تعلق المرأة باللباس والزينة
إن كثيراً من النساء اليوم قد تعلقت قلوبهن بالدنيا وزخارفها، فأصبحت المرأة مفتونة -مثلاً- بملاحقة الموضات في الملابس والأزياء التي تصدرها بيوت الأزياء في العالم، وتعمل من وراء نشرها على تخريب أخلاق الناس، وإفساد مجتمعاتهم، وسلب أموالهم أيضاً، وغالب بيوت الأزياء يمتلكها أناس من اليهود المشهورين بالإفساد، والابتزاز، والتخريب، والحقد على الأمم والشعوب كلها وعلى الأمة الإسلامية بشكل خاص.
ومع هذا فانظري أيتها المسلمة كيف إقبال فتيات المسلمين اليوم على هذه الأزياء والموضات، انظري كيف إقبالهن على تلك المجلات التي ليس لها هدف إلا اطلاع المرأة على أحدث الأزياء والموضات التي تصدر في أوروبا، أو أمريكا أو غيرها من بلدان العالم، أو في بعض البلاد الإسلامية أيضاً، انظري كيف صار افتتان كثير من الفتيات بتسريحات الشعر، وصرف قدر كبير جداً من الوقت في تصفيف الشعر وتلميعه وترتيبه وتقصيصه، ومتابعة أحدث التسريحات في ذلك، والتي أصبحت هي الأخرى لها كتب ومجلات خاصة تعلم الناس وتعلم النساء ما يتعلق بذلك، وأصبحت المسلمة تحاكي الكافرات في تسريحات شعورهن.
فإن كانت الموضة تقصير الشعر سارعت المسلمة إلى تقصيص شعرها حتى لا يبقى منه إلا القليل، وإن كانت الموضة إطالته لبست شعوراً مستعارة تطيل شعرها، وإن كان تسريحه أو تصفيفه بطريقة معينة في أعلى الرأس أو في أدناه أو في أسفله؛ سارعت المرأة إلى هذا أو ذاك مسارعة الذي لا هم له إلا الزينة فقط، وليس من شك أن الزينة جزء من حياة المرأة، وأعني بالذات المرأة المتزوجة، لكن المشكلة تكمن في هذا الموضوع في عدة أمور: الأول: في كون هذا الأمر يأخذ من وقت المرأة أكثره، حتى إنه يصبح لا هم لها إلا أن تلبس ثوباً وتخلع آخر، وقد تستغني عن عدد كبير من الملابس لأن الموضة تعدتها، وتسرح شعرها بطريقة ثم تعدل إلى طريقة أخرى، وتصبغه اليوم بصبغ ثم تعمل على تلافي هذا الصبغ بصبغة أخرى حسب ما تمليه أوضاع المجتمعات الكافرة التي أصبح المسلمون يتلقون عنها، كذلك تفتتن المرأة بالسكن الجميل وبالسيارة الجميلة لزوجها، وبغير ذلك من المظاهر الدنيوية.
وفي هذا يجب أن نعلم أن الله تعالى أباح لنا حداً من هذا، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] وفي صحيح مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق -أي رده- وغمط الناس -أي احتقارهم وازدراؤهم-} فينبغي أن نفرق بين عناية المرأة وخاصة المتزوجة بقدر من التجمل لزوجها وكسب رضاه، ومساعدته على غض بصره وإعفاف فرجه، وبين المبالغة في هذا الأمر مبالغة تصل إلى حد الإسراف، فالإسراف في كل شيء مكروه وممنوع، حتى في أمور الخير، فما بالك بالأمور العادية، إن الإسراف فيها قد يتحول إلى نوع من العبودية لهذه الأشياء.
الأمر الآخر: أن كثيراً من النساء تستخدم هذه المظاهر وهذه الزينة أمام الآخرين، إما من النساء الأخريات، أو من الرجال، أما أمام النساء فغرضها أنها تجعل مجتمعات النساء سواء في الزواجات، أو في الاجتماعات العائلية، أو حتى في المدارس، أو في غيرها؛ تجعلها ميداناً للتنافس والسباق التجاري في هذه الأشياء، وتوجد القدوة للأخريات ببعض الأعمال التي قد لا تكون سائغة ولا مستحسنة من جهة الشرع، وأما إن كانت أمام رجال أجانب فهذه الأمور كلها تدخل في باب التحريم لما فيها من الإثارة وبعث الفتنة في صدور الرجال، فالمرأة تفتتن بهم وتفتنهم أيضاً.
وهذا كله من آثار تعلق القلب بهذه الدنيا، لأن الله تعالى وعدنا بجنة عرضها السماوات والأرض، وفيها من ألوان النعيم للرجل والمرأة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالمرأة المؤمنة بهذه الجنة والتي تعلم أن مصير المؤمنين بعد موتهم إليها -بإذن الله تعالى- لا تبالغ في الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا، وهي تتذكر قول الله عز وجل للكافرين يوم القيامة وهو يحشرهم إلى النار ويوبخهم بقوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأحقاف:20] وقد ورد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه وهو من كبار الصحابة ومن أثريائهم أنه قدمت له وليمة من الطعام في أحد الأيام، فلما هم بأكلها فكر قليلاً ثم تنحى وبدأ يبكي، فجاءوا إليه وقالوا: -رحمك الله- ما يبكيك؟ فذكر رضي الله عنه حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الفقر، وشظف العيش، ثم ما صاروا إليه من الغنى، والترف، والتوسع في المأكولات، والمشروبات، والملبوسات وغيرها، ثم قال: أخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا.
ومن هذا الباب -أيضاً- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر: {أن المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء} فما معنى هذا الحديث؟ ليس معناه والله أعلم أن الكافر له سبعة أمعاء في بطنه، والمؤمن له معي واحد، بل الخلقة هي في الغالب واحدة، والإنسان قد يكون اليوم كافراً وغداً يكون مسلماً، ولا يلزم من ذلك أن تتغير خلقته، وتختلف أمعاؤه بدلاً من كونها سبعة أصبحت واحده، وإنما المعنى -والله تعالى أعلم- أن المؤمن يقتصر في مأكله فيأكل بقدر لأن ما هو فيه من أمور الدين، والإيمان، والعبادة، والإقبال على الله، والطمع في الآخرة، يجعل اهتمامه بالأكل في حدود معينة.
أما الكافر فكل همه هذه الدنيا، ولذلك يأكل بنهم، ويشرب بنهم، ويقضي شهواته بنهم، لأن الفرصة الوحيدة التي يستمتع بها هي هذه الدنيا ولا فرصة له بعدها، فينبغي للمسلمة أن تحفظ قلبها من التعلق بالدنيا وزخارفها.(66/3)
التعلق بالمخلوقات(66/4)
تعلق المرأة برجل
وقد يكون التعلق بإنسان آخر من الجنس الآخر، كأن تتعلق المرأة بزوجها -مثلاً- تعلقاً يصل إلى حد الاستعباد، بحيث يؤثر هذا التعلق على سلوك المرأة حتى تؤثر مرضاة زوجها على مرضاة ربها، وحتى تطيع زوجها في معصية الله عز وجل، من الأمثلة على ذلك أن الزوج قد يكون مبتلىً بسماع الغناء، فالمرأة لشدة تعلقها بزوجها أصبحت توافقه على هذا المنكر، ولا تعترض عليه، وقد يكون مبتلى بمشاهدة الأفلام والتمثيليات التي تنافي الأخلاق، وتنافي الدين، ويُعرض فيها من المشاهد ما يخل بالمروءة، ويخل بالدين، ويخل بالحياء، قليلاً كان أو كثيراً، فنجد أن المرأة توافق زوجها على هذا الأمر، بل إنها قد تعينه على ذلك بمساعدته على تسجيل هذه الأمور، أو تصويرها، أو عرضها، أو ما شابه ذلك.
ونحن نجد أن الله سبحانه وتعالى ضرب لنا المثل بـ امرأة فرعون: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فهي امرأة لكن الله عز وجل رزقها من قوة الشخصية، وقوة الإيمان، وقوة التوكل على الله، والثقة به، ما جعلها تحتقر فرعون وما هو فيه من النعيم والترف، لما ترى عليه من الكفر بالله عز وجل والطغيان، فترفع يديها وهي في قلب هذا القصر العامر لتقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] فهي لا تريد بيت فرعون هذا؛ إنما تريد بيتاً في الجنة، {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11] لم تغتر بمظاهر الدنيا، وزينتها الموجودة في هذا القصر، بل تطلعت إلى ما عند الله عز وجل وهي بذلك تضرب المثل لكل امرأة مؤمنة ألا يكون تعلقها بزوجها سبباً في انحرافها، أو معصيتها لله عز وجل.
وقد يؤدي هذا التعلق بالزوج إلى الانشغال عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن ذكر الله عز وجل فتجد أن قلب المرأة مشغول بهذا الهم حتى وهي تصلي وتركع وتسجد وهذا نوع من استعباد القلب لغير الله عز وجل.
ويزيد الأمر خطورة وفظاعة حين يكون تعلقاً برجل أجنبي، ومع الأسف أجدني مضطراً إلى الحديث عن هذا الأمر وإن كان غريباً على مجتمعاتنا -ولله الحمد- أو على ما يظهر للناس من مجتمعاتنا، لأن كثيراً من الأفلام والمسرحيات التي تعرض نسمع أنها تدور دائماً حول قضايا الحب وتعلق المرأة بالرجل، وكيف تمت هذه العلاقة، وقد يكون الفيلم من أوله إلى آخره أو المسرحية يدور حول هذا، وهذا يفسد من يشاهده -ولعل من يستمعون إلى هذا الحديث لا يكون منهم من يشاهد مثل هذه الأمور- يربي من يشاهده على التقليد لهذه الأشياء، وسلوك نفس المسلك الذي شاهده في هذه التمثيلية أو هذا الفيلم.
فالتعلق بأولئك هو خطر على القلب، وخطر على دين الإنسان، وخطر على دنياه أيضاً، ومن تعلق بشيء فهو يوكل إليه، ومن تعلق بشيء فهو عبد له، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار} وعلى هذا -أيضاً- أقول تعس من الرجال من هو عبد للمرأة، الذي استعبدته شهوته، تعس عبد الشهوة، تعس عبد الوظيفة.
ونقول للنساء تعست عابدة الشهوة، وتعست عابدة أو أمة الرجل، وتعست عبدة الدنيا، أو أمتها التي لا تعلق لها إلا بها، فمن تعلق قلبه بشيء من هذه الأشياء فهو عبد له.(66/5)
تعلق المرأة بالمرأة
من أنواع الأشياء التي قد يتعلق بها القلب تعلق قلب المخلوق بمخلوق مثله، -مثلاً- قد تتعلق أو يتعلق قلب المرأة بامرأة أخرى مثلها، فنجد أن بعض النساء إذا كان بينهن اجتماعات متواصلة في المدارس، والجامعات، وفي العلاقات العائلية، من كثرة الاحتكاك يوجد نوع من الروابط والمودة القلبية بين بعض النساء وبعض، فتجد أن فلانة أصبحت تعيش مع فلانة طيلة وقتها، وتجالسها باستمرار، وتقلدها في حركاتها، وفي مشيتها، وفي طريقة حديثها، وفي أسلوبها، وفي كل شيء؛ حتى في ملابسها، في الخير وفي الشر على سبيل الإعجاب بها، حتى تصبح كأنها نسخة منها؛ تقلدها في كل أمورها ولو لفترة معينة، فإن كانت هذه المرأة صالحة فربما كان هذا سبباً في كونها تقلدها في بعض أمور الخير، وإن كانت ضد ذلك فإنها تقلدها فيما كانت عليه، وهذا التعلق القلبي -أيضاً- هو نوع من تعلق القلب بغير الله عز وجل بدليل أنه قد يجر المرأة -إذا تعلقت بامرأة أخرى مثلها- يجرها إلى تقليدها حتى في الأمور المحرمة، وإلى عدم سماع أي نقد أو ملاحظة عليها، فهي لا ترى فيها إلا الحسنات، لا ترى فيها عيوباً فهذا يجب الحذر منه.(66/6)
التعلق بالوظيفة
من أنواع التعلق -تعلق القلب بغير الله- تعلق القلب بالوظيفة الدنيوية، بحيث تصبح هذه الوظيفة هي هم الإنسان، من أجلها يسعى سواء كانت هذه الوظيفة وظيفة إدارية أم تعليمية أم غيرها، فكثير من الناس اليوم تعلقوا بهذه الوظائف، وأصبح عملهم من أجلها، حتى إنك تجد أن الإنسان -أحياناً- وهو في عمل شريف كالتدريس، أو التوجيه، وقد تكون المرأة معلمة، أو موجهة -وهذه الرسالة رسالة التعليم والتوجيه هي أشرف رسالة في الحياة، والمعلم إذا كان يعلم طلابه الدين والشرع بطريقة صحيحة، فهو من ورثة الأنبياء، لأن الرسل بعثوا ليعلمون الناس، ويرشدونهم، ويدرسونهم- تجدين أن المُدرسة أو الموجهة أو الموظفة تشعر بأنها تؤدي وظيفة وليست تؤدي رسالة، ولست بهذا أقصد التعميم، وإنما أقصد أن من تعلق قلبه بالوظيفة كان كذلك، وإلا فإن ما نسمعه عن كثير من العاملات في هذا المجال مما يبشر بخير كثير إن شاء الله.
فالمرأة المتعلقة بالوظيفة والتي تشعر أن تدريسها هو مجرد وظيفة تأخذ عليها الراتب، لا تكون قدوة حسنة لطالباتها، ولذلك قد تدرس مواداً دينية -مثلاً- وتبين للطالبات اللباس وكيف يجب أن يكون من حيث الستر والسعة، كونه فضفاضاً غير ضيق، وعدم الطيب، وطريقة اللباس، وطريقة الشعر وغيرها، وهي مخالفة لهذه الأشياء كلها وحينئذٍ يصدق عليها قول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ولله در القائل في مثل هذا الصنف: يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً والموبقات لعمري أنت جانيها ويقول أبو الأسود الدؤلي في قصيدة له: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يُقبل إن وعظت ويُقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم فعلى الأخت المسلمة -مدرسة كانت أو موجهة أو مديرة- أن تحرص على أن تكون هذه الوظيفة مجرد وسيلة للإصلاح، وخدمة الإسلام والمسلمين، وتربية النشء تربية إسلامية صحيحة، وهذا هو ما نظنه بالأخوات أو بكثير من الأخوات العاملات في هذا المجال.
إن تعلق قلب الإنسان بالوظيفة يجعله يحرص على الوصول إليها بأي وسيلة ومن ذلك -مثلاً- أن كثيراً من الطالبات لأن قلبها متعلق بمسألة النجاح في الامتحان، ومن ثم التخرج والالتحاق بمعهد أو كلية ونيل الوظيفة أو الشهادة، إن الطالبة لا تبالي بأي وسيلة نجحت، وكثيراً ما نسمع شكاوى من المعلمات وغيرهن من كثرة محاولة بعض الطالبات للغش والتزوير في الامتحانات، وهذا عمل لا شك أنه محرم، وفي الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من غشنا فليس منا} وهذا دليل على أن الغش كبيرة من كبائر الذنوب أياً كان هذا الغش، سواء في البيع، أم في الشراء، أم في المعاملة، أم في الامتحان، أم في أداء الواجبات، أم في غيرها، فالغش بجميع أنواعه محرم في الإسلام، {ومن غش فليس منا} كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا وعيد شديد يدل على أن الغش من كبائر الذنوب.
وما يدفع الطالبة إلى الوقوع في الغش، والتزوير، والتلاعب، إلا لأن الهم أصبح هو النجاح لا غير ونيل الشهادة، ثم الوظيفة، أما لو كانت تشعر بأنها تتعلم لتكوّن شخصيتها، وتتعلم دينها، وتعرف واجباتها، فإنها تدرك أن الغش حينئذٍ لا ينفعها في هذا المجال، بل يضرها، وهو بالتالي يخرج لنا في المستقبل معلمة تخرجت بالغش، ومديرة تخرجت بالغش، وموجهة تخرجت بالغش، وقل مثل ذلك في جميع الأعمال الدنيوية في مجال الرجال، أو في مجال النساء.(66/7)
معانٍ لابد من جمعها في القلب
هذه أمثلة من تعلق قلب الإنسان بغير الله وأما الأمر المطلوب فهو أن يتعلق قلب العبد بالله عز وجل وأن يكون رضا الله تعالى هو أسمى مطلوب في قلب المؤمن، وأن يكون حبه أعظم حب في قلبه، ورجاؤه أعظم رجاء، وخوفه أعظم خوف، لا بد أن تجمع في قلبك ثلاثة معانٍ: أولاً: حب الله تعالى، والله سبحانه هو الذي أنعم على العبد بجميع النعم، فهو المستحق لالحب استحقاقاً كاملاً.
الأمر الثاني: الخوف من الله، لأن الله تعالى قوي شديد العقاب، والمعصية مهما صغرت فأنت لا تنظر إلى صغر المعصية، لكن انظر إلى عظم من عصيت وهو الله تبارك وتعالى، فحري بالعبد أن يخاف الله تعالى.
ولذلك لو عذب الله تبارك وتعالى أهل أرضه وأهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، يقول الشاعر في وصف الله عز وجل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن نُعِّموا فبفضله أو عُذِّبوا فبعدله وهو الكريم الواسع والأمر الثالث: هو الرجاء في الله تعالى بحيث يجمع الإنسان بين حب الله وخوفه ورجائه.
وهذه الأمور الثلاثة لا بد منها، وقد سمعت كثيراً من الشكاوى من بعض النسوة الطيبات في غلبة الخوف على قلوبهن، بحيث تكون المرأة قلقة فزعة مذعورة خائفة أبداً، خائفة من الموت، خائفة من العذاب، خائفة من سوء الخاتمة، كثيرة الخوف، فيغلب عليها هذا الخوف حتى يكدر عليها حياتها، وعبادتها، وقد يفضي بها إلى أنواع من الوسوسة والتنطع المفرط، وهذا يكون بسبب أن المرأة تقرأ كثيراً من الكتب، وتسمع كثيراً من الأشرطة التي تركز على جانب الخوف، فينبغي للمرأة أيضاً أن تقرأ في جانب الرجاء، تقرأ في القرآن الكريم، وتقرأ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الأحاديث التي فيها التخويف والترهيب، وأيضاً الأحاديث التي فيها الرجاء والترغيب حتى يكون عندها توازن واعتدال بين هذه الأشياء.(66/8)
من آثار تعلق القلب بالله(66/9)
عدم التنطع في الدين
وأخيراً فإن من آثار التعلق بالله عز وجل الاعتدال وعدم التنطع في الدين، فإن بعض الناس حين يقبل إلى الله تعالى يغلو في ذلك، ويصاب بأنواع من الوساوس سواء في الطهارة، أم في الصلاة، أم في المعاملة، أم في غير ذلك، وأيضاً الشكاوى كثيرة في هذا الجانب من النساء ومن الرجال، وإن كنت أعتقد أنها في النساء أكثر، فتجد بعض النساء تتعب في الوضوء، ثم تتعب عند التكبير، ثم تتعب في الصلاة، وقد يدخل عليها وقت صلاة العصر -مثلاً- وهي ما صلت الظهر -مع حرصها- بسبب الوسوسة.
وعلى المرأة المسلمة أن تدرك أن الله تعالى يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وإذا عجز الإنسان عن شيء فإنه يسقط عنه وينتقل إلى ما يستطيعه منه، فإذا عجز عن الصلاة قائماً صلى قاعداً، وإذا عجز عن الصلاة قاعداً صلى على جنبه، وإذا عجز عن الطهارة بالماء تطهر بالتيمم -مثلاً- وقل مثل ذلك في سائر الواجبات الأخرى؛ إذا عجز عن شيء انتقل إلى بدله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وعلينا ألا نبغض إلى أنفسنا عبادة الله عز وجل بالتنطع في بعض هذه الأمور، والاستجابة لوساوس الشيطان.(66/10)
العناية بطلب العلم
من آثار التعلق بالله تعالى: العناية بطلب العلم النافع من الكتاب والسنة، فإن القرآن حياة للقلوب، يحيي القلوب كما يحيي المطر الأرض إذا نزل عليها؛ اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فعلى المرأة المسلمة أن تقبل على قراءة القرآن، وحفظه، ومدارسته، ودراسة السنة النبوية والعلم الشرعي، لتعرف ما لا بد لها من معرفته من أمور الدين، وتكون ممن يعبدوا الله تعالى على بصيرة، ولا تشتغل عن ذلك بقراءة الروايات الساقطة، مثل روايات الفتيات، أو الانشغال بقراءة المجلات التي تنشر من المقالات والقصص والأشعار ما لا خير فيه.(66/11)
العناية بالدعوة
من آثار التعلق بالله تبارك وتعالى العناية بالدعوة إلى الله في الوسط الذي تعيش فيه المسلمة، سواء كانت مدرسة تدعو إلى الله في مدرستها أم موجهة تدعو إلى الله من خلال تأثيرها على المدرسات وغيرهن، أم من خلال الدعوة إلى الله في بيتها وبين أقاربها، أم من خلال المجتمعات العائلية في العزائم، والأعراس، وحفلات الزواج وغيرها، أم من خلال بعض الفرص التي تتاح لها كالمشاركة في دروس القرآن الكريم، والمحاضرات الخاصة بالنساء، وما شابه ذلك من النشاطات التي ينبغي دعمها وتشجيعها من قبل الأخوات المسلمات، والحرص على الاستفادة منها في الدعوة إلى الله عز وجل ونشر العلم النافع، ونشر الكتاب الإسلامي، ونشر الشريط الإسلامي، ونشر كل ما يدعو إلى الخير ويحذر من الشر.(66/12)
اتباع نساء السلف
ومن آثار التعلق بالله تبارك وتعالى عناية المرأة باتباع ما كان عليه نساء السلف من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة: كـ عائشة، وخديجة، وفاطمة، ورقية، وزينب، وأسماء، وغيرهن من المؤمنات الأول، وعدم تقليد النساء الكافرات، فإن من أحبت أن تحشر مع عائشة، وأسماء، وخديجة، وحفصة، وفاطمة، فيجب عليها أن تقتدي بهن، ومن أحبت أن تحشر مع فلانة وفلانة من المغنيات، والممثلات، وعارضات الأزياء، والنساء اللاتي يظهرن في الإعلانات، والمجلات، وغيرها؛ من أحبت أن تحشر معهن فلتتشبه بهن، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر: {من تشبه بقوم فهو منهم} .(66/13)
التستر الكامل
ومن آثار تعلقها بالله تعالى أن تحرص على التستر الكامل في جميع بدنها إذا كانت ستخرج من بيتها بحيث يراها الرجال، وفي سنن الترمذي وصحيح ابن خزيمة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {المرأة عورة} وهذا حديث عام أخذ منه بعض أهل العلم أن المرأة كلها عورة، بحيث ينبغي لها ألا تظهر كفيها ولا قدميها ولا شيئاً من بدنها، فما بالك بكثير من النساء وهن يظهرن الأكف وبعض الذراع والقدم وربما بعض الساق، وأحياناً يظهر النحر وبعض الرقبة وبعض الشعر، وكثير من النساء يقللن من الحجاب شيئاً فشيئاً، لا شك أن هذا أمر لا يجوز، وهو مؤذن بأن هذه المرأة التي تقلل من حجابها شيئاً فشيئاً قد تصير إلى أمور لا يرضاها الله تبارك تعالى لها في الوقوع في معصيته، وإيقاع الناس -أيضاً- في تلك المعصية.(66/14)
حرص المرأة على لزوم بيتها
ومن آثار تعلق القلب بالله تبارك تعالى حرص المرأة على لزوم بيتها، والاشتغال بشئونها الخاصة وشئون زوجها، بحيث لا تخرج إلا لمصلحة أو حاجة، فأما المصلحة فكأن تخرج لِتَعَلُّمٍ في مدرسة أو غيرها أو لتعليم، أو لموعظة، أو لدعوة إلى الله تبارك وتعالى أو لغير ذلك.
وأما الحاجة فكأن تخرج لحاجاتها التي لا بد لها منها، ولا يمكن أن يقوم بها غيرها عنها، وحينئذٍ تكون في خروجها متسترة متحفظة لا تتبرج بالزينة، ولا تلبس الثياب الجذابة المثيرة الملفتة للنظر، ولا تكثر من الكلام والمماكسة والأخذ والعطاء مع الرجال لغير أمر يدعو إلى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة لما صفق الرجال قال لهم: {إنما التصفيق للنساء، وأما الرجل فإنه إذا نابه شيء في الصلاة يقول: سبحان الله} وإنما أمرت المرأة بالتصفيق إذا احتاجت إليه، إذا نابها شيء، لأن صوت المرأة مما لا ينبغي أن يرتفع إلا لحاجة، كأن تكون سائلة، أو مستفتية، أو متكلمة في أمور تحتاجها، أما الاستطراد في الحديث والضحك وكثرة الكلام والخضوع بالقول فهذه من الأمور التي لا تجوز، ولا يسوغ للمرأة المسلمة أن تفعله مع رجال أجانب.(66/15)
حياة المرأة كلها تكون موافقة لمحبة الله ورضاه
من آثار تعلق القلب بالله تعالى: أن تكون الحياة كلها على وفق ما يحبه الله ويرضاه، وسوف أضرب لذلك عدداً من الأمثلة التي توخيت في اختيارها أن تكون منطلقة من واقع كثير من النساء، فمن تعلق قلبها بالله عز وجل التزمت بأداء العبادات أداءً شرعياً في الوقت، من الصلاة، والصيام، والحج، وغيرها.
وكثيراً من النساء تجد عندهن تقصيراً في هذه الأمور، قد تؤخر المرأة الصلاة لأدنى سبب، وربما لغير سبب، إما لأنها ذهبت إلى حفلة زواج، أو لأنها جلست تسمر مع بعض قريباتها أو صديقاتها، أو تشتغل ببعض شئونها وواجباتها، أو لأنها نامت فلم تستيقظ، ويتكرر هذا الأمر فتخل المرأة بأداء صلاة العشاء الآخرة، وبأداء صلاة الفجر، وكذلك صلاة العصر لهذه الأسباب، مع ما ورد من التحذير من ذلك، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} أما صلاة العصر فقد صح أنها هي الصلاة الوسطى التي خصها الله عز وجل بقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] .(66/16)
الفرار من الله إليه
إن طاعة الله عز وجل وتعلق القلب به يترتب عليه ثقة المرأة والرجل بالله، وركونهما إليه، بحيث يكون فرارهما من الله إلى الله، كما قال الله عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وقال عن المؤمنين: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك} فالإنسان إنما يفر من الله إلى الله، من خاف من الله فعليه أن يفر إلى الله، لأن الله عز وجل لا مهرب منه: وكيف يفر العبد عنه بذنبه إذا كان تطوى في يديه المراحل إذا كان الإنسان لو خاف من أمير أو حاكم فإنه لا يستطيع الفرار منه لقوة قبضته وسلطانه، فما بالك أيتها المسلمة إذا خاف العبد من الله عز وجل وخاف من بأسه، وسطوته، ونقمته، وعقوبته، أين يفر؟ لا يفر إلا أن يلقي بنفسه بين يدي الله تعالى، ويمرغ جبهته في التراب ويبكي ويخشع لله عز وجل ويسأل الله بصدق أن يرحمه، وأن يثبت قلبه على الدين، وأن يعلمه ما ينفعه في دينه ودنياه، وأن يقيه شر نفسه، وأن يقيه عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات، وغيرها من فتن الدنيا والدين.
هذا ما أحببت أن أشير إليه، وأرجو الله تعالى أن ينفع بهذه الكلمات من قالها ومن سمعها إنه قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(66/17)
الأسئلة(66/18)
إلقاء السلام على الأجانب
السؤال
ما حكم قول السلام عليكم ورحمة الله عند الرجال الأجانب كسائق الأوتوبيس؟
الجواب
لا أرى مثل هذا، لما في ذلك من خوف الفتنة خاصة في هذا الزمان، وخاصة بالنسبة لمن تواجههم المرأة باستمرار، كسائق أو غيره فإن إلقاء السلام كاملاً ومع ما في طبيعة صوت المرأة من الرقة والليونة يلحظ أنه يكون فيه تحريك لقلوب بعض الضعفاء فلا أرى مثل هذا.(66/19)
الذهاب إلى الحفلات المحتوية على غناء
السؤال
ما حكم الذهاب إلى حفلات العرس وفيها طبل وغناء؟
الجواب
في حفلات العرس، رخص لنا نحن المسلمين بشيء واحد وهو الدف، الدف هو الشيء الذي يضرب من جهة واحدة والجهة الأخرى لا يمكن الضرب عليها، فهذا يسمى الدف، وقد رخص فيه في العرس، فإن كانت حفلة العرس فيها هذا الدف وفيها غناء بأصوات جوارٍ، أو نساء لكن لا يسمعهن رجال، بحيث يكون الصوت في مكان معزول ولا ترتفع الأصوات فهذا جائز، أما إن كان فيه طبول وغناء وأصوات مرتفعة وهرج ومرج وقد يكون غناء بمسجل فهذا لا يجوز.(66/20)
الغش في مادة اللغة الإنجليزية
السؤال
يقولون إن الغش في مادة الإنجليزي جائز؟
الجواب
لا، هذا يخالف، فالغش كما أسلفت محرم بكل صوره، فأنت -مثلاً- لا يجوز أن تغش الكافر، وكذلك لا يجوز أن تغش في أي مادة وأنت مطالب وأنتِ مطالبة بضبطها وحفظها.(66/21)
التحدث بين المخطوبين
السؤال
ما حكم مخاطبة الخطيب لخطيبته لأخذ رأيها في مسألة الزواج، يعني على الهاتف؟
الجواب
إذا كان هذا بعد أن حصل موضوع الخطبة، ولم يبق إلا بعض استفسارات عند المرأة تريد أن تسأل عنها وتستوثق منها، فهذا لا بأس به، لكن ما دام لم يحصل العقد فإنها تعتبر أجنبية عنه فتتكلم معه بصوت عادي بعيد عن الخضوع بالقول وبقدر ما تحتاج، فلا تتوسع في الكلام بغير طائل وإن حصل الاستغناء عن ذلك بأن يقوم وليها أو أخوها بالسؤال عن بعض ما يشكل فهذا يكون أسلم وأفضل.(66/22)
رؤيا الأنبياء في المنام
السؤال
ما حكم رؤيا نبي من الأنبياء في المنام؟
الجواب
إذا رأى المسلم النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء في المنام على هيئته المعروفة المحفوظة في كتب السنة فهذه رؤيا حق وهي خير -إن شاء الله- للرائي، فقد قال عليه الصلاة والسلام: {من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي} لكن ينبغي أن يفرق بين ما إذا رأى فعلاً صورة النبي صلى الله عليه وسلم المعروفة؛ أو رأى صورة ليست صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وألقي في روعه في المنام أنها صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو رأيت صورة تعتقد في المنام أنها صورة النبي عليه الصلاة والسلام وهي صورة على صاحبها أثر معصية، أو وصف مخالف لما عهد عن النبي عليه الصلاة والسلام فحينئذٍ لا يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم.(66/23)
عدم التكلم إذا رأى النبي باطل لا أصل له
السؤال
بعض الناس يزعمون أنه إذا رأى النبي عليه ألا يتكلم ثلاثة أيام؟
الجواب
هذا باطل لا أصل له.(66/24)
حلق الحاجبين
السؤال
حكم حلق الحاجبين؟
الجواب
لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للامتثال بالعمل بما علمنا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.(66/25)
مشاهدة المباريات في التلفاز
السؤال
مشاهدة المباريات في التلفاز؟
الجواب
مشاهدة المباريات في التلفاز فيها إضاعة للوقت، وفيها شد للأعصاب، وفيها إشغال للمرأة بأمور ليست من الأمور التي خلقت لها، ولا تحتاج إليها في حياتها الدنيا، ولا في قبرها، ولا عند بعثها، ولا في حسابها، وفيها مدعاة إلى تعلق القلب بهذه الكرة، فإننا نشاهد اليوم أن تعلق القلب بالرياضة من أشد أنواع التعلق، حتى إن هناك من يموت في سبيل الكرة، وقد قرأت يوماً في جريدة الجزيرة مقالاً عنوانه "من ضحايا الكرة" ذكروا فيه عدداً من الناس الذين ماتوا في سبيل الرياضة على مدرجات الملاعب، أو حتى وهم يشاهدون المباريات على شاشات التلفاز، فهذا يدل على مدى تعلق القلب بالكرة، وأن الحب والبغض، والولاء والبراء، والفرح والسخط، أصبح من أجلها عند كثير من الناس، ولذلك فإن مشاهدة الرجل أو الشاب لهذه الأشياء أمر فيه نظر وفيه ضرر، فما بالك باشتغال المرأة بهذا العبث الذي لا طائل تحته.(66/26)
كشف وجه المرأة للضرورة
السؤال
كشف الوجه للضرورة؟
الجواب
كشف الوجه للضرورة جائز إذا اضطرت المرأة إلى كشف وجهها للضرورة، لعلاج أو غيره، فإن ذلك جائز.(66/27)
غسل دم الحيض عن الثوب
السؤال
يقول بعض الناس إن المرأة إذا ارتدت ثوباً أثناء الدورة الشهرية، أو أي ملابس حتى العباءة لا بد من غسلها بعد الاغتسال حتى ولو لم يكن عليها دم؟
الجواب
هذا قول باطل ولا أصل له، ونساء المؤمنين كن يصلين في الثوب الذي يحضن فيه، ولم يكن للمرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا طهرت نظرت إن كان فيه شيء من الدم فتغسله، كما في حديث عائشة: فقالت بريقها هكذا، فمصعته أو قصعته بظفرها، وصلت فيه.(66/28)
مجلات الأزياء التي بدون صور
السؤال
ما حكم استعمال مجلات الأزياء التي لا يوجد فيها صور لأشخاص؟
الجواب
مجلات الأزياء أنواع، فهناك مجلات فيها صور وصور مثيرة، وفيها أزياء محرمة لأنها قصيرة، ولأنها أزياء من أزياء الكفار التي ما عرفها المسلمون في تاريخهم ولا في واقعهم اليوم في البيئات المسلمة، فهذه لا يجوز شراؤها، ولا اقتناؤها، ولا خياطة أزياء على نمطها، أما إن كانت أزياء فقط بدون صور نساء وهي أزياء فيها ستر ومراعاة للضوابط الشرعية في اللباس، فلا بأس بها.(66/29)
قضاء الصلوات الفائتة
السؤال
لقد فاتتني صلوات كثيرة لدرجة أنني لا أحصيها، وقد وعدت ربي أن أؤديها كلها لكنني دائماً أؤجل فما الحكم؟
الجواب
ما أدري ما سبب فوات هذه الصلوات، فإن كان سبب فواتها أن المرأة تركتها متعمدة حتى خرج وقتها يعني كانت تاركة للصلاة -مثلاً- لمدة سنة أو سنتين ثم تابت، فحينئذٍ لا قضاء عليها، بل عليها أن تتوب إلى الله عز وجل مما مضى ولا تعود لمثل هذا العمل وهذه الخطيئة، وتوبتها أعظم من أن تكفر بإعادة الصلوات، أما إن كان فواتها لعذر، فإن المرأة تقضيها بحسب استطاعتها، وإذا لم تستطع أن تحصيها فإنها تقدر عدد هذه الصلوات على سبيل الظن الغالب وتصلي.(66/30)
التعطر خارج البيت
السؤال
هل العطور محرمة؟
الجواب
أما العطور يعني التطيب عند الرجال الأجانب أو لمن سوف تمر بهم فلا شك في تحريمه، وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وهو حديث حسن أنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} يعني كذا أي زانية، وهذا دليل على التحريم.(66/31)
طاعة الوالدين في المحرم
السؤال
أرغمني والدي على تسجيل بعض الأفلام وإذا لم أطعه فإنه يغضب؟
الجواب
إذا كانت هذه الأفلام تحتوي على محرم -وهذا هو الغالب- فلا يجوز طاعة الوالد في ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وينبغي أن تتلطف الفتاة في معاملة والدها وإقناعه والاعتذار منه، فإن غضب فحينئذ غضبه في غير محله، وموقف الفتاة مشروع، لكنني أنصح مرة أخرى بالتلطف واستخدام الحكمة، والأسلوب اللين، والبعد عن الإثارة، واستخدام القسوة، خاصة مع الوالدين.(66/32)
تسجيل القرآن على أشرطة الغناء
السؤال
ما الحكم إذا أخذت الأشرطة من إخوتي ويوجد بها أغاني فأقوم بتسجيل القرآن عليها؟
الجواب
عمل مشروع، وطيب، لأن هذه الأشرطة لو أتلفت ما دام فيها أغاني كان ذلك حسن، فإذا سجل عليها القرآن كان هذا حفظاً للمال والاستفادة منها.(66/33)
إظهار وجه المرأة بدون زينة
السؤال
ما حكم إظهار الوجه بدون زينة؟
الجواب
إظهار الوجه بدون زينة للنساء أو للمحارم جائز، أما للرجال الأجانب عن المرأة فهو لا يجوز.(66/34)
زكاة الذهب الملبوس
السؤال
ما حكم زكاة الذهب الملبوس، الحلي الذي تستخدمه المرأة هل فيه زكاة أم لا؟
الجواب
في المسألة قولان لأهل العلم مشهوران، أحدهما القول: بأنه لا زكاة فيه، وهذا قول أكثر أهل العلم، والقول الثاني: أن فيه زكاة إذا بلغ نصاباً، ونصاب الذهب تقريباً إحدى عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنية فيما أذكر، والأولى بالمرأة أن تزكي حليها إذا بلغ نصاباً، لما ورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى امرأة مع ابنتها وفي يدها مسكتان من ذهب، فقال: أتؤدين زكاة هذا؟ فقالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سواران من نار؟ فألقتهما وقالت: هما صدقة لله ورسوله، والحديث قال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد.(66/35)
صلاة التسابيح
السؤال
ما هي صلاة التسبيح وهل هي صحيحة؟
الجواب
صلاة التسبيح هي صلاة وردت عن العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {ألا أحبوك} ثم ذكر له صلاة فيها قراءة سور معينة، وتسبيح معين، خلاف الصلاة المعهودة، وقد اختلف العلماء في تصحيحها أو تضعيفها، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن الأحاديث فيها لا تثبت، وخاصة لمخالفتها لهيئات الصلاة المعروفة.(66/36)
سماع الأغاني
السؤال
سماع الأغاني بغرض التسلية ما حكمه؟
الجواب
لا يجوز، وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف} والحر يعني الزنى، والحرير معروف، والمعازف هي آلات الغناء، فقوله: يستحلون؛ دليل على أنه محرم من استحله عوقب، لذلك ذكر في آخر الحديث أن الله تعالى يخسف بهم، ويحول آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة، والأغاني المعروفة اليوم كلها محرمة لأن فيها موسيقى، والموسيقى من أنواع المعازف المحرمة، ولأن هذه الأغاني تتردد بين الحب، والغرام، والعشق، وغير ذلك من المعاني الفاسدة، فهي محرمة لهذا ولذاك.(66/37)
عمليات التجميل
السؤال
ما حكم عمليات التجميل الضرورية؟
الجواب
أما التجميل بالأشياء العادية مثل الكحل وبعض المساحيق الطاهرة فهو جائز، أما عمليات التجميل فلا أعلم في حكمها شيئاً، وأظن أن السؤال يعني العمليات الجراحية التي يقصد بها التجميل.(66/38)
كشف وجه المرأة في خارج البلاد
السؤال
هل يجوز كشف الوجه مع التحجب في خارج البلاد إذا خرجت المرأة للضرورة، مثلاً امرأة خرجت للسفر للعلاج إلى أي بلد من بلدان العالم، هل يجوز لها كشف الوجه؟
الجواب
إذا علم أن كشف الوجه حرام فالحرام لا يكون حلالاً في بلد من البلدان.(66/39)
التحذير من بعض التسريحات
السؤال
أرجو منك التوسع في ذكر بعض التسريحات التي تقوم بها بعض النساء؟
الجواب
الحقيقة هذا ليس من اختصاصي وأنتن أدرى بهذا، ولكن أقول: أن كل تسريحة عُلم أنها جاءت من قبل الكفار وانتشرت بيننا على أنها من عاداتهم، فلا يجوز للمسلمة أن تعملها، والنساء في كل وقت ينتشر عندهن أنواع من التسريحات يسمينها بأسماء؛ إما بحسب شكل التسريحة، أو بحسب المرأة التي نشرتها بين الناس وعرفت بها، فهذه تُتَجَنَّب، سواء كانت تسريحات نقلت عن الكفار والكافرات أم عن الفساق والفاسقات مثل الممثلات والمغنيات وغيرهن.(66/40)
الصلاة بالخفين على الزرع
السؤال
ما حكم صلاة المرأة في مكان به زرع وهو مكان طاهر بخفيها؟
الجواب
الصلاة في هذا المكان جائزة ما دام طاهراً، فكل مكان طاهر فالصلاة فيه جائزة، والصلاة بالخفين -أيضاً- جائزة ولا شيء فيها.(66/41)
المساعدة في رفع الظلم
السؤال
ما حكم السكوت على الظلم مع المعرفة بالحقيقة؟
الجواب
السكوت على الظلم لا يجوز، وفي حديث البراء بن عازب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، منها: نصرة المظلوم، وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا قدست أمة لا يأخذ للضعيف فيها حقه غير متعتع} وفي حديث ثالث: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره} وكلها أحاديث صحاح، فإذا عرفت -مثلاً- مدرّسة، أو طالبة، أن زميلة لها وقع عليها ظلم، ونسب إليها عمل ما قامت به، أو ظن بها ظن سوء، أو عوملت معاملة ما تستحقها، فإنها يجب عليها أن ترفع الظلم بقدر ما تستطيع، فتكلم الإنسان الذي ظلمها أن فلانة لم يحصل منها هذا الشيء بل حصل من غيرها، أو تكلمها بالحقيقة التي تعلمها، فإن استطاعت رفع الظلم بهذا فبها وإلا فترفعه بما استطاعت من الوسائل الأخرى.(66/42)
كلام المرأة مع الأجانب
السؤال
لقد قلت: إن صوت المرأة عورة، فما الحكم في إظهار صوتها للرجال؟
الجواب
لم أقل: إن صوت المرأة عورة، هذا اللفظ لم أقله، إنما ذكرت أنه لا يحسن بالمرأة أن تتوسع في الكلام والأخذ والعطاء مع الرجال الأجانب لغير حاجة، كما إذا كانت -مثلاً- في بيع أو شراء، أو أحاديث ليس من ورائها مصلحة، أما محادثة المرأة للرجل في شأن سؤال أو جواب على سؤال أو فتيا أو سؤال عن أمر تحتاجه أو بيع أو شراء من الأمور التي تحتاجها، فهذا كله جائز، وكان معروفاً في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم فكم من امرأة سألت الرسول عليه الصلاة والسلام وسألت غيره من الصحابة كـ أبي بكر وعمر وغيرهما، وهذا أمر معروف في كتب السنة، ولا إشكال فيه، إنما المنهي عنه هو الاسترسال في الحديث بما لا جدوى منه، أو الخضوع في القول بالتثني وتكسير الكلام وإرخائه بطريقة لا حاجة إليها، بل على المرأة أن تتكلم بصوت عادي بعيد عن الخضوع ولا يكون فيه أدنى إثارة.(66/43)
فساد القلب بالتعلق بالمخلوقات
السؤال
بالنسبة إلى قضية المحبة تكلمت عنها وأشرت إلى أنواع منها؛ وأن من هذه المحبة ما يكون سبباً في فساد قلب هذا المحب وانحرافه، لكن كون المرأة تعجب بفلان لأنه رجل شريف -كما يقول السؤال- ومتدين؛ ولا يترتب على هذا الأمر شيء محظور شرعي؟
الجواب
أقول: من جهةٍ إن أصل هذا الأمر لم يكن ليقع إلا بسبب تفريط من المرأة، مثل كونها نظرت نظرة غير مشروعة، أو كررت هذا النظر، أو سماع صوت، أو ما أشبه ذلك، فتعلق قلبها، وعلى من يبتلى بذلك أن يعالج نفسه ولا يتساهل في هذا الأمر، لأن الأمر قد يبدأ هيناً وسهلاً ثم يتوسع ويمتد ويكون -كما ذكرت- سبباً في فساد دين المرء ودنياه، أما فساد الدين فبتعلق القلب بغير الله، وأما فساد الدنيا فبأن لا يحصل للإنسان ما يريد، فتكون حياته شقاء وتعاسة في غير جدوى.(66/44)
آخر وقت العشاء
السؤال
متى يكون آخر وقت لصلاة العشاء؟
الجواب
وقت صلاة العشاء الآخرة التي نسميها بصلاة الأخير يمتد إلى نصف الليل، وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل، وإلى نصف الليل جائز؛ على المشهور من أقوال أهل العلم، وهذا الوقت يختلف من فصل إلى آخر، وبإمكان كل إنسان أن يعرفه في الوقت الذي يريد بأن يقسم الليل إلى نصفين، فنصفه الأول هو وقت لصلاة العشاء.(66/45)
طاعة من يأمر بتأخير الصلاة
السؤال
ما حكم طاعة المعلمة في منعنا عن الصلاة؟ وما الحكم إذا انتهى الوقت المحدد للصلاة ولم أصل؟ وذلك في حالتين: الأولى: إذا كان وقت الصلاة المحدد لنا قصيراً؟ الثانية: إذا كانت المعلمة التي سبقتها قد أطالت في درسها ومضى شيء من الوقت المحدد للصلاة؟
الجواب
بالنسبة للصلاة هي من الواجبات التي فرضها الله تعالى على كل إنسان في حال الحضر، والسفر، والخوف، والأمن، حتى إن الله تعالى أمر المؤمنين بإقامة الصلاة في وقت الخوف والقتال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102] إلى آخر الآية، حتى في حال الحرب والقتال والخوف تقام الصلاة، فما بالكِ إذا كانت المسألة مسألة درس، أو محاضرة، أو شغل، فالصلاة مقدمة على جميع هذه الأشياء.
ولذلك يجب تخصيص وقت كاف للصلاة، ومراعاة ألا يبخس هذا الوقت بألا تطيل المعلمة درسها الذي يسبق وقت الصلاة فتأخذ شيئاً من وقت الصلاة، ولا تتقدم المدرسة الأخرى في الدرس بحيث تأخذ من آخر وقت الصلاة، وإذا حصل ضرورة لمثل هذا الأمر فينبغي مراعاتها -مثلاً- لو تأخرت مدرسة في درسها لضرورة فلم تخرج الطالبات إلا بعد مضي جزء من وقت الصلاة فاضطررن إلى التأخر في المصلى بعض الوقت عن الدرس الذي يليه، فتراعي المعلمة هذا الظرف، وتقبل هذا العذر من الطالبات.(66/46)
صبغة الشعر والطهارة
السؤال
هل جميع أنواع صبغات الشعر تبطل الطهارة؟
الجواب
الذي أعلمه أن جميع أنواع صبغات الشعر المعروفة لا تبطل الطهارة، فإن مبطلات الطهارة معروفة وليس هذا منها، وإنما الكلام عنها في مجالات أخرى من حيث كونها تجوز أو لا تجوز، أما إبطالها للطهارة فهي لا تبطل الطهارة.(66/47)
حجاب الطالبة في المدرسة
السؤال
وهذا سؤال عن الكشف أو التحجب للأستاذة في المدارس، أو الجامعات؟
الجواب
من الطبيعي أنه ما دامت الأستاذة امرأة أن تكشف الطالبة لها، هذا أمر طبيعي تكشف وجهها -مثلاً- أو شعرها أو ما أشبه ذلك أو كفيها أو ذراعيها أو بعضها.
كل هذا لا بأس به، لكن على الطالبة في الأصل أن تكون ملتزمة باللباس الشرعي، لأنها ليست فقط سوف تتعامل مع الأستاذة، هي سوف تخرج من البيت إلى الشارع، وتركب الأوتوبيس، وتنزل من الأوتوبيس إلى المدرسة، وقد تمر من عند رجال، من عند موظف في المدرسة أو غير ذلك، ولذلك يجب عليها تجنب الملابس غير الساترة، وتجنب الطيب وجميع المحظورات.(66/48)
المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل
قضية فلسطين هي قضية الأمة بأسرها، ولذلك فقد طرح الشيخ حفظه الله هذا الموضوع، حتى يعي المسلم الوضع الحقيقي الذي تعيشه الأمة، وكيفية مواجهة أعداء الإسلام؛ وليس لزرع الخوف من اليهود والنصارى.
فتكلم الشيخ عن السلام مع اليهود وأوهامه، وبيَّن أن اليهود والنصارى هم كتلة واحدة ضد الإسلام، ويجب على الأمة مواجهة ذلك بالجهاد والعودة إلى الإسلام، ثم بين أن السلام مع اليهود لا يخدم الإسلام إنما يخدم اليهود، ثم خلص الشيخ إلى عدة حلول للخروج من الأزمة، ثم وضح النظرة الشرعية للسلام مع اليهود، وبشر بأن المستقبل والنصر للإسلام وأن هذا وعد الله وسيتحقق عاجلاً أو آجلاً بإذن الله.(67/1)
غياب الأمة عن قضاياها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد هذا الدرس الثاني والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين 28 من شهر ربيع الثاني.
من سنة (1412هـ) .
عنوان هذا الدرس: المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل؛ وأحد الإخوة يقترح أن يكون العنوان: المعركة الفاصلة مع يهود، أو مع اليهود ولا حرج في ذلك.
يتحدث العالم اليوم -أيها الإخوة- عن جهود السلام في أسبانيا في مدريد، وهذا الحدث العالمي الكبير، هو حديث الصحافة والإعلام في مشارق الأرض ومغاربها، سواء الصحافة الغربية، أو الشرقية العربية، أو اليهودية، أو غيرها، وفيما العالم كله يتحدث عن هذا الأمر الجديد … يتساءل البعض ويقول: ما جدوى طرح هذه الموضوعات في مثل هذه المجالس، ومن قبل الدعاة إلى الله عز وجل؟! وإنني ليطول بي العجب وأقول في نفسي هل كتب على هذه الأمة المسلمة -التي كان المفترض أن تكون هي الشهيد على الناس قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] .
وفي الحديث الصحيح، أنهم يشهدون على الأمم يوم القيامة -حتى الأمم التي سبقتهم- بشهادة الله عز وجل في كتابه- هذه الأمة هل كُتِبَ عليها في مثل هذا الوقت بالذات، أن تستمرئ ذلك الغياب المذهل عن الساحة، وأن تستحسن عزلتها وتقوقعها… -لا أقول: على الأحداث العالمية، فنحن لا نتكلم الآن عن مؤتمر السلام في يوغسلافيا، وإنما عن عزلة هذه الأمة عن أحداث تتعلق بها هي… لا تتعلق بغيرها، وقضايا تخصها، فالكلام إنما هو عن مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي.
وأقول: العربي؛ لأن الإسلام لم يدخل في حقيقة الأمر، لا في حرب، ولا في سلم، فالإسلام معزول عن هذه المعارك؛ وإنما المعركة العسكرية دخلناها باسم العروبة، وفصلنا وعزلنا مئات الملايين من المسلمين المتعاطفين مع قضية الإسلام في فلسطين؛ والسلام ندخله باسم العروبة أيضاً فالإسلام معزول في الحقيقة عن الحرب، كما هو معزول عن السلام، ولهذا لا تتعجب حينما استخدم في أثناء هذه الكلمة أو هذا الدرس لفظ العرب، ولا أستخدم لفظ الإسلام؛ لأننا نريد أن نسمي الأشياء بحقيقتها.
فالإسلام معزول عن المعركة، سواء كانت معركة في ميدان الصراع والقتال، أم كانت معركة من وراء الطاولات وفي مجال المناورات السياسية الدبلوماسية؟!!(67/2)
لابد من كلمة الحق
إن كلمة الحق الواضحة النيرة -أيها الأحبة- يجب أن تقال في كل مكان وفي كل مجال، فالرسل عليهم صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بالكلمة: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] .
جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يملكون الأسلحة ولا يملكون القوة الضاربة، وإنما كانوا يملكون هذه الكلمة يقولونها للناس، ثم يعتصمون بالله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، والذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون، وبهذه الكلمة: انتصر الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولم يكن يمنع نبياً من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ألا يستجيب له أحد أن يقول هذه الكلمة، وأن يبعث بهذه الكلمة، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: {أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأمم، ورأى النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} فالنبي حين يصدع بهذه الكلمة: لا تعبدوا إلا الله، اعبدوا الله ما لكم من إله غيره! هو يحقق هذا الانتصار -بغض النظر عن مدى تجاوب الآخرين معه أو رفضهم لما يدعو إليه- لأن مجرد إعلان كلمة التوحيد، هو انتصار لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ومع ذلك فإننا نقول: إن كلمة الحق لن تضيع، ويكفي أن تكون شاهداً تاريخياً، على أن المسلمين والعلماء والدعاة إلى الله عز وجل رفضوا الخيانة على حين استمرأها غيرهم من الزعماء الكبار وأقروها وسعوا إليها وسافروا إليها، وأنهم رفضوا مؤامرات الاستسلام على حين تلطخ غيرهم من الزعماء والقادة والساسة بهذه المؤامرات، وأنهم بذلوا ما يملكون من الوسائل وهم لم يكونوا يملكون إلا الكلمة يطلقونها حرة واضحة صريحة -على حين كان غيرهم يملك أكثر من ذلك، فما بذل منه قليلاً ولا كثيراً إلا الخطب الرنانة، وقد أشبعوا المسلمين من هذه الخطب وحرروا بلاد الإسلام بهذه الخطب الرنانة! سقوا فلسطين أحلاماً منومةً وأطعموها سخيف القول والخطبا عاشوا على هامش الأحداث ما انتفضوا للأرض منهوبةً والعرض مغتصبا وخلفوا القدس في الأوحال عارية تبيح عزة نهديها لمن رغبا(67/3)
الاستغراب لحال هذه الأمة
هل كتب على هذه الأمة أن تستمرئ هذا الغياب المذهل، وأن تتلذذ بهذا الاعتزال الغريب، لا عن قضايا العالم بل عن قضاياها الخاصة.
إنني أستغرب هذه المصادرة الرخيصة لعقل الإنسان المسلم ولتفكيره؛ مما شل فعالية المسلم في هذه الأحداث، فأصبح مستكثراً عليك أيها المسلم أن تبدي رأيك فقط في قضية من القضايا، فضلاً أن يكون لك رأي في حصول هذا الأمر أو عدم حصوله، وأصبح الإنسان العادي من أمة الإسلام في مشرق الأرض ومغربها يستكثر على نفسه أن يتكلم في مثل هذه القضايا ويرى أنها قضايا لا تعنيه في قليل ولا في كثير، وأحسن الناس من يقول: إن حديثي في مثل هذه الأمور، لا يقدم ولا يؤخر، وإنه لا يأتي بجديد.
إن قضيه كقضية السلام تكلم فيها الجميع بدون استثناء، حتى المتطرفون من اليهود في إسرائيل المسمون بالأصوليين -مثل حركة… غوش أمونيم وغيرها من الأحزاب الأصولية المتطرفة- تكلموا بلهجة واضحة صريحة عن رأيهم في السلام، وأنهم يرفضون السلام مع الأمة العربية؛ بل مع العالم كله، لأن هذه أرض اليهود -في نظرهم وزعمهم- ويجب أن تظل أرضهم فهم يطالبون ببسط سلطة اليهود على مزيد من هذه الأراضي، ولم يقتصر تعبيرهم عن السلام على مجرد الكلام أو على مجرد الكتابة، بل تعدى ذلك إلى قيامهم بمظاهرات في شوارع اليهود -في شوارع فلسطين- يتكلمون فيها ويعربون فيها عن اعتراضهم على مشاركة إسرائيل في جهود السلام.(67/4)
ضرورة طرح قضايا الأمة
قد يستغرب بعض منا أن نطرح هذه القضية أو غيرها، من طلبة العلم والدعاة إلى الله عز وجل من يعتقد أنه لا جدوى من وراء ذلك؟! إننا ينبغي أن نضع الأمور في إطارها الصحيح، فالذين يتحدثون -مثلاً- عن السلام، أو عن مؤتمر أو مؤامرات مدريد للسلام العربي الإسرائيلي كما يسمونه، ليس بالضرورة أن هذا يعني: أنهم سيوقفون هذه المؤامرات، أو سوف يمنعون استمرارها أو سوف يعرقلون هذه الجهود التي تتبناها زعيمة العالم الحر -كما يسمونها- وزعيمة التنصير وأمريكا التي أصبحت تمسك بخناق العالم بقدر ما تستطيع، فليس بالضرورة أن من يتحدثون سوف يوقفون مثل هذا السيل الكاسح أو مثل هذا التيار الجارف، أنهم سوف يقفون في وجه الشرق والغرب وهم لا يملكون وسائل تمكنهم من ذلك فلا يعني الحديث عن هذا الموضوع الوقوف أمام تلك المؤامرات، وأمام أمريكا، وأمام حلفاء أمريكا من العرب، وأمام إسرائيل، لا! لكننا نعتقد أن من حق الأمة الإسلامية أن تعرف على أقل تقدير أن تعرف ما هو السلاح الذي سوف تقتل به، أن تعرف بأي سكين سوف تذبح؟ فهذا أقل حق لهذه الضحية التي بين أيديهم! فهذه المؤامرات لا بد من معرفتها ومعرفة أبعادها، ومعرفة من هم أطرافها؟ ومعرفة من يكون وراءها؟ وذلك حتى تعرف الأمة بأي سلاح يحاول عدوها قتلها، وحتى تعرف الأمة أيضاً من هو عدوها من صديقها.
فمنهم عدوٌ كاشرٌ عن عدائه ومنهم عدو في ثياب الأصادقِ ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفارقِ(67/5)
التغيرات التي يشهدها العالم
إن هذا العقد الذي نعيش فيه يشهد متغيرات دولية كبيرة جداً، ومن المؤسف جداً أن المسلمين أيضاً معزولون عن هذه المتغيرات، لا يدركونها ولا يتابعونها ولا يقدرون حجمها وخطورتها؛ فإن جهود السلام الأمريكي الآن الذي يديرونه مع العرب وإسرائيل، إنما يكون في ظل انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي… هذه الحرب التي دامت أكثر من خمسٍ وأربعين سنةً.(67/6)
انفراد أمريكا بالهيمنة العالمية
وفي ظل هذه الحرب حصلت أمورٌ كثيرة، ولكن كان هناك هدوء شهدته أوروبا وغيرها، بسبب ما يسمى بالردع النووي وتخوف كل طرف من الطرف الآخر، وسقطت الشيوعية الآن كأيديولوجية مناوئة للغرب، واستفردت أمريكا بالهيمنة العالمية، وبالتالي: استخدمت أمريكا المنظمات الدولية لتحقيق مصالحها الذاتية الشخصية كهيئة الأمم المتحدة وغيرها، وأبرزت أمريكا ما يسمونه بالنظام الدولي الجديد -الذي بشر به الزعيم الأمريكي الذي أسمته بعض الصحف: رئيس العالم وزعيم العالم- بشر بما يسميه بالنظام الدولي الجديد منذ زمن ليس بالقليل، في السابق كان هناك سباق على التسلح بين روسيا وأمريكا على حساب التنمية الاقتصادية وعلى حساب التنمية الاجتماعية وعلى حساب توفير المعيشة للناس؛ وكان السلام -كما ذكرت قبل قليل- قائم على توازن الرعب بين القوة الشرقية والقوة الغربية، فإن ما يسمى بالردع النووي؛ جعل كلاً من الطرفين أمريكا وروسيا في السابق تدركان في حال حصول حرب نووية فلن يكون فيها رابح وخاسر، بل سوف يكون كلاهما خاسراً.
وهذا تقديرهم وظنهم على كل حال.(67/7)
وجود تحالفات جديدة
نقطة ثالثة: أن العالم الثالث، والعالم الرابع -أيضاً- وهما العالم الإسلامي والعالم العربي، وما حولهما من الدول الفقيرة، ممن يسمونه بالعالم الثالث -لم تكن تشمله- مظلة الحلفين العالميين آنذاك، ولذلك كانا مجالاً للتنافس الشديد بين روسيا وأمريكا، وكان فيه مناطق كثيرة ملتهبة تكون نتيجة الصراع ونتيجة حروب تدار بالوكالة بين أمريكا وروسيا وضحية هذه الحروب هم من شعوب المسلمين ومن شعوب العرب الذين يقاتلون بالوكالة عن أمريكا أو يقاتلون بالوكالة عن روسيا.
وقد أدى ذلك الصراع أو الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا في السابق إلى شل ما يسمى بهيئة الأمم المتحدة عن فعاليتها وتأثيرها؛ بسبب أنه نشأ في أثنائها تحالفات بين روسيا ودول عدم الانحياز من جهة وبين أمريكا وحلفائها من جهة أخرى، أما الآن فبعدما سقطت الشيوعية وتفككت الإمبراطورية الروسية فإننا أمام قوة عالمية الآن واحدة هي التي تهيمن على معظم العالم الموجود الآن وهو قطب عالمي واحد، وهذا بلا شك لفترة معينة، وإلا فنحن نعلم ونجزم بأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} .
إذا تم شيءٌ بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم كما أننا نعلم أن الله عز وجل جعل قوام هذه الدنيا على أساس وجود المداولة قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
وعلى أساس مبدأ الصراع، أو كما سماه الله تعالى في القرآن الكريم الدفع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] .
فمبدأ الدفع أو مبدأ الصراع بين القوى المختلفة، فيه بقاء للحياة؛ حتى الحرب نفسها فيها بقاء للحياة: والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم فالحروب الإسلامية التي شنها المسلمون أيام العز وأيام النصر وأيام التمكين، كانت ظلاً ينبت الخضرة وينبت النماء والخير والإيمان وينبت الطاعة لله عز وجل -في ظل تلك الحروب- فكانت حروباً لفتح القلوب قبل فتح البلاد.
فالمقصود أن الله تعالى وضع من سنن هذا الكون مبدأ الدفع، أي دفع الناس بعضهم ببعض ومبدأ مداولة الناس فيما بينهم وتلك الأيام نداولها بين الناس ينال هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء؛ فلا نتصور أبداً أن الغرب الرأسمالي أو أن أمريكا أو غيرها سوف تتفرد بالهيمنة على العالم إلا خلال سنوات يسيرة أو عقود قليلة، وهذا أمر لا يعتبر بالمقياس العام شيئاً، فإن الإنسان وإن كان ينظر إلى الأيام والساعات والشهور والسنوات، إلا أن الأمر أبعد من ذلك، فعشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في حياة الأمم والشعوب؛ لا تعد شيئاً وأنت الآن تنظر إلى روسيا وقد عاشت عشرات السنين وتجد أنها أصبحت حطاماً متفتتاً فلا تعد هذه السنين؛ الطويلة التي عاشتها في ظل قهرها للإيمان وقهرها للعقول، وللقلوب، وللفطرة لا تعد هذه الأيام وهذه السنوات بل عشرات السنين، لا تكاد تعدها شيئاً يذكر، وهذه من طبيعة الإنسان، فيرى الواقعة القائمة عليه سرمداً لا يزول.(67/8)
ملامح النظام الدولي الجديد
يقول ابن برجنسكي -وهو مستشار للأمن القومي سابقاً في أمريكا-: "إن أفول نجم الاتحاد السوفيتي معناه تفرد الولايات المتحدة بمركز الدولة العظمى ذات المسئوليات العالمية، وإن أوروبا ستكون في أحسن الأحوال قوةً اقتصادية، ولن تتحول اليابان إلى قوة سياسية عسكرية إلا بعد مضي بعد الوقت وهكذا ستبقى الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة".
يبرز تساؤل بعد هذا كله، وبعد غياب الاتحاد السوفيتي كقوة معطلة أو معادلة لدفاعات أمريكا… كيف سيكون الوضع الدولي في مثل هذا النظام الدولي الجديد، كما يسمونه؟ هناك تخوف جديد أن يتحول الصراع الذي كان قائماً بين أمريكا وروسيا إلى مجابهة بين الشمال والجنوب، بين الأغنياء والفقراء، أو قل بلهجة أخرى بين العالم الثالث الذي غالبه من المسلمين، وبين العالم الغني الغربي القوي، الذي غالبه أيضاً عالم نصراني أو عالم يهودي؛ وبذلك سينظم السوفيت إذا حصل هذا إلى -عالم الأغنياء- إلى عالم الغرب، وأذكر بالتقرير الذي سبق أن تلوته عليكم في درس بعنوان " خلل في التفكير " والذي سطر أن هناك تخوفاً في بعض الدول الغربية، فإنهم كانوا في الماضي يقولون: الروس قادمون! أما الآن فقد عدلوا هذا الشعار وصاروا يقولون: المسلمون قادمون، ويجب أن نتوحد -نحن- مع الروس في مواجهة المد الإسلامي أو المد الأصولي المتعاظم والمتزايد يوماً بعد يوم! إن الإسلام -أيها الإخوة- على رغم أنه يبدوا لنا أنه ليس له قوه تدعمه وتحميه … إلا أنه في نظر الغربيين الآن قوة هائلة مذهلة، وكأنهم اكتشفوا الإسلام من جديد فأصبحت الدوائر الغربية تعقد الجلسات والمؤتمرات، والمناقشات الطويلة، لمعرفة مدى تأثير الإسلام في المسلمين وكيفية مواجهته، وذلك لأنهم أدركوا أن الإسلام قوة متمكنة ليس في العالم الإسلامي فقط، وليس عن طريق بعض الجماعات الإسلامية التي قد يرتضون منهجها أو لا يرتضونه، ويعتبرونها جماعات متطرفة في نظرهم؛ ليس هذا فقط- بل حتى من خلال الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، وقد يكون كثير منهم من العمال أو غير المثقفين؛ ومع ذلك تجدهم متمسكين بدينهم -إلى حد ما- فحرصهم على تربية أولادهم على هذا الدين، وحرصهم على نشر دينهم في أوساط الآخرين؛ يُعدُّ أمراً مذهلاً في نظر الغرب.(67/9)
نظام الأمن الجماعي
إن من أبرز الملامح التي سوف يشهدها النظام الدولي الجديد؛ ما يسمى بنظام الأمن الجماعي، وذلك بقيادة الولايات المتحدة فقد صارت ذات دور فعال، حيث أرادت الدول الكبرى لها ذلك؛ فأمريكا مصممة -مثلاً- على حسم قضايا الصراع الدولي، خاصة تلك القضايا التي يهمها أن تحسم؛ وإلا فمن المعلوم أن أمريكا ذات ميزانين ومكيالين فهي تستطيع أن تتدخل -مثلاً- كما تدخلت في بنما أو غرينادا أو غيرها بدون أن يعترض عليها أحد، أو يحتج عليها أحد؛ لكنها في نفس الوقت تستخدم قوتها وتستخدم وسائلها -ومنها الأمم المتحدة- في منع أي تشابك أو تماس أو اضطراب تعتقد هي أنه ليس في مصلحتها، إنها تخشى من ولادة دول ذات طابع إسلامي، هذا أشد ما يخيف أمريكا.
ولهذا كان من أكثر الأشياء عناية الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي ومنطقة فلسطين وأفغانستان، فهذه المنطقة تعتبر في أولويات الاهتمامات الغربية؛ فأما فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي: فهاهو مؤتمر مدريد قد انعقدت المرحلة الأولى من جلساته، وفي انتظار مراحل تالية، هاهو الآن قد تبلور من خلال جولات طويلة متكررة لوزير الخارجية الأمريكي.
وأما فيما يتعلق بقضية أفغانستان؛ فإني أود أن أشير إليها ولو إشارة عابرة، لأن أمريكا مصممة على حل قضية أفغانستان بحلٍ سلمي، وعلى نزع البندقية من أيدي المجاهدين وبدون شك وبكل تأكيد فإنها سوف تحرص على منع كل صور الدعم للمجاهدين الأفغان، وسوف تحرص على وضع العراقيل والعقبات أمامهم وسوف تفوض بعض الدول الغربية والإسلامية والعربية أيضاً للقيام بهذا الدور ولا تستبعد أن يكون لإيران -مثلاً- دور كبير في قضية أفغانستان، خاصة مع وجود بعض المنظمات الشيعية التي ليس لها تأثير في الجهاد فتحرص على إبراز هذه المنظمات وعلى وجود حلول سلمية.
وقد انعقد في إيران مؤتمرٌ للقضية الأفغانية وتكلموا عن أحد قادة المجاهدين الذي يتميز بالقوة ويعتبرون أنه يعتبر متشدداً أو أصولياً، ودعوا إلى محاولة اغتياله كما سيروا وفداً إلى موسكو للمفاوضة، وقد صرح مسئول كبير في دولة مجاورة لأفغانستان بأن المجاهدين الأفغان عليهم أن يوقفوا القتال، وأن يفكروا جدياً في الجلوس على مائدة المفاوضات مع الحكومة الشيوعية العميلة في أفغانستان.
إذاً ضع في اعتبارك أن في قضية أفغانستان هناك مؤامرة دولية لحلها وإنهائها، وسرقة جهود أكثر من اثنتي عشرة سنة بذلها المسلمون، وإهداراً لهذه الدماء الغزيرة التي ضحى بها المسلمون على مدى هذا الزمن الطويل، وإهداراً لهذه الأموال الطائلة التي ذهبت إلى هناك، لماذا؟! لأن الهدف الذي تريده أمريكا لأفغانستان هو: أن تتحول إلى دولة علمانية، ولا تقبل -بحال من الأحوال- أن يستولي المجاهدون المسلمون عليها مهما كانت الأحوال، ومهما كان بينهم من التناقضات، ومهما كان فيهم من الضعف؛ بل ومهما كان عندهم من الخطأ لا يمكن أن تقبل بوجود حكومة إسلامية في أفغانستان.
فقضية أفغانستان من القضايا التي ينبغي أن نتوقع ونتتبع ونظن أنها ستكون في طريقها إلى الحل السلمي وسيكون هناك ضغوط كثيرة من دول مجاورة لأفغانستان وغير مجاورة، وغربية أيضاً لإنهاء هذا الوضع.
فالقضية الأولى في النظام الدولي الجديد -كما يسمونه- بقضية النظام الأمن الجماعي، وتهدئه المناطق الملتهبة والقضاء على مثل تلك الخلافات التي لا تطمئن لها أمريكا أو لا ترتاح إليها، ولا تعتقد أنها مثمرة بالنسبة لمصالحها.(67/10)
الحد من التسلح العربي والإسلامي
ومن ملامح ذلك النظام: الحد من التسلح وخاصة التسلح العربي والإسلامي، ولذلك جاء الحصار على السلاح لدى المسلمين فقط والمضايقة والضغوط، أما إسرائيل فلا ضير عليها ولا تثريب، فليس سراً أن إسرائيل تمتلك الآن أكثر من مائة قنبلة نووية -وهذا وفقاً لعددٍ من التقارير وبعض التقارير، تقول -إنها أكثر من مائتي قنبلة نووية- وتملك من مراكز الدراسة والتخطيط والإعداد الشيء الكثير وليس هناك أي تحفظ واضح من أمريكا على مثل هذه النشاطات الغريبة في مجال التسلح النووي لدى إسرائيل، وليس سراً أن إسرائيل تملك ثالث سلاح طيران في العالم؛ فهي تحتل المرتبة الثالثة في سلاح الطيران في العالم، ولديها قوة غريبة جداً -وسيأتي ذكر شيءٍ منها بعد قليل، ونجد أن الغرب يساهم في دعم إسرائيل في هذه المجالات، وهناك جهود مشتركة إسرائيلية أمريكية لتطوير عدد من الطائرات، وعدد من الصواريخ ومنها صواريخ مضادة للصواريخ.(67/11)
الديمقراطية
ومن ملامح النظام الدولي الجديد: الديمقراطية، وذلك أنهم يريدون أن يصوروا هذا النظام على أن الصراع فيه هو صراع بين الديمقراطيات الغنية الشمالية الغربية، وبين الديكتاتوريات الجنوبية الفقيرة.
ومن مظاهر الديمقراطيات بطبيعة الحال: السماح للأحزاب السياسية أن توجد وتمارس حرياتها، وتقدم برامجها في كل مكان -بغض النظر عن أديان هذه الأحزاب ومعتقداتها- وهذا أمرٌ تحمله أمريكا على عاتقها وتحاول أن تفرضه بكل ما تستطيع من قوة على بلاد المسلمين.
ومن ديمقراطيتها: السماح بالاتجاهات الفكرية المختلفة وألا يُضَايَق أحدٌ في فكره؛ فأمريكا ومَنْ وراءها -حلفاءها في النظام الدولي الجديد- يسعون إلى إعطاء أصحاب الاتجاهات الفكرية المنحرفة كالعلمانيين والملحدين، وأنواع الفلسفات المادية المنحرفة، إعطائها الحرية لأن تقول وتعبر عن نفسها من خلال الكتاب والمجلة والمقال والمحاضرة والدرس والمناقشة وغير ذلك في أي بلد -من غير تحفظ- وتعتبر هذا جزءاً من حقوق الإنسان في حرية التعبير؛ وينبغي أن يلاحظ أنهم حين يتكلمون عن قضية حرية التعبير وحرية التفكير أيضاً: أنهم قد يدخلون فيها أحياناً الدفاع عن بعض الحقوق الإسلامية؛ فأنت تجد بعض المؤسسات الغربية تدافع عن حقوق المسلمين فتدافع -مثلاً- عن العلماء، وتدافع عن الدعاة تدافع عما تسميهم رجال الدين، لكن هذا كله جزء قليل، بالقياس على العمل الكثير الذي تقوم به هي في الدفاع عن أصحاب الاتجاهات التي توافق الغرب وتلبي مطامحه ومطامعه.
فإننا نجد أن أمريكا والغرب يبارك ضرب التيارات الإسلامية في كل البلاد العربية والإسلامية، ويعتبر هذا عربوناً على قوة تلك الدول وصدقها في ولائها، وقد حصل هذا في مصر، وحصل في سوريا، والجزائر، وتونس، وحصل في العديد من البلاد، لا أقول بصمت من الغرب! بل بتأييد ودعم، وإن الغرب يعتبر هذا هو آية صدق تلك الحكومات في ولائها وإخلاصها وقوتها، كما أن الغرب يسعى من خلال فرض ما يسمى بالديمقراطية: إلى حرية التدين -يعني: أن يتدين الإنسان بأي دين، الإسلام، أو اليهودية، أو النصرانية، أو اللادينية.
حرية التدين! وهم بطبيعة الحال لا يقبلون بالإسلام ديناً بالمعنى الصحيح! لكنهم قد يتظاهرون فيقبلون بعض العبادات وبعض الأشياء التي لا تضربهم ولا تؤثر على مصالحهم؛ لكنهم يريدون من وراء ذلك إتاحة الفرصة لأي إنسان أن يتنصر أو يلحد، دون أن يكون عليه ضغوط معينة؛ بل إن هناك محاولات لتغيير أنظمة بعض الدول؛ لتسمح لمواطنيها أن يتدينوا بأي دين شاءوا.(67/12)
الآثار السلبية لهذا النظام
لاشك أن هذا النظام الدولي الجديد له آثار سلبية، لعلي أكتفي بالإشارة -لضيق الوقت- إلى قضية واحدة من آثار هذا النظام الدولي الجديد وهي: قضية الهجرة اليهودية إلى إسرائيل.
فإن سقوط الشيوعية في روسيا، وتفكك الإمبراطورية الروسية؛ أعطى فرصة ذهبية لهجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل.
فصاروا يهاجرون بأعداد هائلة إليها، -طبعاً بمباركة من روسيا وبدعم من أمريكا اللتان توافقان على مساعدة إسرائيل مساعدات كبيرة جداً؛ لاستيعاب هؤلاء المهاجرين وفق شروط معينة، مع ذلك لا يزال الغموض والالتباس الذي يهيمن ويدخل في كثير من جوانب هذا النظام؛ لكنني أبرزت بعض ملامحه.
وهناك ملامح اقتصادية أيضاً، تتمثل في النظام الاقتصادي الحر الذي يقوم عليه الغرب (النظام الرأسمالي) .(67/13)
انخراط العالم الإسلامي في النظام الدولي الجديد
أن انخراط العالم الإسلامي في هذا النظام، النظام الدولي الجديد له جانبان، وهذه بالطبع قضية خطيرة جداً؛ لأنها تمس صلب الاعتقاد.(67/14)
التعامل مع الأوضاع الدولية بوعي وذكاء
فهناك جانب: أن المسلمين بحاجة إلى معرفة الأوضاع الدولية القائمة، وأن يستخدموها ويتعاملوا معها بوعي -وهذا مطلوب- وبدون شك أن المسلمين يجب أن يعرفوا الأوضاع القائمة في الشرق والغرب، وأن يتعاملوا مع هذه الأوضاع بوعي وذكاء وإدراك، فتجاهل الأوضاع الموجودة في العالم لا أعتقد أنه يغنينا فتيلاً أو ينفعنا شيئاً، فلا أحد يطالب بتجاهل هذا الوضع مع أنني أقول: إن هذا الوضع يجب ألا نتعامل معه على أنه وضع قائم سرمد لا يزول، فنحن على يقين أن العقود القادمة حبلى بقوىً جديدة ستنافس أمريكا على سلطتها واستفرادها، فقد تبرز أوروبا الموحدة كقوة، أو تبرز اليابان، أو تبرز الصين، أو تبرز قوى عديدة تنافس أمريكا على هذا الموقع… وقد ينتفع المسلمون بذلك لو كانوا على مستوى الأحداث، ويستطيعون أن يستغلوا التناقضات الموجودة بين الدول الغربية، فهذا الجانب لا أحد يعترض عليه.(67/15)
عدم الانصهار ضمن هذا النظام
لكننا نود أن ننبه إلى القضية الأخرى -الخطيرة والحساسة- وهي: أن كثيرين أصبحوا يطلبون من المسلمين أن ينصهروا في ضمن هذا النظام، وألا يظلوا متميزين باستقلاليتهم كمسلمين بعيدين عن هذا النظام، أو هذا التيار الجديد، فهم يطالبون بأن يتخلى المسلمون عن مميزاتهم وخصائصهم، ويقبلوا أن يكونوا جزءاً من ذلك النظام الدولي، حتى إنني قرأت في بعض الصحف المصرية مقالاً عنوانه: خرافة أعداء الإسلام، يعني: أنه يقول: لم يعد هناك شيءٌ اسمه: أعداء للإسلام، ولم يعد هناك صراع بين الإسلام وبين خصومه؛ وإنما القضية قضية مصالح متبادلة بين الشرق والغرب… فهذه قضية خطيرة جداً لأنها تريد أن تنزع فتيل التميز الإسلامي… تنزع من قلب المسلم العداوة للكافر، لليهودي، للنصراني، للشيوعي، للملحد… في الوقت الذي يحتفظ فيه اليهودي، والنصراني، والشيوعي بعداوته للمسلم.
هناك أصوات كثيرة -الآن- تحاول أن تلغي -مثلاً- الجهاد، وتعتبر الجهاد هذا مرحلة تاريخية مضت وانتهت، وعلينا أن نتعامل مع الواقع القائم ولا نتكلم عن الماضي، فعقارب الساعة -كما يقولون- لا ترجع إلى الوراء… ونحن نقول: مسألة الجهاد عقيدة … مسألة الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام؛ وشريعةٌ من أنكرها أو كذبها فهو كافر بالله العظيم؛ لأنها من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة.
لكن مسألة: يقوم الجهاد أو لا يقوم؛ متى؟ وأين؟ فهذه قضية أخرى.
مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مثلاً- هذه شعيرة من شعائر الإسلام، ومن يجادل في أصلها أو يشك فيها يكفر؛ لأن هذه القضية معلومة من الدين بالضرورة، وأدلتها قطعية من الكتاب والسنة؛ لكنهم يقولون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا في الماضي، أما الآن فعندنا حرية الفرد، حرية التعبير، حرية الاعتقاد، حرية التصرف.
ما شأنك وشأن الآخرين ليس لك بهم علاقة، حتى ابنك أو ابنتك يريدون ألا يتدخل فيه الإنسان، تحت مظلة الحرية الشخصية، وهذا جزء من النظام الدولي الجديد الجانب الاجتماعي في ذلك النظام جانب الحرية الأخلاقية، بأن يفعل الإنسان ما يشاء دون رقيب أو حسيب عليه.
وأما قضية التميز العقدي فتعني: وجود عقيدة عند المسلم تميزه وتجعله يفهم الأمور كلها على ضوء كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دون أن يجد شيئاً مشكلاً عليه، فالإسلام للمسلم كل القضايا بدون استثناء: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] .
وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه إلا وبين لنا منه علماً فكل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وغيرها، في الإسلام حكم لها، أولئك يريدون أن يسحب المسلم هذا التميز في الاعتقاد، وهذا التميز العملي، وهذا التميز الاجتماعي، ويكون جزءاً من نظام غربي دولي جديد، ليس فيه نمط لحضارة أخرى حضارة إسلامية، لا، بل نمط للحضارة الغربية فقط.(67/16)
العلاقة بين الغرب واليهود والإسلام
نقطة أخرى: قضية الغرب، واليهود، والإسلام.
