة، في الصلاة ونحوها.
النقطة الثانية التي أريد أن أوضحها: هو أن علينا جميعاً واجباً تجاه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارنا من أتباعه الحريصين على أن ننسب إليه, وعلى أن نرد حوضه صلى الله عليه وسلم، ونشرب منه تلك الشربة التي من ورده شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً, وحريصين أن ننال شفاعته صلى الله عليه وسلم ونكون من جلسائه في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ومثل هذا الأمر الجليل لا بد أن يجاهد الإنسان في سبيل الوصول إليه, فإن الادعاء أمر ميسور وكما قيل: والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء كل إنسان يدعي دعوة لا بد أن يقيم عليها الدليل, فحين يدعي زيد من الناس أنه متبع للسنة أو سلفي -كما يعبرون بلغة العصر- لا بد أن يقيم دليلاً على هذه الدعوى, تثبت صدق ولائه للرسول صلى الله عليه وسلم, وصدق اتباعه للسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، ظاهراً وباطناً، وإلا فما أسهل أن يقول الإنسان بملء فيه: أنا سلفي, ثم ينقض هذه الدعوى بأقواله وأفعاله وسلوكه وغير ذلك، لا بد أن نحدد واجبنا تجاه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحدد هذا الواجب في نقاط:(94/4)
مفهوم السنة عند المتكلمين
وللسنة استعمال آخر أو معنىً آخر، وهو المعنى الذي يستخدمها به المتكلمون في العقائد, فإن علماء أهل السنة والجماعة إذا أطلقوا السنة في مجال الاعتقاد قصدوا بها المنهج الصحيح في الاعتقاد الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, والمخالف لمناهج وطرق المبتدعة, ولذلك صنف جماعة من أهل العلم في العقيدة كتباً سموها: السنة, كما صنف محمد بن نصر المروزي كتاب السنة، وأدخل فيه بعض أبواب الاعتقاد, وكما صنف الإمام اللالكائي، كتابه في السنة, وكما صنف الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل كتاب السنة, وكذلك الخلال، أحد تلاميذ الإمام أحمد وغيرهم كثير.
ويقصدون بالسنة هنا يعني: المنهج السليم في الاعتقاد سواءً في أبواب الأسماء والصفات, أسماء الله وصفاته, أو الأمور الأخرى في مجالات الاعتقاد المختلفة.
ولذلك كان السائرون على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في المعتقد يسمون أهل السنة, باعتبارهم لازمين لهذه السنة غير حائدين عنها.(94/5)
مفهوم السنة عند المحدثين
فالسنة تطلق عند المحدِّثين على ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقِية أو خُلُقية.
فكل حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قولاً كان، أو فعلاً، أو وصفاً، أو تقريراً، فهو من السنة في اصطلاح المحدثين مثال القول: قوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات} فهذا من السنة في اصطلاح المحدثين.
والفعل: مثل صلاته صلى الله عليه وسلم، وقوله بعد ذلك: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وكذلك حجه عليه الصلاة والسلام حيث وقف بعرفة ورمى الجمار وطاف بالبيت إلى غير ذلك.
أما التقرير فهو: أن يُفعل شيء بحضرته أو يُقال شيء بحضرته؛ فيقره صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه, وأمثلة ذلك أيضاً كثيرة, يذكر العلماء من أمثلته قصة الرجل أو الرجلين، اللذين خرجا في سفر فلم يجدا الماء, فتيمما وصليا, ثم وجدا الماء في وقت الصلاة، فأما أحدهما فإنه أعاد الوضوء، أي: توضأ وأعاد الصلاة, وأما الآخر فلم يُعِد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أعاد الصلاة: {لك الأجر مرتين} وقال للذي لم يُعِد: {أصبت السنة وأجزأتك صلاتك} .
ومثله أشياء كثيرة، يقولها الصحابة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقرها ويوافق عليها, أو يفعلونها في حضرته؛ فيقرها ويوافق عليها, ولذلك علم الصحابة أن هذا من السنة؛ فكانوا يقولون: كنا نفعل كذا في عهده صلى الله عليه وسلم, فعرفوا أن هذا -أي الإقرار والموافقة- وأنه جزء من السنة, فله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الصفة فهي: أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم خَلْقِية كانت أو خُلُقِيةً, فأما الأوصاف الخَلقية فهي المتعلقة بخلقته عليه الصلاة والسلام, مثل: صفة شعره وقامته وما يتعلق بذلك.
وأما الخُلقية فهي: المتعلقة بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، وهي كثيرة جداً ومعروفة, منها: أنه كان حليماً كريماً جواداً إلى غير ذلك، فالمحدثون يعتبرون هذه الأشياء -وما شابهها- هي السنة.(94/6)
اتباع السنة متى ما عرفناها
الأولى: أن نعقد العزم على اتباعها, متى ما عرفناها, امتثالاً لقول الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] إذاً حتى قبل أن تعرف السنة، تعقد العزم على أنك متى عرفت السنة سوف تلتزم بها وتضرب بما دونها عرض الحائط, والسنن كثيرة, وأصل كلمة السنة في اللغة العربية تعني: الطريقة، فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طريقته, وسنة فلان هي طريقته.
فلا تعجبن من سنة أنت سرتها فأول راضٍ سنة من يسيرها هناك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك سنن لخلق كثير من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم, أو المخالفين له في بعض الأمر, فالإنسان لا بد أن يعقد العزم على أنه تابع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لسنة فلان أو فلان.(94/7)
لماذا نتبع السنة
نتبع السنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الأسوة والقدوة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] , وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] بل قد يوجد إنسان لا نقول إن له سنة مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه اجتهد في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، اجتهاداًَ لا يوافق عليه.
مثلاً هناك الأئمة، والأئمة كلهم أئمة الإسلام، الذين تتبعهم الأمة المسلمة, كلهم يحرصون على أن يأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكن منهم مخطئ ومصيب ولا بد.
وكلهم من رسول الله مرتشف غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم فهم يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم يختلفون, وإن اختلفوا فالمرجع فيما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحينئذٍ تقول أنت: بحكم أنني عقدت العزم على اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته, فحين أعلم أن هذا الإمام وإن كان إماماً جليل القدر في عيني حين أعلم أنه خالف السنة في مسألة باجتهاده؛ فإنني حينئذٍ أقدم السنة على قول هذا الإمام, وإن كان إماماً له قدره.(94/8)
عقد العزم على اتباع السنة
لا بد من عقد العزم على اتباع السنة متى بانت للإنسان, بحيث لا يقدم عليها قول أحد كائناً من كان, لا يقدم عليها قول مالك ولا الشافعي ولا أبي حنيفة ولا أحمد ولا الأوزاعي، وهم أئمة الإسلام, فضلاً عن غيرهم ممن دونهم, فضلاً عمن يكون مناوئاً للرسول صلى الله عليه وسلم.
فأنت تجد هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، في الأكل والشرب واللباس معروفاً, لكن قد تجد أن هناك سنناً أخذت عن أعداء الإسلام, من الغربيين أو الشرقيين, وتناقلها الناس في طريقة اللباس، وفي سائر الأمور الحيوية, فحينئذٍ من باب الأولى أن الإنسان يرفض كل هدي يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتشبث بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يكون من حزبه وأن يحشر معه.(94/9)
الحرص على تعلم السنة
النقطة الثانية: أن يحرص الإنسان على تعلم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: لأنه ما دام عقد العزم على العمل بها؛ لا بد أن يخطو خطوةً نحو تعلمها, ومن رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة أنه لم يبق من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم شيء دق أو جل إلا وحفظه لنا أصحابه رضي الله عنهم.(94/10)
أمور يجب التنبه لها عند تعلمه السنة
وفي هذا المجال يحتاج الإنسان إلى أن ينتبه إلى أمور: أولاً: قد يقع الإنسان -أحياناً- في أمور يقرؤها في الكتب عن الرسول صلى الله عليه وسلم, فيظن أنها من السنة وهي ليست من السنة, لأن مما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، منه ما هو مجال للقدوة والاتباع, ومنه ما هو من الأمور البشرية الطبيعية، التي لا مجال فيها للاقتداء, بل فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم الجبلة البشرية أو فعله بحكم العادة.
مسألة اللباس: فمثلاً فيما يتعلق باللباس, الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يلبس العمامة, فهل يعني ذلك أن لبس العمامة أصبح سنة؟ لا يلزم ذلك, لأنه لبسها الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم أن العرب كانت تلبس العمامة.
إنما كون الإنسان يوجد في مجتمعنا الذي اعتاد على لبس الطاقية والغترة -مثلاً- لا يعني أن الإنسان يخلع ذلك ويرتدي عمامةً ويقول: أنا أتبع السنة! كذلك لبس الإزار والرداء, والعرب كانت تلبسهما, وكذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم, فهل يعني ذلك أن الإزار والرداء أصبحت سنة، بحيث حين يوجد الإنسان في مجتمع يلبس الثوب كما نفعل نحن الآن يخلع ثوبه ويلبس إزاراً ورداءً ويقول: اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، ليس ذلك بلازم أو نوع معين من الحذاء، كان يلبسها صلى الله عليه وسلم.
هذه الأشياء ليست سنة بذاتها, إنما السنة تتعلق بصفتها, فمثلاً: صفة القميص أو صفة الكم أو صفة الثوب هذه تؤخذ من السنة, فقد ثبت في السنة مثلاً أن الثوب يجب أن يكون بصفات معينة, مثل ألا يكون محرماً، ألا يكون حريراً ولا مغصوباً ولا مسروقاً، وألا يكون فيه إسراف أو مباهاة، وألا يكون ثوب شهرة، وأن يكون فوق الكعبين، وما أشبه ذلك من الضوابط العامة للباس فهذه تؤخذ عن السنة، أما ما عدا ذلك من التفاصيل، فلا يلزم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعض أصحابه لبسوها؛ بحكم أنها لباس المجتمع في ذلك العصر أنها أصبحت من السنة.
كما أنه ليس من الصحيح أن نقول: من السنة -مثلاً- أن تكون البيوت بصفة معينة, لأن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت هكذا.
فليس كل ما قرأ الإنسان أنه موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو النبي صلى الله عليه وسلم فعله أنه من السنة, فلا بد للإنسان أن يفرق بين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريع للناس وبين ما فعله بحكم الجبلة أو بحكم العادة، أو ما أشبه ذلك.
فهذا قد يقع فيه البعض وربما يخالفون عادات موجودة في مجتمعاتهم، ويلفتون النظر في هذه الأشياء مع أنها لو كانت سنناً ثابتة؛ لقال الإنسان: لا بأس، الإنسان يعلم السنة بقوله وفعله, لكن ما لم يثبت أنها سنة, فالأولى للإنسان ألاَّ يفعل أمراً يعاب عليه ويستنكر منه.
مسألة إطالة الشعر: كما يدخل فيما سبق عند كثير من أهل العلم مسألة إطالة شعر الرأس فالرسول صلى الله عليه وسلم كان له شعر أحياناً يصل إلى منكبيه, وأحياناً إلى أذنيه, لكن هذا الشعر الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم هل تركه بحكم العادة لأن العرب كانت تفعل ذلك؟ أو تركه على سبيل التشريع؟ من العلماء من قال هذا, ومن العلماء من قال هذا, والذي يظهر لي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركه على سبيل العادة.
فنقول للإنسان: إن كان يريد أن يترك شعره؛ فيستحب أن يكرم هذا الشعر ويعتني به, كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل, ويستحب له -أيضاً- أن يحلق شعره في الحج والعمرة, أما إن حلق شعره أو قصره فلا شيء في ذلك وليس مخالفاً للسنة, وهذا الذي يظهر لي أن ترك الشعر لا يمكن أن يقال: إنه سنة بذاته.
ثانياً: قد يظن الإنسان أو يتصور أن هناك أشياء هي -أيضاً- سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بحكم فهم سبق إلى ذهنه, وهنا -أيضاً- لا بد أن يتثبت الإنسان، ويتأكد من أن هذا العمل الذي يعمله هو من السنة, خاصة حين يكون هذا العمل يكثر حوله الجدل, كأن يكون أمراً مخالفاً لعادة الناس في المجتمع -مثل ما ذكرت قبل قليل في قضية العمامة- أو يكون أمراً فيه مشقة على الناس فلا بد حينئذٍ أن تنظر وتتأكد وتتثبت فعلاً أن الأمر سنة ثابتة لا إشكال فيها, لأنه من الصعب اليوم أن تواجه الناس بأمر من الأمور، فإذا أنكروا عليك قلت: يا أخي هذا سنة وبعد أن تبحث وتناقش العلماء وتراجع الكتب, ترجع وتقول: فعلاً أنا أخطأت، هذا الأمر كنت أظنه سنة والواقع أنه ليس من السنة! مسألة الاضطجاع قبل صلاة الفجر:- ولعلي أضرب لذلك أمثلة: - الرسول عليه الصلاة والسلام كان بعدما يصلي راتبة الفجر، يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتي بلال فيؤذنه بالصلاة, فقال بعض العلماء: إن هذه الاضطجاعة مشروعة, بل بالغ ابن حزم رحمه الله، فقال: إنها واجبة, بل إنه يقول: إن من لم يفعلها يعيد الصلاة، هذا ما أذكر أنه قالها في كتاب "المحلى" وهذه مبالغة عجيبة وغريبة من مثله رحمه الله في سعة علمه, لكن كل إنسان يخطئ ويصيب المهم أنه بالغ في القول بسنية هذه الاضطجاعة, والعلماء فيها مختلفون, لكن الأظهر أنها ليست مشروعة لذاتها.
فكون الإنسان -أحياناً- يأتي إلى المسجد وقد صلى الراتبة في البيت، الإمام -مثلاً- يصلي الراتبة في البيت، ثم يضطجع قليلاً، ثم يقوم إلى المسجد، الأمر هين، لكن المشكلة إذا جاء الإنسان -وهذا يحدث أحياناً- فاضطجع في المسجد فتأتي إلى المسجد فتجد مجموعة من المتسننة وقد اضطجع كل واحد منهم على شقه الأيمن, لماذا يا فلان؟ هل تحول المسجد إلى مكان للنوم؟ قال: لا، هذه سنة.
فهذه السنة، إن صح أنها سنة، لا شك أنها مثيرة للناس، ولا ينبغي أن نبادئ الناس بأمر نحن غير متأكدين منه, وربما لو راجعنا وبحثنا ودققنا؛ لوجدنا أن الراجح أنها ليست بسنة, فنرجع لنقول: نعم نحن المخطئون.
وهذا يذكرني بقصة يقول لي أحد الشباب: إن عنده امرأة عجوز، كانت تقرأ القرآن على حسب ما تعلمت في صغرها, فكانت إذا جاء موضع فيه "وَهُوَ" تقول: (وَهْوَ) بسكون الهاء, فالولد يعلمها ويقول: يا أمي لا ليست (وَهْوَ) إنما هي بضم الهاء (وهُوَ) , فحاول والأم أعرضت عنه وتركته, وظلت على ما هي عليه, وقالت: هكذا تعلمت, وأصرت على تعلمها, فبعد فترة وجد ابنها من خلال قراءته أن هذه قراءة بسكون الهاء, فجاء إلى أمه وقال لها: استمري على ما كنتِ عليه لا مانع أن تقرئيها بسكون الهاء فقالت له: أنا ما استمعت إليك من الأصل، هي ما رفعت رأساً لما وجهها إليه, وهو جاء من بعد أن وجد ذلك في قراءات معروفة فلا بأس أن تقرأ بالسكون ما دامت قد أصرت على هذا الأمر واعتمدت على ما هي عليه.
فليس جديراً بالداعي إلى السنة أن يبادئ الناس بسنة، إلا بعدما يتثبت -فعلاً- أن السنة لا إشكال فيها.
مسألة تسوية الصفوف: مثل آخر غير الاضطجاع في الفجر وهذا المثل ربما قد سبق أن ضربته في بعض المناسبات وأعيده لأهميته أيضاً، وهو: مسألة رص الصفوف في الصلاة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير وهو في الصحيحين وكذلك في حديث أنس أنه كان يقول لأصحابه: {لتسوّون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم} قال الراوي: [[فلقد رأيت أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه]] وفي رواية صحيحة [[وركبته بركبته]] فأحياناً بعض الطلبة المجتهدين، حين يقرأ مثل هذا النص، يقوم بتطبيق هذا النص بصورة حرفية, فتجد أنه إذا صلى إلى جنب إنسان يجتهد أن يلزق كعبه بكعبه ومنكبه بمنكبه، ويتكلف في ذلك تكلفاً شديداً, وربما وصل -أحياناً- إلى إيذاء من يكون بجواره, وهو نفسه انشغل عن صلاته، وعن الخشوع فيها، وعن النظر إلى موضع السجود، بالنظر إلى موضع العقب، وكثرة الانشغال به، والنظر إذا كان هناك فجوة إلى غير ذلك, ويبالغ في ذلك مبالغة شديدة!! نحن يجب أن نكون واضحين أيها الإخوة, إذا ثبت لنا بالدليل الصحيح أن هذه سنة لا كلام فيها، فنحن نطبق هذا الأمر ونعود الناس عليه بكل وسيلة ولعلنا نجد فرصة في آخر المحاضرة للحديث عن بعض الوسائل المفيدة في نشر السنة.
لكن قبل أن تطبق هذا الأمر بهذه الصورة، تأكد أنه سنة فعلاً, حتى لا تتراجع عنه، وحتى لا تكون قد تسببت في وجود التبرم والضيق، عند كثير من الناس من مبتدعي السنة في أمر لم يثبت لديك أنه سنة, والذي يظهر لي أنا في ما يتعلق بهذه القضية أن المقصود هو: ألاَّ يوجد فجوة بين الصفوف، لا يوجد فراغ بين المصلي ومن بجانبه، وكذلك ألاَّ يكون هناك تقدم أو تأخر في الصف، بل أن يكون الصف كله على استقامة واحدة وسمتٍ واحد, ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {لتسوون صفوفكم} التسوية تعني: أن لا يوجد واحد متقدم وآخر متأخر, بل أن يكون الصف مستقيماً مستوياً على سمت واحد, وما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لتسوون صفوفكم} والصحابي يعقب على الحديث بقوله: {لقد رأيت أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه} دل على أن المقصود من هذا الإلزاق: الاطمئنان إلى أن الصف مستوي, فكلما دعت الحاجة إلى الإلزاق والاطمئنان إلى أن الصف مستوٍ فعل, وذلك لأن الجسم استقامة على الكعب وليست على الأصابع، كما يفعل بعض الناس أنه يساوي أصابعه بأصابع الذي بجواره فالأصابع ليس من الضروري أن تكون مستوية، المقصود أن يكون الجسم مستوياً, والجسم استقامته على الكعب, فإذا كانت الأكعب مستوية فالأجسام -أيضاً- مستوية.
فكلما دعت الحاجة إلى إلزاق الكعب بالكعب؛ للاطمئنان إلى استقامة الصف فعل الإنسان, أما أن يكون طيلة الصلاة ملزقاً كعبه بكعب صاحبه؛ فإنني أقول: إن هذا متعذر, ويلزم عليه أن يرفع الإنسان قدمه ويبالغ في رفعها، حتى يلزق كعبه بكعب صاحبه, وجرّب ذلك؛ تجد أنه لا يمكن أن تكون القدم على الأرض ومع ذلك قد ألزق المصلي كعبه بكعب من جواره, لا بد أن يوجد بينهما ولو فراغاً يسيراً, كما أن في ذلك مشقة عظيمة.
إضافة إلى أننا نعلم أن الله خلق أقدام الناس ليست على استقامة واحدة, بل القدم اليمنى بطبيعتها تميل إلى جهة اليمين, والقدم اليسرى بطبيعتها تميل إلى اليسار, فإذا مشى الإنسان فإن اليمنى تتجه لليمين وال(94/11)
تفاصيل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كتب السنة
الذي يطلع على تفاصيل السنة يعجب أشد العجب، لا يوجد رجل في التاريخ كله من لدن آدم عليه الصلاة والسلام، إلى الناس الموجودين اليوم، الذين هم أحياء يتحركون بيننا لا يوجد إنسان حُفظ لنا من هديه وسيرته ودقائق وتفاصيل حياته مثل ما حُفظ لنا من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في أدق الأمور, حتى وهو في الفراش مع زوجته, إلى هذا الحد, حتى وهو يقضي حاجته.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -مثلاً- إذا أراد من زوجته -وهي حائض- شيئاً ألقى عليها ثوباً، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها, وكما في حديث عكرمة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في سنن أبي داود وسنده قوي.
وفي الصحيحين عن عائشة وميمونة رضي الله عنهما: {أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر زوجته فتتزر فيباشرها وهي حائض} وليس المقصود بالمباشرة الجماع, المقصود بالمباشرة: هو أن يمس بشرته بشرتها، هذا معنى المباشرة.
كيف كان يغتسل صلى الله عليه وسلم؟ كيف كان يقضي حاجته؟ كيف كان يتوضأ؟ كيف كان يشرب؟ كيف كان يأكل؟ وحين تنتقل إلى صفة خَلْقِه صلى الله عليه وسلم تجد كتب السنة حفظت لنا صفاته الخلقية، والتي قد يتبادر للإنسان أنه ليس هناك فائدة منها, كم شعرة بيضاء في لحية الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذا الحد! كيف كان شعره؟ كيف كان طوله وقامته ولونه وبشرته؟ وكيف كان حذاؤه صلى الله عليه وسلم، وإزاره ورداؤه؟ جميع التفاصيل المتعلقة به صلى الله عليه وسلم أصبحت محفوظة لنا في كتب السنة.
ما غادرت كتب السنة دقيقاً ولا جليلاً مما يتعلق بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أو صفته الخلقية والخُلقية إلا بينته.
ولذلك من رحمة الله وحكمته، أن أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم من الزوجات ما لم يبح لغيره, فقد مات صلى الله عليه وسلم عن تسع نسوة, فحفظت لنا هؤلاء النسوة من تفاصيل حياته البيتية الشيء الكثير.
وحتى هذه الأمور الخَلْقية، التي يظن البعض أنه لا حاجة كبيرة إليها, فالواقع أن لها حاجة كبيرة جداً، ويستفيد الناس منها في مجالات كثيرة وعديدة, منها أنها آية بينة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم, لأننا نقول لكل الناس: هاتوا لنا رجلاً حفظ التاريخ من تفاصيل حياته مثلما حفظ التاريخ عن تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا موسى عليه الصلاة والسلام، هذا عيسى عليه الصلاة والسلام، له أتباع كثيرون اليوم في الدنيا الذي يدعون -وهي دعوى لا شك أنها ليست صحيحة لكنها دعوى- أنهم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، اليوم من حيث الناحية العددية قد يكونون أكثر من المسلمين بكثير, لكن دعوهم يأتون لنا بتفاصيل حياة عيسى عليه الصلاة والسلام, هيهات لهم، لا يستطيعون! بل حتى المعلومات التي يعرفونها عن حياة عيسى عليه الصلاة والسلام هي معلومات غير موثقة, لو شككناهم فيها ما استطاعوا أن يثبتوها لنا, لكن فيما يتعلق بنا نحن المسلمين حتى عدد الشعرات في لحية الرسول عليه الصلاة والسلام نستطيع أن نثبتها بإسناد صحيح متصل لا يرقى إليه شك.
كما أنه يستفاد منها في مجالات أخرى مثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي} حينئذٍ إذا رأى الإنسان في منامه شخصاً يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحتاج إلى أن يعرف صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليطمئن إلى أن الصفة التي رأى الرجل في المنام عليها، هي صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً، وليست صفة أخرى, إلى غير ذلك.
إذاً فلا بد أن يعقد الإنسان العزم على تعلم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفصيلاً، بعد أن عقد العزم على العمل بها.(94/12)
العمل بهدي السنة
النقطة الثالثة: من واجبنا تجاه سنة النبي صلى الله عليه وسلم هو: العمل بهدي السنة، فبعد أن يعلمها الإنسان لا بد أن يعمل بها, ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء} .
وقد يقول إنسان: ما معنى السنة الحسنة؟ فأقول: معنى السنة الحسنة يوضحه الحديث نفسه, وهو حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم, قال: {جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم حفاة عراة مجتابو النمار، متقلدو السيوف أو العباءة، عامتهم من مضرأو كلهم من مضر، قد جرى عليهم الفقر والفاقة, فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتغير لما رأى بهم من الفاقة، ثم دخل فخرج فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب الناس، وقرأ الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] ثم قرأ الآية التي في سورة الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ثم حث الناس على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه من صاع بره، من صاع تمره من ثوبه حتى قال ولو بشق تمره, فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت يده أن تعجز عنها, بل قد عجزت حتى رأيت كومين من الطعام والثياب فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنه مُذْهَبةٌ} أي: كأنه قبة مطلية بالذهب, فرحاً بتسارع الناس إلى الصدقة, وحمد النبي صلى الله عليه وسلم، وأثنى على أولئك الذين سارعوا في الصدقة حتى رآهم الناس فتحركت أريحيتهم للبذل والعطاء, لأن بعض الناس إذا رأى الإقبال على الخير والذكر والطاعة والعبادة والصدقة سارع إليها، لكن لو لم يرَ أحداً ربما لم يفعل, فكثير من الناس قد لا يكون عنده من قوة الإيمان وقوة الدافع أن يبدأ هو بفعل الخير، لكن إذا رأى غيره يفعل الخير، سارع إلى فعل هذا الخير.
فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع: {من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده} أي: أول إنسان تصدق فرآه الناس فحثهم على الصدقة، فتصدقوا، هذا الإنسان له أجره وأجر من عمل بهذه السنة.
ولذلك نقول: الذين يحثون الناس بقولهم وفعلهم على الدعوة إلى الله عز وجل, على طلب العلم الشرعي وتعلمه وتعليمه, على الجهاد في سبيل الله بالسيف والسنان, على نشر السنة قولاً وعملاً, على الصدقة والبذل والعطاء، الذين يدعون الناس إلى هذه الأشياء، لهم أجرهم وأجر من عمل بهذا العمل الذي يدعون إليه إلى يوم القيامة.
فهذا من الدعوة إلى الهدى وإلى السنة، وفي الحديث الآخر، من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء} وبالمقابل {من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء} .(94/13)
أساليب الأعداء تجاه السنة وأهلها
من العمل بالسنة الدفاع عنها ضد خصومها وخصوم السنة كثيرون, بعضهم عنده خصومة مقصودة، وبعضهم يكون خصماً للسنة ولو من غير قصد.(94/14)
التهويل من السنة
ومن أعداء السنة من يهونون من السنة؛ بحجة أن السنة قشور، فبعض الناس يقول لك: إن الأمة المسلمة مشغولة بأشياء كثيرة، الأمة المسلمة تعاني أزمات اقتصادية، وأزمات سياسية، وأزمات حضارية، والأمة الإسلامية تعاني كذا! وفي أفغانستان كذا! وفي الفلبين كذا! وفي بلاد الشام كذا! وفي فلسطين كذا! ويظل يعطيك قائمة بالأزمات والمصائب النازلة بالأمة، وهذا لا شك أنه صحيح، فالأمة الإسلامية تعاني اليوم مشاكل كثيرة جداً, لكن هل هذه المشاكل التي تعانيها الأمة تنحل إذا قلنا اترك الكلام عن السنة والدعوة إلى السنة؟! كلا, بل إن من أعظم المشاكل التي تعانيها الأمة، الإعراض عن السنة قولاً وعملاً واعتقاداً, بل إننا نجزم جزماًَ بأن الدعوة إلى السنة قوليِّها وفعليِّها واعتقاديِّها هو بإذن الله الحل للأمة من جميع المشكلات التي تعانيها.
فهل إذا تركنا السنة وتركنا الناس يفعلون ما يشاءون -مثلاً- في ثيابهم وفي شعورهم وفي صلاتهم؛ تنحل أزمة المسلمين في الفلبين؟ أو في أفغانستان؟ أو في بلاد فلسطين؟ أو في غيرها؟!! سؤال آخر: هل الذين يعملون بالسنة ويدعون إليها قد أهملوا قضايا المسلمين؟ لا, الواقع أن المسلم يستطيع أن يعلم السنة ويعمل بها ويدعو إليها, حتى تفاصيل السنة في الملبس والمأكل والمشرب وغيرها, ومع ذلك يستطيع أن يكون نصيراً لإخوانه المسلمين في كل مكان, ونصيراً لقضايا المسلمين في كل مكان, ومدركاً للأوضاع التي يعيشها المسلمون، عاملاً على حلها وإزالتها.
وهذا من التكامل الذي يقضي على الخلافات الموجودة بين المسلمين, بحيث يأخذ كل إنسان بطرف ويهمل ما عداه, فالدعوة إلى إهمال السنة بحجة أنها قشور، غلط كبير, وتقسيم الدين إلى قشر ولب، هذه بدعة لا أصل لها, لأن الدين كله من عند الله.
فمثلاً راتبة الفجر سنة, ولو أنكر إنسان راتبة الفجر؛ لكان منكراً لأمر متواتر, وربما يقاتل على تركه, يقاتل الناس إذا امتنعوا وأصروا على تركه, كما نص على ذلك أهل العلم, فالسنة من الدين ولا يمكن أن يهون من شأنها أو يقال: إنها قشور! وليس في الدين قشر ولب, بل الدين لبابٌ كله.
من أعداء السنة: الساخرون بها وبأهلها من الدهماء والعوام وغيرهم, فإننا نجد قطاعاً كبيراً من الناس سواء من العامة, أم من المثقفين ثقافة غربية, أم من البعيدين عن العلم الشرعي من يسخرون بالسنة وبأهلها, جهلاً منهم بالسنة، وعدم معرفة بحقيقتها.
فإذا رأوا إنساناً ملتزماً بالسنة في مظهره وسلوكه وعمله؛ سخروا منه! أذكر -مثلاً- أن كثيراً من العامة كانوا يسخرون من بعض الشباب؛ إذا رأوهم يضعون اليد اليمنى على اليسرى على الصدر في الصلاة, ويقول أحدهم: هؤلاء الذين يريد الواحد منهم أن يغتال نفسه, كأن الواحد منهم يريد أن يطير وإذا رأى إنساناً قد قصَّر ثوبه ورفعه؛ عاب عليه وسخر منه, فإذا رأى شخصاً ملتحياً؛ ألقى عليه بالألقاب وسبَّه ونال منه، فهؤلاء في الواقع أعداء للسنة، شاءوا أم أبوا أرادوا أم لم يريدوا, لأنهم حشروا أنفسهم في زمرة أعدائها؛ المحذرين منها المحاربين لها، وجعلوا من أنفسهم عقبات في سبيل تطبيق السنة.
كم من شاب أراد أن يقصر ثوبه أو يعفي لحيته أو يلتزم بالسنة؛ فمنعه من ذلك وضع البيت، وسخرية الأب والأم والإخوة والأخوات في المنزل! وما زلنا في كثير من البيئات والمجتمعات؛ نجد من يسخر، لا أقول: بالسنة فقط، بل حتى بفعل الواجب, فإذا رأوا الشاب يحافظ على الصلاة في المسجد؛ سخروا منه.
وهؤلاء، لا شك أنهم بحاجة إلى دعوة لتجديد إيمانهم، وتحقيق ولائهم للإسلام, فإما أن يعرف السنة ويلتزم بها, وإما أن يحاربها عن علم, ليحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
من أعداء السنة: المنابذون لها العاملون بسنة غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهون بغير المسلمين كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم أصبحت تأخذ كثيراً من أمورها العملية، سواء في الشرب أو الأكل، أو في طريقة الجلوس أو اللبس، أو في الشعور، أو في الزواج والأفراح والأعياد والمناسبات أو غيرها, يأخذون تقاليد الغربيين والشرقيين، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لحاولوا أن يدخلوا جحر الضب وراءهم, أفرأيتم أضيق من جحر الضب؟! من المسلمين من يجاهد ليدخل جحر الضب وراء أهل الكتاب, فهؤلاء رضوا بسنة اليهود والنصارى عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأحياناً لا تستطيع أن تميز بين المسلمين، وبين الكفار والمشركين, في كثير من البيئات الإسلامية, دعك من الذين يعايشون هؤلاء الكفار في بلادهم, فالأمر بالنسبة لهم أعم وأطم, لكن حتى في بعض البيئات الإسلامية، التي يكون فيها مسلمون وفيها بوذيون أو سيخ أو نصارى أو غير ذلك، لا تميز بين هؤلاء وهؤلاء!! وهذا يكشف جانباً من عظمة الإسلام فينا, علَّم المسلمين بالعناية بالمظهر والمخبر, الإسلام دين كامل يعلم المسلم كل شيء, لا توجد حاجة تركها الإسلام بدون تنظيم.
فمن حكمة الله عز وجل، حين شرع للمسلمين العناية بمظاهرهم، أنها على صفة معينة، حتى يتميز المسلم بمظهره وبمخبره.
فالمسلم إذا رأيته؛ وجدت سمت الإسلام، من حيث الشكل والهيئة واللباس والشعر, فإذا جاء وقت الصلاة؛ وجدت صفة الإسلام، الأذان والإقامة والصلاة, طريقته في الأخذ والعطاء، في المناسبات وغيرها، طريقة متميزة.
فالذين رضوا بسنة أعداء الإسلام من الممثلين والمغنين وغيرهم, وأعداء الإسلام -أيضاً- في الأمور الاجتماعية، هؤلاء حشروا أنفسهم في زمرة أعداء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء -كلهم- بحاجة إلى دعوة؛ لمراجعة موقفهم من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يعرفوها ويعملوا بها ويصبحوا من أنصارها, أو يحاربوها على بينة وبصيرة ووضوح.
فهؤلاء كلهم من أعداء السنة, ولا بد من مواجهتهم كما ذكرت.(94/15)
التشكيك في السنة
فمن خصوم السنة -مثلاً- الذين يشككون في السنة تشبثاً بوجود أحاديث ضعيفة أو موضوعة, بعض الناس -مثلاً- يشكك في أن هذا الأمر الذي تخبرنا به وتدعونا إليه من السنة, وقد يشكك في أشياء ثابتة وصحيحة، وقد تكون متواترة أحياناً.
ولذلك إنني أقول: إن من نعمة الله جل وعلا على هذه الأمة، أن قيض لها الإمام البخاري والإمام مسلم حيث صنفا الصحيحين, بحيث تقول لكل إنسان: يا أخي عندك صحيح البخاري وصحيح مسلم كل ما فيهما فهو صحيح, وهذا لمن لا توجد عنده قدرة على مراجعة الأسانيد والرجال والصحيح والضعيف: فهو يريد أشياء جاهزة فإذا كنت تريد أشياء جاهزة؛ فعندك الصحيحان، عض عليهما بالنواجذ، وفيهما خير كثير للإنسان الذي لا يستطيع أن يتوسع في معرفة السنة ودراستها.
ولذلك لا يدرك فضل الصحيحين إلا أمثالنا في مثل هذا العصر, بل ربما كان بعض العلماء المتقدمين ينتقدون البخاري أو مسلم على تأليف الصحيح, ويقولون: لماذا تؤلف الصحيح؟ كما نقل عن أبي زرعة، أنه انتقد مسلم على أنه جمع الصحيح فقط, لكن المتأخرين عرفوا نعمة الله تعالى على هذه الأمة، حين قيض الإمام البخاري ومسلم للتصنيف في الحديث، بحيث أنه بعدما فترت الهمم وضعفت أصبح في متناول جمهور الناس صحيح البخاري وصحيح مسلم يقرءونهما، ويقبلون ما فيهما، باعتباره صحيحاً، أجمعت الأمة على قبوله وأخذه, وقد تلقت الأمة ما في صحيح البخاري وما في صحيح مسلم بالقبول على سبيل الإجماع.
فمن أعداء السنة من يشككون فيها؛ تشبثاً بوجود أحاديث ضعيفة أو موضوعه في بعض دواوين السنة ومصنفاتها.(94/16)
الدعوة إلى السنة
من واجبنا تجاه السنة، بعد أن عرفنا السنة وعملنا بها، أن ندعو الناس إليها -كما أسلفت- وهذه الدعوة تكون في إطارها الطبيعي, بحيث ندعو إلى السنة وندعو إلى غير السنة, أي: ندعو إلى السنة وندعو إلى الواجب.
بعض الشباب -أحياناً- قد يدعو إلى السنة ويغفل عن الواجب, فربما يرى إنساناً مرتكباً للكبائر والموبقات، من أكل الربا، وأكل الحرام، وارتكاب الفواحش والعظائم، وهو في نفس الوقت مخل ببعض السنن, فينبهه إلى السنة ويغفل عن الواجب, ولا شك أن الأولى أن تبدأ بالواجب وهذا الذي تقتضيه الحكمة بأن تدعوه إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, كيف تعالج الجرح والرأس مقطوع؟! هذا لا يكون, فهناك إنسان يسعى إلى اجتثاث الشجرة من أصلها, وآخر يعبث بورقها, ليس من الحكمة أن تمنع الذي يعبث بالورقة وتترك الذي يعبث بالجذور أو يسعى إلى اجتثاثها، إذا كان هناك تعارض؛ فلا بد من تقديم الواجب ثم السنة.
ومن واجب السنة علينا -بعد ذلك- أن نصبر على ما سبق, نصبر على تعلم السنة, فإن تعلم السنة لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة, ونصبر على العمل بالسنة.
فإن بعض الناس قد يعمل بالسنة لكن إذا طال به الوقت مَلَّ وبرد, وذلك لأن الإنسان بطبيعته، أنه أول ما يعرف الشيء يكون نشطاً في تطبيقه، فإذا طالت عليه الأيام والليالي؛ فإنه يفتر شيئاً فشيئاً حتى ربما لا يعمل.
الصبر على الدعوة إلى السنة, فإن بعض الناس إذا عرف السنة قد يدعو إليها فإذا وجد من الناس الإعراض والصدود؛ مَلَّ وترك هذه الدعوة, فلا بد من الصبر على هذا كله.
ولذلك الصبر من أهم أخلاق الإسلام, وقد أمر الله عز وجل به حيث قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري وغيره: {ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} كثير من الناس يعملون ولكنهم يملون, فسرعان ما يتخلون عن هذه الأشياء التي عملوا بها فترة، ثم تركوها إلى غيرها.
فلينتبه الشاب إلى أنه يجب أن يصبر على كل هذه الأشياء, اصبر على تعلم السنة ولا تظن أنك بين يوم وليلة سوف تصبح عالماً يشار إليه بالبنان, واصبر على العمل بها؛ فلا يؤثر فيك الزمن بروداً وقسوة قلب.
واصبر على الدعوة إليها, فلا تفتر إذا رأيت كثرة المخالف والمناوئ والمنافي, واصبر على الصبر -أيضاً-, فالصبر يحتاج إلى صبر, والإنسان قد يصبر فترة ثم يمل من الصبر فلا يصبر, فلا بد من الصبر حتى على الصبر نفسه.
هذه بعض واجباتنا تجاه السنة أرى أن الوقت قد اقترب, ولذلك أنتقل إلى النقطة الأخيرة وأشير إليها باختصار، وإن كانت من الأشياء المهمة في نفسي, لكن لعلي مررت على بعض ما أريد أن أقوله فيها وهي: الحديث عن بعض الطرق والوسائل في نشر السنة النبوية بين الناس: من الوسائل في نشر السنة بين الناس ما يتعلق بالسنة التي ليست بواجبة بالدرجة الأولى، وكذلك السنن الغريبة, أما الواجبات فالوسائل لها كثيرة, وكذلك الأشياء المعروفة، التي يعلم الناس أنها سنة ليس هناك إشكال, الإشكال كثيرا ما يقع في بعض الأشياء التي هي سنن ليست واجبة، وهي في نفس الوقت غريبة وغير معروفة عند الناس, فتثير بينهم استنكاراً وتساؤلاً ونفوراً.
من الوسائل في نشر السنة:(94/17)
محاولة إشاعة السنة بين الناس بالقول والكتابة
فالإنسان -مثلاً- حين يؤلف كتاباً في سنة من السنن, أو يلقي خطبة أو محاضرة عن هذه السنن، ويسوق ما ورد فيها من النصوص؛ يعلم الناس هذه السنة بالقول، وهذه طريقة من الطرق.(94/18)
دعوة العلماء وطلاب العلم إلى الحديث عن هذه السنن وتبصير الناس بها
فإن للعلماء دوراً كبيرا ًفي هذا الأمر, فإن الناس يثقون بالعلماء أكثر مما يثقون بغيرهم.
فعامة وجمهور الناس يُعتبرون مقلدين، إذا جاءهم إنسان مجهول، وقال لهم: إن هذا العمل سنة قالوا: لقد جالسنا العالم الفلاني والعالم الفلاني، أربعين سنة وخمسين سنة وستين سنة، ما سمعنا هذا الكلام إنه شيء جديد! فلا يقبلونه, والعامي مقلد, والأصوليون والفقهاء يقولون: العامي فرضه التقليد, ومذهبه مذهب مفتيه ولا شك أن العامة لا يطالبون بأكثر من التقليد, انظر إلى أفضل عالم تثق بعلمه ودينه فاسأله وقلده, العامي لا يطالب بأكثر من ذلك, عند جميع أهل العلم.
إذاً: ليس مطلوباً من العامة حين يأتيهم شاب لا يعرفونه ولا يعرفون مصدره من العلم أن يقبلوا منه كل ما يقول, فإذا أتاهم بأمر غريب؛ من الطبيعي أن يتوقفوا في ذلك, فلماذا لا نسلك مسلك أن نأتي بعالم معروف أو -على الأقل- طالب علم موثوق، ونطلب منه الحديث عن هذه السنة؟ حتى يبصر الناس بها، ويفتح الطريق لتطبيقها, فلا يستنكر الناس على من عمل بها, معتبرين أنه أتى ببدعة؛ لأنه في آخر الزمان -كما ورد- تصبح السنة بدعة, فإذا أحيت السنة قيل: هذه بدعة, وهذا موجود في كثير من المجتمعات.(94/19)
التدرج في نشرها بين الناس
من طرق ووسائل نشر السنة: التدرج في نشرها بين الناس، بحيث يسلك الإنسان أسلوب التدرج شيئاً فشيئاً فلا يعاجل الناس ويبادئهم بما لم يألفوا، فيبدأ الإنسان في تطبيق السنة في مجال ضيق -وأقصد بذلك السنن الغريبة- مثل ما إذا كان في وسط أناس لا يستنكرون, فبعض الناس عندهم شيء من المعرفة، أو هو بين زملائه في رحلة أو في مكان طيب، يبدأ في تطبيق السنة حتى تنتشر، أو صار هذا الإنسان إماماً، وبدأ يعلم جماعته شيئاً فشيئاً، حتى ألفوا هذا الأمر, صار يعلمهم السنة ثم يطبقها أمامهم.
وبالطريقة هذه تنتشر السنة بهدوء، فلا يقف الناس ضدنا في تطبيق السنة, بل يكون الناس إما معنا في تطبيق السنة، أو -على الأقل- يتورعون حتى يستبينوا, ولهذا نقول: جزى الله خيراً من يقول: أنا أتوقف حتى أستبين ويسأل العلماء المعروفين في ذلك، سنكون أول من نطيع.
فلا بد من التدرج في نشر السنة بين الناس شيئاً فشيئاً، حتى لا نفاجئ الناس أو نعاجلهم أو نبادئهم بأمر يكرهونه ولا يألفونه.(94/20)
الاعتدال والحكمة في تطبيق السنة
فمثلاً أشرت إلى تقصير الثياب، بعض الشباب -مثلاً- تجد أن من أعظم الأشياء وأكثرها حساسية في نفسه؛ أن يقصر ثوبه؛ حتى يكون تحت الركبة بأربعة أصابع، أو على أحسن حال إلى نصف الساق, وهذا ورد فيه أحاديث، وصح أنه فعل ابن عمر رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم وغيره.
ولست أنكر هذا العمل بذاته, لكنني أنكر أن يصبح هذا الأمر هو الفيصل بيننا وبين الناس, والقضية التي نوالي ونعادي ونفاصل من أجلها ومن لم يقبل هذا الأمر اتهمناه بسائر التهم, بل إنني أقول إن الظاهر من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه أنهم لم يكونوا دائماً يقصرون ثيابهم بهذه الصفة, انظر مثلا ًالحديث الذي في صحيح البخاري، لما كسفت الشمس، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة أي: بسبب العجلة.
فلو كان إزار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما تحت الركبة بأربعة أصابع، أو إلى نصف الساق، ما كان يمكن أن ينجر من العجلة.
وكذلك حديث أبي بكر رضي الله عنه، لما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسبال, قال أبو بكر رضي الله عنه، كما في صحيح البخاري أنه قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده -يسترخي أي: يصبح تحت الكعب أحياناً- قال: {إنك لست ممن يصنعه خيلاء} .
فهل نتصور أن إزار أبي بكر تحت الركبة بأربعة أصابع، أو إلى نصف الساق، ومع ذلك يسترخي حتى يصل إلى أن يكون تحت الكعب؟! فهذا يستبعد جداًَ، وهناك نصوص كثيرة من هذا القبيل.
فهذا يجعل الإنسان يعتدل في هذا الأمر, خاصة حين نرى أن علماءنا في هذا البلد، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو سماحة الشيخ محمد بن عثيمين، وكثير منهم, لا يتعاملون مع هذا الأمر بالصفة التي يستغربها العامة، بل العامة يحتجون بعلمائنا وأنهم لم يكونوا في لباسهم بصورة مخالفة لما عليه عامة المسلمين، من كون الثوب قصيراً بعيداً عن الإسبال، لكن ليس تحت الركبة بأربعة أصابع -مثلاً-, بل هو غير ملفت للنظر، وهو أقرب إلى أن يوصف بأنه طبيعي, ومع ذلك هم ملتزمون بالسنة لا شك, أما إذا وجد إنسان في بيئة تتقبل مثل هذا الأمر ولا تستغربه؛ فنحن لا نقول: إن هذا الأمر منكر، لكن نقول: إن هذا الأمر يلفت كثيراً من الناس، ويجعلهم يحاربون حتى ولدهم أحياناً فنقول: يمكن للإنسان أن يؤجل هذا الأمر، ويهتم بأمر آخر أكثر منه أهمية وعناية؛ لئلا تكون هذه القضية هي الفيصل وميدان الصراع، وتكون هي الشغل الشاغل للشاب في نومه ويقظته وذهابه ومجيئه, وهي قضية أكثر ما يقال فيها: إنها سنة.
مثل آخر: مسألة الصلاة بالنعال, ورد فيها أحاديث كحديث أبي سعيد وغيره، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه, وكذلك الصحابة، وفي ذلك أحاديث عديدة، لكن حين يوجد الناس في هذا العصر، وقد وضعوا في مساجدهم الفرش، وأصبحوا يعتنون بها عناية فائقة, ويكنسونها في اليوم عدة مرات, وهناك موظفون مخصصون لكنس المساجد وتنظيفها وما أشبه ذلك، وأصبح الناس ينفرون ممن يصلي في نعليه, أو يدخل للمسجد في نعليه.
أنا حين آتي إلى مسجد فأجد أنهم يصلون على الأرض أصلي في نعلي, أو أكون خارجاً في البر مع بعض الأقارب أصلي في نعلي؛ لأن الأمر حينئذٍ طبيعي, لكن حين آتي إلى المسجد بهذه الصفة، أرى الصلاة بالنعلين حينئذٍ فيها إثارة كبيرة, أنا في غنىً عنها، فلا أرى من المصلحة ولا من الخير أن أفعل ذلك، بل أخلع نعلي وأصلي بدونهما.
وأعتقد أن هذا -إن شاء الله- فيه تحصيل لمصالح كبيرة، إن كان فيه تفويت لشيء أقل منها, فلا بد من الاعتدال في تطبيق السنة.(94/21)
الحذر من الآراء الشاذة
أيضاً علينا الحذر من الآراء الشاذة التي قد يتبناها البعض، ويعتقد أنها صحيحة في موضوع السنة: فقد يعتقد البعض أن السترة، أي: السترة أمام المصلي واجبة، والسترة لا شك أنها ثابتة في أحاديث كثيرة جداً، ولا شك في مشروعيتها وفضيلتها وسنيتها, لكن القول بأنها واجبة أمر صعب, وهو خلاف مذهب الأئمة الأربعة في المشهور عنهم, فمن الصعب قبوله, خاصة أن هناك نصوصاً قد تصرف ما ورد من الأحاديث عن القول بالوجوب إلى القول بالسنية.
فإذا نظرنا إلى مذهب جماهير أهل العلم؛ لم نجد ما يدعو إلى التشبث بالقول بالوجوب وفي ذلك من الحرج ما فيه.
كذلك وجوب الاضطجاع في صلاة الفجر، كما أسلفت قبل قليل.
من الطرق المهمة لنشر السنة، هو عند تعارض السنة التي ليست بواجبة، مع ما هو أهم وأوجب، فإن على الإنسان أن يقدم ما هو أهم وأوجب، كما أسلفت في بعض الأمثلة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, وما قلته فإنما هو اجتهاد من عندي, فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان.
وأستغفر الله وأتوب إليه, وما أردت إلا الخير, وما أريد الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين.(94/22)
الأسئلة(94/23)
حكم صلاة الإشراق
السؤال
ركعتا الإشراق، هل تكفي عن ركعتي الضحى؟ وما مدى صحة حديث ركعتي الإشراق؟ وهل يلزم المداومة عليها, وهل تلزم في المسجد أو تكون في البيت؟
الجواب
لا يصح في صلاة الإشراق حديث, إلا فيمن جلس في مصلاه بعد صلاة الفجر يذكر الله، ثم صلى ركعتين؛ فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم, ويشهد له فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، أنه كان يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً أو حسناء.
أما صلاة الضحى فورد فيها أحاديث كثيرة والعلماء مختلفون فيها, منهم من يرى أنها مشروعة مطلقاً, ومنهم من يرى أنها لا تشرع مطلقاً, ومنهم من يرى أنها تشرع أحياناً, ولكن فيها أحاديث تدل على شرعيتها شرعية مطلقة, كما في حديث أبي ذر وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاهما بثلاث، ومنها: صلاة ركعتي الضحى, وكما في حديث المفاصل التي في ابن آدم، ثلاثمائة وستون مفصل، وكل مفصلاً عليه صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى، فهناك أحاديث كثيرة، فالقول بمشروعية صلاة الضحى مطلقاً قول حسن, ووقتها أفضل ما يكون إذا اشتدت الشمس: {صلاة الأوابين حين ترمض الفصال} ويبدأ وقتها -كما ذكر الفقهاء- من ارتفاع الشمس بقدر رمح إلى الزوال.(94/24)
كتاب صفة الصلاة للألباني
السؤال
كتاب الألباني في الصلاة، أو كتب غيره من المحدثين، هل تعتبر مرجعاً في الأحكام الفقهية؟
الجواب
الشيخ الألباني في كتاب صفة الصلاة، لم يتحدث عن الأحكام الفقهية, إنما تحدث عن صفة الصلاة, أي كيف يصلي.
أما تفاصيل الأحكام المتعلقة بالصلاة في أمور كثيرة، فإنه لم يؤلف هذا الكتاب لهذا وهو كتاب عملي, ليعرف الإنسان كيف كان الرسول يصلي، فيلتزم بذلك.
والكتاب فيه خير كثير، وهو فريد في بابه، ولا يعني هذا أن كل ما فيه صواب, فلا يوجد كتاب غير القرآن تُكفِّل له بالكمال.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(94/25)
التفريق بين السنة والعادة والجبلة
السؤال
ما هو المحك الحقيقي الذي نستطيع من خلاله أن نفرق بين أعمال المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كان يعملها كسنة، وبين أعماله التي كان يعملها كعادة؟ أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
لا بد في ذلك من الرجوع إلى أقوال أهل العلم, وتحقيقها وتمحيصها؛ لأن بعض الأمثلة يكون مختلف فيها -كما أسلفت- قد يقال: هذا وهذا، فيحتاج الإنسان إلى الرجوع إلى أقوال أهل العلم، وتفصيلاتهم في السنة النبوية, ومعرفة ما فعله عليه الصلاة والسلام على سبيل التشريع، وما فعله بمقتضى الجبلة، وما فعله بمقتضى العادة, إلى غير ذلك من الأقسام المعروفة في كتب الأصول، وفي كتب المصطلح وغيرها.(94/26)
كتاب الغزالي الذي يشنع على الالتزام بالسنة
السؤال
فضيلة الشيخ: تدور اليوم ضجة كبيرة حول الشيخ محمد الغزالي، وكتابه الذي شنع فيه بالتزام السنة أي على اصطلاح المحدثين, وبعضهم يبالغ في القدح فيه, ألا ينبغي أن نحسن الظن به, ونعيب قوله لا ذاته، ونستفيد من الحق الذي يأتي به؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحقيقة الضجة التي أشار إليها الأخ موجودة وقائمة, ويقف خلف الضجة هذه بغض النظر عن مقصد الرجل؛ لأنه ليس لنا كلام في النيات, فالنيات إلى رب العباد, وليس من مصلحتنا الآن أن نتحدث عن مقاصد الخلق، لا الآن ولا غير الآن.
نحن نتحدث عن الأمر الواقع المشاهد فقط, فنقول: إن الكتب التي أصدرها الغزالي وخاصة الكتاب الأخير "السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث" أصبح ورقة رابحة في أيدي أعداء السنة, بل في أيدي أعداء الإسلام في بعض الأحيان, يستغلونه لمآرب ومقاصد أخرى, ربما لم تدر في خلد الشيخ الغزالي، وهو يكتب هذا الكتاب.
فنحن نعرف أناساً مطموس عليهم بالنفاق, وأناساً قد يكونون من العلمانيين, وأناساً ليسوا من المؤيدين أو المعجبين حتى بـ الغزالي نفسه, ومع ذلك يتبنون هذا الكتاب وينشرونه، لماذا؟ لأنه يحقق لهم بعض المصالح, يحقق لهم (20%) مما يريدون, وهم يضربون به الآن في وجه مشايخنا وعلمائنا ومجتهدينا.
وبعد فترة سوف يتخلون عن الغزالي ويصبح الغزالي موضة قديمة عندهم، وينتقلون إلى كاتب آخر, مثل الكاتب المغربي محمد أركون، الذي يشكك حتى في القرآن الكريم وفي مصداقية الإسلام, فالأمور عند بعض هؤلاء تؤخذ بالتدريج.(94/27)
الاهتمام بقراءة كتب السنة
السؤال
هناك من الناس من يقرءون الكتب الفكرية والتربوية، وإذا رأيت صلاته تجده لا يحسنها, وتخفى عليه كثير من السنن في الصلاة, فإذا قلت له: لا بد أن تقرأ كتباً عن الصلاة وعن العبادات, يقول لك: لا بد أن نقرأ عن الواقع اليوم, فما توجيهكم لهذا؟! جزاكم الله خيراً.
الجواب
هؤلاء كما قال الله عز وجل: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] من أسباب العداوة والاختلاف بين المسلمين اليوم، أن كل إنسان يمسك بجانب ويغفل الجوانب الأخرى, وقد ينال ممن يهتمون بها.
فمثل هذا الشاب لا تقل له: اترك الواقع ومعرفة الواقع ومتابعة ما يحدث فيه وما أشبه ذلك, لكن اطلب إليه -بالإضافة إلى ما عنده- أن يهتم بكتب السلف الصالح, التي فيها تصفية للعقيدة وفيها العلم الشرعي الصحيح, وفيها تعليم للإنسان؛ ليلتزم بالسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته وسلوكه, فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وأنت -أيها الأخ- لا تصلي كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, بل لا تدري كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, إنما تصلي كما رأيت أباك وقريبك وجارك يصلي, هذا غير صحيح.
فمن ضمن قراءاتك واهتماماتك اقرأ هذا الكتاب, وتعطيه كتاباً مفيداً ككتاب الألباني، أو الشيخ عبد العزيز بن باز أو رسالة الشيخ محمد بن عثيمين، أو كتاب الهلالي , أو أي كتاب آخر مختصر في الصلاة.
وهكذا تتدرج معه شيئاً فشيئاً؛ لعل الله عز وجل أن يلهمه الاهتمام بهذه الكتب المهمة التي ربما شغله عنها الكتب التي لا تكون من الأهمية بمكان.(94/28)
كبار العلماء يتكلمون عن الدعاة
تحتوي هذه المادة على بيان العناية الإلهية بالصحوة الإسلامية وما هو الواجب على الدعاة تجاهها، ثم بيان كلام العلماء حول أولئك الذين لا همَّ لهم إلا حرب إخوانهم والوقوع في أعراضهم.(95/1)
توفيق الله للصحوة الإسلامية
الحمد الله الذي أمر بالاعتصام بحبله، ونهى عن الفرقة والاختلاف بين أهل الحق، وأوصى بالتعاون والتواصي بالحق والصبر، والصلاة والسلام على رسوله محمد بن عبد الله، الذي آخى بين المهاجرين والأنصار مؤاخاة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وربّى أصحابه على المحبة في الله، والإيثار والتضحية، فكانوا نماذج رائعة لصفاء القلوب ونقاء الصدور.
أما بعد: أيها الأحبة: إن مما تتميز به الصحوة الإسلامية في عصرنا هذا أنها تسري كما يسري النسيم، وتجري كما يجري النهر الصافي المتدفق، تحوطها رعاية الله، وتكلؤها عينه التي لا تنام.(95/2)
الطعن في العلماء وخطره على الصحوة
أيها الأحبة: إن الذي دفعني إلى هذا القول الذي أعلم أنكم تدركونه، إنما هو ما ظهر في الفترة الأخيرة من اتهامات أطلقت في بعض الأشرطة والكتب، وانتشرت في بعض المجالس، وجهت هذه الاتهامات إلى بعض العلماء والأئمة والدعاة إلى الله، الذين نفع الله بعلمهم ودعوتهم، ونحسبهم -والله حسيبهم- من المخلصين والداعين إلى الخير، والبعيدين عن التحزب وضيق النظرة، وقد زكاهم علماؤنا الأجلاء كما ستسمعون بعد قليل.
إن أخشى ما نخشاه -أيها الأحبة- أن يكون لتلك الاتهامات أثرها السلبي على مسيرة الصحوة، مما سيفرح به أعداء هذا الدين في كل مكان وزمان، على أننا لا نغلق باب النصيحة بالحق، بل إن النصيحة واجبة في حق كل مسلم، ولكن بالطريقة المشروعة التي نعرفها جميعاً، خاصة وأن هؤلاء الدعاة الذين تطلق عليهم التهم، يدعون إلى الإسلام، ويحثون الناس على التمسك به، ويعتمدون على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فيما يقولون، وليسوا من أولئك الذين يجاهرون بالمعصية، أو بقول السوء.
وهذا الكلام أوجهه من قلب مخلص محب للجميع، ويعلم الله أنني لا أميل إلى أحد دون أحد إلا بالحق فإن الحق أحق أن يتبع، وإنما دفعني إلى هذا، الحرص على هذه الصحوة، والخوف على صفها من التمزق والتشرذم، والله المطلع على السرائر وهو المستعان.(95/3)
الصحوة الإسلامية مقدمة للوعد الإلهي
إن الصحوة الإسلامية ليست خطة سياسية غربية أو شرقية، ولا قراراً سياسياً أوروبياً أو أمريكياً، فهي لم تخرج بتوصية من هيئة الأمم المتحدة، ولا بأمر من مجلس الأمن الدولي الذي يطيب لي أن أسميه مجلس الخوف، ولا ببيان عسكري من البيت الأبيض، ولا بعقد تجاري من السوق الأوروبية المشتركة، ولا بتصريح باهت من الجامعة العربية، كلا! إن الصحوة الإسلامية مقدمة لا شك في صحتها لذلك الوعد الإلهي بالنصر للمؤمنين الذين يثقون بوعد ربهم، ويسيرون على هدىً من كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإن نهر الصحوة المبارك سيظل متدفقاً -بإذن الله تعالى- مهما بنيت أمامه سدود الباطل، وأنى لسدود بشرية واهية أن ترد قضاء الله وقدره.
هذه -أيها الأحبة- حقيقة يجب على كل مسلم أن يثق بها، وأن يصرف عن ذهنه وقلبه الشك فيها، فإذا غلبه شكه وسيطر عليه ظنه السيئ، فليراجع إيمانه.
وإن من توفيق الله لهذه الصحوة أن هيأ لها عقولاً نيرة، وألْسنة معبِّرة، وقلوباً موقنة، وأذهاناً متوقدة، من دعاة، ومفكرين، ومصلحين، وأدباء، وشعراء، يحملون لواءها، ويبصرون الناس بها، ويصدقون في بيان زيف الباطل وأهله، ويرفعون عن وجوه الماكرين أقنعة الغدر والنفاق، ويهزون بعض القناعات الزائفة التي رسخت في نفوس كثير من المسلمين، كما أن من توفيق الله لهذه الصحوة أن هيأ لها شباباً مؤمناً مجاهداً يبذل روحه رخيصة في سبيل الله، ويعيد إلى الأمة ثقتها بعقيدتها التي تصنع الرجال الأفذاذ، الذين تتكرر على أيديهم مواقف البذل في سبيل الله بذلاً سخياً لا يبخل بشيء في هذه الحياة لا بمال، ولا بولد، ولا بنفس.
فلكم رأينا شاباً عهدنا به لاهياً عابثاً تحول في جبال الهندكوش بأفغانستان، وفي أرض فلسطين، وفي بلاد البوسنة والهرسك أسداً هصوراً، يواجه دبابات الأعداء ومدافعهم وطائراتهم مواجهة الأبطال.
ولكم رأينا فتاة مسلمة كانت الغاية من الحياة عندها أن تلبس فاخر الثياب، وأن تقتني أغلى الجواهر، ثم أصبحت مجاهدة بمالها، تبذل ما لديها في سبيل الله عوناً للمجاهدين ودعماً لهم، كل ذلك -أيها الأحبة- ما كان ليتم لولا أن الله قد رعاه وحفظه، ووفق المسلمين إليه تحقيقاً للوعد بنصر هذا الدين.(95/4)
تحمل مسئولية هذه الصحوة
وإن من أوجب الواجبات على العلماء والدعاة والمصلحين، الذين يحملون مسئولية هذه الصحوة، أن يكونوا على مستوى هذه المسئولية، عملاً دؤوباً وإخلاصاً لله، وتجرداً من أهواء النفوس وحظوظها، ووعياً بالمرحلة التي يعيشونها، وتعاوناً مثمراً لا مكان فيه للفرقة والنزاع، ولا مجال فيه لتغليب هوى النفس الأمارة بالسوء.
إن الصحوة الإسلامية نهر متدفق يحمل على ظهره زوارق الهدى والخير؛ ليصل بها إلى شاطئ الأمان، وإنه لا مكان في هذا النهر الصافي للذين يحاولون تغيير اتجاهه أو سد مجراه، أو تعطيل الزوارق التي تمخر عبابه.
والصحوة أمر قدره الله ليس للجهد البشري فيه إلا الدعم والتوجيه، وتبليغ ما أمر الله بتبليغه، أما المشككون، والمعوقون، والمرجفون، فسوف يلقون خسراناً، وإن الرابح من كان له في هذه المسيرة المباركة يد بيضاء، وعمل صالح مشكور.(95/5)
الحاجة إلى الوعي والتعاون
إن المرحلة التي نعيشها بحاجة إلى وعي، فلا مكان في هذه المرحلة للعقول القاصرة عن الإدراك والتفكير، ولا مقر فيها للقلوب المسكونة بالحيرة والاضطراب.
إن كل عالم وداعية ومصلح، بل وكل مسلم صغير أو كبير مطالب بأن يكون لبنة في البناء، ويداً مضمومة إلى الأيدي المتوضئة، ونفساً مطمئنة باليقين محبة لكل من يدعو إلى الخير ويحث عليه ويسعى إلى نشر الوعي بين الناس.
ولا أظن مسلماً صادقاً في انتمائه لهذا الدين يقف ولو ساعة من نهار في صف أعداء هذه الصحوة، متنكراً لعلمائها ودعاتها مهما تكن المسوغات التي يسوغ بها هذا الوقوف مما قد يلبس به عليه الشيطان لعنه الله.
ليس من منهجنا أن نزكي أحداً على الله، أو نقدس أشخاصاً بأعيانهم -أعوذ بالله من ذلك- ولكن ليس من منهجنا -أيضاً- أن نجرح إخواننا الدعاة الذين وفقهم الله إلى الصدع بكلمة الحق، وجعل لهم عند الناس قبولاً، وننال من أعراضهم، ونغلب سوء الظن فيهم، نعم ليس من منهج المسلم الذي يخاف الله ويرجو رحمته ورضاه، أن يحكم على نيات الناس زوراً وبهتانا، ولا أدري كيف يجيز بعض المسلمين لنفسه هذا، وهو يقرأ ليل نهار آيات القرآن الكريم التي توصي المؤمنين بالتثبت حتى لا يندموا على أحكامهم، كما توصيهم بالاعتصام بحبل الله المتين.(95/6)
سد الثغرات بين أبناء الصحوة
أيها الأحبة: كل مسلم مسئول على الثغرة التي يقف عليها، كل بحسب طاقته وقدرته، وبحسب ما هيأ الله له من المواهب، وإن هذه الحرب الشعواء التي يشنها الغرب الكافر ومن يسير على نهجه من أصحاب المشروع الغربي في العالم الإسلامي، لدليل قاطع على أن الصحوة المباركة قد آتت ثمارها، وأن أهل الباطل يرفعون أسلحتهم الفتاكة ليحموا بها مذاهبهم الفاسدة التي شقيت بها البشرية زمناً طويلا.
وإن هذه الحرب لجديرة بأن نجد من دعاة الإسلام صفاً واحداً كأنه البنيان المرصوص لا مجال فيه للفرقة والعداوة بغير حق، وإني أنادي من أعماق قلبي من يحمل همَّ هذا الدين أن يكون ذا وعي، وألاّ يكون أداة في يد أعداء الصحوة شعر أم لم يشعر.
وإن التشكيك في مقاصد الدعاة والعلماء، والحكم على نياتهم ليس من منهج الإسلام في شيء، والفائز من عرف الطريق ولزمه، وكان عوناً على البر والتقوى، وحقق قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} .
الفائز من كان له وعي قائم على عقيدة صافية، يسلم بها من أن يكون مثل المنافق الذي صور لنا الرسول صلى الله عليه وسلم صورته في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما: {مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع} .(95/7)
كلمة العلامة ابن باز عن الدعاة
والآن -أيها الأحبة- نترككم مع ما قاله علماؤنا الأجلاء حول هذا الموضوع، ونبدأ بسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وإنا لنرجو أن نجد لأقوالهم آذاناً صاغية، وقلوباً واعية.
الواجب على طلبة العلم وعلى أهل العلم معرفة واجب العلماء، والواجب عليهم حسن الظن، وطيب الكلام، والبعد عن سيء الكلام، فالعلماء والدعاة إلى الله جل وعلا حقهم عظيم على المجتمع.
فالواجب أن يساعدوا على مهمتهم بكلام طيب وبأسلوب حسن والظن الصالح الطيب، لا بالعنف والشدة ولا بتتبع الأخطاء وإشاعتها للتنفير من فلان وفلان.
يجب أن يكون طالب العلم ويكون السائل يقصد الخير والفائدة ويسأل عن ما يهمه، وإذا وقع خطأ أو إشكال سأل عنه بالرفق والحكمة والنية الصالحة، حتى يزول الإشكال.
فكل إنسان يخطئ ويصيب، ولا أحد معصوم إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون فيما يبلغون عن ربهم من الشرائع، والصحابة وغيرهم كل واحد قد يخطئ وقد يصيب، والعلماء كلامهم معروف في هذا والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ليس معنى هذا أن الداعية معصوم أو العالم أو المدرس أو الخطيب.
لا.
قد يخطئون فالواجب إذا نبه أن يتنبه، وعلى من يشكل عليه شيء أن يسأل بالكلام الطيب والقصد الصالح حتى تحصل الفائدة ويزول الإشكال من غير أن يقع في عرض فلان أو النيل منه التشهير به.
العلماء هم ورثة الأنبياء، وليس معنى هذا أنهم لا يخطئون أبداً، فهم إن أخطأوا لهم أجر وإن أصابوا لهم أجران إذا طلبوا الحق واجتهدوا في طلبه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيح: {إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران فإن حكم واجتهد فأخطأ فله أجر} .
وإخوتنا الدعاة إلى الله عز وجل في هذه البلاد حقهم على المجتمع أن يساعَدُوا على الخير وأن يحسن بهم الظن، وأن يبين الخطأ بالأسلوب الحسن بقصد الفائدة ليس بقصد التشهير والعيب.
وبعض الناس يكتب نشرات في بعض الدعاة، نشرات خبيثة رديئة لا ينبغي أن يكتبها طالب علم؛ لأنه ظن أنه أخطأ في كلمة، فلا ينبغي هذا الأسلوب، طالب العلم الحريص على الخير عليه أن يتحرى ويسأل عما أشكل عليه بالأسلوب الحسن.
والدعاة ليسوا معصومين سواء كانوا مدرسين أم خطباء أم محاضرين أم في ندوة.
ومن ذلك ما وقع في هذه الأيام ومن قبل أيام على بعض الدعاة، مثل محمد أمان والشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي، والشيخ ربيع بن هادي وغيرهم من الدعاة المعروفين بالعقيدة الطيبة وحسن السيرة ومعروفين أنهم من أهل السنة والجماعة.
فلا ينبغي النيل منهم في شيء وإن ظن طالب العلم أن أحدهم أخطأ أو ظهر له أنه أخطأ، فلا ينبغي أن يشهر بذلك أو يسيء الظن، بل يدعو له بالتوفيق ويدعو له بالهداية، ويسأل فيما أشكل حتى يزول الإشكال بالدليل المعول عليه، قال الله وقال الرسول، ويقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] .
فالواجب على العلماء وطلبة العلم الحلم والحكمة وطلب الحق بالدليل لا بالشدة ولا بالأسلوب غير المناسب، ولكن بالكلام الطيب والأسلوب الحسن وحسن الظن، فالخطأ يزول بالمراجعة والتماس الدليل، يزول الخطأ ويأتي مكانه الحق والصواب، والله يقول: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر:1-3] ، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] .
فالتواصي بالحق والبر والتقوى يوضح الحق بالدليل وبالأسلوب الحسن والرفق وحسن الظن وبقاء المودة والمحبة، وأن الدعاة إخوان، والعلماء إخوان، وهم دعاة هدى ومن أهل السنة والجماعة، فيجب على طالب العلم إذا أشكل عليه شيء أن يسأل بالأسلوب الحسن من غير تشويش حتى تتم الفائدة.
والواجب كذلك على طلبة العلم والمؤمنين والمؤمنات هو طلب العلم بالدليل، والأسلوب الحسن، والنية الصالحة وليس بالأساليب التي تنفر ولا تفيد، وربما زرعت الشحناء والعداوة، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] وهذا مطلوب حتى مع اليهود والنصارى.
نسأل الله أن يوفق علماءنا وجميع دعاتنا وجميع المسلمين إلى الفقه في الدين والبصيرة والأسلوب الحسن، ونسأل الله أن يوفق طلبة العلم وجميع المسلمين بحسن السؤال والنية الصالحة حتى يستفيد الجميع ويتضح الحق بالدليل، وحتى تدوم المودة والمحبة والتعاون على البر والتقوى، وتزول الشحناء والتنافر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(95/8)
العالم يخطئ ويصيب
السؤال
يقول حسن البنا في مجموع الرسائل: الدعاء إذا قرن بالتوسل بأحد من خلقه خلاف فرعي وليس من مسائل العقيدة؟ ما حكم هذا القول؟ وما قولكم لمن يقول إنه إمام ومجدد ويمدحونه على المنابر؟
الجواب
هذا خطأ وأن الوسائل تكون شرعية، والدعاء من الوسائل الشرعية بالتوسل بأسمائه وصفاته والأعمال الصالحات، أما التوسل بجاه فلان أو بحق فلان، فلا شك أنها مسألة خلاف، لكن الصواب أنها لا تجوز بجاه فلان أو بحق فلان، والشيخ حسن البنا وغيره له كلام طيب وعمل طيب، ولهم أشياء أخطأوا فيها يغفر الله لنا ولهم، والإنسان يؤخذ من كلامه الطيب ويترك الخطأ ويكون مجدداً في بعض ما أصاب فيه، وليس معنى أنه مجدد أنه لا يخطئ، المجدد قد يصيب حيناً ويخطئ حيناً.
فالمجدد يدعو إلى الإسلام، إلى توحيد الله، إلى ما قال الله ورسوله، والمهم أن يكون هدفه الحق، وإذا كان الداعية قد مات وكتبه موجودة يبين الصواب والخطأ، وما أصاب فيه قبل وما أخطأ فيه رد مثل بقية العلماء الماضين كتبهم موجودة يبين منها الصواب والخطأ، وما أصاب فيه قبل وما وافق الحق قبلناه، وما خالف الحق ردوه مع الترحم عليهم ما داموا من أهل السنة والجماعة والتوحيد، وما أصابوا فيه لهم أجران وما أخطأوا لهم أجر واحد، وخطؤهم مغفور، إذا اجتهدوا وقصدوا الحق رحمهم الله.(95/9)
إتلاف الأشرطة القادحة في العلماء
السؤال
سمعنا شريطاً لبعض الأشخاص يصف فيه أحد الدعاة أمثال الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي وغيرهما من طلبة العلم وأمثالهما يصفهم بأنهم ضلال ودعاة بدعة وأنهم أضل من مبتدعة العصور الماضية، ويحذر من سماع أشرطتهم والاغترار بكلامهم، فما رأيكم في مثل هذا الكلام أثابكم الله؟
الجواب
هذا غلط فلا ينبغي أن يسمع هذا الشريط ينبغي أن يتلف هذا الشريط، مثل هذا لا ينبغي أن يسمع ولا يتكلم فيه ولا ينشر عنه شيء -الله يهدي الجميع- هذا الذي أشرنا إليه أن الواجب هو الكلام الطيب وعدم إشاعة الفاحشة والكلام السيئ والتنابز بالألقاب وغيبة الناس من غير حق، ولا يوالي في هواه ويعادي في هواه -نسأل الله أن يهدي الجميع-.(95/10)
نصيحة لمن يروج الوسائل الإعلامية ضد العلماء
السؤال
يا شيخ! الله يغفر لك، الآن مما يؤسف له وكما سمعت أن أكثر أبناء هذه الطوائف المنحرفين من الصوفية والرافضة وغيرهم ما أذكر واحداً من تلاميذهم انتقد عالماً من علمائهم، وللأسف الشديد اليوم علماء المسلمين الأخيار -كما ذكرت أسماءهم- يروجون ضدهم الصحف والمجلات والأشرطة، هؤلاء المروجون ألا يؤخذ على أيديهم ويوقفون عند حدودهم؟
الجواب
الله يهديهم ويهدي الجميع ويعين عليهم ويوفقهم ويصلحهم.(95/11)
طريقة نصح العلماء
السؤال
هل يجوز ذكر أسماء الدعاة إذا أخطأوا في مسائل للرد عليهم بأشرطة، وما هو أسلوب الرد، هل هو التكلم فيهم وإخبار الناس عنهم ليحذروهم وكتبهم أم لا؟
الجواب
إذا وجد خطأ يبين بالدليل مع الدعاء لهم بالتوفيق وأن يسدد خطاهم، فيقال هذه الكلمة خطأ، والدليل هو كذا، ولعله غفل عن هذا الشيء ويتبين منه حتى يبين، ويسأل أهل العلم، يتفاهم مع صاحب الشريط لا بالعنف والشدة والتشهير وأن فلاناً لا يصلح أن يؤخذ منه العلم، لا، بل يبين له خطؤه مع بيان أنه من أهل العلم، ويؤخذ ما بيَّنه للناس إلا ما دل الدليل على خلافه فقد أخطأ مالك، وأحمد والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي؛ ولهم أخطاء معلومة وما منع الناس ليأخذوا منهم علمهم الذي أصابوا فيه، وما من عالم إلا وله أخطاء وأشياء رجع فيها إلى الصواب.(95/12)
نصيحة لمن يوزع الأشرطة ضد الشيخ سلمان العودة
السؤال
ما نصيحتكم لمن يوزع الأشرطة ضد الشيخ سلمان العودة في بيت الله الحرام، علماً أنه موجود الآن في المسجد؟
الجواب
لا يجوز، يجب التعاون في باب الخير وترك الشر مع الشيخ سلمان، والشيخ سفر، والشيخ الطريري، ومع الشيخ ربيع، ومحمد أمان الجامي، وجميع الدعاة وجميع العلماء يجب التعاون معهم في الخير والإعانة لهم في الخير والدعاء لهم بالتوفيق والتسديد، وإن حصل شيء في محاضرة للشيخ سفر أو الشيخ سلمان أو الشيخ ربيع أو الشيخ الفوزان أو الشيخ: محمد أمان أو لي أو لغيري يسأل عما أشكل عليه بالأسلوب الحسن وليس بالشدة وسوء الظن، وهم يلزمهم أن يوضحوا، ويبينوا بالأدلة التي لديهم، والحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، وكتاب الله هو المرجع وفيه الكفاية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فلا يجوز التعصب لا لزيد ولا لعمرو، يجب على طلبة العلم والعلماء الإنصاف وألا ينفروا من فلان أو فلان، عليهم أن ينفروا مما حرم الله من المعاصي والزنى والغيبة والنميمة والربا، ومن ترك الصلاة، ومن ترك صلاة الجماعة ومن جميع المعاصي.
أما العلماء والدعاة إذا أشكل عليهم أن يسأل المحاضر عما أشكل عليه وماذا قصد الشيخ سلمان أو ربيع أو الفوزان أو ابن باز، ولكن بقصد طيب وليس بقصد المراء والجدل.(95/13)
كلمة الشيخ الجبرين عن الدعاة
السؤال
نتوجه بسؤال إلى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين لنستفيد من علمه، وهو سؤال يهم كثير من شباب الصحوة هذه الأيام: وهو ما أشيع عن بعض الدعاة إلى الله عز وجل وقد اتهموا بمعتقدهم وضربت أقوالهم بعضها ببعض، بل ضربت أقوالهم بأقوال كبار العلماء، وجعل ذلك في أشرطة وألفت في ذلك مؤلفات كثيرة تتكلم عن هؤلاء الدعاة، ولا يُدرى ما المقصود من ذلك، ولعله عن حسن قصد ولكنها بلا شك فتنة، فنطلب من الشيخ حفظه الله أن يوجهنا ويعطينا ما يراه مناسباً في مثل هذا الأمر، وما هو موقف الشباب من مثل هذه الأمور التي تثار وجزاك الله خيرا؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
واجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوته المسلمين، وأن يحملهم على المحامل الحسنة، وأن ينشر محاسنهم وآثارهم الطيبة، ويكون من آثار ذلك: محبتهم والدعاء لهم، وذكرهم بذكرى حسنة، لا سيما وقد عُرفت آثارهم، وقد لُمست الفوائد منهم، وقد عُرفوا بحسن المعتقد، وسلامة الفطرة، ونفعهم الله ونفع بهم في هذه البلاد، وفي هذه المناطق أظهر الله علماء من هذه الأمة، ومن أتباع أئمة الدعوة، ومن أتباع الأئمة الأربعة، ومن أتباع السلف الصالح، يعتقدون عقيدة صالحة، يعتقدون معتقد السلف، موحدين لله تعالى، عابدين له، لا يعرفون ولا يدعون إلى بدعة، ولا إلى شرك، ولا إلى منكر، بل قيض الله في هذا الزمان هؤلاء الدعاة الذين نفعهم الله بما فتح عليهم من العلوم، ومن الأفهام، ومن المعارف، ورزقهم الأساليب الحسنة، الأساليب الصحيحة التي يعبرون بها عن المعاني أحسن تعبير، فينفعهم الله بما فتح عليهم من العلم، وينفع بهم عباده الصالحين.
ففي القصيم الشيخ سلمان بن فهد العودة ظهر في هذه السنوات الأخيرة ورزقه الله علماً وفهماً وهو من أئمة الدعوة، ومن الدعاة إلى الله تعالى، وفي الحجاز الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي هو أيضاً من أهل التوحيد، ومن أهل العقيدة السليمة، ومن المتبعين للسلف الصالح، وكذلك في المنطقة الجنوبية عائض بن عبد الله القرني هو أيضاً من الدعاة إلى الله تعالى، ومن القائمين بحقوقه وحدوده، وفي الرياض وإن كان أصلاً من القصيم الشيخ ناصر بن سليمان العمر، وكذلك غيرهم من أئمة الدعوة، ومن حملة العلم الصحيح السليم، هؤلاء من أهل العلم الشرعي، ومن أهل العلم الصحيح، لا شك أنهم -إن شاء الله- من المخلصين لله، والدعاة إليه، كذلك أيضاً ليسوا بمبتدعة، وليسوا بأهل لأن يُظن بهم بدعة سيئة، أو عمل سيئ، أو دعوة إلى سيئة، كذلك أيضا هم على عقيدة السلف الصالح من الأئمة الأربعة، ومن بعدهم، وعلى عقيدة دعاة الإسلام في كل مكان، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله.
كذلك -أيضاً- قد رزقهم الله مع العلم حسن عبارة، وحسن تعبير، وسلاسةً في صياغة الكلام، ومقدرة على البيان والبلاغة، وإعطاء المقام حقه حتى يستوفوا المقام، فهم تطرقوا في محاضراتهم وندواتهم ومؤلفاتهم ومجتمعاتهم، إلى العلوم الواقعية التي وقع فيها كثير من الناس في هذه الأزمنة، فنبهوا على المعاصي، وبينوا كيف علاجها، ونبهوا على الشركيات، وبينوا موضع إنكارها، ونبهوا على الكفر والكفرة من اليهود، والنصارى، والمشركين، والبوذيين، وسائر الكفرة، وبينوا خطرهم، وبينوا آثارهم السيئة، وبينوا كيف الحذر منهم، وكيف سبيل التوقي من شرورهم، وكذلك نصحوا للأمة، ونصحوا للأئمة، وحذروهم من الوقوع في الأسباب التي توقع في الهلاك، وتسبب عموم العقاب، ونزول العذاب.
كل ذلك حملهم عليه نصحهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم للنجاة ولسبل النجاة، وكذلك محبتهم لأن يظهر الإسلام، وأن يظهر المسلمون، فلا شك أنهم بهذا مجاهدون، فلا جرم نشر الله لهم سمعة حسنة، وانتشرت أشرطتهم ومؤلفاتهم في خارج البلاد، في أبعد البلاد وأقربها، حتى وصلت إلى دول أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، فضلاً عن الدول العربية، فهناك لهم ذكر حسنٌ وهناك لهم شهرةٌ فيما بين الأمة، هذا من آثار إخلاصهم، ونصائحهم أثابهم الله.
لم يكن يعرف عنهم دعوة إلى أية بدعة من البدع التي يدعو إليها من يدعو إلى البدع أبداً، ومعروف أيضاً أنهم يحترمون إخوانهم من العلماء، فيحترمون مشايخهم وكبار العلماء، يحترمون سماحة شيخنا الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وكذلك المشايخ الآخرين الذين هم كبار العلماء، وقضاة المحاكم، كلهم يعدونهم لهم إخوة، ويعترفون بفضلهم، ويتبادلون معهم السلام، وكذلك أيضاً هؤلاء القضاة وكبار العلماء، يعترفون أيضاً بفضلهم وبعلمهم ويحبونهم، ويمكنونهم من المحاضرات والدعوة، يدعون الله لهم، فليس بينهم وبين هؤلاء العلماء أية منافسة ولا غيرها، وهذا يعرفه ويشهده من تتبع أخبارهم، فنراهم يجلسون مع الدعاة الذين هم دعاة إلى الله في المدينة، وكذلك في الرياض، وفي الحجاز، وفي القصيم، وفي الجنوب، وفي المنطقة الشرقية، الدعاة إلى الله المشهورين بالدعوة كلهم يجتمعون مع هؤلاء، ويشجعونهم، ويحثونهم على المواصلة في العمل، ويفرحون بنشاطهم وبقوتهم، ولا ينكرون عليهم شيئاً مما يقوله أعداؤهم الذين يشنعون عليهم.
هذا بلا شك شيءٌ ظاهرٌ، فإذا سبرنا أقوالهم، وتتبعنا كتبهم ومؤلفاتهم، وجدناها مليئة بالنصح، والمواعظ، والإرشارات، ووجدناهم يحذرون من المنكرات، والبدع، والمعاصي، ووجدنا التأثر بها محسوسا، وملموساً، فلا يلتفت بعد ذلك إلى من عابهم، أو طعن فيهم بشيء لا حقيقة له.
كذلك نحن نقول: إن كل من أظهره الله ورزقه علماً، وفهماً، فلا بد أن يبتلى بحسود، لا بد أن يكون له أعداء يحسدونه، فكم وقع من الحسدة في الأزمنة المتقدمة، فإمامنا أحمد بن حنبل رحمه الله قد تصدى له الحسدة، ووشوا به حتى أُدخل على الخليفة المعتصم، وحُبس مدة طويلة، وجُلد لمَّا أن وشى به هؤلاء وقالوا: إنه كافر وإنه فاجر، وأشاروا على الخليفة بأن يقتله حتى قال أحد أعدائه: ابن أبي دؤاد: اقتله وإثمه علي، وأوذي وحبس، وما ذاك إلا لأجل إخلاصه ولأجل صدقه في تمسكه بالسنة.
وكذلك الشيخ ابن تيمية رحمه الله لما صدع بالحق وأظهر السنة ونصرها، وأعلن القول بها، حسده أعداؤه لمّا رأوا شهرته، ومحبة الناس له، وإقبالهم على تعظيمه وسرورهم بمقالاته، قالوا: هذا يمكن أن يستأثر بالناس، وأن يصرفهم عنا، وأن لا يبقى لنا مقال، لماذا لا نوشي به، ونشتكيه، ونطعن فيه؟ فطعنوا في عقيدته عند الخلفاء والسلاطين، ورفع إلى السلطان، وحبس في مصر، وأوذي وبقي في الحبس أكثر من أربع سنين أو خمس سنين، ربما سنتان متواليتان، كذلك أيضاً حبس في آخر حياته في دمشق أكثر من سنتين، بل مات وهو سجين، ولكن ذلك لم ينقص من قدره في قلوب الأمة، بل لما توفي، ارتجفت البلاد من المصيبة، واجتمعت الناس للصلاة عليه حتى حضر أكثر من ستين ألفاً يريدون الصلاة عليه، أو ربما أكثر من مائة ألف، الحاصل أن جميع أهل دمشق كلهم توافدوا وما ذاك إلا لمحبته التي في القلوب، وذلك مما ساء أعداءه، ومما أضر بهم، ولم يحملهم إلا الحسد، وفيهم يقول الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً وإنه لذميم ولكن ذلك لم يزده إلا تصلباً، لم يضره حسدهم، بل حسدهم صار ضرراً عليهم، فانصرف الناس عنهم، وزهدوا في علومهم، ونفع الله بعلمه، وبمؤلفاته، وبقيت إلى هذا اليوم معتنى بها، وماتت أكثر أخبارهم، وأكثر مؤلفات أهل زمانه كـ الزملكاني، وابن مخلوف، والسبكي، وأشباههم من الذين نصبوا العداوة لـ شيخ الإسلام، وصدق فيهم ما روي عن الأصمعي أنه قال: إن الحسد داء منصف يعمل في الحسود -أي: يعمل في الحاسد- أكثر مما يعمل في المحسود.
فنقول: الحاسد لا يضر إلا نفسه، والمحسود عليه أن يصبر، فيتضرر الحاسد بصبره، ويتقلب على فراشه حقداً وغيظاً مما يرى في أخيه، يتمنى زوال هذه النعمة التي فيه، فنقول للمحسود: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ماتأكله نقول لهؤلاء الذين حسدوهم ووشوا بهم وتتبعوا أغلاطاً لهم، وجعلوا الحبة قبة، وأخذوا من كلماتهم أو من أشرطتهم مقتطعات لم يأخذوا الذي قبلها والذي بعدها الذي يوضحها، فعلقوا عليها تعليقات يوهمون أنهم يبغضون الحديث، ويبغضون السنة، ويبغضون الشريعة، وأنهم دعاة ضلال، ودعاة سوء، وأنهم مفسدون في الأرض، وهذا شأن الحسدة أنهم يأخذون كلمة ويقطعونها عما قبلها، فهم كالذي يقطع الاستثناء عن المستثنى لو أن إنسان قرأ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] وسكت لعد ظالماً حتى يأتي بقوله {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] .
فهؤلاء يأخذون مقطعاً أو كلمة متعلقة بما قبلها وما بعدها، ثم يقولون هذه الكلمة تدل على كفر، وتدل على ضلالة، ولو أنهم أضافوها إلى ما سيقت له لاتضح المراد، ولو أيضاً تتبعوا الكلمات الأخرى والمحاضرات الأخرى، لوجدوا هؤلاء المشايخ ناصحين مخلصين، دالين الأمة على ما فيه خير، وعلى ما نفع الله به الأمة، ففرق بينهم وبين هؤلاء المغرضين، الذين يتتبعون السقطات واللقطات والهفوات، والذين يحسدون إخوتهم على ما أنعم الله به عليهم من الشهرة والمكانة في الأمة، فلا شك أن هذا ظلم كبير.
فنحن نقول لهؤلاء: فرق بينكم وبينهم، أيّ قياس يحصل بين الاثنين بين من ينصحون المسلمين ويوجهونهم ويدلونهم ويرشدونهم، وبين من لم يظهر منهم أي أثر، ولا أي نفع، بل صار ضررهم أكثر من نفعهم، حيث صرفوا جماهير وأئمة وجماعات، عن هؤلاء الأخيار، وأوقعوا في قلوبهم حقداً للعلماء، ووشوا بينهم، ونشروا الفساد، ونشروا السوء، وأفسدوا ذات البين، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن فساد ذات البين هي الحالقة} .
فهؤلاء لم يظهر لهم أثر، فنحن نسألهم ونقول لهم: أ(95/14)
كلام الشيخ ابن عثيمين عن الدعاة
والآن مع ما قاله فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رداً على سؤال حول هذا الموضوع.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أما بعد: هذا السؤال موجه إلى سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
السؤال
يا شيخ! هناك بعض طلبة العلم الذين عادوا من المدينة وغيرها، بدءوا في تحذير الشباب من عدة مشايخ وهم سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر وعائض القرني بأن منهج هؤلاء مخالف لمنهج السلف الصالح، وعلى طلبة العلم أن لا يستمعوا إلى أشرطتهم، وإذا أرادوا أن يحيلوا إلى السبب في هذا الأمر أحالوهم إلى مشايخ المدينة، ولم يحيلوهم إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله فما رأيك يا شيخ؟!
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم أرى أن مثل هذا العمل عمل منكر، وأنه لا يجوز للناس أن يفرقوا بين العلماء بدون حق، وما ذكر عن المشايخ الذين تقدم السائل بذكر أسمائهم، فأنا لا أعلم عليهم إلا خيراً، وهم من إخواننا الذين لا نسيء الظن بهم، ونرى أن من ذمهم فإن الواجب عليه أن يتق الله عز وجل وأن ينظر في الأمر الذي ذمهم من أجله، وأن يتبصر فيما يقولون، وفيما يدعون إليه، فإن كان حقاً فهذا هو المطلوب، وإن كان خطأ فقد يكون الخطأ عنده لا عندهم، فليتكلم معهم ويبحث معهم، ثم الحق ضالة المؤمن أينما كان.(95/15)
كلام الشيخ الألباني عن الدعاة
والآن مع كلمة فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: الشاهد أنني أفرق بين محمد بن سرور وبين بعض الأفراد كـ سلمان وسفر هؤلاء من الشباب الناشئين في الدعوة السلفية، وأنهم معنا في العقيدة وفي المنهج، لكن قد يكون خالطهم شيء من سياسة الإخوان المسلمين.
أنا أقول: قد يكون لأن الحقيقة أنني ما التقيت بهم إطلاقاً مع كثرة ترددي إلى السعودية حجاً وعمرة، لكن الظاهر أنهم ما كانوا نبغوا هذا النبوغ الذي ظهر أخيراً منهم، وإن كان زارني منذ أقل من سنة أحد هؤلاء الذين ينهجون منهج الجماعة هؤلاء وهو ناصر العمر فزارني هنا والتقيت به، وجرى نقاش بيني وبينه حول كتيب صغير له اسمه، فقه الواقع والحقيقة أنني أيضاً سررت منه؛ لأنه أشعرني بأنه فعلاً معنا على الخط، أي ليس عنده تحزب، وليس عنده تعصب، فقد تراجع عن غير قليل من الأمور التي ذكرها في كتابه هذا فقه الواقع، ووعد بإعادة النظر في قضايا أخرى، أسرني هذا جداً منه، وشعرت بأنه فعلاً معنا على الخط، أما سفر فما التقيت به، كذلك سلمان، لكن سلمان من قبل كان أرسل لي خطاباً قصيراً جداً، يظهر في هذه الرسالة الصغيرة عواطفه تجاه الألباني وعلمه ودعوته إلى آخره وهذا ما لا يمكن أن أسمعه من الإخوان المسلمين مستحيل! بعد ذلك اتصل بي هاتفياً أكثر من نصف ساعة وهو يتكلم، وأيضاً يؤكد ما كان أوجزه في تلك الرسالة، ثم أرسل إلي خطاباً مسجلاً على الورق وأظهر شيئاً لا أعرفه من غيره حتى من إخواننا السلفيين قال: انظر أي مسألة أنت تراها في كتبي لك نقد عليها، أو اعتراض أو تصحيح، فأنا مستعد أن أنشر كل شيء تعدله وتصححه وتغيره، إلى آخره، هذا يدل على نفسية عظيمة جداً من حيث أنه تقبل الحق من الآخرين، ويتمنى بحرارة أن تزول بعض الأحوال القائمة هناك، حتى يسارع إلى زيارتي.
خلاصة القول: أنا أعتقد أن إخواننا الذين نجلس معهم دائماً يعرفون رأيي هذا منذ أول ما بدأنا نطلع على بعض رسائلهم، أن هؤلاء الإخوان مثل سلمان وسفر ونحوهم هم معنا على الخط السلفي لا شك ولا ريب في ذلك، لكن هناك ملاحظتان فقط: إحداهما سبقت الإشارة إليها وهي أنهم قد يكونوا متأثرين بأسلوب دعوة الإخوان المسلمين إلى حد ما.
الشيء الثاني: أنهم ناشئون فيما يتعلق بالعلم من الكتاب والسنة، ليسوا متمرسين فيهما، فقد يبدو خاصة من سلمان بعض كلمات أعتبرها أنها بسبب التسرع في تبني رأي ما، دون عرض هذا الرأي لبساط البحث والمناقشة، لكن هذا كله لا يخرجه عن الدعوة التي نحن نلتقي معهم ويلتقون معنا، وأسفت جداً حينما بلغني ثم اتصل بي أحد الإخوان السلفيين هناك، وزارنا هنا وكان بعض إخواننا الجالسين حاضر، وإذا بجماعة السلفيين فيالحجاز، وربما أكثر من الحجاز انقسمت إلى طائفتين كما حصل هناك في أبو ظبي، ونصحنا الجماعة الذين هم معنا بعدم الاشتغال بالسياسة لكنهم يحملون حملات شعواء جداً على سلمان وعلى سفر، ويظنون فيهم ظن السوء، وجرى نقاش بيني وبين هؤلاء الذين يظنون هذا الظن، وأنكرت عليهم أشد الإنكار وأن هذا لا يجوز، ويجب أن نتحمل إذا وجدنا من بعضهم رأياً مخالفاً لما هو المعروف عندنا كجماعة -مثلاً- فالدعوة السلفية لا تعرف التعصب لشخص معين، أو لرأي معين، إنما الحجة والبرهان والدليل، فهذا الذي أنا وصلت إليه إلى الآن، قبل أن أتصل بالشخصين المذكورين شخصياً فهم معنا في الدعوة، لكن قد يكون لهم اطلاع في بعض الجوانب لا يشاركهم الإخوان الآخرون فيها، وقد يكون لهم بعض الاجتهادات في بعض المسائل الفرعية، تكون موضع نظر، وقد يكون الصواب معهم أو مع غيرهم، فما ينبغي أن يكون مثل هذا الاختلاف في بعض الجزئيات سبباً للفرقة، ونحن نعلم جميعاً أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم بنص القرآن الكريم كانوا خير أمة أخرجت للناس، ومع ذلك كانوا مختلفين في بعض المسائل التي لو وقع مثلها اليوم لتصدع الصف بسبب هذا التعصب، وعدم الرجوع إلى القواعد والأصول، هذا ما عندي حول هذا الموضوع.
السؤال
فضيلة الشيخ ما وصيتك للإخوة السلفيين الذين يزعجون، أو يؤذون، بأن يقال عنهم بأنهم سروريون وهم ليسوا سروريين، ربما قرءوا مجلة السنة واستمعوا إلى أشرطة بعض الإخوة ثم يتكلم عنهم في المجالس بأنهم سروريون، فاعتزلوهم وتركوهم، فما وصيتك لهؤلاء الذين يقال عنهم هذا؟
الجواب
أولا: أظن أنه يفهم شيء من جواب هذا السؤال مما سبق، سرور كشخص وله تلك المجلة، لكن لم نطلع على منهجه وعقيدته بقدر ما اطلعنا على دعوته السياسية، ولذلك فلا يجوز أن ننسب إخواننا هؤلاء الذين يشتركون معنا في الدعوة إلى الكتاب والسنة والتوحيد ومحاربة البدع، هذا الجانب لا نعرفه من سرور، لو كان العكس لكان أقرب، لو نسب سرور إلى هؤلاء كان مقبولاً، لأن سرور لا نعرف عنه شيئاً من هذا العلم الذي نعرفه عن هؤلاء.
ولذلك فأنا أنصح إخواننا هؤلاء الذين يتسرعون في نسب من هم معنا في الدعوة السلفية كـ سلمان وسفر إلى شخص لا نعرف ما هي حقيقة دعوته، نحن نتمنى أن تكون دعوته هي الدعوة السلفية، بل أن تكون دعوته دعوة سلمان ودعوة سفر، وإن كنّا قد ألمحنا آنفا أنه قد نأخذ عليهم بعض الأشياء الطفيفة التي لا يمكن أن ينجو منها صحابيان، أي: يكون بينهم شيء من الخلاف، هذا لا ينبغي أولاً أن يكون سبب التباعد وسبب التباغض وسبب التنافر، والتفرق كما في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] .