ومن الأشياء الطريفة أنني قرأت في مجلة، اسمها مجلة الشراع، يقول أحد الوزراء اللبنانيين: إن حافظ الأسد لما التقى بوزير الخارجية الأمريكي بيكر قال له: إذا لم يتم السلام في المنطقة العربية؛ فمن الممكن جداً أن تقابلني في المرة القادمة فتجدني قد أطلقت لحيتي! هذه إشارة إلى أن الجميع يدركون أن أعظم خطر يخيف الغرب ويهدده: هو الإسلام؛ ولذلك حتى حافظ الأسد يقول: إنه يمكنني أن أطلق لحيتي إذا لم تحققوا لنا السلام… يعني -طبعاً أن إطلاق اللحية هذا رمز معناه: أنه سوف يطلق حرية التدين -مثلاً- فسوف يسمح للناس أن يعبدوا ربهم، ويمارسوا دينهم ويدعو إلى ربهم والغرب يدري أن رجوع الأمة الإسلامية إلى دينها، رجوعها إلى أصالتها، رجوعها إلى ربها، هو أعظم خطر يمكن أن يواجهه الغرب؛ ولذلك يتحالف مع هؤلاء الزعماء من أجل الحيلولة بين الأمة وبين العودة إلى دينها، وبين التزامها بكتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام.(67/17)
التحالف بين الغرب واليهود
إن هناك تحالفاً مكشوفاً بين الغرب وبين اليهود، بين الغرب القوي المدجج النصراني، وبين اليهودية العالمية متمثلة في الكيان اليهودي في فلسطين فقبل أن توجد إسرائيل، كان الغرب الصليبي يشعر بضرورة أن يوجد هذه الدولة، وقد عَقَدَ في أوائل العشرينات مؤتمراً أوربياً: ضم نخبةً من المفكرين والسياسيين الغربيين برئاسة وزير خارجية إنجلترا وقال هذا الوزير -في خطاب الافتتاح-: " إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء والواجب يقتضي ويحتم علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار تلك الحضارة، وقد توصل المؤتمر بعد دراسات كثيرة إلى خطة تقضي بالعمل المشترك على منع أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط -كما يسمونها- قال وذلك لأنها تشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا " فالوسيلة لذلك هي منع توحدهم؛ لأنهم يشكلون وحدة في الحقيقة، وحدة من حيث الدين، وحدة من كل النواحي؛ فالوسيلة الفعالة لمنع اجتماع المسلمين في نظر ذلك المؤتمر هي: إنشاء قومية غريبة في المنطقة -قوميه معادية للسكان في شرق قناة السويس -وقد وضع خبراء الدول الكبرى -بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، والبرتغال، وأسبانيا، وإيطاليا- وضعوا تقريراً جاء فيه: " إن الخطر على الغرب يكمن في البحر المتوسط، فهو حلقة الوصل بين الشرق والغرب".(67/18)
إسرائيل راعية المصالح الغربية
فإسرائيل مدينة لهم قبل وجودها، فهم أصحاب فكرة وجود هذه الدولة، وبعد أن وجدت وقامت على قدميها؛ فهي مدينة -على الدوام- في اقتصادها، مدينة في وجودها مدينه في دعمها، باختصار شديد: الغرب حليف تاريخي لإسرائيل من الناحية الدينية، ومن الناحية المصلحية ومن الناحية السياسية، فالغرب ينظر إلى إسرائيل على أنها هي قاعدة العالم الحر ونموذج الديمقراطية، وإن شئت قلت بأسلوب آخر: إن إسرائيل هي النموذج للنظام الدولي الجديد الذي تريد أمريكا أن تفرضه في المنطقة؛ بل في العالم؛ فهي دولة ديمقراطية -كما يقول الغرب- وهي كذلك دولة تحترم حرية الفرد، تعطيه حرية التعبير -مثلاً-، هي آخر المميزات التي يتكلمون بها عن أن إسرائيل توفرها لشعبها، وإسرائيل نفسها تقول هذا الكلام حتى إن إسرائيل مع الأسف تقول للعرب: نحن لم نفعل بالفلسطينيين الموجودين تحت دولتنا مثلما فعلتم أنتم معهم في عدد من البلاد العربية المجاورة، إننا كنا أرفق وألطف بالفلسطينيين منكم أيها العرب.
فإسرائيل تفتخر أمام العرب، وأمام العالم بأنها نموذج -كما تزعم، وما تقوله فيه جزء كبير من الحقيقة- نموذج للديمقراطية الغربية أي: ديمقراطية على النمط وعلى النظام الغربي، فتتظاهر بحفظ حقوق الإنسان خاصة -بطبيعة الحال- الإنسان اليهودي، أما الإنسان العربي: فالأمر يختلف؛ ولكنهم حتى مع الإنسان العربي يتحايلون بطرق ذكية.
على سبيل المثال: قبل وقت ليس بالبعيد قام مجموعة من المستوطنين وهجموا ليلاً على بعض البيوت والأحياء في القدس الشرقية، وأخرجوا أهلها منها واحتلوها، فصار نقاش في بعض الدوائر الإسرائيلية حول هذا العمل، فقام بعض الوزراء الإسرائيليين وقال بصراحة: أعترض على الطريقة التي تم بها إخراج العرب! لماذا يلجئون إلى ظلام الليل؟ ولماذا لم يخرجوهم في وضح النهار؟! إذاً: هو لا يعترض على إخراج المسلمين من بيوتهم؛ لكنه يعترض لماذا تخرجونهم بالليل؟! وما هو الداعي للتستر بالليل؟! لماذا لم تخرجوهم في وضح النهار، ثم قال: لماذا؟ لأنكم تملكون مستندات ووثائق أن هذه أرضكم، نعم! المستندات عندهم والكلام فيها يطول المقصود أنهم يحاولون أن يظهروا بمظهر أنهم قاعدة للعالم الحر، وقاعدة لتطبيق النظام الدولي الجديد الذي تنادي به أمريكا.(67/19)
عقيدة الغرب في اليهود
وأما من الناحية الدينية؛ فإن الغرب عندهم عقيدة -والغرب نصراني كما تعلمون- عندهم عقيدة بأنه لن ينزل المسيح إلا بعد أن تقوم مملكة، يسمونها مملكة الله في أرض يهوذا في فلسطين، وهناك معلومات غريبة ودقيقة جداً ذكرها الدكتور خالد الحسن في كتابه: البعد الديني في السياسة الأمريكية، وتحدث بمعلومات خطيرة مذهلة عن عقيدة النصارى في أمريكا وغيرها منها أنه لا بد من قيام دولة إسرائيل التي يسمونها مملكة الله في فلسطين، وأنه بعد قيام تلك الدولة سوف تحصل معركة يسمونها هرمجدون، وبعد ذلك سوف ينزل المسيح -هكذا عقيدتهم- وإذا نزل المسيح يعتقد الغرب أن اليهود سوف يتحولون آلياً إلى نصارى سوف يتنصرون.
ولذلك يقول: لا تعجل عليهم الآن، دعهم وما هم فيه؛ لأن نزول المسيح كفيل بتحويلهم إلى نصارى، فعندهم عقيدة دينية خلفية، تجعل أمريكا تدعم إسرائيل بلا حدود ولا قيود.(67/20)
الضغط اليهودي في الغرب
وهناك قضية اللوبي الصهيوني، جماعات الضغط اليهودية في أمريكا -وهي جماعات كثيرة جداً وعلى كافة المستويات، وبعض رؤساء هؤلاء الجماعات يملكون ويأخذون مرتبات تفوق مرتب رئيس أمريكا نفسه! وهذه الجماعات مهمتها تبني مواقف إسرائيل في القضايا، والضغط على كل المؤسسات الغربية والأمريكية لدعم إسرائيل، سواء أكان دعماً معنوياً في المحافل الدولية أم دعماً مادياً، ومع ذلك كله؛ فإن الغرب يعتبر نفسه مستفيداً من وجود إسرائيل، لأنها آمنة على مصالحه في المنطقة.
فإذا كنا نعلم جميعاً أن منطقة العالم الإسلامي، منطقة في غاية الخطورة والأهمية بالنسبة للغرب، خاصةً حين نعلم أنها تحتوي على معظم الموارد والثروات، والمعادن التي يحتاجها الغرب في حضارته وصناعته، بل وفي حياته اليومية الفردية، فإن الغرب لا يمكن أن يثق بالعرب والمسلمين، مهما قدموا فروض الطاعة والولاء، ومهما ظهر منهم من الإخلاص، إلا أنه لا يأمل أن يظهروا يوماً من الأيام أو يتبدلوا، فهو يحس أن الوضع المستقر -أمنياً وسياسياً- وغير قلق، غير قابل للتذبذب؛ لأنه وضع يعتبره الغرب قائم على أسس ديمقراطية إنه وضع إسرائيل، ولذلك يعتبر الغرب إسرائيل هي الحليف التاريخي في تلك المنطقة، وهكذا صار الغرب حليفاً لإسرائيل، وإسرائيل حليفة للغرب.
فالحقيقة حين تكون أمريكا قائمةً -مثلاً- بجهود السلام، فلا يمكن أن يتصور أنها وسيط معتدل أو وسيط منصف؛ لأنها وسيط غير محايد ولا نظيف ولا نزيه، بل هي مسئولة عن كل التقدم الذي أحرزته إسرائيل في كافة المجالات السياسية والعسكرية، وفي مجال الحروب، واحتلال الأراضي وغيرها، وليس سراً أن يقال: إنه بعد أن احتلت إسرائيل هضبة الجولان لم توافق أمريكا على إدانتها في المحافل الدولية، بل أرسل الرئيس الأمريكي لإسرائيل خطاباً فيه اعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل، وهذه من القضايا الشائكة أمام ما يسمى بمؤتمر مدريد.
الكونجرس كما تعرفون هو من أعلى السلطات في أمريكا، ليس غريبا أن تعلم أن سبعة وثلاثين من أعضائه هم من اليهود، وباقي أعضائه هم من المتعاطفين مع اليهود أو من الذين يدفع لهم اليهود آلاف الدولارات للعمل في مصلحتهم، وأي عضو في الكونجرس لا يخدم مصالح اليهود؛ تتم الإطاحة به عند الانتخابات؛ وذلك بشراء الأصوات المؤيدة له بملايين الدولارات، كما حصل ذلك مثلاً لعضو الكونجرس الأمريكي ول فندلي، الذي خدم اثنتين وعشرين سنة، وبعد ذلك تم عزله ثم ألف كتاباً عنوانه: من يجرؤ على الكلام، تكلم فيه عما يسمى باللوبي الصهيوني، أو جماعات الضغط في أمريكا، وهي ليست كلها يهودية، فهناك جماعات ضغط صهيونية، وهناك جماعات ضغط نصرانية مسيحية يسمونها أصولية وهي -أيضاً- متعاطفة مع اليهود، وتحمل العقيدة التي أسلفت الحديث عنها.
في أمريكا يوجد ستة ملايين يهودي يسيطرون فيها، على أشياء كثيرة، فكثير من الصحف يهودية، بعض الصحف اشتراها أغنياء اليهود.
الأمم المتحدة التي تدعي حفظ السلام العالمي، يمثل فيها اليهود (60%) من الموظفين والمستشارين، ولهذا تسعى إلى حفظ المصالح اليهودية في شتى أقطار العالم.
أما مجلس الأمن، فإن معظم مندوبي الدول الأعضاء فيه من اليهود، راجع في ذلك كتاب النفوذ اليهودي لـ فؤاد الرفاعي.(67/21)
عداوة الغرب واليهود للإسلام
أما الغرب فعداوته للإسلام ظاهره مكشوفة، فعداوة النصارى معلنة، والحروب الطاحنة بين المسلمين وبين النصارى يحفل بها التاريخ، وما الحروب الصليبية الكثيرة، بل الحملات الصليبية التي استمرت مئات السنين إلا نموذج للكيد النصراني الصليبي الحاقد على الإسلام؛ ولا زالت النصرانية بجيوشها وأعدادها وقوتها، لا زالت هي أوسع خطر يهدد الإسلام؛ لكثافتها وكثرة عددها، أما بالنسبة لليهودية: فهي بلا شك أكثر ضراوة من حيث العداوة كما قال عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] .
فهي أضر في العداوة وأقسى وأشد، ولكن اليهودية محدودة القوة، ومحدودة العدد، ولذلك فإنها لا تسلك مسلك المواجهة الصريحة المباشرة مع المسلمين، بل تلجأ إلى أساليب الحيلة والدهاء، والكيد من وراء الظهور.
فهم يستخدمون -مثلاً- عملاءهم في صنائعهم في العالم الإسلامي -لا أقول اليوم فقط، بل منذ فجر التاريخ- فكم خربوا في بلاد الإسلام ومجتمعات الإسلام من خلال يهود يتظاهرون بالإسلام، ثم ينشرون العقائد الباطلة، أو يخربون بين المسلمين، أو يحدثون بينهم الفتن.
ولعل عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أعلن أو تظاهر بالإسلام، نموذج للكيد والدس اليهودي الذي يبرز في كل زمان.
خرجوا يقطرون سماً زعافاً ومن ابن السوداء فيهم أمير ومع ابن السوداء يرميك رامٍ غادر من بنيك فظ كفورُ ابن السوداء ليس رجلاً انتهى ومضى ودفن لا، فـ ابن السوداء يبرز عليك في كل زمان وفي كل مكان بأقنعة شتى وألوان شتى، فقد يكون ابن السوداء، وقد يكون ابن البيضاء في أحيانٍ كثيرة؛ وليس المهم لونه ولا جنسيته ولا وطنه، المهم أنه يخدم مخططات اليهود، ويعمل بتعاليمهم وينفذ ما يخدم مصالحهم من خلال الكيد الخفي المدروس، لا من خلال الحرب المعلنة.(67/22)
اليهود والسلام
نقطة ثالثة ننتقل إليها وهي اليهود والسلام: يتساءل البعض عن مدى استعداد اليهود من السلام وموقف اليهود للسلام، وهل عند اليهود استعداد لعودة الفلسطينيين إلى أرضهم؟ هذه قضية تبدو من خلال بعض التصريحات، وبعض الأقوال لزعماء يهود قدماء ومعاصرين وكأن إسرائيل تدعو فعلاً إلى سلام؛ لكن هذا السلام الذي تدعو إليه إسرائيل، سلام يقوم على الاعتراف بالأمر الواقع، سلام يتمثل في وجود إسرائيل على الأرض العربية في فلسطين، ولا يمكن أن يدخل ذلك في منهج المفاوضات؛ إنها ترى أن على العرب أن يعترفوا بهذا الوجود، وأنه وجود شرعي قانونيٌ، وقد عبر زعماء إسرائيل كما ذكرت -عن ذلك في أكثر من مناسبة، منهم زعماء قدماء، ومنهم زعماء حاليون.
فـ ابن غوريون -مثلاً- عام (1957م) تكلم أو سُئل عن عودة قسم من الفلسطينيين العرب إلى أرضهم، فأجاب: إن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، إن إسرائيل لا يمكن أن تقبل أياً من اللاجئين، إن الحل العادل الوحيد الممكن هو في إسكانهم في المناطق الخالية من السكان، الغنية بثرواتها الطبيعية في سوريا، والعراق وغيرها يقول: لا يمكن أن يعودوا، أما مائير فقد أعلنت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (1960م) أن إسرائيل تعلن -بكل صراحة وبساطة- أنها لا يمكن أن تسمح بعودة أي لاجئ إلى أراضيها.
أما آشكول الذي خلف ابن غوريون على أساس أنه يرغب في السلام مع العرب، وأنه معتدل لا يحب الحرب فقد أعلن أن إسكان اللاجئين في البلاد العربية هو الحل الوحيد الذي يتفق مع مصالحهم الأساسية ومع الواقع وكذلك مع مصالحنا، يعني مع مصالح إسرائيل، مع مصالح اليهود، وقال: إنه لم تحل مشكلة لاجئين كبيرة في التاريخ الحديث بإعادتهم إلى مواطنهم الأصلية، لم يحصل ولا مرة واحدة أن اللاجئين حلت مشكلتهم بأن عادوا إلى موطنهم الأصلي، بل يمكن أن يبحث لهم عن مكان آخر خالٍ وملائم ليقوموا هم بتعميره، ويكون بذلك يعيشون في راحة واطمئنان.
فإسرائيل ترفض أي تعديل في حدودها مع الدول العربية، ويقول أحد المراسلين -نقلاً عن أحد المسئولين اليهود-: إنه على استعداد لمقابلة أي مسئول عربي في أي مكان وفي أي وقت، ولكنه يؤكد -في الوقت ذاته- أنه لن يتنازل عن إصبع واحد من أرض إسرائيل، ولن يسمح للاجئ واحدٍ بالعودة إلى أرضه، نقلاً عن مجلة اللوموند الفرنسية.
ولذلك من البديهي أن إسرائيل ترفض أن تبحث موضوع احتلال القدس، وتصر على أنها أرض إسرائيلية؛ بل إنها عاصمة إسرائيل إلى الأبد، وقد رفضت قرار هيئة الأمم المتحدة التي أصدرته عام (1967م) بل تطالب بحقوق كاملة في المرور عبر قناة السويس، كما تطالب بإنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية، وتوسيع حدودها التي كانت لها عام (1967م) .
إن إسرائيل تريد سلاماً وفق شروطها هي؛ فهي على استعداد دائم للسلام! ولكنها لم تقدم أي تنازلات مهما كان نوعها، وقد تأكدت هذه الاتجاهات مؤخراً في إسرائيل وصار الخلاف بين إسرائيل على التكتيك -كما سوف يأتي بعد قليل- فإسرائيل تسعى إلى اكتشاف سبيل يمكن ألا يؤدي إلى توتر في المنطقة، يعني: من أجل السلام، فإن إسرائيل لا ترى أن تتخلى هي عن شبر من الأرض الإسلامية أو تستقبل أي لاجئٍ يعود إلى أرضه… كلا! لا هذا ولا ذاك، وترى أن ما يمكن أن يساهم في إحلال السلام، وإحلال السلام بالطريقة الإسرائيلية في امتلاك قوة رادعة عند اليهود.(67/23)
شروط اليهود للسلام
نعود إلى
السؤال
لماذا جاء شامير إلى مدريد؟؟! أولاً: جاء وسط ضمانات أمريكية تصل إلى سبعة عشر ضمانة لإسرائيل -ولم تعد هذه الضمانات سراً، فقد أعلنت، وإليك هذه الضمانات التي قدمتها أمريكا لإسرائيل، وقد كشفها وزير الخارجية الإسرائيلي نفسه، وأوضح أن رسالة الضمانات تتضمن سبع عشرة نقطة، وليست الصيغة النهائية أيضاً، فقد يطالب اليهود بالمزيد، وأعلن في ختام اجتماع اللجنة: علينا أيضاً العمل على تحسين بعض النقاط.
أما النقاط السبع عشرة فهي كما يلي: 1- الهدف الأساسي للمفاوضات: هو إرساء سلام حقيقي وتوقيع اتفاق سلام، وإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها، إذاً: انتظر وجود السفارات الإسرائيلية في العواصم العربية كلها! 2- لن يكون لمؤتمر السلام سلطة فرض وجهة نظره على الأطراف، أي: لن يفرض مؤتمر السلام على إسرائيل شيئاً لا تريده، إنما هو لمجرد المفاوضة والحديث، وإن شئت فقل يكفي من مؤتمر السلام أنه اعتراف من الأطراف العربية بإسرائيل، ووجودها وحقها في الوجود، وغير ذلك.
3- المفاوضات بين الأطراف ستكون مباشرة بدون وسيط.
4- الولايات المتحدة لا تدعم فكرة الربط بين المفاوضات المختلفة -الإسرائيلية السورية، أو الإسرائيلية الأردنية، أو الإسرائيلية الفلسطينية.
5- إن أي طرف لن يجبر على التفاوض مع من لا يرغب في التفاوض معه، أي: أنه من الممكن أن تتفاوض إسرائيل مثلاً مع أي طرف عربي ترى مصلحتها في التفاوض معه لكنها ترفض التفاوض مع طرف آخر لأنه متعنت، أو لا ترغب التفاوض معه.
6- لا تعتزم الولايات المتحدة إجبار إسرائيل على التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.
7- إن الفلسطينيين المشاركين في مؤتمر السلام سيكونون من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
8- الولايات المتحدة لا تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة.
9- لإسرائيل الحق في تفسير قراري مجلس الأمن رقم (242-338) كما تريد.
10- لإسرائيل الحق بحدود آمنة تضمن أمنها.
11- ستعمل الولايات المتحدة على بسط السلام في الشرق الأوسط.
12- ستستمر الولايات المتحدة في العمل لإلغاء المقاطعة العربية لإسرائيل، أي مقاطعة العرب للاقتصاد الإسرائيلي مثلاً: المقاطعة الثقافية، المقاطعة السياحية… إلى آخره.
13- إلغاء قرار الأمم المتحدة الذي يعتبر الصهيونية، شكلاً من أشكال العنصرية.
14- خلال المؤتمر ستقوم الولايات المتحدة بإجراء مشاورات مع إسرائيل، أولاً بأول.
15- تجدد الولايات المتحدة اعترافها المعلن عام (1975م) والذي اعتبرت فيه أن للجولان دوراً استراتيجياً، وهذه الكلمة فيها غموض، إلا أنها تذكير بالجولان أي: أنها لا تعترض على ضم إسرائيل للجولان إلى أراضيها.
أيضاً من الضمانات الأمريكية لإسرائيل: 16- أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لضمان الحدود المستقبلية بين إسرائيل وسوريا، ولإسرائيل الحق بحدود شمالية آمنة في حالة الانسحاب من لبنان.
17- أخيراً الولايات المتحدة تضمن أمن إسرائيل.
هذه بعض الضمانات التي جاء بها اليهود إلى مؤتمر مدريد للسلام، فلا غرابة حينئذٍ بأن يأتوا.
لكن كيف تستقبل إسرائيل مثل هذه المؤتمرات؟(67/24)
طريقة إسرائيل في استقبال مؤتمرات السلام
في كل مرة وفي هذه المرة أيضاً، تستقبل إسرائيل مؤتمرات السلام ودعاوى السلام العريضة، بدعم التسليح واستقطاب الخبرات النادرة من أنحاء العالم، وفي هذه المرة يتزامن السلام مع قدوم أعداد هائلة من المهاجرين اليهود من روسيا، ومن الاتحاد السوفيتي وفيهم أعداد غير قليلة يمتلكون خبرات نادرة، وتستقبل إسرائيل مؤتمرات السلام بزيادة نفقات الحرب، وفي هذه المرة بالذات زادت من اعتماد وزارة الدفاع بمبلغ مائتي مليون دولار، ولذلك قالت إحدى الصحف الفرنسية: " إن إسرائيل قد اقتربت من مؤتمر السلام ويدها على الزناد ".
أولاً: إسرائيل تعلم أن المفاوض من مركز قوة غير المفاوض من مركز ضعف.
ثانياً: إن إسرائيل تعتبر السلام سلاماً هشاً لكسب الوقت فقط، وينبغي أن تعمل بشكل دائم ومستمر على تسليح نفسها لمواجهة عدوها، بل لبسط نفوذها وتحقيق حلمها فيما يسمى بإسرائيل الكبرى.
ثالثاً: تستقبل مؤتمرات السلام بالتوسع في بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي العربية وتهجير اليهود من أنحاء العالم إلى إسرائيل، بحيث تصبح المطالبة -في ظل تلك الظروف- بالأراضي المحتلة عام (1967م) -كما يطلبون الآن- أمراً مستحيلاً، لأنها تبني فيها المستوطنات بشكل غريب، وتسكن فيها اليهود الذين يهاجرون، وبالتالي سوف يزيد عدد اليهود بنسبة كبيرة وتصبح المطالبة بهذه الأرض فيما بعد أمراً مستحيلاً أو شبه مستحيل.
إسرائيل تتميز بنظرة عميقة في هذا الجانب، تدرك أن السلام أمر مؤقت، وأنه لكسب الوقت كما ذكرت، ولذلك يقول رئيس الأركان الإسرائيلي: " إن الأحداث في الاتحاد السوفيتي تثبت أن الاستقرار العالمي هش جداً، ويمكن أن يتبدل في أي وقت، وإذا كان خطر الحرب أصبح مستبعداً الآن في المدى المباشر؛ فإن حرب الخليج برهنت على أنه لا بد لدولة كإسرائيل أن تستعد لما يقع على المدى المتوسط أو على المدى البعيد، وذلك لأن ظروفاً بالغة التعقيد يمكن أن تنشأ فجأة ".
هذه نظرتهم! توقع تغير الأحداث تغير الظروف المفاجئة بأحداث جديدة، واحتمال بروز قوى لم تكن واردة في الحساب، وظروف معقدة؛ ولذلك هم يرون أن الخيار الوحيد أمامهم: هو المزيد من التسليح؛ ولذلك يعكف اليهود على المطالبة والعمل على تحقيق أمرين: الأمر الأول: توفير قمر صناعي يهودي خاص؛ للتجسس واستكشاف كل ما يجري حول إسرائيل في المنطقة العربية، وهم في مجال إيجاد هذا القمر.
الأمر الثاني: إنتاج صواريخ -كما ذكرت قبل قليل- يسمونها (صواريخ آرو) مضادة للصواريخ أيضاً، وذلك في وقت قصير وبالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال ذلك تقوم إسرائيل ببعض المناورات في موضوع السلام وتبتز من خلالها الغرب، والشرق، والعرب، بمزيد من التنازلات وهي تعلم أن الأمر مجرد كسب الوقت، ولعلكم سمعتم وتسمعون أن إسرائيل منذ فترة تطالب أمريكا بعشرة بلايين دولار؛ لاستيعاب المهاجرين السوفيت الذين قدموا إلى إسرائيل- كمساعدة إنسانية، ولما حجبها الرئيس الأمريكي بعض الشيء، لمصالح شخصية تتعلق بموقفه وبقضايا ليس العرب منها بقليل ولا كثير ولا قبيل ولا دبير قال أحد المسئولين اليهود: لا نقبل ولا نعتقد أبداً أن عدم بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الذي يدعم السلام، لا، بل يقول العكس، توطين اليهود وبناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الذي يساهم في عملية السلام ويدعمها.
وسوف تعرف كيف يكون هذا داعماً لقضية السلام، وبلا شك أن الموضوع طويل، وبقي فيه قضايا كبيرة ومهمة.(67/25)
الطريقة المثلى للسلام عند اليهود
يرى اليهود أن الطريقة المثلى للسلام هو أن يمتلكوا هم قوة رادعة كافية في منطقة الشرق الأوسط! ولذلك رفعوا شعار: "السلاح لإسرائيل" السلاح الذي يسعى إلى السلام، ويدافع عنه، وهو -السلام- يكون في وجود إسرائيل قوية يدعمها جيش حسن التجهيز، وذلك يستدعي أن يكون السعي للتفوق العسكري على العرب، هو أهم قضية في حياة إسرائيل.
إن السلام النسبي الذي يخيم على الشرق الأوسط في السنوات العشر الأخيرة، يقولون: نتيجة مباشرة لقوة إسرائيل العسكرية؛ وذلك لأن هدف المعارك التي تخوضها وقت السلم هو تثبيت السلام! وفي تسويغ إسرائيل للاعتداءات التي تشنها على العرب؛ تدعي إسرائيل أن هذه الحوادث تؤكد وجوب التقدم لإحلال السلام في المنطقة! فاليهود لهم طريقة خاصة في السلام، وهذه الطريقة هي أن يمتلك اليهود قوة ضاربة تكون ردعاً للعرب وللمسلمين، بحيث لا يفكرون باستنقاذ شيء من حقوقهم التي أخذها اليهود، بل لا يفكرون في مقاومة إسرائيل حينما تلتهم دفعات جديدة من الأراضي الإسلامية؛ ولذلك لا تستغرب أن إسرائيل رغم أنها دولة محدودة الرقعة، محدودة العدد من حيث السكان، لا تستغرب أبداً أن مجتمع إسرائيل كله يعتبر جيشاً لها، فقد جندت كل مواطن إسرائيلي، ودربته من سنتين إلى ثلاث سنوات، وهي قادرة -بمقاييسها البشرية- خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، على حشد أربعمائة ألف جندي لمواجهة أي خطر يهددها! صحيح أنها لا تحتفظ بجيش كبير، بل تعمل بنواة صغيرة من القوات؛ ولكنها تعزز الأكبر من قواتها في الاحتياط، الذي يساعده على ذلك، سهولة المواصلات وتوفر وسائل النقل، فهي تستطيع -بتقديراتها البشرية- أن تحشد هذا العدد الهائل من الجنود وإيصالهم إلى ميدان المعركة خلال ثمانٍ وأربعين ساعة؛ بل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع أن تجمع قواتها الاحتياطية في غضون أربعٍ وعشرين ساعة ثم تنقلها إلى الجبهة في غضون ثمانٍ وأربعين ساعة، فهناك مبدأ، أو مبادئ يسمونها مبادئ ابن غوريون يقول: إن إعداد جيش قوي لإسرائيل، ضروري، ليس فقط للانتصار على العرب، فهذا أمر مفروغ منه.
لكن للانتصار السريع وبأقل قدر ممكن من الضحايا اليهود، يقول: لا يوجد لدينا وقت، التاريخ يسبقنا، علينا أن نعمل بسرعة، ولذلك لا تستغرب أيضاً أنه في عام (1985م) -وأعتبر التواريخ بالميلادي؛ لأنه يصعب عليَّ تحويلها إلى الهجري، والمراجع تذكر هذا التاريخ الميلادي- في عام (1985م) كان السلاح الجوي الإسرائيلي يملك سبعمائة طائرة، أكثر من (50%) منها صنع إسرائيلي، وربما زادت النسبة الآن إلى أكثر من (85%) منها يعني: أن (85%) منها، من سلاح الجوي الإسرائيلي -تقريباً- صناعة يهودية، وأما عدد الطائرات فلا أعرف رقماً دقيقاً لذلك، ففي عام (1980م) وصلت مبيعات السلاح الإسرائيلي الخارجية، إلى أربعمائة مليون دولار -هذا خبر قبل أكثر من عشر سنوات- أربعمائة مليون دولار هذه مبيعات السلاح الإسرائيلي إلى الخارج! إذاً فإسرائيل أصبحت ترسانة أسلحة، وأصبحت تصدر الأسلحة إلى الخارج وتدعم الكثير من الدول في إفر يقيا وفي غير إفريقيا.(67/26)
نظرة اليهود للسلام
فلماذا جاء شامير إلى مدريد ما دامت القضية هكذا؟ أولاً: من الأشياء الطريفة أن يأتي إلى ذلك المؤتمر، ثم يلقي كلمته، وبعد أن يلقي كلمته، ينصرف من المؤتمر لأن غداً يوم العطلة المقدس عند اليهود، يوم السبت، فهو لا يستطيع البقاء ولابد أن يذهب هناك، فهناك طقوس دينية لا بد أن يمارسها؛ إنها ضربة على الوجوه لمن جاءوا يحملون أسماءً عربية، لأن بداية المؤتمر كان في يوم الجمعة، ولم يتحرك هؤلاء وأنى لهم أن يتحركوا، وكيف يفكرون أن يتحركوا ويؤدوا شعائر صلاة الجمعة، على حين أن ذلك الرجل اليهودي أعطاهم ضربة على وجوههم حينما غادر المؤتمر من أجل أن يذهب إلى دولته في إسرائيل ليؤدي شعائر يوم السبت.
المؤتمر عقد في أسبانيا البلد الذي شهد يوماً من الأيام الفتح الإسلامي، ثم شهد خروج المسلمين من تلك البلد الواسعة التي كانت تسمى بالأندلس، ولا أدري! هل كان على سبيل المصادفة أن يعقد مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي في أسبانيا؛ أم إن الغرب اختار ذلك الموقع بعناية؛ ليؤكد على أن المسلمين سوف يسلمون فلسطين وما حولها بوثيقة الذل والهوان كما سلموا من قبل وثيقة الذل والهوان، ووقعوا عليها في الأندلس، فالأمران متشابهان؟! خلت فلسطين من أبنائها النجب وأقفرت من بني أبنائها الشهبِ طارت على الشاطئ الخالي حمائمه وأقلعت سفن الإسلام والعربِ يا أخت أندلس صبراً وتضحيةً وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقبِ وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ بمثلها أمة الإسلام لم تصبِ أيضاً من الغريب، ولا أدري! هل كان -هذا أيضاً- مصادفة أن الشهر والعام الذي عقد فيه ذلك المؤتمر يوافق تماماً الشهر والعام الذي عقد فيه الاجتماع بين النصارى وبين أبي عبد الله الملك الخائن في الأندلس الذي وقع وثيقة الذل والهوان والاستسلام، لقاء الاحتفاظ بمميزاته وخصائصه الشخصية ومصالحه الذاتية، ففي عام (1491م) ، وفي شهر نوفمبر وقعت وثيقة تسليم الأندلس للنصارى، وفي عام (1991م) وفي نوفمبر أيضاً، بدأ مؤتمر مدريد للسلام بين العرب واليهود.(67/27)
القصد من طرح هذا الموضوع
بقي الحديث عن مكاسب اليهود من خلال مؤامرة أو مؤتمر السلام، وبقي فيه: الحديث عن العرب ومواقفهم ومكاسبهم، أو خساراتهم، وبقي فيه الحديث عن آثار كامب ديفيد الذي عقد كسلام منفرد بين مصر وإسرائيل، وما جرى في مصر من جراء اليهود فيها، من آثار اقتصادية وآثار أخلاقية، وآثار أمنيه، المهم آثار التطبيع الأخلاقية والثقافية وغيرها، وبقي الكلام عن حجج المطالبين بالصلح مع إسرائيل، وبقي: الكلام عن الحكم الشرعي في مثل هذه الأمور.
وأخيراً بقي الكلام: عن قضية أعتبر أن من المهم أن أشير إليها الآن ولو إشارة عابرة؛ لأنه جاءني سؤال يتعلق بها، ألا وهي قضية: أننا حين نتكلم مثل هذا الكلام؛ فإننا لا نعني أبداً أن نملأ قلوب الناس بالخوف من شيء اسمه اليهود؛ بل على النقيض من ذلك، فعلى رغم هذه القوة التي حصلوا عليها بحبل من الناس، كما قال الله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس ِ} [آل عمران:112] وعلى رغم ذلك فإن ربنا عز وجل يقول في محكم تنزيله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] .
فهم قوم جبناء فرارون مختلفون فيما بينهم، تحسبهم جميعاً كما قال الله عز وجل في كتابه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] .
ونحن أيضاً مع ثقتنا بهذه النفسية التي يعيشها اليهودي؛ فإننا ندري أن هذه الفترة التي يعيشونها فترة مؤقتة، وأن هذا الدعم الذي يمدهم من الغرب آيل إلى انقطاع.(67/28)
الأمة تملك الكثير
الأمة الإسلامية تملك من وسائل القوة في مواردها وخيراتها وأرضها وفي أعدادها البشرية الهائلة وفي إمكانياتها، وفي إيمانها بربها وفي التضحية والفداء الموجود عند المسلم الذي يسير إلى القتال وهو يفرح ويقول: واهاً لريح الجنة يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها هذا لا يملكه لا يهودي ولا نصراني ولا غيره إلا المسلم الذي يقاتل ورائحة الجنة في أنفه المسلم الذي يخوض المعركة وهو يتمنى أن يقتل في سبيل الله عز وجل وأن يراق دمه حتى يكون من الشهداء عند الله تعالى.
فالأمة الإسلامية تملك إمكانيات هائلة لا أقول: تملك إمكانيات لمواجهة إسرائيل، ولا أقول: الأمة الإسلامية تملك إمكانيات هائلة لمواجهة الغرب النصراني ومواجهة إسرائيل ومواجهة كل القوى الكافرة؛ صحيح نحن لسنا نعيش أحلاماً ولا نعتقد أن الأمة بوضعها الحالي تملك ذلك، فهي تملكها من حيث القوة، لكنها بحاجة إلى أن تملك العقول المفكرة تملك القلوب المؤمنة التي عرفت ربها فعبدته، آلت على نفسها ألا تعبد إلا الله ولا تتوكل إلا على الله ولا تسأل وتدعو إلا الله عز وجل فعم القلوب والعقول والنفوس التي عرفت طريق العزة والكرامة، إذا توحدت -هذه الأمة- على كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا نبذت الفرقة والخلاف فيما بينها على قضايا فرعية جزئية أو أحياناً على قضايا لا قيمة لها البتة، وإذا بدأت الأمة تعمل عملاً جاداً لتثبت وجودها لتبدأ من جديد لتسلك الطريق، فليس في عقول المسلمين عجز أو نقص! صحيح أن اليهود شعب يملكون من وسائل التفكير والعبقرية ما لا يملكه غيرهم! فهم قد يملكون عبقرية الهدم والتدمير أما المسلمون العرب، وغيرهم من المسلمين فإنهم يملكون عبقرية البناء عبقرية إمكانية الحصول على الأسرار الصناعية من الغرب والشرق، والابتكار في ذات الوقت، ويملكون الموارد الطبيعية كما أسلفت، ويملكون الثروة البشرية.
ويملكون قبل هذا كله وبعده هذا الدين الذي لو رجعوا إليه وصدقوا تعاملهم معه، وعرفوا الله تعالى من قلوبهم الصدق والإخلاص فلن يتخلى الله تعالى عنهم، ونحن مع هذا نملك شيئاً آخر لابد أن نشير إليه وإن كنت أتحدث عنه بشيء من التفصيل -نملك وعداً ممن لا يخلف الميعاد من ربنا عز وجل، على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بأن لهذه الأمة جولة قادمة منتصرة تواجه فيها اليهود، وتكون أمة صادقة.
ولذلك يسخر الله تعالى لها حتى الجمادات فتنظم إلى موكب المقاتلين، فيتحدث الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، ونملك -أيضاً- وعداً: أن إسرائيل مهما تغطرست، ومهما عاشت أحلام ما يسمى بإسرائيل الكبرى إلا أن الحدود التي ستظل عليها إسرائيل -والله تعالى أعلم بما يقع- لن تكون بعيدة عما يكون عليها الآن؛ فقد جاء في حديث: {أنكم تقاتلون المشركين على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} على نهر الأردن.
إذاً أحلام إسرائيل التوسعية من البحر إلى النهر، ومطامحها ومطامعها، سوف تصطدم بعقبة القضاء والقدر، والله تعالى لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ونحن نقول هذا ثقة بالله عز وجل وتوكلاً عليه وإيماناً به، ولا أعتقد أن مسلماً يعرف الله تعالى ويحبه ويثق به يمكن أن يخاف من إخوان القردة والخنازير أو يرهبهم، وهو يعلم أن الله تعالى ينصره متى كان ناصراً لله تعالى في ذات نفسه متى ما كان مخلصاً لله عز وجل مؤمناً به متوكلاً عليه واثقاً به مقدماً لأمر الله تعالى على كل شيء، بل إن من المفسرين من فسر بعض الآيات القرآنية على ضوء هذا في قوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيرا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:4-7] .
فقال أكثر المفسرين: إن كلا الوعدين قد مضى وسبق في التاريخ لكن الله تعالى قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء:8] .
فقوله: وإن عدتم عدنا مشيراً أن وعد الله عز وجل على بني إسرائيل في الكتاب مرتين؛ يمكن أن يتكرر مرة ثالثة ورابعة متى عادوا إلى ما كانوا عليه.
جدد رجالك أيها الإسلام فالمسلمون بعصرنا أقزام تركوا الهدى واستبدلوه ضلالة حادوا وضلوا والقلوب ظلام ركضوا وراء زخارف براقة وتنازعوا الدنيا كما الأنعام أين الذين على الذرى رفعوا اللوا باسم الإله فأشرق الإظلام فتحوا البلاد شمالها وجنوبها شرقاً وغرباً والدنا أنغام فاستعبدوهم واستباحوا فكرهم فالغرب يخدع والشعوب نيام والمسلمون الراقدون كأنهم موتى بأجداث صداها الهام لكنهم نفضوا السبات تنبهوا يا ويح يقظتهم هي الأحلام قومي انظري يا أمتي درب الهدى جنباته ملء العيون رغام ضلت قوافلك التي سيرتها واثاقلت من خزيها الأقدام يا أمتي زاد البلاء عروبة قومية قد صاغها أقزام يا حسرة يا قدسنا ضاع الرجا ترثيك لبنان كذاك الشام لن ينصر الله الذين تخاذلوا لا ينصرون ولو عدت أيام(67/29)
إسرائيل تحصد ميداليات مؤتمر السلام
لقد حقق اليهود مكاسب كبرى في كل عملية سلام يحاولها العرب، وأبرز هذه المكاسب ما يلي:(67/30)
تمزيق العرب إلى دويلات صغيرة مفككة
هناك مكاسب أخرى كثيرة لا يمكن حصرها لإسرائيل، وفي المقابل خسائر عربية منها -مثلاً- دخول كل دولة من الدول -على حدة- ومفاوضتها لإسرائيل دون الدول الأخرى؛ وبكل تأكيد فإن هذا التمزق الذي حصل، لن يتمكن العرب معه من استرجاع هويتهم الجماعية بعد المؤتمر، فقد دخلوا المؤتمر كدولة مستقلة -كل دولة لا علاقة لها بالأخرى- واستطاعت إسرائيل أن تقنع أمريكا بشيءٍ كهذا، بعد أن كان العرب منذ زمان يتكلمون عن الحلول الانفرادية، وأنها مرفوضة؛ قبلوا وجلسوا على مائدة المفاوضات مع إسرائيل على انفراد؛ فذابت بذلك شخصيتهم الجماعية.
ونحن نتكلم عنهم كما يتكلمون هم عن أنفسهم باعتبارهم عرباً، لأنه كما سبق وأسلفت: الإسلام لم يدخل المعركة لا هنا ولا هناك، لذلك ينبغي أن نعرف أن إسرائيل تحرص على تفتيت الدول العربية -أكثر مما هي عليه الآن- إلى دويلات صغيرة، وقد جاءت تقارير عديدة تؤكد ذلك، أقرأ عليكم مقالاً في غاية الغرابة للدكتور عبد الله بن فهد النفيسي، تعجبت وذهلت بعد أن قرأته! وإن كنت لا أستطيع أن أقرأ عليكم الموضوع كاملاً لحساسيته؛ لكني أقرأ ما يتعلق بهذا الموضوع منه يقول: " إسرائيل والخليج على صهوة الكلمة " هذا المقال أعتقد أنه سنة ألف وأربعمائة وستة يقول موسى شاريت -رئيس وزراء إسرائيل الأسبق- في مذكراته: " أنه لكي تبقى إسرائيل لابد من تحقيق هدفين هامين: أولهما: أن تصبح إسرائيل قوة إقليمية مهيمنة، تتمتع دائماً بالتفوق العسكري على العرب.
وثانيهما: أن تفرض إسرائيل تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة ضعيفة ومفككة ".
لقد كتب شاريت هذا الكلام في الخمسينات، ومن يتفحص واقع الصراع العربي الإسرائيلي؛ لا يحتاج إلى كثير ذكاء لكي يعرف أن إسرائيل نجحت في تحقيق الهدف الأول نجاحاً واضحاً، وأنها مستمرة في تحقيق الهدف الثاني لقد صرح شاريت وكذلك بن غوريون وطرحوا عدة أفكار لتحقيق الخطوة الثانية -أي تقسيم المنطقة الإسلامية إلى دويلات صغيرة ضعيفة ومفككة- تارة تحت شعار طائفي أو عرقي أو غير ذلك، فلقد طرحوا آراء لتقسيم لبنان، وسوريا، والعراق والأردن ومصر … إلخ.
إذاً: هم يعتبرون من أهم مكاسبهم تمزيق العرب إلى دويلات صغيرة مفككة ومشتتة، بل ومتناحرة فيما بينها، وتمزيق المسلمين كذلك، وإيجاد التناقضات بينهم.
وهذا ما حصل في المؤتمر فقد دخلت كل دولة من الدول العربية على حدة، وكانت إسرائيل غير ملزمة أن تتفاوض مع الجميع، فتتفاوض مع من تريد وترفض مفاوضة من لا تريد، فمن الممكن جداً أن ترفض مفاوضة الفلسطينيين -مثلاً- أو السوريين أو أي طائفة أو دولة لا ترضى بالمفاوضة معها.(67/31)
إسرائيل تنظم وتدير شئون العرب
كما أن من الخسائر: أن إسرائيل بدت وكأنها هي التي تنظم المؤتمر، وتدير شئون العرب فيه، فهي التي تحدد الوفد الفلسطيني -مثلاً- وترفض أن يكون لهم انتماء إلى منظمة التحرير أو غيرها، وأن يكونوا ممثلين لكل طبقات الفلسطينيين، كما رفضت واشنطن التمثيل المستقل للفلسطينيين، بناءً على طلب إسرائيل، كما رفضت أيضاً إدراج موضوع القدس ضمن القضايا المطروحة.
كما رفضت الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، كما رفضت أمريكا مطالبة إسرائيل بتجميد عمليات الاستيطان، التي مازالت قائمة على قدم وساق، حتى أنه أصدر أحد الوزراء الإسرائيليين بياناً يقول: هناك حملة اليوم لا مثيل لها -في الاستيطان منذ عام ثمانية وأربعين، لأول مرة هذه الحملة الضارية من الاستيطان اليهودي، لإثبات أقدام اليهود وترسيخها في البلاد التي احتلوها.(67/32)
الوقت ليس في صالح العرب
كذلك من الخسائر: أن العرب عرفوا ويعرفون أن الوقت ليس في صالحهم، فحتى لو فرض وجود سلام مؤقت، فإنه ليس في صالح العرب، وذلك أن إسرائيل قد جندت كل استخباراتها، وكل وسائلها وإمكاناتها لسرقة الأسرار العسكرية والحربية والاقتصادية من أنحاء العالم، وكل يوم يزيدها رسوخاً وثباتاً وعمقاً.
أما بالنسبة للعرب فهم على النقيض من ذلك، وهم يحاولون أن يلتقطوا أنفاسهم، حتى يضمنوا للمواطن شيئاً من لقمة العيش التي حرمها في أكثر من بلد، وأصبح يلهث ليله ونهاره بحثاً عنها.
فمن الناحية العسكرية مثلاً -خلال هذه المفاوضات- استطاعت إسرائيل أن تخترق المجال الجوي، لعدد من الدول العربية عدة مرات، وهذا الاختراق له دلالاته؛ فهو إشارة إلى الذراع الطويلة القوية لإسرائيل، وتهديد العرب، وإشعارهم بأن إسرائيل تتفاوض معهم من موقع قوة، وهو -أيضاً- رسالة إلى أمريكا تقول لها: إن إسرائيل تستطيع أن تستغني عنكم، وليست بحاجة إليكم حتى تدافعوا عنها، فهي قادرة على أن تدافع عن نفسها.
وكذلك الحال بالنسبة للنواحي العسكرية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والأمنية في البلاد الإسلامية والعربية، فإن الوقت فيها يتراجع في حين تحكم إسرائيل قبضتها لضبط أمورها والقضاء على كل التحديات العسكرية والأمنية التي تواجهها داخل إسرائيل.(67/33)
إسرائيل هي الرابح الأول والأكبر من المؤتمر
كما أن من الخسائر الواضحة والفادحة: أنه في الوقت الذي اعترف فيه العرب بالوجود الإسرائيلي وجلسوا على طاولة المفاوضات وقدموا هذه القائمة الطويلة من التنازلات؛ فإن من المعروف أن هذا المؤتمر أشبه ما يكون بندوة حوار ومناقشة، إذ ليس له حق بإصدار قرارات أو تصويت أو فرض الحلول المعينة على أحد أطراف النزاع، وبذلك نعلم أن إسرائيل قد حصدت كما يقال ميداليات السلام في هذا المؤتمر وذهبت بها، وأنها حتى على فرض تقديم تنازلات شكلية فهي الرابح الأول والأكبر في مثل ذلك!(67/34)
إزالة المقاطعة السياسية والثقافية والحدودية
ومن مكاسب إسرائيل واليهود: إزالة المقاطعة السياسية والثقافية والحدودية مع العرب، وهذه المقاطعة تؤثر سلبياً في صعوبة نقل السلع الإسرائيلية؛ لأنها لا يمكن أن تنقل عبر البَر بسبب المحاصرة العربية، ويمكن أن تنقل جواً وبصعوبة وهذا يجعل الأسعار مرتفعة ويجعل السلع الإسرائيلية في الأسواق العالمية غير قادرة على المنافسة، وبالتالي يصيب هذا -كما أسلفت- الاقتصاد اليهودي بشيء من الكساد، فإذا زالت هذه المقاطعة أمكن إسرائيل أن تنقل بضائعها عبر البَر وعبر الأراضي العربية، لا، بل أمكن إسرائيل أن تنقل بضائعها إلى البلاد العربية نفسها، بحيث تكون الأسواق العربية مفتوحة على مصراعيها للبضائع والمنتجات والصناعات الإسرائيلية.
إن منع التواصل بين العرب والمسلمين وبين اليهود في هذه الرقعة يضر بإسرائيل كثيراً فهم حريصون أشد الحرص على فتح الحدود، ليذهب اليهود إلى البلاد العربية، والعرب والمسلمون يأتون إلى إسرائيل دون أي تحفظ.
ومن الأمور التي قد تكون يسيرة جداً وبسيطة لكنها ملفتة -أيضاً- أن هناك كتاباً عالمياً للطيران، هذا الكتاب يتحدث عن بطاقات الطيران وعن التذاكر وغيرها، وكيف يمكن استرجاعها إلخ، لكنه في إحدى البطاقات -وهو موجود في كل بلاد العالم بما في ذلك البلاد العربية، ومتداول- يصور لك -مثلاً- تذكرة طيران… اسم الراكب ديفيد ليفي، وتحته: لا يمكن استرجاع قيمة هذه التذكرة إلا في إسرائيل.
قد يتصور أن هذا الأمر غير مقصود، ولكن هؤلاء القوم يخططون حتى للأشياء التي تظن أنها تافهة وبسيطة، وقد رأيت هذا الكتاب وهذه التذكرة بعيني.
إن إسرائيل تريد أن تكون حدودها مفتوحة للمسلمين، وحدود البلاد العربية والإسلامية مفتوحة لها، وهذا يفسر لك حرص إسرائيل على عقد المؤتمر أو بعض جلساته -كما يقولون- هم في الشرق الأوسط، عقد بعض المفاوضات في الشرق الأوسط، لماذا؟ لأن من أهم مقاصدهم: أنهم يريدون أن يأتي العرب إلى إسرائيل، أو حتى أن يذهب اليهود إلى أي بلد عربي آخر -إلى الأردن مثلاً، أو إلى لبنان أو إلى سوريا، أو إلى أي بلد عربي آخر- حتى يعقدوا المفاوضات هناك، لأن اليهود يعتبرون من أهم مكاسبهم أن العرب لا بد أن يتعاملوا مع إسرائيل معاملة طبيعية معترف بها، بعيداً عن تجنبها أو مقاطعها.
ولذلك حرصوا على عقد المفاوضات مع إحدى البلاد العربية -حتى لو في غير إسرائيل- لأنهم يعتبرون هذا تمهيداً لكسر هذه الحواجز الحدودية، وقد دعا بيريز في مقالته عن آفاق التعاون الإقليمي، دعا إلى تعاون بين دول المنطقة العربية وغير العربية، وقال: " إن هذا التعاون يمكن أن يقوم على المعرفة وعلى المهارة البشرية اليهودية، وعلى النفط والسوق العربيتين وعلى المياه التركية، فهذا هو التكامل " وأحياناً يقولون: بالنسبة للأعداد البشرية، فالعمالة تؤخذ من البلاد العربية والخبرة من اليهود ورءوس الأموال -أيضاً- من العرب، وهذه نظرة عنصرية قومية بلا شك تستهدف الاستحواذ على الثروة النفطية وعلى الطاقات الإسلامية، وكأن المسلمين ليسوا مؤهلين الآن ولا مستقبلاً للإفادة من هذه الطاقة، فيحتاجون أن يتولى اليهود بمعرفتهم ومهاراتهم -فيما يزعم- الانتفاع بها.
ومن أهم نتائج ذلك -كما هو ظاهر- غزو الأسواق بالمنتجات اليهودية، التي كانت تقاطع بالأمس، وفتح الطريق أمام علاقات دبلوماسية مع اليهود، وإقامة سفارات أو قنصليات -كما هو مطروح- في البلاد العربية وهو جزء مما يسمى بالتطبيع، وسوف أتحدث عن موضوع التطبيع لخطورته وسعته في درس مستقل بإذن الله تعالى، لأنه من أهم القضايا التي تبنى على عملية السلام.
كذلك فتح الباب أمام السواح اليهود ليأتوا إلى البلاد العربية، بل وأن من حقهم أن يزوروا حتى الأماكن الدينية والأثرية والتاريخية، على حد سواء مع العرب ومع المسلمين، وهذه من بنود الصلح الذي عقد في مؤتمر كامب ديفيد كما سوف أشير إلى ذلك بعد قليل.
أما التعامل الثقافي، فجانب مهم من جوانب التطبيع، وخلاصته إنهاء حالة العداء مع اليهود.
ولعل العناق الحار الذي رُئي وشوهد في أكثر من مكان، بين الوفد الإسرائيلي وبين مجموعات من الوفود العربية، والابتسامات العريضة التي كست وجوه بعض العرب، كانت عريضة بعرض المصيبة التي أصابت الأمة الإسلامية، لا باليهود، فليس غريباً أن يحارب اليهود أمة الإسلام، وليس غريباً أن يكيدوا لها ولكن بعرض المصيبة التي أصابت المسلمين من هؤلاء الذين ذهبوا إلى مدريد وصافحوا وعانقوا الوفد الإسرائيلي، واتفقوا معه على بيع أرض المسلمين، {بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] .
وبيعت بلاد العرب بالثمن البخس لبعضهمُ درهم ولآخرٍ كرسي(67/35)
قضية حرب المياه
من الأشياء التي كسبتها واستفادت منها إسرائيل: قضية حرب المياه، وذلك أن إسرائيل تخطط للمستقبل القريب والبعيد، ومن المعروف أنها الآن تستهلك من المياه خمسة أضعاف ما يستهلكه العرب كلهم مجتمعين.
وإنما غزت إسرائيل لبنان إلا للسيطرة على منابع بعض الأنهار، كنهر الليطاني والحصباني والوزاني وغيرها، حتى إن بعضهم يقول: إن إسرائيل من الممكن أن ترفع شعار الماء مقابل السلام؛ لأنها تعتبر أن الماء شريان حيوي هام… ومن المعروف أنه لا حياة إلا بالماء، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30] فالماء أمر ضروري، كضرورة الهواء لوجود الإنسان.
ولذلك تمكن الإسرائيليون من سرقة مليون وثلاثمائة ألف متر مكعب من مياه الأنهار العربية، بالإضافة إلى مائتي مليون متر مكعب من المياه الجوفية بطريقتهم الخاصة.
ومما يتوقعه -والعلم عند الله- بعض الباحثين أنه في القرن القادم سوف يتعرض 1200 مليون إنسان للعطش بسبب نقص المياه، وغالبية هؤلاء الناس هم في الشرق الأوسط -أي: في البلاد العربية وفى إسرائيل أيضاً- ولعله من المعروف أنه ينعقد في تركيا مؤتمر اسمه: مؤتمر مياه السلام؛ وهذا المؤتمر يهدف إلى استثمار مياه الأنهار الرئيسية في الشرق الأوسط، وكثير من هذه الأنهار تنبع من بلاد أخرى غالبها تحت قبضة الدول الغربية ويدور في فلكها.
فتركيا -مثلاً- ينبع منها عدة أنهار هي التي تسقي البلاد العربية، وقد عقد هذا المؤتمر وجاء فيه: أن من الممكن أن تستثمر تركيا مياه الفرات، وتتحكم فيها وتبيعها إلى إسرائيل بكميات هائلة مقابل شيء آخر، وقد عرضت تركيا بيع هذه المياه على العرب مقابل النفط، وهى تعتبر المياه أهم من النفط، لأن النفط يمكن الاستغناء عنه بحال لكن الماء لا يمكن الاستغناء عنه وهذه الفرصة -فرصة بيع المياه التركية إلى إسرائيل- لو حصلت! لكانت مناسبة لدمج إسرائيل من الناحية الاقتصادية بالمنطقة العربية، عن طريق التعاون البريُ، كما يقال في قضية مصيرية كقضية استثمار المياه، كما تم التعاون من قبل في موضوع يعتبر بريئاً في نظرهم، وهو ما يسمى: موضوع "حماية البيئة".
فإذا عرفنا -أيها الأحبة- أن العرب يعانون نقصاً في المياه بمقدار (44%) وأنه يتحكم في منابع المياه دول أخرى، عرفنا أن إسرائيل تتحكم في جزء كبير من الموارد المائية العربية، وأنها تخطط للهيمنة على مواقع المياه في البلاد العربية.(67/36)
كسر العزلة العالمية بين إسرائيل وبين بلاد العالم
المكسب الثاني: هو كسر العزلة العالمية بين إسرائيل وبين عدد من بلاد العالم، مثلاً: روسيا وأوروبا كان هناك عزلة اقتصادية وعلمية بينها وبين إسرائيل؛ لكن الآن! هناك زيارات متبادلة بين المجموعة الأوروبية وبين إسرائيل، بعد أن كان جزءاً من الرأي العام الأوربي قد نبذ إسرائيل قبل أزمة الخليج، وذلك يعكس اتساع مجال التعاون بين الجانبين الإسرائيلي والأوروبي، والآفاق العريضة لتطويره في الأعوام المقبلة، إذ أن إسرائيل مرشحة لعضوية النادي الاقتصادي الأوربي، كما أننا نعلم جميعاً أن من ضمن التنازلات: أنها دشنت وأيدت قيام أكبر حركة تهجير لليهود السوفيت إلى إسرائيل حتى الآن، وبذلك كسرت إسرائيل طوق العزلة العالمية التي كانت تضرب عليها في عدد من بلاد العالم.(67/37)
تحريك الركود الاقتصادي لإسرائيل
المكسب الثالث: هو تحريك الركود الاقتصادي الذي تعاني منه إسرائيل، وكان يهدد اقتصادها في كل لحظة ويوم، وهذا الركود الاقتصادي بطبيعة الحال -في إسرائيل- يؤثر على التسلح، خاصة ونحن نعلم أن سعر الأسلحة المتطورة قد ارتفع كثيراً، وأصبح من الصعب على إسرائيل توفيره في ظل ظروف الركود الاقتصادي الذي كانت تعيشه.
ومن المعلوم أنه لكي يُضمن نجاح اقتصادي، ولكي يُضمن تقدم اقتصادي؛ لا بد من وجود استقرار سياسي، أي أن رءوس الأموال لا يمكن أن تهاجر من العالم إلى إسرائيل، وهى بلد قلق مضطرب يمكن أن يتغير أو تشن عليه حرب في أي لحظة فالناس لكي يستثمروا في إسرائيل، ولكي يحولوا رأس مالهم إلى إسرائيل، لا بد أن يضمنوا وجود قدر من الاستقرار السياسي والأمن الاقتصادي فيها؛ لتوظيف رءوس أموالهم التي يمكن أن تهاجر إلى إسرائيل، وهذا ما حصل ويحصل فعلاً، ولهذا لا غرابة أن تتحدث بعض الأنباء -التي نتمنى ألا تكون صحيحة- عن أن هناك شركات ومؤسسات عربية أبدت استعدادها لمنح بعض القروض لشركات يهودية من أجل تيسير وتوفير نفقات هجرة اليهود السوفيت، واليهود الأثيوبيين إلى إسرائيل.
إذاً حتى من العرب هناك من الأثرياء -الذين لا دين لهم ولا شهامة فيهم- من الممكن أن يفكروا تحويل رءوس أموالهم إلى الاستثمار في إسرائيل، ودعم مشاريع التهجير والتوطين في إسرائيل ذاتها، وهذه من أعظم المكاسب التي سوف تحصل عليها إسرائيل، خاصة ونحن نعلم -أيضاً- أن في ظل الهجرة اليهودية المكثفة إلى إسرائيل، لو وجد المهاجرون ظروفاً اقتصادية صعبة فمن الممكن أن يرجعوا، ويكون هناك ما يسمى بهجرة معاكسة أي خروج اليهود من إسرائيل إلى المكان الذي هاجروا منه.
فإذا استقر الوضع اقتصادياً؛ كان هذا هو البيئة المناسبة لاستقبالهم واستقرارهم فيها؛ ولهذا لا تستغربوا إذا نادى شمعون بيريز وهو زعيم حزب العمل، إذا نادى بإمكانية أن يتخلى اليهود عن غزة، وأن يتخلوا عن بعض أراضي الضفة الغربية المكتظة بالعرب، لكي تدرج في اتحاد فدرالي أردني فلسطيني، وهذه فكرته! لماذا؟ قال: نحن نتخلى عن بعض حقوقنا ولكننا نكون بذلك قد أدينا واجباً تاريخياً تجاه أنفسنا.
ستحافظ إسرائيل -كما يقول- على نقائها العرقي وهويتها الدينية من هؤلاء الدخلاء - ضع كلمة "الدخلاء" بين قوسين -فهو يعتبر العرب المسلمين دخلاء من الناحية العرقية ومن الناحية الدينية في مثل جو إسرائيل وبيئتها، ولذلك إذا تخلى عن هذه الأرض التي تكون فيها كثافة إسلامية وعربية؛ يكون قد تخلص من هؤلاء الدخلاء الذين يشكلون شيئاً غير مرضٍ، وغير مرغوب في النقاء العنصري الإسرائيلي -كما يزعم ويريد- وفى نفس الوقت فإنها تفتح أمام إسرائيل الأبواب المغلقة، وبذلك تستطيع إسرائيل كما يقول هو: أن تحكم العرب جميعاً وليس فلسطين وحدها.
فالفرق بين زعماء إسرائيل -طبعاً هناك نظرة أخرى لبعض زعماء إسرائيل الذين يطالبون بعدم التخلي عن شبر واحد أو إصبع واحد من أرض فلسطين- ولكن الفرق بين هؤلاء وأولئك كما عبر أحدهم بقوله: الفرق بين زعماء إسرائيل هو فرق بين زعامتين زعامة عجولة متسرعة تريد أكل العرب والمسلمين بيدها وبسرعة، وزعامة أخرى متأنية بطيئة حكيمة، تريد أكل العرب والمسلمين بالشوكة والملعقة، وإلا هم متفقون على الأكل، لكن مختلفون على طريقة الأكل، فهناك من يطالب بأكلهم باليدين والتهامهم بسرعة وهناك من يقول: لا، نأكلهم بالتقسيط وبالشوكة والملعقة!! فمثلاً إسحاق شامير مثل الذي يريد أن يلتهمهم بكلتا يديه؛ لذلك لما استقبل المهاجرين السوفيت قال في لحظة من لحظات التجلي العاطفي الانفعالي وهو يرى جموع اليهود تفد إلى إسرائيل، فأصابه بذلك فرح غامر وسرور لا حدود له، فانطلق يتحدث على سجيته بعيداً عن الأساليب الدبلوماسية الرسمية يقول -وهو يخاطب المهاجرين: إن إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي حلمي وعقيدتي شخصياً، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد، ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم.(67/38)
اعتراف العرب بإسرائيل
المكسب الأول: هو الاعتراف الواضح المطلق بإسرائيل وحقها في الوجود، ولذلك يقول: بيريز في مقابلة مع جريدة الأهرام المصرية، عقب بداية مفاوضات السلام يقول: " العالم العربي قريب جداً من الاعتراف بإسرائيل، مما لا يعني فقط إنجاز السلام، بل شروق مرحلة جديدة أيضاً ".
فمن مكاسب إسرائيل اعتراف العرب الواضح المطلق بإسرائيل، وحقها في الوجود، بل إنهم أصبحوا يعترفون بأن إسرائيل لها حقوق تاريخية في فلسطين، كما صرح بذلك الوفد المصري، بمعنى: أنهم لم يعودوا يقولون الآن، أن إسرائيل واقع لا مفر من الاعتراف به والتعامل معه، وقد فرضت نفسها بالقوة، كلا! بل أصبحوا يقولون: إن لليهود حقاً في أرض فلسطين، ويجب الاعتراف لهم بهذا الحق وإقرارهم عليه، والإذن ببقائهم وإعطائهم مطلق الاعتراف بالوجود في هذه البقعة والرقعة من الأرض، وسأتحدث عن هذه القضية إشارة بعد قليل.
ولذلك يقول أحد المؤلفين -تعليقاً على هذه القضية-: " إن إجبار العرب على الصلح مع إسرائيل، هو هدف حيوي من أهداف السياسة الإسرائيلية، لا بد لها من السعي إلى تحقيقه، إذا أرادت التخلص من الوضع الشاذ، الذي يستحوذ عليها منذ مولدها عام (1948م) إلى الآن " يقول: إن إسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلى الأبد مع جيران يعادونها ويرفضون الاعتراف بها، ويقاطعونها مقاطعة سياسية واقتصادية، مقاطعة لا هوادة فيها، ويهددون كيانها ويتربصون بها الدوائر، والنتيجة الوحيدة للوضع الشاذ لإسرائيل هي حرب مستديمة لا تتوقف فترة معينة، إلا لتنشب من جديد في فترة أخرى، والحرب تكلف إسرائيل نفقات ضخمة، وخسائر جسيمة في الأموال والأرواح، وهذا الأمر لا تطيقه إسرائيل إلى الأبد بحال من الأحوال.
لذا حرص عقلاء اليهود حرصاً بالغاً على بقاء اليهود في الماضي مشتتين في أقطار الدنيا، وعلى عدم تجمعهم في فلسطين، لأن بقاءهم في بلاد كثيرة يقيهم من الفناء الذي يتعرضون له إذا تجمعوا في بلد واحد، ولأن العرب والمسلمين إذا ناموا ساعة، فلن يناموا إلى قيام الساعة! فإذا وجد العرب طريقهم وساروا عليه، فإنهم سيقضون على إسرائيل عاجلاً أو آجلاً.
لقد توقع زعماء الصهاينة أن العرب سيرضخون للأمر الواقع بعد قيام إسرائيل عام (1948م) وسيعترفون بها، ولكن الحوادث أثبتت عكس ذلك، فإن حقد العرب والمسلمين المقدس -كما يقول المؤلف-: ازداد مع الأيام على إسرائيل شدة وإضراماً، وإن المسئولين العرب أول من يعرف استحالة الاعتراف بإسرائيل أو مصالحتها من قبل الشعوب، والذي يقدم على الاعتراف بها أو مصالحتها بين هؤلاء المسئولين، يخسر مكانته بين شعبه، وبين العرب والمسلمين، ثم يخسر سلطانه وحياته أيضاً لذلك لن يعترف المسلمون بإسرائيل مختارين أبداً، ولكي تجبر إسرائيل العرب على الصلح معها والاعتراف بكيانها لجأت إلى وسائل العنف، فاعتدت على الدول العربية العديد من المرات.
إلى آخر ما في هذا المصدر.
المقصود -على كل حال- إن من أهم وأعظم مكاسب إسرائيل: هو اعتراف العرب بها، وإقرارهم بوجودها، وأن لها الحق في أن تقيم في أرض فلسطين، وأن تنادي اليهود من كل مكان في الدنيا حتى يهاجروا إلى هذه البقعة والرقعة من الأرض الإسلامية.(67/39)
حجج المنادين بالسلام
هناك بعض الناس يتحدثون عن ضغوط الواقع ويقولون: أنتم تتكلمون عن أمور بعيدة وقضايا خيالية، فكيف تستطيعون، وكيف تقولون: إن العرب والمسلمين يستطيعون مواجهة إسرائيل؟! ربما يكون السلام هو أفضل حل الآن، وربما يكون غياب العرب والمسلمين عن هذا المؤتمر خسارة لا تعوض لها، فلماذا لا يذهبون إلى مؤتمر السلام -وهم على فرض أنهم لم يكسبوا شيئاً- فنقول: أما الخسارة فقد تبين أنهم قد خسروا أشياء كثيرة، وسوف أتحدث أيضاً -كما أسلفت في موضوع التطبيع- عن مزيد من الخسائر الهائلة العقلية والأخلاقية والعلمية والاجتماعية، التي خسروها ويخسرونها، لكننا سوف نعالج بعض الحجج التي يطرحونها:-(67/40)
هل السلام يقوي العرب على حرب إسرائيل؟!
الحجة الثانية: يزعم البعض أن السلام ليس منزلاً من السماء، وأنه إذا تقوى العرب يستطيعون أن يحاربوا إسرائيل، فلا مانع أن يعقدوا الآن سلاماً وبعد ذلك يحاربون إسرائيل وهذا شيء عجاب! لأنني أقول: ليس هناك ما يدعو لاستعداد وأن يتقوى العرب إذا عقدوا معاهدة الصلح والسلام مع إسرائيل، إننا نعلم أن العرب خلال أكثر من خمسٍ وأربعين سنة كانوا في حالة حرب مع إسرائيل، وخاضوا فيها عدة معارك حامية الوطيس، ولا يزالوا يعتبرون إلى الآن في حالة حرب، قبل المفاوضات؛ مع ذلك لم يتقووا على الرغم أن الإمكانية في الماضي على التقوِّي والتسليح أكثر منها في الحاضر، فكانت إمكانية حصول العرب على السلاح -مثلاً- في ظل ما يسمى بالحرب الباردة بين روسيا وأمريكا، كانت إمكانية حصول المسلمين على السلاح أو العرب أقوى.
أما الآن فبعد أن زال التوازن الدولي وسقطت الإمبراطورية السوفيتية؛ صار الحصول على السلاح أصعب، وفي نفس الوقت لم يعد العرب يشعرون بأهمية كبيرة للحصول على السلاح؛ لأنهم قد عقدوا معاهدة سلام مع إسرائيل، فكيف يظن الآن أنهم سوف يتقوون بعد ما أبرموا تلك الاتفاقيات؟! ثم إن السلام يعني أن يتحالف اليهود مع شركائهم في مقاومة أي توجهٍ إسلامي في البلاد العربية، والقضاء على ذلك، وهذا هدف مشترك للجميع! فلا يتصور أبداً أن العرب سوف يحصلون على السلام أو إنهم سوف يعملون على أن يتفقوا في ظل مثل هذه الظروف، كما أننا نعلم أن بعض المتحدثين عن السلام والمطالبين به يقولون: إن السلام فرصة للإنفاق على ما يسمونه بالتنمية، يقولون: إننا نريد أن نقلل من نفقات الدفاع والتسليح، لماذا؟ قالوا: نريد أن ننفق على التنمية نريد للناس أن يأكلوا الخبز والعيش، فقد ماتوا؛ لذلك عقدنا السلام حتى نقلل من نفقات التسليح ونوجهها إلى التنمية! فإذا كان الأمر كذلك فكيف نظن أن السلام -كما قالوا قبل قليل- فرصة للتقوي على العدو، إذا كانوا يعتبرونه فرصةً لتقليل التسليح؟! ولعله ليس سراً أن تعلموا أن شروط بوش بعد حرب الخليج في نزع السلاح من دول الشرق الأوسط، أن هذه الشروط لا تمس إسرائيل من قريب ولا من بعيد، لأنها لا تتحدث عن الأسلحة المتطورة التي يملكها اليهود، وإنما تتحدث عن الأسلحة التي يحاول العرب -أحياناً- أن يمتلكوها؛ فشروطه تزيد الضعيف ضعفاً ولكنها تسمح لإسرائيل أن تكسب مزيداً من الأسلحة النووية، وما يسمى بأسلحة الدمار الشامل.
إذاً: هناك تناقضات بين من يطالبون بالسلام من أجل التسليح، وفى نفس الوقت يطالبون به لمزيد من الإنفاق ما يسمونه بالتنمية، كما أن هناك من يقولون: إن لإسرائيل حقاً تاريخياً في البقاء في هذه الأرض , إن لليهود حقاً تاريخياً للبقاء في أرض فلسطين.
وأقول: أولاً: الوجود في فلسطين هو لأتباع الأنبياء الصادقين، سواء كانوا أتباعاً لموسى أو لداود أو لسليمان أو لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليست القضية هي قضية يهود؛ وإنما قضية أتباع الأنبياء والرسل؛ ولهذا قال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] إذاً: ليست العاقبة لليهود باعتبارهم جنساً معيناً أو عرقاً معيناً، أو في عروقهم دم، لا! فالعاقبة للمتقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، يورثها المتقين كما هو ظاهر هذه الآية ونصها وروحها.
إذاً: فلسطين وغيرها من البلاد هي لله يورثها من يشاء من عباده، وهى وراثة للمؤمنين المسلمين الصادقين كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] .
أمر آخر إن بقاء مجموعات وحفنات من أهل الكتاب من اليهود أو النصارى أو غيرهم، تحت ظل حكم إسلامي في أرض هم مقيمون فيها أصلاً، هذا أمر ممكن وقد جاء النبي إلى المدينة وفيها يهود فأقرهم بمقتضى معاهدة أبرمها معهم، كما هو معروف في السيرة وله دلائل تشهد على ثبوته وصحته.
فمن الممكن أن يقر المسلمون وجود حفنات من اليهود أو النصارى، تحت ظل حكم إسلامي وفق الشروط الشرعية، كالشروط العمرية وغيرها، -وهذا تكلم عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تفصيلاً في كتابه أحكام أهل الذمة أما أن يكون الحكم لليهود وأن يكونوا في حالة حرب مع المسلمين أيضاً؛ فإن هذا لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال.
نقطة ثالثة: إذا كان الأمر كذلك وكانت المسألة مطالبة بحقوق تاريخية؛ فمعنى ذلك أنه يجب على الشعب الأمريكي الذي يدعم إسرائيل الآن بلا حدود، ويتفانى في خدمتها؛ يجب على الشعب الأمريكي إن يخلي الولايات المتحدة الأمريكية، ويذهب إلى أماكن وجوده الأصلية في أسبانيا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، ويترك أمريكا للهنود الحمر، وغيرهم ممن كانوا مقيمين فيها أصلاً؛ وعلى ذلك يجب إعادة خريطة العالم من جديد؛ إلى ما كان عليه قبل ألف سنة أو قبل عشرة آلاف سنة!!(67/41)
إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني
الحجة الأولى: معاناة الشعب الفلسطيني المشرد، الذي قد أوذي واضطهد من قِبَلِ الأصدقاء قَبْلَ الأعداء، وصارت له مجازر في البلاد الإسلامية، وصار ضحية هجمات شرسة من هذا الحاكم أو من ذاك؛ فيقولون: هذه المعاناة الطويلة إلى متى تستمر؟! وهل تريدون من هذا الشعب أن يظل مشرداً بلا وطن ولا مأوى؟! متى يعود هذا الشعب إلى أرضه وإلى بلاده، وإلى شجره وإلى المكان الذي ولد فيه؟!
و
السؤال
هل سيحل المؤتمر هذه المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني؟! من قال: إن هذا المؤتمر سوف يحل هذه المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، حتى على فرض وجود دولة فلسطينية، تحت المظلة الإسرائيلية؟! فمن قال: إن هذا يعني أن الشعب الفلسطيني قد انتهت معاناته وآلامة؟! لماذا لا نكون صرحاء؟! ألا نعلم أن الشعوب الإسلامية، أكثرها تعاني من الاضطهاد والمضايقات، حتى دون أن تطرد من بلادها؟ فكم لقيت الشعوب التي زج بها في غياهب السجون؟! وكم لقيت الشعوب التي يؤخذ أبناؤها ولا تدري إلى أين، ولا تعرف ما مصيرهم؟! وكم حوربت الشعوب في أرزاقها؟! وكم منعت عنها أقواتها؟! وكم ضويقت؟! وكم كتمت أنفاسها، حتى وهي شعوب تعيش في بلادها، وفي أرض ميلادها وبين أهلها وأولادها؟! وتعيش تحت ظل شجرها، ونخيلها وتينها وزيتونها وغير ذلك! ونحن نعرف أن عدداً من الدول العربية تصدر تقارير، تدل على أن الشعوب التي تعيش تحت ظل ذلك القهر تعيش ذلك الوضع! نستطيع أن نقول: إن الفلسطينيين في إسرائيل ربما يكونون أخف وأهون حالاً منه، مع الأسف الشديد!! إذاً: فليست القضية قضية الشعب الفلسطيني فقط، بل هي قضية الأمة الإسلامية في أكثر بقاعها، حيث تواجه من ألوان المضايقات والاضطهاد -في أقواتها وأرزاقها- وقبل ذلك في دينها أيضاً تواجه الشيء الكثير! فالمعاناة واحدة والهم واحد وكما قيل: بكيت ونحن مختلفون داراً ولكن كلنا في الهم شرق كلنا في الهم مسلمون.
ثم لنفترض أن الشعب الفلسطيني يعيش معاناةً لا يعيشها غيره من الشعوب العالمية والعربية والإسلامية أهذا هو الحل العاجل الذي ينتظرونه ويتربصونه، الذي يتمثل بوجود دولة مسخ لهم تحت مظلة إسرائيل، دولة منزوعة السلاح دولة في أي صورة من الصور هذا الحل العاجل الضعيف هل هو الحل العاجل الصحيح؟! أم أن صبر هؤلاء -على معاناتهم وتحملهم لما يقاسونه الآن، ولما تحملوه طيلة خمسةٍ وأربعين سنة، وتحملهم ذلك مزيداً من السنوات ربما يكون سبباً في حل بعيد، لكنه حل جذري وحل قوي، يضمن الحقوق الكاملة، ليس للشعب الفلسطيني فقط، بل للمسلمين في كل مكان.
إن هناك شعوباً كثيرةً تعاني من الاضطهاد، فشعب إسرائيل نفسه -قبل قيام دولة إسرائيل- كان شعباً مضطهداً في كل مكان، وكانوا أقليات مشردة ولعلكم تعرفون ما لقيه اليهود على سبيل المثال في ألمانيا الهتلرية، حيث لقوا من ألوان الاضطهاد ما يكون أشبه بالأساطير، وهناك وثائق تدل على أنه حصل شيءٌ من ذلك، صحيح قد يكون ضُخِّم لمصالح إسرائيلية، لكن حصل من ذلك الشيء الكثير، وحوربوا في بريطانيا نفسها وأمريكا وفي أكثر من مكان، وكانوا ينظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار.
ومن عمق المأساة والمعاناة التي واجهها شعب اليهود، انبثق الحل، وأدركوا أنه لابد من وجود دولة تحميهم وتدافع عن حقوقهم، فقد ظلوا في التيه زماناً طويلاً ثم تجمعوا في فلسطين.
فلا مانع أن نقول: إن عمق المأساة والمعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، أو الشعب المسلم في أي بلد مسلم آخر كالعراق -مثلاً- أو ليبيا أو غيرها من البلاد التي بالغوا في اضطهاد المسلمين ومضايقتهم، وأن هذا الاضطهاد قد يكون بداية الحل، لأنه أقرب ما يكون الفجر عندما يشتد الظلام: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج(67/42)
رفع معاناة الفلسطينيين مقابل ماذا؟؟
هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الشعب الفلسطيني على فرض أنه سوف يزول -فعلاً- في مقابل فتح أسواقنا الإسلامية والعربية لبضائع إسرائيل، وتيسير السبل للتعاون والتكامل الاقتصادي بين إسرائيل وبين جيرانها من العرب؟! هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، مقابل فتح السفارات في جميع البلاد العربية، -ومن المعروف أن تلك السفارات ستكون أوكار التجسس الإسرائيلي على الشعوب الإسلامية، وعلى العلماء وعلى الدعاة وعلى الحركات الإسلامية في كل بلد عربي وإسلامي؟! هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، مقابل استقبال آلاف السائحين المخربين المصابين بأمراض الإيدز وغيرها، من الأمراض الجنسية ونقلهم هذه اللوثات إلى البلاد العربية والإسلامية؟! هل ترانا نسمح بزوال ذلك مقابل انتشار عملية التزوير وترويج المخدرات، التي كانت في عام (1988م) (76%) منها في مصر، وتتم على أيدي يهود جاءوا تحت مظلة السياحة.
هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين مقابل ضياع شبابنا؟! ففي عام (1990م) صدر قرار عالٍ رفيع المستوى، يؤكد أن الموساد -وهو المخابرات الإسرائيلية- وراء كل المخططات التي تهدف إلى تدمير الشباب المصري، وقال: إن السواح كثيراً ما يقيمون في فنادق متواضعة من الدرجة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، أو فوق غرف أسطح المنازل أو في ضيافة الشباب العزاب، وخاصة حين يكون مع السواح الإسرائيليين نساء وفتيات، وارتفع عدد المدمنين في مصر إلى أكثر من مليوني مدمن، وأرجع التقرير ذلك إلى النشاط اليهودي؛ هذا فضلاً عن ترويج الأفلام والكتب التي تنشر اليأس والقنوط بين الناس، وتجعل إسرائيل واقعاً لا سبيل لإزالته، وتدعو إلى الرذيلة، وإلى التحلل من القيم الدينية والأخلاقية تحت ستار الحرية والترويح عن النفس.
هل ترانا سنسمح بزوال التشريد والتطريد عن الشعب الفلسطيني؛ مقابل أن تسعى إسرائيل لتدمير طاقات البلاد الإسلامية والقضاء على مواردها الاقتصادية والزراعية وغيرها، كما حصل في مصر مثلاً؛ فقد عثرت أجهزة الشرطة على مئات الأطنان من البذور والأسمدة والمخصبات الفاسدة والملوثة بالمكروبات، وعثروا على مئات الطرود من الطيور وخلايا النحل المصابة بالأمراض؛ كما أكدت التقارير التي أجرتها السلطات المصرية تسرب شحنات كثيرة من الأغذية الملوثة بالإشعاع النووي، والتي جاءت إلى مصر عن طريق بعض الشركات الإسرائيلية أو الشركات المتعاونة مع إسرائيل؟! وهل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، في مقابل تحريم التعرض لليهود -في البلاد الإسلامية- في أي برامج إعلامية، أو فصل مدرسي أو مسجد أو منبر، بل حتى الآيات التي تتحدث عن اليهود تمنع قراءتها في الإذاعة والتلفاز، بحجة أنها تسيء إلى العلاقات مع اليهود -وربما يقال يوم من الأيام مع الأشقاء- فطالما تقدمت السفارة الإسرائيلية باحتجاجات لوزارة الخارجية المصرية على شيء من هذا القبيل، أنه قرئت آيات شديدة على بني إسرائيل؟! هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، في مقابل إعطاء الفرصة لليهود وللإعلام اليهودي بمزيد من التحريض؛ تحريض المتنفذين في البلاد العربية الإسلامية وعلى الدعوة الإسلامية، وعلى رجالها وعلى العلماء، وعلى الدعاة والمصلحين، بمعنى آخر: يقول مسئول مصري كبير -عندما التقى بمسئول ونظير له من الاتحاد السوفيتي- " من أهم القضايا التي تم الاتفاق عليها، وضع خطة لمواجهة المد الأصولي " -هذا بين مصر وبين الاتحاد السوفيتي- وفي نفس الموضوع زار الاتحاد السوفيتي وزير حج وأوقاف ما، ونشر في مجلة تصدر عن وزارة الحج والأوقاف ذاتها تقول: " إن من القضايا التي تم دراستها، سبل القضاء على الأصوليين وعلى التطرف الديني ".