ونعلم قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فهؤلاء إخواننا الذين يتهمون هؤلاء الإخوان السلفيين بأنهم سروريون نقول لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
أولاً: سوف لا يستطيعون أن يقدموا دعوة سرور ما هي، فإذاً هم يتهمون هؤلاء الذين عرفوا بدعوتهم بدعوة إنسان لم تعرف دعوته ما هي؟ فتشملهم تلك النصوص التي ذكرتها آنفا من القرآن، ثم يأتي أخيراً قوله عليه الصلاة والسلام: {كفى المرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع} .
ولذلك فأنا أذكر كل إخواننا السلفيين في كل بلاد الدنيا الذين هم معنا على أصول الدعوة السلفية وفروعها، ومنها ألا ننقل خبراً إلا بعد أن نتثبت منه، فاتهام هؤلاء بأنهم سروريون هذا خطأ بينٌ وواضح، ثم هو مفرق للصف فلا يجوز؛ هذا ما عندي.
السؤال: ماذا توصي أولئك الذين يتهمون -مثلاً- شباب سلفيون بأنهم سروريين لكنهم حتى الآن نوصيهم بالهدوء، ونوصيهم بالتزاور؟ الجواب: بلا شك في هذا لا ينبغي أن يهتموا بما قد يبلغهم من نسبة هم يعلمون من أنفسهم أنهم ليسوا منتسبين إليها، ونوصيهم بالصبر من جهة، كما نوصي الطرفين باستعمال الحكمة كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فالصبر هو أساس النجاة في كل أمور الحياة.(95/16)
كلام الشيخ عبد الله بن قعود عن الدعاة
السؤال
كثيراً ما نسمع عن بعض طلبة العلم التحذير من أشخاص معينين من أهل العلم والدعوة بحجة فساد في عقيدتهم، كما يزعمون أو بحجة أنهم من فئة كذا، أو أنهم يخوضون في السياسة ويستغلون منا برهم للسياسة، فما رأي فضيلتكم في هذا ونرجو النصح والإرشاد في هذه المسألة؟
الجواب
أعوذ بالله! أعوذ بالله! أعوذ بالله! {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] هذه دعوة المسلم نسأل الله -جل وعلا- ألاَّ يجعل في قلوبنا غلا، وأن يجعل فيها محبة لأولياء الله، وبغضاً لأعداء الله، لا أن تنعكس القضية فيكون في قلبه بغض لأولياء الله، ومحبة لأعداء الله.
أكرر القول والتذكير بقول الله: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] فهؤلاء النوع الذين حُذِّر منهم أليسوا مؤمنين؟ أليسوا دعاة؟ أليسوا أئمة مساجد؟ ونتحفظ عن الأسماء، أليسوا أصحاب حلق وما إلى ذلكم؟! متى وجد أن المسلمين بعضهم يحذر من بعض؟! يا إخواني! حذرونا من المبتدعة الابتداع الواضح، حذرونا من الطغاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله! حذرونا من الذين ظلموا عباد الله في كل مكان! لكن تحذروا شباب الإسلام من أن يستمعوا لدعاة الإسلام؟! على كل حال مثل هذا المقال لا يجوز أن يصدر من مؤمن مهما كان مستواه العلمي، لا يجوز أن يصدر من داعية، وإن صدر منه فلا شك أنه أحد رجلين، أو من أحد القسمين الذين ذكرت: إما أن يكون اشتبه الأمر عليه وتسلط شيطانه عليه وجاءه باجتهادات، وآراء أيضاً خاطئة، ولا صلة لهم بالأمور الأخرى، أو أن يكون بوقاً من الأبواق التي تخدم في الباطل باسم الدين وباسم التحرير، وليس هذا بغريب، يا إخوة ليس هذا غريب أذكر أني قد قرأت تقريراً، هذا التقرير نقلته مجلة الندوة أو مجلة المدينة قبل عشرين سنة، وهذا التقرير أيام فتنة جمال، تسلط جمال عبد الناصر على الإخوان، قالت: إنه اختص بها وأنها حظيت به فهو سري معد من رئيس استخبارات مصرية -مع الأسف- في الوقت الذي يعادون اليهود فيه، واستخبارات أمريكية، واستخبارات يهودية، التقرير استعرض وضع الإخوان.
ومن النقط التي علقت بذهني نقطتان: نقطة في العرض منه، ونقطة في الحلول التي وضعوها، التي في العرض قالوا: وهم يستعرضون الإخوان: إن المتدينين من الناس لهم من غيرهم رصيد لهم هذا صحيح، يعني مهما كان في مسلم من نقص فأخوه المسلم يحس بإحساسه، {المسلم أخو المسلم} بقطع النظر عن الانتظام أو عدم الانتظام، إنما المؤمنون أخوة، فكأن البقية أرصدة لهم، معناه إذا وجد شيء، سيكون المتدينون أرصدة لهم.
النقطة في الحل: الثاني: قالوا: "يجب أن يسلط عليهم من بينهم من يشكك بعضهم في بعض" مثال يقال: ملتحون لو جاء بينكم كعشرة في رحلة حليق أو ناقص أو غيره ممكن تتيحون له الفرصة، لا لكن يأتي واحد من بينهم ومن نفس النوع يشكك بعضهم في بعض، وهذا التقرير محمول من قبل اثنين وعشرين سنة، من خصوم مسلمين بقطع النظر عن مستواهم، لكن ما خرجوا من الملة، الآن نجد آثاره وإن لم نقرأ أو نحدد أن فيه تسلطاً على المسلمين بعضهم من بعض، ولا نقول هذا معناه أننا لا نلمس، نحن نلمس ذلك ونقرأ ونعرف أن الكثير من المداخلين للشباب، وللملتزمين أن من بينهم من يطرح الشيء ليشككهم في هذا الأمر، وليغريهم في هذا الأمر، وحسبنا قريباً ما حصل -وبالأخص مع الأسف- عندنا في الرياض فتنة عمياء -نحمد الله سبحانه وتعالى أن وقى الله المسلمين شرها- تخويف وتقليل من شأن العلماء إلى حد أن عدداً منهم في بيان ما استثنوا من العلماء إلا اثنين في مقدمة من استثنوا، ابن باز، وابن جبرين، وعدد معهم آخر، فعلى كل حال: أنا أعتقد أن مثل هذا يعتبر تسلطاً من الدعاة على الدعاة، ومن المتعلمين على المتعلمين، ومن السلف وممن ينتمي إلى السلفية -أنا لا أقطع بسلفية بعض الناس يقول: هو منتمي إلى السلفية- على من لم ينتم لها، ولا شك أن مما يجعلنا نقسو ونقول هذا القول أنني سمعت شريطاً لأحدهم يقول: فلان سلفي الظاهر مبتدع الباطن! أنا سمعت هذا بأذني، وكلكم قد يكون سمعه، فبالله هل الأنبياء إدعو مثل هذا، هل يوجد نبي ادعى أنه يعلم الغيب، أو حكم على الناس على بواطنهم، عمر -رضي الله تعالى عنه- يقول: [[الناس يؤاخذون في وقت الوحي بالوحي، أما الآن فيؤاخذون بما يظهر لنا منهم]] يعني فلان سلفي الظاهر مبتدع الباطن! هل هذا من العدل؟ أليس هذا والله أعلم منبعث من سوء نية؟ ومن تسلط؟! إن قلنا: أنه ليس سوء نية ولا تسلط، معناه اجتهاد أعمى، أقل أحواله أنه يدعي أنه يعلم الباطن! هذا الكلام تعرفونه كثيراً وهو عندكم في أشرطة، فلا شك أن مثل هذا الكلام أن القول به أو التحذير من طالب علم معروف بالخير، أو التحذير من داعية كونه سياسياً قول باطل وهل أنتم تفصلون السياسة عن الدين؟! إن الذي يفصل الدين عن السياسة هذا هو محل الإبعاد، ومحل التهمة، ومحل -أيضاً- تعطيل جزء كبير من دين الله، وإذا تكلم إنسان في أمر ما! قيل: هذا سياسي! الحباب بن المنذر لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: {أهذا منزل أنزلك الله إياه أم هو الحرب والمكيدة قال له: بل الحرب والمكيدة} فهل هذا تدخل في السياسة أم لا؟! هذا تدخل في السياسة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما أبرم العقد مع غطفان وكتب العقد على أن يرجعوا عن المدينة ولهم ثلث ثمارها جاء السعدان رضي الله تعالى عنهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهم الرسول بعد أن كتب العقد لكن لم يوقع ولم يستلم: {قالوا لرسول الله: أهذا أمر أمرك الله به؟ قال: لا، قالوا: أهو أمر تحبه عملناه؟ قال: لا، قالوا: والله ما أكلوا منها ونحن وهم في الجاهلية إلا بشراء أو يكراء فكيف ونحن في الإسلام؟!} فأخذ الورقة ومحا مافيها، هل هذا تدخل إذا قام رجل نقد أمر ما؟! وأنا أقسم بالله وأباهل أن بعض من يعترض على هذا الأمر لو خَلَى له الجو ولم يكن هناك مؤثرات، لقال: هذا هو الحق، ومن يقل بفصل الدين عن السياسة؟! ومن يقول: إن الحكومات لا تنتقد، ومن يقل: إن الوضع العام طيب ولا يُنْتَقَد أولا يسمح بهذا؟! معنى هذا إخراس الألسنة، وإماتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحمد لله أنه لا يزال في الزوايا بقايا.
فالأمة لو أجبرت على أمر ما، يمكن أن يعترضها قصور لكن يبقى منها من بقي، على كل حال نرجو الله أن يرحم إخواننا جميعاً الناقدين والمنقودين، المتسلطين والمتسلط عليهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن ينور قلوبنا وقلوبهم، وأن يجعلنا وإياهم جميعاً ممن يتحقق فيهم هذا الدعاء {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] .(95/17)
العلاج لقالة السوء
والآن أيها الأحبة بعد أن استمعنا إلى أقوال علمائنا الأجلاء في هذا الموضوع المهم، ما الذي نستطيع أن نفعله حتى نسلم من الخوض في هذه الأمور؟ لعل من المناسب هنا أن ندعوك إلى الاستماع إلى ما قاله أخونا الكريم الشيخ عبد الوهاب الطريري في إحدى خطبه فلعل في ذلك ما يفيد:(95/18)
تنبيهات وتوجيهات
هناك تنبيهات من أجملها إجمالاً وأمر عليها إِمْرَاراً، هي برقيات عاجلة ينبغي أن نكون منها على ذكر، نتذكر جميعاً قول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-[[من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل]] .
تذكر أن التفاعل مع قالة السوء هو أكبر وقود وإمداد لها، أما لو انشغل الشباب بالسرى فيما هو أجدى فإن قالة السوء لن تجد في أوقاتهم فراغا، ولا في أذهانهم مساغا، وستجد من سراهم حائطاً صلباً ترتطم به ثم ترتد إلى قائلها، فيرتد طرفه وهو حسير.
تذكر أيها الموفق أنك تُعَد لأمر عظيم: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل فلا تكن -رعاك الله- زاملةٌ تنقل قالة السوء، همك نقل ما قال فلان إلى فلان، وأن تخبر بمضمون شريط فلان في فلان، كلا، فلك من همومك ما هو أعلى، ومن شغلك ما هو أجدى، إذا سمعت هذه القالة فأَشِحْ عنها بوجهك، وأعرض عنها، واطو عنها لِيْتاً وقل: {قد أتى آل جعفر ما يشغلهم} {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] .
تذكر بارك الله فيك -وأنت على ذكر- أن علينا ألا نؤجر عقولنا، وألا نوزع اهتماماتنا بالمجان، فلا نجعل من اهتماماتنا مزاداً مفتوحاً يزايد فيه كل فارغ لا شغل له ولا قضية.
تذكر -وأنت على ذكر- أن كلاً منا سيقدم على ربه يوم القيامة فرداً، ولن ينفعني أو ينفعك فلان الذي تكلمنا له في فلان، ولكن سينفع كلاً منا لسانٌ حَفِظَه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] .
تذكر -وأنت على ذكر إن شاء الله- أنه ليس هناك خير يفوت عليك بسكوتك وإعراضك، والسلامة لا يعادلها شيء.
تذكر أن حرمة عرض المسلم ثابتة بيقين، وأن حرمة عرضه كحرمة دمه وماله: {إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام} .
هل نحذر أن نلقى الله وقد انتهكنا عرض مسلم، أو اشتغلنا به تذكر أن على الإنسان ألا ينطلق في المخاطرة بدينه من قناعات الآخرين، فقد يخادع الإنسان نفسه، أو يخادعه شيطانه بأن هذا التهوك والتشاغل من الدين، حينها تذكر أن الشيطان لا يعرض على الصالحين الحرام في صورة حرام، ولكن يعرض عليهم الحرام في صورة واجب.
تذكر أنا ونحن نرى هذه الزوبعة لم نرها أنها أحقت حقاً، ولا أبطلت باطلاً، ولا أحيت سنة، وإنما ربت على الاستهانة بالغيبة، وهدر المجالس فيما لا ينفع، والانشغال عن المهمات، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سلمت فارس، والروم، واليهود، والنصارى، والرافضة، والمجوس، ولم تسلم أعراض الدعاة، تذكر أن قناعتك بالحق ليست كافية في أن توصله بأي أسلوب شئت، وأن كثيراً ممن قدم هذه البلاد فتعدلت عقائدهم واستقامت حالهم لم يُهْدَوا إلى العقيدة الحقة بالغمز واللمز والإيذاء النفسي، كلا ولكن هدوا بالصبر والاحتساب والكلمة الطيبة والنية الصادقة.
تذكر -بارك الله فيك- أن علينا ألا نتخذ موقفاً ولا نتكلم بكلمة إلا ولنا عنها جواب عند الله عز وجل حتى لا تلحقنا منها ندامة في الدنيا ولا حسرة يوم القيامة، تذكر وانظر من هم أسرع الناس إلى هذه الزوبعات، إن الذين سبقونا إليها ليسوا أكثر الناس صوما، ولا أكثر الناس صلاة، وليسوا فيما يظهر للناس أتقى ولا أورع.
ولكن نراهم أهل البطالة والاستهانة بالوقت، وهدر الجهد، أفنرضى أن يكون هؤلاء لنا أسوة؟! ثم انظر -بارك الله فيك- إلى أهل والتقى والخشية، فستراهم أعف الناس ألسنا، وأكثرهم عن هذا الأمر إعراضا.(95/19)
العلاج النبوي
قال حفظه الله: أيها الإخوة! المتحابون في جلال الله؛ إلى الإخوة الأخيار الأغيار: العلاج الحقيقي لقالة السوء التي فشت وآذت فأصمت الآذان، وزكمت الأنوف، ولا زالت ينفخ في كيرها كل ملفوج الشفة مر اللسان، إن العلاج الحقيقي لها يكون من خلال التعامل معها بالأسلوب النبوي، وإليك هو باختصار: عاد النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، وفي مسيره ذلك ألقى رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قالة سوء وقحة، قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؛ ويعني بالأعز: نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرت قالة السوء في الجيش، فلما سرت تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل النظامي تعامل المجرب المحقق، فماذا عمل؟ لقد أشغل الجيش بالسرى فما أن سمع بالمقالة حتى آذن الجيش بالرحيل في ساعة ما كان يرحل فيها، فسار بهم نهارهم كله، ثم سرى بهم الليل كله، ثم مشى بهم يومه ذلك حتى آذتهم الشمس وأضناهم المسير، وأجهدهم السير، فما إن وقف بهم فلمسوا الأرض حتى سقطوا على الأرض سقوط الجدر، فلم يبق لقالة السوء مساغ في هذا الجيش الذي قطع ليله بالسرى ولا في هذا الجيش الذي ألقي على الأرض مجهودا، نحن بحاجة إلى هذا العلاج النبوي نتعامل به مع قالة السوء، إذا فشت وحاول الموّتُور إذكاءها، نتعامل مع قالة السوء بالسرى، السرى في حفظ القرآن العزيز، في حفظ الإرث النبوي الكريم، السرى في تَفْلِيَةِ المسائل العلمية، وكد الأذهان في تحصيل الفقاهة الشرعية، السرى في مكافحة الفساد وتطهير المجتمع، السرى في أعمال الدعوة والدلالة على الخير، السرى، خير ما يشغل عن قالة السوء، ويقضي عليها ويميتها.
إذاً فليتذكر كل منا أن عليه أن ينصرف لما هو أجدى، وأن يعرض عنه قالة السوء صفحا، وأن نتذكر جميعا أن هذه القالة التي فشت إنما هي زوبعة ستمر وتنتهي حتماًَ، لأن الذين يذكونها بلا قضية، ثم هذه القالة من أتعب فيها نفسه، وكد ذهنه، وأفنى جهده، يفتح يده فلا يجد فيها إلا قبض الريح، ويلتفت يمنة ويسرة فإذا الذين أعرضوا عنها يوم كان بها مشغولاً قد حصّلوا من الخير ما حصلوا، وحازوا من الخير ما حازوا أما هو فرجع بالصفقة الخاسرة.(95/20)
كلمة للشيخ سلمان العودة
ولذلك يجب على دعاة الإسلام ورجاله وأهله وحملته أن يكونوا فوق مستوى المسائل الشخصية، والمعارك القريبة، وألا يقبلوا أن تثار معركة إلا مع عدو الإسلام، أما المعركة مع إخوانهم ومع أحبابهم ومع أصحابهم فيجب ألاَّ يستجيبوا لها، وأن يكونوا فوق مستوى هذه المعارك التي هي للعدو وليست للصديق.
ختاماً -أيها الإخوة أيها الأحبة- نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا جميعاً على الحق وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إن الله سميع مجيب.
وإلى لقاء قريب والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(95/21)
فقه إنكار المنكر
تحدث الشيخ حفظه الله عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تطرق إلى العقوبات المترتبة على تركهما.
ثم أرشد إلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووسائلهما، وأنه لابد من الالتزام بآدابها.(96/1)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فكان صلى الله عليه وسلم أفضل الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والصابرين على ما أصابهم، فجزاه الله عنا، وعن سائر أمته بل عن البشرية كلها أفضل الجزاء.
أما بعد رقم الدرس: هو الخامس والعشرون، وينعقد في ليلة الاثنين الحادي عشر من ربيع الثاني لعام 1411هـ وهو بعنوان: (فقه إنكار المنكر) .(96/2)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة لعدم نزول العقوبات
النقطة الرابعة: فضلاً عن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضمانة دون نزول العقوبات الإلهية التي تصيب المجتمعات في العاجل أو الآجل، وقد قص الله علينا قصص بني إسرائيل حين نهاهم أن يعتدوا في السبت: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون * َفَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:164-166] إذاً أنجينا الذين ينهون عن السوء، فإذا حق العذاب على أمة من الأمم فإن الله تعالى لا ينجي إلا الذين ينهون عن السوء.
فإذا كانت هناك أمة من الأمم لا يوجد فيها الذين ينهون عن السوء، لا ينجو منها أحد، ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود:116] .
فإذا وجد في الأمة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر نجا إذا نزل العذاب، فإن حقق -فعلاً- المعروف وأزال المنكر نجا ونجت الأمة، فإذا فُقِد هذا الصنف حق العذاب على الأمة بأكملها ولم ينج منها أحد.
ولذلك روى البخاري ومسلم في صحيحهيما أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ثم استيقظ فزعاً، وهو يقول: {لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد أقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وأشار بإصبعيه السبابة والإبهام، فقالت له زينب بنت جحش -راوية الحديث- رضي الله عنها: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث} .
والغريب أن هذا المعنى الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم نقل عن جماعة كبيرة من الصحابة مما يدل على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه به، فنقل عن أم سلمة وأم حبيبة وعائشة وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، كلهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، أنكم تهلكون إذا كثر فيكم الخبث وإن وجد فيكم صالحون قليل.
هذا جزء من العذاب الذي توعد الله تبارك وتعالى به الأمة، حين تتخلى عن مهمتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قال الإمام مالك في موطئه باب: ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة، ثم نقل عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وأرضاه، أنه قال: [[كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة]] يعني: إذا وجدت فئة خاصة من المترفين والأغنياء والكبار الذين يصرون على المنكرات سراً فإن الله عز وجل لا يعذب المجتمع كله بعملهم، لكن هكذا يقول عمر بن عبد العزيز: [[لكن إذا عملوا المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم]] .
إذاً: يا إخوة، هناك قضية كثيراً ما تخفى على كثير من الناس، تأتي إلى إنسان وتقول له: سبحان الله! المجتمع فشت فيه المنكرات، وحصل كيت، وكيت، يقول لك: لا داعي للتشاؤم، المنكرات هذه موجودة منذ زمن قديم، وفي عهد الصحابة كذا وفي عهد بني أمية كذا، وفي عهد بني العباس كذا.
فأقول: ينبغي أن ننتبه إلى فرق جوهري في المنكرات، فرق بين منكر يُعْمل خفية في بيت أو مكان معزول، وبين منكر يُعمل على الملأ، فرق بين منكر شخصي ومنكر جماعي، فرق بين منكر مُحَارب وبين منكر مدعوم، فيجب أن لا نغتر بوجود أصول لبعض النكرات في أزمنة ماضية.
هذا مع أنه حتى لو كانت المنكرات موجودة منذ زمن قديم، فإن هذا لا يبرر ولا يسوغ السكوت عليها، وإلا لكان المعنى: أننا يوماً بعد يوم نزداد من المنكرات نسكت عما مضى، وتأتينا منكرات جديدة، فيأتي الجيل الذي بعدنا فيسكت عن المنكرات التي حدثت في زماننا؛ لأنها موروثة وهكذا، وهذا معناه أن الأمة تصير في النهاية إلى التخلي عن الدين كله بهذه الطريقة.
أبو بكر يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب} .
إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه.
الظلم أنواع: قد يكون الظلم بالمال نهب أموال الناس أو أخذ أموال الناس بالباطل، أو الغش أو الخديعة أو السرقة أو اللصوصية على أي مستوى كانت فهذا ظلم، لكن ليس هذا فقط هو الظلم، حتى الظالم لنفسه الذي يرتكب المعصية -مثلاً- هذا ظالم، ظالم لنفسه، وظالم لغيره -أيضاً- والظلم معنىً عام واسع يدخل فيه حتى الشرك: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فالناس إذا رأوا الظالم العاصي الفاسق، فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله تعالى بعقاب.
ومن أكثر الأحاديث هزاً لقلوب المؤمنين، وتخويفاً لهم، ما رواه حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده} .
إذاً يوشك ويقرب أن تصاب الأمة بالعذاب إذا لم تأمر بالمعروف ولم تنته عن المنكر، فصمام الأمان بالنسبة للأمة هو أن يكون فيها أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، وذلك أن المجتمع كله لحمة واحدة، تيار واحد مترابط، وأي انحراف أو منكر يقع في الأمة هو تماماً مثل أولئك القوم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كما في الحديث المتفق عليه، عن النعمان بن بشير -استهموا على سفينة، ركبوا في البحر، فكان بعضهم في أعلى السفينة وبعضهم في أسفلها، فواحد من الذين في أسفل السفينة قال: أنا كلما احتجت الماء أصعد وأؤذي هؤلاء الذين فوقي عندما أغرف الماء، ليس لهذا داع، أخرق من أسفل السفينة خرقاً حتى يأتينا منه الماء ولا تؤذي من فوقنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً} .
أي: هو يقول: هذا شأني، وهذا أمر يخصني، وهذا نصيبي من السفينة، أصنع فيه ما أشاء، أخرقه أو أكسره، أصنع فيه ما أشاء، فإن قالوا: فعلاً هذه حريتك الشخصية، معناه أنهم أقروه على خرق سفينة المجتمع، لكن إذا أخذوا على يديه، وقالوا: لا هذه ليست حرية شخصية، السفينة ملك عام ويجب أن لا تقوم فيها بأي عمل يضر بنا جميعاً فإنهم يكونون سبباً في نجاته هو ونجاتهم هم أو نجاة المجتمع، فهكذا المجتمع هو عبارة عن: سفينة في لج بحر ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح المجتمع هو السفينة، وأصحاب الفساد سواء أكان فساداً فكرياً أم خلقياً عاماً أم خاصاً، كبيراً أم صغيراً كلهم عبارة عن مجموعة معهم معاول ومسامير، كل واحد يخرق في طرف من السفينة، والناهون عن المنكر عبارة عن القوم العقلاء الصالحين الذين يبذلون جهودهم في منع كسر هذه السفينة، أو أخذ لوح منها؛ ونتيجة هلاك السفينة وغرقها، أو نجاتها؛ مبنية على نجاح أحد الطرفين فيما يريد وفيما يحاول.(96/3)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان للبيئة من التلوث
من جهة ثالثة فهو ضمانة للبيئة من التلوث، أحياناً قد ينتشر في البيئة جرثومة معينة تنتشر في الهواء مثلما وصل إلى أسماع الناس اليوم من قضية ما يسمى اليوم بالحرب الكيماوية، أو الأسلحة الكيماوية -مثلاً- بمجرد ما يستنشق الإنسان هذه الكيماويات أو الجراثيم أو نحوها يموت، أو يتعرض للإصابة بأمراض فتاكة.
ومثلها تماماً جراثيم الأخلاق والأفكار تنتشر في الهواء مثلما تنتشر الجراثيم القاتلة للجسم -فمثلاً- إتاحة الفرصة لأهل الرذيلة أن يمارسوا رذيلتهم والفساد من خلال الصور، ومن خلال الأغنية، ومن خلال المجلة، ومن خلال بيت الدعارة -مثلاً- هذا يلوث البيئة العامة، ويجعل الإنسان الذي يريد الصلاح -أحياناً- قد لا يستطيع أن يكون كما يحب؛ لأن العقبات أمامه كثيرة فقد تلوثت البيئة العامة.
وكذلك نشر الشبهات التي تشكك الناس في دينهم من خلال الكتاب والمجلة والجريدة والشريط والمحاضرة والقصيدة والأمسية هي الأخرى -أيضاً- تلوث البيئة العامة، بحيث تجد أن الإنسان يبدأ يسمع شبهة هنا وشبهة هنا، وشبهة هنا، وليس صحيحاً أبداً أن الناس كلهم محصنون ضد الشهوات والشبهات، سبحان الله! الإنسان خلق كما قال الله عز وجل: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] حتى الإنسان التقي النقي الطاهر العَلَم قد يسمع شبهة، فتظل تدور في عقله أياماً، حتى يطردها بإذن الله عز وجل، وقد يرى بعينه شهوة -امرأة حسناء- أو حتى صورة في مجلة تقع عينه عليها عن عمد- أو عن غير عمد فيجلس قلبه أياماً مريضاً لهذه النظرة.
فليس صحيحاً أن يقال: اسمح للفساد، وأن الناس عندهم حصانة ضد الفساد، من أين أتتهم هذه الحصانة، ونحن نعلم أن الإنسان نفسه أمارة بالسوء، وجُبِلَ على الشهوات، فضلاً عن تسليط الشيطان على ابن آدم؟! ولذلك فإن إظهار المنكرات سواء كانت منكرات أخلاقية أم فكرية في المجتمع، سبب في تعرض المجتمع كله لهزات لا يعلم مداها إلا الله، ولهذا كان يقال: المنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، أما إذا أعلن فإنه يضر الخاصة والعامة، بمعنى أننا نسأل: هذا فلان من الناس الذي عنده منكر، تجد أنه إذا أراد أن يمارس المنكر يخرج إلى باب الشارع فيقفله بالمفتاح ثم يدخل إلى الباب الآخر فيقفله، وهكذا باب بعد باب بعد باب، ثم ينظر في النوافذ من هنا ومن هنا، ثم يجلس على منكره، هذا العمل يدل على ماذا؟ يدل على أن صاحب المنكر هذا يحس بأنه في وسط بيئة صالحة، وأنه يقوم بعمل ضد المجتمع، تماماً مثل ذلك الإنسان الذي يقوم بعمل تخريبي ضد مجتمع.
لو أن إنساناً -مثلاً- أراد أن يقوم بعمل تخريبي يخل بأمن المجتمع، هل كان يقوم بهذا العمل على قارعة الطريق؟ كلا، كان سيقوم به في سراديب مظلمة، فهو من الذين يعملون في الظلام؛ لأنه يدرك أن المنكر الذي يقوم به هو في الواقع عمل ضد أمن المجتمع، وأنه عمل تخريبي ضد أمن المجتمع، فيتستر به.
لكن ما بالك إذا كان الذي يعمل المنكر يعمله في الهواء الطلق، في الشارع، في المدرسة، في الحديقة، بل -أحياناً- على مرأى ومسمع من ملايين الناس الذين يتابعونه عبر جهاز معين، دعاه إلى هذا أنه يحس أنه يقوم بعمل عادي، وأن المجتمع يوافقه على هذا العمل الذي يريد أن يقوم به، لا ينكر عليه ولا يعارضه، فتجرأ على مواجهة الناس بهذا الأمر.
إذاً، إذا أعلنت المنكرات معنى ذلك أن المجتمع يعاني من قضية خطيرة جداً، في أصل وجود هذا المجتمع، وأصل القناعات الموجودة، بيئة المجتمعات العامة تلوثت بجرثومة الفساد، وكم هو مؤسف ومحزن ويجرح القلب، أن تتصور هؤلاء الأطفال من بنين وبنات في أعمار الزهور -عشر سنوات، اثنتا عشرة سنة، أربع عشرة سنة- إنهم يولدون في بيئة خاصة أو عامة فيستنشقون جراثيم الفساد، في كثير من البلدان تجد الصبي الصغير يتلقن ذلك ويتربى عليه.
كما قال نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26-27] .
من يوم أن يولد الصبي الصغير وهو يرضع الرذيلة مع لبن الأم ويستنشق الفساد في الهواء، فتأتي إليه وهو ابن سبع أو ثمان سنين، فإذا سألته عن ثقافته وجدت ثقافته عبارة عن أغانٍ ومعلومات تافهه، وأمور رخيصة، إذا سألته عن دينه تجد أنه لا يستطيع أن يقرأ لك آية من القرآن الكريم.
أقول: هذا في كثير من البلاد الإسلامية، تجد أنه قد لا يستطيع أن يقرأ لك آية من القرآن الكريم ولا يقيم سورة، وتجد أن تصوراته تصورات منحرفة، فلو رأى في الشارع -مثلاً- امرأة محجبة لأصبح يركض إلى والده يحتمي به؛ لأنه يحس أنه رأى شيئاً موحشاً مخيفاً لأن بصره لم يعتد على رؤية الحجاب، فأصبح ينفر ويخاف منه تماماً، كما يفعل الطفل في بلاد الغرب إذا رأى مثل هذا المظهر الغريب، فإنه ينفر منه ويشمئز؛ لأنه أمر غير مألوف ولا معهود.(96/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من تكافل الأمة
ومن جهة أخرى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام هو: جزء من التكافل الذي جعله الله تبارك وتعالى بين المؤمنين، -مثلاً- أنت لو وجدت رجلاً يشتري بضاعة فاسدة كان واجباً عليك أن تنبهه أن هذه البضاعة فاسدة أو غالية أو غير مناسبة له، من باب الدين النصيحة، ولو وجدت رجلاً يعرق كان واجباً عليك أن تنقذه بقدر ما تستطيع، حتى لو ترتب على ذلك أن تؤجل عبادة مفروضة قد شرعت فيها، كأن تكون شرعت في صيام تحتاج إلى الفطر لإنقاذه تفطر، شرعت في صلاة يمكن أن تنبهه وأنت تصلي، أو تقطع الصلاة لتنبيهه، لأن المحافظة على الإنسان في الإسلام قضية مهمة جداً، لكن الإنسان في الإسلام ليس فقط شهوة، إنما هو جسد وروح، فكما أننا مطالبون بالمحافظة -مثلاً- على أموال الآخرين، وعلى أرواحهم، كذلك، نحن مطالبون بالمحافظة على أخلاقهم وعلى أديانهم.
فالإسلام ضمن الحقوق الكلية للإنسان، فلا يجوز أن يجلس مسلم جائع ونحن نأكل ملئ بطوننا، ولو حصل هذا لكان واجباً عليه أن يأخذ منا بالقوة إذا لم نتبرع، يأخذ ما يسد رمقه، ونكون نحن آثمون، وكذلك الحال في أي حاجة من الحاجات الضرورية التي يحتاجها الفرد المسلم، مثله سواء بسواء، قضية المحافظة على الأخلاق والمحافظة على عقيدته، والمحافظة على دينه هي -أيضاً- جزء كذلك من هذا الواجب، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقيق هذا الأمر أنك إذا وجدت على أخيك المسلم نقصاً في دينه أو عقيدته أو خلقه تقوم بتكميل هذا النقص.(96/5)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة
إخوتى الكرام: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الخصائص والميزات التي أختص الله تعالى بها هذه الأمة من بين سائر الأمم الكافرة الضالة عن سواء السبيل، يقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] .
إذاً سبب وسر خيريتكم هو أنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، وسبب فشل وضلال غيركم، أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ويقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] فهذه صفة المجتمع المسلم أيها الأحبة.
أما المجتمعات الكافرة اليوم فنحن نراها وقد أصبحت في الوقت الذي تتغنى بما يسمى حرية الفرد، فإنها أصبحت تحارب جميع صور الفضيلة التي يريد الفرد أن يمارسها، في بلاد الغرب -فمثلاً- الحرية متاحة لأهل العري والعهر والفساد والرذيلة، لا أقول: متاحة بل مفروضة، ولكن حين تفكر فتاة مسلمة بأن تلبس الحجاب على رأسها ورقبتها ونحرها وهي ذاهبة إلى المدرسة تقوم الدنيا حينئذٍ، ولا تقعد.
كما حصل في فرنسا، منذ زمن ليس بالبعيد منذ نحو سنة، حين ذهبت ثلاث فتيات من المغرب إلى مدرستهن في فرنسا وقد لبسن الحجاب على الرأس فرفض مدير المدرسة إدخالهن حتى يخلعن الحجاب، وتطورت القضية حتى دُرست أعلى المستويات الرسمية وتدخلت فيها دول خارجية للوساطة عند والد هؤلاء الفتيات، لتغيير قناعتهن بالحجاب.
سبحان الله! ما الذي جرى؟! هل دخلت جيوش إسلامية تلك البلاد الكافرة، حتى يحصل هذا الهلع والفزع والرعب، كلا، إنما هن ثلاث من "الجنس اللطيف"! أردن ممارسة حريتهن في ممارسة الالتزام بالحجاب الشرعي، فهذه دعاوى العلمانية البراقة ودعاوى الحرية! إنما هي مجرد لافتات يضحكون بها على الناس.
وأما إذا كان الإسلام، هو الخصم فإنهم يظهرون ضراوتهم وعداوتهم جلية بدون مواربة، ولما حصلت هذه الحادثة بدأت الصحف الفرنسية كلها تكتب عن هذا الموضوع، وعندي قصاصات منها كثيرة، تكتب عن هذه القضية، هذه الظاهرة، خطورة الإسلام على فرنسا، تاريخ الحجاب، كيفية نزع الحجاب في مصر، ودخلت فيها قضية الخميني والثورة الإيرانية وإلى غير ذلك، وحاولت أن تهول قضية كون ثلاث بنات أردن أن يدخلن المدرسة بحجاب على الرأس.
فالذي عندهم هو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف بل محاربة المعروف علناً، وقد رأيت في بعض البلاد التي هاجر إليها كثير من المسلمين هناك وأقاموا فيها وتزوجوا من أهلها أنك والعياذ بالله تجد أن المسلم الذي زوجته نصرانية من أهل تلك البلاد.
البنت التي ولدت له من هذه المرأة تمارس حريتها الكاملة على رغم أنف والدها، فتخرج متى شاءت وتدخل متى شاءت، وتأتي بعشيقها لتجلس معه في بيتها، في غرفة خاصة، والويل للأب إن أراد أن يتدخل فإنه ليس على البنت إلا أن تدير قرص الهاتف لتنادي الشرطة، فيأتوا ويأخذوا الأب إلى المخفر، ويجروا معه تحقيقاً طويلاً، لماذا تتدخل في حرية هذه البنت؟! يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
ففي الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو بديل عما يسمونه هناك بالحرية الفردية؛ لأن الحرية الفردية في بلاد الغرب إنما هي قشر خادع -كما بينت لكم-.(96/6)
صورة عقوبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد يستغرب بعض الناس مثل هذا الكلام بل -مع الأسف- أصبحنا نسمع كثيراً من الناس يستغربون، خاصة لما حصلت الأحداث الأخيرة، وتكلم أهل العلم، وقالوا: إن ما أصابنا وأصاب غيرنا هو بسبب الذنوب والمعاصي، أصبحت تجد كثيراً من الناس الذين رق إيمانهم، يقولون: كيف بسبب الذنوب والمعاصي، هذا غير صحيح! بل بعضهم يقول: هذه أمور مادية! وهاهم الكفار قد وسع الله عليهم، وأعطاهم ومكَّن لهم في الأرض، وفتح لهم أبواب كل شيء، فكيف تزعمون أن ما أصابنا هو بسبب ذنوبنا ومعاصينا.
وهكذا الحال في موضوع المنكر، يقولون: كيف يحدث ترك النهي عن المنكر مثل هذه الآثار في المجتمع، ومن أجل تقريب الموضوع أذكر لكم بعض الأمثلة التي تؤكد ذلك.(96/7)
التفرق والتناحر
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] هذه هي النقطة الثالثة: أو يلبسكم شيعاً، إذاً من صور العذاب الذي يصيبنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية أن يلبسنا الله تعالى شيعاً ويذيق بعضنا بأس بعض.
ولذلك قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] ثم قال في الآية التي بعدها: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] .
في عدد من البلاد المجاورة تجد أن أهم أسباب تفرقهم: أنهم لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، فترتب على ذلك شيوع الفساد، اليوم يعلن -مثلاً- عن حفل راقص في مكان كذا، وغداً يعلن عن حفل غنائي في مكان كذا، وبعده يعلنون عن عرض مسرحيٍ في مكان كذا، وهكذا أصبحت المنكرات في بلادهم منتشرة.
فالغيورون الصالحون لم يرضوا بهذا، فصارت الأمة فرقاً بعد ذلك، لم يجدوا مجالاً للتغيير والإنكار بالأسلوب الصحيح، فلجئوا إلى أساليب أخرى، أحدثت تفرقاً آخر في الأمة، حتى تمزق المجتمع شيعاً وأحزاباً بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المجتمع إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويعتبر هذا الإنسان الذي جاء يقاوم المنكر ويقضي عليه إنساناً أصولياً متطرفاً ومتسرعاً، هذا إنسان يريد أن يقضي على المكاسب الحضارية والمكاسب الوطنية للأمة، وبالتالي أنقلب الحق باطلاً والباطل حقاً.(96/8)
تغيير المسار ومحاولة مسخ الأمة
وهكذا حصلت القضية الرابعة من أنواع العقاب، وهي أخطر ما يكون: وهي أن الأمة بدأ مسارها في عدد من البلاد يتغير، فالمنافقون لم يكتفوا فقط بإشاعة المنكرات، لا، بل هم يخططون إلى سلخ الأمة عن دينها بالكلية، بحيث تتحول إلى أمة أخرى غير الأمة الإسلامية، تتحول مثلاً إلى أمة علمانية لا دين لها، تقبل أن يعيش فيها المسلم واليهودي والنصراني وأن تحكم بأي شريعة، أو بأي نظام، وأن يشيع فيها أي فكر وأي مبدأ وأي منهج، ليس لها دين، وليس لها اعتقاد تلتزم به.
وهذا - في الحقيقة- أخطر من الحرب العسكرية، أرأيت الآن كم دولة إسلامية سلخت من المسلمين عن طريق الحرب العسكرية؟ قد تقول لي فلسطين، صحيح أخذها اليهود بالقوة، وأفغانستان أخذها الشيوعيون بالقوة قبل ذلك، وبلاد الأندلس أخذها النصارى بالقوة، وهكذا يبقى العدد محدوداً، لكن لو تساءلنا كم من البلاد الآن التي حكمها الإسلام يوماً من الأيام، وتجد في أهلها إسلاماً كثيراً، ومع ذلك تجدها بلاداً علمانية لا دينية.
وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم ما حصل في فرنسا في قصة هؤلاء البنات الثلاث، فإن المأساة هذه تتكرر في بلاد ارتفع عليها علم الإسلام يوماً من الأيام، وأصبحت تمنع الحجاب في جامعاتها وتحاربه وتحارب من يلبسه، وتعتبر هذا رمزاً للرجوع -كما يعبرون- إلى عصر الحريم، عصر القرون الوسطى، قرون التخلف، هكذا يعبرون، وهكذا يزعمون.
إذاً من أعظم الأشياء أن الأمة وقعت في أيدي المنافقين، يحاولون أن يمسخوها عن الإسلام مسخاً نهائياً ويلبسوها ثوباً آخر غير ثوب الإسلام، ويُدَيِّنوها بدين آخر غير دين الإسلام، والدين لا بد منه، إما الإسلام وإما غيره، فإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تركه الصالحون معنى ذلك: ارتفع المنافقون، وكما قال الله عز وجل عنهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] .
كل مجتمع -وهذه قضية يحب أن تكون بديهية- كل مجتمع فيه قوتان: قوة المؤمنين وقوة المنافقين، المؤمنون والمؤمنات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمنافقون والمنافقات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، والمسألة صراع، والمجتمع يكون للذي تغلب من هاتين الفئتين.
ولذلك كانت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلمين قضية مصيرية، لو أن واحداً أنكر -مثلاً-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أنكر مشروعيته أصلاً- يكون بذلك مرتداً عن الإسلام، هذا من حيث التشريع أو المبدأ النظري.
لكن من حيث المبدأ العملي كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو أعظم مؤسسة وأعظم جهاز وأعظم عمل في حياة المسلمين، لماذا كان كذلك؟ لأنه من حق كل مسلم أن ينتسب إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل مسلم من حقه ليس من حقه فقط بل من واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يأمر نفسه وغيره ويأمر في بيته ويأمر في السوق، وفي المسجد، وفي الشارع، وفي المتجر، وفي المدرسة، وفي المؤسسة، ويأمر الكبير والصغير والقريب والبعيد والمعروف والمجهول والذكر والأنثى، هكذا كان، ومع ذلك كله؛ لأن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند كل مسلم قضية دين، وليست قضية وظيفة، بل كانت أكبر من ذلك، لكن مع ذلك عني المسلمون بنظام ما يسمى بالحسبة، وهو من أقدم الأنظمة الإسلامية، وأعظمها.
نظام الحسبة الذي كان فيه أناس مختصون، مهمتهم ووظيفتهم الرئيسية، هي: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ماذا تتصور وظيفة رجال الحسبة التي بدأت بشكل واضح في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، كانت وظيفة رجال الحسبة مراقبة المجتمع العام في كل شيء -كما أسلفت في بداية الحديث- مثلاً: وجدوا رجلاً يغش في البيع والشراء هذا يمنع، وجدوا شخصاً له دين عند آخر ورفض أن يعطيه يقوم رجال الحسبة بتحقيق هذا المطلب، وجدوا بيتاً يوشك أن يسقط، ويؤذي الناس، يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وجدوا شارعاً ضيقاً يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وتوسعة الشارع، إذا وجد من يؤذي الناس في أسواقهم يقومون بمنعه من ذلك.
إذاً كانت مهمتهم فضلاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة السلوك والأخلاق العامة، لكنني أريد أن أقول: إن مهمة رجال الحسبة في الإسلام كانت مهمة شمولية، أصبحت اليوم تسند إلى جهات كثيرة جداً، وربما تعجز عنها أو لا تقوم إلا بشيء يسير منها.
فكان رجل الحسبة هو آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر يصلح فيما بين الناس، يمنع الإيذاء أو الاعتداء على نظام المرور، يقوم بدور رجال البلدية في مراقبة المباني والأسواق وغيرها، يقوم بدور الغرفة التجارية وغيرها، ويقوم بمراقبة البيع والشراء والبضائع وأعمال الناس وما سواها.
وكانت الحسبة في الإسلام نظاماً عاماً شمولياً يهتم بمراقبة المجتمع في كل شيء، وعلى رأس ذلك مراقبة السلوك الأخلاقي، فإذا وجد إنسان يعصي أو يعتدي أو يشرب الخمر أو يؤذي المسلمين في أنفسهم أو في نسائهم أو في أموالهم كان هذا النظام يقوم بمنعه من ذلك، وما ذلك إلا لأنهم يدركون أن هذا قوام المجتمع المسلم، هذه هي النقطة الأولى التي أحببت أن أشير إليها، وهي قضية أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع المسلم.(96/9)
الإغراق في الشهوات
مثلاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجب الوقوع في الشهوات والإغراق فيها، وهذا من شأنه أن يجعل الناس مرتبطين بالدنيا، أصحاب نفوس ضعيفة ليس عندهم جدية في الأمور.
هذا الشاب -مثلاً- الذي أصبحت حياته كلها عبارة عن أغنية أو صورة فاسدة أو مجلة أو فيلم أو مكالمة هاتفية لغرض سيئ، أو البحث عن الشهوة أو السفر في الحرام، المهم أصبحت حياته كلها -باختصار شديد- مكونة من شهوة.
هذا الشاب هل يستطيع أن يحصل على العلم النافع؟ وهل عنده جدية في تحصيل العلوم الدنيوية؟ وهل عنده استعداد أن يدافع عن نفسه فضلاً عن غيره؟ هل عنده استعداد أن يحمل السلاح؟ كلا وألف كلا، ولذلك عندما يذهب كثير من الشباب من بلاد شتى سواء بلاد كافرة -كما كان الحال في اليابان لما أرادت أن تأخذ التقنية الغربية فإنها بعثت شباباً- أو من بلاد مسلمة، فتجد الشاب المتدين جاد، وهذا الشاب الملتحي المستقيم تجده جاداً حتى في دراسته، في تحصيل العلم؛ لأنه ليس عنده وقت للأمور التافهة.
لكن هذا الشاب الذي غرق في الشهوة، ليس عنده قوة تدفعه إلى أن يحضر الدرس أو المحاضرة أو يستمع أو ينصت أو يجري تجربة أو يحصل على أي علم، وبذلك تتأخر الأمة وتنهار.
حتى إنه يقال: إن اليابان لما بعثت شبابها يتعلمون في بلاد الغرب، بعثت معهم من يراقبهم بدقة، وكانوا مجموعة، فلما رجعوا أخبروا بأن هؤلاء الشباب كلهم قد وقعوا في الفساد، وأن حياتهم تتراوح بين المواخير وبيوت الدعارة والبغاء والفساد وغير ذلك، قالوا: إنهم أعدموهم عن آخرهم حتى يكونوا عِبر لغيرهم، ثم بعثوا بعثة أخرى، وأرسلوا من يراقبهم، فكان يقدم تقارير متواصلة عن جدية هؤلاء الشباب، ومحافظتهم على كل شيء، حتى على التقاليد الوثنية التي تلقوها في بلادهم -في اليابان- حتى الكفرة الوثنيين عبدة الأوثان -عبدة بوذا أو غيره- يدركون أنه إذا كان الإنسان غارقاً في الشهوة؛ فإنه لا يجد وقتاً للأمور الجادة، ولا يحدث الغرق في الشهوات إلا إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(96/10)
الإهمال في أخذ العدة
جانب ثانٍ: الإهمال في أخذ العدة، سواء أكانت عدة معنوية بقوة القلوب وشدتها، أم كانت عدة مادية بالاستعداد لمقاومة الأعداء، وهذه لا يمكن أن يتقنها ويجيدها إلا الناس الذين اشتغلوا بمعالي الأمور، وأعرضوا عن السفاسف، أما صرعى الشهوات فليسوا أهلاً لذلك، بل إن مجرد الكلام عن الحرب يخيفهم، مجرد إخراج إعلان أو تحذير عن الحرب تجده يخيفهم ويرعبهم، فضلاً عن الخوض في المعركة، هذا مع أننا حين نقول العذاب لا نعني العذاب عن طريق حرب من عدونا لا، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] .(96/11)
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أنتقل إلى نقطة ثانية: وهي قضية مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراتب لا تحتاج إلى كلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث عنها في حديث أبي سعيد الخدري كما في صحيح مسلم قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} إذاً، القضية قضية تدرج، وأول ما يحدث: التغيير بالقلب، فإذا رأيت منكراً فتغيره بقلبك، تكره هذا المنكر، وتبغضه وتتمنى زواله، وهذا التغيير يحدث أولاً في القلب، بعد ذلك القلب يرسل الأوامر إلى اللسان ليتكلم، فتقول لصاحب المنكر: يا أخي جزاك الله خيراً الأمر كذا وكذا وهذا لا يجوز، فإذا تحقق الامتثال فبها وإلا حينئذٍ يأتي دور اليد لإزالة المنكر وتغييره باليد.
إذاً من حيث الواقع العملي، أول ما يحدث هو التغيير بالقلب، ثم التغيير باللسان، ثم التغيير باليد، لكن المطلوب هو أن تغير بيدك إذا استطعت، فإذا عجزت فالجأ إلى التغيير باللسان، فإذا عجزت يكفي هنا أن تغير بقلبك، أن يعلم الله عز وجل أنك كاره لهذا المنكر، وهذا فرض عين على جميع الناس في جميع الظروف والأحوال، ولا يعذر أحد بتركه؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، ولا يمكن لأحد أن يمنع قلبك من أن يبغض المنكر: {فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} .
وفي حديث ابن مسعود أيضاً في صحيح مسلم: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} أي: الذي يرى المنكر فيسر به، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية، والعياذ بالله، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية الذي يرى المنكر، فلا يمتعض ولا يغضب فضلاً عمن يفرح أو يسر بهذا المنكر.
وهاهنا في موضوع مراتب المنكر يراعى أن الإسلام جاء بالتدرج في موضوع إنكار المنكر، فإذا أمكن أنك تكتفي بالتلميح فهو يغني عن التصريح، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} لماذا؟ لأن هذه الكلمة كانت تكفي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج أن يقول يا فلان ويافلان، وإلا إذا احتاج فهل كان يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا يتركها، إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، وإذا لم يكف التلميح يصرح، ولذلك قد يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم -أحياناً- بأسماء.
مثلاً مرة من المرات جاءوا وقالوا: {يا رسول الله فلان منع الزكاة - ابن جميل رجل معروف باسمه واسم أبيه منع الزكاة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله} أي: ما له عذر في ترك الزكاة إلا كفر النعمة فقط، فأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة مدوية، ولم يقل: إن هذا من التحدث في الأشخاص، لماذا؟ لأن ابن جميل مصر، وبعث له البعث ورفض دفع الزكاة، فما بقي إلا التشهير وهو وارد.
أيضاً مرة من المرات كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فلما انصرف من صلاته، قال: {يا فلان ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر أحدكم كيف يصلي، إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي} .
إذاً هذا وارد جداً وهذا كثير، وهو باب طويل، فالإنسان إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، إذا كفى أنك تقول: بعض الناس يفعلون كذا وكذا ثم ينتهي المنكر، هذا أحسن شيء وأجمل شيء، لكن إن لم يكف وكل واحد يظن أنك لا تقصده بل تقصد شخصاً آخر، فليس هناك مانع أن تقول: يا فلان، بينك وبينه فهذا حسن، وإذا ما استطعت إلا بإعلانها فليس هناك مانع أيضاً، فإن رأيت إنساناً مجاهراً بالفساد، يكتب الكتب والمؤلفات الطويلة العريضة، له مئات الكتب في هدم الإسلام والقضاء عليه، وحرب المتدينين، وتشويه التاريخ الإسلامي، والسخرية بالمؤمنين، والتشكيك في عقائد المسلمين، ثم تقول: لا تتحدث عن فلان، لا تتكلم في فلان، وتحتج عليَّ بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} هذا غير صحيح، من أعلن المنكر نعلن له الإنكار، ومن أسر أسررنا له الإنكار، فلا نأتِ لواحد قد أستتر بالمعصية ونفضحه أمام الملأ.
المهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراتب، وكلما أمكنت مرتبة فهو أولى، فإن أمكن التلميح تكتفي به، وإن احتجت إلى التصريح فبالتصريح، وإن لم يكف باللسان تنتقل إلى اليد وهكذا.(96/12)
وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
القضية الثالثة: وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كل وسيلة مباحة تؤدي للمقصود فهي داخلة في الوسائل بشرطين: الأول: أن تكون مباحة فلا تأت بوسيلة محرمة من أجل النهي عن المنكر؛ لأن النجاسة لا تغسل بنجاسة مثلها، وكذلك لا تأتِ بوسيلة لا تؤدي إلى المقصود؛ لأن المقصود هو إزالة المنكر، فإذا كانت الوسيلة غير نافعة فإنه لا داعي لاستخدامها حينئذٍ.
مثلاً: الوسائل كثيرة، وأود أن أنبه على أن قضية الوسائل لا تنحصر، والعرب يقولون: الحاجة أم الاختراع، ويوجد مثل عامي يقول: العطشان يكسر الحوض، أي: المهم عندنا هو أن تكون ذا قلب يحترق، ويسعى في زوال المنكرات، لا يبرد قلبك لا تستسغ المنكر لا ترض به، فإذا وُجِدت عندك هذه الحرارة في قلبك، فثق ثقة تامة أن القلب سيرسل تعليمات للعقل للتفكير كيف يغير، وبعد ذلك قد يتفتق ذهنك عن ألف وسيلة في إزالة المنكرات.(96/13)
من وسائل الأمر بالمعروف: التشهير بالمنكر
من الوسائل: قضية التشهير بالمنكر إذا لزم الأمر -وكما أسلفت قبل قليل- {ما نقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} والتشهير يأخذ صوراً شتى -مثلاً- إنسان مجاهر مُصِرٌ نهيته عدة مرات ولم ينته، ولم يبق إلا أن تشهر به، كيف تشهر به؟ ليس بالضرورة أن تعلن على المنبر أن فلاناً بن فلان كذا، هذه ليست الصورة الوحيدة، لكن أذكر لكم مثالاً يدلكم على ما ذكرته لكم قبل قليل، وهو أن الحاجة أم الاختراع، والعطشان يكسر الحوض.
في بغداد كان هناك بيت يسمع منه صوت الغناء والمزامير واللهو، بيت لواحد من المترفين الأغنياء، طرقوا عليه الباب لم يستجب لهم، مرة ثانية وثالثة لكن الرجل مصر، وكان هناك قارئ في بغداد حسن الصوت ومؤثر بكَّاء- إذا قرأ بكى وأبكى من حوله، فلما أعيتهم الحيلة جاء هذا القارئ يوماً من الأيام، وقت ازدحام الناس في الشوارع، وجلس على عتبة الباب الذي يصدر منه صوت الغناء، والغناء مسموع -أي: في تلك اللحظة- ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وسمى وبدأ يقرأ القرآن الكريم بصوت جهوري فاجتمع الناس لما سمعوا صوت فلان- وامتلأ الشارع وعلا النحيب والأصوات والبكاء؛ حتى سمع صاحب البيت وهو في داخل منزله سمع أن الوضع غير طبيعي، وأن هناك بكاء وأصواتاً، فنظر وإذا بالوضع هكذا فنزل وأخرج الطبول وآلات اللهو والفساد التي عنده وأعطاها لهذا الشيخ ليقوم بتكسيرها بيده.
فهذه طريقة لا تحتاج إلى شيء، وليس فيها مأخذ على فاعلها، وهي طريقة حكيمة ومناسبة، وقد فعل مثل هذا بعض الدعاة في العصر الحاضر، حيث كان هناك حفل يراد أن يقام في مكان ما، غناء ولهو وطرب، وهذا الداعية عجز عن تغييره، فلما عجز أخبر الصالحين بأنه سوف يقيم محاضرة أو درساً في مكان مجاور، قريب منه جداً، وبدأ يتكلم بكلام قوي ومؤثر، وقد أعد له إعداداً جيداً، فانسحب الناس من مكان الحفل، وأتوا إلى المحاضرة، وأوقف الحفل بطريقة هادئة مفيدة دون أن يحدث فيها أي شيء يمكن أن يعاتب عليه.(96/14)
من وسائل الأمر بالمعروف: المقاطعة
ومن طرق إنكار المنكر قضية: الامتناع عن المكان أو المؤسسة التي يوجد فيها المنكر، أرأيتم بيوت الحرام التي تتاجر بحرب الله تعالى وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278-279] هذه البيوت من أين كبرت وشهقت وارتفعت؟! من جيبي وجيبك!! وهذه المجلة التي تتاجر بأعراض المسلمين ما هو الذي ضمن لها الاستمرار والدوام؟! وأنها أصبحت تتطور وتخرج في ورق صقيل وعدد كبير من الأوراق، وتنشر في كل مكان، إنها أموال المسلمين!! وهكذا كل مؤسسات الفساد والانحراف والرذيلة، لو أن المسلمين قاطعوها لانتهت من نفسها ووئدت في مهدها، لكن أنا الذي أجرتها، وأنت الذي توظفت فيها وعملت فيها، والثالث تعامل معها، والرابع دعمها، والخامس، والسادس… وهكذا؛ حتى صار المجتمع من حيث يشعر أو لا يشعر ينفخ روح القوة والحيوية في مثل هذه المؤسسات، ثم تجد أنهم يمتعضون منها، ويستاءون منها، ونقول كما يقول المثل العربي: يداك أوكتا وفوك نفخ، أي: أنت المسئول ونحن المسئولون عن مثل هذه الأشياء.
ولو أننا أخذنا على عواتقنا مقاطعة كل وسائل الهدم والفساد والانحراف لتغير المجتمع، أحد الشباب يقول: هناك طريقة، فأنت لا تكاد تدخل بقالة إلا وتجد فيها الدخان يباع، وهذه المجلات من كافة الأنواع والأصناف ومجلات الأزياء إلى غير ذلك، أنت تأتي وتشتري، وتقول له: يا أخي لماذا أنت تبيع هذه الأمور المحرمة؟ قال لك: والله يا أخي الزبائن لو لم أبعها فلن يأتوا إليَّ، تقول: وأنا لست من الزبائن، المتدينون ألا يشترون لبيوتهم ألا يدخلون البقالات؟! بلى، ما الذي يمنع أنني بعد أن أجمع بضائعي كلها بأربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، أقول: سبحان الله! أنت تبيع الدخان وهذه مجلات سيئة هذا لا يصلح.
إذاً دع بضاعتك عندك، أنا لا يمكن أن اشتري من مكان عنده هذه الأشياء، ما الذي يحصل؟! يحصل أنه غداً إذا جاءه إنسان، وقال: أين الدخان؟ قال: الزبائن رفضوا إن يشتروا مني وعندي دخان، أو سأله عن المجلات الخليعة قال: الزبائن رفضوا.
إن المجتمع والحمد لله فيه خير كثير والطيبون أينما كانوا كثير، فينبغي أن يثبتوا وجودهم من خلال البعد، ومقاطعة الوسائل والأماكن التي يكون فيها معصية إلا بشرط زوال هذه المعصية، وبالمقابل الإقبال على المجالات الخيرية التي فيها نفع وفيها طاعة.(96/15)
من وسائل الأمر بالمعروف: الجريدة
والجريدة أيضاً وسيلة منتشرة -مهما كان الأمر- وكل موظف يقرؤها، وكل إنسان يقرؤها، وقد يطبع من بعض الجرائد أحياناً مائة ألف نسخة أو مائتي ألف نسخة في اليوم الواحد، فما الذي يمنع أن تكتب أنت بإنكار بعض المنكرات في الجريدة؟ خاصة إذا كان المنكر انتشر في الجريدة نفسها.
أي: افترض أنك قرأت في إحدى الجرائد أو رأيت في إحدى الجرائد منكراً، لا يكفي أنك تقول: أتكلم في المجلس، لأن المجلس فيه عشرة، لكن الذين قرءوا الجريدة مائة ألف -كما ذكرت- فما هو الذي يمنع أن تكتب، إذا كنت على مستوى أن تكتب مقالة، وتبعث بها إلى الجريدة، وتكون مناسبة للنشر بقدر المستطاع، وتراعي فيها قواعد النشر، من أجل أن يستفيد منها أكبر قدر ممكن من الناس؟ فهذه من الوسائل.(96/16)
من وسائل الأمر بالمعروف: الهاتف
الهاتف وسيلة أيضاً ممكنة جداً أن تتصل بالهاتف لفلان أو علان وتنكر عليه، سواء كان الذي تتصل عليه هو صاحب المنكر، فتقول له: يا أخي وجدت كذا، ولاحظت كذا، أم كان شخصاً يستطيع أن يغير المنكر، إما بمكانته وجاهه كأن يكون عالماً أو وجيهاً أو مسئولاً يستطيع أن يساهم في إزالة المنكر، والهاتف وسيلة فعالة ومؤثرة، أرأيتم حين تعلن مؤسسة -مثلاً- عن عمل لا يرضي فيُتصِّل عليها من أطراف شتى ما الذي يحدث؟ أذكر أنني اتصلت يوماً من الأيام بمؤسسة أعلنت عن حفل في إحدى الدول المجاورة، وهذا الحفل -كما هو ظاهر من خلال الإعلان- مختلط، الرجال والنساء فيه، فاتصلت بهم ولما كلمني المسئول عرفته بنفسي ومن أين أتصل به ثم قلت: إنني قرأت في الجريدة الفلانية إعلاناً مؤداه كذا وكذا فما أدري ما هو الدافع إلى مثل هذا الإعلان، وأنتم تعرفون …!! المهم فبعد ذلك اعتذر لي، وقال لي: هذا الإعلان أولاً: خطأ نزل منا بطريق الخطأ -بغض النظر عن كلامه هو صحيح أو غير صحيح- وبعد ذلك أعلنا في الجريدة في اليوم التالي نقضاً لهذا الإعلان، لكن ربما لم يتسن لك الاطلاع عليه، ثم قال: إن الناس اتصلوا بنا -هو يقول لي- من كل مكان، حتى كبار العلماء والمشايخ اتصلوا بنا، وقد بلغناهم بهذا الأمر، ونحن نشكركم… إلخ.
ومعنى ذلك أنك حين تتصل أنت وأنا والثاني والثالث والعاشر استطعنا أن نفهم الناس ماذا نريد، وماذا يريد المجتمع؟! وهذه الوسيلة مؤثرة جداً في الوقت الذي لا تكلف فيه شيئاً، فلابد أن تكون إيجابياً، لا تقول ليس هناك فائدة، بل جرب الاتصال الهاتفي، وهو لا يكلفك أكثر من خمس دقائق، والمبلغ الذي تدفعه مقابل المكالمة الهاتفية في سبيل الله عز وجل، فجرب أنك تتصل بصاحب المنكر أو بعالم أو بمسئول يستطيع أن يغير، وتتكلم معه حيال منكر معين، وستجد أن غيرك اتصل فيه، وبالتالي ساهمت مساهمة فعالة في إزالة هذا المنكر أو في تقليله، وهذه وسيلة أو طريقة.(96/17)
من وسائل الأمر بالمعروف: الكتاب
ومن وسائل الإنكار: الكتاب أو الكتيب الصغير، سواء تكتب كتاباً في إنكار أحد المنكرات، أو تساهم في نشره: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] أنت طالب علم -مثلاً- تستطيع أن تكتب كتيباً صغيراً في معالجة المنكرات، واسع في طباعته وتوزيعه بين الناس، لكن قد تقول: أنا لست بطالب علم ولكنْ عندك مال ساهم في نشر الكتاب بالمال، حتى يوزع أو يباع بسعر رخيص.
وقد تقول: حتى المال ليس عندي مال، فلا بأس، لكن ساهم في نشر الكتاب عن طريق أنه إذا وزع الكتاب بالمجان تأخذ هذه الكتب، وتوزعها في المدارس والمساجد والمؤسسات وغيرها، وكل إنسان له موقع فإنه يؤدي دوره ويقوم به بحسب قدراته وإمكانياته.
وأيضاً قضية النشرة الصغيرة أو ما يسمونه اليوم بالمطويات -أربع ورقات أو خمس ورقات- وهي تعالج موضوعاً معيناً، وهذه من السهل أن يقرأها الإنسان وهو واقف أو يمشي، وتعالج أحد هذه المنكرات، فمن الممكن أن تشارك فيها أيضاً.(96/18)
من وسائل الأمر بالمعروف: الشريط
قضية الشريط سواء بإعداد شريط في معالجة إحدى المنكرات الموجودة، أم بالمساهمة في نشر هذا الشريط وترويجه بقدر ما تستطيع، خاصة ونحن نعلم اليوم أن كثيراً من البيوت إن لم يكن كلها يوجد عندهم أجهزة تسجيل يسمعون بها، ويوجد عندهم أيضاً أجهزة السحب -أصبحت اليوم في كل بيت- وجهاز السحب يسحب به أربعة أشرطة أو خمسة، فبإمكانه أن يساهم بسحب هذا الشريط الذي يقوم بإنكار المنكر، ويقوم بتوزيعه على النطاق الذي يستطيعه.(96/19)
من وسائل الأمر بالمعروف: الكلمة
ومن الوسائل مثلاً الكلمة، الكلمة الهادفة سواء أكانت درساً أم محاضرة أم نصيحة بعد الصلاة أم خطبة أم كلمة تلقيها أمام زملائك ومجالات الكلمة واسعة جداً، تخصص هذه الكلمة للتنبيه على منكر من المنكرات وتكون هذه الكلمة بأسلوب مناسب.
ومن الأمور التي ينبغي أن تراعى في هذه الكلمة أن لا تكون هذه الكلمة ضربة في الوجه، -مثلاً- افترض أنك تريد أن تنكر أحد المنكرات الظاهرة، ومثالها اليوم أنك لا تكاد تجد مجتمعاً إلا وفيه من يشرب الدخان، أو يسبل في ثوبه، أو يحلق لحيته أو يرتكب بعض المعاصي -مثلاً- فهل معنى ذلك أني إذا أتيحت لي فرصة الكلمة، أحمد الله وأثني عليه، وأقول: الناس اليوم يحلقون لحاهم، وحلق اللحى ورد فيه كذا وورد فيه كذا، بهذا الأسلوب.
قد يخرج الناس بانطباع لا يخدم قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة، وقد لا يستجيبون لك.
ولكن لو أنك بدأت بقضية أكبر من هذه -مثلاً- قضية التشبه بالمشركين ولماذا نهى الإسلام عن التشبه بالكفار وتذكر أدلة وأمثلة وكلام المؤرخين وكلام الناس المعاصرين، بحيث تتدرج بعد ذلك، وتضرب الأمثلة لبعض التشبه الذي وقع، وتأتي بقضية حلق اللحية كمثال على التشبه بالمشركين -مثلاً- فضلاً عن أنه ورد فيها نصوص خاصة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أعفوا اللحى} إلى غير ذلك، وتنطلق من هذا المنطلق، فإنك بعد ذلك تجد أن الحاضرين وإن كانوا حليقي اللحى، إلا أنهم تقبلوا كلامك، ودخل في قلوبهم ونفوسهم واستساغوه.
وقد ذكرت لبعض الزملاء أنه حصلت لي قصة يوماً من الأيام في إحدى المدارس: زرت إحدى المناطق في هذه المملكة، فرأيت أن المدرسة التي زرتها يوجد فيها عدد كبير من المنكرات.
فآليت على نفسي أنني لا بد أن أقول لهم شيئاً عنها، فلما تحدثت ذكرت كلاماً عاماً عن الشباب ومشكلات الشباب، وأوضاع الشباب وما يجري لهم، وخطط الأعداء والغربيين للقضاء على الشباب حتى ارتاح الحاضرون جميعاً، وأحسوا بأن هذا كلام جيد، وهم يحتاجون إلى مثله، وربما لم يسمعوه في بلادهم، باعتبار أنها بلاد نائية إلى غير ذلك.
بعد هذا تكلمت عن الاعتزاز بالإسلام، وأن المسلم عزيز، وأنه هو الأعلى، الأعلى في دينه، الأعلى في عقيدته، الأعلى في سلوكه، وفي منهجه، وفي تاريخه وهكذا وذكرت أن المسلم العالي لا يقلد الكافر النازل، كما أن الكبير لا يقلد الصغير، والمدرس لا يقلد الطالب، وإنما الذي يحصل هو العكس، أن الصغير يقلد الكبير، والطالب يقلد المدرس، والمغلوب يقلد الغالب، ثم ذكرت هذه القاعدة، ثم انتقلت إلى التشبه بالمشركين، وما ورد فيها من النصوص، ثم ذكرت كل المنكرات التي رأيتها، وأدخلتها في باب التشبه.
فخرج معي أحد الأساتذة، وكان يحدثني ويقول: جزاك الله خيراً أنت في الواقع أنكرت علينا، ولم نجد في أنفسنا من هذا الإنكار شيئاً، لكن فلاناً من الناس، وذكر شخصاً على رغم صغر سنه وعدم خبرته إلا أنه يقوم على المنبر ويتكلم بكلمات مبتذلة عن بعض هذه الأمور.
حتى أنه ذكر لي: أنه يوماً من الأيام خصص خطبة للكلام عن حلق اللحية، وكان من ضمن ما قال: إن الذي يحلق لحيته مخنث، فهم بطبيعة الحال فهموا كلمة مخنث على غير وجهها؛ لأن الخطيب يقصد بمخنث أي: أنه إنسان يتشبه بالنساء، وفيه ليونة وفيه ترف وفيه تفسخ لا أكثر، هذا هو معناها اللغوي، لكن العرف الاجتماعي يفهمون من هذه الكلمة، أنه يقصد بها أنهم أصحاب فساد خلقي أو فواحش أو ما أشبه ذلك، فعظم هذا الأمر عليهم، وكان سبباً في عدم قبولهم لهذا الأمر، الذي أنكره عليهم.
إذاً الكلمة سلاح، لكن ينبغي أن يحرص ويحسن الإنسان كيف يتسلل إلى قلوب الناس في إنكار المنكر الذي يراه عليهم.(96/20)
شروط الإنكار باليد
النقطة الرابعة: قضية الإنكار باليد، أي تغيير المنكر أو هدمه أو إتلافه أو إحراقه، هذا معنى الإنكار باليد، الإنكار باليد هو أحد مراتب الإنكار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فليغيره بيده} بل هو أول مراتب الإنكار، وهي أن ينكر الإنسان بيده، والأصل أن الإنكار باليد يكون مهمة المسئولين عن إنكار المنكر أي: مهمة الجهة التي فوض إليها إزالة المنكر -لكن قد يحدث في كثير من الأحيان أن هذه الجهات لا توجد أصلاً- أي: في كثير من البلاد لا توجد هذه الجهات أصلاً التي يسند إليها هذا العمل أو توجد لكن لا تقوم بدورها ولا تمكن بذلك، فهنا صرح أهل العلم بأنه يجوز الإنكار باليد بأربعة شروط:(96/21)
السلطة القائمة بالإنكار
الشرط الأول: -الذي أشرت إليه سابقاً- وهو فقدان السلطة القائمة بالإنكار باليد، ولا شك أنه إذا وجد الماء فإنه لا يحتاج الإنسان إلى التيمم، فإذا وجد من يقوم بتغيير المنكرات باليد بطريقة مدعومة ممكنة قوية رسمية فلا داعي لغير ذلك، وإذا لم توجد فهنا يأتي الدور.(96/22)
ظهور المصلحة الراجحة
الشرط الثاني: ظهور المصلحة الراجحة في ذلك، وهو أن يكون في الإنكار باليد مصلحة ظاهرة راجحة على المفسدة، أما إذا ظهر للإنسان أن في الإنكار باليد مفسدة أكبر وأنه قد يجر إلى مفاسد أخرى مثل تضييق الخناق على الطيبين والصالحين، أو انتشار المنكر أكثر وأكثر، فإنه يكون الإنكار باليد حينئذٍ ممنوعاً.(96/23)
تعذر غيرها
الشرط الثالث: أن يتعذر بغيره، أي: إذا استطعت أن تغير هذا المنكر باللسان فالحمد لله، فلا تلجأ إلى اليد إلا إذا تعذر الإنكار باللسان.(96/24)
مراجعة العلماء
الشرط الرابع: -وهو مهم جداً- وهو مراجعة العلماء في ذلك، وأن يكون المرجع فيه إلى علماء أهل السنة والجماعة، بمعنى أن كثيراً من الشباب بحكم ما أعطاهم الله عز وجل من قوة الشباب وتوقده وحيويته وما أنعم الله عليه به من قوة الإيمان -أيضاً- أصبح الواحد منهم إذا رأى المنكر فار الدم في عروقه، وقد يغير بيده دون أن يراجع أهل العلم، والواجب في نظري مراجعة أهل العلم في ذلك، وخاصة أهل العلم الذين يعرف الجميع أنهم مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الإصلاح، مع الدعوة، فإن مراجعة هؤلاء تضمن مصالح عديدة: المصلحة الأولى: التيقن من أن هذا الإنكار نفعه أكثر من ضرره؛ لأنه أنا وأنت قد لا نستطيع أن نقدر بالضبط لأن نظرتنا قصيرة، لكن غيرنا يمكن أن يكون أبعد نظراً منا.
المصلحة الثانية: أن الذي ينكر باليد قد يتعرض لضرر في نفسه أو ماله أو بدنه أو أهله أو وظيفته أو ما أشبه ذلك، فهو يحتاج وقوف أهل العلم معه فإذا كان يصدر منهم وعنهم فحينئذ يضمن هذا.
المصلحة الثالثة: أن هذا يعطي دعماً لأهل العلم -كما سبق أن نوهت به أكثر من مرة- فمن أهم وسائل إنكار المنكر وجود العالم الذي يكون الناس ملتفين حوله سائرين وراءه، فيكتسب بذلك نوعاً من المنعة والقوة تمكنه من إنكار المنكرات، فإذا كنت أنا وأنت وفلان وفلان لا نقوم بهذه الأعمال إلا بعد أن نرجع إلى العالم أكسبنا العالم قوة وأصبح الآخرون يدركون أن هذا العالم يملك أن يغير أشياء كثيرة، لكنه يؤثر أن يغيرها بطريقة سلمية، يكون هذا أفضل له ولهم، فهذا مما يجعل كلمة العالم مسموعة وصوته مؤثراً، فبذلك نكسب أموراً كثيرة إذا ربطنا هذه القضية بالعلماء، ونسلم مما وقع في كثير من البلاد من أن يكون الإنكار باليد سبباً في حدوث أمور ومشاكل كثيرة لا يعرف لها أول ولا آخر.(96/25)
المسئول عن إنكار المنكر
الخامسة: وهي من المسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هذه قضية في غاية الأهمية، جمهور الأمة إذا رأوا المنكرات غضبوا وفار الدم في عروقهم، وامتعضوا من هذه المنكرات، فإذا وجد الجمهور المجال الطبيعي للإنكار أنكر، والمجال الطبيعي ما هو؟ المجال الطبيعي يتلخص في نظري في أحد قناتين أو طريقين: إما القناة الأولى وهي: الجهات والمؤسسات الرسمية التي تقوم بإنكار المنكر.
وأما القناة الثانية: إذا لم توجد الأولى هي: أن نسير خلف العلماء الذي يتحملون مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذا أغلقت هاتان القناتان، ولم يجد الناس وسيلة للتغيير رسمية لا عن طريق العلماء ولا عن غيرهم، حينئذٍ يحدث الأمر الذي ذكرت لكم قبل قليل، وهي أن الناس يلجئون حينئذ إلى اجتهادهم، وهم معذورون؛ لأن الإنسان ليس مطالباً بأن يكف يده ويغلق عليه بيته ويترك المجتمع لهذه المنكرات تعبث به، فحينئذ تحدث اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، والإنسان يجتهد بحسب ما يستطيع.(96/26)
آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
النقطة السادسة: وهي قضية آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: من آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:(96/27)
الإسرار والإعلان
النقطة السابعة: الإسرار والإعلان: قضية الإسرار والإعلان في موضوع المصلحة، هل تنكر سراً أم تنكر علناً؟ كلاهما وارد في الشرع، فقد يكون من المصلحة أن تنكر علانية وقد يكون من المصلحة أن تنكر سراً، -مثلاً- بعض الصحابة والتابعين كانوا ينكرون علانية، ومثل ذلك طارق بن شهاب رضي الله عنه، يذكر كما في صحيح مسلم أن مروان بن الحكم لما كان أميراً على المدينة أخرج المنبر في يوم العيد، وطفق يخطب قبل الصلاة، فقام إليه رجل، وقال: يا مروان خالفت السنة، قالها بصوت جهوري سمعه الناس: أخرجت المنبر في يوم العيد، ولم يكن يخرج، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، قال له مروان: قد ترك ما هنالك.
ومرة أخرى أبو سعيد الخدري نفسه، لما قام مروان ولعلها كانت قبل ذلك، جاء مروان ليخطب، فقام ليغير عملياً وقف في وجه الأمير مروان بن الحكم وأمسك بثوبه وتله - أي: جره- وقال: إلى أين؟ فجره مروان وذهب، وصعد المنبر فلما انتهى، أنكر عليه أبو سعيد، فقال: قد ترك ما هنالك، فذكر أبو سعيد أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقته.
وكذلك الصحابة فيما بينهم -مثلاً- عمر رضي الله عنه، كم وكم أُنكر عليه، وهو على المنبر، ولعل من أصح القصص في ذلك، ما رواه الشيخان: أن أبي بن كعب قال لـ عمر مرة من المرات لما حصل خصومة بين عمر وأحد الصحابة، قال أبي بن كعب لـ عمر: يا ابن الخطاب لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وعثمان بن عفان لما نهى عن المتعة في الحج -يعني جمع العمرة والحج- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان حاجاً معه: لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، قالوا لماذا؟ قال: أردت أن أبين أن ما يأمرنا به عثمان غير صحيح، ومخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك معاوية كان أميراً رضي الله عنه، وكان يستلم الأركان كلها في البيت ولا يكتفي باستلام الركن اليماني أو الحجر الأسود، يستلم الأركان الأربعة كلها في الكعبة، فأنكر عليه ابن عباس رضي الله عنه فقال له معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً، لماذا نهجر الأركان هذه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الركنين اليماني والأسود.
ومثل ذلك كثير: عائذ بن عمرو دخل يوماً من الأيام على عبيد الله بن زياد، وقال له: يا ولدي- هذا الأمير كان أمير العراق- يا ولدي إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} يعني: الإنسان القاسي الغليظ، فاحذر أن تكون منهم، قال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وهل كان لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نخالة، إنما كانت النخالة فيمن جاء بعدهم، أي: مثلك، فكانوا ينكرونها علانية لأنهم رأوا المصلحة في ذلك.
وقد يرى الإنسان المصلحة في الإسرار كما إذا كان المنكر شخصياً، أو رأى أن هذا الإنسان قد تأخذه العزة بالإثم، أو قد يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المصلحة فحينئذ يسر، إذاً المصلحة والمفسدة من القضايا التي تجري في موضوع الإسرار والإعلان بالمنكر، يعني: بإنكار المنكر.(96/28)
الرفق
أولاً: الرفق، فإنك قلما أغضبت رجلاً فقبل منك، وكلما أمكن أن تأمر وتنهى برفق، كان هذا هو المتعين عليك.(96/29)
الحكمة
ثانياً: ومن الآداب -أيضاً- الحكمة، والحكمة قضية مشكلة جداً؛ لأن كثيراً من الناس لا يستطيع أن يعرف بالضبط ما المقصود بالحكمة، فبعض الناس يعتقد أن الحكمة تعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا قلت لشخص: يا أخي بارك الله فيك صلِّ، قال: ادع بالحكمة، تكلم لكن بحكمة، تكلم بحكمة، فماذا فعلنا نحن؟ كل ما في الأمر أننا وجهنا إليك نداء ودعاء بأن تصلي! قال لك: يا أخي بحكمة.
ولا شك أن هذه من الأشياء التي أصبح كثير من الناس لا يعرفونها حق معرفتها، وبالمقابل قد يخفى على بعض الناس وجه الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يقوم بعمل لا تتوفر فيه الحكمة بشكل كافٍ، فلا بد من الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكمة في كل شيء بحسبه كما يقول الشاعر: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى من الحكمة أن تستخدم اللين في موضعه، لكن من الحكمة أن تستخدم الشدة في موضعها أيضاً، وأذكر لكم قصة الشاب الإسرائيلي وهي قصة في الصحيحين: لما كان بين الساحر والراهب، والقصة طويلة، لكن الشاهد منها، أنه في آخر القصة، قال الغلام للملك بعد أن عجز عن قتله: هل تريد أن تعرف كيف تقتلني؟ قال: نعم، قال: اصلبني إلى جذع شجرة ثم اجمع الناس كلهم، وقل: بسم الله رب الغلام ثم اقتلني، أرسل إلي سهماً فيقتلني، ففعل الملك، فلما فعل ذلك، قال الناس كلهم بصوت واحد: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام.
هذا العمل الذي قام به الغلام ترتب عليه موت -قتل- أي: آخر ما يخطر في بالك لكنه بلا شك في جميع المقاييس من الحكمة؛ لأنه ترتب عليه موت واحد وحياة ألوف مؤلفة من الناس، أحياهم الله تعالى بالإيمان بعد أن كانوا أمواتاً بالكفر.
فالحكمة، تعني وضع الشيء في موضعه، إذا استدعى أمر أن تستخدم القوة والشدة استخدمها، تستخدم اللين استخدمه، تستخدم الكلمة استخدمها، الرسالة، الشريط، الكتاب كل شيء تضعه في موضعه، وقد لا يستطيع الإنسان أن يقدر الحكمة في بعض القضايا، فإن استطاع أن يستنير بغيره ويستشير فهذا جيد، ولذلك يقال الناس أنواع: واحد كامل: -ليس المقصود كمال كلي؛ لأن الكمال لله، ولكن كمال نسبي- فهذا هو الذي له عقل ويستشير، هذا رجل.
وآخر نصف رجل: وهو الذي له عقل، لكنه لا يستشير.
والثالث لاشيء: وهو الذي لا عقل له ولا يستشير، فهذا يعتبر لاشيء.
فاعمل أنت على أن تكون رجلاً، أن تستشير مع عقلك، وتكون أضفت إلى عقلك عقل غيرك، فإن لم يكن فعلى الأقل كن نصف رجل واستخدم عقلك بشكل جيد وإياك إياك أن تكون لا شيء فتخسر، وتكون سبباً في خسران غيرك.(96/30)
الحلم
ثالثاً من الآداب: الحلم، من الممكن أن تواجه من المُنْكَر عليه كلمات جارحة وأسلوباً غير مناسب.
فعود نفسك على أن تكون واسع البال، واسع القلب بطيء الانفعال، واجه الكلمة بالابتسامة، واجهها برد حسن واجهها بنكتة أحياناً وطرفة، فوِّت الفرصة على هذا الإنسان؛ لأنه يجن جنونه إذا رأى أنه في ذروة الانفعال والغضب وأنت أعصابك كما يقال: في الثلاجة، لم تتحرك ولا انفعلت، إنما قابلت كلامه الغليظ بابتسامة أو بنظرة أو بكلمة حلوة أو بنكتة قلتها له، فإن هذا أعظم ما تستطيع أن تغلبه به.(96/31)
العدل
رابعاً: العدل، والعدل يأخذ صوراً شتى، منها: أن هذا الإنسان الذي وقع في المنكر لا تنس أن له حسنات، فلو أتيت وقلت له: يا أخي في الحقيقة أنت رجل صالح، وأنا أشهد لك، ليس على سبيل المجاملة، لكن من باب العدل الذي أمرنا الله به، أنك محافظ على الصلاة في جماعة، وهذا هو الذي أغراني أن أقول لك كذا وكذا، فهذا من أسباب القبول لأنك عادل، لكن إذا تجاهلت كل حسنات هذا الإنسان وأهدرتها ربما لم يقبل منك.
وكذلك العدل تحتاج إليه فربما يحصل من جراء إنكار المنكر -أحياناً- موضوعات تطول مثل قضية مخاصمة أو رفع إلى القضاء أو ما أشبه ذلك، فهنا أكون عادلاً وأقول الكلام الذي لي، والكلام الذي علي، وأراقب الله عز وجل في ذلك.(96/32)
الصبر
خامساً: الصبر: فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يلقى الأذى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] .(96/33)
النظر في المصالح والمفاسد
النقطة السادسة: -وهي قضية مهمة- وهي قضية المصلحة والمفسدة، لماذا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر حتى نحقق المصالح وندفع المفاسد، وإنما بعث الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من أجل جلب المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها، فأنت حين تأمر أو تنهى تقصد المصلحة.
فلو علمت أن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر يترتب عليه مفسدة حينئذ يكون ممنوعاً عليك، ولهذا يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خرج مع بعض تلاميذه من دمشق، كما ذكر هذا الإمام ابن القيم، فلما خرجوا مروا ببعض التتر وكانوا يشربون الخمور خارج دمشق أيام غزوهم لبلاد الإسلام، فهمَّ بعض تلاميذ شيخ الإسلام بالإنكار عليهم وذهبوا إليهم، فقال شيخ الإسلام: دعوهم، اتركوهم وما هم فيه، قالوا: رحمك الله نتركهم على هذا المنكر، قال: نعم، إن هؤلاء القوم لو صحوا من سكرهم لدخلوا دمشق، وهتكوا أعراض النساء، ونهبوا الأموال وقتلوا الرجال، فما هم فيه الآن، وإن كان منكراً إلا أنه أخف من المنكر الذي يمكن أن يحصل لو تركوا شرب الخمر.
إذاً القضية قضية العمل على تحصيل المصلحة الأعظم ودفع المفسدة الأكبر، ولذلك العقل والشرع -أيضاً- هو تحصيل خير الخيرين ودفع شر الشرين، وإلا لا يكاد يوجد في الدنيا مصالح محضة (100%) ولا مفاسد محضة (100%) إلا أن المسألة مسألة موازنة أيهما أعظم، فإذا كانت المصلحة أعظم حصِّلها، وإذا كانت المفسدة أعظم ادفعها، ولذلك لا بد أن توازن بين المنكر الصغير وبين المنكر الكبير، فتبدأ بالأكبر قبل الأصغر، وكذلك إذا ترتب على المنكر منكر أكبر منه فدعه.(96/34)
دور الشباب
النقطة الثامنة: قضية دور الشاب، ومن الأشياء الذي تعجبني أن كثيراً من الأسئلة التي وردتني يقولون: ما هو دورنا كشباب في إنكار المنكر؟ وهذا يدل على بداية حسنة ومعناها: أننا بدأنا نفكر أين الطريق؟ وما هو الأمر الذي يجب أن نفعله؟ فأقول بداية وإن كان الموضوع يتطلب وقتاً أطول من هذا(96/35)
أن يقوم بالدور الكامل
أول واجب على الشاب هو أن يقوم بالدور كاملاً -كما سبق تفصيله- أكثر مما يقوم به غيره، يعني -مثلاً- الكلمة أو الكتاب أو الشريط أو المناصحة أو المقاطعة لأماكن الفساد أو ما أشبه ذلك، فهذه كل المجتمع يقوم بها.
لكن الشاب بصفة خاصة ينبغي أن يقوم بها، تقوم بها في المنزل، دورك في المنزل، دورك مع زملائك في العمل، دورك في الفصل إن كنت طالباً وهكذا، أن يقوم الشاب بدوره خير قيام وأن يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الهم والوظيفة التي نذر حياته من أجلها، ولا أتردد طرفة عين، أننا لو ملكنا جمعاً مثل هذا الجمع في هذا البلد -مثلاً- أو في هذه المنطقة، وكل واحد منهم همه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لاختفت كثير من المنكرات، وظهرت كثير من السنن التي هجرت وتركت، فهذا دور ينبغي القيام به.(96/36)
الالتفاف حول العلماء
الواجب الثاني: دورهم في مواصلة العلماء، فإن العالم له دور كبير في إزالة المنكرات، خاصة المنكرات الراسخة المتأصلة التي امتدت جذورها في الأرض وتعمقت وتأصلت، وأصبح من الصعب إزالتها، فهذه تحتاج إلى رجال ذوي قوة ومنعة ومكانة ليقوموا بتغييرها، ولا يكون ذلك إلا بأن يقوم الشباب بالالتفاف حول العلماء العاملين المتبعين للسنة، ومن الالتفاف حولهم: تبليغهم بالمنكرات التي تقع.
على الأقل اجعل من نفسك واسطة لإيصال ما يقع من المنكر إلى العلماء وتبليغهم به مع تزويدهم بالوثائق الكافية، أي: فلا يكفي أن تقول في مكان كذا منكر؛ لأن هذا قد لا يكون، قد تكون ظننت الأمر على غير ما هو عليه، لكن عليك أن تأتي بالأدلة الكافية على صدق ما تقول، وتجعل العالم يرى المنكر كما لو كان رآه بعينه فعلاً، حتى يستطيع أن يتكلم بقوة وجرأة، هذا من واجبنا، وقد سبق أن ذكرت نماذج في ذلك.
مثلاً: المراسلة أن تكتب الرسالة للعلماء أو الدعاة أو طلبة العلم لتزودهم ببعض ما ترى، أو تسمع من مقالات، أو كتابات أو قصائد أو منكرات أو أشياء مخالفة للشرع، حتى يستطيعوا أن يقاوموها بقدر ما يمكن، فتكون أنت على أقل تقدير رافداً يواصل العلماء بما يقع في الأمة؛ لأن العالم قد يكون مشغولاً بدرسه ومجلس علمه وارتباطاته الكثيرة عن معرفة مثل هذه التفاصيل الدقيقة، فكن أنت عين العالم على المجتمع، وأذن العالم التي تنصت لما يقال في المجتمع، ثم إذا واصلته حينئذ فقد قمت بدورك وبقي دوره.(96/37)
المشاركة الرسمية
الواجب الثالث: من دور الشباب: هي قضية المشاركة الرسمية في مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن دائماً نحب أن نلقي بالمسئولية على غيرنا لنخرج أبرياء، فمثلاً: كثير من الناس يتكلمون عن جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لم يقم بالدور الواجب منه، وقد يقول البعض بأن فيه موظفين كثيرين من كبار السن أو… إلى آخره.
إذاً أين أنا وأنت والثاني والثالث؟ لماذا لم نقم بهذا الدور؟! لو أن هذا الجهاز مدعوم بعدد كبير من الشباب المتدين الواعي المدرك، لكان هذا الجهاز مهما كانت العقبات أمامه، ومهما وجد في المجتمع من يمتعض أو يستاء من هذا الجهاز، أو يحاربه لكان هذا أكبر وأقوى من أن يقف أحد في وجهه، لكن عندما حصلت الأمور السابقة، مثل الإعراض عن هذا الجهاز، وكون كثير من الصالحين والشباب الجامعي لا يرغب أن يتوظف فيه، حصلت السلبيات اللاحقة لذلك، فعلينا أن ندرك أننا نحن مسؤولون أيضاً عن هذا التقصير الذي حصل، ويجب أن نتداركه بقدر المستطاع.(96/38)
أسباب عدم إنكار المنكر
أخيراً لماذا لا نغير؟ وما هي الأسباب التي تمنعنا من إنكار المنكر؟ هناك أسباب كثيرة منها:(96/39)
الخجل
أولاً: الخجل: نحن نستحي ولم نتعود، عندنا وهن وخوف من الناس، والهيبة والخجل لا يزول إلا بالممارسة الفعلية، جرب وسوف يزول الخجل تدريجياً وتلقائياً.(96/40)
التعذر بالمعصية
ثانياً: يقول بعض الشباب كما في الأسئلة، يقول: أنا عاصٍ، فكيف أغير المنكر؟ وأقول: نعم، تغير المنكر، وإن كنت عاصياً: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد عليه الصلاة والسلام، والله عز وجل عاتب بني إسرائيل، وقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] حتى فاعل المنكر يجب أن ينكر، وهذه مسألة طويلة وقد بسطتها في مواضع كثيرة فلا أرى داعي للوقوف عندها.(96/41)
التعذر بعصيان القريب
ثالثاً: يقول بعض الشباب: أنا لست بعاصٍ، لكن أخي عاصٍ، فكيف أنكر على الناس، وهم يرون أخي قد وقع في هذه المعصية؟ وهذا في الواقع ليس بعذر؛ لأنك لست سلطاناً على أخيك فتستطيع أن تأمره بالمعروف أو تلزمه به قسراً، قد أمرت أخاك فلم يأتمر، ونهيته فلم ينته، فحينئذٍ انتقل إلى غيره ولا تكترث من هؤلاء الذين يعيرونك به؛ لأنهم يعرفون بأنه لا سبيل لك إليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لكنهم أرادوا فقط أن يؤذوك بشيء، فقالوا: أخوك عاصٍ، فأنت قل لهم: أخي عاصٍ وأنتم عصاة وأسأل الله العظيم أن يهدينا وإياكم جميعاً، ولكن عليكم أن تسمعوا هذا الكلام: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] أما مسألة أنه يقول: إنكم عصاة، فهذه قضية بحسب المصلحة، كما أسلفت.(96/42)
التعذر بأنه لا يستمع له
رابعاً: بعضهم وبعضهن يقولون: لن يسمع مني، ولن يزول هذا المنكر فما هو الداعي إلى أن أكلف نفسي؟ وهنا تأتي القضية بعض الشباب يريد أنه بمجرد أن يقول كلمة تزول المنكرات، وهذا ليس صواباً، حتى تصور أن الحاكم بجرة قلمه يستطيع أن يزيل المنكرات كلها، وهذا ليس بصحيح، بل الأمور كلها لابد فيها من مراعاة التدريج لكن الشيء الذي نطلبه هو أن يكون عندنا جدية وصدق في إزالة المنكرات، وبداية صحيحة بحيث نطمئن إلى أننا بدأنا ووضعنا أقدامنا على طريق التغيير، أما إزالة المنكرات كلها بجرة قلم وبلحظة فهذا لا يتصور، وليس بسهل، إن إزالة المنكر أمامه عقبات، والمنكر قد امتدت جذوره في واقع الناس، وله مؤيدون وله أنصار، وله منافقون يحامون عنه إلى غير ذلك، فتصور الأمور بهذه البساطة غير صحيح، لكن أنت إذا أنكرت كسبت أموراً: أولها: أنك قاومت المنكر من نفسك؛ لأنك أنت نفسك مهدد بأن المنكر يصل إليك، وممكن أن تقع فيه، فإذا أنكرته تكون سلمت منه بإذن الله تعالى.
ثانيها: كسبت الأجر في القيام بهذه الفريضة والشعيرة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثها: قد تقلل من المنكر، تقلل منه.
رابعها: قد تزيله.
خامسها: على أقل تقدير قد تمنع حدوث غيره؛ لأنه إذا كان هناك من يريد أن يفعل منكراً أكبر من الواقع الآن، ووجد أنك حتى المنكر الموجود الآن لم تهضمه ولم تقبله، وأنك ترفضه وتنكره، فيقول: إذاً كيف أريد أفرض عليه منكرأ أكبر، فعلى أقل تقدير تمنع من حصول المنكر الذي يمكن أن يقع.
وفضلاً عن هذا وذاك فإن أقل ما نجنيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا تستقر المنكرات حتى تصبح كأنها معروفاً؛ لأنه إذا لم يوجد من يأمر وينهى، فإنه يهرم عليها الكبير، وينشأ عليها الصغير، وتصبح حقاً ومعروفاً، إذا تركت قيل: ترك الحق وترك المعروف وتركت السنة، لكن إذا وجد أولوا بقية ينهون عن الفساد، يكفي أنهم يقولون للناس بملء أفواههم: يا ناس هذه منكر وهذا لا يجوز، وقد يأتي يوم من الأيام من يستطيع أن يزيله أو يغيره بأي وسيلة.(96/43)
الخوف من الأذى
خامساً: بعض الناس يدعون إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم يخافون من الأذى، والأذى شيء طبيعي: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الترمذي وغيره: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} .
يبتلى المؤمن على قدر إيمانه، فالأذى عربون حسن على أنك إن شاء الله مؤمن، وأنك بدأت تتحلى بصفات المؤمنين، وواجه الأذى بالصبر والحلم كما أسلفت.(96/44)
خوف الفتنة
سادساً: بعض الناس يقول لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر أخشى أن تحدث فتنة، وأقول: إن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد عاب الله تعالى على المنافقين أنهم تركوا الخروج مع الرسول عليه الصلاة والسلام للغزو بحجة خوف الفتنة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] ويقول الله عز وجل: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] فأنت الآن أمام فتنة قائمة، وهي المنكر الموجود، تقول: لا أنكر وأخشى من فتنة متوقعة، نقول: الفتنة الواقعة يجب إزالتها، وعدم الالتفات إلى الفتنة التي تخافها، فالفتنة المخوفة محتملة يمكن تقع أو لا تقع وقد يكون هذا من سوء التقدير أو من الجبن فإن الجبان يخاف من كل شيء، كما قال المتنبي: يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك سجية الطبع اللئيم فالجبان يخاف من كل شيء ويَفْرق من ظله، ولهذا كل شيء لا ينكره، يقول: أخشى أن يكون إنكاري سبباً في إحداث فتنة.(96/45)
الأسئلة(96/46)
حكم إحراق المجلات والأشرطة من غير إذن صاحبها
السؤال
يوجد مع رجل مجلات فيها نساء، وأشرطة غناء، فهل يجوز لي أخذها وإحراقها مع أني نصحته قبل ذلك؟
الجواب
هذه من الأمور التي تختلف فيها وجهة النظر، فإن كنت قَيِّماً على هذا الإنسان أو مهيمناً عليه، فإن لك أن تأخذها وتحرقها، أما إن كنت بعيداً عنه وليس لك صفة رسمية تستطيع من خلالها أن تأخذ هذه المجلات أو الأشرطة وتتلفها، فلا أرى أن تفعل ذلك لما قد يترتب عليه من المفاسد الأخرى.(96/47)
حكم مقاطعة المحلات الغذائية التي تبيع الأشياء المحرمة
السؤال يقول: الذي فهمت أن الأفضل أن يقاطع الإنسان المسلم المحلات الغذائية التي تبيع الأشياء المحرمة والذهاب إلى غيرها فما رأيكم؟
الجواب
لا أقول أنه واجب لكن هذا هو الأفضل، حتى ندعو الناس إلى ترك هذه المنكرات، ونثبت أن زبائنهم الآخرين الطيبين يجب أن يراعى ما يريدون.(96/48)
كيفية التوبة من الغيبة
السؤال يقول: اغتبت رجلاً وتكلمت بكلام إثم، أرجو أن تفيدني عما يجب عليَّ؟
الجواب
إذا كنت اغتبت هذا الإنسان فإن عليك أن تبلغه أنك قد وقعت بهذا منه، وتطلب منه المسامحة إذا كنت تعلم أن هذا لا يؤثر في نفسه، أما إن كنت تعتقد أن هذا قد يؤثر في نفسه ويجعله يجد في قلبه عليك، فعليك أن تكثر له من الدعاء والاستغفار في ظهر الغيب، وتمدحه في المجالس التي اغتبته فيها، وبالمناسبة فإن كل أحد تكلم فيَّ أو نال مني فإنني أجعله في حل من ذلك وأسأل الله عز وجل أن يتجاوز عني وعنه بمنه وكرمه.(96/49)
خبر غير صحيح
السؤال
نرجو أن تخبرنا عن الشيخ المنجد سمعنا أنه قد مات من مدة أسبوع تقريباً؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، إنما الذي أعرفه أنه منذ فترة تعرض لحادث في البحر، حادث عجيب، لكن الله سلمه منه وولده بمنه وكرمه ونجاه من الغرق بأعجوبة من الله عز وجل، حيث جلس في البحر طيلة الليل يمسك بطوق النجاة مع أنه لا يجيد السباحة حتى طلعت الشمس، وكان معه آخر -أيضاً- حين غرق بهم المركب، ونجوا بحمد الله تعالى، هذا الذي أعلمه.(96/50)
طريقة الإنكار بالقلب
السؤال يقول: كيف يكون إنكار المنكر بالقلب؟
الجواب
كُره المنكر وبغضه وكراهيته والامتعاض منه، ويدخل في ذلك مغادرة المكان الذي يقع فيه المنكر.(96/51)
كيفية الإنكار على كبار السن
السؤال
يتعرض بعض الشباب حين ينصحون من هو أكبر منهم سناً لبعض ما يقول عنهم هؤلاء ما رأيك فيمن يرى رجلاً كبيراً وعليه بعض المعاصي؟
الجواب
لا بد أن يراعي كبر سنه فيتدرج في نهيه عن المنكر إن استطعت أن تبلغ غيرك ممن يكون موثوقاً عنده فهو أفضل، وإن استطعت أن تقرأ عليه كتاباً وتقول هذا كلام فلان ممن يعلم فهو أجود -أيضاً- إن لم تستطع هذا تنكر عليه لكن بأسلوب حسن، فإذا بلغته ورأيت أنه لج في خصومته وعناده وأظهر لك أنه أعلم منك، وأعرف منك، وأنه جلس عند الشيخ الفلاني وما أشبه ذلك، فحينئذ ليس بيدك شيء.
هذا ما تيسر وبقية الأسئلة إن شاء الله تحفظ إلى مناسبتها، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه المجلس مكتوباً لنا في سجل أعمالنا يوم نلقاه، إنه على كل شيء قدير.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.(96/52)
فرحة رمضان - صائمون احتساباً
إن من طبيعة الإنسان أنه يفرح بفضل الله تعالى، وبنعمه، ولكن مع ذلك تختلف فرحة الناس فمنهم من يفرحون لأمور دنيوية بحتة، ومنهم من يفرحون فرح المؤمنين المتقين الطائعين، وهذا هو الذي يجب أن يتمثله المسلم وخاصة في شهر رمضان، وعلى المسلم أن يكون صومه وجميع أعماله إيماناً واحتساباً للأجر والثواب عند الله تعالى: وقد بين الشيخ حفظه الله تعالى أن العبرة بحسن العمل لا بكثرته.(97/1)
فرح الناس بدخول شهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: ما يزال المسلمون في هذه اللحظات ينتظرون إعلان دخول الشهر الكريم المبارك، وقد تطلعت قلوبهم، واستشرفت نفوسهم إلى سماع أصوات المدافع وهي تبشر بدخول هذا الشهر الكريم.
ولا شك -أيها الإخوة- أن هذا الخبر الذي نترقبه وننتظره هو من أعظم ما يُفرح به {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] .(97/2)
لماذا يفرح المؤمن برمضان
من الناس من يكون فرحه فرح المؤمن، الذي يفرح برمضان؛ لأنه شهر القرآن، شهر الصيام والقيام والعبادة والدعاء والتضرع إلى الله -عزَّ وجلَّ- شهر المغفرة والعتق من النار.
من الناس من يفرحون برمضان، كما كان يفرح به أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- فكان -عليه الصلاة والسلام- إذ يبشرهم برمضان، لم يجد ما يبشرهم به في مقدم هذا الشهر الكريم، إلا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: {إذا دخل رمضان فُتِحَتْ أبواب السماء} وفي رواية: {فُتِحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النيران، وصُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجن} فبذلك كانوا يفرحون؛ لأن فتحَ أبوابِ السماء، وفتحَ أبوابِ الرحمة وأبواب الجنة، تكرم من الله -عزَّ وجلًّ- على عباده، وسِعة رحمته، وكثرة مغفرته، وكثرة عتقائه في هذا الشهر الكريم من النار، ولذلك جاء في الحديث، في رواية الترمذي -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان أول ليلة من رمضان} ونرجو أن تكون هذه الليلة، التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي نعيش ساعاتها الآن ونترقبها {إذا كان أول ليلة من رمضان غُلِّقَتْ أبوابُ النار؛ فلم يُفتح منها باب، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنة؛ فلم يُغلق منها باب، وينادِي منادٍ: يا باغي الخير هَلُمَّ وأقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله في كل ليلة عتقاءُ من النار} .
فهذه مصدر فرحة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي وَجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أصحابه به؛ لأنهم لم يكونوا يفرحون إلا بما يكون مقرباً لهم إلى رضوان الله تعالى ورحمته، ومباعداً لهم عن عذابه وسخطه، وهكذا يفرح المؤمنون {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] .
مصدر فرحة المؤمن في رمضان: أنه يؤمل أن يكون فيه في ركب التائبين، الذين غُفرت لهم ذنوبُهم، ومُحيت عنهم سيئاتهم، وتجاوز الله تعالى عن خطاياهم، فساروا في موكب المؤمنين التائبين الطائعين، وما تدري -يا أخي الحبيب- ماذا يكون مصيرك بعد هذا الشهر الكريم، فإن الإنسان ما هو إلا نَفَسٌ يدخل ولا يخرج، أو يخرج ولا يدخل، ورُبَّ إنسان أصبح ولم يمسِ، أو أمسى ولم يصبح، أو نام ولم يستيقظ، أو استيقظ فلم ينم، وإنما هي آجال مكتوبة مضروبة قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .
وقد شَذَّ من هذا الموكب الكريم -موكب المؤمنين المطيعين الفرحين المسرورين بمقدم هذا الشهر الكريم- شَذَّ منهم فئة من الناس، تخلت عن حقيقة إيمانها، وأصابها بمقدم هذا الشهر الذعر والفزع والحزن؛ لأن أحبابهم وأصحابهم من الشياطين قد تخلوا عنهم -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- حين سُلسِلوا وصُفِّدوا في الأغلال، فلم يستطيعوا أن يَخْلُصوا في رمضان إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه في غيره، فبقي شياطين الإنس منفردين شاذين، فأصبح الشهر ينزل عليهم نزول الألم الذي لا يكادون أن يطيقوه، يعدون أيامه ولياليَه عدّاً، وينتظرون خروجه بفارغ الصبر، وفي الوقت الذي يكون رمضان فيه للمؤمنين قربة ومزيداً في الطاعة، فإن هؤلاء يكون الشهر -والعياذ بالله- عليهم وبالاً ومقرباً إلى سخط الله عزَّ وجلَّ: فكم من إنسان يتتبع عورات المؤمنين في هذا الشهر، ويبحث عن زلاتهم وسقطاتهم، وينتظر غفلاتهم، فيفضي إلى ما حرم الله -عزَّ وجلَّ- إلى مال حرام، أو نظرة حرام، أو جريمة يتمكن منها في غفلة الناس، وفي غفلة من أعين الرقباء، ومثل هؤلاء أمرهم عجب؛ فإنهم قد رضوا لأنفسهم طريقاً غير طريق المؤمنين، وانسلخوا عن هذه الأمة، فإن فرحَتْ حزنوا، وإذا سُرَّت ابتأسوا؛ لأنهم اختاروا طريقاً آخر غير طريق الإيمان وغير طريق التوبة.
مضى رجبٌ فما أحسنتَ فيه وولَّى شهرُ شعبان المبارَكْ فيا مَن ضيَّع الأوقاتَ جهلاً بحُرمتها أفِقْ واحذر بوارَكْ فسوف تُفارق اللذاتِ قسراً ويُخلي الموتُ كُرْهاً مِنك دارَكْ تدارَكْ ما استطعتَ مِن الخطايا بتوبةِ مُخْلِصٍ واجعلْ مدارَكْ على طلب السلامة مِن جحيمٍ فخير ذوي الجرائم مَن تدارَكْ(97/3)
اختلاف فرحة الناس بدخول شهر رمضان
أيها الإخوة: لعل كل الناس -بل أكثرهم- يفرحون بقدوم هذا الشهر ودخوله، لكن أسباب الفرحة تتفاوت تفاوتاً عظيماً.
فمن الناس من يكون فرحه بدخول هذا الشهر؛ لأنه تاجر يعتقد أنه سوف ينمي بضاعته ويروجها في هذا الشهر، ويرى مِن إقبال الناس على شراء ما يحتاجونه، من المأكولات والمشروبات وغيرها في هذا الشهر الكريم ما يكون مصدر سعادة له وهذه فرحة دنيوية بحتة، نحن لا نلوم هؤلاء على فرحتهم تلك، فإن الإنسان مجبول على حب المال، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ومن الخير: المال، فالنفوس جُبلت على حب المال غالباً وقد صلى أصحابُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً معه صلاة الفجر، فلما سلم وقام تعرضوا له وسلموا عليه، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، عرف ما الذي جاء بهم، قال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قَدِم من البحرين قالوا: أجل يا رسول الله قال -عليه الصلاة والسلام-: أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتَح عليكم الدنيا كما فُتحَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم} والحديث متفقٌ عليه، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
فمن الناس من تكون فرحته فرحة مادية بحتة، ومن الناس من تكون فرحته فرحة العابث اللاهي الذي لا يذكر من رمضان إلا إيقاد المصابيح، وسهر الليالي، والجلسات الطويلة المتصلة، والمباريات الرياضية التي يسهرون عليها حتى وقت السحور، أو لا يذكر من رمضان إلا السهر أمام الشاشة؛ لمشاهدة الأفلام، أو مشاهدة البرامج التي تضر ولا تنفع، فيكون فرحه برمضان لا يعدو فرحة مادية دنيوية ضارة، تكون على الإنسان وبالاً في دينه ودنياه وعاجل أمره وآجله.
ومن الناس من لا يتذكرون من رمضان إلا المسابقات والمنافسات في أمور لا خير فيها، وكثير من الشباب ربما كان جُلُّ همهم في رمضان ومصدر فرحتهم وسرورهم، هي الذكريات التي يعيشونها في رمضانات مضت، والسهرات الطويلة، وأنواع من الأسفار والمغامرات والمسابقات والمنافسات، التي لا يفرح بها مؤمن أبداً.
ومن الناس من يكون فرحه فرح الصبيان الذين لا يذكرون من شهر رمضان إلا ألوان الأطعمة المتميزة التي يتعاطونها في هذا الشهر الكريم، على حين لم يكونوا يتعاطونها قبل ذلك، فلا يفرح من هذا الشهر إلا بمثل هذه الأمور، كما يفرح بها الصبيان الصغار الذين لا يعرفون رمضان إلا بتغير البرامج وتغير الأطعمة ومواعيد الإفطار والغداء والعشاء وغيرها.(97/4)
معاتبة النفس
أيها الأحبة ألا ترون أنه جديرٌ بنا جميعاً أن نعاتب أنفسنا في مثل هذه الليلة، والله إن نفوسنا لجديرة بالعتاب، يا نفس، كم شهراً صمتِ؟! كم سنة أدركتِ رمضان، ثم خرجتِ منه كما دخلتِ فيه، بل ربما كنتِ على حالٍِ أقل مما دخلتِ فيه في رمضان؟! كم سمعتِ في هذا الشهر من موعظة؟! بل كم حفظ الناس من أحاديث وآيات وموعظات وأبيات سمعوها في مدخل هذا الشهر الكريم وفي لياليه العامرات، بالذكر والعبادة؟! لا أقول: كم موعظةٍ سمعتِ؟ بل كم موعظة رأيتِ بعينيكِ؟! كم جنازة شيَّعتِ؟! كم من إنسان واريناه في حفرته ثم خرجنا من المقابر وقد أنكرنا قلوبنا، ما تغيرت إلا إلى أقل مما كنا نصبو إليه؟! بل كم من موعظة أدركناها في نفوسنا؟! رُبَّ إنسان منا أشرف -يوماً من الأيام- أو كاد أن يقع في حادث، وربما أصابه مرض شديد ظن أن فيه حتفه وهلاكه، وربما شاهد أباه أو أخاه أو قريبه وهو يلفظ أنفاسه، وربما وضع الإنسان يديه على رأسه -يوماً من الأيام- وهو يظن أنه في آخر أيامه ولياليه، أو آخر ساعاته ودقائق عمره، ثم خرج من ذلك كله، والقلب لا يزداد إلا قسوة، والنفس لا تزداد إلا إعراضاً، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] .
جدير بكَ أن تختلي بنفسكِ لحظةً وتتساءل: هذه المواعظ التي سمعتُ وأعظمها مواعظ الله -عزَّ وجلَّ- {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] .
هذه المواعظ التي سمعتِ، بل هذه المواعظ التي رأيت أين كان مصيرها؟! هل زادت العبد قرباً من الله عزَّ وجلَّ؟! هل زادته بصيرة في نفسه؟ هل زادته خوفاً من الله؟! هل زادته رغبة في الجنة؟! هل زادته خوفاً من النار؟! هل زادته إقبالاً على الطاعة؟! هل زادته إعراضاً عن المعصية؟! هل زادته زهداً في الدنيا؟! أم أن العبد يسمع بأذُن ويخرج الكلام من الأذُن الأخرى، ولربما تلهب سياطُ الموعظة ظهرَه لحظات، ثم بعد ذلك يغفل في الغافلين، ويشرد في الشاردين، ولا يتذكر من ذلك شيئاً قط، إلاَّ أنه يقول: طالما سمعنا هذه المواعظ فمللنا منها، نعم يا أخي الحبيب سمعتَ الكثير، سمعتَ الخطباء في أيام الجُمَع، وسمعتَ المواعظ في المساجد، وسمعتَ الكلام في مطلع شهر رمضان، لكن السؤال الكبير الذي يجب أن تسأله نفسَك: ماذا كان أثر هذه المواعظ في قلبك؟ هل حركت ساكناً؟ هل قوَّمت معْوَجَّاً؟ هل أصلحت فاسداً؟ أم أن هذه المواعظ لا تزيد الإنسان إلا غفلة؟! ألم تسمع -يا أخي! - كلام حبيبي وحبيبك محمد -عليه الصلاة والسلام- وهو يقول فيما رواه مسلم، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك} .
رُبَّ إنسان أخذ القرآنُ بيده فأدخله الجنة، ورُبَّ آخر دفع القرآنُ في قفاه إلى النار، فهو حجة لك أو عليك.
فهذه المواعظ هي حجة للعبد إن آمن بها وعمل، أو حجة عليه إن أعرض عنها وتنكر لها.
فيا أخي! لا تظن أن المسألة مجرد استماع، أو برامج اعتاد الناس أن يسمعوها، إنما القضية أنك تُسأل يوم القيامة عن أمر علمته، فماذا عملت فيه، سوف يُقال لك: عَلِمْتَ فما عَمِلْتَ؟ وليس صحيحاً، أن الحل هو الإعراض عن الموعظة؛ لئلا تكون حجة عليك، بل إن الذي يعرض عن الموعظة خشية أن تكون حجة عليه، هو أعظم إثماً وجرماً ممن يستمع للموعظة ولا يعمل بها، إنما قد يُعذَر إنسانٌ لم يجد مَن يَعِظُه، ولا من يذكره، ولا من يقرأ عليه كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا من يقرأ عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من يبين له الحلال والحرام فهذا قد يكون معذوراً من بعض الوجوه، أما من وجد السبيل، ووجد مجالس الذكر والعلم، ووجد الموعظة، فهذا ينبغي له أن يبادر ويسارع إليها، وأن يجعل من هذه الموعظة سبيلاً إلى القربى إلى الله عزَّ وجلَّ.(97/5)
الأمة تعيش أحداثاً جساماً قبل رمضان
أيها الإخوة! يقبل رمضان على الأمة في هذا العام، وفي هذه السنة، يقبل ووجوه الناس غير الوجوه التي كان يعرف، سيتنكر لرمضان كثيرون، وسيتغيرون عليه عما كانوا عليه بالأمس.
لقد عاشت أمة المسلمين من رمضان في العام الماضي إلى رمضان في هذا السنة عاشت أحداثاً جساماً، سبحان من يرث الأرض ومن عليها! وسبحان من يعلم الغيب! لا يعلم الغيب إلا هو، من كان يدري ماذا سيجري لهذه الأمة بعد شهر رمضان؟ لقد تغيرت أشياء كثيرة، وتبدلت أحوال، ونزلت بالأمة نكبات وملمات وأزمات ومصائب عظام، نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعل عاقبتها للمسلمين خيراً، وأن يعوض المسلمين عنها خيراً مما فقدوا.
لقد عاش المسلمون آلاماً جسيمة منذ الحج في العام الماضي، ثم مروراً بشهر الله المحرم، حيث حصل فيه اجتياح العراق للكويت، وما ترتب على ذلك من آثار وأحداث، إلى هذا اليوم الذي لا زال المسلمون يضعون أيديهم على قلوبهم، خوفاً مما يُخبأ في أيامٍ وليالٍ الله تعالى أعلم ما يكون فيها، وفي هذا عبرة أيُّ عبرة، فإن الأمم تقيس مدى تقدمها أو تأخرها ليس بالسنة، بل أحياناً باليوم، وربما بالساعة أو الدقيقة، أما المسلمون فإن الأيام والليالي تجعلهم دائماًَ وأبداً، يعيشون في خوف وترقب، ويعيشون في وجل مما قد يكون، وعلى كل حال فإن المؤمن مهما نزل به من بلاء، ومهما ألمت به من مصيبة إلا أنه يعلم أن ذلك بقضاء الله تعالى وقدره، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له} فربما يتساءل كثير من الناس، كثير من المؤمنين يتساءلون: ماذا بين هذا الشهر الكريم الذي نعيشه الآن وبين الشهر الذي قد يدركه منا من كتب الله تعالى له أن يدركه في العام القادم ماذا تُرى سيقع للمسلمين، أفراداً وشعوباً وأمماً؟ ماذا سيحدث لهم؟ إن المؤمن الذي ينظر بعين التفاؤل والأمل والثقة بوعد الله عزَّ وجلَّ هو على يقين أن الله تعالى سيجعل هذا العام والأعوام المقبلة، للمسلمين خيراً في دنياهم ودينهم، وسيجعل منها سبباًَ إلى وصول المسلمين إلى ما يصبون إليه، من عز ونصر وتمكين، وستكون -بإذن الله تعالى- سبيلاً إلى إقبال الناس إلى ربهم، وتوجههم إلى الله عزَّ وجلَّ، فإننا جربنا أن الهزائم والنكبات التي تعيشها الأمة تكون دائماً عكس ما يريد أعداؤها، تكون سبباً إلى إيقاظ الأمة، وإحياء قلوبها، وإقبالها إلى ربها، وقد حصل للمسلمين خير كثير من جراء الهزائم والنكبات التي ألمت بهم مما واجهوا عدوَّهم اليهود، أعداء الله ورسوله.
ولا شك أن الناس يترقبون إعلان هذا الشهر، فنحمد الله تعالى على أن بلغنا هذا الشهر الكريم، ونسأل الله تعالى أن يكتب لنا أجر صيامه وقيامه، ونسأله -عزَّ وجلَّ- أن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، إنه على كل شيء قدير، اللهم بارك لنا في هذا الشهر، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار، اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أعنا على نفوسنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من صالح الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(97/6)
النية أساس العمل
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد: أيها الإخوة الصائمون، هذه الليلة الثانية من ليالي شهر رمضان المبارك لعام: (1411هـ) .(97/7)
العبرة بحسن العمل لا بكثرته
والعجب كل العجب أننا قد نتنافس في أعمالنا الصالحة الظاهرة، فنتنافس أينا أكثر صلاة، أو أينا أكثر صياماً، أو أينا أكثر عملاً، أو أينا أكثر قراءة للقرآن، أو أينا أكثر صدقة؛ لكن الله تعالى ما قال: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً، وإنما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] .
فهل نحن نتنافس في الاحتساب والنية، كما نتنافس في الأعمال لذاتها، لا؛ وذلك لأن النيات خفية، لا يعلمها إلا الله، فأنت لا تدري أن الذي إلى جنبك قد تكون نيته نية يدخل بها الجنة، وقد تكون عكس ذلك، وأنت كذلك، والآخر، إذاً: فالنية في القلب سر لا يعلمه إلا الرب -جلَّ وعلا- الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] .
اللهم أعزَّنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، وتب علينا يا حي يا قيوم، اللهم اهدنا سواء السبيل، ربنا إنا لِمَا أنزلت إلينا من خير فقراء، اللهم إنا فقراء إليك، ليس بنا غنىً عن رحمتك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، اللهم خذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، اللهم خذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، اللهم وفقنا لصالح الأقوال والأعمال والمعتقدات، يا رب الأرض والسماوات، لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنا من الظالمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(97/8)
احتساب الأجر عند الصبر على الأقدار
وقل مثل هذا وذاك في موضوع الصبر على أقدار الله -عزَّ وجلَّ- فإن العبد قد يبتلى في نفسه، أو ماله، أو أهله، أو ولده، فهنا يصبر العبد المؤمن صبر المحتسب الراجي ثواب الله -عزَّ وجلَّ- وأجره وموعوده، لا صبر الإنسان الذي لا حيلة له، صبر المضطر الذي ليس بإمكانه الدفع والمنع، ولهذا قرن الرسول صلى الله عليه وسلم الأجر بالصبر، ففي حديث عمرو بن شعيب، -رحمه الله- أن رجلاً مات ابن له، فكتب إليه عمرو بن شعيب -كما في سنن النسائي- كتب إليه كتاباً، يعزيه في ولده الذي هلك، ويقول له: إنه حدَّثه أبوه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: {إن الله تعالى لا يرضى لعبده المؤمن إذا قَبَضَ صفيَّه من أهل الدنيا -يعني: حبيبه-، فصبر واحتسب، وقال ما أُمر به بثواب دون الجنة} .
فإذا مات قريب، أو حبيب، أو ولد، أو صاحب، فصبر واحتسب، وقام بما أُمر به لم يرضَ الله تعالى له بثواب دون الجنة فيصبر صبر المحتسب، لا صبر المضطر، ومثله حديث أسامة بن زيد، وهو في الصحيحين: {أن ابناً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حضره الموت، فبعثت إلى أبيها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تقول: إن ابني قد حُضِر، جاءه الموت فأتنا، فبعثَ إليها رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول لها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر ولتحتسب.
فأرسلَتْ إليه، تُقْسِمُ عليه لَيَأتِي -حَلَفَتْ: لَتَأْتِي يا رسول الله - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه، فيهم: سعد بن معاذ، وأبي بن كعب، وغيرهم، فلما رُفع الصبيُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا نفسُه تَقَعْقَع، كأنها شَن أي: أصابه الموت، وروحه تخرج، وهو يعاني سكرات الموت، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيناه، فقال له سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ تَعَجَّبَ! قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه رحمة، وضعها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} المهم قوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب} .
فأمرها بالصبر والاحتساب على ما يفوتها من عاجل الدنيا، وكذلك لو فات الإنسان شيءٌ من ماله، بسرقة، أو خسارة مادية، أو ضياع، أو تلف، أو اصطدام سيارة، أو انقلاب سيارة، أو غير ذلك من الأسباب، فإن العبد يتذكر أنه بالصبر يكتب له ذلك صدقة في حسناته، ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده، عن أسماء رضي الله عنها قالت: {لَمَّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى، وهو: مكان قرب مكة وكأن هذا كان يوم فتح مكة- قال أبو قحافة -وهو والد أبي بكر رضي الله عنه، وكان مشركاً يومئذٍ، قال لبُنَيَّة عنده، وهي أصغر أولاده، قال لها: يا بُنَيَّة، اذهبي بي إلى جبل أبي قبيس، فَرَقَتْ به إلى هذا الجبل -وهو جبل مُطِلٌّ على الكعبة- فصعدت به إلى الجبل، فقال لها: يا بُنَيَّة -وكان أعمى- ماذا ترين؟ قالت: أرى سواداً عظيماً قال: تلك الخيل -هذه جيوش المسلمين قد أحاطت بمكة- قالت: وأرى رجلاً في وسط الخيول يذهب ويجيء، ويقبل ويدبر قال: هذا وازع الخيل -أي: الآمر، الذي يأمر ويقدم ويؤخر، وينظم الجيش- قالت: يا أبتاه، قد انتشر السواد وعَمَّ فقال: معنى ذلك: أن الجيش قد دخل إلى مكة، فهَلُمِّي بي إلى بيتي بسرعة، لا يدركنا الجيش فذهبت به، وأسرعت، فأدركهم الجيش قبل أن يصلوا إلى البيت، فأمسك رجل بهذه البُنَيَّة، وكان في عنقها قلادة من وَرِق -من فضة، قلادة نفيسة ثمينة- فقطعها منها وأخذها، ففتح المسلمون مكة، وجاء أبو بكر رضي الله عنه إلى والده، فأخذ بيده وقال: هَلُمَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل به على رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم- وقال: يا رسول الله! هذا أبو قحافة قال -عليه الصلاة والسلام- لـ أبي بكر: لو أمرتني، فأذهب إليه.
قال: يا رسول الله! هو أحق أن يأتي إليك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال له: أسلِم.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وكان شعره أبيض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا غيَّرتم هذا الشيب.
وفي رواية: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد.
فجاءت البُنَيَّة إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالت له: يا أبا بكر -وهو أخوها، زعيم من زعماء المسلمين الذين دخلوا مكة فاتحين- قلادتي سُرقت، أخذها رجل.
قال: مَن الرجل؟ قالت: لا أدري مَن هو.
فقام أبو بكر يصيح بأعلى صوته، يقول: ناشدتُ اللهَ والإسلامَ رجلاً أخذ قلادة أختي إلا ردها.
فانتظروا، وما جاءه أحد، فقال أبو بكر لأخته: -وهي بُنَيَّة صغيرة، لكن يؤدبها ويعلمها- يا بُنَيَّة، احتسبي عند الله تعالى قلادتكِ} .
إذاً: كل قليل كل يسير، ولو كان شيئاً يسيراً لا يؤبه له، تحتسبه عند الله تعالى، فإن الله تعالى يكتب لك أجر ما احتسبت.
وهكذا كل عمل، حتى أعمال الدنيا، من بيع، أو شراء، أو زراعة، أو تجارة، أو صناعة، أو دراسة، أو إدارة، كل هذه الأعمال بالاحتساب تتحول إلى قربات وطاعات تؤجر عليها، ولهذا جاء في: سنن أبي داود وسنن الترمذي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: {إن الله تعالى يُدْخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب بصنعته الخير} هذا الصانع هو أول من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومُنْبِلُه، والرامي به} .
إذاً: كل عمل تعمله فإنه يُكتب لك بالنية والاحتساب قربةً وطاعةً إلى الله تعالى، فكيف إذا كان العمل في أصله عبادة.
فالله الله! أيها الأحبة المؤمنون، وأيتها الأخوات المؤمنات، أن يستذكر الإنسان ويستحضر في كل شيء يفعله، وفي كل شيء يتركه، وفي كل شيء يفوت عليه، أن يحتسب النية عند الله تعالى.(97/9)
النية تدخل في أعمال الدنيا
أيها الإخوة! ليس هذا الأمر مقصوراً على العبادات فقط، بل حتى أعمال الدنيا، فالعبادات أمرها معروف، لكن حتى أعمال الدنيا، إذا اقترن بها الاحتساب واقترنت بها النية تحولت إلى قُرُبات يُثاب عليها العبد، فأما موضوع الأعمال الصالحة فحدِّث ولا حرج، خذ -على سبيل المثال- القتل، هل هناك أعظم من أن يقدم الإنسان رقبته لتقطع في معركة من المعارك أو في موقف من المواقف؟ هذا أعظم الجود.
يجود بالنفس إن ضن البخيل به والجودُ بالنفس أقصى غاية الجودِ لكن فرق بين مَن يُقتل في سبيل الدنيا، أو يُقتل من أجل المغنم، أو يُقتل من أجل الزعيم والرئيس، أو يُقتل من أجل الوطن والتراب والطين، فرق بين مَن يُقتلون في سبيل الطاغوت وبين مَن يقتل في سبيل الله تعالى صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، ولهذا في الصحيح: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! أرأيتَ إن قُتِلْتُ صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، يُغفَر لي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فتغشاه من الوحي ما كان يتغشاه، فلما سُرِّي عنه قال: أين السائل؟ قال: ها أنا يا رسول الله! قال: كيف قلتَ؟ قال: أرأيت -يا رسول الله- إن قُتِلْتُ صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، يُغفر لي؟ قال: يغفر لك كل شيء إلا الدَّين، أخبرني بذلك جبريل آنفاً} .
إذاً: الاحتساب لا بد منه في كل عمل عظيم، كالقتل، أو عمل يسير كالخطوة التي تمشيها إلى المسجد، أو الغصن الذي تعزله عن الطريق، أو الكلمة الطيبة التي تقولها لفلان أو فلان، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: {كان رجل من الأنصار ليس بالمدينة رجل أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقيل له: يا فلان! لو اشتريت حماراً تركبه في الرمضاء وفي الظلماء -كان يأتي على قدميه إلى المسجد- قال الرجل: ما أحب أنَّ بيتي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتَب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي} .
إذاً، الاحتساب وارد في هذه الحالة فأنا أمشي أريد أن يُكتب لي كل خطوة أمشيها إلى الصلاة، وكل خطوة أعود بها من المسجد إلى بيتي، فلما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: {قد جمع الله لك ذلك كله} وفي رواية لـ مسلم -أيضاً-: {فإن لك ما احتسبت} فما دام المسألة مسألة احتساب فكل خطوة تمشيها إلى المسجد مكتوب لك أجرها وبرها وذخرها عند الله تعالى، وكل خطوة تمشيها من المسجد إلى بيتك راجعاً فهي مكتوبة لك أيضاً.(97/10)
الاحتساب يدخل في ترك المعاصي
أيها الإخوة! هذا في الطاعات، أما في الكف عن المعاصي فالأمر كذلك؛ فرق بين من تجنب الخمر -مثلاً- لأنه يخشى أن تضر بصحته، أو يخشى أن تكون فضيحة له، أو يخشى أن تذهب بعقله فحسب، فهذا عمله حسن، وهو من خصال المروءة، وقد كان بعض أهل الجاهلية يتركونها، ويقول أحدهم: فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفى بها أبداً سقيماً ولكن ليس له الأجر الذي لذلك الذي ترك الخمر وهو يقرأ قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ويسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: {من شرب الخمر في الدنيا، ثم مات ولم يتب منها، لم يشربها في الآخرة} .
إذاً يترك الخمر في الدنيا، ولو كانت نفسه تميل إليها أو تشتهيها، ويتوب منها، ويقلع عنها؛ لأنه يَرِدُ في اعتباره وحسابه ادخار ذلك لخمر في الجنة لا تقاس بخمر الدنيا، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] إذاً: يحتسب بترك الخمر خمر الجنة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] .
ومثله: لباس الحرير، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة} .
ومثله: ترك نساء الدنيا بالحرام؛ لأنه يريد عند الله تعالى حوراً حساناً أُعْدِدْن للرجال الصالحين المؤمنين الأتقياء الأعفاء، ولو تطلعت نفسه، وتاق ضميره، وتحركت شهوته، إلا أن اليقين الصادق بموعود الله تعالى في الجنة يجعله يدخر هذا الأمر، ويترك العاجل لموعد غيب لم يرَه، ولكنه آمن به، ولذلك كان أعظم ما مدح الله به الأنبياء أو الصالحين هو الإيمان بالدار الآخرة، والإعداد والاحتساب له، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46] خصصناهم بخصيصة، ميزة، نعمة أكرمهم الله تعالى بها وفضَّلهم، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] وارد في حسابه ذكر الدار الآخرة، وذكراها، والإعداد لها، والترك من أجلها، والفعل من أجلها: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:47] .
وأعظم ما ذم الله تعالى به الكفار والملحدين أنهم لا يؤمنون بالدار الآخرة، {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74] {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] .
فإذا نسي الإنسان الجنة والنار، ويوم الحساب، ونسي الميزان، ونسي الاحتساب، اختلت الحسابات عنده: لماذا يترك الربا وفيه أموال هائلة طائلة سوف تحصل له؟ لماذا يتركه، إذا لم يكن عنده مبدأ الاحتساب والنية؟ لماذا يترك الحرام وقد تيسر له؟ ما دام أنه ليس عنده نية واحتساب، ولم يَرِدْ في قلبه وضميره وعقله ووجدانه الخوف من الله، أو الرجاء في ثوابه، وهذا هو سبب انحراف المنحرفين، وهو أيضاً سبب طاعة الطائعين.(97/11)
صيام رمضان وقيامه إيماناً واحتساباً
وأنت تصوم في شهر رمضان أو في غيره، هل تتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه} .
من صام رمضان إيماناً بوجوب الصيام، وإيماناً بأنه من أركان الإسلام، وإيماناً بأنه قربة إلى الملك العلام، واحتساباً للأجر عند الله تعالى على ذلك الصيام، أي: أن الإنسان يجوع، يمسه الجوع ويمسه العطش، وقد يصيبه الصداع في رأسه، وقد يصيبه الضعف في بدنه؛ لكنه يفعل ذلك كله احتساباً وهو يفرح به، يفرح بهذا الجوع، وبهذا العطش، يفرح بما يلقاه في سبيل الله؛ لأنه أثر العبادة، وقد كان الناس أهل الدنيا وأهل الماديات يفرح أحدهم بما يصيبه من أجل حبيبه.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألمُ أفلا تقول هذا أنت لرب العالمين؟ إذا كان هذا الألم الذي تلقاه هو من أجل الله ولوجه الله واحتساباً، فإنك تفرح وتُسَرُّ به؛ لأنه أثر العبادة، وهو يُرضي الربَّ جلَّ وعلا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث الصحيح المتفق عليه: {لَخَلُوفُ فَمِ الصائم أطيبُ عند الله من رِيح المسك} .
الرائحة الكريهة للناس، من أثر خلو المعدة من الطعام، أطيب عند رب العالمين من رائحة المسك الفواح.
وهكذا الحال بالنسبة للقيام، هل تقوم موافقة للناس أو معهم، أو استحساناً لأصوات القراء الفضلاء؟ أم أنك تقوم ابتغاء ما عند الله، ورجاء أجره وثوابه، وتطلباً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} قد يقول كثير من الإخوة: وهل يقوم الإنسان إلا إيماناً واحتساباً؟ فأقول: مع أن أكثر المصلين إنما يصلون إيماناً واحتساباً، والذين يأتون لغير ذلك من الأغراض، سواء كانت أغراضاً دنيوية، أم أغراضاً سيئة، هُم -بحمد الله- قليل، إلا أن الذين يأتون إيماناً واحتساباً، بينهم من التفاوت في المنازل بَون عظيم وفرق شاسع: فمنهم من يأتي بنية، ولكنها نية غامضة مبهمة غير محددة، ومنهم من يستحضر النية في كل عمل، وفي كل حركة، وفي كل ليلة، ويتذكر هذه الأحاديث، وهذا من بركة حضور مجالس الذكر، وسماع المواعظ، أن العبد إذا سمع ما وعد به الله تعالى، أو ما وعد به الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إقباله على العمل والعبادة إقبالاً بصدق ونية واحتساب، وليس إقبالاً بحكم العادة والإلف.
ولهذا يقول الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحُسبة، ولكل امرئ ما نوى، يقول: فدخل فيه الإيمان كما سبق: {مَن قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله} والوضوء -كما سبق أيضاً- والصلاة -كما سبق- والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام، كل ذلك إنما هو بالعمل والنية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونِيَّة} .
ثم ساق البخاري -رحمه الله تعالى- قول الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84] .
كل يعمل على شاكلته أي: على نيته، فهذا يعمل للدنيا، وذاك يعمل للآخرة، العمل واحد والثمرة مختلفة، يَرِدُون مورداً واحداً، ويَصْدُرون مصادر شتى، بينهم من الفروق كما بين المشرق والمغرب، أو كما بين السماء والأرض، بل كما بين الجنة والنار، ولذلك جاء في حديث عمر رضي الله عنه: {العمل بالنية} وفي لفظ: {إنما الأعمال بالنيات} .(97/12)
النية تبارك الأعمال
أيها الإخوة: إن النية والاحتساب هي التي يبارك الله تبارك وتعالى بها العمل ويزكيه وينميه؛ فيجعل بها القليل كثيراً، واليسير خطيراً، وما دخل أهل الجنة الجنة بكبير عمل عملوه، ولا بعظيم جهد بذلوه، أكثر من كونهم محتسبين مخلصين، فيما يأخذون وفيما يَدَعون، وكأن أحدهم يقول: إنما أريد ما أريد، أن أعمل ما أعمل احتساباً لوجه الله، وأترك ما أترك احتساباً لوجه الله.
إذاً: فصلاح النية، وحُسن القصد، وظهور الاحتساب عند العبد، هو من أعظم أسباب القرب، وأكبر الأشياء التي يتضرع بها العبد إلى دخول الجنة.
وهذا الاحتساب المطلوب ليس خاصاً في الصيام، بل هو عام في كل عمل، حتى الأعمال الدنيوية العادية البحتة إذا دخلها الاحتساب كان هذا سراً أو (إكسيراً) -كما يقولون- يضاف إليها فيحولها إلى قُرُبات وطاعات وأعمال صالحة.(97/13)
صوم العادة وصوم العبادة
اسأل نفسك -يا أخي الحبيب- حين تصوم: هل تصوم إِلْفاً وعادة؟ أم تصوم وفي أذُنك حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي رواه البخاري وغيره، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله تعالى بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} أي: سبعين سنة فأنتَ اليوم صمتَ، فاعقد خُنْصُرَك على أنك صمتَ يوماً، صمتَ صوماً مظهرياً من حيث الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، لكن بقي الشرط الثاني: (في سبيل الله) ، فهل كان صومك في سبيل الله؟ إذاً فأبشر أن هذا اليوم الوحيد الذي صمتَه الآن، قد بعَّد -بمقتضى موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق حديثه- بعَّد وجهك عن نار جهنم سبعين خريفاً، فما بالك بمن يصوم ثلاثين يوماً، فما بالك بمن يصوم عشرات السنين، كل سنة يصوم فيها شهر رمضان، ويصوم ما يسَّر الله تعالى له من صيام النفل المشروعة، فهل تصوم هذا اليوم وأنتَ تستذكر هذا الموعود، وتحتسب هذا الأجر عند الله تبارك وتعالى؟ أم تصوم مع الصائمين دون استحضار نِيَّة ولا تصوُّر قصد؟ وقل مثل ذلك في كل عمل، يبدأ ذلك بأصل الدين والتوحيد الذي يدخل به الإنسان في زمرة المؤمنين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قد يقولها المنافق رياءً وسمعة، أو خوفاً من السيف، ويقولها المؤمن رجاء ثواب الله تعالى؛ فيحرم الله تعالى عليه النار، ويوجب له الجنة، بكلمة واحدة، فأنت إذا قلت: لا إله إلا الله، هل تقولها عادة جَرَت بها عادتك ومضت على لسانك؟ أم ترطب لسانك بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وأنت تتذكر ما رواه عتبان بن مالك رضي الله عنه، قال: {غدا عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، -أي: أتاه في منزله- فقال -عليه الصلاة والسلام-: ما من عبد يقول: لا إله إلا الله يبتغي بذلك ما عند الله، إلا حرم الله عليه النار} حرم الله عليه النار بكلمة واحدة، مع أن هناك من قالها رياءً وسمعة، فلم تغنِ عنه شيئاً قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء:145] .
إذاً: قضية الاحتساب في الشهادة في أصل الإيمان، هي السر الذي يكون به العبد مؤمناً مسلماً، ويَدخُل الجنة ويُحرَّم على النار.
وقل مثل ذلك في الصلوات الخمس مثلاً، فهل أنتَ تؤدي الصلوات الخمس بحسب العادة، أو كما يقول بعض الشباب: من أجل أن يثبت الإنسان شخصيته، وأنه فردٌ مُنْتَمٍ إلى هذا المجتمع، موافق له في عاداته وأخلاقياته وتقاليده؟ أم أنك تؤدي هذه الصلوات الخمس احتساباً، وتتذكر حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي رواه أصحاب السنن بسند صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد، مَن أتى بهن، ولم يضيع شيئاً منهن استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة} .
إذاً: أنتَ تؤدي الصلوات الخمس، احتساباً لوجه الله تعالى، ويقيناً بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، من أن مهر دخول الجنة بعد الشهادتين أداء هذه الصلوات الخمس، وبين من يصلي بهذه العقيدة وبهذه النية، وبين ذاك الذي يصلي رياءً أو سمعة كما بين السماء والأرض، بل كما بين الجنة والنار، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّيْنَ * الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُوْنَ * الَّذِيْنَ هُمْ يُرَاءُوْنَ * وَيَمْنَعُوْنَ الْمَاعُوْنَ} [الماعون:4-7] .
وأنتَ تتوضأ وضوءك للصلاة، هل تتوضأ وضوءاً عادياً مألوفاً، ربما تنتهي من الوضوء وأنت لم تتذكر أنك تتوضأ؟ أم أنك تقوم بهذا العمل الجليل وأنت تسمع بأذُنك وتؤمن في قلبك، بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه: مسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} أبواب الجنة الثمانية تفتح لك خلال دقيقتين فقط، تقوم بهما بعمل الوضوء بنية واحتساب، فتُفتح لك أبواب الجنة الثمانية، تختار أيَّها شئتَ لتدخل منها، والحديث رواه الترمذي وزاد: {أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين} .
وأنت تقرأ القرآن، سواءً كنت تقرؤه في مثل هذا الشهر الكريم، الذي هو شهر القرآن، أم تقرؤه في أي وقت من ليل أو نهار، هل تقرأ هذا القرآن هَذَّاً كَهَذِّ الشعر، همُّك الوصول إلى نهاية السورة أو إلى نهاية الجزء، أو إلى نهاية المصحف، أو أن تقول للناس: ختمت القرآن مَرَّةً أو عشراً أو مائة؟ أم أنك تقرأ وأنت تعلم أن لك ما أخبر به الصادق المصدوق -عليه صلوات الله تعالى وسلامه- في حديث ابن مسعود، الذي رواه الترمذي بسند صحيح: {من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: "ألم" حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ} .
إذاً: احسب وأنت تقرأ القرآن، أن الحساب يوم القيامة على قراءتك القرآن، ليس بعدد السور التي قرأتَها، ولا بعدد الأجزاء، ولا بعدد الصفحات، ولكن بعدد الحروف، فاحسب كل حرف تلفظ به فمك عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وبإمكانك أن تحسب سورة من أقل سور القرآن الكريم عدداً في الآيات، كسورة العصر -مثلاً- أو سورة الكوثر، واحسب عدد آياتها، ثم عدد حروفها، واضرب ذلك في عشرة لتعرف مقدار ما أعد الله لك من جزيل الثواب، إذا كان هدفك الأجر والاحتساب في مثل هذا العمل العظيم.(97/14)
نظرة إلى وجه صائم
أيها الإخوة! كل مَن رأى وجه أحد من الصائمين في هذا المساء؛ عرف أنه قد أمسى صائماً، وكيف لا يعرف ذلك، وهو يرى شفتيه وقد يبُسَتا وتقلصتا من أثر الصيام والجوع والعطش، وقد يرى أثر السكينة والإيمان ظاهراً جلياً على محياه، فإن كل مسلم يمسي في مثل هذه الأيام صائماً، حتى العصاة، حتى أولئك الذين بلغت بهم قلة الدين ورقة الورع وضعف التقوى، أن يُفَرِّطوا في صلوَاتهم، فإنهم لا يجرءون على ترك الصيام، بل تجدهم صائمين مع المسلمين، فمن باب أولى أن يكون روَّاد المساجد، وأهل حلق الذكر والمصلون، أن يكونوا هم أيضاً من الصائمين، وهذا مما ليس فيه شك ولا ارتياب، لكن الأمر الذي لا أدري هل هو منكَ على بالٍ، أم أنكَ عنه من الغافلين؟!!.
إنه ليس كل صائم صائماً، فرب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب، وفرق أي فرق بين من يصوم عادة، وبين من يصوم عبادة، فرق أي فرق بين من يصوم طمعاً في ثواب الله وجنته وخوفاً من ناره وسخطه، وبين من يصوم انسجاماً مع قوانين المجتمع، أو مراعاة للعرف العام والوضع العام للمجتمع، أو حياءً من الناس، أو خوفاً من السلطان، فرق بين هذا وذاك.(97/15)
الأسئلة
نحمد الله تعالى، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره.
ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل خلقه وأنبيائه عليه الصلاة والسلام.
أما بعد:(97/16)
شروط لباس المرأة وقص شعرها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تجعل جيبها خلف ظهرها؟ وهل يجوز أن تَقُصَّ شعرها مِن أمامِها؟
الجواب
بالنسبة لموضوع لباس المرأة: يسأل الناس أسئلة كثيرة عن ملابس النساء، والواقع: أن الشرع لم يأتِ بلباس محدد للمرأة، إنما أتى بشروط معينة للباس، مثل: - أن يكون اللباس ساتراً.
- أن يكون واسعاً: لا يكون ضيقاً يصف حجم المرأة.
- أن يكون مباحاً في نفسه.
- أن لا يكون زينة في نفسه.
وما أشبه ذلك من الشروط التي يجب أن تتوفر في ثياب المرأة المسلمة.
أما أنواع الملابس التي قد يسأل عنها الكثيرون: فإن الضابط العام في ذلك: أن الملبس ما لم يكن تشبهاً بالكفار، ولا تشبهاً بالرجال، فإنه جائز، فإذا لم يكن في الثوب تشبه بالكفار، ولا تشبه بالرجال، فإنه يجوز للمرأة أن تلبسه.
أما قَصُّ الشعر: فالأمر فيه كذلك لا بد له من شروط: الشرط الأول: إن كان على سبيل التشبه بالكافرات، مثل: ما تفعله بعض النساء مِن أخْذِ تسريحاتٍ معينة، رأينَها عند بعض الممثلات أو بعض المغنيات، ويسمينها بأسماء خاصة، يَرُوْجُ بين الفتيات في وقت معين قَصَّة معينة، ثم تنتقل إلى أخرى، وهذه قَصَّة فرنسية، وهذه قَصَّة بريطانية، وهذه أمريكية، وهذه قَصَّة فلان، وهذه قَصَّة فلان، وهذه قَصَّة الأسد، وهذه قَصَّة الديك، وهذه قَصَّة الدجاجة، وهذه كذا، وهذه كذا، فإن هذا كله لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم} .
الشرط الآخر: أن لا يكون تشبهاًَ بالرجال، فإن بعض الفتيات تبالغ في إنهاك قَصِّ شعر رأسها حتى تصبح كأنها رجل، بل يُسميْنَها أيضاًَ القَصَّة الولاَّدية، تصبح المرأة كأنها فتى، كأنها شاب، ثم تنفش شعرها كأنها رجل والعياذ بالله، والرجل يتشبه بالمرأة، فيطيل شعره وقد يقصه قصاً نسائياً، وهكذا فُتن بعض الناس والعياذ بالله ذكوراً أو إناثاً بتغيير خلق الله تعالى، ومخالفة الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها، فالرجل يشبه المرأة، ويطيل ثوبه، حتى يسحبَه في الأرض شبراً، أو أكثر من ذلك، والمرأة قد تقصر ثوبها، حتى يظهَر بعضُ ساقها، وهذا من تلاعب الشيطان ببني آدم، ومخالفتهم للفطرة، ومخالفتهم لشريعة الله عزَّ وجلَّ.
أما إذا لم يكن فيه تشبه بالكفار ولا تشبه بالرجال: فلا أعلم في ذلك حرجاً، وقد جاء في: صحيح مسلم أن أمهات المؤمنين كنَّ يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفره، وإن كان قد نصَّ كثير من الفقهاء على أن قَصَّ الشعر مكروه.
أسأل الله -عزَّ وجلَّ- بِمَنِّه وكرمه، أن يكتب لنا أجر هذا المجلس، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(97/17)
بركة السحور
السؤال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تسحَّروا فإن في السَّحور بركة} ما المقصود ببركة السحور؟
الجواب
بركة السحور: أولاً: طاعة الرسول -عليه الصلاة والسلام- فإن طاعته هي بركة كلها.
ثانياً: مخالفة أهل الكتاب، ولذلك جاء: {فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السَّحَر} فإن أهل الكتاب كأنهم لا يتسحرون، فمخالفتهم خيرٌ وبِرٌّ وبركة.
ثالثاً: من بركة السحور: أنه يعين المسلم على الاستفادة من وقته، فإذا كان قد تسحَّر يكون في بدنه قوة، ويكون لديه رغبة وإقبال على العبادة، بخلاف ما إذا لم يتسحَّر، فإنه يكون في جسده ضعف يحول بينه وبين القيام ببعض العبادات والأعمال.(97/18)
علاج النسيان
السؤال
قرأتُ عدة أحاديث عن تسهيل حفظ القرآن الكريم للذي ينسى كثيراً، وهي تقول: إن على مَن ينسى أن يُصَلي أربع ركعات في ليلة الجمعة، الأولى: الفاتحة ويس، ثم الفاتحة والدخان، ثم الفاتحة والسجدة، ثم الفاتحة وتبارك، الرجاء شرح ما يمكن عمله لتسهيل حفظ القرآن الكريم؟
الجواب
هذا الحديث الذي أشار إليه الأخ السائل، لا يصح، رواه: الترمذي، والحاكم، وغيرهما، وتساهل بعضهم في تحسينه، بل هو حديث ضعيف، بل هو ضعيف جداً، لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في صلاة النسيان شيءٌ، وإنما على العبد الذي يريد أن يحفظ القرآن أمور: أولها: التضرع إلى الله تعالى بالدعاء: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، وأن يسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقه حفظ القرآن، وأن لا ينساه، فيقول: اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نُسِّينا، هذا أولاً.
ثانياً: عليه أن يكثر من تكرار القرآن الكريم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول -فيما رواه أصحاب السنن-: {تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَلُّتاً، أو تَفَصِّياً من الإبل في عُقُلِها} .
فالإنسان إذا غفل عن القرآن نسي، فعليه أن يكثر ويردد القرآن الكريم.
ثالثها: كما عليه أن يتجنب المعاصي، فإنها من أسباب سواد القلب، ونسيان العلم.
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي(97/19)
حكم صيام يوم الشك
السؤال
هذا سؤالٌ عن صيام يوم الشك؟
الجواب
يوم الشك لا يجوز صيامه على أنه من رمضان، وقد قال جمع من الصحابة، منهم: عمار بن ياسر: [[من صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم]] فلا يجوز أن تصوم يوم الشك على أنه احتياط لرمضان، ولكن مَن وافقَ يومُ الشك يوماً كان يصومه، فصامه؛ فلا حرج، كمن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصادف يومَ الشك يومُ صيامه؛ فإنه لا بأس أن يصوم، أو صامه لأنه يوم الإثنين، أو يوم الخميس، أو ما أشبه ذلك.(97/20)
تبييت النية من الليل
السؤال
أسمع أن الإنسان إذا أراد أن يصوم في غير شهر رمضان أنه يصوم بنية من الليل، فهل شهر رمضان تدخل فيه هذه النية أم لا؟
الجواب
كل صيام فرض: يجب فيه تبييت النية من الليل، سواء أكان شهر رمضان، أم كان صوم نذر، أم كان قضاءً، أم ما أشبه ذلك، يجب تبييت النية من الليل، ومعنى تبييت النية من الليل: أن ينوي الصيام ولو قبل طلوع الفجر بلحظة، فمن نوى الصيام، ولو قبل طلوع الفجر بلحظة، فإنه يكون قد بيَّت الصيام من الليل، أما من لم ينوِ هذه النية فإنه لا ويجزئه صومه ذلك.
أما بالنسبة لصوم النفل، فيجوز بنية من الليل أو من النهار، فلو نام إنسان وليس في نيته أن يصوم، ولما أصبح وطلعت الشمس تذكر أن اليوم الإثنين، وقال: أريد أن أصوم، ولم يكن قد أفطر، فإنه يجوز له ذلك ويجزئه فصوم النفل يجوز بنية من الليل أو النهار، أما صوم الفرض فلا بد فيه من تبييت النية من الليل.(97/21)
نصاب المال
السؤال
هذا يسأل عن نِصاب المال، وإخراج الزكاة بالريال السعودي، وغيره؟
الجواب
نصاب المال بالريالات السعودية، التي هي العملة الورقية المتداولة عند الناس يختلف بحسب سعر الفضة أو سعر الذهب، وقد قدَّره العلماء في الفترة الماضية بـ (ستة وخمسين) ريالاً عربياً فضياً، وليست الريالات الورقية، فإذا كان ذلك كذلك فإن هذا التفاوت بحسب سعره، سعر الفضة في الأسواق، وأما تقديره بالذهب والفضة، فإن نصاب الذهب يساوي أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنية، هذا نصابه بالذهب.(97/22)
صيام النفل
السؤال
هذا يسأل عن صيام بعض الأيام الفاضلة؟
الجواب
ورَدَ صيام يوم الإثنين، والخميس، وورَدَ أيضاً صيام يوم السبت في بعض الأحاديث -وإن كانت الأحاديث فيه متعارضة- وورَدَ صيام (ثلاثة) أيام من كل شهر، وورَدَ أن يصوم يوماً ويفطر يومين، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سرد الصيام، أي: أن يصوم الدهر كله، وقال: {لا صام ولا أفطر} وقال: {من صام الدهر كله ضُيِّقَت عليه جهنمُ هكذا} .(97/23)
حكم التهنئة بدخول رمضان
السؤال
التهنئة الشرعية في دخول هذا الشهر الكريم؟
الجواب
لم يرِد -في الواقع- تهنئة محددة بدخول الشهر الكريم، ولا تهنئة أيضاً بالعيد؛ ولكن إذا هَنَّأ المسلم أخاه بأي لفظ حسن جميل فهذا طيب، مثل أن يقول: بارك الله لك في هذا الشهر الكريم، أوتقبل الله منا ومنك، أو مبارك عليكم هذا الشهر، أو ما أشبه ذلك من العبارات الحسنة المتداولة عند الناس؛ فإن هذا لا حرج فيه، ومن هُنِّئ بمثل ذلك يرُدُّ بنحوه أو أحسن منه، فيقول: بارك الله لنا ولكم، أو تقبل الله منا ومنكم، أو أعاننا الله وإياكم على صيامه وقيامه، فإن هذه من الأدعية الحسنة المشروعة.(97/24)
تعويد الأولاد على الصيام
السؤال
العُمُر المناسب لأمْرِ الأبناءِ فيه بالصيام؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصوموا يوم عاشوراء، فتقول الرُّبَيّعْ وهي إحدى الصحابيات الأنصاريات رضي الله عنها- تقول: [[كنا نَصُوْمُه ونُصَوِّمُ صبيانَنا -أي: نأمرهم بالصيام ونعلمهم عليه- حتى إذا بكى أحدهم أعطيناه اللعبة من العهن -أي من القطن- يلعب بها، حتى يكون عند الإفطار]] .
فتدريب الصبيان على الصيام مع المسلمين، مع آبائهم، والإفطار معهم، هذا منهج تربوي حسن، لكن ينبغي أن يُراعَى فيه أن لا يكون في ذلك مشقة على الصبي، فإذا كان فيه مشقة على الصبي، فإن هذا قد يُبَغِّض إليه الصيام، كما إذا كان صغيراً لا يطيقه، أو كان يعجز عن مثله، فإنه يراعى في ذلك حاله، ولا بأس أن يدرب الصبي على الصيام أياماً معلومة، وأن يُعطى على ذلك أجرة، حتى يتدرب على الصيام إذا كان ممن يطيق ذلك، ولا يشق عليه، فإذا بلغ وجب على أبويه حينئذٍ أن يلزموه بالصيام وينهوه عن الفطر، ويبينوا له حرمة ذلك، وأنه أصبح مكلفاً بالغاً يجب عليه الصوم، ويأثم بتركه، وهو أحد أركان الإسلام الذي لا يسع مسلماً أن يفرط فيه؛ لأن كثيراً من الأطفال الصغار يسألون بعد مضي الوقت وفوات الأوان عن أشهر أفطروها في صغرهم، وخاصة النساء، وذلك لأن الفتاة قد تبلغ بالحيض وتستحي أن تخبر أهلها بذلك، فربما لا تصوم، وربما تصوم -أحياناً- وهي حائض، خشية أن تخبرهم أنها حائض، فتتظاهر لهم بالصوم، وهذا كله لا يجوز، فإن المرأة إذا بلغت المحيض وجب عليها الصوم، وإذا كانت حائضاً فإنها تفطر، وتقضي مثل هذه الأيام بعد ذلك، فعلى الأبوين أن يراقبوا أبناءهم، ذكوراً أو إناثاً، ويلزموهم بالصيام متى كانوا أهلاً لذلك.(97/25)
حكم قضاء المرأة الأيام التي لم تصمها
السؤال
إذا كان هناك امرأة لم تصمْ أول عام بدأ فيه الصيام بجهلها -هذا مثل لما ذكرتُه لكم- وكان عمرها ثلاث عشرة سنة، فهل عليها وقد بلغت، وأتتها الدورة الشهرية في رمضان، فهل عليها الصيام؟
الجواب
نعم، عليها أن تصوم، عليها أن تقضي الأيام التي لم تصمها، وبالمناسبة: لو فُرِض أن المرأة أدركها الحيض في الخامس عشر من شهر رمضان أول مرَّة، فإننا نقول: يجب عليها أن تقضي الأيام السبعة أو الثمانية أو العشرة التي حاضت فيها، وتقضي إذا كانت لم تصم الأيام التي بعدها، عليها أن تقضيها، أما الخمسة عشر يوماً الأُوَل، التي أدركتها قبل الحيض؛ فإنه لا يجب عليها قضاؤها.(97/26)
استغلال الوقت في رمضان
السؤال
بِمَ توجه الشباب الذين يقضون الليالي في رمضان بالجلوس على الأرصفة؟
الجواب
لا شك أن هذا الشهر فرصة ثمينة، وتحفة أسداها الله -عزَّ وجلَّ- بواسع فضله إلى عباده، والمحروم فيها من حرم، ومن لم يُغفرْ له في رمضان، فمتى يُغفرله؟! ومن لم يتُبْ في رمضان، فمتى يتُوب؟! ومن لم يُقْبِلْ على ربه في هذا الشهر الكريم، ويُقلع عن الذنوب، فمتى يُقلع عنها؟! إن مثل هذه التجمعات الطيبة لقراءة القرآن، وحضور صلاة التراويح، وسماع الذكر، إنها تؤثر في النفوس، حتى القلوب القاسية تلين لذلك.
فعلى هؤلاء الإخوة أن يقبلوا على الله -عزَّ وجلَّ-، وأن يحضروا مواسم الخيرات، لعل أن تعمهم دعوة رجل صالح، أو تشملهم رحمة يفيضها الله تعالى على قوم، فتقول الملائكة: "يا رب فيهم فلان ليس منهم، وإنما جاء لحاجة" فيقول الله عزَّ وجلَّ: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" فيَغْفِر لك معهم، فحضور مجالس الذكر، وصلاة التراويح، والقيام، وغيرها مع المسلمين من أعظم الأسباب، وكذلك حفظ الصيام من كل ما يخدشه أو يعكر فيه، والحرص على تدارك الأوقات، ومَلْئِها بالذكر والتسبيح وقراءة القرآن، والإحسان إلى الخلق وغير ذلك، وكم هو محزن أن تضيع أيامنا وليالينا النفيسة في هذا الشهر في مثل جلسات طويلة على مشاهدة تلفاز أو غيره، أو أحاديث ضائعة، أو لعب كرة، أو ما أشبه ذلك، مما لا يفيد المسلم في دينه ولا في دنياه.(97/27)
استغلال الموظف وقته في قراءة القرآن
السؤال
ما رأيكم في الموظف الذي يستغل وقت فراغه من العمل بقراءة القرآن؟
الجواب
هذا حَسَن؛ لأن الموظف، ليس المطلوب أن يضيع وقته، مطلوبٌ منه أن يحفظ وقته، فإذا كان أمامه معاملات؛ فإنه يجب عليه أن يقوم بإعدادها وتجهيزها، وإذا كان أمامه مراجعون؛ فعليه أن يقوم بقضاء أعمالهم، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فاستغل وقته بقراءة القرآن أو ذكر الله -عزَّ وجلَّ- فهذا حسن، لكن الشيء الذي لا يسوغ ولا يجوز هو أن يكون هَمُّ بعض الإخوة -وهُمْ قليل بحمد الله- إذا وجد شيئاً من الفراغ أن يستغله في النوم، وربما يكون ذلك سبباً في فوات بعض المصالح التي يحتاجها المراجعون.(97/28)
أهمية السؤال عن أمر الدين
أيها الأحبة: سيكون في كل ليلة -إن شاء الله- بعد انتهاء صلاة التراويح نحو عشر دقائق؛ للإجابة على ما يرد عنكم من أسئلة واستفسارات حول شهر رمضان، ويستوي في ذلك الأسئلة التي تأتي من الإخوة الرجال، أو من الأخوات المؤمنات، ولا شك أن سؤال الإنسان عما يُشْكِل عليه من أمور دينه، من أهم الواجبات، ولا يجوز بحال من الأحوال، أن تسمع -أحياناً- بعض الناس يسأل عن حادثة وقعت له، قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، ثم يقول: لم يخطر في بالي أن أسأل عنها حتى الآن؛ فإن الله -عزَّ وجلَّ- يقول في محكم تنزيله في موضعين من كتابه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] .
فمن كان يعلم حكم الله تعالى وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم- فحَسَنٌ، أما من كان يجهل هذا الحكم ففرض عليه أن يسأل من يعلم، وقد جاء أيضاً في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً، وقد ذهب جماعة في سرية فاحتلم رجلٌ، وكان به جُرح، فسأل أصحابه، فأمروه بالاغتسال، فاغتسل فمات فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: {قتلوه -قتلهم الله-، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِيِّ السؤال} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم أن يسأل عما أشكل عليه من هذه الأمور؛ حتى يجد فيها الجواب الشافي والعلاج الناجح.(97/29)
اختلاف الفتوى
كما أنني أحب أن أنبه إلى مسألة تُشْكِل على الكثيرين، وهي: مسألة اختلاف الفتوى فربما يَرِد إلى هذا المسجد المبارك، الذي تؤُمه هذه الجموع الغفيرة، من المؤمنين المصلين الراكعين الساجدين، ربما يَرِد إليه عدد من الإخوة المشايخ وطلبة العلم، وقد ترد أسئلة متكررة -أحياناً- ويكون الجواب مختلفاً بحسب اجتهاد المجيب، فيقع عند بعض الناس التباسٌ في ذلك، وتَردُّد وحَيرة.
والواقع: أن هذا مما لا ينبغي أن يكون فيه التباس؛ لأن الفتوى قد تختلف بحسب اجتهاد المتكلم، وعلى الإنسان إن كان عالماً، أو قادراً على التمييز بين الأجوبة بحسب الدليل، أن يختار من الأجوبة ما يكون الدليل مسعفاً له ومقوياً له، أما إن كان عامياً؛ فإن عليه أن يتبع من يعتقد أنه أعلم وأتقى لله -عزَّ وجلَّ- وأورع وأقرب إلى معرفة الكتاب والسنة، ويترك ما سوى ذلك، أما ضرب الأقوال بعضها ببعض؛ فإن هذا مما لا ينبغي ولا يليق بالمسلم، وكثيراً ما تَرِدُ مسائل يقع فيها مثل هذا، خاصة في هذا الشهر الكريم، وربما يَرِد خلال هذه الأسئلة شيءٌ من ذلك.(97/30)
على سرير الموت
الموت حقيقة سيردها كل إنسان، والحياة محطة للتزود من الخير أو الشر، والعاقل من عمل لآخرته وسعى من أجل دينه، وفارق الدنيا خفيف الحمل من الذنوب.
وفي هذه المحاضرة تجد تذكيراً بحقيقة الموت، وبعض الجوانب المطلوبة لذلك.(98/1)
مع المستمعين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا هو الدرس السابع والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين (16) من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة واثني عشر للهجرة.
وقد أسلفت القول لكم عن عنوان حديثي إليكم في هذه الليلة " على سرير الموت ".(98/2)
قصيدة فلسطين
كما أنني بالمناسبة أيضاً أود أن أشرككم معي في مطلع هذا الدرس المبارك في قصيدة بعث بها أحد الشباب من قوله لا من منقوله، ومن إنشائه، وهي قصيدة رائعة المعنى قوية السبك والمبني وقد أخذتني أبياتها وعباراتها فأحب أن أشرككم معي في تذوق هذه القصيدة لن أقرأها لكنني سأقرأ منها أبياتاً، وإنما قالها يخاطب فيها فلسطين البلد الإسلامي الذي يحتله اليهود ولعل ذلك بمناسبة ما يقال حول السلام، والمسلم بكل حال يشتاق إلى الشهادة في سبيل الله وأن يراق دمه دفاعاً عن الإسلام وبلاد الإسلام وأعراض المسلمات، وقد جعل الأخ الكريم لها عنوان فلسطين: خذي القلب مني مزقيه وقطعي خذي الدمع إني قد وهبتك أدمعي خذي الروح إن الروح تشتاق للقا تكاد تطير الآن من بين أضلعي خذي الليل والأحزان واليأس والرجا خذي كل ألحاني وغني ورجعي خذي العشق يبكي في حروف قصائدي خذيه وضميه إلى الصدر واهجعي خذي كل ما شئت ولا تترددي خذي كل ما عندي خذي كل ما معي فلسطين قام القلب يشكو مصابه بك فتعالي يا فلسطين واسمعي وأصغي لما قال الفؤاد فإنه إذا ما وعى شيئا يقول الذي يعي فلسطين ما أقسى الخطوب تجمعت تدوس على القلب الضعيف المزعزع وتسلب منه الأمن والحب والمنى وتلقيه في قيد من البؤس مفزع فلسطين جاءوا للسلام كأنهم يقولون قومي يا فلسطين ودعي فلسطين لا حي الإله سلامهم إذا كان يعطيهم بلادي وأربعي إذا كان يهدي لليهود منازلي ويمنحهم بيتي وحقلي ومصنعي فلسطين لا حي الإله سلامهم فقد أخذوا أرضي وروضي ومرتعي إلى آخر تلك القصيدة الطويلة فبارك الله في قلب ولسان هذا الشاعر الناشئ المبدع.(98/3)
طلب موضوعات تتعلق بالنساء
كما أن عدداً من الأخوات كتبن اقتراحات أو طلبن موضوعات تتعلق بالمرأة، والحق يقال: أننا مقصرون في الموضوعات المتعلقة بالمرأة في هذه الدروس، وسبب التقصير ربما عدم معرفتنا تماماً بما يجري في أوساط النساء، فنحن بحاجة إلى أن يكتب إلينا عما يدور عن الأخطاء والانحرافات الموجودة في أوساط المرأة سواء في المجالس أم المدارس أم المجتمعات أم غيرها، حتى يكون علاجها على بينة وعلى بصيرة، وأنا في انتظار مثل هذه الأمور لمعالجة هذه الموضوعات.(98/4)
قصيدة للشاعر عمر أبو ريشة
أحد الإخوة الكرام ذكرني بقصيدة يعتقد هو واعتقاده في محله أنها ذات علاقة بموضوع المجلس السابق وهي: للشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله يقول فيها: أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم ويكاد الدمع يهمي عابثاً ببقايا كبرياء الألم أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم النغم أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبس الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم إلى آخر ما قال في قصيدته وكتبها لي الأخ الكريم.(98/5)
ماذا عن الأسئلة
لقد ذهبت معي في المجلس السابق بعدد كبير من أسئلتكم، وتصفحت هذه الأسئلة وقرأتها أكثر من مرة، ويعلم الله أنني كنت مسروراً من قراءتها، فقد قرأت في معظم هذه الأسئلة، وجلها إن لم يكن في كلها قلوباً تخفق بحب الإسلام، وعقولاً تفكر فيه، بل وألسنة تلهج بذكره وتعبر عنه، ولاشك أن ثمة عبارات كثيرة كتبها الإخوة تحمل مضامين أكبر من تلك الكلمات، فكم كان سروري عظيماً وأنا أقرأ هذه الأسئلة فأجدها معبرة بدرجة كبيرة من الوعي، ومستوى رفيع من الإدراك، فضلاً عن جودة اللغة وحسن العبارة، فالحمد لله رب العالمين أن تكون هذه الأمة -على الأقل- بدأت تفكر تفكيراً سليماً، وبدأت تتلمس طريقها وتبحث عنه، إن الفرح يتجدد كلما قرأ الإنسان سؤالاً يقول: ما هو دوري! ما واجبي! ماذا افعل؟ إلى غير ذلك.(98/6)
دواء الجمود القلبي تجاه قضايا المسلمين
مجموعة كبيرة أيضاً من الأسئلة كتبت تقول: إنك وصفت الداء ونحن نحتاج إلى الدواء، وقد عبر عنها أحد الإخوة بعبارة جميلة يقول: قد أعطيتنا الداء أو وصف الداء نقداً فهل سوف تذكر لنا الدواء نقداً أم نسيئة؟ وفي الواقع أنني قد لا أملك وصف الدواء للداء الذي ذكرته في المجلس السابق وهو "جمود القلوب من الإحساس بهمِّ الإسلام والمسلمين" ولكنني مساهمة مني واستجابة لمجموعة كبيرة، من تلك الأسئلة أساهم في بعض هذه الحلول والواجب علينا جميعاً أن نشترك فيها.(98/7)
تربية النفس وتهذيبها
الحل الثاني: هو تربية النفس وتهذيبها ومجاهدتها على هذه الأمور بقدر المستطاع بكل ما يستطاع.
ومن وسائل تربية النفس وتهذيبها ومجاهدتها على ذلك: - كثرة القراءة عن أحوال المسلمين: الوسيلة الأولى: كثرة القراءة عن أحوال المسلمين في كل مكان، سواء عن المسلمين في بلادهم أم في الأقليات الإسلامية التي تعيش تحت تسلط أكثريات كافرة من النصارى أو اليهود أو الشيوعيين أو غيرهم، وسواء كانت هذه القراءة في كتب تتحدث عن أحوال المسلمين أم في مجلات أم في غيرها مما يكتب هنا وهناك، ولتقرأ بقلب يريد أن يتأسي ويتعزى لما ينزل بإخوانه المسلمين ولسان حالك يقول مخاطباً أولئك المسلمين: ما قر جنبي وقد أقوت مضاجعكم كأن جنبي مطوي على قصب ماذا تعانون من عسر ومن رهق؟ ماذا تقاسون من سجن ومن حرب؟! يا أوفياء وما أحلى الوفاء على تقلب الدهر من معط ومستلب أفديكم عصبة لله قد خلصت فما تَغيَّروا في خصب ولا جدب وليكن في ذهنك أننا حين نتكلم عن مصاب المسلمين لسنا نقصد فقط الاضطهاد الذي يعانيه المسلمون هنا وهناك في بلد أو في آخر، لا ليس هذا هو المقصود فحسب، هذا جزء من مصاب المسلمين، ولكن الواقع أن مصاب المسلمين في كل مكان، بل كل مسلم في الواقع يعيش مصاب المسلمين، وذلك في أمور: في التخلف العقدي، في جهلهم بدينهم، تخلفهم عما يحبه الله تعالى لهم من الاستقامة على الدين الصحيح ومعرفة العقيدة الصحيحة، جهل المسلمين بالعبادة التي يجب أن يتعبدوا لله تعالى بها وبالسلوك الذي يجب أن يسلكوه في شئون حياتهم، هذا أعظم مصاب نزل بالمسلمين.
وربما نستطيع أن نقول: إن كل مصاب آخر فهو قليل بالقياس إلى هذا وهو فرع عنه قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] .
أيضاً من مصاب المسلمين: التخلف العلمي والتقني الذي يعانونه، حيث أصبحوا في ذيل ومؤخرة الدول فيما يتعلق بالعلم والتصنيع والتقدم والتقنية وغير ذلك، بل أصبحت العقول المسلمة تخدم الدول الأخرى من حيث تشعر أو لا تشعر، وهو ما يسمى بهجرة العقول العربية أو العقول الإسلامية، التي تجد الإغراءات الكثيرة من الأمم الأخرى، فتقيم هناك وتصب جهودها وإمكانياتها وخدماتها في مجتمعات لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، مصاب المسلمين في هذا الثالوث الخطير الذي أناخ بكلكله عليهم: الفقر الجهل، المرض.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما دور التكتم الإعلامي في عدم إدراكنا لما يعيشه المسلمون؟ أقول: دور التكتم الإعلامي دور كبير سواء في ذلك التكتم عن المصائب والنوازل والكوارث التي تحل بالمسلمين، فإن الإعلام العربي مشغول في كثير من الأحيان بقضايا هامشية ثانوية، وما هو إلا صورة عما يقال في الغرب، ولا تعجب إذا رأيت في كثير من الإعلام العربي أخباراً مذهلة جداً، أخبار عن قطة ماتت هنا أو قطة ماتت هناك، أو أخبار عن ثرية أوصت لقطتها بالمال، أو أخبار عن اللاعبين أو المدربين أو غير ذلك، أو أخبار عن أمور يزعمون أنها أمور علمية وهي في الواقع أمور لا تمت إلى العلم بصلة، إنما يراد بها استفزاز أهل الإسلام، كالحديث مثلاً عن قضية اكتشافات علمية تؤكد أن الإنسان أصله يعود إلى القرد -مثلاً- لمجرد الاستفزاز، وإلا حاشا العلم الصحيح أن يثبت هذا أو يقول به، والعلم الصحيح لا يمكن أن يعارض النقل الصحيح في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالإعلام العربي مشغول بهذه الأمور عن معالجة ومعاناة قضايا المسلمين، مشغول أولا عن مصائب المسلمين في كل مكان.
وربما مرت مصيبة فلم يتكلم عنها، وربما تكلمت عنها الصحف أو بعض المجلات أو بعض الإذاعات على استحياء، ومستها مساً خفيفاً من وراء وراء!! كما إنه مشغول عن معالجة مصائب المسلمين ومشاكلهم الحقيقية؛ لأنه لا يهمه إلا المدح والثناء والإعجاب وذكر الجوانب الإيجابية والغفلة عن الجوانب الأخرى، فهو مشغول عن هذا وذاك، ولذا لاشك أن للإعلام العربي وبالتالي للإعلام العالمي -لكننا لا نلوم الإعلام العالمي لأن هذا شأنه- دوراً كبيراً في تغفيل الناس وتهميشهم عن إدراك قضاياهم، لكن هذا لا يعفي المسلم عن ضرورة البحث عن المصادر الحقيقية من خلال الكتب الموثوقة أو الدراسات والمقالات والتقارير التي تكون أكثر دقة من غيرها.
- القراءة في تاريخ المسلمين: الوسيلة الثانية من وسائل تربية النفس ومجاهدتها على ذلك هو: كثرة القراءة عن تاريخ المسلمين وأمجادهم، بحيث إن الإنسان يقارن بين هذا الواقع المر الذي يراه ويسمعه ويلمسه وبين ذلك التاريخ الذي عاشته الأمة يوماً من الأيام، وفي ذلك ضمان للإنسان أن يظل عنده تفاؤل وعنده أمل، وعنده ثقة بالله عز وجل أن هذه الأمة وإن آلت إلى ما آلت إليه إلا أنه كان لها تاريخ، وكان لها ماضٍ، ويجب أن تعود إلى ماضيها وتاريخها ولسان حالك أيضاً يقول كما قال الشاعر: إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداداً تحداه ماض تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه بالله سل خلف بحر الصين عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه إني لأشعر إذ أغشى معالمهم كأنني راهب يغشى مصلاه والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه - القراءة عن جهود الكفر في خدمة كفرهم: الوسيلة الثالثة هي: القراءة عن جهود النصارى واليهود وأعداء الدين في دعوتهم إلى دينهم ومذهبهم، وكيف بذلوا الغالي والنفيس وضحوا براحتهم وسعادتهم وتغربوا في الأمصار وبذلوا الأموال الهائلة الطائلة حتى حققوا ما حققوا! وفي ذلك قصص وأعاجيب سيكون عنها الحديث -بإذن الله تعالى- يوماً من الأيام.
جهود النصارى في الدعوة إلى دينهم: ربما قام راهب منصر أو كما يسمونه خطأ (مبشر) قام فتكلم إلى شعب من الشعوب يطلب منهم تبرعاً بأموال طائلة هائلة، ويكون التبرع عن طريق الكمبيوتر من أراد أن يتبرع فتجد أنه خلال ساعتين أو ثلاث يغلق الحساب، وقد وصل المبلغ كله مهما كان ارتفاعه.
وأيضاً أشكر ذلك الأخ الذي بعث إليَّ -وهذا على سبيل المثال أيضاً- بأوراق تتكلم عن بعض الإذاعات التي يملكها النصارى ويستخدمونها في نشر دينهم، وأقرأ عليكم على عجل شيئاً من ذلك يقول:- صارت برامج إذاعات التنصير تصل إلى شعوب هذه المجتمعات -يقصد مجتمعات كثيرة في العالم- بأوضح مما تصل إليه برامجها الوطنية المحلية، ويكفي أن نعلم أن الولايات المتحدة مثلاً تبث برامج دينية مسيحية من محطة الإذاعة الدولية لمدة تزيد على ثلاثمائة ساعة في الأسبوع، وذلك بلغات شتى مختلفة وتذيع باللغات الإنجليزية والأسبانية والبرتغالية والألمانية والروسية وتمتلك هذه الإذاعة التنصيرية محطات للتقوية في الفلبين واليابان وإندونيسيا وغيرها، مما يجعل برامجها تصل إلى مختلف أنحاء العالم.
وفي موناكو يوجد راديو جميع أنحاء العالم الذي تموله هيئة مسيحية ويبث برامج تنصيرية بخمس وثلاثين لغة إلى كافة مناطق العالم.
وفي الفلبين توجد خمس وعشرون محطة دينية مسيحية تبث برامجها إلى قارة آسيا، وتشمل هذه المحطات شركة الشرق الأقصى التي تبث برامج دينية لسبع مناطق في آسيا والاتحاد السوفيتي بست وأربعين لغة.
وفي أمريكا اللاتينية توجد شبكة وتتولى إدارتها الجماعة التنصيرية العالمية وهي هيئة أسستها الولايات المتحدة الأمريكية وتعتبر من أقوى الشبكات الإذاعية في أمريكا اللاتينية وتبث برامج مسيحية إلى الإكوادور لمدة عشرين ساعة يومياً وتبث برامج دينية دولية إلى جميع أنحاء العالم بعديد من اللغات بمعدل إرسال ستين ساعة في اليوم، بعدة لغات.
وقد استطرد في ذكر عدد هائل وكبير من محطات الإذاعة التي تبث للدعوة إلى النصرانية، وهذا نموذج ومثال، فقراءة الإنسان أو سماعه مثل تلك الأخبار التي يبذل فيها النصارى واليهود لدينهم ما يبذلون، تجعله يحس بالحرقة والغيرة على الأقل ومع ذلك ينبغي أن يكون نصب عينيه قول الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104] فلا يجوز أبداً أن يكون ما يبذله هؤلاء أو أولئك سبباً في قنوطنا وقعودنا وإحباطنا، فإن الله تعالى يبارك في القليل حتى يصبح كثيراً، ولو أن المسلمين بذلوا ما يستطيعون لوجدوا نتائج مذهلة، وهم الآن يجدون نتائج مذهلة على رغم أن البذل أقل بقليل مما يجب.
- تربية الأسرة والمجتمع وربطه بقضايا الإسلام: الوسيلة الرابعة لتربية النفس هي: تربية المجتمع أيضاً على القيام بالواجب نحو الزوجة والأولاد كباراً كانوا أو صغاراً في ربطهم بقضايا المسلمين وأحوالهم وأوضاعهم، من خلال بعض القصص التي يذكرها الإنسان عن المجاهدين، والمضحين في سبيل الدين، وعن الدعاة والعلماء، بحيث ينشأ الصبي الصغير وقدوته ومثله الأعلى رجال الإسلام وأبطاله وزعماؤه وعلماؤه، وليسوا المغنين أو الفنانين أو المطربين أو الرياضيين أو غيرهم.
كذلك الحديث عن بعض الأخطار المتجددة من المصائب التي تنزل بالمسلمين هنا وهناك، ومثله ربط الشباب ذكوراً أو إناثاً من الصغار بالأحلام والتطلعات إلى أن يقوموا بدورهم في خدمة الإسلام، فكم هو جميل أن تربي ولدك على أنه في المستقبل -إن شاء الله- سوف يجدد دور خالد بن الوليد أو صلاح الدين أو نور الدين أو فلان أو علان من رجالات الإسلام، وكم هو جميل أن يربي الرجل أو تربي المرأة بنتها على أنها سوف تقوم في مستقبلها بإذن الله تعالى بدور بعض أمهات المؤمنين، أو نساء الصحابة الفاضلات، أو النساء اللاتي تربى في حجورهن أو(98/8)
العمل والعيش من أجل الإسلام
من الحلول التي أعتقد أنها مهمة لإحياء القلب، وجعله يعيش هم الإسلام في كل وقت وحين، أن ينغمس الإنسان في الأعمال الخيرية الفاضلة النافعة التي يقصد من ورائها نفع المسلمين في كل مكان، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل.
إننا نجد أن صاحب الدنيا المنغمس في تجارته أو زراعته أو طموحاته الدنيوية أيا كانت، نجد أن هذه الدنيا تخايله في كل وقت وحين، حتى لربما قام يريد أن يصلي، يريد أن يكبر أو يسمع فسبقت كلمات الدنيا إلى فمه، ربما أراد أن يقول: (الله أكبر) فقال: ما عندي غير هذا السعر! لأن الدنيا تعيش في قلبه، ويتحدث الناس عن قصص من هذا القبيل كثيرة ويضحكون منها ويتناقلونها.
وبالمقابل يقول لي أحد الأحباب: والله إن قضية الإسلام والإيمان ومصاب المسلمين يؤرقني ويقلقني ويشغلني كثيراً؛ حتى إني ربما تقدمت لأصلي بالناس فخشيت أن يفضحني لساني فيسبق بكلمة بدلاً عن التكبير أو التسميع، ولا شك أن ما يعانيه الإنسان بيديه أو يعمله بجوارحه أو يشتغل به في حياته هو الذي يسكن في قلبه، وربما فرط في لسانه من غير قصد ولا إرادة منه.
إذاً فالحل الأول: هو أن تغرق نفسك بأعمال تقصد من ورائها إلى خدمة الإسلام والمسلمين.(98/9)
معنى أن يكون الموت لرب العالمين
معاشر المؤمنين لعل الكثير منا -وقد آن الأوان للدخول في موضوع هذه الليلة- يستفتحون صلاتهم بقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] قَلَّ رجل من المسلمين إلا ويستفتح بهذا الاستفتاح، ولكن الكثير ربما لا يستطيعون أن يدركوا معنى هذه الآية تماماً.
إننا نعلم معنى أن تكون الحياة لرب العالمين، لكن الكثيرين لا يعلمون معنى أن يكون الموت أيضاً: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:163] .(98/10)
أن يموت وقلبه معلق بفعل الخير ومحبته
أيضاً من صور الممات لله رب العالمين: أن يموت الإنسان وقلبه معلق بفعل الخير ومحبته ومحبة أهله، والخوف على الإسلام والمسلمين والإشفاق عليهم، أي: أن يموت الإنسان وقلبه يتحرك ساعة موته بقضية الإسلام والمسلمين- وهذه علاقة درس هذه الليلة بدرس المجلس السابق- أي: أن يكون هم الإسلام في قلبك حتى وأنت تلفظ آخر أنفاسك على سرير الموت، هذا أيضاً من صور الممات لرب العالمين، مشاعر الموت هي هي، المسلم والكافر تنزل بهم الأحزان والمصائب، ينزل بهم الخوف والأمور التي يرهبونها ويكتئبون منها، فالمشاعر هي هي، لكن شتان بين من يكون شعوره إشفاقاً على الإسلام والمسلمين وحباً لهم ورغبة في لقاء الله تعالى، وخوفاً من ذنوبه، وبين من يكون بضد ذلك.
ألم تعلم -يا أخي الحبيب- أن ساعة الموت إنما هي تلخيص للحياة الطويلة، أربعون أو خمسون أو ستون سنة قضيتها على ظهر هذه الدنيا تلخص لك في ساعة أو ساعتين وأنت على سرير الموت {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] .
ملخص موجز دقيق لا يختلف عما تعيشه في هذه الدنيا، فالإنسان يموت على ما عاش عليه، ولا تتصور مثلاً أن المؤمن الذي قضى حياته مؤمناً صادقاً عابداً قانتاً لله عز وجل مجاهداً في سبيله أنه يموت منحرفاً عن سواء السبيل، ولا تتصور أيضاً أن الذي قضى حياته منافقاً مخالفاً لله ورسوله عاصياً مجاهراً مضاداً للإسلام محارباً له، أن يموت وينطق بـ (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) .
فالإنسان غالباً يموت على ما عاش عليه، والله تعالى على كل شيء قدير، والخواتيم بيد الله عز وجل، والأعمال بالخواتيم، لكن الغالب كما قرر ذلك أهل العلم كـ ابن القيم وغيره وهو الظاهر من النصوص الشرعية؛ أن ساعة الموت هي تلخيص أمين دقيق لما يكون عليه الإنسان في حالة حياته.(98/11)
الشهادة في سبيل الله
إن من معنى أن يكون الممات لرب العالمين، أن يموت الإنسان في سبيل الله شهيداً صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر في أرض المعركة، وهذا أمر طالما تمناه حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل} .
ولما غادر أصحابه صلى الله عليه وسلم في معركة أحد قال: {وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل} .
فتمنى صلى الله عليه وسلم أن يقتل شهيداً في سبيل الله، فإن الشهداء يروون شجرة الإسلام بدمهم الأحمر القاني.
ولكن ثمة وسائل وطرائق وصورٌ أخرى غير مجرد القتل في ميدان المعركة، وأضرب لك بعض الأمثلة السريعة: المثل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث صهيب في صحيح مسلم عن ذلك الغلام الإسرائيلي الذي كان يتردد بين الساحر والراهب: (حبسني الساحر! حبسني أهلي، حبسني الساحر حبسني أهلي) حتى آمن هذا الغلام، ويوماً من الأيام وجد في الطريق دابة قد سدت الطريق فقال: الآن أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فأزل هذه، فماتت وزالت وذهب الناس يمشون، فآمن هذا الغلام، وبدأ الناس يتسامعون بخبره حتى وصل خبره إلى الملك، فأحضره الملك وعرض عليه أن يرتد عن دينه فأبى فبعث معه مجموعة إلى رأس جبل وقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فإن ارتد عن دينه وإلا فألقوه من الجبل، فلما كانوا في رأس الجبل قال هذا الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت فتزلزل الجبل بهم فسقطوا وذهب الغلام إلى الملك، قال: ما صنع أصحابك؟! قال: الله كفانيهم بما شاء، فبعث مجموعة أخرى وقال: خذوا هذا الغلام فضعوه في قرقور - أي في سفينة صغيرة- فإذا توسطتم في البحر فأعرضوا عليه الردة عن دينه فإن ارتد وإلا فألقوه في البحر وأغرقوه، فلما كانوا في عرض البحر قال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأ بهم القرقور أو السفينة وغرقوا، ورجع هذا الغلام إلى الملك فقال: ما صنع أصحابك؟! قال: كفانيهم الله بما شاء.
ثم قال للملك: أيها الملك! إنك لا تستطيع قتلي إلا بطريقة واحدة، قال: وما هي؟ قال: أن تجمع الناس كلهم في صعيد واحد ثم تصلبني إلى جذع نخلة أو شجرة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتصوبه إليَّ وتقول: بسم الله رب الغلام فإنك إذا قلت ذلك قتلتني، فجمع الملك رعيته كلها وصلب هذا الغلام ثم أخذ سهماً وصوبه إليه فقال: باسم الله رب الغلام، ثم أطلق السهم فأصاب صدغه، فوضع الغلام يده على صدغه فمات، ثم رجع الملك فقال الناس له: آمنا برب الغلام، فجاء من حوله وقالوا: إن الذي تخشاه قد وقع، فحفر لهم الأخدود وأحرقهم فيه، قال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4-7] إلى آخر هذه القصة.
لقد مات هذا الغلام؛ لكن مماته كان لله رب العالمين، ولذلك مات فرد واحد وحيت أمة بأكملها، مات واحد ممن يقول: (لا إله إلا اله) فنطقت الأمة كلها وضجت بلا إله إلا الله، وهكذا يكون الممات لله رب العالمين، لم يمت في ميدان المعركة مقبلاً غير مدبر إنما مات أمام هذه الجموع الغفيرة التي شهدته وعرفت أن الله تعالى هو رب هذا الغلام، فآمنوا به وكفروا بالطاغوت، فهذا نموذج ممن ماتوا في سبيل الله فكان مماتهم لله رب العالمين.(98/12)
صور على سرير الموت
وإليك بعض هذه الصور المتقابلة التي تؤكد لك هذا، وتكشف لك ماذا يجري على سرير الموت، وماذا يجب أن يجري على سرير الموت:(98/13)
صورة أخرى
وثمة صورة أخرى متقابلة تختلف عن هذه بعض الشيء في شكلها ومضمونها، فأما اختلافها في المضمون فإنها صورة شعرية لرجلين شاعرين معروفين، وأما مضمونها فإذا كان كل من أبي جهل في معسكر الكفر وسعد بن الربيع في معسكر الإيمان كان لهما مكانة في مجالهما وفي معسكرهما، فإن هذين الرجلين اللذين سوف اذكرهما ليسا بتلك المنزلة: أحدهما مؤمن تائب لكنه لا يزال يعيش بعض آثار الجاهلية، والآخر رجل جاهلي كافر قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن له خيلاء أبي جهل ولا غروره ولا غطرسته.
أما الأول منهما فهو: عبد يغوث الحارثي وكان في الجاهلية رجلاً شاعراً مشهوراً شجاعاً، أسرته قبيلة من القبائل المعروفة يقال لها قبيلة تيم الرباب، فلما أسروه هموا به فأمسكوا لسانه، وربطوه بنسعة خشية أن يهجوهم أو يقول فيهم شيئاً من الشعر، فلا يطلقونه إلا للأكل والشرب، فقال لهم: أطلقوا لساني حتى أهجو قومي فأطلقوا عنه لسانه، وقال: لهم اقتلوني قتلة كريمة، قالوا: ما هي القتلة الكريمة؟ قال: أن يسقوه خمراً، ويقطعوا أكحله فيدعوه ينزف حتى يموت، ففعلوا به ذلك فلما بدأ دمه ينزف وهو في غير صحوة وفي غير عقله تمثل أو قال أبياتاً من الشعر يقول: ألا لا تلوماني كفى اللوم مابيا فما لكما في اللوم خير ولا ليا ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل وما لومي أخي من شماليا فيا راكباً إما عرضت فبلغن نداماي من نجران ألا تلاقيا أبا كرب بني مالك والأيهمين كليهما وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا جزى الله قومي بالكلاب ملامة صريحهم والآخرين المواليا أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا فإن أخاكم لم يكن من بوائيا والكلاب هو اسم تلك المعركة التي أسر فيها.
فهو يدعو على قومه سواء الذين هم صرحاء أو مواليه وموالي قومه.
بدأ هذا الرجل يتكلم عن مآثره، وعن الأشياء التي يفتخر بها في الجاهلية، هذا شعوره وهو الآن يلفظ نفسه ويغادر الدنيا، آخر فرصة قد ضاعت عليه الآن يقول: وقد علمت عرسي مليكة أنني أنا الليث معدواً عليه وعاديا وقد كنت نحار الجزور ومعمل المطي وأمضي حيث لا حي ماضيا وأنحر للشَّرب الكرام مطيتي وأصدع بين القينتين ردائيا وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا لبوقاً بتصريف القناة بنانيا مليكة هي زوجته.
مطيتي: يعني قومه ينحر لهم مطيته التي يركبها إذا لم يجد غيرها.
إلى آخر ما قال وأخيراً يقول مضى هذا كله وانتهى: كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي كرى نفسي عن رفاقيا أو قال: "عن رجاليا".
فهذا نموذج لرجل كافر كل همه خمر وغانية وكأس وفخر بماضيه وتاريخه وشجاعته وكرمه إلى غير ذلك، انتهت حياته هكذا كأن لم يكن.
وفي مقابل هذا تجد الصورة الأخرى لرجل مسلم وهو مالك بن الريب، وكان لصاً أديباً بليغاً قاطعاً للطريق، فأبصره سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان في غزوه إلى فارس، فأعجبه هذا الرجل في جماله وحسن أدبه وما أشبه ذلك، فسأله: لماذا تقطع الطريق؟ قال: ليس لدي مال، وأنا رجل كريم، ولا بد أن أكافئ الإخوان وأحيي الضيفان، فلذلك اضطر إلى السرقة وإلى قطع الطريق، فأكرمه وأعطاه مالاً كثيراً، فتاب الرجل وذهب معه إلى الغزو، فلما كان بخراسان بات إحدى الليالي، فلما أراد أن يلبس خفه قيل إنه كان فيها حية فلدغته، فصار يتلوى ويتقلب من السم الذي في بدنه، ويقول هذه القصيدة المشهورة التي في مطلعها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا وأصبحت في أرض الأعادي بعيد ما أراني عن أرض الأعادي قاصيا فلله دري يوم أترك طائعا بَنِيَّ بأعلى الرقمتين وماليا إن الله يرجعني من الغزو لا أرى وإن قل مالي طالبا ما ورائيا يقول: إن نجوت لن أطلب شيئا حراماً، لن أطلب ما لا يرضي الله عز وجل.
فيظهر هنا مظهر من مظاهر توبته إلى الله عز وجل، وإنابته وصدقه وإيمانه ومعرفته بما يجب أن يكون عليه، ومع ذلك فثم مشاعر بشرية أخرى قالها في ذلك الموقف تدل على الآثار البشرية الموجودة عنده، وتدل على تعلقه ببعض أمور هذه الحياة، من ذلك مثلاً التعلق بالوطن وتذكر ذكريات الماضي في بلده، من ذلك ترديده لكلمة الغضى، وهو شجر موجودة في بلده كثيراً: فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه وليت الغضى ماشى الركاب لياليا لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى مزار ولكن الغضى ليس دانيا فكأنه يتلذذ بترديد هذه الكلمة لأنها ارتبطت في ذهنه وعاطفته ومشاعره، كما أنك تجده يقول: دعاني الهوى من أهل ودي وصحبتي بذي الطبيسين فالتفت ورائياأجبت الهوى لما دعاني بزفرة تقنعت منها أن آلام ردائيا أي: أنه تذكر بلاده وأرضه فحن إليها -هذا شعور بشري- لكن المسلم الحق يرتفع حتى على هذه المشاعر، كذلك التفكير فيمن يبكي عليها، هذا شعور يدل على ما يدل عليه يقول: تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكيا وأشقر محبوك يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا وبالرمل منا نسوة لو شهدنني بكين وفدين الطبيب المداويا فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا وباكية أخرى: يقصد زوجته.
كذلك شعوره بالغربة والفراق وأن من حوله سوف يدعونه في قبره ويذهبون ولهذا يقول: فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابية إني مقيم لياليا أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة ولا تعجلاني قد تبين شانيا وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على جنبي فضل ردائيا ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا(98/14)
صورة الإيمان
وفي مقابل ذلك انظر إلى صورة الإيمان، انظر إلى طمأنينة المؤمن وإشراقه وسكينة قلبه حتى وهو يلفظ نفسه، سعد بن الربيع رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه ابن سعد في طبقاته وابن الجوزي في صفة الصفوة وفي الثبات عند الممات وأهل السير كلهم ذكروا هذه القصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهت معركة أحد قال: {من يذهب فينظر ماذا فعل سعد بن الربيع} .
فقام رجل ينظر ما فعل فكان يدور بين القتلى فرآه سعد بن الربيع فقال له: ماذا تفعل؟ قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثني انظر ماذا فعلت؟ فقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وأخبره أني ميت، وأني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأنفذت فيَّ فأنا هالك لا محالة، واقرأ على قومي مني السلام وقل لهم: يا قوم! لا عذر لكم إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، الله أكبر.
سعد بن الربيع يموت الآن ماذا يهمه من أمر الدنيا؟ ما سأل عن زوجته، ولا سأل عن أطفاله الصغار، إنما بلغ قومه هذه النصيحة وأن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، هذا من حقه علينا صلى الله عليه وسلم، وثانياً: يا معشر الأنصار والمهاجرين ليس لكم عند الله عذر إن تمكن المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم واحد حي، وفيكم عين تطرف، قاتلوا دونه حتى تقتلوا عن آخركم وتستأصل شأفتكم.
فانظر كيف هو همّ سعد بن الربيع إنه همَّ الإسلام، لم يكن يربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم نسب ولا قرابة إنما يربطه رابطة أنه يعلم أنه النبي الذي أنقذهم الله تعالى به من الضلالة، وبصرهم به من العمى، وهداهم به إلى طريق الجنة، فهو يعلم أن هذا النبي المختار له عليهم فضل أعظم من فضل الآباء والأمهات، وأن في بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً للإسلام والمسلمين، فلذلك كان هذا همَّه وهذا شأنه حتى وهو يجود بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.
فهذان شخصان: في معسكر الكفر أبو جهل وفي معسكر الإيمان سعد بن الربيع، وقد ظهرت همومهم وهم على فراش الموت ولا شك أن لكل منهما هم كبير يملأ قلبه ويؤرقه ويقلقه ويحركه.(98/15)
صورة الكفر والشرك
قال تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] .
فرعون هذه الأمة أبو جهل روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بسند فيه انقطاع ولكن رواه الطبراني بسند آخر متصل، وأصل الحديث في الصحيحين في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهت معركة بدر قال: {من يذهب فينظر ماذا صنع أبو جهل، فذهب عبد الله بن مسعود فوجده، فلما رآه ركب على صدره فقال له أبو جهل: لمن الدائرة اليوم؟ لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله، لقد أخزاك الله يا عدو الله، أرأيت كيف أخزاك الله؟! قال أبو جهل: وهل أعجب من رجل قتله قومه؟! ثم احتز ابن مسعود رأس أبي جهل وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم سر بذلك وقال: هذا فرعون هذه الأمة} .