إذاً الدول العربية تتحادث مع روسيا الملحدة في كيفية مقاومة التيار الديني -سَمَّه التيار الأصولي، سمّه التطرف، سمّه العنف، سمّه ما شئت- فهل يتكرر هذا مع إسرائيل، وتصبح إسرائيل هي الذراع الأخرى لبعض البلاد التي تحارب الإسلام باسم محاربة العنف، ومقاومة المد الأصولي وغير ذلك؟! هل تعلن إسرائيل تحالفها مع بعض تلك الأنظمة، بمقاومة التيار الديني؟ يقول بعض الصحفيين الإسرائيليين: " عشرات الشباب المصريين الذين كانوا يرتدون الجنز، أصبحوا يرتدون الجلاليب الآن، ويقضون أوقاتهم في المساجد، فيما احتجبت فتيات مصر الجميلات، وأصبحن يرتدين الملابس المحتشمة ".
إذاً هم من خلال صحافتهم وإعلامهم يحرضون الحكومات -وهي لا تحتاج إلى تحريض- على أي حركة أو نشاط إسلامي في داخل بلادهم.
هل ترانا نسمح بزوال التشريد عن الفلسطينيين، في مقابل السماح للثقافة الإسرائيلية أن تنتشر في عقولنا وفي بلادنا وبيوتنا وإعلامنا -كتب وأفلام ودوريات وموسوعات وبرامج إذاعية وتلفازية- فذلك نتيجة طبيعية جداً للتعاون الثقافي بين إسرائيل وبين جاراتها، ومشاركة إسرائيل في معارض الكتب التي أقيمت في مصر، هي أبلغ شاهد على ذلك.
أم ترانا نسمح بذلك؟! في مقابل تحقيق حرية التنقل لمواطني وسيارات الدول الأخرى والدخول من قبل كل من الطرفين إلى الطرف الآخر، حتى إلى الأماكن ذات القيمة والتاريخية، دون أي تميز كما ذكرت قبل قليل، أي أنهم لا يريدون أن يدخلوا إلى المساجد، من باب السياحة، بل يعتبرون هذه مناطق دينية من حق اليهودي أن يدخلها كما يدخلها المسلم.
وأن نسمح لسفن اليهود بالمرور من المياه الإقليمية طبقاً لما يسمى بالقانون أو قواعد القانون الدولي كما هو من ضمن مطالب إسرائيل، ومن ضمن اتفاقياتها مع مصر، كما يزعم البعض.
فهذه القضية الأولى يقولون ذلك من أجل إزالة معاناة الشعب الفلسطيني؛ ونحن نقول: المعاناة أكبر من ذلك وحلها لن يتم من خلال مؤتمر السلام، والقضية أننا سوف ندفع خسائر كبيرة حتى لو افترضنا إن معاناة الشعب الفلسطيني سوف تزول بالكلية، لا يتصور عاقل أننا سوف نقبل بذلك، مقابل أن تنتقل المعاناة إلى الشعوب الإسلامية بأسرها.(67/43)
ما هو المخرج؟ وما هو الحل؟
يتساءل كثيرون ويقولون: صحيح أن السلام فيه وفيه؛ لكن نحن لا نجد أمامنا مخرجاً عن هذا السلام وفى الواقع أنني ذكرت عدداً من الحلول السريعة، وأيضاً سوف ألقيها بسرعة مراعاة لضيق الوقت؛ وهذه الحلول سوف تلاحظون أنها غير مرتبة، ولكنها بلا شك تعبر عن جانب من الحل الذي يجب أن يفكر فيه المسلمون الآن، وبعد الآن.(67/44)
ضرورة التوعية العامة
من الحلول -أيضاً- وهي مهمة: ضرورة التوعية العامة وبكافة الوسائل على كافة المستويات: الطلاب والعامة والخاصة والشباب والأطفال، وبكافة الوسائل الممكنة: بالكتاب والشريط والمقالة والمحاضرة والدرس والخطبة والندوة والأمسية والقصيدة بالقصة بالكلمة حتى بالحديث الشخصي، التوعية العامة في قضية السلام ومدلولات السلام ومخاطر السلام وما وراء السلام وحقيقة العداء مع اليهود وترسيخ عقيدة البراءة من المشركين، التي جاء بها الإسلام، والبراءة من أهل الكتاب، في نفوس جميع المسلمين، من الناشئة والشباب والشيوخ والرجال والنساء، فلابد من عقد لقاءات وندوات ومحاضرات ودروس وخطب، وبرامج مكثفة لهذا الغرض.
ولذلك يتساءل البعض يقول: ماذا نصنع؟! هل نذهب لنقيم حرباً؟! لا يا أخي! لماذا نحن نتكلم في وادٍ، وأنت في وادٍ آخر؟ أو بعض الناس يقول: ما الداعي أن تثير هذا الموضوع وتتكلم؛ ما لنا حل ولا بأيدينا حل؟ يا أخي: على أقل تقدير أن يكون بيدك أن تكون واعياً، أن تعرف أنت حقيقة الوضع، فمصيبتنا فيك الآن، وليست مصيبتنا في أولئك الذين ذهبوا إلى مدريد أو غيرهم فأولئك قد غسلنا أيدينا منهم منذ زمن، وعرفنا ما عندهم وماذا وراءهم، لكن بقيت أنت! أصبحت في بعض الحالات مؤيداً أو على الأقل أصبحت في غشش لا تدري حقيقة الأمر، وهذه مصيبة! هذه كارثة! فنحن نريد منك أن تكون ذا عقل واع بما يراد وما يدار، هذا من ناحية؛ الناحية الأخرى، أن تفرغ هذه العلوم وهذا الوعي وهذا الإدراك، أن تفرغه فيمن حولك بكافة الوسائل؛ حتى تكون الأمة واعية؛ لأنه إذا كانت الأمة تعتقد أن مؤتمر السلام هو نهاية المطاف، وأنه إبداع لا يمكن أن تتصوره معنى ذلك أن الأمة بلغت قمة المجد وقمة التقدم، وأنه عليها أن تتوقف عند مؤتمر السلام.
لكن إذا شعرت الأمة أن مؤتمر السلام، هو حصيلة سنوات من الهزيمة والإحباط، والذل والتسلط والقهر الذي عاشه الشعب الفلسطيني، وعاشته معه شعوب عربية وإسلامية أخرى، أدركت أن هذا خطأ، هو سلسلة من أخطاء كثيرة صحيح أنا وأنت لن نوقف مؤتمر السلام، وصحيح أننا لن نوقف مؤامرة قد لا نستطيع أن نوقفها؛ وإن كان المؤمن عنده ثقة بأنه يستطيع أن يعمل الكثير، ولا يتهرب من المسئولية ويقول: المسئولية مسئولية غيري علي كل حال هذا نظرة سريعة، والوقت لا يتسع للإفاضة.(67/45)
العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية
ومن الحلول: العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية في جوانبها المختلفة، دعمها من الناحية الشرعية والأخلاقية، ورفع الروح المعنوية، وتربيتهم على الفضائل، وإحياء الشوق في قلوبهم إلى الجهاد والشهادة في سبيل الله عز وجل، وحمايتهم من تيار الرذيلة الذي يجتاحهم الآن؛ فإننا نلاحظ أن المتدين يلاحق في أكثر من جيش، ويحاصر وترسل له التهديدات وقد يفصل، ونجد أن الجندي العادي يخضع لألوان من الإفساد الفكري والخلقي، وتهيأ له أسباب الرذيلة من الخمور والدعارة وغيرها، بكافه الوسائل؛ ولعل إدخال بعض الجيوش العربية عنصر المرأة في مجال الجيش وفى مجال الشرطة وغيرها، هو تمهيد لما يسمونه ترفيه بريء من خلال الجيش نفسه! فمن المعروف ما هي مهمة تلك النوعيات من النساء التي تساهم في الجيوش! كما إننا نجد كثيراً من هذه الشعوب وهذه الجيوش تتعرض لغسيل مخ، بحيث يصبح كل ما في عقله: هو الدفاع عن منجزات الحزب، أو منجزات الزعيم أو ما أشبه ذلك، وربما لا يدري أصلاً لماذا يقاتل؟! بل ربما تصير القضية عند كثير منهم قضية وظيفة وقضية أكل عيش فقط -وهذا هو الأغلب- فصار عندهم شعور بعدم المبالاة، شعور باليأس من جميع الشعارات، فكل الأقوال التي يسمعونها، وكل الكلمات التي تردد أمامهم صارت في أذهانهم لا قيمة لها، وصاروا يعتقدون أن الجميع مهرجون ومطبلون ومزمرون، وأنك يجب أن تكون واحداً من هؤلاء ولا غير، وأن الدنيا لا يمكن أن تتغير بك أنت بمفردك.
فلابد إذاً من العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية:- أولاً: من الناحية الشرعية والأخلاقية ورفع الروح المعنوية وتحديد الهدف، الذي يقاتلون من أجله، وهو حماية الدين، وحماية الأرض الإسلامية.
الناحية الثانية: تكثيف عددهم بما يكفي لسد حاجة الأمة في الدفاع عن نفسها، والاستغناء عن عدوها والقدرة على مقاومة العدو، أو رده أو ردعه.
إن المسلمين كثير، ولو أن كل مسلم وجه نفخة لإسرائيل لطارت في الهواء! ولو أن كل مسلم بصق على إسرائيل لأغرقوها! ولكننا نجد أن المسلم لا يملك حتى نفخة يوجهها إلى إسرائيل، ولذلك تقول بعض الدراسات، وبعض القواعد العسكرية، تقول: إن (10%) من تعداد كل أمة قادرة على حمل السلاح، وإذا تصورنا أن العرب يتوقع في القرن القادم أن يكون عددهم أكثر من (250 مليوناً) -هؤلاء العرب فقط- أما المسلمون فإحصائياتهم تقول إنهم ألف ملبون -هذا حسب الإحصائيات الرسمية- ومعنى ذلك أنه باستطاعة العرب -الآن وعددهم مائتا مليون- حشد عشرين مليون مقاتل، وفى المستقبل باستطاعتهم حشد (45 مليون) مقاتل، أما المسلمون فباستطاعتهم حشد أكثر من (70 مليون) مقاتل للحرب، ونفوس اليهود اليوم لا تزيد عن مليونين ونصف أو ثلاثة ملايين، فأين تصبح إسرائيل لو صدق المسلمون ما عاهدوا الله عليه؟! النقطة الثالثة: فيما يتعلق بإعداد الجيوش العربية والإسلامية: هو أن يعرف الجندي موقعه، ويعرف أين يوجه البندقية؛ وذلك أنه يجب أن يوجه بندقيتة إلى عدوه وليس إلى صدور مواطنيه؛ فإن الجيش لا يستخدم للتهديد في النزول في الأسواق والشوارع -مثلا- لقمع المظاهرات وأعمال العنف؛ ولكنه يستخدم لحماية الحدود من المغيرين الكافرين، وحفظ المكتسبات الإسلامية، وحماية الحرمات والدفاع عن الأعراض.(67/46)
تحديد اتجاه الفلسطينيين وموقعهم
من الحلول أن يعرف الفلسطينيون موقفهم -فهم أصحاب القضية الرئيسيون، وأن يحددوا اتجاهاتهم، وألا يسمحوا لزعامتهم المضللة أن تجعلهم ألعوبة في يد الحكام- فإذا أراد هذا الحاكم الانشقاق انشقوا، وإذا أراد الوحدة تصالحوا وتعانقوا؛ يوماً يذبحهم هذا، ويوماً يذبحهم ذاك -فلا يقبلون إلا أن يكون الإسلام هويتهم ومنهجهم وأصلهم ومنطلقهم، يربون عليه أبناءهم، يغرسونه في نفوس الناشئة، ويغرسون فيها نفوس التضحية والفداء والبذل، ويعمقون روح العداوة للكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وما لا يتم الآن يمكن أن يتم بعد عشرين سنه أو ثلاثين سنة؛ فمعركتنا مع عدونا ليست معركة اليوم، بل هي معركة الأمس ومعركة اليوم ومعركة الغد، فكم من الشعوب اضطهدت وشردت وطُرِدَتْ، ومع ذلك استطاعت أن تبني نفسها بناءً صحيحاً؛ فمن كهف الاضطهاد والتشريد، يولد التحدي، التحدي الذي يفجر الإبداع يفجر التخطيط.
فهناك مسئولية كبيرة على الشعب الفلسطيني، وخاصة على الواعين المسلمين اليقظين فيه، أن يعملوا عملاً جاداً على إعادة هذا الشعب إلى دينه، وتصحيح عقيدته، وجمع كلمتهم على الهدى، والحق والتوحيد، وأن يعرفوا أن كل الأبواب موصدة أمامهم، إلا باب الإيمان والرجوع إلى الله تعالى، والتجمع لا على أساس شعار طائفي، أو يساري أو علماني أو غير ذلك، وإنما على أساس إسلامي رباني، فإذا فعلوا ذلك فإن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، ونقول كما قال موسى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] .
10-5 ضرورة التوعية العامة:- من الحلول أيضاً وهي مهمة: ضرورة التوعية العامة على كافة المستويات، وبكافة الوسائل على كافة المستويات: الطلاب العامة الخاصة الشباب الأطفال، وبكافة الوسائل الممكنة: بالكتاب بالشريط بالمقالة بالمحاضرة بالدرس بالخطبة بالندوة بالأمسية بالقصيدة بالقصة بالكلمة حتى بالحديث الشخصي، التوعية العامة في قضية السلام ومدلولات السلام ومخاطر السلام وما وراء السلام وحقيقة العداء مع اليهود وترسيخ عقيدة البراءة من المشتركين، التي جاء بها الإسلام، والبراءة من أهل الكتاب، في نفوس جميع المسلمين، من الناشئة والشباب والشيوخ والرجال والنساء، فلابد من عقد لقاءات وندوات ومحاضرات ودروس وخطب، وبرامج مكثفة لهذا الغرض.
ولذلك يتساءل البعض يقول: ماذا نصنع؟! هل نذهب لنقيم حرباً؟! لا يا أخي! لماذا نحن نتكلم في وادٍ؟ وأنت في وادٍ آخر، أو بعض الناس يقول: ما الداعي أن تثير هذا الموضوع وتتكلم؛ ما لنا حل ولا بأيدينا حل؟ يا أخي: على أقل تقدير أن يكون بيدك أن تكون واعياً، أن تعرف أنت حقيقة الوضع، فمصيبتنا فيك الآن، وليست مصيبتنا في أولئك الذين ذهبوا إلى مدريد أو غيرهم فأولئك قد غسلنا أيدينا منهم منذ زمن، وعرفنا ما عندهم وماذا ورائهم، لكن بقيت أنت! أصبحت في بعض الحالات مؤيداً أو على الأقل أصبحت في غشش لا تدري حقيقة الأمر، وهذه مصيبة! هذه كارثة! فنحن نريد منك أن تكون ذا عقل واع بما يراد وما يدار، هذا من ناحية؛ الناحية الأخرى، أن تفرغ هذه العلوم وهذا الوعي وهذا الإدراك، أن تفرغه فيمن حولك بكافة الوسائل؛ حتى تكون الأمة واعية؛ لأنه يا أخي: إذا كانت الأمة تعتقد أن مؤتمر السلام هو نهاية المطاف، وأنه إبداع لا يمكن أن تتصوره معنى ذلك أن الأمة بلغت قمة المجد وقمة التقدم، وأنه عليها أن تتوقف عند مؤتمر السلام، لكن إذا شعرت الأمة أن مؤتمر السلام، هو حصيلة سنوات من الهزيمة والإحباط، والذل والتسلط والقهر الذي عاشه الشعب الفلسطيني، وعاشته معه شعوب عربية وإسلامية؛ أخرى أدركت أن هذا الخطأ، هو سلسلة من أخطاء كثيرة صحيح أنا وأنت لن نوقف مؤتمر السلام، وصحيح أننا لن نوقف مؤامرة قد لا نستطيع أن نوقفها؛ وإن كان المؤمن عنده ثقة بأنه يستطيع أن يعمل الكثير، لكن إلا يتهرب من المسئولية ويقول: المسئولية مسئولية غيري علي كل حال هذا نظرة سريعة، والوقت لا يتسع للإفاضة.(67/47)
إيقاف سياسة التضليل الإعلامي
ومن الحلول: إيقاف سياسة التضليل الإعلامي؛ التي مسخت عقول الناس، وجعلتهم لا يعتقدون إلا ما يعتقده الزعيم المناضل، أو الرئيس الملهم، وجعلتهم صورة طبق الأصل بعضهم لبعض، فهم نسخ مكررة ولكنها أيضاً مزورة، ليس لديها إبداع ولا تفوق ولا تصميم ولا أمل ولا طموح فماذا تعتقد في إنسان صودر منه أعز ما يملك -صودر عقله- كيف سيفكر؟! كيف سينظر للأمور؟! لقد أوجدت هذه الأجهزة عند الناس شعوراً عميقاً بالإحباط وخيبة الأمل واليأس القاتل المدمر.
إنه لابد من إعادة الثقة إلى الشعوب ومكاشفتها بالحقائق، وجعل الصورة واضحة أمامها , ونحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي من السماء والذي يستحيل أن يحصل زعيم في الدنيا سابقاً أو لاحقاً على ما كان يمنحه المسلمون لرسول الله من الحب والإكبار والثقة وغير ذلك أو يدانيه أو يقاربه؛ ومع ذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبين الحقائق واضحة لأصحابه، ويشاورهم فيها كما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في صلح الحديبية، وقال في معركة أحد {أشيروا عليَّ أيها الناس} وكما شاورهم حين استشار الأنصار السعدين وغيرهم، وفي قضية الأحزاب لما أراد أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة, ولم يكن أحد أكثر مشاورة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وبلا شك أن مشاورته عليه الصلاة والسلام، لم تكن مشاورة في جو تعتيم وتضليل وتغييب الحقائق، لا، بل كانت في جو كشف كامل للحقائق، كان يقول: لهم هذا هو الواقع وهذه هي الحقيقة، وماذا ترون؟ أرأيت إذا وجدت أُمَّةً عندها استعداد أن تموت حفاظاً على حياضها وذوداً عن دينها وحمايةً لأعراضها، وفرحاً بالموت في سبيل عقيدتها، لماذا تحول بينها وبين الموت؟! إذا كنت تعتقد أن ميدان المعركة ليس هو الآن، وأنه غير مناسب؛ فهلم إلى ميدان الجهاد في مجال الصناعة في مجال العلم، في مجال السياسة، في الميدان الاجتماعي، في ميدان الإعداد العسكري.
هلم إلى تحريك هذه الشعوب لتشارك في الإعداد في هذه الميادين , هل نحن صادقون فيما ندعيه من أننا عاجزون؟! هل حاولنا الخروج من هذا النفق؟! هل بدأنا؟! بل هل سمحنا لأصحاب الهمم العالية -أصحاب الطموح، أصحاب المواهب، أصحاب الإمكانيات- هل سمحنا لهم أن يقدموا خدماتهم وإمكانياتهم؟! هل هو سر أيها الأحبة؟! إنه ليس سراً فهو يكتب في الصحف؛ بل في عشرات الكتب! إن من أعظم المآسي التي تشهدها الساحة العربية والإسلامية اليوم… ما يسمى بهجرة العقول العربية إلى بلاد الغرب، التي تتحدث عنها المجامع العلمية، والنشرات، هجرة العقل الإسلامي، حيث لا يجد المناخ المناسب في تلك البلاد، فيهاجر إلى هناك ويصب في بحر يخدم المصالح الغربية.
فمتى نغري هذه العقول الفذة النادرة العبقرية متى نغريها بالعودة إلى قواعدها سالمة؟ ومتى نؤويها؟ ومتى نوفر لها البيئة المناسبة والمناخ المناسب، سواء من الناحية المادية أو الإغراء المادي، أو من الناحية المعنوية والحفاظ على كرامتهم وحقوقهم الإسلامية والإنسانية؟!!(67/48)
عدم محاربة الشعوب الإسلامية في أرزاقها
من الحلول أيضاً: ألا تحارب الشعوب الإسلامية في أرزاقها أيضاً، فإن الفقر كاد أن يكون كفراً كما جاء في المثل -وإن تجويع الشعوب العربية والإسلامية يحولها إلى أنعام، همها السعي وراء لقمة العيش؛ فهي كالقطعان التي لا تبحث إلا عن المرعى، ولقد اعتمد كثير من المتنفذين على شعوب المسلمين، وخاصة في البلاد الفقيرة على سياسة التجويع والإفقار، وتعقيد سبل البحث عن الوظيفة أو البحث حتى عن الخبز، وهذه الطوابير المتراصة الطويلة التي لا ترى طرفها في بعض البلاد -تستهلك أوقات المواطنين وتشغلهم بالهم القريب عن الهم البعيد والهموم الأخرى، فهو لا يهتم بتعليم دينه في كثير من الأحيان، ولا يعرف عقيدته، لا يهتم بأخلاقه وأخلاق بيته وأسرته وذويه، ولا يهتم بهموم أمته لأنه مشغول بالهم القريب الذي هو فطري في الأصل هم الطعام والشراب، هم فطري لا يلام الإنسان بالاهتمام به، لذلك كان من مهمات الحاكم في الإسلام، توفير القوت والطعام والشراب والكساء والغذاء للإنسان حتى يعبد الله تعالى في جو هادئ، حتى يعرف مسئوليته والواجب عليه.
أما أن تجوعه وتفقره ثم تطالبه بعد ذلك؛ فهذا لا يمكن أن يكون! على كل حال ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكننا حين نحول الإنسان إلى باحث عن الوظيفة أو عن القرش أو عن لقمة الخبز نكون قد مسخنا إنسانيته وأهدرنا كرامته، وقضينا على كل معاني الرجولة والإباء والشهامة فيه، ومن قبل عرف المنافقون ذلك فكانوا يقولون، كما حكى الله تعالى عنهم: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون:7] فيعرفون أو يظنون أن الشح في الإنفاق، سبب في الانفضاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما علموا أن خزائن السماوات والأرض لله، وأنهم إن أمسكوا هم، فإن الله تعالى يبسط يده على عباده المخلصين الصادقين، ويرزقهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه ابن عمر: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده ولا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعِل الذل والصغار على من خالف أمري} .(67/49)
تخلي الحكومات بين شعوبها وبين الإسلام
من الحلول: أن تخلي الحكومات بين شعوبها وبين الإسلام، فتوقف الحرب على شعائر الدين وعقائده وأخلاقه وقيمه الاجتماعية وقيمه الاقتصادية وقيمه السياسية، وتسمح للناس بالتدين وممارسة التدين، كما إننا نجد كثيراً من هذه الحكومات سمحت للفساد بشتى صوره وألوانه بالانتشار، فبيعت الخمور على الأرصفة، وقد حدثني ثقة جاء من بلد عربي قال: والله رأيت أنواع الخمور تباع على الرصيف، وهناك من يعلن عنها بأنواعها وبأسمائها، أي بيعت علانية.
وكما مورست الدعارة علناً في أكثر من بلد عربي وإسلامي، تارة باسم الفن وتارة باسم الرقص وتارة باسم الحرية الشخصية، وتارة باسم الاختلاط، وتارة باسم الترفيه، وتارة باسم السياحة؛ بل وأحياناً باسم التعليم! نحن نريد من هذه الحكومات التي أذنت لألوان الفساد وصوره أن تنتشر، وحاربت وضيقت حتى على خطيب الجمعة فقد حدثني الشخص الذي ذكرت لكم قبل قليل يقول: جاء الخطيب في يوم الجمعة وكان يلبس لباس الجنز، حليق اللحية والشارب، لا يعرف الآية من الحديث، وهو الذي يتكلم مع الناس ويعلمهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض مريع خطير! فنحن نريد بدلاً من عقد الصلح مع إسرائيل، أن تعقد هذه الدول والحكومات صلحاً مع شعوبها، تسمح بموجبه بممارسة شعائر الدين علانية دون ضغط أو إكراه, فيسمح لمن يريد أن يصلي أن يصلي، ويسمح لمن يريد أن يعفي لحيته أن يعفيها، ويسمح لمن يريد الحج بأن يحج، ويسمح لمن يريد أن يحفظ الناس القرآن ويعلمهم القرآن في المساجد أن يفعل دون أن يتعرض للمحاكمة، والإيقاف والاستجواب والمساءلة، بحجة أنه يخشى من انتمائه إلى بعض الجماعات الإرهابية، أو التيارات الأصولية المتطرفة.
إن الله عز وجل إنما شرع الجهاد أصلاً حتى لا يضغط على الناس أو يضايقوا في دينهم، يقول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فالقتال شرع من أجل رفع الفتنة عن الناس في دينهم، حتى لا يضيق عليهم في دينهم، ولا يحاربون في دينهم ولا يجبروا أو يكرهوا على ترك الدين، أو اعتناق دين آخر , ونحن نجد أن هذه الفتنة الآن قائمة في عدد من البلاد الإسلامية بدرجة أو بأخرى؛ وأن الإنسان لا يستطيع أن يتدين تديناً كاملاً، وطالما جاءتنا أسئلة كثيرة تقول: أنا إنسان أريد أن أذهب إلى بلدي، هل يجوز لي أن أحلق لحيتي؟ أقول: لماذا؟ قال: لأنه منذ أن تدخل في المطار سوف تتعرض لسلسلة من المساءلات والاستجوابات، وربما الإيقاف وربما السجن أياماً للتأكد من هويتك ومن أنت.
وما انتماؤك! وما سر إعفائك للحيتك! إلى غير ذلك.
إذاً: نريد عقد صلح بين هذه الحكومات وبين شعوبها، تسمح بمقتضاه وتخلي بين شعوبها وبين أن تتدين بالإسلام، خاصة ونحن نعلم أن هذا هو أكثر ما يزعج الغرب، وقد قرأت عليكم في المجلس السابق، مقالاً يهدد فيه أحد الرؤساء -إذا لم يتحقق السلام- بأن يطلق العرب لحاهم.
نقطة أخرى: أن توجه الجهود، وما أكثرها من جهود؛ جهود ضخمة في أكثر من بلد عربي -كما أسلفت لكم قبل قليل، لملاحقة الناس ومحاربتهم في أرزاقهم وكتم أنفاسهم، والتصنت عليهم إلى غير ذلك- نريد أن توجه جهود تلك الاستخبارات المدججة القوية، وأجهزة الأمن المتزايدة المتعاظمة يوماً بعد يوم، والتي تشكل عبئاً على ميزانيات تلك الدول، وهي في الغالب دول فقيرة، ويجهد الإنسان فيها في تحقيق قوته اليومي وقوت أولاده، وربما ترى طوابير طويلة من الناس؛ نريد أن توجه تلك الأجهزة إلى الحصول على أسرار التسليح وخفاياه، والحصول على التكنولوجيا المتطورة، كما فعلت إسرائيل تماماً، فلم تكن مهمة الموساد -وهو جهاز الاستخبارات الإسرائيلي- لم تكن مهمته -مثلاً- مضايقة المواطن أو المستوطن الإسرائيلي، أو ملاحقته أو مصادرة رسائله، أو عد الكلمات عليه أبداً؛ بل كانت مهمته خدمة المصالح القريبة والبعيدة لليهود، وتنفيذ العمليات الداخلية والخارجية التي يعتقد اليهود أنها في صالحهم.
على سبيل المثال: قبل أيام قليلة وخلال أسبوع، ذكرت إذاعة صوت أمريكا أن هناك انتقادات في ألمانيا، لأن المخابرات هناك باعت أسلحة سرية متطورة لإسرائيل، والجدل هناك لا يتعلق بالبيع لإسرائيل، فهو يقول عملية عادية، وهو تعاون بين دولتين صديقتين فلا مانع أن يباع لإسرائيل أسلحة متطورة؛ لكن الانتقاد جاء لأن هذه الصفقة تمت دون علم كبار المسئولين في تلك الدولة بهذه الصفقة؛ ومع أن قانون ألمانيا يحظر بيع السلاح على المناطق الملتهبة، مناطق الأزمات، ومنها منطقة الشرق الأوسط؛ لكنهم يقولون: لا مانع من بيع السلاح لإسرائيل، لكن تحت سمع وبصر المسئولين في تلك الدولة وعلى كل حال فإن إسرائيل لم تصل إلى هذا المستوى من التصنيع والتطور؛ إلا بجهود ضخمة سرية بواسطة أجهزة مخابراتها وأمنها، للحصول على التسليح وتجنيد أعداد هائلة من الناس؛ لتحقيق مصالح إسرائيل، سواء من اليهود أو من غير اليهود.
فلماذا لا توجه تلك القوى التي فيها تعتبر بعض الدول العربية، أنها قد تملك أقوى سلاح استخبارات في المنطقة، لماذا لا توجه القوى إلى الحصول على أسرار التسليح، وسرقتها وتجنيد أفراد من العرب أو المسلمين أو من غيرهم، للحصول على ذلك؛ حتى يتمكن العرب من الوصول إلى ما يريدون، ويتمكن المسلمون من مواجهة إسرائيل بنفس السلاح الذي تملكه.(67/50)
نظرة شرعية في وجوب الجهاد وتحريم الصلح مع اليهود
النقطة الرابعة: نظرة شرعية.
يتساءل كثيرون عن حكم الشرع في هذا المؤتمر، أو في الصلح مع إسرائيل عموماً! لقد عقدت مؤتمرات إسلامية كثيرة في القاهرة ومكة وعمان، سنة 1968م، وعقد مؤتمر إسلامي في ماليزيا كوالالمبور، بعد سنة، وقد شهدت هذه المؤتمرات قسماً من علماء المسلمين، وأعلنت الجهاد بإجماع آراء العلماء الذين شهدوا هذه المؤتمرات، والذين لم يشهدوها -مثلاً- تقول بعض المؤتمرات: " إن أسباب وجود الجهاد التي حددها القرآن الكريم قد أصبحت كلها متوافرة في عدوان اليهود، بما كان من اعتداء على أرض العرب والمسلمين، وانتهاك لحرمات الدين في أقدس شعائره وأماكنه، وبما كان من إخراج المسلمين والعرب من ديارهم، وبما كان من قسوة ووحشية من تقتيل المستضعفين، من الشيوخ والأطفال، لذلك كله صار الجهاد بالمال والنفس فرضاً في عنق كل مسلم يقوم به على قدر وسعه وطاقته مهما بعدت الديار، ومعنى ذلك أن الجهاد أصبح أمانة في عنق كل مسلم ومسلمة، لا يتخلف عن تحمل أعبائه المادية والمعنوية أحد، إلا ويخشى عليه أن يكون منافقاً وأن يعاقب بأشد العقاب قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] ".
إذاً: هذا المؤتمر أو تلك المؤتمرات تطالب بالجهاد، الجهاد لا حمل السلاح فقط! لا! بل نريد جهاداً من منطلق الإعداد، الإعداد المعنوي، إعداد الأمة على الأقل من الناحية العقائدية، لقد نسيت الأمة عداوتها لليهود، كيف نتكلم نحن، وبأي عقلية نتحدث، وبأي منطق! فالآن الأمة نسيت حتى عداوتها لليهود، فنحن نقول: لقد طوَّفتُ في الآفاق حتى رضيتُ من الغنيمة بالإياب يكفينا أن نحافظ على إشعار الأمة بأن اليهود أعداء لها، اليوم وأمس وغداً، وأنهم سوف يحاربونها؛ فيا ليت أجهزة الإعلام العربية تقوم بهذا الدور فقط! يكفينا هذا منها!(67/51)
شروط الهدنة مع الأعداء
يتكلم الكثير عن الهدنة وشروط الهدنة وما يتعلق بها، من الناحية الفقهية، وأقول: يجوز للمسلمين عقد الهدنة مع عدو يحتاجون إلى الهدنة والمصالحة معه بأربعة شروط: الشرط الأول: أن يكون الذي يعقد الهدنة هو الإمام أو نائبه -الإمام الذي اختاره المسلمون وعينوه لهم، أو نائبه وهو راضٍ، يحكم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو ممثل حقيقي للمسلمين؛ وهذا الذي يحق له أن يعقد الهدنة.
الشرط الثاني: أن تكون الهدنة لمصلحة المسلمين كالعجز عن القتال -مثلاً- أما إذا كان المقصود من الهدنة -مثلاً- مصلحة الكفار، كما هو الحال بالنسبة لهذه الهدنة؛ فهي في مصلحة الكفار -وليست هدنة في الحقيقة- وإنما تسميتها هدنة في الواقع أنه قلب للحقائق؛ لكن عموماً إذا كانت لمصلحه الكفار؛ فلا يجوز؛ كما أنها إذا كانت لمصلحة أطراف أخرى يخافون على أنفسهم، أو على أموالهم أو على كراسيهم ومناصبهم، فإنها لا تكون حينئذٍ هدنة صحيحة.
الشرط الثالث: أن تكون مدتها محددة بزمن، حتى قال كثير من الفقهاء، لا يجوز عقد الهدنة أكثر من عشر سنوات؛ لأنها أقصى مدة عقد النبي صلى الله عليه وسلم فيها صلحاً مع قريش في الحديبية؛ أما الذي يجري الآن، فإننا نغالط أنفسنا كثيراً إذا قلنا هذا صلح أو هذه هدنة! إن هذا نزع للعداوة أصلاً من قلوب المسلمين، فهل نحن في حرب مع اليهود الآن؟! هل نحن في معركة؟! منذ زمن طويل، منذ أكثر من خمس عشرة سنة، ما قامت معركة حقيقية مع اليهود، إلا ما يقوم به اليهود من جولات آمنة على الأجواء العربية، ويهاجمون لبنان أو غيرها متى شاءوا؛ وأما هم فإنهم بمنجاة منا ولم يتعرض لهم أحد، قد يتسلل جندي فيقتل من هنا أو من هناك، هذا كل ما يفعل الآن.
فنحن لسنا في حالة حرب حقيقية مع اليهود؛ حتى يُطالب بمصالحة معهم، ثم هذا الذي يتم الآن هو عبارة عن نوع من الاعتراف الحقيقي بالوجود الدائم لليهود، وأنهم جزءٌ من هذه المنطقة، وأن لهم الحق في البقاء فيها، وأنهم ينبغي أن يكونوا مع العرب ومع المسلمين تكاملاً ثقافياً واقتصادياً وسياسياً إلى غير ذلك، نغالط أنفسنا إذا تصورنا غير هذا، ولذلك قال العلماء: إن عقد هدنة مطلقة يعني: إلغاء الجهاد وأقول: أي إلغاءٍ للجهاد أعظم من هذا، ونحن نعلم أن مواثيق الأمم المتحدة تقتضي عدم اعتداء أي دولة على حدود جيرانها، وأن هذا الاعتداء يعتبر تعدياً تتدخل بمقتضاه الدول الأخرى الكبرى وغيرها لمنع هذا الاعتداء، فهذا إلغاء واضح للجهاد، والتوقيع عليه إقرار بإبطال الجهاد، ونحن لا نقول للناس: جاهدوا الآن وهم لا يملكون الجهاد؛ لكن نقول: لا يجوز لمسلم أن يعترف بأن الجهاد باطل الآن أو منسوخ، وإذا ظن إنسان أن الجهاد منسوخ أو أنه لا جهاد في الإسلام، فإنه يكون كافراً بذلك؛ لأن الجهاد من الشرائع الظاهرة المستقرة المتواترة، التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة من الخلف والسلف، فعقد صلح دائمٍٍ، يعني إلغاء الجهاد، وإذا تصورنا أن العدو الوحيد الآن: هو إسرائيل كما يتصورون ويعبرون فإذا جلسنا معها على مائدة المفاوضات والسلام، فمعنى ذلك كأنه لا قتال، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: كذبوا، كما في الحديث الصحيح، الآن جاء دور القتال ولا يزال الله عز وجل يزيغ قلوب أقوام للطائفة المنصورة ويرزقهم منهم، لكن هكذا هم يزعمون وهم يتصورون.
إذاً: الشرط الثالث أن تكون الهدنة محدودة بزمن معين.
الشرط الرابع: أن يخلوا عقد الهدنة من شرط فاسد، وذلك كشرط معاونة الكفار على إخوانه المسلمين، وهذا لعله أن يكون موجوداً في عدد من المهادنات والمصالحات، التي تعقد اليوم وأمس وغداً، ويحتج البعض بصلح الحديبية، إلا أنه في صلح الحديبية جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة أصلاً، وعقد صلحاً مع المشركين لمدة معينة، لا تتجاوز عشر سنوات، ويحتج بعضهم باليهود أيضاً، والرسول هو الذي جاء إلى المدينة وهاجر إليها والإسلام كان ناشئاً فيها، واليهود يدّعون ويزعمون أنهم أصحاب حق أصلي في الحارات والأحياء التي يسكنونها؛ فبمقتضاه عقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود، كان الحاكم فيها هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اليهود مطالبين بموجبها أن يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي شجار يحدث بينهم، ومطالبين بموجبها بالدفاع عن المدينة ضد أي اعتداء فلما خانوا أجلاهم الرسول من المدينة.(67/52)
فتوى تحريم الصلح مع اليهود
كما أن هناك فتوى متأخرة من علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، فعلماء المسلمين أفتوا بعدم جواز الصلح مع اليهود، في حالة اغتصابهم أي شبر من أرض المسلمين، من تلك الفتاوى، -مثلاً- فتوى علماء فلسطين صدرت عن المؤتمر الأول، المنعقد في القدس عام (1935م) ، وفتوى الشيخ محمد رشيد رضا في السنة نفسها.
فتوى رئيس جمعية العلماء المركزية في الهند في نفس السنة.
وفتوى علماء نجد عام (1937م) ، وفتوى علماء العراق بنفس العام، ونداء علماء الأزهر بتحريم الصلح مع اليهود ووجوب الجهاد عام (1965م) فتوى شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية حسن مأمون، وفتوى علماء المؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان عام (1968م) ، وفتوى لجنة الفتوى بالأزهر عام (1979م) ، والفتوى التي صدرت عام (1989م) والتي أُورد شيئاً منها والتي جاءت في رد عن سؤال يخص التنازل عن أي جزء من فلسطين، وقد نشرت في جمعية الإصلاح بالكويت في كتاب صدر عنها في يناير عام (1990م) ، وقد وقع على هذه الفتوى أكثر من (60) عالماً من علماء المسلمين، في الفترة الممتدة من (1988م) إلى (1989م) .
والخلاصة يقول: " نحن الموقعين على هذه الوثيقة نعلن للمسلمين- في هذه الظروف الصعبة- أن اليهود أشد الناس عداوةً للذين آمنوا، اغتصبوا فلسطين ودنسوا مقدساتها ولن يقر لهم قرار حتى يقضوا على دين المسلمين وينهوا وجودهم، ونحن نعلن بما أخذ الله علينا من عهد وميثاق في بيان الحق، أن الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين، وليس لشخص أو جهة أن يقر اليهود على أرض فلسطين، أو يتنازل لهم عن أي جزء منهما أو يعترف لهم بأي حق فيها.
إن هذا الاعتراف خيانة لله وللرسول، وللأمانة التي وكل للمسلمين المحافظة عليها، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] وأي خيانة أكبر من بيع مقدسات المسلمين، والتنازل عن بلاد المسلمين إلى أعداء الله ورسوله والمؤمنين… إلى آخر الفتوى ".(67/53)
ابن باز والسلام
يشيع بعضهم عن الشيخ عبد العزيز بن باز إشاعات غير واضحة في موضوع السلام، وقد أحببت قضاءً على هذه الشائعات أن أشير إلى نقطتين: النقطة الأولى: هذه كلمة نقلتها بحروفها من فتاوى سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز سئل: كيف السبيل، وما هو المصير في القضية الفلسطينية التي تزداد مع الوقت تعقيداً وضراوة؟ فقال: إن المسلم ليتألم كثيراً، ويأسف جدا من تدهور القضية الفلسطينية من وضع سيئ إلى وضع أسوأ منه، وتزداد تعقيداً مع الأيام حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، في الآونة الأخيرة، بسبب اختلاف الدول المتجاورة وعدم صمودها صفاً واحداً ضد أعدائها، وعدم التزامها بحكم الإسلام الذي علق عليه الله النصر ووعد أهله بالاستخلاف والتمكين في الأرض، وذلك ينذر بالخطر العظيم والعاقبة الوخيمة، إذا لم تسارع الدول المجاورة إلى توحيد صفوفها من جديد، والتزام حكم الإسلام تجاه هذه القضية، التي تهمهم وتهم العالم الإسلامي كله؛ ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد: أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية أولاً وأخيراً.
ولكن أعداء الإسلام بذلوا جهوداً جبارة لإبعادها عن الخط الإسلامي، وإفهام المسلمين من غير العرب أنها قضية عربية، ولا شأن لغير العرب بها -ويبدو أنهم نجحوا إلى حد ما في ذلك- ولذا فإنني أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل في تلك القضية، إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهاداً إسلامياً، حتى تعود الأرض إلى أهلها، وحتى يعود شذاذ اليهود إلى بلادهم التي جاءوا منها، ويبقى اليهود الأصليون في بلادهم تحت حكم الإسلام، لا حكم الشيوعية ولا العلمانية، وبذلك ينتصر الحق ويخذل الباطل، ويعود أهل الأرض إلى أرضهم علي حكم الإسلام، لا حكم غيره، والله الموفق.
النقطة الأخرى: سئل الشيخ حفظه الله عن هذه المسائل في أكثر من مناسبة، وأجاب بما حضره، ولكنه قال في آخر الشريط: " إنني لا أسمح -فيما معناه - إنني لا أسمح بنقل أي كلام أو فتوى أو غير ذلك إلا بعد عرضها علي، وموافقتي عليها وتوقيعي عليها، لأن الكلام الشفهي يعتريه الزيادة والنقص، وربما يفهم خطأ إلى غير ذلك " ولذلك لم يأذن الشيخ أن ينشر أي شيء عنه، إلا بعد ما يعرض عليه ويوقع عليه بالموافقة والتصحيح، ولذلك فإنه لا ينبغي لأحد أن يتسرع في نشر شيء عن العلماء، إلا بعد أن يتأكد ويتثبت ويسجل توقيعهم بأسمائهم على موافقتهم على ذلك.(67/54)
بشائر المستقبل
قضيه المستقبل: يسألني بعض الإخوة أحياناً يقولون: سمة التفاؤل موجودة في أكثر من محاضرة أو أكثر من درس، فهل هذه السمة هي لغرض تربوي لرفع معنويات الناس؟ أم هي قناعة؟ وإذا كانت قناعة، فما مصدرها؟ أقول: هي قناعة راسخة، مصدرها أمور:(67/55)
النظر في السنن الكونية والنواميس الإلهية
الثالث: النظر في السنن الكونية والنواميس الكونية.
فالله تعالى يقول كما سلف: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ويقول جل وعز: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُبقت العضباء ناقته قال عليه الصلاة والسلام: {حق على الله تعالى ألا يرتفع شيء إلا وضعه} .
إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم(67/56)
تأكيد انتصار الإسلام بالنصوص الشرعية
وهي كثيرة ذكرتها في شريط (مستقبل الإسلام) لكن على سبيل المثال: الجولة مع اليهود، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين، وحديث أبي هريرة {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا يهود، حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله} .
فلا داعي أن نضرب ونرجم بالغيب بعد كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، {والله الذي لا إله غيره ما كذبنا ولا كذبنا} هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلام.
وقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وجاء في رواية أخرى للحديث السابق ذكرتها مرات وكرات {على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} .
وهذه راوية إسنادها لا بأس به وفيه ضعف يسير لكن حسنها جماعة من أهل العلم، والواقع يصدقه ويشهد على ثبوته، ولو جاء راوٍ آخر ضعيف يشهد للحديث لحسناه؛ كيف وقد جاء الواقع الماثل الآن يؤكد ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم! فقبل ذلك حينما دونت الكتب، وألفت، لم يكن لليهود وجود يذكر في فلسطين، ولم يكونوا قريبين من نهر الأردن، لكنهم وُجدوا بعد ذلك في هذا الزمن بالذات، وقد ظن بعض الإخوة أنني قلت: إن اليهود ولن يتعدوا إطارهم الآن.
وأنا أقول أرجو الله تعالى ألا يتجاوزوا نطاقهم الحالي، -وأظن أنهم لن يذهبوا عنه بعيداً- لكن هذا بلا شك ليس قطعاً؛ وإنما هو ظن غالب فقد يتوسع اليهود، ثم ينكمشون بعد ذلك، وقد يكون الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، معركة تأتي اليوم أو غداً، بعد عشر سنين أو خمسين سنة الله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن دلالات المعركة أمور: أولاً: هذه المعركة حق، وكل من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلم أنها واقعة لا محالة -على رغم كل العقبات وكل الظلمات وكل الحواجز- هذا غيب أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: هذا لا يعني أبداً القعود وترك الأمر، بحجة أن المعركة قادمة والنصر قادم، لا، فالنصر ليس هبة للقاعدين والكسالى، النصر هبة من الله عز وجل للمجاهدين وللمضحين وللصابرين وللمرابطين كما ذكر سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] .
ثالثاً: هذه المعركة لا تعني ألا نهتم بما يجري الآن ولا نكترث له ونقول: دعهم يفعلون ما يشاءون، لا! لأن الاهتمام بالواقع هو جبلة طبيعية عند الإنسان، وخذ مثالاً: الرسول كان موعوداً بالنصر، حتى إنه في مكة -كما في صحيح البخاري- كان يقول لأصحابه: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} ومع ذلك في معركة بدر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوة العدو وبأسه وكثرته، وقلة أصحابه؛ أصابه ما أصابه، فرفع يديه إلى السماء، ودعا الله عز وجل وخشع وابتهل، وقال: {اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد بعد اليوم} .
هذه طبيعة الإنسان، أنه يهتم بواقعه ويتابعه؛ فالاهتمام به جبلة، وهو أيضاً مطلوب.
والاهتمام بأمر المسلمين مطلب يدل على التعاطف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: {مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} ويقول: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} .(67/57)
معرفة الخصم
النقطة الخامسة: خصمنا من هو؟ الآن الخصم المواجه المباشر كثير، لاشك منه؛ لكن من هم خصومنا الآن؟ اليهود انظر ماذا يقول الله عز وجل عن اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112] ضربت {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] ويقول سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] .
لقد عاشوا زمناً طويلاً تحت ظل البطش والإرهاب في أكثر من بلد، وهم الآن يتحركون بالعقلية ذاتها، عقلية اليهودي المضطهد، عقلية بالغة في التخوف من كل شيء، وهذا يبدو للناس أنه مكر ودهاء عند اليهود، والواقع أن عقلية الشعور بالاضطهاد تجعل اليهود دائماً خائفين -حتى وهم متمكنون الآن- شعور التوتر شعور القلق شعور عدم الاستقرار الأمني، عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالذي يقدم خدمة جليلة لهم، هم الذين ذهبوا إلى مؤتمر السلام، عندما يسحبون هذا القلق من نفسية اليهود، ويجعلونهم يعيشون بعقلية ونفسية مرتاحة آمنة مطمئنة، فكم يجني هؤلاء الذين يمنحون إسرائيل السلام والاستقرار! كم يقدمون من خير لها وكم يخدمونها!! إن اليهود طائفة محصورة محدودة، غير قابلة للنماء والزيادة؛ لأنهم لا يقبلون أحداً ينضم إليهم، وهذه بحد ذاتها معضلة كبرى، خاصة اليهود الذين يواجهون الشعوب الإسلامية، -فيجب أن نعرف أن اليهود يعيشون في وسط إسلامي، يتزايد بشكل غريب جداً، وكثافة عددية هائلة، فتعدد الزوجات -مثلاً- وكثرة النسل، هذه كلها أشياء جاء الدين بالحث عليها، ولذلك نجد المسلمين والعرب يتزايدون بكميات هائلة، لا يقاس بها أي شعب آخر.(67/58)
النظر في التاريخ وتقلباته
أول مصادر هذه القناعة هو: النظر في التاريخ وتقلباته.
فالتاريخ -كما يقال- يعيد نفسه والله تعالى يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .(67/59)
النظر في الواقع
الثاني هو: النظر في الواقع.
فنحن نرى انهيار المعسكر الشيوعي ماثلاً أمامنا على رغم قوته الضاربة لأكثر من سبعين سنة، وبذلك يمكن انهيار المعسكر الرأسمالي الغربي أحياناً بآفة أخرى، ومن طبيعة الإنسان أيضا أنه يرى الواقع الذي يعيشه، سرمداً لا يزول، فقد نسينا الآن سقوط الشيوعية، وبدأنا نتصور أن العالم الرأسمالي الغربي باقٍ لن يزول، وهذا خطأ كبير.(67/60)
مشاركات(67/61)
قصيدة بنت الأفلاج
هذه إحدى الأخوات التي سمت نفسها بنت الأفلاج، كتبت لي بالبريد هذه القصيدة أقرؤها من باب مشاركة الجنس الآخر، والتعبير عن المسلمين، وكلهم فيهم خير، وكلهم يرفضون مثل هذه الأشياء التي لم يؤخذ رأيهم فيها أصلاً، تقول: يا سائلي عن همومي لا تساءلني دعني أفكر في همي الذي أجدُ ليلي طويل وأوراقي مبعثرة والنفس في قلق والقلب يتقدُ ما بال أمتنا في اللهو غارقة وقومنا عن بلوغ المجد قد قعدوا أهواك يا أمة الإسلام فاستمعي لما أقول ويا قوماه فاحتشدوا إني أخاطب أهل العلم في بلدي جزاكم الله خيراً أيها الأُسد أنتم دعاة الهدى والحق لا تهنوا في دعوة الناس كل الناس واجتهدوا أوتيتم العلم إن العلم مكرمة فلا تضنوا بما أعطاكم الصمد ادعوا إلى الله في سر وفي علن وحدثونا بأخبار لها سند قولوا لنا عن رواة كلهم ثقة ماذا جرى يوم بدر الخير ما أحد وحدثوا عن صلاح الدين عن رجل يمسي ويصبح بالأحزان يتقد حتى أعد لطرد الكفر محتزماً بالعزم والجيش جيش الحق قد حشدوا فسار بالنصر والخيرات يحملها والناس لله شكراً جلهم سجدوا فهل ترى أمتي عن مثله عقمت فإننا اليوم للأبطال نفتقد إلا أمانٍ على بعد تلوح لنا حتى دنت وبها الأضواء تتقد فإذ هي الصحوة الكبرى مباركة فالأرض في بهجة والناس قد سعدوا(67/62)
قصيدة عن الشباب الضائع
وإنما قرأت هذه المساهمة وتلك؛ لما فيها من معان حلوة جميلة، وإن كانت أحياناً قد تحتاج إلى لفظ أقوى.
أخيراً هذا أخ كتب يقول: مسافة للجرح بين البلوت ومؤامرة السلام، كلام طويل بعد كلام يقول: هناك قضية غير قضية السلام وهي قضية الشباب الضائع.
تعددت يا بني قومي مصائبنا وأَقفلت بابنا المفتوح إقفالاً كنا نعالج جرحاً واحداً فغدت جراحنا اليوم ألواناً وأشكالاً هذه من جراحنا، كم ترتسم في وجهنا علامات التعجب، مخبئة وراءها علامات الاستفهام، فتحتار الحيرة في عيوني، وتتشوش الأصوات في مسمعي، عندما أسمع أو أرى أو أقرأ أن مسلماً في هذه الأوقات الحرجة من عمر أمتنا، يشكو من الفراغ في هذا الوقت الذي أصبح المسلمون فيه بأمس الحاجة إلى الدقيقة، ليدفعوا عجلة الحياة لصالحهم، إن بعضاً من شباب أمتي -الكلام لا يزال للأخ الشاب المشارك وهو المسئول عن هذا الكلام أيضاً- يقول: إن بعضاً من شباب أمتي من أحفاد أبي بكر وعمر وعقبة وابن الوليد أمسوا يعيشون عيشة لاهية حرة، يحيون حياة من لا يعرف نبياً، ولا يؤمن برسالة ولا وحي ولا يرجو حساباً ولا يخشى معاداً، نعم وربي! إنهم يعيشون بعيداً، هم في وادٍ ودينهم وواقعهم في وادٍ آخر.
وأقول للأخ الكريم: لعلك قسوت على كثير من هؤلاء الشباب، فلعل في قلوبهم إيمان وإشراق، ولكنه غطي بالمعاصي وبالذنوب، بالتضليل الإعلامي، وبقرناء السوء وبغفلة الدعاة والمعلمين والداعيات والمعلمات والمصلحين والمصلحات، ولعل هذه صيحة لنا جميعاً أن نقوم بواجبنا بنفض الغبار عن قلوب شبابنا.(67/63)
قصيدة وقفة على أبواب مدريد
هذه بعث بها إليَّ، وأرسلها عبد الفاكس الشاعر عبد الرحمن العشماوي يقول: وقفة على أبواب مدريد: عذراً رُبى المجد إن القوم قد هانوا وإنهم في أيادي المعتدي لانوا عذراً فما ردهم عما يحاك لهم وعي ولا ردهم دين وقرآن عذراً فأروقة الأحزان حافلة وساحة الفرح المقتول قيعان عذراً فبحر المآسي لم يزل لجباً يموج في مائه قرش وحيتان عذراً فإن بلاد العرب لاهيةً تضج في صدرها عبس وذبيان أما ترين روابي الشعر هامدة فمالها اليوم أوراق وأغصان قصيدتي ذبلت مما يداهمها من الجفاف، وطرف الشعر سهران تنكبتها غيوم اللحن ما ابتهجت خصباً ولا استبشرت بالغيث أفنان ولوحة الصمت فيها ألف دائرة مرسومة ما لها في الفن ميزان ما لامستها يد بالرسم ماهرة ولا سقاها شراب الحبر فنان رأيت فيها خطوطاً لا حدود لها وليس يفهمها إنس ولا جان رأيت في بعضها رأساً أشبهه بحية شدها للخلف ثعبان رأيت غصناً من الزيتون تأكله رصاصة ووراء الغصن كاهان من حوله أحرف عبرية نقشت وليس فيها من الألغاز تبيان كان الغبار يواريها وحين جلا بدا لعيني شامير وديان ولاح في مداها وجه أندلس جبينه لسباق الحزن ميدان يا وجه أندلس في أفقنا سحب من الدخان وفي الأدغال بركان طارت إليك وفود العرب في فمها بوق وبين يديها الطبل رنان شامير يسخر منهم من تطلعهم إلى السراب ألا فَلْيَرْو ظمآن لو أبصرتهم عيون الداخل أمتلأت قذى وأغضت على الأشواك أجفان ولو رأى طارق تلك الوجوه لما عصاه سيف ولا عاقته أكفان كأنني بقلاع المجد قد وجمت لما أتاها بروح الذل عربان يا بؤسها أمة يسعى بحاجتها لص وبائع أفيون وسجان تُدعى إلى الملتقى باسم السلام ولم يرفع لها بين أهل الملتقى شان يقام حفل لها من حر ثروتها ولم يقدم لها في الحفل فنجان يا بؤسها أمة في الحرب خاسرةٌ ولا يفارقها في السلم خسران إن حاربت شربت كأس الهزيمة في ذلٍ وإن فاوضت فالذل ألوان أنى تقوم لها في الكون قائمة وقلبها غارق في الوهم حيران يا من رحلتم إلى مدريد قربتكم مخروقة وجراب الخصم ملآن بشراكم اليوم إسرائيل راضية عنكم وفي قلبها شكر وعرفان بشراكم اليوم أمريكا تبجلكم وفي يدي روسيا فل وريحان أما فلسطين والأقصى وأمتكم فما لها عندكم قدر ولا شان يا من رحلتم إلى مدريد أمتكم بريئة وادعاء السلم بهتان هناك مشاركة أيضا من الأخ عبد الرحمن البورنو بعث بها إلى، بارك الله فيه يقول: كيف يعود للقدس أمانه، هذه -أيضاً- لـ عبد الرحمن البورنو.(67/64)
مشاركات أخرى
أمامي مشاركات الآن جاءتني من عدد من الإخوة وهي عبارة عن قصائد، تعبر عن مواقفهم من خلال هذا الحدث الكبير، فهذه قصيدة للدكتور أحمد بن عثمان التويجري عنوانها: صيحة الجامع الكبير.
يقول: كان الجامع الكبير في قرطبة معقلاً من معاقل الإسلام العظيمة، وصرحاً من صروح الحضارة وقلَّ أن شهد التاريخ له مثيلاً، في محرابه صلى الفاتحون، وفي ساحاته تكونت حلقات الأئمة الأعلام من أمثال: أبي محمد بن حزم، وابن رشد، والشاطبي، وابن النفيس، والزهراوي، منذ خمسة قرون وهو يطل كل صباح ومساء عبر الوادي الكبير الذي يشق قرطبة يسأل الطير والنسيم والأنجم عن أحبابه -الذين هجروه وبالأمس- خُبر أن جماعةً من الأعراب في طريقها إلى مدريد فاشرأب عنقه ثم كانت هذه القصيدة يقول بين قوسين: مع الاعتذار الشديد لأعضاء الوفود فليسوا مقصودين بذواتهم: أرقُ وليلي مذ فجعت طويلُ أيلام في حمل الهوى متبول ما زلت أرقب في شذاك أحبتي فمتى سيشفى يا نسيم غليل أشقاني المحراب يسأل عنهم مذ فارقوا والمنبر المثكول والمصحف المطوي يسأل عنهم قد شاقه الترتيل والتأويل من هؤلاء القادمون أعقبة والمجد فوق ركابه محمول أم طارق ٌ تشكو القوارب بأسه والفتح في عزماته موصول من هؤلاء القادمون؟ جلودهم سمر ولكن في القلوب شهول لم يستقلوا الصافنات وإنما ركبوا بغالاً سعيهن ثقيل وتجردوا من كل أبيض صارم للمجد فيه تلألؤ وصليل جاءوا إلى مدريد بئس مجيئهم لا السعي محمود ولا مأمول جاءوا إلى مدريد كل عتادهم قول يفوح مهانة وطبول جاءوا إلى مدريد في أعناقهم شرف العروبة ويحهم مقتول يا أيها الأقصى الأبي وقد علا فوق المآذن غاصب ودخيل يا أيها الأقصى الأبي وقد جرى خلف الأعادي خائن وعميل من هؤلاء القادمون قلوبهم شتى تكاد من النفاق تزول جاءوا وخلفهم الكرامة تشتكي وبكل نادٍ وحشة وذهول جاءوا وخلفهم العروبة قطعت مزقاً وجنب المسلمين ذليل جاءوا يسوقهم الأعادي عنوة فهم لهم بين الأنام ذيول جاءوا ويا بئس المجيء كأنهم حمر تساق إلى الردى وعجول إني لأنكر هؤلاء فما هموا قومي وما أنا منهم منسول أنا من كرام العالمين صحائفي بيض ومجدي في الأنام أثيل أنا من كرام العالمين وإن جثا فوقي الصليب ومنبري مكبول قومي هم التاريخ في أعتابهم صنع الفخار وكوّن التبجيل ركبوا المنايا يوم عزت أنفسٌ فجرت بهم نوق لها وخيول وتقاسموا الدنيا فتوح شهادة وفتوح هدي ساحهن عقول لم يهتكوا عرضاً ولا أزرى بهم دنس يشين فعالهم وغلول كانوا الفضيلة في ذرى عليائها كانوا المكارم والزمان بخيل كانوا العدالة شرعهً مهدية كانوا التقى مذ أحكم التنزيل كانوا الهداية للأنام فكلهم للعالمين مبلغ ورسول أنا من أولئك يا زمان وإن غدت بيني وبينهمُ رُبى وسهول أنا منهمُ مهما تطاول بعدنا وبدا لنا بعد الرحيل رحيل أنا منهمُ ولسوف يجمع شملنا حبٌ تجذر في القلوب أصيل حبٌ تكفكف وجده غرناطة وتذوب من لوعاته إشبيل حبٌ على الإيمان شاد بناؤه جذلٌ بكل المكرمات نبيل أنا منهم ولسوف يأتي طارق ولسوف تدحر للعداة فلول ولسوف تعلو في المآذن صيحة ويجلجل التكبير والتهليل فاختر لنفسك ما تشاء فإنه يوم سيأتي يا زمان جليل بطبيعة الحال الدكتور لما قال: كانوا المكارم والزمان بخيل، يعني أنه في وقت لم يكن فيه مكارم، وإلا فمن المعروف أن الزمن ليس إلا ظرفاً للحادثات يكتب الله فيه ما يشاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} .
وهذا أخ آخر ذكر قصيدة للأستاذ عبد الرحمن العشماوي: يطلب مني أن ألقيها، وأعتقد أن الدكتور عبد الرحمن ألقاها، لكن لا مانع أن أقرأها استجابة لرغبة الأخ ورغبة في المشاركة: تقول أما تحب لنا السلاما أما ترجو لأمتك الوئاما ينادى للسلام وأنت تشكو كأنك قد تعشقت الخصاما يمد الغرب كفاً من وئام وأنت ترى عداوته لزاما تمهل يا حبيب القلب إني أخاف عليك بعد المدح ذاما فديتك يا منى قلبي فإني عرفت بك المحبة والغراما وأبصرت الرضا وجهي وشعري وقد ألبسته منك الوساما فديتك لا تظني أن قلبي عن الشوق المبرح قد تعامى ولكن الهموم إذا أحاطت بقلب أحدثت فيه اضطراما لو اجتمع العباد بكل أرض علي وصوبوا نحوي السهاما فلن يصلوا إلي بدون أمر يقدره الذي يغني الأناما أقلي اللوم والعتبى فإني أرى تفريق أمتنا حراما لقد أسرجت من حبي جواداً لأمتنا وألقيت الخصاما غرست لها ميادين القوافي وفي شعري نصبت لها الخياما إلى أن يقول: وما أخشى الهزائم في حروب فرب هزيمة أحيت ركاما أخاف من الهزيمة في نفوس لئلا يمسك الباغي الزماما إلى آخر ما ذكر في هذه القصيدة الجميلة جزى الله خيراً الدكتور/ أحمد على هذه المشاركة.
وفي الختام: أسأل الله تعالى أن يجمعنا على خير وبركة، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه على كل شيء قدير.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(67/65)
المراجعات - 1 -
تحدث الشيخ حفظه الله عن أسباب وأهمية طرح مثل هذا الموضوع خاصة، ثم عرض بعض ضوابط النقد التي ينبغي التقيد بها، وأن الخطأ واردٌ من كل بني آدم ولا يُعصم منه أحد.
وتطرق بعد ذلك لبعض المراجعات التي وردت إليه مما أخطأ هو فيه أو كان يظن أنه أخطأ فيه.(68/1)
أسباب طرح موضوع المراجعات
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فكان حق هذا المجلس أن يكون هو المجلس (109) من أمالي شرح بلوغ المرام، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على التمام، ولكني رأيت لاعتبارات خاصة أن ألحق هذا الدرس بسلسة الدروس العلمية العامة بحيث يكون رقمه (43) وهو ينعقد في هذه الليلة الأربعاء (30/ من شهر ربيع الثاني/ من سنة 1412هـ) ، وذلك بعنوان "المراجعات" وكان حقه أيضاً أن يكون في ليلة الإثنين كالمعتاد، ولكننا لاستغراقنا في هذا الأسبوع والأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- في الحديث عن قضية اليهود، وموقفهم من الإسلام، وما يتعلق بها، رأيت أن تأخير هذا الموضوع قد لا يكون مناسباً، وقد حاك في نفسي أن أتحدث به إليكم أيها الأحبة في هذه الليلة، فلترفع الأقلام إذاً، ولتطوى الصحف.
وإني لأعتذر إليكم أيها الأحبة الطلاب على مثل هذا الخلل الذي لم يكن معتاداً إلا لظرف خاص -كما أسلفت-.
والمراجعات فكرة قديمة طرحتها أكثر من مرة، أنني سوف أقدم بين الحين والآخر مجموعة من الأخطاء، والملاحظات، والأوهام، والاجتهادات، التي تبين لي أنني لم أكن فيها على حق، وأن أقدمها إليكم حال ما تتوفر عندي، وذلك لاعتبارات عدة منها:(68/2)
التبرؤ من الأخطاء
أولاً: تبرأً وتنصلاً من عهدة كلام يكون الإنسان قاله أو أداه، ثم تبين له خطأه، فيحب أن يُعذر ويبين أن هذا الكلام الذي قاله ليس بصواب، وأنه يبرأ من تبعاته وعهدته ولا يرتضيه، وهذا هو المسلك الواجب على كل مسلم، أو طالب علم، تجاه ما يصدر منه من قول، أو فعل، مقروءً، أو مكتوباً، أو غير ذلك.(68/3)
ظهور الأخطاء عن طريق الآخرين
وأمر آخر يدعو إلى طرح مثل هذه المراجعات بين الحين والآخر، وهو: أن الإنسان قلما يكتشف خطأه بنفسه، وإنما يساعده على اكتشاف خطئه الآخرون، من الأعداء، أو من الأصدقاء! فأما الأصدقاء فهم كالمرآة يكتشف الإنسان فيها نفسه، ومحاسنه، وعيوبه، ولذلك قال القائل: شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات العين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة فصديقك كالمرآة، وقد جاء في حديث فيه نظر: {المؤمن مرآة أخيه} .
أما الأعداء فهم يجهدون في البحث عن العيوب والزلاَّت، ويظنون أنهم بذلك يحطون من قدر الإنسان، وهم في الحقيقة يرفعون منزلته، لأنهم يساعدونه على معرفة أخطائه وعيوبه، ويعينونه على التخلص منها، ولذلك دعا لهم الشاعر الحكيم فقال: عداتي لهم فضلٌ عليَّ ومنة فلا أبعد الرحمن عني الآعادي هُمُ بحثوا عن سوءتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعالي وما رأيك بإناء يتظافر على غسله وتنظيفه العدو والصديق، والمحب والمبغض؟! لا بد أنه سينظف بإذن الله ويتطهر يوماً من الأيام.
ومن حق هؤلاء وأولئك أن تشعرهم بالامتنان على ما يفعلون، وذلك من خلال مثل هذه المجالس التي يتاح لك فيها أن تقول: نبهني أخٌ كريمٌ محب على أنني أخطأت في مسألة كذا، وأنا أستغفر الله تعالى وأتوب إليه، فيتشجع هذا الأخ على أن يعاود مراسلتك، أو مهاتفتك، أو مشافهتك بما يجد عليك من خطأ؛ لأنه رأى أنك تجاوبت معه، وأنك ممنون مسرور من ذلك الخطأ الذي نبهك عليه، أو من ذلك التنبيه الذي نبهك عليه، ولذلك كانت هذه المراجعات أيضاً.(68/4)
بيان أن كشف الأخطاء ليس عيباً
أمر ثالث: أن دعاة الإسلام، وطلبة العلم هم أحوج الناس أن يكشفوا للناس قدرتهم على البوح بأخطائهم، والاعتراف بزلاتهم وسقطاتهم، وأنهم لا يرون في هذا عيباً ولا عاراً ولا حرجاً، فعلم الله أنني لا أجد في نفسي حرجاً أن أقول: إنني أخطأت في مسألة كذا، وفي مسألة كذا، وفي مسألة كذا، متى ما تبين للإنسان الخطأ بدليله، والصواب بدليله.
صحيح أن هذا لا يعني أن الإنسان سيلغي شخصيته، ويوافق الآخرين على ما يقولون أو ما يرونه؛ فهذا أمر ليس مشروعاً بحال من الأحوال، ولا يجوز للإنسان أن يعترف بشيء أنه خطأ وهو يرى أنه صواب.
لكن متى ما تبين أنه على خطأ؛ فإنه لا يجد في نفسه أدنى حرج -بحمد لله- أن يقول: هذا خطأ، أستغفر الله وأتوب إليه، وجزى الله من نبهني عليه خيراً.
وذلك أننا جميعاً بشر، ويجب أن نعرف أن الخطأ من طبيعة البشر، وهي صفة ملازمة لهم مهما كانوا، فضلاً عن أن الناس العاديين تكثر أخطاؤهم، خاصة مع كثرة ما يتحدثون به في الدروس، والمحاضرات، والمجالس، وغيرها فاحتمال الخطأ منهم وارد بل هو كثير.
وجزى الله جل جلاله كل خير من أعانني على معرفة خطأ، أو التعرف عليه، أو دلني عليه، وإنني أدعو الله له الآن، وحق له علي أن أدعو الله له بظهر الغيب.
أقول هذا وأنا في انتظار كل ما يأتيني منكم أيها الإخوة سواء عن طريق المراسلة، أو عن طريق الهاتف، أو عن طريق المشافهة، من الأخطاء التي ترونها، وأعتقد أن هذا دليل على أننا بدأنا نسلك الطريق الصحيح؛ لأن الأمة ما ضلت وزلت وهلكت، إلا يوم أسلمت قيادتها لأفراد في كل مجالات الحياة، فصارت مثلاً تنظر إلى شخص تقدره من الناحية العلمية فلا تقبل إلا قوله، ولا ترتضي إلا رأيه، ولا تقبل عليه اعتراضاً، ولو كان هذا الاعتراض مصيباً.
والواقع أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا في الذروة من العلم، والعمل، والصدق، والاجتهاد، والتجرد، وصحة القلب والعقل، وسلامة الرأي، ومع ذلك خَطَّأ بعضهم بعضاً في مسائل، وخالف بعضهم بعضاً في مسائل كثيرة جداً، وردَّ بعضهم على بعض، ولم يكن ذلك تنقصاً لمن أخطأ، ولا تضليلاً له، ولا تبديعاً، ولا تفسيقاً، ولا تكفيراً، بل هذا خطأ وقع فيه فلان يصحح له، وهذا صواب من فلان، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".
وطالما رجع أهل العلم في مسائل بعد مناظرات إلى ما ذهب إليه مناظرهم وخصمهم.
فنسأل الله تعالى أن يوفق الجميع إلى معرفة الحق واتباعه، وأن يكون الحق رائدهم، وطلبهم، وبغيتهم، لا يقدمون عليه شيئاً، لا نفساً، ولا أهلاً، ولا مالاً، ولا بلداً، ولا شيئاً، إنما يعشقون الحق، فمتى ما ظفروا به فرحوا، فظهر الفرح والبشر في وجوههم، وعلى قسماتهم، وفي محياهم، فطاروا به وتحدثوا به، كالإنسان الذي ظفر بشيءٍ نادر ثمين، فهو لا يستطيع أن يخفي فرحته، بل كالطفل الذي يظهر بشيءٍ يحبه فيتحدث بوضوح، وبانبساط، وباسترسال عن فرحه الغامر بهذا الشيء الذي ظفر به! ينبغي أن نفرح بالحق متى عرفناه، ولا نجامل في هذا الفرح أو نستره، بل نعلنه لأنه من نعمة الله تعالى التي تحدث بها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] .
أيها الأحبة وبعد هذا التمهيد لا أزعم أنني سوف أقدم لكم الآن كبير شيء من الملاحظات، أو المراجعات، أو التصحيحات، وذلك بأنني أعدكم إن شاء الله وعداً أرجو أن لا أخلفه أنه خلال شهرين سوف أقدم لكم الحلقة الثانية من المراجعات، وسوف تكون مخصصة لذكر ما وقفت عليه، أو نبهت إليه من اجتهادات لم يحالفها الصواب، أو أحاديث استشهدت بها وليست صحيحة إما أن تكون ضعيفة أو غير ذلك، أو أقوال، أو أشياء أرى أن من الضروري التنبيه عليها.(68/5)
مقدمات لابد منها
لكنني الآن سوف أقدم لكم مقدمات ضرورية بمثل موضوع المراجعات، مقدمات لا بد منها، لأنني لاحظت على بعض الإخوة الذين يقدمون ملاحظات، أو اعتراضات، أنه قد تغيب عن بعضهم، ولا أقول: عن كلهم، لأن منهم قسم كبير -كما أسلفت قبل قليل- أصابوا كبد الحقيقة وعين الصواب، ولكن منهم قسماً قد تغيب عنهم بعض الأمور التي سوف أسردها الآن، فيفهمون الكلام على غير وجهه، أو يذهبون به إلى غير مذهبه، والله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان.(68/6)
ضرورة عدم بتر الكلام
نعم، لا بد من التنبيه إلى وهي ضرورة عدم بتر الكلام، وهذه المسألة هي على طريقة {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] فإن بعضهم يبتر كلامك، وينقل منه شيئاً، ويغر به الآخرين، ويضلهم بذلك، ويوهمهم أنك قلت: كذا وكذا، وأنت لم تقل، ولو نقل الكلام كله من أوله إلى آخره، بسياقه، وبجملته، لما كان له أن يُفهم الناس غير ما فهم -غير ما قصدت- ولكنه نقل بعض الكلام ثم أضاف إليه من عنده شيئاً كثيراً، يوهم الناس أنك تقصد كذا، وتعني كذا، وتريد كذا، وأن مرادك كذا، ونيتك كذا، ومقصودك وما في قلبك كيت وكيت! وهذا غير سائغ وليس من الإنصاف في شيء، فإننا نجد السلف رضي الله عنهم ينقلون البدعة ويشرحونها ثم يردون عليها.
وإني أجد كلاماً كثيراً في كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- خاصة، وفي كلام ابن القيم رحمه الله أيضاً، أنه قد ينقل في صفحات كلام القوم، بل قد يعقد مناظرة بين صاحب مذهب وصاحب مذهب آخر، فيستعرض المذهب الأول في صفحات وهو يقول: قال الأول، ثم إذا انتهى رجع وقال: قال الثاني، وأتى على كل ما ذكره الأول بالنقض، والتغيير، والرد.
فلو أنَّ إنساناً نقل الكلام الأول وقال: هذا كلام ابن القيم، أو نقل الكلام الثاني وقال: هذا كلام ابن القيم لكان مخطئاً في ذلك خطأً عظيماً.
والذي ينبغي للإنسان أن يتقي الله تعالى، فلا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا ينقل كلام الناس على وفق ما يريد وما يشتهي! وإني ذاكر لكم الآن مثالاً واحداً سئلت عنه في أكثر من مناسبة، منها مناسبة لعلكم جميعاً اطلعتم عليها، سألني عنه أخي الكريم الأستاذ الشاعر: عبد الرحمن العشماوي في المقابلة التي أجراها معي، ونشرت بعنوان (على طريق الدعوة) فقد ذكر لي أن بعض الناس يقولون عني أني سئلت منذ زمن، في أول أحداث الخليج في العام الماضي عن الحرب، فقلت: إنها لن تقوم حرب، وأبشر بطول سلامة، فتعجبت من ذلك! ولم أكن حين سألني هذا السؤال متذكراً كل ما قلت، فذكرت الجواب الذي سمعتموه، وهو جواب صحيح على كل حال.
ولكنني بعد ذلك رجعت إلى الكلام الذي قلته، وكتبته في هذه الورقة، كتبت السؤال والجواب، حتى تفهموا وتعلموا كم يجني الناس على الكلام الذي ينقلونه، وتعرفون مصداق ما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها مع أنه كلام مسجل في شريط سمعه الداني والقاصي، الخاص والعام، ومع ذلك يقع اللبس! وأنا أقرأ عليكم الآن نص السؤال، ونص الجواب.
السؤال
ماذا يكون علينا إذا قامت الحرب على العراق؟ هل نذهب إلى الجبهة ونترك النساء والأطفال، ونذهب إلى الحرب إذا لزم الأمر؟
الجواب
الذي أعتقده، أن الحرب مع العراق -والله تعالى أعلم- لن تقوم بشكل حرب مع العراق، لأن قوى الدول الغربية أحضرت أسلحة وقوىً هائلة تستخدم لأول مرة في العالم، وهذه القوى أحضرت من أجل ألا تكون حرب بين أمريكا والعراق، وإنما من أجل أن تضرب أمريكا ضربتها على العراق، وتنهي وجوده خلال 7دقائق -كما تقول التقارير- أي: تنهي قوته خلال 7دقائق، ولا يكون هناك حاجة للحرب أصلاً، هذه خطتهم، وهذا تفكيرهم، وعلى حسب إمكانياتهم، فإن هذا الأمر ليس مستبعداً، ويكفي أن عندهم من الطائرات ما يسمونها: بطائرات الشبح، التي خلال حركة بسيطة -وهي لا يمكن أن تكشف بالرادار- تستطيع أن تدمر وسائل الاتصالات بالدولة المحاربة، من الهاتف، والخطوط، والكهرباء، وغيرها، وبذلك تنشل حركة الدولة ويسهل القضاء عليها.
فلا أعتقد أن هناك حرب حقيقية نحتاج أن نجند أنفسنا في هذه الحرب، لكن المؤمن يجند نفسه في كل وقت، لأن الخطر ليس معناه خطر العراق فحسب، فإذا ذهب العراق ذهب الخطر، لكن قد يكون الخطر من النصارى أنفسهم، من اليهود، لماذا نستبعد هذا؟! فالمؤمن يجب أن يستعد ويتدرب على التسلح، ويربي نفسه تربية عسكرية.
أما هذا السؤال فإني أقول: أبشر بطول سلامة إن شاء الله! انتهى الكلام.
مقصودي من هذا الكلام أن أقول: ظاهر من السؤال ومن الجواب، إذا فهمناه بالصيغة التي ذكرته لكم قبل قليل، أن السائل يتساءل هل يذهب هو ويترك أطفاله وزوجته في البيت، بدون أحد يقوم عليهم؟ لأنه تصور أنه سوف تقوم حرب تحتاج إلى استنفار، وإلى تجنيد الأمة بكاملها، وإلى أن يخرج الرجل ويترك أهل بيته ويترك أطفاله، ويترك عمله.
فكان الجواب: أبشر بطول سلامة إن شاء الله، لن يحتاج إلى مثل هذا الأمر، لماذا؟ لأن هناك قوى كبيرة، وكثيرة مدججة، ستجعل إمكانية القضاء على قوة العدو -وهو العراق آنذاك- أمراً لا يحتاج معه إلى حرب بالمعنى الصحيح، بقدر ما هي ضربة موجعة تنهي قوة العدو.
وهذا الكلام نستطيع أن نقول: إنه بهذا الإجمال هو الذي حصل فعلاً.
وأما مسألة أنه لن تقوم حرب، أو لن يكون هناك حرب أصلاً، فلا أذكر أني قلت ذلك، وهذا هو الموضع الوحيد الذي اعتمد عليه البعض في ما ذكر.
ثم لنفترض أنني أو أن غيري من الدعاة قال: إنه يتوقع ألا تقوم حرب، ثم حصل الأمر خلاف ما ظن وخلاف ما توقع، فماذا كان يعني هذا؟ نحن نعلم أن كثيراً من التحاليل الغربية، بل (60%) منها كانت تتوقع أن لا تقوم حرب، والمحللون أناس مختصون، وعلى أرقى المستويات، وبعضهم في مواقع المسئولية.
وقد قرأت لوزير الخارجية في الاتحاد السوفيتي آنذاك، بالخط العريض، أنه لن تقوم الحرب، وهو رجل في موقع المسئولية في دولة كبرى، فضلاً عن المحلليين الذين توقعوا ذلك وهم كثير، فماذا يضير هذا! بل قرأنا جميعاً في صحيفة سيارة لكاتب وأديب معروف، وهو يشغل منصباً دبلوماسياً أيضاً في بلد ما، أنه قال بالخط العريض، أنه لن تقوم حرب، وأنه سينسحب العراق في اللحظات الأخيرة، واضطر بعدما قامت الحرب إلى أن يكتب في الصحيفة اعتذاراً عن ذلك، وبياناً أنه أخطأ في التوقع، ولن يكون له بد في أن يكتب اعتذاراً لأن الكلام كتب في الجريدة ولا يمكن أن يتناساه أو يتجاهله.
فماذا كان بعد هذا؟ ولماذا تكون الكلمات التي يقولها الدعاة هي التي في المحك؟ صحيح أننا نفرح باهتمام الناس بكلام طلبة العلم والدعاة، وعنايتهم به، لكن أيضاً ينبغي أن يفهم هذا الكلام في إطاره العام، وأن يوضع في موضعه، فهذا ظن إنما ظننت ظناً، حتى الذي توقع أن لا تقوم الحرب يقول: إنما ظننت ظناً.
وَهم ليس بنص، ولا مبني على نص، وإنما هو احتمال وتوقع قابل للخطأ وللصواب، وأثبتت الأيام أنه غير صحيح وأنه خطأ.(68/7)
ضوابط النقد عند السبكي
ومما يلتحق بالكلام الذي ذكره الإمام ابن القيم قبل قليل، كلام آخر جميل ذكره السبكي في كتابه قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين يقول: " كثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب -يعني الكتاب الذي وجدت فيه هذه الكلمة- يغير على الكتاب والمؤلف، ومن عاشره، ومن استن بسنته.
قال: " مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان هذا الرجل ثقة ومشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتابته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي: التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله ".
فهذه نقطة هامة: أن يفهم الكلام على عمومه، وعلى ظاهره، وعلى ما يقتضيه السياق العام، وعلى ما تدل عليه القرائن، وعلى ما عهد من قائله، دون أن تؤخذ الكلمات أو الحروف، ويجعل لها مفهوماً، ومنطوقاً، ودلالات ظاهرة وغير ظاهرة، ومعاني إلى ما سوى ذلك، فضلاً عن أن يدخل الإنسان إلى محاكمة ما في القلوب، فدع القلوب لربها جل وعلا، فهو الذي سوف يوقف العباد بين يديه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] ويحاسبهم على الظاهر والباطن، والسر والعلانية.
فهذه نقطة، ولذلك أقول: إن الكلمات التي قد تكون أحياناً في دروسٍ، أو محاضرات، أو غيرها؛ ينبغي أن يفطن فيها إلى ذلك، ويعرف: أنه حتى جهابذة أهل العلم في هذا العصر، وفي كل عصر، يعلمون أن الخطأ في اللفظ وارد؛ سواء كان خطأً نحوياً، أم خطأً لغوياً، أم خطأً علمياً، لكن المعنى واضح، ومراد المتكلم واضح، لكنه أبدل كلمة بكلمة، وهذا كثير جداً لا يأتي عليه الحصر، في كلامي وفي كلام غيري.
ولعلي أذكر لكم أن سماحة الوالد الإمام الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله قال قبل فترة في محاضرة في الرياض، حينما سئل بعض الأسئلة، سئل عن إيراد الحديث الضعيف في المواعظ والرقائق قال ما نصه، وقد نقلت هذا من الشريط وأنا حين أنقل ذلك أرى أنه كلام للشيخ ولغيره يقول -سماحته-: " قبل الإجابة على الأسئلة أخبر الجميع أنني لا أسمح لأحد أن يكتب المحاضرة التي صدرت مني، هذه أو غيرها، أو ينشرها، إلا بعد عرضها علي، لأن النقل من الأشرطة قد يقع فيه بعض الأخطاء، فلا أسمح لأحد أن يطبعها، أو ينشرها في الصحف، إلا بعد عرضها علي لتصحيح بعض الأخطاء، ثم السماح بنشرها، فهذه وغيرها من المحاضرات، لأن بعض الناس قد ينشرون عني، أو عن غيري، بعض المحاضرات، يكون فيها أخطاء مطبعية، أم أخطاء ما فهمها من الشريط، فأرجو من جميع إخواني ألا ينشروا عني شيئاً، من محاضرة، أو تعليق على الندوة في جامع الملك خالد، أو غير ذلك مما يؤخذ من الأشرطة، إلا بعد عرضه عليَّ مكتوباً حتى يصحح، ثم ينشر بعد ذلك سواء كان مستقلاً، أو في الصحف " انتهى كلامه.
وصحيح نحن لن ننشر كلام الشيخ الآن، وإنما نقلته وقرأته عليكم فأنتم تسمعونه الآن كما يمكن أن تسمعوه في الشريط الذي تكلم فيه الشيخ، لتعلموا أن كل إنسان يعلم أن الحديث الشفهي قد لا يكون منضبطاً دقيقاً بالحروف والألفاظ، ولذلك جرت العادة أن كل كلام قبل أن يطبع، أو ينشر، بل حتى مذكرات بلوغ المرام، أنتم تعلمون جميعاً أنه حين لم يتح لي الوقت لمراجعتها، وتصحيحها أولاً بأول، وكلت إلى مجموعة من خيرة الطلاب أن يقوموا بمراجعتها وقراءتها، ومراجعتي فيما يشكل عليهم منها، حتى نصححه جميعاً، فهذه مسألة.(68/8)
الأخذ بالظاهر وترك النيات والمقاصد
النقطة الأخرى: ولعلي أشرت إلى شيء منها، ولكن لا بأس أن أوردها مستقلة، هي: أن الواجب على طلبة العلم والمتحدثين، والدعاة إلى الله تعالى، وعلى سائر الناس، بل الواجب للمسلم على أخيه، أياً كان هذا المسلم، طالب علم أو غيره، داعية أو غير داعية، الواجب للمسلم على أخيه أن يأخذ الظاهر ويترك النية والمقصد إلى الله عز وجل، فلا يفسر كلامه إلا بظاهره، ويترك ما في القلب، وماذا يريد هذا الإنسان وما وراء الألفاظ، وما وراء العبارات.
وإنني أجد نفسي مضطراً أن أقول لكم ما أعلمه من نفسي: إني لا أعلم من نفسي الآن أنني أسعى في نصرة مذهب فقهي معين، على مذهب فقهي آخر، ولا اتجاه دعوي معين على اتجاه دعوي آخر، ولا شخص، ولا بلد، ولا طائفة، ولا غير ذلك.
وإنما يشهد الله أن الذي أعلمه من نفسي أنني عاشق للحق، متى ما عرفته فرحت به، وقلت به، ودعوت إليه، وأنني لا أسعى في قول، ولا فعل، لا في مجلس عام، ولا في خاص إلى نصرة مذهب، أو فريق، أو طائفة، أو شخص على آخر.
إنما أسعى إلى نصرة الحق الذي أعلمه، وكوني أخطأت في معرفة الحق، هذا وارد، بل هو واقع، وإن لم أستطع أن أحدد متى وأين أخطأت، إلا بتوفيق من الله تعالى، أو بمساعدة من إخواني، إلا أنني أعلم على سبيل العموم والإجمال أن هذا واقع لا شك فيه، بل هو كثير، ونسأل الله تعالى أن يعيننا على معرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه.
هذا ما أعلمه من نفسي، ومع ذلك فقد يكون في القلب مسارد، وخفايا، وأسرار، وأمور، حتى الإنسان قد لا يكتشفها من نفسه، لكن الإنسان إذا لم يألُ نصحاً، وبذل وسعه فإنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .(68/9)
أهمية الفهم العلمي الموضوعي
أهمية الفهم العلمي الموضوعي للكلام الذي تسمعه، في عمومه وفي جملته، فافهم الكلام فهماً موضوعياً علمياً، وإياك أن تبني على الكلام قصوراً من الظنون، والتوقعات، والاحتمالات وغير ذلك، فإن هذا سبب في عدم الانتفاع بالعلم، وفي إيذاء الآخرين، والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر لما قال له: {يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، قال: قلت: يا رسول الله! أي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها قلت يا رسول الله: فإن لم أفعل، قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق.
قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك} إن لم تنفع فلا أَقَلَّ من أن لا تضر، ولا تؤذي الناس بالظنون، والأوهام، والاحتمالات، وما أشبه ذلك من الأمور التي هي تضرك أنت قبل أن تضر غيرك، بل قد لا تضر غيرك بحال من الأحوال إلا أذى.
فينبغي ألا تحمل من الكلام ما لا يدل عليه، فإن هذا داء طالما شكا منه أهل العلم، وإنني أعجب أن أقرأ كلاماً للشاطبي في كتابه القيم العظيم الاعتصام نقله، ثم نقل كلاماً آخر يشبهه للإمام ابن بطة -رحمة الله على الجميع- يقول بعد كلام طويل " وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة -يقوله الشاطبي - وذكرهم فيها محدث، لم يكن عليه من تقدم.
وتارة أُحْمَلُ على التزام الحرج، والتنطع في الدين -يعني: أنه ينسب إلى هذا- وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم، لا أتعداه، وهم يتعدونه، ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم، أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب الموافقات ".
على كل حال لا يلزم أن يكون ما يذكره الشاطبي من هذه المسائل موافقاً عليه، لكني أذكر الكلام للغرض الذي تعرفونه، ولا داعي لأن نتعقب كلامه في موضوعات لا تتعلق بالهدف المقصود.
قال: "وتارة نُسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أنني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم في هداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها، وهي الناجية، ما عليه العموم ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا عليَّ في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال ".
" فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: عجبت من حالي وسفري وفي حضري، مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت في مكة وخراسان وغيرهما من الأماكن، أكثر من لقيت بها، موافقاً، أو مخالفاً، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، تصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما أقول، وأجزت له ذلك، كما يفعله أهل هذا الزمان، سماني موافقاً -إذا وافقته على كل اجتهاداته وآرائه، خطئها وصوابها، قال: هذا موافق، وهذا جيد، هذا معنى كلامه: سماني موافقاً- وإن وقفت في حرف من قوله، أو في شيء من فعله، سماني مخالفاً.
وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني مشبهاً، وإن كان في الرؤية سماني سالمياً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئاً، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرامياً، وإن كانت في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضياً، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهرياً، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً، وإن جحدتهما سماني معتزلياً، وإن كانت السنن مثل القراءة -كأنه يعني: القراءة في الصلاة، الجهر أو نحو ذلك- سماني شافعياً، وإن كان في القنوت سماني حنفياً، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب إليه كل واحد من الأخيار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة، قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسماء، ومهما وافقتُ بعضهم عادني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم ".
ما أعجب ما يقوله ابن بطة! كأنه يتكلم عن أهل زماننا ما عندهم إلا حكم بالجملة، ما عندهم حكم بالتقسيط.
ليس عندهم حكم على المسألة، إنما عندهم حكم على قائلها، وعلى معتقدها، وعلى من ذهب إليها، وعلى وعلى نسأل الله العفو والعافية والمسامحة! قال الإمام الشاطبي رحمه الله: " هذا تمام الحكاية ".
فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً، أو فاضلاً مذكوراً، إلا وقد نُبز بهذه الأمور، أو بعضها، لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل إن سبب الخروج عن السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة أنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه، والتقبيح لقوله وفعله، حتى ينسب هذه المناسب، فهذه مسألة أخرى ينبغي التفطن لها.(68/10)
صحة الفهم وحسن القصد
النقطة الأولى: كيف تستطيع أن تفهم الكلام؟ إن الكلام الذي يقوله زيد أو عبيد من الناس، ينبغي أن يفهم في إطاره العام، فالكلام خاصة حين يكون شفهياً، قد يعتريه زيادة أو نقص، وقد تدخل كلمة بدلاً من أخرى، وقد يسارع الإنسان إلى قول وهو يعني قولاً آخر، هذا من طبيعة الإنسان البشر، أنه يقع منه مثل ذلك، خاصة إذا كان يتكلم بكلام شفهي بخلاف أن يكون مكتوباً.
والحقيقة أني أحرص على أن أكتب ما أقول في حالات كثيرة جداً، لكن هذا لا يتسنى في حالات أخرى كثيرة بسبب ضيق الوقت، وعدم سعة المجال للكتابة، كما لا يسعنا بسبب صعوبة القراءة، وأنها قد تورث عند المستمعين تثاقلاً ومللاً، إلى غير ذلك، فيلجأ الإنسان إلى كتابة نقاط، أو عناصر، أو عموميات، ويشرحها في ما بين ذلك.
فربما وقع الإنسان في ما وقع فيه، ولذلك كان أهل العلم من السابقين واللاحقين حين يريدون أن يفهموا كلام فلان وعلان، لا يراعون حروفه وألفاظه، لأن حروف وألفاظ البشر ليست وحياً، ليست كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي يكون له منطوق ومفهوم، وله دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام، وينبغي أن يأخذ كله بالاعتبار! لا.
هذا كلام إنسان يفهم في إطاره العام، يفهم في عمومه، يأخذ منه الفحوى والمقصود، ولا تتوقف عند حروف، أو ألفاظ، أو كلمات معينة.(68/11)
ضوابط النقد عند ابن القيم
ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (1-220) كلاماً مهماً، بهذا الصدد، يقول: " صحة الفهم، وحسن المقصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده، بل ما أعطي عبداً عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبه يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم -إذاً لاحظ: حسن القصد، وحسن الفهم-: ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمِرْنَا أن نسأل الله أن يهدينا طريقهم في كل صلاة.
وقال: والعلم بمراد المتكلم -وهذا هو الشاهد- يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول -يعني على اللفظ- أوضح لأرباب الألفاظ -المعنيين بالألفاظ- والحوالة على الثاني -يعني المعنى- أوضح لأرباب المعاني، والفهم، والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة، أو تحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين، انتهى كلامه.
إذاً: يغلط الناس على المتكلمين أحياناً بأسباب منها: الأول: أنهم يعتنون باللفظ لا بالمعنى، والذي ينبغي أن يعتني الإنسان بالمعنى ولا يتوقف عند الحروف والألفاظ متى ما كانت محتملة.
الأمر الثاني: أنهم قد يقعدون ويقصرون بهذه الألفاظ عن عمومها، ويهضمونها عن ما تدل عليه، وعن ما يراد لها.
الأمر الثالث: أنهم قد يحملونها فوق ما تحتمل، وفوق ما تريد، ويفهمون من الكلمات فوق معانيها، فيجعلون للكلام منطوقاً ومفهوماً، ودلالة تضمن، ودلالة اقتضاء، ودلالة كذا، بل أكثر من هذا كله أنهم يجعلون كلمات ما وراء الكلمات، ويفهمون ما وراء السطور، وما وراء الحروف، وما بين السطور، وما أمامها، وما خلفها، ويضيفون إلى كلام المتكلم أنه يقصد كذا، ويريد كذا ويعني كذا.
وكلمة يقصد، ويريد، ويعني، ليست من المتكلم إنما هي من المتلقي، ولا يجوز أبداً أن يُحمل المتكلم وزر المتلقي، دع ما في قلوب العباد لله عز وجل، فإن الله عز وجل لم يتح لأحد من البشر أن يعرف ماذا في قلوب العباد، إلا إذا باحت ألسنتهم، أما دخائل القلوب فإنه لا يعملها إلا الله عز وجل.
ولا ينبغي للعبد أن يسترسل مع نفسه في تصور ما في قلوب الآخرين، فربما يخطئ، وربما تظلم، وربما تظن بإنسان ظناً وهو غير ذلك، فأولى بك ثم أولى أن تتقي الله عز وجل وأن تبتعد عن محاكمة قلوب الناس.
فليس هناك نظام في الدنيا، من الأنظمة البشرية، ولا أَذِنَ دين من الأديان السماوية أن نحاكم ما في قلوب الناس، حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كانوا يأخذون الناس بظواهرهم ويكلون سرائرهم إلى الله عز وجل.(68/12)
ضرورة الدفاع عن النفس
قد يضطر الإنسان -أيها الأحبة- إلى الدفاع عن نفسه، حين يكون ثمة أمر يقتضي ذلك.(68/13)
الدفاع عن النفس عند الأئمة
وأنتم تعلمون أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حصلت في زمنه أمور اضطرته أن يقول كما في صحيح البخاري أنه قال رضي الله عنه حين حوصر: [[أنشدكم الله -ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها! ألستم تعلمون أنه قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزته!]] فصدقوه رضي الله عنهم وأرضاهم ورضي الله عنه لما قال.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الإمام العالم الفذ، لما ضايقوه، وآذوه، ونسبوا إليه ما هو منه براء، ونسبوه إلى مخالفة السنة، ومخالفة الجماعة، وسب الأئمة، والخروج عليهم، وغير ذلك، اضطر إلى أن يقول كلاماً كثيراً، حتى أنني أتعجب كلما قرأت هذه الكلمة التي قالها! وهو يتكلم عن عقيدته العقيدة الواسطية يقول: " قلت قبل حضورها كلاماً، قد بعد عهدي به، وغضبت غضباً شديداً! لكن أذكر أني قلت: إن أقواماً كذبوا علي، وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري، ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟! وجاهد أعداءه، وأقامه لما مات، حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته، ولا أحد يجاهد عنه؟! وقمت مظهراً حجته، مجاهداً عنه، مرغباً فيه.
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام فيَّ فكيف يصنعون بغيري؟! ولو أن يهودياً طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليوقفوا على افترائهم، وقلت كلاماً أطول من هذا الجنس، لكن بعد عهدي به، فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين أن يكتب ذلك ".
وقلت أيضاً: [[كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه، ولا أدري هل قلت هذا قبل حضوري أو بعده! لكنني قلت أيضاً بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرت فيها فصلاً إلا وفيه مخالفاً من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف، ثم أرسلت من أحضرها، ومعها كراريس بخطي من المنزل، فحضرت العقيدة الواسطية]] .
فقد يحتاج الإنسان أن يقول كلاماً لا يخطر بباله، لكن بياناً لمن طلبه الحق، ومراده الصدق، وكشفاً للتلبيس عند بعض أصحاب القلوب الصحيحة.
نقطة أخرى أيضاً: هناك الحاسدون والحاقدون هؤلاء لا كلام لي معهم، ولا ينتظروا يوماً من الأيام أي رد عليهم، فالموقف معهم أكبر، وأشمل، وأخطر من أن يتصوروا أنه يحل بكلمة، أو بجلسة، إنه أخطر بكثير مما يظنون ويتصورون، لكنه ليس هنا إنما هو في موقف آخر، وفي مجلس آخر، وفي دار أخرى.(68/14)
الخطأ وارد
الخطأ وارد، ومن المناقشة ينبثق النور -كما يقال- والمناقشة العلمية الهادئة الرزينة لا يضيق بها أحد، بل نحن من دعاتها، والمراجعة الدائمة، والنقد الدائم، لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا، هو من مقاصدنا.
وقد كنت وعدتكم منذ زمن بدرس عنوانه: (النقد البناء وأهميته) أو نحو هذا، وسوف أطرحه إن شاء الله بعد أسابيع، ضمن سلسلة الدروس العلمية العامة، لأنني مؤمن أن النقد ضرورة للأفراد والجماعات والأمم، وأن الذين يخافون النقد، أو يهابونه، هم يكرسون أخطاءهم بأنفسهم، ويخدمون أعداءهم من حيث لا يشعرون، وأن الأمة لن تخرج من مذلتها، وهوانها، وأخطائها، إلا إذا آمنت بضرورة النقد، واقتنعت به، وتعاملت معه بغير حساسية، ولا تضايق، ولا انزعاج، بل أقل شيء أن لا تضيق به، وأحسن شيء أن تفرح بالنقد البناء، وتسر به، وتسرع إليه.
وأنا -والله- من عشاق هذا، وأتطلع إلى اليوم الذي تصبح الأمة فيه تفرح بأن تنقد، أو على الأقل لا تضيق بالنقد، ولا تنزعج منه، بل تتقبله بصدر رحب، وإذا لم ننتقد أنفسنا فسوف ينتقدنا عدونا.
فبضاعتنا اليوم هي للناس كلهم، بضاعتنا معلنة بالمزاد العلني؛ كتاب، أو شريط، أو مقالة، أو محاضرة، أو درس، أو فعل، أو تصرف، أو قرار، أو أي شيء، هي للناس كلهم فإذا لم ينتقدك العدو فتقبل من انتقاد الصديق، وإذا لم ينتقدك الصديق انتقدك العدو، وإذا لم تقبل من صديقك معناه أنك فتحت الباب على مصراعيه لعدوك، حتى يتشفى منك ويشهر بك!(68/15)
صور من النقد
أيها الأحبة: أذكر لكم بعض الأمثلة، وأختم بها هذا المجلس، الذي أسأل الله تعالى أن يكون مجلس خير وبركة، وأن يفهم هو الآخر على وجهه، فلا تأتي فيه كلمة يقصد، ويعني، ويريد هناك أمثلة، من الأمثلة:(68/16)
حول صفات الداعية
مثال آخر: قبل أسابيع تكلمت في درس عن (صناعة الحياة) وأطنبت في ذكر الأخلاق التي ينبغي للشاب الداعية أن يتحلى بها مع أهله وجيرانه وزملائه والناس والمجتمع؛ لأن هذا من أهم أسباب قبول الدعوة، وهذا الكلام إذا فهم على وجهه كلام لا غبار عليه.
الآن أنت عندما تريد أن تتكلم عن صفات الداعية، ماذا سوف تفعل؟ سوف تحشد كل ما في رأسك من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية، بمعنى أنك سوف تذكر الصورة المثالية التي يتحلى بها الداعية، وهذا يعني أن لا أحد يدعو إلا إذا تحلى بهذه الصفات كلها! ما أحد قال هذا، لا.
لكن أنت تذكر كل الصفات على سبيل الاستقصاء ومع ذلك يدعو الإنسان ولو أخل ببعض هذه الصفات، فكذلك ما قلته لا يعني أنني أقول: لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، ولا تغير، ولا، ولا، إلا إذا كنت بهذه المنزلة، لا، غَيَّر بقدر ما تستطيع.
لكن إذا سألتنا عن الأسلوب الأمثل، والطريق الذي نعتقد أنه أكثر جدوى، وأعظم نفعاً ووقعاً، فهو ذاك الذي شرحناه ووصفناه، ولا يعني أن الإنسان لا يأمر ولا ينهى ولا يدعو إلا إذا كان بهذه المثابة، بل يأمر وينهى بقدر ما يستطيع حتى ولو لم يستجب له فإنه يأمر وينهى، فليتفطن لذلك.(68/17)
الإغراق في الجزئيات
مثال ثالث: قبل أسابيع أيضاً تكلمت في موضوع (الإغراق في الجزئيات) وموضوع الإغراق في الجزئيات هو موضوع يشغل بالي، ولا أداري في ذلك، وأنا أدين الله تعالى بأن الإغراق في الجزئيات داء في الأمة كلها، على كافة المستويات، أنها تشتغل في كثير من الأحيان بجزئيات معينة عن ما هو أهم منها، بل قد تشتغل أحياناً بأمور لا داعي للاشتغال بها، وأحياناً تشتغل بأمور ينبغي الاشتغال بها، لكنها تغرق في ذلك، ولذلك عبرت بلفظ الإغراق، الذي يدل على أنني أدعو إلى الاعتدال والتوسط في ذلك.
وقد فهم منه بعض الإخوة خلاف ما أردت! مثلاً: هل يعني حديثي عن بعض الجزئيات، أو ذكري لبعض الأمثلة، أنني أقصد بحديثي هذا فئة معينة، أو أستهدف طائفة معينة، أبرء إلى الله عز وجل من ذلك، ويشهد الله على ما في قلبي، أنه لم يكن في ذهني -وأنا أتحدث- فئة معينة، ولا طائفة معينة، ولا بلد معين، ولا إقليماً، ولا شيئاً، وإنما كنت ولا زلت أشعر أن هذا داء عند العام والخاص، وعند طلاب العلم، وعند الدعاة، وعند الجماعات الإسلامية، وعند الناس كلهم إلا من رحم الله، ولا أقول بأفرادهم لكن في مجمل المجتمع أنه موجود.
ولو استصحبت هذا، وتأملت الناس، لوجدت ذلك جلياً، أحياناً أقوم بفرز بعض الأسئلة التي تأتيني في المحاضرة، فأجد أن أكثر من (90%) من الأسئلة تدور حول قضايا جزئية، إذاً أين الاهتمام بالقضايا الكلية؟! هل معنى ذلك أن الناس فهموا هذه الكليات؛ كليات العقيدة مثلاً، أصول الدين، معانيه العظام، هل فهموها حتى لا يسألوا عنها؟! معرفة سبل المجرمين وأعداء الدين، مقاومتهم، حربهم، هل المعنى أنهم فهموا ذلك كله، فلم يعودوا يسألون عنه؟! كلا.
بل ربما يكون الغالب أنهم غفلوا عنه فلم يكن لهم في حساب أو في اعتبار! إن حديثي في الإغراق في الجزئيات لا يعني كان من الأحوال إهمال طلب العلم الشرعي، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه، كيف أدعو في محاضرة إلى إهمال طلب العلم الشرعي، وأنتم أيها الإخوة! شهود أن هذا المجلس العامر الذي يرتاده ما يزيد على 1500 بحمد لله من طلبة العلم، وهذا الدرس الآن هو رقم (109) ومنذ أوله إلى الآن وهو حديث عن مسائل العلم الشرعي، هدفه تعلم الحديث، وطالما قلنا: فلان ضعيف، وفلان حسن الحديث، وفلان صدوق، وفلان ثقة، وهذا الحديث حسن، وهذا ضعيف، وهذا له شاهد، والمسألة كذا، وقيل كذا، والراجح كذا، وبحثنا حتى المسائل التي ربما مثلت بها في الشريط المشار إليه بحثنا كثيراً منها في نفس هذه الدروس.
وربما استغرقت أحياناً درساً كاملاً في مسألة واحدة، مثل مسألة الصلاة في النعلين، أو مسالة وضع اليدين على الصدر في الصلاة، تستغرق درساً كاملاً نذكر كل أدلتها، وكل الأقوال فيها، والراجح في ما يظهر، ليس هذا يعني ترك العلم الشرعي وعدم طلبه! وكيف أدعو إلى ترك العلم الشرعي وهو بضاعتنا؟! وأنتم أيضاً بحمد لله تعرفون، وهذا مما قلت: إن الإنسان قد يضطر إلى أن يقوله: إننا منذ أكثر من ست سنين نعقد درساً يومياً بعد صلاة الفجر، لا هم لنا فيه إلا دراسة صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب العقيدة مثلاً كالأصول الثلاثة، القواعد الأربع وكتاب التوحيد والعقيدة الواسطية، وكتب المصطلح، وكتب أهل العلم كزاد المعاد وغيرها، وهذه بضاعتنا، وإذا انفض الناس عن طلب العلم الشرعي، فسينفضون -في جملة من يفضون عنه- سينفضون عنا أيضاً، فكيف يتصور هذا وثمة محاضرات كثيرة ألقيتها في مناسبات شتى، تدور حول حث الشباب، وشباب الصحوة، والناس عامة، على طلب العلم الشرعي! منها: محاضرة "العلم يقتضي العمل" و"الطريقة المثلى للتفقه في الدين" و"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" و"من وسائل التعلم" و"مزالق في طريق الطلب" إلى غير ذلك.
فهذا ليس وارداً، ونحن نعتقد أنه لا قوام، ولا قيام، ولا صلاح للأمة، وللدعوة، إلا بطلب العلم الشرعي الذي يصحح مسيرتها.
ولا يعني الحديث في هذه المسائل عدم العمل بالسنة مثلاً، وكيف ونحن نتعلم السنة، ونعلمها، ونعمل بها، وماذا يفعل واحد منا إذا صلى، أو صام، أو حج، أو فعل شيئاً؟! إلا أن يفعل هذه السنن التي يتعلمها ويُعلمها، ولا مانع أبداً أن تبحث هذه السنة، وتعرف الراجح والمرجوح، ولكن لا يعني هذا أن هذه السنة صارت هي كل همك، فلا تتكلم إلا بها، ولا تبحث إلا عنها، ومعظم مجالسك وأحاديثك واهتماماتك تدور حولها، أو حول مسألة أو مسألتين تشبهها! وكيف يظن ذلك؟! وفي مناسبات عدة تكلمت عن السنة، وحاولت أن أدافع عنها، ومحاضرة في "أحاديث موضوعة متداولة"، ومحاضرة في "كيف ننشر السنة"، "صفة الصلاة وحكمها" هذا شريط تكلمت فيه عن هذه السنن، "الدفاع عن السنة"، "التفسير النبوي للقرآن الكريم" وغير ذلك، وكتاب حوار هادئ مع الغزالي حافل بمثل هذه المسائل وهذه المباحث.
لماذا لا تفهم الكلام على ضوء ما تعلمه من المتحدث؟! كيف تفهم أن طرق مثل هذه المسائل يعني: أننا ندعوك إلى الاشتغال بالواقع؟! لا يا أخي! نحن لا نقول: اشتغل بالواقع، قلنا: اشتغل بالدين عافاك الله! ما تكلمت قلت: اتركوا العلم، وتعالوا انزلوا للواقع، نحن نقول: ابحثوا مسائل العقيدة، وأصول الدين، وقضاياه الكلية، وكذلك قضايا الواقع هي جزء منها أيضاً.
نحن لا ندعو إلى الغفلة عن الواقع، ولا يمكن تطبيق الدين إلا بفهم الواقع، حتى تنزل الدين عليه، وتعرف أن هذا خطأ وهذا صواب، وهذا حق وهذا باطل، وهذا حلال وهذا حرام، وهذه من الأحكام الوضعية التي ينبغي أن يعلمها الناس، بل نحن ندعو إلى فهم أصول الدين وكلياته، ومقاصده العظام، وندعو أيضاً إلى بحث هذه المسائل الفرعية، والاهتمام بها، لكن دون إغراق.
فأنصفونا بارك الله فيكم! وكيف يظن أننا نتغافل، أو نتجاهل -مثلاً- عن قضية العقيدة، وقد ذكرت لكم قبل قليل أنني شرحت منها عدداً من الكتب، وعدداً من المتون كالقواعد الأربع، والأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد والعقيدة الواسطية وفي النية شرح أشياء أخرى، وثمة محاضرات كثيرة في العقيدة، "أصول الإيمان"، "أسباب تقوية الإيمان"، "غنى الخالق"، "الرضا بالله"، "من ألوان الشرك"، "مفهوم الشهادتين"، " "أفحكم الجاهلية يبغون"، "الخصائص السلوكية للفرقة الناجية"، "خصائص الطائفة المنصورة".
أم كيف يظن -مثلاً- أننا ندعو إلى ترك دراسة علم المصطلح، وهو جزء من بضاعتنا التي نهتم بها، وقد وفقنا الله تعالى إلى شرح "نخبة الفكر" للإمام الحافظ ابن حجر، وقطعنا فيها شوطاً بعيداً، وبقي منه جزء يسير، وثمة محاضرات أيضاً في المصطلح، كـ"طرق التخريج" وهي ثلاثة أشرطة إلى غير ذلك.
فلا يعني هذا إلى بحث المسائل المذكورة، ولا عدم الاشتغال بها، إنما يعني: عدم الإغراق فيها، كما أنني أود أن أشير إلى أن كثيراً من الأجزاء الحديثية، التي ألفت في مسائل أشرت إليها في المحاضرة السابقة، أنها عندي وأستفيد منها بحمد لله، وأشكر الله تعالى، ثم أشكر من ألفوها، فقد وفروا على طلبة العلم جهداً كبيراً، ومن يستطع -مثلاً- أن يتجاهل حين يبحث مسألة من تلك المسائل الأجزاء الحديثية النفيسة، التي كتبتها براعة العالم الفاضل الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، في قوة بحثه، وسلاسة عبارته، ومكانة أسلوبه، وسعة علمه.
وإنني لا أمر بمسألة أبحثها، وأعلم له فيها كتاباً، إلا رجعت إليه، أفدت من عنده، سواء أشرت إلى ذلك كما حصل في مواضع أم لم أشر إليه.
وكذلك كُتُب أخينا الشيخ فريح البهلال له عدد من الأجزاء الحديثية المفيدة، وعدد كبير لا أحصيهم، ولا يأتي عليهم الحصر من إخواننا، من هنا، ومن الكويت، ومن مصر، ومن سواها، كتبوا أجزاءً حديثية في مسائل كثيرة، في زكاة الحلي مثلاً، في صفة الصلاة، في وضع اليدين، كلنا نستفيد منها، ونتعبد الله بقراءتها ودراستها، ونشهد الله على محبة الذين كتبوها، وعلى شكرهم على ما يسروا لنا من العلم.
ففرق بين الاستفادة من هذه الأشياء، وبين كوننا نجعل هذه المسائل المطروحة هي كل همنا، وهي سبب الاجتماع بيننا أو التفرق، وهي الفيصل.
حتى ربما قال إنسان: أشهد الله على بغض فلان، لأنه خالفه في مسألة! والله فلان ربما أني أبغضه في الله، وربما أشن عليه الحرب، لماذا؟ لأنه خالفه في مسألة أو مسائل، متى كان هذا؟! على كل حال الأمثلة التي ذكرتها هنا، أو ذكرتها في تلك المحاضرة، أو في غيرها، ليست مقصودة لذاتها، احذف الأمثلة، الأمثلة لا تعنينا، لأن الاهتمام بالأمثلة من الإغراق في الجزئيات أيضاً.
خذ القاعدة العامة وهي: أننا ندعو الأمة أن تهتم بالكليات أكثر من الجزئيات، ولا تغفل الجزئيات.(68/18)
الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة
السؤال
سألني بعض الإخوة عن الفرق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وقالوا: إنك فرقت في عدد من محاضراتك وكتبك بينهما.
فهل من دليل على التفريق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟
الجواب
أقول أولاً: لنفترض أن ما قلته خطأ، وأن الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة من غير فرق بينهما.
فهذا الاجتهاد مني إن كان خطأ فأنا أستغفر الله عز وجل منه وأتوب إليه، وأبرأ إلى الله تعالى من كل ما لا يوافق الكتاب والسنة، علمت ذلك أم لم أعلمه.
وهذا الخطأ لا يخل بأصل الاعتقاد والحمد لله، ولا يخرج الإنسان من مسمى أهل السنة والجماعة، ولا يترتب عليه شيء.
إنسان اجتهد فأخطأ، وإن شاء الله أنه باجتهاده لم يقصد إلا الصواب.
أما كلمة يقصد، ويعني، ويريد، فهذه نرجو أن نتفق على استبعادها، ونتركها للدار الآخرة، ونتركها لرب العالمين.
ومع ذلك أقول: لم أكن فيما أعتقد، وفيما أعلم، لم أكن أول من قال بذلك، بل الذي أظنه أن التفريق بينهما شائع معروف، وخذ على سبيل ذلك أمثلة: في صحيح البخاري في حديث الطائفة المنصورة لما تكلم معاوية رضي الله عنه مع أهل الشام في ذكر الطائفة المنصورة إنه: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} قام مالك بن يخامر -من التابعين- فقال: [[إنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام، فقال معاوية رضي الله عنه: هذا مالك بن يخامر وبه النسمة، يقول: إنه سمع معاذاً يقول: وهم بالشام]] .
قوله: وهم بالشام من المقصود؟ أليس المقصود الطائفة المنصورة؟! نعم.
المقصود الطائفة المنصورة.
إذاًَ: معاذ بن جبل ينقل أنهم بالشام، وينقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مالك بن يخامر يقول: وهم بالشام، معاوية رضي الله عنه لما احتج بهذا الحديث، ماذا كان يعني؟! كان يعني أن أهل الشام الذين كانوا معه هم الطائفة المنصورة في مقابل من؟! في مقابل أهل العراق؛ علي رضي الله عنه ومن معه بالعراق.
فهل تظنون بـ معاوية رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يعتقد أن علياً ومن معه، من الفرق الضالة الهالكة أهل النار!؟ حاشاه وحاشاه، وإنما كان يقول: نحن المنصورون وهم لن ينصروا.
وهكذا كان، لقد نصر أهل الشام كما هو معروف وآلت الدولة إلى بني أمية، فكانوا كما ذهب إليه معاوية رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا هم المنصورين في تلك الفترة.
ولا يعني أنهم أولى بالحق من غيرهم، بل كان علياً -رضي الله تعالى عنه- ومن معه أولى بالحق من جوانب كثيرة.
لكن لله في خلقه شئون وحكم، والأمر لله من قبل ومن بعد.
فهذا أمر ظاهر أن معاوية رضي الله عنه لم يكن يريد أن يقول: إن علياً وأهله ومن معه وأهل العراق أنهم فرقة ضالة، وأنهم من أهل النار، وإنما كان الأولى أن يظن أنه كان يقول: إن الله سوف ينصر أهل الشام.
وقد استدل بعضهم بقول الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] على انتصار أهل الشام وغلبتهم، وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره في مواضع فيما لا مزيد عليه.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تكلم في هذه المسألة، وأشار إلى هذا المعنى، بكلام ظاهره أنه فعلاً يرى أن الفرقة الناجية شيء والطائفة المنصورة شيء آخر.
فالفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، الذين التزموا العقيدة الصحيحة حين انحرف أهل البدع عنها وضلوا فهم ناجون.
أما الطائفة المنصورة فهي فئة جادلت، وحاربت وقاتلت.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الحديث -ونحن ينبغي أن نكون من أهل الحديث- أن الطائفة المنصورة يقاتلون أو لا؟ ما قال: يقاتلون.
والنصر يحصل لمن؟ يحصل للمقاتلين، لكن الذين ما قاتلوا، الذين تركوا القتال وقعدوا عنه، أو اعتزلوا باجتهاد منهم، أو لسبب أو لآخر، أو اشتغلوا بأي أمر من الأمور، وهم على عقيدة صحيحة، ومن أهل السنة والجماعة، لكنهم لم يقاتلوا، يجدر أن لا يكونوا من الطائفة المنصورة، وإن كانوا من الفرقة الناجية.
أرأيت إنساناً سليم الاعتقاد، صحيح العقل، صحيح العبادة، نقي السريرة، على مذهب أهل السنة في كل شيء، لكنه رأى فساد الزمان فقال: أنا أرى أن أعتزل الناس وأتركهم! فاعتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه ويدع الناس من شره، هل تستطيع أن تقول: إن هذا من الطائفة المنصورة؟! لا تستطيع، لأنه لا يقاتل، ولا يقاوم أصلاً، حتى يتحقق له النصر، لكنك تستطيع أن تقول: إنه من الفرقة الناجية؛ لأنه لم يأت بما يخشى أن يعوقه عن النجاة، وعندي على ذلك بعض الأدلة: منها أن الأصل أنه إذا اختلف الاسم؛ اختلف المسمى، فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الطائفة المنصورة باسمها، وذكر في الحديث الآخر {أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة} فإذا اختلف الاسم دل على اختلاف المسمى، والقول بتوحد المسمى مع اختلاف الاسم يحتاج إلى دليل ظاهر، خاصة وهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اختلف الاسم، واختلف الوصف، فهنا النجاة، وهنا النصر، وهناك سماها فرقة وهنا سماها طائفة، والطائفة في الغالب أقل من الفرقة عدداً.
هناك كلام يطول، لكن هذا بعض ما حضرني، ومع ذلك لست أقول: إن هذا الكلام اجتهاد يجب على الجميع اتباعه، أنا مطمئن قلبي بذلك، وعندي أدلة من القرآن والسنة، وقد بسطتها أو شيئاً منها في كتاب صفة الغرباء لكن يمكن أن يكون اجتهاد في غير محله، ليس في الأمر ما يستدعي أن س يضخم هذا الأمر.(68/19)
الأسئلة(68/20)
الإعلام يغزو بلاد الإسلام
السؤال
سأبذل وسعي والله المستعان! كنت في طريقي إلى الدرس هذه الليلة، وبالتحديد قبل ثلث ساعة، أو نصف ساعة وأدرت مفتاح الراديو وإذا بأخبار لندن وكل أخبارها سوء، كان الخبر يدور حول إبرام عقد بين هيئة الإذاعة البريطانية وتلفزيون البحرين وذلك بشأن بثها الجديد الخاص بهيئة الإذاعة البريطانية، ويقول: إنَّ بإمكان كل من في دولة البحرين وما جاورها أن يلتقط البث الذي يستمر 18ساعة يومياً، ابتداءً من السنة الميلادية الجديدة في منتصف شهر نوفمبر، وكل هذا الإفساد لأبناء المسلمين، والله المستعان! ويقول: الحمد لله لقد قطعت عليهم الطريق إن شاء الله للدخول إلى بيتنا العزيز، وقد نفذنا حكم الإعدام على التلفاز فجر يوم الأحد الماضي (27/4) وذلك بإجماع عائلي، وبالتحديد بمعدل (9990 من 10000) -هذه معدلات الانتخابات والحمد لله- فهل آن للجميع التنبه قبل الغرق، هذا ما نرجو من الله، وأخيراً دعواتكم لنا ولجميع المسلمين.
الجواب
جزاك الله خيراً.
هذا من الاهتمام بأمور المسلمين، وبالأمس أعطاني أحد الشباب قصاصة من مجلة اليمامة، يعتبون فيها على بعض الذين يبيعون الدش الذي يستقبل البث، يقولون: يباع أحياناً بـ (100000) وهذا سعر غالي، وهو يباع في الدول المجاورة بـ (20000) وبـ (25000) وبأقل من ذلك، ولا ندري من هي الجهة المسئولة عن هذه التجارة، حتى نرفع إليها الشكوى.
وقبل أسبوعين ذكرت لكم في بعض الدروس إعلان في بعض الجرائد المحلية، عن بيع جهاز صغير صنع خصيصاً لاستقبال هذه الأمور.
المسلمون بشكل عام يواجهون غزواً مركزاً وقوياً، وبعض الإخوة من طيبة قلوبهم يقول: لا تقرءوا مثل هذه الأشياء ولا تخبروا الناس بها.
الناس عارفون، الذين يقرءون الجريدة أحياناً مئات الألوف، وحتى لو لم ينشر في الجريدة، فهذا أمر معروف في كل مكان، وإذا ما عرفوا اليوم عرفوا غداً، وإذا ما عرفوا الساعة عرفوا العام القادم.
لكن الشيء المهم هو أن نعرف نحن في أي أرضية نتحرك، وما هو العدو الذي نواجهه؟! وما هي الجهة التي ينبغي أن نصب تركيزنا عليها، ونبذل وسعنا في محاربتها، وحماية المجتمع والأمة منها؟! لأن هناك بلا شك خطة قوية لإغراق المجتمع، وأقول: بالذات في هذه البيئات التي لا زالت محافظة أكثر من غيرها.
إغراق المجتمع في ألوان من المشاهدات، والمسموعات، والمطبوعات، التي سوف تغير عقليات الناس زيادة على ما هم عليه.
نسأل الله أن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يكفينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن يهدي قلوبنا، ويصلح نياتنا، وذرياتنا، وسرائرنا، وظاهرنا وباطننا، إنه على كل شيء قدير، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(68/21)
مسألة تكفير مرتكب الكبيرة
السؤال
أنا عاشق للحق، في أحد الأيام جلست مع بعض الإخوة الجزائريين فقالوا: إن الشيخ سلمان يكفر مرتكب الكبيرة، فقلت: كيف ذلك؟! فجاءوا بكلام غريب، وبعد التتبع عرفت أنهم أخذوا قطعة من كلامك في شريط "جلسة على الرصيف"؟
الجواب
جزاك الله خيراً، على كل حال، والمهم أن هذا جيد، مسألة: تكفير مرتكب الكبيرة.
ماذا يحتاج منك حتى تعرف عقيدتي في مرتكب الكبيرة؟ لا يحتاج أنك تلتقط كلمة من شريط، فهذه قضية واضحة، يمكن أن تفهم من عموميات الكلام، وكما ذكرت لكم سبق أنه شرحت كتباً بأكملها، وجاءت محاضرات كثيرة، وهناك محاضرة عنوانها "مفهوم لا إله إلا الله" تكلمت فيها عن هذه المسألة.
كما أني رددت على الخوارج في مواضع لا تحصى كثرة، ومنها محاضرات عنوانها الصحوة بين الإفراط والتفريط" أو"الشباب بين الإفراط والتفريط"، "الصحوة ما لها وما عليها"، "ترشيد الصحوة" إلى آخر ذلك.
تكلمنا على الخوارج بالاسم، فما تحتاج حتى تعرف عقيدة فلان في الخوارج، أن تلتقط كلمة يمكن ألا تكون العبارة فيها محبوكة مسبوكة، إلا إن كنت صاحب هوى! أما الكلمة التي في الشريط، فيكفيك أنك ترجع إلى الكتاب، لأنه كما قلت لكم قبل قليل، الشريط يحول إلى كتاب فيصحح، وتحبك عبارته، بما لا يتسنى للمتكلم الذي قد لا يتفطن أحياناً لما يقول.
فارجع إلى الكتاب، لأن الشريط تحول إلى كتاب، وانظر تلك العبارة، كيف بينتها وأشرت إلى أن مقصودي الذين يستخفون بأحكام الله عز وجل، ويفتخرون، لأن الكلام كان عن مغني معين، وكنت أقصد في جلسة على الرصيف في الشريط، كنت أقصد مغنياً معروفاً لا داعي لذكر اسمه، له أشرطة متداولة، هذه الأشرطة وقفت عليها، فرغها لي بعض الشباب في أوراق، ووجدته يفتخر بالزنا، ويعير من لا يزني، ويسخر به، ويتمنى أن تمطر السماء مجرمين ولوطية والعياذ بالله! وأن وأن، ويبين كيف غرر بفتاة، وكيف جرها، وكيف وكيف! بكلام يعلم يقيناًَ ممن قرأ ذلك الكلام، أو سمعه، يعلم أن هذا الإنسان لا يعتبر الزنا فاحشة كما ذكر الله تعالى، ولا يؤمن، وإنما يعتبره رجولة، وفتوة وكمالاً، وينتقص من لا يفعله! ونحن نعلم أن الأنبياء، والصالحين، وغيرهم، كلهم على هذا منتقصين عند هذا الإنسان؛ لأنهم أطهار نزيهون عن مثل ذلك! فكان هذا مقصودي، فلا شك أنه قد تكون العبارة ليست محبوكة مسبوكة بشكل واضح، والمعنى واضح إذا فهمته بالكلام الذي ذكرناه قبل قليل، على طريقة ابن القيم التي أشار إليها.
لكن مع ذلك جاء الكتاب، والكتاب لعلني أقول: طبع منه بحمد لله أكثر من (250.
000) نسخة، ووزعت في كل مكان.
فلم يكن هناك مجال للاتهام، إلا إنسان يريد التشويه ونقول: سامحه الله، ولكن لا بد من بيان الحق لمن أحب أن يعرفه، أما من أحب أن يبقى على ما هو عليه فهو وما يشاء.(68/22)
الحصن الحصين من الشيطان الرجيم
الشباب فترة القوة والعطاء، هو وقت بناء الدين في النفس والتربية في كل شأن من شئون الحياء، وقد فرض الغرب رؤيته الخاصة على التقدم التقني والتجريبي، وحيث لا مبدأ أخلاقياً عنده؛ فقد تأثرت البلاد الآخذة منه، فلابد من توعية الشباب ونصيحتهم ودلالتهم على طريق المسلمين حتى لا يجرفهم التيار.(69/1)
تسخير الكفار شتى الوسائل لخدمة أغراضهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة الشباب: إن جلوسي مع أمثالكم يطيب، وما ذاك إلا لأن الإنسان يشعر وهو يتحدث إليكم أنه يقدم إلى أمته شيئاً قد ينفع، أو أنه يدفع عنها ضراً قد يصيبها في صميمها.
وأعتقد أنكم أصبحتم تدركون جيداً -الآن- أننا أمام عدوٍ كشَّر عن أنيابه، مدجج بأحدث السلاح، وهو عدو يملك الحضارة؛ وبالتالي أصبح يهيمن على الدنيا إلا ما شاء الله، وسخر كل المنجزات وكل الإبداعات وكل العلوم؛ سخرها لمسخ هوية المسلم، وسحق بقايا الإسلام.
فمثلاً: سخر الإعلام الذي جعل العالم كله قريةً واحدة فتقال الكلمة في المغرب؛ فتسمع في المشرق، ويحدث الحدث هنا؛ فيرى في كل أنحاء الدنيا في اللحظة التي حدث فيها.
وسخر العدو الكافر الكاسر هذا الإعلام لتضليل المسلمين، وتغيير عقولهم، ومسخ أخلاقهم، التلفاز -مثلاً- نموذج، والإذاعات نموذج، وأفلام الفيديو نموذج، والمجلة الخليعة نموذج، وشريط الغناء الماجن نموذج، وآخر ذلك ما يسمى بالبث المباشر الذي أصبح بعض بني قومنا يستقبلونه بكل ترحاب، وإنه لعجبٌ من العجب.
هل رأيتم إنساناً يستقبل عدوه بالأحضان، ويفتح له ذراعيه، ويضحك في وجهه، ويفتح له البوابة على مصراعيها، ويقول له: تفضل؟! هذا هو والله ما يحدث تماماً.
من هؤلاء الذين تشاهدهم في التلفاز أو في المجلة أو في الشريط؟ أليسوا يهوداً، ونصارى، ووثنيين، أي: أنهم بشكل عام من أهل النار، وأي مرض لقلبك أمرض من أن تفتح عينيك لمشاهدة أهل النار، فمشاهدة الأخيار؛ تقربك إلى الله عز وجل وتذكرك به، تدعوك إلى الإيمان، فكذلك مشاهدة وجوه الكافرين تدعوك إلى النار.(69/2)
العبر من قصة جريج العابد
ألم تعرف قصة جريج العابد؟ لما كان في صومعته يصلي فنادته أمه وهو يصلي، فتردد وقال: يا رب، أمي أو صلاتي؟! أي: هل أجيب أمي أم أستمر في صلاتي، فترك أمه وظل يصلي، فنادته مرة أخرى، ومرة ثالثة، فغضبت عليه وقالت له: -وهذا هو أسوأ دعاء يمكن أن تدعو به على ولدها- قالت: لا أماتك الله حتى يريك وجوه المومسات! والمومسات هن الزانيات اللاتي يتعاطين البغاء والفجور.
فقط دعت عليه أن يريه الله وجوه المومسات، وهذا أسوأ دعاء، وأعظم عقوبة يمكن أن توجهه إليه، وكانت هناك امرأة بغي من بني إسرائيل فأعطاها بعضهم مالاً على أن تفتن جريجاً، فجاءت إليه فلم تظفر منه بشيء، حيث إنه أعرض عنها وأقبل على صلاته، فذهبت إلى الراعي الذي يرعى الغنم، ومكنته من نفسها، فزنى بها، وحملت، فجاءت إليهم وقالت: هذا من جريج، قد زنى بي جريج وأنا حملت منه! فجاءوا إليه وكانت صومعته من طين فهدموها وجرجروه، وقالوا: انزل يا خبيث! أنت تتظاهر بالدين وأنت كذاب، فعلت الفاحشة في هذه المرأة، وهذا الولد منك، فبهت جريج لبعده عن هذه الأمور، ودعا الله تعالى أن ينقذه من هذه الدعوى الكاذبة، فأقبل على الغلام، وقال له: يا غلام، يا باقوس، من أبوك؟ يصرخ بهذه الكلمة لأنه ينادي الله الذي لا يتخلى عن الصادقين أبداً، فأنطق الله هذا الغلام وقال: أبي هو الراعي، فاندهش الناس، لأنهم علموا أن جريجاً أبرأ وأطهر من السحابة في سمائها، واندهشوا لأنهم علموا أن له من المنزلة والمكانة عند الله ما جعل هذه الكرامة تتحقق له فينطق الطفل الرضيع ببراءته، واندهشوا لأنهم قد عرفوا أنهم قد اتهموه وآذوه وظلموه، فأقبلوا إليه يضمونه ويقبلونه، ويقولون له: نبني لك صومعة من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت؛ لأن أهل العبادة وأهل الآخرة لا تهمهم المظاهر! فالمهم في القصة أنهم لما جرجروه وجاءوا به من الصومعة، ومشوا به في أحد الشوارع؛ فالتفت -حانت منه التفاتة- وإذا به يجد لوحاتِ وبيوتَ وأماكنَ البغاء -هذا يوجد حتى مع الأسف في بلاد إسلامية، لكن في بلاد الغرب معروف، أماكن خاصة للفساد- فلما التفت وجد البغاء، ووجد البغايا على الأبواب يعرضن أنفسهن، فضحك ضحكة مشوبة بالدموع؛ لأنه تذكر دعوة والدته وأنها هي التي جرته إلى هذا المكان، حتى يرى وجوه البغايا ووجوه المومسات، ثم استغفر الله تعالى.
ففي هذه القصة عبر، من هذه العبر:(69/3)
خوف الأطهار السابقين من مجرد النظر إلى الفاجرات
انظر إلى هؤلاء الأطهار -من بني إسرائيل- كيف كان مجرد النظر إلى وجه المرأة الفاجرة يؤذي قلوبهم، وكان أقصى ما تدعو به المرأة على ولدها أن يرى وجوه المومسات، وقارن هذا بأناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أصبحوا بمحض اختيارهم وطوع إرادتهم يتمتعون بالنظر لا إلى وجوه المومسات فقط، بل إلى ما هو أكثر وأعظم وأفضع من ذلك!! وانظر كيف انكسر الحاجز الآن؟! فهل أنت تشعر يا أخي وأنت ترى الكافر، سواء وأنت تراه على الشاشة أم تراه على الطبيعة، أياً كان هذا الكافر ولو كان خبيراً كبيراً، ولو كان دكتوراً ولو أخصائياً؛ ولو كان بروفيسوراً أو لو كان أي شيء آخر، هل نسيت أنه كافر؟! أم أنك أصبحت تستحي أن تطلق هذه العبارة، كأنه عيب أنك تقول: كافر، بل هو كافر بالتأكيد، وإذا كان غير مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا متبع لشريعته فهو حطب جهنم، والله عز وجل يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وقال في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] وقال في الآية الثالثة: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] متى يقول هذا؟ يقول هذا حينما يقال للحيوانات في الدار الآخرة: كوني تراباً، فيتمنى أنه لو كان حيواناً ليقال له كن تراباً.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا(69/4)
الإعراض عن زينة الدنيا والتغلب على النفس
في قصة جريج -التي أسلفتها لكم قبل قليل- أمر الإعراض عن زينة الحياة الدنيا، من الحرام، أو من الحلال الذي قد يجر إلى الحرام، فأنت ترى جريجاً هذا، من أي شيء خلق؟ من تراب ومن طين، مثله مثلي ومثلك، فالطبيعة واحدة، والطبيعة التي خلق منها الأبرار الأطهار حتى الأنبياء خلقوا من طين من تراب، والصحابة والفضلاء والزهاد والعباد، وأهل الفردوس الأعلى وأهل الجنة كلهم مخلوقون من تراب، فإن أباهم آدم خلق من تراب: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] .
فالعواطف واحدة، والمشاعر واحدة، والغرائز موجودة، فـ جريج أو غير جريج إذا رأى ما يثير تثور أعصابه، وتثور عواطفه وغريزته، فليس هو حجراً أصمَّ لا؛ ولكنه في مقابل ذلك يجد من وازع الإيمان ما يردعه ويمنعه، ولهذا قال الله عز وجل في وصف أهل الجنة: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] إذاً: فالهوى موجود في النفس، ولكنه ينهى نفسه عن ذلك ويدافعها ويستعيذ بالله عز وجل.(69/5)
قصة يوسف
يوسف عليه الصلاة والسلام، شاب قوي في بلدٍ غريب، ليس له أهل، ولا أب، ولا أم، ولا زوجة، ولا قريب! وأيضاً هو في أي مكان؟ في قصر الملك! وتصور ماذا يوجد في قصر الملك من الفتن والمغريات والزخارف ومن الزينة الدنيوية والإغراءات؟! وحدث ولا حرج! وهو شابٌ في غاية الوسامة والجمال، أعطي شطر الحسن، يتعرض للإغراء على يد من؟! ليس على يد الخادمة أو على يد الممرضة، إنما على يد امرأة العزيز نفسه، زوجة رئيس الوزراء، قتغلق الأبواب، وليس هناك خوف من العقوبة، وتقول له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] تعال، أنا مستعدة وهي امرأة جميلة وهذا واضح لأن العزيز لن يتزوج إلا امرأة في غاية الجمال، وسيبحث عن أجمل النساء، وتتهدده إذا لم ينفذ بالعقوبة: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] .
فهناك تحديات عديدة، وإغراءات لا نهاية لها، ومع ذلك يعرض عنها ويشيح عنها بوجهه ويقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:23-25] انظر الآية: (واستبقا الباب) وتصور يوسف وهو يركض هارباً والمرأة تركض وراءه أيهما يصل أولاً، حتى يدخل العزيز إلى آخر القصة المعروفة.(69/6)
الخطر الذي يواجه الشباب العاملين في المجال الصحي
أعتقد أيها الشباب أن أخطر شيء يواجهكم الآن هو المغريات وفتن الشهوات، فأنت الآن تضع قدمك في بداية طريق نهايته معروفة، نهايته المستشفى أو المستوصف، والواحد منا حين يزور المستشفى لحاجة لابد منها -للمرض- يشعر بالضيق حتى يخرج منها مع أن بقاءه فيه لحظات معدودة، أو ساعة أو ساعتين؛ لما يرى فيها من المظاهر التي لا تسر من اختلاط الرجال بالنساء، ووجود الممرضات بأبهى زينة، وبملابس تحدد وتحجم الجسم، والعطور تفوح، والشعور والنحور مكشوفة، والمكياج على الوجه، والضحكات تتعالى في الفضاء، والابتسامات توزع بالمجان يمنة ويسرة، وربما تعتقد الممرضة أن هذا جزء من عملها وما يقتضيه واجبها! وفوق هذا كله قد تكون الممرضة في حالاتٍ كثيرة غير مسلمة أصلاً، بمعنى أنه ليس عندها دين يردعها أو يمنعها، وفوق هذا وذاك هي في بلدٍ غريب، وليس عندها زوج، أضف إلى هذا كله أن غير المسلمات قد أتين من بلاد لا يرون أصلاً في هذه الأمور والعلاقات المحرمة -عندنا- لا يرون فيها هم بأساً، فبلادهم في الغالب بلاد إباحية.
وبالمقابل أنت شاب في سن المراهقة، وهيجان الغريزة، وقوة الشباب، وقد تكون أيضاً غير متزوج وأنت تعيش في مثل هذا الجو، فلو أردنا أن ننظر للقضية بالمقياس العادي، القضية هذه مثلما لو قلت: (بترول) ووُضِعت بجواره نار فإن النتيجة معروفة وهي الحريق، فهذا هو الأصل، وقد يقول قائل: أنت ما زدت على أن وصفت لنا الأمر الواقع، فأقول: نعم، أحياناً قدرتك على تصور ما أنت مقبلٌ عليه والواقع الذي تعيشه تعنيك على البحث عن الحل.
طبعاً هناك فئة من الناس قد يكون أصل توجهه إلى هذا العمل رغبة في مثل هذه الأجواء والفئات، وهذا لا شك جر نفسه إلى أمر خطير، ونحن نقول: أعظم ما عليك هو سلامة نفسك، والبحث عن النجاة، فسعيك في نجاة نفسك وفكاكها وخلاصها أعظم من كل شيء، وهب أنك عشت فقيراً، أو هب أنك مت جوعاً أيضاً، ما يضيرك شيء لأنك إن مت وأنت مؤمن فأنت إلى الجنة، وماذا يضير الإنسان أن يكون عاش عشرة أو عشرين سنة في تعب وشقاء إذا كان مآله إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إذاً: أهم ما عليك هو السعي لنجاة نفسك وخلاصها، لكن قد يأتي الإنسان لهذا العمل لغرضٍ آخر، قد يكون جاء لغرض شرعي، وهذا وارد؛ فمن الممكن أن يقول قائل: أنا أتيت لأن هذا المجال مهم وحيوي وحساس ولابد للمجتمع منه، فأنا أتيت لأسد هذا الفراغ بدلاً من غيري وأحاول أن أصلح بقدر ما أستطيع وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأحافظ على أعراض المسلمين وعلى نسائهم وعلى أمورهم وأنصح لهم؛ ولا شك أن هذا الكلام معقول ومنطقي، فنحن ماذا ننتظر -مثلاً- من بوذي، أو هندوسي، أو نصراني، أو يهودي إذا كان هو يقوم بترتيبات لإجراء عمليات على مسلم أو مسلمة، أقل شيء أنه يكون متهاوناً وغير مبال، وقد يدخل الرجل أو قد تدخل المرأة في المستشفى -كما تعرفون قصصاً وأخباراً من هذا القبيل- سليماً معافى، وتكون هناك عملية عادية، فنتيجة الإهمال أو نتيجة عمل مقصود أيضاً قد يتسبب في وفاته، فإذا كان غير مسلم فماذا تنتظر من عدو دينك إلا هذا؟! وقد يكون مجيء الإنسان لمثل هذه المجالات أيضاً لا لهذا ولا ذاك، فيقول: أنا لم آت لغرض سيئ والحمد لله، وفي نفس الوقت لم آت لغرض صالح وهو أني أريد خدمة ديني والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على أعراض المسلمين، إنما أتيت للمعاهد الصحية أو للمجال الصحي لمجرد أنه مجال وظيفي متاح لي، وقد لا أجد مجالاً آخر مثله، بمثل هذا المستوى الدراسي، وبمثل هذا العطاء، وبمثل هذا الخير، وبمثل هذا المستوى الوظيفي؛ فأقبلت عليه من هذا المنطلق.(69/7)
أمور لا بد منها لتحصين النفس
ولمثل هؤلاء الإخوة لابد للإنسان أن يحصن نفسه بأمور:(69/8)
الإقبال على العبادة
الأمر الأول: عبادة الله تعالى والإقبال عليه بالمحافظة على الصلوات وقراءة القرآن والذكر والاستغفار وغير ذلك، هذه أولاً صيانة لك، فربما يهم الإنسان بسوء فيحفظه الله بسبب ذكر أو صلاة، وأنت قبل قليل سمعت قصة يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فقد همَّ رجل وهناك إنسان همَّ أن يسافر إلى بلاد الكفر مع مجموعة من الفاسدين من أصدقائه وقرناء السوء، وكان قصده أن يقع في الفساد والرذيلة، ولكن الرجل كان عنده بعض الخير والصلاح والاستقامة ومحافظاً على الصلوات، فعصمه الله تعالى بصلاته وذكره؛ ففاتته الطائرة ولم يذهب إلى هناك، وتاب بعد ذلك فلم يعد.(69/9)
الحرص على بر الوالدين
الأمر الثاني: الحرص على بر الوالدين وطاعتهما، فربما ينجيك الله تعالى من الشر والسوء بسبب دعوة صالحة من أبويك، ودائماً وأبداً افعل الأسباب المادية واجعل دعاء الوالدين زاداً لك، فالأم العجوز -التي خلفتها في المنزل- احرص على إرضائها بقدر ما تستطيع، وقبِّل رأسها عند الدخول وعند الخروج، واجعلها دائماً في رضىً عنك بطيب الكلام، وتقديم ما تستطيع لها وخدمتها وطاعتها وإرضائها ولو سهرت الليل من أجل ذلك فليس بكثير أبداً، بحيث تزودك بالدعوات حتى حين تخرج إلى عملك ودراستك وأنت مسرور القلب، لأن آخر ما سمعت من البيت وأنت خارج دعوات الوالدة: يا ولدي، يحفظك الله، يساعدك الله، يبارك الله في عمرك، يردك لي سالماً، وما أشبه ذلك من الكلمات التي ترن في أذنك وتسعد قلبك؛ وقد تكون مستجابة عند ربك.
وقبل قليل أنت رأيت دعاء أم جريج وكيف أجابها الله على ولدها، فقد أجابها الله على ولدها وهو العابد الذي كان مشغولاً عن إجابتها بالصلاة! فماذا رأيك أنت لو دعت عليك أمك أنت؛ وأنت قد رفضت إجابة طلبها ليس لأنك مشغول بالصلاة أو بالقرآن؛ وإنما مشغول مع شلة من الأصدقاء الذين تقضي معهم الوقت وقد لا يكونون صالحين أحياناً، أو أنك تريد أن تذهب إلى عملك وتعرف أنت أنه لا يرضي الله، أو لأنك جالس أمام التلفاز تشاهد مسلسلاً -مثلاً- أو تستمع إلى أغنية! أليس هذا أولى بالقبول لو دعت عليك أمك؟! فحاذر دعوة الوالد أو الوالدة! فإن دعاء الوالد على ولده أو لولده لا يرد.(69/10)
التمسك بالصحبة الصالحة
الأمر الثالث: تشبث وتمسك بالأصدقاء الصالحين، ابحث عنهم حيث كانوا: في حلقة المسجد، أو في المكتبة، أو في الدرس، أو في المعهد نفسه، أو في الحارة، المهم ابحث عن الأخيار حيث كانوا وتمسك بهم بكلتا يديك، ولا تفارقهم أبداً حتى لو أساءوا إليك، ولو قسوا عليك، ولو جفوا في معاملتك، قل لهم: أنا أريدكم لنفسي ولا أبحث عنكم من أجل المتعة، فالمتعة لو أردتها لوجدتها عند غيركم، إنما أبحث عنكم لأنني أعتقد أن نجاتي مرهونة بصحبتي لكم، فأنا أعيش في بيئة غير صالحة، وطبيعة عملي طبيعة تدعو إلى التحلل، وتدعو إلى الوقوع في الحرام، وأقل ما تدعوني إليه أن تقع عيني على حرام، أو تستمع أذني إلى حرام، أو تتحرك يدي إلى حرام، أو تمشي قدمي إلى حرام.
وكل هذا صنفه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كلمة خطيرة جداً: الزنا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع} سواء سمعاً مباشراً؛ أم تسمع كلاماً يحرك مشاعرك فيها، كلمات غرام وغزل أو عبر الهاتف: {واليد تزني وزناها البطش} فمصافحتك لامرأة أجنبية، وضعك يدك على كتفكها أو ظهرها أو على ساعدها أو بأي صورة من الصور، هذا من الزنا: {والرجل تزني وزناها المشي} فالمشي إلى الحرام، عندما تذهب إلى مكان لا لتقوم بعمل، ولا لتخدم أمتك ودينك وأهل بلدك، ولا من أجل الرزق المباح، وإنما تذهب إلى عمل وكل ما في مخيلتك هذه المغريات التي تنتظرك، فهذه الخطوات معدودة في الزنا.
إذاً: كل عضو من الأعضاء يزني، فمثلاً: الشفتان تزنيان وزناهما القبلة الحرام، واللسان يزني وزناه الكلام المعسول، وعبارات الغزل والغرام التي يتعاطاها بعض الشباب بعفوية ولا مبالاة، ولا يدرون أن في هذا العطب والهلاك لهم في الدنيا والآخرة: {والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} ولاحظ الحديث: {كتب على ابن آدم حظه} .
إذاً: أنا أريد أن أنبهك مرة أخرى إلى قضية وهي: أنت -إن كنت تعرف من نفسك أخطاء وانحرافات- فأنت وذاك الإنسان التقي النقي الطاهر العابد، كلاكما من طينة واحدة، وكلكم من بني آدم وكلكم ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا} أنت وهو، ولكن الفرق أنك استجبت لدواعي الهوى ونوازع الشهوة، أما هو فأعرض وأبى واستعاذ بالله عز وجل؛ فأعاذه الله! فالمقصود أن عليك التشبث بأصدقائك الصالحين الطيبين وتتمسك بهم، ولو ركلوك بأقدامهم! وتقول لهم: أنا في بيئة لا تعينني على الخير والصلاح، فإن تخليت عنكم أو تخليتم عني، فإن معناه أنني كالغريق الذي كانت يده تمسك بحبل النجاة فانفلتت يده من هذا الحبل وهو لا يجيد السباحة، كيف ترى يكون مصيره؟! الغرق ولابد، فلابد من صحبة الأخيار والبحث عنهم.(69/11)
مجاهدة النفس دائماً
الأمر الرابع: أنه لابد من مجاهدة النفس في كل لحظة، ففي كل ساعة أنت في جهاد والشيطان يدعوك، فإذا نظرت إلى المرأة قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: {اصرف بصرك؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية} النظرة الأولى -النظرة العفوية- التي كانت بغير قصد، لكن النظرة الثانية: لا، ومن قبل قال لك الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] .
وقال لك الشيطان: كرر، انظر هذا الجمال لا يفوتك، وهذه فرصة! فأيهما تطيع: الله أم الشيطان؟! فهي مسألة تحدٍ بينك وبين الشيطان، وهي مفرق طريق ولها ما بعدها، فإذا أدمنت النظر؛ تحول النظر عندك إلى طبيعة لا تستطيع أن تنفك عنها، وهذه قضية انتبه لها جيداً، فلو أنك قاومت النظر انتهى ما بعده، لكن إذا استسلمت للنظر؛ فإنه يجرك إلى التلذذ بالجمال، والجمال أغراك، والقلب تمنى، والشيطان يدعو وينادي، والغريزة موجودة، وإمكانية وقوع الحرام ممكنة، فهلك الإنسان وأهلك.
ولا تقل: مرة وأتوب.
يقول بعض السلف: من يُسوِّف في فعل المعصية وترك الطاعة؛ مثل إنسان خرج من بيته إلى المسجد، فوجد شجرة مغروسة في الطريق -في طريق الناس شوك- فأراد أن يقتلع هذه الشجرة، حاول بيده فلم يستطع؛ فتركها، وقال: أعود إليها بعد سنة، ونسي أنه بعد سنة هذه الشجرة زادت قوة ورسوخاً، وضربت جذورها في التربة، وبسقت أغصانها وفروعها، فأصبحت أصعب على الاقتلاع منها أول ما حاول أول مرة، وكذلك هو ضعفت قواه وانهدت، سنة مضت من عمره فأصبح أضعف من يوم أن حاول اقتلاعها أول مرة.
فإذا عجزت الآن عن مقاومة نفسك عن النظر أو ما هو أشد من النظر؛ فلا تطمع أنك تستطيع بعد مضي زمن طويل؛ لأن قوتك ضعفت، وقد تعود جسمك وألف على هذا الشيء.
والمؤسف أنه حتى اللذة الدنيوية تفقدها، فتفطّن لهذا! هل تحسب أن الذين يرتكبون الحرام يتلذذون به؟ لا والله، لكن أصبح إدماناً؛ كما يقول الشاعر الجاهل عن الخمر: وكأسٍ شربت على لذةٍ وأخرى تداويت منها بها فالكأس الأولى شربها فعلاً للذة، لكن الكأس الثانية شربها فقط من أجل الإدمان، وليتداوى بها من الكأس الأولى.
فالله يعلم أن الأبرار الأعفاء البعيدين عن الحرام؛ يجدون من اللذة في الحلال ما لا يجده أفجر الناس في الحرام؛ لأنه افتتن وأصبح لا يشبع، مثل الماء الذي ورد إلى صحراء، لا يشبع أبداً؛ لو جيء له بنساء الدنيا كلهن؛ ما شبع، ولا وجد اللذة التي يريد، لكنه يريد ذلك الحرام والعياذ بالله؛ فإنه قد انفتق قلبه وافتتن؛ فلا يهنأ بعيش، ولكنه مدمنٌ على هذه الأمور لا يعرض عنها، وخسر دينه، وخسر أخلاقه، وخسر حتى صحته.
وأنتم تدركون الآن أن أعظم مرض يهدد العالم هو مرض (الإيدز) ، وأن ضحاياه بالملايين أو مئات الملايين، والذين توجد فيهم الجرثومة -وقد انكشفوا- أيضاً أضعاف أضعاف هذا العدد، فأمريكا -مثلاً- فيها أعداد غفيرة جداً، وأعظم مكان يوجد فيه هذا المرض هو في بانكوك وما حولها في جنوب شرق آسيا؛ حيث السياحة، والسياحة العربية على وجه الخصوص، والسياحة الخليجية بصفة أخص، وحيث تجد شباباً -أحياناً- من هذه البلاد وغيرها في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة يذهبون إلى هناك، يقعون ضحايا الشذوذ الجنسي والمخدرات وعصابات الإجرام وغير ذلك، ويرجعون أو لا يرجعون أحياناً، لكن إن رجعوا؛ رجعوا بلا دين، بلا أخلاق، بلا صحة، بلا مال، بلا شرف، بلا رجولة، بلا شيء، فأعلى نسبة في الإيدز هي هناك، ولكن السلطات هناك تتستر على هذه النسبة؛ لأنها لا تريد أن يقل عدد السواح، فلا تعطي الأرقام الحقيقية، لكن منظمات الصحة والمعاهد المختصة تؤكد أن أعلى نسبة للإيدز هناك، وفي مستشفياتنا هنا أعداد، والعجب كيف نتستر على هذه الأرقام؟! كيف نتستر عليها؟! يجب أن يعلم الناس أن هذا المرض لا يبالي بأحد، ولا يسأل المرض ما هي جنسيتك؟! ولا ما هي ديانتك؟! ولا من أي بلد أنت؟! ولا يبالي المرض إذا كانت ظروفك لا تسمح كخشية الفضيحة والأسرة والعائلة والأقارب والجيران، فهو لا يبالي بهذا كله، وكل هذا يهدد المخالفين لأمر الله عز وجل.
فاستجمع قواك، وتذكر أن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لك، وأن القضية إنما هي على الضربة الأولى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الصبر عند الصدمة الأولى} إن الذي استسلم للشيطان وانقاد، فإنه يجد صعوبة، ومع ذلك نحن لا نغلق الأبواب، فمن الممكن أن الإنسان حينما جرب وذاق ألم العذاب بالمعصية؛ فإن هذا قد يكون من أسباب توبته إلى الله عز وجل وإقلاعه عما هو فيه، لأنه ربما أغراه قرناء السوء، وربما جره الشيطان، ولكنه لما ذاق عرف وجرب فتاب إلى الله عز وجل، وباب التوبة مفتوح.
وفي حديث صفوان بن عسال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن للتوبة قبل المغرب باباً مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} فمن تاب تاب الله عليه، {والله تعالى يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} ويقول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] .(69/12)
الأسئلة
.(69/13)
النظر إلى النساء في العمل
السؤال
عندما نشارك النساء في العمل فسوف نضطر لرؤيتهن وهن كاشفات، فما هي نصيحتكم لنا؟
الجواب
نصيحتي أن لا تنظر نظر تلذذ وتشهٍ، وأن تكون نظرتك إذا احتجت إليها نظرة عادية، فإن الإنسان مع كثرة الإمساس والاحتكاك قد تقل عنده دوافع النظر المتعمد المغرض، فعليك أن يكون نظرك الذي تحتاج إليه بطبيعة عملك نظراً عادياً بعيداً عن النظر الحرام، لأن القضية في القلب، والذي يحاسبك هو الله، وهو الذي يعرف دوافع النظرة.(69/14)
رأي الشيخ في دخول المعاهد الصحية
السؤال
بعد كل هذه التصورات: هل أنت مؤيدٌ لدخول المعهد الصحي أم لا؟ نرجو ذكر الأسباب في الحالتين.
الجواب
أولاً: هذا سؤالٌ شجاع وطيب، ويجب أن يطرح لأن التستر على أمورنا لا أعتقد أنه يحلها، وخلاصة رأيي بالنسبة للدخول في المعهد أني لا آمر به مطلقاً ولا أنهى عنه مطلقاً، بل أقول: هذا يختلف من شخص لآخر، فهناك شاب -مثلاً- أنا أثق بقدرته على المقاومة والصبر، وقوة إيمانه وصبره -وإن كان المعصوم من عصمه الله- ودوافعه للذهاب إلى هذا العمل دوافع نبيلة، كخدمة للأمة، ومن باب إصلاح أوضاع المستشفيات، ومن باب القيام بخطوة عملية في التصحيح الذي نطالب به على كافة المجالات.
فنحن نطالب بإصلاح أوضاع المستشفى، فإذا لم يوجد الممرض المؤمن لن تصلح الأوضاع بطبيعة الحال، وإذا لم يوجد الطبيب المؤمن لن تصلح الأوضاع، وإذا لم يوجد الإداري المؤمن لن تصلح الأوضاع، وإذا لم يوجد المدير العام المؤمن لن تصلح الأوضاع، ومجرد الكلام والنقد والإنكار لا يصحح الأوضاع، فهي خطوة عملية لتصحيح الوضع، فمن كانت دوافعه من هذا القبيل، وأيضاً غرضه المحافظة على أعراض المؤمنات والمسلمات وصيانتهن، فهذه دوافع نبيلة، وأعتقد أن ذهابه حينئذٍ مما يشجع عليه.
وقد يكون هناك شاب آخر دوافعه ليست كذلك، كل ما يغريه هو العيش في مثل تلك الأجواء المختلطة؛ أو حتى قد يكون شاباً لا يريد هذا ولا ذاك، لكنه يعرف أنه إن ذهب إلى هناك أنه ضعيف المقاومة، قليل الصبر، وأنه يقول: لعلي أستقيم وأصلح وأنا بعيد فكيف إذا اقتربت! فهذا نقول له صريحة: أنج بنفسك، وباب الرزق واسع.
إذاً: نفصل بين شخص وآخر.(69/15)
أخبار المجاهدين في أفغانستان والبوسنة والهرسك
السؤال
أرجو من سماحتك أن تخبرنا عن أحوال الجهاد في أفغانستان والبوسنة والهرسك، وما هي آخر الأخبار عنهم؟
الجواب
أفغانستان -والحمد لله- تعرفون أنهم حققوا نصراً بفضل الله، وتهاوت معاقل الشيوعية في أفغانستان بعد رمضان، وشكل المجاهدون حكومة ليست هي الحكومة المرضية، لكنها حكومة مؤقتة لشهرين، ذهب أكثرها وبقي القليل منها؛ ونحن في انتظار تسلم الأستاذ برهان الدين رباني رئيس الجمعية الإسلامية للحكومة باعتباره الرئيس المنتخب للدولة، وتسلم الحزب الإسلامي برئاسة حكمتيار لرئاسة الوزراء وهو المرشح لها، وتسلم الوزراء المرشحين لمناصبهم، وأعتقد أن أفغانستان في هذا الوضع دولة إسلامية، ووجودها مزعج جداً للغرب، وهذا يؤكد لنا أن الغرب مهما أجلبت قوته فهو أعجز من أن يفرض إرادته على الشعوب الجادة، فهو يحارب وبشراسة كل وجود إسلامي على المستوى الحكومي، ومع ذلك فشل في أفغانستان، وفشل في السودان على رغم أنه يعلنها صريحة أنه يحاول إسقاط تلك الحكومات، ولكنه فشل حتى أن هذه الأحداث كأنها تقول لنا: إن الغرب مهما كانوا يملكون من الأسلحة النووية والقوة الاقتصادية والسياسية وغيرها؛ إلا أن الله تعالى يوهن كيدهم ويحبط مكرهم ويجعل الدائرة عليهم.
أما بالنسبة للبوسنة والهرسك فلازالت الأخبار متتابعة في ضربات موجعة للمسلمين، مجازر لا يستطيع الإنسان أن يتكلم عنها، ويشعر بانكسار في القلب، وماذا تأخذ وماذا تترك.
أنا يومياً تأتيني عشرات الأوراق يومياً عن آخر التطورات في البوسنة والهرسك، آخر التطورات هي أخبار الأمس وأخبار اليوم وهي أخبار الغد وأخبار بعد الغد: قَتْل أعداد غفيرة من المسلمين، سفك دمائهم، ذبحهم كما تذبح الشياة، تدمير منازلهم، حرق بيوتهم، تدمير للمساجد، احتلال، ضرب بالمدافع… إلى غير ذلك، البارحة ضربت سراييفو بالمدافع ولعلكم سمعتم عما يسمى بالحصار الذي تريد أن تفرضه الأمم المتحدة على الصرب، ولأن الأمم المتحدة كافرة وهي في الواقع ألعوبة في يد الولايات المتحدة الأمريكية العدو الأكبر للمسلمين، فالأمم المتحدة أعطت الصرب فرصة فيها الكفاية، قالت لهم: عجلوا بسرعة واضربوا واحتلوا البلاد، جلسوا يوماً، أسبوعاً، شهراً، يظنون أن المسلمين من السهل اجتياحهم، والأمور تحدث والعالم يصيح، فما استطاع الصرب أن يفعلوا هذا، ووجدوا مقاومة لأن المسلمين -الحمد لله- في هذه البلاد وفي غيرها دعموا إخوانهم بالمال وبالسلاح وبغير ذلك.
وأنا أقول لكم إن مبالغ طيبة جداً قدمتها الشعوب الإسلامية لهم، وأعلم أن هناك مبالغ كبيرة إليهم ذهبت لم تتبرع بها الحكومات، فوجدوا دعماً من إخوانهم المسلمين، فقووا جانبهم وقاوموا وصبروا، ومع ذلك يقولون: نحن أقوياء، فقط أعطونا السلاح، فأبطأت عملية الاحتلال لبلادهم.
فوجدت الأمم المتحدة وأمريكا نفسها أمام فضيحة؛ أنه إذا ظللتم متفرجين فإن العالم بدأ ينكشف الأمر له يوماً بعد يوم، وهناك دول متعاطفة مع البوسنة والهرسك لأسباب مختلفة مثل ألمانيا وغيرها، فارتفعت اللهجة وصار هناك نقد شديد على هذا الخبيث النصراني بطرس غالي، وعلى أمريكا وعلى الغرب الذي وقف موقف المتفرج، فخشي الغرب أن تنكشف اللعبة وأنها حرب صليبية ضد الإسلام، وصار الناس يقولون: لماذا الغرب يتدخل هنا وهناك ولا يتدخل في البوسنة والهرسك؟! فالغرب أتقن اللعبة، لعبة سماها الحصار، حصار اقتصادي، حصار بترولي، عدم إشراك صربيا في مباريات الكرة كأن صربيا إذا لم تشارك سوف تنهزم وتضطر للانسحاب من سراييفو، لماذا؟ لأنهم منعوا فريقهم من المشاركة في الدوري الذي يقام في أسبانيا، مع أنهم يعرفون أن بلاد الصرب فيها اكتفاء ذاتي في أكثر الأشياء! وقد سمعت أحد التقارير، يقول: إن هذا الحصار الاقتصادي لن يظهر له أثر يذكر إلا بعد شهور، وهذا الأثر قد يكون بسيطاً، وقد لا يكون الحصار محكماً، ومن الممكن أن يستطيع الغرب أن يسرب إلى تلك البلاد ما يريد، خاصةً وأن هناك تعاطفاً من قبل الجمهوريات السوفييتية مع صربيا.
ولذلك فإن ذلك الحصار غير مرشح للنجاح أبداً، وهو فرصة جديدة للصرب، يقول لهم: أسرعوا بالضرب واحتلوا تلك البلاد حتى تنتهي الأزمة.
فالغرب الكافر يد واحدة ضد الإسلام والمسلمين، ولذلك إخوانك لا يستغنون عن القرش والريال الذي تدفعه أنت، فكن وسيطاً لدعوة الناس بالتبرع لهؤلاء المسلمين ولو بشيءٍ يسير فاليسير مع اليسير كثير، وقبل أيام أخبرني أحد المشايخ بقصة طريفة، يقول لي: طرق عليَّ الباب في البيت إنسان، فخرجت، فوجدت طفلاً صغيراً عمره يقارب إحدى عشرة سنة، وكان معه اثنان وستون ريالاً في جيبه، فقال لي: هل تعرف أحداً يجمع أموالاً للمسلمين في يوغسلافيا؟ يقول: فتبسمت، وقلت: نعم، أنا أجمع لها، يقول: فأخذ الريالين وضعهما في جيبه وأعطاني الستين، وقال: هذه أوصلها للمسلمين في يوغسلافيا.
فقضية يهتم بها أطفال المسلمين هي -إن شاء الله- قضية إلى نجاح بإذن الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(69/16)
المحافظة على التوبة
السؤال
أنا شاب حاولت كثيراً أن أتوب ولكني لا أستمر في هذا الطريق، أرجو منكم إرشادي.
الجواب
لا مانع من تكرار التوبة، فمن الممكن أن تتوب ولو عصيت غداً، ولو عصيت بعد غد تتوب، ولو عصيت مائة مرة تتوب، وكثير من الشباب يكون عنده معصية كالعادة السرية -مثلاً- فيكون يفعلها اليوم ثم يشعر بالندم فيتوب، وبعد فترة تتجدد عنده دوافع الغريزة فيفعلها مرة أخرى فيتوب، وهكذا.
وهاهنا أنبه إلى عدة أمور: الأمر الأول: لو تكرر منكم الذنب كرر التوبة، ولا مانع ولو مائة مرة فلا تقل لا داعي أن أتوب لأني أعرف أني سأنقض، لا، ليس شرطاً، فقد تموت قبل أن تفعل مرة أخرى، فلتمت على توبة، ولا تعتقد أنك إذا فعلت الذنب مرة ثانية أن الذنوب السابقة التي تبت منها تعاد عليك، لا، الله إذا أعطاك شيئاً لا يرجع فيه سبحانه، فهو لا يعود فيه، فالله كريم إذا أعطاك شيئاً لا يعود فيه، فالذنوب التي تبت منها سابقاً لا تكتب عليك، لكن يكتب عليك الذنب الأخير تب منه وامسحه عنك أيضاً بإذن الله تعالى، هذا أولاً.