هذا أبو جهل الآن في رمقه الأخير وقد ضربه ابنا عفراء حتى برك، وأدركه ابن مسعود وبه رمق، فـ أبو جهل الآن دماؤه -تسيل ورقبته قد قطعت أو كادت وهو يتشحط في أرض المعركة، فيم يفكر أبو جهل؟ فرعون هذه الأمة- قاتل الله من تكون حماسة أبي جهل لدينه أعظم من حماسته لدينه، فحماسة أبي جهل بالباطل وحماستك أنت بالحق، فـ أبو جهل الآن مشغول يقول: لمن الدائرة اليوم؟ من الذي انتصر اللات والعزى أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ ونقول: نحن صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال ابن مسعود: لقد أخزاك الله يا عدو الله ونصر الله دينه وأولياءه وجنده وحزبه، فانزعج أبو جهل لذلك.
هذا آخر سؤال تلفظ به، كان يفكر ويحمل هماً، لكن ما هو هذا الهم الذي يحمله فرعون هذه الأمة؟ إنه هم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وما أطول العجب من هذا الموقف ما قرأته إلا تعجبت! سبحان الله! رجل كافر يعبد صنماً يعرف أن المسألة كلها كذب، وما منعه من الإيمان والإسلام إلا الغيرة، وإلا الحرص على مكانته ومكاسبه وسلطته ورياسته في قريش، فما الذي يجعله يقول: لمن الدائرة اليوم؟! ويتساءل وهو ميت الآن لا محالة!! فكرت في ذلك طويلاً فلم أجد إلا أنني تذكرت أن اللاعبين الذين يتسابقون في ميدان الرياضة أحياناً إذا تسابقوا في السباق يسقط أحدهم ويكون شديد العناد والحماس، فإذا سقط تجد أن رجله تظل فترة طويلة وهي تتحرك حركة لا إرادية، كما لو كان يركض في الميدان وهو مسجى ملقى على ظهره، لماذا؟ إنها شدة العناد، إنها كبرياء الجاهلية وخيلاؤها وغرورها الذي اشتط بـ أبي جهل حتى جعله على رغم ذلك الموقف الصعب الذي يعيشه يتساءل لمن الغلبة اليوم؟ لمن الدائرة؟ ألمحمد وأصحابه أم للات والعزى؟(98/16)
الموت قدر الجميع
لاشك أن المؤمن إذا وضع في قبره وكان مؤمناً فإنه يفسح له مد بصره -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- فلا معنى لسعة القبر حينئذ وضيقه.
أخي الكريم إنك ميت لا محالة، أفيسرك أن تموت في حضن غانية على ما حرم الله؟ أم تحب أن تقبض روحك وأنت ساجد لله عز وجل وتقول: سبحان ربي الأعلى، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ هما طريقان ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار الموت قدر الجميع يقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول سبحانه {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] .
تهرب منه وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] .
وقال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] لا مجال للعب واللف والدوران والخداع، الميت صادق واضح صريح لا يمكن أن يقول إلا الحق، لأن الأمور قد تكشفت له، فهو يرى الملائكة ويرى الحقائق التي كان ينكرها ويجادل فيها بالأمس، يراها اليوم عياناً لاشك فيها فيقال له: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] حاد ظاهر لا إشكال فيه.
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبرًا حتى يرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمة المقدار فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عوار(98/17)
مشاعر المؤمنين عند الموت
ما هي مشاعر المؤمنين وهم يموتون؟ هي مشاعر كثيرة، أضرب لكم شيئاً من هذه المشاعر:(98/18)
الندم على ما فات من التقصير
من المشاعر: الندم على ما فات، ووالله لنندمن على ما فات؛ إن كنا محسنين لنندم أن لم نكن ازددنا إحسانا، وإن كنا مسيئين لنندم أن لم نكن أقلعنا ونزعنا وتبنا إلى الله عز وجل، ولكن انظر كيف ندم الصالحون.
عبد الله بن عمر رضي الله عنه ندم عند الموت يقول: [[ما آسى من الدنيا على شيء إلا على ثلاثة أحدها: ظمأ الهوا جرا (صيام كان يصومه ولم يعد يصومه) ومكابدة الليل، ومراوحة الأقدام بالقيام لله عز وجل ولم يقاتل تلك الفئة الباغية التي نزلت]] ولعله يقصد الحجاج ومن معه، وهذه هي الثلاثة التي ندم عليها من الدنيا.
ودخل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أبي هاشم بن عتبة وهو ضعيف فبكى أبو هاشم بن عتبة فقال له معاوية رضي الله عنه: ما يبكيك أوجع يشئزك -يعني يشدك- أم على الدنيا تبكي فقد ذهب صفوها وبقي كدرها، فلم يعد هناك ما يوجب أنك تبكي عليه، فقال أبو هاشم: لا أبكي على الدنيا ولا أبكي من وجع، إنما عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم عهداً فوددت أني كنت اتبعته، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك لعلك أن تدرك أموالاً تقسم بين أقوام وإنما يكفيك من الدنيا زاد ومركب} قال: فأدركنا فجمعنا، يقول ما أبكي الآن على الدنيا، إنما جمعت مالاً تمنيت أني لم أكن جمعته.
ومما يذكر في الأسف أيضاً على ما فات: موقف حصل لشاعر وعالم وداعية معاصر وهو الشيخ مصطفى السباعي أحد دعاة الإسلام، وقد قال قصيدة طويلة قبل أن يموت بخمس دقائق حينما صارحه الأطباء باليأس من شفائه، وكان خلفه صبية صغار وأهل وأم وزوج؛ فقال قصيدة يبكي فيها نفسه ويتأسف على من وراءه: أهاجك الوجد أم شاقتك آثار كانت مغاني نعم الأهل والدار؟! وما لعينك تبكي حرقة وأسى وما لقلبك قد ضجت به النار على الأحبة تبكي أم على طلل لم يبق فيه أحباء وسمار وهل من الدهر تبكي سوء عشرته لم يوف حقاً ولم يهدأ له ثار هيهات يا صاحبي آسى على زمن ساد العبيد به واقتيد أحرار أو أذرف الدمع في حِبِّ يفارقني أو في اللذائد والآمال تنهار فما سبتني قبل اليوم غانية ولا دعاني إلى الفحشاء فجار أَمَت في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إصرار وبعت لله دنيا لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار وإنما جزعي في صبية درجو غُفْلٍ عن الشر لم توقد لهم نار قد كنت أرجو زمانا أن أقودهم للمكرمات فلا ظلم ولا عار واليوم سارعت في خطوي إلى كفن يوماً سيلبسه بر وفجار هيهات يا صاحبي آسى: يقول لا آسي ولا أبكي ولا أحزن على الحياة نفسها.
فما سبتني قبل اليوم غانية، يقول: لم يسبق يوماً من الأيام أن سبتني امرأة جميلة أو أخذت عقلي أو لبي، من يستطيع أن يقول: هذا؟! جلست قبل أسبوع أو أسبوعين إلى شيخ كبير السن في الخامسة والتسعين من عمره تقريباً فقال لي: والله ما أذكر أن الله تعالى سوف يسألني عن ذنب ارتكبته، سبحان الله! رجل في مثل هذا السن يطمئن إلى أنه لم يرتكب ذنباً، كلنا ذوو أخطاء لكن المقصود الفواحش والذنوب الكبار، إلا أنه لا يذكر أن الله سوف يسأله أنه سرق أو ارتكب ما يسخط الله عز وجل، قليل من الناس من يستطيع أن يطمئن إلى هذا الأمر، بل كل واحد منا يذكر أنه قد تلطخ بذنوب وأوزار، نسأل الله تعالى أن يسترها علينا وألا يفضحنا في هذه الدار ولا في دار القرار.
وإنما جزعي: هاهنا يتكلم عن الأسى والأسف على شي وراءه.
ثم يخاطب هؤلاء الصبية الصغار معزياً ومسلياً ومثبتاً لهم فيقول: بالله يا صبيبتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار وما نصيب الأم والزوجة والإخوة: أفدي بنفسي أُماً لا يفارقها هم وتنهار حزناً حين أنهار فكيف تسكن بعد اليوم من شجن يا لوعة الثكل ما في الدار ديار وزوجة منحتني كل ما ملكت من صادق الود تحنان وإيثار عشنا زماناً هنيئاً من تواصلنا فكم يؤرق بعد العز إدبار وإخوة جعلوني بعد فقد أبي أباً لآمالهم روض وأزهار أستودع الله صحباً كنت أذخرهم للنائبات لنا أنس وأسمار زينة الحياة الدنيا: جلساء صالحون.
الملتقى في جنان الخلد إن قبلت منا صلاة وطاعات وأذكار ثم مات رحمه الله بعد هذه القصيدة بقليل.(98/19)
التحلل من المظالم والحقوق
الشعور الرابع: من المشاعر التي تدور في خلد المؤمن وهو يموت، التحلل ممن يعتقد أنه أخطأ عليه، أو ظلمه أو أساء إليه بقول أو بفعل.
وهذا حصل لكثير، منهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه لما نزل به الموت قال: [[أخرجوني إلى صحن الدار فأخرجوه، فقال: اجمعوا لي من هاهنا من أولادي وخدمي وجيراني وأهلي، فجمعوهم، فتحلل منهم، وقال: إنه قد يكون قد فرط مني إليكم إساءة بقول أو فعل، وهو والله الذي لا إله غيره يوم القيامة القصاص فمن كان له حق عليَّ فأقسمت بالله عليه إلا يأخذ حقه مني الآن قبل يوم القيامة فبكوا جميعاً وقالوا: بل والله كنت والداً، وكنت براً، وكنت مؤدباً فقال لهم: ألا تطالبوني بشيء؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد اللهم فاشهد]] وفاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه وهو مطمئن إلى أنه لا أحد من الناس يطالبه بحق أمام الله تعالى يوم القيامة.(98/20)
التسليم للقضاء والقدر
الشعور الخامس: شعور التسليم للقضاء والقدر، ولذلك لما نزل الموت بـ الحسن البصري رحمه الله حرك يديه وقال: [[هذه منزلة صبر واستسلام هذه منزلة صبر واستسلام]] كذلك كان عبادة بن الصامت أيضاً لما نزل به الموت، دعاه ولده الوليد بن عبادة فقال ولده: يا أبتي أوصني، قال [[أوصيك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتؤمن بالقضاء والقدر، فإنك لو مت وأنت غير مؤمن بالقضاء والقدر دخلت النار، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]] فذكره بضرورة الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لما كتب الله تعالى وقدر وقضى.(98/21)
الندم والتوبة
الشعور السادس: شعور الندم والاستغفار من ذنب فرط من الإنسان في ساعة لهو أو جهل أو غفلة، ولذلك لما حضر الموت عبد الملك بن مروان وهو الخليفة المعروف قال [أخرجوني] فأخرجوه، فتلفت وقال: " يا دنيا ما أجملك! -يسخر- يا دنيا ما أجملك! والله إن عيشك لحقير، وإن طويلك لقصير، وإن تناقش يكن نقاشك يا رب عذاباً لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت رب غفور لمسيء ذنوبه كالتراب ".
وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله لما نزل به الموت، استغفر الله تعالى، ثم قال ودموعه تتحادر على لحيته: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمنى ذنبي فلما قرنته بعفوك رب كان عفوك أعظما فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منَّةً وتكرما فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما فلله در العارف الندب إنه تفيض لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل مد ظلامه على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفيما سواه في الورى كان أعجما ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول إلهي أنت سؤلي وموئلي كفى بك للراجين سؤلا ومغنما ألست الذي غذيتني وهديتني ولا زلت منانا عليَّ ومنعما عسى من له الإحسان يستر زلتي ويغفر أوزاري وما قد تقدما ثم فاضت روحه رحمة الله تعالى عليه.
ومن أعجب ما يكون للمؤمنين عند الموت الترحيب بالموت يقول محمد إقبال: آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا هل رأيت أحداً يفرح بالموت؟! نحن ما رأينا لكننا قرأنا في الكتب وسمعنا بالأسانيد الجياد المتصلة؛ أولئك الرجال الذين ربطوا قلوبهم بالدار الآخرة، وتعلقت نفوسهم برفقة الحق التي طالما جاهدوا معها، وكابدوا وعاشوا الصعاب، فكان الواحد منهم يحن إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: [[اليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه]] .
هذا حذيفة رضي الله عنه لما نزل به الموت قال: [[يا مرحبا بالموت حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، لا أفلح من ندم، الحمد الله الذي سبق بي الفتنة قادتها وعلوجها، أعوذ بالله من يوم صباحه إلى النار]] .
وهكذا تمنى الموت وفرح به وقال: لا أفلح من ندم، ولاشك أن الإنسان بطبعه يكره الموت، وقد قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، كلنا يكره الموت، كما في حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.(98/22)
الشفقة على من بعده
من المشاعر التي تدور في نفس المؤمن وهو يموت الشفقة على من ورائه أن يخالفوا ما أمر الله تعالى وما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك كان من وصية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يموت {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} .
ومن وصيته صلى الله عليه وسلم وهو يموت: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم} وأمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعمر رضي الله تعالى عنه كان من وصيته وهو يموت أن دخل عليه شاب فرأى في ثوبه طولاً كما في صحيح البخاري، رأى ثوبه مسبلاً فقال: [[ردوا علي الغلام، فلما رجع قال: يا ابن أخي: ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك]] لم يلهه ما هو فيه عن مثل هذه النصيحة الثمينة الصادقة لوجه الله عز وجل أبو الدرداء رضي الله عنه لما نزل به الموت تلفت إلى من حوله وقال: [[ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه، ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا]]-يقول اعتبروا بي، وكأنكم معي فأنا وأنتم طلبنا الرجعة، فأنا لم أرجع وأنتم رجعتم فماذا أنتم عاملون؟ - يقول: [[ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه]] .(98/23)
الضعف والافتقار لله
الشعور الثاني: هو الشعور بالضعف والافتقار والانكسار بين يدي الملك الجبار، الحي الذي لا يموت، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: {أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون} ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو وهو في ذلك الحال فيقول: {اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى} .
كما كان من دعائه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: {اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم أعني على سكرات الموت} وقل مؤمن نزل به كرب الموت إلا وهو يرفع رأسه بالدعاء لله عز وجل لأن الإنسان لا يكون في حال أفقر ولا أشد انكساراً وضعفاً وذلاً وعجزاً منه في ساعة الموت.(98/24)
تعزية من ورائه وتصبيرهم
الشعور الثالث: هو شعور بتعزية من ورائه وتصبيرهم على ما قد ينزل بهم من المصيبة بموته، وهذا أيضاً حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {فإنه لما نزل به الموت قالت بنته فاطمة: واكرب أبتاه واكرب أبتاه فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: إنه ليس على أبيك كرب بعد اليوم} يقضي اليوم آخر ما عليه من الآلام والصعوبات والمتاعب التي كتب على أهل هذه الدنيا أنهم لابد أن يلقوها.
ومن عجيب ما يذكر في قضية تعزية الإنسان من وراءه بقوله أو بفعله، أنهم ذكروا عن الاسكندر الذي جاب الدنيا وملك الأرض أو كثيراً من بلدانها، أنه كتب إلى أمه رسالة يقول فيها: " إذا جاءك خبر موتي ونعيي فإنني أريد أن تكوني أماً لا كألامهات، كما أنني كنت ملكاً لا كالملوك، أريد أن تبني مدينة فإذا نزل بي الموت فابعثي إلى الأمصار شرقها وغربها أن يوافوك في يوم معين في هذه المدينة للسرور والأكل والشرب، ليكون مأتمي سروراً حيث كان مأتم غيري حزناً وهماً، وقولي لهم: لا يوافيك في ذلك اليوم أحد أصابته مصيبة قط، لا يوافيك إلا المسرورون أما الحزانى فليبقوا حيث هم ".
فلما مات الاسكندر الأكبر أوصت أمه وكتبت إلى الأمصار أن يحضروا فجلست تنتظر فلم يحضر إليها أحد، فقالت: أين الناس؟ قالوا لها: إنك قلت: لا يحضر في هذا اليوم أحد قد أصيب بمصيبة وما من إنسان إلا ونزلت به مصيبة أمس أو اليوم أو قبل أمس، فقالت لولدها: لقد عزيتني بعد موتك بموتك، أي: أنه قصد أن يقول لها: لست وحدك التي نزلت بك مصيبة، كل الناس نزلت بهم مصائب فاصبري وتعزي وكما كانت تقول الخنساء: فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي(98/25)
خاتمة
الموت كأس وكل الناس شاربه، فلتنظر -يا أخي- كيف سيكون حالك وأنت تعاني ما تعاني من سكرات الموت، وكيف ستكون مشاعرك، وما هي الهموم التي سوف تنزل عليك في تلك الساعة.
إن الإنسان إن ملأ حياته بالخير كان همه آنذاك هم خير، وإن ملأ حياته بهموم الدنيا ومشاغلها كان حاله كأولئك الذين والعياذ بالله ختم لهم بخاتمة السوء.
وقد ذكر العلماء منهم كثيراً لم أرد أن أذكر منهم شيئاً، فقد أحببت أن يكون جل ما ذكرته ما يعانيه المؤمنون وما يفكرون أو يشعرون به في مثل ذلك الموقف العصيب، لعل الله عز وجل أن يجعل هذا فألاً حسناً فنكون جميعاً ممن يختم الله تبارك وتعالى لهم بخاتمة السعادة، إنه على كل شيء قدير.(98/26)
الأسئلة(98/27)
فقه الأولويات
السؤال
ينبغي على المسلم أن يحس بقضايا الأمة الإسلامية، فالآن -كما تعلمون- أن هناك عشرات، بل مئات، بل ألوف المشاكل والقضايا التي ينسي ويهون بعضها بعضاً، فكيف نوفق بينها وكيف نرتبها، وما هو المقياس والأولويات؟
الجواب
هذا في الواقع من الأسئلة التي سرتني؛ لأننا نريد مثل هذا النمط من التفكير، ومثل هذا النوع من التفكير، ومثل هذه الأسئلة، نعم، أنا لا أستطيع أن أرتب الأولويات في محاضرة فضلاً أن أرتبها في دقيقة، ولكنني أقول: وجود هَمٍّ عندك لقضايا الإسلام لا يعني أنك سوف تشتغل بكل هذه القضايا، لكن يعني أنك أدركت أن هناك واقعاً ينبغي تغييره ثم وضعت قدمك في الطريق، فالذي يدرس القرآن اعتبر أنه نفع المسلمين، والذي يعلم العلم الشرعي أعتبر أنه نفع الإسلام والمسلمين، والذي يؤم الناس في صلاة الجماعة نفع المسلمين، والذي يخطب بهم في يوم الجمعة نفع المسلمين، والذي يدرس أبناءهم الدروس النافعة من العلوم الشرعية نفع المسلمين، والذي يتبرع بماله نفع المسلمين، والذي يأمر بالمعروف نفع المسلمين، والذي يكون في مجلس فيدافع عن أعراض المسلمين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويرشد إلى الخير نفع المسلمين، وهكذا أبواب الخير لا تتناهى يا أخي.(98/28)
احتقار الشخص عمله للمسلمين وترك ذلك العمل
السؤال
من يحتقر نفسه عن العمل ويقول: إن هناك من هو قائم بالدعوة ويحتج بأن عمله قليل جداً ولا يفيد الدعوة في شيء؟
الجواب
من قال لكم إن هناك قائماً بالدعوة، أبداً، نحن دعونا عشرة أو مائة ألف، والثاني والثالث لكن هناك أعداد -والله العظيم- كثيرة من المسلمين، وقد كتب لي أحد الإخوة في المجلس السابق ورقة، بل أوراقاً يقول: إن هناك أعداداً غفيرةً ربما -هو قد بالغ- قال ربما تكون (90%) ما بلغتهم الدعوة الإسلامية الحقيقية، ولا أمروا بمعروف ولا نهوا عن منكر ولا حركت قلوبهم بالخير، فعلاًً ربما أنت تجلس مع الطبيبين فيخيل إليك أن الناس كلهم طيبون، لكن لو ذهبت إلى أماكن أخرى لوجدت أن الأمر بخلاف ذلك، وأننا بحاجة إلى أعداد غفيرة جداً ممن يقومون ويحملون لواء الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.(98/29)
العمل اللازم لخدمة الإسلام
السؤال
ذكرتم -رعاكم الله- أنه يلزم الإنسان أن يتألم لواقع المسلمين الأليم، وأن يفعل شيئاً لمقاومة أعداء الإسلام، انطلاقاً بأنه يشعر أنه مقصر تجاه دينه، فما هو العمل المحدد الذي يمكن أن يؤديه المسلم، وهل يلزمه السفر إلى الشرق أو إلى الغرب لإيضاح موقف الإسلام الصحيح، ودعوة الناس إليه؟
الجواب
السفر إلى الشرق أو الغرب ممكن وليس بلازم، هناك جمعيات ومؤسسات وهيئات الآن تتيح الفرصة لبعض الشباب أن يسافروا بغرض الدعوة، أو الإغاثة، أو التطبيب أو التعليم أو أي عمل خيري، وهذا جيد لكن ليس هذا بلازم، فمثلاً: سافر مائة أو ألف وبقي الباقون، بلاد المسلمين أنفسهم بحاجة إلى أن نقوم بدعوة الناس فيها، بتوعيتهم، بإرشادهم، بالمشاركة في المجالات الخيرية بنشر الدعوة، بحيث لا تكون الدعوة وقفاً على فئة معينة، بل تكون الدعوة في كل بيت وفي كل عقل، وما من إنسان إلا وسمع من يدعوه إلى الله تعالى وإلى كلمة الحق، فإن كان شريراً من أعداء الدين سمع من ينغص عليه ويكدر عليه ويعارضه على أقل تقدير.(98/30)
التوفيق بين هم الإسلام وهموم العائلة
السؤال
أنا أحمل هم الإسلام في قلبي، لكن لدي هموم عائلية كثيرة وعجزت أن أوفق بين هذا وذاك فبقيت بدون شيء، أرشدني إلى الحل؟
الجواب
أولاً: هذا يؤكد لنا أهمية تأمين الجبهة الداخلية في البيت، وأهمية أن يكون الدعاة والصالحون وطلبة العلم أن تكون بيوتهم آمنة بالخير والصلاح والاستقامة والسعادة والأنس والراحة، حتى لا تكون هذه الهموم تشغل الإنسان.
أمر آخر: أن هذه الأمور وإن وجدت في قلبك وهو -أمر طبيعي- قد لا يخلو منه أحد أو بيت -إلا أنها لا ينبغي أن تملأ قلبك، فاجعلها في زاوية من القلب ويكون بقية القلب للهموم الأخرى.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(98/31)
لبس الكعب العالي
السؤال
بعض النسوة حضرن هذا الدرس وهن لابسات الكعب العالي، بل وكعب ملون أصفر أو أحمر أو غيره، وإني شاهدت هذه النسوة لابسات هذا الكعب، وكن أكثر من ثلاث بثياب فوق الكعبين، فهل هذا يليق بمن أرادت رضى ربها في هذا الدرس وجاءت مع زوجها أو أخيها ولم ينهها أو يأمرها بلبس لائق للخروج، نرجو بيان حكم لبس الكعب، لأنه أصبح منتشراً بين عامة الناس، بل قد يكون بين خاصة الناس، والله المستعان؟
الجواب
هذا الأخ قام بمشاركة إيجابية في تنبيه الأخوات على خطأ ينبغي ألا يظهر ولا يوجد مرة أخرى، وينبغي أن لا يكون هناك ما يدعو إلى مثل هذه الملاحظة، أي أن الأخوات ينبغي عليهن عند خروجهن أن يكن متحفظات متسترات فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان} .
وما أجمل بالفتاة أن تحرص إن خرجت لما لا بد من الخروج له، أن تكون متسترة بلباس لا يكون هو بذاته زينة، فربما بعض الفتيات تلبس العباءة أو ما يسمى بالكاب، وقد رأيت نماذج منها أحضرها لي بعض الشباب، فيها من ألوان التطريز والفتنة والإثارة الشيء الكثير؛ حتى ربما يكون عدمها خير من وجودها، والمقصود من لبس العباءة أو غيرها مما يستر المرأة، المقصود به البعد عن الإثارة وليس الإثارة، فليس صحيحاً أن تتستر الأخت المسلمة بثوب يكون هو زينة في نفسه، وقل مثل ذلك بالنسبة للكعب العالي؛ فإن الكعب إذا كان خارجاً عن المألوف عن حد الاعتدال؛ فإنه لا يصلح ولا يجدر بالفتاة المسلمة لبسه، وقد ذكرت كلاماً لبعض الأديبات والمربيات في فتوى سئلت فيها عن هذا ربما يطلع عليها في غير هذا الموضع.(98/32)
التحمس بغير بذل
السؤال
هل يعذر من يتحمس للإسلام بأحاسيس ومشاعر، وهو لا يستطيع أن يعمل شيئاً مادياً؟
الجواب
هو يستطيع أن يعمل شيئاً كما ذكرنا ولو بكلمة طيبة ولو بدعوة صادقة، يستطيع أن يعمل ولا أحد لا يستطيع أن يعمل؛ اللهم إلا الموتى.(98/33)
طلب نصح المتقاعس بذنب
السؤال
شخص متعلم يقرأ كل شيء يتعلق بالإسلام والمسلمين ويتفاعل مع همومهم بكل حماس وهمة، لكنه يرى نفسه مقصراً في العبادة، ويرى هذا عائقاً دون الدعوة إلى الله تعالى، ويريد بكل صدق أن يخدم قضايا المسلمين، فأرشده أرشدك الله؟
الجواب
يا أخي تقول: إنك مقصر في العبادة وترى ذلك عائقاً عن الدعوة إلى الله، ألا تعرف أن الاهتمام بشؤون المسلمين عبادة، والاشتغال بقضاياهم من أهم العبادات بل هو من العبادات التي يتعدى نفعها إلى غيرك، والعبادات التي يتعدى نفعها إلى غيرك هي أعظم أجراً وبراً عند الله تعالى متى قارنها الإخلاص من العبادات المقصورة على صاحبها، فينبعي أن يكون في اهتمامه بقضايا المسلمين يشعر بأنه متعبد في محرابه لله عز وجل، وأنه يقوم بعبادة من أعظم وأجلّ العبادات، كما أن عليه أن يسدد نقصه إن كان مقصراً في نوافل العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك.(98/34)
متحمس للدين ينزعه الشيطان فلا يهتم بالواجبات
السؤال
أنا ملتزم بأوامر بالدين، وأحلف لك أنه يأتيني حماس شديد لنصرة الدين والجهاد في سبيل الله، إلا أن هناك عائقاً لا أستطيع اجتيازه، ألا وهو وسواس الشيطان ونزغه، حيث يجعلني لا أحس بأي أهمية حتى لصلاة الفجر، فما هو العلاج؟
الجواب
ينبغي أن تجاهد نفسك على هذا الأمر، وإنه ليسرني بأن تحس أن هذا خطأ يجب عليك أن تتخلص منه، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن التخلف عن صلاة الفجر ليس من سيما المؤمنين، بل يخشى على الإنسان إذا تخلف أن يساء به الظن، ولذلك عليك أن تعتبر من همك وشعورك تجاه الإسلام والمسلمين أن تصلي الفجر مع الجماعة، لأن من حسن أحوال المسلمين أن تمتلئ مساجدهم في صلاة الفجر بالمصلين، ومن سوء أحوالهم وأوضاعهم أن يكون المصلون في مسجد من المساجد أربعة أو خمسة صفوف ثم لا يصلي الفجر منهم إلا صف أو أقل من ذلك، أو نحوه بقليل أو قريباً منه، هذا من سوء أحوال المؤمنين؛ فإنك إن أحسست بهموم المسلمين وأحزانهم وآلامهم أدركت أن من أسباب تخلفهم تقصيرهم فيما أوجب الله تعالى عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في الصلاة، فيا ليتك -أخي الحبيب- تجعل من الأعمال التي تقدمها لنفسك ولغيرك أن تحرص على صلاة الفجر في جماعة ما استطعت، وتبكر في النوم ليلاً إن كان ذلك يساعدك وتضع المنبه وتطلب من أهلك إيقاظك على ذلك وتنام على طهارة، وتقرأ الأوراد المذكورة في الأحاديث في أوراد النوم، حتى تغلبك عينك وأنت تذكر الله عز وجل وتصدق النية حتى يعينك الله تعالى على ذلك.(98/35)
الرد على الأم قولها
السؤال
أنا امرأة أرد على أمي في بعض الأحيان، لأني لا أملك نفسي عندما تتكلم عليَّ أمي في شيء فعلته ولم أغلط فيه، ولكن تراه هي غلطاً فبماذا تنصح أختك؟
الجواب
في الواقع أن هذا هو نفس الكلام الأول، فالبنت عمرها سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة، والأم في الخمسين أو الستين، تفكير الأم غير تفكير البنت، ونشأة الأم غير نشأة البنت، قد ترى الأم شيئاً خطأ والبنت تراه صواباً، وقد ترى البنت شيئاً خطأ وتراه الأم صواباً، فليس معقولاً أن تطلب البنت من أمها أن توافقها على رأيها وعلى تصرفها، بل عليها أن تتنازل لها عن أشياء كثيرة، تمرر بعض الأمور بطريقتها الخاصة وبالحكمة وباللطف، ولا تكون القضية قضية جدل ومواجهة؛ لأن الإنسان إذا واجه والديه بالجدل والخصومة والكلام يفرط منه لسانه، وقد يقول ما لا يرضى أن يقوله وقد يندم على ذلك فيما بعد، لكن لو عوَّد نفسه أن لا يطلق للسانه العنان بكلام مع والديه فإنه يرتاح حينئذٍ كثيراً.(98/36)
الموازنة بين متطلبات الحياة المختلفة
السؤال
كيف يمكن التوازن بين متطلبات الحياة ومستلزماتها، وما للآخرين من والدين وأهل وأولاد من حقوق، وبين العمل للدعوة، وكذلك العمل إذا كان فيه خير للإسلام والمسلمين بصفة عامة؟
الجواب
في الواقع أنه لا تعارض، والوقت فيه بركة، وفيه خير كثير متى اغتنمه الإنسان وحرص على أن يملأه بالجليل المفيد من الأعمال، فالعمل للدين والدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يخصص لها الإنسان وقتاً.
أريد أن أسأل نفسي وأسألكم: من هو منا الذي قرر أن يخصص يومياً ساعة ونصف للعمل للإسلام أو ساعتين فقط للعمل للإسلام؟ وهذا يكفي، وخير كثير أي لو فرضنا أنك خصصت للدعوة إلى الله ساعتين من أربع وعشرين ساعة، بمعنى أنه يكفينا منك واحد من إثنى عشر، أي أقل من عشر حياتك تخصصها للدعوة إلى الله تعالى، فتملؤها بدعوة، بزيارة، بأمر بمعروف، بنهي عن منكر، بمقالة، بشيء تعتقد أنه ينفع الإسلام والمسلمين، هذا العمل ليس بالسهل؛ لأنه إذا خصص الواحد منا ساعتين بمعنى أنه إذا كان عندنا عشرة آلاف كلهم خصصوا ساعتين؛ أننا خصصنا في اليوم والليلة عشرين ألف ساعة لخدمة الإسلام، رقم خيالي مع أنه بالنسبة لكل واحد منا ممكن.(98/37)
قلة الشباب الصالح وكثرة الصغار
السؤال
نرى في هذا الوقت كثرة العزلة لطلب العلم، وترك هموم شباب الإسلام، وكنا نرى قبل سنوات في المراكز وغيرها كثرة الشباب في هذه الصحوة المباركة، أما هذه السنة فقد كثر البراعم الصغار وقل الشباب، وكثر الشباب الضائع، فلا نعلم ماهذه الظاهرة الجديدة ومن سوف يربي هؤلاء الصغار؟
الجواب
لا شك أن هذا أيضاً من واجبنا جميعاً، فهؤلاء الشباب الصغار أو حتى الشباب المنحرفون على قارعة الطريق وفي أماكن تجمعات الشباب- كما جاءني في سؤال آخر- الشارع الأصفر أو الأخضر أو الأبيض أو الأزرق أو غيرها من الشوارع التي تأتي غداً أو بعد غد، هؤلاء الشباب الذين يفترشون تلك الشوارع أو يجلسون في مخيمات أو غيرها، أو في الأندية من لهم؟ غير صحيح أن الإنسان يشتغل أحياناً بفضول العلم ويتنطع ويتوسع ويدقق في أمور قد لا يجتاج إليها طول عمره، وقد لا يحتاج إليها المسلمون أيضاً؛ ويغفل عن واجب القيام بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك ما يقع في المراكز الصيفية: -مثلاً- فيها كثير من الشباب على سبيل الهداية مبتدئون أو صغار السن، أو ربما يكون عند بعضهم انحراف، فهم محتاجون لمن يأخذ بأيديهم ويوجههم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم} .
وإنسان عنده علم قليل نفع الله به كثيراً من الناس خير وأحب إلينا من إنسان عنده علم كثير ولكن لم ينتفع الناس بعلمه ذاك، شأنه في ذلك شأن إنسان عنده مال كثير ولكن هذا المال موجود في البنوك لا يخرجه أبداً؛ فهذا لا ينفعنا، وأحسن منه وأبر وأجود إنسان آخر عنده مال قليل ولكنه يبذله بقدر المستطاع في أعمال الخير.(98/38)
نصيحة للمبتدئين بالدعوة
السؤال
الشباب الذين في بداية توجههم يبدءون بالدعوة إلى الله تعالى، نرجو توجيههم إلى ما يجب عليهم فعله في تلك البداية؟
الجواب
لا شك أن الإنسان ينبغي أن يبدأ بما يعلم، فلا يهجم على أمور لا يحسنها في الدعوة إلى الله تعالى، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يبدأ بما يعلم، وتكون بدايتة بقدر علمه، ويحسن بالإنسان حينئذٍ أن يكون مع آخرين يساعدونه على التعرف على طرق الدعوة وأساليبها؛ لكي لا يقع أو تزل به قدم أو يدعو إلى أمر يظن بأنه خير وليس كذلك.
ومن أساليب الدعوة: المصاحبة، أي: أن تدعو زميلك وصديقك إلى الله سبحانه وتعالى، وتأمره بالخير وتنهاه عن الشر، تدعو أخاك في المنزل وتأمره بإقامة الصلاة، وتقرب له أسباب الخير، تعطيه الكتاب النافع والشريط النافع، تدعو أختك حتى الصغار من إخوانك أبناء تسع سنوات وعشر سنوات، تجعل لهم درساً في البيت أو حلقة، تعلمهم كيف يُصلَّون كيف يتوضئون، تخبرهم ما هو عذاب القبر، ما هو عذاب الآخرة، مَنْ الذين يعذبون، مَنْ هم أهل الجنة، مَنْ هم أهل النار، تذكر لهم أخبار الصحابة الصحابيات وغير ذلك، يستفيدون من وراء ذلك شيئاً عظيماً، فالدعوة أمر ميسور كل إنسان بحسبه.(98/39)
مالك بن نبي وأفكاره
السؤال
ما رأيكم في أفكار مالك بن نبي وكتاب مشكلة الثقافة، وهل تتفق أفكاره مع ما ذكرتم في المجلس السابق؟ وهل عالم الأفكار موجود وعالم الأشخاص مفقود؟
الجواب
هذا من الأسئلة القيمة العميقة وفي الواقع أنه يتفق مع هذا المفكر في أشياء كثيرة واختلف في أشياء أخرى، أما بالنسبة لكتاب مشكلة الثقافة فيحتاج إلى قراءة متأنية.(98/40)
محب لكن لا يضحي
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، ولكن لم أر أني قدمت للإسلام شيئاً، وأحب أن ينتصر الإسلام وأهله لكن بدون مشاركة مني، وأجد في نفسي الوهن وأعلق الأمل على بقية المسلمين، فما رأيك، وهل أنا مسئول أمام الله عز وجل عن ذلك؟ وهل هذا تقصير؟ وما العلاج؟
الجواب
إذا لم تكن أنت المسئول فمن المسئول إذاً؟ وإذا كنت تعلق الأمل على بقية المسلمين فما رأيك أن المسلمين أنفسهم يعلقون الأمل عليك وعلى أمثالك؟ ولو أن كل واحد منا علق الأمل على غيره ما صنعنا شيئاً، وما لم نتخلص من هذه المشاعر المحبطة التي ترمي بالمسئولية على غيرهما، فلن يقوم للمسلمين قائمة ولن يتغير للمسلمين حال.(98/41)
والد يمنع ولده من الدعوة
السؤال
ما رأيكم في الآباء الذين يضعون العوائق أمام أبنائهم في سعيهم للمشاركة في الدعوة بما يستطيع، بل إن أحد الآباء منع ابنه من محادثة ومجالسة الشباب الذين لهم مشاركة في الدعوة والتوجيه لمجرد خلاف شخصي؟
الجواب
بالنسبة للآباء الذين يسمعون ويدركون، لا شك أن واجبهم أن يساعدوا أبناءهم على القيام بالدعوة إلى الله، فأي توفيق يوفق إليه الأب أن يكون ابنه مستقيماً، حين ينحرف الشباب، وأن يكون ابنه داعية إلى الله في حين يكون أبناء بعض جيرانه أو أقاربه دعاة على أبواب جهنم، هذا من توفيق الله تعالى للأب، ومن الخير والبر الذي ساقه الله تعالى إليه، وأقل واجب عليه هو أن يدع الابن وسبيله، بل واجبه أعظم من ذلك، أن يساعد ويسدد ويؤيد الابن في طريقه ذاك.
لكن إذا كان الأب لايدرك هذا الأمر هنا يأتي دور الابن نفسه؛ أنه عليه أن يتلطف مع والده ويتحيل في الوصول إلى ما يريد وأن يبتعد عن مواجهة الأب قدر المستطاع، فإن الإنسان إذا كان حكيماً واسع الصدر هادئ النفس لين الكلمة ذا أخلاق فاضلة يستطيع أن يحصل على كل ما يريد، وهذا أقوله من خلال تجارب كثيرة جداً، وكثيراً ما يكون الإنسان نفسه هو الذي حال بين نفسه وبين ما يريد؛ بسبب سوء خلقه أو قسوته في قول أو فعل أو عبارة أو تصرف غير جيد، ليس من الحكمة أن تقول لوالدك: والدي يمنعني من الذهاب إلى الجهاد؛ إذاً الجهاد فرض عين ولن أستشيره في ذلك، وبعد يومين تتصل بوالديك من بيشاور تقول له: أنا هنا سوف أجاهد في سبيل الله، ترضى أو تسخط ليس هذا من حقوق أبيك وأمك عليك، وغداً تقول: طلب العلم من الواجب وفرض العين ولا استشير فيه والدي، فتذهب هنا أو هناك دون أن يعلم والدك بذلك أصلاً فضلاً عن أن تكون استشرته، وبعده تقول: الدعوة واجب لا استشيره.
فصار الأب يشعر بأنك ليس لك به أي علاقة وربما عرف بعض أسرارك وأحوالك عن طريق الناس، هذا ليس صحيحاً بحال من الأحوال.(98/42)
الكتابة وخدمة الدين
السؤال
من يحاول كتابة بعض المقالات التي تصف أحوال المسلمين ومآسيهم، وتدعو إلى الإهتمام بهم والدعاء لهم، هل يعتبر هذا تقديماً للدين وخدمة للإسلام أفيدونا؟
الجواب
كيف لا، سواء كانت هذه مقالة أم قصيدة كما قرأت عليكم نموذجاً، فإنه يحتذى بالقصائد التي تعبر عن هموم المسلمين ومآسيهم، كل ذلك من المشاركة في محاولة خروج المسلمين مما هم فيه.(98/43)
طريقة إحياء الدين في مكان ما
السؤال
ما هي الأسباب التي يستطيع الداعية بها أن يحيي منطقة أو قرية نائية بعيدة، بالدين والعلم، وهذه المنطقة ليس فيها دعاة لا قليل ولا كثير، بل قد عم فيهم الجهل وهم أشبه ما يكونون بالبساطة، وليس عندهم انفتاح على الدنيا إلا من خلال الإعلام الذي دخل كل بيت وكل مكان؟
الجواب
لا بد أن يوجد في هذه المدينة داعية نذر نفسه لإحياء تلك المدينة أو هذه المنطقة، لا مانع أن يسكن فيها، فإن لم يمكن أن يسكن فيها فليتردد عليها بين وقت وآخر، ويجعل فيها درساً للعلم، درساً للقرآن، درساً لتعليم الكبار، ودرساً لتعليم الصغار.
وإن أمكن أن يكون خطيباً، وينشر بينهم الكتب الصغيرة والرسائل الصغيرة، والأشرطة المفيدة، وليتخصص في هذه المنطقة إن كان من أهلها أو كان قريباً منها حتى يكتب الله تعالى له أجر من اهتدوا فيها، وإذا انتفع الناس به هناك، ورأى إيمانهم وعلمهم وانتشار الخير لا مانع أن ينتقل بعد ذلك إلى منطقة أخرى، ويترك أمر هذه المنطقة لأهلها.(98/44)
التنصير وإيذاء المنصرين
السؤال
استمعت لمحاضرة لـ زغلول النجار حول التنصير في العالم الإسلامي، ومما هالني أن هناك منظمة منصرين في عدن وفي المنطقة التي أسكن قريباً منها، وفكرت في عمل أود أن أستشيرك فيه، هل تنصحني بإيذائهم وحرق مساكنهم وتخويفهم، عسى أن أجبرهم على الرحيل، وخاصة أنه ليس هناك من يساعدني على ذلك، والناس هناك منهم من يعادي الصحوة الإسلامية والشباب المسلم، فكأنه ما ينقصنا سوى وجود هذه الحثالة من البشر قاتلهم الله؟
الجواب
لا أعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الذي تستطيع أن تفعله الآن، فالمسلمون في حال ضعف وليس هذا الأسلوب لائقاً ومناسباً لهم، ولو كان في المسلمين قوة لمنعوهم من القيام بمثل هذا، ولكن الأسلوب الذي تستطيع به أن تواجههم هو أن تقوم أنت بالدعوة المضادة، فإن البيئة إسلامية، والناس هنا وهناك أصلهم مسلمون، وهم إجمالاً من أهل لا إله إلا الله، والشرك والكفر الموجود عند بعضهم دخيل عليهم، ومتى سمعوا داعي الله تعالى وجدوا من يستجيب لهم، وهذا أمر مجرب لست أنت أول من جربه، ولذلك عليك أن تقوم بالدعوة المضادة، تدعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجمع الشباب على كلمة لا إله إلا الله، وعلى طلب العلم النافع، وعلى دعوة الناس، وعلى وعظهم وترغيبهم فيما عند الله عز وجل، وستجد بعد ذلك أن هؤلاء النصارى وغيرهم يرحلون، ليس لأنك أحرقت مساكنهم وآذيتهم، ولكن لأنهم شعروا بأن الجو غير مناسب لهم ولا أحد يستجيب لهم هناك.(98/45)
التأثر والحماس حيناً دون حين
السؤال
أنا شاب ملتزم -ولا أزكي على الله أحداً- إذا جلست مع الملتزمين وذكروا أدوار الشباب أصبح عندي الحماس بالمشاركة، وإذا انصرفت عنهم وتركتهم ذهب هذا الحماس، فهل هذا يعتبر نفاقاً؟
الجواب
كلا، ليس هذا من النفاق، فإن الإنسان إذا سمع الوعظ والتذكير كانت هذه أشبه ما تكون بالسياط التي تحمي ظهره فهي تحرك قلبه وتدفعه إلى الخير، فإذا ذهب بعد ذلك تغيرَّ حاله، وضعف بعض الشيء، ولكن عليه أن يجاهد نفسه وأن يكون دائماً وأبداً على حال من الحماس للإسلام والرغبة في خدمته.(98/46)
حمل الإسلام على علم ونبذ التعصب
السؤال
آمل التعليق على ما يلي: حمل الشعور الإسلامي على علم ونبذ التعصب؟
الجواب
نعم، يجب أن يكون مع شعورك علم وإخلاص لله عز وجل، يجب أن تكون متخلصاً من العقد النفسية، وأعني بالعقد النفسية: كل ألوان التعصب لغير الحق، لا تكن متعصباً إلا للحق، يجب أن يكون ولاؤك لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون رائدك الكتاب والسنة لا غير، فحبك للناس بقدر قربهم من الكتاب والسنة، وبغضك لهم بقدر بعدهم عنهما، وقبولك لشيء لأنه يوافق الكتاب والسنة، وردك له لأنه يخالف الكتاب والسنة، وعملك فيما يوافق الكتاب والسنة، وتركك لما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقيس كل الأشخاص والأعمال والأفكار والمؤسسات والجمعيات والجماعات والنشاطات والأمور كلها دقيقها وجليلها وكبيرها وصغيرها قريبها وبعيدها، تقيسه بمقياس واحد لا تقبله إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة أو من أحدهما، لا تتعصب لشخص، ولا لراية، ولا لاسم، ولا لبلد، ولا لقبيلة، ولا لشيء، ينبغي أن تتحرر من كل ألوان التعصب، والكلام في هذا الموضوع لعل له مناسبة أخرى.
الحكمة في رد الفعل لسماع خبر أو موقف مضاد للإسلام والمسلمين؛ فليست القضية قضية ردود أفعال، قد يسمع إنساناً خبراً فيكون عنده ردة فعل مباشرة وقد يكون قوياً؛ لكن سرعان ما ينتهي الأمر ويعود هذا الإنسان كما كان.
نحن نريد قلباً يحمل شعوراً طويلاً مستمراً للإسلام والمسلمين وليس شعوراً وقتياً ولو كان هذا الشعور قوياً.(98/47)
كتب تعالج الواقع
السؤال
كتاب الشيخ محمد قطب واقعنا المعاصر من الكتب التي تعتبر فائدتها للفرد في فهم الواقع وواقع المسلمين وماضيهم وما هم عليه، ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها؟
الجواب
فيها الكتاب الذي ذكرته هذا، وهناك كتاب آخر له رؤية إسلامية في أوضاع العالم الإسلامي المعاصر، وهي من الكتب القليلة التي تتحدث عن هذا الموضوع وللأستاذ محمد محمد حسين رحمه الله كتب مفيدة، منها كتاب حصوننا مهددة من داخلها وكتاب الإسلام والحضارة الغربية وكتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، وهناك بعض الكتب لا تحضرني الآن.(98/48)
حب الإسلام وكراهية الوالد
السؤال
إذا كان شعوري نحو الإسلام جيداً وشعوري نحو والدي كريهاً أفيدوني؟
الجواب
شعورك نحو الإسلام جيد هذا أمر مطلوب، لكن لا شك أن بر الوالدين والإحسان إليهما هو من الإسلام ومن برهما أن يحبهما الإنسان من كل قلبه، فإن حق الوالدين هو من أعظم الحقوق، وقد قرن الله تعالى حقهما مع حقه فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] وعلى الإنسان لكي يعرف حق الوالدين ويملأ قلبه بحبهما أن يتلطف مع والديه في المعاملة، ويعرف أنهما كبيران في السن، وربما يكونان من جيل آخر غير الجيل الذي هو منه، تفكيرهم غير تفكيره وتصوراتهم غير تصوراته، آراؤهم مختلفة، وأحياناً لغتهم قد تكون مختلفة في بعض الأمور.
فلا ينتظر الإنسان من والده أو من أمه أن تكون مثله في النظر والتفكير والتصور والتصرف وما أشبه ذلك، فلا يطلب من والديه إلا ما يناسبهما وما هو في طوقهما، ثم إن على الإنسان أن لا يُرادَّ والديه في الكلام والجدل والخصومة، بل أن يأخذ منهما ما أتى عفواً ويرد عليهما بالكلام الطيب مثل: جزاكم الله خيراً، عفا الله عنك، أحسن الله إليك، وفقك الله، وغفر الله لك، وما أشبه ذلك، ثم عليك بالكلام الطيب: صبحك الله بالخير ومساك الله بالخير.
كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد كريم كما قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] فلو أن الإنسان عود نفسه {والخير عادة} -كما جاء في الحديث- عود نفسك أنك تقول الكلام الطيب لوالديك، كلمة طيبة تنفعك في الدنيا والآخرة وتحسّن علاقتك بوالديك؛ بحيث أنه يعتاد لسان الإنسان أن لا يقول لوالديه إلا الخير، ولا يرفع صوته عليهما بحال من الأحوال.
وكذلك يحسن إليهما، يقبل رأس الوالد أو الوالدة، يقدم لهما من الطعام ما يستطيع، يخدمهما، ويحقق لهما ما يطلبانه، يكون رهن إشارة والديه، هذا جزء من الواجب الذي يمليه عليك دينك.(98/49)
جدوى الأسى على المسلمين
السؤال
ما فائدة حزني وألمي وهو لا يغير شيئاً من مآسي المسلمين، أليس هذا تعذيباً للنفس بلا جدوى؟
الجواب
من قال لك أن حزنك وألمك لن يغير شيئاً من مآسي المسلمين ومصائبهم، أصلاً لن تتغير مآسي المسلمين ومصائبهم إلا إذا وجدت قلوب تحزن فتملي على العقول أن تفكر، وتدفع الأبدان إلى أن تعمل، فالقلب هو المحور الذي يحرك العقل، ويحرك البدن إلى التفكير وإلى العمل، وما لم نملك القلوب التي تحزن بمصاب المسلمين، فمعناه أننا لن نملك قلوباً تفكر، ولن نملك أبداناً تعمل، إذاً مطالبتنا بالحزن ليس لذات الحزن، ولكن لأنه يحركك إلى التفكير الصحيح وإلى العمل الصحيح.(98/50)
مخالفة الموالد والتمائم للشرع
السؤال
قلت في الدرس الماضي أنه في بعض الأقطار يتوقف العمل عندهم على تعليق التمائم وحضور الموالد فقط وكأنها من المشروعات في ديننا إنك لم تذكر مخالفتها للشرع أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
الذي ذكرته ليس من الشرع، فليس إحياء الموالد من الشرع، ولا كذلك تعليق التمائم التي في كثير من الأحيان تكون تمائم بدعية غير شرعية وإنما مقصودي أن هذا الفهم هو فهم كثير من المسلمين، وهذا تصورهم ونصيب الإسلام منهم في ظنهم، وإلا فإن هذا وذاك ليس من الإسلام في شيء، أما بالنسبة للموالد فلا شك أنها بدعة، أما بالنسبة لتعليق التمائم ففيه كلام طويل معروف لأهل العلم.(98/51)
صانعو الخيام
تحدث الشيخ عن أخطار التنصير على المسلمين وعلى الجزيرة بالذات، وعرض بعض الوثائق والمخططات التي يقومون بها، والتي يهدفون من ورائها إلى تنصير أهل هذه الجزيرة، وركز الشيخ من خلال حديثه على شركة أرامكو وما يدور فيها من المؤامرات.(99/1)
من نتائج حملات التنصير
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن هذا الدرس هو في حقيقته درسان، ولهذا أعطيته رقمين، الرقم: (38) و (39) من سلسلة الدروس العلمية العامة، لأن الوقت قد يطول بعض الشيء، نظراً لأن هذه الموضوعات غير قابلة للقسمة والتجزئة، وقد أطلنا في الحديث حول موضوع التنصير حتى مللت تقليب أوراقه، وربما مللتم أنتم سماع الكلام فيه على رغم خطورته، ولذلك حاولت أن أجمع خلاصة ما عندي وأقدمها لكم الآن بصورة ناقصة ومبتورة، ولكنها فيما أرى أفضل من التطويل في الموضوع أكثر مما حصل.
وصانعو الخيام هو العنوان الذي وعدتكم به في هذه الليلة: ليلة الإثنين السادس والعشرين من شهر صفر من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وقد وصلنا فيما مضى إلى نتائج أقولها لكم باختصار: أولاً: فشلت الكنيسة في دول الخليج والجزيرة العربية في كسب متنصرين جدد.
ثانياً: غيرت الكنيسة أسلوب عملها المباشر، إلى أسلوب يتخفى تحت ستار الأعمال الإنسانية والوظائف والخبرات التي تحتاجها منطقة الخليج والجزيرة.
ثالثاً: استفادت الكنيسة من الجولات والرحلات العلاجية إلى دول الجزيرةالعربية.(99/2)
من مكاسب التنصير
وثمة مكاسب أخرى لابد أنكم تفطنتم إليها: أولاً: تمكن النصارى من إيجاد تجمعات كنسية تتكلم العربية أو الإنجليزية في سائر دول الخليج: في الكويت والبحرين ومسقط إلى آخره.
مثلاً في الكويت قبل عشرين سنة، أكثر من عشرة آلاف نصراني ما بين أرثوذكسي أو كاثوليكي معظمهم من غير الكويتيين، كونوا لهم رابطة مرنة اسمها مجلس كنائس الكويت، يضم هذا المجلس ثلاث عشرة طائفة.
ثانياً: استطاعت الكنيسة في العام نفسه -أعني عام 1972م قبل عشرين سنة- على مدى سنوات إعداد ما يزيد على سبعة آلاف وخمسمائة طالب للعمل بنجاح في شتى المهن، منهم المسلمون الذين تخرجوا على أيدي المنصرين، -وكيف ترى تكون عقولهم وأفهامهم وأخلاقياتهم- ومنهم النصارى.
ثالثاً: نجحت الكنيسة في التأثير على مكانة المرأة في الشرق الأوسط، وكان عدد الطالبات في مدارس النصارى أكثر دائماً من عدد الطلاب، وهذا الموضوع -موضوع التنصير- في مجال المرأة وفي مجال الجمعيات النسائية هو ميدان خصب للدراسة، وقد أعد أحد الدكاترة الخليجيين دراسة حول هذا الموضوع ونشرت في بعض الصحف الغربية.
رابعاً: كان القُسُس والمنصرون طابوراً خامساً للدول الغربية يعملون في الخليج العربي والجزيرة، فالمخابرات البريطانية والأمريكية كانت تتصل بأفرادهم لتضمن ولاءهم لها، وكانوا يكتبون لها التقارير عن أوضاع الدول السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل يكتبون التقارير عن الحكام أنفسهم، كما كان بعض هؤلاء المنصرين على صلة بحكام الخليج لضمان مواقفهم المنسجمة مع المصالح الغربية، بل وصل الأمر إلى أن هؤلاء القُسُس؛ كالشياطين يقدمون المساعدات لبعض أمراء الخليج ضد بعض في خلافاتهم الداخلية فيما بينهم، فهم يدركون أن شعور دولة ما بأنها جزيرة في وسط بحر يناصبها العداء، سيجعلها أكثر قابلية للانهماك في موالاتهم، وإقامة الأحلاف معهم، وعقد ما يسمى اليوم بمواثيق الدفاع المشترك، وهذه أمور واضحة للعيان.(99/3)
مؤشرات جديدة
النقطة الثالثة: مؤشرات جديدة -أو مؤثرات جديدة-: طرأ على خطط المنصرين عدد من المؤثرات أذكر منها أمرين اختصاراً:(99/4)
اكتشاف النفط
أولهما: اكتشاف النفط كما سبق، وهذه جديدة بالقياس إلى الإرساليات السابقة، ومما أحدثه اكتشاف النفط من أحوال: أولها: تزايد أهمية المنطقة العربية والخليجية من الناحية الاقتصادية.
ثانياً: كثرة الفرص وتوسعها للخبراء والمهندسين والمختصين من خلال الشركات القائمة على التنقيب والاستخراج والتصنيع للنفط.
ثالثاً: بعض النصارى اعتبروا هذا انتصاراً للمادية الجشعة على الإسلام والنصرانية على حد سواء.
وفي كتاب من خطط التنصير وهو كتاب ضخم وعندي جزء مصور منه، يقول الكاتب فيه: يمثل المسلمون 98% من سكان السعودية، والوهابيون -يقول-: هم المسيطرون هناك -وأنا أنقل كلامه على كل حال، وأعتذر عن التعليق لأن الكلام كثير- ويمثل النصارى 1% من الوافدين، ولا يوجد نصراني سعودي واحد -هكذا يقول- لكن ثمة طموحات كبيرة أمامنا: أولاً: أن تشرق الأرض ثانية بنور المسيح -يعني أرض الجزيرةالعربية- خاصة في مكة حيث لا يسمح للنصارى بدخولها.
ثانياً: لندع الله أن يكون للنصرانية نصيب من أموال المملكة، خاصة لصالح الإرساليات، وأن يسمح لهم بالدعوة هناك.
ثالثاً: لندع الله أن يستطيع القُسُس وعظ وإرشاد النصارى من مختلف الجنسيات، وأن تنجح خططهم في كسب المسلمين، وأن يبدأ تجويع المسلمين ثم إشباعهم من تعاليم المسيح، ثم يقول: وهناك فرص عديدة للنصارى لدخول المملكة؛ للتنصير والاستفادة من أولئك الذين يسافرون خارج المملكة واستغلال وظائفهم في خدمة النصرانية، ولندع الله بأن تنجح النصرانية في كسب المسافرين إلى الخارج من السعوديين للعلاج أو للسياحة أو غير ذلك في الدول المجاورة أو في أوروبا أو حيث توجد الإرساليات، ولندع الله أن أولئك الذين يدرسون في الخارج يكونون نواة لأول كنيسة، علماً أن أي مسلم يغير دينه مصيره القتل على الفور، كما ندعو أن تثمر جهود إذاعة التنصير التي تبث برامجها من جزر سيشن إلى آخر ما قال.
والمهم أن اكتشاف النفط ساهم مساهمة فعالة في تنشيط حركة التنصير، ومن باب الأمثلة فقط سوف أعرض بعد قليل بعض التقارير الخطيرة المتعلقة بأرامكو والمتعلقة بالهيئة الملكية بينبع، وهما نموذجان مختاران لا غير من الآثار التي أحدثها اكتشاف النفط في توسيع رقعة التنصير، خاصة مع غفلة المسلمين وعدم وجود المؤسسات التي تقاوم هذا المد.(99/5)
سقوط الشيوعية
المؤثر الثاني: هو سقوط الشيوعية وما ترتب عليه، وقد نتج عن سقوط الشيوعية عدة أعمال: أولاً: توجه المزيد من إمكانيات الغرب التي كانت ضد الروس بحيث تصبح موجهة ضد المسلمين وخاصة في منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية.
ثانياً: أصبح هناك تحالف بين الشرق -الذي كان شيوعياً وأصبح نصرانياً في غالبه- وبين الغرب النصراني الصليبي، وهذا التحالف تحالف مشترك على الإسلام في دول الخليج وفي غيرها، وأذكر أن فضيلة الشيخ سفر الحوالي حفظه الله قد تكلم منذ سنوات عن العالم الإسلامي في ظل الحرب الباردة وعما يسمى بالعبرة من الحروب الصليبية، وقال حينذاك: إنه يتوقع أن يكون هناك تحالف بين روسيا وأمريكا ضد الإسلام، واستغرب الكثيرون هذا! والعجيب أنني قرأت هذا الكلام نفسه قبل أسبوع واحد بلسان رجل كان نصرانياً وأسلم حسبما سمعت، وهو جهاد الخازن وهو صحفي كتب في جريدة الحياة: إن الغرب والشرق أصبحا متحالفين الآن ضد الإسلام.
الأمر الثالث الذي أحدثه سقوط الشيوعية هو: أن الخليج أصبح منطقة مفتوحة للغزو الفكري القادم من الغرب دون مقاومة أخرى، اللهم إلا المقاومة الذاتية التي تمثلها الصحوة الإسلامية على رغم قلة إمكانياتها، وإذا جاز لنا أن نعتبر حرب الخليج بين العراق والتحالف الدولي قبل سنين ثمرة من ثمرات تهاوي الشيوعية وعجزها، فإننا نستطيع أن نسجل في مجال مكاسب النصارى ما يلي:- أولاً: حيث تم نقل ما يزيد على خمسمائة ألف جندي غربي، كان عدد المسلمين فيهم حسبما وصل إليَّ من الأرقام نحو عشرة آلاف مسلم، أما البقية الباقية فهم موزعون بين اليهود والنصارى، والغالبية العظمى فيهم كانت من النصارى، وأصبح الكثيرون بعد الحرب هنا وفي دول الخليج يعلنون ولاءهم للأجنبي، ويدعون صراحة إلى أمركة البلاد، أي: تحويلها إلى الطريقة الأمريكية، وبالأمس القريب في أيام الاستعمار كان هذا الكلام يعد خيانة عظمى.
أما اليوم فأي متصفح للصحف الكويتية خاصة، يقرأ دعوة صريحة إلى الذوبان في المجتمع الأمريكي -وأنا لا أعبر عن كلامهم بأسلوبي، بل أنقل عباراتهم الذوبان في المجتمع الأمريكي- أو أمركة المجتمع الكويتي، هذه عباراتهم؛ بل قال أحد المسئولين هناك في الأسبوع الماضي -وفي صحيفة سعودية-: إن الكويت أصبحت الآن محمية أمريكية، وقبل عشرات السنين كانت كلمة محمية عاراً يلصق ببعض الدول التي رضيت بالخنوع والخضوع لبريطانيا أو غيرها.
ثانياً: رفع النصارى رءوسهم، وصرحوا بأن المسيح جاء لإنقاذ بلاد محمد، فيصح أن نعتبر هذه الحرب داخلة ضمن سياسة تجويع المسلمين، ثم إشباعهم من تعاليم المسيح كما يقول الكتاب الذي أشرت إليه قبل قليل -من خطط التنصير- وكان يصحب هؤلاء الجنود الآلاف من القُسُس والرهبان.
وعلى سبيل المثال: هناك كتاب عندي صورة منه أيضاً، وهذا الكتاب اسمه: بعد العاصفة فيه قصص لألوف من الجنود الأمريكان -يقول الكتاب-: إنهم قبلوا عيسى في أرض محمد، وأن الرب فتح لهم الباب للدعوة في البلاد التي لم يكونوا يحلمون بالدخول إليها، حيث كان الدخول إليها مستحيلاً، لكنهم قبلوا المسيح فيها، وهذا في (ص:147) ، ويذكر الكتاب أن السعودية وإيران والجزائر والجمهوريات السوفيتية من أهم أهداف المنصرين في الفترة القادمة.
وقد تمكن هؤلاء من توزيع أكثر من ستمائة ألف نسخة خاصة من الكتاب المقدس، فضلاً عن عشرات النشرات التي وزع منها مئات الألوف في المدارس والأسواق والشوارع، بل وفي المساجد، وقد حدثني ثقة أنه رأى كتاباً في يد رجل من العوام لا يقرأ ولا يكتب، فأخذه منه، فإذا هو كتاب الإنجيل -كتابهم المقدس زعموا- فقال: ما هذا؟ قال له: هذا كتاب حديث! يحسب أنه صحيح البخاري أو رياض الصالحين؛ لأنه لا يعرف إلا هذا.
ما تزال بقايا هؤلاء -لا كثرهم الله- في جميع دول الخليج تمارس دوراً تنصيرياً واضحاً في ثكناتها ومعسكراتها وأماكنها، بل وفي منتجعاتها وإسكاناتها، بل وفي الأسواق حيث يتسوقون في أيام العطل والإجازات وفي أوقات كثيرة بملابسهم الرسمية، ويقيمون أوثق العلاقات مع الشباب.
أولاً: هم يعتقدون أنهم جاءوا لحماية هذه الدول، بناءً على اتفاقيات عسكرية وأمنية، إذاً فمن حقهم أن يعتقدوا -أيضاً- أن لهم أن يمارسوا طقوسهم وعباداتهم وشئونهم كلها دون أن يغيروا من نمط حياتهم شيئاً، وبناءً عليه: فإن من المؤكد أن لديهم كنائس مخصصة لهذا الأمر، فضلاً عن البارات وأماكن الرقص والسباحة العارية المختلطة وغير ذلك.
وثانياً: هم رسل للمسيحية، فمن السذاجة تصور أنهم لا يحملون أية رغبة في دعوة الآخرين أو تنصيرهم، ولكنهم كما يقول التقرير الذي ذكرته في المجلس السابق حساسون ثقافياً، خاصة إذا كان ثمة من يراقبهم أو يتلفت حولهم، وهذه بعض الوثائق.(99/6)
نماذج من أعمال المنصرين
إن الوثائق كثيرة جداً، وأنا أذكر معلومات كثيرة موثقة، لكنني لا أذكر الوثائق، وأحياناً قد أذكر نماذج فقط، أما الكلام الذي سأقوله لكم فلا أتكلم إلا من خلال وثائق معتمدة مؤكدة، وجميع ما أذكر من الوثائق سوف أبعث بها إلى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حتى يُدرس على مستوى رفيع، وسأبعث بها أيضاً إلى أعضاء هيئة كبار العلماء، وإلى أعضاء اللجنة الخماسية، وإلى المهتمين بشئون التنصير؛ حتى يدركوا حجم الخطر الذي يواجه هذه البلاد من أولئك النصارى، إذاً لا تعتقد أن هذه الوثائق هي كل ما أملك، بل ثمة وثائق كثيرة جداً، إنما هذه بعضها.(99/7)
وثيقة جمعية الأسقف نيكولوس
وعلى سبيل المثال: هذه الوثيقة الأولى: وثيقة جمعية الأسقف نيكولوس وهذه الوثيقة قد صورت ووزعت وهي موجودة باللغتين العربية والإنجليزية، وأذكر نماذج منها، يقول: إنهم يشكرون كل من استجاب لدعوتهم السابقة في المساعدة لإخراج هذه المناسبة -مناسبة عيد ميلاد- وسنكون على اتصال بكم لإعطائكم مزيداً من التفاصيل، ومازلنا نأمل في المخلصين ليساعدونا في إخراج ليلة عيد الميلاد في صورة لا تنسى في رأس تنورة، ولازلنا بحاجة إلى أناس روحانيين والأشخاص المطلوبون هم: أولاً: شخص بمواصفات مناسبة ليقوم بدور الأسقف نيكولوس في ثيابه التقليدية، ويقوم بتوزيع الهدايا في ليلة عيد الميلاد.
ثانياً: أصحاب السيارات -الصالون الكبيرة- مطلوبون للمساعدة في نقل الأسقف نيكولاس بدلاً من مركبته التقليدية.
ثالثاً: أصحاب بيوت ليس لديهم أطفال، ليستغل نيكولوس منازلهم لتخزين الهدايا لمدة أسبوع، ولا يمانعون في الإزعاج الذي يسببه لهم التوزيع والتصنيف في ليلة الثاني والعشرين والرابع والعشرين.
رابعاً: المساعدة بصفة عامة من أي شخص -الجدير بالذكر أنا اقرأ الآن أن رأس تنورة من الأماكن القليلة في العالم التي يقوم فيها الأسقف نيكولوس بزيارة شخصية- فنرجو المساعدة لمواصلة التقليد، وجعلها انطلاقة طيبة لأيام الاحتفال، إذا كنت تريد التطوع أو إذا كنت تريد معلومات أكثر، فمن فضلك اتصل على هاتف بعد الساعة كذا أو في عطلة نهاية الأسبوع، شكراً مقدماً لمساعدتك جمعية الأسقف نيكولوس.
ملاحظة إلى جميع الساكنين: إذا كنت تريد أن ترتب زيارة شخصية للأسقف في يوم الرابع والعشرين من ديسمبر، عليك بإملاء النموذج التالي، وإرساله إلى العنوان التالي بأسرع وقت ممكن، ثم ذكروا العنوان في رأس تنورة، وقالوا: هناك تفاصيل الترتيب سوف ترسل إليكم بالبريد، أرجو إرسال التفاصيل والترتيبات عن كيفية زيارة الأسقف إلى آخر الكلام.
وهذا نموذج من محاولة دعوتهم الناس إلى المشاركة في أعيادهم ومناسباتهم وطقوسهم، وأنهم لا يقتصرون في ذلك على فئة معينة ولا جنسية معينة ولا على ديانة معينة.(99/8)
وثيقة المخلص
كما أن هناك وثيقة أخرى هي عبارة عن دعوة من المخلص كما سمى نفسه فرانك إجراهم، يقول: عزيزي الصديق الأمريكي التابع للكنيسة! أنت الآن في منطقة الخليج الفارسي، وتجد نفسك في متسع من الوقت فلا تضيعه، فكبديل لماذا لا تتعلم قليلاً من اللغة العربية؟ وقد أرسلت لك بغية ذلك نسخة من الكتاب المقدس الجديد باللغة العربية، ونقترح عليك أن بإمكانك أن تجد صديقاً سعودياً يساعدك على قراءته، واللغة العربية لغة صعبة، ولكن عندما تتعلمها لن تنساها مطلقاً، ونحن فخورون بك، وندعو الإله أن يحميك، ويعيدك سالماً إلى وطنك وأحبائك، وفي نفس الوقت استمتع بتعلم اللغة العربية مستخدماً كتاب الإله كمرجع لك! إذاً: هم يريدون نشر النصرانية من خلال صاحب هذه الورقة حيث يطلب من أي شاب سعودي أن يعلمه اللغة العربية، أي: أن يعلمه ويشرح له الكتاب المقدس، ويعلمه اللغة العربية من خلال قراءته للكتاب المقدس، فيكسبون أمرين: أولاً: أن هذا الأمريكي أو الغربي يتعلم اللغة العربية، ويقيم صداقة مع هذا الشاب السعودي أو الخليجي.
ثانياً: أن هذا الشاب الخليجي سوف يتعلم ويقرأ الكتاب -الإنجيل- ويؤثر عليه تأثيراً سلبياً، بل قد أقيمت لهم مشاريع ومباني خاصة حسبما يريدون في البلاد التي يقيمون فيها، وأقرت ذلك الوزارات المسئولة ووزارات الدفاع، فأقيمت لهم المباني المخصصة لهم، وفيها صالات الرقص، وبرك السباحة المختلطة، وأماكن تغيير الملابس للرجال والنساء، وبارات الخمور، وغير ذلك على مرأى ومسمع من المسلمين، ولهم تسلط وسيطرة على المسلمين حتى من أبناء البلاد ذاتها، فهم يمارسون عليهم ألوان الإذلال، أما المسلمون الأجانب من غير البلد فلا مكان لهم بين أظهرهم، فقد بدأت تصفية المسلمين شيئاً فشيئاً، فكلما اجتهد المسلم المتعاقد أكثر، أعطي إنذاراً بتحسين مستواه، ثم بعد ذلك يفصل، أما المهندس النصراني فيزود بخطابات شكر متواصلة.(99/9)
خطة التنصير الحالية
وخلال التجارب تبلور لدى النصارى خطة إجمالية، لا أزعم أنهم متفقون عليها فيما بينهم، لكن مجموع المؤسسات والإرساليات والجمعيات النصرانية في دول الخليج تساهم في تنفيذ هذه الخطة، كل جمعية على حسب قناعتها وأسلوبها وطريقتها، والمجموع النهائي يصب في هذا التيار، وتسعى الخطة إلى تحقيق مزيد من المكاسب للنصارى عبر المحاور التالية:(99/10)
تكثيف أعداد النصارى القادمين في شتى الأعمال
أي محاولة استجلاب أكثر عدد ممكن من العاملين في هذه البلاد من النصارى في أعمال مختلفة حتى يكثر عددهم، ويعظم تأثيرهم.
وفي قبرص في لارنكا -عام 1989م- عقد مؤتمر حضره أكثر من خمسين قسيساً يمثلون إحدى عشرة طائفة نصرانية، وكان هذا المؤتمر اسمه مؤتمر كنائس دول الخليج العربي، وعقد بإشراف مجلس كنائس الشرق الأوسط، وخرج بتوصيات هامة، منها ضرورة العمل على اغتنام الفرص المتاحة لصانعي الخيام في منطقة الخليج والجزيرة.
وفي مجلة اليمامة -عدد (1110) - ذكرت أن من أهدافهم حشد النصارى من بني جنسهم وتكثيرهم، خاصة من لديهم القدرة على العمل التنصيري، وأنهم يحاولون السيطرة على المؤسسات التي تتولى تصدير العمال إلى دول الخليج من أجل إرسال النصارى، ويقوم هؤلاء بأعمال كثيرة، أهمها إرسال بني جنسهم، وتجد كثيراً من أصحاب الشركات والمؤسسات والأعمال يقولون: لم نستطع أن نأتي بالمسلمين؛ لأن أنظمة تلك الدول لا تقبل إلا النصارى.
وفي الواقع أن هذا أمر يتعلق بالمؤسسات التي تتولى تصدير العمال إلى منطقة الخليج والجزيرة بالدرجة الأولى، وإلى المنطقة العربية بشكل أوسع.
وهؤلاء الذين يأتون على هيئة خبراء ومهندسين وأطباء وفنيين وعمال بجميع ألوان المهن يقومون بأعمال كثيرة منها ما يلي: أولاً: يقومون بممارسة طقوسهم الدينية في مجمعات سكنية أو أحياناً في مجمعات رسمية، وفي كل مستشفى أو شركة يوجد فيها نصارى كثيرون، يوجد قسيس يعمل الترتيبات اللازمة لإقامة الصلوات النصرانية، ويكون هذا بالاتفاق مع الشركة، وأحياناً تكون الشركة على علم بهذا الأمر وترتيب مسبقاً له.
ثانياً: يقومون بدعوة بني جنسهم إلى الديانة النصرانية، والتأثير على غير النصارى من الوافدين إلى هذه البلاد، ومجالهم في هذا مجال خصب جداً.
ثالثاً: يقومون بمضايقة المسلمين خاصة من ليسوا من أهل البلاد، والتشديد عليهم ومحاولة إلغاء عقودهم واستبدالهم بالنصارى.
رابعاً: يقومون بالتأثير الأخلاقي والسلوكي على الشباب والفتيات، خاصة من العاملين معهم من أبناء هذه البلاد.
خامساً: يقومون بجمع التبرعات لأغراض تنصيرية، وفي مستشفى بريدة -مثلاً- وزعت ورقة تدعو إلى جمع التبرعات لمعهد المستشفى التخصصي -لمعهد كنائسي لإخراج القسس في الفلبين- ووزعت على نطاق واسع، وعندي صورة منها.
وهناك أيضا نموذج آخر في هذا البلد: وهي ورقة من هندي يدعو فيها أصدقاءه وإخوانه إلى جمع تبرعات، وأرسل إليهم نوعاً من الفواتير أو الوثائق يقول: اجمعوا بها ريالات سعودية باستعمال هذه الفواتير من السعوديين؛ حتى نقوم ببناء معبد للوثن في البلد الذي هو فيه في الهند، وعندي أيضاً صورة من هذه الوثيقة، فهذه بعض أعمالهم.(99/11)
صبغ الحياة الإسلامية الاجتماعية بالصبغة التحللية الغربية
وذلك من خلال إشاعة الفساد والرذيلة في أوساط المسلمين، وإتاحة الفرصة للشباب من الجنسين بأخذ نصيب وافر من الانحلال: أولاً: الخمور: فمصانع الخمور تقام في الشركات والمؤسسات ويتم تعاطيها علانية، وقد حدثني ثقات يعملون في شركة كبرى في هذا البلد، وحلف أحدهم لي بالله عز وجل -وقال: أُسأل عنها يوم ألقى الله تعالى- أنه رأى بعينه فتاة سعودية في سن الثامنة عشرة من عمرها تقوم بإدارة الخمور على بعض الحاضرين لإحدى الاحتفالات في جو مختلط ماجن فاسد! ثانياً: المسابح المختلطة في المستشفيات والشركات والفنادق والأحياء الدبلوماسية، فضلاً عن بعض شواطئ البحار التي توجد في مناطق عديدة، وأستطيع أن أقول في بعض هذه المناطق -وأنا لا أقول في كل شاطئ، لكن أقول: في مناطق معينة يوجد أماكن نستطيع أن نقول بكل وضوح-: إنه لا فرق بينها وبين شواطئ البحار في أي بلد غربي على الإطلاق، فالأجساد العارية ممددة، ولا يستر من المرأة إلا السوءة فحسب، والرجال كذلك، وهم يأخذون الحمامات هناك، ويتمددون في حرارة الشمس وحدث ولا حرج!!! ثالثاً: الحفلات الراقصة، كحفلات أعياد الميلاد وغيرها، التي تقام في أرامكو، وتقام في المستشفيات الحكومية وغير الحكومية، وتقام في الشركات التي يوجد فيها نصارى، ويختلط فيها الرجال بالنساء من الأجانب ومن المسلمين وسط نشوة من اللعب والمزاح والضحكات العالية إلى غير ذلك.
رابعاً: توزيع الأفلام الخليعة، سواء كانت هذه الأفلام أفلاماً مرخصةً أو غير مرخصةٍ، بل ربما عمدوا إلى تصوير احتفالاتهم وتوزيعها أو نشرها، وقد وصل إلي فيلم يتحدث عن مباريات رياضية مختلطة في المستشفى التخصصي بمدينة بريدة، وفيه صور متعددة واختلاط وأوضاع غير لائقة، وبصورة تكشف أن المسئولين عن الصحة أو بعضهم متورطون في مثل هذه الأمور ومشاركون فيها، ولا موقف لهم عندما يشتكي إليهم الناس أو يتساءلون، إلا تلك الابتسامات البلهاء التي لا تغير من واقع الحال شيئاً.
خامساً: توزيع المجلات الخليعة، حتى إنهم كانوا يوزعون مجلات الدعارة، ومجلات الجنس والشذوذ، بل حتى في أماكن القمامة والزبالة التي يلقون بها، توجد بعض هذه المجلات وبعض تلك الأفلام، ويجلس بعض الشباب في انتظارها ويأخذونها ليشاهدوها ويطلعوا عليها غيرهم، وقد حصلت اتصالات عديدة بي من مجموعة كبيرة من النساء في عدد من المناطق في المنطقة الشرقية وفي جدة، تشتكي ما آل إليه أمر الأولاد والشباب، وأنهم يجتمعون أحياناً على مشاهدة أفلام سيئة، وهناك أصابع خفية وراء تلك الأفلام.
سادساً: إغراق الإعلام بالبرامج الهابطة، ومن يطالع أو يسمع عن القناة التليفزيونية الثانية -مثلاً- يرى العجب العجاب! فقد أصبح مألوفاً أن تظهر المرأة وقد كشفت إلى ما يزيد على نصف الفخذ! وهي تجلس مع الرجال، أو موائد الخمور -الموائد التي تدار فيها الخمور- أو أشياء يظهر فيها الصليب أو غير ذلك مما يتنافى كلية مع تعاليم الإسلام، وقد ذكرت في درس سابق كيف أنهم يقولون: نحن لا نسيطر على الإعلام فعلاً، ولكن كل شيء يسير بصورة جيدة.
سابعاً: البث المباشر وهو أحد وسائلهم، وقد استأجر الفاتيكان أكثر من ست عشرة محطة فضلاً عن عدد آخر من المحطات التي يملكها للسعي إلى تنصير المسلمين، وأنت تعلم أن هذه الأقراص التي تستقبل البث المباشر أصبحت موجودة، واليوم أخبرني مجموعة من الشباب أنها تباع في شارع الخبيب، وتباع في أماكن أخرى في المدينة الصناعية، وأنا أدعو الإخوة إلى التثبت من هذا الخبر وموافاتي به سريعاً، حتى نقوم بمناصحة هؤلاء وعمل ما يمكن تجاههم، وأن نكون يقظين تجاه هذا الخطر.
ثامناً: العمل على تغيير وضع المرأة، وفتح الباب على مصراعيه لعمل المرأة، سواء في مجال الإدارة، أو في مجال الاقتصاد، أو في مجال السكرتارية، أو في مجال الرياضة، أو في مجال الإعلام، أو في أي مجال آخر، بل ومحاولة جعل المرأة ألعوبة يغرى بها الشباب من أجل جذبهم إلى دين المسيح.
ومن الملفت للنظر أن الذين يقومون بالتنصير أكثرهم من النساء، وللنساء دور كبير في التنصير في منطقة الخليج! 1- مذكرات منصرة: وهذه وثيقة من الوثائق، وهو كتاب اسمه: مذكرات شريفة الأمريكانية، وهذا الكتاب ضخم فيما لا يقل عن ثلاثمائة صفحة أو يقارب ثلاثمائة صفحة، لكن خلاصة هذا الكتاب أنه يتكلم عن المنهج التنصيري، وكيفية إعداد أفراده، والثقافة التي يزود بها كل فرد يقدم إلى هذه البلاد، وكيفية استغلال حاجة الناس لخدمة التنصير، خاصة في مجال الطب وفي مجال التعليم، وكيف تستغل العادات السيئة والتطبيق الخاطئ لتعاليم الإسلام كأداة لتشويه الإسلام والطعن فيه، مثل استغلال قسوة الآباء على الأبناء أحياناً، أو قسوة الأزواج على زوجاتهم، أو استغلال أي أسلوب سيئ للتنصير، وبعض الكلمات في هذا الكتاب توحي بالفشل الذي كانت تتوقعه، وخصوصاً عندما ترى المسلمين في رمضان، ومدى اتباعهم لتعاليم الإسلام ومحافظتهم على الصيام رغم الحر الشديد في المنطقة.
ولكن هناك كلمات أخرى لديها توحي بالإحساس بالنصر، وعلى سبيل المثال عندما رأت مجموعة طلبة وطالبات من البحرين كان معظمهن من الفتيات الصغيرات وقد جئن إلى كندا للدراسة، وكانت فرحتها أكبر عندما علمت أن خمساً من هؤلاء كانوا من العائلة الحاكمة، والذين كانت أمهاتهم أو جداتهم -لاحظ الترابط- قد درسن في المدرسة الإرسالية الأمريكية، وقد ظهر الأثر الآن في البنت أو بنت البنت أو بنت الابن، وهن أيضاً ممن عاصر فترة اكتشاف النفط وعاصر فترة النقلة الاقتصادية التي أتت على مجتمع غير ثابت العقيدة، فنقلته أيضاً نقله اجتماعية غير متزنة، ثم تذكر أيضاً في المذكرة أنها دخلت إلى المملكة، ووصلت إلى القصيم حيث استعن بأفرادها وأفراد بعثتها للمعالجة، وتذكر محاولات لإنشاء مراكز للإرسالية داخل المملكة، ويمكن الاستفادة من هذا الكتاب بشكل أكبر، لكن هذا ما يمكن تلخيصه في مثل هذه العجالة.
والمهم أن المنصرات كان لهن دور كبير جداً في مسألة التنصير والتأثير على المرأة وتغيير وضعها، ولكن المشكل الأكبر أنهم يحاولون استغلال الجانب الجسدي من المرأة، وهوجانب الإغراء والإثارة.
وقد كان في أمريكا مذاهب عديدة تسعى إلى إدخال الرقص والإغراء الجنسي للمرأة ضمن نشاط الكنيسة، ونجح في استقطاب أعداد كثيرة من الشباب لحفلات الرقص التي تقام في تلك الكنائس التي كانت يوماً من الأيام مهجورة، وقد شن الفاتيكان هجوماً شديداً وعنيفاً على هذا اللون من النشاط، ولكنه بعد ذلك غض الطرف عنه وسكت، لما رأى أثره الكبير في جذب الشباب إلى الكنيسة.
وفيمجلة اليمامة -في عدد (1110) قالت: إن الجمعيات التنصيرية تسلك أسلوب التنصير عن طريق السهرات والرحلات والجمعيات الشبابية.
وأقول: إن الحديث عن موضوع عمل المرأة ووثائقه أمر يطول، بل هو يحتاج إلى دراسات، وهناك رسائل جامعية خُصصت للحديث عن عمل المرأة هنا في السعودية، ولكن أذكر لكم نماذج من الجهود المباشرة في هذا الميدان، والتي تستهدف إخراج المرأة من حشمتها وعفافها وأنوثتها إلى حيث الاختلاط بالرجال وممارسة الأعمال الرياضية، والرقص، والغناء إلى غير ذلك.
النموذج الأول: برنامج الصحة والرشاقة، وهو برنامج من الرياض اسمه: برنامج الصحة والرشاقة، وهذا البرنامج طويل لا أدري كيف أوصله إليك، لكنه طبعاً كان قبل سنتين تقريباً، وأعتقد أنه مستمر؛ لأنه عبارة عن مؤسسة قائمة، وأظن أنها في الحي الدبلوماسي، واسم المؤسسة: برنامج الصحة والرشاقة -المنشآت الرياضية- وهو مثلاً يقول: لأول مرة مباراة في التنس المفتوح للسيدات، وذكر تاريخه، وكذلك هناك مباراة للمشاهدات، ثم ذكر تشكيلة من التنس، وذكر المساج الاقتصادي لهذا الشهر، ثم ذكر مدربة جديدة أمريكية درست في اليابان لمدة خمس سنوات، وعملت في بلدان مختلفة حول العالم في عشرين سنة، ووصولها سيكون يوم كذا، فتفضلي وقابلي هذه المدربة سونيا.
وهناك مدرسة للأطفال سوف تقدم نشاطاً جديداً، فأحضري أطفالك، وللجديد أسعار مخفضة، العناية بالشعر والجمال، أحضري العائلة وأحضري صديقاتك، وخذي موعداً مرة كل أسبوع حتى تبدي رائعة، أهلاً وسهلاً بعودتك، قد احتفلنا في الشهر الماضي بمناسبة مرور ثلاث سنوات على افتتاح مركز الصحة والرشاقة، ونقدم شكراً للواتي اشتركن معنا في هذه المناسبة، وأيضاً كان لنا أول جولة للقهوة العالمية مع مائة سيدة في قصر طويق في حي السفارات، وإني أتقدم بالشكر الجزيل للائي ساهمن بنجاح في هذه الجولة، هذا الشهر نوجه دعوتنا على فنجان من القهوة للسيدات العضوات، وسوف تقام الثلاثاء تاريخ كذا، نرجو مشاركتك لاحتساء القهوة مع فريق مركز الصحة والرشاقة والصديقات العضوات، سوف تعود ساعات العمل كما كانت سابقاً.
ثم هناك دعوة، بأن العضوية قد انتهت ولابد من تجديدها، مركز الصحة مضى على افتتاحه زمن، ونرحب باقتراحاتك وآرائك التي تودين عرضها، أرفق بعض المعلومات للاطلاع عليها، مباريات في التنس للسيدات سوف تقام في الشهر المقبل، وهي مفتوحة لجميع السيدات في مدينة الرياض، واستمارة التسجيل للانضمام موجودة هنا، مركز الجوال للشعر، إذا كان لديك استفسار خذي راحتك واتصلي، برنامج الأطفال، الجمباز، ألعاب الكرة، السباحة، الكاراتيه، هناك مفاجأة أيضاً في الأخير، مباريات أساسية، مباريات متقدمة، تعليم مهارات، تعليم الأطفال حركات الدفاع عن النفس، نشاط مصحوب بالموسيقى، لمن لا يعرفون السباحة تدريب على العوم، مستوى متقدم من السباحة، اشتركوا في المسرح، ثم هناك أيضاً تمرينات للذراعين، تمرينات شرقية، أنواع من الألعاب -في الواقع أنا لا أعرف عنها شيئاً- هناك مركز مفتوح من كذا إلى كذا، البركة الداخلية مفتوحة أيضاً لأيام معينة، الرياضة المائية، دور التنس، المساج -المساج هو عبارة عن تحريك الأطراف والأوساط والجسد لإزالة التعب خلال حركات معينة- المساج بالعطور الاسترخائي، التخسيس بآلة الريفو لوكسورلوجي، يومياً مواعيد معينة، هذا نموذج من نشاطهم في مجال المرأة.
النموذج الثاني: مركز المناهل: وهذا المركز موجود أيضاً في ح(99/12)
تنصير المزيد من المسلمين
إن الأمل عندهم يجب أن يستمر في محاولة كسب بعض المسلمين إلى النصرانية، وهم يقولون: إن الظروف اليوم أصبحت أكثر ملاءمة من ذي قبل، وكثرة المنصرين من صانعي الخيام لابد أن تثمر ثمرة إيجابية، وفي عام 1401هـ قالت مجلة أنباكت إن في المملكة حوالي خمسين ألفاً مجندين للدعاية المسيحية في البلاد التي هي العدو للمسيحية، وقد أقاموا بعض الكنائس لهم، كما نشرت مجلة كميرون تربيون نقلاً عن الموسوعة المسيحية العالمية، أنه سيبلغ عدد النصارى عام 2000م ملياراً، وقالت: يوجد في المملكة آلاف الشباب خاصة من الطلبة قد تنصروا سراً.
وأنا أعتقد أن في هذين التقريرين -خاصة التقرير الأخير- نوعاً من التهويل والمبالغة، ومحاولة إغراء النصارى بمزيد من الجهد، ولكن من الثابت عندي أن ثمة من المسلمين في هذه البلاد من تنصر، بسبب دراسته في المدارس الأجنبية أو بسبب علاقته ببعض العاملين الأجانب هنا، سواء في المجال العسكري أو في المجال المدني، حتى إني أعرف بعض الأسماء على سبيل التحديد، وبعض الذين تنصروا هم من الرافضة وبعضهم من أهل السنة.
ونحن الآن نتكلم عن خططهم في تنصير المسلمين، ففي جريدة الرياض 14/3/1402هـ نشرت مقالاً بعنوان: من هم المروجون للإنجيل، ويتضمن هذا المقال أن ثمة نصارى هنا يوزعون بطاقات ومنشورات في الداخل وعلى سيارات الطلبة في المدارس، وأنهم مستعدون لإرسال الإنجيل باللغة العربية إلى من يريد، وفي عكاظ -12/6/1403هـ- كتب عاتق البلادي يقول: لا يا أتباع المسيح، وأشار إلى أنه لا يخلو يوم من رسالة تدعوه إلى الانضمام إلى النوادي في أوروبا لإقامة الحفلات الساهرة، وأنه وصلته رسالة من بومباي تدعو مسلماً من مكة لنبذ الإسلام والدخول في النصرانية.
وقد بعثت إذاعة صوت الغفران رسالة إلى مواطن سعودي، وقالت له -بعدما دعته إلى النصرانية-: أما نسخة الإنجيل التي تطلبها، فسوف نبعث بها إليك من بلدك لضمان وصولها إليك، وفي جريدة الرياض أيضاً في 7/ جمادي الأول/1404هـ، ذكروا صورة من كتاب عنوانه: الإنجيل والإسلام، وهذا الكتاب يتكلم عن المسيحية في السعودية والخليج، ويقول: إن المسيحيين موجودون على رغم عدم السماح لهم، وإنما وجود المسيحية بفضل العاملين الأجانب الذين هم مبشرون في الحقيقة، ويمكن التأثير من قبلهم على سكان الدول الخليجية ونشر المسيحية بينهم، إن عدد المسيحيين هناك بازدياد، هذا ما يقوله الكتاب.
إذاً من المؤكد أن النصارى لم يلغوا الهدف الذي يسعون إليه في تنصير المسلمين، وإن لم يكن هذا الهدف هو الهدف الأساسي نظراً لكثرة العقبات التي تعترضه وضآلة النتائج.
وفي الواقع إن النصارى لم يفلحوا كثيراً في تحويل المسلمين -خاصة الواعين- إلى الديانة النصرانية، لماذا؟ لأنه ليس في النصرانية ما يغري أو يدعو إلى القبول بها أو اعتناقها، ففيها من الفساد والتناقص والتحريف ما يجعل أي إنسان عادي يكتشف هذه الأمور، ومن ثم لا يقبل بها ولا يؤمن بها، لكن يظل الهدف قائماً وهو إدخال المزيد من المسلمين إلى الديانة النصرانية، هذا هو المحور الأول.
وفيما يتعلق بالمحور الأول، لهم فيه أهداف كثيرة سبق أن ذكرتها في وسائل المنصرين يمكن مراجعتها، لكني أعطيكم نموذجاً وقع في يدي بالأمس، وهي قصة صغيرة نشرت علىنطاق واسع للكبار والصغار، وهي قصة مصورة، تصور حياة إنسان فاسد، وأنه مات ولقي الله، وكيف حوسب وعذب هناك، وتحاول هذه القصة أن تستخدم بعض الألفاظ الموجودة في الإنجيل، والتي قد أَلِفها المسلم وسمعها كثيراً، فمثلاً تتكلم عن عذاب القبر، وتتكلم عن نعيم الجنة، فتنقل كلاماً عن الإنجيل: ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، فالمسلم تعود على سماع مثل هذه الكلمات، وتعود أن المجرم يعاقب، وأن المحسن يثاب وهكذا تدور القصة حول هذه الأمور، حتى تغري قارئها باعتناق النصرانية أو الإيمان بها.(99/13)
وثائق تنصيرية
وأعمال هؤلاء تعتمد على السرية، لكن مع ذلك -في مجال العمل التنصيري وتحقيق الأهداف الذي ذكرتها قبل قليل- هذه بعض النماذج وبعض الوثائق التي حصلت عليها.(99/14)
شركة أرامكو
النموذج الثاني: -وهو أخطر وأهول وأطول- هو ما يتعلق بأرامكو: وسوف أتحدث عن التنصير وما يتعلق به أيضاً؛ لأنه يصعب فصل الموضوع بعضه عن بعض.
ويوجد في مناطق عمل الشركة -أرامكو- الرئيسية موظفون أجانب ليس لديهم أعمال محددة، وإنما تم استقدامهم على شكل موظفين؛ للتغطية على المهام التي قدموا من أجلها، وهي إلقاء الخطب والمواعظ في مجموعات النصارى الموجودة بالشركة؛ مع التركيز على نصارى جنوب شرق آسيا، كالفلبين والهند وغيرها، ويتم إلقاء الخطب النصرانية في أوقات محددة من كل أسبوع: الوقت الأول: ما بين الساعة الحادية عشرة صباحاً والساعة الواحدة ظهراً من يوم الجمعة، أي: في وقت صلاة الجمعة، وذلك في مبنى معروف هناك اسمه: الديوان، وهو مخصص في الأصل للحفلات العامة.
الوقت الثاني: ما بين الخامسة والسابعة مساءً من بعد عصر يوم الأحد، وذلك في مبنى المدرسة المتوسطة المخصصة لأبناء الأمريكان.
فهذه هي الأوقات التي تقام فيها الخطب والمواعظ الكنسية.
ثانيا: هناك امرأة اسمها: هيلين ريدي؛ وهي راهبة أمريكية، ومديرة لإدارة التمريض، يقع تحت تصرفها ألف وستمائة ممرض وممرضة، وبمستشفيات أرامكو لهذه الممرضة نفوذ قوي على الكثير من المسئولين في الشركة من السعوديين والأجانب، وهي مسئولة عن إداراة منازل بعضهم إدارةً مباشرةً، أي: إدارة منزله الخاص.
وهذه المرأة كان لها نشاط غريب خلال وجود الجيش الأمريكي في حفر الباطن إبان أزمة الخليج، حتى كانت تذهب في نهاية كل أسبوع، تذهب من الأربعاء إلى الجمعة إلى حفر الباطن بإحدى سيارات الجيش الأمريكي، ولما سئلت: إلى أين تذهبين؟ قالت: هناك مجموعة من الأطفال الصغار -مها نظن أنها تعني من نسميهم بلغتنا: البذران- لابد أن نثبتهم، نخاف عليهم ولابد من تثبيتهم وتعني بهم أفراد الجيش الأمريكي! واستمرت على هذا الحال لعدة أشهر.
واحفظوا اسم هذه المرأة، لأننا سوف نحتاج إليه بعد قليل، هيلين ريدي، وهي مديرة إدارة التمريض في أرامكو.
ثالثاً: هناك رجل اسمه بوتش كونر، وزوجته اسمها دفرلي كونر يعملان بمستشفى أرامكو لسنوات طويلة، ولهم نشاطات غريبة، الزوجة دفرلي كونر تعمل بوظيفة مديرة المشاريع الخاصة! هكذا اسم الوظيفة: مديرة المشاريع الخاصة، تحت إدارة مسئول سعودي، ومن ضمن ما تقوم به دفرلي كونر أنها تقوم باستقبال الموظفين الجدد في أرامكو، وإعطاؤهم دورة تعريفية عن الشركة ونشاطاتها لمدة يومين، وتعريفهم عن البلد وعادات البلد وتقاليده، وإعطاؤهم نبذة عن الإسلام، والمهم في حياة هذه المرأة شيئان: أولاً: أنها تقيم في منزلها الفسيح حفلات التعارف بين الجنسين من مختلف الجنسيات، وتولي أهمية قصوى لإقامة حفلات التعارف بين الموظفات السعوديات الجدد وبين الموظفين الأمريكان غير المتزوجين، وذلك بحجة سد الفراغ الموجود لدى الطرفين! وطبعاً هناك سعوديات عازبات مقيمات في السكن نفسه! ولاحظ فتاة سنها عشرون سنة مقيمة في السكن مستقلة! وتقام الاحتفالات من أجل سد الفراغ الموجود لدى الطرفين! ثانياً: أنها في الإجازة السنوية تذهب إلى البلدان الفقيرة وتشتري الأطفال المسلمين، وتحضرهم إلى الظهران حيث تقوم بتنصيرهم وتغيير أسمائهم، وتجاهر بذلك، ولقد اشترت ستة أطفال: أربعة منهم من أمريكا الجنوبية، وطفلين من لبنان، وتقول: إنه حصل بينها وبين الملحق إشكال كبير؛ حيث إنه رفض إدخالهم إلى السعودية؛ لأنهم أولاد غير شرعيين، ولكنها أخيراً استطاعت إدخالهم بطرقها الخاصة، وأسماؤهم معروفة.
وتقول: إن بعضهم عرف عنهم بعض أقاربهم، وجاءوا واستطاعوا إخراجهم من عندها، ولكنها عوضت بطفلين آخرين.
وهذه المرأة -الآن- تنصر أطفالاً في هذه البلاد، فأنت أسألك: بالله عليك ماذا فعلت لأطفال المسلمين في الصومال أو البوسنة والهرسك أو غيرها؟! الذين ينصرون ويهجرون ويكفرون؟! لو أن كل واحد بذل جهده للحصول على طفل واحد من أطفال المسلمين ورباه مع أطفاله، لوجدنا أننا استطعنا احتواء عدد كبير من هؤلاء.
ونرجع إلى أرامكو: بوتش كونر الزوج يعمل مساعداً للراهبة هيلين ريدي مديرة التمريض التي تكلمنا عنها قبل قليل، ومتخصص بشئون الاستقطاب، حيث يقوم بالسفر إلى جميع أنحاء العالم لاستقطاب الممرضين والممرضات الجدد وإجراء المقابلات معهم، ومن ثم اختيار المناسب منهم.
ويعتبر هذا الرجل غامضاً جداً، ولا أحد يعرف عنه إلا أقل القليل عن شخصيته، حتى أن المفاجأة وقعت عندما أحضر دفعة -كما قلت قبل قليل- من الفلبين، وهم من الجنس الثالث، فانتشر عمل قوم لوط في أحياء متعددة، وتسامع الجميع بالخبر، فسارعت الشركة إلى إلغاء عقده وتسفيره مع زوجته التي تكلمت عنها قبل قليل أما أولئك فلم يصدر بحقهم شيء بحسب ما وصلني من الأخبار.