الأمر الثاني: إياك أن تنذر نذراً على نفسك لتجبر نفسك على ترك الذنب، فبعض الناس -مثلاً- من أجل أن يجبر نفسه على ترك المعصية؛ يستعمل أسلوب النذر، فيقول: عليَّ نذر إن فعلت هذا الذنب أن أصوم ستة أشهر -مثلاً- وفي النهاية عندما تغلبه الشهوة يغيب عنه كل شيء ويفع مرة أخرى، فيكون قد أوقع نفسه في حرج آخر، وجر نفسه إلى معصية أخرى، وهي أنه ألزم نفسه بالنذر ولم يفعل.
لا تفعل هذا أو تقول: أعاهد الله فهذا خطأ، قل: أستغفر الله، وأتوب إلى الله، وأرجو الله ألا أعود وأستغفر الله عز وجل.
وأسأل الله أن يعينك على نفسك.
الأمر الثالث: إياك إياك! أن يكون وقوعك في هذا الذنب سبباً في تركك للطاعات، فبعض الشباب -مثلاً- يكون مع أناس صالحين يقرأ القرآن فيتصور نفسه وهو بينهم، ثم يتخيل نفسه وهو يفعل هذه العادة، فيشعر باستقذار لنفسه وتوبيخ وأنه ليس جديراً بالبقاء مع هؤلاء الطيبين الصالحين، وبالتالي يقول له الشيطان: لا تجلس معهم لأنك منافق، فيخرج من بينهم، وإذا خرج من بينهم تفرد به الشيطان، ففعل به الأفاعيل وعبث به كما يحلو له.
لا.
بل عليك أن تجلس معهم، وأنت -إن شاء الله- طيب وطاهر ولو وقع منك هذا الذنب، فتب منه غداً أو بعد غد أو يسامحك الله أو يعاقبك الله عليه ثم يكون مصيرك إلى الجنة -إن شاء الله- لأنك من أهل التوحيد والإيمان والصلاة، لكن لا تترك الأخيار؛ لأنك إن تركتهم زدت الطين بلة -كما يقال- وأضفت إلى العلة علة، فكن معهم، وربما تُرْحَم بسبب صحبتك لهم، وما من إنسان إلا وعليه ذنوب ومعاصٍ.
الأمر الرابع: فكر بالأسباب التي تدعوك إلى تكرار المعصية: كمشاهدة حرام، الذهاب إلى الأسواق -مثلاً- صحبة الأشرار، سماع الغناء، السفر، أي شيء تجده هو السبب في وقوع المعصية؛ اخرج منه، ولذلك تعرفون قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم جاء إلى راهب فسأله هل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله وأكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على عالم، فقال: هل لي من توبة؟ قال: نعم، ولكن لا تعد إلى أرضك فإنها أرض سوء انتبه إلى السبب، لماذا هذا الرجل كرر المعصية وكل يوم يقتل؟ لأنه في بلد يغري بالقتل.
وعلى سبيل المثال: هذا الرجل مشغول بالجريمة فكل أصدقائه وأقاربه دائماً وأبداً يثنون عليه بالفروسية لأنه بطل، فهو يسمع عبارات الإعجاب من المجتمع الذي حوله، فيغريه بالفساد، فلو أراد أن يترك ويتأخر لدفعوه هم بالقوة إلى الأمام، تماماً كما تجد كثيراً من الشباب، مثلاً: شاب مغنٍ يحب أن يترك الغناء، لكن التصفيق وعبارات الإعجاب هذه تمنعه من الترك، ويستحي من الأصدقاء والمعجبين والذين يراسلونه ويتصلون به.
حتى إني أعرف واحداً يعيش أزمات نفسية ويتمنى أن يترك هذا الأمر، ولكنه يدفع دفعاً بواسطة المعجبين.
وأيضاً تعرفون قصة محمد عبده وكيف كان يتوب ويعلن توبته ويتكلم في الصحف، وقد قرأت له مقابلة في جريدة المدينة عجيبة للغاية؛ حتى تكلم عن كلام العلماء في الموسيقى في تحريمها ومنعها، وكانت مقابلة في غاية الصراحة، وقابلت الرجل في مكة وكان تظهر على وجهه آثار الخير.
إذاً: انظر السبب الذي يجرك جراً ويدعوك إلى الوقوع في الذنب فاعمل على تجنب هذا السبب، وعليك بكثرة الاستغفار، فالمؤمن واهٍ راقع، يشق ويرقع، فأكثر من الاستغفار.(69/17)
حكم أشرطة الفيديو التعليمية المحتوية على محظورات
السؤال
ما رأي فضيلتكم في استخدام أشرطة الفيديو التعليمية التي يظهر فيها أمثلة وتطبيقات على جميع الأعمار والأجناس وفيها أشياء محرمة؟
الجواب
قلت لكم قبل قليل إن الحضارة بيد العدو الكافر، ولهذا أدخل قناعاته، وأدخل أفكاره في كل شيء، فهذه الوسائل التعليمية كان من الممكن أن يعدها المسلم لتكون وسائل نافعة ناضجة وبعيدة عن ما حرم الله، تجد السلاح -مثلاً- كان من الممكن أن يخترعه المسلم فيكون سلاحاً لإعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وحماية المستضعفين، لكن تولاه الكافر فجعله وسيلة للهدم والتدمير والقضاء على كل معالم الإنسانية والأخلاق والأديان، فهذه الوسائل -وسائل الإيضاح والوسائل التعليمية- تدخل في حكم غيرها، فمشاهدة صورة المرأة المتبرجة حرام، سواء كان على الطبيعة أم بالتلفاز، وسماع الغناء والموسيقى حرام سواء كانا من شريط الفيديو أم من غيره، وفي هذا الإطار عليك أن تحكم على أية وسيلة إن سلمت من مثل هذه الأمور؛ فلا مانع من استخدامها.(69/18)
إجراء الرجال لعمليات النساء
السؤال
ما حكم من يعمل عملية من الرجال على نساء في مجال الطب أو العكس؟
الجواب
أنتم بطبيعة الحال طلاب في مجال التدريب، وهذا غير إجراء العملية، فبالنسبة للعمليات التي تجرى على نساء الأصل أن تتولاها نساء، وهنا نرجع لنقول: إن الحضارة في يد العدو الكافر.
ولذلك أبرز هذه الجوانب: قضية الاختلاط بين الجنسين حيث ركزها ودعمها، لأنه لا يفرق بين الرجل والمرأة، لكن في الإسلام فرق، فالأصل في المجتمعات الإسلامية أن يتولى تطبيب النساء نساء؛ ويتولى تطبيب الرجال رجال، لكن الآن تجد حتى في مستشفياتنا -مع الأسف- تجد أن الرجل قد يعالج النساء، وتجد أن المرأة تعالج الرجال، فهذا انتكاس في المفاهيم وتقليد أعمى للغرب.
وإلا فالأصل أن أي عملية على امرأة الأصل أن تتولاها وتقوم بها نساء، حتى ولو كن من غير المسلمات -إذا لزم الأمر- ولا يجوز أن يتولى رجل عملية على امرأة إلا بقدر الضرورة إذا لم توجد امرأة تتولى هذا الأمر ولابد من إجرائها، فهنا يلجأ لجوءاً إلى الطبيب وفي أضيق نطاق، لكن هنا وفي الحالة هذه لا يجوز أن يكون أمام المرأة مجموعة من الطلبة يتدربون أو يتفرجون لينظروا كيف يتم إجراء العملية كنموذج تطبيقي أو عملي لأنه لا حاجة لهذا، فمن الممكن أن يتم هذا على رجال.(69/19)
التوازن في حياة المسلم
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن التوازن فبدأ بمقدمة عنه مؤكداً على اختلاف كفاءات الناس، وأن التوازن هو استغلال كفاءات كل الناس في المجتمع، وعرج الشيخ على مسألة ضرورة إدارك خصائص الأفراد في أي مسألة ومنها طلب العلم، وما هي طرق معرفة المواهب والكفاءات، ثم أجاب على بعض الأسئلة حول الموضوع.(70/1)
مقدمة عن التوازن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة: في مثل هذا الجو المناسب يطيب الحديث حيث يجتمع الإنسان بإخوانٍ له في الله يتحدث إليهم عن قضية مهمة من قضايا بناء الشخصية الإسلامية.
أيها الإخوة: إن الموضوع كما سمعتم يتعلق بالحديث عن التوازن في حياة المسلم؛ والمقصود بالتوازن هو: أن تتكون شخصية الإنسان المسلم تكوناً معتدلاً سليماً، بحيث لا يطغى فيها جانب على حساب جانب آخر، ولا يغفل فيها جانب بسبب الاهتمام الزائد بجوانب أخرى غيره، هذا هو التوازن في حياة وشخصية الفرد.
ومثله التوازن في بناء المجتمع؛ بحيث يتكون المجتمع المسلم من مجموعة من الأفراد المتوازنين الذين يلبون جميع الاحتياجات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم.
وأنت إذا تأملت واقع الناس وشخصياتهم في القديم والحديث، وجدت أن هناك حقيقة يكاد أن يتفق عليها الناس كلهم، وهي حقيقة تكلم عنها العلماء المسلمون في القديم وفي الحديث، وتكلم عنها علماء النفس، والتربية، والطب وغيرهم.(70/2)
اختلاف كفاءات الناس
وخلاصة هذه الحقيقة هي: أن الأفراد يختلفون فيما بينهم، ويتفاوتون تفاوتاً يقل أو يكثر لكنه لا يغيب؛ بمعنى أنك لا تجد اثنين من الناس متماثلين في كل شيء، قد تجد فردين متشابهين، أو متقاربين سواء في نواحيهم الأخلاقية، أو العقلية، أو الجسمية، أو غيرها.
لكن أن تجد شخصين متماثلين متفقين فهذا نادر أو غير موجود، وهذا الأمر هو لحكمة أرادها الله تبارك وتعالى، فإن المجتمع -أي مجتمع سواء المجتمع المسلم، أو المجتمعات الكافرة- لكي يقوم هو بحاجة إلى مجموعة من الكفاءات المتفاوته، كما أن أي مجتمع بحاجة إلى القادة والزعماء، هو أيضاً بحاجة إلى الأطباء، وبحاجة إلى العلماء، وبحاجة إلى المهندسين، وبحاجة إلى الخبراء في كافة مجالات الحياة، بل وبحاجة إلى الخدم وإلى غيرهم من أصحاب الحرف والمهن العادية، بل والوضيعة في نظر الناس، والتي لا بد للناس منها.
فكل حرفة يحتاجها الناس تجد من يرغب فيها ويميل إليها، وبمجموع هذه الأشياء يتكون المجتمع، ولا يمكن أن نقول: إن مجتمعاً ما مكون من مجموعة من الشعراء أو الأدباء؛ فإن الشعراء والأدباء يحسنون صناعة الكلام وتنميقه وضبط الأوزان والقوافي، ويحسنون الحديث عن المشاهد الجميلة والمشاعر الرقيقة, لكنهم لا يحسنون الصناعات مثلاً، ولا يتقنون الفنون العسكرية ولا غيرها، وهكذا سائر التخصصات، أو الميول الأخرى في الحياة.
وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا، ونحن نتحدث عن التوازن في حياة الفرد المسلم وفي حياة المجتمع المسلم، وإذا كانت هذه الحقيقة بدهية ومُسَلَّمة، فإننا نطل إطلالة سريعة على ذلك المجتمع الإسلامي الفريد الذي تربى على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، مجتمع الصحابة رضي الله عنهم؛ المجتمع الذي أراد الله عز وجل أن يكون منارة سامقة مرتفعة على التاريخ يتطلع إليها الناس في كل زمان وفي كل مكان.(70/3)
التوازن في مجتمع الصحابة
وهذه التجربة، أو هذا الأنموذج المتمثل في مجتمع الصحابة لا نطمع أن يتحقق مرة أخرى بنفس المستوى الراقي من الإيمان والعلم والعمل، فهو مجتمع لا يتكرر، لكن يُطمع أن يكون هذا المجتمع قدوة مثلى لكل مجتمع ولكل فرد مسلم يدعو إلى الله عزوجل على مدار التاريخ، وهذه حقيقة مهمة جداً في حياتنا يمكن أن نكتشف بها الخطأ من الصواب في كل وضع يعيشه المسلمون لأنه كما قيل: الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فأنت بالمقايسة تستطيع أن تعرف الخطأ من الصواب، بل وتستطيع أن تعرف مقدار الخطأ، وأضرب لهذه القضية المهمة مثلاً أرى أنه من الأهمية بمكان: قد يظن بعض المسلمين في يوم من الأيام أنهم حققوا لأنفسهم مستوىً من الإيمان عظيماً وكبيراً من خلال حياتهم الاجتماعية؛ فمثلاً يقول بعض المسلمين عن مجتمعات، أو تجمعات تقام في أماكن مختلفة من العالم، يقولون: إن هذه التجمعات التي يلتقي فيها أحياناً ملايين البشر، ومع ذلك لا يقع بينهم شيء من الخصومة، ولا شيء من المشاجرة، ولا شيء من الاختلاف، ولا تسمع اثنين يتلاحيان في أية قضية من القضايا؛ لا في قضية علمية، ولا عملية، ولا حول أمر من الأمور، فهل هذه الصورة التي يتحدث عنها البعض هل هي صورة مثالية وصحيحة أم لا؟ الذي أعتقده أن هذه الصورة وإن كانت بادي الرأي صورةً محببةً إلى النفس إلا أن عليها مآخذ عديدة، لماذا؟ لأنك حين تقرأ في سيرة الجيل الأول؛ الذي اتفق على أنه هو المثل الأعلى لكل مجتمع وتجمع ينشأ بعد ذلك، تجد أنه حصل بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شجار وخصومة في أشياء كثيرة، وتجد أنه حصل بينهم تنافس في أشياء عديدة سواء في أمور الدين والعبادة، أو حتى في بعض الأمور الدنيوية، وتجد أنهم قد يزدحمون في أمور معينة، وقد يتشاحون فيها، وقد ترتفع أصواتهم، بل وقد ترتفع الأصوات في المسجد أحياناً، وهذا كله ثابت في أحاديث صحاح، بل إن هذا الوضع وضع متواتر، ولو قرأت في أي كتاب من كتب السنة كـ البخاري أو مسلم مثلاً، أو غيرهما، أو في سير الصحابة لوجدت أن هذا الوضع يتكرر باستمرار.
فالصحابة يختلفون في قضية من القضايا، ويغضب بعضهم على بعض، ويعاتب بعضهم بعضاً، وترتفع أصواتهم، وهذا كله وضع طبعيٌ جبليٌ ليس بالغريب.
فأنت حين تجد وضعاً آخر في يوم من الأيام ليست فيه هذه الظاهرة، بل هو وضع لا يختلف فيه اثنان: لا يتلاحيان، لا يختصمان، لا يتشاجران، لا يغضب فيه واحد على الآخر إطلاقاً، تجد أن هذا الوضع في حاجة إلى مراجعة، لأننا قد نأخذ من الإسلام، أو نستبعد من الإسلام قضايا أساسية؛ لأنها مصدر خصومة بين الناس، أو بين المنتسبين إلى الإسلام، فإذا استبعدنا هذه القضايا أفلحنا فعلاً في جمع كلمة الناس، لكن ليس على الصورة الكاملة للإسلام، وإنما على صورة ناقصة قد تعجب الإنسان من حيث جودتها، لكن البصير يدرك أنها صورة ناقصة.
المقصود من هذا المثال هو: تقرير القاعدة السابقة، وهي: أن المجتمع الأول؛ مجتمع الصحابة رضي الله عنهم هو الصورة المثلى والقدوة العليا التي يجب أن نقيس عليها كل وضع، وتجمع، ومجتمع، فنعرف مدى استقامته أو انحرافه، ونعرف مقدار هذا الانحراف بهذا القياس، وهذه القضية المهمة نطبقها في الموضوع الذي نتحدث عنه الآن، وهو موضوع التوازن في حياة الفرد وفي حياة المجتمع.(70/4)
القدر المشترك في مجتمع الصحابة
إنك حين تنظر في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم؛ تجد أولاً: أن الصحابة قد التزموا جميعاً بقدر معين موجود لدى كل فرد منهم سواء في العلم أو في العمل، فما من الصحابة أحد إلا وهو حريص على تعلم العلوم الشرعية التي يحتاج إليها في خاصة نفسه، أو من تحت يده؛ من أهله، وأولاده، ومواليه، وخدمه، وغير ذلك.
وما من الصحابة أحد إلا وتجده حريصاً على تعلم ما يحتاج إليه من العلوم التي تحقق شيئاً من الأشياء التي يمارسها في حياته؛ فإن كان تاجراً وجدته خبيراً بأحكام البيع والشراء وأحكام الزكاة ونحوها، وإن كان مزارعاً وجدته خبيراً بأحكام الزراعة والمزارعة وسواها، وإن كان مشتغلاً بالجهاد وجدته خبيراً بأحكام الجهاد والقتال والاسترقاق وغير ذلك وهكذا.
ثم تجد كل فرد منهم محققاً قدراً من العمل سواء بالعبادة أو بالدعوة أو بغير ذلك.
فلا تجد أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يغمص أو ينتقص بشيء من الإخلال بالواجبات الشرعية، أو التقصير فيها إلا ما لا بد من وقوعه من البشر من حوادث فردية معينة.
فإذا انتقلت إلى جانب العقيدة وجدت أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم -بلا استثناء- قد التزموا بعقيدة واحدة صحيحة ناصعة نقية لم يأخذوها بالوراثة؛ لأنهم إنما ورثوا عن المجتمع الجاهلي ما رباهم الإسلام على التخلي عنه والحذر منه، حتى إنهم كانوا يستوحشون من كل شيء وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم حتى يأتي القرآن، أو يأتي الحديث ليبين لهم أنه لا جناح عليهم ولا حرج عليهم في ذلك، كما تحرجوا مثلاً: من الطواف بين الصفا والمروة؛ لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية حتى نزل القرآن بذلك.
ولا تجد أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقي على معتقد موروث من مورثات الجاهلية، بل تحرروا منها بالكلية، وخلعوها على عتبة الإسلام، وتلقوا العقيدة الصحيحة نقيةً صافيةً من فم محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يحصل أن وقع أحد منهم ببدعة اعتقادية على الإطلاق، ولا ببدعة عملية أيضاً.(70/5)
التفاوت بين الأفراد في مجتمع الصحابة
إذاً: فهناك قدر مشترك من العلم والعمل موجود لدى كل فرد من أفراد ذلك المجتمع الأول، فإذا انتقلت إلى المجتمع بكليته وجدت أنه فيما عدا هذا القدر المشترك، فإنه يوجد لكل واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ميزة وخصيصة برز فيها هو وطائفة معه وقد لا توجد في فرد أو أفراد آخرين.(70/6)
أمثلة من تخصصات الصحابة
وعلى سبيل التمثيل وليس الحصر، انظر مثلاً: إلى ما تحلى به معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان فقهياً من فقهاء الصحابة ورد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: {إنه يتقدم العلماء برتوة} والرتوة هي: مسافة مقدار رمية سهم.
والحديث ورد عند ابن سعد عن محمد بن كعب، والحسن البصري مرسلاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عند ابن سعد وابن عساكر موقوفاً على عمر بن الخطاب من قوله، وورد عند الحاكم موقوفاً على أنس بن مالك؛ وهو صحيح بمجموع طرقه.
ومثل معاذ رضي الله عنه عبد الله بن مسعود، فقد قال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[إن ابن مسعود كنيفٌ ملئ علماً]] والكنيف: تصغير كَنف، والكنف: هو الجانب، أو الناحية، أو تصغير كِنف بكسر الكاف، وهي: المزادة التي يضع فيها الراعي متاعه.
والمقصود أن عمر عبر عن ابن مسعود بأنه: [[كنيف ملء علماً]] وهذه الرواية رواها الإمام أحمد في فضائل الصحابة، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم وغيرهم.
فهذا معاذ، وهذا ابن مسعود ومعهم غيرهم من الصحابة تميزوا بالعناية بالعلم والاهتمام بالتفقه في الدين.
لكنك حين تنتقل مثلاً: إلى خالد بن الوليد، تجد خالداً رضي الله عنه لم يشتهر في حمل العلم والفقه بمثل ما اشتهر به معاذ، أو ابن مسعود، أو غيرهما من فقهاء الصحابة.
وإنما اشتهر خالد رضي الله عنه بإتقان فنون الحرب والفروسية والكر والفر، حتى أصبح هذا هو ديدنه، وأصبح يجد لذته وسعادته وقرة عينه في معاناة هذا اللون من الجهاد الذي يشق على كثير من النفوس، ولذلك كان رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[ما ليلة تهدى إلىَّ فيها عروسٌ أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام، بأحب إلىَّ من ليلة شديدة الجليد أصبح فيها العدو في سرية من المهاجرين]] الله أكبر! يجد من اللذة في هذا الجو البارد شديد البرودة، والمخيف، في سرية من المهاجرين يصبحون العدو، وقد أصابهم من الخوف والبرد ما أصابهم، يجد من اللذة في معاناة ومقاساة هذا العمل الصعب على النفوس بحكم الجبلة والطبيعة ما لا يجده في ليلة تهدى إليه فيها عروس، أو يبشر فيها بغلام.
وهذه الكلمة من أبي سليمان رضي الله عنه رواها عنه أيضاً الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة"، وأبو يعلى، وابن حبان، وابن عساكر وغيرهم، وإسنادها صحيح.
وحينما تنتقل إلى أنموذج ثالث، تجد مثلاً: أبا ذر الغفاري رضي الله عنه؛ وأبو ذر لم يعرف عنه مزيد عناية بالعلم أكثر من غيره، ولا مزيد اهتمام بشأن الجهاد أكثر من غيره من بقية الصحابة، إنما الناحية التي برز فيها وعرف بها هي قضية الزهد والورع، والحث على التقلل من الدنيا والتزود للآخرة، وله في هذه القضية مذهب خاص معروف، ولا حاجة إلى الإطالة بذكره.
وتجد من الصحابة غير هؤلاء من لهم اهتمامات أخرى غير ما سبق، وهذه المزايا التي تميز بها الصحابة رضي الله عنهم، أو مجموعات من الصحابة تميزوا بها، وتميزت كل طائفة منهم بما لا يتميز به غيرهم هي راجعة إلى خصائص موجودة في أصل التركيب، وأصل الفطرة عند هؤلاء القوم، فـ خالد رضي الله عنه جبل على الشجاعة.
وابن مسعود رضي الله عنه منح من قوة الذاكرة، وقوة الاستنباط، والتجلد في طلب العلم ما ليس لغيره وهكذا.
فإذاً من مجموع هذه الخصائص يتكون المجتمع المسلم، وهذا أمر لا بد من مراعاته.
وهذه الصورة المثالية الموجودة في مجتمع الصحابة، يجب أن نعمل على أن نتمثلها في واقعنا اليوم، ونحن نسعى إلى تكوين المجتمع المسلم الصحيح الذي يتأسى بمجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فندرك أنه لا بد أولاً: أن يلتزم كل فرد منا بقدر معين من الخصائص والصفات، يكون هذا القدر مشتركاً بين جميع الأفراد، فكل فرد لا بد أن يتعلم من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في حياته العملية، وكل فرد لا بد أن يعرف العقيدة الصحيحة، ليس عن طريق التقليد والوراثة، بل عن طريق التلقي ومعرفة الدليل، وكل فرد لا بد أن يلتزم بقدر من العمل، والعبادة، والقيام بما لا بد له منه في ذلك.(70/7)
وجوب إدراك خصائص الأفراد
ثم بعد ذلك يتفاوت الأفراد، فيوجد منهم من يشعر بميل مثلاً: إلى الالتزام بطلب العلم الشرعي؛ لأنه يحس أن هذا هو الأمر الذي خلق له، والذي يستطيع أن يبرز وينتج فيه أكثر من غيره؛ حيث يملك أداته، فيتجه إلى هذا العلم، ويحقق فيه فعلاً من النتائج الشيء الكثير، وتجد إنساناً آخر يحس أنه لم يخلق لهذا، وأنه يمكن أن يحقق لنفسه وللمسلمين في مجال تعلم الطب ما لا يحقق في غيره.
وثالثاً: يشعر أنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم الهندسة ما لا يحقق في غيره.
ورابعاً: يجد أنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم صناعة من الصناعات، أو حرفة من الحرف، أو مهنة من المهن التي لا تحصر ما لا يحقق في غير هذا المجال.
فعلى الإنسان أن ينظر في المجال الذي يحس أن نفسه إليه أميل، وطبعه به ألصق؛ فيعمل على التوجه إلى هذا المجال لينجح فيه ويخدم نفسه، ويخدم المسلمين من خلاله ما لم يكن هذا المجال مجالاً غير مشروع.
وهذه القضية وإن كان علماء التربية اليوم يتحدثون عنها إلا أننا لسنا بحاجة لأن ننقل كلامهم، كيف ونحن نجد من نصوص علمائنا السابقين ما يغنينا عن ذلك؟! فهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يقول: في كتابه أحكام المولود وهو يتحدث عن الأطفال وتعليمهم، يقول رحمه الله: ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيء له منها مما كان مأذوناً فيه شرعاً، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره؛ أي: أن المربي يجب أن يتأمل حال المربِّى، وما هو مهيء له بأصل الخلقة والجبلة والطبيعة، فيوجهه إلى ذلك، ولا يحمله على غيره.
يقول: فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيء له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً؛ فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق له ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، ورآه مستعداً لها، قابلاً لها، وهى صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، وهذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه.
فـ ابن القيم رحمه الله أشار إلى القدر الذي لا بد منه لكل إنسان؛ وهو تعليمه ما يحتاج إليه في دينه؛ ثم أشار بعد ذلك إلى أن الأولى بالإنسان أن ينظر سواء في نفسه، أو في من يربي، فيما هو مستعد له فطرة وخلقة، فيوجهه إلى ذلك، فإنه إن وجهه إلى غيره، لم يفلح فيما وجه إليه، وخسر الشيء الذي كان مستعداً إليه أصلاً، لأنه لم يشتغل به.
وهذا ملمح مهم جداً في قضية التوازن.(70/8)
التوازن في طلب العلم
وحين تنظر إلى جانب معين من جوانب التوازن، وهو مثلاً جانب العلم: لنفترض أنك بعد أن تأملت نفسك، وفكرت في الخصائص والمواهب التي منحكها الله عز وجل، وجدت أنك تميل إلى تعلم العلوم الشرعية وتحصيلها، وهذا الأمر لا شك أمر مهم جداً، ولا غنى للمسلمين عنه في حال من الأحوال، فحينئذٍ ستجد نفسك أمام عدد كبير من العلوم، أمام تعلم التفسير المتعلق بكتاب الله -وكتاب الله هو أشرف الكتب وأعظمها- والمسلم بحاجة إلى معرفته قبل معرفة غيره، وهذا يدعوك إلى العناية بالتفسير، فإذا التفت إلى جانب آخر وجدت أن السنة تفسر القرآن، وتبين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، فأنت إذاً بحاجة إلى معرفة السنة حتى تفهم القرآن فهماً صحيحاً.
فإذا نظرت إلى جانب آخر: وجدت أن علم العقائد، علم أصول، وأن أي علم قبل هذا العلم لا يكفي، وأن الإنسان إذا فسدت عقيدته لم ينفعه بعد ذلك ما حصل من العلوم.
وهكذا كل علم يدلي بحجته تجد أنك تحكم له، وتقول: هذا العلم أولى من غيره، ولذلك تجد أن بعض الطلبة يتنقل بين هذه العلوم بطريقة مترددة غير مطردة ولا مستقرة، فهو اليوم متجه إلى تعلم التفسير، ثم تلقاه بعد شهر أو شهرين قد ترك الكتب التي بدأها والبرنامج الذي ألزم نفسه فيه بتعلم التفسير، واتجه إلى حفظ السنة، فتلقاه بعد سنة وقد قطع هذا العمل على نفسه، وقال: لا بد أن أتعلم العقيدة فهي أساس كل شيء، فلا يكاد أن يبدأ بتعلم العقيدة حتى ينتقل منها إلى الفقه، وهو يقول: إن الفقه علم عملي والناس محتاجون إليه في كل حركة وفي كل سكنة، ولا بد من تعلم هذا العلم لسد حاجة الناس.
بل أعجب من ذلك أنك تجد بعض الشباب يتجه إلى طلب علم من العلوم، فيلقاه بعض من حوله فيسأله سؤالاً يتعلق بعلم آخر، فيجد نفسه حائراً أمام السؤال الذي وجه إليه لا يستطيع الإجابة عليه، فهذا السؤال وهذه الحيرة أملت عليه الاتجاه إلى العلم الذي يتعلق بهذا السؤال؛ فإذا كان السؤال فقهياً مثلاً، اتجه إلى الفقه لأنه شعر من خلال عجزه عن الإجابة عن هذا السؤال؛ بضرورة تعلم الأحكام التفصيلية بأدلتها.
فإذا بدأ وُجه إليه سؤال آخر وثالث وهكذا، فيكون الإنسان متردداً لا يكاد يستقر على حال، بسبب ضعف انتباه الإنسان لنفسه، وضعف ضبطه للطريقة الصحيحة التي يجب أن يتعلم بها، وبسبب عدم وجود المربي أو الموجه الذي ينتفع الإنسان بخبرته ومعرفته في هذا المجال.
ولذلك قال علماؤنا السابقون: إن الإنسان إذا وجد في نفسه ميلاً إلى علم من العلوم ينبغي له أن يركز على هذا العلم الذي شعر بأنه يميل إليه، ولو كان هذا العلم مفضولاً، فمثلاً: لو افترض أنك تجد في نفسك ميلاً إلى علم التاريخ، وأنك تبدع فيه أكثر من غيره، فإنك حينئذٍ ينبغي بعد أن تتعلم من علوم الشرع ما لا بد لك منه أن تركز على تعلم علم التاريخ، وأن تخدم الإسلام من خلال هذا العلم.
فتبين مثلاً: المرويات الباطلة التي دسها الرافضة وغيرهم من أعداء الإسلام في كتب التاريخ، وشوهوا بها سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل شوهوا بها التأريخ الإسلامي، وخاصة القرون المفضلة، وجعلوا من هذه المرويات المدسوسة مطية للمستشرقين وغيرهم من أعداء في الإسلام الذين طعنوا الإسلام، ورموه من خلال هذه الكتب التي جمعت الغث والسمين، ومن خلال هذه الروايات التي دسها الرافضة وغيرهم من الزنادقة.
فأنت مؤرخ تخدم الإسلام من خلال تمحيص التاريخ الإسلامي، وأنت تخدم الإسلام من خلال دراستك للتاريخ دراسة صحيحة، وبيانك للصور المشرقة التي رسمها المسلمون الأولون، حتى ينسج المسلمون على منوالها، فيعرفوا التصرف الصحيح فيمتثلوه، ويعرفوا التجربة التي تبين عدم صحتها فيجتنبوها.
ولذلك قال الشاعر: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره وما يمكن أن يقال في التاريخ يمكن أن يقال في أي علم آخر.
ولذلك قال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه الذي سماه الأخلاق والسير في مداواة النفوس: من مال بطبعه إلى علم ما ولو كان أدنى من غيره، فلا يشغلها بسواه، فيكون كغارس النارجيل في الأندلس، وكغارس الزيتون في الهند، وهذا كله لا ينجب.
فحين تغرس نوعاً من الشجر في بلد لا تصلح تربته، أو لا يصلح جوُّه لهذا النبات، أو لهذه الشجرة فإنه يموت، فتخسر الشجرة، وتخسر الجهد الذي بذلته والوقت والأرض.
وهكذا من وجه نفسه إلى علم لا يحسنه يتعب كثيراً، ولا يحصل فيه إلا القليل، بل إنني أقول: إن الأمر يتعدى ذلك.
فإن كثيراً ممن يسيئون إلى العلم الشرعي، ويخطئون من حيث أرادوا الصواب، ويسيئون من حيث أرادوا الإحسان: هم من أقحموا أنفسهم في هذه المجالات، وهم لا يملكون أداتها ولا آلتها، ولم يخلق لها، فجاءوا من الآراء والنظرات والأقوال بالشيء الغريب الذي لم يسبقوا إليه.
وتجد كثيراً من الشباب خاصة في بداية الطلب وفي غمرة الحماس قد يأتون بآراء وأقوال في منتهى الغرابة، وقد يصدر منهم أيضاً من التصرفات والمواقف الشيء الكثير، ولا حاجة لضرب الأمثلة لذلك، فهي معروفة لدى كثير منكم.
أيها الإخوة: إننا حين ندرك المواهب التي وهبنا الله عز وجل إياها، والأشياء التي نستطيع أن نفلح فيها أكثر من غيرها، فإننا بذلك نوفر على أنفسنا جهداً وعناءً كبيراً، ونقدم للدين الذي نحبه ونحب أن نضحي في سبيله شيئاً كثيراً، وفي نفس الوقت نكون قد تناوبنا القيام بفروض الكفايات التي أوجبها الله علينا.
فإن تعلم هذه العلوم فيما عدا العلم الذي يخص الشخص هو من باب فروض الكفايات، حتى علوم الصناعات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم العملية هي فرض كفاية.
وكذلك تعلم العلوم الزائدة التي يحتاجها الناس، فإذا قام كل واحد منا بالتعرف على العلم الذي يحسنه، ووجه همه إليه، أو التعرف على الشيء الذي يناسبه ولو لم يكن علماً، ووجه همه إليه، فإننا سنجد في النهاية أننا بمجموعنا أفلحنا في تكوين مجتمع إسلامي متكامل، يتناوب أفراده القيام بفروض الكفاية، ولا يوجد فرد في غير محله، فكل فرد في موقعه الطبيعي.(70/9)
طريقة معرفة المواهب
ولا شك أن الإنسان قد يقول: كيف لي أن أعرف الموهبة التي يمكن أن أجيد فيها؟ وهذا فعلاً لا يتحقق في كثير من الأحيان إلا بنوع من الانتباه والتجربة.
ففي بعض الأحيان تجد مواهب الإنسان بارزة وأنها متجهة إلى شيء معين، وهذا لا إشكال فيه، لكن في أحيان أخرى تكون هذه المواهب خفية تحتاج إلى صقل وإلى تجربة واستشارة، ومع التجربة والانتباه والاستشارة أيضاً يصل الإنسان إلى الموقع الطبيعي المناسب.
ويجب علينا أن ندرك أن الله عز وجل حين قسم بيننا هذه المواهب وهذه الملكات، أراد منا أن نستثمرها في طاعته وفيما يرضيه؛ ولذلك حين نهدرها أو نضيعها، نكون قد ظلمنا أنفسنا، وتعرضنا لسخط الله عز وجل وعقابه.
وانظر إلى قول الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] وتأمل هذه الآية: أولاً: {جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام:165] فنحن مستخلفون في هذه الأرض ومطالبون بعمارتها، كما قال: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] فنحن مطالبون بعمارتها بشرع الله ومنهجه، ومطالبون بإقامة دين الله عز وجل فيها بكل جوانبه، ودين الله لا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه، فنحن مطالبون بجميع ذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام:165] ثم قال سبحانه: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام:165] .
إذاً: فالناس درجات متفاوتة، منهم من جمع من الفضل والخير أنواعاً كثيرة، ومنهم دون ذلك، ومنهم الفاضل في مجال، ومنهم الفاضل في مجال آخر، منهم العالم، ومنهم العابد، ومنهم المجاهد، وهذه درجات متفاوتة وأنواع من الفضل {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] .
إذاً: هذا الفضل سواء كان فضلاً موهوباً، أو فضلاً مكتسباً، هو ابتلاء واختبار {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] من هو الذي ينجح في هذا الابتلاء، فيقوم بما أوجب الله عليه بتوجيه المواهب الفطرية توجيهاً صحيحاً يخدم الإسلام، وبالاستفادة مما اكتسبه في طاعة الله تعالى ومرضاته؟ ومن هو الذي يخفق في هذا الامتحان، فيوجه مواهبه توجيهاً غير صحيح، أو يوجه ما اكتسبه في معصية الله أو في الإثم، أو في أشياء لا فائدة منها؟ ثم ختم الآية بالإشارة إلى العقاب، وإلى مغفرة الله تعالى ورحمته، وهذا دليل جلي واضح على أنه ينبغي للشاب المسلم أن يستثمر طاقاته ومواهبه في خدمة الإسلام، ويدرك أن كل طاقة عنده مهما تكن بسيطة، ينبغي أن توجه توجيهاً صحيحاً.
أيها الإخوة: إن من الخطأ أن يكون الشاب في بناء شخصيته متذبذباً، منتقلاً من طرف إلى طرف، بل ينبغي له أن يرسم لنفسه منهجاً متوازناً معتدلاً، يجمع بين العلم والعبادة والعمل، ثم يحرص على البروز أكثر وأكثر في المجال الذي يحسن فيه.
هذا ما أردت أن أتحدث إليكم فيه في هذه الساعة القصيرة.
وفي الختام أتوجه إلى الله تعالى وأسأله أن يوفقني وإياكم للاستفادة مما وهبنا في طاعته، وأن يجعلني وإياكم ممن صرفوا جميع إمكانياتهم في سبيل الله تعالى، وألا يجعل حظنا هو الكلام أو الاستماع.
وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(70/10)
الأسئلة(70/11)
طريقة قراءة المعوذات عند النوم
السؤال
ما هي صفة العمل بالحديث الذي فيه قراءة المعوذات عند النوم، ثم النفث في اليدين والمسح على الجبهة، وكذلك صفة طرد الوسواس في الصلاة؟
الجواب
صفة قراءة هذه السور -كما في الصحيح- أن الإنسان يأوي إلى فراشه، ويجمع كفيه، كما يفعل في حال الدعاء، ثم يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، ثم ينفث في يديه، ثم يمسح بهما جسده، يبدأ بهما من رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل هذا ثلاث مرات.
أما طرد الوسواس من الصلاة: فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أن الشيطان إذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، فإذا حال بينه وبين صلاته، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وعلى الإنسان أن يحرص على استحضار قلبه في الصلاة، وتأمل معنى ما يقرأ من الأدعية والأذكار.
وعليه أن ينوع في هذه الأدعية، كما ينوع في صفات الصلاة الواردة حتى لا يعتاد على قراءة سور معلومة.(70/12)
العلوم الإنسانية
السؤال
ماذا عسانا أن نقول لطلاب العلوم الشرعية وهم ينظرون إلى طلاب العلوم الاجتماعية -مثلاً- نظرة وتقصير؟ وكيف نبين لهؤلاء أهمية هذه العلوم بالنسبة للأمة الإسلامية؟
الجواب
المشكلة -أيها الإخوة- أن كثيراً منَّ الشباب الذين من الله عليهم بالاستقامة لديهم منطق معين، يقول: العمر ثمين، والأيام محدودة، ولا يوجد وقت لغير طلب علوم الشريعة، حتى إن الواحد منهم لو اهتدى وهو في عرض الطريق -في السنة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة أحياناً- في إحدى الكليات غير الشرعية -إن صح هذا التعبير- لوجدته يقطع دراسته، ويبدأ من جديد في دراسة شرعية.
ولذلك ترتب على هذا الأمر أن كثيراً من الكليات التي لا تدرس العلوم الشرعية، تكاد تخلو من العنصر الطيب، مع أن بعض هذه الكليات تدرس علوماً مهمة جداً، والمتخصصون في هذه العلوم إن كانوا منحرفين، فإنهم يهددون المجتمع المسلم.
فما رأيك مثلاً: في من يدرسون علم الاجتماع، أو علم التربية؛ أن هؤلاء سوف يكون لهم دور كبير جداً في توجيه التعليم، ومناهج التعليم، وترتيب العملية التربوية في البلاد الإسلامية، فإذا كانوا تربوا على أفكار الغربيين، وتشبعوا بها، وليس لديهم لا سلوك إسلامي، ولا علم شرعي؛ فحينئذٍ سوف يكون دورهم دوراً خطيراً.
ولذلك فإن الشباب الذين يتخرجون من المدارس الثانوية -مثلاً- بحاجة إلى القدوة، بحاجة إلى من يعطيهم قدوة حسنة، فيكون وهو -مثلاً- في كلية علمية أو في كلية نظرية تدرس علوماً ليست من العلوم الشرعية؛ في كلية التاريخ، أو الاجتماع، أو التربية، أو غيرها، ويكون مع ذلك لديه علم شرعي طيب، ولديه سلوك إسلامي، ولديه غيرة على الدين، حتى يضرب لهم المثل والقدوة الحسنة في ذلك، ويزيل هذه النظرة التي تحدث عنها السائل.(70/13)
حكم الشرب قائماً والنوم على البطن
السؤال
هل يجوز النوم على البطن، وكذلك الشرب والشخص قائم؟
الجواب
بالنسبة للشرب قائماً، ورد النهي عنه في أحاديث صحيحة في مسلم وغيره، بل ورد الأمر لمن شرب قائماً أن يقيء، وفي حديث صحيح أنه قال: {هل تحب أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فقد شرب معك من هو شر منه، الشيطان} لكن حمل العلماء هذا النهي على كراهة التنزيه، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب واقفاً في حالاتٍ عديدة.
أما الاضطجاع على البطن: فهي ضجعة يبغضها الله عز وجل، وهي مكروهة.(70/14)
الخلاف والانتماء
السؤال
لا يخفى عليكم كثرة الطوائف في المجتمع المسلم اليوم، فهل ترون أن الانتماء إلى أحدها يخل بالتوازن، وهل يمكن الانتماء إليها مع التوازن في ذلك؟
الجواب
أقول: إن مما يجب أن نفقهه -أيها الإخوة- أن الاختلاف بين المسلمين أمر لا مفر منه، ومنذ أن كسر الباب، انفتح باب الفتنة على المسلمين ودب الخلاف بينهم.
وإنك حين تستعين بالقاعدة التي ذكرتها في أول الحديث، وهي قاعدة: عرض الأشياء على مجتمع الصحابة، تجد أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في العديد من الأمور، وعلى سبيل المثال: اختلفوا في مسائل فقهية كثيرة: في المواريث، وفي التيمم، وفي الطهارة، وفي الصلاة، وفي الزكاة، وفي الصيام، وفي الحج، وفي سائر أبواب العلم، بل واختلفوا في أشياء عملية اجتهادية اختلافاً بيناً، فاختلفوا في مواقفهم، وحين تنظر في موقف الصحابة من الفتنة التي حصلت، تجد أنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من كان في صف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومنهم من كان في صفوف أهل الشام مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومنهم من رأى أن الموقف الأجدر به هو العزلة، فاعتزل كما فعل سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وأهبان بن صيفي، ومحمد بن مسلمة وغيرهم كثير.
إذاً: فالاختلاف بين المسلمين سواء في الأشياء الشرعية، أو في المواقف العملية الاجتهادية، أمر طبعي.
لكن أنبه في هذا الباب إلى عدة ملاحظات مهمة: الملاحظة الأولى: أننا يجب أن نتفق جميعاً ولا نختلف على أن يكون مَردّ كل اختلاف يشجر بيننا إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وهذه قضية أساسية ومهمة.
الملاحظة الأخرى: أن المخالفين أو المبتعدين عن المنهج الصحيح أنواع: فمنهم من يخالف ما ترى أنت أنه المنهج الصحيح لاجتهاد قام عنده ووجد لديه دليله، وهو أهل لأن يسلك هذا المسلك، ويجتهد هذا الاجتهاد، وتعرف منه الصدق والإخلاص فيما يسلك، ومثل هذا ينبغي التلطف معه، ومناصحته بالأسلوب الحسن الطيب، فإن بقي على ما هو عليه ولم يقتنع بما لديك، فعليك أن تقوم بحقوق وواجبات الأخوة نحوه.
وهناك نوع آخر ممن انحرفوا عن المنهج الصحيح لغرض، كهوى قام في نفوسهم، أو لجهل أو لأي سبب من الأسباب التي لا تسوغ لهم هذا الأمر أو هذا الموقف، ومثل هؤلاء -أيضاً- يجب مناصحتهم، وحثهم على التخلي عما وقعوا فيه من خطأ أو انحراف، ودعوتهم إلى المنهج الصحيح، فإن أصر على ما هو عليه كان الواجب على الإنسان أن يظهر مخالفته له وتميزه عنه بمنهجه، حتى يكون الآخرون على بينة من الأمر، ولا تختلط الأمور والمواقف عليهم.
أما انتساب الإنسان إلى مجموعة من الدعاة، تعينه على الخير وترشده إليه، ويتعاون معهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وينسق معهم، أو يصرف من خلالهم جهده وطاقته -إن كان هذا هو المقصود- وكان هؤلاء القوم أهل سنة واتباع، وإنما اجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، لا على ما تهواه نفوسهم، ولا على الاتباع لشخص، أو شيخ، أو مذهب غير صحيح، فلا أرى في هذا حرجاً والله أعلم.(70/15)
موسوعية السلف
السؤال
فضيلة الشيخ: أنت تعرف حماس بعض الشباب في طلب العلم، ولهم من السلف الصالح أسوة حسنة؛ وذلك أن السلف رحمهم الله لا يقتصرون على علم واحد، بل نجد الواحد منهم موسوعة في كثير من العلوم، فما تعليق فضيلتكم؟
الجواب
لي عدة تعليقات على هذا السؤال: أولاً: حين يوجد الفرد ذو العقلية الممتازة الجبارة الذي يمكن بالمتابعة والتحصيل أن يكون موسوعة كما عبر الأخ، فألف حبذا! ولا يزال المسلمون يتطلعون منذ قرون إلى شخصية كشخصية شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو ليس موسوعة في مجال العلم فقط، بل حين تنتقل إلى المجالات العملية تجد أن الرجل لم يقصر نفسه على تعلم العلم الشرعي بأنواعه وفنونه، بل تعدى ذلك إلى الجهاد ومحاربة أهل البدع، وقتالهم، ومناصحة السلاطين، والقيام بالحسبة عليهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من جوانب شخصيته الفذة رحمه الله.
ومثل هذه الشخصيات شخصيات نادرة لا يوجد منها أحياناً في أكثر من قرن إلا عدد قليل، أما كون الإنسان لديه إلمام طيب بمجموعة من العلوم الشرعية، فهذا ممكن في حالات كثيرة، ولا بأس به، بل هو مطلوب، وأشرت إلى أن الإنسان لا يمكن أن يكون مبرزاً في علم شرعي وهو يجهل بقية العلوم.
فالقضية أن وجود هذه العقليات التي أشار إليها الأخ هو أمر قليل، فهذا جانب.
ثانياً: أن موضوع التخصص لا بد منه خاصة في هذا الوقت.
فمثلاً: لو نظرت إلى جانب معرفة الأحكام الشرعية؛ لوجدت أن المسلمين يعانون مشكلات عويصة وصعبة مما يسمى بالنوازل، تحتاج إلى مجتهدين من الطراز الأول حتى يتكلموا فيها ويبينوا للناس شأنها، سواء في المجال الطبي، أو في مجال المال والمصارف، أو في غيرها من أمور الحياة التي استجدت، وهي تفني أعمار مجموعة من العلماء وليس واحداً.
ففي نظري مع أنه لا بد للإنسان أن يحيط بمجموعة من العلوم الشرعية، ويفهم فيها بشكل جيد إلا أن التخصص لا بد منه.(70/16)
اختيار التخصص
السؤال
فضيلة الشيخ، أنا أميل إلى العلوم الشرعية، ولكن لا أدري وفي أية مادة أطلب؛ علم الحديث، أو العقيدة، أو الفقه، علماً أنها مفرقة في الكليات حسب التخصص، وشكراً؟
الجواب
ذكرت أن الإنسان قد يقف حائراً في حالات كثيرة لا يستطيع أن يحدد بالضبط المجال الذي يمكن أن ينفع فيه أكثر، ولذلك فإن الإنسان ينبغي له أن يحرص على أن يأخذ أصول العلوم في البداية ويتأملها، حتى يكون لنفسه خلفية علمية جيدة؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يجيد في فن -خاصة الشريعة- وهو يجهل بقية الفنون جهلاً تاماً، ولا يمكن أن يستطيع الاستفادة من دليل واحد، وهو يجهل أدلة كثيرة في نفس الباب.
وهذه القضية المهمة أشار إليها الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه العظيم الرسالة في أصول الفقه، ففهم الإنسان للصورة العامة للشرع ضروري.
ولذلك ينبغي أن يحرص على أن يلم بأصول العلوم الشرعية ما دام متجهاً لطلب العلم الشرعي، ومن خلال هذا الإلمام أيضاً يمكن أن يعرف المجال أو العلم الذي تميل إليه نفسه أكثر، ومع ذلك فقد يتجه الإنسان إلى كلية من الكليات، ويجد فيها أكثر من علم، فليست الكلية محصورة في علم واحد، فأنت لو درست مثلاً في كلية الشريعة ستجد دراسة التوحيد والعقيدة، إلى جوار أصول الفقه، والفقه، والفرائض، والتفسير وهكذا.
ولو درست في كلية أصول الدين لوجدت العلوم نفسها، أو قريباً منها وهكذا.
ولكن بعد أن يتخرج الإنسان من هذه الكلية، عليه أن يركز جهده في العلم الذي أحس بميل إليه أكثر من غيره.(70/17)
قاعدة الميول
السؤال
فضيلة الشيخ: أخذت من مجمل ما تفضلت به وأتحفت، أن كل عبد تام العقل والصحة لا بد أن يكون له ميول إلى شيء معين.
ألا ترى أن في هذا الحكم شيئاً من المبالغة؟
الجواب
لا أعتقد أن ما تفضلت به في السؤال ورد في المحاضرة بنفس الدرجة من الوضوح، فإن الشيء الذي ذكرته هو أن كل إنسان يختلف عن الآخر، وهذا أمر لا شك في ثبوته، والواقع المحسوس يشهد به.
أما أن يكون لكل فرد نوع من التميز فهذا أمر غالب، وأغلبي وموجود.
ولكن قد تجد من الأفراد من ليس لديهم بروز واضح، بل بروزهم يسير، وقد لا يمكن التنبه له.
وقد تجد هذا الفرد لم يحرص على تنمية هذا الشيء الفطري المركوز فيه، فضمر هذا الأمر واختفى، ويحتمل أن يوجد أفراد يهتمون بعدد من الأشياء بصفة متساوية، وليس في هذا استحالة أو استبعاد.(70/18)
تعليق على لفظة: إني أحبك في الله
السؤال
فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله، ما الذي يحكم الإنسان في تصرفاته: ضميره أم نفسه، نرجو الإيضاح، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه! وبمناسبة ذكر الأخ لهذه الكلمة فلي رأي أو وجهة نظر في هذا الموضوع، أرجو أن يتحملها الأخ لأن المقصود فيها الفائدة.
كثيراً ما نسمع عن بعض المحاضرين، أو طلاب العلم، أو المشايخ من يذكر لهم أنه يحبهم لله، وهذا لا شك بشير خير لمن أحب هؤلاء، ولست منهم، لكنني أرى أن الأولى والأفضل أن يصارح الإنسان من يحبه في الله مواجهةً، كفاحاً بينه وبينه.
لأنك حين تتأمل الأحاديث الواردة في موضوع الحب في الله وهي صحيحة، تجد أن فيها ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال: إني أحب فلاناً، بأن يعلمه، قال: {اذهب فأعلمه} كما في أبي داود وغيره، وكونه عليه الصلاة والسلام أمر هذا الرجل أن يذهب ويعلم أخاه بأنه يحبه، لو تساءلنا عن الفائدة من ذلك والغرض والحكمة منه لوجدناها ظاهرة؛ لأن هذا مما يعمق الروابط بين المسلمين، وهو يتحقق بصفة أقوى إذا كان المتحابان متعارفين.
فأنا مثلاً: إذا أحببتك في الله آتيك وجهاً لوجه، وأشعرك بذلك، لأن هذا سوف يجعلك تبادلني نفس الشعور.
وحينما يقول لك شخص: إني أحبك في الله، تشعر بأن قلبك يحبه؛ لأن الأرواح كما في الصحيح: {جنود مجندة} والعوام يقولون: (القلوب شواهد) وقولهم صحيح.
فما من شخص تشعر نحوه بعاطفة حب صحيحة مستقرة ثابتة إلا وتجد عنده مثل ذلك، أو يوجد عنده مثل ذلك ولو بعدك، فإذا صارحت الإنسان بأنك تحبه في الله كان هذا أبلغ في تعميق الروابط بين المسلمين.
أما السؤال: فلا أفهم ما يقصد الأخ بالفرق بين النفس وبين الضمير، ولكنني أقول: إن الإنسان ينبغي أن يحكم عقله في الأشياء التي تحتاج إلى نظر وتأمل وتفكر وتتدبر.
ويجب أن يتأمل الأشياء التي ترتاح إليها نفسه.(70/19)
اللهم بلغت اللهم فاشهد
هذه ندوة تحدث فيها المشايخ عن مأساة البوسنة والهرسك وما يجري لهم هناك من النصارى الذين يحيطون بهم من كل جانب، وعن وجوب النصرة لهم، وذكروا معلومات عن المسلمين هناك وما يتهددهم من الأخطار ثم تحدثوا عن وسائل النصرة لهم وعن بوارق الأمل وبشائر النصر، ودار الحديث عن وجوب دفع التبرعات والتحقق من وصولها، وختمت الندوة بذكر أهداف النصارى.(71/1)
مأساة البوسنة والهرسك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم.
{الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:2-7] أيها الإخوة الكرام! أيها المسلمون الأحباء! نحمد الله سبحانه وتعالى أن منّ علينا بالإسلام، ونشكره سبحانه وتعالى أن ألف بين قلوبنا فهو سبحانه وتعالى وحده قادر على ذلك لا غيره.
أيها الأحبة إن ما يجري ويحدث اليوم في جمهورية البوسنة والهرسك، وفي إقليم السنجق، وفي إقليم كوسوفو ليس بغريب ولا عجيب لذوي العقول والنُهى؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] .(71/2)
خطر المجاعة
أيها الإخوة الكرام: ستة ملايين مسلم هناك على حافة المجاعة! ستة ملايين مسلم في خطر الإبادة الجماعية! والضحايا كثيرون، ولا تلتفتوا كثيراً إلى ما ينشر في وسائل الإعلام الغربية والجرائد التي تقرءونها فإنها تنقل فقط ما تذيعه الجرائد ووكالات الأنباء الغربية، إن الضحايا هناك أكثر بكثير مما يعلن ويشاع، فهم يتكلمون عن ستمائة قتيل خلال الشهر الماضي، ولكن من بين المسلمين القتلى أكثر من عشرة آلاف قتيل، هذا في شهر واحد! أما الجرحى -فحدث ولا حرج- فلا أحد الآن يعد الجرحى، ولا توجد هناك أدوية، والمدن حتى بما فيها العاصمة نفسها محاصرة لا يأتيها شيء، ولا يخرج منها شيء بسبب الحصار المضروب عليها، والجمهورية نفسها ضرب عليها الحصار.(71/3)
وسائل النصرة
فإذا فكرتم، وأردتم التفكير في مساعدة إخوانكم هناك: فأولاً: ابدءوا بالدعاء، فإن الله سبحانه وتعالى هو أقدر القادرين، وهو الذي يستطيع أن يفرج عن أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يستطيع أن يوجد السبل، ويستطيع أن يفرج الكرب: اللهم فرج عن إخواننا، هذا هو الدعاء.
ثانياً: إن هناك طريقاً لمساعدة المسلمين الآن، فقد فكرت القيادة في جمهورية البوسنة والهرسك أن تأتيها المساعدات عن طريق كرواتيا، وهي كذلك دولة نصرانية كاثوليكية، وطبعاً هذه المساعدات عن طريق كرواتيا مراقبة ومشروطة، وفي كثير من الأحيان صعبة جداً، رغم ما بيننا وبينهم من تحالف ضد عدو مشترك ألا وهو الصرب، إلا أن الكفر ملة واحدة، وأخشى ما نخشاه أن يغدر بنا الكرواتيون، وهم: أخبث من هؤلاء الصرب الذين يكرهون جهراً، ولا يجاملون ولا ينافقون، بينما الكرواتيون يكرهون سراً، ويمكرون ليل نهار، وأخشى أن يغدروا بنا وقد غدروا، فلعلكم سمعتم أن هناك اتفاقاً ليس سرياً بل علنياً حدث في إحدى المدن النمساوية اتفق فيه الجانبان: الصربي والكرواتي على تقسيم جمهورية البوسنة والهرسك.
فالأوروبيون اعترفوا بنا، وهم الآن تحت رعايتهم يجري هذا الاتفاق ويحصل، فمن للمسلم هناك غيركم أيها الأحباب؟! نحن في ابتلاء، وأخشى أنكم هنا أنتم في ابتلاء أعظم من ابتلائنا، فالابتلاء في الضراء قد يعرف الناس أن يخرجوا منه بنجاح وإيجابية، أما الابتلاء في السراء فإن الإنسان قد يظن بنفسه خيراً، وقد يتكاسل، وقد ينسى، وقد يعجب بنفسه، وقد لا يفعل ما يجب أن يفعله، فهذا هو -والله- عين الابتلاء، هو ابتلاء لنا وابتلاء لكم.
أيها الإخوة الكرام: إن المآسي كثيرة! فالحرمات تنتهك، والمسلمات تنتهك أعراضهن.
إن المساجد تدنس وتدمر، والمدن بمن فيها من الناس والبيوت والممتلكات تدمر، وتزاح عن الخرائط، والصرب يريدون أن يسيطروا على البوسنة والهرسك، ويخضعوها لحكمهم وسيطرتهم، ويضموها إلى جمهورية صربيا الكبرى، ويطردوا المسلمين، ويطهروا المنطقة من المسلمين إن استطاعوا، فهم يحاولون وهذا حلمهم، ولكنه لن يتحقق بإذن الله تعالى والله سبحانه وتعالى قادر على نصرة المسلمين هناك، ولو كانوا كالسفينة في البحر اللجي.
إن الإخوان هناك لا يفكرون إلا في المسلمين، ويناشدون العالم الإسلامي؛ لأنهم يعرفون أن العالم النصراني هو عالم كافر غادر حاقد، فهم يستصرخون، ويطلبون التدخل العسكري من الامبراطورية الجاهلية التي أوشكت على السقوط، ومن أوروبا الجاهلية فهم يطلبون منهم التدخل العسكري، وفي حقيقة الأمر هم يطلبون من العالم الإسلامي في رسالة غير مباشرة أن يتحرك ويتدخل عسكرياً أو بالنفس والمال، هذه هي الحقيقة.(71/4)
عدد المسلمين
أيها الإخوة: ربما تحبون أن تعرفوا بعض النبذ عن المسلمين؛ إنهم هناك أكثر من ستة ملايين مسلم في يوغسلافيا نصفهم في جمهورية البوسنة والهرسكتقريباً.
وجمهورية البوسنة والهرسك أكبر من لبنان خمس مرات، وقد أعلنت استقلالها، ثم اعُترف بها دولياً، وبعد الاعتراف بها، هوجمت من قبل دولة نصرانية صربية أرثوذكس حاقدة على الإسلام والمسلمين، يريدون ألا تكون للمسلمين قائمة، ويريدون ألا تكون للمسلمين دولة، ولكن -ولله الحمد- نحن اخترنا طريقاً صعباً ألا وهو الاستقلال والحرية، ولا يمكن أن ننال استقلالنا وحريتنا إلا بالدماء، وإلا بالشهادة والتضحيات، وهذا هو السبيل الصحيح.
أما لو حصلنا عليه دون عناء، فالله أعلم بمدى استمراريته، ومدى مكوثه في الأرض.
إن الذي ينال بالجد والجهد والدماء والجهاد يكون بعد ذلك عزيزاً وغالياً، ولذلك يحرص الناس عليه ويعرفون قدره.(71/5)
إحاطة النصارى بالمسلمين في البلقان
ونحن المسلمين في تلك البقاع نعيش كجزيرة في بحر نصراني صليبي ليس لنا إلا الله سبحانه وتعالى، وقد بذلت محاولات كثيرة جداً لمحو هويتنا، وتبد يد شملنا وإبادتنا وإبعادنا عن تلك المنطقة، ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي سلم.
وهذا الذي يحدث اليوم ليس أول مرة يحدث في التاريخ فقد جرت هناك محاولات عديدة لإبادة المسلمين، وإبعادهم، ولكنهم يكيدون كيداً، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:17] .
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزق إخواننا، وأن يمد إليهم بالأسباب.
أيها الإخوة الكرام! مآسي المسلمين هناك كثيرة، ولكن ليس هذا وقت البكاء.(71/6)
مآسٍ ونكبات
أخي الكريم! هل سمعت بالطفل يذبح أمام أبيه؟! هل سمعت بالعالم يشنق في محرابه؟! هل سمعت بالمرأة الحامل يبقر بطنها ويوضع فيه قطة حية، وتترك لتنزف حتى تموت؟! هل سمعت باغتصاب الحرائر؟! هل سمعت بتدنيس المساجد؟! هل سمعت بإبادة الشعوب؟! هل سمعت وهل سمعت؟! أين الأخوة الإسلامية التي جمعت قلوب المسلمين في كل مكان؟! أين الجهاد؟! أين الفداء؟! وأين الإباء؟! أين الشهادة وأين الكرامة؟! أين أنت؟! وأين أنا؟! البوسنة والهرسك، والسنجق، وكوسوفوجروح غائرة في جسد الأمة الإسلامية، ستة ملايين مسلم مهددون بالإبادة، يقفون عزلاً أمام الحقد الصربي الصليبي الذي لا يعرف للأخلاق قيمة، ولا يضع للإنسانية قدراً، هناك تنتهك الحرمات، ويستباح الآمنون، فمن لهم بعد الله؟! أخي هل تراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهليك السلاح فمن للضحايا يواسي الجراح ويرفع راياتها من جديد فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نستذل ولن نستباح فامدد يديك إلى يداي واصرخ معي: وا إسلاماه!!(71/7)
وجوب النصرة
إخوتي الكرام! حديثي إليكم بلا عنوان ولا تقديم، ولا أدري من أين أبدأ؟! ولعل فيما ذكرت كفاية فينبغي أن نكثر من العمل، ونقلل من الحديث حتى نكون رجالاً حقاً، والله سبحانه وتعالى لعله بحكمته اختارنا لأن نكون شهداء على الناس، شهداء بشهادتنا، وشهداء بجهادنا، وشهداء بالصبر وتحمل الأذى وغير ذلك، فالله سبحانه وتعالى يختار، ويفعل ما يريد.
والله سبحانه وتعالى كأنه يريد توحيد هذه الأمة؛ لأن الأمة الإسلامية جسد واحد، قال صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى} ورغم ما يعوق توحيد الأمة المسلمة من الترسبات الفكرية وغيرها من الاعتبارات، إلا أن الله سبحانه وتعالى متم نوره ولو كره الكافرون.
أيها الإخوة: لقد قلت في بداية حديثي ليس هذا وقت بكاء، ولا صياح، إنما هو وقتٌ يريد الله سبحانه وتعالى منّا شيئاً نفعله، ونجِّد في سبيله، ونجاهد ونجتهد، فقد ولى دهر السبات والنوم والكسل، وجاء وقت الجد، والحمد لله أن الذي حدث ويحدث هناك في البوسنة للمسلمين، حدث وبدأ بعد انتصار المجاهدين الأفغان، فهي إشارة واضحة من السماء أن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عن هذه الأمة، إنما هو الذي يريد لها خيراً، ويريد لها التوحيد والنصر والعزة والتمكين ولكن المسلمين لا يريدون ذلك بسبب جهلهم، أو بسبب ضعفهم، أو بسبب من الأسباب.
أيها الإخوة! ليس للمسلمين طريق للعزة إلا طريق الجهاد في سبيل الله، فربما بعض الناس بعدما انتصر المجاهدون الأفغان قالوا: الحمد لله! لعلنا نستريح قليلاً، ولعل الدماء تتوقف.
ولكني أقول: إن الأنبياء جاهدوا في سبيل الله، وأوذوا في سبيل الله، واستشهد كثير من خير أمة أخرجت للناس، استشهدوا في سبيل الله، وسفكت دماؤهم، وجاهدوا في سبيل الله، وعانوا وأوذوا وأخرجوا، أفنريد نحن اليوم أن نستريح، وربنا سبحانه وتعالى يريد لنا الخير في الجهاد؟! إن هذا الجرح الذي فتح في البوسنة في وسط أوروبا لهو جرح عميق، ولكن الله سبحانه وتعالى أدرى بخلقه، وأدرى بشئون عباده، فكأنه سبحانه وتعالى يريد لهذه الأمة أن تستيقظ وتتحرك، وأن تفطن لما يحاك بها حتى تنهض وتقوم، وتسرع في إنقاذ المسلمين ونصرتهم، ومد يد العون إليهم كما أمر الله سبحانه وتعالى وكما يريد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] .(71/8)
بوارق الأمل
من الإيجابيات التي أستطيع أن أذكرها بإيجاز: أولاً: أن كل ما يجري ويحدث الآن هناك بدأ بعد انتصار المجاهدين الأفغان.
ثانياً: إن الجمهورية -جمهورية البوسنة والهرسك- حصلت على قيادة مسلمة واعية ولله الحمد، وهذه إيجابية كبيرة، ولم نكن نظن أن المسلمين هناك سوف يحصلون عليها، فإن الذي يقود المسلمين الآن هو الرئيس علي عزت، ونائبه عمر بهمن، والدكتور سليمان أوقلتن زعيم مسلمي السنجق، وغيرهم من القادة -قادة الحزب المسلمين- إنهم لخير ناس عرفناهم في تلك البلاد، وإنهم أناس جربتهم الحياة، فهم قد دخلوا السجون، واختبروا، وأوذوا في سبيل الله، كل ذلك من أجل وبسبب الإسلام، فالرئيس علي نفسه قضى في السجون تسع سنين، وعمر بهمن قضى في السجون سبع عشرة سنة، إنها ليست مدرسة بل هي مدارس، إنها لحياة طويلة في مدرسة خاصة، وليت بعض الناس يمرون بها حتى يعرفوا قدرها ومكانتها! إنها مدرسة خاصة، ومفيدة، وقد دخلها من هم خير منهم، دخلها الأنبياء، دخلها يوسف عليه السلام وغيره، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا.
ثالثاً: أيضاً من الإيجابيات التي أريد أن أذكرها، قد بدأت الأحداث، أن العالم النصراني بدأ يتفكك والحمد لله، نحن من تلك البلاد خير من يعرف هذا، فإن النصارى الآن بدءوا يتفككون، وبدأ هناك صراع خفي، -وإن شاء الله- وسوف يكون ظاهراً لكم أيضاً.
إن العالم النصراني انقسم إلى ثلاثة أقسام: 1-النصارى الكاثوليك: 2-النصارى الأرثوذكس.
3-النصارى البروتستانت- هذه الطوائف الثلاثة- الآن كل واحدة منها تكيد للأخرى، وتفكر في كيف السبيل وخداعها.
أيها الإخوة: نحن نعرف جيداً أن العالم النصراني مهما تظاهر بالوحدة والتماسك وغير ذلك، فإنه عالم هش سرعان ما يسقط، وسرعان ما تظهر السلبيات الموجودة فيه ولله الحمد، فالقادة الأرثوذكس اجتمع قسسهم الدينيون، فوجدوا بعد مؤتمر طويل، ومباحثات عميقة أن ألد أعدائهم هم الكاثوليك" الحمد لله رب العالمين" وهم يبطشون بنا، ويقولون: إن ألدّ أعدائنا هم الكاثوليك، فانظروا الروس هم أرثوذكس، والصرب أيضاً كذلك، وهم يعذبون المسلمين ويذيقونهم عذاباً أليماً، الروس في أفغانستان، والصرب في البوسنة، والسنجق في كوسوفو، وهذه جراحات المسلمين مع الأرثوذكس، ولكنهم يقولون: إن أعداءنا الأولين هم من الكاثوليك.
فمعنى هذا أن المسلمين -إن شاء الله- إذا كانوا عقلاء وفطنوا، يستطيعون أن يعمقوا هذه الخلافات بينهم، ويستطيعون أن يستثمروها لصالح الإسلام والمسلمين بإذن الله تعالى، العالم النصراني.
والله إني أبشركم أنهم في سبيل التفكك والزوال، والمسلمون في سبيل الوحدة تحت راية الإسلام، وتحت راية الجهاد -إن شاء الله-.
أيها الإخوة: لا أريد أن أطيل عليكم، أختصر حديثي إليكم بما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وقبل الختام يوجد أشرطة ننصح بسماعها وهى: "محنة المسلمين في البوسنة والهرسك" للشيخ عبد الوهاب الطريري شفاه الله وعافاه، والثاني: "من يحمل هم الإسلام" و"من للمسلمين" و"ثمرات الأوراق" لفضيلة الشيخ سلمان العودة، وشريط "القابضون على الجمر"، و"من يوقف أنهار الدماء" للشيخ سعد البريك، وشريط "يا عالم استفق" للشيخ طلال الدوسري وغيرها من الأشرطة.(71/9)
بشائر النصر
يتساءل كثير من الناس: أين هؤلاء المسلمون؟ فهم ستة ملايين! أليس لهم وجود؟! أليس لهم أي قوة؟! أليس لهم أي! تحرك؟(71/10)
تنظيم صفوف المسلمين
فأقول: أعود في النهاية وأبشر: إن المسلمين تنظموا إلى حد كبير في هذه الأيام، وبدءوا يخططون لفك الحصار عن العاصمة وعن المطار، وأن معنوياتهم مرتفعة جداً، وكنت أقول لهم سابقاً: إن هذه عبرة يجب أن نعتبر بها، وأن نربي الجيل القديم على الجهاد، وعلى كلمة التوحيد، وعلى الولاء والبراء، وعلى البغض لهؤلاء النصارى أعداء الله سبحانه وتعالى، فكان كثير من المسلمين يقولون: ليسوا كلهم من هذا الشكل، لكن بعد هذه الأحداث هم أنفسهم يقولون ما نقول، وبالأمس في مكالمة هاتفية، يقول أحد المسئولين هناك: صارت المعايشة السلمية مع هؤلاء مستحيلة، فلا يمكن أن نسامحهم لما فعلوه هذه الأيام بالمسلمين.
فأقول: كل هذه تبشر بالخير، إلا أنهم بحاجة شديدة جداً إلى المساعدات، نرجو من الله سبحانه وتعالىأن تفتح هذه الطرق قريباً، وأن تصل إليهم مساعدات مباشرة، إضافة إلى أن هناك أكثر من مائة وخمسين ألف مهاجر في جمهورية كرواتيا، وفي داخل البوسنة، وفي النمسا، وألمانيا، كل هؤلاء يحتاجون مبالغ كبيرة جداً لإعاشتهم، ولإسعافهم، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت وينصر المسلمين في كل مكان، وأن ينصر إخواننا في جمهورية البوسنة والهرسك، وأن يجعلهم مشعل نور وهداية لأوروبا كلها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(71/11)
انضمام بعض قادة الجيش للمسلمين
وتذكر الأخبار الأخيرة أن أحد القادة المشهورين، كان في الجيش السابق، وهو مسلم في الأصل وقد رجع إلى الإسلام، وانضم إلى جيش المسلمين، وبدأ في هذه الأيام يقود العلميات دون أي تنسيق حتى مع القيادة العليا؛ لأن الرئيس علي ومن معه إلى الآن يرون أن المفاوضات هي الطريقة المثلى لتحول هذا الجيش من الجيش العدواني الذي يعتدي علينا إلى جيش مسلم يأتمر بأوامر الحكومة البوسنية، وللمسلمين فيه اليد الطولى.(71/12)
تفكك جيش الكفر
وفي نفس الوقت هذا الجيش -بحمد الله سبحانه وتعالى- بدأ يتفكك وينحل، حيث تخلت عنه صربيا الأم، وقالت: إنها ليست مسئولة عما يجري ويحدث في البوسنة، وعينوا شخصيات أخرى في الجيش اليوغسلافي الجديد، إلا أنه في الحقيقة أنهم أرادوا بهذه الطريقة أن يقووا الصرب في داخل البوسنة، فتركوا لهم هذا الجيش تحت تصرف الصرب المدنيين والعصابات الموجودة في داخل البوسنة، وفي نفس الوقت قالوا: الضباط الكبار الذين كانون يعملون باسم جيشنا السابق قد أطحنا بهم، وذهبوا عن مسرح الأحداث، فيريدون بذلك تزيين الوجه أمام العالم الغربي، ويقولون: هؤلاء قد عوقبوا، وأزيلوا عن مناصبهم، فحكومتنا جديدة وتتبنى العلاقات الحسنة مع الجميع.
لكن هذا الجيش الذي بقي في داخل البوسنة، وهذا هو العقبة الكبرى أمام؛ لأنهم مسيطرون على أكثر الطرق، هذا الجيش بدأت هناك معارك بين أنفسهم، لأن كثيراً من الضباط الجدد يستسلمون لحفنة من المجرمين الصرب الذين يقتلون ويذبحون ناساً أبرياء حتى من الصرب أنفسهم، فاستثقلوا هذا الشيء ولم يرتضوه، وأرادوا أن يستسلموا إلى حكومة البوسنة ويأتمروا بأوامرها، وعدد آخر من الضباط عارض ذلك، فصارت اشتباكات، وبالأمس وصل تقرير يقول: إنه في أحد المعسكرات في العاصمة فقط قتل منهم ثمانون شخصاً في معارك بينهم نتيجة الخلافات التي حصلت.(71/13)
تأسيس جيش للمسلمين
فإني أبشركم بأن الأخبار هذه الأيام رغم ما سمعنا في اليوم والأمس من المؤامرة الجديدة عليهم من قبل الصرب والكروات، فإن هناك أخباراً أتت تبشر بالخير وتستمر بإذن الله سبحانه وتعالى، فقد بدأ المسلمون بالهجوم قبل أسبوع تقريباً لأول مرة طيلة هذه الفترة، بعد أن كانوا يتجنبون الصدام مع الجيش، جيش الدولة يوغسلافيا القديمة، وكانوا يرون من المصلحة ألا يصطدموا بهم، فنتيجة الحصار الذي فرض على جميع المدن، ملوا الجلوس في الملاجئ من القصف المستمر من بعيد، فالمسلمون هناك أسسوا جيشاً، وقد وصل عددهم إلى تسعين ألف مقاتل، إلا أن هذا الجيش غير مجهز، وليس عندهم سلاح، فيضربهم العدو الصربي من بعيد بالمدافع الثقيلة وغيرها، في حين أنهم لا يملكون إلا الأسلحة الخفيفة، ويستطيعون المواجهة المباشرة فقط.
فبفضل الله سبحانه وتعالى من أول الأحداث كل معركة حصلت عن قرب في مواجهة مجابهة بين النصارى والمسلمين انتصر فيها المسلمون، لكننا رأينا حتى المجموعة الأوروبية وغيرها من المؤسسات أو الهيئات العاملة في الساحة، سرعان ما يتدخلون في المفاوضات وغيرها، ويهدئون المسلمين، وينتهز النصارى الفرصة ويرجعون إلى مواقعهم وغيرها.
ولقد اتصلت مراراً في الأيام الأخيرة بالداخل، وكلمت أشخاصاً مختلفين، منهم مسئولون في الحزب وقادة في هذه العمليات، فيقولون: إن أكبر الخطر الذي يواجههم -الآن- هو الجوع والأوبئة نتيجة الحصار المفروض عليهم، إلا أن هناك عدداً من القادة المسلمين بدءوا يهاجمون قوافل الجند، وعلى معسكراتهم واستولوا في الثلاثة الأيام الأخيرة على كمية من الأسلحة الثقيلة في العاصمة نفسها، كما استطاعوا أن يصدوا الهجمات الصليبية عن أكثر من ثلاثة مدن وقرى مختلفة إسلامية.(71/14)
التبرعات
نشكر الأخوين على هذا البيان المفيد في هذا الموضوع المهم.
وأقول لكم جميعاً: إن هذه القضية هي قضيتنا وقضية المسلمين في كل مكان، وإننا يجب أن نلقي بثقلنا في هذا الأمر.(71/15)
وصول التبرعات إلى المجاهدين
والكثيرون يقولون: هل يصل المال؟ نعم يصل المال، والكثيرون يقولون: هل من المناسب أن نتبرع ونصرف أموالنا إلى هذا المصرف؟ أقول: نعم، أنت الآن أمام شعب مسلم يباد، ليس هو الذي بدأ المعركة، بل هو شعب فرضت عليه المعركة، فهو يريد لقمة العيش، ويريد البندقية التي يقاتل بها عدوه.
يا أخي! كل الناس مأمورون بالدفاع عن أنفسهم، حتى ولو كان لا يملك إلا العصا أو البندقية ليدافع بها عن نفسه، وأخوه المسلم مطالب بأن يهيئ له هذا الأسلوب الذي يستطيع به أن يدافع عن نفسه.
وكثيرون لو دفع الواحد منهم مبلغاً يسيراً، يريد أن يرى نتيجته قيام دول إسلامية في بلد ما!! لا يا أخي! ليس بلازم هذا! وهناك من ينفقون أنفسهم وأرواحهم، ويضحون بها في ميادين المعارك ويستبسلون، وهناك من يتخلى الواحد منهم عن راحته، فكونك تعطي بعض المال الذي أعطاك الله تعالى إنما هو بعض شكر الله على نعمته، وقيام ببعض حقه.(71/16)
وجوب دفع التبرعات
فأنا أقول لكم -أيها الإخوة- الآن وبعد الآن: ما دفعتموه في الأمس واليوم وقبله لا يكفي منكم أبداً، ويجب أن تدفعوا المزيد والمزيد، ويجب أن يدفع الإنسان وهو يشعر أنه يدفع عن نفسه، وأنه يتصدق عن نفسه، وأنه ينفق لنفسه، ولنفسه يريد الخير، وأنه إذا استدعى أمر الإسلام ومصلحة الإسلام وحماية المسلمين أن يتخلى الإنسان عن بعض ثوبه الذي يلبس أو نعله أو غترته، فإنه يفعل: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فإياكم إياكم أن تهون نفوسكم أو تضعف، أو تتخلوا عن إخوانكم! فوالله الذي لا إله غيره من لا يشعر بجراح وهموم إخوانه، ويتعاطف معهم، ولا يتعاون معهم، فوالله إنه سوف يبتلى ويصاب هو يوماً من الأيام، وسوف يقول: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض! فالنصارى لا يقفون عند حد، ومطامحهم لا تنتهي، بل أقول: هذه البلاد هي من أعظم وأهم ما تشرئب إليه نفوسهم، حيث إنها بلاد الإسلام ومنطلق الإسلام من جهة، وهى أيضاً بلاد حباها الله تعالى من الخيرات والبركات ما ليس في غيرها، فادفع عن نفسك أولاً أيها المسلم بأن تنفق في سبيل الله عز وجل، وإياك والشح والبخل! فإن الله تعالى ينزع بركة مالك، وقد يذهب مالك في صفقة تجارية أو مصيبة أو جائحة، لكن ادفع طائعاً مختاراً، وليس غريباً أن يتخلى الإنسان عن بعض حاجاته الضرورية إذا لم يكن يملك غيرها،،وليس غريباً أن يقسم الإنسان طعامه وغداءه وعشاءه ليعطي إخوانه المسلمين بعضه، وليس غريباً أن يتصدق الطفل الصغير بالريال الذي أعطاه إياه أبوه حتى يشتري به من البوفية المدرسية.
وإذا فعلنا هذا انتصر الإسلام، لكن إذا أصبحنا مجرد متفرجين، نقول: المسلمون هناك فيهم وفيهم، والمسلمون في هذا البلد فيهم وفيهم، وفي هذا البلد انتصروا، وفي هذا البلد انهزموا، ولا نملك إلا مجرد الحديث؛ بل -أحياناً- الحديث الذي ينم عن تنقص، ونحن نقول: إن المسلمين مقصرون في كل مكان، لكن يا أخي، المسلمون -الآن- يطلبون منك لقمة العيش، وشربة الماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن امرأة دخلت الجنة في كلب سقته، فشكر الله لها فغفر الله لها} .
فما بالك بالإنسان، أي إنسان أن تطعمه أو تكسوه؟! فما بالك بالمسلم الذي تقوم بينك وبينه روابط الدين والأخوة والعقيدة والإيمان، وبينك وبينه حبلٌ متصل من الله جل وعلا؟ وهو مثلك ينطق بلا إله إلا الله، وإنما أُبيد ليس لعرقه ولا لجنسه، إنما أبيد لأنه يحمل هذه الكلمة، كلمة لا إله إلا الله، فأصبح الصرب يتنافسون في: من يشرب دم المسلم؟ ويسعون إلى إبادة هذا التجمع الإسلامي في أوروبا، والقضاء عليه قضاءً مبرماً.
فالله الله أيها الإخوة! من يملك يدفع، ومن لا يجد الآن فليدفع غداً وبعد غد، والحاجة قائمة، ونحن وغيرنا من الإخوة هنا وفي كل بلد نستقبل التبرعات، وستصل بإذن الله تعالى إلى أهلها ومستحقيها: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272] .
أسأل الله تعالى أن يكفينا وإياكم شح أنفسنا، وأن يجعل ما أنفقناه لنا وأن يخلفه علينا بخير، وأسأله -جل وعلا- أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، كما أسأله سبحانه بأسمائه وصفاته أن يبرم لهذه الأمة أمراً ينصر به مجاهدوها في كل مكان، ويخذل به من حار بها وناوأها، وأسأله أن يولي على المسلمين خيارهم، ويكفيهم شر شرارهم، وأسأله أن يرينا في النصارى، واليهود من عجائب قدرته ما تقر به عيوننا، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(71/17)
حي على الجهاد
تحدث الدرس عن معنى الجهاد وأهميته وبقائه إلى يوم القيامة، وعن الطائفة المنصورة، ثم ذكر أدلة على سعة مفهوم الجهاد وأنه أقسام باعتبارات عدة منها أقسامه باعتبار من يقع عليهم وأقسامه باعتبار الآلة باليد وبالمال، وأقسامه من حيث المرحلية: كَفُّ، وإِذْنٌ، وقتال المقاتل، وقتال المشركين كافة، وأقسامه باعتبار الحكم: فرض كفاية إلا إذا أغار العدو أو أمر السلطان تعين على من عَيَّن السلطان، ثم ذكر واقع الأمة اليوم وتركها للجهاد وسقوط الخلافة وأثره في الجهاد، ثم ختم بأنه لا بد من إقامة حركة إسلامية جهادية.
ثم أجاب على الأسئلة.(72/1)
الاستعداد للجهاد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: سمعتم عنوان هذه المحاضرة أيها الأحبة وهو (حي على الجهاد) فما أدري: هل أنتم مستعدون للجهاد؟ من قال حي على الجهاد تجبه صيحات الدماء لو كنت أشلاء ممزقة بأنحاء الفضاء لم آل جهداً في كفاح مناصب الدين العداء وإذا كنتم مستعدين، فلابد أن نطبق معكم ميزان يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام.(72/2)
مدلول كلمة الجهاد
أحبتي الكرام: الجهاد بحد ذاته كلمه ذات مدلول عميق، وهي من الشعائر العظيمة التي جاء بها دين الإسلام، ولو رجعنا يسيراً الى المعنى والمدلول اللغوي لكلمة (جهاد) لوجدنا أنها مشتقة أصلاً من كلمة (جهد) ، و (جهد) تدل على بذل الجهد، واستفراغ الوسع والطاقة في أمر من الأمور، فأنت تقول: فلاناً أجهد فلاناً يعني اتعبه، وفلان اجتهد في كذا يعني بذل جهده وغايته، فإذا أضفنا إلى أصل معنى كلمة (جهد) لفظ (الجهاد) أو (المجاهدة) الذي يدل على مفاعلة بين طرفين، بأن يبذل شخص جهده ضدك وأنت تبذل جهدك ضده، هذه مثل المقاتلة، فرق بين أن تقول: فلان قتل فلاناً، أو فلان قاتل فلاناً، وفقتله يمكن أن تكون بمعنى أن يجده نائماً -مثلاً- فقتله بالسيف، لكن عندما تقول: قاتله، معناه أن هذا كان معه سيف، وهذا كان معه سيف، فالتقيا، ومازال كل واحد منهما يكر ويفر ويميل يمنة ويسرة على الآخر حتى أمكن منه فقتله.
إذاً (جاهد) تدل على أن هناك طرفاً آخر يقاتل المسلمين، ويؤذيهم، ويحاربهم، والمسلمون مطالبون بأن يواجهوا هذا بالجهاد، مثل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] فقوله (اصبروا) يدل على أن الإنسان يصبر على ما يناله، وما يصيبه، لكن لما قال: {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] معناه أنه لا يكفي الصبر، بل لابد من المصابرة، بمعنى أنكم ستلقون أعداء يصبرون كما تصبرون، فصابروا، أي: اصبروا صبراً فوق صبرهم.
قيل لبعض الشجعان في الجاهلية، وأظنه عنترة بن شداد قيل له: كيف كنت شجاعاً باسلاً؟ وكان عنترة عبداً ليس له قيمة، وفي يوم من الأيام أغار الجيش على قومه، فأمره سيده بأن يوقد النيران ويقاتل، فإن انتصر فهو حر، وهكذا، المهم قيل له: بماذا صرت شجاعاً يشار إليك بالبنان؟ قال: إنني أجد من الألم كما يجد غيري، ولكنني في كل لحظة أصبر نفسي، وأقول: أنتظر ربما تكون هذه اللحظة هي اللحظة التي ينهزم فيها عدوك، فأنتظر لحظة، وهكذا أصبر نفسي حتى يعلن عدوي هزيمته وانتصر أنا، وإلا فأنا أجد من الألم ومس العذاب مثلما يجد غيري.
ولذلك كان من حكمة الله أنه جعل اسم هذا الأمر الذي شرعه لنا من قتال الأعداء وغيره، جعل اسمه (الجهاد) حتى تكون الكلمة بحد ذاتها معبرة، حتى لو لم ترد نصوص صريحة في هذا الباب فإن مجرد هذه الكلمة -كلمة (الجهاد) - ذات دلالات عميقة، كما سيتضح من خلال هذا الحديث العابر.(72/3)
جعل الدنيا تحت القدمين مع استخدامها
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل بنى أو ملك بضع امرأة ولما يدخل بها -يعني رجل عقد على امرأة ولما يتزوجها بعد هذا ينسحب-، ولا رجل اشترى إبلاً أو غنماً وهو ينتظر ولادها ونتاجها، ولا رجل بنى بيتاً ولما يرفع سقفه، فانفض عنه جمع غفير من هؤلاء.
ثم مضى بمن بقي من الجيش، فلما اقترب من القرية التي كان يريد أن يغزوها كان عند صلاة العصر، فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، -يعني جزءاً من الوقت تتوقف الشمس- أو تعود له حتى ينتهي من قتال هذه القرية.
فحبسها الله تبارك وتعالى حتى غزا هذه القرية، وانتصر على أهلها، ثم جمعوا الغنائم في صعيد، -وكان من عادة الأمم السابقة أنهم إذا غنموا غنيمة لا يصيبونها، بل يجعلونها في صعيد، فتأتي نار من السماء فتحرقها- فلما وضعوا هذه الغنائم في الصعيد، انتظروا أن تأتي النار، فجاءت النار ولم تحرقها.
فقال لقومه: فيكم غلول، -فيكم من أخذ من الغنيمة شيئاً-.
ليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يده بيد رجل، فقال: فيكم الغلول -في قبيلتك الغلول- لتبايعني قبيلتك رجلاً رجلاً، فبايعته القبيلة رجلاً رجلاً، فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول ائتوا به، فذهبوا وأحضروا له مثل قرن الثور من الذهب -قد أخذوه وغلوه- فأخذه ووضعه في الغنيمة، ثم جاءت النار من السماء فأحرقتها} .
من كان سيستجيب لنداء (حي على الجهاد) فإنه يحتاج إلى أن يجعل الدنيا تحت قدميه، لا مانع أن يستخدمها، لكن لا يكون عبداً وخادماً لها، وفرق بين من يخدمها، وبين من يستخدمها.(72/4)
ثبات الجهاد واستمراره
ومن أعظم الدلالات التي يدل عليها هذا الاسم الكريم المبارك لهذه الشعيرة العظيمة الجهاد: قضية ثبات الجهاد، ودوامه، واستمراره، وهذه قضيه أعتبر أنها من أعظم وأخطر القضايا التي تحتاج أن نبرزها في هذا العصر، وعندنا نصوص كثيرة، -فضلاً عن مدلول كلمة الجهاد نفسها، التي تدل على دوام المجاهدة، ومقاتلة الأعداء إلى قيام الساعة- فعندنا نصوص نبوية صريحة تدل على ثبات الجهاد، وبقائه إلى يوم القيامة، أذكر منها بعض الأمثلة:-(72/5)
حديث (الخيل في نواصيها الخير)
ومن الأحاديث الدالة أيضاً على بقاء الجهاد إلى قيام الساعة، قوله صلى الله عليه وسلم: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} كما رواه الشيخان، عن ابن عمر، وروياه -أيضاً- عن عروة بن أبي الجعد البارقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم} .
ولماذا كانت الخيل بهذه المثابة؟ لأنه معقود في نواصيها الأجر والمغنم، والمغنم: هو ثمرة من ثمرات الجهاد، وكذلك الأجر: إنما هو ثمرة من ثمرات الجهاد، والخيل: إنما هي آلة من آلات الجهاد أو كانت آلة من آلات الجهاد فيما مضى، في عهود قتال المسلمين الأولين كانت الخيل من أعظم وسائل الجهاد.
كذلك في الحروب المستقبلية التي تكون قبل قيام الساعة، والملاحم الكبرى التي حدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم تستخدم فيها الخيول، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قتال المسلمين مع الروم في دمشق، وفتحهم للقسطنطينية، قبل خروج الدجال، والملاحم الكبرى التي ورد الخبر عنها، فيها ذكر الخيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الفوارس الذين يقاتلون، قال: {إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير الفوارس على وجه الأرض يومئذ أو من خير فوارس الأرض يومئذ} فذكر صلى الله عليه وسلم الخيول، وأنه معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
إذاً، قتال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الأولين كان بالخيول، والملاحم الكبرى التي قبل قيام الساعة ستكون بالخيول، وهذا لا يلزم أن يكون الجهاد بالخيل دائماً: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فليس صحيحاً أن عدونا يواجهنا بالصاروخ، والمدفعية، والدبابة، وغيرها من وسائل الحرب المتقدمة، ونحن نواجهه بالسيف، والخنجر، والخيل، كلا، بل نعد له القوة التي تتناسب مع القوة التي يواجهنا، ويحاربنا بها.
حديث: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} حديث متواتر، رواه أكثر من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث بعضهم في الصحيحين وغيرهما -كما ذكرت- حديث ابن عمر، وعروة بن أبي الجعد البارقي.
ويقول الإمام أحمد، كما ذكر الترمذي: "فقه هذا الحديث أن الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر إلى يوم القيامة".
والبخاري -أيضاً- بوب على هذا الحديث في صحيحه، "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر".
فالإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والبيهقي، وغيرهم من العلماء، فهموا أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، لأنه إنما كانت الخيل كذلك للحاجة إليها في الجهاد، فمعنى هذا أن الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة.(72/6)
حديث (ولكن جهاد ونية)
صنف ثان من الأدلة التي تدل على بقاء الجهاد، واستمراره، ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} .
فقوله عليه الصلاة والسلام: {لا هجرة بعد الفتح} أي: أن الهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة صارت غير واجبة، لأن مكة صارت دار إسلام بفتحها، فلم يعد واجباً على أهل مكة أن يغادروها إلى المدينة، بل يبقوا في مكة.
{ولكن جهاد ونية} وما بعد (لكن) مغاير لما قبلها في الحكم، فلما بين صلى الله عليه وسلم بأنه لا هجرة بعد الفتح، بين أن الأمر الباقي قبل الفتح وبعد الفتح: هو الجهاد في سبيل الله والنية.
فدل الحديث على أن الجهاد باق، باق من ناحية الشرع -كما أسلفت- وباق من ناحية الواقع، كما أن الهجرة نسخ وجوبها من حيث الشرع، ونسخ وقوعها من حيث التاريخ، فإننا نعلم أن المؤرخين إذا قالوا: إن فلاناً من المهاجرين، مثلاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبو عبيدة إلى غير ذلك، يقولون: هؤلاء من المهاجرين، هل معنى ذلك أنهم هاجروا قبل فتح مكة.
ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فإذا قيل: فلانٌ مهاجري، فالمقصود: أنه هاجر قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فليس هناك هجرة، ومن خرج من مكة إلى المدينة لا يسمى مهاجراً حينئذٍ.
إذاً قوله: {لا هجرة بعد الفتح} يعني: لا هجرة شرعية من مكة، ولا هجرة واقعية أيضاً، ولكن الجهاد باق شرعاً، وكذلك هو باق من حيث الواقع، لا يمكن أن تفقده الأمة في عصر من العصور.(72/7)
حديث الطائفة المنصورة
من الأمثلة لهذه النصوص: الأحاديث المتواترة الواردة في شأن الطائفة المنصورة، فقد ورد عن أكثر من عشرين صحابياً، أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بوجود طائفة منصورة باقية إلى قيام الساعة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذه الأحاديث، في مهمات الطائفة المنصورة أنهم يقاتلون أعداءهم، ظاهرين على من ناوأهم.
بل ورد في بعض الأحاديث الواردة، كما في حديث النواس بن سمعان وغيره: {أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد -أي أنه في بعض المعارك لما حصلت هدنة بين المسلمين والكفار، المسلمون وضعوا السلاح، وأذالوا الخيول وآذلوها أي: وتركوها، وأهملوها، وقالوا: لا جهاد، انتهى الجهاد- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبوا! الآن جاء القتال -أي من الآن بدء القتال- ولا يزال الله عز وجل يزيغ قلوب أقوام، ويرزقهم منهم إلى قيام الساعة} .
إذاً فالأحاديث الواردة في الطائفة المنصورة الباقية إلى قيام الساعة، وهي أحاديث متواترة، قطعية الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤكد أن شعيرة الجهاد، شعيرة محكمة، باقية إلى قيام الساعة، أي: أن الجهاد مستمر شرعاً، وواقعاً.
أما من ناحية الشرع، فإن من المعلوم بالضرورة في دين الإسلام، أن الجهاد شعيرة وشريعة، أي لا يمكن أن يأتي شخص ويقول: الجهاد منسوخ، هل يمكن أن يقول أحد: إن الجهاد منسوخ -مثلاً- بآيات الصبر؟ لا يقول أحد ذلك، قد يقول العكس إن آيات الصبر منسوخة بالجهاد وآيات السيف، وهناك من يقول: ليس هناك نسخ، بل هذه في حين، وهذه في حين آخر، لكن لم يوجد ولن يوجد -بإذن الله تعالى- من يقول: إن الجهاد منسوخ ولو قال مسلم ذلك، لكان كافراً مرتداً عن دين الله سبحانه وتعالى.
فقضيه الإقرار بشرعية الجهاد، هذه قضية مفروغ منها في الدين، ومسلمة، وهي من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة، لو أنكرها إنسان لكان يُعلم في ذلك، فإن أصر، فإنه يكون مرتداً، فيقتل مرتداً، فهذا من حيث الشرع هو ثابت، لكن أيضاً من حيث الواقع، حديث الطائفة المنصورة يؤكد أن الجهاد باق، فليس الجهاد أمراً وقتياً كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الخلفاء الراشدين، ثم انتهى، كلا، بل هو باق إلى قيام الساعة.(72/8)
معاني ودلالات بقاء الجهاد
هذه القضية نأخذ منها معاني ودلالات كثيرة فإننا فهمنا من مجموع هذه الأحاديث ومن غيرها ومن أصل كلمة الجهاد، أن الجهاد باق إلى قيام الساعة، نأخذ من ذلك عدة أمور:(72/9)
الإسلام لا ينتصر بالدعوة السلمية
إذاً: من السذاجة بمكان، أن نتصور أن الطبيعة التي حكاها الله عز وجل عن الكفار، واليهود والنصارى والمشركين في القرآن الكريم، أنها يمكن أن تتغير ويمكن في يوم من الأيام، أن نفرض الإسلام عليهم، عن طريق السِلْم، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والبرلمان، والمجالس، ثم إذا بهم بقدرةِ قادر يتحولون إلى مسلمين! هذه سذاجة وبلاهة يطول منها العجب!! ولست أعجب أن تنطلي على سذج ومغفلين، ولكنني والله أعجب أن تنطلي على مفكرين، ويقال لهم فقهاء، ويكتبونها في كتب وتنشر في دوريات، ونشرات، وقد آلمني هذا جداً.
إن طبيعة الكفر -أيها الأحباب- واحدة، فالكفر الذي واجهه الأنبياء هو الكفر الذي نواجهه الآن {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] فإذا قامت للإسلام دعوة حقيقية، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله، والدعوة الصادقة إلى الله عز وجل، إن كانت صادقة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: بأنه لا بد وأن يكون لها أعداء من المجرمين، وهؤلاء الأعداء بطبيعة الحال لا أعتقد، ولا يعتقد معي عاقل، ولا مجنون أنهم سوف يقفون مكتوفي الأيدي، هؤلاء الأعداء شأنهم كما ذكر الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .
فهم يمكرون، ويكيدون، ويتآمرون، ويخططون، ولم يجلسوا، بل على العكس نحن الجالسون، أما هم لا يزالون يكيدون مع أن المسلمين شبه نائمين، إلا أن أعداءهم يكيدون لهم كيداً، خشية أن يستيقظوا من غفوتهم ونومهم، فما بالك لو استيفظ المسلمون فعلاً، واستردوا بعض عافيتهم، لوجدنا العداوة الصريحة المعلنة، ووالله إن كل هذه العبارات التي أصبحوا يدندنون بها الآن، ويرددونها في أجهزتهم، وصحافتهم: قضية حقوق الإنسان، وحرية الإنسان، وكرامة الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، ومثل هذه العبارات الرنانة، هذه -والله- كلها حبر على ورق، والدليل على ذلك أنه لم يلتزم بهذه القضايا إلا المسلمون.
الآن قضية ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع الجهاد، ويحرمه -ومع الأسف- يوقّع عليه المسلمون، وهو يعتبر أن الجهاد نوع من القرصنة الإقليمية، والاعتداء على حقوق الآخرين، وأن المنازعات بين الدول يحب أن تحل بالطُرق السِلْمِية، لأن النزاع يهدد الأمن والسلام والدوليين كما يقولون.(72/10)
الإسلام دين الجهاد
إن الذين التزموا بالامتناع عن الجهاد، والقتال، بل وحتى الدفاع عن أنفسهم هم المسلمون فحسب، أما الدول الكافرة ومن يدور في فلكها، وأعداء الإسلام، واليهود وغيرهم، فإنهم يمارسون ما يريدون في قضية قتال الأمم المسلمة، ونهب أراضيها، والاعتداء عليها، ويعلنون ذلك صراحة، وما تفعله إسرائيل مثلاً أمر لا يحتاج إلى بيان، بكل بساطة في رحلة آمنة هادئة.
الطيارات الإسرائيلية تضرب العراق، ثم تذهب مرة أخرى، لتضرب في تونس، ثم تضرب في لبنان، وقد تهدد أي بلد عربي بكل سهولة، ويعتبرونها رحلة للمتعة، هذا لا يستنكرونه ولا يستغربونه، ولا يرون فيه بأساً، لماذا؟ لأن الذين قاموا به ليسوا من المسلمين، ولا يُعْتَبرُ هذا إخلال بمواثيق الأمم المتحدة في نظرهم وفي مقاييسهم.
فرنسا حين تخوفت من انتصار الإسلام في الجزائر، هدد رئيس الدولة بأنه في حال انتصار الإسلام في الجزائر، أن فرنسا قد تتدخل بصورة مباشرة.
أين مواثيق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، والحدود الدولية، وعدم التدخل في شئون الآخرين، أين هذا كله؟! الآن في السودان حيث يُوجد حكم يُعلن بعض الجوانب الإسلامية، ويخشون أن يكون هذا الحكم له جذور إسلامية، أصبحنا نجد حرباً عالمية معلنة على هذه الدولة، أين حقوق الإنسان؟! وأين مواثيق الأمم المتحدة؟! وأين قضية عدم التدخل في شئون الآخرين؟! كل ذلك ذهب أدراج الرياح، هذا خاص بالمسلمين.
إذاً: من السذاجة أن نتصور أن الإسلام ينتصر، وينتشر عن طريق الدعوة السلمية فقط، الدعوة السلمية لا بد منها، وهذا صحيح، وحتى في القتال فإن المسلم مطالب بأن يدعو هؤلاء إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، كما في حديث بريدة في صحيح مسلم: {إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم وذكر الإسلام، ثم الجزية، ثم القتال} .
فنحن نقول: لسنا نقاتل الناس حتى ننهب أموالهم، لا، بل نحن ندعوهم حتى يكونوا مسلمين، نعرض عليهم الإسلام، لكن نعلم من دين الله وشرعه، ونعلم من حقائق التاريخ وتجارب الواقع أن هذا الدين لا يمكن أن يستقر أمره إلا عن طريق الطائفة المنصورة التي تحمل راية الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.(72/11)
لا بد من قتال الكفار وأهله
أودُّ أن أشير إلى استدراك أخشى أن يفهم من كلامي، حين تحدثت عن قضية البرلمانات، والمجالس، وغيرها، يوجد في بعض البلاد الإسلامية برلمانات، ومجالس أمه، ومجالس نيابية، وما أشبه ذلك، ويكثر السؤال عنها يجوز، أو لا يجوز؟ أود أن أقول: إنني لا أقصد مثل هذا النوع، ولا أتحدث عنه لا تحريماً ولا تحليلاً، هذه قضية يبحثها المختصون، ويقولون فيها رأيهم وكلمتهم، لكن أقصد أن هذا الأسلوب حتى حين نقول أنه يجوز، ليس المعنى أننا نعتمد هذا الأسلوب للدعوة إلى الله عز وجل ونعتقد أن هذا الأسلوب يغني عن القتال، أريد أن أؤكد أن أعداء الله عز وجل وهو أصناف من اليهود، والنصارى والمشركين، والشيوعيين، والوثنيين، إلى غيرهم، كل هؤلاء لا يمكن إلا أن يقاتلونا، حتى وإن لم نقاتلهم فإنهم سوف يقاتلوننا، فلابد من الجهاد في سبيل الله عز وجل، هذه قضية مهمة وإن كانت نظرية إلى حدما، ولكن أحببت أن أتحدث عنها؛ لأني لا حظت فيها انحرافاً كبيراً وخطيراً عند كثير من الشباب، وفي كثير من الكتب والداراسات.(72/12)
الولاء والبراء عند عوام المسلمين
أقول أيها الأحبة: حتى لو أنك أتيت إلى جمهور المسلمين -اذهب إلى أي بلد إسلامي- إلى الجمهور فقط، لا تذهب إلى العلماء، والفقهاء، والمختصين، اذهب إلى العامة -العوام- اجلس معهم، انظر إلى كثير من هؤلاء، قل لهم: ما رأيكم في النصارى؟ ما رأيكم في اليهود؟ ما رأيكم في الشيوعيين؟ تجد كثيراً من عوام المسلمين اليوم، أصبحوا يجهلون وجوب عداوة الكفار والبراءة منهم، والولاء والبراء لا يعرفونه.
بل قد تجد المسلم يعيش إلى جنب اليهودي، وإلى جنب النصراني، والمشرك، والشيوعي، سواء بسواء، وتحت سقف واحد، يأكلون طعاماً واحداً، ويشربون ماءً واحداً، وبينهم من الألفة والمودة الشيء العظيم، كأنهم إخوة، حتى عوام المسلمين اليوم ضاعت منهم معاني الولاء والبراء، وفقدوا إحساسهم بالتميز بالدين، فلا عبرة بكون عوام النصارى -مثلاً- في أمريكا، وأوروبا وغيرها، أصحبوا لا يحملون عداوة صارخة واضحة للمسلمين، هذا صحيح، فقد يوجد في طبقات منهم، لكن العبرة بأمور: أولها: أن هناك قيادات مستفيدة، تحرك هؤلاء الناس، مثلما كان القسس والرهبان يحرضون أوروبا، أيام الحروب الصليبية، ويحركونها لتأتي لغزو المسلمين، كذلك يوجد في كل عصر، وفي كل زمان، وفي كل مكان زعماء دينيون، وزعماء سياسيون، وزعماء اجتماعيون، إذا جاء وقت الحاجة حركوا عواطف الناس، وحرضوهم وجمعوهم على العداء، والكراهية، والبغضاء للمؤمنين والمسلمين، هذا جانب.
الجانب الثاني: أن هؤلاء الدهماء والعوام من الناس، وإن كان عداؤهم وبغضهم للإسلام مستخفياً، إلا أنه قابل للتحريك في أي وقت.
ولذلك قد تجد -بالنسبة للمسلمين- مسلماً لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج البيت الحرام، وليس عنده خوف من الله عز وجل، لكن لو حصلت حرب بين قبيلة من المسلمين الذين يعيش بينهم، وبين قبيلة أخرى من الكفار، تجده يخوض المعركة مع قومه من المسلمين، إما بالحمية، وإما بالعصبية لقومه، من هذا الباب وليس من باب العصبية لله ورسوله، ولذلك {جاء رجل يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} .
أحياناً إنسان تحركه الحمية لقومه والعصبية لدينه وإن لم يكون متمسكاً بهذا الدين، فهكذا بالنسبة لأولئك النصارى، واليهود، وإن كان بغضهم للإسلام مستتراً، مستخفياً، إلا أنه قابل للتحريك والإثارة في أي وقت من الأوقات.(72/13)
العداء للإسلام يبرز في كل وقت
فمن البلاهة والسذاجة بمكان، أن نتصور أن هؤلاء سيصبحون غنيمة باردة للمسلمين، بل نحن نجد أن العداء للإسلام يبرز في كل وقت، وفي كل مناسبة، يبرز بشكل واضح، ما هو الذي حرك فرنسا كلها؟! من أجل ثلاث فتيات مغربيات أردن دخول المدرسة بحجاب، وهو نوع من الحجاب الشرعي، وليس فيه غطاء الوجه.
لكن حجاب بغطاء الشعر، فرفض مدير المدرسة، وتطورت القضية إلى مدير التعليم، ثم إلى وزير المعارف، ثم إلى مجلس الوزراء، ثم إلى رئيس الدولة، وصارت قضية صحفية، بدأت ولم تنته، وفي النهاية لم تمكّن هؤلاء الفتيات من دخول المدرسة بالحجاب الشرعي، إما أن تخلع الحجاب، وتكشف عن شعرها، وإما أن تحرم من دخول المدرسة، واضطرت هؤلاء الفتيات الثلاث إلى أن يدخلن المدرسة، ويخلعن الحجاب عن شعرهن، ما هو الذي حرك فرنسا الدولة الصليبية من أقصاها إلى أقصاها! كانوا يقولون: إن فرنسا أم الحرية، وفرنسا بلد، العري فيها مباح، حتى في أجهزة إعلامهم، وفي أسواقهم، وفي كل مكان تواجه المرأة العارية، البلد الذي يبيح حرية التعري، أصبح يغضب ويثور وتتحرك أجهزته كلها: الإعلامية، والإدارية، من أجل ثلاث فتيات أردن دخول المدرسة بغطاء الرأس، لماذا كل هذا؟! ما هو الذي جعل بريطانيا تتحرك، وتثور من أجل قضية سلمان رشدي وهو شخص واحد وليس قضية سياسية، ولا يمثل جهة سياسية، لكن لأنه تحدى مشاعر المسلمين، وأهانهم، وانتهك حرمات الأنبياء والمرسلين، وأساء إلى الصحابة، وإلى أمهات المؤمنين، وجرح شعور كل مسلم، أثاروا هذه القضية على أوسع نطاق، وجعلوها ضربة لازمة على المسلمين، وتحركت أجهزة كثيرة: سياسية، وصحفية، واستغلت هذا الحادث أبشع استغلال.
ما هو الذي يجعل روسيا -الآن- تعامل الجمهوريات النصرانية معاملة، وتعامل الجمهوريات الإسلامية معاملة أخرى؟! فالجمهوريات النصرانية، يأتي رئيس الدولة ويقال له نرحب بك كرئيس دولة صديقة، ويجلس للمحاورة والمشاورة والمداورة معهم.
ثم الدول الغربية كلها تقف إلى صفها، وتهدد روسيا إذا استخدمت القوة في حقها، في حين أن حركة المسلمين تسحق بالقوة والدبابات، ولا أحد يتحرك، لقد عامل الروس النصارى معاملة غير معاملة المسلمين، والقوة الغربية كلها تحركت من أجل النصارى، ولم تتحرك من أجل المسلمين، بل هي تساند هذه الخطوات.(72/14)
طبيعة الكفر واحدة
أول هذه الأمور: أن طبيعة الكفر واحدة، فالكفر الذي واجهه موسى عليه السلام، والذي كانت لهجته {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] وكانت لهجته {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وكانت لهجته {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] هذا الكفر: هو الذي واجهه إبراهيم عليه السلام، والذي كان قومه، يقولون: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] هذا الكفر هو الكفر الذي واجهه عيسى عليه السلام، وهو الكفر الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] .
هذا حكم إلهي على الكافرين، ويقول جل وعلا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ويقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] ويقول: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ولو أسرد لكم الآيات القرآنية التي تبين طبيعة الكفر؛ لانتهى المجلس قبل أن نكمل هذه الآيات.
قد يتخيل بعضكم أن هذه قضيه بديهية، وهي كذلك قضية بديهية، لكن المؤسف أننا في هذا العصر أصبحنا بحاجة إلى التركيز على البديهيات، حتى يفهمها الناس ولا يقبلوا فيها أي تراجع.
وقد وقع في يدي عدد من الكتب التي كتبها -مع الأسف- بعض الفقهاء، وبعض المفكرين المعاصرين، فوجدت أنهم يطرحون قضية الجهاد طرحاً ميتاً متماوتاً، مخذولاً مهزوماً، يقول لك: الأصل المسالمة مع الكفار، والأصل أننا ندعو وننشر الإسلام بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالسلم، وبالدعوة السلمية، أصبح كثير -لا أقول من عامة المسلمين بل من دعاة الإسلام في هذا العصر- يتصورون أنه من الممكن عن طريق الدعوة السلمية، والوسائل السلمية، أن أمريكا تسلم، ثم بريطانيا، ثم فرنسا، ثم ألمانيا، ثم روسيا.
والحمد الله رب العالمين، وتنتهي هذه القضية، ولا نحتاج إلى رفع راية الجهاد، ولا نحتاج إلى حمل السيوف للقتال، يتصور بعض البله والمغفلين مثل هذا الأمر، والواقع أن الذي يقرأ القرآن الكريم قراءة واعية، لا يحتاج إلى كلام، ولا إلى بيان خلاف ذلك، مثل من يتصورون -أيضاً- أنه قد يوجد في كل بلد من بلدان العالم أحزاب تنادي بالإسلام، ثم تطرح برنامجها في الإصلاح الزراعي، وبرنامجها في الإصلاح الإداري، وبرنامجها في الإصلاح السياسي، وبرنامجها في الإصلاح الاقتصادي، ثم تستقطب الناس شيئاً فشيئاً، ثم تطرح نفسها بالترخيص الرسمي لها، فتدخل البرلمانات والمجالس النيابية، وغير ذلك، وتبدأ شيئاً فشيئاً تطرح الإسلام، حتى تفرض الإسلام من خلال المجالس النيابية، ومن خلال القنوات الرسمية -كما يقولون- وبهذا نستطيع -كما يتصورون- أن نفرض الإسلام على أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وغيرها من بلاد العالم.
هذا في الواقع سذاجة كبيرة، وقد لاحظتها ولمستها على بعض الذين يعايشون الكفار في أوروبا، وأمريكا، يقولون هؤلاء الكفار سذج، ما عندهم شيء، وليس عندهم عداء صريح للإسلام.(72/15)
ضيق مفهوم الجهاد عند الناس
في موضوع الجهاد، وحي على الجهاد، قضية أخرى، حين يسمع بعض الشباب هذا العنوان، (حي على الجهاد) يتصورون أن المقصود الجهاد في أي بلد؟ في أفغانستان، وهذا يؤكد أنه حصل في مفهوم الجهاد ضعف وتحجر، مثلما حصل في مفاهيم الإسلام الأخرى، فعندما تأتي إلى مفهوم العبادة تجد انحرافاً في مفهوم العبادة، بحيث ضيقوها وصاروا يظنون أن العبادة: هي الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج فقط، مع أن المفهوم أوسع من ذلك.
وهناك مفاهيم كثيرة في الإسلام تجدها ضيقت، كذلك مفهوم الجهاد أصبح كثيرٌ من الناس يظنون أن الجهاد هو القتال، مع أن القتال صورة واحدة فقط من صور الجهاد، ثم تحجر الجهاد -فجأه- فأصبح الجهاد في مفهوم كثير من الشباب هو الجهاد في أفغانستان لا غير، وهذا غلط كبير، تجد أحياناً يرد سؤال يقول: ما حكم الجهاد؟ السائل يريد أن يقول ماذا ترى في الجهاد في أفغانستان، هل هو فرض عين، أم فرض كفاية؟ وفي ذهنه أن الجهاد يعني: الجهاد في أفغانستان، أو فلان ذهب للجهاد يعني الجهاد في أفغانستان، وهذا خطأ وخطر يجب استدراكه، الجهاد أوسع من ذلك بكثير، ولنستمع إلى هذه النصوص:(72/16)
المعركة الخارجية
خذ مثلاً آخر -ولم أرد إلا التمثيل فقط بأحاديث في صلب الموضوع-: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم} وهذا الحديث، رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه الحاكم والذهبي والنووي وغيرهم من أهل العلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد المشركين بالمال، وبالنفس، وباللسان.
إذاً، الجهاد مفهومه أوسع مما يتصور الكثيرون.(72/17)
المعركة الداخلية
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: {ألا أخبركم بالمؤمن، قالوا: بلى يا رسول الله، قال المؤمن: من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ألا أخبركم بالمجاهد، قالوا: بلى يا رسول الله، قال المجاهد: من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب} وحديث فضالة هذا رواه الإمام أحمد في مسنده وسنده صحيح: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله تعالى} فهذا نوع من الجهاد، وإنما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وحصر وقصر الجهاد فيه، في هذا الحديث، لعظمتة وأهميته، ولأن جهاد الأعداء يفتقر إلى جهاد النفس، فالذي ينهزم في معركته الداخلية مع نفسه؛ ينهزم في معركته الكبرى مع العدو.(72/18)
أقسام الجهاد
ولذلك أشير إشارة سريعة -بقدر ما يتسع الوقت- إلى قضية أقسام الجهاد حتى ندرك أن الجهاد شامل -كما ذكرت- فالعلماء أحياناً يقسمون الجهاد بحسب من يقع عليه الجهاد، فيقولون مثلاً:(72/19)
أقسام الجهاد من حيث المرحلية
أما من حيث الناحية المرحلية فقد مر بأربع مراحل: المرحلة الأولى: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] .
المرحلة الثانية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] .
المرحلة الثالثة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] .
المرحلة الرابعة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] .(72/20)
أقسام الجهاد باعتبار الحكم
أما باعتبار الحكم الثابت المستقر فإنه متى كان المسلمون مستطيعين، فإن الجهاد واجب عليهم، والدليل على وجوبه - وهو من أقوى الأدلة- وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {من لم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من نفاق} .
إذاً: كل مسلم لا بد أن يغزو أو يحدث نفسه بالغزو، والغزو معناه واسع، ليس معناه أن تحمل متاعك وتقول: توكلنا على الله، نعم، هذا من الغزو، لكن الجهاد في سبيل الله مجاله -كما أسلفت- واسع.
لكن ليس معنى ذلك أنه فرض عين، لا، إنما هو فرض كفاية، والدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] معنى الآية أي: ما كان المؤمنون ليخرجوا إلى الغزو والجهاد كلهم أجمعون، وَيَدعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلا، لكن يخرج من كل فرقة منهم طائفة، ويبقى بقية يتفقهون في الدين، ويتعلمونه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، هذا أحد المعاني في الآية.
إذاً يخرج جماعة إلى الجهاد وجماعة يخرجون لتعلم العلم الشرعي.
ومع الأسف، أصبح بعض الشباب يهونون من العلم الشرعي، يقولون: نخرج للجهاد، وبعضهم يهونون من أمر الجهاد، يقولون: نخرج للدعوة، ومن الطرائف: يقول لي أحد الشباب: أن جماعة من الدعاة إلى الله تعالى، ذهبوا إلى المجاهدين الأفغان: عبد رب الرسول سياف، وحكمتيار، ورباني وغيرهم، وألقوا مواعظ عليهم، وقالوا: نريد منكم أن تخرجوا في سبيل الله، قالوا: ونحن ماذا نفعل؟! أنحن نجلس نلعب الورق! أونأكل الفصفص! أو ماذا نفعل؟! ماذا يكون الجهاد إن لم يكون هو العمل الذي نحن فيه؟! فالمشكله أن كل إنسان أخذ بجزء وغفل عن الجزء الآخر، فهذا من التحجيم والتحجير لمفهوم الجهاد -كما أسلفت-.
من الأدلة -أيضاً- على أن الجهاد ليس فرض عين، وإنما هو فرض على العموم، على الكفاية، حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم قال عليه الصلاة والسلام: {يخرج من كل رجلين رجل، والأجر بينهما} فلو كان الجهاد واجباً على كل فرد لم يكفِ أحدهما عن الآخر، لكنه يتعين في حالات: منها: عند النفير، إذا عين الإمام أشخاصاً، أو أمة، أو فئة، أو طائفة، فطلب منهم النفير؛ فيجب على من عينه الإمام أن يخرج لقوله عليه الصلاة والسلام: {وإذا استنفرتم؛ فانفروا} .
ومنها: إذا هاجم العدو بلداً؛ وجب على أهل ذلك البلد دفعه.
ومنها: إذا حضر الإنسان الجيش عند القتال وتلاحم الصفان والتقى الجيشان؛ فلا يجوز الفرار حينئذٍ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] .
ففي هذه الحالات الثلاث يصبح الجهاد فرض عين على من تعين عليه، وليس على جميع الناس.
وأستبعد -والله تعالى أعلم- أن توجد حالة يكون فيها الجهاد فرض عينٍ على أعيان وأفراد الأمة كلها، فلا أعتقد أن هذا يقع في حال من الأحوال.(72/21)
أقسام الجهاد باعتبار الآلة
هناك تقسيم آخر للجهاد، وهو تقسيم الجهاد باعتبار الآلة، هناك جهاد اليد، وجهاد اليد: يكون بحمل السيف، أوالبندقية، أو المدفعية، أو الرشاش أو غيرها، وهناك أيضاً جهاد اللسان: يكون بالكلمة الطيبة، بالنصيحة، بالدعوة، بالأمر بالمعروف، بالنهي عن المنكر، بالإصلاح، بالتوجيه، بقدر ما يستطيع الإنسان، وهناك الجهاد بالمال.
أ/ دعم الجهاد بالمال: ومع الأسف حين نقول الجهاد بالمال ماذا يفهم الإنسان؟! يفهم الجهاد بالمال أنه يدفع تبرعات للمجاهدين، وهذه صورة لا أقلل من شأنها، يجب دفع الزكاة وغيرها للمجاهدين في أفغانستان، والمجاهدين في كل مكان، ويجب دعمهم، وحين يصاب المسلمون المجاهدون في أفغانستان، أو غيرها بهزيمة، بسبب قلة ما في اليد، فإننا جميعاً --ممن يستطيع- مؤاخذون بهذا الأمر ومطالبون به، والآن من أخطر القضايا التي تهدد المجاهدين في أفغانستان قضية المجاعة، أصبح المجاهدون في بعض المناطق يلقون سلاحهم ويستسلمون لأنهم لم يجدوا لقمة العيش التي يأكلونها، -ومع الأسف- تجد كثيراً منا يتقلبون في ألوان النعيم، لو حسبنا وجبة -الطعام الغذاء والعشاء التي تقدم لنا- تجد أن الوجبة لا تقل عن عشرة أنواع، أو خمسة عشر نوعاً، وقد نلقي بها في الزبالة إذا انتهينا منها، وفي بعض المناسبات يحمل الطعام الكثير، ويلقي به أكواماً في الشوارع، أو في البيارات، في الوقت الذي هناك الكثير من المسلمين المجاهدين، من الذين يقاتلون بالنيابة عنا، يموتون جوعاً.
ولذلك أقول: من أعظم ألوان الجهاد الجهاد بالمال، ومن الجهاد بالمال، أن تدفع المال للمجاهدين في أفغانستان، أو فلسطين، أو في الفلبين، أو في غيرها، متى وجدت السبيل الذي تطمئن إن شاء الله إلى أنه يوصل المال فعلاً إلى هؤلاء، لكن، ليس هذا هو المجال فقط.
ب/ دعم المشاريع الإسلامية: إلا تعلم أخي الكريم، أنه يوجد لا أقل مئات، ولا أقول ألوف، بل ربما أقول: عشرات الألوف وقد وقفت بنفسي على أشياء كثيرة، من هذا القبيل، من المشاريع الإسلامية العظيمة، لا يحول بينها وبين أن تقوم وتثمر وتؤدي دورها إلا قلة المال، كم من مدرسة في العالم الإسلامي، وفي الجاليات الإسلامية، في البلاد الغربية تحتاج إلى الدعم المالي، وكم من مؤسسة، وكم من جمعية، تستطيع أن تقوم بدور جبار، وهيئة الإغاثة الإسلامية لها جهود مشكورة في هذا المجال، لكن لازالت الجهود أقل مما يجب بكثير، يقولون أحياناً أعطونا فقط مناهج دراسية، ولا نريد مناهج لكل طالب، نريد نسخة واحدة فقط، يتداولها الأساتذة، وعند الحاجة نصورها للطلاب، وبكل أسف أذكر لكم قصه عجيبة: في أحد البلاد، أعتقد أنه في بلد غربي، في فرنسا، طلب مجموعة من المسلمين كتاباً، وما هذا الكتاب؟! إنه كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فجاءوا إلى عدد من الذين يمثلون المسلمين هناك، في السفارات التي تمثل البلاد الإسلامية، قالوا: نريد كتب، قالوا ماذا تريدون؟ قالوا: نريد كتاب التوحيد.
قالوا: ندرس الموضوع إن شاء الله، المهم شهر أو شهرين أو ثلاثة لم يجيء الكتاب، في يوم من الأيام كان هؤلاء المسلمون جالسون في مدرستهم، أو في مؤسستهم، فأتاهم جماعة من الشيعة، وقالوا لهم: نحن إخوانكم وعرضوا عليهم المساعدة، جاءوا إليهم، وقالوا: عندنا استعداد أن ندعمكم، ونمدكم بما تريدون، وكذا، وكذا.
قالوا: نريد كتب، قالوا: أي كتب.
قالوا: من ضمنها كتاب التوحيد.
قالوا: موجود عندنا حتى كتاب التوحيد يوزعونه ذراً للرماد في العيون، فأتوهم بكميات كبيرة من كتاب التوحيد.
وقالوا: هذه هدية منا، طبعاً بعد كتاب التوحيد ليس هناك مانع غداً يأتون لهم بكتاب تحرير الوسيلة، وبعد غد كتاب الكافي، وبعده، وهكذا يعطونهم الكتب السيئة، فيهدمون ما بنوا، المهم يريدون مدخلاً إلى هؤلاء القوم، -فمع الأسف- نشكو إلى الله ضعف التقي وجور الفاجر.
وأقول لبعض الإخوة، في بعض المناسبات، بكل أسف الإحصاءات الرسمية تقول: إن عدد المسلمين، كم يا إخوة؟ ألف مليون -مليار- ألف مليون مسلم، لو تصورنا ألف مليون مسلم، نريد من كل واحد منهم ريالاً واحداً فقط، نريد حملة تبرعات -ريالاً واحداً- معناه في حملة واحدة، بكل سهولة تجمَّع عندنا ألف مليون ريال، هذه تقيم مشاريع وهائلة جبارة، وريال ماذا يضر الواحد منا، يعطي طفله عشرة ريالات ولا يلتفت، خمسين ريال ولا يلتفت، إذا صاح سكته بخمسين ريال، ريال واحد ما يضر! لكن المشكلة، مشكلة السلبية من جهة، ومن جهة أخرى ضيق الأفق، فنحن نتصور أن الجهاد بالمال محصور في أمور معينة لا يتعداها.(72/22)
أقسام الجهاد باعتبار من يقع عليهم الجهاد
الجهاد ينقسم باعتبار من يقع عليهم الجهاد إلى أقسام: أولاً: جهاد النفس: بتعلم العلم، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على ذلك، أربع مراحل: العلم، ثم العمل، ثم الدعوة، ثم الصبر، وكل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى تربية، وجهود، هذا نوع.
النوع الثاني: جهاد الشيطان: بعصيان وسوسته، ومخالفة أمره.
النوع الثالث: جهاد الكفار، وهذا ظاهر.
النوع الرابع: جهاد الفساق والظالمين: وهذا يكون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل فهو نوع من الجهاد.
النوع الخامس: جهاد المنافقين: وهذا يكون بكشف ألاعيبهم، وفضحهم وبيان مؤامراتهم؛ لأنهم يبغون في المسلمين غائلة السوء، ويخططون، ويتآمرون للقضاء على الإسلام، فلابد من جهاد المنافقين فهذه نماذج من أنواع الجهاد باعتبار من يقع عليه.
فهل يصح أن نتجاهل جهاد المنافقين، ونتفطن إلى جهاد الكفار؟ مع أن جهاد الكفار هو في موقع واحد أو موقعين أو ثلاثة، لكن جهاد المنافقين في كل مكان، أستطيع أن أقول لكم: لا يكاد يوجد في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، لا بلد، ولا مدينة، ولا قرية، بل ربما أحياناً ولا مؤسسة، إلا ويوجد فيها منافقون يسعون لتوجيه هذا البلد، أو هذه الدولة، أو تلك المؤسسة، أو المدرسة إلى الوجهة التي تخدم أغراضهم، فيخططون، ويتآمرون، وهذا أمر ملموس، فمن لهؤلاء المنافقين، كيف نتجاهل هذه الثغرات المفتوحة في كل مكان؟! مثلاً: جهاد المنافقين من خلال أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي، فإنهم أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي فيها جهاد الكفار وفيها جهاد النافقين، نستطيع أن نقول ذلك، فجهاد الكفار من أبرز صوره -مثلاً- ما يمكن أن يسمى اليوم -بما يعبرون عنه- بالبث المباشر؛ لأنه عبارة عن بث من قبل الدول الكافرة إلى البلاد الإسلامية، فهو يعني جهد إعلامي من الكفار يحتاج إلى مقابلة من المسلمين، لكن هذا الجهد حتى الآن لم يحدث بصورة واضحة، صحيح إنه يقال أنه يوجد في بعض دول المغرب العربي، لكنه لا يزال حتى الآن خوف وقلق أكثر منه حقيقة واقعية، إنما الحقيقة الواقعة منذ عشرات السنين هي أن المنافقين في كثير من بلاد العالم الإسلامي، استطاعوا أن يتسللوا إلى أجهزة الإعلام، ويجعلوا منها أبواقاً لحرب الإسلام، كم من مسرحية -مثلا- قدموها للاستهزاء بالمشايخ والعلماء، أو ما يسمونهم بالملالي جمع ملا، ورجال الدين كما يعبرون، وتصويرهم بأنهم عبارة عن مجموعة من الدراويش، والجهلة، والأغبياء، وفي نفس الوقت يقدمون الفنانين، والمطربين، وأهل الرياضة، وغيرهم على أنهم هم القدوة، وهم الأبطال، الذين يقتدي بهم الجيل.
وكم من منافق تسلل من خلال هذه الأجهزة، ليسمع المسلمين والمسلمات كلام الفحش، والزور، والخنا، ويربي شباب المسلمين وفتياتهم على عبارات العشق والغرام، وبحيث يصبح لا هَمّ لهم، إلا ترديد مثل هذه الكلمات، والحديث عن قضية اللقاء، وحسرة الوداع، وصفات المحبوبة، وكيفية اللقاء بها، وإلى غير ذلك، حتى مسخوا الأنظمة الموجودة في بلاد المسلمين، وغيروا أوضاع المسلمين، وقلبوها رأساً على عقب.
أصبح في كثير من البلاد لا مانع للمرأة أن تخرج بمفردها، وتسافر بمفردها، أو تخرج مع رجل أجنبي، وتكشف شعرها، أو جزءاً من بدنها، أصبح هذا أمراً عادياً، وقد رأيناه في بلاد المسلمين، وقد رأيت بعيني في بلد إسلامي هائل، فيه أكثر من مائه مليون مسلم، الولد يلبس بنطلوناً تحت الكعب، والبنت تلبس ثوباً إلى الركبة، هذا لباس رسمي يذهبون به إلى المدرسة، عدا الأشياء العادية، العجب من هذا اللباس الرسمي فالولد يذهب إلى المدرسة بالبنطلون تحت الكعب، والبنت تلبس ثوباً إلى الركبة، فإن كانت من الورعات، أو كانت من بنات الناس الذين يقال إنهم من أهل الخير، فتنزل الثوب إلى نصف الساق، هذا رأيناه بأعيننا في بلاد الإسلام، مئات الملايين تربت على هذه التقاليد والأخلاق.
إذاً: من لهؤلاء المنافقين الذين تسللوا إلى كل بيت، وإلى كل عقل ومخ، وإلى كل قلب، وإلى كل أسرة، وإلى كل مكان؟! من لهم؟! أين نحن؟! كيف نتفطن إلى قضية جهاد الكفار عن طريق -مثلاً- ما يسمى بالبث المباشر، ونغفل أو ننسى قضية جهاد المنافقين والفاسقين الذين هم منذ سنين طويلة يهيمنون على مثل هذه الأجهزة في بلاد الإسلام، ويبثون منها، ومن خلالها ما شاءوا.
ومن الغريب والطريف أن بعض الحلول لما يسمى بالبث المباشر أنه تربط القنوات العربية بعضها ببعض، بحيث تصبح القنوات العربية، كلها يمكن أن يتاح للإنسان أن يشاهدها في كل مكان، والواقع أن كثيراً من القنوات العربية فيها أسوأ مما في البث المباشر، لماذا؟ لأنه إن أتينا في مجال الصورة -مثلاً- وهي من أخطر الأشياء لأن الشباب يفتتن بها، فالواقع أن الإنسان إذا رأى صورة امرأة بلباس النوم أحياناً، فقد تكون الإثارة أكثر من لو رأى امرأة عارية، فالخطر لا يقل، وإن أتينا من حيث مسخ التقاليد الإسلامية، فهو موجود، وإن أتينا من حيث الشبهة فهي موجودة.
على كل حال، فأنا لا أقلل من خطورة البث المباشر، وليس هو موضوع المحاضرة، لكن قصدي أن أقول: إنه -أحياناً- نحن نتفطن إلى خطر، ونغفل عن خطر آخر لا يقل عنه، أو نتنبه إلى أمر ونغفل عن أمر لا يقل عنه، فمثلاً نتفطن لقضية جهاد الكفار في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في إرتيريا، أو في الفلبين، وهذا واجب لا يشكك فيه أحد، لكن -أيضاً- يجب أن نتفطن إلى جهاد المنافقين الذين يوجدون في كل زاوية وشارع، وفي كل بيت ومدرسة إلا من رحم الله، نتفطن لجهاد المنافقين، نتفطن للفاسقين، فهذه ألوان من أنواع الجهاد باعتبار من يقع عليهم الجهاد.(72/23)
واقع الأمة مع الجهاد في سبيل الله
أريد أن أشير في النهاية إلى قضية تتعلق بواقع الأمة في موضوع الجهاد في سبيل الله، واقع الأمة تركت الجهاد تشريعاً وتنفيذاً، إذا كنت قلت لكم: إن الجهاد باق من حيث الشرع، وباق من حيث الواقع العام، فإن الأمة في هذا الوقت بالذات، تركت الجهاد من حيث الشرع، والتشريع، والتنفيذ.
أما من حيث التشريع، فإن الأمة وقَّعت كما ذكرت ميثاق الأمم المتحدة الذي يلغي الجهاد ويعتبر الجهاد جريمة، فكأن المسلمين عطلوا الجهاد تشريعاً، ولا أعتقد أن مسلماً يكذب بوجوبه، لأنه يرتد حينئذٍ، لكن المهم أنهم وقّعوا على هذا الأمر، واعترفوا به على الأقل علانية.
أما من حيث التنفيذ، فإن المسلمين قد آل بهم الضعف، والقلة، والذلة، وغلبة العدو، إلى الحد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثين عظيمين جليلين.
أولهما: حديث ابن عمر رضي الله عنه وهو صحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} لاحظ الحديث {تبايعتم بالعينة} يعني: الربا.
وهذا تعبير نبوي، معناه تعاملتم بالربا، وتحدث ما شئت عن قيام الاقتصاد في البلاد الإسلامية كلها على الربا، هذه واحدة، {ورضيتم بالزرع} الزرع أيضاً نموذج ومثال للدنيا والتعلق بالدنيا، ليس ضرورياً الزرع فقط، الذي يرضى بالزرع، أو يرضى بالتجارة فقط، أو يرضى بالمنصب والوظيفة، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] {وتركتم الجهاد} تركتموه قولاً وعملاً.
أما قولاً: فحين وافقتم الأمم الكافرة على ميثاقها الظالم الجائر الذي يعتبر الجهاد جريمة، وأنه يعرّض السلام والأمن الدوليين للخطر، وتركتم الجهاد حين ألقيتم السلاح، وقلتم لا جهاد، واشتغلتم بالدنيا، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم.
وقد يقول قائل: أين الأحاديث الدالة على أن الجهاد باق، مع أنه في حديث ابن عمر ذكر أنهم تركوا الجهاد، فنقول: حتى حديث ابن عمر ذكر أن الجهاد باق؛ لأن قوله: {لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} يدل على أن هذه الحالة من الذل لن تستمر، بل سوف يعقبها رجوع إلى الدين، بما في ذلك إحياء لشعيرة الجهاد، ومن الجهاد: القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى.(72/24)
تداعي الأمم على أمة الإسلام
الحديث الثاني: -وهو أعظم وأوضح من هذا الحديث- حديث ثوبان رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو حديث صحيح، وله شاهد عن أبي هريرة رواه أحمد بسند جيد، كما يقول الهيثمي، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها" -تداعى: يدعوا بعضهم بعضاً، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، لاحظ! الطعام في قصعة وكل واحد يدعو الثاني- قالوا: أمن قلة بنا يومئذ يا رسول الله؟ -نحن قليل- قال: لا، بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل -الغثاء: هو الذي يكون فوق السيل فإذا جرى الوادي يكون فوقه الغثاء الأبيض الذي هو: عبارة عن زبد وأشياء جرفها الماء معه وهي أمور تطير فقاعات، لا فائدة منها، غثاء كغثاء السيل، يعني: قيمة الفرد ضاعت، مثلما قلنا ألف مليون إذا كنا نريد منهم ألف مليون ريال لم تحصل، غثاء كغثاء السيل- ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم -لا يخافكم- وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت} والجهاد لا يقوم إلا على التضحية والبسالة، والذي يحمل روحه على راحته: ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف أو الآخر المقاتل الذي يقول: وإني لمقتاد جوادي وقاذف به وبنفسي العام إحدى المقاذف لأكسب أجراً أو أءول إلى غنى من الله يكفيني عداة الخلائف فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجعٍ يعلى بدكن المطارف ولكن أحن يومي شهيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نزَّالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم وفارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف فإذا زالت من المؤمنين روح البذل والفداء والتضحية، وتعلقوا بالدنيا؛ فلا يوجد عندهم جهاد.(72/25)
مراحل تداعي الأمم على أمة الإسلام
قف عند حديث ثوبان يقول: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم} أريد أن أسأل الإخوة: هل وجد هذا العصر الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم الآن أو لا يزال غير موجود؟ يقول: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها} يدعو بعضهم بعضاً، أعتقد أن هذا كان في وقت مضى، أما الآن فنحن في وضع أسوأ مما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن المسلمين مروا بمراحل: المرحلة الأولى: بعدما سقطت الخلافة الإسلامية -الخلافة العثمانية- أصبحت البلاد الإسلامية لقمة سائغة في أيدي الأعداء، فأول الأمر كان الأعداء قد اختلفوا في قسمة التركة، وتنازعوا، ثم بعد ذلك تصالحوا، ووجد ما يسمى باقتسام مناطق النفوذ، الآن انتهت قضية التداعي على القصعة، وعرف كل إنسان منهم نصيبه، عرفت الدول نصيبها من البلاد الإسلامية، وأخذته غنيمة باردة.
فنحن الآن في مرحلة ما بعد التداعي -إن صح التعبير- ولكننا -كما قال المثل: (اشتدي أزمة تنفرجي) في قمة الظلام يولد الفجر، وفي حلكة الظلام يولد الفجر، فإذا وصلت الأمور إلى نهايتها وإلى غايتها، فهنا البشير لبداية النصر، قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] استبطئوه {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .(72/26)
الواجب علينا
وأخيراً: الواجب وما أكبر هذا الواجب: الواجب حركة إسلامية جهادية في كل صعيد، عدونا حاربنا بالمرض، فنحن نحتاج إلى حركة جهادية تسعى إلى إعادة الصحة والقوة إلى المسلمين، وحتى حين يكونون ضعفاء {لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله} حتى حين نكون ضعفاء، حاربنا العدو بالجهل.
فنحن بحاجة إلى حركة تعليمية واسعة النطاق، ترفع الأمية والجهل عن المسلمين، عدونا حاربنا بالفقر، فنحن بحاجة إلى حركة اقتصادية صحيحة سليمة تسعى إلى توفير المال بأيدي المسلمين من خلال الطرق والوسائل الشرعية، ثم نحن بحاجة إلى حركة جهادية تقاتل الكفار على الثغور، في فلسطين، وفي أفغانستان، وفي كل بلد يهيمن عليه الكفار، وترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
نحن بحاجة إلى حركة جهادية شرعية تنشر العلم الشرعي، والفقه، والمعرفة، وهي الضمانة لكل التحركات السابقة، تضمن ألا تنحرف ذات اليمين، أو ذات الشمال، ثم مع ذلك نحن بحاجة -كما أسلفت- إلى حركة جهادية، إعلامية، تصنع الإعلام الإسلامي الذي يكون بديلاً عن الإعلام المنحل، وهذا يحتاج إلى أمم من الناس.
القضية في الواقع -أيها الإخوة- ليست قضية يسيرة -كما يبدو لنا- أحياناً نقول مجرد مجموعة في بلد من البلدان النائية تقوم بحركة ثم تدعم ثم تقوم دولة الإسلام، ثم يهاجر إليها المسلمون، ثم تبدأ تتوسع، هذا تصور فيه سذاجة، فيه غفلة، نحن بحاجة إلى حركة جهادية في كل بلد، وفي كل مجال، وعلى كل صعيد، ونحن بحاجة إلى جهد كل مسلم، كل مسلم يجب أن يكون إيجابياً، مرحلة الغثائية يجب أن نتعداها، كن إيجابياً فعالاً مؤثراً بقدر ما تستطيع.(72/27)
الأسئلة(72/28)
لمن المهابة؟
السؤال
هل المهابة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم أم هي عامة في الأمة؟
الجواب
لا، بل المهابة على الراجح عامة لعامة الأمة، وفي ذلك سبعة أدلة أو أكثر، ذكرتها في محاضرة (خصائص هذه الأمة) .(72/29)
كتاب في (حي على الجهاد)
السؤال يقول: حبذا لو يصدر كتاب يبين معنى (حي على الجهاد) حتى تعم الفائدة؟
الجواب
الآن الموضوع في محاضرة، فكيف يكون هذا العنوان في كتاب كامل؟ إلا إن كان الأخ يقصد هذا الموضوع.(72/30)
الطريقة المناسبة في طرح فكرة الجهاد
السؤال
ذكرت أن بعض العلماء والمفكرين يطرحون فكرة الجهاد طرحاً ميتاً، ويقولون: لا بد من نشر الإسلام بالدعوة الحسنة، وعارضت ذلك، فما هو رأيك بالطريقة المناسبة؟
الجواب
في الواقع أنا لا أعارض نشر الإسلام بالطريقة الحسنة، لكن أعارض كلمة (فقط) هذه بين قوسين، هذه (فقط) التي أعترض عليها، نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة كلنا مسلمون به ولكن الذي أعارضه (فقط) .
أقول: لابد من نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا بد أن نعلم أن الحكمة والموعظة الحسنة لا تكفي وحدها، وأننا إذا كنا جادين في حمل الإسلام، وإقامته فإننا محتاجون إلى أن ننشر الإسلام بالقوة أيضاً، هذا رأيي وليس رأيي وحدي، بل هذا الذي نفهمه من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم.
والحمد لله رب العالمين.(72/31)
معنى حديث (من مات ولم يغز)
السؤال
ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالجهاد؛ مات على شعبة من نفاق} وما صحة الحديث؟
الجواب
الحديث ذكرته بأنه رواه مسلم، أما معنى الحديث فهو واضح، (يغزو) أي: يذهب للغزو، أو (يحدث نفسه بالغزو) -يهم به أو ينوي أنه سيغزو في يوم من الأيام- وورد في الحديث الثالث من حديث أبي أمامة، وهو صحيح أيضاً: {أو يخلف غازياً في أهله بخير} أي: يساعد غازياً، يساعده بالمال، جهز غازياً، اخلف غازياً في أهله، وهكذا.(72/32)
الذهاب للجهاد في أفغانستان
السؤال
كثر السؤال عن الجهاد في أفغانستان هل يجب علينا؟ وهل يجب استئذان الوالدين؟ وأيهما أفضل الجهاد بالدعوة هنا، أم نسافر هناك؟
الجواب
أما مسالة استئذان الوالدين، فلا شك أنه يجب استئذان الوالدين، ولا يجب أن نكون فيه على خلاف، أما مسألة هل تجلس هنا أم تذهب إلى هناك.
فأقول: يختلف الأمر: إن كان لك بلاء هنا كأن تكون داعية مفيداً هنا؛ فاجلس هنا، أما إن كان لك بلاء هناك -أنت متخصص في الأمور العسكرية- عندك خبرات قد لا توجد عند غيرك، فاذهب إلى هناك، أو كنت إنساناً داعية وليس لك هنا قيمة.
ولكن تقول: هناك أريد أن أنشر الدعوة بينهم، والتوحيد، والعلم الصحيح، فهذا شيء طيب وجيد، أو طبيب تذهب لتعالج، أو ممرض للتمريض، أيضاً هذا جيد تذهب ولو شهراً، أو شهرين هناك، وإلا فابق هنا، وجاهد ما تستطيع، ونحن يجب أن لا نعتقد أن هناك مجالاً واحداً تنصب فيه جهود المسلمين، فلا نضع البيض في سلة واحدة، يمكن تسقط هذه السلة فيتكسر البيض كله، لا، بل نعمل على كل الثغرات، وفي كل المجالات، ونسأل الله أن ينصر الإسلام في أفغانستان، وفي كل مكان.(72/33)
جهاد العلمانيين
السؤال
ألا ترى أن جهاد العلمانيين وأصحاب الدعوات الهدامة وإفشال مخططاتهم، وخداعهم للناس نوع من الجهاد؟
الجواب
أما بالنسبة للعلمانيين فإنهم من المنافقين، حتى في كثير من البلاد التي تسمح لهم بأن يقولوا كلمتهم، الآن اصبحوا يتمسحون بالإسلام، لما لاحظوا قضية الصحوة والحركة تجاه الإسلام، حتى الذين كانوا بالأمس يلتفون باليسار، ويتكلمون عن اليسارية وعن الشيوعية، وأسماء كثيرة لامعة، وأعرف كثيراً منهم أصبحوا الآن يقولون: نريد الإسلام، لماذا؟ وذلك قد يكون إما على سبيل ركوب الموجة وهذا هو الغالب، وقد يكون منهم -كما حدث للبعض- من تغير فكره، لكن الغالب أنه على سبيل ركوب الموجة، فهم منافقون لا يجاهرون بقضية حرب الإسلام، فهم من المنافقين الذين يجب كشف مخططاتهم.(72/34)
الجهاد والفترة المكية
السؤال
هناك من يقول إن الإسلام اليوم يشبه الفترة المكية الآن، ليس فيه جهاد وإنما إعداد ودعوة فقط؟
الجواب
أما بالنسبة لقضية الجهاد.
فأقول: ليست القضية أنها فترة مكية أو فترة مدنية، الجهاد فيما يظهر لي ليس فيه ناسخ ومنسوخ في القيام بالجهاد أو عدمه، بل هذا يرتبط بقوة المسلمين، فإذا وجد عند المسلمين قوة وجب عليهم أن يجاهدوا، إذا ضعفوا قد يضطرون إلى أن يصالحوا العدو، أو يتركوا الجهاد، لأن هذا نوع من الإلقاء باليد إلى التهلكة إذا كانوا يقاتلون وهم ضعفاء سواء في عددهم أو في عدتهم.(72/35)
صحة حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر)
السؤال
حديث: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} ؟
الجواب
هذا حديث رواه البيهقي وهو حديث واهٍ لا يصح.(72/36)
دعم الانتفاضة
السؤال
ما رأيكم في الانتفاضة الفلسطينية من ناحية الجهاد الإسلامي؟ وهل ندعمها مادياً حيث تدور شكوك حول وصول بعض الإعانات إليها؟
الجواب
مسألة الدعم للانتفاضة الفلسطينية، فالانتفاضة يبدو لي أنها حركة قهر، انتفاضة شعب بأكمله، لكن يوجد قطاع عريض من هذه الانتفاضة يدعمه ويقوم عليه المسلمون، وما حركة حماس التي تسمعون عنها إلا نموذج للجهاد الإسلامي، والجهاد في سبيل الله، وهي حركة إسلامية، أما قضية الدعم المالي فمتى شعر الإنسان بأنه يستطيع أن يدعمهم مادياً دعمهم، لكن لا تدعم غيرهم، ادعمهم هم.(72/37)
توجيهات للخارجين إلى الجهاد
السؤال
توجيهات لمن أراد الخروج للجهاد؟
الجواب
من أهم التوجيهات: أن تفقه نفسك في الجهاد، افهم فقه الدعوة، وفقه الجهاد، فمن المؤسف والمحزن أن يصبح المجاهدون في بعض الثغور بأمس الحاجة إلى التربية والتفقيه والتوعية والتعليم والتوجيه، وقد يرجع بعضهم بغير الوجه الذي ذهب به، فَتَعَلَّم وتَحَصَّن بالعلم الشرعي الصحيح والفقه الصحيح، وبعد ذلك اذهب للجهاد، وأحسن النية، وتحلل من الحقوق التي عليك، واستأذن والديك.(72/38)
الجهاد بدون إذن الوالدين
السؤال
هذا يسأل عن الشاب إذا ذهب بدون إذن والديه، فهل يُغفر له معصيته لوالديه؟
الجواب
علىكل حال لا يجوز له أن يذهب، وإن ذهب فهو عاصٍ، وهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(72/39)
جهاد المنافقين والفساق
السؤال
ما نصيحتك تجاه جهاد المنافقين والفساق، وما أحسن وأفضل الطرق في جهادهم؟
الجواب
أحسن الطرق في جهادهم النزول للساحة وللميدان، انه عن المنكر، مر بالمعروف، ادع إلى ربك، اصبر، وستجد أنهم هم الذين يتحرشون بك، ثم عندما نقول انزل إلى الميدان، هذا الميدان نفسه يفرض عليك شيئاً، كم من صحيفة ومجلة تنزل للسوق، كم من كتاب ينزل للسوق فيه منكر، وقد قرأت في مرة من المرات كتاباً يباع بـ مكة، فيه إلحاد ينكر وجود الله، وقد اشتريته بحر مالي يقول: حدثوني هل للورى من إله راحمٍ مثل زعمهم أواهٍ يخلق الخلق باسماً ويواسيهم ويرنو لهم بعطف الإله إنني لم أجده بهذه الدنيا فهل خلف أختها من إله لقد اشتريت هذا الكتاب من مكة المكرمة.
وقرأت مرة كتاباً كتبه رجل من هذه البلاد، يتكلم بكل وقاحة عن قضايا الجنس واللواط، وكلام سخيف يليق بأمثاله، ومطبوع هنا ويباع، وقد كتبت عنهما إلى الجهات المختصة، فكم تقرأ من كتاب، أو من جريدة، أو تسمع من إذاعة، وبغيرها كلاماً باطلاً أو منكراً، فما دورك؟! هل تكتفي بقولك: الله المستعان! هذا لا يكفي بل قولك (الله المستعان) يعني أنك تطلب العون من الله، بل اكتب، راسل، اتصل، تكلم، مر بالمعروف، انه عن المنكر، اذهب بنفسك أحياناً، وبأسلوب حسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، اجعل أسوأ كلامك آخره هذا من جهاد المنافقين.(72/40)
حكم استخدام الفيديو في الدعوة
السؤال
هذا يسأل عن استخدام الفيديو كوسيلة من وسائل الدعوة، تسجيل المحاضرات، والأمسيات وغيرها وعرضها على الطلاب الناشئين؟
الجواب
أنا أدعو إلى الإستفادة من جميع وسائل الإعلام الممكنة في الدعوة إلى الله عز وجل، لكن هذا الاستخدام يجب أن يكون استخداماً واعياً، حين تجد إنساناً ليس في بيته فيديو -مثلاً- لا أعتقد أنني بحاجة إلى أن أقنعه أن يشتري فيديو من أجل أن يشاهد بعض الأفلام، لماذا؟ لأن عدد الأفلام العلمية والإسلامية مهما كثرت فإنها قليلة، أربعين أو خمسين، لو سمعها أو رآها في شهر، أو شهرين ثم ماذا بعد؟! لكن الأفلام المنحرفة بالألوف والملايين في كل مكان، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: لماذا نواجه القوة بضعف، والتقدم بجهل، والعلم بوسائل بدائية، الآن قضية التصوير أصبحت فناً عند الأعداء، والألوان والجذب والإثارة أصبح فناً متخصصاً له رواده، وأصبحوا يملكون جذب المشاهد بمئات الوسائل، فهل يُعقل أن نقابل ذلك بواعظ يتحدث في شريط؟! في العام الماضي ألح أحد الشباب أن يسجل أشرطة فيديو لي، فأعتذرت له كل الإعتذار، وقلت له: أنا لست مقتنعاً بالنسبة لي من ذلك، لماذا؟ لأنها هذه ليست الوسيلة التي نواجه بها الأعداء، إذا كنت ستفعل، فلا بد أن تنتج إنتاجاً يكون على مستوى إنتاج الخصوم، ينافسه ويجذب إليه الأنظار ويؤثر مثلما يؤثر هو.(72/41)
يا أيها الإنسان
لقد كثر التشدق بحقوق الإنسان في الغرب، مع أنهم لا يعرفون الإنسانية، ولا يقيمون لها وزناً وحقوق الإنسان حقيقة موجودة في دين الإسلام، تجد ما ذكر واضحاً مفصلاً مع الأمثلة في هذا الدرس.(73/1)
الإنسان في القرآن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أحبتي الكرام! يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث رحمةً للناس كلهم، وجاء بالهدى والنور المستقيم، وبعث بالشريعة السمحة العادلة التي ليس فيها ظلم ولا جور ولا حيف على أحد، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بغاية العدل، وغاية الرحمة، وغاية التكريم لهذا الإنسان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] .
لقد جاء ذكر الإنسان في القرآن الكريم بلفظ الإنسان في نحو خمسة وستين موضعاً، ذكر الله عز وجل فيها أشياء كثيرة تتعلق بالإنسان، منها: بدء خلق الإنسان، وكيف خلق، وممّ خلق، وعلى أي صفة خلق، والمراحل والأحوال التي يتقلب فيها، والمآل الذي يصير إليه، والحالات التي يكون عليها، والإنسان حين يكون مستقيماً وحين يكون منحرفاً، حين يكون غنياً وحين يكون فقيراً، حين يكون صحيحاً وحين يكون عليلاً، حين يكون مؤمناً وحين يكون كافراً في الدنيا والآخرة، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، المأمور والأمير، الحاكم والمحكوم.
حتى إنك إذا نظرت في القرآن الكريم تكاد بأن تجزم أن القرآن كله إنما جاء يعالج قضية الإنسان، الطريق الصحيح الذي يسلكه الإنسان، والطريق المعوجة التي يُحذَّر الإنسان منها، إلى غير ذلك، وليست العبرة فقط بآيات ذكر فيها لفظ الإنسان مثل {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الإنسان:1] (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ) {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] بل إن الأمر أوسع من ذلك، فأنت تجد الكلام على الإنسان وأصله في أشياء كثيرة.
مثلاً قصة آدم عليه الصلاة والسلام، وكيف خلقه الله عز وجل، وأسكنه الجنة، وأسجد له ملائكته قال الله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] أي شيء أعظم في تكريم الإنسان، ورفع الإنسان؛ وبيان مقام الإنسان؟ من أن الله عز وجل يخلق آدم أبا البشر بيده؟ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده} فخلق الله تعالى آدم بيده من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] نفخ فيه هذه الروح التي بها صار إنساناً، ثم أسجد له ملائكته، أشرف مخلوقاته أسجدهم لآدم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) .
مع أن الملائكة كانوا يقولون حين قال الله عز وجل لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] قالوا مستغربين متسائلين، وهم يعلمون أن الله تعالى أعلم وأحكم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] لأن الملائكة جبلوا على الخير {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] .
فخلق الله عز وجل هذا الإنسان، وأسجد له ملائكته -لآدم عليه الصلاة والسلام- ونفخ فيه من روحه، وجعل الكرامة في بنيه من بعده، ولذلك كم خوطب الإنسان بقوله تعالى: يا بني آدم كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:27] حتى قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] .
فالعقيدة الإسلامية في الإنسان أنه مخلوق مستقل، أول واحد في السلالة هو آدم عليه الصلاة والسلام، ثم تسلسل بنوه من بعده، وليس كما تقول النظريات الغربية الكافرة الملحدة في تطور الإنسان، وأنه كان في الأصل من جنس أو نوع آخر.
وتطور حتى صار إنساناً، الإنسان أصلاً خلق إنساناً متميزاً، ولذلك ينظر الإسلام للإنسان هذه النظرة، أنه مخلوق على هذه الصفة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] تكريم لهذا الإنسان، ثم تجد في القرآن الكريم أيضاً خطاباً من الله عز وجل للناس بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] وما الناس إلا أفراد، إنسان وإنسان وإنسان فالمجموع أناس، وكم في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] كذلك (يَا عِبَادِيَ) في القرآن الكريم والسنة النبوية.
حتى قال الله عز وجل في حديث أبي ذر وهو في صحيح مسلم في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم الخ} .
يخاطب الله عز وجل عباده ويتحبب إليهم، ويتودد إليهم، مع أنه تعالى غني عنهم، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملك الله تعالى شيئاً، ولا ضر الله عز وجل شيئاً قال الله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] .
ومع ذلك يخاطبهم عز وجل هكذا، حتى قال الإمام الفضيل بن عياض معبراً عن شعوره العظيم الكبير، وهو يسمع ويقرأ في القرآن الكريم، أن رب العالمين، الغني، الواجد، الماجد، القوي، العزيز، يخاطبه يا عبادي! فيقول: ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا كدت أن أضع رجلي على الثريا، لماذا؟! لأنه يملك أموالاً طائلة! أو لأنه يتربع على عرش أو كرسي، أو لأنه يتمتع بالسمعة والجاه! كلا! بل: دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا هل تشعر أخي الحبيب بهذا الشعور الذي شعر به الفضيل، وهو يقرأ هذه الآية أو يسمعها؟(73/2)
سر تكريم الإنسان
ما سر تكريم الله لهذا الإنسان؟ هل سره لأن هذا الإنسان يتمتع بجسد قوي؟ كلا! فإن الفيل والأسد أكثر قوة من الإنسان وأشد منه، ولذلك فليس صحيحاً أن تكريم الإنسان يعود إلى الاهتمام بجسده، أو العناية بصحته، أو العناية بقوته، أو حفظه مما يضر ببدنه أو يقتله، كل هذا لا بأس به، بل هو مطلوب أن يعتني الإنسان بالصحة، وبالبدن، وبالتغذية، ويعتني بالحماية من كل ما يضر الإنسان هذا كله جاء الدين بطلبه، ولا شك في هذا، لكن تجد من آثار ذلك، أن الناس أصبحت العناية عندهم بأجسادهم حتى كأن سر إنسانية الإنسان في جسده!(73/3)
الإيمان سر التكريم
إن الإيمان الذي يتميز به الإنسان هو سر تكريمه، فهل حرصك وحفاظك على الإيمان في نفسك وأهلك، وولدك كحرصك على حمايتهم من الأمراض والأوبئة، أو كحرصك على توفير المطاعم والمشارب والمآكل والملابس لهم؟ هذا سؤال يطرح نفسه عليك أخي الكريم! خرجت يوماً من الأيام في أحد الأمسيات؛ فوجدت أن الشوارع خالية في الوقت الذي كان كثير من الناس يتخوفون من مثل هذه الأشياء، فسألت نفسي: أين الأطفال الذين كانوا يؤذون الناس في الشوارع؟ أين الفرق الذي كانت تلعب الكرة؟ أين المجموعات التي كانت تكون على جنبات الطريق يمنة ويسرة؟ أين الشلل التي كانت تقضي أوقاتاً طويلة في لهو ولعب وكلام لا فائدة من ورائه؟ لقد ذهبوا، كيف ذهبوا؟! ذهبوا لأن الآباء والأبناء -وبصفة عامة- المجتمع بكافة مؤسساته بدءاً من المؤسسات العليا التي تمارس التوجيه أو التثقيف -كما يقولون- مؤسسات إعلامية، توجيهية تعليمية، ومروراً بالبيت، وانتهاءً بالفرد العادي، أصبح عندهم شعور أن هناك خطراً ينبغي أن يتقوه، ولذلك لجئوا إلى بيوتهم وابتعدوا عن منطقة هذا الخطر.
لكن أين كان هذا الأمر من القضايا الأخرى؟ لأنه يمكن أن يبقى الإنسان حياً ولكنه بدون صلاح، بدون استقامة، فتكون حياته وبالاً عليه.
أيها الإخوة: إن الله تعالى حين تكلم عن الإنسان قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4-6] .
فالإنسان إذا انحرف وضل، تحول من كونه إنساناً مكرماً عزيزاً إلى كونه أحط حتى من البهائم، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] .
فالإنسان إذا كان سر تكريمه هو التكليف، ومطالبته بالعبودية، ومنحه هذا العقل، إذا أهدر هذه الأشياء وضيعها، وأقبل على دنياه ونسي آخرته؛ أصبحت البهائم أعلى منزلة منه، لماذا؟ لأنها لم تكلف بهذه الأشياء، ولذلك يوم القيامة يقال للبهائم: {كوني تراباً} لكن الكافر يتمنى أن يكون كذلك {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] فلا يستطيع ذلك ولا يملكه ولا يحصل له.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا حين تتنقل إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تنظر كيف تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنسان، وبين كرامة الإنسان ومنزلته، والكلام في السنة النبوية أيضاً يطول، وأعتقد أنه من الصعب جداً حصر الأحاديث التي تحدث النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم فيها عن الإنسان، فهذا باب واسع جداً، لكن تجد على سبيل المثال من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي جاءت بلفظ الإنسان: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة، في رواية مسلم، والحديث أصله متفق عليه، لكن في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل إنسانٍ تلده أمه على الفطرة} وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الترمذي: {كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه} أي ما قدر له من العمر والأجل.
ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الشيطان: {وأنه يأتي حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر} وفي حديث أبي داود يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الإنسان ركب على ثلاثمائة وستين مفصلاً، وكل مفصل من هذه المفاصل عليه صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما العبد من الضحى} ركعتا الضحى تجزئان عن ثلاثمائة وستين صدقة مطلوبة منك يومياً.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجنازة: {وأنه يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق} والحديث ذكره البخاري في كتاب الجنائز.(73/4)
مبالغة في الاعتناء بالجسد
وعلى سبيل المثال: انظر إلى الناس حين يشتغلون بالرياضة، وألوان الألعاب الرياضية، إنهم حينئذ إذا كانت القضية قضية بدن فقط؛ كأنما يربون عجولاً آدمية.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان ليست إنسانيتك لأنك صاحب جسم كبير أو قوي، فهناك في الحيوانات التي لم تتمتع بالإنسانية ما هو أقوى منك، وأعظم جسداً منك، تجد أن الناس يهتمون بقضية الجسم الاهتمام الكبير، يهتمون بأنواع التغذية، وربما تجد أقل إنسان عنده معرفة أو ثقافة اليوم يستطيع أن يعدد لك أنواع الأطعمة، والأطعمة التي فيها فيتامينات، والأطعمة التي فيها بروتينات، والأطعمة التي فيها دهنيات، ويعرف الأطعمة التي تصلح لهذه الطبقة، والأطعمة التي تصلح لطبقة أخرى، ويعرف الأطعمة تصلح للشتاء، والأطعمة التي تصلح للصيف، وأصبح الناس مختصين.
ثم تنتقل إلى قضية الطبخ، تجد الطبخ أصبح فناً مستقلاً فيه كتب خاصة، بل فيه مدارس ومعاهد مهمتها تعويد الناس على الطبخ، وتطور الأمر حتى أصبح في بعض المستوصفات جناح خاص لتعويد ربات البيوت -كما يقولون- على فنون الطبخ الصحيح.
ننتقل الى الحلويات بأنواعها، والاهتمامات الزائدة بها: حلويات لكل المناسبات.
فهذا اهتمام بالجسم، ليس اهتماماً عادياً، بل اهتمام تحول إلى نوع من العناية الزائدة بالجسم، حتى كأن إنسانية الإنسان في جسده، ثم إذا شعر الإنسان أن هناك خطراً يهدد جسده؛ أصبحت تجد هذا الهم الكبير، ولعل أقرب مثال نضربه ما نعانيه ويعانيه الناس اليوم من قضية المخاوف من الغازات السامة، من الكيماويات وغيرها التي يخشى الناس أن تنزل بهم، أو تحل قريباً من ذلك.
فأصبح الإنسان يعتني عناية كبيرة بتسديد الثقوب والنوافد، بالورق اللاصق وأنواع الشمع والصمغ والستائر وغيرها، ويستخدم كافة الاحتياطات التي فيها وقاية وحماية للإنسان.
أيضاً ليس لنا اعتراض على هذا الأمر، إلا إذا تعدى، حتى أنه حصل حالات وفاة، وأخرج أناس بوسائل الدفاع المدني بسبب سوء استخدامهم لهذه الطرائق.
فالأمر إذا تعدى حده انقلب إلى ضده، يهرب من الموت ويقع في الموت، سبحان الله! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] إنسان بالغ في إغلاق النوافذ، وتسديد الثغرات والفتحات في البيت ونام، فكانت هذه النومة هي النومة الأخيرة في الدنيا، ما جاءه الموت عن طريق الغاز السام الذي كان يخشاه، إنما جاءه الموت عن طريق شدة الحذر من هذا الغاز السام الذي كان يخشاه.(73/5)
الاعتناء بالروح أولى من الجسد
هل نطمع منك -يا أخي الكريم- أن يكون إغلاقك لمنافذ الفساد عن بيتك كإغلاقك لمنافذ دخول الهواء إلى بيتك؟ هل استطعت -فعلاً- أن تغلق منافذ الفساد التي تبث الفساد إلى بيتك عبر الشاشة، أو عبر الكلمة المسموعة، أو عبر ورق الجريدة أو المجلة، أو عبر الكتاب، أو الشريط، أو الاتصالات التي يجريها الأولاد أو تجريها البنات؟! هذا السؤال يجب أن نطرحه؛ لأننا إذا كنا نعتقد أن تكريم الإنسان ليس في بدنه؛ فلا بد أن نطرح هذا السؤال، ليس تكريمك لبدنك بحيث يكون الاهتمام منصباً على البدن، إنما التكريم -تكريم الإنسان- لأن الله عز وجل نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بهذا العقل، وكلفه بحمل الرسالة، بحمل الدين، والاعتقاد الصحيح، والدعوة إلى الله عز وجل، وعبادة الله تعالى، فتكريم الإنسان هو بعبادته.