ويقال: إن هذا الرجل بوتش كونر وزوجته سيعودان إلى الشركة بعد أن تهدأ العاصفة، حيث أن الشركة لا تستطيع أن تستغني عن خدماتهم! وكما يقال: إن هذه المرأة قد تخلصت من زوجها؛ حتى تستطيع أن تعود بعد ذلك إلى الشركة.
ومن ضمن مطبوعات الشركة المنتظمة: قافلة الزيت الأسبوعية، وهي جريدة أسبوعية تعنى بأخبار الشركة وموظفيها، وهي غير جريدة قافلة الزيت الشهرية، ومن ضمن أبوابها الثابتة -أعني القافلة الأسبوعية- الصفحة الأدبية، والتي كثيراً ما ترد فيها الآيات القرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بها من تفاسير واستدلالات، ويشرف على هذه الصفحة -وهي تصل أحياناً إلى أربع صفحات من الحجم الكبير- يشرف عليها موظف نصراني عربي، اسمه: جاك الشماس، وعندما تم تنبيه القائمين على الجريدة أوقف لمدة أسبوعين، ثم عاد ليتصدر الصفحة ولكن بصورة غير منتظمة.
ومكاتب الاستقدام التابعة لشركة أرامكو والمنتشرة في أنحاء العالم، تتعمد إبعاد المتقدمين للوظائف إذا كانوا مسلمين، وترشح النصارى حتى من البلاد الإسلامية والعربية.
وعلى سبيل المثال: ذهب مدير الصيدلية السابق بمستشفى أرامكو -وهو هندي نصراني- إلى مصر لإحضار صيادلة، ثم عاد بعد أسبوعين، ومعه ستة من الصيادلة المصريين الأقباط، ولما سئل عن هذا التحيز قال: إنه لم يتقدم سوى هؤلاء، وبعد التحري وجد أن مكتب الاستقدام هناك قد قام باستبعاد المتقدمين من المسلمين المتفوقين، وأبقى قليلاً من غير المتفوقين، كما وضع في المقدمة جميع المتقدمين النصارى، وكان ذلك باتفاق مع مدير الصيدلية ومع الجهات المسئولة عن هذا الأمر في الشركة، فلما ذهب مدير الصيدلية إلى هناك، كانت لديه جميع المبررات لاستقطاب النصارى وترك المسلمين.
وهناك نماذج أخرى من التنصير في أرامكو؛ حيث يقبل في أرامكو سنوياً حوالي مائة وخمسين بنتاً سعودية من خريجات الثانوية العامة، حتى بلغ إجمالي العدد الحالي ما يزيد على خمسمائة بنت، وهذا في برنامج خاص، أما مجموع العاملات الموظفات، فهذا يزيد على أربعة آلاف كما ذكرت قبل قليل.
وهذا البرنامج يتم من خلاله تدريس البنات لمدة سنتين على أعمال السكرتارية، ونماذج من القيم الغربية بأيدي مجموعة من المدرسات والراهبات الأمريكيات اللاتي أحضرن خصيصاً لتدريس هؤلاء البنات، ليتخرجن سكرتيرات للمدراء والمسئولين بالشركة، حيث الاجتماعات المغلقة وإضاعة القيم الإسلامية، وقبل ذلك كله نزع الحجاب! ومما تجدر الإشارة إليه أن التعليمات الموجودة بالشركة تمنع المتدربات من ارتداء الحجاب، ولقد حاول بعض الفتيات الإبقاء على حجابهن، ولكنهن أجبرن على نزعه بعد أن تم تهديدهن بالفصل من الشركة.
ومن المؤسف أن بعض العاملين في هذه الدائرة من المسلمين، بل من هذه المنطقة.
والممرضة سيبير أخصائية غرفة عمليات، إيرلندية مسلمة، كانت قد اعتنقت الإسلام قبل التحاقها بالشركة بسنتين، وقد فرحت عندما وجدت فرصة للعمل في المملكة لتعمل على تقوية إسلامها، ولكن الضغوط التي وجدتها من مديرة التمريض " هيلين ريدي " وبقية الراهبات في إدارة التمريض بالظهران بسبب أنها مسلمة، اضطرتها لتقديم استقالتها ومغادرة المملكة.
وقد شرحت ذلك في خطاب يثير الأحزان وجهته إلى نائب رئيس أرامكو، ولا مانع أن أقرأ عليكم الخطاب، تقول -طبعاً هذه ترجمته-: أنا ممرضة إيرلندية تم التعاقد معي في لندن للعمل في مستشفى أرامكو كممرضة في غرفة العمليات، وكنت قد اعتنقت الإسلام قبل حوالي سنتين ونصف والحمد لله، وقد أخبرت أثناء المقابلة أن أرامكو ترحب بالمسلمين، وقد كنت شديدة الشوق للقدوم إلى المملكة، لاعتقادي أنها سوف تكون أفضل من الغرب لمن يعتنقون الإسلام، وللأسف وجدت أرامكو استمراراً للمضايقات التي كنت أجدها هناك، وأنها بؤرة للتعصب والتفرقة، فلم أستطع أن أتحمل المزيد، وخلال ما تبقى لي من أيام في السعودية، والتي يؤسفني أن أغادرها فإنني أدعو الله لأرامكو -عندما تصبح أرامكو السعودية- أن تأخذ وبقوة زمام الأمور من أولئك الذين نذروا على أنفسهم أن يخرجوا المسلمين من الإسلام، من أجل أولئك المسلمين الذين قد يجدون ما وجدت من معاناة خصوصاً حديثي العهد بالإسلام، فرأيت أنه من الأهمية أن ألفت أنظاركم إلى ما يجري، ورغم أنني لا أتوقع أن يتغير في الموقف شيء، أو أن تخف حدة التفرقة بين المسلمين وغير المسلمين، إلا أنني أرى أنه يجب أن يعلم بوجودها وشكراً، اهـ.
وطبعاً هناك ملاحظات على الرسالة، فهي عندما تشير إلى التفرقة في أكثر من موضوع، فإنها تشير إلى التفرقة التي يمارسها الأمريكان على بقية الجنسيات الأخرى؛ لأنهم يقومون رسمياً بتقسيم الجنسيات إلى أقسام: فالجنسية الأولى: الأمريكان والكنديون فهؤلاء في المحل الأرفع، ولهم ميزات وخصائص لا تكون لغيرهم.
والجنسية الثانية: السعوديون في جوانب وخاصة كبار الموظفين، أما صغار الموظفين فليس لهم ميزات، وغالب هؤلاء من السعوديين.
المرتبة الثالثة: البريطانيون والأيرلنديون وبقية الدولة الأوروبية، ولذلك يشعرون بالكراهية للأمريكيين.
أما المرتبة الرابعة: فالآسيو(99/15)
كسر الحاجز النفسي بينهم وبين المسلمين
إنهم يسعون إلى كسب الثقة والقبول لدى المسلمين حكاماً وشعوباً، فهم يدركون أنهم لا يستطيعون أن يتحركوا في جو يكرههم ويبغضهم ويخاف منهم، ولهذا حرصوا على كسر هذا الحاجز من خلال وسائل كثيرة، مثلاً من خلال المحور السابق وهو تكثيف أعداد النصارى، فإن الإنسان إذا تعود أن يرى النصارى سهل عليه ذلك، وأصبح أمراً مألوفاً.
الأمر الثاني: من خلال كثرة الاتصال والتعامل مع الناس في التمريض والعلاج.
وقد ذكر لي بعض الشباب -وهذا أمر ثابت- أن هناك دكتوراً موجوداً في المستشفى يتجول على الشباب، ويخرج معهم في خرجاتهم، ويتكلم معهم ويحادثهم ويضاحكهم، ويتصل بألوان شتى مع الشباب التائهين ومن الشباب العاديين أيضاً في هذا البلد وفي غيره.
ومن الوسائل: الحث على الزيارة والمجالسة، ومن الطريف أنه ذكر لي أن أحد الإخوة الذين كانوا يعملون في القرى، يقول: كان هناك باكستاني نصراني مقيم في المستوصف في تلك القرية التابعة لمنطقة القصيم، ويقول: منذ عشرين سنة، وهو يعمل وينتقل من قرية إلى أخرى، فيقول: علمت أن عنده البارحة مناسبة أخبرني عنها خادم المدرسة، فقلت: من كان معكم؟ قال بعض الإخوان: فلما تحرى الخبر وجد أن هذا الرجل قد دعا إمام المسجد، ومؤذن المسجد، وبعض الناس، والمستخدم، وتكلم معهم في بعض الأمور، وكل ما قاله لهم: هذه الدعوة هي بمناسبة عيد ميلاد المسيح، فتعجب هذا الشاب وقال للمستخدم: كيف تذهب؟ فقال له: ليس في هذا شيء، مجرد أنه يحتفل بعيد ميلاد المسيح، أي: هو لم يدعهم إلى النصرانية وإنما قال لهم: أنا أحتفل الليلة بعيد ميلاد المسيح، ومن أجل الاحتفال قدمت لكم هذا الطعام.
الوسيلة الثالثة: النقاش البريء بينهم وبين المسلمين وإبعاد قضية الدين.
والكثيرون لا يصدقون هذا الكلام الذي نقوله، ويقولون: أنتم تبالغون! وأنتم تفهمون الأمور على غير وجهها! لماذا؟ لأنه قد يرى نصرانياً واحداً ظاهر حاله أنه لا يهتم بالنصرانية، ولا يدعو إليها ولا ينصر الناس في حقيقة أمره، وإذا تناقشوا لا يظهر عنده أي حماس، فيظن صاحبنا أن معنى ذلك أن هذا الرجل غير متحمس للنصرانية، والواقع أن الغربيين والأوروبيين بشكل عام عندهم هدوء وبرود في أعصابهم، فقد يكون أحدهم متحمساً ولكنه بارد الأعصاب، فيناقشك ولا ينفعل، ولا يظهر الحماس للنصرانية، وقد يستمع منك سباً لقومه ولدينه ولنفسه، فيواجه ذلك بابتسامة، ولا يظهر الغضب والانفعال، كما أن شعورهم بأن المنطقة حساسة يدعو إلى أن يكون هناك توصيات كثيرة للمنصرين هنا ولصانعي الخيام بأن عليهم أن يتلطفوا في دعوتهم وألا يظهروا أي قدر من الحماس للنصرانية، بل يحرصون على إبعاد قضية الدين.
ومن الوسائل أيضاً: ما يسمى بالحوار الإسلامي المسيحي، وهو حوار يطول، وهناك لقاءات كثيرة ومؤتمرات، ومن ذلك أنه عقد لقاء وحدة وطنية كما ذكرت جريدة آخر ساعة في عدد (1997م) لقاء الوحدة الوطنية بين مفتي مصر والبابا شنودة، وتكلموا بكلام طويل عريض، ونشرت أخبار هذا اللقاء، بل نشر في التليفزيون المصري وشوهد هنا في جدة والمنطقة الشرقية والرياض وغيرهما من المناطق التي يمكن أن تستقبل البث المصري، والأغرب في الأمر أنه كان ضمن هذا الاجتماع بعض وزراء الأوقاف في بلاد إسلامية.
وفي الخليج تجد أن هؤلاء النصارى تحالفوا مع كل أحد، فهم مستعدون أن يتنازلوا عن كل شيء في سبيل كسب المزيد من الانتصارات، فهم تحالفوا مع الشيطان، وتحالفوا مع اليهود، وبرّءوا اليهود من دم المسيح كما هو معروف في عقيدتهم، وتحالفوا مع الفساد والانحلال والرذيلة، واعتبروا أن ألوان الفساد الخلقي ذريعة إلى إغراء الشباب ودعوتهم إلى النصرانية، فأي شئ يمنعهم إذن من أن يظهروا أنهم مستعدون للحوار مع المسلمين؟ وأن هناك نقاط لقاء كثيرة جداً بينهم وبين دين الإسلام؟ وقد أصبح هذا الأمر يثار بشكل كبير, خاصة في هذه المنطقة، والصحف الكويتية تركز على هذا المعنى كجزء من دعوتها إلى تغريب المنطقة وأمركتها.
إذن هم يسعون عبر المحور الرابع إلى كسر الحاجز النفسي بينهم وبين المسلمين, وكسب الثقة عند الحكام حتى يتمكنوا من القيام بدعوتهم ويحتفظوا بمواقعهم وكسب الثقة لدى الشعوب الإسلامية، هذا مع أن أكثر العاملين كما أسلفت في هذه القطاعات هم من الطابور الخامس وعملاء للمخابرات الأمريكية والغربية -عملاء على الشعوب وعملاء على الحكومات- وبعض من قبض عليهم في حايل كان معهم وثائق تدل على انتمائهم لبعض أجهزة المخابرات الغربية، ولكنهم مع ذلك يظلون محتفظين بمواقعهم لأسباب عديدة.(99/16)
العمل على تقليص أعداد المسلمين
ولقد لاحظوا أن المسلم خاصة في هذه المناطق يصعب خروجه من الإسلام، وأن المسلمين لديهم كثافة عددية كبيرة, وفي البيت الواحد تجد عشرة أو خمسة عشر من الأطفال، ولذلك أدركوا أنه لا بد من السعي إلى تقليص أعداد المسلمين بكل وسيلة، فهم يشعرون أن المسلم من الممكن أن يستيقظ ولو بعد حين، وشعارهم: لا تثق في المسلم ولو أعطاك كل شئ، ولو كان علمانياً، ولو مد لك عربون الولاء والطاعة؛ لأنه قد يتغير عليك يوماً من الأيام، وما يتوقعونه هو في نظري معقول إلى حد ما، لأننا نجد أن أحداث البوسنة والهرسك مثلاً قد أيقظت الكثيرين إلى الخطر النصراني.
وقد سمعت تقريراً عن تركيا يقول فيه أحد كبار المسئولين فيها -وهي دولة علمانية كانت تستحي من أي شئ يمت إلى الإسلام بصلة-: إنه يعترض على سياسة الغرب في العراق، ومحاولة تدخله في العراق، وأن الغرب يكيل بمكيالين ويزن بميزانين، وأنه يتعامل بسياسة مزدوجة، فلماذا يتدخل الغرب الآن لحماية الشيعة في العراق، ولا يتدخل لحماية المسلمين في البوسنة والهرسك؟! فهذا ما قالته تركيا وهي دولة علمانية.
وهكذا نجد أن كثيراً من الصحفيين في مصر، بل في الكويت، بل في هذه البلاد وفي غيرها، أصبحوا يتكلمون عن الخطر النصراني القادم بسبب ملاحظتهم لأحداث البوسنة والهرسك والغموض في الموقف الغربي بل البرود، وبدلاً من أنهم أثاروا هنا قبل سنتين عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، فهناك أثاروا عاصفة الكلام والجعجعة التي لا تخرج منها بطائل.
إذن هم يلاحظون الكثرة العددية للمسلمين، وأنه لا بد من تقليص هذا العدد، وفي مجلة اليمامة عدد (1110) ذكروا أن الجمعيات التنصيرية توصي الأطباء -وهذا ينبغي أن يكون موضع اهتمام- النصارى القائمين على توليد النساء بأن يحرصوا على أن تكون الولادة من خلال عملية قيصرية، وذلك حداً للتكاثر لئلا تتمكن المرأة من ولادة أكثر من أربعة أطفال؛ لأنه بالعملية القيصرية لا يمكن المرأة من ولادة أكثر من أربع مرات، وهذا العمل بعينه يفعله الأطباء النصارى في مستشفياتنا، فمتى يفيق أولئك الذين يجعلون الرجال -بل والرجال النصارى قائمين على توليد نساء المسلمين في هذه البلاد؟ ويتصورون أن هؤلاء الرجال علمانيون لا يعنيهم أمر النصرانية في شيء؟ ومتى يفيق الآباء والأولياء والأزواج الذين يحرصون على تحفيظ زوجاتهم وتسترهن، فإذا ذهبت إلى المستشفى أهملوها وتركوها ونسوا أنها تنكشف تماماً حتى عورتها أمام رجال أجانب، وأمام رجال في كثير من الأحيان من النصارى؟!! أما المسئولون عن الصحة خاصة في هذا البلد، فلا أتحدث عنهم لأننا جربنا أن تجاوبهم لا يتعدى ابتسامات صفراء بلهاء في منتهى البرود، وليس هناك أي تغيير، بل على النقيض من ذلك، ففي الوقت الذي نجد فيه مضايقة لبعض الممرضات المسلمات، نجد أن بعض الشباب من هذه البلاد يتم نقلهم من المستشفى إلى مستوصفات بعيدة ونائية بل أحياناً إلى مستوصفات لم تفتح بعد لا لسبب إلا لأنهم ملتحون.
ونرجع إلى موضوع تقليص أعداد المسلمين: إن هذا التقليص لأعداد المسلمين يعتمد على مبدأ أن التنصير والتعميد صعب، وأن النصارى سوف يخوضون مع المسلمين معركة مستقبلية يسمونها معركة هرمجدون وهي المعركة بين الحق والباطل -المعركة الفاصلة- ولهذا لا بد من التفكير بتقليص عددهم، فكيف يكون؟ يكون بتقليص العدد من خلال إغراء المسلمين بتحديد النسل أو بتقليل النسل، ويكون تقليص أعداد المسلمين من خلال إلغاء عقود بعض المسلمين واستبدالهم بالنصارى، ويكون ذلك من خلال تعقيم أرحام النساء، كما ذكرت من خلال بعض العمليات القيصرية، بل يكون أحياناً من خلال إجراء عمليات وقتل المسلم فيها على الأقل على سبيل اللامبالاة، وهناك حالات كثيرة تجد أن النصارى لا يبالون بالمسلم، فيموت بين أيديهم نتيجة الإهمال على أقل الأحوال، وتجده هندوسي أو نصراني أو بوذي أو ما أشبه ذلك.
ويكون تقليص المسلمين من خلال العمل على القضاء عليهم بالقتل، فالمعركة العسكرية واردة في اعتبار النصارى، ولذلك قارن الدكتور: استيفر رانسمان في التقرير التنصيري (إزهار مؤقت في الصحراء) بين جهود المنصرين في الخليج وبين الحروب الصليبية، وقال: إن الحروب الصليبية لم تصنع شيئاً يذكر، أما الجهود التنصيرية فهي أكثر نجاحاً، وهذه المقارنة تدل على أن مسألة ما يمكن أن نعبر عنه بالتصفية البدنية والجسدية للمسلمين واردة في قاموس النصارى وفي اعتبارهم.(99/17)
التنصير السياسي
فإن النصرانية أو التنصير والاستعمار واحتلال البلاد هما وجهان لعملة واحدة، وجميع جهود التنصير مدعومة من دوائر الاستخبارات الأجنبية، وهناك مقبوضون كما ذكرت ثبت ولاؤهم وعمالتهم لتلك الأجهزة.
والهدف السياسي للفاتيكان كبير، فإن الفاتيكان الآن ثبت نجاحه لدى المخابرات الأمريكية في إسقاط الشيوعية، وفي مجلة التايم الأمريكية الصادرة في (24) فبراير من هذا العام تقرير خطير عن دور الفاتيكان في إسقاط الشيوعية, وتكلموا عن دور البابا شخصياً في إسقاط الشيوعية أولاً في بولندا، من خلال دعم ما يسمى بنظام التضامن، ثم تطور هذا الأمر، وكيف كان يمدهم بالأموال والأجهزة: أجهزة التصوير وأجهزة الفاكس والرسوم والصور والخبراء والمعونات والنصائح إلى غير ذلك، وكان النصارى في كنائسهم هم الذين يقومون وراء الثورة على الشيوعية في بولندا، ويتسترون من خلال ذلك بالمنظمات: كمنظمة العمال وغيرها المعروفة هناك، ولذلك سعوا إلى أن يقوم الفاتيكان بدوره في بلاد أخرى.
وليس من قبيل الصدفة أنه فتح للفاتيكان سفارة في الكويت قبل بضعة شهور، هذا فضلاً عن أن السفارات في الدول الإسلامية تقوم بتنظيم الطقوس الدينية والاتصال الدائم المنظم بمواطنيها وبغيرهم, وهناك رسائل للمواطنين في هذه البلاد من قبل بعض السفارات تدعوهم إلى السفر وتغريهم وتزودهم بالصور الخليعة والعارية، إضافة إلى وجود مراكز للترفيه ودورات تعليمية تقوم بها تلك السفارات، إضافة إلى أعياد الميلاد والاحتفالات والنشاطات.
وعلى سبيل المثال نشاط الجالية الأمريكية في الرياض مثلاً، حيث تم توزيع خطاب حتى في مصلحة الزكاة والدخل على الموظفين، يقول الخطاب: إن الجالية الأمريكية في الرياض سوف تقوم بنشاط خلال الصيف، وعلى من يرغب بالمشاركة في هذا النشاط تسجيل اسمه أو ما أشبه ذلك، وعمم هذا على العاملين في مصلحة وفي إدارة ليس لها علاقة من قريب ولا من بعيد بالسفارة هناك.
وهذا إضافة إلى إقامتهم للجامعات والمدارس، ففي الخليج العربي هناك الجامعة الأمريكية، وقد تكلمت عنها الصحف، وأشادت خضراء الدمن - جريدة الشرق الأوسط- بهذا الإنجاز الغربي الذي تلتقي فيه حضارة الغرب بعقول الشرق في منطقة الخليج العربي، إضافة إلى أنه أعلن عن إقامة فرع للجامعة الأمريكية في إحدى السفارات في الرياض، ونشرت أوراقها، وقد بلغني خبر أن هذه الجامعة أوقفت، ثم جاءتني أخبار أخرى أنها مازالت تقوم بعملها، وتدرس الشباب من الجنسين -من الرجال والنساء- تدريساً مختلطاً.
والجامعات الأمريكية في بيروت وفي القاهرة وفي غيرها كانت أوكاراً لتخريج العملاء للغرب وتخريج الوجوه السياسية التي تستخدم لصالح الكنيسة.
وهذه الجهود التنصيرية السياسية تسعى إلى تكوين أرضية صلبة للعلاقة بين الغرب وبين دول الخليج العربي من خلال هذه الوسائل الكثيرة: السفارات والقنصليات، الأعداد الكبيرة من الآتين هنا، والنشاطات المتنوعة، والجامعات، والمدارس وغيرها.
وهناك أيضاً مما يتعلق بهذا معهد الدراسات الدبلوماسية، وهو ينظم دورات لزوجات الدبلوماسيين وغيرهم، من أجل تعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية وتعليم الثقافة الدبلوماسية للنساء، فهنا سؤال -طبعاً هذا يتم في الرياض- ماذا سوف تدرس المرأة هنا؟ ومن الذي سوف يدرسها؟ وما هي الغاية من دراسة الثقافة الدبلوماسية للنساء؟ إضافة إلى أن هناك مدارس كثيرة على هذا الإطار.
ومما يتعلق بما ذكرناه سابقاً، جاءت ورقة قبل قليل تقول: شركة سعودية كبرى تطلب موظفين لوظائف شاغرة وهي: عبارة عن مشرفات أمن وللسعوديات فقط، والمؤهل العلمي الثانوية العامة أو ما يعادلها، إضافة إلى خبرة في مجال العمل لا تقل عن سنتين, والمؤهلات ترسل على العنوان التالي في الخبر عناية مدير الخدمات الأمنية، وهذا قد نشر في الجريدة بتاريخ 25 صفر.
إذاً مشرفات أمن سوف يكن سعوديات من خريجات الثانوية وخبرة في مجال العمل لمدة لا تقل عن سنتين! وقد يكون هناك شروطاً خاصةً مثل ما في أرامكو في بعض برامجها، حيث أن من الشروط ألا تكون الفتاة متزوجة! طال الأمر! وذلك يدعوني إلى إنهاء الموضوع، ولا شك أنه كان عندي الكثير الكثير من الوثائق المؤذية والمزعجة من جنس ما ذكرت وما لم أذكر؛ لأني رأيت أن إعطاء نموذج واحد يكفي، وإلا فالأمر جسيم والخطب عظيم، ونحن حين نتحدث عن مثل هذه الأمور ندعو إلى أن يكون للمسلم العادي دور في الوعي بمثل هذه الخطط ومقاومتها، والسعي إلى أن يكون له دور في الدعوة إلى الله عز وجل.(99/18)
المنظمة المسيحية العالمية
فقبل عدة سنوات تم كشف منظمة تنصيرية في الرياض، وهذه المنظمة اسمها: الجمعية المسيحية العالمية، أو الجمعية المسيحية الدولية في الرياض، وتضم في عضويتها أكثر من ستمائة عضو، ولاشك أن أعضاءها آخذون في الازدياد، ولها قائمة بدليل التليفونات للمنتسبين إليها، وتقول هذه المنظمة: إنهم قد عرفوا وأن انتماءهم إلى هذه المنظمة كان في الأصل في المنامة، ويوجد مهندسون زراعيون أمريكيون منتسبون إليها وآخرون، ومن المنتسبين إليها رجل اسمه: سميث وهو مهندس زراعي، وآخر اسمه: وليم، وثالث بريطاني ورابع لبناني إلى غير ذلك، وكانوا ينتمون إلى هذه الجمعية ولهم مواقع في السليمانية في الرياض وفي غيرها، وقد تم كشفهم، وسُفِّر عدد من أعضاء هذه الجمعية، ولا يغيبن عن بالك أن كثيراً من هؤلاء يذهبون ثم يستطيعون أن يعودوا بأسماء أخرى؛ لأن عدداً منهم منتسبون إلى أجهزة المخابرات العالمية التي تعطيهم وثائق مزورة، فقد يخرج الواحد منهم وسفّر خروجاً بلا عودة باسم، وبعد حين يتبين أنه جاء باسم آخر وبوثائق أخرى مختلفة.
وكذلك من إحدى الوثائق المتعلقة بهذا، وثيقة بل مجموعة ضخمة جداً من الوثائق وصلت إليَّ عن: المنظمة العالمية لعيسى المسيح المحدودة.
وهذه المنظمة موجودة في حايل، وقد تم كشفها منذ أسابيع، ومازالت المعاملة جارية، وبحسب المعلومات التي وصلت إليَّ، فإنه لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن، أي أن الموضوع لا يزال جديداً.
وتهدف هذه المنظمة إلى أمور منها: أولاً: نشر الإنجيل حسبما جاء في كلمة الله.
ثانياً: نشر التعليمات والتدريب عليها، وزرع روح الانضباط بين الأتباع.
ثالثاً: النمو والترقي تحت مباركة الرب يسوع.
أما عقائدهم فهي الإيمان بعيسى، وأنه إله، وأنه مات من أجلنا -كما يقولون- وسيعود، والإيمان بالثالوث، وأن الكتاب المقدس هو كلمة الله.
وهناك وثائق تتعلق بهذه المنظمة العالمية، مثل أعضاء مجلس الإدارة، وكثير من العاملين فيها موجودون في شركة الكهرباء، وأحياناً يستغلون الأوراق الرسمية أو الهاتف أو بعض المستشفيات، وهناك محاضر اجتماعات وتقريرات لهم، وسوف أقرأ عليكم على سبيل المثال فقط رسالة صدرت عن هذه الجمعية.
وهذا نموذج للرسالة التي بعثت بها تلك المنظمة إلى أحد خريجيها، الذي تخرج من هنا، وذهب داعياً إلى النصرانية في الصين، فكتبوا إليه هذه الرسالة: الحمد لله أمجد الله الحي من خلال عيسى المسيح، وصل إلي خطابك اليوم، وسلم إلي بواسطة الأخ توني، وسعدت لمعرفة أن الإله قد وجهك إلى الصين، هيجني الروح القدس، فانسابت الدموع على خدودي، تذكر أنك أخي في المسيح، فأنت جزء مني في سفارتنا إلى إلاهنا الممجد المسيح، سوف أرسل إليك مساعدة مالية، مصاريفك في الرحلة إلى الصين بالإضافة إلى العلاوة، وسوف نهتم بك اهتماماً طيباً.
ونحن الآن نتحرك في كنيسة المنظمة العالمية للمسيح المحدودة كنيسة حايل؛ لتأمين لوازمك المادية؛ ولتغطية مصاريفك في الصين، وسوف يرسل الملك لك إن شاء الله إلهنا عيسى الأسبوع الثالث من نوفمبر، الممرضة نانسي ستهتم بمجموعة مستشفى الملك خالد، وروبن سيدير مجموعة هادكو في عملية جمع رحمات الإله لتغطية سفرك وإقامتك في الصين، أدعو الله أن يبارك في المسيح وأن يبارك لك، وسوف ندعو لك، وأعتقد من كل قلبي أن الله يخبئ خططاً رائعة في حياتك، ابق على الرفقة معه، وكن على ثقة به.
أخوك في المسيح.
ملاحظة: أرجو ألا تتحرج من طلب المساعدة منا؛ لأنك لا تزال في قلوبنا؛ فقد تخرجت من المنظمة العالمية للمسيح المحدودة فرع حائل- المملكة.
وهذه الأوراق كثيرة تعادل ملفاً بأكمله، وكما قلت: إنني سوف أبعث بها إلى المشايخ والعلماء، وهذا النموذج أيضاً من جهودهم في التنصير لأولئك الذين يعملون على وجودهم وتكثيفهم في هذه البلاد.(99/19)
دور المسلم تجاه التنصير
وخلاصة الأهداف التي نهدف إليها من خلال عرض مثل هذه التقارير سوف تتبين إن شاء الله من خلال الحلقة الأخيرة في الأسبوع القادم وهي كيف نقاوم التنصير.(99/20)
مدرب يوغسلافي يعلن إسلامه
وهنا أيضاً موضوع سبق أن ذكرته أيضاً في الجلسة الماضية: موضوع وجود مدرب نصراني في أحد الأندية الرياضية، وقد جاءتني أوراق متعددة تتعلق بهذا المدرب، فنشر في بعض الصحف -نشر في جريدة الرياض- أنه قد تم إلغاء عقد هذا المدرب، وكان هذا تصريح من مدير النادي العربي، وهذه صورة من الخطاب: بعث إليَّ فضيلة مدير مكتب الدعوة في عنيزة، للمشاركة تضامناً مع إخواننا مسلمي البوسنة والهرسك، فقد تم إلغاء عقد المدرب المذكور، فإنه سيتم صرف مستحقاته المالية بما في ذلك الشرط الجزائي لإلغاء العقد، هذا من جانب، لكن بعد ذلك جاء خبر آخر ناسخ للأول نشر في عدد من الصحف منها الرياضة، حيث أعلن هذا الخبر أن المدرب " استيفن بنيا " مدرب الفريق الكروي بالنادي العربي، أعلن اعتناقه للدين الإسلامي، وأنه قال: إنه أسلم بناءً على المعاملة الحسنة التي تلقاها من الإخوة في النادي ومن شباب هذا البلد الكريم.
وهذا تقرير أيضاً جاءني من مكتب دعوة الجاليات بعنيزة، ويقول: قد علمت من هؤلاء أن المدرب اليوغسلافي قد أسلم ونطق بالشهادتين بحضور بعض مندوبي النادي، وحرصاً منا على استقصاء الأسباب والدوافع فقد تم سؤال المدرب عن تلك الأسباب، وأجاب بأنه رأى المسلمين هنا وتعاملهم، فأراد أن يسلم، وبعد ذلك تم سؤاله عن ديانته النصرانية، فأجاب بأن هناك اختلافات فيها وآلهة متعددة، وأنه لا يعرف الحقيقة، ثم تم سؤاله إذا كان يعتقد بحياة الآخرة فقال: ربما، ثم قال: إذا كان الإنسان طيباً ومات، فإنه يذهب إلى الإله، وأما السيئ فلا يعلم إلى أين يذهب، فقلنا له: جهنم، فقال: ربما، فقلنا: ماذا عن النصراني الذي يعمل أشياء طيبة؟ قال: يذهب إلى الإله، ثم سألناه: أيهما أسهل اتباعاً الإسلام أم النصرانية؟ فقال: النصرانية! فقلنا له: لماذا إذن لا تبقى على نصرانيتك؟ فلم يجب، وتم سؤاله عن اعتقاده حول عيسى، فقال: إنهم يقولون الإله أو ابن الإله، ولكنه هو لا يعلم! ولما سألناه عن محمد ماذا يعرف عنه؟ قال: إنه الإله! وأما القرآن فقال: إنه كلام محمد! وخلاصة القول: إن الرجل أُنطق بالشهادتين وهو لا يعلم شيئاً عن الإسلام، وما يعتقده يخالف ما نطق به، وهو ظاهراً يبدي الرغبة للدخول في الإسلام، أما باطناً فعلمه عند الله، وفي هذه الحالة يستحسن أن يشرح له الإيمان والإسلام، وبعد أن يعلم ماذا يجب أن يعتقده ويعمل به، ويعلم كيفية أداء شعائر الإسلام، يمكن أن يعلن إسلامه ويتابع من قبل الجهة المختصة قبل إصدار الصك بشأنه.
وهذا الكلام الذي ذكره الإخوة أمر طيب، فنحن أولاً نقول: ليس لدينا مانع أن يدخل أي إنسان في الإسلام، حتى رئيس الصرب نفسه لو أعلن الإسلام فباب التوبة مفتوح، ونحن لا نستطيع أن نمنع أحداً كائناً من كان أن يدخل في دين الإسلام، وبمجرد أن يعلن الإنسان الشهادة فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يجب أن نكف عنه، ونعتقد أنه أسلم، ثم بعد ذلك نعلمه الإسلام شيئاً فشيئاً.
ولا شك أن هناك ملابسات في الحادث واضحة، ولكنني بقدر ما أشكر الإخوة في النادي على دعوتهم لهذا الرجل إلى الإسلام، وأقول: إننا يسرنا بكل حال أن يكون هذا الإعلان انتصاراً للإسلام أياً كان الأمر، إلا أننا نقول: ينبغي تعاهد هذا الرجل وتعليمه دين الإسلام عقيدة وعبادة وسلوكاً، فإذا تبين أن الرجل التزم بما أعلنه فعلاً، فأظهر الالتزام بالعقيدة الصحيحة فالحمد لله رب العالمين، وهو أخونا، له ما لنا وعليه ما علينا على رغم أنوفنا أيضاً، لأنه ليس لنا إلا الظاهر، والله تعالى يتولى السرائر، أما إذا تبين أن الأمر بخلاف ذلك، فأقول: لكل حادث حديث، ولكني أوجه الإخوة وكذلك الإخوة في مكتب توعية الجاليات بعنيزة جزاهم الله خيراً، أن يحرصوا على متابعة هذا الرجل، ولا داعي للضغط عليه الآن ما دام أعلن الإسلام، فلابد أن نعطيه الفرصة ليعرف الإسلام حقيقة، ثم بعد ذلك يؤمن به إيماناً صحيحاً، هذا وأسأل الله تعالى أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار وعذاب النار إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(99/21)
المراجعات - 2 -
هناك ضوابط لابد منها في موضوع النقد، وللإنسان حق في الدفاع عن نفسه، ويحتوي هذا الدرس على بعض صور النقد الذي وُجِّه إلى الشيخ، وكذلك الجواب عليه.
وفيه بعض الوثائق والرسائل المتعلقة بهذا الموضوع، إضافةً إلى ذكر المراجعات التي وجهت إلى الشيخ، وهي مراجعات فنية، وحديثية، وفقهية، ولغوية.(100/1)
أنت وليس أنا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا هو الدرس (76) من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الاثنين الثامن من شهر جمادى الأولى من سنة (1413هـ) .
وعنوان هذا الدرس هو "المراجعات الثانية" وقد كنت تحدثت قبل أشهر حديثاً عنوانه: (المراجعات) صححت فيه بعض الأمور، ورجعت إلى بعض المسائل، وتكلمت عنها بما فتح الله عز وجل.
أما اليوم فهذه هي الحلقة الثانية من المراجعات، أول عنوان: (أنت وليس أنا) .
إن هذه الدروس والمحاضرات هي بعض مشاركاتكم، فأنا مدين لله عز وجل ثم لكم جميعاً، رجالاً ونساء، شيوخاً وشباباً، من داخل البلاد وخارجها، سواء من كاتبوني، أو راسلوني بالفاكس، أو شافهوني بما لديهم.
أنتم يا هؤلاء الذين كتبتم إلي بالموضوعات المقترحة، وبعثتم إلي بالعناصر، وحشدتم لي النصوص، وأعنتموني على طرق هذه الموضوعات، إنه درس مهم في الاستفادة مما عند الآخرين، وفتح الأبواب لهم في المشاركة.
إن هذه الدروس والمحاضرات والندوات، بل هذه الأشرطة التي تشرق وتغرب إنها ليست لي، بل هي أفكاركم أنتم، وآراؤكم، وعلومكم.
هي: أحاديثكم وإن كانت بصوتي، وبصماتكم وإن كانت بيدي، وإملاءاتكم وإن كانت بقلمي.
فأنا مدين لكل من بذل ولو شيئاً يسيراً، ولكنني على هذا وذاك أتحمل مسئوليتها ولا بد، في الدنيا وفي الآخرة، فلكم حارها وعلي قارها، فأما في الدنيا فهي من كلامي ولفظي وقولي، ولا شك أنني مسئول عنها، ومحاسب، ومسآءل، ومعاتب.
ومن حق أي أحد عليَّ أن يطلب التحقيق والتدقيق، وأن يسأل عن الإثبات والبينة.
إنني حريص إن شاء الله تعالى ألا أقول لكم شيئاً إلا بيقين عندي لا شك فيه، ولو تسامح الإنسان وقال كل ما يظن، أو ما يغلب على ظنه، لكان الأمر شيئاً آخر غير ما رأيتم وسمعتم، ولكنني آليت ألاَّ أقول إلا ما علمت أنه حق بيقين.
إن من احترام المستمع، أو القارئ، أن يوثق الإنسان له كل ما يقول، ويذكر له، فهذه المسئولية الدنيوية، أما المسئولية الأخروية فشيء عظيم قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
وروى البخاري في صحيحه في كتاب: الرقائق، باب: حفظ اللسان، ومسلم أيضاً في باب: الزهد، ومالك في الموطأ كتاب: الكلام، باب: ما يكره من الكلام، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم} وفي حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه} والحديث رواه أبو داود، والترمذي، ومالك وغيرهم، وهو حديث صحيح.
قال بعض الصالحين: " كم من كلمة منعنيها حديث بلال ".
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: " الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار، هي التي يقولها عند السلطان الجائر بالبغي، أو بالسعي على المسلم، فتكون سبباً لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك، لكنها ربما أدت إليه فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي يرفع الله بها العبد الدرجات، ويكتب له بها الرضوان، هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرج بها عنه كربة، أو ينصر بها مظلوماً ".
وقال بعض أهل العلم: " الكلمة التي يسخط الله تعالى عليها، هي: الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها ويسخط الله تعالى ".
ولا شك أن الأمر أوسع من ذلك، فالكلمة التي ترضي الله تعالى قد تكون عند السلطان، وقد تكون في جريدة، وقد تكون في إذاعة، وقد تكون في الرأي، وقد تكون في مجلس، وقد تكون في غير ذلك، وقد تكون في كتاب، أما الكلمة التي يسخط الله عليها فقد تكون في ذلك كله.
ومع ذلك فإن باب التوبة مفتوح، وإمكانية التراجع عن ما يسخط الله تعالى قائمة، ولهذا شرعت النصيحة بين المسلمين، لعل مخطئاً أن يتوب وينزع، أو غافلاً أن يصحو أو نائماً أن يفيق.
وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم} .
ولهذا فإن من حق بعضنا على بعض أن نتعاون على معرفة الخطأ وتصويبه والرجوع عنه، كما نتعاون في إعداد الموضوعات، واقتراح الدروس، وإلقاء المحاضرات.
وإنني كما أعربت عن شكري لأولئك الذين وافوني بأشياء تتعلق بدروس، أو محاضرات، أو مقترحات، فإنني أشكر أكثر وأكثر أولئك الإخوة الذين يعينوني على معرفة الأخطاء، وعلى اكتشاف العيوب، سواء كانوا من الأصدقاء، أم من غيرهم.
وإذا كان الشاعر يقول: عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هُمُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا إذا كان هذا كلامه عن عدوه، فكيف ترون وتظنون أن أقول عنكم أيها الأصدقاء! الذين تنطقون بالنصيحة بكل الحب، والوداد، والرغبة في تجنب الخطأ، وإدراك الصواب، والوصول إلى المعالي.
إن هذا لا شك يقال لكم من باب الأولى، فلكم أنتم فضل كبير، ومنة كبرى في عنق كل من ساهمتم في تصحيح خطأ وقع فيه، أو استدراك أمر فاته، ولكم مع ذلك كله الدعاء الخالص الحار، أن يرفع الله بهذه الكلمات درجاتكم، وأن يوفي بها يوم الحشر حسناتكم، وأن يجعلكم بها من الدرجات العلى في الجنة، وأن يوفقكم بها لكل خير، ويجنبكم كل شر.(100/2)
النقطة الثانية: وثائق التنصير
وفي ما يتعلق بوثائق التنصير أيضاً، فإنني أقدم شكراً ودعاءً لكل المخلصين الذين ساهموا في نشر هذا الموضوع، والحديث عنه، وترويجه، وإيصاله لمن يعنيه الأمر، ولعلني أجدد الشكر في هذه المناسبة لمجلة الإصلاح الإماراتية التي نشرت أحد هذه الدروس في حلقتين عبر أسبوعين، كما أشكر الأخ الكريم مازن مطبقان الذي كان كتابه أحد مراجعي في موضوع التنصير، وقد كتب في جريدة المدينة مقالاً أشاد فيه بهذه الدروس، فشكر الله تعالى له، وإني أشكره أيضاً على تنبيهه حيث نبهني على أن كتابه المطبوع بعنوان "التنصير في منطقة الخليج العربي" أن هذا الكتاب هو عبارة عن رسالة علمية وليس تقريراً كنسياً كما توهمت وذكرت في إحدى تلك المحاضرات.
ثم إن هناك سؤالاً يطرح نفسه حول موضوع التنصير، كيف تحل هذه المشكلة الكبيرة، إنها مشكلة تتفاقم وتزداد يوماً بعد يوم، وتأتينا الليالي الحبالى بالأخبار العجيبة عن تطور في موضوع النصرانية والتنصير وأعمالهم في بلاد المسلمين، وليس أمر هذه الأعمال بجديد، فكيف يمكن حل هذه المشكلة؟(100/3)
وقفة مع كتاب (أرامكو وامتياز النفط)
إنني قد اكتشفت أيها الإخوة كتاباً لم يكن عندي منه علم، وبعث إلي به أحد الإخوة من منطقة الحجاز، فجزاه الله خيراً عني أفضل الجزاء وأوفاه.
هذا الكتاب لفت نظري عنوانه: أرامكو وامتياز النفط، وهو كتاب عجيب، لقد أدركت أن الناس منذ زمن بعيد يتكلمون عن مثل هذه الأمور، ويعلنونها بكل وضوح، وأن العالم كله يتحدث عن مجريات الأحوال، وربما يتكلم الإعلام الخارجي أحياناً بشيء من التضخيم والمبالغة عما يجري في هذه البلاد، فهل كتب علينا نحن فقط أن نظل لا ندري ماذا يدور حولنا، ولا نتحدث عنه، ولا نسمعه، ونستكثر حتى مجرد أن يكتب كتاب، أو يؤلف، أو تلقى كلمة، أو محاضرة، أو خطبة عن هذا الموضوع، أو ذاك!! إننا لن نفرح بإصلاح واقعنا إذا لم نكتشف الداء بأنفسنا، ونشترك جميعاً في علاجه، ونمنح الحق كل الحق لمن يريد النصيحة، والتقويم، والنقد الهادف البناء المبني على الحقائق والوثائق، لا على المبالغة والتهويل.
إن النصيحة ليست حقاً للإنسان يجب تمكينه منها، لا.
ولكنها واجب شرعي عليه، يأثم بتركه، وقد قام مروان بن الحكم يوماً يخطب في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بخطبة العيد قبل الصلاة، فقام إليه رجل فأنكر عليه وبين له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصلاة تسبق الخطبة فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أما هذا فقد قضى ما عليه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} .
إن إنكار المنكر باليد وباللسان هو قرين الإيمان، ولا يلجأ على الاقتصار على القلب إلا أولئك العاجزون، الذين خرست أفواههم عن النطق بكلمة الحق، وشلت أيديهم عن أن يساهموا بتغيير المنكر بأنفسهم، فهؤلاء قد عذرهم الله تعالى إذا نصحوا لله ولرسوله، وبذلوا ما يستطيعون، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وهو النصيحة في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنني أعجب وحق لي أن أعجب، أن بعث إلي أحد الإخوة في ذلك الكتاب المشار إليه أرامكو وامتياز النفط! هذا الكتاب كتبه الخبير أحمد طاشكندي، وهو موجود في المكتبات، وأعتقد أنه متداول أيضاً، ولو على النطاق الضيق، وهو عبارة عن تحقيقات حول شركة أرامكو، أتدري أين نشرت؟! نشرت في جريدة الندوة، ونشرت في جريدة الخليج، ثم طبع هذا الكتاب عام (1380هـ) قبل ما يزيد على (32) سنة.
ومن الأشياء التي عمل الكتاب على توضيحها ما يلي: أولاً: ذكر بعض النصوص المتعلقة بعقد الامتياز لهذه الشركة وما جرى عليها من تعديلات.
ثانياً: ذكر تصرفات المسئولين الكبار من الأمريكيين في هذه الشركة.
ثالثاً: ذكر طرق العمل، وحالة العمال، والموظفين العرب والمسلمين في تلك الشركة.
يقول ضمن ما يقول: إن الموظف الأمريكي يعتقد أنه صاحب الفضل الأول في كل هذا الخير الذي يتدفق من أرضنا الطيبة.
يقول أحد الموظفين الأمريكان: هل تعلمون أنكم مدينون لنا نحن الأمريكيين لما وصلتم إليه من تطور وتقدم في حياتكم الاقتصادية والاجتماعية! فلولا وجودنا لما استطعتم إخراج الزيت من الأرض! وهذا الكلام الموجود في الكتاب وهو منشور أيضاً في جريدة الندوة في (6/4/1379هـ) .
وكذلك ذكر نماذج من معاناة المسلمين، بل وأهل البلد الأصليين، من العاملين الكبار في الشركة، وإهدارهم لحقوق العمال والفنيين المسلمين، ونماذج أخرى من التلاعب المالي الذي تمارسه الشركة بحق الموظفين، وتتحكم بعلاواتهم، وترقياتهم وميزاتهم الوظيفية، ونماذج من استقلالية الشركة بأنظمتها، وعدم خضوعها لأحكام التشريع الإسلامي، وأنها قررت الاحتفاظ كما يعبر بجنسيتها الأمريكية، والعمل بموجب قوانينها الخاصة، دون أية مراعاة للصالح العام في البلاد، ونماذج من خططها لفصل الموظفين من أهل البلاد، وإبقاء من لا يفصل منهم دون خبرة ولا معرفة، إلى آخر ما ذكر.
وهذا الكتاب يؤكد الحق في الحديث عن مثل هذه الأمور، بل والإعلان عن ذلك من خلال وسائل الإعلام الممكنة كتباً كانت، أو محاضرات، أو مقالات في صحف، أو غير ذلك، إنه أقل ما يجب للمخلصين الغيورين، الحريصين على مصلحة دينهم وبلادهم.
وهذا الكتاب حين أتحدث عنه هو جواب على ذلك التساؤل الذي ربما أثاره بعض الإخوة، وتساءلوا لماذا يكون الحديث عن هذه الموضوعات بشكل علني؟ فأقول: إنها ليست أسراراً، إنها أمور يعرفها الكثيرون، ويعرفها الخاص والعام، وتتحدث عنها وسائل الإعلام الغربية كما أسلفت بشيء من التهويل والمبالغة، فهي تنشرها أحياناً، وقد تتحدث عما تسميه بالفضائح والمسلسلات، والروائح العفنة، التي تفوح في مواقع عدة ولا تتستر عن شيء من ذلك، ويقرؤها الكثيرون، ويعرفها الكثيرون، فلماذا يظل الأخيار والصالحون والمتدينون، هم فقط الذين لا يدركون هذه الأشياء ولا يعرفونها؟! مع أنني أعتقد أنهم أكثر من غيرهم قدرة على الإصلاح والتغيير بإذن الله تعالى، متى صحت النية، وصدقت العزيمة.(100/4)
ضرر معرفة أخبار التنصير
وفيما عدا الكلام عن أرامكوا، فقد وصلني كمٌ هائل من الموضوع عن التنصير، في جدة، والرياض وفي المنطقة الشرقية عموماً، بل وفي القصيم وغيرها، فلماذا نتستر على هذه الأخبار، والمعلومات؟! وما هو الضرر الذي يحدث لنا إذا عرفنا هذه الأشياء؟! إن الضرر الوحيد في نظري يعود على النصارى أنفسهم، فقد يشعرون أنهم يتحركون في أرض غير آمنة بالنسبة لهم، وأن العيون تلاحقهم، وأن خططهم كثيراً ما تكشف بسبب تزايد الوعي وتناميه، وإدراك الناس لأهدافهم ومقاصدهم وهي: إخراج الناس عن دينهم {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] نعم قد حملوا السلاح في يوغسلافيا، وأعلن زعيمهم بقوله: لن نتوقف عن القتل حتى نرى الصليب يلمع على صدوركم.
ولكنهم حملوا سلاحاً من نوع آخر في البلاد الإسلامية كلها ولا أستثني منها؛ حملوا سلاح الإغراء بالتطبيب، والإغراء بالخبرات، والإغراء بالأعمال وغيرها.
إنهم يكتبون التقارير المفصلة عن نشاطاتهم، وينشرونها في كل دول العالم، فأي ضير إذاً أن يلاحق المسلمون هذه النشاطات، ويكتشفوها، ويكشفوها! والنصارى فقط ليسوا موظفين في مؤسسات حكومية، بل هم أطباء في مستشفيات؛ مستشفيات أهلية، وعاملون في شركات خاصة وعامة، بل وموجودون لدى أفراد كخدم وسائقين، أو غير ذلك! ولعل من الأخبار المفزعة المزعجة أن تعلم بما علمته أنا قبل أيام من مصادر موثوقة، أن رجلاً من أهل هذه البلاد الطيبة؛ بلاد الحرمين الشريفين، {التي يأرز الإيمان فيها كما تأرز الحية إلى جحرها} رجلاً وفير الثراء، يملك عدداً من مؤسسات المال، يقوم بتزويج بناته المسلمات إلى بعض النصارى! هل أدركت حجم هذا الخطر!! لقد عرفت أيضاً أن فتاة دخلت في مذهب أهل السنة والجماعة، وكانت قبل على مذهب التشيع، فتزوجها واحد من شباب أهل السنة، فقامت الدنيا ولم تقعد حتى تم الطلاق، وتدخلت في ذلك جهات عدة مع أن هؤلاء الشيعة يقولون عنا ظاهرياً وبألسنتهم، يقولون عنا: أنتم مسلمون مثلنا، ويقولون: لا فرق بيننا وبينكم، فهنا أتساءل فلماذا الغضب إذاً أن يتزوج مسلم مسلمة؟! فهل ترى يظل أهل السنة وحدهم هم الصامتون على الهوان، الذين لا يدرون ماذا يدور حولهم؟!(100/5)
رسالة فريدة
أما التعليق الآخر، وهو مراجعة مهمة: فقد وصلتني رسالة أيضاً من بعض الإخوة في المنطقة الشرقية، وهي رسالة أقرؤها عليكم، لأنها تشكل الفقرة الثالثة وعنوانها "رسالة فريدة".
إنني أقرأ عليكم أجزاءً من هذه الرسالة، وفيها كلام يكتب بماء الذهب، ويكفي في تقريره والدعوة إليه وتوكيده، أنني سأخصص له هذه الدقائق لأقرأه عليكم بحروفه.
يقول بعد كلام: وقبل أن استطرد -هذا كلامه- أرجو أن لا تسيء فهمي، فإنني والله موافق لك على ما قلت، ولكن قبل محاضرة (59 طريقة لمكافحة التنصير) نحتاج إلى علاج أنفسنا، ومع علمي بأنني على قدر يسير من المعرفة، إلا أنني وجدت نفسي لا إرادياً أسطر لكم هذه الملاحظة.
لقد فهم البعض من محاضراتك أن السبب هم النصارى، وأذنابهم، وأتباعهم، وأما نحن فحمل وديع لا ذنب لنا في ما يحدث، كل ما يصيبنا بقضاء الله وقدره، كل ما يحدث لنا هو من المؤامرات التي تحاك علينا، أما نحن فلسنا ملومين: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا نعم، إن العيب فينا، فنحن نعلم، بل نتعايش مع تلكُمُ المنكرات التي ذكرتم، والكثير غيرها، فماذا عسانا عملنا!؟ أين نحن من الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} الحديث.
الكثير منا لم ينكر حتى بقلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل إن الغالبية تستهويهم الشياطين، ويخدعهم سراب الحياة الاجتماعية الغربية، فتراهم هم الذين يشجعون أصحاب تلك المنكرات على نشرها، ولا يقتصر هذا التشجيع على المشاركة بل يتعداه إلى تأمين ما يحتاجه أولئك النصارى من الخارج! فيا ترى من الذي يؤمن لهم أدوات الاحتفال بعيد الميلاد؟! ومن الذي يحضر لهم بابا نويل؟! ومن الذي يدافع عن المقبوض عليهم أحياناً من قبل الشرطة والمباحث؟! من الذي يحجز لهم المنازل لإقامة حفلاتهم وطقوسهم الدينية؟! ومن؟! ومن؟! ومن؟! إنهم وللأسف سعوديون يعلمون بحرمة ما يصنعونه، ولكنهم قوم كما قال تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] إنهم عبدة الدينار والمنصب، والهوى والشيطان! إنهم منا، هم إخواننا وأبناؤنا، هم أقاربنا، هم جيراننا، إنهم من يعتقد بأنهم النخبة، وهم في الواقع نخبة معكوسة.
أولئك قوم كثير منهم لديهم علمنة، أو جهل، ولكن ماذا عنا نحن الملتزمين؟! هل نحن معفون ولا مسئولية علينا؟! أم نحن موقوفون، وعن تفريطنا مسئولون؟! إن الكثير منا نحن الملتزمين جبناء، أو لا مبالون، بل منا من لا يحضر الصلاة إلا وقت الإقامة، وينصرف من المسجد قبل أن يصلي السنة، خوفاً من رئيسه، أو تهاوناً.
إن البعض منا لا يمانع عن التعامل مع النساء بالطريقة نفسها التي يتعامل بها سواه، حتى لا يقال عنه: إنه معقد! البعض منا لا يمانع أن يكتب الربا، إن بعض الملتزمين لا يهمه أن يلمز المطاوعة، ويلصق بهم التعقيد والتزمت، دون أن يدافع عنهم.
أما في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وإنكار المنكر، على قلة القائمين بذلك، إلا إنهم على طرفي نقيض، فهم إما متحفظ إلى درجة لا يحرك معها ساكناً، أو متحمس إلى درجة كبيرة بحيث يضر بنفسه وبالآخرين، فَتُوأَدُ الفكرة أحياناً قبل ولادتها.
والله المستعان! إن الحكمة في الدعوة إلى الله والإنكار -وهي ضالتنا- مفقودة، إن المنصرين يعملون بهدوء، وبشكل لا يلفت النظر، بشكل يبدو فردياً وهو منظم.
أما نحن فحتى الآن لم نستطع أن نضع أرجلنا على بداية الطريق، نحن لم نعمل شيئاً، كل الذي عملناه هو تجميع بعض المعلومات، وأرسلنا بها شكوى إليكم، أو إلى الوالد العالم العلامة الإمام عبد العزيز بن باز، أو إلى الشيخ سفر الحوالي، أو غيره.
إن إيماننا بالله تعالى قليل، ونفوسنا ضعيفة، إننا حتى الآن نعتقد أن البداية في هذا الطريق هي نهايتنا، فنحن نخاف على مناصبنا، على مستقبلنا، على أولادنا وعيالنا وبيتنا وسيارتنا، ولا زلنا نعتقد أن أرامكو أو الأمريكيين لا يمكن وقفهم عند حد، لازلنا نفكر بالطريقة القديمة القائمة على المجابهة، ولا زلنا نعتقد أن كلاً منا عليه من الرقيب والعتيد ما يكفيه!.
ولذلك تجدنا نتوقف قبل أن نبدأ، لا زلنا نعتقد أن تغيير المنكر يحتاج إلى مراسيم عليا، ونسينا أن المنكرات بدأت من طريق أفراد، وأن إنهاءها يحتاج إلى أفراد معدودين.
إنني أقول: إن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، فلو خطا كل منا خطوة لقطعنا المشوار في زمن قياسي، لكننا ننتظر المشايخ أن يغيروا كل شيء، والله المستعان! إننا قوم لا ندري ما هو المطلوب منا، نسمع المحاضرة وكأن المعني بها قوم آخرون، أما نحن ففي مهب الريح! خذ مثلاً: ردة الفعل التي حدثت بعد محاضراتك، البعض سمع الأشرطة مثلما يسمع أية محاضرة، والبعض يقول: نعرف هذا من زمان، والبعض أشاع أن الأشرطة لا تنتشر، أنها توقف، أو تحارب، والبعض يقول: إن مجلس أرامكو مجتمع لدراستها، والبعض يقول: إن الأمريكان الذين ذكرت أسماؤهم تقدموا بشكوى عن طريق القنصلية، ليس هذا فحسب، بل إننا نتحدث عنها عن هذه الأشرطة والخوف يملأ قلوبنا لئلا تسمعنا بعض الجهات! إن لنا أجسام الجمال ولنا عقول ربات الجمال! يا ترى هل هذا ما كنت توده منا؟! هل هذا ما كنت تود أن توصله لنا؟! لا أظن ذلك، ولكنا لسنا بعد جاهزين، أو مهيئين لذلك الدور الطلائعي المطلوب منا، لن يغير الله تعالى ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا.
سنستوعب محاضراتك وغيرها عندما يصبح الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، سوف ندرك المرامي عندئذٍ، عند ما نكون عبيداً لله عز وجل، لا نشرك به شيئاً، ولا نشرك معه شيئاً، عندما تكون الدنيا في أيدينا نستطيع التفكير في ديننا، أما الآن فالدنيا في قلوبنا ولا نفكر في شيء سواها، رحم الله محاضرات التنصير، وشريط (صانعو الخيام) حتى نتوب إلى رشدنا.
أرجو أن لا يكون كلامي هذا مثبطاً، فهذا واقعٌ لا أظنك تجهله، إن ما أريده هو أن نجلس مع أنفسنا جلسة هادئة، ونسأل أنفسنا ماذا نريد؟ إن الإجابة على هذا السؤال في نظري هو المعيار، فإما أن نختار الله والدار الآخرة، عندها فقط تستطيع أن تسمعنا ماذا نريد، أو أننا نريد الحياة الدنيا وزينتها، عندها لا بد من العودة إلى المربع رقم واحد، نتعلم معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نتعلم التوحيد وأصوله، نتعرف على سيرته صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه الغر الميامين.
لا بد أن نتعلم ليصبح فينا مثل ذلك الأعرابي الذي قال لـ عمر: " والله لو قلت عن الطريق هكذا، لقلنا لك بسيوفنا هكذا "، لا بد من فهم حديث {احفظ الله يحفظك} .
إذا كان الخيار الثاني هو خيارنا، ولا أظنه والله إلا خيار الغالبية، فأمامنا وقت طويل، ومشوار بعيد، حتى نستيقظ من غفلتنا، عندها سوف يكون أمامنا مهمات عظيمة من نوع آخر.
ختاماً أسأل الله جلت قدرته أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
هذا ما قاله الأخ الكريم.
وإنني أثني جيداً على ما قال، وأؤكد على قضيتين منهما:(100/6)
نحن لا نعفي أحداً من المسئولية
الأولى: إن هذا الكلام الذي أقوله، أو يقوله غيري، لا يعفي أحداً أبداً من مسئولية تربية الناس على كتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله، وعلى فهم معاني العقيدة الصحيحة.
فإن الذين كانوا يخوضون المعارك، وقد جعل الواحد منهم راحته على كفه، هم أولئك الناس الذين امتلأت قلوبهم بالخوف من الله تعالى ومحبته ورجائه، وآمنوا بالدار الآخرة، حتى كأن الواحد منهم يراها رأي عين؛ فهانت الدنيا في نفوسهم، وجعلوها تحت أقدامهم وصار الواحد منهم في المعركة يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فلا بد من تعميق الإيمان في النفوس، وتحريكها في القلوب، وبعث ما اندثر منه، وإزالة الغبار منه، وإلا فلن نتحرك أبداً.(100/7)
لن نتوقف عن كشف المنكرات
الثانية: أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن نتوقف عن كشف المنكرات، وإعلان النكير على أصحابها، والدعوة إلى تغييرها، وبذل المستطاع في مقاومة ألوان الحرب التي توجه نحو الإسلام والمسلمين.
فالدعوة إلى الإيمان، وإلى تجديد الإيمان، وإلى تصحيح العقيدة، وإلى التوحيد، هذه لا تعارض أبداً كشف خطط المنصرين، ولا تعارض أبداً دعم المشاريع والأعمال الإسلامية، ولا تعارض أبداً الاهتمام بأحوال المسلمين في يوغسلافيا أو في الصومال، أو في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في أي بلد من البلدان.
إننا يجب أن لا نلهو بشيء عما هو مثله، أو أهم منه، فهذه المشاكل التي نعانيها يجب أن لا تلهي الدعاة إلى الله تعالى، والخطباء، والمدرسين، وطلبة العلم، عن غرس العقيدة الصحيحة في النفوس، وإزالة كل ما يعارضها، أو يناقضها من ألوان الانحرافات، والمخالفات، والمنكرات، والبدع، بل ومن ألوان التعلق بالدنيا، وشهواتها، الخوف من غير الله تعالى، محبة غير الله تعالى، الرجاء في ما عند المخلوقين، والغفلة على أن الله تعالى هو الذي بيده كل شيء.(100/8)
وللنساء نصيب
أما الوقفة الرابعة في هذه المراجعات فهي بعنوان: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء:7] .
وقد جاءتني رسائل عديدة من بعض الأخوات، تعترض على جعل المرأة مع الرجل جنباً إلى جنب في مسئولية الدعوة إلى الله تعالى، وذلك رغم المعرفة بظروف المرأة، والقيود الموجودة عليها.
تقول إحدى الأخوات: إنني أملك من النشاط والتفرغ ما لا تملكه كثيرات غيري، وأحمل في قلبي من الحرقة والهم لهذا الدين ما لا يعلمه إلا الله، ومع ذلك فلا أستطيع أن أقدم إلا الضئيل القليل، إلى آخر رسالتها.
فأقول تعليقاً على هذا الكلام الذي ذكرته لي غير واحدة من الأخوات: إن القيود التي يتحدثن عنها نوعان:(100/9)
فتيات داعيات
وفي تلك الرسالة نفسها التي عقبت فيها الأخت الكريمة -جزاها الله خيراً- على موضوع متابعة الموضة والأزياء وقص الشعر وما يتعلق بذلك.
ذكرت بأنها تراجع في مثل هذه الأمور أصحاب الفضيلة المشايخ؛ كسماحة الشيخ ابن باز وغيره، وتبلغ الفتيات بمثل هذه وسواها، وتود أن لا تسمع البنات إلا مثل هذه الأمور.
وإنني أشكر للأخت الكريمة، وزميلاتها، أشكر لها أولاً قيامها بالدعوة إلى الله تعالى، فإن هذا أمر عظيم، وهي الوظيفة التي كلف بها الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن قام بها فهو وريثهم الذي يرجى أن يحشر معهم يوم القيامة في الجنة، مع {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] .
فهنيئاً لهؤلاء الأخوات الكريمات، هذه الوظيفة التي شغلن أنفسهن وأوقاتهن وأعمارهن بها، وظيفة الدعوة إلى الله، وإنكار المنكر، ونشر العلم الشرعي، ونشر الحق في أوساط الفتيات، في وقت قل من يقوم بذلك، وكثر فيه المغرضون، والمرجفون، والداعون إلى الانحراف، والداعون إلى محاكاة الأنماط الغربية والشرقية، في أوضاعنا الاجتماعية والعائلية وغيرها.
وأود أن أؤكد للأخت الكريمة أن هذا المسلك الذي سلكته في مراجعة العلماء والمشايخ هو عين الصواب، فإن الإنسان لا ينبغي أن يستبد برأي، أو اجتهاد، إلا بعد أن يراجع أهل الشأن والعلم فيه، ويحادثهم، ويناقشهم، ويعرض عليهم، حتى يطمئن على صواب ما توصل إليه.
وهذا هو الأمر الذي نسلكه بحمد لله، ويسلكه غيرنا من طلبة العلم في مثل هذه الأمور وغيرها، وشكر الله للأخوات كثيراً على ذلك.
ثم إن هذه المسائل تظل في جملتها مسائل اجتهادية، ليس فيها قطع، ومن وصل فيها إلى رأي، أو اجتهاد لم يسعه أن يترك رأيه أو اجتهاده لرأي غيره، ولا أن يلزم غيره بذلك، فإنه حينئذٍ ترك ما رأى أنه الحق لتقليد، وقد قال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-:" أجمع أهل العلم أن المقلد لا يعد من العلماء ".
والله تعالى لا يسألنا يوم القيامة ماذا أجبتم فلاناً العالم! أو فلاناً المفتي! أو فلاناً الداعية! ولكن يقول كما أخبرنا جل وعز: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] .
فهذا هو السؤال (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) فإذا كان الإنسان لديه دليل من قرآن، أو آية من كتاب الله تعالى، أو حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، أو إجماع من أهل العلم قائم، فلا يسعه أن يترك ما ظهر له من ذلك لقول أحد كائن من كان.(100/10)
انتقاد وجواب
كما أن هناك أخوات كثيرات ينتقدن عدم طرح الموضوعات المتعلقة بهن.
وجوابي على ذلك: أولاً: أن هذا صحيح وأنا أسلم بما ذكر، وأن أموراً وموضوعات شغلتنا عن قضية النساء، وتجاوباً مع هذا فإنني أقول: سوف يكون درس الأسبوع القادم إن شاء الله بعنوان (أنصفوا النساء) .
أما النقطة الثانية: فإنني أقول: إن بعض الأخوات يتحملن جزءاً من المسئولية، في عدم موافاتي كتابياً بالموضوعات، والمشكلات والاقتراحات، التي يكون من المناسب عرضها.
إنني أرى أن كثيراً مما يردني من الأخوات إنما هي عبارة عن مشكلات شخصية، أو أسئلة خاصة، تتطلب جواباً شخصياً، فهل يدل هذا على قلة من يتحملن الهم العام في الدعوة إلى الله بين النساء؟! آمل أن لا يكون الأمر كذلك.(100/11)
التعلق بالموضة وأسباب تحريمه
أيضاً أخت ثالثة تحدثت عما ورد في بعض الأشرطة والدروس، كشريط: طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب وغيره، وحول موضوع الموضة وما يتعلق بها.
وأذكر مرة أخرى رأيي باختصار في هذا الموضوع، فأقول: هناك فرق بين فتاة تتابع الموضة أولاً بأول، وتتابع التسريحة، كلما صدرت مجلة في الأزياء، أو ما يسمى بالبردة، اقتنتها وأخذت منها الجديد، وتجد أنها يوماً تقلد الشرق ويوماً تقلد الغرب، وتتابع عروض الأزياء بكل دقة وعناية، حتى كأنه لا هم لها إلا خياطة الثياب، وتفصيلها، واقتنائها ومتابعة الموضة، فهذا لا يشك عاقل في أنه محرم لأسباب: 1- أهمهما وأعظمها أنه صورة واضحة من التشبه بالمشركين، وقد روى أبو داود وأحمد وغيرهما عن ابن عمر بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} كما نهى الله تعالى عن التشبه بأهل الكتاب بقوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] أخذ بعض المفسرين وبعض أهل العلم من الآية النهي عن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا من أصول الدين العظيمة التي تكلم عنها العلماء، ولعل أهم كتاب ألف في هذا الباب هو الكتاب العظيم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم للإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فكون المسلم أو المسلمة لا هم له إلا معرفة الجديد في عالم الموضة، أو في عالم التسريحات، أو في غيرها، ومتابعة دور الأزياء الغربية، التي كثيراً ما يقف وراءها اليهود، ثم يلاحق ذلك أولاً بأول، لا شك أن هذا فيه تشبه بهم أولاً.
2- ثم إن فيه من شغل الوقت، والقلب، والعقل، وضياع العمر، ما يقطع معه المدرك بأنه من أول وأول ما يدخل في باب المحرمات، هذه مسألة.
لكن هناك مسألة أخرى تختلف عن ذلك اختلافاً كبيراً، هناك فتاة صالحة وجدت تفصيلاً لثوب بشكل معين، فأعجبها هذا التفصيل، ثم أجرت عليه التعديلات الشرعية، فإن كان قصيراً طولته، وإن كان ضيقاً وسعته، وإن كان فيه فتحة كبيرة صغرتها، وإن كان بلا أكمام وضعت له الأكمام، ثم خاطت على هذا النمط فهنا لا أستطيع أن أقول: إن مثل هذا العمل ممنوع، بل هو في رأيي مباح، شريطة أن لا يكون هذا ديدنها، وعادتها التي تركض وراءها كما أسلفت في النقطة الأولى.(100/12)
القيود الاجتماعية على المرأة
أما ما يتعلق بالقيود الاجتماعية، فلا شك أن بعض المجتمعات قد تفرض على المرأة أشياء ليست واجبة في الشرع، لكن المجتمع ليس لديه رغبة في أن يتساهل بشأنها، لاعتبارات كثيرة لا مجال للحديث عنها.
ولا شك أن المرأة حينئذٍ مطالبة بمراعاة الحكمة بقدر المستطاع، ومحاولة أن تقوم وتقدم أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا شك أنه كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] .
مثلاً: هذه فتاة في بيتها، تقوم بالدعوة إلى الله، وإلقاء الدروس عند النساء، وأمرهن بالمعروف، ونهيهن عن المنكر، وتبيين حدود ما أنزل الله على الرسول، فتجد من والدها اعتراضاً على خروجها، وتجد من أمها أيضاً اعتراضاً، فالوالد يرى أن خروج البنت من المنزل عيبٌ عليها، والأم ترى أن في بقائها في المنزل مساعدة على أعمالها ومسئولياتها، فحينئذٍ تحتاج هذه الفتاة المؤمنة الداعية إلى التوفيق بين هذه الأشياء كلها.
فلا بد من السعي إلى نيل رضاها، ورضى والدها، وأن يكون خروجها تحت سمعه وبصره، وأن تكون معتدلة في الخروج، بشكل لا يدعو إلى القلق والانفعال.
كما عليها أن تسعى إلى إرضاء والدتها، بالقيام ببعض الأعمال التي تستطيعها وقت فراغها.
ثم إن عليها مع هذا وذاك أن تدرك أن مسئولية الدعوة مسئولية كبرى، وأن عليها أن تضحي في سبيلها بجزء من راحتها ووقتها.(100/13)
المسئولية مشتركة بين الرجل والمرأة
ملاحظة أخرى من بعض الأخوات، وأيضاً في ما يتعلق في الموضوع السابق، فإنني أذكر بأن ما قلته من أن المرأة والرجل في الأصل مسئوليتهم مشتركة أنه صحيح، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] وقال سبحانه في غير موضع: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] إلى آيات أخرى كثيرة ذكر الله تعالى مسئولية المرأة فيها ومسئولية الرجل أيضاً.
وفي سنن الترمذي وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {النساء شقائق الرجال} ومعنى قوله: {شقائق الرجال} جمع شقيقة، والشقيق هو: المثيل، والنظير، كأن الشقيق وشقيقه شُقَّا وقُطِعَا من شيء واحد، فأحدهما صورة عن الآخر.
والأمر كذلك كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1] فقد خلق الله تعالى حواء من آدم وخلق منها زوجها كما جاء في بعض الآثار عن ابن عباس وغيره، وهناك أحاديث تدل على هذا المعنى في الصحيحين وغيرهما.
إذاً فالأصل أن مسئولية المرأة هي نفسها مسئولية الرجل، إلا أن يأتي دليل يدل على تخصيص الرجل بحكم شرعي فيعمل به، أو دليل يدل على تخصيص المرأة بحكم شرعي فيعمل به.
على سبيل المثال: صلاة الجماعة واجبة على الرجال بالنص، ولكنها ليست واجبة على النساء، فهذا حكم يخص الرجل ولا يلزم للمرأة، وهناك أحكام تتعلق بالنساء ولا تتعلق بالرجال وهي كثيرة معروفة جمعها الشيخ صديق حسن خان في كتابه: حسن الأسوة فيما ورد عن الله ورسوله في شأن النسوة.
هناك أخت أخرى تنفي ما سبق أن ذكرته في بعض المناسبات، أن بعض الأخوات الملتزمات قد تنشغل بدعوتها وعبادتها وصلاحها وقراءتها وعلمها، قد تنشغل بذلك عن نفسها، فتقصر في أمر ملابسها، أو أمر بيتها وتنظيمه، أو أمر زوجها، أو ما أشبه ذلك، أو لا تهتم بمظهرها.
وتنكر هذه الأخت وجود مثل ذلك، وجواباً على هذا أقول: إن هذه الحالة حالة موجودة، وإن كنت أعترف للأخت ولغيرها أنها قليلة فعلاً، وللأخت الكريمة أن تنفي هذا الأمر الذي ذكرته عن نفسها، ولها أن تنفيه عمن حولها، وعمن تعرفه، لكن من الصعب أن تنفي هذا عن جميع الأخوات الملتزمات.
أما أن يكون أهل الشر والفساد قد يستغلون مثل هذا الكلام، ويعممونه ويلصقونه بكل الملتزمات، وكل الداعيات، فإنني أقول: لا يجب أن نخاف من هؤلاء، أو نتستر على أخطائنا من أجلهن.
الخطأ لا مانع من معالجته ومناقشته، والحديث عنه دون تشهير، ودون تحديد، ودون تنقص، ودون تضخيم له، لكن لا مانع من الحديث عنه {فإن الدين النصيحة} كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحديث عن هذه الأخطاء هو بإذن الله تعالى السبيل لإزالته، فإن الأخطاء لا تكبر وتتضخم وتتسع وتتراكم إلا بالسكوت عنها، والتستر عليها.
ثم لماذا يكون لنا الحق في نقد جميع طبقات المجتمع؛ فننقد الأطباء والمستشفيات، وننقد التجار، وننقد الموظفين والمسئولين، وننقد الإعلام، وننقد جهات كثيرة ومتعددة، ثم لا يكون الحق مشابهاً في أن ننقد أنفسنا؟! إن هذا ليس من العدل في شيء.
بل ينبغي لنا أن ننتقد أنفسنا، حين أتكلم أو يتكلم غيري عن أهل الخير والصلاح والدعوة فإن الله تعالى يعلم أن الواحد كأنما يتكلم عن نفسه، ولكن لا يرى مسوغاً أن يتستر، أو يسكت عن هذه الأشياء.(100/14)
القيود الشرعية على المرأة
النوع الأول: هي القيود الشرعية، أي: أن الشرع جعل هناك قيوداً على المرأة، مثل: أن الرجل يسافر حيث شاء، أما المرأة فلا تسافر إلا مع ذي محرم، فهذا لا شك قيد شرعي، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} فهذا قيد صحيح، وهو قيد شرعي يجب اعتباره، ولا يعفي المرأة من التزام هذا القيد أن تحتج بأنها قصدت الدعوة إلى الله تعالى، فإن ما عند الله تعالى لا ينال بمعصيته.
وبشكل عام فالرجل يأتي قبل المرأة، والله تعالى يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ويقول سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] فالمرأة لا تتمنى منزلة الرجل، وقد جعل الله تعالى لكل نصيباً وجعل لكل قدراً، ولكن أيضاً لدى المرأة عبوديات لا توجد مع الرجل، فقد أمرها الشرع بأشياء من تربية أولادها، ورعايتهم، وحسن سياستهم، ومن العناية بزوجها، وحسن استقباله، وتسهيل الأمور له، وإعانته على أمر الدعوة، وتسهيل المهمات في طريقه، إلى غير ذلك مما لا يستطيعه سواها، كما إنها تستطيع من وسائل الدعوة، ونشرها، والقيام بها في أوساط بنات جنسها، ما لا يقدر عليه الرجال، فهذا فيما يتعلق بالقيود الشرعية.(100/15)
الوقفة الخامسة: تصحيحات
وهي تتعلق بتصحيحات وافاني بها جمع كبير من الإخوة، أكرر أني لا أملك لهم إلا أن أدعو الله لهم من قلبي أن يجعل الله ما تقدموا به في ميزان حسناتهم، وأن يرفعهم الله تعالى به درجات في الدنيا وفي الآخرة، وأن يجزيهم به عني خير الجزاء.(100/16)
تصحيحات فقهية
أيضاً ضمن التصحيحات بعض التصحيحات الفقهية: 1- عدد السنن الرواتب: فمن ذلك ما يتعلق بالسنن الرواتب، وكنت ذكرتها في درس (هكذا صلى الأنبياء) وأعيدها الآن توكيداً وتوضيحاً، مع أن الأمر فيها واضح لا لبس فيه.
فالسنن الرواتب جاءت في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عشر ركعات، والحديث متفق عليه.
وفيه قوله: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح} فهذا يدل على أن الرواتب خمس يعني: عشر ركعات.
وجاء في حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على أنها اثنتا عشر ركعة، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة} فدل هذا على أنها اثنتا عشرة ركعة، منها: أربع قبل الظهر.
والجمع بين هذين الحديثين هو كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد: إما أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعاً, وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين.
وهذا أظهر.
وإما أن يقال: كان يفعل هذا ويفعل هذا، يعني: يفعل هذا وهذا في وقت واحد.
يعني: يصلي أربعاً في بيته وركعتين في المسجد فيكون المجموع يصلي ستاً، هذا احتمال، أو أربعاً في البيت وركعتين في المسجد، وقد روي هذا المعنى عن أبي السائب رضي الله عنه مرفوعاً، وعن ابن مسعود وأبي أيوب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم.
أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، فتارة يصلي أربعاً وتارة يصلي ركعتين.
2- فتوى بخصوص العمل في مؤسسة الراجحي: المسألة الفقهية الثانية التي راجعني فيها بعض الإخوة، هو ما يتعلق بالفتوى التي ذكرتها قبل أسبوعين في العمل في مؤسسة الراجحي، وقد قال لي بعض الإخوة: إنه وجد عندهم بعض المعاملات، سواء في القسم النسائي في الذهب، أو في البيع بالتقسيط، أو في غير ذلك، فأقول جواباً على هذا: أولاً: الذي أفتيت به هو كان جواباً عن سؤال العمل في بنك الراجحي، والذي أرى أن العمل في هذا البنك الأصل فيه أنه جائز ولا دليل على منعه، والأصل في أنظمة هذا البنك أنه لا يتعامل بالربا، ولو أتيت لتودع مالاً مقابل أخذ فائدة؛ لم يقبلوا منك ذلك، فهو لا يقبل مبدأ الإيداع الربوي الذي تقوم عليه البنوك الأخرى، وهذا أمر ظاهر.
ثانياً: قد يحدث من بعض العاملين، أو بعض المسئولين في مكاتب فرعية مثلاًَ، أو بعض المباشرين الذين يتولون الأمر مع الناس، قد يحصل منهم تساهل أو تفريط أو تقصير، وقد جاءني أشياء من ذلك، وسألت العاملين والمسئولين الكبار في الشركة، وفي مجلس الإدارة، فقالوا: إننا لا نقر شيئاً من ذلك قط، وإننا نطلب أن يوافينا كل إنسان بأي معاملة تكون مخالفة للشريعة، سواء عن طريق معاملات التقسيط أو غيرها.
وإن ذلك لا تقره الشركة، ولكنه قد يحصل من بعض الأفراد العاملين فيها، فأطلب من بعض الإخوة الذين يجدون أشياء من هذا القبيل أن يكتبوا للعاملين في الشركة، ويواصلوهم بذلك، وأعتقد إن شاء الله أن لديهم رغبة أكيدة في التصحيح، والوصول إلى المستوى المطلوب من الناحية الشرعية.
علماً أن هناك هيئة رقابة شرعية قائمة على هذه المؤسسة، وفيها جماعة من العلماء الفضلاء، كالشيخ عبد الله البسام، والشيخ صالح الحصيّن وغيرهم، وهم حريصون على هذه الأمور إن شاء الله بشكل كبير.(100/17)
تصحيحات لغوية
هناك مجموعة من الإخوة وافوني بتصحيحات لغوية كثيرة، سواء في قواعد اللغة العربية، مثل موضوع العدد والمعدود وعدم مراعات القواعد النحوية فيها بالنسبة لي، وكوني أخطئ في ذلك.
أو بعض الكلمات التي أنطقها أحياناً بطريقة غير صحيحة، وأنا أشكر للإخوة هذه الملاحظات وأطلب منهم المزيد.
إن الإنسان أحياناً يكون قد أخذ لسانه منذ الصغر على نطق الكلمة بشكل معين، ثم عرف الصواب، ولكنه لم يتعود لسانه عليه، فيحتاج إلى وقت حتى يتخلص من ذلك، وأعتقد أننا بالتنبيه نفلح في اختصار الوقت، فجزاكم الله خيراً.
من الكلمات التي لاحظها الإخوة كلمة: (وصِل) ، والصواب أنها: (وصَل) بفتح الصاد، وأيضاً كلمة بتسكين الميم، وكنت أنطقها أحياناً بضم الميم، وأشكر هؤلاء الإخوة وأعدهم بمحاولة التغلب على ذلك كله.(100/18)
تصحيحات حديثية
هناك نوع آخر من الملاحظات والتصحيحات وهي أمور حديثية: فقد كتب إلي عدد من الإخوة عن بعض الآثار والأحاديث التي كنت سقتها في مناسبات متنوعة وتحتاج إلى تخريج، أو إلى استدراك.
وأذكر لكم شيئاً من ذلك: 1- ما أُثر عن عمر في الخمر: فمنها: أنني في محاضرة وأعتقد أنها كانت بعنوان "التربية الوجدانية" ذكرت أثر عمر رضي الله عنه قوله: [[والخمر ما خامر العقل]] ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواقع أن هذا ليس بحديث مرفوع، ولكنه أثر موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه البخاري في كتاب: التفسير، من صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [[أما بعد أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير.
قال: والخمر ما خامر العقل]] .
2- أثر علي (أحبب حبيبك هوناً ما) الملاحظة الثانية: أثر علي رضي الله عنه: [[أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] فقد ذكرت هذا الحديث وعزوته إلى الترمذي وغيره مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والواقع أن هذا الحديث رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الدارقطني في كتاب الأفراد، والبيهقي أيضاً في الشعب عن علي رضي الله عنه ورواه البخاري في الأدب المفرد، وابن عدي، والبيهقي في الشعب عن علي رضي الله عنه موقوفاً عليه، ورواه غيرهم عن عمر رضي الله عنه كما في كتاب الأدب المفرد للبخاري.
وقال الترمذي عن هذا الحديث: " هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه " ثم ضعف الحديث المرفوع ثم قال: " الصحيح عن علي موقوف من قوله " يعني: أن الحديث لا يصح مرفوعاً بل هو موقوف، وهذا الذي رجحه جماعة من أهل العلم، وكأنه هو المعتمد، وإن كان بعض أهل العلم الكبار رجحوا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال فالمسألة مسألة اجتهادية تعتمد على البحث والنظر.
يبقى كلام في معنى الحديث: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] .
إن الحديث يدعو إلى الاعتدال في المحبة، فهذا الذي تحبه ربما يتحول يوماً من الأيام إلى عدو مبغض، واعتدل أيضاً في البغضاء، فربما كان هذا العدو الذي تبغضه أشد البغض ربما تحول يوماً من الأيام إلى محب.
وهذا المعنى ورد في القرآن الكريم قال الله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] وعسى من الله واجبة كما قال المفسرون، كما قال ابن عباس وغيره: فتحول هؤلاء القوم الذين كانوا أعداء مبغضين، تحولوا إلى أصدقاء محبين موالين مناصرين، فينبغي على الإنسان أن يعتدل في حبه وبغضه.
ولهذا جاء في المثل (لا يكون حبك كلفاً) أي: تسرف في المحبة، وتعطي العواطف بلا قياس، حتى إنك تجد في بعض المجتمعات، وفي بعض مدارس البنات، ومدارس الأولاد، ما يسمى بالإعجاب.
أن البنت تتعلق بمدرسة، أو حتى بزميلة تعلقاً شديداً، فتصبح لا تصبر عنها ساعة من نهار، تكلمها، وتحادثها، فإذا غابت عنها اتصلت بها في الهاتف، وتقلدها بأصواتها، وحركاتها، ومشيتها، وملابسها، وتسريحتها، وكل شيء حتى تذوب شخصيتها في شخصية تلك الأخرى وكأنها ظل لها! وهذا لا شك أنه مذموم، ومن تأله القلب، وتعلقه بغير الله تعالى، ويخشى أن يؤدي بالإنسان إلى لون من ألوان شرك المحبة قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] .
فينبغي للعبد أن يحذر من ذلك، وأن لا يجعل قلبه مسرحاً ومرتعاً للتعلق بفلان وفلان، فيكون عنده محبة معتدلة للخير وأهله، وإذا أبغض فينبغي أن يكون بغضه معتدلاً (لا يكون حبك كلفاً ولا يكون بغضك تلفاً) فالاقتصاد في العواطف إذن مهم.
3- آثار عن عمر أسنادها منقطعة: أيضاً من الملاحظات في هذا الجانب: أولاً: قول عمر رضي الله عنه: [[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]] ] .
هذا أخرجه الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس، وأبو نعيم في الحلية عن ثابت بن الحجاج عن عمر، ورجاله ثقات، وإن كان ثابتاً هذا لم يسمع من عمر رضي الله عنه.
ورواه مالك بن مغول أنه بلغه عن عمر، أخرجه ابن المبارك في الزهد، وكذلك رواه أبو عبيد في المواعظ، وعلقه الترمذي في سننه.
وأيضاً مثله قول عمر رضي الله عنه: [[رحم الله من أهدى إلي عيوبي]] .
أخرجه الدارمي في سننه عن عباد بن عباد الخواص عن عمر في خبر طويل وسنده منقطع، ولكن معناه صحيح، وربما وجد بغير هذا الإسناد.
[[رحم الله من أهدى إلي عيوبي]] فإن العبد يدعو ويفرح وهذا الأثر مناسب جداً لهذا الدرس؛ لأن فيه دعوة الإخوة إلى أن يتهادوا عيوبهم، فانظر كيف اعتبر ذكر العيب هدية تقدمها له؛ لأن الإنسان قد لا يكتشف عيبه بنفسه، قال الشاعر: شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشوراتِ فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة مثله أيضاً: قول أبي الدرداء -رضي الله عنه: [[إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك]] هذا أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ، وابن عساكر أيضاً عن لقمان بن عامر عن أبي الدرداء موقوفاً وفي سنده فرج بن فضالة وهو ضعيف، ولقمان بن عامر روايته عن أبي الدرداء مرسلة كما قال أبو حاتم الرازي رحمه الله.
ورواه عون بن عبد الله أيضاً عن أبي الدرداء، أخرجه ابن قتيبة في غريب الحديث، وابن عساكر وهو مرسل.
ورواه يحيى بن سعيد عن أبي الدرداء كما عند ابن عساكر، والأثر ثابت عن أبي الدرداء في هذه الطرق وغيرها والله تعالى أعلم.(100/19)
تصحيحات فنية
بعض الإخوة انتقدوا سرعة الإلقاء في الدروس، خاصة في الدروس الأخيرة، وأتمنى أن لا يكون هذا الدرس هو الآخر موصوفاً بسرعة الإلقاء، وأحرص إن شاء الله تعالى على أن أراعي ذلك بقدر المستطاع، وإن كان ثمة من عذر أتقدم به فهو أن الإنسان يأتي أحياناً وأمامه مجموعة كبيرة من الأوراق، وعدد من الموضوعات، فهو يتمنى أن يتمكن من أن يقولها لكم قبل أن ينتهي الوقت المحدد.
وبعض الإخوة أيضاً ينتقدون قراءة بعض الأسئلة بشكل مختصر، حتى إنهم قد لا يفهمون السؤال، ولا يعرفون ما المقصود به، وهذه أيضاً ملاحظة صحيحة، وأتمنى أن أتلافاها إن شاء الله تعالى.
وآخرون يقولون: إنك في إجابتك على الأسئلة تختصر اختصاراً شديداً، ويطلبون أن يكون هناك نوع من التطويل في إجابة الأسئلة، وذكر بعض الأقوال وبعض الأدلة وما شابه ذلك، وأقول لهم: نعم أفعل إن شاء الله تعالى.
وإخوة آخرون يطلبون ذكر المراجع في بعض الدروس وفي بعض الكتب، وهذا إن شاء الله تعالى سوف أراعيه مستقبلاً.
كما أن بعض الإخوة نبهوني، جزوا أفضل الجزاء، على نسيان خطبة الحاجة في بعض المحاضرات والدروس، وفي بعض الكتب أيضاً، فسوف أعدل ذلك فيما يتعلق بالكتب، وأراعيه فيما يتعلق بالإلقاء.
هذا ما يتعلق بتصحيحات، أستطيع أن أقول عنها إنها تصحيحات فنية.(100/20)
رسالة إلى الدعاة
هذه رسالة مهمة وهي الفقرة السادسة، وهي رسالة بعث بها أحد الإخوة الغيورين، الأخ الشيخ محمد الحمد، جزاه الله خيراً، بعث بها إلى أحد الدعاة الذين كانوا موجودين هنا قبل أسبوعين أو ثلاثة، وقد أعجبتني، ورأيت أنها لا تخص داعية بعينه، بل هي لكل الدعاة، بل لنا جميعاً، وأحببت مشاركة الجميع بقراءة هذه الرسالة، وسأختصر بعض الكلمات: أكتب لكم هذه الرسالة منطلقاً من قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ومن قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا أحببت أخاك فأخبره أنك تحبه} وقوله: {الدين النصيحة} .
لقد حباكم الله محبة وقبولاً في قلوب المسلمين في شتى أصقاع الأرض، وما ذلك -والعلم عند الله تعالى- إلا لإخلاصكم وقوتكم في الحق وحرصكم عليه.
ومن هذا المنطلق أود أن أذكركم ببعض الأمور، وما أخالكم إلا تذكرونها وتعلمونها وتستحضرونها وتستشعرونها، ولكن لحاجةٍ في نفس يعقوب أحببت الكتابة إليكم مذكراً ومحباً.
فأول شيء أود أن أذكركم به: الاحتساب في كل عمل تقومون به، سواء كان ذلك عن طريق المحاضرات، أو الدروس، أو التأليف، أو المراسلة، أو جمع التبرعات، أو أعمال البر والإغاثة، وهذه الأعمال الجليلة قد نفع الله بها نفعاً عظيماً ونسأل الله تعالى أن ينطبق عليك قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فاحتسبْ عند الله تعالى كل كلمة تقولها، أو تكتبها، واحتسبْ عند الله تعالى ما تقوم به من جهد لتحضير المحاضرات، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل من حضر إلى المسجد، أو رابط فيه لسماع درس، أو انتظر الصلاة إلى الصلاة، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل مسلم سَلَّم على أخ له في الله بعد الدرس أو المحاضرة، واحتسبْ عند الله أجر كل من أعانك على درس، أو استفاد، أو دعا إلى الله تعالى بسببك؛ احتسبْ ذلك لأنك تسببت لهؤلاء بتلك العبوديات المتنوعة، واحتسبْ عند الله تعالى أجر إحياء الأمة، وبث روح الدعوة والثقة والشجاعة فيها، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل واحد ترك معصية، أو فعل طاعة، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر بسببك، واحتسبْ عند الله تعالى أجر من نالك بسوء أو غيبة، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل ملهوف أغثته، أو مكروب نفست كربته، أو جائع سددت جوعته، أو عارٍ أعنته على كسوته، أو أيمٍ من سعيت في زواجه، وأحصنت فرجه، وأعنته على قيام أسرة مسلمة، فكثر بذلك سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واحتسب عند الله تعالى أجر كل مدين أعنته على قضاء دينه، أو دعوة صرفت لك من المسلمين، واحتسبْ عند الله أجرها وأجر تسببك فيها، واحتسبْ عند الله تعالى كل سنة أحييت بسببك، وكل بدعة أميتت بسببك أو قمعت.
وبالجملة احتسب عند الله تعالى كل صغيرة وكبيرة، وشاردة وواردة، ولا تنس نصيبك من الله، فالأعمال كما قال ابن القيم -رحمه الله-: (تتفاضل بحسب ما في القلوب من حقائق الإيمان) .
أمام هذا الخير العظيم والنفع العميم هل يتصور منكم معشر الدعاة! أن تقفوا عند حد معين؟! أو ينتهي طموحكم عند مكسب قل أو كثر!؟ هل يقف أمامكم، وأمام آمالكم تخذيل مخذل، أو عذل عاذل، أو إرجاف مرجف؟! أترك الإجابة لكم، وأذكركم بقول القائل: عذل العواذل حول قلب التائه وهوى الأحبة فيه من سودائهِ أأحبه وأحب فيه ملامة إن الملامة فيه من أعدائهِ إن هذه النعم التي تترى تحتاج إلى شكر عظيم، ومن ذلك الشكر مواصلة المسيرة، وألا يقف الناس في منتصف الطريق، ومن شكرها أن تتقبلوا كل نصيحة وتعملوا بها، ومن شكرها الإقبال على الله تعالى قلباً وقالبا، والزهد عن مُتَع الدنيا الفانية، ومن شكرها العفو عن من أساء إليكم، أو من نالكم بسوء: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ولا نوصيك بالعفو عن من أساء، لا.
بل نوصيك بالدعاء له بظهر الغيب لأن القلب الكبير لا يتسع إلا لذلك.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ أرحت نفسيَ من ظلم العداوات إني أُحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحياتِ ومن شكر تلك النعمة أن تفتح صدرك لجميع الناس وإن ضايقوك، فهذا جزء مهم في التربية العملية، لا يقل أهميةً عن الدروس والمحاضرات، وكل من أتاك ليراك، ويسلم عليك، ولم يَحْدُه لك إلا المحبة والشوق، فالله الله! بهذه الخلة العظيمة، التي فرط فيها وللأسف الكثيرون، حيث يقابلون الناس بالفضاضة والغلظة، وهذا لا يليق، فكل شخص أتى للسلام أو السؤال يشعر أن له حقاً، ولرب كلمة أو ابتسامة، أو انبساط، أو تصرف، أو اعتذار لطيف لبق، يُرى في الداعية، فيكون ذلك حافزاً له على الخير، والعكس بالعكس، فلو أن أحداً أُهين أو أغلظ عليه، فلربما كان ذلك سبباً لبغضه للدعاة.
فنأمل جميعاً أن تستمروا على ذلك الأمر، على فتح الصدر، وأن توصوا الدعاة بذلك، فلعل الله تعالى أن يبارك في الجهد والوقت، بسبب وقفة مع سائل، أو ملهوف، أو محتاج، أو حائر.
فإذا رُدَّ فإلى من يتجه بعد الله سبحانه وتعالى؟ سيتجه إلى الفسقة وأرباب الفكر الخبيث، من العلمانيين وغيرهم، من الذين يريدون أن يتخطفوا الشباب ويجروهم إليهم.
ولقد حدثني أحد الإخوان وكان يقطن بجوار رأس من رءوس العلمانية، أنه لا يدع أحداً من خدمه وأهل بيته يقوم بفتح الباب، بل إنه يبادر بنفسه ويقوم بفتح الباب، ويكرم الضيف، ويخرج معه، ويركبه في سيارته، أو يركب معه، ويستمع لجميع ما يقول، ثم يودعه وداعاً حاراً عندما يريد الذهاب من عنده، أفيغلب هؤلاء المبطلون الدعاة المصلحين والعلماء العاملين في هذا المجال؟!! ومن شكر هذه النعمة أن تتذكروا إخوانكم وزملاء من الدعاة والمشايخ: إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن وفي الختام: ذكر بعض الدعوات، فجزاه الله تعالى خيراً، وقد وصلتني هذه الصورة من هذا الموضوع، وهذه الرسالة الجميلة، التي أسأل الله تبارك وتعالى لكاتبها أن يجزيه خيراً، ويجعل له بكل حرف حسنة، إنه على كل شيء قدير، وأدعو الإخوة إلى مثل هذه المشاركات العظيمة، التي تقوي القلوب، وترفع الهمم، وتشد العزائم.(100/21)
أخبار مهمة متفرقة
وأمامي مجموعة كبيرة من المشاركات، وإلى جوارها مجموعة كبيرة من الأسئلة، فمن الأخبار المهمة:(100/22)
كاتب يسخر من المتدينين
وهذه قصاصة من أبشع وأفظع ما قرأت! فقد تكلمت الصحف كثيراً حول موضوع الزلزال في مصر، وهذا الزلزال عقوبة إلهية، أو انتقام، أو تنبيه، أو تحذير، أو غير ذلك.
ولا شك أننا تكلمنا أيضاً قبل أسبوعين بما يعتقد أنه هو الصواب في هذه المسألة، ولكن الذي أزعجني كثيراً أن يكتب كاتبٌ كـ محمود السعدني في أخبار اليوم في العدد (2503) مقالاً يقول فيه: أما بعد، تصورت خلال مشاهدتي لبرنامج تلفزيوني -هذا في مصر استغرق ساعتين يوم الثلاثاء الماضي- تصورت أن مبنى التلفزيون قد وقع في يد تنظيم الجهاد -طبعاً المقال كله سخرية بالمسلمين والشباب المتدين- يقول: تصورت أن التلفزيون قد وقع في يد تنظيم الجهاد، وأن البيان رقم واحد سيعقب هذا البرنامج المريب، يحمل نبأ تأليف الوزارة الجديدة برئاسة مولانا الإمام حجة الإسلام كحكوح بن سمعان، ولا شك أن المواطن شجاع، وإيمانه بالله قوي كما أنه نموذج للصبر، ورباطة الجأش، وقوة الاحتمال.
إلى أن يقول: ولكن ما جاء في البرنامج الذي استغرق وقتاً لا أستطيع تحديده، لا شيء سوى أن المواطن سعيد الحظ لا يريد الآن من الحياة إلا قضاء وقته داخل المسجد، والانقطاع للعبادة، وتأدية الصلاة، وهو لا يريد شقة، ولا زوجة، ولا شيئاً، ونصيحته للناس أن يتركوا كل شيء، ويتفرغوا لاستقبال الآخرة التي هي المأوى والمصير، أما الحياة فهي لا تساوي شيئاً، والأعمال، والأشغال، والمعايش، والأرزاق، فهي كلها مكروهة، لأنها تعطل الإنسان عن واجبه الرئيسي وهو العبادة وذكر الله تعالى! -هو ما قال (تعالى) ، أنا أقول: (تعالى) ، هو يقول: العبادة وذكر الله! - ولا أعرف كيف فات على معدي البرنامج العبقري الاستعانة بفرقة أبي الغيط، وكيف لم يقدم للمشاهدين مع البرنامج واعظاً مثل الشيخ حسن مات، لكي يحدثنا عن عذاب القبر، ويصف لنا خواص الماء المغلي الذي سيشربه الكافرون في الدرك الأسفل من النار!! تصور إلى أي حد بلغت السخرية بهذا الرجل! يقول: إن الزلزال كان فرصة لعرض صور الشهامة والبطولة والفداء، وتسليط الضوء على رجال الإنقاذ، والألوف الذين تقدموا عن طيب خاطر للتبرع بدمائهم، ومن بينهم أطفال.
ولكن التلفزيون، وللأسف الشديد ومنذ الزلزال وحتى الآن، تحول إلى فرع من فروع جماعة الناجين من النار.
نسأل الله أن يجعلنا من بركاتكم، وأن يجعل آخرنا في زاوية من زوايا التلفزيون، أو في برنامج على الهواء ننقطع فيه للعبادة وللصلاة!! إنها كارثة أن يكتب مسلم، أو إنسان ينتسب إلى الإسلام، مثل هذا الكلام الذي يدل على أنه يسخر من عذاب القبر، ويسخر من الماء المغلي؛ الماء الذي ذكره الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:1-5] يعني: حارة شديدة الحرارة.
وقال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] وقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43-44] يعني: حار شديد الحرارة.
ألا يخشى هذا الإنسان أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم ما قال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن:43] !! هل تعتقد أن إنساناً في قلبه الإيمان، بأن في قلبه الجنة، وهي مأوى المؤمنين، وأن النار موجودة وهي مأوى الكافرين يجرؤ على أن يكتب مثل هذا الكلام، ويسخر من المنتسبين إلى الإسلام.
إنه لا ينقضي عجبي! أنه في الوقت الذي نجد السخرية من الدين، والمتدين، وأحكام الإسلام، وعقيدة الإسلام، والقرآن، والسنة، أننا نجد من هؤلاء الصحفيين أنفسهم وأمثالهم، محاولة الإعجاب بالغرب، وتقديم الأمريكان لنا والنصارى واليهود على أنهم إخواننا وأشقاؤنا، وأنهم هم المنقذون لنا، وأنهم شركاؤنا في العمل، وفي الحياة، وفي الأرض، وفي الحضارة، وفي التصنيع، وفي غير ذلك! فأي انحراف، وأي ردة أعظم من هذه الردة!! إنها انسلاخ من حقيقة دين الإسلام، انسلاخ من هذه العقيدة التي توارثتها الأمة واجتمعت عليها، إنها انسلاخ حتى من هذه الأمة، فهؤلاء لم يعد يسرهم أن يكونوا جزءاً من هذه الأمة، ولا أن ينسبوا إليها، هم يفرحون أن ينسبوا إلى الغرب أو الشرق، إلى النظام العالمي الجديد، أو النظام الشرق أوسطي الجديد، الذي يديره النصارى أو يدره اليهود! أما أن ننتسب إلى هذه الأمة، إلى تاريخها، إلى قرآنها، إلى تراثها، فإن ذلك ما يزعجهم كثيراً! لقد رأيت حملة ظالمة آثمة على أولئك الفنانات التائبات، العائدات إلى الله تعالى، المتحجبات، حتى إنني قرأت في بعض ما قالوا: إن هؤلاء تحجبن من أجل الشهرة والسمعة!! وآخر قال: قبضن مرتبات ضخمة أعطيات مقابل إظهار الحجاب! وثالث قال: حصلن على وعود كبيرة! ورابع قال في صحيفة سيارة: إن هناك قوى خارجية ودولاً خارجية وراء ظاهرة الحجاب في أوساط البنات، ووراء ظاهرة إعفاء اللحية أوساط الشباب، ووراء ظاهرة اعتزال الفن وتركه.
سبحان الله! إلى هذا الحد، الله المستعان! أسأل الله تعالى لهذا الجمع الكريم ألا ينصرفوا إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل مبرور، وأن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يهدينا وإياكم إلى سواء السبيل.(100/23)
فتوى تحرم اقتناء جريدة الشرق الأوسط
في هذا الصدد أنقل لكم هذه الفتوى من سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حول هذه الجريدة.
السؤال يقول: فضيلة الشيخ عبد الله السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: تمارس جريدة الشرق الأوسط دوراً سيئاً في تشويه أخبار المسلمين والتكتم على قضاياهم، وتشويه صورة الإسلام، والنيل من قضايا الإسلام، ومعالجتها بطريقة لا تخدم المصلحة الإسلامية بحال من الأحوال، كما أنها تتابع أخبار الفنانين والفنانات من الكفار وغيرهم، وتبرز صورهم، فما رأيكم في هذه الجريدة؟ وما حكم بيعها وشرائها، وتوزيعها، واقتنائها، وفقكم الله وسدد خطاكم.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد: إذا كان الأمر كما ذكر أعلاه؛ فإن التعامل معها طريق لتشجيعها، وترويجها، وتمكينها مع ما فيها، وما تحدثه من الأضرار في المعتقد، لذلك أرى النهي عن اقتنائها، وشرائها، وتوزيعها.
وأشير على كل ناصح للإسلام أن يتجنب المساهمة فيها، أو النشر فيها، فإن ذلك ذريعة إلى إماتتها، وإخماد ذكرها، حتى تتغير عن هذا الأسلوب، وتستبدل خيراً من هذه الطريقة.
قاله وكتبه: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
في (5/4/1413هـ) ثم بعد ذلك التوقيع.(100/24)
حفلة مختلطة في السعودية
وما دمنا في الإعلام، اتصل بي أحد الإخوة وأخبرني به، ثم راسلني به آخر في الفاكس.
يؤكد أنه أقيمت في الرياض حفلة مختلطة في أحد الفنادق، وكانت بعنوان (مهرجان الأطعمة الأمريكية والمكسيكية) ، وقد قام التلفزيون السعودي، في القناة الثانية الإنجليزية، بنقل بعض وقائع هذا الحفلة المختلطة، والمقابلة مع بعض الضيوف من الرجال والنساء والأطفال.
عرضت في برنامج (إن فوكس) وذلك يوم الجمعة مساء الخامس من جمادى الأولى سنة (1413هـ) الجمعة الماضية في تمام الساعة التاسعة وعشر دقائق تقريباً.
المذيع يقوم بمقابلة الضيوف، وسؤالهم عن حضارة هذه البلاد، وإعجابهم بها.
وكذلك سأل أحد الضيوف وقال له: ما رأيك بمثل هذه الفكرة؟ أي: فكرة المهرجان، وأن تُكرر، ويتعرف الناس على هذه الأطعمة؟ فأجاب: بأنها فكرة جميلة وجديدة، وأرى أن تتكرر سنوياً ليتعرف السعوديون والجنسيات الأخرى على الأطعمة الأمريكية.
وكذلك قال مدير الفندق المنظم للحفلة: إن هدفها تعريف الناس في الرياض على الأطعمة، وكذلك التاريخ الأمريكي، وهناك عروض مسرحية قدم التلفزيون بعضاً منها.
وكان ضيوف المهرجان رجالاً ونساء يجلسون على طاولات متقاسمين للمقاعد، وكانت الطاولات عليها علم السعودية، إلى جوار علم الولايات المتحدة الأمريكية.
ويقول الأخ الكريم: ولقد رأيت والله ما يبكي ويحزن! فانظر كيف وصل بهم الأمر إلى أن يقوموا باستفزازنا وذلك من خلال إقامة هذه الحفلات، أولاً في بلادنا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى قاموا بعرضها ضمن برنامج في القناة الثانية.
فهذه دعوة إلى الغيورين والمخلصين أن يحاربوا مثل هذه الظواهر الشاذة، قد يقول قائل: لماذا لا نكتب إلى المسئولين؟! فأقول: يا أخي هذا برنامج عرض في التلفزيون، ويجب أن تتصور أن التلفزيون يجلس إليه في الساعة الواحدة ربما أقول بدون مبالغة ملايين، وليس الألوف أو عشرات الألوف، أو مئات الألوف، ملايين! وهذا ليس سراً، وكونك أنت إنسان طيب وصالح، وليس عندك تلفزيون، أو لا تسمع هذه الأخبار، لا يعني أنه لا يجب أن تقال، بل يجب أن تقال وأن تعلن، وأن تحارب، وأن نشترك جميعاً في مقاومتها.(100/25)
العالم يلزم صمته والعدو يزداد وحشية
هذا خبر يقول: العالم يلزم صمته، والعدو يزداد وحشية وجرماً.
وهو يتعلق بالمأساة التي يعيشها المسلمون في أرض البوسنة والهرسك، فقد احتل الصرب مدينة يايدسا التي تعتبر من أجمل المدن في البوسنة والهرسك، والتي ظلت صامدة أمامهم أكثر من خمسة أشهر تحت نظام العدو، بطائراته ومدافعه وقنابله، مدافعة بكل عزة وكرامة، رغم قلة الزاد والعتاد، حتى احتار العدو من جَلد هؤلاء وشدتهم، مما دعاه إلى جمع حشود هائلة حول المدينة البريئة، مدججاً قوته بكل أنواع الأسلحة المدمرة، التي تتلقاها صدور المجاهدين المرابطين طيلة هذه الفترة، وتحول دون سقوط المدينة.
ولكن وجد المسلمون أخيراً أنه لا بد لهم أمام الحرب الضروس، وخوفاً من تكرار المذابح، وحفاظاً على أرواح المسلمين أن يقوموا بإخلاء المدينة من المدنيين، ثم انسحبوا منها، وانسحبت بعض فرق الجيش البوسنوي ما بين الساعة السادسة والسابعة من صباح اليوم -هذا قبل عدة أيام- متوجهة عبر الجبال إلى المدينة المجاورة إترافنك، وتردد في بعض الأخبار أن هناك أعداداً من السكان المسلمين، وبعض فرق الجيش، لا زالت تقاتل وهو ما يسمى بحرب الشوارع، هذا موجود إلى البارحة، كان هناك حرب شوارع داخل هذه المدينة، وهناك أنباء بسقوط ضحايا كثيرين من الطرفين.
هذه المدينة تعتبر من المدن التي يرتبط اسمها تاريخياً بيوغسلافيا الاتحادية، ويمكن القول بأن السبب الرئيسي لسقوطها هو عدم وصول الأسلحة والذخائر إليها، بسبب الحصار الذي كانت تضربه قوات الصرب حول المدينة، وبسبب القتال الذي نشب مؤخراً بين المسلمين وبين والكروات في إترافنك وما حولها، مما حدا بقوات الصرب إلى استغلال الموقف، وحشد الأسلحة والعتاد، والآن يتكرر الأمر نفسه بحشد الجنود والعدة حول عدة مدن منها: مدينة برجكو، ماجلاي، جراداشاس.
ونسأل الله تعالى أن ينصر المسلمين في تلك المدن وفي غيرها، وقد ترددت أنباء بأن قوات المسلمين البوسنوية استطاعت أن تقتل ثلاثين من بعض العصابات الصربية، وقتل من المسلمين ثلاثة في مدينة كراداشاس، نسأل الله تعالى أن يجعلهم شهداء في سبيله.
وهذه المدينة تسمى مقبرة الصرب، كما بعث الرئيس البوسنوي خطاباً إلى رئيس جمهورية كرواتيا ينتقد فيها المواقف الكرواتية، وخاصة مواقف وسائل الإعلام في ترويج الإشاعات، وإبراز صور العداء ضد المسلمين.
وقد رددت الإذاعة الكرواتية والتلفاز أنباء كثيرة تقلل من شأن حكومة المسلمين في البوسنة، وتذكر بعض الأخبار المغرضة.(100/26)
الأقلية الصربية تعيد التاريخ نفسه في كوسوفو
كما أن من الأخبار التي لا بد أن نقف عندها خبر يقول: الأقلية الصربية المهلوعة تعيد التاريخ نفسه في كوسوفو.
لقد ذكرت لكم في المجلس الماضي عن كوسوفو، هذا الإقليم الذي يحتله الصرب، ومعظم سكانه من المسلمين.
ألسنة الدخان تتصاعد الآن فوق ميدان القتال في ذلك الإقليم، فبعد (603) سنوات من سحق المسلمين العثمانيين للصرب في هذا السهل، في كوسوفو، يتخذ الصرب الآن مواقعه من جديد في نفس الساحة، وهؤلاء الجند الحقيرون يتواجدون عند معسكراتهم، دباباتهم متأهبة في صمت، ومدفعيتهم موجهة نحو برسينا عاصمة كوسوفو التي تسكنها غالبية ألبانية.
إن ذلك الجيش يمثل يوغسلافيا، وفي هذا المكان مُني الصرب بأكثر هزائمهم، وأدى ذلك إلى قيام حكومة عثمانية، ومن ذلك الوقت أصبح ميدان تلك المعركة مكاناً مقدساً للصرب، يعتبرونه أهم المواضع الاستراتيجية في كوسوفو رغم أنهم يكنون لرئيسهم فضلاً كبيراً في سيطرتهم على الألبان منذ ثلاث سنوات، إلا أنهم لم يحققوا نصراً بل وجدوا أنفسهم وحيدين، واضطروا إلى فرض جو من الحكم العسكري وهم يواجهون اليأس والخوف، وأصبح خيار الحرب الآن هو غايتهم.
تقول إحدى الممرضات: لقد اقشعر بدني، كيف يعتنق بعض هؤلاء رجلاً انفصالياً هذا شيء كبير! ويطالب الزعماء الألبان باستقلال كوسوفو، ويتحدثون عن اتحاد حتمي مع ألبانيا.
أما الصرب فهم يعتبرون هذا الاستقلال مستحيلاً، ويقولون: إنهم يفعلون كل شيء لمنع هذا الاستقلال للمسلمين، إن القليلين فقط يرون أن هناك بوادر حرب مع الألبان، ما لم يتلق الألبان أسلحة من الخارج.
يعني: من المستبعد أن تقوم حرب بين ألبانيا وبين الصرب، ولكن من المتوقع جداً أن يواجه المسلمون داخل هذا الإقليم حرباً ضروساً، حرب إبادة على يد الصرب، الذين تفرغوا لمثل هذه المهمة، بعد أن عقدوا حلفاً جديداً مع الكروات.(100/27)
فضائح جريدة الشرق الأوسط
هناك قصاصة وصلت إليَّ من جريدة المدينة، وهي قصاصة جيدة عنوانها (أضواء) ، كتبها الأستاذ محمد حميدة، الصفحة الأخيرة من جريدة الشرق الأوسط، وقد تكلم فيها عن بعض الفضائح والمصائب التي تنشرها هذه الجريدة المعروفة.
فمثلاً: يقول في عدد (5066) نشرت أن مادونا؛ وهذه مغنية أمريكية مشهورة بالفجور، وأنها تظهر عارية على الشاشة أو بملابسها الداخلية، أجلكم الله! يقول: إن مادونا هذه مدينة بأكثر من مليوني دولار لمصلحة الضرائب الفرنسية، ثم يقول: ترى ماذا يستفيد القارئ من هذا الخبر، وما قيمة مادونا في دنيا العرب والمسلمين، حتى نتابع أخبارها وفسادها وتهربها من دفع الضرائب إلى غير ذلك؟! وأقول: في الوقت الذي يتكلمون فيه عن ذلك، فإنهم لا يتكلمون عن المديونيات الضخمة المرتفعة، التي تثقل كواهل الدول الإسلامية الغنية والنفطية يوماً بعد يوم.
نعود إلى كلامه، يقول: وفي نفس العدد كتب الكاتب الهمام، الذي أصابنا الغثاء من كثرة ما يقذفنا به من تفاهات الغرب وسخافاته، عبد الله باجبير، كتب يعجب من قيام محكمة في الصين بالحكم بالإعدام على ناشر كتب، قام بطبع مليون نسخة من كتب إباحية.
ونسأل كاتبنا الفاضل: هل نشر كتب الإباحية يقل خطورة عن نشر المخدرات والترويج لها؟! أو ليس نشر الكتب الإباحية التي تدمر أخلاق الشعب من الفساد في الأرض؟! أوليس من العجب أن تحرص حكومة شيوعية على حماية شعبها من الفساد، وصونه من الانحلال والفسق، ويقوم كاتب إسلامي في صحيفة عربية بالعجب من ذلك؟! وهل يعرف باجبير ما هو جزاء المفسدين في الأرض في الإسلام؟!! وفي العدد (5067) نشرت الجريدة صور مارلين مورلو تطرح في مزاد علني، وأن الرواد تزاحموا على صالة عرض في العاصمة البريطانية، لشراء صور لممثلة الإغراء، وأن هذه الصور التي ظهرت فيها وهي ترقد تحت غطاء حريري حققت شهرة واسعة، طبعاً قال: ترقد عارية! هل مثل هذا الخبر الفاضح الوقح يستحق أن ينشر، وهل بلغ من أهميته وقيمته أن ينشر في الصفحة الأولى، رقم (2) من هذه الجريدة.
وفي العدد (5068) كتب يطبل ويزمر، ويكاد يرقص، لأن جندي مرور ترك الإشارة حمراء مدة طويلة، ليعطي الفرصة لعروسين لتبادل قبلة طويلة! ما شاء الله! إن قبلات العروسين في عرفنا وحكم ديننا لا تكون إلا في مخدع النوم، ليعجب الأوروبي والأمريكي في مجتمعهم الإباحي بمثل هذه الأمور، فمنهم من يمارس الفسق حتى على قارعة الطريق، أما نحن فسنستقذر مثل هذه التصرفات الشائنة، ونمقتها ولا نريد لها أن تغزونا.
وفي العدد (5071) نشرت الجريدة أن بريجيت باردو تزوجت سراً من عشيق لها، وأن هذا هو الزواج الرابع.
ما أهمية هذه المرأة عند القارئ المسلم! وماذا نستفيد من متابعة هذه الأخبار وملاحقة هذه النزوات! وفي العدد (5079) تحت عنوان " العزاب أطول صحة من المتزوجين "، ذكرت الجريدة أن الذين لم يتزوجوا قط أكثر صحة وسعادة من المتزوجين، وهذا لا شك أنه مخالف لسنة المرسلين! وفي العدد (5081) نشرت الجريدة أن الموظفين الكبار يتعلمون الغناء في سنغافوره، ولست أدري لماذا نروج لمثل هذه الأخبار وما الفائدة منها؟! إن هذه المقالة في جريدة المدينة مقالة جيدة، تكشف جانباً فقط من الدور التخريبي الذي تقوم به الجريدة.
وأنا أطالبكم مرة أخرى -وأستغفر الله من أنا- بمقاطعة هذه الجريدة، وأن تقوموا بحملة لكل من تعرفوه من أصحاب البقالات، والشركات، وعموم الناس، وزملائكم، وزملاء العمل، وغيرهم أن يقاطعوا هذه الجريدة، لأنها لا تستحق حتى من الناحية الأخبارية أن تُشْتَرى.(100/28)
المرأة بين الشرع والمجتمع
من أساب سوء وضع المرأة المسلمة في العصر الحاضر كثرة المشكلات والتناقض بين ما ينص عليه الشرع وبين ما تبثه وسائل الإعلام ويشاهد في الواقع، وكذلك دور أعداء الإسلام في إخراج المرأة من بيتها ودينها والتأثر بالغرب وإهمال وضع المرأة.
هناك مشكلات تواجه المرأة منها: قسوة الأب، تأخر الزواج، الآمال المعقودة قبل الزواج عندما لا تتحقق، والطلاق، وتعدد الزوجات.(101/1)
أسباب سوء وضع المرأة المسلمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها المسلمون والمسلمات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن اجتماع مثل هذه الأعداد الغفيرة في مسجد من مساجد الله تعالى للصلاة، وقراءة القرآن، وسماع الذكر لهو أكبر دليل على أن دين الإسلام هو ضمير هذه الأمة وروحها، وأن هذه الأمة مهما كاد لها الكائدون، وحاول المحاولون، فإنها تأبى أن تنسلخ عن هذا الدين، الذي أكرمها الله تبارك وتعالى به، واصطفاها لحمله جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل.
أيها الإخوة والأخوات: وموضوع حديثي إليكم في هذه الليلة، هو حول: المرأة بين الشرع والمجتمع، وهناك قضية أُقدِّم بها، وهي: الإشارة إلى أن وضع المرأة المسلمة في مجتمعنا يُعتبَر في هذه الظروف والأيام وضعاً حرجاً وصعباً، وذلك لأسباب عديدة:(101/2)
استقبال عادات الكفار
ومن جهة رابعة: فإننا نجد أن انفتاح العالم اليوم بعضِه على بعض، جعل كثيراً من العادات والتقاليد الموجودة لدى الكفار تنتقل بطريقة العدوى إلى بلاد المسلمين، وتجد من يتلقفها ببلاهة وسذاجة، ومن الغريب أنه قد يوجد في بلادهم عادات وتقاليد مكروهة حتى لديهم هُم، وهُم يبذلون الوسائل والأساليب المختلفة للتخلص منها، فنتلقفها نحن بلا وعي، وقد يكون هناك أشياء تصلح لهم بحكم مجتمعهم وتاريخهم، وعقائدهم، لكنها لا تصلح لهذا المجتمع المسلم، فالذي ينقلها إلى المجتمع المسلم، كغارس النارجيل في أرض الأندلس -كما يقول الإمام أبو محمد بن حزم - أو كغارس الزيتون في أرض الهند وكل ذلك لا يجدي.(101/3)
إهمال وضع المرأة
ومن جهة خامسة: فنحن نجد أن كثيراً من الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وطلاب العلم، والغيورين قد أهملوا وضع المرأة، فإنهم لا يكادون يخاطبون المرأة إلا قليلاً، ولا يتحدثون عن مشكلاتها إلا في أقل القليل، مع أن الوسائل ممكنة -بحمد الله- خاصة في مجتمعنا هذا، فإننا نجد -مثلا- أن جهاز تعليم البنات، جهازٌ يقوم عليه نخبة من أهل الخير والصلاح، وأن المرأة لا زالت تتعاطف مع نداء الحق والإسلام، وأن مخاطبتها من خلال الوسائل، والأشرطة، والكتب، وغيرها أمر ممكن وسهل في هذا الوقت، وأيضاً تجد كثيراً من الأولياء وأهل الخير والصلاح لا يحاولون أن يراقبوا وضع المرأة، مع أننا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراقب تصرفات عائشة رضي الله عنها، وفاطمة، وغيرهن من المؤمنات والمسلمات، ولم يكن يعيب واحدةً منهن أن يقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم: أين كنتِ؟ وأين ذهبتِ؟ ومرَّة من المرات: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقبرة ليزور أهل البقيع، ويستغفر لهم، ففقدته عائشة، فخرجت خلفه، فلما رجع صلى الله عليه وسلم رأى سوادها أمامه ولم يعرفها، فلما جاء إلى الفراش، وجد نفسَها مرتفعاً، فقال لها: {يا عائشة، ما لي أراكِ حشيا رابية؟ -لماذا ارتفاعُ نَفَسِك؟ - هل أنتِ السواد الذي رأيتُ أمامي؟ قالت: نعم، يا رسول الله، مهما يكتم الناس يعلمه الله، فلَكَزَها صلى الله عليه وسلم بيده، وقال لها: أخشيتِ أن يحيف الله عليك ورسوله} .
وهذا الحديث في: صحيح مسلم وغيره.
ومرة أخرى: رأى الرسولُ صلى الله عليه وسلم بنتَه فاطمة قد جاءت إلى البيت، وكان قد مات رجل من الأنصار، فقال لها: {يا فاطمة، من أين جئتِ؟ قالت: يا رسول الله، ذهبتُ إلى أهل هذا الميت أعزيهم في ميتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلكِ بلغتِ معهم الكدى -وهو: موضع قريب من المقبرة- قالت: كلا، يا رسول الله قال: لو بلغتِ معهم الكدى، ما دخلتِ الجنة حتى يدخلها جدُّ أبيكِ أو: ما رأيتِ الجنة حتى يراها جدُّ أبيكِ} .
ولم يَعِب عائشة وفاطمة وغيرهما من المؤمنات أن يسائلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يَعِيب المسلم ولا المسلمة أن يكون بينهم مناقشة ومراقبة، فمن حق المرأة أن تسأل زوجها، أو تسأل أخاها الأصغر: أين ذهبَ؟ إن كانت لا تثق بذَهابه، ومن حق الرجل أن يراقب المرأة في جميع تصرفاتها أيضاً.(101/4)
دور أعداء الإسلام
ومن جهة ثالثة: فإننا نجد أن كثيراً من أعداء الإسلام في الداخل والخارج، من شياطين الإنس والجن يبذلون جهوداً كبيرة لإخراج المرأة المسلمة من بيتها، بل من دينها، وأنوثتها، وعفافها، وحجابها، حتى تكون سلعة يقضون بها وطَرَهم في قارعة الطريق.
وليس بغريب أن تجدهم يحاولون أن يحشروا صورة المرأة في كل مكان، ليس فقط للإعلان -مثلاً- عن العطور، أو الملابس، بل حتى وهم يعلنون عن أي بضاعة، ولو كانت المعدات الثقيلة، فإنهم يحرصون على أن تبْرُز صورةُ المرأة، وهذا يثبت أن مقصودهم أن تكون المرأة ألعوبة بيد الرجل، وهم -بطبيعة الحال- لا يقولون هذا، بل هم يقولون: نريد أن نحرك نصف المجتمع، ونريد مجتمعاً يتنفس برئتين، ونريد أن نستفيد من هذا الكم المهمل، إلى غير ذلك من الوسائل، وهذا شيءٌ طبيعي.
فإننا نعتقد جميعاً: أن إبليس شخصياً لو أصدَرَ صحيفةً، أو كَتَبَ مقالاً، أو ألَّفَ مسرحيةً، أو أنشأ جامعةً فإنه لا يمكن أن يقول: إنني أنا الشيطان الرجيم، وأنا أدعوكم إلى نار جهنم، إنما سيقول: إن هذه وسائل أقصد من ورائها الإصلاح، والتثقيف، وطبقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية السمحة، وغير ذلك من الوسائل والأساليب، ومِن قبْل قال إبليس للأبوين: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] وقال: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] إذاً ورثته ينسجون على منواله، ويمشون على خطاه، فهم لا يعربون عن مقاصدهم الحقيقية.(101/5)
كثرة المشكلات
أولاً: نعرف أن الحالة التي تعيشها كثيرٌ من النساء في مجتمعنا هي كغيرها، فيها كثير من المشكلات المعقدة وغيره المعقدة، ولكن هذه المشكلات لم تبْرُز بعد في السطح، ولم تُناقَش بطريقة صحيحة، وكثيرٌ من المتربصين ينتهزون هذه الفرص لتفجير هذه الأوضاع، وإثارتها وحلها بالطريقة التي تعجبهم.(101/6)
التناقض بين ما تعرفه من الدين وما تراه في الواقع
ومن جهة ثانية: فنحن نلاحظ أن المرأة المسلمة في هذه الأيام، وفي كل مكان تعيش تناقضاً صعباً بين ما تعرفه من دينها وتتلقاه من كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبين ما تجده من وسائل التثقيف الأخرى، ففي الوقت الذي تسمع فيه المرأة -مثلاً- قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وقول الله -عزَّ وجلَّ-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هي تشاهد في المقابل -عبر وسائل كثيرة- المرأةَ السافرة التي قد كشفت عن شعرها، ووجهها، ونحرها، وذراعَيها، وساقَيها، وربما أكثر من ذلك، وفي الوقت الذي تسمع فيه المرأةُ المسلمة أن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تسافر مسيرة يوم وليلة، أو مسيرة ثلاثة أيام، أو غير ذلك -كما ورد في النصوص- إلا مع ذي محرم، فإنها تجد كثيراً من النساء في واقع الحياة، ومن خلال وسائل التثقيف المختلفة يضربن بهذا التوجيه عُرض الحائط، ويذهبن مسافات مع الرجال أو منفردات، ويحضرن المؤتمرات والندوات، ويتحدثن، وتظهر صورهن في الصحف وغيرها.
وفي الوقت الذي تسمع فيه المسلمة قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] تجد المرأة المسلمة -من خلال وسائل كثيرة- أن كثيراً من النساء اللاتي وُضِعن موضع القدوة والأسوة يتعرضن للرجال، ويتحدثن إليهم بالكلام اللين، وبالعبارات الرقيقة، وبالأسلوب المؤثر، بل وكأن المرأة تحاول أن تقتنص الرجل إليها بكل وسيلة.
فتجد المرأةُ المسلمة تناقضاً شديداً بين ما تدرسه في المدرسة -مثلاً- من أن المرأة كلها عورة، إلا وجهها في الصلاة، وبين ما تجده من نقض لهذا في ميادين ووسائل أخرى، وهذا التناقض أقل ما ينتجه أن ينتج لنا جيلاً من النساء فاقداً للانتماء والانتساب، لا يدري ما هويته، يقدم رِجْلاً مع الإسلام ورِجْلاً مع التيار المنحرف.(101/7)
مشكلات تعيشها المرأة
إضافة إلى أسباب أخرى كثيرة فإن وضع المرأة في مجتمعنا وضع حرج، ويحتاج إلى معالجة.
هذه المشكلات الموجودة في المجتمع إذا لم نعالجها نحن، يتصدَّى لها كثيرٌ ممن لا يُصْدِرون الأمور ولا يوردونها، فيضعون في صحفهم وكتبهم ووسائلهم فقرات خاصة لاستقبال المشكلات من المرأة وحلها، وهم لا يحلون المشكلة إلا بطريقة تضاعف المشكلة، كما سوف يأتي من خلال عرض المشكلات الموجودة في المجتمع، ولذلك فإنني أرى أن من المناسب أن أشير إلى عدد من المشكلات التي يزخر بها مجتمعنا.(101/8)
مشكلة الطلاق
قد تكون هذه العلاقة الزوجية التي أشرتُ إليها سابقاً سبباً في الفراق بين الزوجين، والأمر الغريب أنك تسمع وتجد -أحياناً- في بعض الصحف التي تصدر في بلاد الإسلام، وبأموال أهل الإسلام، وتدخل بيوت المسلمين، ويقرؤها ذكرانهم وإناثهم تجد المطالبة بتحديد الطلاق، فقد قرأتُ يوماً من الأيام مقالاً بقلم مَن سمَّت نفسَها: بثينة فيما أعتقد، وأنا قديم العهد بهذا المقال، وأعتقد أن الكاتب جميلٌ وليست بثينة، يطالب بمنع الطلاق، وأن الطلاق لا يقَع إلا أمام القاضي، ويحتج بأن هناك بلاداً إسلامية، ذكَرَ: تونس، أو غيرها، لا يقع فيها الطلاق إلا أمام القاضي، وهي بلاد إسلامية، فلنا فيهم أسوة وقدوة! هكذا يقول هذا المسكين، فيا سبحان الله! الطلاق دواء وعلاج، والمرأة إذا عاشت في بيت رجل يبغضها، ويتمنى فراقها، ولو بالموت، ويكيد لها وتكيد له، فالطلاق أمنية بالنسبة لها، وبقاؤها في مثل هذا البيت يُعتبر سجناً بين أربعة جدران، وسجناً صعباً؛ لأنه يترتب عليه آثار بعيدة المدى، والمرأة -في كثير من الأحيان- تجد نفسها مضطرة؛ لأن تفتدي نفسها من زوجها بالمال، فكيف يقال بعد ذلك: إن الطلاق يجب أن يحدد أو لا يحدد! إن الطلاق رحمة من الله عزَّ وجلَّ للقضاء على علاقة زوجية قامت، وكانت نتيجتها فاشلة، ولا شك أن الطلاق له أضرار كثيرة في نفسية الزوجة وتحطيمها، وتحطيم شيء من مستقبلها أحياناً، وله أضرار على الزوج -أيضاً- في التأثير على نفسيته، وضياع شيء من ماله، وضرر أكبر على الأطفال -إن وُجِدوا- حيث يتشردون، ويعانون كثيراً من الأمراض النفسية، والمشاكل والقلق، هذا كله صحيح؛ لكن الطلاق مع ذلك كله يبقى -أحياناً- حلاً لا بد منه.
ولنبحث: ما هي أسباب الطلاق؟ أول سبب من أسباب الطلاق -والذي يجب أن نركز عليه جيداً- هو: سوء اختيار الزوج:- فكما أسلفت قبل قليل، الفتاة والفتى في سن الزواج، ربما تتغلب عليهم العاطفة، فيوافقون على زواج، ربما تكون عوامل الفشل موجودة فيه، فإذا وقع الزواج -لا شك- أن المشكلة أصبحت صعبة الحل؛ لكن إذا أفلح الشاب، وأفلحت المرأة في في البحث عن الزوج المناسب، الذي تتفق طبيعته مع طبيعة المرأة، وعن الرجل المتدين أو المرأة المتدينة؛ الذي لا يقبل أن يكون ممن يقضون أوقاتهم في السفر إلى بلاد الكفار، وقضاء الإجازات وتبذير الأموال، والوقوع في الأوحال والمستنقعات الآسنة، إذا أفلح كل من الذكر والأنثى في اختيار الزوج؛ تكون مشكلة الطلاق شبه منتهية، ولو بحثتَ لوجدتَ أن هذا الزواج كان غير صحيح، وقد تَمَّ باستعجال، وعدم تروٍّ أو دراسة، فهذا هو الأمر الأول الذي يجب أن نركز عليه، أما إذا وقع الزواج، فإن حصلت المشكلات -كما سبق- يجب حلها بالطرق السابقة.
زإذا تفاقم الأمر، فقد يكون الحل هو الطلاق، وقد يكون الحل، هو تعدد الزوجات أيضاً، وهذه هي المشكلة الأخيرة التي أريد أن أشير إليها.(101/9)
تعدد الزوجات
فنحن نجد اليوم: أن تعدد الزوجات في مجتمعنا يعتبر جريمة لا تُغْتَفر، لأن كثيراً من الذين تولوا مراكز التوجيه والتثقيف في مجتمعنا ممن لا يراعون الله عزَّ وجلَّ في هذه الأمانات، فكم من مقالٍ وتحقيقٍ كُتِبَ عن تعدد الزوجات، وسلبياته، والمشاكل الموجودة فيه، وشكاوى النساء من التعدد، ومشكلات الرجل مع التعدد، ويطرح بطريقة مثيرة للاشمئزاز، ومؤثرة في نفوس الفتيات بشكل كبير؛ لكنني أسأل نفسي وأسألكم: كم مرة في الصحف كُتِبَ عن هؤلاء الشباب الذي يسافرون إلى بلاد الإباحية الجنسية، ويرجعون وقد فقدوا أخلاقهم، ودينهم، وعتادهم، وفقدوا صحتهم، وجاءوا يحملون كثيراً من الجراثيم والأوبئة والأمراض الجنسية وغيرها.
لا أذكر أنني قرأتُ مقالاً أو تحقيقاً على مستوى قوي يتحدث عن هذا الأمر، بل بالعكس تجد الإعلانات عن وكالات السفر، وعن الفنادق وغيرها التي تستقبل هؤلاء الشباب، وتسهيل المهمة ما أمكن، لكن لا تكاد تجد ضد ذلك، فما أدري ما هو الشيء الذي جعل تعدد الزوجات، الأمر الذي أحله الله ورسوله، والذي يحل كثيراً من المشكلات، والقضية ليس فيها شيء، جعله جريمة لا تُغْتَفَر، وجعل السفر إلى تلك البلاد، وأن يعاقر الشاب فيها الخمر، ويضاجع النساء بالحرام، ويقع فيما يقع فيه -ولا أقول: كل مَن سافر، فهناك أناس يسافرون كثيراً لأغراض أخرى، لكنني أقصد نوعية معينة- جعل هذا الأمر حلالاًَ مباحاً لا يُنْتَقد، حتى من قبل المتزوجين أنفسهم أحياناً.
فتعدد الزوجات أولاً: قد يكون حلاً لمشكلة قائمة، وقد يكون سبباً في عدم وقوع الطلاق الذي تخشاه المرأة، ولو افتُرِضَ أن رجلاً تزوج امرأة مريضة -مثلاً- أو عقيماً لا تلد، أو بينه وبينها مشكلات لا يستطيع أن يستمر معها، لكنه رجل غير متسرع في اتخاذ القرار، ويشفق على هذه المرأة أن يطلقها، وقد يكون طلاقها مؤثراً عليها، وقد لا تجد البيت الذي يؤويها، فيفضل أن يبقيها ويحفظ لها حقوقها، ويضيف إليها أخرى، حتى يحقق بعض ما يريد هو، فهذا أمر والله لا يقول عاقلٌ: إلاَّ أنه أمر هو الحكمة كلها، حتى بالنسبة للمرأة، وهو الرحمة أيضاً ولنفترض: أنه ليس هناك أي مشكلة موجودة على الإطلاق، وترجع إلى أصل التعدد: فرجل لا تكفيه امرأة، ويريد أن يثني، أو يثلث وهذا أمر شرعه الله تعالى وأباحه، فما الذي يحول بينه وبينه؟! ولم يتزوج هو امرأة إلا برضاها وموافقتها، فمن يحول بين هذا الشاب وبين أن يضم إليها امرأة أخرى برضاها وطواعيتها هي، حتى يتدخل أولئك الصحفيون وغيرهم، فيحاولون أن يلوثوا هذا الأمر، ويجعلوا في ذهن الفتاة أن مثل هذا الأمر يعتبر تحطيماً لها وإهانة لمستقبلها! هذه مشكلاتٌ موجودة في المجتمع، ولا أقول: إنها كل المشكلات، بل هي نماذج لمشكلات كثيرة، موجودة في المجتمع، وأقول: إن من الواجب على المرأة المسلمة: أن تتوجه بمشكلاتها إلى من تثق بدينه، لا إلى أولئك الذي يفتحون صدورهم لهذه المشكلات، بل قد يختلقون مشكلات من عند أنفسهم، ويستغلونها في التأثير على المرأة، بل المجتمع وليس تغيير المرأة وتغيير المجتمع كله، وإيجاد نوع من التوتر في العلاقات بين المرأة وزوجها، وبين المرأة وأبيها، والمرأة وأخيها، بل وبين المرأة والرجل بصفة عامة، حيث يحاولون أن يجعلوا المرأة طرفاً والرجل طرفاً آخر، ويقيموا نوعاً من الصراع بين هذين الطرفين، وهذا -طبعاً- وضع قابل للاستفزاز، خاصة وأن المشكلات -كما ذكرتُ- هي موجودة -بلا شك- في كل مجتمع.
أيها الإخوة والأخوات: هذا المجتمع المسلم لا يزال يحتفظ بكثير من المميزات التي حباه الله إياها، بفضل هذا الدين الذي وجد في هذه البلاد، وسيظل -بإذن الله تعالى- على رغم كيد الكائدين ومكر الماكرين.
والواجب علينا: أن ندرك أن حل مشكلاتنا الاجتماعية وغيرها إنما يكون عن طريق التمسك بهذا الدين، وليس عن طريق البحث عن بديل آخر، كمن يحاولون أن يجعلوا مجتمعنا المسلم صورة عن المجتمعات الغربية، وينقلون الأوبئة الموجودة في تلك المجتمعات إلى هذا المجتمع المسلم الطيب الطاهر، فلندرك -فعلاً- من هو العدو من الصديق، ولندرك كيف نستطيع أن نتغلب على هذه المشكلات الموجودة في المجتمع، ولندرك أي هوة سحيقة يقاد إليها المجتمع بواسطة إفساد نصف المجتمع: المرأة، والتي إذا فسدت فسد المجتمع كله، هذا واجب ينتظرنا جميعاً ذكوراً وإناثاً، والمسئولية ملقاة على عاتقنا جميعاً، أن نحصن أنفسنا، ونحصن غيرنا ضد هذه التيارات الهدامة، التي تحاول أن تفتك بهذا المجتمع.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأترك المجال للأسئلة إذا كان هناك بعض الأسئلة، وخاصة الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع.(101/10)
الآمال الطويلة قبل الزواج
إن المرأة، وكذلك الشاب قبل الزواج يبنون قصوراً من الآمال والمثاليات والخيالات، فتجد الشاب يتصور في ذهنه صورة امرأة قد جمعت الحُسن من أطرافه، متدينة، ومثقفة، وعاقلة، وذات أخلاق عالية، وسمحة مقبولة، ويتصور كل ما يخطر في باله من صور الكمال، ويضعها في ذهنه لهذه المرأة، والمرأة على النقيض، تضع من ذلك في ذهنها صورة لهذا الرجل الذي تريد، وفيه كل ما يخطر على البال من صور الكمال، والجمال، والدين، والعقل، والخلق، والغنى إلخ ويتصور الطرفان أيضاً حياة الزوجية، وما فيها من سعادة، وأُنْس، ولذة، وغير ذلك.
فإذا حدث وحصل الزواج نزلوا إلى ميدان الواقع، فبدأت هذه الصورة المثالية تتبخَّر، وهي لا بد أن تتبخَّر، لأنها -أصلاً- صورة مثالية غير واقعية، فبدأت تتبخَّر شيئاً فشيئاً، وبدأ الطرفان يصحو كل واحد منهما على وجود بعض المشكلات التي تعكر صفو العلاقات الزوجية، وما تزال هذه المشكلات تكبر، حتى ربما أدت إلى فصل عُرى هذه العلاقة.
ومن الوسائل التي كثيراً ما تؤدي إلى سوء العلاقة بين الزوجين: ما يحصل من مقارنة لدى كل منهما، فالمرأة مثلاً تجلس مع بعض قريباتها، أو صديقاتها، أو قريبات الزوج، فيجري الكلام مِن قِبَل كل واحدة منهن عما يقع لها في بيتها، فبطبيعة الحال المرأة تريد أن تُظْهِر لدى الأخريات، أنها محظوظة وأنها موفقة في زواجها، فلا تذكر في المجلس إلا الجوانب الإيجابية، أن زوجها اشترى لها كذا، وذهب بها إلى مكان كذا، وقال لها كذا، وقد تذكر الحق وغير الحق، وتضيف إلى الواقع أضعافه، حتى تظهر أمام الأخريات على أنها امرأة موفقة في زواجها، وهذا يدل -بطبيعة الحال- على أنها ذات أخلاق، وأنها امرأة تُحْسِن معاملة الزوج، وكل واحدة تقوم بهذه التمثيلية مع الأخريات، مع أن الواقع أن كل واحدة منهن لديها مشكلات قد تكون كبيرة، لكنها لم تذكر، فترجع كل واحدة إلى بيتها تعض إصبع الندم، وتقول: -مع الأسف الشديد- كل هؤلاء النسوة اللاتي جلستُ معهن يعشن حياة سعادة وأنس مع أزواجهن إلا أنا، وكل واحدة تقول الكلام نفسه، في قرارة نفسها، والزوج يجري له نفس العمل، فهو يجلس مع أصدقائه، فيشعر أن كل واحد منهما سعيد في زواجه، وقد يذكر بعضهم قضايا معينة تدل على وجود السعادة الزوجية، فيشعر كل واحد بأنه هو الوحيد الذي لم يوفق، نتيجة المقارنة.
وهذه المقارنة غير صحيحة؛ لأنكَ إذا قارنتَ بين زوجتك وبين الزوجات الأخريات، أو أنتِ أيتها المرأة إذا قارنتِ بين زوجكِ وبين الأزواج الآخرين، هذه المقارنة غير صحيحة؛ لأنك تقارن وضعاً وحالاً تعرفها معرفة تامة داخل البيت، فأنت تعرف زوجتك معرفة تامة، وتعرف العيوب والأخطاء والسلبيات، في حين أنك لا تعرف من نساء الآخرين إلا ما يُذكر لك من الجوانب الإيجابية، وكذلك المرأة تعرف زوجها معرفة تامة، وتعرف أخطاءه وسلبياته وإيجابياته -أيضاً- لكنها لا تعرف عن الأزواج الآخرين إلا ما تسمعه من زوجاتهم، وهي -غالباً- نواحي إيجابية.
ولذلك في الحديث في صحيح البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله عنها: أن إحدى عشرة امرأة في الجاهلية اجتمعن، وتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فبدأت كل واحدة تذكر حالها مع زوجها، ولا أريد أن أذكر الحديث؛ لأنه طويل، والمقصود أن هؤلاء النسوة يعرفن بأن كل امرأة تمثل حين تتحدث عن وضعها مع زوجها، فلا تذكر الحقيقة، وإنما تذكر تمثيلاً، تخادع به الآخرين في الغالب، ولذلك اتفق هؤلاء النسوة على أن يكن صريحات ولا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً.
ولذلك كانت النتيجة مؤلمة، كانت (واحدة) تقول -مثلاً-: (الأولى) تقول: (زوجي العشنق إن أسكُتْ أُعَلَّقْ وإن أنطق أُطَلَّقْ) .
(الثانية) تقول: (زوجي عياياء غياياء، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جَمَعَ كُلَّاً لك) .
(الثالثة) تقول: (زوجي لا أذكًرُهُ إني أخافُ ألاَّ أذَرَهُ إن أذكُرُهُ أذكر عُجْرَهُ وبُجْرَهُ) و (الرابعة) و (الخامسة) و (السادسة) إلا (الحادية عشرة) وهي: أم زرع، فقد ذَكَرَتْ زوجَها ومكانتها عنده، وأنه أعطاها من كل شيء، فأثنت عليه، ثم ذكرت أنه طلقها، فنكحت بعده رجلاً آخر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: {كنتُ لكِ كـ أبي زرع ٍ لـ أم زرع} .
فالمقصود: أن كل حياة زوجية لا تخلو من وجود بعض مشكلات ومُنَغِّصات، فعلى الزوج والزوجة أن يكونا واقعيَّين، ويتعاملا مع هذه المشكلات بصورة واقعية: - أولاً: يدركا أنه لا بد من التنازل؛ لأنك أنتَ عندكَ أخطاء، ستتحملها زوجتكَ، وأنتِ عندكِ أخطاء سيتحملها زوجكِ، وهناك نوع من التفاوت في الطبائع لا بد أن يوجد -غالباً- ولو قدر يسير منه، فلا بد من التنازل من كل من الطرفين حتى تستمر الحياة الزوجية، ثم إذا تفاقَمَ الأمْرُ، فكما حَكَمَ اللهُ وأَمَرَ: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] فيمكن أن تقوم هذه اللجنة بدور الإصلاح ورأب الصدع، وحل المشكلات التي عجز الزوجان عن حلها فيما بينهما، فإذا تفاقم الأمر فقد تكون هناك حلول أخرى شرعها الله عزَّ وجلَّ، كالطلاق، أو تعدد الزوجات، أو أي حل آخر.(101/11)
مشكلة الزواج
حيث نجد في قضية الزواج صعوبات، من أكثر من طرف، ففيما يتعلق بالمرأة نفسها أصبح لديها شعوراً بأن الزواج يجب أن لا يتم إلا بعد أن يتقدم بها العمر، فهي أولاً: لا زالت صغيرة، وقد يصورون لها أنها لا تزال في مرحلة الطفولة، مع أننا نجد كثيراً من النسوة في الجيل الماضي تزوجت وهي بنت خمس عشرة أو ست عشرة أو سبع عشرة سنة، وأهل هذا الزمان اليوم يعتبرون امرأةً بهذا السن لا زالت طفلة صغيرة، ليس لديها خبرة، وأن أحداً لا يمكن أن يفكر بأن يأخذ بنتاً بهذا السن، ثم بعد أن تدخل البنت إلى الجامعة ترى أن الزواج يعرقل الدراسة، فلا بد من إكمال الدراسة قبل ذلك، فإذا تخرجت أصبح من غير الممكن أن تستلم الشهادة بعد أن تعبت فيها، لا بد أن تنتظر فترة حتى تعود إليها صحتها بعد جهد الدراسة، ومن أجل أن تتوظف بهذه الشهادة التي تعبت من أجلها سنة أو سنتين على الأقل، وعلى انتهاء هذه الأشياء يكون عمرها ربما خمساً وعشرين سنة، والشاب الذي يتخرج من الجامعة وعمره ثلاثاً وعشرين سنة إن لم يكن تزوج خلال الجامعة، فهو بعد الجامعة مباشرة سيتزوج، وهو يبحث عن من تكون أصغر منه -على الأقل- بسنة أو سنتين أو أكثر من ذلك، فتجد أن هذه المرأة قد تعداها قطار الزواج، وأصبحت تنتظر على غير جدوى، فبعد فوات الأوان تصحو، وتقدم شيئاً من التنازل في غير أوانه، فلا تجد من تريد، ثم تتنازل مرة أخرى وثالثة، حتى إنها قد تقبل -مثلاً- برجل متزوج، أو تقبل بإنسان لا تتوفر فيه الشروط، لكنها لا تجد مثل هذا، لأن هؤلاء وجدوا غيرها.
إن هذه المشكلة، أوجدت عندنا كثيراً من النساء في سن السابعة والعشرين إلى الثلاثين وأكثر من ذلك لم يتزوجن، ومثل هذا مؤسف جداًَ من عدة وجوه: - من جهة لأن المرأة التي تدمر المجتمع هي: المرأة التي لم تجد طعم الأمومة، والتي حُرمت من الأمومة، ومن هؤلاء الأطفال الذين يملئون عليها حياتها، هي المرأة التي تدمر المجتمع، ولو بحثت عن تاريخ أي امرأة كان لها تأثير سلبياً في مجتمعها؛ لوجدت أنها تلك المرأة التي فقدت الحنان في طفولتها، وفقدت الأمومة في كبرها، أو فقدت أحدهما.
- ومن جهة ثانية: فإن المرأة مهما رفضت الزواج في سن معين، فإن هذه الغريزة والشهوة مركبة فيها كما هي مركبة في الرجل، وهذه الشهوة غير قابلة للتأجيل، فهي تتحرك وتدعو المرأة وتحرضها، فإمَّا أن تقع المرأة في الحرام، أو تقع ضحية لكثير من الأمراض النفسية؛ بسبب شعورها بأنها لم تستجب لهذا النداء الداخلي المركوز في فطرتها.
وهناك عقبات تعترض الزواج ليس من المرأة نفسها، بل من المجتمع، فالأب له مزاج وطلب، والأم لها مزاج وطلب، والإخوة لهم آراء خاصة في موضوع الزواج، وفي كثير من الأحيان قد يتقدم للفتاة خاطب واثنان وثلاثة، ويُردُّون دون علمها، وقد يكونون هم أكْفَاء، وبالمقابل قد تُكْرَه الفتاةُ بطريقة أو بأخرى على الزواج من رجل لا تريده، وهذا سبب لكثير من المشكلات، وربما يكون من أهم أسباب الطلاق، وهو أمر لا يجوز في الشريعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر باستئذان البكر، ونهى عن إكراهها، وحكم للبكر التي زُوِّجَت بغير رضاها بِرَدِّ نكاحِها، وهذا يخالف مصلحة المرأة نفسها، ويخالف أصول الشريعة، فإذا كان الأب ليس من حقه أن يتصرف في قدر قليل من مال المرأة إلا بإذنها، فكيف يتصرف في جسدها، وفي أعز ما عندها بغير إذنها، هذا أمر لا يسوغ لا عقلاًَ ولا شرعاً.
فتأخير الزواج له آثار وخيمة على المرأة، ومهما كانت أسبابه، فإن الواجب أن تدرك المرأة المسلمة، ويدرك الشاب المسلم ويدرك أولياء الأمور؛ بأن الزواج قضية حيوية غير قابلة للتأجيل، ولله در ذلك الصحابي الذي كان في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة تهدي نفسها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فنظر فيها، فكأنه لم يقبلها عليه الصلاة والسلام، فقال هذا الرجل: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال له: {هل عندك مهر؟ فذهب يبحث فلم يجد شيئاً، فقال: التَمِسْ ولو خاتماً من حديد فذهبَ ولم يجد خاتماً من حديد، قال: يا رسول الله! ليس عندي إلا إزاري هذا -ليس عنده إلا ثوبه، يريد أن يعطي المرأة نصفه مهراً- فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتَها إزارَك بقيتَ، ولا إزار لك ثم أنكحه إياها بما معه من القرآن} أي: على أن يعلمها القرآن، لقد أدرك هذا الرجل بأن قضية الزواج مهمة إلى حد أنه مستعد أن يتخلى عن نصف ثوبه من أجل تحصيل الزواج.
وكثير من الناس اليوم، وخاصة الفتيات تجد أنه يتقدم الرجل الكفء، فترفض مجرد التفكير في الزواج لعدة اسباب، منها: أنه قد يحجزها عن مواصلة الدراسة، أو أنها تريد أن تتوظف، أو لأي سبب آخر، ولا تصحو إلا بعد فوات الأوان، وهذه مشكلة لها آثارها السلبية في المجتمع -كما أشرتُ-.
وبعد أن يتحقق الزواج توجد أيضاً مشكلات، من أهمها:(101/12)
مشكلة قسوة الآباء على بناتهم
ولا شك أن البنت أحوج إلى الرعاية والعطف من الذكر؛ لأنها تُعد مستقبلاً لتكون حاضنة الأجيال، ولتفرغ هذا الحنان -الذي تلقته في البيت- في أولادها وذريتها؛ حتى ينشأ جيلاً صالحاً مستقيماً، فإذا فقدت البنت الحنان والعطف والأبوة في بيتها، فإنها تكون قد فقدت هذا الأمر، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وكثير من الآباء لا يعطون بناتهم من الرعاية والعطف والحنان ما يجب، ويهملون كثيراً من مطالبهن العادلة والمشروعة، بل وأزيد من ذلك أنك تجد كثيراً من الآباء يعاملون بناتهم بقسوة، حتى إن إحدى الأخوات الطيبات كتبت يوماً من الأيام تعرض مشكلة تواجهها في البيت، وتشير إلى أن أباها ذلك الرجل الذي يصوم النهار، ويقوم الليل، ويحفظ القرآن، ويُكثر من التهجد والبكاء يعاملها بمنتهى القسوة، ويضربها إلى حد أنها لا تتحرك إلا إلى الطبيب، وقد يتهمها بشتى التهم المتعلقة بالعِرض وغيره، وقد يتهم أمها من وراء ذلك، ويُفسر كل تصرف يصدر منها على أنه عناد وتحد له.
فإذا كانت -مثلاًَ- لا تُحسِن بعض الأشياء من شئون البيت، بحكم أن تجربتها فيه قليلة، اتهمها بأنها تتعمد تجاهل هذه الأشياء، وعدم معرفتها عناداً وتحدياً له، وتقف البنت المسكينة التي ما زالت في مطلع شبابها، في هذا الوضع الحرج، ليس بيدها حول ولا قول إلا أن تنتظر من أبيها يوماً بعد يوم مثل هذه المواقف المؤثرة المحزنة، ولو صدرت مثل هذه المواقف من رجل سِكِّير منحرف لا يعرف لله حقاً لما كانت مستغربة، لكن أن تصدر من إنسان مؤمن مصلٍّ، فهذا هو الأمر الغريب، وقد أشارت هذه المؤمنة في مشكلتها إلى أنه لم ينقذها مما هي فيه، إلا أن الله عزَّ وجلَّ وفقها بأخوات طيبات بَيَّنَّ لها أهمية الحجاب، وضرورة البُعد عن الأغاني، والالتزام بدين الله، فوجدت في ذلك بعض العزاء والسلوى.
مثل هذه المشكلة، عندما تقع في يد إنسان ممن يعتبرون أنفسهم مربين أو موجهين أو خبراء تجد أنه يصطاد في الماء العكِر، فيشير إلى هذه البنت بخطورة فعل الوالد وجريمته، ولا يزال يحاول أن يملأ قلب البنت بالحقد على أبيها، ثم يُشعرها بأنه وأمثاله هم اليد الحانية التي يمكن أن تجد عندها هذه البنت الحل لمشكلتها.
بل قد يترتب على ذلك أن تشعر البنت، بأنها لا بد أن تنتقم من أبيها بكل وسيلة؛ حتى ولو بتدمير كرامته وتشويه سمعته عن طريق الفضائح الأخلاقية التي ستلاحقه -في ظنها- إلى الأبد.
فهكذا تجد أن مثل هذه المشكلة إذا وقعت في يد إنسان لا يخاف الله، فإنه يستغلها بطريقة سيئة، ويحاول أن يجعل منها معولاً يهدم من خلاله المجتمع المسلم، فهذه مشكلة قائمة وموجودة في مجتمعاتنا، ولا بد أن ندرك أن الله عزَّ وجلَّ جعل هؤلاء النسوة، سواء أكُنَّ زوجات أم بنات، أسيرات لدينا، ونحن مسئولون عنهن أمام الله عزَّ وجلَّ، فالمسلم يدرك أن هذه المسئولية سيُسأل عنها، ومن ثََمَّ لا يتصرف فيها إلا وفق ما يرضي الله تبارك وتعالى، وهذه المرأة المظلومة إذا دعت الله عزَّ وجلَّ بقلب صادق، فحريٌّ أن يجيب الله دعاءها، فإن المظلوم لا تُرَد دعوتُه، كما قال صلى الله عليه وسلم: {اتَّقِ دعوةََ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} والمظلوم حين يكون عاجزاً عن الانتصار ممن ظلمه، فإن دعاءه أقرب إلى الإجابة.
وقد يقول قائل: إن الحل لمثل هذه المشكلة هو الزواج، حيث تنتقل البنت من هذا البيت الموبوء إلى بيت آخر، تجد فيه السعادة، وهذا -بلا شك- أنه من أحسن وأنجح الحلول إذا كان ممكناً.(101/13)
الأسئلة(101/14)
حكم تناول حبوب منع الحمل في رمضان
السؤال
ما حكم تناول حبوب منع الحمل في شهر رمضان؛ لكي تمنع الدورة من أجل الصوم والصلاة والعبادة في هذا الشهر المبارك؟
الجواب
تناول الحبوب في الحج من أجل أن تستطيع المرأة أن تطوف طواف الحج، لا بأس به؛ لأنها قد تحيض فتذهب رفقتها، وهي لم تقضِ حجها، فهذا يسبب لها إشكالاً.
أما في رمضان فلا تستعمل المرأة الحبوب، بل تجلس أيام عادتها وحيضها، وإذا طَهُرت صامت، ثم إذا خرج رمضان قضت ما عليها، هذا هو الأَولى؛ لأن خروج دم الحيض أمر طبيعي فطري، ومعارضة الشيء الفطري دائماً تؤثر في نفس المرأة، وفي صحتها وجسمها، وفي استمرار حيضها، وتسبب اضطرابات في العادة وغير ذلك، لكن لو فعلت فليس هذا حراماً فيما يظهر.(101/15)
دراسة النساء للطب
السؤال
ماذا عن دراسة البنات لتخصص الطب، لا سيما في قسم النساء والولادة، حتى ولو كانت الدراسة تحت أساتذة ذكور، وذلك طمعاً في إيجاد طبيبات للنساء مستقبلاً؟
الجواب
تعلم المرأة المسلمة لأي مهنة يحتاجها المجتمع، هو فرض كفاية، ولذلك فالواجب على الفتاة التي تستطيع أن تواصل دراستها في الطب، أو في غيره من الأعمال التي يحتاجها المسلمون أن تواصل هذه الدراسة، مع المحافظة على الحجاب، والبُعد عن التبرج، والحرص على الظهور بالمظهر الإسلامي في كل مناسبة، وإن وجدت بعض السلبيات في هذا الأمر، كالسلبية التي أشارت إليها الأخت وغيرها، فيمكن اتقاؤها.
إذا لم يمكن دفعها، فيمكن تحملها مع المحافظة على الحجاب -كما ذكرتُ- حتى نستطيع في المستقبل أن نوجد المرأة المسلمة التي تحل محل هذا الرجل، فتدرس الطالبات المسلمات، وتمرِّض المسلمات، فلا يحتجن إلى رجل، وهذه مصلحة ظاهرة.(101/16)
عدم العدل بين الزوجات والتعدي عليهن
السؤال
هذه سائلة تقول: كثير من الرجال الذين تزوجوا بأكثر من واحدة نجدهم لا يعدلون بين نسائهم، بل إن أحدهم يضرب إحداهن أمام الأخريات، أرجو الإفادة والنصيحة؛ لأن زوجي من هذا الصنف، وهو جالس أمامك؟
الجواب
أما النصيحة فإن قضايا علاقة المرأة مع الرجل لا يحكمها إلاَّ الخوف من الله، ولذلك الله -عزَّ وجلَّ- في سورة البقرة لما ذكر قضايا الطلاق، وأحكام الطلاق أدخل فيها آية، قد يظنها الظان أجنبية عن السياق، بعد الكلام عن أحكام الطلاق: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالَاً أَوْ رُكْبَانَاً} [البقرة:238-239] ثم رجَع السياقُ إلى الكلام عن موضوع الطلاق، والعلاقات الزوجية، والذين يُتَوفون منكم، إلى آخر الآيات، لماذا دخلت آية الصلاة في وسط سياق الطلاق، والعلاقات الزوجية؟! لأنه ليس هناك شيء يمنع الرجل من الظلم والخطأ والجَور إلاَّ ارتباط قلبه برب العالمين، وإلاَّ شعوره بأن الله عزَّ وجلَّ يُحصي عليه مثاقيل الذر، وأن جميع هذه الأشياء التي يقع فيها محسوبة، وإلاَّ فالإنسان إذا فَقََدَ الشعور برقابة الله عزَّ وجلَّ، فيمكن أن يقع في أعظم من ذلك، فالنصيحة أن الإنسان يتقي الله عزَّ وجلَّ، ويعلم أن النساء كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهن: {عوان عندكم، استحللتم فروجهن بكلمة الله} فحرام عليك أن تسيء إلى هذه المرأة أو تظلمها، أو تهضمها، أو تفضل غيرها عليها، خاصة أمام الأخريات، فهذا نوعٌ مِن أقرب وأشبه ما يكون -إن صح التعبير- باللؤم، لأنه ما معنى أنه يسيء إلى واحدة أمام الأخريات؟! هذا لا يسوغ بحال من الأحوال، حتى لو استحقت المرأة اللوم أو التقريع أو التوبيخ فيكون هذا على انفراد؛ لئلا يؤثر في نفسيتها، ويضرها بذلك، ويدمِّر شعورها.
أما وجود هذا الأمر، فهو صحيح، لكن هل هذا يؤثر في طريق التعدد؟ إن كان هذا يؤثر في طريق التعدد، فيجب أيضاً أن نلغي الزواج من الأصل؛ لأن كثيراً من الأزواج، حتى لو لم يكن عنده إلا واحدة، تجد أنه يعيش هو وإياها في شقاء ومشكلات طويلة عريضة، هذا طبيعي أن يقع؛ لأن الإنسان يمكن أن يعيش لوحده بشيء من السعادة، لكن إذا انضم إليه آخر بدأت بعض المشكلات؛ لأنهما صارا اثنان، ولو جاء ثالث زادت المشكلات بنسبة أخرى، ورابع، وهكذا، هذا هو الغالب، فوجود مشكلة أو وجود حالات غير سوية -كما في السؤال- هو من حيث الواقع أمر صحيح ويقع، لكنه لا يؤثر على الأصل.(101/17)
دور الجمعيات النسائية
السؤال
فضيلة الشيخ، نرجو إيضاح دور الجمعيات النسائية في تربية المرأة المسلمة في هذا البلد؟
الجواب
الجمعيات النسائية نشأت -أصلاً- في مصر وغيرها من البلاد، وكان القائمون والقائمات عليها من أمثال: نازلي فاضل، وهدى شعراوي، وأمينة السعيد، وغيرهن من النساء، اللاتي تلقَين معلوماتهن وثقافتهن من الغرب، وكانت صلتهن بالمستعمر البريطاني قوية، وكان يدعم هذه الخطوات، ويدعوهن إلى حضور المؤتمرات النسائية التي تقام في أماكن مختلفة من العالم، ويشجع هذه الخطوات شيئاً فشيئاً، وربما حضرت بعض النساء المرموقات من أوروبا إلى مصر، وشجعت وأيدت، وكان من أهم آثار موضوع هذه الجمعيات النسائية: المطالبة بتحديد الطلاق، والمطالبة بمنع تعدد الزوجات، والمطالبة بسفور المرأة، والمطالبة بما يسمونه الحقوق السياسية للمرأة، وشيئاً فشيئاً بدأت المرأة تتخلى عن أنوثتها وكرامتها ولباسها الشرعي، حتى وصلت المرأة إلى ما وصلت إليه الآن، من الوضع الذي يُرثي، وكل إنسان يعرف حكم الله ورسوله في النساء وآداب الإسلام، يشعر بالحسرة والمرارة، كلما يرى ما آلت إليه كثيرٌ من البلاد الإسلامية من التفسخ والانحلال.
أما في هذه البلاد: فالواقع أن الجمعيات النسائية جمعيات مغلقة، لا أعرف أنا عنها شيئاً ظاهراً، وبعض الحفلات التي تعلن في الصحف عن هذه الجمعيات تثير علامة استفهام! وقد يكون هناك فرق بين بعض الجمعيات وبين بعض، فأنت بالمقابل تجد -أحياناً - هناك جمعيات قد يكون فيها عناصر طيبة، فتهتم -مثلاً- بالمحاضرات، وبرعاية الأيتام، والحجاب، وبالثقافة الإسلامية، وتُبعِد عن هذه الأشياء التي لا تتناسب مع تعاليم الإسلام بالمرَّة، والكلام المفصل عن هذا يتطلب معلومات أوسع.(101/18)
خروج النساء إلى السوق
السؤال
هل يجوز خروج المرأة مع مجموعة نساء للسوق، بحجة انتفاء الخلوة إذا دخلت عند صاحب المحل؟
الجواب
إذا كان خروجها للسوق لحاجة صحيحة، تريد أن تشتري شيئاً، أو حاجة لا يقضيها إلا هي، فلها أن تخرج برفقة هؤلاء النساء، أو بغير رفقتهن، بعيدة عن التزين والتطيب والتبرج والتعطر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن: {أي امرأة استعطرت، ثم خرجت، ثم مرَّت على رجال ليجدوا ريحها، فهي زانية} والحديث صحيح وهو في في: سنن النسائي وغيره، هكذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا خرجت المرأة لحاجتها، بملابس بعيدة عن التزين والإثارة، وبدون طيب وبلا تبرج، فلا بأس بذلك.(101/19)
مفاهيم وآراء انتشرت
السؤال
فضيلة الشيخ -أثابكم الله- هناك مفاهيم وآراء انتشرت فما حكمها: الأول: شهر العسل؟
الجواب
شهر العسل يقصدون به: الشهر الأول من الزواج ولا أعتقد أن لهذه العادة أصل في الإسلام، باعتباره شهراً محدداً، وربما له أنظمة خاصة، وبعضهم قد يسافرون إلى بلاد خارجية، فيبدءون حياتهم الزوجية بداية سيئة، بالذهاب إلى بلاد لم تعرف الله تبارك وتعالى ولم تعرف الخلق، ولا الحياء، ولا الحجاب، ولم تعرف هذه الأخلاقيات التي لا يكاد يتذوقها إلا الإنسان الذي نشأ عليها وعرف قيمتها، فمثل هذا ليس له أصل -فيما أعلم- في الشريعة.
ثانياً: البيت الشرعي لكل زوجة لمن يريد أن يتزوج امرأة ثانية؟ إذا تزوج الإنسانٌ امرأة أخرى فلا يضعها مع الزوجة الأولى؛ بل يضعها في بيت مستقل ومن حق الزوجة أن تشترط هذا، ويجب على الرجل أن يفي بشرطه: {فإن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج} و {المؤمنون على شروطهم، إلا شرطاً حلل حراماً، أو حرم حلالاً} .(101/20)
مديرة تطلب وضع الحناء ورفع العباءة
السؤال
ما رأي فضيلتكم في مديرة مدرسة تأمر الطالبات أن يضعن في أيديهن الحناء ويكشفنها، وكذلك تأمرهن بأن يرفعن العباءة إلى السرة؛ بحيث يكشفن ما يلبسن؟
الجواب
إذا حدث هذا فهذه مصيبة.
إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضارباً فشِيْمَة أهلِ البيت كُلِّهِمُ الرَّقْصُ إذا كانت مديرة المدرسة، والأمانة في عنقها -والمفترض أنها قدوة حسنة- تأمر بمثل هذا، فما أدري كيف تكون التربية؟ وكيف يكون التعليم؟ لكن عصيان مثل هذه المرأة -إن صح عصيانها- واجب، ويجب أيضاً نصحها بأن تكف عن مثل هذه الأشياء، وتدرك أنها في مقامها في خدمة الأخلاق العالية، وبناء الفضيلة في نفوس الطالبات، وليس غير ذلك.(101/21)
عدم الإنجاب
السؤال
ما توجيه فضيلتكم للمرأة التي لم يُكتب لها الإنجاب، سواء أكان العجز منها أم من الزوج، وخصوصاً إذا كان من الزوج؟ حيث يُلاحظ أنها تطالب بالطلاق؟
الجواب
إذا كان عدم الإنجاب من المرأة، واستنفذت الوسائل الممكنة للعلاج وغيره، فعليها أن تسلم أمرها إلى الله، وتثق به، وتدرك أن هذا قضاء الله، يخلق ما يشاء: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] فالله -عزَّ وجلَّ- له العلم وله القدرة، وأعماله سبحانه كلها مبنية على العلم والحكمة، وليس على العبث -تعالى الله عن ذلك-، وهو قدير أيضاً، فيفعل ما يشاء سبحانه، فالمسلم يرضى ويسلم بقضاء الله وقدره، مع فعل السبب الممكن.
أما إذا كان عدم الإنجاب مِن قِبَل الزوج، فإن رضيت المرأة وصبرت معه، ورأت أن في حياتها معه أنساً وسعادة وخيراً، وهي تفضل البقاء معه، فلها الحق في ذلك، وإن كانت تحن إلى الأولاد، وهذا أمر فطري، وأكثر النساء تتطلع نفسها إلى وجود الولد الذي يشبع عاطفتها، والذي يخدمها، وربما تحتاج إليه في مقتبل الأيام؛ فلها الحق أن تطلب الفسخ من هذا الزوج، لعل الله أن يرزقها بالذرية الصالحة.(101/22)
إجراء عملية للمرأة من قبل طبيب
السؤال
حَضَرَت زوجتي آلامُ الوضع، فذهبت بها إلى المستشفى، ففوجئت بأنه سيشرف على عملية الولادة رجل، وعند سؤالي عن إمكانية أن تولدها امرأة، أفادوني بأن هذه الفترة مناوبة الطبيب، ولا يوجد طبيبة في هذا الوقت، وعندما أردت الانتظار لحين حضور الطبيبة، ذكروا بأن المسئولية ستقع عليَّ لو حدث حادث، فاضطررتُ للرضوخ لأن يُجري العمليةَ رجلٌ، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كان ممكناً أن تجري العملية امرأة، فلا يجوز ولا يحل للرجل أن يُجريَها، ولا للزوج أن يمكن الطبيب من ذلك، لأنه سوف يكشف عن عورة المرأة، وهذا أمر صعب أن يُقبل به، فكان الأحرى بالزوج أن يذهب بزوجته إلى إحدى المستشفيات الأهلية أو المستوصفات أو غيرها، وربما لو اتصل ببعض المسئولين أيضاً في المستشفى، لأنه من المجرب أن بعض الأطباء -أحياناً- قد لا يعطون الحقيقة كاملة.
وقضية أن المسئولية عليه، فإذا كانت القضية قضية خطيرة -فعلاً- فالإنسان قد يرضخ أحياناً، لكن في الغالب أن هذه أمور قابلة للتأجيل ولو لوقت يسير.
وبعض الأطباء أيضاً -وهذا يحدث- يستغلون جهل المراجع لهم وعلمهم هم، فيُهوِّلون الأمر، فلو أرادوا أن يجروا أي عملية ولو كانت بسيطة، فرفض المسئول هددوه بأن المسئولية عليك، وأن هذا قد يتطور، صحيح أن كل شيء محتمل من حيث الاحتمال العقلي المحض، فوضعوه في حالة تخوف تجعله يذعن بأن يقبل بمثل هذه الأشياء، فكان الأولى بالزوج أن يبحث عن غير هذا المستشفى ولو مستوصفاً أو مستشفى أهلياً أو غير ذلك، وهذا أمر أعتقد أنه ممكن، حتى ولو دفع بعض المال.(101/23)
نصيحة إلى المتبرجات من النساء
السؤال
نرى كثيراً من النساء متبرجات من هذا المجتمع، فلا نستطيع ردَّهن عما هن فيه، حيث يخاف الرجل أن يَفْتِنَّ عليه، فيعجز بذلك عن نصيحتهن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فماذا تشيروا علينا بذلك؟
الجواب
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإذا فقده الإنسان فقد الإيمان، فأي: إنسان يرى المنكر، ولا يمتعض قلبه، هذا ليس بمؤمن، {وذلك أضعف الإيمان} وفي رواية: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} كل هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنسان يرى المنكر بعينه، أو يسمع بأذنه، أو يعلم بوجوده، ولا يمتعض، هذا ليس بمؤمن، فكيف إذا أحب المنكر والعياذ بالله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19] .
والأخ الذي يرى المنكر، عليه أن يغيره ما استطاع، فإن كانت مرأة وهو يشعر بأن الكلمة الطيبة تؤثر فيها فيتحدث معها من بُعد -أيضاً- وبصورة لا تدعو إلى الريبة؛ أن هذا العمل لا يسوغ ولا يجوز، وإن أمكن أن يستدل لها بما تيسر فأمر طيب، وإن رأى أن هذه المرأة فيها وقاحة وجراءة، وربما تسيء إليك، أو يحدث من الضرر أضعاف ما أردت من النصيحة فاترك؛ لأن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحصيل المصلحة، فإذا رأى أنه ستقع مفسدة أكبر منها فليترك، ولكن عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إجمالاً، في أوساط النساء، ابتداءً، وليس فقط حينما يرى المنكر.(101/24)
حكم مصافحة المحارم
السؤال
فضيلة الشيخ: معروفٌ أنه لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية، السؤال: ما هي كيفية السلام على المحارم من النساء كالابنة، والأخت، وأم الزوجة؟
الجواب
تحرم مصافحة المرأة الأجنبية، وهؤلاء النسوة لسن بأجنبيات، فيسلم الإنسان عليهن كما يسلم على غيرهن، هؤلاء النسوة كأمه، أو أخته، أو أم زوجته، أو سواهن، يسلم عليهن كما يسلم على غيرهن، كما يسلم على الرجال، أما إن كان يقصد ما يتعلق بالمعانقة أو القبلة، فينبغي للإنسان أن لا يقبل أخته أو قريبته في فمها، وإذا كانت الشهوة مندفعة -وهذا هو الوضع الطبيعي- فله أن يسلم عليها إذا جاء من سفر، ويقبلها -مثلاً - في جبهتها أو نحو ذلك، هذا فيما يتعلق بالأخت، أو البنت، أو نحو ذلك.(101/25)
تغطية وجه المرأة
السؤال
كتبت امرأة في إحدى المجلات، تقول: إن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لا يغطين وجوههن، بل يحتجبن بالحجاب المعروف، وقد حدث هذا -وللأسف- وصدقت به زميلات كثيرات، وعندما أقول لهن: إن ذلك محرم، يقلن: لا، ليس هناك دليل، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
كل إنسان يمكن أن يدعي ما يشاء، والشاعر يقول: والدعاوى ما لم يُقيموا عليها بينات أصحابُها أدعياءُ فكل إنسان يمكن له أن يدعي دعوى مثل الدعوى التي في السؤال السابق، وهذه الدعوى أن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغطين وجوههن: لا يوجد أحد يحول بينه وبين أي دعوى يريدها، لكن الشيء الذي يجب أن نطالب به دائماً وأبداً هو: إقامة الدليل، هاتِ المصداقية على ما ذكرتَ، وعلى أي أساس اعتمدت؟ ففيما يتعلق بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم في: سنن أبي داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: [[إن الركبان إذا حاذَونا ونحن محرمات، كانت إحدانا تسدل جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه]] .
وهذا صريح في أن المرأة يجب عليها أن تغطي وجهها؛ لأن تغطية المرأة لوجهها في الإحرام لا يجوز على المشهور، فكونها تغطي وجهها في الإحرام دليل على أنها لم تغطِّه إلاَّ لتؤدي واجباً آخر، وهو ستر الوجه عن غير المحارم، فإذا قال قائل: إن هذا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم احْتُجَّ عليه بالحديث الآخر الذي رواه: مالك في: الموطأ بسند صحيح، عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: [[كنا نذهب مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها للحج -نسوة مؤمنات- فإذا حاذانا الركبان سدلت إحدانا جلبابها على وجهها]] .
فدل -أيضاً- على أن الحجاب كان معروفاً ومشروعاً وواجباً؛ حتى إن المرأة تحتجب في حال الإحرام، مع أن المفروض: أنها في حال الإحرام تكشف وجهها إذا لم تكن بحضرة رجال أجانب، فكونها تغطيه دليلٌ على أن تغطيته واجب، وهذه أدلة صريحة.(101/26)
النساء والموضات
السؤال
هذه سائلة تقول: فضيلة الشيخ: بالأمس القريب، وأنا خارجة من هذا المسجد، شاهدت بعض الأخوات، من النساء يخرجن من هذا المسجد، وهن يرتدين ملابس ضيقة جداً، بل إنه خرج نصف ساقها، حيث انتشرت هذه الظاهرة، وهي وجود فتحة في أسفل الثوب من الجنب قد يصل طولها إلى أسفل الركبة، فما حكم هذا؟
الجواب
الله المستعان {لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة} مصيبة كبرى! نحن نقع في تناقض، الرجل يسبل ثوبه شبراً أو ذراعاً، لماذا؟! لأنه مأمور بأن يرفع ثوبه، والمرأة المأمورة بالستر تجد أنها ترفع ثوبها شيئاً فشيئاً -كما أشارت السائلة- وهناك ظواهر موجودة في تقصير الثياب إجمالاً، وفي رفع الملاءة أو العباءة، وفي تقصير حجاب الوجه، وتخفيفه، فهذا دليل قوي على أن التربية الإسلامية لدى هؤلاء الأخوات ضعيفة، وإلا -فأصلاً- ما معنى كلمة: (إسلام) ؟ كلمة: (إسلام) معناها: أن المنتسب لهذا الدين قد سلم نفسه لله -عزَّ وجلَّ- واستسلم، بحيث إنه يتلقى جميع الأوامر والنواهي، والتوجيهات والتصرفات عن الله ورسوله، ويضرب عُرض الحائط بكل ما خالف ذلك، حتى ولو أطبق عليه الناس كلهم، فإذا كان الله يأمر المسلمة بالستر، والتصوُّن، والبعد عن الريبة، وأن لا يظهر منها شيء وفي الترمذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان} وأم سلمة لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال برفع الثياب، قالت: يا رسول الله! فالنساء، قال: {يرخينه شبراً -أي الثوب- قالت: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: يرخينه ذراعاً، ولا يزدن على ذلك} .
فهي المرأة المؤمنة التي تشعر أن انكشاف القدم من خلال المشي وتحرك الثوب أمر محظور ومحذور، فتعمل على اتقائه، لكن لو جاءت الموضة أن المرأة تلبس ثوباً يسحب خلفها متراً أو مترين وعرضه كذا وطوله كذا -والله الذي لا إله إلا هو- أنكِ تجدين كثيراً من الفتيات، خاصة المتبرجات يسارعن إليه؛ لأن هذا الأمر تقتضيه الموضة، فالمسلم والمسلمة والدِّين تَبَعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس على حسب ما تصدره بيوت الأزياء التي غالب مصمميها من اليهود.
والواجب بين الأخوات المسلمات النصيحة بالكلمة الطيبة، وإهداء الشريط، أو الكتاب، والموعظة، و {الدين النصيحة} كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.(101/27)
استئذان البكر
السؤال
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن البكر تُسْتأذَن في الزواج، ولكن إذا كان الزوج فيه جميع المواصفات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الخاطب، ولكن رفضت هذه البنت الزواج، فما حكم ذلك؟ وهل تستأذن في هذه الحالة؟ أم لا؟
الجواب
نعم، تُسْتَأذَن حتى في هذه الحالة، ومن حقها ألا تقبله؛ لأي سبب، ولكن يجب أن يُنْتَبَه إلى عدة أمور: أولاً: إذا كانت المرأة أو الفتاة تطلب إنساناً منحرفاً غير مستقيم، فيشعرها وليُّها حينئذٍ بأن مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يقبل به هو، ومن حقه أن يرفض الشخص المنحرف.
الأمر الأخر: إذا كانت الفتاة ترفض هذا؛ لأنها لا تريد الزواج، فمن حق الأب، وغير الأب أن يضغطوا عليها في البيت، وفرق بين الضغط عليها لتتزوج بمن تريد من الأشخاص الذين تتوفر فيهم المواصفات، وبين أن تُكرَه على شخص معين لا تريده.(101/28)
حكم السفر لطلب العلم بدون محرم
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم لطلب العلم -مثلاً- امرأة تأتي من دول الخليج تدرس في جامعة من جامعات المملكة، علماً بأن الرحلة في الطائرة، ولمدة قصيرة؟
الجواب
الأصل: أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر إلا ومعها محرم، وهذا أمر وردت به النصوص الكثيرة في: الصحيحين وغيرهما، فلا يجوز لهذه المرأة ولا لغيرها أن تسافر من دول الخليج إلى هذه البلاد أو سواها بدون محرم، حتى ولو كانت في الطائرة، ولو كان الوقت يسيراً، فقد تتعرض الطائرة للتأخر، وقد يحصل عطل، وهذا يقع أحياناً، ثم إن الفتنة موجودة، حتى داخل الطائرة، وهذا شرع الله -كما سبق- والإنسان إذا حرص يسَّر الله له السبب، فلا تَعْدَم المرأة: أن تجد ولياً يأتي بها من بلدها إلى إي بلد آخر لتتعلم، وكذلك الشأن في موضوع الرجوع.(101/29)
علاج العشق
السؤال
ما هو علاج مَن ابتُلِيَ بالعشق؟
الجواب
-لا شك- هذه بلوى عظيمة، والشيطان يحارب الإنسان على كل ميدان، لكن إذا كان الشيطان يحارب الإنسان في سائر الميادين فإنه مثل العدو الخارج يدافعه الإنسان، فينتصر عليه مرة، وينهزم أخرى، وهكذا، والدهر دول، لكن ما بالكم ببلد محصَّن جاء العدو فاقتحم هذه الحصون، ودخل في الشوارع، وصار أهل البلد يقاتلونه في الشوارع، الأمل حينئذ في الانتصار ضعيف جداً، ويتطلب مزيداً من المقاومة، وأنا لا أقول: هذا أمر ميئوس من شفائه، لكنني أقول: يتطلب مزيداً من المقاومة.
فالأمر الأول الذي يجب التنبيه إليه: هو: أن يسأل -أصلاً- لماذا وقع الإنسان في هذا العشق؟ وقع في العشق؛ لأنه يتطلع، ولإنه كثير الأماني والأحلام، يطلق بصره في الحرام، وكما يقول الشاعر: كل الحوادث مبداها من النَّظَرِ ومعظمُ النار مِن مستصغَر الشَّرَرِ كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحبها فَتْكَ السهامِ بِلا قوسٍ ولا وَتَرَ يَسُرُّ مقلتَه ما ضَرَّ مهجتَه لا مرحباً بسرور جاء بالضَّرَرِ فالإنسان إذا نظر ربما يترتب على هذه النظرة الحرام، أن تقع هذه الصورة في قلبه، فيقع في عشق الصور والعياذ بالله، ولا نقول: هذه قضية روحية! أبداً، فالإنسان يعشق الصورة الجميلة، وكما قال بعض الأدباء: أرأيتم العشاق المعروفين في التاريخ، والذين يذكرهم الأدباء وسواهم، لو أن الفتاة أو المرأة التي عشقوها أصيبت -مثلاً- بالجدري أو غيره من الأمراض التي شوهتها، فهل ترى كان يقع منه هذا العشق؟ الجواب: لا، فالعشق مربوط بالنظر، والإعجاب لكل حال، فالإنسان عليه أن يصون بصره عما حرم الله، وهذا يؤكد لك فضل الإسلام حين حسم القضية من أصلها، فمنع النظرة الحرام؛ لأن النظرة الحرام لا تنتهي عند مجرد نظرة عابرة، بل قد تتعداه إلى أمنية، ثم إلى رغبة، ثم إلى كلام، ثم إلى موعد، ثم إلى لقاء وعشق، وقد يكون في هذا خسارة للطرفين، في الدنيا والآخرة، وبعض العشاق والعياذ بالله يصل قلبه إلى حد التأله لهذا المعشوق، حتى إنك لا تجد في قلبه إلا معشوقه.
ويقول أحدهم: إنني وأنا ساجد بين يدي رب العالمين تبارك وتعالى أتذكر معشوقي الذي يؤمن به، إنه يدعو الله، ويسبح الله، وليس في قلبه إلا معشوقة، ولا يُخْلص في الدعاء إلا إذا جاء ليدعو له -والعياذ بالله - فهذا يؤكد لك أن هذا نوع من الشرك الخطر: الذي إذا أصاب قلب الإنسان، فقد حصل منه الشيطان على أمر عظيم.
فلا بد أولاً: من الوقاية، ثم إذا وقع الإنسان -فأيضاً- لا بد أن يكون عنده صدق في الرغبة في التخلص، أما إنسان يتلذذ بسماع كلام عن العشق، والسؤال عن هذا الموضوع، وعرضه في المناسبات -مثلاًَ- لكن تجد أنه في قرارة نفسه مرتاح بما هو فيه، ولا يطمع أو يتطلع إلى الخلاص، فمثل هذا لا حيلة فيه، فلا بد أن يكون عند المصاب نفسه شعور بوجوب التخلص وجدية الانعتاق من هذا الأمر، بحيث إنه يسأل الله بصدق، وينطرح بين يديه، وبحيث إنه يحرص على أن يملء قلبه بمحبة الله وتعظيمه، حتى لا يصبح قلبُه خالياً خاوياً، تتراكض فيه الشياطين كما تتراكض الذئاب في البرية، ويحرص على الطاعات والعبادات، وعلى فطم نفسه عن كل أمر يؤدي إلى زيادة هذا الحب أو العشق، ومعرفة ما قد يوجد من عيوب فيه، وتَذَكّر العيوب الموجودة في أي إنسان.
وأخيراً: فقد كتب الإمام ابن قيم الجوزية فصولاً مهمة في هذا الأمر، في: كتاب: الجواب الكافي، وكذلك في: زاد المعاد في الجزء الثالث المتعلق بالطب النبوي، حيث عقد فصلاً لعلاج العشق، وربما يقول بعضهم: أنا مصيبتي أنني قرأت هذه الفصول، وحفظتها ورددتها، لكنني ما ازددت إلا شدة، سنقول نعم: بلاؤكَ فيكَ وما تشْعُرُ وداؤك منكَ وما تبْصِرُ إن لم يوجد عند الإنسان -كما أشرتُ- رغبة في الارتفاع والتطلع، والخروج عن هذا المأزق، فلا حيلة، ومع ذلك إذا كان الزواج ممكناً، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لم يُرَ للمتحابَّين مثل النكاح} .(101/30)
أثر التربية على الشباب المسلم
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن أن الحضارات والأمم والدول إنما تقوم على سواعد الأفراد الأقوياء المؤهلين، وضرب مثلاً بقيام دولة الإسلام على سواعد الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأكد أنه لابد من تربيتهم تربية حسنة، واستغلال الجوانب الإيجابية لدى هؤلاء الأفراد الذين يراد صناعة رجال منهم، ثم ضرب بعض الأمثلة من النجاح الباهر للتربية النبوية لبعض الصحابة، ومنهم مصعب بن عمير، وعبد الله بن عباس، وقصة لبعض الصحابة حصلت في معركة اليرموك.(102/1)
الحضارات لا تقوم إلا على سواعد الأفراد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في هذه المحاضرة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن قضية مهمة لنا جميعاً ألا وهي الحديث عن دور الإسلام في تربية الفرد وبنائه بناءً صحيحاً.
إن العنصر الذي تقام عليه المبادئ والعقائد وتنشأ عليه الأمم والحضارات هو الفرد، فإذا استطاعت أمة من الأمم أن تبني أفرادها بناءً قوياً متكاملاً صحيحاً؛ فمعنى ذلك أنها استطاعت بإذن الله أن تحقق لنفسها مستقبلاً زاهراً، وأن تحقق للدين والعقيدة التي تدين بها نصراً ونجاحاً كبيرين، وإذا فشلت أمة من الأمم في بناء أفرادها وتكوينهم أو ركزت هذه الأمة أفرادها على لونٍ معين من نشاطات الحياة؛ فمعنى ذلك أن هذه الأمة حكمت على نفسها بالفناء والدمار.(102/2)
قيام دولة الإسلام على أكتاف الصحابة
إن دولة الإسلام الأولى التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قامت إلا على أكتاف الرجال الأشداء الأقوياء من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من أصحابه؛ وخاصةً قدماؤهم وأكابرهم ومشاهيرهم الذين تولوا أمور الدولة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من الصحابة أجمعين، ولو نظرنا إلى أمة من الأمم ملكت مثل هذا التاريخ -مثلاً- فصارت تتغنى بأمجاد الماضي وأنه كان لها في التاريخ نصرٌ وعزٌ وتمكين، وأن فيها فلاناً وفلاناً، أو نظرنا إلى أمة من الأمم ملكت الثروة والمال والجاه بأي صورة كان، أو نظرنا إلى أمة من الأمم ملكت العدد والعدة فصار أفرادها يعدون بالملايين بل بمئات الملايين بل بآلاف الملايين مثلاً.
لو نظرنا إلى هذه الأمة أو تلك لوجدنا أنها لا يمكن أن تقوم قياماً صحيحاً إلا بتربية الفرد الصالح الذي يبدي استعداده للتضحية في سبيل هذا المبدأ أو العقيدة التي يدين بها أو في سبيل هذه الأمة التي ينتمي إليها.
وهذه القضية وهي: قضية أهمية الفرد في بناء الأمم وتكوين الحضارات، كانت تشغل بال المصلحين والغيورين على الدين منذ أول عهد الإسلام.(102/3)
أمنية عمر
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يجلس في مجلس مع بعض الصحابة فيقول لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أنا أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت ذهباً أنفقه في سبيل الله.
وإنها أمنية طيبة ولا شك لكنها لم تكن هي الأمر الذي يشغل بال عمر رضي الله عنه، فقد كان يشغل بال عمر أمرٌ أغلى من الذهب فأعاد الكلمة مرة أخرى: تمنوا، فقال آخر أنا أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت جوهراً وزبرجداً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.
وهذه أمنية أيضاً تشبه السابقة، لكنها لم تكن هي الأمر الذي يشغل بال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لهم مرة ثالثة: تمنوا، فقالوا: والله ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال: أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان، وهذا الخبر صحيح رواه الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة وغيره.
إذاً فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه لا يشغل باله المال -مثلاً- أو الذهب أو الفضة التي ينفقها في سبيل الله، بل يشغل باله أمرٌ أخطر من هذا: ألا وهو بناء الفرد الصالح المؤمن إيماناً حقيقياً في عقيدته يستطيع أن يوفر المال والذهب والفضة ولو من قُوتِه، وهذا هو الذي وقع فعلاً وهو ما تشهد به أحداث التاريخ.
وهؤلاء الرجال هم الذين تقوم عليهم الدعوات وتعتمد عليهم الأمم بعد الله عز وجل إذا رزقوا الصبر والثبات على مبدئهم وعقيدتهم؛ حققوا من جليل الأعمال ما يشبه المعجزات ولكن لا بد لهم أن يتمتعوا بالصبر والثبات على مبدئهم، لأنهم هم قوام الحياة فإذا صلحوا صلحت بهم الحياة، لكن إذا انحرفوا أو فسدوا أو مالوا إلى الدنيا أو تأثروا بالمغريات من حولهم، فمعنى ذلك أن الأرض التي تصلح بصلاحهم قد فسدت بفسادهم.(102/4)
نصيحة عيسى عليه السلام
روى الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه في كتاب الزهد أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين: لا تأخذوا ممن تعلمونهم أجراً إلا مثل الذي أخذت منكم، فما هو الأجر الذي أخذه عيسى من الحواريين حين علمهم الإسلام؟! بمعنى آخر أنه لم يأخذ منهم أجراً مادياً دنيوياً، وهذا شأن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] وكان كل نبيٍ يقول لقومه: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29] فعيسى عليه السلام لم يأخذ من الحواريين أجراً وهو يعلمهم الإسلام، فيقول لهم: حين تعلمون الناس الإسلام لا تأخذوا منهم أجراً إلا مثل الأجر الذي أخذت منكم، بمعنى: إنني لم آخذ منكم أجراً حين علمتكم، فكذلك أنتم لا تأخذوا من الناس أجراً حين تعلمونهم، ثم يقول بلهف: ويا ملح الأرض لا تفسدوا -يخاطب الحواريين، والحواريون هم -كما تعلمون- خاصة عيسى عليه السلام وبطانته ومقربوه؛ وهم الذين قاموا بالدعوة وبعثهم إلى أنحاء الأرض ينشرون الدين فيه، فهم الفئة القليلة الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فهو يقول لهم: ويا ملح الأرض لا تفسدوا فإن كل شيءٍ إذا فسد فصلاحه بالملح، فإذا فسد الملح لا يصلحه شيء، ثم يقول لهم: واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الخصلة الأولى: هي الضحك بغير سبب، والخصلة الثانية هي: الصبحة من غير سهر.
ما هي الصبحة؟ هي ما نسميه نحن بالسفرة، وهو النوم بعد صلاة الفجر، فهذه الكلمة من عيسى عليه الصلاة والسلام يهمنا منها قوله: ويا ملح الأرض لا تفسدوا وقد نظم هذا بعض السلف بقوله: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد(102/5)
ضرورة تربية الأفراد تربية قوية
فهؤلاء الرجال الأفراد الأفذاذ الذين تقوم عليهم الأمم والحضارات والدعوات يحتاجون إلى أن يبنوا بناءً قوياً صحيحاً متكاملاً، ثم يحتاجون بعد ذلك إلى أن يتمتعوا بالصبر والثبات على مبادئهم، فلا تجرهم المغريات والشهوات والمطامع فتثنيهم عن مقاصدهم الحقيقية، وهؤلاء الرجال الذين تحتاجهم الدعوة إلى الإسلام لا بد أن يكونوا متميزين بخصائص فطرية جبلوا عليها تناسب المهمة التي خلقوا من أجلها.
فلو نظرنا مثلاً إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتساءلنا لم كانت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية؟ ولم تكن في أرض فارس أو الروم أو بين النصارى واليهود لوجدنا أن الله عز وجل اختار هذه الجزيرة وهو على علمٍ سبحانه بخصائص أهلها، وأن العرب على ما كانوا عليه من الانحراف والفساد إلا أن صحراءهم المترامية الأطراف كانت تمنع وصول كثيرٍ من المفاسد والمراذل إليهم، ومعيشتهم المعيشة البدوية الصحراوية كانت تمنع تأثرهم بالمذاهب الفلسفية المنحرفة التي كانت تسيطر على الناس في ذلك الوقت، فكانوا يتمتعون بالشجاعة مثلاً والكرم والقوة والنجدة والصراحة، ولذلك لما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول: لا إله إلا الله، كان بإمكان بعضهم أن يقولوها نفاقاً مثلاً أو مجاملة أو محاولة للتقريب بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، ولكن لأنهم أناسٌ صرحاء، الغالب على أحوالهم الوضوح والصدق والصراحة والبعد عن أساليب الالتواء واللف والدوران، لم يقبلوا هذه الكلمة وردوها صراحة وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] .
فالعرب كانوا يتمتعون بخصائص فطرية جيدة بالقياس إلى ما كان يوجد في الأمم الأخرى في عصرهم، ومع هذه الخصائص الفطرية التي لا بد أن توجد في كل من يدعو إلى الإسلام ويقوم بشأنه، فإن هناك ثلاث قضايا لا بد من التركيز عليها في بناء هؤلاء القوم ودعوتهم حتى تتحول خصائصهم هذه إلى خصائص تخدم الدعوة الإسلامية.(102/6)
قضايا في تربية بعض أصحاب الفطر المقبولة
هذه القضايا الثلاث هي:(102/7)
التركيز على كثرة طرق الخير
الجانب الثالث: هو أن التربية الإسلامية تحرص على تفجير منابع الخير عند الإنسان وذلك بكثرة طرق الخير من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وطلب العلم والإحسان وغير ذلك، بحيث أن كل طاقة موجودة عند الإنسان يجد لها مصرفاً يصرفها فيه، ويشعر أنه يخدم الإسلام من خلال تصريف هذه الطاقة، ولا شك أننا نجد كثيراً من الناس وخاصة الشباب يتمتعون بطاقات كبيرة جداً، بطاقات جسمية، وعقلية وغيرها.
فحين لا يوجد من يستثمر هذه الطاقات تجدها تتسرب وتذهب إلى مجالات وجهات ليست محمودة؛ فتضيع مثلاً في الركض وراء الكرة ركضاً مبالغاً فيه، أو تضيع في الركض وراء الشهوات وإشباع الغرائز، أو تضيع وراء قضاء الأوقات مع الشلل والأصدقاء المنحرفين، أو تضيع بأي صورة من الصور، إن لم تجد المصرف الصحيح الذي تصرف فيه وتوجه إليه، لكن الإسلام والتربية الإسلامية الصحيحة أوجدت المجالات التي يمكن استثمار هذه الطاقات من خلالها، وأضرب لذلك بعض الأمثلة: فمثلاً نجد الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من الجنة: يا عبد الله هذا خير والمقصود بزوجين، أي: شيئين اثنين من أنواع الخير كأن ينفق درهمين أو دينارين أو بعيرين أو غير ذلك، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان.
قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يا رسول الله! ما على أحدٍ دعي من هذه الأبواب من ضرورة -يعني: من أي بابٍ دعي الإنسان ما دام أنه سيدخل الجنة فليس عليه من بأس، إن دخل من باب الصلاة أو دخل من باب الزكاة أو من باب الصوم أو من باب الجهاد أو من غيرها- فهل يدعى أحدٌ منها كلها، قال صلى الله عليه وسلم: نعم وأرجو أن تكون منهم.
} .