ولذلك أعظم وأشرف لفظ يمكن أن ينادى به إنسان هو أن يقال له: يا مؤمن! أو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما كان يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا؛ فأرعها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه]] .(73/6)
الإنسان في دين الإسلام
إذاً الإنسان مخلوق مكرم مميز، خلقه الله عز وجل، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعقل والتكليف، وطالبه بالعبودية له، وجعل لهذا الإنسان حقوقاً لا بد من رعايتها، ولذلك لا يمكن أن تجد مذهباً أو ديناً في الدنيا ضمن وكفل حقوق الإنسان مثل الإسلام، لماذا؟ لأن نظرة الإسلام إلى الإنسان نظرة صحيحة، أما النظم والمذاهب والأديان الأرضية الأخرى المنحرفة، فهي -أصلاً- تنظر إلى الإنسان نظرة فاسدة.
مثل الذين يعتبرون أن أصل الإنسان حيواناً تطور، وتسلسل في الرقي حتى صار إنساناً، فمثل هؤلاء ينظرون إلى الإنسان نظرة حيوانية، ولهذا يهمهم من الإنسان الجانب الجسدي، تغذية الإنسان، متعته الجنسية، متعته في الأكل والشرب، الأشياء المادية، أما الجانب الأخلاقي، والجانب التعبدي، والإيماني، فلا يعنيهم في الإنسان، وانظر في الحضارة الغربية اليوم، الغرب يعتني بالإنسان في الجوانب البدنية، لكنه ضيع الإنسان تماماً في النواحي الأخلاقية، والروحية الإيمانية، ولهذا ضجوا وصاحوا، يقولون: إن الإنسان في الغرب جسدٌ بلا روح، وإن الحضارة الغربية أشبعت الإنسان وأروته بالماء والطعام والشراب، ولكن الظمأ العاطفي، الحاجة إلى الإيمان، الحاجة إلى التدين، هذه الحضارة فشلت في إشباعها عند الإنسان.(73/7)
للإنسان حقوق وعليه واجبات
أما الإسلام فإنه يعتبر أن قضية حفظ حقوق الإنسان جزءٌ من الدين، صحيح أن الإنسان يجب أن يعرف حقوقه ليطالب بها في حالة وجود من يمنعه بعض هذه الحقوق، فالإنسان يجب أن يعرف ما له من الحقوق، كما يعرف ماذا عليه من الواجبات، بمعنى: أن الدين جاء ليقول لك: أيها الإنسان، هذا مكانك في الإسلام، مثل ما أنك مطالب بأشياء تجاه زوجتك، وتجاه أولادك، وتجاه جيرانك، وتجاه مجتمعك، تجاه الدولة التي تعيش فيها، وتجاه القريب، والبعيد.
كذلك أنت لك حقوق على هؤلاء، فلك حقوق على زوجتك، ولك حقوق على ولدك، ولك حقوق على والدك، ولك حقوق على جارك، ولك حقوق على المسئول عنك، ولك حقوق على الدولة التي تعيش فيها، وكما أنت تؤدي الحقوق التي عليك، يجب أن تأخذ الحقوق التي لك، فالأمور هذه متلازمة.
وليس صحيحاً أن ينظر الناس نظرة واحدة فقط، كل الكلام الذي نسمعه -تقريباً أو غالباً- يتكلم عن شيء واحد، وهي الحقوق والواجبات التي عليك أن تؤديها، لكن الأشياء التي لك وينبغي أن تطالب بها وتأخذها، هذه قل من يتحدث عنها، ولذلك ضمر الإنسان، وقلَّت قيمته، وفقد أهميته، وأصبح يعتبر أن أي شيء يعطى له من حقوقه يعتبره هدية ثمينة، ومكرمة غالية، وإحساناً كبيراً، وفضلاً لا حق له فيه أصلاً، وهذا خطأ كبير.
أذكر أني قرأت كتاباً يتكلم عن وضع إحدى الدول قبل عشرات السنين، وكان فيها من يسمونه بالإمام، إمام جبار وظالم، كان يبخس الناس أشياءهم، ويعتدي على حقوقهم، وكانوا يعيشون في حالة من الفقر وشظف العيش، حتى إن الأطفال يأتون إلى المدرسة وهم أشباه العراة لا يكادون يجدون ما يستر عوراتهم، فجاء مدرس من المدرسين، وكان يجلس مع ذلك الذي يسمونه إماماً، فاقترح عليه لو وزع على الأطفال ملابس يستر بها سوءاتهم وعوراتهم، ويتقون بها من أذى الحر والقر، فتكرم وجاد وأعطاه ثوباً ثوباً، بعد أن مضت سنة جاء هذا الأستاذ نفسه، واقترح عليه مرة أخرى، وقال: أنت أعطيتهم العام الماضي وشكروا لك، ودعوا لك، وأثنوا عليك، وذكر أشياء، لكن لو أنك كررت هذه فإن نفوسهم قد تطلعت إليه، واشتاقت أن تعود بما أعطيتهم في العام الماضي في مثل مكانك، فقال: لا يمكن هذا أن يكون؛ لأنني إن أعطيتهم هذا العام مثل ما أعطيتهم العام الماضي ظنوا أن هذا حق من حقوقهم، ففي العام القادم لو لم أعطهم فيمكن أن يطالبوني به، وأنا لا أريد أن يفهم أحد أن عليَّ له حق من الحقوق، إنما يفهم أن ما أطيه هو فضل وتكرم وجود، إن أعطيته شكر وإن منعته رضي وصبر ودعا، واعتبر أن الأمر مني وإلي.
إذاً من الخطأ الكبير أن أتكلم عن الحقوق على الإنسان، ولا أتكلم عن الحقوق التي للإنسان، فإن الإنسان -بمقتضى كونه إنساناً كرمه الله عز وجل- ينبغي أن يعرف ماذا عليه من الواجبات فيؤديها، وفي المقابل ينبغي أن يعرف ماذا له من الحقوق فيطالب بها في حالة تأخرها أو تخلفها، لأن المشكلة عندنا ليست مشكلة الإنسان بذاته كفرد، إنما المشكلة مشكلة أمة، عندما تتصور أن فرداً واحداً كما في الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح لما قال: {اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك} هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لو تصورت أمة كاملة وتسلب حقوقها، تسلب كرامتها ومكانتها، تسلب ما أعطاها الله عز وجل إياه بنص الكتاب ونص السنة، فإن معنى ذلك أن هذه الأمة كلها قد فقدت معنى إنسانيتها، ومعنى كونها أمة كلفها الله عز وجل بواجبات وأشياء لا تستطيع أن تقوم بها، لأنها جُردت من إنسانيتها حين سلبت هذه الحقوق التي هي لها في أصل الشرع.(73/8)
دعوى الغرب في حقوق الإنسان كاذبة
فكل ألوان العبودية لغير الله عز وجل مرفوضة في الإسلام، وهذا الأمر وأعني به، وأن الرسل جاءوا لتحرير الإنسان وجعله إنساناً يتمتع بالكرامة والحقوق التي وهبه الله تعالى إياها، ليس هذا أمراً يأخذه الإنسان عن طريق المطالبات والمظاهرات والاحتجاجات، كما هي الحال بالنسبة للنظام الغربي، والدول الغربية، فالدول الغربية حصل فيها الإنسان على بعض حقوقه، بل أصبحت -مع الأسف الشديد- الدول الغربية تتغنى بما يسمونه حقوق الإنسان، ومنظمة حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة الذي يحترم حقوق الإنسان -كما يزعمون- ومعاهدات الدول الغربية التي تكفل حقوق الرجل، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، ومن هذا المنطلق أنشئوا المؤسسات، والجمعيات، والمعاهدات الطويلة العريضة التي يزعمون أنهم يكفلون بها حقوق الإنسان.
وليس الكلام الآن عن نظرتهم، إنما المقصود: متى ما وصل الغربيون إلى هذا الوضع الذي يزعمون به أنهم كرموا الإنسان وحفظوا حقوقه؟ وصلوا بعد أزمنة طويلة جداً من اضطهاد الإنسان واحتقار الإنسان، وبعدما صارت مظاهرات ومطالبات، وجهود، وأشياء كثيرة، وعاشوا قروناً طويلة وهم يئنون تحت ضغوط الاضطهاد بكافة صوره وألوانه وأشكاله، سواء الاضطهاد من حكامهم وملوكهم وسلاطينهم، أو الاضطهاد من رجال الكنيسة الذين كانوا يحكمونهم باسم الدين ظلماً وزوراً وبهتاناً، أو الاضطهاد بأي صورة من الصور، وفي الأخير وصلوا إلى ما يعتبرونه حقوق الإنسان.(73/9)
دعوة الرسل جاءت لتحرير الإنسان
لقد بين الله عز وجل في مواضع كثيرة؛ أن الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما جاءوا لتحرير الإنسان، جاءوا لتحرير الإنسان من ألوان العبودية لغير الله عز وجل، سواءً كانت العبودية لطاغوت يحكم الناس بغير شريعة الله عز وجل، ويفرض على الناس من ألوان التسلط والإذلال ما لا طاقة لهم به، أو كانت العبودية لملك، أو كانت العبودية لمال، أو كانت العبودية لجاه، أو كانت لزوجة، أي لون من ألوان العبودية والذل؛ جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحرير الإنسان من هذه العبودية.
حتى العبودية للعادة، التي يحكمها الناس فيما يخالف شرع الله عز وجل، ويعتبرون أن العادة تقود الإنسان إلى أشياء كثيرة، وربما إذا طولبوا بشيء، قالوا: ما سمعنا بهذا.
أي: أن العادات المألوفة في مجتمعنا تخالف هذا الأمر، كما قال المشركون الأولون؛ حينما جاءهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] .
لقد جاء الرسل لتحرير الإنسان من جميع ألوان العبودية والتسلط، وجاءوا لتكريمه، كما قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] حتى العبودية لملائكة -مثلاً- أو لرسل؛ جاءت الديانات السماوية لرفض هذه العبودية، ولذلك نعى الله تعالى على النصارى عبوديتهم لعيسى عليه الصلاة والسلام، حيث زعموا أنه إله من دون الله أو رب، ولهذا قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] .(73/10)
حفظ الضرورات الخمس
لقد جاء الشرع لحفظ كرامة الإنسان، ومنع التسلط عليه، وتحريره من ألوان العبودية لغير الله، وهذا قريب مما يعبر عنه الفقهاء والأصوليون بقولهم: إن الدين جاء لحفظ الضرورات الخمس، ما هي الضرورات الخمس التي يدور الدين كله على حفظها؟ الضرورات الخمس هي: حفظ الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال، فلعلنا نذكر الأربع الأولى منها، كالتالي:(73/11)
ثانياً: حفظ العقل
جاءت الشرائع -ثانياً- لحفظ العقل، الذي به مُيّز الإنسان وكُرّم، ولذلك إذا فقد الإنسان عقله وأصبح في عداد المجانين لم يلتفت إليه أحد، ولم يكن له شأن ولا قيمة، وأصبح أضحوكة للناس يتندرون به وبأحواله.
فالشرائع جاءت لحفظ العقل من التضليل وممارسة الكذب على عقول الناس، فإن كثيراً من الأمم تمارس التضليل على عقول أفرادها، تضلل العقول، وتملي عليهم، وتستخدم المثل الذي يقول: اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، فكثرة ترداد الكذب تفرض على عقول الناس تصديقهم، حتى ينخدع الناس بهذا الأمر.
ولعل أقرب مثال لممارسة الكذب والتزوير: أنك تجد أجهزة الإعلام في كثير من بلاد العالم الشرقية والغربية، لا أقول العالم الإسلامي فقط، بل حتى بلاد الغرب الذين يدعون الحرية في إعلامهم، تجد أن أجهزة الإعلام في الواقع تمارس تضليلاً على شعوبها.
فمثلاً: في الغرب يدعون أنهم ديمقراطية -كما يقولون- أي أن الأفراد لهم مكانة ولهم قيمة ولهم اختيار، وكل شيء عندهم بالترشيح والانتخاب، هل هذا فعلاً صحيح بهذه الصورة التي يتصورها الآخرون؟ لا أنكر الحقائق وأن هناك أشياء كثيرة من ذلك، ولكن أيضاً هناك جانب آخر وهو أن الإعلام يمارس ديكتاتورية من نوع آخر، فيفرض على الناس القناعة بأشخاص معينين، أو بآراء معينة.
ولذلك تجد أن الإعلام؟ من جهة يعطي الناس معلومات كاذبة تؤثر في عقولهم، ومن جهة أخرى يرسل من يحاولون أن يستقرئوا الرأي العام.
خذ مثالاً: قضية الحرب، إذا أرادوا أن يقيموا حرباً أو صلحاً، هم من جهة يسلطون إعلامهم للتأثير في عقول الناس بحيث يتقبلون الأمر الذي يختارونهم، ومن جهة أخرى يجعلون هناك معاهد ومدارس ومراكز تحاول أن تنظر ما هي وجهة نظر الناس، فتخرج لك نتيجة أن (80%) يريدون كذا، و (90%) يريدون كذا، وهذا في الواقع صحيح أنه وجهة نظر الناس، لكن وجهة نظر ليست بريئة، وإنما هي وجهة نظر أناس سلط عليهم نوع من التضليل والتغيير، وفرض رأي بطريقة هادئة، ليست بالطريقة البدائية التي تستخدم في البلاد الأخرى، طريقة القوة والقسر والإكراه والطريقة المكشوفة، حتى الكذب له أصول، فالذين يكذبون كذباً أبله، ينكشفون أمام الناس ويتعرون ويصبح كذبهم يزيد سقوطهم عند الناس، لكن الذين يكذبون كذباً منظماً مدروساً محبوكاً يستطيعون أن يضلوا الناس لفترة معينة.
إذاً الدين جاء لحماية العقل من التضليل، ومن التزوير بكافة صوره وأشكاله، كما جاء لحماية العقل من الضلال في نظريات فلسفية ومذاهب منحرفة ضالة قد لا يستطيع الإنسان أن يميزها، كما جاء لحفظ العقل من الضياع عن طريق المسكر، ولهذا حرم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كل أكل أو شرب يعود على العقل بالضياع، المخدرات، والخمر، والحشيش، والأفيون وغيرها، وذلك لأغراض، منها حفظ عقل الإنسان، لإن هذا العقل جوهرة ثمينة يجب أن تحفظ وتصان ويستفاد منها فيما ينفع الإنسان ويعود على الفرد والأمة بالمنفعة العاجلة والآجلة.(73/12)
ثالثاً: حفظ النفس
الضرورة الثالثة التي جاء الدين لحفظها هي: حفظ النفس: حفظ الإنسان من أن يقتل مثلاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري وغيره: {أن من قُتل دون نفسه فهو شهيد} فإن قاتلك إنسان أو هددك فقتلته دون نفسك في النار، والمقتولُ دفاعاً عن نفسه شهيد.
فمن حق الإنسان أن يدافع عن نفسه ضد من أراد قتله، أو حتى من أراد إصابته بجراح أو غيرها، ومن هذا المنطلق أيضاً الإذن بالقتال، يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40] {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4-7] فلما قتلوا هؤلاء المؤمنين وعذبوهم بالنار، قال الله عز وجل: (قُتِلَ) أي لعن وطرد من رحمة الله، وخلد في العذاب المهين أصحابُ الأخدود الذين تسببوا في قتل وإزهاق أرواح المؤمنين.(73/13)
رابعاً: حفظ العرض
من الضرورات التي جاء الدين بحفظها أيضاً العرض: وذلك من التعرض له بما يخدشه أو يسيء إليه، ومن هذا المنطلق أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قتل دون عرضه فهو شهيد} سواء حماية العرض من الانتهاك بارتكاب الفواحش بأنواعها، أم حماية العرض من السب، والشتم، والثلب، والغيبة، والنميمة، والقالة بغير حق فكل هذه الأشياء يتعلق بها ضمانات وأحكام جاء بها الإسلام لحماية أعراض الناس، ليبقى لكل إنسان سمعة مصونة، وعرضٌ محفوظ لا يحق لأحد أن يتعرض له بشيء.
أما في الغرب عند الكفار فكلمة "عرض" ليست موجودة في لغتهم، بمعنى أنه لا يوجد ترجمة تقابل كلمة عرض في اللغة الإنجليزية مثلاً، ولذلك ليس عندهم قيمة للأعراض.
عمر رضي الله عنه يقول في منشورة إلى الناس -وهذا في الأمصار-[[أيها الناس! إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم -الأمراء الذين أبعثهم إليكم ما بعثتهم ليضربوا أبشاركم- ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم دينكم ويقسموا فيكم فيئكم]] مهمة عمالي الذين أرسلهم إليكم، ليست ليضربوا الناس ويعتدوا عليهم، ويستغلوا صلاحياتهم ومواقعهم في إيذاء الناس والاعتداء عليهم، ولا لينهبوا أموال الناس باسم المصلحة العامة، وإنما مهمتهم تتلخص في تعليم الناس الدين، لإنهم كانوا فعلاً علماء، وكان عمر يختار العلماء، فبعثهم ليعلموا الناس دينهم ويقسموا في الناس فيئهم، يقسموا المال وليس ليأخذوه من الناس.
إذاً عمر يعلم الناس مالهم؛ حتى يطالبوا به، والذي يريد أن يتنازل بعد أن يعرف فهذا شيء آخر.
قصة من تاريخ السلف على حفظ العرض:- ربعي بن عامر رضي الله عنه، رسول المسلمين إلى رستم، رجل بسيط متواضع لا يملك شيئاً، ما درس في جامعة، ولا في مدرسة، لكنه تعلم في أعظم مدرسة، مدرسة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وتربى في هذه الصحراء التي ولدت كبار العباقرة والعظماء والعلماء؛ بعدما استضاءت واستنارت بنور الإسلام.
عندما يدخل على رستم، يسأله رستم: ما الذي جاء بكم؟ أنتم كنتم في الصحراء زمناً طويلاً، نبعث لكم بين الحين والآخر شيئاً من الأموال، والأقوات، والأطعمة، والأكسية فتسكتون إلى مثلها، فما الذي جاء بكم؟ فقال له: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد]] إخاً هم أولاً: تحرروا من العبودية للعبيد، بكل ألوان العبودية، تتحرروا -مثلاً- من الحب للمال، الذي يجعل الإنسان عبداً لمن يملك المال، وتحرروا من الخوف من الموت الذي يجعل الإنسان يخشى الموت، فيسكت عن كلمة الحق، أو يجامل، أو يطأطئ رأسه، تحرروا من حب الدنيا بألوانها وصورها، ولما تحرروا من العبودية لغير الله عز وجل بكافة صورها، خرجوا إلى الآخرين ليخرجوهم، كما يقول ربعي: [[لنخرج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] .
إذاً هذه المبادئ التي يقاتل المسلمون من أجلها: أولاً: تحرير الإنسان في الأرض كلها من العبودية لغير الله عز وجل.
ثانياً: إخراج الإنسان من ضيق الأفق إلى سعة الأفق، لإن الإنسان الكافر، وافترض أنك أمام عالم كبير في مجال من المجالات الدنيوية، أو فيلسوف شهير، أو عبقري خطير، ومع ذلك إذا كان غير مؤمن فهذا الإنسان تجد أن تفكيره لا يتجاوز حدود هذه الدنيا، لا يتجاوز حدود عقله المحدود، والعقل ما لم يستنر بنور الوحي فهو وبال على صاحبه، يجره إلى المهالك، ويصور له أنه يعرف كل شيء، ويقدر على كل شيء، ويحيط بكل شيء.
فلذلك يخرج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فإن كل شيء سوى الإسلام هو ظلم وجور.
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، اختصم يوماً من الأيام هو ورجل من الصحابة، لعله بلال أو غيره.
رجل أسود حبشي، فقال له: يا ابن السوداء! يعيره أبو ذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن جعل الله تعالى أخاه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق، فإن حملتموهم فأعينوهم} .
إذاً حتى الذين كانوا عبيداً أرقاء حفظ الإسلام كرامتهم، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أبا ذر، الذي ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة منه، ولا أنصح منه، ولا أزهد في الدنيا منه، قال له: {إنك امرؤ فيك جاهلية} فما وجد أبو ذر رضي الله عنه، سبيلاً لاستخراج الجاهلية من قلبه، إلا أن نام على الأرض وجعل خده على التراب، وقال: [[والله لا أقوم حتى تأتي فتطأ على خدي]] ليأتِ ابن السوداء ويطأ على خدي، حتى تخرج هذه الجاهلية من قلبي، هل ترى أبا ذر رضي الله عنه، أو أحداً من المؤمنين يعود لمثلها، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر هذا من الجاهلية؟ لأنه لا فضل لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود ولا للون على لون، إنما {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
وهذا جبلة بن الأيهم ملك من ملوك العرب من ملوك غسان، أسلم وجاء يطوف بالكعبة، وهو لا يزال يحتفظ بذكريات الأبهة والفخفخة التي كان يعيش فيها في الماضي، فكان يطوف في الكعبة، والمسلمون سواسية كأسنان المشط، ليس بينهم فرق ولا تفاضل إلا بتقوى الله عز وجل، حتى أتقاهم فضله عند الله تعالى، أما عند الناس فقد يقدرونه ويجلونه، لكن يبقى أنه كغيره.
فـ جبلة هذا كان يطوف بالبيت، فمر به أعرابي ووطأ على إزاره، فربما انحسر إزار هذا الرجل الملك الغساني، فأقبل على الأعرابي فضربه وهشم أنفه، ذهب الأعرابي ودماؤه تسيل إلى أمير المؤمنين الفاروق عمر، فقال له: من فعل بك هذا؟ قال: جبلة بن الأيهم، فدعاه عمر وقال: لماذا تفعل به هذا؟ قال له: إنه وطئ إزاري.
قال: القصاص، تسامحه يا أعرابي؟ قال: لا أسامحه.
قال جبلة: أنا ملك وهو سوقة، أي: هذا مسكين هذا إنسان من الطبقة الرابعة أو الخامسة، وأنا ملك فلا تقتص مني.
قال: إن الإسلام قد سوى بينكما فانتظر جبلة، ويذكر في بعض الروايات أنه هرب وارتد عن الإسلام وذهب إلى بلاد الفرس أو الروم، ثم بعد ذلك كان يتأسف على ما مضى منه، ويتمنى لو صبر على القصاص والتزم بهذا الدين الذي دخل فيه يوماً من الأيام.
فالمقصود أن الإنسان مكرم في الإسلام عملياً وليس نظرياً فقط، الإنسان كائن مكرم محترم مقدر لا تُمس كرامته بسوء، ليس من حق أحد أن يعتدي عليه، أو يسيء إليه بقول ولا بفعل ومن هذا المنطلق منطلق الحفظ، مثلاً: قضية القذف يأتي إنسان إلى آخر فيقذفه؛ فمن حقه أن يطالب القضاء الشرعي أن يقيم على القاذف الحد، ويجلد ثمانين جلدة مقابل كلمة خرجت من فمه تسيء إلى إنسان وهي بغير حق.
وعلى مدار التاريخ قد وجد في المسلمين عصورٌ ضعف فيها تقديرهم لكرامة الإنسان وحق الإنسان، ووجد من يعتدي على الإنسان، على ماله، أو عرضه، على كرامته، أو حقه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على حقه في الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك وجد من يدافع عن هذا الإنسان، ويطالب بإعطائه حقه الذي شرعه الله له عز وجل.
مثلاً: شيخ الإسلام ابن تيمية، لعله من الرموز الكبيرة الذين كان لهم دور كبير اقرأ كلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه في كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، اقرأ كتابه في المظالم المشتركة، وكذلك فتاويه وغيرها، كيف تجد أن شيخ الإسلام -رحمه الله- كان من أعظم الهموم التي تشغل باله مصالح الناس خاصتهم وعامتهم، وكان منتصباً لخدمتهم، والسهر على مصالحهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، بلسانه وقلمه كما قال عنه بعض واصفيه ومؤرخيه.(73/14)
أولاً: حفظ الدين
الشرائع جاءت لحفظ الدين من أن يمس بسوء، أي حماية دين وإيمان الإنسان من كل أمر يمكن أن يعكر صفوه، أو يزيله ويفقد إياه بالكلية، ومن منطلق حفظ الدين، حفظ الإنسان عن الشهوات، التي يمكن أن تصد الإنسان عن سبيل الله، الشهوات التي تقابل الإنسان في البيت، أو في الشارع، أو المدرسة، أو البر، أو البحر، أو الشاشة، أو في أي موقع.
فالدين جاء لحفظ الإنسان عن هذه الشهوات؛ بحيث يبقى الإنسان يمتلك أعصاباً هادئة، ويمتلك جواً يتيح له فرصة التدين، لأن أكثر الناس تديناً، لو سلطت عليه من وسائل الانحراف والتضليل الشيء الكثير، ربما يتأثر أو يضعف، وقد ينحرف.
حفظ الدين من الشبهات: ومن حفظ الدين أيضاً: حفظ الإنسان من الشبهات، التي قد تضله أو تشكك في عقله، أو تصده عن سبيل الله عز وجل، وليس صحيحاً أن الناس كلهم يملكون عقولاً كبيرة يستطيعون أن يميزوا بها بين الحق والباطل، أكثر الناس من العامة- وإن كانوا يملكون شهادات أحياناً- لكن لا يملكون القدرة على التمييز، فليس صحيحاً أن أجعل الكتاب المنحرف -مثلاً- أو الشريط، أو الجريدة، أو أي وسيلة من الوسائل التي تنشر الشهوات والشبهات عند الناس وأقول: إن الناس يملكون التمييز.
ولذلك دعهم يقرءون ما شاءوا، ويسمعون ما شاءوا، وأتح الفرصة للدعوات المختلفة، وكل إنسان يدعو إلى مذهبه، كما نجد في بعض الدول الإسلامية -مثلاً- تجد أنهم قد يتيحون فرصة حتى للدعوات الشيوعية رسمياً أن تثبت وجودها، وأن تدعو إلى مبدئها، ويقولون: على الناس أن يختاروا ما شاءوا.
الناس أكثرهم لا يستطيعون أن يميزوا الحق من الباطل؛ إلا عن طريق أناس ناصحين صادقين يوجهونهم إلى الطريق المستقيم، والدين جاء لحماية عقول الناس من هذه الشهوات والشبهات التي تصدهم عن سبيل الله عز وجل.
ومن حفظ الدين -أيضاً- حفظ الدين عن الفتن، الفتنة التي تصد الإنسان عن دينه، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] ما هي الفتنة؟ إن الفتنة هي أن يكون على الإنسان ضغط يمنعه من التدين، يضغط عليه بالتضييق، أو بالإكراه، أو المحاصرة، أو السجن والتعذيب، أو بالقتل، حتى يضطر الإنسان إلى أن يتخلى عن دينه، فجاء الدين وشرع الله عز وجل الجهاد في سبيله لرفع الفتنة عن الناس، (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: لا يفتن الناس عن دينهم، ولا يواجه المسلمون في بلاد العالم من الاضطهاد والتضييق ما يجعل الواحد منهم يستخفي بإيمانه، ويستتر بدينه، وقد يخرج من دينه بسبب هذا الضغط والتضييق الذي يواجهه.
الأمر ممارسة شعائر الدين:- ومن حفظ الدين أيضاً: الأمر والتوجيه بممارسة جميع شعائر الدين، فالدين جاء لينظم حياة الإنسان، من يوم يولد ويسجل له اسم، فالدين يشارك في اختيار الاسم، ولهذا جاء في الإسلام كيفية اختيار الاسم، والأسماء الفاضلة، والأسماء المفضولة، والأسماء المكروهة، والأسماء المحرمة، وإلى أن ينتهي الإنسان ويدفن في قبره، طريقة دفن الإنسان في قبره -أيضاً- جاء الدين بتنظيمها، وكيف يدفن، وما هي الطريقة المشروعة، والطريقة الممنوعة، والسنة والبدعة في هذا الأمر؟ إذاً من الميلاد إلى القبر؛ كل ذلك جاء الدين بتنظيمه على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، فمن حفظ دين الإنسان: تمكينه من أن يمارس تطبيق شعائر دينه بكل تشجيع ودعم له أن يعبد الله، كيف يعبد الله؟ -مع الأسف- أن كثيراً من المسلمين تحول معنى العبادة في نفوسهم إلى معنى العبادة عند الديانات الأخرى، النصرانية -مثلاً- يعبدون الله يوم الأحد، وبقية أيام الأسبوع يعبدون البنك، واليهودية يعبدون الله -بزعمهم- يوم السبت، وبقية أيام الأسبوع يعبدون العجل أو يعبدون الدنيا والذهب.
وقد قال أحد الصحفيين الغربيين: إن الإنجليز يعبدون الله يوم الأحد، ويعبدون بنك إنجلترا في بقية أيام الأسبوع، وهم في الواقع لا يعبدون الله لا في يوم الأحد ولا في غيره لكن هم يزعمون ذلك.
أما الإسلام فقد جعل العبودية أمراً موجوداً عند الإنسان في كل أحواله قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162-163] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالإنسان يتقلب في عبادة الله عز وجل في كل أحواله وتقلباته، وظروفه، وكل حالة من الحالات التي يمر بها الإنسان لها عبادة تناسبها.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:- ومن كرامة الإنسان: ومن حقوق الإنسان التي يجب أن تصان أن يمكَّن من تحقيق هذه العبودية كما يريد الله عز وجل، خذ على سبيل المثال: الدعوة إلى الله جزء من العبادة، وليس صحيحاً أن المسلم مطلوب منه أن يؤدي الفروض الخمسة في البيت أو في المسجد، ثم يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! يدع أمر الناس للناس، ويترك الناس يضل منهم من ضل ويهتدي من اهتدى! ليس صحيحاً هذا أبداً، بل إن الإسلام جعل من أعظم الواجبات على المسلم أن يقوم بالدعوة إلى الله تعالى، فكل أمر يحول بين الإنسان وبين تطبيق الدعوة، والقيام بالدعوة، ومخاطبة الناس بالدعوة؛ هو يعتبر تعطيلاً لحقوق الإنسان، واعتداءً على كرامة ابن آدم التي خصه الله تعالى بها وميزه بها.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الغرب يقولون: حرية إبداء الرأي، وهم يتغنون بحرية إبداء الرأي، أو حرية الكلمة التي تضمن للإنسان أن يعبر عن رأيه بأي وسيلة، بكتاب أو بجلسة، أو حديث أو شريط أو غيرها، فهذا هو عند الغربيين.
أما في الإسلام فحرية الكلمة يقوم مقامها في الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا حق، لا أقول حق لك، بل هو حق عليك وهو حق لك في نفس الوقت، فهو واجب عليك، ولذلك الله عز وجل إنما ميزنا بهذا فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] .
فلا أقول: حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو حق على كل إنسان، وهو حق له أيضاً على مجتمعه وأمته ومن حوله؛ أن تكون كل الوسائل، وكل الظروف، وكل الاحتياطات متاحة، ليس للحيلولة بين الإنسان وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الإنسان من ذلك، واعتبار أن هذا تعدٍ على حرية الآخرين، وعلى حقوق الآخرين، وعلى صلاحيات الناس، ومضايقة لهم، وإنما تقول له: إن من واجبك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لأنك إذا سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فشأنك كشأن أصحاب السفينة، الذين يرون واحداً منهم يخرق في السفينة بيده أو بمسحاته أو بآلته، ثم يتركونه ويقولون: هذه حريته، مع أن هذا الخرق -إن حصل فعلاً- معناه أن الماء أغرق السفينة ومن فيها.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ من أهم الحقوق التي أناطها الله تعالى بالفرد والمجتمع والأمة، وجعلها حقاً عليهم، وفي نفس الوقت ضمن للفرد أنه يملك هذا الحق، ولهذا كانوا يقولونها لكبار الصحابة رضي الله عنهم، دون أن يجدوا في هذا حرجاً أو غضاضة، كان الواحد منهم يقف أمام أمير المؤمنين الذي تدين له الأمة المسلمة في شرقها وغربها، فيأمره بالمعروف الذي يظنه، وينهاه عن المنكر الذي يظنه، وليست القضية حتماً أن هذا معروف فعلاً أو منكر، لكن هذا الذي ظهر له.
وكم من مرة وقف فيها عمر رضي الله عنه على المنبر، يقول: [[يا أيها الإنسان! اسمعوا وأطيعوا، فيقوم له رجل ويقول: لا سمع ولا طاعة.
فيقول: ولم يرحمك الله؟ قال: لأنك أعطيتنا ثوباً ثوباً، وأخذت أنت ثوبين، فقال عمر: أين عبد الله بن عمر؟ قال: هأنذا، قال: أخبرهم.
قال: لا والله ما أخذ أبي إلا ثوباً واحداً، لكنني أعطيته الثوب الآخر -لأن عمر كان رجلاً بديناً جسيماً لا يكفيه ثوب واحد- قال: الآن نسمع ونطيع]] .
وفي مرة أخرى يقف عمر ويقول: [[أيها الناس! أرأيتم لو قلت برأسي إلى الدنيا هكذا ماذا كنتم تصنعون؟ فقام إليه رجل وقال: كنا نقول لك بسيوفنا هكذا.
فقال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من لو مال عمر لَقَوَّمه بسيفه]] ليس هذا بغريب؛ لأن عمر، وأبا بكر، وعثمان، وعلي، وأصل نظام الإسلام ما جعل هذا التنظير للمجتمع، وما منح الحاكم هذه الحقوق وجعل الرعية تتبعه وتسمع له وتطيع؛ إلا لأنه قيم عنها في حفظ حقوقها.
ولذلك انظر الخطبة التي ابتدأ بها أبو بكر رضي الله عنه خلافته: [[أيها الناس! القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله]] وفعلاً طبق رضي الله عنه وأرضاه هذا المبدأ.
إذاً قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الكبير والصغير، وعلى جميع الطبقات، وفي جميع الظروف والأحوال، هي من الحقوق المنوطة بالفرد، التي لا يسع مسلماً يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر، ويخاف الله تعالى ويرجوه أن يقصر فيها، ولا يسع أحداً -كائناً من كان- أن يحول بين الإنسان وبين ممارسة هذا الحق أو الواجب الذي كلفه الله تعالى به.
الشرائع جاءت لحفظ الدين، وهذه هي الضرورة الأولى، لأنه لا قيمة للإنسان بلا دين، وكما يقول محمد إقبال رحمه الله: إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا فالبهيمة خير من الإنسان بلا دين، ولذلك جاءت الشرائع لحفظ الدين.(73/15)
إهدار حقوق الإنسان هدم للأمم
إهدار حقوق الإنسان هدم للأمم:- أيها الإخوة: إن إهدار حقوق الإنسان في أي أمة وفي أي مجتمع؛ هو هدم للأمة وعزل لها عن مهمتها التي خلقت لها، وفي كثير من البلاد يعيش المسلم وضعاً لا يتناسب مع إنسانيته، فضلاً عن دينه وعن إيمانه، يطارد في طعامه وشرابه وعرضه وأمنه، ولا يأمن على نفسه، وذلك كله يتم أحياناً تحت شعارات براقة طالما سمعناها في الشرق والغرب، شعارات الحرية والأمن والعدالة، والديمقراطية وغيرها.
على حين أن دين الإسلام جاء بأفضل النظم وأعظم التشريعات، التي تحفظ حقوق الإنسان في الصغير والكبير، حتى أن الله عز وجل قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] وحتى إن الإسلام لا يجيز الإكراه بحال من الأحوال، فكل تصرفات المكره تعتبر باطلة، كما قال الله عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106] فكل تصرفات المكره تعتبر باطلة لاغية لا قيمة لها ولا اعتبار، وذلك لأن القسر والعسر والإكراه والإلزام لا يغير قناعة الإنسان، ولا يغير الشيء المستقر الموجود في عقله، وإنما يجعل الإنسان مزدوجاً، له شيء ظاهر رسمي معلن، وله شيء باطن خفي مستتر، فهو -ظاهراً- يوافق هذا الذي يكرهه، شخصاً كان أو مجتمعاً أو وضعاً من الأوضاع، وفي الباطن لا يمكن أن تتغير قناعته ووجهات نظره الموجودة فيه.
وفي النهاية إذا وجد مثل هذا الوضع الذي يكره الإنسان ويقسره على ما لا يريد، وما لا يعتقد، وما لا يؤمن به، فإما أن يسقط الإنسان وينتهي؛ لأنه إنسان مزدوج يعيش بشخصيتين، شخصية ظاهرة، وشخصية مستترة، شخصية معلنة، وشخصية خفية، فيفقد قيمته ومكانته وإنسانيته.
وماذا تتصور في الأمة إذا فقد الإنسان فيها قيمته؟ هذا الإنسان الذي فقد قيمته لن ينفع في أمر ديني، ولا في أمر دنيوي، ولن يدفع عدواً، ولن يجاهد، ولن يقاتل ولن يأخذ بحق، ولن يكون هذا الإنسان الذي فقد إنسانيته إلا كَلاّ على مولاه، أينما توجهه لا يأتي بخير.
إذاً لا تتصور أنك سوف تهدر كرامة الإنسان وإنسانيته، ثم تحتاجه في يوم من الأيام فتقول له: الآن حتى إنني قرأت في بعض الكتب أن هناك كثيراً من الأرقاء -ولاحظ العجب العجاب- في بعض الدول أرقاء كثيرون اعتقوا جملة واحدة، فهؤلاء الأرقاء الذين اعتقوا ماذا كان شأنهم؟ هل ترى أن هذا الإنسان فرح بالعتق وتطلع إلى نسيم الحرية، وطلع يستمتع بحريته، رجعوا إلى الذين حرروهم وقالوا: جزاكم الله خيراً، إن قبلتمونا عبيداً نكون تحت تصرفكم وتسلطكم فنحن نكون لكم من الشاكرين؛ لأنهم ما تعودوا إلا على جو العبودية والذل، والأمر والنهي، كالطفل الذي تعود عند والده أن يأمره وينهاه، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف در يميناً در شمالاً، هذا الطفل تعوَّد أن أباه يعطيه أوامر في كل حركة، لا يسمح الوالد لولده أن يتصرف أي تصرف إلا بعدما يأمره بذلك! لذلك تعطلت عقلية الطفل ومواهبه وأصبح ينتظر، وربما لو تصرف أي تصرف -مهما كان تافهاً- يصاب بهلع وفزع ورعب، لماذا؟ لأنه يمكن أن يكون التصرف خطأ فيغضب عليه والده وقد يعاقبه على هذا التصرف.(73/16)
نظرة عامة إلى حقوق الإنسان في الغرب
إخوتي الأكارم، أختصر ما بقي من الموضوع لعله أن يكون هناك وقت لبعض الأسئلة، فأقول: الأمر الذي ذكرته لعله هو السبب فيما نشاهده في العالم الشرقي، والمعسكر الشرقي، حيث عاشوا طويلاً يحكمون الناس بالحديد والنار، والقوة والتسلط، صادروا أموال الناس -مثلاً- باسم التأميم، ومنع الملكية الفردية، صادروا عقول الناس وحرياتهم باسم نظام الحزب الواحد، وفرض الشيوعية، صادروا كل شيء، وفي النهاية سقط هذا المعسكر وصارت دوله تتساقط كأنها حبات أرز أو خرز انقطع نظامها فواحدة على إثر الأخرى، لأنهم على رغم حكمهم عشرات السنين ما استطاعوا أن يغيروا قناعة الإنسان أبداً، ولا أن يغيروا طبيعة الإنسان وفطرته الذي فطره الله تعالى عليها.(73/17)
حقوق العمال
عاشوا ألواناً من التغيير لحقوق الإنسان والإغارة عليها، منها ما عاشوه سابقاً فيما يسمونه بالإقطاع، ووجود رب الأرض الذي يملك الأرض وما فيها من الأقنان والعبيد وهم يباعون مع الأرض بكميات كبيرة، على اعتقاد أن أصل هؤلاء خلقوا عبيداً لا حيلة فيهم، ولا يمكن تغيير ما خلقوا عليه، ووجدوا أيضاً إيذاناً آخر للإنسان من خلال ما يسمونه رب العمل، فكان رب العمل يملك أعداداً كبيرة من العمال، والذي يهمه هو زيادة الإنتاج، وجودة الإنتاج، ولو على حساب صحة العامل، ولو على حساب كرامته وعافيته، بل ولو على حساب حياته أحياناً، دون أن يكون للعامل أي ضمانات أو حقوق.
أما نظرة الإسلام للعامل -كما أشرت قبل قليل- حتى العبد الرقيق الذي يعمل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، تطعمه مما تطعم، وتلبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق} لكن مع ذلك إن كثيراً من المسلمين اليوم أخلوا بهذه الحقوق، فأصبحنا نجد كثيراً من العمال في بلاد المسلمين يعيشون ألواناً من إهدار الإنسانية، تجد بعض العمال كأنهم مجموعة حيوانات في زريبة، بل يسكنون أحياناً في صنادق وغرف وأماكن، ربما لو كان عند الإنسان حيوانات ما رضي أن تسكن فيها، معرضة للبرد وللمطر، ومعرضة لكل شيء، وبصورة لا تليق بكرامة الإنسان وآدميته.
هذا فضلاً عن منعهم رواتبهم أحياناً، فضلاً عن الإساءة إليهم بالقول أو بالفعل، أو طردهم، أو بخس حقوقهم، أو ظلمهم بأي شكل من الأشكال، والباب واسع جداً لمن أراد أن يتلاعب أو يعبث، فمهما كان هناك من الأنظمة، ومهما كان هناك من المتابعات والملاحقات، إلا أن من أراد أن يعبث ويسيء ويأخذ حق هذا العامل؛ فإنه يستطيع بوسائل كثيرة يمليها عليه الشيطان، وتمليها عليه نفسه الأمارة بالسوء.
وهذا -أيها الإخوة- من الظلم الفادح الذي قد يكون سبباً في الهلاك، وسبباً في تعذيب الله عز وجل للأمم، فيجب أن ينتهي هذا الظلم، وأن تعرف أن هذا العامل الذي يكون تحت تصرفك هو أخوك المسلم، بل أقول: حتى لو كان العامل غير مسلم فالظلم لا يجوز، حتى الكافر لا يجوز ظلمه، إن كان كافراً ينبغي أن تستبدل به مسلماً، لكن حتى الكافر لا يجوز أن تظلمه، قال الله كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} .
كما عاشت الأمم الغربية من التسلط؛ أن هؤلاء العمال المضطهدين في الدول الغربية والشرقية، لما تحركوا وقاموا بما يسمى بالبروليتاريا، أو ما يسمى بثورة الشيوعية في روسيا، باسم العمال حكم القياصرة الجدد الشيوعيون، بدلاً من كون الإنسان كان إنساناً مسلوب الحقوق، أهدروه وسلبوا إنسانيته وألغوها منه، باسم العدل والاشتراكية العلمية، وإلغاء الملكية الفردية وغير ذلك.(73/18)
حكم الكنيسة "الثيوقراطية"
كما أن من التسلط الذي عاشه الغربيون والشرقيون أيضاً: تسلط ما يسمونه بالحكم الديني أو الحكم الثيوقراطي، أو حكم الكنيسة، فكان ما يسمونهم برجال الدين النصراني، يحكمون الناس باسم الإله، ويزعمون أن الحاكم منهم هو ظل الله في الأرض، ولذلك فالذي يعترض عليه إنما يعترض على الله عز وجل، وعلى قضاء الله تعالى وقدره، فكانوا يسومون الناس سوء العذاب، فضلاً عن أنه بلغ الحال بهم إلى أنهم كانوا يمنحون الناس صكوك الغفران في الجنة، وإقطاعات في الجنة، وآخرون قد يمنحون إلى النار، أي تصرفوا في الدنيا، ولما انتهت الأراضي، والأموال، والمزارع رجعوا يستدينون إلى الدار الآخرة، وعبثوا بالدين.
أما الإسلام فليس فيه شيء اسمه رجال دين، أو حكم ثيوقراطي، المسلمون يحكمون بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكبير والصغير في ذلك سواء، والحكم لله عز وجل ليس من حق أحد أن يشرع أو ينظم أو يسن قانوناً شرعياً في أمر ديني؛ لأن الله جعل هذا في كتابه وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والعالم إنما مهمته أن يبلغ الناس شريعة الله تعالى، وتخصص أن يشرح للناس ما لا يعرفون، ولهذا حتى التقليد للعالم ليس فرضاً، قد تكون طالب علم فتستقل بمعرفة النصوص بنفسك، والعامي ليس مطالب أن يقلد فرداً بعينه، أو إماماً بعينه، بل يقلد من يثق بدينه، وعلمه في أمور الدين، ويسأله أيضاً عن الدليل إن استطاع أن يفهم الدليل.
إذاً الإسلام عمل على تحريك عقول الناس، وجعل كل إنسان مشارك، وما ذلك إلا لإثارة إنسانية الإنسان، والحفاظ على كرامته، وألا يتحول الناس إلى أرقام بلا رصيد، أصفار على الشمال، مجرد أتباع موافقين يقالُ لهم فيؤمِّنون، ويملي عليهم فيوافقون.(73/19)
التمييز العنصري
ومما عاشه الغرب ما يسمى بالتمييز العنصري كاليهود -كما ذكرت لكم- والأمريكان -أيضاً- يعتقدون أن الشعب الأمريكي هو الشعب الذي اختاره الله لتحضير العالم، ومن هذا المنطلق ينظرون إلى الناس كالنمل أو الذر الصغير أمام هؤلاء العمالقة الكبار، في نظرهم وفي تصورهم، وتصور الغرب بشكل عام.
قضية التمييز العنصري بين الأبيض والأسود، ولذلك تجدون أن أكثر الذين يسلمون في الغرب هم من السود، لأنهم يواجهون اضطهاداً كبيراً، وقد رأيتهم وسمعنا من أخبارهم الشيء الكثير، أقول: بالملايين في أكثر دول العالم تقدماً ينامون على الأرصفة، لا يجدون بيتاً يأوون إليه، ويأكلون طعامهم من القمامة، تجد شيخاً كبير السن منحني الظهر يبحث في القمامة لعله يجد قشرة موز أو كسرة تفاح يأكلها ويسد بها رمقه.
وإلى وقت قريب كانوا يكتبون على مطاعمهم: ممنوع دخول السود والكلاب، فهم ينظرون هذه النظرة العنصرية التي هي نظرة منحرفة -أصلاً- تُنِمُّ عن مدى ما في عقولهم من الانحلال، لأننا نجد أن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
حتى أن من العجيب أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ بلال العبد الأسود الحبشي، كما في صحيح البخاري: {يا بلال أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك أمامي في الجنة بلال العبد الأسود الحبشي يدخل أمام النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، قال: والله يا رسول الله! لا شيء، إلا أنني ما توضأت وضوءاً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ما شاء الله تعالى} سنة الوضوء كلما توضأ صلى ركعتين أو ما شاء الله تعالى، فكان هذا سبباً في تقدمه إلى باب الجنة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء كلنا نشترك في هذا النسب.
إذاً الإنسان في الإسلام له كرامة، وله حقوق يجب أن يعلمها، وأن يطلبها ويحفظها، وعليه واجبات يجب أن يعلمها وأن يؤديها.(73/20)
التمايز الطبقي
الدول البعيدة عن هدي الإسلام، عاشت ألواناً من الاضطهاد عبر التاريخ بسبب نظرتها إلى الإنسان، وأن الإنسان متفاوت في أصل الخلقة، فعند الأمم الأخرى أن الناس ما خلقوا خلقه واحدة، إنما الناس عندهم على نوعين: هناك أشراف كبار عظماء خلقوا خلقة معينة، وأناس خلقوا عبيداً أذلاء وهذه النظرة موجودة عند اليهود مثلاً، كما يعبرون عن ذلك بنظرية شعب الله المختار، فاليهود يرون أنهم هم شعب الله المختار ويقولون كما يملي عليهم تلمودهم وكتبهم التي يزعمون أنها مقدسة: إن الأمميين -ويقصدون الأمم الأخرى من غير اليهود- ما هم إلا حمير خلقوا ليركبهم شعب الله المختار، وكلما نفق منهم حمار ركبنا حماراً آخر، وهذا النظرية هي التي تحكم دولة إسرائيل الآن.
وفي بعض البلاد كانوا يعتقدون أن عندهم طبقة الأشراف والسادة يجري في عروقهم دم أزرق مقدس، ولذلك لا ينالهم سوء، ولا تقام عليهم حدود، ولا يؤخذ منهم حق، ولا ينال منهم شيء، بل لا يملك أحد أن يجلس مع واحد منهم، حتى إنه في بعض تشريعات بعض الهنود وغيرهم؛ أنه لو جلس واحد منهم مع البرهمي فإنه يكوى، لماذا يجلس مع هذا الإنسان الذي له شرفه وله مكانته؟ وكذلك النظرية الغربية قامت على هذا المبدأ نفسه، حتى إن نظرية أفلاطون، أو جمهورية أفلاطون - كما يقولون- مبنية على أساس أن الناس ليست خلقتهم واحدة، بل خلقوا متفاوتين، خلقوا سادةً وعبيداً.
والحضارة الغربية اليوم أخذت من التراث الروماني واليوناني التي تميز بعض الناس عن بعض، ولذلك نظرتهم للمسلم اليوم متميزة، قد تقول: أين هذه النظرة؟ أولاً: النظرة عندهم للسود معروفة، لكن نظرتهم للمسلم بالدرجة الأولى متميزة جداً، يعتبرون من يسمونه بالمسلم، أو المتخلف، أو الفرد من العالم الثالث، أو الفقير، أو ما أشبه ذلك له نظره معينة، دمه رخيص مثل ماء البحر، يموت منهم عشرة، أو مائة، أو ألف، عشرة آلاف لا يهمهم ذلك، لك لو أُخذ غربي أو أمريكي رهينة أو رهينتين تقوم الدنيا كلها ولا تقعد من أجل هؤلاء.
بل حتى جنس النصراني يغالون فيه، ولذلك تشاهدون غضب الغرب على الشرق -روسيا- في تصرفها بقتل أربعة أو خمسة في جمهوريات البلطيق، يقتل من المسلمين ألوف فما يتحرك أحد، كما قيل: بالأمس مات لوممبا فانبرت رسل تبكي وتحكي ودمع العين هتان واليوم لا شاعر يحكي ولا صحف تبكي ولا مرسلات عندها شان حتى إن بعضهم ذكروا نكتة طريفة عن بعض الذين كانوا يستعمرون الدول الأفريقية التي كان فيها المسلمون، فهم يعتبرون أنفسهم في جميع الظروف أناساً متنورين، ومتمدنين ومتحضرين، والمسلم يعتبرونه متخلفاً مهما كان وضعه، فهم كانوا يقتلون المسلمين بأسلحتهم فأراد أحدهم أن يقتل مسلماً من المسلمين، فتمكن هذا المسلم أن يعضه، فعضه قبل أن يقتله، فيروي القصة لأحد زملائه، يقول: تصور كم هو متوحش هذا المسلم! إنه عضني حين أردت قتله، أي: أن عضة المسلم هذه وحشية، لكن قتله هو شيء حسن، لأنه نابع من الحضارة والتقدم والمدنية، هكذا يصورون، وهذا هو المنطق الذي يحكمهم، إن لم يحكمهم كأفراد؛ فإنه يحكم دولهم وأممهم بشكل ظاهر للعيان.(73/21)
الأسئلة(73/22)
التوبة من المعاصي
السؤال
أنا امرأة مسلمة أخاف الله كثيراً؛ لكني عصبية إلى أبعد الحدود، وعندما أغضب لا أدري عن نفسي ماذا أقول؟ وأتفوه بكلمات أعرف أنها حرام، ولكني بعدما أهدأ أحاسب نفسي وأستغفر الله كثيراً، وأكفر عن ذلك بالصلاة والصوم، لكنني لا أعرف أن الله تعالى يغفر لي ويقبل استغفاري أم لا؟
الجواب
ينبغي أن تعملي على ضبط نفسك بقدر المستطاع، والرسول عليه الصلاة والسلام {جاءه رجل فقال له: يا رسول الله! أوصني؟ قال له: لا تغضب فردد مراراً قال: لا تغضب} وبين في بعض الأحاديث طرق علاج الغضب: {إن كان قائماً قعد، وإن كان قاعداً اضطجع، ويذهب ليتوضأ؛ فإن الغضب جمرة تغلي في قلب ابن آدم ويطفئها الوضوء} فيتوضأ الإنسان.
ومن أعظم الوسائل: أن العبد إذا رأى شيئاً يثيره ويسبب الغضب يبتعد عنه، يتركه أصلاً، أي أن أحسن حل هو أن تتجنب الشيء الذي يثير غضبك بقدر المستطاع، وإذا رأيت أن مبادئ الغضب وجدت، فانسحب حتى لو تركت بعض الأشياء التي هي حق لك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، ولا تفضحنا بعيوبنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اللهم اكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم ارفع راية الجهاد في سبيلك، اللهم أقم علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا نعترف إليك بضعفنا وعجزنا وظلمنا يا حي يا قيوم! فتقبل منا دعاءنا.
اللهم جاهد عنا من لا نقوى على جهاده، اللهم إنهم إن أعجزونا لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، لا إله إلا أنت ظلمنا أنفسنا، واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا، واستجب لنا يا حي يا قيوم! اللهم إنك أمرت بالدعاء، ووعدت بالإجابة، وأنت لا تخلف الميعاد.
اللهم يا رب هذا الدعاء فإنا ننتظر منك الإجابة، اللهم أجب دعاءنا، اللهم لا تخيب رجاءنا، اللهم أحينا حياة السعداء، وأمتنا ميتة الشهداء، اللهم أصلحنا أجمعين وذرارينا يا حي يا قيوم! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(73/23)
العقل العربي والعقل الغربي
السؤال
قلتم في إحدى محاضراتكم: إن عقل المسلم العربي يفوق عقل الرجل الغربي، مع أننا نرى الواقع يخالف ذلك ظاهراً، فنرى التطور الحضاري عندهم بخلاف بلاد المسلمين، أرجو التوضيح فقد اختلط علي الأمر؟
الجواب
التطور ليس مرهوناً فقط بقضية العقل، التطور مرهون بمجموعة معطيات إذا توفرت لأمة حصل لها التطور المادي، والتقدم التقني العلمي، والحقيقة لا أستطيع أن أقول: إن عقلية المسلم العربي على طول الطريق أحسن من عقلية الرجل الغربي، أو أن هناك شعباًً أكثر تقدماً عقلياً من شعب، لكن هناك مؤثرات تجعل هذا الكلام له ما يصدقه، مثلاً: طبيعة التفكير.
فمثلاً المسلم العربي أو المسلم بشكل عام؛ تجد أن تفكيره منصباً في الأشياء العملية المثمرة، بخلاف كثير من الغربيين فإن تفكيرهم يضيع في أشياء نظرية وفلسفات وأمور جدلية وخيالية لا تعود عليهم بثمرة إلا ضياع الوقت، ولذلك تجد إغراقهم في النزعة الفلسفية منذ عهود اليونان والرومان.
أمر آخر يا أخي: لماذا تجعل فترة معينة أو زمناًَ معيناً هو المقياس؟ إذا كان ولا بد؛ فلا بأس أن تقارن واقع الأمة المسلمة بواقع الغربيين منذ زمن طويل، منذ وجدت الأمة المسلمة إلى اليوم، ستجد أن المسلمين ظلوا أعزه كرماء أقوياء ما يزيد على ألف سنة، والغرب خلال هذه المدة كلها كانوا يعيشون فيما يسمونه بالعصور الوسطى، عصور التخلف، والضلال والجهل والجاهلية.(73/24)
حكم مشاهدة الحرب في التلفاز
السؤال
سؤال عن مشاهدة الأحداث الحربية عبر الشاشة؟
الجواب
أقول: إن مما يؤسف له أن كثيراً من الناس ممن سلم الله تعالى بيوتهم من هذا الوباء المدمر، أدخلوه إلى بيوتهم بمناسبة الأحداث وهذا خطأ، لأن الأصل أن المؤمن في مثل هذه الأحداث يتوب إلى الله تعالى مما عنده من الذنوب والمعاصي ويقلع عنها، ويطهر بيته من وسائل التخريب والهدم والفساد، ولا يجرها إلى بيته، والإنسان إذا جرها إلى نفسه فهذا لا يستطيع أن يتخلص منها في أي وقت من الأوقات، ولا أن يتحكم فيها، فعلى الأب أن يتقي الله عز وجل، وكل شيء له بديل، يستطيع أن يستفيد ويحصل على ما يريد دون حاجة إليه.(73/25)
الموافقة على من يريد الزواج
السؤال
تقدم لبنتي رجل وعنده مبادئ الالتزام بالدين هل أوافق أم لا؟
الجواب
ما دام أنه رجل متدين، وأخلاقه طيبة فقد جاء في الحديث: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه} لكن لا توافق إلا إذا وافقت البنت؛ لأن هذا من حق الفتاة، وما دمنا نتكلم في حقوق الإنسان، فالمرأة لها حقوق كبيرة، الفتاة تملك بضعها على الأقل، ليس من حقك أن توافق بنفسك أو ترفض، إذا أعجبك الرجل تعرض على الفتاة أنه تقدم رجل شأنه وصفته كذا، ووظيفته كذا، ودينه -إن شاء الله- صالح على حسب ما تعلم، وأخلاقه طيبة، ثم تنصحها بما تريد، لكن ليس من حقك أن تفرض عليها شيئاً.(73/26)
الموقف الصحيح من أحداث الحرب
السؤال
ما هو الموقف الذي يجب أن يقفه الشاب في مثل هذه الأحداث، والذي تبرأ به ذمته أمام الله عز وجل؟
الجواب
أولاً: لا بد من الصبر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] .
ثانياً: لا بد من الاجتهاد وبذل الوسع فيما يطيقه الإنسان من الأسباب، سواءً الأسباب الشرعية أم الأسباب المادية، ولعل من ذلك: الدعاء، والإقبال على الله تعالى بالدعاء الدائم، والصدق في الدعاء، واللهج إلى الله تعالى بالدعوات الجوامع، تدعو بجوامع الدعاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، سواء في القنوت أم في غيره، وفي سرك وفي جهرك وعلانيتك، وترغب إلى الله تعالى بإهلاك أعداء الإسلام أين كانوا وأياً كانوا، ظهروا أم استتروا، قربوا أم بعدوا.
ومن الأشياء المطلوبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الأشياء المطلوبة: رفع الظلم عن المظلومين، فهذه من أسباب رفع البلاء، ومن الأسباب أيضاً: إعانة الفقراء والضعفاء في كل حي؛ أن نتواصى بهم، كل جماعة مسجد يعرفون من حولهم من الفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام، ويساعدونهم بكل ما يستطيعون، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {أبغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم واستغفارهم} ومن أحسنتم إليه تقولون له: ادعُ للمسلمين، بالنصر والتمكين، وأن يكفيهم الله شر عدوهم، وأن يحفظ لهم بلادهم، وأمنهم، ودينهم، وكرامتهم، وأن يذل أعداءهم، وأن ينزل على أعدائهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأن يهلك الظالمين بالظالمين، يخرج المسلمين من بينهم سالمين، وما أشبه ذلك من الأدعية.
كذلك من المطلوب من الناس: التوكل على الله عز وجل، ومراجعة إيمانهم الصحيح في هذا الأمر، وكذلك الإيمان بالقضاء والقدر.(73/27)
السفر إلى أرض الرباط "أفغانستان"
السؤال
ما رأيكم في الذهاب إلى أفغانستان للإعداد والجهاد، وبعد موافقة الوالدين؟
الجواب
نعم هذا أمر طيب، والذهاب إلى أفغانستان أو إلى أي مكان يتاح للإنسان فيه فرصة تدريب جيد ناجح، يحيي في الإنسان عوامل الرجولة والإنسانية والكرامة، ويدربه على الأشياء التي أصبحت ضرورة لكل إنسان فهذا أمر طيب وينبغي على الإنسان أن يسعى إلى تحصيله.(73/28)
الخروج من البلد التي فيها حرب خوفاً
السؤال
هناك من خرجوا من بعض المناطق المخوفة، ما رأيك في ذلك؟
الجواب
إذا لم يكن لبقائهم هناك من أثر أو دور، فلا حرج في خروجهم لأن هذا ليس فراراً من الزحف، هم ليسوا أمام زحف يواجهونه، الزحف شيءٌ آخر، هؤلاء أناس مقيمون في بلد فخرجوا إلى بلد آخر أكثر أمناً، لا حرج عليهم في ذلك.(73/29)
سؤال عن حديث
السؤال
ما هو فقه حديث: {إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر} ؟
الجواب
هذا الحديث له قصة: رجل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، والحديث في البخاري ومسلم، من رواية سهل بن سعد وغيره {أنه كان مع النبي صلى الله عليه سلم في غزوة خيبر، فكان رجل يضرب يمنة ويسرة، شجاع لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذه إلا أقبل عليها يضربها بسيفه، فأخبر الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو في النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فقال رجل: أنا صاحبه أبداً، لحق به ينظر ماذا يكون، فأصاب هذا الرجل جرح، فاتكأ على ذباب سيفه، ووضعه في صدره واتكأ عليه حتى خرج من ظهره ومات، فجاء الرجل وقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار أصابه كذا وكذا، قال النبي صلى الله عليه سلم: يا فلان ناد في الناس إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله ليعز هذا الدين بالرجل الفاجر} .(73/30)
أخذ الحق بالقوة
السؤال
إذا كانت هذه هي قيمة الإنسان وعظمة حقوقه، فهل من الشرع أن المسلم إذا رأى شيئاً من حقوقه نقص يأخذه بالقوة؟ مثال: مكان لبيع الدخان وسط الحارة، ولم يتم منع ذلك، فهل من حق جماعة المسجد في تلك الحارة أن يتخذوا قراراً في منع هذا المنكر؟
الجواب
هذا الأمر لو أذنا بأن يأخذوا حقهم بالقوة منه، من شأنه أن يفتح باباً لضرر كبير، ويدعو إلى ارتكاب مخالفات كثيرة، وقد يكون سبباً لفتنة في المجتمع لا تنتهي، لأن الناس إذا فتح لهم باب -كما هو معروف- قد يندفعون في هذا أكثر مما هو مطلوب، لكن هناك حل أفضل من هذا؛ تستطيعون أن تأخذوا حقكم منه باللين وهو المناصحة، فإذا لم تجد هذه المناصحة؛ فأنتم يا من هممتم بهذا العمل عليكم أن تقاطعوا هذا المحل، وما رأيك في دكان في حارة من الحارات -مثلاً- إذا قاطعه أهل الحي فلا يشترون منه، واتفقوا وتواصوا فيما بينهم، وتواطئوا على هذا الأمر، لأنه يبيع الدخان، أو المجلات السيئة أو ما شابهه ذلك؟ لاشك أنه مضطر إلى أن يترك هذا العمل المحرم، لأنه أصلاً إنما جاء به للكسب، فما دام كسبه يقتضي ترك هذا الحرام سيتركه.(73/31)
تكريم الإنسان على غيره
السؤال
ما سبب تكريم الله عز وجل للإنسان، وتفضيله على جميع المخلوقات، مع العلم أن الملائكة أكثر منه تسبيحاً وذكراً واستغفاراً لله عز وجل؟
الجواب
على كل حال لا أريد أن أدخل في مسألة المفاضلة هل الإنسان أفضل أم الملائكة أفضل؟ فهذا موضوع آخر، لكن، سبب تكريم الله للإنسان وتفضيله على كثير ممن خلق، هو ما ذكرته أن الله تعالى ميزه بالعلم والعقل والتكليف، وأمره بالعبادة.(73/32)
التوكل مع بذل الأسباب
السؤال
هل من تكريم بني آدم ابتلاؤهم بمثل هذه الأحداث؟ وما هو المحذور في اتخاذ الأسباب مع العلم أنها لا تنافي التوكل؟
الجواب
أنا لا أقول: إن هناك محذوراً في اتخاذ الأسباب، وقد تكلمت في غير هذه المناسبة عن موضوع اتخاذ الأسباب، وأنه لا حرج فيه، ولا يمنع أحد منه، إلا أنه لا يطلب من الإنسان أن يتعدى هذا الأمر إلى درجة المبالغة، التي قد تجعل السبب يعود على الإنسان بالتلف، أو تضيع وسائل أخرى، كما أننا نطالب الإنسان، كما أنه يتخذ الأسباب للوقاية المادية، كذلك يجب أن يتخذ الأسباب للوقاية الشرعية.
كما تقي أطفالك -مثلاً- من الشارع في مثل هذه الظروف، تقيهم من الشارع في مثل ظروف أخرى، فكثير من الآباء لو يقال له: لا تخرج أولادك إلى الشارع، احفظهم في البيت قال: والله عجزت عنه، لكن في مثل هذه الظروف لما شعر بخطر؛ عرف كيف يحفظهم، استطاع أن يقنعهم، ويجلس معهم جلسات يبين لهم خطر الغاز، وقد يأتي لهم بصور -وهذه تزعجهم كثيراً- تدل على من أصابتهم الكيماويات، حتى وجد في نفسية الطفل قناعة أنه لا يخرج.
فيا أخي الحبيب: نريد منك كذلك في القضايا الشرعية أن تمارس نفس الأسلوب.(73/33)
المطالبة بحق الإعداد للجهاد
السؤال
ذكرت أن الإنسان له حقوق يجب أن يطالب بها، فهل ترى المطالبة بالإعداد الصحيح للجهاد، حيث إن كثيراً من المؤمنين أصبحوا عالة على غيرهم، وصاروا ضحية أعدائهم ومهزلة للآخرين؟ أرجو التوجيه.
الجواب
لا شك أن الإعداد من أهم الأشياء التي تضمن بها الأمة والأمم قوتها ومكانتها وحفظها، والحق إذا لم تحفظه القوة فإنه ضائع.
فما هو إلا السيف أو حد مرهف تقيم ضباه أخدع كل مائل فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل فلا بد للحق أن تحرسه القوة.(73/34)
يا أهل الجزيرة
الجزيرة مهبط الإسلام، وهو فخرها، ولكن قد يضعف ذلك بسبب التأثر بالثقافة الغربية وهنا تذكير لأهل الجزيرة بخصائصهم، ونداء لهم للرجوع إلى ما فضلهم الله به، وهو كذلك نداء لكل أهل الإسلام.(74/1)
الخطاب الإسلامي وشموليته لكل الناس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم أجمعين.
ثم أسلم عليكم جميعاً بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا الله وجوهكم بالسلام، وأكرم وفادتكم يوم تفدون عليه في ذلك الموقف العظيم.
أيها الإخوة: كنت وما زلت حريصاً على أن يكون هذا اللقاء بعيداً عن أي روتين أو إلزام لي أو لكم، ومن هذا المنطلق كنت أحرص على ألا أجهز موضوعاً وأتعب في أعداده وتحضيره، كي لا أشق على نفسي أولاً، وحتى تعذروني من أي تقصير في إعداد الموضوع، أو تقديمه، أو استكمال جوانبه ثانياً، ولكني وجدت أن حضوركم وحرصكم وإلحاحكم وتكاثركم، -كثركم الله وبارك فيكم- يضغط علي شيئاً فشيئاً، ومع أني ما زلت متمسكاً برأيي إلا أنني وجدت أن البحث عن موضوع يلائم طرحه أنه يشغل ذهني جزءاً غير قليل من الأسبوع.
فطيلة هذا الأسبوع كنت متردداً بين عدد من الموضوعات كلها مهم وجدير، وكل واحد منها يدلي بحجته ليكون هو الأولى بالتقديم، وكان في ذهني أن أحدثكم هذه الليلة عن موضوع بعنوان (العُقد) وكنت سأتحدث فيه عن بعض ما أعتبره عُقَداً في التفكير تؤثر علينا من حيث نشعر أولا نشعر، مثل عقدة المؤامرة، ومثل عقدة الاستعلاء والفوقية، وسجلت رءوس أقلام في وريقة صغيرة معي، ثم وجدت أنه منذ أمس هجم علي موضوع هجوماً شديداً، وأحاط بي من كل جانب.
ووجدت نفسي منساقاً إلى أن أحدثكم عنه حديثاً عابراً، والموضوع الذي هجم علي عنوانه هو (يا أهل الجزيرة!) وأنتم تعرفون أنه أيام الغزو العراقي، وأحداث الكويت، وأحداث الخليج، كان هناك محاضرة ضمن سلسلة الدروس العلمية التي كنت ألقيها، كان عنوانها (يا أهل الكويت!) يعالج جراحهم، ويحاول أن يستفيد من الحدث لصالح الاستقامة والالتزام بشريعة الله تعالى وتصحيح الأوضاع والأخطاء التي لا بد أنها أفرزت ذلك الواقع الذي عشناه.
ثم بعد ذلك ربما بسنوات ألقيت درساً آخر ضمن الدروس العلمية كان عنوانه (يا أهيل الحرم!) وكان يتحدث عن بعض القضايا، لكن على سبيل الخصوص بمناسبة الحج، فكان له طابع الخصوصية.
أما اليوم فالموضوع الذي هجم عليّ أحدثكم عنه هو (يا أهل الجزيرة!) وأنتم على فضلكم إن شاء الله، وجلالة أقداركم عند الله بحوله وقوته إلا أنكم حفنة قليلة من أهل الجزيرة، فأحدث أهل الجزيرة من خلال حديثي إياكم، وأحدث العرب والمسلمين قريبهم وبعيدهم من خلال هذا العنوان.
إذ ليس في الإسلام عنصريات، ولا إقليميات، ولا تميز، فالمسلم بعيداً كان أو قريباً، من الجزيرة، أو من الشام، أو من العراق، أو من مصر، من بلاد العرب، أو العجم، أو الفرس، أو من أي أرض كان، المسلم الحق هو أخونا، وتعليم الله تعالى لنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] .
ما بيننا عربٌ ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا في إندونيسيا وفوق إيران في الهند في روسيا وتركيا آسيا ستصهل فوقها خيلي وأحطم القيد الحديديا إذاً: الإسلام ليس له لون خاص، ولا عرق خاص، ولا جنسية خاصة، بل هو الدين الذي ذابت فيه جميع الفروق، وتكوَّن ذلك المجتمع المسلم ولو نظرت قائمة بأسماء الأوائل من أبطال الإسلام لوجدت فيهم العربي، والرومي، والكردي، والحبشي، ومن كل الأجناس والألوان، لأنه أنزل يوم أنزل رحمة للعالمين.(74/2)
خصوصية المخاطبين أمر سائغ
لكن لا يمنع أن نحدث أهل الجزيرة العربية اليوم حديثاً يخصهم، والله تعالى خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم خطابا ًخاصاً في القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الطلاق:1] مع أن المقصود الأمة كلها من ورائه، كما في قوله عز وجل مثلاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] فاستفتح بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ثم خاطب الأمة كلها بقوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) ومثله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] إلى غير ذلك من المواضع.
ويحضرني في هذا المقام قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، اليهودي الذي أسلم، وقال الله فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] لما اعتدى الناس في عهد عثمان رضي الله عنه على أمير المؤمنين، ونشأت بينهم ناشئة الفرقة والفتنة، والاختلاف والتباغض، رأى بوادر هذه الفتنة، فقام على قدمه، كما في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد وعهدي به قديم، وإسناده فيما أذكر صحيح، وقال: [[يا أهل المدينة: لإن أحدثتم فيها حدثاً لا تساكنكم فيها الملائكة أبداً]] .(74/3)
خصوصية الجزيرة العربية وفضلها
من هذا المنطلق أحدثكم يا أهل الجزيرة! وأذكركم بأول وأعظم النعم، وهي أن الله تعالى اختص أرضكم وبلادكم لينزل في أرضها القرآن، ويبعث في أرضها الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرض مكة والمدينة وطئتها أقدام النبي المختار عليه الصلاة والسلام، وشهدت تحركاته، وتحركات أصحابه، وأزواجه، وأتباعه، في مكة أولاً، ثم في المدينة، ثم في أنحاء الجزيرة كلها.
وحين تقرءون تاريخ الإسلام تجدون تلك الأسماء العظيمة الخالدة، بل حين تقرءون القرآن، وتقرءون السنة تجدون هذه الأسماء اللامعة، مكة المكرمة مثلاً: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3] {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران:96] {بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] .
وهكذا في السنة النبوية تجدون في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قائمة طويلة بأسماء تلك البقاع التي شرفها الله تعالى واختارها، أما في السيرة فطول الجزيرة وعرضها كان ميداناً لحركة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعلكم تعرفون أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى بعث بعثاً إلى تبوك، بل إلى مؤتة من أرض الشام، فشملت تحركات الجيش النبوي، والأمة المختارة أنحاء الجزيرة كلها، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً.
وانطلقت من تلك المدينة جحافل الإسلام تدمر الظلام وتنشر النور.
لا تجدون في تاريخ الإسلام، ولا في كتاب الإسلام، ولا في السنة النبوية ذكراً لتلك العواصم الكبرى التي نسمعها اليوم في نشرات الأخبار، ونتداولها ويعرفها الكبار والصغار، والجهال والأميون وغيرهم، لا تجدون فيها ذكراً لواشنطن، أو لندن، أو باريس، أو موسكو، أو غيرها من العواصم التي أصبحت اليوم كما قال الشاعر: نسجوه في بلدٍ يشع حضارةً وتضاء منه مشاعل العرفان أو هكذا زعموا وجيء به إلى بلدي الجريح على يد الأعوان بلاد ودول وأقاليم ومدن، يسمونها مدناً متحضرة، وهي كذلك من بعض الجوانب، فنحن لا نغالط الحقيقة، لكننا نعتبر قمة الحضارة هو التدين الصحيح المعصوم الذي جاء في القرآن الكريم، وكل حضارة تخطئ ذلك، فإنها تتخبط في دياجير الظلمات، قد تحصل على علوم دنيوية، وقد تغزو الفضاء، وقد تحتل وتستعمر رقاعاً واسعة من الأرض، وقد تصل إلى أسرار خطيرة في العلوم، وتفجر الذرة، وتكتشف أدق التفاصيل، كل ذلك قد تفعله، لكنها تفشل في معرفة قيمة الإنسان.
وكل حضارة ليس للإنسان فيها قيمة حقيقة؛ فإنها ليست بحضارة، فليست الحضارة هي البناء، ولا العمران، ولا التقدم العلمي والتكنولوجي فحسب، وإنما أساس الحضارة هو احترام الإنسان، وإعطاء الإنسان قيمته، وشرفه، ومكانته، وهذا لا يتم حقيقة إلا بالدين، وإلا بالإسلام الذي جعله الله تعالى خاتماً للأديان، وجعل رسالة نبيه عليه الصلاة والسلام خاتمة للرسالات كلها قال الله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] .
نعم! البلاد التي حفل بها القرآن والحديث وأخبار السيرة هي هذه البلاد التي خصها الله واصطفاها، وفي مثلها وقريب منها يقول دعبل الخزاعي في قصيدته المشهورة في آل البيت: مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصاتِ وقد كان منهم بالحجاز وأهلها مغاوير نحارون في السنوات إذا فخروا يوماً أتوا بمحمدٍ وجبريل والقرآن ذي السورات فليس فخرهم بآباء وأجداد هم حطب جهنم، ولا فخرهم بالدرهم، والريال، والدولار، ولا فخرهم بالمكانة الدنيوية، وإنما إذا افتخر وأتى كل أناس بساداتهم وأبطالهم وتاريخهم، أتينا نحن بذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر جبريل عليه السلام، وذكر القرآن الذي قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] .
ملامك في أهل الجزيرة إنهم أحباي ما عاشوا وأهل ثقات تخيرتهم رشداً لأمري إنهم على كل حال خيرة الخيرات فيا رب زدني في يقيني بصيرة وزد حبهم يا رب في حسناتي وإنما عنيت من أهل الجزيرة أهل "لا إله إلا الله" أهل التوحيد، الذين ولدوا عليه، وعاشوا في ظلاله، ويموتون في سبيله.(74/4)
واجب الدعوة على أهل الجزيرة
أيها الأحبة: يا أهل الجزيرة! فضلكم الله تعالى بهذا الوحي الذي أنزله على بلادكم، فهل غزوتم عالمكم اليوم بالقرآن؟ إننا نجد أن أمريكا -مثلاً- كدولة كبيرة ممكنة تحاول أن تغزو العالم بثقافتها من خلال شريط الفيديو، أو البث الإعلامي، أو المجلة، أو الكتاب، والوسائل الكثيرة التي يستخدمونها الآن، حتى إن الدول الغربية نفسها تعلن حالة الطوارئ -كما يقال- خوفاً من الثقافة الأمريكية.
في فرنسا -مثلاً- يخافون من الثقافة الأمريكية، وفي روسيا يخافون منها، بل وحتى في بريطانيا يخافون من الغزو الثقافي الأمريكي، الذي يغزو مسارحهم، ويغزو شاشاتهم، ويغزو عقولهم في النهاية.
وهم ماذا يملكون! فرنسا -مثلاً- على أي شيء تخاف من الثقافة الأمريكية؟! كل ما تملكه أو أكثر ما يميز الثقافة الفرنسية، والإعلام الفرنسي والتاريخ الفرنسي -وخاصة الحديث- أن يفتخروا بأشياء على أقل تقدير أن من بينها العري، فيرون المحافظة على تاريخهم، وخصوصياتهم، وتراثهم حتى ولو كانت هي العري! فضلاً عن التراث، فضلاً عن اللغة، فضلاً عما يعتبرونه هم أمجاداً أو ثورات مختلفة قدموها لشعوبهم أو للبشرية.
حتى العري في إعلامهم، وفي مجلاتهم، وفي مسلسلاتهم، يعتبرونه ميزة، وخصوصية لأمتهم يجب أن يحافظوا عليها في سبيل الغزو الأمريكي.
وفي ظل ذلك: أفيجدر بمن يقولون: إنهم يملكون سر الحياة، وسر الوجود، وسر الحقيقة، وهو كذلك، هذا القرآن الكريم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أفيجدر بهم أن يبيعوا ما لديهم بثمن بخس؟! وأن يتخلوا عن علمهم، ودينهم، وثقافتهم، وحضارتهم، وتاريخهم، وتراثهم العظيم، وتميزهم، وأن يتقبلوا ما يأتيهم من أمم الشرق والغرب، فيفتحوا له نوافذ البلاد، ونوافذ الشاشات، ونوافذ الإعلام، وبالتالي يفتحون له نوافذ العقول، حتى تتشكل القلوب والعقول على ذلك؟! وسلمني أمس أحد الشباب مجموعة من اللقطات التي صورها من بعض الشوارع في الرياض، فأجد فيها كلمات إنجليزية، وكلمات عربية، كلها ذات بعد ثقافي غربي، تنطلق من مسلسلات غربية، أو من برامج غربية، أو من أبطال -كما يسمونهم في بعض الأفلام- يشاهدونهم، أو من تاريخ وثقافة غريبة وأجنبية، فإذا كان الشاب المراهق الذي هو في الشارع ليس لديه ثقافة ولا خلفية، ولم يدرس هناك، ولم يتخرج من جامعاتهم إذا كانت هذه ثقافته التي يفرغها في مجلته أو صحيفته التي هي عبارة عن سور في الشارع، أو في دورة مياه -أكرمكم الله- أو ما شابه ذلك، فما بالك بمن يعكفون على مثل هذه الثقافة، ويتلقون ويأخذون عنها؟! أمة هذا تراثها، وهذا تاريخها، وهذا قرآنها، لماذا تتخلى عن ذلك وتذهب لتأخذ فكر الشرق والغرب، وثقافة الأمريكان أو غيرهم؟! بل وتتخلى عن رسالتها التي ميزها الله تبارك وتعالى بها؟! فأي شيء هذا يا أهل الجزيرة؟! جزيرة العرب! جزيرة الإسلام! جزيرة الأمجاد! جزيرة الحضارات! {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] .(74/5)
عواقب التفكك الطبقي الكبير في المجتمع
ثم يا أهل الجزيرة! يا أهل الخيرات والبركات! يا من أنعم الله تعالى عليهم بنعمة المال! أتظنون أن وجود الثراء الفاحش بينكم إلى جوار الفقر المدقع، مما يرضي الله تعالى، أليس هذا من أعظم المنكرات؟ بلى، إن ذلك خلل اجتماعي كبير، وأخشى أن يورث هذا الأحقاد والضغائن في داخلكم وفيما بينكم.
فإن الإنسان المحروم الذي يرى غيره يتمتع بالخيرات، والثروات، والأموال، والدور، والقصور، والسيارات الفارهة، وكل التسهيلات، ثم يرى نفسه محروماً من ذلك كله، قطعاً لا شك فيه أنه سيتولد لديه الحقد، ووالله! لو كان مؤمناً تقياً لكان الغالب أن يحدث منه ذلك، فكيف والإيمان ضعيف عند عامة الناس اليوم، ولا يوجد من الوسائل ما فيه تقوية لإيمان الناس؟! فإذاً: هذا الخلل الاجتماعي، وهذا التفاوت الطبقي الكبير، لا شك أن عواقبه وخيمة، وينبغي أن نعلم أن هذا من أسباب العقاب، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما في صحيح البخاري: {هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم} فيجب أن نعلم أن من معنى الحديث أننا قد نمنع الرزق والنصر والأمن، ونحرم من الخيرات بضعفائنا أيضاً، بسبب دعائهم على من تسبب في حرمانهم مما يستحقون من مال، أو وظيفة، أو منصب، أو أي تسهيل كانوا به جديرين وله مستحقين.