إذاً: طرق الخير كثيرة وقد يشعر الإنسان بأنه يستطيع أن يساهم في مجال معين من مجالات الخير وقد يشعر بأن عنده طاقاتٍ كبيرة يمكن أن يصرفها في العديد من المجالات، ولذلك كان أبو بكر ممن يدعى من أبواب الجنة كلها، فكل ملأ من الملائكة عند بابٍ من أبواب الجنة يدعونه ويقولون له: يا أبا بكر هذا خير فتعال وادخل منه، وهذا لا شك أن فيه مزية وفضل لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وهذا ليس بغريب فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال أبو بكر ٍ: أنا، قال: من تصدق منكم اليوم على فقير؟ قال أبو بكر: أنا، قال: قال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من اتبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة} .
لقد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أربعة أسئلة: من أصبح منكم صائماً؟ من عاد منكم مريضاً؟ من تبع جنازة؟ من تصدق منكم على فقير أو مسكين؟ كلها يقول أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فبشره بعدها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
هذه الوسائل الثلاث وغيرها هي من أهم الوسائل التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في بناء وتكوين أصحابه، ولذلك نجد أن أمهر وأقوى خريجي المدارس هم خريجو المدرسة المحمدية الذين تخرجوا على يدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورباهم على عينه، ودائماً قوة المدرسة تعرف من نتائجها.(102/8)
توجيه الفطر الحسنة لخدمة الدين
أولاً: توجيه خصائصهم الفطرية الموجودة لديهم لخدمة الإسلام، بمعنى أن الإسلام لا يهدف إلى إلغاء الخصائص الفطرية الموجودة عند الناس، بل يعمل على توجيهها توجيهاً صحيحاً والاستفادة منها، فهذا مثلاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان قوياً شديداً في الجاهلية كما تعلمون، وكان كثيرٌ من القرشيين يهابه ويخشاه، فمن يوم أن أسلم رضي الله عنه وأرضاه تحولت هذه القوة والشدة الموجودة فيه إلى شجاعة في سبيل الله عز وجل وإلى جراءة في مواجهة الكفار والمشركين، وهذا ما يذكره لنا المصنفون في سيرته رضي الله عنه وأرضاه.
يذكر الإمام محمد بن إسحاق صاحب المغازي والحاكم في المستدرك وابن حبان وغيرهم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما أسلم ذهب إلى رجل يقال له جميل بن معمر الجمحي، وكان هذا الرجل مشهوراً بإفشاء السر ونشر الكلام، فاختاره عمر وقال له هل علمت أني قد أسلمت؟ فقام جميل بن معمر في نوادي قريش وهو يصرخ بأعلى صوته، يقول: يا معشر قريش إن عمر قد صبأ، وعمر يركض خلفه؛ ويقول: كذبت كذبت، ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يتجمع القرشيون حول هذا الرجل الشديد عمر رضي الله عنه، وهو ما زال حديث عهدٍ بالإسلام، فيظل يقاتلهم -كما تقول الرواية- منذ غدوه حتى صارت الشمس حيال رأسه، يقاتل هذا الجمع الغفير من القرشيين في مسجد مكة بيده بطبيعة الحال، لأن القتال بالسيف لم يكن مشروعاً حينذاك، فلما صارت الشمس حيال رأسه كأنه تعب وأعيا فقعد، وهم يعرشون حوله -ملتفون حوله- وهو يقول: [[يا أعداء الله: اصنعوا ما بدا لكم، فوالله لو قد بلغنا ثلاثمائة رجل لأخرجناكم منها أو أخرجتمونا منها]] يعني: مكة.
إنها صورة من صور القوة في الحق، وهذه القوة كانت موجودة في عمر كصفة مجردة قبل الإسلام، لكن لما أسلم توظفت وتوجهت هذه القوة في سبيل الخير، واستغلت أو استثمرت لصالح الإسلام فلم يأتِ الإسلام ليحطم شخصيات الرجال ويقضي عليها؛ ويجعل الناس كلهم عبارة عن نسخة واحدة أو قالب مصبوب، لا بد أن يكون الناس كلهم على هذه النسخة أو على هذا القالب، لا، بل جاء الإسلام لينقل كل فرد من وضعه الذي يعيش فيه، وخصائصه الذي يتميز بها ليكون مسلماً متسماً بخصائص معينة؛ يوجه هذه الخصائص لخدمة الإسلام، لم يأت الإسلام ليجعل الناس كلهم علماء مثلاً، ولا ليجعل الناس كلهم مجاهدين يحملون السيف في سبيل الله، ولا ليجعل الناس كلهم متعبدين يحيون ليلهم ويصومون نهارهم، لا، بل جاء الإسلام يخاطب كل فرد بما يناسبه، فالقوي في الجاهلية يبقى قوياً في الإسلام، والإنسان الذي يتمتع بفطرته بخصائص عاطفية تجده يجد في الإسلام ما يشبع هذه العواطف فيتحول إلى متعبد لله عز وجل غير خارجٍ عن التعبد إلى الصوفية، والإنسان الذي يحب القوة يجد في الإسلام وفي ميدان الجهاد ما يستغل هذه الطاقة، والإنسان الذي يملك ذهناً متطلعاً إلى تحصيل المعلومات يجد في الإسلام الحث على التعلم وطلب العلم.
ومع هذه الشدة التي كان عمر رضي الله عنه يتحلى بها فإننا نجد أن الإسلام قد هذب هذه الصفة فيه رضي الله عنه، وإيمانه بالله واليوم الآخر والجنة والنار جعله يكثر من لوم نفسه وتقريعها، ولذلك روى الإمام مالك في الموطأ وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على كتاب الزهد لأبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه [[أنه خرج مع عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى أحد الحيطان -يعني البساتين- فدخل عمر رضي الله عنه في هذا الحائط، قال: أنس سمعته يقول -وبيني وبينه الحائط- وهو يخاطب نفسه يقول: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ والله لتتقين الله أو ليعذبنك]] فهو يخاطب نفسه الآن، وكأنه يقول لنفسه: كيف وصلت يا ابن الخطاب الذي كنت ترعى غنم أبيك في الجاهلية ولا هم لك في الحياة؛ كيف وصلت الآن إلى أن تكون أميراً للمؤمنين ويشار إليك بالبنان، ثم يتعجب من هذا الأمر فيقول: بخٍ بخٍ وهي كلمة تقال للتعجب، ثم يثني على نفسه باللوم فيقول: والله لتتقين الله أو ليعذبنك، فلا ينفعك بين يدي الله أن تكون أميراً أو ذا منصبٍ بين المسلمين ما لم تقدم بينك وبينه العمل الصالح.
وهكذا استفاد الإسلام من هذه الخصيصة الموجودة عند عمر وهي القوة في الحق مع تهذيبها وتوجيهها توجيهاً صحيحاً بحيث لا تتعدى حدها.
هذا أنموذج لرجل يتميز بالقوة.
وهناك أنموذج ثانٍ لرجلٍ يتميز بالشجاعة وهو خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه حيث تتحول شجاعته بل يتحول تهوره في الجاهلية؛ إلى شجاعةٍ وإقدامٍ في سبيل الله ونصر للإسلام وخذلانٍ لأعداء الدين، ولذلك يروي الإمام أحمد في فضائل الصحابة وأبو يعلى في مسنده وابن حبان وغيرهم بسندٍ صحيح أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: " والله ما ليلة تهدى إليّ عروس أنا لها محب أبشر فيها بغلام، بأحب إليّ من ليلةٍ شديدة الجليد قضيتها مع نفرٍ من المهاجرين -يعني مجاهدين في سبيل الله عز وجل- " فيتحول إقدام خالد وشجاعته إلى رغبة حقيقية ملحة في الجهاد في سبيل الله، ويجد هذا الرجل الباسل المجاهد لذته وطمأنينة نفسه في الخروج إلى سبيل الله لقتال أعداء الله، حتى وهو يجد ألم البرد، حتى وهو يجد الخوف كما يخاف غيره من الناس، ومع ذلك يحس بأن هذه ألذ ليلة يقضيها في عمره، إنه أنموذج لقدرة التربية الإسلامية الصحيحة على الاستفادة من خصائص الناس وتوجيهها توجيهاً صحيحاً.
هذه هي النقطة الأولى التي تفعلها التربية الإسلامية في نفوس الناس وهي الاستفادة من الخصائص الفطرية الموجودة فيهم استفادة صحيحة وليس إلغاء هذه الخصائص أو القضاء عليها.(102/9)
التركيز على الفطر الإيجابية
أما القضية الثانية: فهي التركيز على الجوانب الإيجابية في النفس البشرية، فإننا نعلم -جميعاً- أنه لا يكاد يوجد إنسان مهما يكن شريراً إلا ويوجد فيه قدر من الخير ولو يسير، وقد يكون هذا القدر أحياناً مغطى بطبقة من الانحراف أو الفساد؛ بحيث أن الإنسان -الذي يقابله أول وهلة- يتصور أن هذا الإنسان مجموعة من الرذائل وأنه ليس فيه خير أبداً، لكن لو وفق هذا الإنسان ليد حانية تعمل على إزالة الغبار والانحراف الموجود على الفطرة لتكشفت الفطرة عن خصائص جيدة محمودة عند هذا الإنسان؛ وأقرب مثل لذلك هو ما ذكرته قبل قليل من قصة عمر رضي الله عنه، فإحدى المسلمات المهاجرات إلى الحبشة رآها عمر في الطريق فقال إلى أين تذهبون؟ وهم خارجون إلى الحبشة؟ قالت: نريد أن نخرج نسيح في أرض الله فقد آذيتمونا وعذبتمونا، فكأن عمر رق لها، فتعجبت من هذه الرقة الموجودة عند عمر، وأخبرت زوجها بذلك فقال: أتظنين أن يسلم عمر بن الخطاب؟ قالت: نعم، قال: لا والله لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب! فالفطرة أحياناً تكون مدفونة بطبقة كثيفة من الانحراف يصور للإنسان أن هذا الشخص المنحرف الذي أمامه هو إنسان شرير من جميع جوانبه، لكن في الواقع أنه لا يخلو من جانب خير، فالتربية الإسلامية تهدف إلى مخاطبة هذا الجانب الخيِّر وتحريكه وإثارته حتى يكبر هذا الجانب ويصبح بارزاً، وبطبيعة الحال يضعف جانب الشر، وهكذا حتى يزول الشر أو يضعف ويكثر الخير ويصبح هو الغالب على نفس هذا الإنسان، ولو نظرنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأصحابه من الشباب وغيرهم لوجدنا ملمحاً قوياً في هذا الجانب.
فعلى سبيل المثال يروي لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه خرج في سرية مع مجموعة من الصحابة فحاص الناس حيصةً -يعني: هزموا في المعركة وكأنهم فروا منها- فلما التقى بعضهم ببعض قالوا: ماذا صنعنا؟ فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب لأن الله عز وجل توعد من فر من الزحف بالوعيد الشديد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] ثم تشاوروا في ماذا يصنعون؟ فقالوا: لنذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا وإن كان الأمر غير ذلك ذهبنا، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدروه قبل أن يصلي الفجر، فجاءوا يسلمون أنفسهم؛ ويقولون: يا رسول الله نحن الفرارون، نحن الفرارون -وقد شعروا بأن القضية خطيرة فيمكن ألا تقبل توبتهم، ويمكن أن يكونوا قد باءوا بغضب من الله، ويمكن أن يكون مأواهم جهنم كما يفهم من ظاهر الآية، فشعروا بالخطر، ولذلك تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك الجانب الآخر وبعث الخير في نفوسهم فلم يوافقهم على ما قالوا، ولم يقل: نعم أنتم فررتم وفعلتم وفعلتم، ويوبخهم على ما فعلوا، كلا، بل قال لهم صلى الله عليه وسلم- بل أنتم الكرارون، يعني: أنتم الكرارون الذين تغادرون العدو ثم تكرون عليهم مرة أخرى، فأثار في نفوسهم الخير لأنهم مستعدون والحالة هذه أن يخوضوا معركة ولا يغادروها حتى ولو قتلوا عن بكرة أبيهم، فأثار النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الجانب الخير في نفوسهم واستفاد من شعورهم بالخطأ أو بالمعصية استفادة صحيحة يحتاج إليها الدعاة إلى الله عز وجل ويحتاج إليها المربون في كل مكان، قال فجئنا وقبلنا يده صلى الله عليه وسلم فقال لنا: {أنا فئة المسلمين} وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الإمام أحمد أيضاً، فهو أنموذج لتحريك الخير الكامن في النفوس.
وثمة أنموذج آخر يحكيه لنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول أنس: إن صفية بنت حيي بن أخطب زوج النبي صلى الله عليه وسلم سمعت أن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تقول لـ صفية: إنها ابنة يهودي، وهذا الكلام صحيح فـ صفية أبوها يهودي وهو حيي بن أخطب ومات ولم يسلم، فهذا جانب قد يفسر بأنه جانب ضعف قد تحس به صفية خاصةً حين تعيرها به إحدى ضراتها، فيدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فيقول لها ما يبكيكِ؟ فتقول له: يا رسول الله حفصة تعيرني بأنني بنت يهودي، فقال عليه الصلاة والسلام: {أفلا قلتِ لها بأنني بنت نبي، وعمي نبي، وتحت نبي} وهذه الرواية عند الترمذي وقد صححها، وفي رواية أخرى عنده أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: {أفلا قلتِ لها: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم} وقد كانت صفية من نسل هارون عليه السلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين لمحت حفصة الجانب الذي قد يفسر عند البعض بأنه جانب سلبي وهو أن صفية بنت يهودي لمح صلى الله عليه وسلم الجانب الآخر وهو أن صفية من نسل النبي هارون، وعمها موسى عليهما السلام، وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يضيرها أن يكون أبوها يهودياً.
هذا هو الجانب الثاني من الجوانب التي تعني التربية الإسلامية، وهو استخراج الخير الكامن في النفوس أو التركيز على الجوانب الإيجابية عند الإنسان.(102/10)
أمثلة من مجتمع الصحابة
فلننظر الآن لبعض الأمثلة التي تدلنا على مدى قوة وعظمة التربية النبوية، وأكتفي بمثالين أو ثلاثة لخريجي هذه المدرسة:(102/11)
قتلى اليرموك
الموقف الثالث والأخير الذي يعطينا أنموذجاً لما وصل إليه خريجو هذه المدرسة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، هو موقف الثلاثة الذين قتلوا في معركة اليرموك، وهذه القصة رواها عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن أبي جهم بن حذيفة العدوي قال: [[كان لي ابن عم جرح في المعركة فسقط فأخذت ماءً في إناء وقلت: أذهب إليه فإن وجدته حياً سقيته وبللته ببعض الماء، قال فجئت إليه فقلت له: تريد الماء؟ فقال: نعم، فسمع بجواره صوت جريحٍ يقول: آه، فأشار إليَّ أن اذهب به إليه، فذهبت به إليه فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، قال: فأعطيته إياه فلما أراد أن يشربه سمع جريحاً ثالثاً يقول: آه، وهو ينشق يعني: في حالة النزع فأشار إلي أن اذهب به إليه فذهبت به إليه فوجدته قد مات فرجعت إلى هشام فوجدته قد مات، ورجعت إلى ابن عمي فوجدته قد مات]] .
صورة رائعة من صور الإيثار ليست في الرخاء، لأن الذين يؤثرون في الرخاء كثيرون، لكن من الإيثار في حالة الشدة بل في أشد شدة يمكن أن تعرض للإنسان وهي حاجته إلى جرعة يبرد بها ما يجد من الحر في جوفه وهو يجود بنفسه، ولا عجب أن يصل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين إلى هذا المستوى، وليس ما ذكرته إلا نماذج فقط، وإلا فبإمكان أي واحد أن يقرأ بعض الكتب التي جمعت أخبارهم ليجد العجب العجاب، وهي كثيرة أذكر منها: سير أعلام النبلاء للذهبي وحلية الأولياء لـ أبي نعيم والإصابة لـ ابن حجر والاستيعاب وأسد الغابة وغيرها، من الكتب التي تحدثت عن الصحابة والتابعين أو عمن جاءوا بعدهم من المقتدين بهم.
إن من واجبنا -أيها الشباب- أن نجعل هذه القدوات مثلاً أعلى لنا، وأن نحرص في حياتنا على أن نصل إلى بعض ما وصلوا إليه فإن كل إنسان لا بد له في حياته من مثل أعلى، فإذا كان كثير من الناس اليوم جعلوا مثلهم الأعلى فلاناً وفلاناً؛ من أهل الغناء أو الرياضة أو الجاه أو الثروة أو غيرهم، فليكن مثلنا وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم، وأصلي وأسلم على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(102/12)
مصعب بن عمير
المثال الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: {خرجنا في سبيل الله نبتغي ما عند الله فوقع أجرنا على الله، فمنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنا من مات لم يأخذ من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه وقد قتل يوم أحد فلم نجد شيئاً نكفنه فيه إلا بردة قصيرة -أو ثوباً قصيراً- إن غطينا به رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطينا به رجليه ظهر رأسه، فأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نغطي به رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر} .
هذا الصحابي المضحي الباذل في سبيل الله والذي تعرفون كيف كانت حياته في مكة من الترف والنعيم، وكانت أمه تلبسه أحسن الثياب وتطعمه أحسن الطعام؛ حتى إنه كان إذا مشى في الشارع شمت الفتيات في بيوتهن طيبه من مسافة بعيدة، وحتى إنها كانت تضع الطعام عند رأسه وهو نائم ليأكل كلما استيقظ، وكان شاباً مدللاً كما نعبر، فلما أسلم تحول هذا النعيم إلى حد أن هذا الشاب الذي لم يتعود على شظف العيش يهاجر إلى الحبشة في بلد الغربة؛ ويجد فيها من اللأواء والتعب ومشقة الغربة ما يجد، ثم يعود مرة أخرى، ثم يهاجر، إلى المدينة قبل المهاجرين وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلَّم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام، ويدعو أهل المدينة أيضاً، وكان يسمى المقرئ، ثم يستشهد بعد فترة قليلة من قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يتمتع طويلاً بصحبته صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد ما أعز الله الإسلام ودون أن تينع له ثمرته، كما يعبر خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، وقد كانت قصته كما تعرفون أنه يحمل الراية فتقطع يده اليمنى فيحملها باليسرى فتقطع، ثم يضمها بعضديه إلى صدره ثم يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] فهذا أنموذج حي عظيم من نماذج خريجي المدرسة النبوية.(102/13)
عبد الله بن عباس
أما الأنموذج الثاني فهو الإمام الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه وكان صغيراً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ناهز الاحتلام فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ابن عباس -كما يروي الإمام أحمد بسندٍ صحيح في فضائل الصحابة- إلى رجل من الأنصار فقال له: [[إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض فهلم فلنسأل أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حديثه فإنهم اليوم كثير، فقال له هذا الأنصاري: عجباً لك يا ابن عباس أتظن الناس يحتاجون إليك وعلى الأرض من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم هذا العدد الكثير! فتركه ابن عباس وظل يطلب العلم حتى إنه يقول: إنه ليبلغني الحديث عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فآتي إليه في بيته في القائلة فأجده قد نام فأكره أن أوقضه فأتوسد ردائي عند بابه فتهب الرياح فتسفي عليَّ من التراب، فإذا خرج الرجل إلى الصلاة؛ قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما الذي أتى بك؟ لو أخبرتني لأتيتك، فأقول له: لا أنت أحق أن يؤتى إليه! وإنه بلغني أن عندك حديث كذا فأحب أن أسمعه منك- وبهذه الطريقة حصل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على علمٍ كثير حتى احتاجوا إليه احتياجاً كثيراً وصاروا يتجمعون عليه ويسألونه- فيمر به هذا الأنصاري فيقول: يا ابن عباس أنت كنت أعقل مني]] مع أنه كان يومها صغيراً.
فهذا الرجل الذي سلك هذه الطريقة بالتعلم لما تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على التعليم، بل والدعاء له بالفقه في الدين بقوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} كما في الصحيح، هذا الرجل يصبح وهو شاب في مقتبل عمره يضالع المشايخ الكبار، فيحضره عمر رضي الله عنه وأرضاه في مجلسه مع كبار المهاجرين، فيقول له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين أتحضر معنا هذا الفتى وفي أولادنا من هو في مثل سنه؟ فيقول لهم عمر رضي الله عنه وأرضاه ليثبت لهم دقة علمه بالرجال ومعرفته بخصائصهم: أرأيتم قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] ما معنى هذه السورة؟ فظل الصحابة رضي الله عنهم يتكلمون في معناها دون أن يقعوا على السر الذي أراده عمر حتى إذا وصل الكلام إلى ابن عباس قال رضي الله عنه وأرضاه: [[إن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله إياه، فقال له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3]] ] .
فهو إشارة إلى أن النصر والفتح قد جاء ودخل الناس في الدين فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار إشارة إلى قرب أجله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: [[والله ما أعلم من هذه السورة إلا ما تعلم]] وهذا الحديث رواه الترمذي وحسنه.
وهناك رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه دخل ابن عباس رضي الله عنه مع شيوخ المهاجرين فأراد يوماً من الأيام أن يختبرهم ويبين لهم قوة ابن عباس فقال لهم: [[أرأيتم قول النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: التمسوها في العشر الأواخر، يعني: من رمضان أية ليلة هي ليلة القدر؟ فقال بعضهم: هي ليلة إحدى وعشرين، وقال بعضهم: هي ليلة ثلاث وعشرين واختلفوا، فقال: ما عندك يا ابن عباس؟ وكان عمر قال له: لا تتكلم حتى يتكلم أصحابك، فقال: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين تكلمت، قال عمر إني لم أحضرك إلا وأنا أريدك أن تتكلم، فقال ابن عباس: أتكلم برأيي، قال: لك الذي تريد، فقال رضي الله عنه وأرضاه: إنني أراها ليلة سبع وعشرين، وذلك لأن الله عز وجل خلق السموات سبعاً وجعل الأراضين سبعاً وخلق الإنسان من سبع وجعل نبت الأرض سبعاً، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: قد عرفنا ما قلت إلا قولك: جعل نبت الأرض سبعاً ماذا تريد به؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه إن الله عز وجل قال: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:27-31] فهذه سبعة أصنافٍ من نبت الأرض، فقال عمر رضي الله عنه: ألا قلتم مثلما قال هذا الفتى، والله ما أعلم منها إلا ما يعلم]] وهذه القصة رواها البيهقي والحاكم وابن خزيمة بسندٍ صحيح.(102/14)
وقفات مع السبع المثاني
تحدث الشيخ عن فضائل سورة الفاتحة وعن كثرة أسمائها وعن فرضية حفظها على كل مسلم، ثم شرع في تفسيرها في خمس وقفات: تطرق خلالها لمعاني أسماء الله (الله، رب) ثم للعبادة والاستعانة، ثم عن الحمد والثناء.(103/1)
فضائل فاتحة الكتاب
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه السورة العظيمة إنما اخترنا البداءة بها؛ لا لأننا سوف نبدأ في التفسير من أول القرآن؛ فإن هذا الأمر قد يطول، وسبق أن ذكرت أن كثيراً من أهل العلم وأصحاب الدروس إذا بدءوا؛ بدءوا بأول القرآن، وقد ينقطعون عن آخره، ولهذا ستكون بدايتنا إن شاء الله تعالى من المفصل، وفي الأسبوع القادم بإذن الله عز وجل سنقرأ الوجه الأول من سورة (ق والقرآن المجيد) .
وإنما بدأت بهذه السورة لمسيس الحاجة إليها؛ فإن كل إنسان مسلم يقرأ هذه السورة في اليوم الواحد مرات بعدد ركعات الصلوات، ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث عبادة: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقد ذكر الشراح في معنى الحديث أنه يقرأ بها في كل ركعةٍ من صلاته، وليست قراءته لسورة الفاتحة في ركعة بمجزئة عن قراءته لها في كل الركعات، بل لابد أن يقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة، خاصة إن كان إماماً، أو منفرداً أو كان في صلاة سرية، أو كان مأموماً في صلاة سرية.
فدل هذا على عظيم وقع هذه السورة وجليل قدرها، وأنه ينبغي على كل مسلم -فضلاً عن طالب العلم- أن يتأمل في معانيها.(103/2)
أسماء سورة الفاتحة
ولهذه السورة أسماء كثيرة، وكثرة أسمائها أيضاً مما يدل على عظيم قدرها، فهي سورة الفاتحة وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب؛ وذلك لأنها أول ما يُقرأ من القرآن الكريم، فهي أول سورة في الكتاب المكتوب (القرآن الكريم) أي أنها ليست أول سورة نزلت، ولكنها أول سورة مكتوبة، فهي أول سورة في الكتاب؛ ولهذا سميت فاتحة الكتاب، أي فاتحة الكتاب المكتوب.
وهي أيضاً أم القرآن، وهكذا سماها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما سميت أم القرآن -والله أعلم- لأن معاني القرآن الكريم ترجع إلى هذه السورة، فهي شاملة للمعاني الكلية والمباني الأساسية التي يتكلم عنها القرآن.
وهي أيضاً السبع المثاني، وذلك لأنها سبع آيات تقرأ مرة بعد مرة، وهي أيضاً -كما سبق- شاملة للمعاني الكلية في القرآن الكريم، ولهذا سميت بالمثاني.
وهي القرآن العظيم، فقد سماها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: {وهي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيته} .
وهي سورة الحمد؛ لأنها بدأت بحمد الله عز وجل: {الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] .
بل سماها الله عز وجل الصلاة! كما في الحديث القدسي في البخاري قال الله عز وجل: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي} إلى آخر الحديث فسماها (الصلاة) وذلك لأمرين: لأن الفاتحة ذكر ودعاء، ففيها دعاء وتبتل إلى الله بأعظم مطلوب وهو الهداية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فسميت السورة ببعض أجزائها وببعض معانيها وهو الدعاء، ومن المعلوم أن الدعاء في اللغة يسمى: صلاة، كما قال الله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي ادعُ لهم، قال الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا ربِّ جِنِّبْ أبي الأوصاب والوجعا عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا أي: لك من الدعاء مثل الذي دعوت به لي، فالصلاة هي الدعاء.
وقد تكون السورة سميت بالصلاة لمعنى آخر، وهو أنها لا تصح الصلاة إلا بها -كما سبق- فهي ركن في الصلاة؛ فلذلك سميت صلاة.
إلى غير ذلك من الأسماء التي تدل على عظيم هذه السورة، وجليل قدرها، ووجوب العناية بها.(103/3)
فرضية حفظها على كل مسلم
ويكفي في شرفها أنه لا يكاد يوجد مسلم في الدنيا إلا ويحفظها، حتى إن الإنسان أول ما يدخل في الإسلام وينطق بالشهادتين، يُحفَّظ سورة الفاتحة قبل غيرها؛ حتى تصح بها صلاته، ولو أن الإنسان اقتصر عليها في الصلاة لصحت صلاته، فما زاد عنها فهو نفل مستحب وليس بواجب.(103/4)
وقفات في تفسير الفاتحة
وفي هذه السورة معانٍ ووقفات:(103/5)
الوقفة الخامسة مع العبادة والاستعانة
الوقفة الأخيرة: وكان حقها أن تكون قبل الأخيرة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فإن هذه الآية فيها معنى من أعظم المعاني، ففي أولها الاعتراف لله تعالى بالعبودية وأن الإنسان لا يعبد إلا الله، وهذا أصل التوحيد، وما بعث الرسل إلا بهذا الأمر العظيم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2] والشرك في الألوهية من أخطر ألوان الشرك الذي بليت به الأمم كلها حتى تسرب إلى الأمة الإسلامية، فصار كثير منهم يعبدون غير الله.
فالشرك في الألوهية هو أخطر ألوان الشرك على الإطلاق؛ لأن قضية الربوبية وهي الاعتراف بالله عز وجل هذا موضوع تقر به الفطر والنفوس، ولا يحتاج إلى تقرير كبير، وموضوع الأسماء والصفات أيضاً حصل فيه انحراف ولكنه لا يقاس بالانحراف الذي حصل في موضوع الشرك في توحيد الألوهية، ولهذا ينبغي أن نعتني كثيراً بدعوة الناس إلى توحيد الألوهية، لأنه أصل الدين وأساس التوحيد.
فقولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] قُدّم الضمير فيه: إشارة إلى التخصيص، أي: لا نعبد إلا إياك، لا نعبد إلا الله، فهو حصرٌ وقصرٌ.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا نطلب إلا عونك، فلا نستعين بغيرك، ولا نستغني عن فضلك، فمن الناس من يستعين بغير الله، وهؤلاء ما حققوا: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ومنهم من قد يستعين بالله وبغيره، ومنهم من قد لا يستعين بالله تعالى فلا يكون حقق هذا، فقولك: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه إثبات الاستعانة بالله ونفي الاستعانة عمن سواه.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: {هذا بيني وبين عبدي} فقول: "إياك نعبد" هذا حق الله تعالى على العبد كما في حديث معاذ: {حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً} فأنت تقر به وتعترف في قولك: "إياك نعبد" وأما قولك: "وإياك نستعين" فهو استعانة العبد بالله عز وجل؛ إذ لا قوام له حتى على التوحيد إلا بعون الله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] فضلاً عن غيره من أمور الدنيا والآخرة.
خاتمة: أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن هدوا إلى الصراط المستقيم، ورزقوا العلم النافع والعمل الصالح، وجنبوا طريق المغضوب عليهم والضآلين آمين! كما أسلفت إن شاء الله في الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم سوف نقرأ الوجه الأول من سورة (ق) وهكذا نظل في كل أسبوع -إن شاء الله- نقرأ وجهاً.
ولا يغيب عن بالكم استحضار النية الصالحة في هذا المجال؛ فالعبد الآن يقرأ كلام الله ويسمع شرحه وتفسيره، فإذا استحضر النية رجا أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم الخ} فيرجو العبد الرحمة ونزول الملائكة، وأن يذكرنا الله فيمن عنده، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(103/6)
الوقفة الرابعة: البراءة من المغضوب عليهم والضالين
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] وهذا تأكيد للمعنى السابق، ولذلك قلت لكم: انتبهوا إلى هذا المعنى لأهميته، ولذلك يعاد مرة بعد أخرى.
فقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي الذين حازوا على الهداية التامة ممن: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم هم اليهود، والأولى أننا ما نقول: هم اليهود، لكن نقول: كاليهود، لأن الغضب هل هو محصور في اليهود؟ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء:93] وفي الحديث في البخاري {من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان} {إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها بات الذي في السماء ساخطاً عليها} وفي قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، قال: {إن الله قد رضي عنك وسخط على صاحبيك} .
إذاً هل الغضب والسخط خاص باليهود؟ ليس خاصاً بهم، وإنما اليهودُ مجردُ مثالٍ للمغضوب عليهم، لكن القاعدة في المغضوب عليهم سواء كانوا اليهود أم غيرهم: لماذا غضب الله عليهم؟ لأنهم مهتدون أو ضالون؟ لأنهم ضالون لا شك، أي أنهم لم يهتدوا إلى الصراط المستقيم، وما سبب عدم هدايتهم؟ هل هو الجهل أم الهوى؟ الهوى، فاليهود معهم علم ولم يعملوا به، ولهذا قال بعض السلف: من ضل من علماء هذه الأمة ففيه شبه باليهود، لأنهم يعلمون ولكنهم يرتكبون الخطأ عمداً وإصراراً، فيتعوذ الإنسان من حالهم وطريقهم، فمن الهداية أن يكون عند الإنسان العزيمة والقوة على فعل الحق وترك الباطل.
وقدم -والله أعلم- المغضوب عليهم، فقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} لسبب وهو أن أمرَهم أصعبُ وأشقُّ على النفس، بمعنى أن الإنسان إذا كان ضلاله بسبب الجهل كيف يرفع الضلال حينئذٍ؟ بالعلم، والتعليم وليس صعباً، أي: كون الإنسان مثلاً يصلي ولا يقول: "سبحان ربي الأعلى" في سجوده، هذا هل تحقق له كمال الهداية أولم يتحقق؟ لم يتحقق، كيف نستطيع أن نهديه -بإذن الله تعالى- في هذه المسألة؟ يكون بالتعليم، نقول له: إذا سجدت فقل: "سبحان ربي الأعلى" كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فتجد أن هذا الإنسان يقول: "جزاك الله خيراً! "، أنا جاهل وأحتاج أن أتعلم، ويدعو لك ويقبل منك، ثم يبدأ يعمل بهذا العلم، فدفع الجهل ورفعه يكون بالعلم، وهو أمر ميسور.
أما الإنسان إذا كان عالماً أصلاً ولكنه لا يعمل، فما هي الحيلة فيه؟ كل ما تريد أن تقوله له فهو موجود لديه، مثال: إنسان يدخن ولأنه يدخن صار معنياً بموضوع التدخين، يقرأ فيه ويتابع التقارير والأخبار، فتجد أنه يكون لديه ثقافةٌ ممتازةٌ عن التدخين وخَطَرِ التدخينِ ومحتويات هذه السيجارة، حتى إنه مستعد أن يلقي محاضرة قوية جداً عن التدخين، ولكنه ومع ذلك كله يدخن، فما هي الحيلة مع هذا الإنسان؟ هل ينفعه العلم ويرفع عنه ما هو فيه؟ لا.
لأن القضية بالنسبة له ليست علماً، ولكنها فقدان الإرادة والعزيمة على الفعل، فأخطر ما يكون هو هذا.
ولذلك جاء الوعيد الشديد في شأنه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أسامة بن زيد: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان! مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى! -هذا الإنسان عالم أم غير عالم؟ عالم لأنه يعلم المعروف والمنكر، بل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكنه لا يعمل! ولهذا قال-: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه} ولهذا كان بهذه المثابة من العذاب.
وكان من أخطر ألوان انحراف اليهود أنهم يعرفون الحق ثم يعرضون عنه ويلبسونه بالباطل، ولهذا قدم المغضوب عليهم على الضالين: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالون: هم النصارى، والأولى أن يقال: كالنصارى، فيكون هذا مثالاً فقط، وإلا فالضلال ليس محصوراً في النصارى، فالله تعالى وصف ووسم بالضلال في كتابه أصنافاً من الخلق، وليس الأمر محصوراً بهم، ولكنهم هم أولى من يصلحون مثالاً للضلال، وما سبب ضلال النصارى؟ سبب ضلال النصارى هو الجهل هذا في الأصل، ولا يمنع أن يكون طرأ عليه في هذا الزمان مع الجهل العناد والإصرار بعدما زال الجهل عن بعضهم.
والمقصود أننا الآن أمام ثلاثة اتجاهات أو ثلاث طرق: الطريق الأول: الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا الطريق والصراط يقوم على ركنين: أولهما: العلم، والثاني: العمل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] وهما: العلم النافع والعمل الصالح، فهذا هو الصراط المستقيم.
الطريق الثاني: صراط المغضوب عليهم من اليهود وغيرهم، وصراط المغضوب عليهم اختل فيه ركن وهو العمل، فهم يعرفون الحق ولكنهم لا يعملون به.
والطريق الثالث: هو صراط الضالين أو طريق الضالين، وقد اخْتَلَّ فيه ركن وهو العلم، فهم قد يعملون ولكن بغير علم، ولهذا قال بعض السلف أيضاً: من ضلَّ من عُبَّاد هذه الأمة ففيه شبه من النصارى، كبعض الطرق الصوفية التي تعبد الله على جهل وضلالة ففيهم شبه من النصارى؛ لأنهم يعبدون الله ولكن على جهل وضلال، فهذا المعنى العظيم واردٌ في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] مع أن الإنسان مهتدٍ إلى الإسلام، ولكن مع ذلك يطلب مزيداً من الهداية، أي: مزيداً من العلم والعمل والتوفيق في كل حالة ومسألة تنزل به، ثم أعاده في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فهؤلاء اختل عندهم ركن العمل وهؤلاء اختل عندهم ركن العلم.(103/7)
الوقفة الثانية مع حمد الله والثناء عليه
ثم استفتح السورة بالحمد حتى سميت باسم الحمد: "الحمد لله رب العالمين" والحمد: هو الثناء على المحمود بإفضاله وإنعامه، أما المدح: فهو الثناء عليه بصفات الجلال والجمال والكمال، إذاً فالحمد ثناء على الله تعالى بما أنعم عليك وما أعطاك، فإذا قيل: "إن فلان حمد فلاناً" فمعناه أنه شكره على إحسانٍ قدمه إليه، لكن إذا قيل: "مدحه" فلا يلزم أن يكون مدحه بشيء قدمه له؟ بل قد يكون مدحه -مثلاً- بفصاحته وبلاغته، أو مدحه بجماله، وقد يكون مدحه -وهو من المخلوقين- بجسمه وقوته، أو بغناه إلى غير ذلك، فهذا الفرق بين الحمد والمدح أن الحمد ثناء على المحمود بإحسانه وإنعامه وإفضاله إلى العبد الحامد، أما المدح فهو ثناء عليه بصفات الجمال والجلال والكمال مطلقاً، فالحمد فيه معنى الشكر ومعنى الاعتراف بالجميل وهذه هي الوقفة الثانية.
فالوقفة الثانية أن السورة تبدأ بالاعتراف، والاعتراف له معنى عظيم؛ لأنه إقرار من العبد بتقصيره وفقره وحاجته، واعتراف لله جل وعلا بالكمال والفضل والإحسان، وهو من أعظم ألوان العبادة، ولهذا قد يعبد الإنسان رَبَّه عبادة المدل المعجب بعمله، فلا يُقبل منه عمل، بل يُرد عليه ويُجعل هباءً منثوراً؛ لأنه داخله إعجابٌ، والإعجاب لا يتفق مع الاعتراف والذل، فلا يدخل العبد على ربه من باب أوسع وأفضل من الذل له والانكسار، بل هذا هو معنى العبادة المذكورة في قوله "إياك نعبد"، تقول العرب: (هذا طريق معبد) أي: تطؤه الأقدام، فالعبادة من أعظم معانيها: الذل له سبحانه.
ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير الاعتراف لله تعالى والاعتراف على نفسه بالنقص والظلم، فكان يقول صلى الله عليه وسلم -كما علّم أبا بكر -: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} إلى آخر الدعاء، وكان يقول: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليّ وأبوءُ لك بذنبي} حتى الدعاء (اللهم اغفر لي) فيه الاعتراف على النفس بالذنب والنقص، والاعتراف لله تعالى بأنه هو الغفور الرحيم.
فابتداء السورة بـ (الحمد لله رب العالمين) فيه معنى الاعتراف بالنعمة كما بينت ذلك، ولا شك أن عكس الاعتراف هو الإنكار والجحود، والذنب الذي كفر به إبليس هو الجحود، فإبليس يعرف ربه ويدعو الله تعالى باسمه: (فبعزتك) يحلف بالله تعالى، ويسأل الله تعالى (رب فأنظرني) ويؤمن بيوم القيامة: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] ولكن ذنبه هو الجحود والاستكبار عن الطاعة والعبادة، وهكذا قال عز وجل عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] فإذا قال العبد: (الحمد لله) تبرأ من هذا كله، وكأن أول ما تدل عليه هذه الكلمة أن العبد وهو واقف يقول: أعترف بأنني عبد محتاج فقير ذليل مقصر، وأنك الله المنعم المتفضل، فهذا فيه معنى الحمد، فأنا أحمده على فضل منه عليَّ في ديني ودنياي.
{الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] وهذه كلها أسماء لله، فهو الرب: رب العالمين.
والرب معناه الخالق أولاً ثم المالك ثم المتصرف، فهو خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] أي: يوم يدان الناس بعملهم، ويُجازَون به خيراً أو شراً.
فبعد ما اعترف لله بقوله: "الحمد لله" زاد الاعتراف قوةً وثباتاً بأن أثنى على الله سبحانه بصفاته تلك وأسمائه، فهو "رب العالمين" {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وفي قراءة سبعية: (ملك يوم الدين) بالقصر بلا مد، وكل ذلك جائز أن يُقرأ به في الصلاة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أو: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] .(103/8)
الوقفة الثالثة: مع الهداية
عند قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
أولاً: الإنسان الآن واقف يصلي أو يقرأ القرآن، ومعنى ذلك أنه مسلم، ومع ذلك يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] والمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم حتى لا ننحرف عنه أو نزيغ؛ لأن من الممكن أن يكون الإنسان اليوم مهتدياً وغداً من الضالين؛ ولهذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] أي ثبتنا عليه، وهذا معنى، وأيضاً من معانيها: قوِّ هدايتنا؛ فالهداية درجات، والمهتدون طبقات: منهم من يبلغ إلى درجة الصديقية، ومنهم من يكون دون ذلك وبحسب هدايتهم نكون منازلهم في الجنة، وبحسبها تكون سيرهم على الصراط، فإن لله تعالى صراطين: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وسيرك على الصراط الأخروي هو بقدر سيرك على الصراط الدنيوي، فالصراط الدنيوي هو طريق الله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:53] {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فهذا صراط الدنيا بطاعة الله فيما أمر واجتناب ما نهى عنه، وبقدر استقامة العبد عليه يكون سيره على الصراط الأخروي الذي هو الجسر المنصوب على متن جهنم وهو دحض مزلة، يمشي الناس فيه بقدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالركاب، ومنهم من يمشي، ومنهم من يمشي تارة ويهوي أخرى.
فهو يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: قوِّ هدايتنا، وزَوِّدْ إيماننا، وعَلِّمْنا، ولهذا قال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] فالعلم من الإيمان، ومن التزام الصراط المستقيم أن يزداد علماً، قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] فزيادة الإيمان هي زيادةُ ثباتٍ على الصراط المستقيم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] وهذا نص في الموضوع، وأيضاً: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] فإنه من الممكن أن يكون الإنسان مهتدياً ثم يزداد من الهداية ويزداد بصيرة وعلماً ومعرفةً وتمسكاً ويزداد دعوةً وصبراً، إلى غير ذلك، فهذا من معاني قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
ومن معانيها أيضاً -وهو معنى لطيف- أن العبد إذا قال هذا، فهو يعلم بذلك أن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر أو مسألة يلم به من أمور الدنيا حكماً، إما إيجاب أو استحباب أو إباحة أو كراهة أو تحريم، والعبد قد يجهل هذه الأحكام أولاً فلا يعلمها، وقد يعلمها ولكنه لا يعمل بها، لغلبة النفس والهوى والشيطان، وهذا المعنى من أعظم المعاني الذي أريدُ أن تنتبهوا لها.
ومن معاني طلب الهداية أيضاً في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أن فيها إشارة إلى أن العبد محتاج إلى الهداية في كل موقف، وكل حال تمر به، وفي كل مسألة تواجهه؛ لأن هذه المسألة التي واجهته، فيها هداية وفيها ضلال، فيها خطأ وصواب، فيها حق وباطل، ولله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها حكم؛ فأنت محتاج إلى أمرين: أولاً: معرفة الحكم، أي ماذا يريد الله ورسوله منك في هذه المسألة.
ثانياً: العمل بهذا الحكم.
فمن الهداية حين تقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: يا رب، عرفنا ما تحب وترضى في كل ما يواجهنا من أمور الحياة، وقَوِّنا على العمل بهذا الذي عرفناه.
وسر الضلال يرجع إلى أحد أمرين: إما الجهل فمثلاً: إنسان وُلِدَ له ولدٌ فهذه حادثةٌ نزلت به، فيحتاج فيها إلى أنه أول ما يولد الولد -مثلاً- إلى اسم، والاسم من الأشياء العادية، فإذا أراد أن يسمي ولده، فقد يكون الأب جاهلاً، فيسمي ولده باسم غير شرعي، مثل التعبيد لغير الله، فيسميه مثلاً: عبد المطلب، فهذا من الأسماء الموجودة عند المسلمين الآن، أو يسميه بأسماء الشياطين أو بأسماء الفراعنة! فرعون: وهذا اسم موجود حتى عند المسلمين أيضاً! وهذه مسألة قد يراها الإنسان عادية أو بسيطة لكنها مثال يدل على الجهل.
إذاً سبب الخطأ هنا: الجهل، فمن الهداية أن يكون الإنسان عالماً لئلا يقع في الخطأ وهو جاهل، فأنت حين تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: تقول أولاً: (يا رب علمنا الحق الذي تريده في كل مسألة تنزل بنا) حتى لو كانت مسألة يراها العبد صغيرة، مثل: مسألة تسمية المولود، فمن الهداية -هداية الصراط المستقيم- هداية العبد فيما يتعلق بتسمية الولد، لأن سبب الضلال -أولاً- الجهل.
وقد يرتفع الجهل بالعلم فيكون الإنسان عالماً، ولكن ليس لديه الهمة والقوة القلبية التي تجعله يعمل بهذا العلم، فيرتكب الخطأ عمداً، مثال: أكل الربا، فالمال بطبيعة الحال محبوب: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ولذلك لا يكفي أن يعرف الإنسان أن ذلك حرام ليجتنبه، بل تجد أن الإنسان قد يعرف أنه حرام، ومع ذلك يقول: عسى الله أن يغفر لنا، وأنا معترف بأن هذا المال من طريق غير مشروع، بل قد يسرق المال، فالسارق لا يجهل أن السرقة حرام حتى لو لم يكن لديه علم؛ لأنه يعرف أن هذا أخذ مال الغير، فالفطرة تقول له: إن هذا لا يسوغ ولا يعقل أن تعتدي على الآخرين وتأخذ أشياءهم، ولكنه يفعل السرقة مع علمه بمنعها وبتحريمها، فيفعلها لضعف الإيمان في قلبه وضعف الوازع والرادع الديني.
فيحتاج العبد من أجل الهداية إذاً لأمرين: الأول: العلم لئلا يقع في الضلال عن جهل.
والثاني: العمل بالعلم عن طريق وجود إيمان قوي في قلبه يحدوه للعمل.
فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] كأن المعنى: عرِّفنا الحق، أي: نعرف الحق أولاً ثم نعمل به ثانياً.
فطرق الضلال إذاً: إما الجهل فيرتكب الخطأ جهلاً، وإما الهوى فيترك الحق ويفعل الخطأ مع علمه بذلك الخطأ.
إذاً كوني أقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إشارة إلى أنني أحتاج الهداية على الدوام، فإذا ولد لي ولد احتجت الهداية في تسميته، ثم احتجت الهداية في كل العادات المتعلقة بولادته، وإذا أراد الإنسان مثلاً أن يصلي احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يصلي، وإذا أراد أن يتاجر احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يتاجر، وإذا أراد أن يبني احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يبني، وإذا أراد أن يزرع، أو يأكل، أو يشرب، أو ينام وهكذا كل لحظة يحتاج إلى هداية.(103/9)
الوقفة الأولى: مع الأسماء الحسنى
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" وقد اختلف أهل العلم: هل هذه الآية آية من الفاتحة، أم هي آية من القرآن، أم هي آية من كل سورة ولا أدخل في هذا الخلاف الفقهي؛ فربما سبق ذكر شيء منه في بعض الدروس، ولكن المقصود أن كل سورة في القرآن تبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم" وفي هذه السورة بالذات قال: {الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] فأعاد هذين الوصفين العظيمين لله تعالى.
أ/ الله: ففي السورة إذاً ذكر أسماء الله عز وجل: أولها:"الله"وهو الاسم الأعظم لله عز وجل الذي تلحق به الأسماء الأخرى، ولا يشاركه في هذا الاسم غيره فلم يتسمَّ به أحدٌ قط! والله هو الذي تأله إليه القلوب بالمحبة والشوق والحنين، حتى إنك تجد المسلم يدعو الله تعالى بقوله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك} فمن جهة معاني هذا الاسم "الله" أن القلوب تأله إليه، أي تحن إليه وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتأنس بذكره.
وأيضاً "الله" بمعنى الذي تحار فيه العقول، فلا تحيط به علماً، ولا تدرك له من الكنه والحقيقة إلا ما بَيَّنَ سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تعلم كيفية ذاته سبحانه، ولا تحيط به العقول فتحار فيه، وإذا كانت العقول تحار في بعض مخلوقاته في السماوات والأرض والبر والبحر فكيف بذاته جل وعلا؟! فالعقل يرتد خاسئاً حسيراً عن إدراك ذات الله جل وعلا، ولهذا قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة: {إنه ينطلق فيخر ساجداً تحت العرش، فيحمد الله تعالى بمحامد يعلمه إياها لا يعلمها الآن} فيفتح الله جل وعلا عليه من العلم به آنذاك ما لم يكن لديه من قبل.
إذاً "الله" هو الذي تَحِنُّ إليه القلوب، "والله" هو الذي تحار فيه العقول! فهذه هي بعض معاني الألوهية، وعلى كل حال فإن من المعنى أنه: "الإله المعبود المتفرد" ولهذا جاء هذا الاسم وهو "الله" في الشهادة، فإن المؤمن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ولم يقل مثلاً: (أشهد أن لا إله إلا الرحمن) أو (إلا الرحيم) مع أن الرحمن والرحيم من أسمائه جل وعلا، لكن أطلق هذا الاسم العلم الذي هو أصل لكل الأسماء الأخرى، فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله" اعترافاً بأنه لا معبود بحق في الكون إلا الله عز وجل، وأما المعبودات بالباطل فهي كثيرة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] .
ب/ الرحمن الرحيم: الاسم الثاني: المذكور هو "الرحمن" والاسم الثالث هو "الرحيم"، والرحمن الرحيم: مأخوذ من الرحمة، وقيل: الرحمن رحمة عامة بجميع الخلق، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال عز وجل: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] وقيل إن الفرق بينهما أن اسم الرحمن بالنظر إلى وجود الصفة، وأما الرحيم فبالنظر إلى متعلقها في الخلق، أي: حصول أثرها في الخلق برحمته تعالى لهم، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فهو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وهاهنا ينبغي أن نتأمل سراً من أسرار تكرار هذا الاسم -الرحمن الرحيم- فإن الإنسان إذا أراد أن يقرأ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يدخل قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يخرج قال: بسم الله، وإذا أراد أن يأكل قال: بسم الله، وإذا أراد أن يخطب أو يتكلم قال: بسم الله، حتى جاء في الحديث عند النسائي وغيره أن: {كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله -وفي رواية- "بالحمد لله" فهو أبتر أو أقطع أو أجذم} والمعنى ناقص البركة، وفي الحديث مقال على كل حال، لكن من المعلوم أن الاسم يقال هكذا: "بسم الله الرحمن الرحيم" فلم يقل أحد من الناس قط بسم الله المنتقم الجبار، أو بسم الله العزيز الحكيم، مع أن هذا حق، وإنما قيل "بسم الله الرحمن الرحيم".
وفي هذا إشارة إلى قوله عز وجل في الحديث القدسي عند البخاري وغيره: {إن رحمتي سبقت غضبي} وفي الحديث الآخر أيضاً في الصحيح: {إن الله تعالى جعل مائة رحمة، فأنزل منها رحمة واحدة في الدنيا، وبها يتراحم الناس، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين رحمة إلى يوم الحساب} ففي ذلك إشارة إلى عظيم رحمته جل وعلا وأنها تسبق غضبه، ولذلك ينبغي ألا يقنط الإنسان من رحمة الله مهما أسرف على نفسه من الذنوب والمعاصي: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولهذا كان اليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله من صفات الكافرين، وهكذا ينبغي للإنسان أن يتشبث أبداً بطلب رحمته جل وعلا، وأن يُعَلِّم الناس الثقة برحمته سبحانه.
وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الرجاء فيما عند الله عز وجل، وأن تكونَ ثقةُ الإنسان بالله وبرحمته أعظمَ من ثقته بعمله؛ فإن عمله قد لا يقبل؛ فقد يداخله الرياء والعجب أو عدم الإخلاص، أو لا يكون على وفق ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَيَردُّ على صاحبه، لكن يكون اعتماد العبد على رحمة الله جل وعلا، وهكذا ينبغي أن يدعو الناس والعصاة إلى الله عز وجل لتذكيرهم برحمته، مع أنه ينبغي أن يقرن هذا بتذكيرهم بعقوبته: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] لكن الناس دائماً وأبداً محتاجون إلى تذكيرهم برحمة الله جل وعلا.
ونحن الآن نجد أن كثيراً من الناس -ربما من طلبة العلم أو من الدعاة- من يفيضون كثيراً في الحديث عن الوعيد والتشديد والتخويف والترهيب، وهذا أحد أوجه التربية التي جاء بهما القرآن والسنة، ولكن ينبغي العدل، وربنا جل وعلا يقول: {رحمتي سبقت غضبي} وعلّمنا أن نستفتح ونبدأ باسمه "الرحمن الرحيم" حتى إن الإنسان الذي يريد أن يتكلم مثلاً عن النار بماذا سيبدأ؟ سيقول في أول حديثه: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم مثلاً عن نواقض الإسلام سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم عن الحدود الشرعية سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، فينبغي أن يعطى هذا الحديث قدره عند الناس، ويذكروا دائماً بأن يتعلقوا بالله جل وعلا الرحمن الرحيم.
ج/ الله والرحمن من أسماء الله الخاصة: فهذه هي الأسماء الثلاثة المذكورة في هذه السورة، لكن هنا فائدة وهي: أن اسم "الرحمن" كاسم "الله" لا يسمى به غير الله، ولم يتسَمَّ به أحدٌ؛ فالله والرحمن من الأسماء الخاصة به جل وعلا، لا يشاركه فيها غيره، ولهذا قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] أما الأسماء الأخرى فقد يسمى أو يوصَفُ بها غير الله، كالرحيم والسميع والبصير كما قال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] يعني رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قال {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] أما اسم " الله " "والرحمن" فلا يسمى بهما غيره سبحانه.(103/10)
حقوق الإنسان في الإسلام
قامت حركات شعبية كبيرة في العصور الأخيرة تسعى إلى فرض اتفاقيات ومواثيق تنظم الحقوق الفردية والشعبية، وهي ما اصْطُلِح على تسميتها فيما بعد (حقوق الإنسان) عقب الحرب العالمية الثانية؛ حين أعلن في الأمم المتحدة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان سنة (1945م) .
ورغم الدعاوى العريضة عن حقوق الإنسان في الغرب إلا أن الواقع الملموس في بلادهم أنها خاصة بهم دون سائر الناس، ومنهم المسلمون؛ الذين حباهم الله عز وجل بأشمل وأكمل منهج لحقوق الإنسان منذ أكثر من ألف عام، وذلك رغم التطبيقات المشوهة لهذا النظام في واقع المسلمين اليوم، والذي ينبغي اتخاذ عدة أساليب لتطويره.(104/1)
أسباب الحديث عن موضوع حقوق الإنسان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] .
أما بعد: فيا حيَّ الله هذه الوجوه الطاهرة النيرة المشرقة، حضرت إلى بيت من بيوت الله تعالى، ومجلس لعله أن يكون من مجالس الذكر، يذكر فيه الله تعالى فيسبح، أو يذكر فيه رسوله صلى الله عليه وسلم فيصلى عليه ويسلم، فيا حياكم الله ثم حياكم يا أهل الإيمان والنخوة والنجدة والمروءة والحمية، وكثركم وكثر في المسلمين من أمثالكم.
ثم أما بعد أيضاً: فقد جمد أخي الذي قدمني جمد الريق في فمي وحلقي بهول العبارات التي سمعت منه، وغفر الله لي ولكم وله.
إنني بقدر ما أقدر هذه المشاعر الفياضة وهذا الحب الكبير الذي تحملونه في الله إن شاء الله، بقدر ذلك لا أملك إلا أن أبين عن الإحراج الذي ينتابني وأنا بين أيديكم أسمع مثل هذا الإطراء وهذا الثناء، فأستغفر لي ولأخي ولكم جميعاً وأقول كما قال الصديق: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]] .
ثم أما بعد: فموضوع حديثي إليكم الليلة عن الإسلام وحقوق الإنسان، في هذا الجامع المبارك، جامع الشيخ فيصل المبارك رحمه الله بمدينة سكاكا بمنطقة الجوف، وثمة أربعة أسباب وراء هذا الحديث:(104/2)
الفهم المخلوط عن حقوق الإنسان في الإسلام
السبب الثاني: أن هذه الحقوق -حقوق الإنسان- قد أخذت بعداً عالمياً واسعاً عريضاً، فمنذ أن صدر ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ووقعت على هذا الميثاق جميع الدول بلا استثناء، ثم صدرت ملاحق أخرى له تهتم ببيان حقوق الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو التعليمية أو السياسية أو غيرها، وهي الأخرى حظيت بتأييد غير قليل من دول العالم كلها شرقيها وغربيها.
فأصبح العالم اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان حتى أمريكا، أمريكا التي تعاني بذاتها من التفرقة العنصرية، وأمريكا التي شهدت اضطرابات طويلة عريضة بسبب الاعتداء على حقوق من يسمونهم بالسود، حتى أمريكا تتحدث عن حقوق الإنسان، وتتذرع بهذه الحقوق إلى ما تريد، فهي تتدخل هنا أو هناك بحجة حماية حقوق الإنسان، أو رفع الظلم والاضطهاد عن المظلومين، إذاً أصبحت حقوق الإنسان أحياناً ألعوبة يتذرع بها الأقوياء للسطو على الضعفاء، وأصبحت ذريعة للعالم الغربي لتحقيق مآربه وأهدافه في الهيمنة على بلاد المسلمين -مثلاً- أو ابتزاز خيرات أرضهم نفطاً واقتصاداً، أو السيطرة على مقدرات بلادهم، أو القضاء على خصوم الغرب، كل ذلك يتذرعون إليه باسم حماية حقوق الإنسان والثأر للمظلومين.
هذا العالم الخاسر الكافر الذي لم يتورع عن أن يدفن ما يزيد عن ثمانين ألف إنسان وهم أحياء -وهو يضحك ويبتسم- اليوم ينادي ويتكلم باسم حقوق الإنسان المظلومة والمهضومة.
إذا كان الغرب اليوم يتكلم باسم حقوق الإنسان فإنه لا يعرف عن الإسلام إلا ثلاث مسائل: المسألة الأولى: مسألة تعدد الزوجات، وأن الإسلام أباح تعدد الزوجات.
المسألة الثانية: مسألة الرق والاسترقاق.
المسألة الثالثة: مسألة الجهاد والقتال.
وبناءً عليه يصور الغرب الإسلام على أنه دين أهدر حقوق الإنسان، فأهدر حقوق المرأة يوم سمح للزوج بأن يأخذ عليها أخرى وثالثة ورابعة، وأهدر حقوق الإنسان يوم رضي أن يكون عبداً رقيقاً يستخدم ويباع ويشترى، وأهدر حقوق الإنسان يوم أذن بقتاله وسفك دمه، هكذا تصور الحضارة الغربية الإسلام، وبناءً عليه كان لابد أن نتكلم عن حقوق الإنسان في الإسلام لنبين أي مستوى من الكرامة رفع الإسلام إليها هذا الإنسان الكريم.(104/3)
أنها سبب لحوادث جسمية على مر التاريخ
أما السبب الثالث فهو: أن هذه الحقوق كانت سبباً لحوادث تاريخية جسيمة، فربما انتهت المطالبة بحقوق الإنسان -أحياناً- إلى انتفاضات سياسية أو اجتماعية، أو ثورات عارمة تأتي على الأخضر واليابس، أو نهضات فكرية أو نصوص تشريعية ودستورية، فضلاً عن مواثيق ومعاهدات دولية.
وإن الحديث عن هذه الحقوق -حقوق الإنسان في مجتمع ما- يعد ظاهرة صحية للغاية تدل على وعي هذا المجتمع وعلى تماسكه، لقد كانت الكثير من الدكتاتوريات المتسلطة على رقاب الشعوب عبر التاريخ كانت تميل إلى التسلط والفردية والاستبداد والأثرة، وتعتقد أن إعطاء الإنسان حقوقه أو بعض حقوقه أنه يهيئ له الفرصة للتمرد على الحكام ومقاومتهم ومحاولة التخلص منهم، هكذا يظنون! ولكن تجارب التاريخ أثبتت نقيض ذلك تماماً، وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن القيود والأغلال التي تكبل بها الشعوب والأمم لا تزيدها إلا رغبة في التحرر والانطلاق، على حين أن تمتع الشعوب بحقوقها المشروعة وحرياتها المشروعة يدفعها دفعاً إلى الاستقرار والتقدم، ويحميها من التمزق والانشطار الذي كثيراً ما يقع بسبب الاعتداء على مصالح الفرد أو مصالح الجماعة من قبل أقلية تحكم وتهيمن وتسيطر.(104/4)
زيادة الإهدار لحقوق الإنسان في العصر الحاضر
أما السبب الرابع لبحث هذا الموضوع فهو: أننا في الوقت الذي امتلأت آذاننا من الحديث عن حقوق الإنسان من الناحية النظرية، إلا أن آذاننا امتلأت -أيضاً- بما يواجهه الإنسان على محك الواقع من الإهدار لكرامته والانتهاك لحقوقه، ولهذا نقول: ربما لم ير الإنسان في تاريخه الطويل كاليوم قط إهداراً لحقوقه وانتهاكاً لكرامته.
فالإنسان الغربي اليوم لم تعد تفرض عليه الأمور بقوة الحديد والنار كما كان ذلك في الماضي، ولكن أصبحت الأمور تفرض عليه من خلال تأثير الإعلام، فبالأمس إذا أراد الحاكم في بلد غربي أن يحمل الناس على شيء حملهم بقوة الحديد والنار، أما اليوم فإنه يحملهم بقوة الإعلام، فإذا أراد أن ينتخبوا فلاناً -مثلاً- سلط الأجهزة الإعلامية لتلميع هذا الشخص والحديث عن منجزاته، والكلام عن بطولاته، وذكر مآثره حتى تمتلئ نفوس الناس قناعة فيصوتون له بملء اختيارهم وطواعيتهم، فالدكتاتورية هي هي، والاستبداد هو هو، سواء كان حملاً للإنسان بالقسر والقوة، أم كان إقناعاً للإنسان من خلال وسائل الإعلام المسلطة عليه، والتي تقوم معه حيث يقوم، وتقعد معه حيث يقعد.
أما الإنسان المسلم فعلى رغم أن العالم يعلن باستمرار أنه لا يعترف بالفوارق بين الأديان، إلا أن الإنسان المسلم قطعاً يحظى بمعاملة خاصة ملؤها الإهدار واللامبالاة والاعتداء الصارخ على حقوقه، سواء حقوق الأفراد أم حقوق الشعوب أم حقوق الدول، ولسان حال المسلم المستضعف المسكين يقول: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا إن الغرب يريد من المسلم فعلاً أن يتخلى عن إسلامه وتميزه بهذا الدين وانتمائه إلى هذه العقيدة، وبراءته من المخالفين له في الدين، ولكن الغرب نفسه لم يقنع الكافر هناك أن يتعامل مع المسلم على قدم الإخاء والمساواة، اللهم إلا بالكلام فحسب.(104/5)
غفلة المسلمين عن هذه الحقوق
وأخيراً: فعلى رغم اهتمام الإسلام بالإنسان وتكريمه ومنحه الكثير من الحقوق بل كل الحقوق التي يستحقها إلا أن أقل الناس إحساساً بهذه الحقوق -بدون مبالغة- هم المسلمون.
الفرد المسلم لا يشعر بكرامته ولا يسعى إلى نيل حقه، بل لا يعرف أن له حقاً، ويستكثر القليل مما يدفع له أو يمنح، وربما يستكثر حتى مجرد الحديث عن هذا الموضوع، ولست أستغرب ولا أتعجب أن يقول قائل: أي علاقة لطالب علم شرعي أن يتكلم في حقوق الإنسان؟ وهكذا نجد أننا عملياً خضعنا لمسألة تبعيض الدين وتمزيقه، كما تطالب بذلك العلمانية وتدعو إليه، فأصبح مسموحاً للفقيه أن يتكلم في أحكام الطهارات والعبادات وغيرها، لكن حين ينتقل إلى الحديث عن القضايا العامة الكلية التي تحتاجها الأمة، فإن الكثيرين يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم ويقلبون أيديهم وملؤهم العجب والدهشة!! أي علاقة لهذا أن يتكلم في مثل هذا الموضوع؟!! وكأن مثل هذه الموضوعات أصبحت نظرياً وعملياً حكراً على الغرب أو على تلامذة الغرب الذين يتكلمون في ديار الإسلام.
إن غيبة الوعي عن الدين جعلت الكثير من المسلمين لا يعرفون ماذا لهم من الحقوق في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يطالبوا بها، ولا ماذا عليهم من الواجبات والمسئوليات حتى ينهضوا بها ويتحملوها، وكذلك البعد عن الواقع جعلت الكثير من المسلمين لا يحركون ساكناً.
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلَّو إن الكثير من المسلمين قد صودرت حتى إنسانيتهم، حتى شعور الواحد منهم بإنسانيته أصبح قليلاً ضئيلاً ضعيفاً، وأصبح المسلم يسمع -مثلاً- عن حقوق يتمتع بها غيره هنا أو هناك، فيظن أن هذا مما لم يخلق ولم يتأهل ولم يترشح له.(104/6)
قدم مسألة حقوق الإنسان
أولها: أن مسألة حقوق الإنسان مسألة قديمة ترجع إلى أقدم العصور، فليس البحث فيها بحثاً جديداً وليد اليوم أو وليد هذا العصر، فقد جاءت الرسالات السماوية كلها من لدن آدم عليه السلام وإلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم لتكرس حقوق الإنسان وتبين فضيلته، وأن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، واستخلفه على هذه الدنيا.
أما فقهاء القوانين الوضعية فلعلهم لم يعرفوا الاهتمام الحقيقي بهذا الموضوع إلا في أواخر العصور الوسطى، عصور التخلف والانحطاط في أوروبا، حين وصل استبداد الحكام وسيطرتهم ووصل بأمراء الإقطاع إلى الغاية، وفقدت -تلك الشعوب الأوروبية الكافرة- معظم ما يجب أن يتمتع به الإنسان من حقوق؛ وبذلك اندفعت إلى إعلان الثورة على حكامها من الكنسيين والطغاة الماديين، وأطاحت بهم، وسيطرت على مقاليد البلاد، ثم كان من جراء ذلك إصدار ما يسمى بإعلانات حقوق الإنسان، هذه الإعلانات: التي تضمنت بعض ما يجب للإنسان، كالإعلان الفرنسي الشهير الذي لم يكن صدر إلا بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان آخر تلك الإعلانات الإعلان العالمي الشهير: (بإعلان حقوق الإنسان) الذي صدر من الأمم المتحدة في أواسط القرن العشرين، عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف، وكان ذلك في أعقاب حرب عالمية دامية ذهبت بالأخضر واليابس، وذهبت فيها آلاف بل مئات الآلاف من الأرواح والضحايا.
إن حقوق الإنسان التي هي موضوع حديثنا اليوم، كلمة طالما تغنى بها الشعراء، وتكلم عنها الأدباء، وبحث فيها الفلاسفة، وتكلم عنها المصلحون وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد وغيرهم، فهي بيت القصيد لكثير من البحوث والأحاديث؛ فلا غرابة إذاً أن نعقد هذه الجلسة للكلام عن حقوق الإنسان في الإسلام.(104/7)
الإسلام وشعارات الحرية
أعتقد أن الحرية من أكثر الكلمات تداولاً على الألسنة، وهي كلمة بارقة يستخدمها الكثيرون على نطاق واسع، فكل من أراد أن يلفت أنظار الناس نادى بالحرية، وكل من أراد أن يحقق أمانيه أو أهواءه رفع شعار الحرية، ومع ذلك فإن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضاً! أما المعنى الشرعي للحرية في الإسلام: فهي ضد الرق، ولا شك أن هذا المعنى غير مقصود الآن، وهو معنى آخر فالإنسان حر بمعنى أنه ليس رقيقاً مستعبداً هذا معنى آخر- وإنما الحرية تستخدم اليوم بمصطلح آخر مخالف لذلك تماماً، فمثلاً: حينما تتحدث مع شخص عن ملاحظة عليه في سلوكه أو أخلاقه، أو ملاحظة على ولده أو على زوجه، قال لك: يا أخي لا تتدخل في حريات الآخرين، دع هذا فمن باب الحرية الشخصية، أصبح الولد أحياناً يرفع شعار الحرية الشخصية ضد أبيه، وأصبح الإنسان المنفلت من القيود يرفع شعار الحرية الشخصية ضد جميع الإجراءات الأخلاقية والأعراف المرعية، ولذلك فلابد من وقفة عند هذه الكلمة البراقة "الحرية".
تقول بعض التعريفات: الحرية هي: حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين.
إذاً: ليس هناك حرية في الدنيا مطلقة قط، لا عند المسلم ولا عند الكافر، ولا في أي قانون في الدنيا، إنما أكثر الناس توسعاً في الحرية -وهم الفرنسيون- يقولون لك: الحرية هي: حق الفرد أن يفعل ما لا يضر بالآخرين.
إذاً حريتك تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين وحدودهم، فلك أن تتحرك في حدود ما لا يضر بالآخرين، وهنا لا بد أن نضيف: ولا يضر بنفسه أيضاً، ولا بد أيضاً أن نحدد الضرر بأنه يشمل الضرر الدنيوي، كأن يتعاطى الإنسان أكلاً أو شرباً أو لباساً لا يضر بدينه أو ماله أو صحته أو مكانته، وأيضاً يشمل الضرر الديني، الضرر الأخروي الذي يجعل الإنسان تحت طائلة المساءلة والعقاب أمام الله تعالى يوم الحساب.
فإذا كانت مسألة ما لا تضر بالإنسان ديناً ولا دنيا، ولا تضر بالآخرين أيضاً ديناً ولا دنيا فهنا يكون نطاق الحرية، ويكون الإنسان مأذوناً أن يتحرك ويعمل هذا الأمر، أمر مأذون له شرعاً فليس إثماً ولا حراماً، لا يضر بدينه وهو أيضاً لا يضر بدنياه، ولو تأملت لوجدت أن الضرر الدنيوي هو أيضاً محرم كما جاء في الحديث: {لا ضرر ولا ضرار} .
والحرية هي قرين الحق، فهما متلازمان في اصطلاح العديد من الفقهاء، وبذلك يتبين لك أن من المطلوب أن يتنازل الإنسان عن جزء من حقوقه الشخصية في مقابل عدم حرمان الآخرين من حقوقهم، إن هذا التنازل الجزئي منك أنت ليس تنازلاً بلا مقابل، بل أنت تفعل ذلك من أجل ألا تفاجأ يوماً من الأيام بأن الآخرين اعتدوا على حريتك الشخصية، فهذا هو ثمن الحياة الاجتماعية المشتركة بينكم، فالحريات أحياناً تتناقض.
فهذا صحفي -مثلاً- يصدر جريدة ويكتب فيها ما يقول مما يسيء إلى الدين وإلى الأخلاق وإلى فلان وإلى وإلى، ويقول: من حقي أن أكتب ما أريد، ومالك الجريدة أو الصحيفة يستطيع أن يمنع هذا الصحفي من الكتابة، ويقول له أيضاً: من حقي ألا ينشر في صحيفتي التي أملكها إلا ما أريد، والقارئ من حقه أن يرفض هذه الصحيفة تعاطياً وشراءً وتعاملاً، ويقول: من حقي ألا أشتري ولا أقرأ إلا ما أريد.
مثل آخر: الطريق (الشارع) هو مرفق عام يشترك فيه الجميع، فهو ملك للمجتمع وليس ملك لشخص بعينه، ومن حق كل إنسان يستفيد منه، لكن هذه الفائدة تتناقض عندما يستخدمها الإنسان بالأصوات المزعجة، أو يستخدمها -مثلاً- بالدعايات التي تضر بالآخرين وتغير عقولهم أو مفاهيمهم أو تسيء إليهم، وهذا سر من أسرار الحكم في الإسلام، فالحاكم في شريعة الله تعالى هو فرد اختاره الناس لكي ينظم لهم كيفية ممارسة الحقوق فيما بينهم بصورة صحيحة، وليس الحاكم وضع من أجل أن يصادر حقوق الناس.
فلا بد أن يتنازل الجميع عن قدر من الحقوق والمصالح الذاتية حفاظاً على ذلك العقد الاجتماعي العام.
فعلى سبيل المثال-أيضاً- من حق الحاكم أن ينظم كيفية الحصول على الطعام -مثلاً- في بيعه أو تعاطيه، أو الشراب، أو السيارات، أو الرخص للسير، أو السفر، أو الشهادة، أو غير ذلك، أو أن يرتب وينظم عملية المرور، أو ينسِق العمل الوظيفي ويضع له شروطاً إلى غير ذلك، لكن إذا تجاوز هذا الأمر حد التنظيم المطلوب للمجتمع إلى التعقيد وافتعال العقبات والصعوبات والمشكلات؛ كان ذلك عبئاً على الإنسان، يفترض أن يتجاوزه ويتعداه، أو أدى هذا إلى امتهان كرامة الإنسان، أو مصادرة رأيه بالضغط والتهديد بحيث يكون الطعام -مثلاً- أو الشراب أو الشهادة أو الوظيفة أو المال أو غيرها لا تحصل للإنسان إلا عن طريق التسول، أن يريق ماء وجه، ويخضع للضغط والتهديد ومصادرة الرأي، فحينئذ تصبح عبئاً ثقيلاً يسعى الإنسان للتخلص منه بقدر المستطاع.(104/8)
الإنسان في الإسلام
الله تعالى خلق آدم بيده -كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم جعل ذريته مكرمين، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] والله تعالى من فوق سبع سماوات يخاطب هذا الإنسان، وهذا أعظم تكريم متصور للإنسان أن الله سبحانه وتعالى الغني القدير الكبير المتعال يتلطف على هذا العبد الفقير الضعيف فيقول له: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] إذاً الإنسان -والجن أيضاً- هو الكائن الوحيد المكلف المبتلى {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] فهو الذي كلف بمسئولية وقيل له: إذا قمت بهذا الواجب فلك الأجر العظيم، وإذا قصرت به أو تخليت عنه؛ فالويل لك يوم يقوم الناس لرب العالمين.
حتى صورة الإنسان وشكله متميز؛ كما قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] نعم، ليس الإنسان في خيلاء الطاووس، ولا في قوة الفيل، ولا في خفة الطيور، ولكن يبقى خلق الإنسان خلقاً متميزاً معتدلاً مكتملاً؛ حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري وغيره: {إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته} أي: خلق الإنسان سميعاً بصيراً مكتمل الحواس، وجعل كرامة الإنسان أكثر ما تكون في وجهه، ولهذا كان السجود الذي هو أعظم عبادة هو انحناء الإنسان لربه ووضعه جبهته في التراب لرب الأرباب.
ولهذا -أيضاً كما في صحيح مسلم- {لما مرت جنازة قام لها الرسول صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي.
فقال عليه الصلاة والسلام: إن للموت لفزعاً -وفي رواية- أنه قال: أليست نفساً؟} فقام وأمر بالقيام للجنازة، وكثير من أهل العلم يقولون: إن هذا الحكم باق غير منسوخ، وأنه يستحب للإنسان إذا رأى الجنازة أن يقوم لها.
إذاً كرم الإسلام الإنسان من حيث هو، ولو نظرت إلى تكريم الإسلام لفئات خاصة من الناس كالعبيد الأرقاء أو الأيتام أو الضعفاء أو المعوقين أو النساء، أو غيرهم، أو الفقراء لوجدت أمراً عجباً، فكيف بتكريم الإنسان العادي؟ وفي خطبة الوداع التي كانت هي آخر خطبة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه أرسى -عليه الصلاة والسلام- دعائم الحقوق الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية كلها، لا، بل بصورة لم تسبق ولن تلحق أيضاً: {أيها الناس: أتدرون في أي شهر أنتم؟ وفي أي يوم أنتم؟ وفي أي بلد أنتم؟ قالوا: في شهر حرام وفي بلد حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا يحل مال مسلم إلا بطيب نفس منه، وإن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هاتين إلى يوم القيامة، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم، واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان -أي أسيرات- لا يملكن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً، ولكم عليهن حقا} .
فذكر الحقوق صلى الله عليه وسلم، ذكر حرمة الدماء بمنع القتل أو الجرح أو الاعتداء، وذكر حرمة الأموال بمنع أخذها أو ابتزازها أو نهبها أو سرقتها أو الحجر عليها، وذكر حرمة الأعراض بتحريم الاعتداء عليها بالقذف أو بالسب أو بالشتم أو بالزنا أو بغير ذلك، وذكر مسألة العلاقات الاجتماعية التي تحكم المسلمين، تحكم المسلم مع أخيه، وتحكم الرجل مع زوجته، وتحكم الوالد مع ولده، إلى غير ذلك، ولم تكن خطبة الوداع هي الموقف الوحيد الذي حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الحقوق؛ بل إنه حددها في أحاديث ربما لو جمعت لكانت في أكثر من عدة مجلدات وكلها تتعلق بحقوق الإنسان سواء الحقوق العامة أم الحقوق الخاصة لفئة معينة، كحقوق المرأة أو حقوق العامل أو حقوق الجار أو حقوق اليتيم أو حقوق الزوج أو غير ذلك.
وأستطيع أن أقول تبعاً لما قرره عدد غير قليل حتى من فقهاء القوانين اليوم: إن هناك حقوقاً كثيرة جاء بها الإسلام لم تفلح البشرية حتى الآن في المطالبة بها، فمثلاً: حق ضعاف العقول في الرعاية: هذا جاء به الإسلام ولم ينص عليه إعلان حقوق الإنسان، مثل حق اليتامى، حق الجار، حق القريب، حق الإنسان في الدفاع عن نفسه، حق الإنسان في العفو عمن ظلمه، حق الميراث للورثة رجالاً أو نساءً من الأقربين، كل هذه الحقوق لم تأت بها القوانين الوضعية، ولا إعلانات حقوق الإنسان.(104/9)
حقوق الإنسان في المواثيق الدولية
كما أسلفت هناك عدة إعلانات لحقوق الإنسان، كان آخرها الإعلان عام 48م والذي وقعت عليه جميع الدول بلا استثناء، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إنه قانون عام ملزم للبشرية كلها، حسبما تقتضيه مواثيق الأمم المتحدة التي تعتبر هي الحكومة العالمية المتوجة، التي تتزعم ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، فما هذه الحقوق التي جاءت بها تلك الإعلانات؟(104/10)
الحقوق التعليمية والثقافية
أما الحق الأخير عندهم: فهو ما يسمى بالحقوق التعليمية والثقافية، مثل حق التعليم، وهو في الإسلام ليس حقاً بل هو واجب، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {طلب العلم فريضة على كل مسلم} وهو حديث حسن، ومثله حق الإنسان في اختيار نوع التعليم الذي يمارسه، كما يدخل في ذلك حق الابتكار والاختراع العلمي، إضافة إلى حق مشاركة الإنسان في الحياة الثقافية والحياة العلمية في بلده، كل هذه الحقوق جاء بها الإسلام قبل إعلان حقوق الإنسان، وهي أيضاً في غالبها وجملتها جاء بها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، لكن ثمة نقطة لابد من بيانها وهي النقطة الخامسة.(104/11)
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
أما الحق الرابع الذي ضمنته تلك الوثيقة: فهو ما يسمى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية: مثل حق الإنسان في الملكية الخاصة، أن يملك المال أو الأرض ولا يحق لأحد أن يصادر ماله أو أرضه أو يعتدي عليه، ومثله حق الإنسان في التجارة والصناعة إلى غير ذلك، ونحن نجد أن هذه الحقوق مقررة في الشريعة والله تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] والرسول عليه السلام يقول: {من أحيا أرضاً ميتةً فهي له} فهنا يظهر الفارق بين حق الفرد وحق المجتمع، فالرسول صلى الله عليه وسلم -مثلاً- في هذا الحديث أباح للإنسان أن يحيي الأرض الموات بحسبها، إن كانت أرضاً زراعية بالحفر والزرع، وإن كانت غير ذلك؛ كل أرض بحسبها، لكن هذا الأمر مقيد بشيء واحد فقط وهو ما يكون مصلحة عامة للمجتمع، فليس من حق الإنسان أن يحيي -مثلاً- أرضاً يحتاجها المجتمع كله في مصالحه العامة.
ومن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان مراعاة الإنسان في حال البطالة والعجز والمرض والشيخوخة، وأن الدولة مطالبة بمساعدته وإعانته، وهذا كما ضمنته حقوق الإنسان فقد ضمنته الحقوق الشرعية التي جاء بها سيد البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن من تلك الحقوق الاقتصادية حق مساواة الجميع أمام التكاليف، فالضرائب -مثلاً- إذا جاز أن تفرض ضرائب على الناس في الإسلام، فلا بد أن تكون بقدر الحاجة وبقدر متساوٍ للجميع، وهذا الأمر هو ما جاءت به منظمات حقوق الإنسان في الناحية الاقتصادية والاجتماعية.(104/12)
الحقوق الشخصية والجسدية
هي أولاً -باختصار- الحقوق الشخصية والجسدية: مثل أمن الإنسان من أن يستعبد (أن يكون رقيقاً) وأمنه أن يقهر أو يسخر أو يقتل أو يغتصب رجلاً أو امرأةً، أو يعذب، كل هذه الحقوق بلا شك جاء بها الإسلام، كذلك حق الإنسان في حرية الانتقال من مكان إلى مكان أو الرجوع إلى مكانه الأول، حرمة المساكن وعدم الاعتداء عليها، حرمة الاتصال الهاتفي بين إنسان وآخر، وألا يحق لأحد أن يعتدي عليه أو يتصنت عليه، حرمة الاتصال البريدي أو المراسلة، وأنه لا يحق لأي جهة أن تكشف مراسلة بين طرفين، حق الزواج، حق السلامة الصحية للإنسان، كل هذه الحقوق تدخل فيما يسمى بالحقوق الشخصية والجسدية.(104/13)
الحقوق القضائية
النوع الثاني: ما يسمونه بالحقوق القضائية: ويقصدون بها ضمان حق الإنسان في أن يدافع عن نفسه أمام المحاكم، ومساواة الناس أمام القضاة، وأنه ليس هناك إنسان يتميز عن آخر أمام القضاء، وعدم التعرض بصورة تعسفية للقبض على إنسان أو اعتقال إنسان أو نفي إنسان من بلد إلى آخر أو حبسه أو محاكمته إلا وفق نظام معمول به، كما يشمل هذا حق الإنسان في تقديم العرائض والشكاوى إلى أي جهة يشاء.(104/14)
الحقوق الفكرية والسياسية
النوع الثالث: هو ما يسمونه بالحرية الفكرية والسياسية، وهذا يشمل أشياء كثيرة جداً قد يكون معمول بها في بعض البلاد، مثلاً: يشمل -عندهم وفي بلادهم- حق الإنسان في تكوين حزب سياسي والانضمام لعضويته، أو حق اللجوء إلى بلد آخر، أو حق تكوين الجمعيات والأحزاب أو غير ذلك، لكنه يشمل أيضاً أموراً جاء بها الإسلام، يشمل حرية الرأي والتعبير عنه وفق الأصول الشرعية، ونحن نعلم أن هذا لم يكن في الإسلام مجرد حق بل هو واجب، فالإسلام قد حرم التقليد على من يملك الاجتهاد ويعرف الصواب، وأوجب على المسلم أن يقول بالحق كما في الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت قال: [[وأن نقول الحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم]] فأوجب على المسلم أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، قائلاً لكلمة الحق، مجاهداً في هذا السبيل، حريصاً على أن يعبر عن رأيه الناضج الصريح الذي يبني ولا يهدم ويحقق المصالح ويدفع المفاسد.
ومثله أيضاً حرية الصحافة والإعلام -كما يسمونه- ونحن نعلم أن الغرب حقق قدراً كبيراً مما يسمى بحرية الإعلام عندهم، فتجد أن الإعلام يتكلم عن قضايا كثيرة تتعلق بأوضاعهم الحكومية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وقد أفلح الإعلام عندهم في الكشف عن فضائح كثيرة مثلما فعلت بعض الصحف الأمريكية حين فضحت ما يسمى بقضية فضيحة "وتر جيت" ثم "إيران جيت" ثم "عراق جيت" إلى غيرها من الفضائح التي كانت الصحافة والإعلام هي السبب في كشفها وبالتالي معاقبة المتسببين فيها، إضافة إلى أمور أخرى تتعلق عندهم بحقوق الإنسان فيما يتعلق بالحرية الفكرية والسياسية.(104/15)
الفروق بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوق الإنسان في إعلانات الغرب(104/16)
الحقوق في الإسلام موهوبة وفي غيره مطلوبة
الفرق الثالث: أن هذه الحقوق في الإسلام جاءت هبة من الله تعالى على غير ترقب من الإنسان، ودون أن يطلبها الإنسان أو يسعى في تحصيلها، وعرفها المسلمون منذ أن عرفوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان المسلم العادي البسيط الفلاح يجلس في المسجد وهو يستمع إلى الخليفة يخطب على المنبر، فلا يرى غضاضة أن يقف على قدميه ثم يرفع يده، ويقول له: الأمر ليس كما ذكرت، فيقول: لم رحمك الله؟ فيبين للحاكم الذي يحكم ربع الدنيا ما يراه هو دون أن يخاف من بطش أو تسلط أو ظلم أو عدوان أو مساءلة أو غير ذلك، فلقيها المسلم وأخذها ببساطته وبوضوحه.
أما في الغرب فإنهم لم يحصلوا على حقوقهم تلك، بل انتزعت انتزاعاً بالقوة، وقبل كل إعلان لحقوق الإنسان كان هناك ثورات ومعارك ودماء اضطروا بعدها إلى الإعلان عن حقوق الإنسان والإقرار بها، وآخر تلك الحروب الحرب العالمية الثانية التي تلاها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أما في تاريخ الإسلام فلا يوجد محاكم تفتيش، ولا يوجد سجون تمتلئ وتغص بالنزلاء، ولا يوجد أجهزة استخبارات تعد على الناس أنفاسهم وتحصي عليهم حركاتهم وتحاسبهم على كل شيء.(104/17)
اختلاف الحقوق
الفرق الرابع: هو الاختلاق والتباين في الحقوق: فمثلاً هناك حقوق إسلامية لم ترد في الإعلان -كما أسلفت- مثل حقوق اليتامى، وحقوق الجيران، وحقوق ضعاف العقول، وحق الميراث، وحق العفو إلى آخره.
هناك أشياء منعها الإسلام مثل حق تغيير الدين، ففي حقوق الإنسان العالمية -ومع الأسف أنها موقع عليها دولياً من كل دول العالم- يحق للإنسان أن يختار الدين الذي يريد ويغير دينه كيف شاء، وأعتقد أن حقوق الإنسان حين أعلنوا هذا قصدوا من ورائه إتاحة الفرصة للمسلم أن يرتد عن دينه؛ لأنهم يعلمون أن المسلمين اليوم في فترة ضعف واستضعاف، وأنهم يخضعون لمشاكل كثيرة، وأن الغرب بيده القوة والتمكين والحضارة والتسلط والإغاثة والمساعدات الإنسانية والمنظمات الدولية والصليب الأحمر إلخ، كل هذه أدوات في أيدي الغرب الصليبي النصراني يستخدمها ضد المسلمين.
فالمسلم اليوم يتعرض لابتلاء وفتنة في دينه، وليس سراً أن نقول: إن هناك قرى بأكملها قد تحولت من الإسلام إلى النصرانية وذلك في أكثر من بلد إسلامي، في أفريقيا، وفي إندونيسيا، بل وفي بعض البلاد العربية أصبح تحول المسلم إلى النصرانية أمراً مسموحاً به قانوناً، وأمراً واقعاً من الناحية العملية، على الأقل يتخلون عن دينهم طمعاً في المال، أو رغبة في الشهادة.
إذاً النصارى لا يستحون أن يستغلوا الكوارث والظروف والأزمات الاقتصادية والنكبات التي تمر بها الشعوب لكسب المزيد من الأنصار والضغط على الناس لتغيير دينهم، وهم اتخذوا في ذلك ذريعة هي عبارة عن فقره في القانون الدولي لحقوق الإنسان تبيح وتسمح للإنسان أن يغير دينه، لكن لو وجدوا نصرانياً تحول إلى مسلم لأقاموا الدنيا وأقعدوها، وتكلموا عن ذلك وقالوا: هذا نتيجة ضغوط، ونتيجة إرهاب، ونتيجة تخويف إلى غير ذلك من الأسباب.
أما في الإسلام فلا يحق للمسلم أن يغير دينه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {من بدل دينه فاقتلوه} والفقهاء متفقون على قتل المرتد إلا أبا حنيفة فإنه يرى: أن المرأة تسجن حتى ترجع إلى دينها أو تموت، وقد حدث أن معاذ بن جبل عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأبا موسى الأشعري وجد رجلاً قد أسلم ثم رجع إلى اليهودية، فأقاما عليه الحد وقتلاه بمحضر من المسلمين، والقصة أيضاً في صحيح البخاري.
أيضاً من الفوارق: الفارق بين الرجل والمرأة:- فإن الإسلام أعطى للرجل حقوقاً ليست للمرأة، وأعطى المرأة حقوقاً -أيضاً- ليست للرجل، فلا يتحول الرجل في شريعة الله إلى امرأة، ولا المرأة إلى الرجل، بل كل إنسان له حقوق، كما قال الله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] .
وهذا القانون الغربي لحقوق الإنسان يرفض اعتبار الدين أساساً للتمييز بين الناس، ويقول: يجب أن ننظر إلى الأديان كلها على حد سواء، ولكننا نجد أن لبنان -مثلاً- كبلد مسيحي أو نصراني في بلاد عربية يشترط أن يكون رئيس الجمهورية فيه نصرانياًَ، وهذه هي الطائفة السياسية بعينها، لكننا نجد في مقابل ذلك أن دولاً أفريقية كثيرة غالبية سكانها من المسلمين ومع ذلك تكون محكومة برئيس نصراني دون أن يكون هناك نكير في ذلك.
نقطة أخيرة في ذلك أيضاً في الفارق بين إعلان الإسلام وإعلان الأمم المتحدة هو أن المساواة في الإسلام حق صحيح، ولكن المساواة لا تعني إلغاء الفوارق الطبيعية والفوارق الشرعية، فالرجل -كما أسفلت- مع الرجل متساوٍ، والمرأة مع المرأة، ثم الرجل مع الرجل -أيضاً- لا يعني التساوي في كل شيء، فالعامل يتساوى مع نظيره، والموظف يتساوى مع مثيله، والطالب مع مثيله، وهكذا.(104/18)
الرقابة الإلهية
فرق ثان: الرقابة الإلهية: فنحن نعلم أن من طبيعة الإنسان الظلم والأثرة، وكما قيل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم والله تعالى قد ذكر لنا قصة ابني آدم بالحق: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] إذاً من طبيعة الإنسان أنه قد يعتدي وقد يظلم، ولهذا كان ربط حقوق الإنسان بالدين صيانة عظيمة لهذه الحقوق.
يقول أحد الغربيين: لا توجد في الحكومات البشرية سوى قوتين ضابطتين: القوة الأولى: قوة السلاح، والقوة الثانية: قوة القانون -أي قوة النظام- فإذا تولى قوة القانون قضاة هم فوق الخلق وفوق الملامة فإن الأمر حينئذ على ما يرام، أما إذا لم يكن ذلك فإن قوة السلاح هي التي تسود حتماً، وذلك يؤدي إلى سيطرة النظم العسكرية المستبدة على الشعوب.
وأقول: هناك قوة ثالثة هي قوة الإيمان، أو ما يسمونه في الغرب "الضمير"، الخوف من الله عز وجل، ولذلك نجد أن الإنسان -بل كل الناس حتى غير المسلم- لم يجد من الحقوق التي يتمتع بها في ظل شريعة من الشرائع أو دولة من الدول مثلما وجد في دولة الإسلام وشريعة الإسلام، حتى قال " تومبي " وهو أحد المؤرخين البريطانيين قال: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب، يعني المسلمين.
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لما أخذ الجزية من أهل حمص، ثم رأى أنه قد لا يستطيع الدفاع عنهم، ماذا صنع؟ رجع إليهم ورد الجزية التي أخذ منهم، وقال مع ذلك: سوف ندافع عنكم ما استطعنا، فإن انتصرنا عدنا وأخذنا الجزية، وإن لم ننتصر لا نكون ظلمناكم، فهات مثالاً آخر مثل هذا في كل شرائع الدنيا وأنظمة الدنيا ودول التاريخ في غير شريعة الإسلام! لما فتح المسلمون سمرقند فتحوها قبل أن يدعوا أهلها إلى الإسلام، وقبل أن يطلبوا منهم الجزية، فبعث أهل سمرقند إلى الخليفة المسلم بالشام يشتكون إليه، وبعث الخليفة وطلب من الجيش المسلم أن يخرج من سمرقند ويظل خارجها ثم يعرض على أهلها الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا استعان بالله تعالى وقاتلهم، وخرج الجيش المسلم الفاتح من سمرقند إلى مشارفها ثم دعوا أهلها إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم، وقالوا: دين هذا قدر الإنسان فيه، وهذه عدالته لابد أن ندخل فيه جميعاً! أما في النظم الوضعية فما ثَم جزاءً يذكر، لا يؤمنون بيوم الحساب فيمنعهم ذلك من الاعتداء على حقوق الناس، وفي الدنيا لهم ألف وسيلة وحيلة للتحايل والخروج من القوانين والعقوبات.
ففي الإسلام إذاً عقوبتان: العقوبة الأولى: الأخروية، وهي الأهم والأعظم، والرادع الأكبر في ضمير المسلم، إضافة إلى العقوبة الأخرى وهي: الدنيوية المتمثلة في الحدود والتعزيرات على الاعتداء على الإنسان كحد السرقة -مثلاً- أو حد القذف أو حد الزنا أو غير ذلك من الحدود.(104/19)
القيد الأخلاقي للحقوق في الإسلام
أولاً: القيد الأخلاقي للحقوق والحريات في الإسلام، فالإسلام دين نزل من السماء يقوم عليه سلطان يحميه ويحرسه في الأرض، فليست الأعراف والتقاليد والعادات هي التشريع ولا مصدر التشريع، وليست الأمة هي مصدر السلطات -أي مصدر التشريع- كما هي الحال في بعض النظم الديمقراطية.
فرعاية الأمر الشرعي أمر لا خيار فيه، فعلى سبيل المثال: جسد المرأة، لا يجوز أن يكشف من جسد المرأة ما لم يأذن الله تعالى بكشفه بحجة الحرية الشخصية، وأيضاً منع الاختلاط -اختلاط الجنسين- لا يجوز الإذن به بحجة عدم التفرقة العنصرية كما هو معروف دولياً.
ونحن نجد أن هذا الأمر موجود عند الغرب ولكن بصورة أخرى، فإذا كان المسلم مطالباً باحترام الإسلام، فإن الغرب يطالب باحترام الأعراف والتقليد والعادات، وقد أقيم في دولة من أكثر الدول انفلاتاً وهي فرنسا، أقيمت دعوى ضد إحدى الشركات التي عرضت فيلماً سينمائياً فيه كثير من التفسخ اللاأخلاقي الفاضح، أقيمت الدعوى ونظرت المحكمة وقررت معاقبة الشركة كما قررت توجيه اللوم والعتاب إلى محافظ تلك المدينة أو تلك القرية وقالت له: كما أنه مطلوب منك المحافظة على الإدارة، كذلك مطلوب منك المحافظة على أخلاقيات الناس وعدم السماح بعرض ذلك الفيلم بالنظر إلى الظروف المحلية للبلدة والتقاليد التي كانت تحكمها.
إذاً: هي فعندهم تقاليد وعادات، أما عندنا في الإسلام فهي أحكام وتشريعات نزلت من عند الله ولا حيلة لأحد فيها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] .
مثل آخر: من حق المرأة والرجل العلاج، لكن هذا العلاج يجب أن يتم في جو محتشم تحفظ فيه الحرمات وتصان فيه الحقوق، ويمنع فيه الاعتداء على الإنسان رجلاً كان أو امرأة، أما أن تضع لي مستشفيات مليئة بألوان التفسخ والاختلاط والانحلال والتواجد النصراني وغير ذلك ثم تطالبوني أن أمرض زوجتي فهذا أمر صعب، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: {يا رسول الله، إني أصرع، فادعُ الله لي.
فقال لها: إن شئت دعوت الله تعالى لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر يا رسول الله، ولكني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم الله تعالى لها أن لا تتكشف إذا صرعت} .
ففي هذا المثال يبدو في المجتمع المسلم أن العناية بحفظ أمر العورة لا يقل أهمية عن العناية بالصحة، وكلاهما من الحقوق التي يجب على المسلم العناية بها، وواجب على كل ذي أمر من المسلمين أن يهيأ للمسلمين الفرص التي يكون فيها العلاج بعيداً عن كشف العورات وانتهاك الحرمات، كما أنه من الواجب على كل ذي أمر من المسلمين أن يسعى إلى تربية المسلم ذكراً أو أنثى على احترام هذه العهود والمواثيق الربانية.(104/20)
حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق
النقطة السادسة: بين النظرية والتطبيق: مع الاعتراف النظري بحقوق الإنسان فإن حقوق الإنسان -كما يقول بعض المفكرين-: تبقى هي أخسر قضية في التاريخ، ويظل الإنسان في ظل جميع الشرائع -غير الإسلام- يظل هو أخسر مخلوق على وجه الأرض، فكل الأنظمة تتغنى بحقوق الإنسان، حتى النظام الشيوعي -الذي قتل أكثر من عشرين مليوناً ونفى مثل هذا العدد أو أكثر- حتى النظام الشيوعي البائد يزعم أنه قام لحماية حقوق الإنسان، وإلغاء الطبقية الاجتماعية، وإعلان المساواة، وقد أقر الدستور الذي كان يحكم الإتحاد السوفيتي أقر المساواة بين المواطنين.
لاحظ الفرق بين الكلام الشفهي الحلو الجميل وبين الواقع العملي المر، وأقر الدستور -أيضاً- حق التعليم المجاني لكل مواطن، وحرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية الاجتماع والتظاهر وتأسيس الجمعيات، وحرمة المنازل، وحرمة المراسلات، ومع ذلك كان نظام المخابرات السوفيتي الـ (كي جي بي) هذا النظام جند ربما ملايين الأشخاص، جعلوا كل مواطن يشعر كأنه في سجن كبير، وأنه يعيش داخل هذا السور الحديدي الضارب من حوله، ومع ذلك قوانينهم تنص على أن هناك حرمات للمنازل وحرمة للمراسلات وحرية التعبير والاجتماع وغير ذلك، يقول أحدهم: أيتها الحرية، كم من الجرائم قد اقترفت باسمك!! أما في الغرب النصراني فإنهم نظرياً -أيضاً- يقولون بل حتى الدين الذي ينتسبون إليه النصرانية يقولون: أن في أحد الأناجيل أن عيسى قال: باركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم، فهم إن أحببتم من يحبكم فأي خير تصنعون؟! وإن أحسنتم إلى من يحسن إليكم فأي أجر لكم؟! إنما أحسنوا إلى من يسيء إليكم.
ويقولون في المثل النصراني: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ منك القميص فأعطه الرداء أيضاً!(104/21)
الاضطهاد الديني في بلاد المسلمين
أيضاً قضية الاضطهاد الديني الذي ما زال بلاءً جاثماً على المسلم بشكل خاص في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي والعالم العربي، وفي مصر مثلاً، أو تونس أو ليبيا أو الجزائر أصبح من السهل جداً أن يسجن المسلم، بل أن تقتله قوات الأمن في الشارع، ولا يسأل من أطلق عليه النار ولماذا قتلته؟ أبداً، لكن سوف يسألون يوم القيامة {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] أما أجهزة الأمن فقد أعطت صلاحيات واسعة بإطلاق النار على كل من يشتبه فيه وفق قوانين وأنظمة جديدة يسمونها بأنظمة مكافحة الإرهاب.
وقد اطلعت على وثائق من ألوان الممارسات المخالفة للشرع، بل المخالفة لقوانين البشر ومواثيق حقوق الإنسان في مصر وفي تونس وفي ليبيا، بل إن كثيراً من هذه السجون الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود.
وقد وصل الحال بكثير من هذه المؤسسات إلى أن تسجن الإنسان، وتلفق عليه قضايا أخلاقية مكذوبة من أجل تشويه صورته أمام الناس، وتسلط عليه الصحافة والإعلام من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعاً غير جيد، وتتهمه بكل التهم الرديئة والملفقة، ولا تسمح له بحق الدفاع عن نفسه، لا سراً ولا علناً، بل لا يمثل هؤلاء أمام محاكم، ومن المؤسف أيضاً أن ثمة منظمات غربية نصرانية قامت تدافع عن حقوق الإنسان، فقد وقفت على تقرير خطير عن حقوق الإنسان في تونس أصدرته منظمة العفو الدولية، ووقفت على تقرير آخر أصدرته منظمة أمريكية عن حقوق الإنسان! في مصر، وطالبت تلك المنظمة أمريكا أن تحجب المعونات عن حكومة مصر حتى تعدل أوضاعها وتحترم حقوق الإنسان في سجونها! أما العالم الإسلامي الطويل العريض الذي تقول آخر الإحصائيات: إنهم بلغوا ألفاً ومائتي مليون إنسان فلم نكد نسمع صوتاً واحداً يستنكر مثل هذا العذاب الرهيب بأهل الإسلام! كم هو محزن أن نسمع في الأخبار أن أطفالاً أو شباباً صغاراً في سن السادسة عشرة وفي زهرة الشباب وريعان الصبا تطلق عليهم أجهزة الأمن النيران في الشوارع وترديهم قتلى! وبالتأكيد ثق أن أي ضابط أمن أو مسئول حينما يخطئ في حق مسلم متدين أو ما يسمى متطرف فإنه لن يتعرض لأي شيء، لأن هذا دليل على أنه مخلص ووفي لهذا النظام أو ذلك؛ لكن لو أنه أخل بحق مسئول في حراسته أو حمايته أو الحفاظ عليه، لرأيت كيف يتعرض لأقسى العقوبات.
ولهذا أصبح أي مسئول أو شخص عادي لا يبالي أن يعتدي على المسلم أو يمتهن كرامته أو يهينه، وينسى أن هذا الإنسان له قدر عظيم عند الله تعالى وله مكان، وربما يكون إيذاؤه أو الاعتداء عليه سبباً في معاجلة الله تعالى ليس لهذا الفرد بل للمجتمع الذي أقر الاعتداء أن يعاجله الله تعالى بالعقوبة، وأي عقوبة؟ عقوبة مثل: أزمة اقتصادية، أو أزمة سياسية، أو حرب أهلية، أو غلاء فاحش، إلى غير ذلك {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] .(104/22)
حق السفر والعودة للبلد في البلاد الإسلامية
حق الانتقال والسفر والعودة إلى البلد: في كثير من البلاد يحجر على الناس، لا يسمح لهم أن يسافروا ولا أن ينتقلوا ولا أن يعودوا في بلاد قد وقعت على حقوق الإنسان، وقل مثل ذلك في حق الجنسية، فلا يكاد الإنسان من غير تلك البلاد يحصل عليها، وإذا حصل عليها من غير أهلها فكثيراً ما يهدد بسحبها وتبتز كرامته بهذا الأمر أو ذاك.(104/23)
استغلال المواقع والصلاحيات ضد حقوق الإنسان في البلاد الإسلامية
ومثله استغلال المواقع والصلاحيات ضد حقوق الإنسان في بلاد العالم الإسلامي بطولها وعرضها، فأنا لا أتكلم عن بلد بعينه، ولكني أتكلم عن كل بلاد الإسلام، لم يعد المواطن المسلم يشعر أن الإنجازات التي يراها أنها له كما هي لسائر الرعية، ولكنه أصبح يشعر أن هذه الإنجازات هي لفلان وفلان وحكر عليهم وخالصة لهم من دون الناس المسلمين المؤمنين، لماذا شعر بأنها خاصة لفلان؟ أولاً: لأن فلان هذا يتمدح بها في كل مناسبة، فيثني على إنجازاته ومفاخره، وماذا قدم الناس لشعوبهم وماذا فعلوا، حتى حكومة العراق التي بلغت في إهدار كرامة الإنسان واضطهاد شعبها مبلغاً لا يوصف؛ تتغنى بالحقوق التي قدمتها لشعوبها، دعك من حكومات أخرى تتكلم عن ذلك، الجميع يتكلمون عن هذه الحقوق كما لو كانت فضلاً من جيوبهم تصدقوا به على شعوبهم.
وأيضاً يشعر المسلم والمواطن العادي بأن هذه الإنجازات هي حكر لفلان وفلان، لأن فلان يستخدمها في تحقيق مآربه ومصالحه وقمع خصومه، فإذا حارب فلاناً من الناس استخدم الإعلام للتشهير، واستخدم الأمن للمطاردة والحرب، واستخدم الأجهزة الرسمية الدينية للتكفير، وطالما سمعنا من يصدرون الفتاوى لتكفير فلان أو علان أو قتل هذا أو ذاك موافقة لرغبة السلطة التي تريد التخلص من هؤلاء.(104/24)
الكيل بمكيالين
المواثيق الدولية التي يتكلمون عنها هي ذات ميزان مزدوج، فهم يكيلون بمكيالين، فأحياناً إذا اعتدي على حقوق الإنسان اكتفوا بالشجب والاستنكار الشفهي، وأحياناً ينتقل الأمر إلى النقيض يضطرون إلى التدخل العسكري كما هو الحاصل في أكثر من موقع، وكما هو حاصل الآن على سبيل المثال في العراق.
نعم، نحن نقول: هبوا أن تدخلكم في العراق لحماية حفنة من الشيعة في منطقة الأهوار، لماذا لا تتدخلوا لحماية الملايين التي تواجه اليوم تصفية عرقية لا مثيل لها في التاريخ كله في أرض البوسنة والهرسك؟! أليس هذا أكبر دليل على أنه ثمة في الغرب مكيالان وميزانان؟! بل أقول: أحياناً يتعدى الأمر إلى أن الغرب يؤيد تلك العنصريات وتلك الاعتداءات على حقوق الإنسان، ويلوي عنق القوانين الدولية من أجل أن تخدم مصلحة هذا الطرف أو ذاك.
فمثلاً الغرب -بالذات أمريكا- اليوم تفتعل الأسباب والذرائع التي تبيح لها أن تتدخل في كل مكان في العالم، وقد سمعت بأذني منذ شهور أخباراً تتكلم على أن هناك دراسات في بعض المحاكم الأمريكية من أجل الإذن لقوات أمريكا بالتدخل لملاحقة مهربي المخدرات -مثلاً- في أي مكان في العالم.
وأحياناً يميل هؤلاء بموازينهم المتناقضة المزدوجة إلى إقرار الأمر الواقع، فمثلاً وجود اليهود أو ما يسمى بإسرائيل في أرض فلسطين المسلمة، هذا الوجود هو وجود غير صحيح، وهي جسم غريب في الأمة الإسلامية، ولكن الغرب يفرض على المسلمين اليوم بالقوة -بقوة السلطان وقوة السلاح- أن يعترفوا بالوجود اليهودي وأن يتعاملوا مع هذا الوجود على أنه أمر طبيعي، وأن يفتحوا حدودهم وبلادهم وعقولهم إلى رياح التغيير اليهودية.
وبالصراحة والصدق أقول لكم: الغرب كله يخطط إلى أن يجعل من الشرق الأوسط منطقة نفوذ إسرائيلية، وأن تكون الأسواق العربية كلها مفتوحة للبضائع الإسرائيلية، وأن تستخدم الأيدي العاملة الرخيصة العربية لمصلحة اليهود، وأن توظف الأموال العربية والإسلامية لخدمة اليهود، وأن يستفيد العرب -زعموا- من الخبرة والتقنية والتصنيع والتحضر اليهودي، هذه هي الخطة التي يسعون إليها فيما يسمى بمؤتمرات السلام، ولذلك طالبت إسرائيل بشدة وقوة ووضوح طالبت سوريا مقابل أن تتنازل لها عن شيء من الجولان أن تجعل هناك علاقات طبيعية بينها وبينها! علاقات إعلامية، علاقات دبلوماسية، علاقات تبادل سياحي، تبادل ثقافي، تبادل أمني، بل تنسيق أمني، وربما في المستقبل يكون هناك نوع من التعاون العسكري.
والغريب أن كل هذه الأمور تتم؛ ربما أقول: على مرآى ومسمع من الشعوب الإسلامية، دون أن تتكلم أو تعبر عن رفضها لهذا التهجين، وربما أقول: على غير مرآى ومسمع من الشعوب العربية والإسلامية التي فقدت إحساسها بنفسها ومعرفتها بكرامتها وشعورها بحقوقها، ولذلك أصبحت لا تقدم ولا تؤخر ولا تعبر عن رأيها في أخص خصائصها وألزم قضاياها.
المهم أن الغرب أحياناً يعمل على فرض الأمر الواقع وفرض الاعتراف والرضا به، كما هي الحال في إسرائيل، وربما يطبق المثال نفسه في أرض البوسنة والهرسك التي يخضع -ربما- أكثر من (70%) من أرضها إلى سيطرة الصرب النصارى الحاقدين.
أما في الكويت فلم يتم اعتماد مثل هذا الميزان، بل تحرك الغرب من أجل طرد المعتدي عن الكويت، ونقول: طرد المعتدي كان لابد منه، ولكن لماذا يكيل الغرب بمكيالين ويزن بميزانين؟!! وفي الغرب أيضاً الذي يتشبث بحقوق الإنسان وينادي بها، نجد أن أجهزة المخابرات الغربية، كالمخابرات الأمريكية (الـ سي آي إيه) إن هذه الأجهزة لا تعرف معنىً للأخلاق، ولا تقيم وزناً للكرامة، بل إنها تستخدم كل وسيلة شريفة أو دنيئة إلى تحقيق أهدافها والوصول إلى مقاصدها، فمن وسائلها القتل وسفك الدم ونهب المال والاعتداء على الأعراض، والخداع والتضليل والتلبيس، إلى غير ذلك من الوسائل التي لا تعرف معنىً للأخلاق والكرامة، ولا شك أن هذه الأنظمة المخابراتية هي المتنفذة في السياسات الغربية والسياسة الأمريكية بوجه خاص، أين حقوق الإنسان إذاً؟!(104/25)
انتقاص حقوق الإنسان في العالم الإسلامي
أما بالنسبة للعالم الإسلامي فثمة أسئلة كثيرة وهو بيت القصيد: هل يأخذ الإنسان المسلم حقوقه التي أقرتها له الشريعة الإسلامية؟! هذا سؤال، بل هل يأخذ حقوقه التي يأخذها نظيره ومماثله في العالم الغربي؟! أقول في الحالين: كلا، هل نحن اليوم نعمل بكلمة عمر التي قالها واضحة صريحة لـ محمد بن عمرو بن العاص قال له: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] قال هذا انتصاراً لقبطي جاء يشتكي، هل نأخذ بهذه الكلمة؟ أما أننا نأخذ بكلمة الحجاج الذي كان يقول للناس: من تكلم منكم قتلناه صبراً، ومن سكت منكم قتلناه كمداً، يعني من تكلم يحبس حتى يموت، أما من سكت فإنه يموت غيظاً وحزناً وكمداً.
هل يستطيع المسلم اليوم أن يقول كلمة عمر بن الخطاب لحكامه "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟! "أجزم: لا، إنما يستطيع المسلم أحياناً أن يقول هذه الكلمة لحكام دولة أخرى، خاصة حين تكون العلاقة مع تلك الدولة علاقة سيئة، فإنه حينئذ يستطيع أن يقول ذلك.
والتقارير الصادرة عن حقوق الإنسان، تتكلم أن حقوق الإنسان المسلم تهدر بقسوة بالغة بواسطة الحكومات الوطنية في بقاع كثيرة، أو بواسطة القوى الأجنبية في مواطن أخرى.
هناك عدة أشياء: هناك مثلاً أمور يتم انتهاك الحقوق فيها من قبل الحكومات الأجنبية أو الوطنية، وهناك حالات كثيرة يتم انتهاك حقوق الإنسان فيها من قبل أخيه الإنسان.
خذ على سبيل ذلك هذا المثال: التفرقة العنصرية قائمة في بلاد الإسلام كلها بدون استثناء، دعك من جنوب أفريقيا -مثلاً- حيث التفرقة هناك على أشدها، بل حتى في المجتمعات الإسلامية والمجتمعات المتدينة والمجتمعات الواعية، بل أحياناً حتى في أوساط طلبة العلم يصبح الانتساب للقبيلة يشكل حجر أساس في العلاقات مع الناس، وفي تفضيل فلان على علان، وفي القرب أو البعد، وفي التزاوج وغير ذلك، والكثيرون مستعدون أن يسخطوا سخطاً لا رضا بعده لأن فلاناً من أولادهم تزوج من قبيلة أخرى، ولكنهم لا يسخطون قط لو تزوج فلان فتاة منحرفة أو غير ذات دين.
وهكذا أصبح الانتماء للقبيلة أو التفرقة العنصرية أصبحت في نظر الكثيرين أهم من التمييز على أساس الدين، ليس في مجال الزواج فحسب، بل في مجال الزواج والعلاقات الاجتماعية والولاء والتقارب والتفضيل في الأعمال والوظائف والمسئوليات وغير ذلك، فقد تكون جديراً بمنصب أو بموقع أو بعمل أو بزوجة أو شيء من هذا لأنك فلان بن فلان، ولو لم تكن أي شيء آخر.
الجوع والبرد والمرض الذي يقتل اليوم عشرات الآلاف من المسلمين، عدد المهاجرين من الصومال يزيد على مليوني مهاجر للبلاد الغربية، كل هؤلاء يستقبلهم الغرب بالأحضان، وتتنافس الجمعيات النصرانية في تسجيل أطفال المسلمين في الصومال نفسها من أجل أن يذهبوا إلى هناك من أجل تنصيرهم وتعميدهم.
أيضاً كندا تستقبل المسلمين الهاربين من جحيم المعاناة في الصومال تستقبلهم بالإسكانات الحكومية بالمجان، بل تصرف لهم إعانات تسميها بدل بطالة، وتحيل قضاياهم إلى المراكز الإسلامية، وتمنحهم الجنسية الكندية بكل سهولة.
أما في البلاد الإسلامية فيظل المسلمون أوقاتاً طويلة يطرقون الأبواب ثم تغلق في وجوههم، والله -أيها الأحبة- كادت عيني تدمع وأنا أسمع خبراً قبل ثلاثة أيام عن مجموعة من المسلمين الهاربين من الصومال إلى روسيا، والذين تقطعت بهم الأسباب لأن أوراقهم ناقصة، فكل الدول لا تستقبلهم، وروسيا لا تسمح أن يخرجوا خارج المطار لأن أوراقهم ناقصة وتريد أن تسفرهم إلى أي بلد آخر، وبلادهم لا تقبلهم لأنهم -أيضاً- أوراقهم ناقصة وقد يكون فيها شيئاً من التزوير، كل العالم يرفضهم، فظلوا أكثر من ثلاثة أشهر في المطار جالسين، ينامون على الكراتين التي يفرشونها، وهناك طفل عمره ستة عشر عاماً يقولون له أكثر من ستة أشهر وهو يتجول في المطار، يا سبحان الله! كل هذه النوعيات التي تعاني الاضطهاد وتعاني التشريد والتعذيب وتعاني الضياع غالباً ما تكون من المنتسبين إلى هذا الدين! فإن أهل الإسلام اليوم لا بواكي لهم وإلى الله وحده المشتكى، قد أسلمهم حتى الأقربون! مثال آخر: الحرب، تقتل وتشرد الملايين في فلسطين، ثم في يوغسلافيا، وقد نسي المسلمون جرحهم النازف في أرض فلسطين المباركة نسوها بآلام جديدة وجراح جديدة تفتحت عليهم في بلاد أخرى، فإلى الله المشتكى!(104/26)
التمييز العنصري في الغرب النصراني
هذا الكلام نظرياً جميل ومن السهل أن يردد، لكن ماذا يعاني الأجانب -دعك من المسلمين بالذات- بل كل الأجانب ماذا يعانون في الغرب من ألوان التمييز العنصري البغيض! وبالأمس (البارحة) كنت أسمع أخبار اعتداءات وحشية في ألمانيا بشطريها، وخاصة ألمانيا الشرقية على كل الأجانب، وقد رأيت بعيني إعلانات تملء شوارع فرنسا تعبر عن حزب من الأحزاب اليمينية المتطرفة الذي بدأ يكتسح الشارع الفرنسي، ويحظى بإعجاب الناس، تطالب بطرد كل الأجانب عن البلاد، والأجانب غالبيتهم من الجاليات الإسلامية، لكن يدخل في هذا غيرهم كاليهودي مثلاً أو الذين أتوا من بلاد أخرى.
أما التمييز العنصري والطبقي في الغرب فإنه على أشده، وما لقيه السود -مثلاً- وما لقيه أيضاً سكان أمريكا الأصليون من المعاناة والقتل والترهيب والعنصرية والابتزاز أمر يفوق الوصف.(104/27)
من المعتدي على حقوق الإنسان
النقطة السابعة: من هم المعتدون على حقوق الإنسان؟ ليس المعتدون على حقوق الإنسان الحكومات فحسب، بل أكثر من ذلك، فالمعتدون: أولاً: أصحاب الاستبداد السلطوي، الذين استغلوا ما منحهم الله تعالى ومكن لهم في التضييق على شعوبهم، والتمتع بخيراتهم الدنيوية.
ثانياً: الأقوياء في المجتمعات وهم كثير، فالتجار أحياناً يعتدون على حقوق الفقراء، ورؤساء الإدارات والمصالح والجمعيات والمؤسسات والهيئات في طول البلاد الإسلامية وعرضها، كثيراً ما يضطهدون الموظفين الصغار ويعتدون على حقوقهم ويبتزونهم ويهينون كرامتهم.
أحياناً قليلة: الآباء قد يستخدمون ذلك ضد الأبناء، وكمثال: قد تجد بنات في كثير من البيوت تمنع من الزواج الشرعي؛ لأن الأب لا يوافق على ذلك، وهذا لا شك اعتداء على حقوق الإنسان ومنع له من حق أذن الله تعالى له فيه، وهو مسئول عنه بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، أو تجد ولداً -مثلاً- يعاني من والده الذي يمنعه من طلب العلم، يمنعه من ممارسة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ويمنعه مما أحل الله تعالى له، وقد يمنعه من الزواج أيضاً بحجة صغر سنه، مع أنه يتعرض لأقسى ألوان الفتنة في هذا الزمان.
وهناك اعتداء ثالث: وهو اعتداء الشخص العادي على أخيه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه} وهذا نص عام، فاعتداء الإنسان على مثيله أو نظيره أو مساويه أو زميله هو أيضاً حرام، لا يجوز أن يعتدي على ماله بالنهب أو السرقة، ولا على عرضه بالكلام أو الوقيعة في غير حق أو الشتم أو السب، أو يعتدي على دمه بالقتل أو الجرح.
وكل هذه الاعتداءات خطيرة؛ لأن منها ما يستغل النفوذ والقدرة في مضايقة الناس ومصادرة كرامتهم، وإيذائه وامتهانه والقضاء على إنسانيته وكرامته، والأصل أن الاعتداء محرم، والاعتداء الواقع منوع بل حتى الملتزم المتدين أحياناً قد لا يأبه بحماية حق أخيه المسلم فيسبه -مثلاً- وينسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لعن المسلم كقتله} أو يحقره والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه} أو يتخلى عنه في أزمة أو شدة عرضت له سواء كانت أزمة فردية أم جماعية أم على مستوى شعب، وينسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ولا يسلمه} أو يسيء الظن به في قول أو فعل وينسى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] أو يجرحه باللسان أو باليد، وجرح اللسان كجرح اليد، أو يقتله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء:93] .(104/28)
أساليب تطوير حقوق الإنسان المسلم
أخيراً -وليس آخراً- فما هي الحلول؟ وباختصار أقول: الحلول كثيرة منها:(104/29)
الرقابة القضائية والشعبية على المسئولين
ثانياً: الرقابة على انسجام القرارات والأنظمة مع الشريعة الإسلامية إذاً: لا قيمة للنص على حقوق الإنسان وكرامته وحفظ شخصه وماله ودينه وعقله وبيته ومراسلاته وماله وغير ذلك إذا كان الحاكم لا يحترم هذه النظم، بل يخالفها متى شاء لمصلحته أو لمصلحة طرف آخر.
كيف تكون الرقابة؟ في العالم الغربي تكون من خلال البرلمانات أو الوسائل والمؤسسات المتعلقة بقواهم الديمقراطية، لكن في العالم الإسلامي أو في النظام الإسلامي يمكن أن تكون الرقابة أولاً من خلال القضاء، القضاء الذين يكونون فوق مستوى الخوف وفوق مستوى الذل إلا لله عز وجل، فهم يشكلون رقابة حقيقية على هذه الأشياء.
كذلك الرقابة الشعبية، ورقابة جمهور المسلمين متى عرفوا الحق وعملوا على تحصيله، فإن الرأي العام بوسائله ومؤسساته المختلفة يستطيع أن يؤثر تأثيراً كبيراً وبليغاً، عن طريق الجمعيات -مثلاً- أو وسائل الإعلام المختلفة، ومنها -أيضاً- المنابر التي يمكن أن ترشد الناس إلى الحق وما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتركوه، كما ترشدهم إلى الواجب الذي عليهم أن يقوموا به.
كذلك قضية الشكاوي والعرائض فإنها من الحقوق المضمونة بشريعة الإسلام، ثم هي مضمونة بحقوق الإنسان كما قلنا وبحسب الكلام الذي يذكرونه في الكتب يذكرون هذه الأشياء وغيرها، إنما نحن لابد أن نراعي في ذلك ما يتوافق مع شريعة الإسلام.
فإذاً لابد من نزاهة القضاء واستقلاله وعدالته وعدم خضوعه لأي ضغط مهما كان، كما قال صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه} .
كذلك لابد من وجود قضاء المظالم، وهو معروف عبر التاريخ الإسلامي، الذي يتلقى الشكاوي، الشكاوي ضد أي شخص مهما كبرت مسئوليته وعظم قدره وكان ذا نفوذ أو منزلة، بل لو كانت الشكوى ضد جهة حكومية أو غير حكومية فإن قضاء المظالم يتولى هذه المسألة، وله صلاحيات واسعة في النظر فيها، بل له صلاحيات تنفيذية في رد الحق إلى أصحابه وانتزاعه من الظالم.(104/30)
تفعيل الحسبة (وظيفة الضبط الإداري)
ثالثاً: نظام الحسبة في الإسلام الاحتساب هو على الجميع: على الأفراد، وعلى الجهات المختلفة رسمية كانت أو شعبية، وعلى كل الأطراف، والحسبة نظام إسلامي شمولي، فهو احتساب على البيع، وعلى الشراء، وعلى التعليم، وعلى الإعلام، وعلى الأنظمة، وعلى كل شيء، وهو مماثل لما يسمونه بلغة الإدارة المعاصرة "وظيفة الضبط الإداري" فالبعض يتوقعون أن الحسبة هي مجرد الأمر بأداء الصلوات، فهذا هو جزء من الحسبة، ولكن نظام الحسبة في الإسلام نظام شمولي لكل أمور الحياة، يشمل أن المحتسب مسئول عن مراقبة كل شيء وتصحيحه وفق الشريعة الإسلامية.(104/31)
تربية الأفراد على معرفة الحقوق والواجبات
رابعاً: تربية الأفراد على معرفة الحقوق والواجبات: ولا يعني هذا الغفلة عن أحدهما في اتجاه الآخر، فلابد أن يتعلم كل مسلم أن له حقاً ينبغي أن يطلبه ولا ينبغي أن يتخلى عنه، وأن عليه واجباً ينبغي أن يؤديه ويقوم به، ولا يجوز أبداً أن تطالب بحقك وأنت تتخلى عن واجبك، كما لا يجوز أن نعلم الناس الحق الذي عليهم ولا نعلمهم الحق الذي لهم.
مثلاً: نتكلم عن الواجب على النساء، فنقول -مثلاً- أن من الواجب على المرأة إطاعة الزوج، وأن تقوم على خدمته، وأن تسعى في راحته إلخ، هذا صحيح، لكن أيضاً يجب أن نقول: أن للمرأة حقوق على الزوج، هي أن يسكنها، ويكسيها، ويريحها، ويحسن معاملتها، ويبذل لها ما يستطيع، فيكون هناك توازن بين هذا وذاك.(104/32)
بناء الإعلام الناقد الحر
خامساً: بناء الإعلام: بناء الإعلام الناقد المربي الأمين الحر الذي يعرض الأوضاع الصحيحة بعيداً عن التهويل والمبالغة أو التزكية المطلقة، وكما أسلفت فإن الإعلام الناضج هو من أفضل الوسائل في كشف الفضائح ووضع النقاط على الحروف، كما هو الحال في بلاد الغرب.(104/33)
إعداد الدراسات والبحوث عن حقوق الإنسان في الإسلام
سادساً: إعداد الدراسات عن حقوق الإنسان في الإسلام وإيضاح ذلك للناس.(104/34)
إقامة الجمعيات التي تدافع عن حقوق الإنسان المسلم
سابعاً: إقامة الجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان المسلم، فنحن نعلم أن هناك جمعيات غربية تدافع عن حقوق الإنسان، بل هناك جمعيات عربية تدافع عن حقوق الإنسان العربي، فنحن نحتاج إلى جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان المسلمٍ، ولا يجوز أن يكون الدفاع عن حقوق الإنسان حكراً على النصارى الذين يستخدمون مثل هذه الأشياء -أحياناً- لأغراض دعائية ينبغي أن ينبري من أهل القدرة والإمكانية من يقيمون في بلاد العالم كله جمعيات للدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصة الدفاع عن حقوق الإنسان المسلم.
مثلما نجد في منظمات العفو -مثلاً- إحدى منظمات العفو في بريطانيا فيها أكثر من مائتي ألف عضو منتسبين إليها، وتنتشر في أكثر من أربعين بلد في العالم، إضافة إلى عشرات من المراسلين والباحثين المتخصصين المتفرغين.
ولابد من استخدام وسائل التأثير كما أسلفت.(104/35)
واجب العالم والداعية في الدفاع عن المضطهدين
وأخيراً فإن هناك واجب على العالم والداعية والخطيب في الدفاع عن المضطهدين والمظلومين من المسلمين خاصة، وذلك من خلال الفتوى التي تصدر، والنصيحة العامة والخاصة، والكتابة، والتعليم، والحديث، والتدخل في هذه الشئون ورعاية أحوال المضطهدين.
وأختم هذه الكلمة بأن أقول: على العالم والداعية حق أكبر لأنه يستطيع أن يفعل مالا يستطيع غيره من جمهور الناس، وأيضاً بقدر ما عليه من الحق فإن له من الواجب على غيره، فللعالم والداعية أيضاً حق أكبر مما لجمهور الناس أو سائر الناس في حفظه في حضوره وغيبته.
أرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم أو أطلت أو أمللتكم بمثل هذا الحديث، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع، وأترك جزءاً قصيراً من الوقت للإجابة على بعض الأسئلة الضرورية.(104/36)
تقسيم المسئوليات إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية
أولاً: تقسيم المسئوليات إلى مسئوليات تشريعية خاصة تتعلق بالأمور الإدارية، وإلا فالتشريع لله تعالى، والناس لا يشرعون، لكنهم من الممكن أن يضعوا بعض الترتيبات الإدارية في المجال المباح الذي لا يخالف نصاً شرعياً، وهناك جهة أخرى مهمتها تنفيذية بحتة، وهناك جهة ثالثة مهمتها قضائية بحتة.
وكل جهة من هذه الجهات الثلاث تكون مستقلة عن الأخرى، ولا تتداخل هذه الاختصاصات أو تجتمع كلها في يد شخص واحد، فإنه لا شيء يغري بالاستبداد والتسلط والظلم مثل تجمع السلطات في يد شخص واحد، وهذا أيضاً-تجمع السلطات في يد شخص واحد- يمنع الإنسان أن يرافع جهة أمام الجهة الأخرى، فإذا كانت هذه الجهات مستقلة أمكن أن أرافع الجهة التنفيذية أمام الجهة القضائية -مثلاً- ولكن إذا كان المصب واحداً، فإنه لا يمكن مرافعة جهة أمام جهة أخرى، فإنك حينئذ تكون كما قيل: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.
يقول أحد المفكرين: "إذا اجتمعت سلطتان فأكثر في يد شخص واحد انعدمت الحرية؛ حتى لو كانت السلطة بيد الشعب ذاته".
إن هذا التوزيع يتيح الفرصة للمراقبة والمحاسبة.(104/37)
الأسئلة(104/38)
حكم مس الحائض المصحف
السؤال
ما حكم قراءة القرآن الكريم أثناء الدورة الشهرية؟ ليست تلاوة تعبدية وإنما خشية النسيان، ويكون بحائل، وكذلك الحفظ أو ترديد الآيات غيباً ومنها الأذكار من المعوذات وآية الكرسي إلى غير ذلك؟
الجواب
المسألة لا شك فيها خلاف، فمن أهل العلم من يرى أنه لا يجوز للحائض أن تقرأ شيئاً من القرآن ويستدلون بأحاديث منها حديث: {لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن} وهو ضعيف، ومن العلماء من يجيز ذلك مطلقاً دون قيد أو شرط.
والذي أراه أنه يجوز للحائض أن تقرأ القرآن سواء كان ذلك بغرض الاختبار أم كان ذلك خشية النسيان، أو كان ذلك تعبداً كما تقرأ شيئاً من القرآن أو تقرأ آية الكرسي أو الأذكار المعوذات أو غيرها فإن ذلك كله جائز على القول الراجح ولا دليل على منعه، والممنوع أن تمس الحائض المصحف، فإنه لا يمس القرآن إلا طاهر، فالراجح كما هو مذهب الأئمة الأربعة: أن المحدث يحرم عليه مس المصحف إلا من وراء حاجز أو ساتر، فإذا احتاجت إلى مس المصحف فإنها تمسه من وراء ثوب أو منديل أو غير ذلك.
أعتذر إليكم أشد الاعتذار وأوفاه عن عدم قدرتي على الإجابة على أسئلتكم، وأتمنى أن تتاح لي فرصة لأجيب عليها كلها، فإن فتح الله شيئاً من ذلك فبفضله ورحمته والحمد له، وإلا فأسأل الله تعالى أن يوفقكم إلى من يجيب عليها، وأن يجمعنا وإياكم على طاعته، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واغفر لنا في الآخرة والأولى إنك على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين.(104/39)
التفاوت في الأداء بين المسلمين وغيرهم
السؤال
إن الإسلام كرم المسلم، فبعض الناس عنده عامل غير مسلم يفضله على المسلم، فما حكم ذلك؟
الجواب
أما إن كان يفضله على المسلم لدينه فلا شك أن هذه ردة عن الإسلام، أما إن كان يفضله؛ لأنه أكثر جدية في العمل أو أكثر عملاً، فهذا قد يكون أمراً واقعاً، مع الأسف الشديد أن الغرب عمل على تجهيل المسلمين في البلاد التي استعمرها، فأصبحت تجد كثيراً من المسلمين عندهم جهل وتخلف وعدم معرفة، ولكن على الإنسان بكل حال ألا يستخدم إلا المسلم، وأن يحرص من كان عنده عمال غير مسلمين أن يدعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا وإلا استبدل بهم مسلمين.(104/40)
أخبار السودان
السؤال
ما هي آخر أخبار السودان؟
الجواب
في الواقع ربما يسأل الأخ عن قضية في جنوب السودان، الانتصارات تتوالى، وقد أنشئوا جيشاً شعبياً إسلامياً قام بطرد " جون قرنق " وأنصاره من جنوب السودان، وسيطر على الجنوب، و"جوبا" هي آخر معقل يمكن أن يهيمنوا عليه بإذن الله تعالى وما حوله، وأرجو أن يكونوا بذلك وضعوا نهاية لتمرد النصارى في الجنوب.
العنصرية الغربية برزت جيداً فقد صرحت أمريكا قبل أسبوع تقريباً بأنه لا مانع لديها من تقسيم السودان إلى دولتين: دولة مسلمة ودولة نصرانية، وهذه لهجة غريبة جداً لأنها تصرح دائماً وأبداً أنها لا تقبل تقسيم الدول، فما بالها الآن قبلت!! قبلت لأنها تعرف أن في ذلك حفظاً للنصارى، وأمريكا الآن تسعى إلى إيجاد دول نصرانية في أفريقيا، أثيوبيا، والحبشة وغيرها من أجل اكتساح الإسلام، وأيضاً تسعى إلى تحويل الدول الإسلامية كما هو الحال في الصومال الذي يشكل المسلمون فيه نسبة (100%) تسعى إلى القضاء على هذه الدول من أجل تحويل أفريقيا إلى قارة نصرانية عام (2000م) كما يحلمون ويطمعون بذلك!! وأما بالنسبة للحكومة في السودان فهي بشكل إجمالي حكومة إسلامية وتقف وراءها جبهة الإنقاذ القومية، ولها جهود كبيرة في مجال القضاء على المنكرات، وإيجاد شرطة شعبية تقوم بدور الهيئات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء على دور الدعارة والفساد ومنع المخدرات، ولها حركات طيبة في التقدم نحو تطبيق الشرع، وكل هذا مما يحمد ويشكر وينبغي أن نقول لهم: أحسنتم، أحسنتم، وهذا لا يمنع من وجود ملاحظات، هناك ملاحظات على الإعلام، هناك ملاحظات على الاقتصاد، هناك ملاحظات على الأوضاع الاجتماعية، هناك ملاحظات في أسلوب التعامل مع الجهات الأخرى، يحتاج كل ذلك إلى أن ينصحوا فيه.
ومن التعاون معهم والفرح بانتصار الإسلام في السودان أن نناصح هؤلاء، ونحذرهم من الأخطار التي تهددهم، من خلال التعامل مع بعض الدول مثلاً ذات الطابع العقائدي المنحرف، أو من خلال بعض القوى الأخرى، أو من خلال بعض الطرق الصوفية إلى غير ذلك من الأمور، وينبغي أن نعلم أن ذكر الملاحظات هنا أمر طبيعي وليس فيه ما يعاب، فنحن بقدر ما نفرح ونسر -علم الله- بأي كسب أو انتصار ولو جزئي للإسلام؛ فإننا نرى أن من الوفاء لهذا الكسب أن ننبه على بعض الملاحظات في هذا المجال نقولها إجمالاً لضيق الوقت، وربما تحدثنا عنها بصورة مفصلة من خلال الوسائل التي نعتقد أنها تثمر وتجدي.(104/41)
منهج التستر على الأخطاء
السؤال
ذكر بعضهم أن جبهة الإنقاذ في الجزائر ليست مؤهلة لحمل رسالة الإسلام، وذكر بعضهم أنك تعلم أن على الجبهة أخطاء ولكنك تخفيها؟
الجواب
في الواقع أن مسألة أنهم جديرون أو ليسوا بجديرين هذا أمر إلى الله، فإن الله تعالى سيمكنهم كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] .
أما مسألة الأخطاء ففي الواقع أنا لا أرى أن التستر على الأخطاء منهج صحيح، بل دعوت وناديت مراراً وتكراراً بالنقد الهادف البناء على كافة المستويات، على مستوى الدول، وعلى مستوى الأفراد، وعلى مستوى الشعوب، وعلى مستوى الدعاة، وعلى مستوى الجماعات، وأعتقد أن هذا -بإذن الله تعالى- خير علاج وشفاء لأمراضنا.
ولكنني في الواقع لست ممن يتلذذون بأن يلوكوا ما يعتبرونه أخطاءً للآخرين، وأنا أخاف أن أقع في أحد بغير علم، فأحرص على التحري، وإذا أردت أن أدرس أخطاء فئة بعينها فلابد أن أطلع على كل شيء.
لقد رأيت بعض الإخوة وقعت في يده ورقة واحدة عن جبهة الإنقاذ فقام وعلق عليها تعليقات طويلة تنم عن كراهية الله أعلم بدوافعها، ولكنني أملك وثائق كثيرة جداً تؤكد أن مثل هذه الورقة لم يكن يصح أو يصلح أن يعتمد عليها في الحكم على عمل كبير كعمل جبهة الإنقاذ في الإسلام.
وعلى كل حال فإننا نقول: جبهة الإنقاذ وغيرها هي عبارة عن أواني ووسائل إلى تحقيق نصر الدين، ونقول: ليذهب الأشخاص ولتذهب الأسماء والرايات واللافتات المهم أن ينتصر دين الله سبحانه وتعالى في الأرض.(104/42)
المواعظ
في هذا الدرس دعوةٌ إلى التوبة ومحاسبة النفس، والاتعاظ بالآيات الكونية والشرعية، كما أنه يحتوي على بيان قابلية العقل والقلب للطغيان أمام موجات الشبهات والشهوات، وفيه كذلك ذكرٌ لبعض المواعظ وأسباب الهداية والفلاح.(105/1)
توبة ومحاسبة وندم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا قلباً يشتاق إليك، ولا عيناً تنظر في ملكوتك، ولا أذناً تستمع إلى كلامك.(105/2)
قصيدة تائب
يا منزل الآيات والفرقان بيني وبينك حرمة القرآنِ اشرح به صدري لمعرفة الهدى واعصم به قلبي من الشيطانِ يسر به أمري وقَضِّ مآربي وأَجِرْ به جسدي من النيرانِ واحطط به وزري وأخلص نيتي واشدد به أزري وأصلح شأني واقطع به طمعي وشرف همتي كثر به ورعي وأحي جناني أسهر به ليلي وأظمِ جوارحي وأسل بفيض دموعها أجفاني أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمانِ أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يدٍ ولا دكانِ أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلانِ وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنانِ ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني وجعلت ذكري في البرية شائعاً حتى جعلت جميعهم إخواني والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقانِ ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوانِ لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني فلقد مننت علي ربِّ بأنعم مالي بشكر أقلهن يدانِ(105/3)
نياحة أبي الوفاء ابن عقيل
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: " كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود، فوجدت الإمام أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت، فأعجبتني نياحته فكتبتها هنا قال لنفسه: يا رعناء! تقومين الألفاظ ليقال: مُناظِر، وثمرت هذا يا مناظر، كما يقال للمصارع الغارة، ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء وهي أيام العمر، حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر، وينسى الذاكر والمذكور إذا درست القبور، هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك، فموهوا له، وصار الاسم له، والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم.
أفٍ لنفس وقد سطَّرت عدة مجلدات في فنون العلوم، وما عاق بها فضيلة، إن نوظرت شمخت، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم، وسقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة، توفِّر في المخالطة عيوباً تبلى، ولا تحتشم نظر الحق إليها، أفٍ والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها! والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائق وأنا بين الأصحاب، والله إنني قد أبهرني حلم هذا الكريم عني، كيف يسترني وأنا أنتهك؟! ويجمعني وأنا أتشتت؟! وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، والله لو عرفوني حق معرفتي ما دفنوني، والله لأنادين على نفسي نداء المكشِّفين معايب الأعداء! ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء! إذ لا نائح ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة، التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها، وهو الله، والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا، والله ما ألتفت قط إلا أجد منه سبحانه براً يكفيني، ووقاية تحميني، مع تسلط الأعداء، ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها.
هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه! ولا عذر لي فأقول: ما دريت أو سهوت، والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، ونوّر قلبي بالفطنة حتى إن بعض الغائبات المكنونات تنكشف لفهمي، فوا حسرتاه! على عمر انقضى في ما لا يطابق الرضا، واحرماني لمقامات الرجال الفطناء يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! واخيبة من أحسن الظن بي! إذا أشهدت الجوارح علي، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن، اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأقدار، وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم، والله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمتك، ولا ناسياً ما سلف من كرامتك، فاغفر لي سالف فعلي.
هذا كلام إمام جليل وهو الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الذي له كتاب الفنون في نحو ثمانمائة مجلد، وكان له مقامات في العلم والعمل والجهاد كثيرة، ولكنه مع ذلك تفطن إلى إسرافه على نفسه، وتقصيره في جنب الله عز وجل فناح على نفسه هذه النياحة الباكية، التي رآها الإمام ابن الجوزي الإمام الحبر الفذ الفهم، الذي كان يعظ فتنخلع القلوب، وتسيل الدموع، ويقوم من مجلسه مئات وألوف قد تابوا إلى ربهم جل وعلا وأنابوا، فناح على نفسه بنحوها، ورأى أنها تطابق ما في قلبه وما في نفسه، يقول: " وإن لم يكن هذا لعمل من الكبائر ارتكبته لئلا يظن بي ظان ما لست أهله؛ ولكن لأن عندي أعمالاً وتقصيرات لا تليق بمثلي، ولا تنبغي مني وقد أنعم الله تعالى عليَّ بنعمة العلم، والفهم، والذكاء " فهو يتوب إلى الله تعالى ويستغفره من ذلك.(105/4)
خلق الإنسان مركبٌ من ثلاث
المواعظ أيها الاخوة! هو الدرس الرابع والستون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين السابع والعشرين من شهر الله المحرم من سنة 1413هـ تأملت خلق الإنسان فوجدته مركباً من ثلاثة أشياء:(105/5)
القلب مستودع المشاعر والأحاسيس
الأمر الثاني: الذي ركب منه الإنسان: القلب، وهو مستودع المشاعر والأحاسيس، ومستقرها، فهو الذي يحب ويبغض، ويلين ويقسو، ويصح ويمرض، وهو مستودع المشاعر، فقد يتجه هذا القلب إلى مسلك حسن، فيكون فيه الإيمان، ومحبة الرحمن، والخشوع للقرآن، والإخبات إلى ذكر الله تعالى وطاعته والانقياد له.
حينئذٍ يكون نعمّا هو، وقد يسترسل القلب وينحرف إلى شهوة حرام، شهوة في الملبس، فيلبس ما حرم الله تعالى عليه، حريراً، أو إسبالاً، أو ثوباً مغصوباً، أو أَُبَّهة، أو ثوب شهرة، أو يأكل ما حرم الله تعالى عليه، أو يشرب ما حرم الله تعالى عليه، أو ينكح ما حرم الله تعالى عليه، أو يسترسل إلى طلب شهرة يركض وراءها ويعشقها حتى تكون الشهرة هي معبوده على الحقيقة، يتكلم من أجلها ليقال: هو فصيح، ويسكت من أجلها ليقال: صاحب صمت، وفكر، وزهد، وعبادة! أو رياسة يسعى إليها، ويشرأب لطلبها! فيبذل لطلبها الغالي والنفيس، ويرتكب في سبيلها ما حرمه الله ودعا إليه إبليس.
أو يكون معبوده المال، فمن أجله يحب ويباغض، ويقرب ويباعد، ويسهر الليالي الطوال، ويحب المال من حرام أو من حلال، فيحتاج القلب حينئذٍ إلى وعظ يوقفه عند حده، ويقمعه عن غيه، ليرعوي ويزدجر، فهذا هو العنصر الثاني.(105/6)
الجسم مطية يركبها العقل والقلب
أما العنصر الثالث فهو الجسم: وهذا الجسم بأعضائه، وجوارحه، وقوته، هو مطية ذلول، يركبها العقل ويركبها القلب إلى ما يريدان، فإذا اقتنع العقل بشيء حرك إليه الجسم، وقال له: هلم إلى هذا المكان ففيه مصلحة لي في الدنيا أو في الآخرة، فيحرك الجسم إلى ما يرى، كأن يذهب الإنسان إلى إجراء عملية جراحية يعلم أنها مؤلمة، وأن فيها مشقة عليه، ولكنه يقتنع بعقله أن فيها مصلحة له، فالقلب يقول: أحجم، والعقل يقول: أقدم.
وكذلك إذا اشتهى القلب شيئاً حرك الجسم إلى ما يشتهي ويريد، كأن يقصد الإنسان المحبوبات في هذه الدنيا، وهي كثيرة من الملاذ بالنسبة لأهل الدنيا، فهو يركض إلى ما يحب من مأكل، أو مطعم، أو مشرب، أو منكح، أو غير ذلك، ومثله أيضاً الإقبال على الطاعات عند أهل الآخرة، فإنك تجد أحدهم وهو يسعى إلى عبادة، أو طاعة، أو صوم، أو ذكر، أو طواف، أو حج، أو عمرة، أو جهاد، يركض إليها ركضاً يخشى أن تفوته، مع أنه يعلم أنه ربما كان فيها عطيه، ولكن قلبه آمن أن هذا الطريق مرضاة لله عز وجل فأقبل عليه وهو يقول: رضيت في حبك الأيام جائرة فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} .
فأنت ترى الآن أن مدار هذه الأشياء كلها على القلب، فإذا تمنى القلب نظرت العين، وأصغت الأذن، وامتدت اليد، ومشت القدم، ثم توقف الأمر على الفرج.
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] فإنه يقبل على شهواته لا يلوي على شئ، وهو يقول: عجل وتمتع بهذه الشهوات قبل الموت! أفق وصب الخمر أنعم بها واكشف خفايا النفس من حجبها وروي أوصالي بها قبلما يصاغ دن الخمر من تربها هكذا يقول الفاجر!! {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإنه وإن استرسل وراء نظرة خائنة، أو حركة عابثة، أو خطوة غير مدروسة، فإنه إذا جد الجد، وحزم الأمر، ووقف أمام الفاحشة الكبرى، تذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل وتذكر نظر الله تبارك وتعالى إليه، فكف نفسه عن الهوى وأقلع.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} كان ذو الكفل كما في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، ومسند أحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح: {أن الكفل كان رجلاً مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فأراد امرأة يوماً فأبت عليه، ثم أصابتها حاجة فجاءت إليه، وقالت: هلم على أن تعطيني حاجتي، فأعطاها مائة دينار، ثم قعد منها مقعد الرجل من امرأته، فارتعدت وبكت، فقال لها: ما يبكيكِ؟ قالت: هذا أمر ما فعلته قط، وإنما فعلته الآن للحاجة، فأقبل على نفسه يوبخها ويقول: أنا العبد الذي ما ترك معصية إلا ارتكبها لا أبكي، وهذه امرأة ما فعلت معصية قط تبكي لله عز وجل أنا أحق بالخوف منها، ثم قام من عندها معرضاً تائباً إلى الله عز وجل فمات من ساعته فأصبح مكتوباً على بابه (إن الله تعالى غفر للكفل) } .
{والقلب يتمنى؛ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} إذاً العين مطية، والأذن مطية، واليد مطية، والرجل مطية، والجسد كله مطية إلى ما يكون في هذا القلب من الأمنيات، والمطالب، والمقاصد، وما في هذا العقل من الأفكار، والقناعات، والآراء، هذا هو الجسم: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خُسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان إن قوة الإنسان، وإنسانيته، وفضله، ومكانته، ليست بقوة جسمه، فالفيل والبعير أقوى منه، وليست بكثرة أيامه ولياليه، وطول عمره، فإن النسر، والفيل، أطول عمراً منه، وليست بشدة بطشه، فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، وليست بلباسه وزينته، وحسن هيئته، وجميل مظهره، فالطاووس وهو يختال، والدراج أحسن لوناً، وجسماً منه، ولا بقوته على النكاح، فالعصفور قالوا: أقوى منه، ولا بكثرة الذهب، والفضة، والأموال، فالمعادن والجبال أكثر ذهباً وفضة.
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان فهكذا عرفت أيها الأخ الكريم! فضل العقل، وفضل القلب، وأن الجسم خادم، والغريب أن بعض الناس كل همه أن يشبع، ويروي، وينعم جسمه بجميل الثياب، وجميل المناظر، وجميل المطاعم، وجميل المشارب! فهو كمن يعلف دابته ثم يتركها مربوطة، لا يستخدمها في أمر ينفعه في دنيا ولا في دين! كان بعض السلف يأكل حلوى، فأقبل عليه أحدهم فعاتبه في ذلك، وقال: كيف تتوسع وتترفه في هذا المأكل؟! فقال: أعلفها حتى أحمل عليها، يقول: أعلف نفسي الآن لأحمل عليها.
فهو يتقوى بالطعام والشراب على ما يقربه إلى رب الأرباب.(105/7)
العقل غريزة تدرك بها الأشياء
الأول: العقل، وهو غريزة يدرك بها الإنسان الأشياء، فيعرف بها الخطأ والصواب، والحق والباطل، والصحيح من غيره، وهو يميز الإنسان عن الحيوان، وبه امتن الله على العبد، ومع ذلك فإن هذا العقل قد يشطح أحياناً، ويتعدى حده إلى ما لا يحل ولا يجوز.
فالعقل: نعمة أنعم بها الله تعالى على الإنسان، ومن الأشياء التي قد يشطح إليها العقل مثلاً، أنه يفكر فيما لا يحل له، فيسترسل في النظر في أمور الغيب، كالتفكر في ذات الله عز وجل مع أن العبد لا يحيط بالله تعالى علماً، قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:10] وقال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] .
فالعقل عاجز عن إدراك حقيقة أسماء الله تعالى، وصفاته، أو معرفة كنهها، وكنه ذاته كما قيل: العجز عن دراك الإدراك إدراكُ والبحث في ذاته كفر وإشراكُ ومثله التفكير في أمور الغيبيات التي لا يحيط بها الإنسان، بل يضيع العمر فيها في غير طائل وفي غير جدوى، بل هو باب يجر الإنسان إلى الضلال.
ومثله أيضاً أن العقل قد ينجر أحياناً إلى الشبهات التي تطرأ عليه، شبهة في أمر الإيمان بالله عز وجل، شبهة في أمر القضاء والقدر، وكيف كلفنا الله -تعالى- العمل والعبادة مع أنه قضى علينا، وقدر، وكتب؟ {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فيظل العقل غاصاً بهذه الشبهة، قلقاً فيها، ينام عليها، ويصحو عليها، وهي تسير معه حيث سار فيتعكر الصفاء، وتكثر الهموم، حتى لا يكاد الإنسان يطمع في الفكاك من هذه الشبهات، وقد يستمر العقل أحياناً في بحث مسائل ليس لها أهمية دينية أو دنيوية، فليس فيها سوى ضياع التفكير، ككثير من مباحث الفلاسفة الذين يضيعون الأعمار فيها، ثم يكون نهاية أحدهم كما يقول: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلالُ وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبالُ ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فهي علوم وأبحاث لا تقرب من الله عز وجل ولا تقرب إلى الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تنفع في الدنيا، فليست من العلم الذي ينتفع به الإنسان في دنياه، تيسيراً للسفر مثلاً، أو تيسيراً للاتصال، أو تيسيراً لعلم، أو تيسيراً للعمل، أو تيسيراً للعبادة، لا هذا ولا ذاك، وإنما هي من فضول العلم الذي لا ينفع في دنيا ولا في دين.
فيحتاج العقل حينئذٍ إلى وعظ يردعه، ويعالجه، ويقمعه، ويوقفه عند حده، فيقول له: قف لا تتعدى هذه الحدود التي حدها الله تعالى لك، فلا تغتر أيها العقل بقوتك وأنت الصغير، بل اشتغل فيما شرع الله تعالى لك، وفيما تعبدك فيه، ودع عنك ما سوى ذلك.(105/8)
العقل والقلب قابلان للطغيان
أيها الإخوة العقل، والقلب، والجسم تبع لهما، قابلان للطغيان والانحراف -كما أشرت- ومن حكمة الله عز وجل أن خلق الإنسان وابتلاه، فجعل أمامه طريق الخير والشر، فقال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] فلاحظ هذه الآية: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2] حكمة الخلق الابتلاء، (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فالعين ترى، والأذن تسمع، فإذا رأت العين، أو سمعت الأذن أرسلت إلى القلب، والى العقل، فتأثر القلب بما يرى وبما يسمع.
ثم قال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] من الناس من ينظر فيكون نظره طاعة، ومنهم من يكون نظره معصية، جعل الله -تعالى- في الكون أموراً متقابلة فأنت ترى في الدنيا كلها مغريات تحرك القلب إلى المعصية، الصورة الجميلة، والصوت العذب، والملذة العاجلة، التي ينهمك فيها صاحب النظر القصير، كلها من المغريات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات} وفي لفظ: {حجبت} .(105/9)
أبواب الشبهات تفتح أمام العقل
أما العقل فقد فتحت أمامه أبواب الشبهات، وصارت الدنيا مليئة بالمذاهب الفلسفية، والنظريات التي يسمونها أحياناً نظريات علمية، والفرضيات، والاحتمالات الظنية، والدراسات والبحوث المنمقة بجميل الألفاظ، وحسن الترتيب، والتبويب، وحسن الاستدلال أحياناً، والتي سرقت من الناس طمأنينة إيمانهم، وهدوء قلوبهم، وسلامة فطرتهم، وجعلت الكثيرين منهم في أمر مريج!(105/10)
أبواب الشهوات تفتح أمام القلب
الدنيا مليئة بالشهوات التي يتخطاها العبد، فإذا تخطى شهوة وقع أمام ناظريه أخرى، قال بعض السلف: [[الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرغبة، والرهبة، ثم قال: وقد رأيت منها اثنتين، رأيت رجلاً غضب فقتل أمه، ورأيت رجلاً عشق فتنصر]] هذا أثر الغضب، وهذا أثر الرغبة في القلب، ومثله الرغبة والشهوة، فإنها تجر إلى أشد من ذلك.
قال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:11-12] قال بعض المفسرين: بما صبروا عن الشهوات.
الشهوة لم تتبرج مثلما تبرجت في هذا العصر، فأصبحت تَرَى في المكتبة أعداداً غفيرة من المجلات، التي تتاجر بصورة المرأة الجميلة، وهي في عز شبابها، وقد قدمت لها الصورة الملونة التي إذا رآها الشاب المراهق افتتن بها وتأثر، فأغلقت عليه منافذ التفكير، وغاب العقل، وحضر الهوى والشهوة، فأصبح الإنسان ينظر ويتملى، ثم قد يجره ذلك إلى ما بعده.
الأفلام الخليعة الماجنة التي أصبحت ليست صورة جامدة أمام الإنسان، بل صورة متحركة! كأنها تحكي الواقع بكل تفاصيله، وهي تقول للإنسان: هيت لك! يختارون لها أجمل النساء وفي أبهى الثياب، وبحركات خليعة تنخلع لها قلوب ضعاف النفوس وقصار النظر، ثم معها الأصوات العذبة، الجميلة، المؤثرة، ومعها الكلمات الهامسة المحركة لساكن الشهوة، وأصبحت هذه الأشياء في عرف الكثيرين مما لا ينكر! فأنت إذا قلت: هذا فيلم خليع، ترامى إلى نظر البعض الأفلام المتعلقة بالرذيلة العارية، وتصوروا أن الأفلام المسموحة المباحة قانوناً ونظاماً ليست داخلة في هذا الباب، ولا أدري أي شئ بقي بعد أن عرض الرجل والمرأة على سرير واحد، وعرضت المرأة ليس عليها ما يسترها أو يغطيها، إلا ما يستر سوءتها فحسب؟! وربما تلبس ما يزيدها إثارة، وحسناً، وجمالاً! وماذا بقي بعدما أصبح الرجل يتحدث إلى المرأة، كما يتحدث الرجل إلى زوجته وهما في المخدع؟! فكل ذلك مما سلط على الإنسان لاستثارت كوامنه، وليتحقق فيه معنى الابتلاء {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2] {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ً) [الملك:2] .
وأشد من ذلك البث المباشر الذي تحدثت عنه سابقاً، وتحدث عنه غيري، وهو الآن يقرع نواقيس الخطر على أبواب المسلمين، فيتلفت الناس ويصابون بما يصابون به، فهاهنا نقول لهم: كل ما يقضيه الله تعالى ويقدره للمؤمنين فهو خير، دع الناس يتمحصون، ويتمحضون، ويتبين منهم الصادق من الكاذب، والمؤمن من الفاجر، والتقي الورع من المقبل على المعاصي، لا ينكف عنها إلا خوفاً منها، أو عجزاً عنها.
انظر إلى الجمال الذي ظهر في هذا العصر كما لم يظهر من قبل، الرذيلة التي تيسرت زماناً ومكاناً، حتى أصبحنا نجد الإعلانات عن السفريات والتسهيلات للشباب في الصحف صباح مساء، وهي تدعوهم إلى قضاء أوقات إجازاتهم في أماكن الفساد، وفي الفنادق، وفي المخيمات، والمعسكرات، بل وتتيح لهم في بلادهم من ذلك ما لم يكن متاحاً لهم من قبل، وتعلن لهم التيسير، والتسهيل، والتخفيض وغيره! انظر إلى الأصوات، انظر إلى المآكل المحرمة اليوم، وقد أصبحت في متناول الإنسان في بيته، وسوقه، والمتجر، وفي كل مكان! انظر المشارب المحرمة، والمناظر المغرية، إلى غير ذلك مما تبرجت به الشهوة في هذا العصر، كما لم تتبرج من قبل، وأصبحت سهاماً موجهة إلى قلوب الناس، هذه الأشياء كلها تخاطب القلب، وتهز الوجدان، وتحاول أن تزلزل وتزعزع الإيمان فيه.(105/11)
أسباب الهداية والفلاح
وأمام هذا وذاك تحركت العقول إلى الشبهات، وتحركت القلوب إلى الشهوات، فيتساءل الإنسان ماذا يكافئ هذا وذاك؟! فنقول: يكافئهما مواعظ الله تعالى لابن آدم، فالله تعالى لا يظلم أحداً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] والذي وضع وخلق هذه المغريات، وضع بإزائها أسباب الهداية والفلاح، وهي كثيرة:(105/12)
موعظة الحوادث
الموعظة الخامسة الحوادث: وما جبلت عليه هذه الدنيا من التقلب والتغير، سواء للأفراد، أو للأمم، للجماعات من الأحياء، أو من الأموات، والسعيد فيها من وُعِظ بغيره، والشقي من وُعِظ به غيره، الشقي من شقي في بطن أمه.
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرارِ ما إن يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبارِ جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدارِ ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نارِ وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هارِ فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفراً من الأسفارِ وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عوارِ وقد نادت الدنيا على الناس بأعلى صوتها، وهي تقول كما قيل: هي الدنيا تقول بملء فيها حذارِ حذارِ من بطشي وفتكي فلا يغرركم مني ابتسام فقولي مضحك والفعل مبكي هل تنتظر أن تنزل بك المصيبة لتعتبر؟! في أي قرن أنت؟! ومن أي جيل؟! الأرض الذي وطئتها ماذا تقول لك؟! لو سمعتها لوجدتها تقول:- صاحِ هذي قبورنا تملء الرحب فأين القبور من عهد عادِ خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجسادِ رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضدادِ ودفين على بقايا دفينٍ في خفايا الأحقاب والآمادِ هؤلاء الأغنياء افتقروا الشرفاء اتضعوا، الملوك ماتوا، أو قتلوا، أو طردوا، أين فرعون؟! أين هامان؟! أين قارون؟! أين النمرود؟ أين أبو جهل؟! أين ماركس؟ أين لينين؟! أين تيتو؟ 1 أين جمال عبد الناصر؟! أين السادات؟! أين بوظياف؟! أين فلان؟! أين فلان؟! طحنتهم الدنيا فأصبحوا كأن لم يكونوا.
آيات الله تعالى في الكون وفي النفس {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:185] وفي الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في آخر الليل إلى شِنٍ معلقة فتوضأ، ثم قرأ قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191] } .
وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر} وفي هذا العصر تفتق العلم عن إنجازات كشوفات عظيمة، حيث ارتاد آفاق الكون، والنفس، وأصبح بمقدور الإنسان أن يعرف الكثير الكثير من بديع صنع الله عز وجل، فليستفد الإنسان من هذا ويعتبر به ليكون سبباً واصلاً إلى الله عز وجل ليس في الإيمان بوجوده فحسب، بل بالإيمان بوجوده، وفي معرفته بأفعاله جل وعلا وفي تعظيمه، وفي التقرب إليه بالطاعات.(105/13)
ذكر الموت
ثالث هذه المواعظ: هو ذكر الموت، وما بعده من العذاب أو النعيم في القبر، في سنن النسائي وغيره يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} أي: الموت، فإنه يقطع اللذات عن الإنسان، والغريب في أمر الموت أن لا أحد ينكره، حتى الكفار يصرحون، ويقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [المؤمنون:82] فهم يتصورون الموت، ويتصورون أنفسهم في القبور، وقد حالوا إلى التراب، ولعبت الديدان بأجسادهم، ولكنهم مع ذلك يصرون على ما هم عليه.
الغريب في الأمر أن الجميع يؤمنون به، ولكن قال: من يضعه نصب عينيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، عند أحمد وأصحاب السنن، من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع -وذكر منها - ويؤمن بالموت} والمقصود حينئذٍ أن يتحول اقتناعك العقلي، بأن الموت قادم إليك، أن يتحول إلى شعور قلبي، يدفعك إلى الطاعة، ويردعك عن المعصية.
قال بعض أهل العلم: أي عيش يطيب وليس للموت طبيب، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[كفى بالموت واعظاً، وكفا باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً]] وقال الحسن البصري: [[ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت على غفلتهم عنه، ولا رأيت صدقاً أشبه بالكذب من حب الناس الجنة مع تركهم لعملها]] .
1- حال السلف مع الموت: كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أميراً مرفهاً، حسن البزة، حسن الثياب، فلما ولي الخلافة وكان ذا نفس طموحة، طمح إلى الجنة فجعل الدنيا تحت قدميه، وأقبل على الآخرة، فكان يكثر من ذكر الموت، فإذا نظر إلى جسمه قال: " فكيف رأيته بعد ثلاث حينما يوسد في قبره " فعرف الناس منه ذلك، فلما كان يجول في الأمصار حضر بعض الشعراء، وكان من عادة الشعراء إذا وقفوا أمام الأمراء أن يشتغلوا بالمديح، والثناء، والقيل، والقال، ولكن عمر رضي الله عنه أنشأ مدرسة للشعراء تهتم بذكر الموت والآخرة، فوقف أمامه أحدهم يقول: وبينما المرء أمسى ناعماً جَذِلا في أهله معجباً بالعيش ذا أنقِ غراً أُتيح له من حينه عرضٌ فما تلبث حتى مات كالصعقِ ثمة أضحى ضحاً من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمقِ يبكى عليه وأدنوه لمظلمة تغشى جوانبها بالترب والفلقِ فما تزودَّ مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واروه من خرقِ وغير نفحة أعواد تُشبُّ له وقل ذلك من زادِ لمنطلقِ فبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضلت لحيته.
ومما يذكر بالموت مشاهدة المحتضرين، فأنت حين ترى الإنسان وهو يحتضر، فتتجمد أطرافه، وتشخص عيناه، وتتجمد حركته، فإنك ترى أمراً رعيباً، كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول -وهذا الأثر عند الحاكم وغيره وهو صحيح- قال: [[وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا خبر الموت وكيف يكون! فلما حضره الموت قال له ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص: يا أبتِ! إنك كنت وأنت صحيح شحيح تقول: وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا خبر الموت، فها أنت الآن محتضر فهلا أخبرتنا، فقال له: يا بني! إن أمر الموت أعظم من أن يوصف، ولكني سأقربه لك، أحس كأن جبل رضوى على عنقي شيء ثقيل، وأحس كأن جوفي يشاك بالسلاح، تختلف فيه الرماح والسيوف، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، ثم أقبل على الجدار يبكي -وهذا القدر الذي سأسوقه في صحيح مسلم- فقال له ابنه عبد الله: يا أبتِ ما يبكيك؟! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟! فما زال به حتى أقبل عليه، فقال له: إني كنت على أطباقٍ ثلاث: كنت وأنا في الجاهلية لا أحد عندي أبغض من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو استمكنت منه حينئذٍ لقتلته، ولو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، ثم وضع الله الإسلام في قلبي فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده، فقال: فقبضت يدي، فقال يا عمرو! بايع، قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟! قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: بايع، أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله، قال: فبسطت يدي فبايعته، قال: فقذف الله حبه في قلبي حتى إني كنت لا أستطيع أن أملء عيني منه -كما في بعض الروايات- إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها! فإذا أنا مت فلا تصحبوني بنائحة، فإذا وضعتموني في قبري فانتظروا عند قبري، قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي]] .
2- زيارة القبور: ومما يذكر بالموت زيارة القبور، وفي الصحيح: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها تذكر بالآخرة} أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقَرْ وأين المدل بسلطانه وأين العظيم إذا ما افتخرْ تفانوا جميعاً فلا مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر هذه القبور وإن كانت ساكنة إلا أنها ناطقة تقول: في داخلي الأكابر، والعظماء، والملوك، والزعماء، والعلماء، والتجار، والفجار، كلهم سواء! قبور مسنمة، لكن داخلها يختلف، فهذا روضة من رياض الجنة، وذاك حفرة من حفر النار، ولا أنيس فيه إلا العمل الصالح.
3- ملاحظات في ذكر الموت: وينبغي في موضوع ذكر الموت أن يفطن الإنسان لأمور: أولاً: أن مجرد ذكر الموت لا يكفي، بل ينبغي أن يكون ذكره واعظاً يدفعك إلى العمل الصالح.
ثانياً: الزيادة في ذكر الموت، والمبالغة في ذلك، حتى يقعد الإنسان عن العمل لا ينبغي، بل يكون الإنسان في ذلك معتدلاً، ويكون ذكره للموت لمناسبة، أي يربط ذكر الموت بأمور الدين والشريعة، فيذكر الناس بالموت ثم يحثهم على عمل الصالحات، أو يذكرهم بالموت، ثم ينهاهم عن المعاصي والموبقات، أما مجرد النياحة على النفس، والبكاء على الذات، والصياح على ما سوف يصيبه، وكثرة توصيف أحوال المحتضرين مثلاً، وتوصيف أحوال الموتى، وما يصيبهم في القبور، وما تكون إليه هذه الأجساد بعد البلى، وبعد أن تلعب بها الديدان، إلى غير ذلك، فهذا وحده لا يكفي، لأن هذا القدر مشترك.
ومما يُحْكَى أن رجلاً من التجار أصابته قرحة في جسده، حتى كدرت عليه عيشه، فبحث عن أطباء فلم يجد، فذكر له طبيب في الهند -ذكر هذه القصة الحميدي - فذهب إليه فوجد هذا الطبيب نحيفاً منجعفاً على سريره، فقال: أنت الطبيب! فقال: نعم.
ما بك؟ قال: بي هذه القرحة التي قد آذتني، وأسهرتني، وشوهت صورتي، فأريد أن تعالجها، قال: بماذا؟ قال: بما شئت، قال: بنصف مالك، قال: نعم، فأعطاه نصف ماله على أن يعالج هذه القرحة، فما زال هذا الطبيب به يعالجه حتى شفيت هذه القرحة، فذهب التاجر ينظر وجهه في المرآة فوجد القرحة قد زالت، ولكن بقي أثرها سواداً يشوه صورته، فرجع إلى الطبيب، فقال: لازال السواد باقياً، قال: ما على هذا قاولتك، ولكن قاولتك أن يزول الألم وقد زال بالكلية، فما زال يكلمه حتى اتفق معه على أن يزيل أثر القرحة بالنصف الثاني من ماله! فعالجه الطبيب حتى زال أثر هذه القرحة، فلم يبق معه مال، ثم قال له الطبيب: إنني لم أرد مالك، فأنا أزهد الناس به، وأغنى الناس عنه، وهاأنت تراني ما براني، وأضعف جسدي، إلا كثرة التأمل والتفكير في أمر هذه الدنيا وما بها، ولكنني أردت أن أعرف قدر نفسك عندك وقدر مالك، فقد عرفت أن نفسك أغلى عليك من مالك، قال: نعم، قال: فمن أي دين أنت؟ قال: من دين الإسلام، قال: وما دين الإسلام؟ فذكر له الإسلام، وأن المؤمنين والمسلمين يؤمنون بالدار الآخرة، والبعث بعد الموت، إلى غير ذلك، فتعجب هذا الرجل منه! وقال: إنني وأنا رجل لا أؤمن بهذا، أعجب ممن يبالغون في جمع الأموال! ويقبلون على الدنيا، ويجعلونها مرادهم وهمهم! فكيف وأنت تؤمن بدار الآخرة غير هذه الدنيا تشتغل بمثل ذاك؟! فرجع الرجل متعظا مزدجراً.
المقصود: أن الإيمان بالموت، وتذكر ما يصيب الميت، هذا أمر مشترك بين جميع أمم الدنيا، ولا يكفي، بل بالنسبة للمسلم ينبغي أن يربطه بأمر الدين، والتوحيد، والدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله فيكون الموت مثلاً سبباً في إقباله على الجهاد، وقتاله للكفار، لا يخاف لأنه يرى أن الموت آتٍ لا محالة، وأن بعد الموت بعثاً.
ولهذا قال بعض السلف: [[إن الله تعالى لم يخلق الخلق للفناء، وإنما خلقهم للبقاء، وإنما هم ينتقلون من دار الضيق إلى دار السعة]] فيجب أن يكون ذكر الموت سبباً للإنجاز، لا سبباً للقعود، لا معنى أن يقول الإنسان: الموت آتٍ ولهذا أقعد عن طلب الرزق، لا اطلب الرزق وتاجر، وإذا اغتنيت، وأكثر الله أموالك، فانفقها في سبيل الله.
ولا معنى أن يقعد الإنسان عن طلب العلم ويقول: الموت آتٍ، لا، اطلب العلم، وتعلم، وعلم، واعمل حتى تدعى كبيراً في ملكوت السماوات، أما مجرد النياحة على النفس فهذا لا ينفع.(105/14)
موعظة القرآن
الرابع من المواعظ: موعظة القرآن.
وهو كلام الله عز وجل الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] والعجب في أمر الناس أن الإنسان ربما سمع كلام واعظ، أو داعٍ، أو قارئ، أو منشدٍ فانهلت دموعه! وربما يسمع كلام الله عز وجل فلا يحرك منه ساكناً! وربما يسمع أبياتاً من الشعر فتعجبه فيحفظها، ويطلب إعادتها، ويسمع القرآن فلا يهتز له وجدان! قال هارون الرشيد لـ ابن السماك وهو زاهد، واعظ، مشهور، قال: عظني، قال له: " كفى بالقرآن واعظاً، والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:6-9] ".
فوعظه بموعظة قرآنية تناسب ما هو عليه، لأنه كان خليفة، فذكره بأحوال أهل التمكين والرياسة من قبله، وكيف صارت أمورهم إلى ما صارت إليه! ولهذا فالقرآن موعظة للجميع، هو موعظة للملوك، وبأحوال ما كان عليه الملوك من قبل، وما آلوا وصاروا إليه، وموعظة للسوقة، وموعظة للعلماء والجهال، وللأغنياء والفقراء، وللمُفْرِطِين والمفَرِّطِين، وللرجال والنساء، فهو جماع الخير، وأُسّه وأوله وآخره، وعلى طالب الهدى أن يقبل على القرآن الكريم فهو حبل الله الممدود، الذي من تمسك به نجا ووصل، ومن تركه هلك وانقطع.
يسأل كثيرون يقولون: نسمع المواعظ فما علاج فساد قلوبنا؟! يبدو أن أعظم هدية يمكن تقدم لهم أن يقال: اجعلوا للقرآن حظاً من أوقاتكم بمفردكم، وأقبلوا على القرآن، ورددوا آياته، وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا.(105/15)
ذكر الجنة والنار
ومن المواعظ لله تعالى في قلب ابن آدم ذكر الجنة والنار، فإنهما المصير والقرار، قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] من شاء آمن ومن شاء كفر، ولكن عليه أن يعلم أن هذا الاختيار، وهذا القرار، له ما بعده، ولهذا أعقب بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] ثم قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:30-31] .
نعم، إليك الاختيار، ولكنه اختيار أنت مسئول عن عواقبه، وليست المسألة صفقة تجارية، غايتها أن تخسر شيئاً من المال، ولا المسألة مغامرة يمكن أن تموت فيها، لا، بل هي الجنة أبداً، أو النار أبداً ربح النفس أو خسارتها، وأي خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه التي بين جنبيه! قال تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى:45] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أوقد على النار ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة} رواه مالك والترمذي وغيرهم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والحديث في مسلم: {يؤتى بجهنم يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعين ألف ملك يجرونها} .
أي: جسم يتحمل هذا العذاب الشديد! هذا الجسم الرخو، اللين، الغض النظيف، الذي تحاذر منه النسمة الحارة، الألم البسيط، لا طاقة له بمقاساة أهوال النار والسعير، تقول: هذا حديث قد يصح وقد لا يصح، أقول لك: هو حديث صحيح، وفي القرآن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:36-37] تسمع هذه الآية كأنك تسمع أصوات تضاغيهم في النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان:4] .
وبالمقابل الاختيار الآخر عاقبته الجنة، أدنى أهل الجنة منزلة -كما في الصحيح- من له الدنيا وعشرة أمثال الدنيا، فإن لك الدنيا وعشرة أمثالها: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:33-35] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56] نعيم، وحرير، وصحاف، ودر، ونعيم ما تجلى لقلب بشري، أو دنا منه فكر! من الناس من يذكر الجنة ومن يذكر النار، ولكنه يذكرها ليبكي فقط، فإذا ذكرت النار بكى وأعول، وتعوذ بالله منها، وإذا ذكرت الجنة بكى وسأل الله تعالى الجنة، ولاشك أن هذا وذاك مشروع، فإن الله تعالى ذكر النار لنتعوذ منها، وذكر الجنة لتسألها كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من النار، ولما قال الأعرابي: {يا رسول الله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ! ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حولهما ندندن} فهو يسأل الله تعالى الجنة ويعوذ به من النار.
ولكن تأمل في منهج القرآن في ذكر الجنة والنار، تجد أن ذكر الجنة والنار غالباً يكون في سياق الأوامر والنواهي، فيذكر الأمر ثم يتوعد على تركه، ويذكر النهي ثم يتوعد على فعله، فيعد المؤمنين ويوعد المخالفين، وينبغي للعبد أن يدرك أن ذكره للجنة والنار ينبغي أن يكون كذلك، فلا معنى لأن تبكي عند ذكر الجنة والنار وأنت ترابي، أو تبكي وأنت تسرق، وتظلم، وتكذب، فأي شيء في هذا! إذا لم يكن ذكر الجنة والنار واعظاً يردعك عن المعصية، ويحثك على الطاعة، فأي معنى لحقيقة الإيمان في قلبك إذاً، نعم نحن لا نحجر واسعاً، رحمة الله تعالى واسعة، والأمر كما قيل: ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أنثني عن صولة المتهددِ وإني وإن أوعدته أو وعدته لمنجز إيعادي ومخلف موعدي فإن الله تعالى قد يعفو عن الذنب، لكن ما الذي أدراك أنك ممن عفا الله تعالى عنهم؟! ما الذي يؤملك أن تكون ممن أخذهم الله تعالى بذنوبهم؟! إما لأنك تهاونت بالذنب، أو لأنك أصررت عليه، أو لأنك كنت بموقع لم يكن منك مقبولاً بحال، أو لغير ذلك من الأعمال، أو لأنه ليس لديك أعمال صالحة تكافئك، ما الذي يؤملك أن يختم الله تعالى لك بخاتمة سوء، على معصية فعلتها، أسررت بها أو أعلنت؟!(105/16)
معرفة الله عز وجل
أولها وأعظمها: معرفة الله -جل وعلا- فكيف يعصي الله تعالى من عرفه وهو يعلم أنه مطلع عليه؟! كيف يخالف أمره وهو يتقلب في نعمته؟! كيف يخالفه إلى معصيته وهو يعلم أنه صائر إليه واقف بين يديه؟! فيا عجباً كيف يعصى الإله؟! أم كيف يجحده الجاحدُ؟! ولله في كل تحريكةٍ وفي كل تسكينةٍ شاهدُ وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه الواحدُ أسماؤه تعالى، وصفاته، وأفعاله، منها ما يوجب الخوف منه فهو الجبار، المنتقم، القوي، العزيز، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فيتذكر العبد أن الله -تعالى- شديد العقاب، جبار يأخذ من عصاه أخذ عزيز مقتدر.
ومن أسمائه، وصفاته، وأفعاله، ما يوجب الرجاء فيما عنده، فهو سبحانه الرحمن الرحيم، وتعرف إلى عباده بذلك، فالمسلم يقول في كل مناسبة: بسم الله الرحمن الرحيم، وهو الغفور الودود، فلا ييأس من رحمة الله تعالى قط {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] .
ومن أسمائه، وأفعاله، وصفاته، ما يوجب محبته لإحسانه إلى خلقه، وتعطفه، وتحننه إليهم، وحلمه وصفحه عنهم، وعدم معاجلته لهم بالعقوبة، بل هو سبحانه ينزل عليهم من الخير، والبر، والعطاء، في الوقت الذي ترتفع إليه سبحانه منهم المعاصي والذنوب! ولهذا جاء في الحديث القدسي: {إني والأنس والجن لفي نبأ عجيب أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي! خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد} .
فإذا عرف الإنسان ربه بأسمائه، وصفاته، وأفعاله؛ اجتمع في قلبه محبة الله تعالى فلا مكان في قلبه للعشق الحرام، وخوفه سبحانه! فلا مكان في قلبه لخوف غير الله، ولا مكان في قلبه للمعاصي الكبار، وهو يخاف الله تعالى، واجتمع في قلبه الرجاء فيما عنده، فلا ينقطع حبل رجائه بربه، فيجتمع الحب والخوف والرجاء، ولهذا قال بعض السلف: [[من عَبَدَ الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله تعالى بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله تعالى بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله تعالى بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد]] .
ليس العجب من الكافر الذي لا يعرف الله تعالى أن يعصيه، بل العجب كل العجب من المؤمن العارف بربه الذي يقرأ في القرآن أسماء الله تعالى، وصفاته، ويردد صباح مساء قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:22-24] ثم يخالف إلى معصية الله تعالى! 1- لماذا الحق نتركه والباطل نفعله؟ سأل بعضهم: لماذا اعتقادنا صحيح، وفعلنا بطئ؟! نعرف الحق ونتركه، ونعرف الباطل ونفعله؟ فأجاب بعض أهل العلم أن ذلك لثلاثة أسباب: أولها: رؤية الهوى العاجل، والشهوة الحاضرة، فإنها تطغى على القلب حتى تشغل الفكر عن التفكير فيما يجنيه الفعل من العواقب الوخيمة.
الثاني: التسويف بالتوبة، ولهذا قال بعض السلف: [[أنذرتكم سوف]] سوف أقوم، سوف أعمل، سوف أصوم، قال الله تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] التمني: الأمل {يكبر ابن آدم، أو يشب ابن آدم، وتشب معه خصلتان، حب الدنيا، وطول الأمل} .
يريد الفتى طول السلامة جاهداً فكيف يرى طول السلامة يفعل التسويف: وما حال المسوف إلا كحال إنسان خرج وهو في سن الأربعين من بيته إلى المسجد، فوجد في الطريق شجرة، فقال: أقطعها لأزيلها عن طريق الناس، فحاول فوجدها صعبة، فتركها، وقال: أعود إليها غداً، ونسي هذا الإنسان أنه إذا عاد إليها غداً سيجد أن قوته قد ضعفت، وأن الشجرة زادت قوة، ورسوخاً، وعمقاً في التربة.
فهكذا المعصية إذا تركتها اليوم ولم تتب منها الآن، وقلت: أتوب غداً؛ فأنت غداً إيمانك يضعف، والمعصية تترسخ وتتعمق في قلبك، ويعز عليك تركها.
السبب الثالث: رجاء الرحمة: فنجد العاصي يقول: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب، وأن عذابه غير مأمون، فإنه سبحانه وتعالى شرع قطع اليد الشريفة في خمسة قراريط، فما يؤملك أن يعذبك غداً في الدار الآخرة! تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درك الجنان بها وفوز العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحدِ المسرف على نفسه يقول: ينبغي أن يذكر وهو يقول: ربي غفور رحيم بقول الله تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] وقول الله عز وجل عن الصالحين الصادقين أنهم كانوا يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] وقولهم: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] يعني خائفين من عذابه عز وجل، وجلين من عقوبته، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27-28] .
فلمن خلقت النار؟ ولمن نصب الصراط؟ إن من خاف في الدنيا أمن في الآخرة، ومن أمن في الدنيا خشي عليه أن يطول خوفه يوم الحساب، ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} {وأَمَا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] .
2- معنى إحصاء أسماء الله تعالى: من الناس من قد يعرف أسماء الله عز وجل فلو طلبت منه أن يعدها عليك لعدها، ولا ينكر شيئاً منها، ولكنها لا تؤثر في حياته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} وقد جاء عَدُّ هذه الأسماء في حديث عند الترمذي وغيره، ولكنه ليس بقوي، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} ليس المقصود من عدها فقط، فإن الإنسان قد يحفظ القرآن، وقد يحفظ أسماء الله الحسنى، ومع ذلك كم قارئ للقرآن والقرآن يلعنه! ولكن المقصود بإحصائها أمر وراء ذلك، فمن إحصاء أسماء الله -تعالى- أن يحفظها ويعرفها، ومن إحصاء هذه الأسماء أن يعرف معانيها، فلو قلنا له: ما معنى القدوس؟ ما معنى السلام؟ ما معنى المؤمن؟ ما معنى المتكبر؟ ما معنى المهيمن؟ لعرف.
ومن إحصائها أن يؤمن بذلك إيماناً حقيقياً لا تحريف فيه، ولا تعطيل، ولا تغيير، ولا تبديل، ومن إحصائها أن يستحضرها في قلبه، وخاصة عند الطمع، والرغبة، أو الرهبة، أو عند الطاعة، أو المعصية فيستحضرها عند الطاعة ليقبل عليها، ويستحضرها عند المعصية فينكف عنها.
ومن إحصاء أسماء الله تعالى أن يدعو الله تعالى بها: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] فيقول يا رحيم! ارحمني، يا غفور! اغفر ليَ، وهكذا.
هذا وإن كان ينبغي أن لا يدعو إلا بما ثبت من الأسماء.
هذا واعظ الله عز وجل في قلب ابن آدم، فكيف يعصي الله من لله تعالى في قلبه تعظيم؟! وكيف يقصر في طاعته من يعلم أن الله تعالى يسمع ويرى؟! ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217-219] فإذا تذكر العبد أن الله تعالى يراه {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] .
إذا تذكر أن الله تعالى يراه في الطاعة صبر عليها، وعند المعصية أعرض عنها، وعند الابتلاء صبر طمعاً في رضوان الله جل وعلا، وأنت ترى الإنسان في هذه الدنيا لو كان يعاني أمراً من أمور الدنيا في وظيفة أو عمل، ثم وجد أن الرئيس ينظر إليه، وهو يتعب في هذا العمل، يحصل في قلبه فرح، وطرب، وانتعاش، ويحصل في نفسه سعادة أن الرئيس، وهو بشر مثله، اطلع عليه وهو يعاني أمراً من الأمور، ولو أن موظفاً عرضت عليه رشوة فرفضها، ثم اطلع عليه رئيسه على هذا الأمر، وعلم به لأصابه من السرور، والنعيم، والحبور شئ كثير، فكيف بالعبد إذا علم أن الله تعالى يراه والمعصية تناديه، وينكف عنها، ويقول: إنني أريد ما أريد لله تعالى؟(105/17)
الأسئلة
.(105/18)
حكم استقدام اللاعبين الأجانب
السؤال
موضوع استقدام اللاعب الأجنبي الذي ربما يكون غير مسلم، وما يسمى بالاحتراف حيث أن قلة من المشايخ الذين أشاروا إلى ذلك، مع أني أعتقد أن هذا الأمر من الأمور الخطيرة على الشباب؟
الجواب
كنت في الواقع تحدثت عن هذا الموضوع في المجلس السابق، لكن ربما كان في آخر الحديث فلم يصبه قدر كافي، وأحيل الأخ بالرجوع إلى ذلك الموضوع، وأيضاً لعل هذا الموضوع يكون مجالاً لأن يتناوله بعض الإخوة من الخطباء، وطلبة العلم، لعله أن يتم إعادة النظر في هذا القرار، كما تم من قبل إلغاء تلك الدورة التي أقامتها رعاية الشباب، واستضافت بها رجلاً مشهوراً منصراً يسمى بوب شارتول للإشراف على أطفال المسلمين من سن الثانية عشر إلى الثامنة عشر أو قريباً من ذلك، فلعله أن يحدث هنا كما حدث هناك، بفضل الله ثم بفضل جهود المخلصين الذين يبذلون ما يستطيعون في هذا السبيل.(105/19)
إلى الغارقين في النوم
السؤال
كثيرٌ من الشباب يمضون أوقاتهم في النوم خاصة في الإجازة الصيفية، أو حتى في الإجازة الأسبوعية وفي الأمور المباحة، فما رأيك في ذلك؟
الجواب
النوم لا ينبغي للإنسان أن يجعله هو همه إلا بقدر ما يتزود به للعمل الصالح، هو يعتبره محطة للتزود؛ ولهذا كانوا يعتبرون نومهم من عملهم، يتزودون به، يتقوون به على العبادة، أو الأعمال الصالحة، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه لـ أبي موسى: [[إني أقوم وأنام، وأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي]] .
يعني احتسب في النوم من الأجر مثلما احتسب في القيام والعبادة، لأن النوم حينئذٍ يتقرب به إلى الله تعالى لتقوي على طاعته حتى فسر بعضهم قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] قال: المقصود بالممات هنا الموت الحقيقي، والموت الذي هو النوم أيضاً، أنه لله عز وجل لأنه ينام ليتقوى، مثل أن ينام أول الليل ليقوم آخره، أو ينام في القيلولة ليتقوى على طلب العلم، أو على العبادة، فلا شك أنه حينئذٍ مأجور.
أما الإنسان الذي يتقلب في فراشه يبحث عن النوم، فالغالب أن هذا الإنسان ليس في قلبه هم يشغله ويحدوه، ويدعوه إلى العمل الجاد المثمر.
وختاماً: أسأل لله تعالى أن يرزقني وإياكم العمل النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما أعطانا قربة وزلفى إليه إنه على كل شيء قدير.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرما ولا تهنا، واعِنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا، وظاهرنا وباطننا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم استعملنا فيما يرضيك، اللهم جنبنا بفضلك يا حي يا قيوم يا رحمان يا رحيم جنبنا مساخطك ومعاصيك، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم اجعل ما علمتنا وأسمعتنا حجة لنا لا حجة علينا، اللهم أحيي قلوبنا بذكرك وشكرك وطاعتك، اللهم خذ بأيدينا إلى ما يرضيك، اللهم اجمع شتات قلوبنا.
اللهم وحد على الخير صفوفنا، اللهم أبرم للمؤمنين أمراً يعز به من أطاعك حتى لا يكون أحدٌ أعز منك، ويذل به من عصاك حتى لا يكون أحد أذلك منك، اللهم ألحظ بعين رعايتك وعطفك ولطفك إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم أنزل عليهم من سكينتك ونصرك يا حي يا قيوم ما تؤمنهم به من خوف، وتشبعهم به من جوع، وتكسوهم به من عري، اللهم وأنزل على عدوهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
يا حي يا قيوم هذا الدعاء ومنك الإجابة، اللهم إنا ندعوك ونحن نعلم أننا لا نستحق الإجابة، لكننا نحن نعلم أيضا أنك أنت مجيب الدعوات، وقاضي الحاجات، تجيب دعاء المضطرين، حتى وإن كانوا بالإجابة غير جديرين، فيا قيوم السماوات والأرض لا ترد دعاءنا، ولا تخيب رجاءنا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(105/20)
معنى حديث: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
السؤال
في الحديث القدسي، قال الله عز وجل: {لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل} ثم قال إلى آخر الحديث {فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده، ورجله} يقول: ما معنى هذا الحديث؟
الجواب
معناه بينه النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى، قال الله عز وجل: {فبي يسمع وبي يبصر} أي: إذا أحبه الله عز وجل جعله مستعملاً في طاعته، فمن علامات حب الله تعالى للعبد أن يوفقه للصالحات يستعمله في طاعته، فلا يسمع إلا ما يرضي الله، ولا يرى إلا ما يرضي الله، ولا يمشي إلا إلى ما يرضي الله، ولا يبطش أو يأخذ بيده إلا ما يرضي الله عز وجل فهذا هو معنى الحديث.(105/21)
الإسلام لا يعرف الحدود الجغرافية
السؤال
هناك بعض الناس والشباب يذهبون إلى خارج المملكة مع وجود قرى في الداخل بحاجة إلى طلبة العلم والعلماء؟
الجواب
الإسلام لا يعرف الحدود الجغرافية والسياسية فبلاد المسلمين واحدة وطني كبيرٌ لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا أنا عالميٌ ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي ودعوة الإسلام والتوحيد ما نزلت للمملكة وإنما نزلت للبشرية كلها، ولهذا أنا أدعو الإخوة إلى أن يحملوا دعوة التوحيد والإيمان إلى الناس كلهم، وعلى الأخص إلى المسلمين الذين هم أحوج ما يكونون إلى تصحيح دينهم وإيمانهم، وتجريد توحيدهم ودعوتهم إلى التزام السلوك المستقيم، سواءً في ذلك الناس الموجدون في القرى هنا والذين يغلب عليهم الجهل، أو الموجودون في بلاد أخرى أو غير ذلك، ولكن على الإنسان أن يدعو إلى الله تعالى بقدر ما يستطيع، وأن يضع نفسه في الموضع المناسب.(105/22)
التعامل مع المجلات الفاسدة
السؤال
ما موقف الشاب من مجلة فاسدة، يوجد عليها صورة امرأة سافرة، ولكن يوجد بها مواضيع لا توجد بها في مجلات أخرى من حيث أنها مواضيع اقتصادية، أو سياسية، أو علمية أو غيرها؟
الجواب
يعني هنا ممكن أن يجتزأ هذا الموضوع، ويأخذه ويحتفظ به ويتلف المجلة.(105/23)
عجيب أمر بعض الناس
السؤال يقول: من أعجب الأمور أن يفتح محبو الشهوة من الناس هنا قلوبهم وبيوتهم للبث المباشر!! بعد أن كانت قلوب الكثير منهم قد بلغت الحناجر قبل سنين حينما حصلت أحداث الخليج؟ أيها الإخوة هل أمنَّا مكر الله، وهل زال عنا الخطر بانجلاء الخطر العراقي، إنني أتساءل عن المسافة الزمنية بين أقراص البث المباشر وأقراص صافرات الإنذار، فالجامع بينهما أن كلاً منهما في أسطح البيوت، أحدها نذير خطر على الأجسام، والآخر نذير خطر على الدين والأخلاق.
إنني أخشى أن نكون ممن قال الله -تعالى- فيهم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام:44] .
الجواب
هذه نصيحة من أحد الإخوة، ونسأل الله تعالى أن تجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية.(105/24)
التوبة من المعصية ثم الرجوع إليها
السؤال
أنا شاب في التاسعة عشر من عمري، وأنا ولله الحمد أعد من الشباب الصالح، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولكنني قد زامنت معصية منذ بضع سنين، كلما تركتها رجعت إليها، وأعزم على التوبة، واسمع كلام الوعاظ فتزداد عزيمتي، ثم بعد أيام تطول أو تقصر أعود إليها فأسرع إلى ذلك، فبماذا تنصحني؟
الجواب
أولاً: ينبغي عليك ألا تيأس من روح الله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
وقال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] فعليك أن تتوب مرة أخرى وثانية، وثالثة، وعاشرة، ومن تاب، تاب الله عليه، {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربهما تاب لله عليه} وربما يقبضك الله تعالى على توبة.
فإن الشيطان يأتي أحياناً لبعض الشباب ويقول: لا داعي للتوبة وأنت تعرف أنك ستنقضها! نقول: لا، بل تب ولعلك ألا تنقضها، وفي الصحيح {أن رجلاً من بني إسرائيل أسرف على نفسه -عمل ذنباً- ثم قال: ربِّ إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم فعله أخرى، فقال: ربِّ! أذنبت فاغفر لي، فغفره الله له، ثم فعله ثالثة، فقال: ربِّ! أذنبت فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب افعل ما شئت فقد غفرت لك} .
لا تقل ربما أكون مثل هذا الإسرائيلي فتسرف على نفسك لا، من يدريك؟ قد يقول الله: لا، لا أغفر لك، لأنك مصر على الذنب، أو لأنك مسرف على نفسك، أو لغير ذلك، أو لأنك عالم، فلا تغتر بحلم الله عز وجل، ولكن تأخذ من هذا الحديث أن تكرار الوقوع في الذنب لا يمنع من تكرار التوبة، وإذا أسرع العبد إلى الذنب ثم تاب، أسرع الله إليه بالقبول، والله -تعالى- لا يرجع في شيءٍ أعطاه الإنسان، فإذا محا عنك ذنوباً سالفات؛ فإنه لا يعيدها في صحيفتك لأنك رجعت إلى الذنب.
ولذلك فإن ما يشاع ويقال: أن من أذنب ذنباً بعد توبة أشد من سبعين ذنباً قبلها، هذا ليس بصحيح! لا يصح لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره، وليس معناه بصحيح أيضاً، بل الذنب بعد التوبة هو الذنب قبلها، ما لم يكن العبد مستخفاً، مستهتراً، مستهزئاً بالمعصية، وبمن عصاه.
أمر آخر عليك أن تعرف: لماذا تقع في الذنب؟ فإن كان وقوعك فيه لجلساء سوء فتجنبهم، وإن كان وقوعك فيه لعمل تعمله، وظيفة أو دراسة، أو غيرها، فحاول أن تغير هذا العمل، وإن كان لأنك تنظر فتجنب النظر، فانظر إلى الباب الذي تأتيك منه الريح، فسده لتستريح، فعليك أن تعلم السبب، فتسعى إلى إزالة هذا السبب حتى ينقطع عنك الداء بالكلية.
أمر ثالث: عليك أن تقاوم ذلك بكثرة الطاعات، فإن الطاعة تقاوم المعصية، والخير يقاوم الشر، والنفس إذا اشغلتها بالخير اشتغلت به، وإلا اشغلتك بالباطل، فعليك أن تكثر من الطاعات، وتشتغل بأعمال البر الصالحة: أولاً: لتشغلك عن المعصية، وثانياً: حتى في حال وقوعك في المعصية لتقاوم أثرها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] إن الحسنات يذهبن السيئات، يذهبنها من صحائف الأعمال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها} فتمحى السيئة بالحسنة التي تكون بعدها، وتذهب الحسنات السيئات وتمحو أثرها من قلبك، فكثرت الطاعة، والصلاة، والذكر، والتسبيح، تمحو أثر المعصية، والسواد الموجود في قلبك، والقسوة، والجفاف، فيكون في قلبك نور، وإيمان، وإشراق.
وتمحو أثرها من حياتك أيضاً فتجد توفيق الله تعالى وتأييده لك إذا أقبلت على الطاعات، ثم عليك -وأظن معصيتك من معاصي الشهوات، مثل الوقوع في العادة السرية أو نحوها، فهي أكثر ما يشتكى منه- فعليك أن تسعى إلى تحصين نفسك بالزواج المشروع، وبذل الأسباب في ذلك بقدر ما تستطيع، فإن لم تستطع فعليك بتناول الدواء النبوي: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} .(105/25)
جمال الإنسان
السؤال يقول: قلت: إن الطاوس أحسن من الإنسان خلقاً، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] ؟
الجواب
نعم الإنسان خلقه الله سبحانه وتعالى في أحسن تقويم من حيث الظاهر والباطن، ولكن ليست زينة الإنسان في شكله كما أسلفت، وإنما الإنسان كرم بإنسانيته، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .
فالله تعالى خلق آدم وأسجد له الملائكة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] مع أن آدم خلق من الطين والملائكة خلقوا من النور، ومع ذلك أسجدهم الله -تعالى- لآدم بإذن الله -تعالى- نفخ فيه هذه الروح {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] فليست ميزة الإنسان في جسمه، ولهذا ليس الإنسان الجميل حسن الصورة، الطويل، العريض، ليس بالضرورة أنه أفضل من ذلك الإنسان القصير، وابن مسعود رضي الله عنه كان صغيراً، حتى أن الريح تحركت به يوماً من الأيام فاهتز، فضحك بعض الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح: {إنهما أثقل في الميزان من جبل أحد} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فليس قيمة الإنسان بطوله ولا بعرضه، ولا بحسنه وجماله، ولا ببزته، ولا بهندامه، ولا بتقاسيمه، ولكن قيمة الإنسان بعقله وقلبه، قيمة الإنسان بدينه، بإيمانه، بعلمه، بتقواه، بورعه، بخوفه من الله عز وجل.(105/26)
علاج القلب الذي لا يتأثر بالمواعظ
السؤال
ما هو علاج القلب الذي لا يتأثر بالمواعظ ولا ينزجر عن النواهي، مع الإدراك والاعتراف بالخطأ؟
الجواب
ابحث عن قلبك في مواطن، فابحث عن قلبك أولاً عند القرآن، فإن وجدت الدمعة تنهل، والقلب يرق فأنت إلى خير، وابحث عن قلبك في المقابر، حينما ترى الموتى، وتتحرك وتنظر القبور، فإن وجدت في قلبك رقة، وإلا فابحث عن قلبك عند المرضى، وأنت تتقلب بينهم، فتسمع أنينهم، وزفراتهم، وصياحهم، وآلامهم، فإن لم يتحرك قلبك فابحث فيه وأنت تنظر في آيات الله تعالى في الكون، وفي النفس، فإن تحرك قلبك وإلا فاعلم أنه لا قلب لك، فاسأل الله تعالى أن يرزقك قلباً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] .(105/27)