يا أهل الجزيرة! هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، يقول الله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] أي: وأهلكنا أهلها (بئر معطلة) لأن أهلها أهلكوا (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أهلك الله تعالى من فيه، وأبقى القصر علامةً وآيةً على ما أجرى الله تعالى لأهل هذا القصر الظالمي أنفسهم (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي: أهلك الله أهله، فهو خاوٍ على عروشه ليس فيه ديَّار ولا سائل ولا مجيب.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] أين الذين يسمعون؟! ثم ممن يسمعون؟! أين الذين يعقلون؟! ويتأملون؟ ويدركون أن هذا ليس كلاماً فارغاً، هذه سنن الله تبارك وتعالى جارية عليك وعلى غيرك، شئت أم أبيت، اليوم أو غداً، ولا تقل: لماذا أبطأنا؟ لم نرَ شيئاً، والأمور طيبة؟! لا! لأن الله تعالى استدرك هذا المعنى الذي قد يخطر في بالك، وذكره تعالى في نفس السياق {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:46-48] .
فذكر الله تعالى الظلم في البداية (أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وقال في الأخير: (أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وبين الله تعالى أن الظلم هو سبب خراب الدول والمجتمعات، وتدمير البلاد، والقضاء عليها، والظلم يورث الأحقاد والبغضاء والتشتت واختلاف العقول والقلوب.
وبالتالي يصبح المجتمع وإن كان في ظاهره مجتمعاً واحداً؛ إلا أنه في حقيقته أهواء شتى، واتجاهات مختلفة متصارعة متضاربة، يغذيها الظلم، ويؤججها الحقد الناتج عن التميز الطبقي، والخلل الاجتماعي، الذي يجعل طبقات من المجتمع تنعم بالخيرات، والأموال، والبركات، والتسهيلات، والفرص، والوظائف، وطبقات أخرى كثيرة جداً محرومة من ذلك كله، وهو جزء من استحقاقها.(74/6)
أحسنوا كما أحسن الله إليكم
لقد ذقتم يا أهل الجزيرة يوماً من الأيام طعم الجوع والخوف، ثم فجر الله تعالى في أعماق بلادكم هذا الذهب الأسود السيال النفط الذي به دخلتم العالم، لم يكن العالم يعرف شيئاً عن هذه البلاد، ولا عن بلاد الخليج، ولا عن كثير من الدول العربية والإسلامية، يوم كانت دولاً عربية وإسلامية فحسب، وإنما عرفها من خلال هذه الثروة التي فجرها الله تعالى في أعماقها، وقد أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم {أذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} ولذلك يجب أن نقف عند هذه النقطة.(74/7)
ارتباط الجزيرة بالمسلمين
إن العالم الإسلامي يعيش في كثير من دوله حالات ما دون الفقر، وما دون الإعدام، في بنغلادش مثلاً، أو في الصومال، أو في السودان، أو في عموم القارة الأفريقية، وخاصة الدول الإسلامية منها، يعيشون مستوى ودون مستوى الإعواز، ودون مستوى الفقر، دون مستوى الإعدام، أوضاع لا تكاد تخطر لأحد على بال!! وهؤلاء هم سندكم وعضدكم بعد الله عز وجل، ومن قبلُ وصل خيركم إلى غيركم، واستمتع بما أنتم فيه، وتنعم به كثير من الأبعدين حتى من عدوكم، من شيوعيين شرقيين أو غربيين أو علمانيين أو سواهم، فلماذا يخطئ خيركم إخوانكم المسلمين، سواء أكانوا من أقاربكم الموجودين بقربكم، والذين تحدثت عن نموذج منهم قبل قليل، أم من إخوانكم المسلمين الموجودين في القارة الأفريقية أو الأسيوية أو غيرها؟! أتريدون أن يكون أمركم كما قال الأول: كتاركة بيضها بالعراء وملحفة بيض أخرى جناحا يقولون: إن النعامة أحياناً تترك البيض الذي لها، وتأتي إلى بيض نعامة أخرى لتضع جناحها عليه، فتعير بذلك.
هل تريدون أن تكونوا جزيرة في بحر يُكِنُّ لها الكراهية والعداء؟ فحيثما تلتفت وجدت مجروحاً منا، هذا أسأنا إليه، وهذا حاربناه، وهذا حرمناه، وهذا تدخلنا في خصوصياته، وهذا وقفنا ضده، وهذا وهذا، هل تريدون أن يتحول العالم العربي والإسلامي من حولكم إلى بحر متلاطم يُكِنّ لكم الكراهية والعداء؟! إن هذا شر لكم ولهم، فهو قطيعة بين أهل الإسلام، وأهل الكلمة الواحدة، وأهل لا إله إلا الله، ولا شك أن الذي فقد الأمل بالمسلمين سيبحث عن غيرهم.
وقبل أيام جاءتني رسالة مطولة من أمريكا تتكلم على سبيل المثال عن واقع الأكراد، وخاصة الذي يقيمون هناك، وقل مثلهم بالنسبة للمهاجرين من عراقيين، أو صوماليين، أو غيرهم، ممن اضطرتهم ظروف العيش، أو ظروف الحرب، أو غيرها، إلى السفر إلى هناك، فوجدوا عند النصارى مع الأسف الشديد التكريم، والاحترام لإنسانيتهم، بل والاحترام لدينهم على الأقل ظاهراً، وإعادتهم إلى محاكم إسلامية تحكم في شئونهم الخاصة، وإلى مراكز إسلامية تتولى مشكلاتهم، ويعطونهم ما يسمى ببدل البطالة، ويعطونهم الجنسيات في أحيان كثيرة، ويحترمون متخصصيهم ومثقفيهم والأكاديميين منهم، فيجعلونهم في الرتب التي يستحقونها، ثم يعملون على دعوتهم إلى النصرانية، وخاصة دعوة الصغار من خلال الإغراء والهدية والجائزة والأمور المادية والرفاهية التي يغدقونها عليهم.
فشر للمسلمين أن يختلفوا ويتباغضوا فيما بينهم، وهو شر لكم أنتم أيضاً من بينهم، لأن المسلم إذا ألمت به ملمة، أو نزلت به نازلة، فإنما يستصرخ إخوانه المسلمين، أما أعداؤه من الكفار، أياً كانت ألوانهم، وجنسياتهم وبلادهم، وأياً كانت الأسباب التي يمتون بها إليك، فإن هؤلاء الأعداء وإن ظهروا بجلود لينة، إلا أن قلوبهم قلوب الذئاب.
فهم أعداؤكم حقيقة ولو تظاهروا بالصداقة لكم، ولو كتموا هذه العداوة وقتاً من الأوقات، وإذا جد الجد، ظهرت حقائقهم: إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطبُ فلا تغتروا بعدوكم ولو أظهر لكم ما أظهر، واعلموا أن سندكم وعضدكم وعونكم بعد رب العالمين إنما هم إخوانكم المسلمون، سواء أكانوا بين أظهركم من أهل هذه البلاد، أم كانوا نازلين عليكم من بلاد أخرى، أم كانوا مسلمين في ديارهم، فصححوا ما بينكم وبينهم، ووثقوا معهم العلائق، واربطوا معهم الروابط، وأزيلوا ما في قلوبهم من الضغائن والإحن والبغضاء، وأشعروهم أنكم إخوانهم، وأنه عفا الله عما سلف، وأنتم أولاد اليوم، وتوبوا إلى الله تعالى من كل عمل، أو قولٍ، أو فعل، أو تصرف، أو قرار أورثكم بغض إخوانكم المسلمين الأقربين منهم والأبعدين.(74/8)
التفكك الاجتماعي في الجزيرة
أليس غريباً يا أهل القرآن! ويا حملة الرسالة! ويا ورثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في علمه ودينه وشريعته، أن يكون الدين الذي نزل بمكة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] أن يكون على مسافة كيلو مترات يسيرة من مكة نفسها، وبعد مضي ألف وأربعمائة سنة، وفي عصر التطور الإعلامي، وانفجار الاتصالات أن يوجد على مسافة كيلو مترات من مكة، من البلد الأمين من لا يفقهون من أمر دينهم شيئاً قل أو كثر؟! حتى حدثنا من زاروهم وجلسوا معهم من الدعاة، أنهم لا يتقنون سورة الفاتحة، ولا أن يصلوا، أما عن أوضاعهم المادية فحدث ولا حرج، لا تظن أنهم يعيشون في بيوت من الخشب -مثلاً- أو في منازل من الطين مهدمة، أو حتى في ظلال من الشجر، كل ذلك ليس موجوداً، وإنما الذي تعتبر حياته حياة جيدة، هو من يملك برميلين يضع فوقهما شيئاً يظلله، وبناته وزوجته وأطفاله من أذى الحر، فأين هداية القرآن عن ذلك؟ الذين يفترض أن يحملوا نور الهداية، ومشعل الهداية، والعدالة الاجتماعية، والإنصاف والتكريم، أن يحملوه إلى الشرق وإلى الغرب وإلى أمم الدنيا كلها، ما بالهم قعدوا وأقبلوا على قضيتهم الخاصة الشخصية، بل حتى لم يحسنوا الدفاع عن قضيتهم الشخصية، وتركوا دين الله تعالى، تركوه لمن؟ من سيدافع عن دين الله؟! ومن سيحمله؟! ومن سيدعو إليه؟! ومن سيبصر الناس به؟! هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى جواب.
ويا أهل الجزيرة العربية! أرجو ألا تجرحكم هذه الكلمات، فوالله الذي لا إله غيره إنها ليست كلمات متشفٍ، ولا مبغض، ولا كاره، وإنما كلمات من يحب لكم الخير، ويفرح لكم به، ويكره لكم الشر، ويخاف عليكم منه، فنحن نرى هذه النعم التي أنعم الله بها علينا، ونخشى أن يأتي اليوم الذي نتذكرها فيه باعتبارها تاريخاً مضى، لأننا عندما نقرأ القرآن ونجد السنن الإلهية الموجودة فيه، نعرف أن السنن هذه لم يأت فيها نص في القرآن ولا في الحديث يستثني أمة من الأمم، ولا شعباً، ولا دولة، ولا قبيلة من قانون ومن طائلة السنن والنواميس الإلهية الموجودة في القرآن.
فالذي حق على بني إسرائيل، وعلى الأمم السابقة كلها من آدم عليه السلام، إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعد ذلك إلى يومنا هذا، لماذا لا يصيبنا؟ ولماذا نتوقع دائماً وأبداً أن ما نعيشه سرمدٌ لا يزول؟! لماذا لا نستحضر احتمال أن نفقد هذه النعم كلها أو جلها؟! خاصة ونحن نسمع الآن الكلام الكثير، والتقارير التي لم تعد سراً، بل أصبحت حديث وسائل الإعلام الغربية والشرقية، العربية والأجنبية عن الأزمة الاقتصادية التي تضرب بخناقها على العالم، وعلى الدول النامية، وعلى وجه الخصوص على دول الخليج والجزيرة العربية.
والمديونية الضخمة التي قد تختلف المؤسسات في تقدير أرقامها، لكنها لا تختلف في وجودها وضخامتها، أفلا يكفي هذا مؤشراً يهز عقولنا ورءوسنا، ويعيدنا إلى صوابنا، ويذكرنا بأن هذه بداية وليست نهاية، وأن هذا لون من ألوان التحذير الإلهي، الذي إذا لم نستجب له، ونصغ إليه، فإن له ما بعد؟! فالسنة ماضية والناموس الإلهي الذي حق على الأمم كلها والله لا يستثنينا من ذلك أبداً!.
يا أهل الجزيرة العربية! أتوقف هنا لأقول كلمة، وأنا أخشى أن أؤذيكم ببعض كلماتي، أو أجرح مشاعركم بهذا، وقد قلت لكم ما قلت، الله تعالى يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] .
والله إن دعاة الإسلام هم من أكثر الناس حرصاً على بلاد الإسلام، وعلى هذه البلاد، أن يصيبها سوء أو مكروه، وعلى أهل هذه البلاد الطيبين المباركين، أن يبتلوا بفقر، أو جوع، أو حرمان، أو خوف بسبب التقصير في أمر الله عز وجل، والبطء في القيام بشريعته عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ما تركه قوم إلا أحلوا بأنفسهم البوار.(74/9)
عتاب يا أهل الجزيرة
يا أهل الجزيرة! لننظر في حياتنا، ولا أقول في حياتكم، لأني أخاطبكم وأنا واحد منكم، لننظر في حياتنا المساجد موجودة، والمصاحف موجودة وحتى مطبوعة في هذه البلاد ذاتها، لكن أليس من الصد عن سبيل الله تعالى أن يكون عامة الناس في بلاد الدنيا كلها يعرفون الإسلام من خلال الرجل العربي الذي يلبس الثياب العربية، أو ما يسمونه بالثياب الخليجية.
فبمجرد ما يشاهدون في التلفاز أو في الجريدة، أو حتى في الشارع، رجلاً يلبس ثوباً عربياً، فضلاً عن أن يلبس غترةً، فإنهم يعتبرون هذا رمز الإسلام، وهو عندهم تلقائياً -ولا تؤاخذوني- رمز التخلف والجهل والإرهاب والعنف والضعف بكل صوره وأشكاله، اللهم إلا أن يكون الجانب المتعلق بالعلاقة مع الأنثى، فهم يعتبرونه في هذا الجانب بالذات رمز القوة والقدرة، فهو الذي يتعاطى مع عدد من النساء ليس فقط بالحلال، في نظر هؤلاء الغربيين، بل وفيما فوق ذلك، وهذا كله بدون شك نتيجة تأثير الإعلام الغربي، لكن هل نستطيع أن نخرج أنفسنا من مسئولية ذلك؟ كلا! فنحن جزءٌ من واقع مرير، يساهم بالصد عن سبيل الله عز وجل.
وكما تشعر أنت بالخوف بمجرد أن ترى أسداً أو ذئباً، فإن كبارهم وجهالهم وأطفالهم ونساءهم يشعرون بالخوف والرعب بمجرد أن يشاهدوا هذه الصورة، هكذا رسم إعلامهم، وهكذا ساهمنا نحن سواء من خلال سكوتنا، أو من خلال عدم قدرتنا على تقديم الصورة الإسلامية الصحيحة لهم، أو عدم قدرتنا على تمثل الإسلام في واقع حياتنا، فلماذا نلوم الآخرين دائماً ولا نلوم أنفسنا؟ لا تلوموا الصورة يا أهل الجزيرة! فالحقيقة أحق باللوم! هل واقعنا يحكي الإسلام، أو يمثل الإسلام بجملته وتفصيله، أفراداً وجماعات، دولاً وحكومات؟! أقول بملء فمي: لا.
ولا أعتقد أن أحداً في الدنيا كلها يمكن أن يخالف في ذلك.
يا أهل الجزيرة العربية! يا أهل جزيرة الإسلام! أين هداية القرآن الذي تحملونه، ونزل بلغتكم وفي أرضكم، وبه تفتخرون، وإليه ترجعون فيما تزعمون؟! أين هداية القرآن عن علاقاتنا الاجتماعية التي أصابها خلل كبير، فلم تعد رابطة الإيمان هي الرابطة الحقيقية بيننا؟! بل عملت روابط أخرى كثيرة منها: رابطة النسب، أو القبيلة، أو الأسرة، أو المكانة، ولكن رابطة الإسلام ربما كانت من آخر ما نفكر فيه أحياناً.
أين هداية القرآن عن علاقاتنا الخارجية مع غيرنا من الناس، أعداءً كانوا أو أصدقاء، مسلمين أو كفاراً، قريبين أو بعيدين؟ كيف اختلت هذه العلاقات؟ فجعلنا العدو صديقاً، والصديق عدواً، وقربنا البعيد، وأبعدنا القريب، واختلت عندنا الموازين، حتى أصبحنا نخشى ألا نجد يوماً من الأيام من يغضب لغضبنا، أو يرضى لرضانا، أو يستجيب لصيحتنا، أو يتعاطف مع مصابنا؟! أين هداية القرآن عن الإعلام الذي افترضوا فيه أن يكون الصدق بعينه، وأن يكون توجيهاً للعقول والقلوب، وتنويراً للأبصار، وحفظاً للأمم؟! فما بالنا أصبحنا نتلمس الصدق والحقيقة في إعلام بعيد، يكون في لندن، أو واشنطن، أو حتى في إسرائيل؟! لكن لا تكاد تجد من يثق بالإعلام العربي في تناوله للأحداث، فضلاً عن قدرته على صياغة العقول والقلوب والمجتمعات صياغة حقيقية!! أين هداية القرآن عن الاقتصاد؟ وهو -أعني القرآن- الكتاب الذي جاء بإعلان الحرب الصريحة على الربا.
يا أهل الجزيرة العربية! هذا قرآنكم، وقرآن المسلمين يخاطبكم بالآية الكبيرة البينة، والحجة الواضحة على من كانوا قبلكم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160-161] الظلم يضرب بجرانه في كل مكان، والصد عن سبيل الله من خلال أحوالنا، وأقوالنا، وسلوكنا الشخصي الفردي، والاجتماعي العام والخاص {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161] .
من هو الذي لم يأكل من أموال الناس شيئاً بالباطل، أو لم يتدنس جوفه أو جيبه بالربا، والله تعالى ذكر أنه عاقب الذين هادوا، بأن حرمهم شرعاً من طيبات كانت حلالاً لهم بهذه الذنوب، أفلا يحرمنا الله تعالى قضاءً وقدراً -فإن شرع الله لا يتغير- من بعض ما أنعم به علينا بسبب هذه الذنوب؟! {وَضَرَبَ اللَّهُ مثلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] .(74/10)
الإيمان رابطة الجزيرة وتاريخها
يا أهل الجزيرة: أنتم إنما جمعكم الله تعالى بالإيمان، وإلا فأنتم قبائل شتى، ومناطق مختلفة، ومفاهيم متفاوتة، ومذاهب غير متفقة أيضاً، ولكن الله ألف بينكم بالإيمان لا غير، كما قال الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62-63] فالمال وحده لا يكفي، وهاهي الشيوعية أممت رءوس الأموال، ومع ذلك وجدت الأحقاد، فالمال وحده لا يكفي، ولكن لا شك أن التميز الطبقي والتفاوت من أسباب تغاير القلوب، واختلاف النفوس وانتشار الأحقاد: {والظلم ظلمات يوم القيامة} كما أن الظلم ظلمات في الدنيا -أيضاً- على أصحابه.
إنما المال وحده لا يكفي فطالما سكت ناس؛ لأنهم كانوا يأخذون أموالاً، ويقبضون ثمناً معلوماً، فلما شح هذا الذي يأخذون، تكلموا بأعلى أصواتهم، وقالوا ما يعلمون وما لا يعلمون.
إذاً {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] فالله تعالى ألف بينكم يا أهل الجزيرة، كما ألف بين كل المؤمنين بالإيمان، وباتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذه العقيدة التي أخرجكم الله تعالى بها من الظلمات إلى النور، وإلا فأي تاريخ للعرب قبل الإسلام؟ ليس لهم تاريخ يذكر! اللهم إلا إذا اجتهد أحدهم ودرس وقال: يوم ذي قار! أجل، وبعدها ماذا عندكم؟! انتصرتم نصراً مؤقتاً، لكن ما هو الهدف الذي كنتم تقاتلون من أجله؟! ما هي العقيدة التي كنتم تحاربون في سبيلها؟ أبداً! كان أفضل العرب أتباعاً لفارس والروم، المناذرة والغساسنة، فلما جاء الإسلام بدأ تاريخ العرب والمسلمين، كما قال القائل: تاريخنا من رسول الله مبدؤه وماسواه فلا عز ولا شان وقال آخر: إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً فتاريخنا الوضاح من بدر ابتدا ويبقى صدى بدر يرن بأفقنا هتافاً على سمع الزمان مرددا بلاد أعزتها سيوف محمد فما عذرها ألا تعز محمداً تاريخكم كله هو تاريخ الإسلام، تاريخ التوحيد، تاريخ الاتباع لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبغير هذا الدين يصبح الأعرابي هو ذلك الذي يتبع اليرابيع يبحث عنها في الصحراء! الشمس والحر والحرب والقتال والتشتت، وكما قال القطامي: فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا إلى قوله: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا تاريخ العرب بدون إسلام لا شيء، نعم أنها أمة تملك الاستعداد، ولذلك اختارها الله عز وجل، لكن يجب أن نعلم أن الله تعالى إنما جمعنا بالإيمان، ووحدنا بالتقوى، وألف بيننا بهذه العقيدة الذي أخرجنا الله تعالى بها من الظلمات إلى النور، فتمزيق الإيمان هو تمزيق لوحدة الجزيرة العربية، فهي مناطق، وقبائل، ومذاهب، وطبقات لا يوحدها إلا الإسلام والإيمان، وإلا السلطة التي تسهر على حماية الإسلام والإيمان، سواء في التعامل مع الناس، مع القريب، أو مع البعيد، مع المسلم، أو مع الكافر في مجال الاقتصاد أو السياسة أو التعليم أو الإعلام، أو غير ذلك.
إذاً فيجب أن ننبذ كل الفروق الطبقية، والأسرية، والمناطقية، والقبلية، وأن نعتصم بوحدة الإسلام فحسب، وألا نتعامل مع الناس، على أساس أن هذا من قبيلة كذا، أو من أسرة كذا، أو من المنطقة الفلانية، فليس عندنا نجد والحجاز، ولا عندنا قبيلة كذا أو قبيلة كذا، ولا عندنا شمال وجنوب، وإنما عندنا أمة وحدها الله تعالى، فالأجدر بها هو الأكفأ، والقاعدة التي يجب أن تحكم في كل شيء: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] .
أما أن تشعر فئة، أو قبيلة، أو منطقة أو فرداً أو قريباً، أو بعيداً، بأن الوظيفة لغيره، أو أن المال لسواه، أو أن التسهيلات ليست من حقه، أو أن الفرص مما لا يخصه ولا يملكه، فإن هذا شر مستطير، وهو ظلم كبير، يشترك فيه كل من ساهم فيه صغيراً كان أو كبيرا، ممن يتعامل مع الناس على أساس عنصري أو طبقي أو قبلي أو مناطقي، بل يجب أن نتعامل مع الناس جميعاً على أساس الكفاءة.
ولقد جالست كثيرين جداً، فوجدت في القلوب أشياء وأشياء، بل ربما تجد ذلك الذي ظفر بشيء كثير من المال، أو الوظيفة، أو الرتبة، أو المنزلة، ربما تجده ساخطاً أيضاً، لأن الأمور نسبية، فهو ينظر ويجد من هو أفضل منه، ولذلك لا يرضى أحد، كما قال الله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] لكن بالعدل يرضى الجميع، والعدل أساس الملك، والظلم سبب خراب الدول والأمم والمجتمعات وبوارها.(74/11)
الإسلام والعدالة الاجتماعية
الإسلام أيها الأحبة: هو سعادة يعيشها المرء من خلال الانضباط السلوكي العام في المجتمع على طاعة الله تعالى، حيث تخيم عليه السكينة، والطمأنينة، وتزول عناصر الإثارة والتهييج، ويجد الإنسان سبل الإشباع الحلال، ومن وجد الحلال فلا حاجة به إلى الحرام.
الإسلام عدالة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، فابن القبطي وابن عمرو بن العاص كلهم في ميزان العدالة سواء، والظلم حرام حتى لو وقع على كافر فضلاً عن مسلم، فالإسلام عدالة يتساوى فيها الجميع، ويجب أن تحقق للإنسان مطالبه الضرورية، فالإنسان يحتاج -مثلاً- إلى بيت، يجب أن يوفر له بيت، والإنسان يحتاج زوجة، فيجب أن توفر له زوجة، ويعان على التزوج، والإنسان يحتاج وظيفة، فيجب أن توجد له وظيفة، يعمل فيها ويسترزق من خلالها، والإنسان يحتاج إلى رزق له ولمن يعول، فيجب أن يحقق له ذلك.
وقد كان المسلمون في عهد التطبيق الحقيقي الكلي للإسلام يذهبون للإنسان بحقه من الطعام والشراب واللحم وكل ما يحتاجه بالتوزيع بين المسلمين كلهم، فهذا جزء من الإسلام لا يجوز الغفلة عنه.
يظن البعض أن العدالة الاجتماعية في الشيوعية -مثلاً- أو يظن آخرون أن العدالة الاجتماعية في ظل الأنظمة الغربية الرأسمالية -وأنا لست أنكر أن الأنظمة الغربية حققت قدراً من ذلك لا شك فيه- لكننا نعلم أن العدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام تتضاءل عندها كل ألوان ما يسمى بالعدالة الاجتماعية شرقيةً كانت أو غربيةً، فهي عدالة صارمة لا تميز أحداً، ولا تخص أحداً كبر أم صغر، ارتفع أم نزل، شريفاً أم وضيعاً.
هي عدالة صارمة؛ لأنها جاءت بالنصوص الشرعية القطعية في القرآن والحديث، حتى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأذن للإنسان أي إنسان أن يقتص منه بذاته، كما فعل مع سواد بن غزية ومع غيره، وحتى كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفاؤه وأصحابه يقيمون ميزان القسط والعدل على كل إنسان، بغض النظر عن منزلته الدينية، وبغض النظر عن منزلته الاجتماعية، وبغض النظر عن نسبه، وبغض النظر عن ماله، وأنتم تعرفون قصة جبلة بن الأيهم الذي كان يطوف فوطئ رجلٌ إزاره فلطمه، فطالب عمر أن يقتص من جبلة بن الأيهم الرجل الشريف الكبير الأمير، ويلطم ذلك الأعرابي وجهه، مثلما لطم هو وجه الأعرابي! لأنها عدالة صارمة حاسمة، لا مجال فيها للعبث والتلاعب والمجاملات والمحسوبيات والخصوصيات، وشريعة الله لا يجوز أن تخضع لأهواء البشر، ولا يجوز أن ندخل فيها الاستثناءات التي تجعلها ظلاً باهتاً، وكلاماً موجوداً في الصحف، وموجوداً في الكتب، لكنه غير موجود في واقع الناس بحال من الأحوال، هذا لا يجوز.
على أقل تقدير يجب أن تعلن كلمة الله، ويجب أن يصدع بكلمة الحق، ويجب أن يبين للناس أن الإسلام هو الدين الكامل في أموره كلها، في عقيدته، وعباداته، وأخلاقه، وأموره الاجتماعية، والمالية، والإعلامية وفي غيرها يجب أن يعلم الناس كلمة الحق على أقل تقدير لئلا يظنوا بالدين الظنون، ولئلا يتحول الناس إلى القناعة بعدالة شرقية أو غربية، ويظنوا أنها هي الحل لمشكلاتهم.
الإسلام دين يحفظ كرامة الفرد والمجتمع، سواء أكان رجلاً فهو محفوظ الحقوق، أم امرأة فهي محفوظة الحقوق أيضاً، وكل ممارسة خاطئة سواءً أتعلقت بالرجال أم بالنساء، فالإسلام منها بريء، ولو كان المسلمون هم الذين يمارسونها ويفعلونها، بل ولو وجد من يبحث عن مسوغ لها بأثر وجده هنا أو هناك، أو آية أو حديث لوى عنقه، وفهمه على غير وجهه، ليسوغ به باطلاً قائماً يضغط على الناس، فيبحثون عما يسوغه.
إن دين الله تعالى بريء من أهواء البشر، والإسلام كرامة تحفظ حقوق الفرد والمجتمع، فلا عدوان على خصوصية الإنسان كائناً من كان، ولا امتهان لكرامته، ولا ظلم ولا هضم، ولا يحق لأحد أن يوقف إنساناً بغير حق، ولا أن يسائله إلا بنص، ولا أن يقتحم عليه بيته، ولا أن يتلصص على خصوصياته ومحادثاته ومراسلاته واتصالاته، إلا وفق شريعة الله تبارك وتعالى، فالإسلام حفظٌ لكرامة الإنسان، وكل ممارسة أو تطبيق أو تنفيذ يخالف ذلك ولو باسم الإسلام، فإن الإسلام لا يرضى ذلك ولا يقره.(74/12)
الإصلاح مسئولية الجميع
يا أهل الجزيرة! كلكم مسئولون عن الإصلاح، فالإصلاح ليس مسئولية العلماء مثلاً، أو الدعاة فحسب كلا! والإسلام كما تعرفون ليس فيه كهنوت، ولا رجال دين، وليس صحيحاً أن كلمة الحق، أو أن الأمر بالمعروف، أو أن المطالبة بالإصلاح، ليس صحيحاً أن هذا الأمر حكرٌ على الشرعيين، كلا! بل الرجل العامي قد يقول كلمة الحق، ويأمر بمعروف، وينهى عن منكر، فضلاً عن أن يكون متعلماً، سواء أكان إعلامياً، أم في مجال التعليم، أم في مجال المال والاقتصاد، أم في مجال الزراعة، أم في مجال الصناعة، إن الجميع مطالبون بالإصلاح.
وليس الإصلاح الذي ننشده هو إصلاح الناس في مجال عباداتهم وشعائرهم التعبدية فحسب، بمعنى إصلاح الناس في المساجد، إن هذا مطلوب ويقوم به العلماء الشرعيون أو كثير منهم، لكن أيضاً المطلوب الإصلاح في مجال المال، والإصلاح في مجال العدالة الاجتماعية، المطلوب الإصلاح في مجال الإعلام، والإصلاح في مجال التعليم، والإصلاح في مجال الزراعة وتصحيح الأخطاء الذي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الناس، طحنتهم الديون والمشاكل والصعوبات التي يلاقونها، والمطلوب التصحيح في مجال التصنيع الذي لا زال المسلمون فيه لا أقول صفراً لكنهم قريب من ذلك.
فالمطلوب إصلاح شمولي يستهدف الأمة في كل مجالاتها ومناحي حياتها، ومن الخطأ أن نظن أن الذين يتكلمون باسم الدين مثلاً، أو باسم الإسلام، أو الدعاة أنهم يملكون ذلك! لا! هم يملكون أن يفتوا بما يصلح أو لا يصح من ذلك، أما مجال التجديد، وتقديم المشورة والنصيحة والوصول إلى المستوى المطلوب، فهذا إنما تقوم به الكوادر المتخصصة من أبناء الأمة المخلصين، أياً كانت مواقعهم، في مجال تخصصاتهم وعلومهم، فلا تظنوا أبداً أن مسئولية البلد، أو مسئولية المجتمع هي في أعناق العلماء فقط، أو في أعناق الدعاة الذين يتكلمون في المجال الشرعي فقط، أو في أعناق خريجي كليات الشريعة، أو حملة الماجستير والدكتوراه في الشريعة، لا، إصلاح البلاد مهمة الكوادر المختلفة في مجال تخصصاتها، والشرعيون جزءٌ من هؤلاء، وكلمة الحق ليست حكراً على فئة بعينها، وواجب الشهادة على الأوضاع بالحق لا بالهوى، هو مسئوليتنا جميعاً.
أيها الأحبة إن الإسلام ليس مجرد نواه أو محرمات، لقد ظن البعض مع الأسف الشديد أن الدعوة هي أن نقول للناس لا يصلح! وكثير من الناس يظنون أن قضية الدعوة هي أن يقال لهم: هذا حرام، التدخين حرام، وشرب الخمر حرام، ومشاهدة الصور العارية حرام، والدشوش حرام، وتكلم دعاة الإسلام وعلماء الإسلام كثيراً في هذا الجانب، حتى ذهبت الظنون كل مذهب بالبعض، وظنوا أن القضية هي قضية أن الإسلام خطوط حمراء، وضع خطوطاً حمراء للناس، فهذا فهم خاطئ! صحيح أن الإسلام جاء بالأوامر وجاء بالنواهي، وفي الإسلام محرمات لا يجوز لأحد أن يقع فيها، ولكن حين يقع فيها الإنسان على سبيل الخصوص بصفته الشخصية، ولم يرتكب الشرك والكفر، فأمره حينئذٍ إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] وكما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فيمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: أنه يدخل الجنة فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق -ثلاث مرات- على رغم أنف أبي ذر} .(74/13)
إحياء رابطة الإسلام
إننا برابطة الإسلام يجب أن نتواصل فيما بيننا، ونتحادث ونتشاور، ونتزاور، ونتجالس، فإن المجالس الطيبة قلت أو كثرت، اتسعت أو ضاقت، يجب أن تقوم، وأن نتدارس فيها أحوالنا وأمورنا، ونتعارف فيما بيننا كما أمرنا الله تعالى {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] لنكتشف الخير الموجود في النفوس، ونكتشف الخطأ الموجود فنصححه، ويزيل بعضنا ما في نفوس البعض الآخر، ونتعاون جميعاً على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان.
إنه في الظلام توجد أشياء كثيرة وكثيرة لا تزول بالسكوت عنها، ولا يزيدها الزمن إلا اتساعاً وخطورةً، ولكن بالمجالسة، والمحادثة، والكلام، والنقاش، والحوار، تزول أشياء كثيرة من النفوس، وتصفو القلوب وتتوحد على الطاعة والبر والتقوى.(74/14)
كثرة طرق الخير المفتوحة لأبناء الجزيرة العربية
يا أهل الجزيرة العربية! إن العالم يتعطش إلى ما عندكم من الهداية والنور، فأين أنتم من ذلك؟ أين مؤسساتكم الإعلامية التي تقدم الإسلام للناس؟ أين استخدامكم لتقنية العصر في نشر الشريعة التي ائتمنكم الله تعالى عليها، والترويج للعقيدة التي لا يملكها أحدٌ في الدنيا إلا المسلمون؟ أين ما وهبكم الله تعالى من الثروات والخيرات أين أنتم عن تثميرها فيما يحب الله ويرضى من المجالات الخيرة دنيوية كانت أو أخروية؟ فإن مجال الاستثمار واسع كبير، فهناك الاستثمار في الدعوة، والاستثمار في الإعلام، والاستثمار في التعليم -وهو نافع في الدارين- والاستثمار في الإغاثة، والاستثمار في المجالات الإنسانية.
بل أين حدبكم على إخوانكم المسلمين الضعفاء، والفقراء والمحتاجين، والأرامل، والشباب الراغبين في التزويج، وأصحاب الديون، ومن طحنتهم المشكلات والكوارث؟ أين أنتم عن إخوانكم؟ وأخاطب على سبيل الخصوص أهل القدرة، وأهل التنفذ، وأهل الغنى، وأهل الثراء، فإن لله تعالى حقوقاً كبيرة فيما أخذوا، والله تعالى سائلهم عن ذلك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
يا شباب الجزيرة العربية! يا نور الدنيا! يا بهجة الأيام! يا أمل المسلمين المشرق في مشارق الأرض ومغاربها! أين أنتم من ميدان الدعوة الواسع الرحب؟ أين أنتم عن الشعوب الإسلامية التي انفتحت عليكم، وبسطت ذراعيها تقول لكم: هلموا، تعالوا، لكن برفق وطواعية وهدوء وسعة بال، قدموا لنا هداية الله، هداية السماء، هداية القرآن؟ أين أنتم عن الثكالى والأيامى واليتامى والأرامل، الذين يستنجدون بكم ويستصرخون، في البوسنة، وفي الصومال، وفي طاجكستان وفي كل مكان؟ يا شباب الجزيرة المتوقد القوي الطموح! أين أنتم عن ميادين الجهاد في سبيل الله؟ تقدمون أرواحكم رخيصة ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى هذه ميادين الجهاد قد فتحت لكم أبوابها في بلاد كثيرة، فسارعوا إليها، فإن الجنة يوجد ريحها من دون تلك الديار يا شباب الجزيرة العربية! أين وحدتكم؟ أين كلمتكم الواحدة؟ أين قلوبكم المتآلفة؟ أين أفكاركم النيرة المتطلعة؟ أين انتظاركم لنصر الله تعالى وإعزاز الدين وتمكين المسلمين؟ يا شباب الجزيرة: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً} [التوبة:38-39] .
يا شباب الجزيرة! اتقوا الله تعالى في دينكم وفي أمتكم، أفلحوا في تقديم الإسلام للناس بصورة صحيحة، حسنوا أخلاقكم، ابتسموا في وجوه الآخرين، تلطفوا معهم، اصبروا، حاوروهم بهدوء، لا تتعجلوا، لا ترفعوا أصواتكم، تجنبوا الغضب والانفعال والاتهام ورمي الآخرين بما هم منه براء، واحرصوا أن تكونوا صورة مشرقة للدين الذي تحملون، والعقيدة التي تعتقدون.
يا أهل الجزيرة! ويا شباب الجزيرة! ويا رجال الجزيرة! إنني أقول لكم: إنه ليس من المصلحة في شيء أن يظلم بعضكم بعضاً، أو يخطئ بعضكم على بعض، أو يعتدي بعضكم على بعض.
إن الأساليب الشديدة لا تثمر إلا شدة، وإن الناس يحتاجون إلى الحوار الهادئ، وإلى النقاش، وإلى الصبر، وإلى طول البال، وإلى سعة الأفق.
فأسال الله تعالى أن يعيد لأهل هذه البلاد ما كانوا عليه أيام العز من الرفعة والتمكين، وأن يوحد كلمتهم على الحق، فلا يكون بينهم من يعتزي بعزاء الجاهلية، لا إلى قبيلة، ولا إلى منطقة، ولا إلى طبقة، ولا إلى أسرة، وإنما وحدهم الإيمان والتقوى، وأما النسب فهو للتعريف فحسب (لِتَعَارَفُوا) .
وأسأل الله تعالى أن يكتب على أيدي أبناء هذه الجزيرة خيراً كثيراً، وأن تتحسن الصورة المشوشة التي يحملها عنهم الكثيرون من الكفار، بل والكثيرون من المسلمين أيضاً.
فربما ظن الكثيرون أنكم مستكثرون بما عندكم من المال، أو مغترون بذلك، أو أنكم تشعرون بالرفعة والفوقية، ولم أشأ أن أتحدث عن هذه النقطة لأنها مجال الحديث ضمن الموضوع الذي وعدتكم فيه في البدايةن وهو موضوع: العُقَد.(74/15)
الأسئلة(74/16)
حديث التعزي بالجاهلية
السؤال
كتاب الإمام ابن تيمية المسمى بالسياسة الشرعية ذكر حديث: {من تعزى بعزاء الجاهلية} أرجو إلقاء الضوء عليه، ودرجته؟ وأيضاً وجدت في فتاوى ابن تيمية ذكر النفط فما رأيكم في هذا؟
الجواب
النفط كان يطلق على بعض السوائل لكن ليس بالمفهوم المعاصر، وأما الحديث فمعناه واضح، وهو النهي عن التعزي أو الانتساب أو الافتخار أو التناصر بعزاء الجاهلية وموروثاتها، وأن من قال ذلك يجب أن يرد عليه، وينكر عليه ما قال.(74/17)
اعتقال بعض المشايخ
السؤال
سائل يسأل عن بعض الأخبار عن اعتقال بعض الإخوة، ويشير إلى اعتقال الدكتور عبد الله بن حامد الحامد أستاذ الأدب العربي وتاريخه، وإلى اعتقال الدكتور محسن العواجي؟
الجواب
هذا الخبر وصلني اليوم، وبلا شك أن هذا مما يحزننا، لأننا لمن نكن نحب أن يتعرض أبناء البلاد المخلصين والدعاة الصادقين لمثل ذلك، لكن نقول طريق الدعوة، وطريق الإصلاح طويل، والصعوبات فيه موجودة، وعلينا أن نتوقع مثل ذلك، وهذا لا يعني إقرار ما حدث بل تجب المناصحة، ويجب الاتصال، وعندي يقين أن مثل هذه الأشياء لن تطول، وأن هذا الاعتقال لعله يكون توقيفاً قصير الأجل، وليس اعتقالا ًيطول، وإلا فستكون بلا شك مصيبة كبيرة على الجهود التي تبذل للتصحيح والإصلاح.
هذا وأسأل الله تعالى أن يفك أسر الجميع، وأن يهدي الجميع لما يحب ويرضى، وأن يصلح المسلمين جميعاً حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، رجالاً ونساءً، وأن يهديهم لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بأيديهم إلى جادة الحق والصواب، وأن يرفع درجات الحاضرين عنده يوم القيامة، وأن يجعلنا وإياهم من أهل الله، ومن أهل الجنة، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يصلح نياتنا وذرياتنا وأقوالنا وأعمالنا وسرنا وعلانيتنا وظاهرنا وباطننا إنه على كل شيء قدير.
أسال الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألاّ يجعل منا ولا معنا ولا فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى.(74/18)
مؤتمر الإسكان والتنمية
السؤال يقول: توقعت أن تتكلم في هذا اليوم عن المؤتمر الذي عقد في مصر؟
الجواب
مؤتمر الإسكان والتنمية مؤتمر خطير، ولم أتكلم عنه، لأن الكلام عنه اليوم مبذول بسبب تداخلات السياسة، وبسبب المشاكل الموجودة، فأصبح الكلام عنه سهلاً ميسوراً، والصحافة تتكلم عنه، وكثير من الكتاب كتبوا عنه ذلك في صحف حتى غير إسلامية كتابات جيدة، وبالمناسبة أذكر الإخوة أن ثمة شريطاً طيباً جداً للدكتور ناصر العمر عنوانه: "مؤتمر الإسكان الرأي الآخر" فألفت نظر الإخوة الشباب إلى ذلك الشريط.(74/19)
أهداف مؤتمر الإسكان والتنمية
السؤال
عن مؤتمر الإسكان والتنمية، ووثيقة المؤتمر التي تشتمل على أمور إباحية، كالشذوذ الجنسي، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، وتأخير الزواج، والإجهاض، وتحديد النسل، هذه أمور معروفة، لكن ما هدف المؤتمر؟ ولماذا أقامته أمريكا؟
الجواب
المؤتمر أقامته الأمم المتحدة، وأمريكا هي المنفذ الفعلي، والمؤتمر له أهداف منها: نشر الرذيلة والإباحية، ومنها تقليل عدد المسلمين، لأن عدد المسلمين رقم مخيف جداً حتى في بلاد الغرب، وهم بإحصائية يجدون أنه -كما يقولون- الهرم مقلوب، ففي البلاد الإسلامية القاعدة عريضة جداً من الشباب والأطفال، والقمة من الكبار أقل.
ولذلك في بلادهم ظاهرة موجودة فهي مجتمعات شابت وهرمت، حتى من حيث الأرقام لما تحدّد عدد الشيوخ بالنسبة لعدد الشباب، وبالنسبة لعدد الأطفال، في حين تأتي للمسلمين حتى من الذين يقيمون في بلاد الغرب تجد أنهم يتكاثرون بشكل كبير، ولذلك في فرنسا -مثلاً- وفي كل البلدان يضعون هناك مبلغاً ضخماً للإنجاب، تجد الذين يظفرون بهذا المبلغ هم المسلمون، أما غيرهم فلا يحصلون عليه لأنهم لا يريدون التكاثر.(74/20)
خصائص العرب والجزيرة العربية
السؤال
هل هناك خصوصية للعرب حيث نزل القرآن بلغتهم، وكانت الرسالة منبعها من جزيرتهم؟
الجواب
هذا باب طويل، معظم الذين كتبوا في السيرة النبوية، يبدءون الكتابة في السيرة بالكلام عن العرب، ولماذا اختار الله العرب والجزيرة العربية.(74/21)
هكذا صلى الأنبياء
من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان بأن بسط إليه يده ليقبل منه ذكره وشكره وسؤاله وعبادته، وأنه سبحانه وتعالى يجيب الإنسان إن سأله وأعظم مظاهر العبادة الدعاء، والصلاة من دعاء المسألة وهي سنة الأنبياء جميعاً وهي أول ما يعرض على الله يوم القيامة، وفاعلها على خير عظيم، وهي له شهادة وبركة ونور وطمأنينة وزلفى إلى الله، ولصلاة الأنبياء كيفيات قلبية باطنة وطاهرة بسنن وفرائض وواجبات، وكل هذه يجب تعلمه ومعرفته، ليحصل التقرب إلى الله عز وجل.(75/1)
تمهيد حول نعمة الصلاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
(هكذا صلى الأنبياء) هذا هو عنوان هذا الدرس، ورقمه واحد وسبعون، وهو ينعقد هذه الليلة بالرياض في ليلة الإثنين العاشر من شهر ربيع الأول من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة.
لقد سبق أن تحدثت تحت عنوان: هكذا عَلَّمَ الأنبياء، وكان حديثاً عن دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلى ماذا دعو، وبماذا أمروا، وكيف ووجهوا، وماذا كانت عاقبة دعوتهم وعاقبة من ناوأهم وحاربهم، أما اليوم فنحن ننتقل إلى أعظم عمل بعد التوحيد كلف به الأنبياء، وهو الصلاة، فإنها من خير أعمالكم، وهي خير موضوع كما قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلهذا لا غرابة أن يخصص لها حديث، ويدندن حولها المتكلمون، لأنها معراج للقلب والروح إلى بارئها جل وعلا.
أولاً تمهيد: إن من عظيم نعمته تعالى وهو الأحد الصمد، أن يجود في عليائه على ذلك العبد الفقير، فيبسط يده إليه، ويأذن له بذكره وشكره وعبادته وسؤاله، كما قال الله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] فإن مجرد إذنه لنا بأن نذكره وندعوه هو نعمة عظمى، فكيف وقد أمرنا بذلك وأوجبه علينا وجعل لنا عليه الأجر العظيم؟! إنه سبحانه يفتح أبوابه لعباده دون أن يجعل بينهم وبينه وسيطاً: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] وهما دعاءان: الأول: دعاء عبادة، كالصلاة والقرآن والذكر والتسبيح، فهذا دعاء عبادة له تعالى.
أما الدعاء الثاني فهو: دعاء مسألة، أي أن تسأل الله تعالى وترجوه فيما تريد وتحب من خير الدنيا والآخرة.
وذكره تعالى هو في حقيقته دعاء، لأنك إن أثنيت عليه تعالى بأسمائه وصفاته، فأنت تتعرض له بالسؤال، فإذا قلت اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، فكأنك تقول: اللهم لا مانع لما أعطيت فأعطني، ولا معطي لما منعت، فلا تمنع عني فضلك، ولا تحرمني بذنوبي، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، فأغنني بفضلك يا رب عمن سواك.
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباءُ إذا أثنى عليك العبد يوماً كفاه من تعرضه الثناءُ إنه ينزل في ثلث الليل الآخر، فيقول لعباده: هل من سائل؟ هل من داع؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجبُ الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضبُ: {يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة} اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وصلنا ولا تقطعنا، وجد علينا بكريم نوالك وتتابع إفضالك، اللهم خذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، اللهم زَكِّ أقوالنا وأعمالنا، وعقولنا وقلوبنا، واهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم لو عذبتنا لفعلت وأنت غير ظالم لنا، ولو رحمتنا كانت رحمتك خيراً من أعمالنا، فيا من لا يعاجل بالعقوبة، ألهمنا حسن التوبة إليك، وجميل التوكل عليك، وعظيم الزلفى لديك، نحن بك وإليك، تباركت وتعاليت.
اللهم إنا نناجيك بقلوب أرهقتها الذنوب، وندعوك وقد علمت ما فرط منا مما وسعه حلمك، وستره عفوك، وغمره برك، فيا أهل المغفرة اغفر لنا، ويا أهل التقوى استعملنا في طاعتك، ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، سبحانك وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(75/2)
صفات وأسماء وفضائل
هذه الصلاة شأنها عظيم، ولماذا أتكلم أنا أو يتكلم غيري وقد تكلم الرب جل وعلا؟! ولماذا يتحدث الإنسان وقد تحدث سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم فيبن ما في هذه الصلاة من الأسرار والمعاني الكبار؟! فالصلاة عهد، قال الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:86-87] .
وقال صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فمن حُرِم الصلاة فقد حُرِم الشفاعة يوم الحساب.
والصلاة عبادة تصل العبد بربه تعالى، فتجعل هذا العبد الضعيف الفقير الفاني المخلوق من تراب الأرض تجعله عظيماً، لأنه موصول بالله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] .
وهي إيمان، وكل الأعمال بلا إيمان لا قيمة لها ولا ثمرة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة في البيت الحرام.
ولهذا أيضاً بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك الصلاة كفر، فقال كما في صحيح مسلم: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} وتركها أيضاً نفاق، كما في قوله: عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} .
والصلاة توبة قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وقال في الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] .
والصلاة ذكر لله تعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: لتذكرني بها.
والصلاة طمأنينة للقلب، وسكينة للنفس، وهناء للروح، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] .
وفي حديث متفق عليه: {أن أسيد بن حضير قام يصلي من الليل فقرأ من سورة البقرة أو من سورة الكهف -اختلفت الرواية- فرأى بين السماء والأرض أمثال القناديل، فجالت الفرس حتى خشي على ولده، فهدأ وسكن في قراءته، فعاد فعادت، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ يـ ابن حضير تلك السكينة تنزلت للقرآن، تلك الملائكة ولو قرأت لأصبحت يتراءاها الناس بين السماء والأرض} .
والصلاة شكر: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3] وكان عبداً شكوراً بكثرة الصلاة، ولهذا لما قالت عائشة كما في الصحيحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أطال الصلاة حتى تفطرت قدماه: {تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: يا عائشة! أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً} .
والصلاة عون للعبد على ما يعانيه ويواجهه من المشكلات في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] فالذين يواجهون مشاكل الدنيا وصعوباتها ويتصدون لجلائل الأعمال، خاصة من أهل العلم وأهل الدعوة وأهل الجهاد، الذين يلقون التعب في هذه الدار، ويواجهون من المشاكل الصغيرة والكبيرة، ويحط الناس بهم كل قضاياهم وكل مشكلاتهم، لا بد أن يستعينوا على ذلك بالصلاة، وإلا عجزوا وانقطعوا، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الفجر، ثم يجلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار ويرتفع، ثم يصلي ركعتين، ثم يقول: هذه غدوتي، لو لم أتغدها لم تحملني قدماي.
والصلاة مناجاة لله تعالى وبين يديه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {إذا قام العبد في الصلاة فإنه يناجي ربه} ثم نهى صلى الله عليه وسلم أن يبصق العبد بين يديه أو عن يمينه، ولكن من تحت قدميه أو عن شماله.
والذي يناجي ربه تعالى أنى له أن يقبل على غيره، أو ينصرف عنه، أو يجعل بصره يلتفت يمنة ويسرة، والله تعالى قبالة وجهه.
والصلاة زلفى إلى الرب تبارك وتعالى، فإن العبد بعيد عن الله إن غفل عن ذكره، فكلما ذكر الله وصلى اقترب من الله تعالى، وقال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] ثم قال في آخر السورة: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] اقترب إلى الله تعالى بالسجود له.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِن أن يستجاب لكم} .
والصلاة كفارة، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فالعبد يحترق بالذنوب والمعاصي: هذه نظرة حرام، وهذه كلمة ما حسب لها حساباً، وهذه خطوة إلى معصية، وهذه يد تمتد إلى ما لا يرضي الله، فإذا جاءت الصلاة كَفَّر العبد بها عن ذنوبه وخطاياه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن العبد يغفر له ما بين الصلاتين ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله} ولما جاءه الرجل يشتكي ذنباً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر لك} {وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: الصلاة بنهر غمر جارٍ بباب أحدكم يغتسل منه العبد كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والذنوب} .
والصلاة عصمة من الشيطان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} .
وهي نور، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم: {والصلاة نور} .
وهي شغل أي شغل، ولهذا في حديث ابن مسعود: {إن في الصلاة لشغلاً} أي: عن أمور الدنيا، بل حتى عن أمور من غير الصلاة مما لا يتعلق بها، فإذا أقبل العبد على صلاته ينبغي أن يفرغ قلبه من جميع الشئون والهموم، ويقبل عليها بقلب حاضر ولسان ذاكر.
وهي أيضاً حقن لدم الإنسان، ولهذا لما وقف الرجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال: {اعدل يا محمد، وفي رواية أنه قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فاستأذن رجل من الصحابة في قتله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي} فاعتبر أن صلاته تعصم دمه من أن يقتل، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكام الجور وحكام السوء، قال بعض الصحابة: {يا رسول الله، أفلا ننابذهم ونقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا} .
وهي ناهية عن الفحشاء والمنكر: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] بل هي أفضل الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سئل كما في الصحيح: {أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها} .
وهي شعار الإخاء والحب والمودة بين المصلين المترددين على المساجد، ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المملوك: {مملوكك كافيك، فإذا صلى فهو أخوك، فإذا صلى فهو أخوك} أي أن العبد الذي تستخدمه إذا أدى الصلاة فهو أخوك، فعليك أن تحسن معاملته وتبتعد عن إيذائه بالقول أو بالفعل.
بل هي وصية الله تعالى لأفضل خلقه، للرسل عليهم الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:30-ُ31] .
وبالتالي فإن الرسل نقلوا هذه الوصية لمن وراءهم من أهليهم وأقوامهم وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وفي الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فزار البقيع، فسلم على أهل البقيع، ثم صلى، وقال: إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من يوقظ صواحب الحجرات؟ -يعني أزواجه رضي الله عنهن- من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة} وكان يقول في مرض موته الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} .
كل هذا شأن الصلاة، فهل ترى هذه المعاني العظيمة، وهذه الدلالات الربانية، وهذه الأوصاف النبوية؛ هل هي تصدق على كل صلاة أم تصدق على تلك الصلاة التي أمر الله بها ورسوله؟ لا شك أنه كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، حتى المنافقون كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وربما تأخروا عن بعض الصلوات كصلاة العشاء وصلاة الفجر، ولكنهم ربما شهدوها، وبالتأكيد هم يشهدون غيرها، وكثير من(75/3)
الأنبياء والصلاة
كل الأنبياء بعثوا بالصلاة، ولهذا لو تأملت هديهم لوجدت الصلاة مذكورة في سيرة كل نبي، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] ثم قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] .
إذاً: فالأنبياء بعثوا بالصلاة، وإذا قرءوا القرآن خروا ساجدين وخاشعين باكين لله تعالى، أما الذين من بعدهم ممن غيروا وبدلوا وخالفوا هديهم، فقد اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة، وقال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92] .
وكأن صلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت متقاربة في شكلها وهيئتها ومظهرها ومخبرها وسرها وجوهرها، ففي حديث ابن عباس وابن عمر -وهما حديثان صحيحان- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنا -معاشر الأنبياء- أمرنا أن نعجل إفطارنا، ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة} فهؤلاء الأنبياء كلهم أمروا أن يقفوا في الصلاة خاشعين لله تعالى، مخبتين بين يديه، منكسرين إليه، واضعاً أحدهم يده اليمنى على يده اليسرى على جزء من بدنه في صلاته، على صدره أو غيره، هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء جميعاً.
ووضع اليد على اليد في الصلاة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة أوصلها بعض العلماء إلى درجة المتواتر الذي ثبت ثبوتاً قطعياً، وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان: {يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة} وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد: {كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة} وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مررت على موسى وهو يصلي في قبره} وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {أفضل الصلاة صلاة داود} وذكر عليه الصلاة والسلام أنه لما أسري به إلى بيت المقدس، جمع له الأنبياء هناك، فصلى بهم إماماً وهم يصلون بصلاته، ولا شك -والله تعالى أعلم- أن هؤلاء المأمومين من أنبياء الله ورسله كانوا يقتدون بإمام الأئمة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا كبر كبروا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا قام قاموا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قعد قعدوا، وإذا سلم سلموا من ورائه صلى الله عليه وعليهم جميعاً وسلم.
فهذا ما يقتضيه الشرع في اقتداء المأموم بالإمام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه} فكيف تظنون هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام صلوا خلف إمامهم نبينا محمد، إلا أن يكونوا يصلون بصلاته حذو القذة بالقذة، ويتبعونه في كل أفعاله عليه الصلاة والسلام.
وفي آخر الزمان ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن عيسى ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيصلي الفجر مع المسلمين يقتدي بإمامهم، ويقول: {أنتم أئمة بعضكم لبعض تكرمة الله تعالى لهذه الأمة} ولا شك أن عيسى حين يصلي سوف يقتدي بسنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، إذ أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم الساعة، وهي حق واجب على كل الناس الذين يأتون من بعده.
فبذلك تعلم أن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا بالصلاة، وأُمروا بها، وأمروا بها غيرهم، وأن صفة الصلاة عند الأنبياء جميعاً -والله تبارك وتعالى أعلم- متقاربة.
بل حتى الملائكة يصلون، ولهم صلوات كصلاة المسلمين: قيام وركوع وسجود، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نزل جبريل فأمني فصليت معه} وفي الحديث الذي رواه أهل السنن: {أن جبريل أتى في اليوم الأول، فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر، في أول الوقت، وفي اليوم التالي نزل عليه السلام فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر، في آخر الوقت، وقال له: الصلاة بين هذين الوقتين} وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟! قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف} .
وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أبي ذر وغيره أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها من موضع شبر إلا وفيها ملك واضع جبهته ساجد لله تعالى يسبح الله تعالى بحمده، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى} قال الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] وهم الملائكة، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] .(75/4)
أسباب الخشوع
وللخشوع أسباب لا بد من تحصيلها: الأول: تفريغ القلب، فصاحب القلب المشغول بهموم الدنيا المملوء بمشاغلها المستغرق في قضاياها، أنى له أن يجد في وقته خانة فارغة يملؤها بشأن الصلاة، فالصلاة تحتاج إلى القلب، فإذا احتاج العبد قلبه في الصلاة وجده ملآناً مشغولاً بهموم الدنيا، فلا يفرغ للصلاة، فلا بد أن يكون في قلب الإنسان خانات فارغة دائماً وأبداً لأمر الآخرة ولأمر الدين، لا يسمح أن تملأ بشيء دنيوي قط.
الثاني: التبكير إلى المساجد، وإحسان الطهور، والتنفل قبل الصلوات، وقراءة ما تيسر من القرآن، فإن هذا يفرغ القلب ويجرده من الشواغل، ويهيئه للإقبال على الله تبارك وتعالى، ولهذا شرعت السنن الرواتب: أربع قبل الظهر أو ركعتان، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر، وبين كل أذانين صلاة: ركعتان قبل العصر بين الأذان والإقامة، وركعتان قبل المغرب بين الأذان والإقامة، وركعتان قبل العشاء بين الأذان والإقامة، حتى يتفرغ القلب ويتجرد للإقبال على الفريضة.
الثالث: الإقبال على الصلاة بقراءتها وذكرها ودعائها، فيتأمل العبد ماذا يقرأ في صلاته، وبماذا يدعو، أما أن يدعو وقلبه في واد آخر فهذا بعيد من الإجابة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة وابن عمر وهو حديث حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ} فلا بد أن يقبل العبد على ربه ويدعوه، وإذا قرأ القرآن أن يعرف ماذا يقرأ، وإذا ذكر الله يعرف ماذا يقول، وإذا ذكر فقال: الله أكبر أو سمع الله لمن حمده، أو غير ذلك، عرف معنى ما يدعو به.
الرابع: ألا يصلي العبد وذهنه مشغول، فينتظر قضاء الصلاة حتى يذهب إلى حاجته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان} وذلك لأن النفس إذا استشرفت إلى شيء من أمر الدنيا طعاماً أو شراباً أو عملاً أو خبراً أو غير ذلك، فإن العبد يصلي وهو ينتظر قضاء الصلاة لينظر هذا العمل، وينبغي أن يخلص من عمل الدنيا، ويقبل على الصلاة بقلب حاضر متفرغ، ولهذا وصف الله تعالى الصالحين بالمحافظة على الصلوات، وهذا يشمل المحافظة على الوقت والطهور وأعمال الصلاة والخشوع وغير ذلك، وبضدهم ذكر المنافقين، فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وذكر المشركين، فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] وذكر المرائين فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] .
إن الصلاة عبادة محضة، ليس لها مُرتَّبات وليس فيها فوائد دنيوية، ولا داعي أن نقول للناس: إن العبد إذا صلى كسب رياضة وصحة، واستقام حاله، وتخلص من بعض الأمراض إلى غير ذلك؛ فالعبد لا يأتي إلى المساجد ليكسب مالاً أو ليكسب صحة، ولا ليكسب ثروةً أو ليكسب جاهاً أو ليكسب مكانةً اجتماعية، إنما يمشي هذه الخطوات إلى الله تعالى ليضع جبهته في التراب لربه جل وعلا، ويقول: سبحانك وبحمدك، أنا عبدك وبين يديك، أعترف بذنبي، وأعترف لك بكل معاني الكمال والجمال فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
فليس في الصلاة كبير ولا صغير، ولا مأمور وأمير، ولا غني وفقير، بل الجميع فيها سواسية، أقدامهم سواء، وأكتافهم سواء، وجباههم كلهم في التراب معفرة لرب الأرباب.
إذاً: هذه هي الكيفية الأولى والعظمى وهي الكيفية الباطنة لصلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الواحد منهم إذا قام إلى صلاته أقبل على ربه أشد الإقبال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] عبء الدعوة ومسئولياتها وتكاليفها وهمومها وتبعاتها لا يقوم لها إلا من استعان بالله تعالى، وعبد الله تعالى وذكر الله وصلى، ولهذا قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] .(75/5)
الكيفية الباطنة لصلاة الأنبياء
وصلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها كيفيتان: الكيفية الأولى: الكيفية الباطنة، وهي كمال الذل والخشوع لله تعالى، وصدق التعبد والإقبال عليه، والانقطاع إليه عمن سواه، ولهذا قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] وقد قام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة تامة حتى أصبح يقرأ آية واحدة من كتاب الله تعالى يرددها ويبكي، كما في حديث أبي ذر عند النسائي وغيره وهو قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فالخشوع سر الصلاة ولبها وجوهرها وثمرتها، ولا شك أن من الخشوع قدراً واجباً، يأثم المرء بتركه والتفريط فيه، كما في حديث أبي قتادة الذي رواه أحمد والدارمي والحاكم وصححه -وسنده جيد- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها} .
ولا شك أن السرقة حرام، بل هي من كبائر الذنوب، فكون النبي صلى الله عليه وسلم وصف ذلك الذي لا يتم خشوع الصلاة ولا ركوعها ولا سجودها بأنه قد سرق، بل عد سرقته أسوأ سرقة، وعده هو أسوأ الناس سرقة، أن هذا دليل على أن من إتمام الركوع والخشوع والصلاة قدراً واجباً لا تتم الصلاة إلا به، ويأثم الإنسان بتركه والتفريط فيه، ولا شك أن الخشوع من أعمال القلب، وأعمال القلب هي الأصل لأعمال الجوارح، وفي الصحيحين من حديث النعمان: {إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .
فالأصل في أعمال الجوارح أعمال القلب، فإذا صلح القلب وأعماله صلحت أعمال الجوارح، وإذا فسد القلب فسدت أعمال الجوارح، والناس يتنافسون في أعمال الجوارح، فربما تنافسوا في التبكير إلى الصلاة، وفي الخشوع الظاهر في الصلاة، وفي تطبيق السنن الواردة في الصلاة، ربما تنافسوا في تطويل الصلاة، وهذا كله حسن وجيد ومشروع: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وهو خير من التنافس في الدنيا أو الأموال أو الأولاد أو في الرياسات أو في غير ذلك، ولكن أعظم من هذا التنافس على الأمور الظاهرة أن يتنافس الناس على الأمور الباطنة -أعمال القلوب- ولكنهم لا يتنافسون فيها، لأنها ليست مما تراه العين أو تسمعه الأذن أو تمسه اليد؛ فهي سر لا يعلمه إلا العالم بالأسرار وبالخفيات، وهو الله تبارك وتعالى، فلا يتسابق الناس إليه كما يتسابقون إلى الأمور الظاهرة.
فالمقصود الأعظم للصلاة يحصل بخشوع القلب وانكساره وإقباله على عبادته، وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله} يا سبحان الله! أي خير نريد بعد هذا؟! كفارة لما قبلها من الذنوب، وهي لا تستغرق منك أكثر من عشر دقائق، والمقصود الذنوب الصغائر شريطة أن تحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {في الصلاة تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع، وتقنع يديك، وتقول: يا اللهم يا اللهم، فمن لم يفعل فهي خداج فهي خداج} وفي صحيح البخاري أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم ولا سجودكم} .
والخشوع علم، ولا غرابة أن يتسابق الطلاب إلى حضور المجالس التي فيها علم لبعض الأحكام، لكن كم رأينا ممن يتسابقون إلى المجالس التي فيها علم القلوب، كعلم الخشوع أو علم اليقين أو علم الإقبال على الله والمعرفة به ومحبته وغير ذلك، الخشوع علم لأنه علم بالله وأسمائه وصفاته ومعرفة لعظيم قدره، حتى لا يكون في صدرك شيء أكبر وأعظم من الله تعالى، ولهذا تستفتح الصلاة لتقول: الله أكبر، وغير الخاشع يعد من الجاهلين وقد قال شداد بن أوس وهو صحابي لـ جبير بن نفير: [[أتدري ما ذهاب العلم؟ قال: لا، قال: ذهاب العلم ذهاب أوعيته وهم العلماء، قال له: هل تدري أي العلم يرفع أولاً؟ قال: لا أدري، قال: أول علم يرفع من الناس علم الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً]] وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده والدارمي وأهل السنن وهو حديث صحيح.(75/6)
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
أما الكيفية الثانية: فهي الكيفية الظاهرة، والمقصود بها أعمال الصلاة وأقوالها، وهذه أمرها كبير وطويل، ولكنني أختصر شيئاً منها في هذه الدقائق، وسوف أتجاوز كثيراً من الأشياء المعروفة المتداولة التي لا إشكال فيها حفظاً للوقت:(75/7)
الأدعية والأذكار دبر كل الصلوات
الخامس عشر: الأدعية والأذكار في أدبار الصلوات المكتوبات: {كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال قبل أن يلتفت إلى الناس: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم التفت إلى الناس وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ثلاث مرات} وفي المغرب والفجر كان يقولها عشراً، وكان يجهر بها صلى الله عليه وسلم، إلى أدعية وأذكار أخرى كان يقولها منها: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} {اللهم إني أعوذ بك من الجبن} إلى غير ذلك من الأدعية والأذكار، وكذلك كان يقرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، وسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] دبر كل صلاة مكتوبة.
وينبغي أن يراعى في مسألة الجهر والإسرار أمور: منها: ألا يكون الجهر شديداً بحيث يؤذي من حوله ومن وراءه، بل يجهر جهراً معتدلاً حتى تختلط الأصوات ويضيع بعضها في بعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن وسنده صحيح: {كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض} ففي المسجد ذاكرون، وفيه من يقضون الصلاة، فينبغي أن يجهر الإنسان بقدر لا يسمعه من حوله، فيكون للجهر دوي لا يتميز، فلا يؤذي بذلك أحداً، ويكون فيه تعليم للجاهل، ورفع للذكر، وطرد للشيطان، واتباع لسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(75/8)
التسبيح والدعاء وقت القراءة في الصلاة
الرابع عشر: هل يشرع للإنسان أن يسبح الله تعالى ويسأله ويستعيذ إذا سمع من الإمام آيات فيها سؤال أو استعاذة أو تسبيح؟ هل يشرع له أن يقول: سبحانه، إذا جاء ذكر الله تعالى، أو يسأل الله الجنة إذا جاء ذكر الجنة، أو يستعيذ من النار إذا جاء ذكر النار؟ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في صلاة الليل، كما في حديث حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة والنساء وآل عمران، لا يمر بآية فيها تسبيح إلا سبح، ولا تعوذ إلا استعاذ، ولا سؤال إلا سأل، ومثله حديث عوف بن مالك الأشجعي كما روى موسى بن أبي عائشة قال: {كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فوق سطح بيته، فكان إذا قرأ قول الله تعالى في آخر سورة القيامة: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] قال: سبحانك فبلى، سبحانك فبلى، فسأله، فقال: سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم} والحديث رواه أبو داود وسنده جيد.
وفي المسألة أقوال، قيل: يكره ذلك مطلقاً في الفريضة والنافلة، وقيل هو مشروع مطلقاً، والاعتدال أن ذلك مشروع في النافلة لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جائز في الفريضة أيضاً فلا دليل على منعه، والأصل أن ما جاز في النفل جاز في الفرض إلا أن يدل الدليل على غير ذلك، فقد ثبت عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسبحون الله تعالى ويسألونه ويستعيذون به في الفريضة.(75/9)
التشهد الأول والأخير
الحادي عشر: التشهد الأول والجلوس له، وهو واجب، وقال أكثر أهل العلم: هو سنة، ويقرأ في هذا التشهد بالتحيات، وإن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشهد أحياناً فحسن؛ لثبوته عن بعض الصحابة، هذا بالنسبة للتشهد الأول، أما التشهد الأخير فهو ركن، ولا بد فيه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويدعو في التشهد الأخير بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، ومن الأدعية الواردة كما في الصحيحين: {أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال} بل قال بعض أهل العلم: هذا الدعاء واجب، وأمر طاوس ابنه لما ترك هذا الدعاء أن يعيد صلاته، ومن الدعاء الوارد: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} ومنه أيضاً: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} ومنه: {اللهم اغفر لي ما قد مت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت؛ أنت المقدم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت} إلى غير ذلك من الأدعية، فالتشهد الأخير من مواضع الدعاء.(75/10)
جلسات الصلاة
الثاني عشر: أما الجلسات في الصلاة فهي نوعان: النوع الأول الافتراش: وهو أن يقعد على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وهذا يكون في القعدة بين السجدتين، ويكون في التشهد الأول أيضاً، ويكون أيضاً في التشهد الأخير في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد، كصلاة الفجر أو النافلة ونحوها.
أما الجلسة الثانية فهي التورك: ويقصد به أن يفضي الإنسان بمقعدته إلى الأرض ويجعل قدميه عن يمينه، فينصب اليمنى ويجعل اليسرى مفروشة تحتها أو يجعل اليسرى بين فخذه وساقه أو غير ذلك، وهذه القعدة وهي التورك إنما تفعل في التشهد الأخير في الصلاة التي يكون فيها تشهدان، كصلاة المغرب أو العشاء أو الظهر أو العصر، وقيل: بل يفترش في كل تشهد، وقيل: بل يتورك في كل تشهد، والاعتدال أنه يتورك في التشهد الأخير من الصلاة الثلاثية والرباعية، ويفترش في التشهد الأول، ويفترش أيضاً في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد.(75/11)
تنوع بعض الألفاظ والأدعية
الثالث عشر: هناك صفات متنوعة في بعض الأعمال في الصلاة، مثل الاستفتاح، فينبغي أن ينوع العبد، فيستفتح مرة بدعاء ومرة بدعاء آخر، حتى لا يكون ذلك على سبيل العادة، فيفعله دون أن يتأمله أو يتدبره أو ينتبه إليه، ومثله أيضاً أدعية الركوع والسجود، ومثله أنواع التشهدات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كتشهد ابن مسعود: {التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله} أو تشهد ابن عباس: {التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله} أو تشهد عائشة أو تشهد عمر أو تشهد أبي موسى أو غيره.
ومثله أيضاً الجهر بالبسملة والإسرار بها، فقد جاء في بعض الأحاديث وهي صحيحة -وهو مذهب كثير من أهل العلم- أنه يجهر بالبسملة أي الإمام في الصلاة الجهرية من سورة الفاتحة، وقال آخرون: بل يسر بها، والأفضل كما رجح الإمام ابن القيم وغيره أن الغالب أنه يسر بها، ولكنه يجهر بها أحياناً كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثله أيضاً التسليم، فقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم مرة فقال: {السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته} ومرة أخرى قال: {السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله} والغالب أنه كان يقول: {السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله} وربما قال: {السلام عليكم، السلام عليكم} وكل ذلك جائز، ويتم به الانصراف من الصلاة، وأكثر ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم: {السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله} ومما ينبغي أن يعلم أن الواجب هو التسليمة الأولى فقط، أما التسليمة الثانية فهي سنة، ونقل ابن المنذر إجماع العلماء على عدم وجوبها.(75/12)
الجلوس بين السجدتين
تاسعاً: يرفع من سجوده، ويجلس بين السجدتين، ويضع يديه على ركبتيه أو على فخذيه ويدعو بما ورد، وقد ورد في هذا الموضع عشرة ألفاظ يدعو بها أو ببعضها: (رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني وانصرني وأجبرني وارفعني واعف عني) وقد جاء أيضاً ولا حرج أن يقول ذلك كله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] .(75/13)
جلسة الاستراحة
عاشراً: يسجد السجدة الأخرى أو الثانية كالسجدة الأولى، ثم يقوم بعد السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، وإن جلس قبل أن يقوم للركعة الثانية جلسة خفيفة فهذا حسن، وهذه الجلسة تعرف عند الفقهاء بجلسة الاستراحة، وقد جاء فيها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها حديث مالك بن الحويرث في صحيح البخاري: {أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته -في وتر، أي: إذا انتهى من الركعة الأولى أو انتهى من الركعة الثالثة- لم ينهض حتى يستوي قاعداً} وهذا الحديث حديث مالك بن الحويرث هو أشهر حديث في الباب كما قال الحافظ ابن حجر، ومن ميزاته أنه لم يرد إلا على هذه الصورة، فكل أحاديث مالك بن الحويرث فيها ذكر هذه الجلسة الخفيفة بعد الركعة الأولى وبعد الركعة الثالثة، وقد جاء أيضاً حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: {ثم يرفع من السجود ثم يقول: الله أكبر ثم يثني رجله فيقعد عليها معتدلاً} وهذا اللفظ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وحديث أبي حميد جاء فيه رواية أخرى سكت عن جلسة الاستراحة، وجاء في رواية ثالثة نفى أن يكون جلس، قال: {ثم يقوم ولا يتورك} ومثله أيضاً في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته وأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تلك الجلسة، وقد رواه البخاري بالأوجه الثلاثة، فمرة ذكر هذه الجلسة الخفيفة، ومرة سكت عنها، ومرة ذكر ما يدل على أنه تركها، ومثله أيضاً حديث رفاعة بن رافع في قصة المسيء صلاته.
وقد اختلف أهل العلم كثيراً، فقال بعضهم: من السنة أن تجلس هذه الجلسة الخفيفة، وقال بعضهم: مكروه، وقال بعضهم: يفعلها للحاجة، والأولى والأقرب والله أعلم أن يفعلها تارة ويتركها تارة جمعاً بين النصوص، وهذا ما كان يفعله الإمام أحمد، كما في كتاب: مسائل الإمام أحمد لـ ابن هانئ فإنه قال: كان يفعلها مرة، ويتركها مرة، وفي ذلك جمع بين الأقوال، ولو حافظ الإنسان على هذه الجلسة لم يكن عليه من حرج أو بأس إذا اعتقد سنيتها، لأن أمامه أدلة قوية، وأمامه علماء جهابذة عظام قالوا بمشروعية هذه الجلسة في كل حال وعلى الإطلاق.(75/14)
السجود والذكر فيه
ثامناً: يهوي الإنسان بعد ذلك ساجداً، وهل يقدم في السجود يديه أو ركبتيه؟ في ذلك خلاف طويل بين أهل العلم، وقد نقل الإمام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن صلاة من قدم يديه أو ركبتيه صحيحة، وإنما الخلاف في الأولى والأفضل من ذلك، إذن ينبغي أيضاً أن نعطي هذه المسألة قدرها، فلا نعظمها ونضخمها، ونجعلها مجالاً للخصومات والعداوات والقيل والقال واختلاف القلوب، بل نبحثها بحثاً علمياً هادئاً رزيناً بعيداً عن التشنج والانفعال والإثارة، فنقول: من أهل العلم من قال: السنة أن يقدم الإنسان ركبتيه ثم يديه ثم جبهته بهذا الترتيب، وهذا الذي رجحه الإمام ابن القيم، ورجحه جماعة من علمائنا المعاصرين كسماحة الشيخ ابن باز وسماحة الشيخ محمد بن العثيمين وغيرهم من أهل العلم.
ومن أهل العلم من قال: السنة أن يقدم الإنسان يديه ثم ركبتيه إذا هوى إلى السجود، وكأن هذا أشبه وأقرب إلى السنة -أن يقدم الإنسان يديه ثم ركبتيه- وفي حديث أبي هريرة: {إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه} ومثله حديث ابن عمر بمعناه، وهو أصح من حديث وائل بن حجر الذي ذكر تقديم الركبتين قبل اليدين.
وعلى كل حال فسواء قدم الإنسان يديه أو قدم ركبتيه، فإنه ينبغي ألا يتشبه بالحيوانات في هذا الهوي، فإن الإنسان إذا انحط بجملته وكليته مرة واحدة كان متشبهاً ببروك البعير، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: {لا يبرك كما يبرك البعير} والتشبه بالحيوانات مذموم خاصة في الصلاة، فعلى الإنسان إن هوى بركبتيه أن ينزل تدريجياً، وإن هوى بيديه أيضاً أن ينزل تدريجياً.
ويقول: وعليه في سجوده أن يباعد جسمه بعضه عن بعض، فيباعد بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه ليعطي كل عضو حقه من السجود.
ويقول في ذلك السجود: سبحان ربي الأعلى، والواجب مرة واحدة، وما زاد فهو من الكمال والفضل، ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اجعلوها في سجودكم} ويستحب له أن يكثر من الدعاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم} ومن الدعاء المشروع أن يقول: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي} وكذلك: {سبوح قدوس رب الملائكة والروح} وكذلك: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} .(75/15)
الركوع والذكر فيه
سادساً: يركع الإنسان، ويحني ظهره، ويجعل رأسه مساوياً لظهره، كما قالت عائشة: {إذا ركع لم يرفع رأسه، ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان لو صب على ظهره الماء لاستقر} من تساويه واعتداله، ورأسه كذلك كان مساوياً لظهره عليه الصلاة والسلام، وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم.
أما الوجوب فمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال: {اجعلوها في ركوعكم} وهذا يتحقق بمرة واحدة، وأما أدنى الكمال فكما قال الفقهاء: ثلاثاً، ويدعو في الركوع أيضاً بما ورد، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في ركوعه كما في حديث عائشة المتفق عليه: {سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي} إلى غير ذلك من الأدعية.(75/16)
الرفع منه والذكر فيه
سابعاً: يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده إن كان إماماً أو منفرداً، أما المأموم فلا يقولها، بل يكتفي بقول: (ربنا ولك الحمد) وهذا الدعاء يشترك فيه الإمام والمأموم والمنفرد، فيقولون جميعاً: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماء والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فما معنى هذا الدعاء؟ (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) معناه: هذا الحمد الذي نحمدك يا رب هو حمد كثير طيب لا ينتهي أبداً، يملأ السموات ويملأ الأرضين ويملأ غيرها مما تشاء يا رب.
ثم قال: (أهل الثناء والمجد) يا ربنا أنت أهل الثناء والمجد، (أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد) كلنا عبيد لك، وأفضل وأعظم كلمة قالها عبد هي: (اللهم لا مانع لما أعطيت) فهذه أعظم كلمة قالها العبد وأحق كلمة قالها عبد (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فذو الحظ والغنى، وذو الملك والسلطان، وذو المال والثراء، وذو الصحة والقوة لا ينفعه منك ذلك، إنما ينفعه عمله الصالح، أما جده وحظه الدنيوي فلا ينفعه.
فليس لأمر قدر الله جمعه مشت ولا ما فرق الله جامعُ فالعبد الذي يقول هذا أَنَّى له أن يطأطئ رأسه لغير الله، أو يذل لسواه، أو يطلب الدنيا ويختلها بالدين، أو يضعف ويخاف من الطواغيت وأعداء الله وأعداء رسوله عليه الصلاة والسلام، إن المؤمن الذي يقول هذا الدعاء بقلب حاضر سيمتلئ قلبه ثقةً بالله وتوكلاً عليه، وشجاعةً وجرأةً وقوةً وإعراضاً عن الدنيا، وهكذا كانت مثل هذه العبادات والأذكار والصلوات تخرج الناس خلقاً آخر غير ما عهد الناس، فكان الواحد منهم يهجم على الموت يبحث عنه ويطلبه في مظانه رجاء أن يكتب الله تعالى له أجر الشهداء في سبيله.
أما المسلم اليوم فإنه يقول هذا الدعاء، ثم يمد يده طلباً للدنيا، ويقول هذا الدعاء، ثم يخاف من القوى العظمى -كما تسمى- أو يخاف من رجال الأمن، أو يخاف من الدول، أو يخاف من أعدائه وخصومه، أو يخاف من الجن -كما نجد عند الكثيرين- أو يخاف من الشياطين، أنى لإنسان يقول بلسانه وقلبه يواطئ لسانه: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، أن يطلب الدنيا من غير الله تعالى، أو يقف بباب غير باب الله تعالى! وهذا الموضع -موضع القيام من الركوع- هو موضع قنوت ودعاء، فهو أحد المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الركعة الأخيرة من الوتر وكذلك في غير الوتر في الصلوات في النوازل والمصائب العامة التي تنزل بالمسلمين، ويمكن للإنسان أن يقنت ولو سراً منفرداً أو غير منفرد، فيطيل الوقوف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل ويدعو الله تعالى بما أحب من خير الدنيا والآخرة.(75/17)
قراءة سورة بعد الفاتحة
خامساً: ويقرأ بعد الفاتحة سورةً، استحباباً لا وجوباً في الركعتين الأوليين من الصلاة الرباعية ومن الصلاة الثلاثية، ففي الفجر يقرأ بطوال المفصل، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر بسورة السجدة، وهل أتى على الإنسان، وقرأ بسورة ق وقرأ إذا الشمس كورت، وغالب ما يقرأ من ستين إلى المائة يقسمها بين الركعتين.
أما في الظهر فإنها أقل من الفجر، ولكنها أطول من العصر، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ أحياناً في الظهر بطوال المفصل، فقرأ بالذاريات، بل قرأ في الظهر بلقمان، فثبت هذا عنه عليه الصلاة والسلام، والغالب أنه يقرأ قراءة أقل من صلاة الفجر وأطول من صلاة العصر، أما في العصر فيقرأ بأواسط المفصل كسورة النبأ والمطففين والتكوير والبروج ونحوها، أما المغرب فيقرأ أحياناً بالقصار كما في حديث سليمان بن يسار {أنه كان يقرأ بقصار المفصل، وقال أبو هريرة: أذكرني هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم} .
ومثله حديث الصنابحي وقد ذكر أنه صلى خلف أبي بكر بالمدينة وذكر أنه وكان يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد قرأ صلى الله عليه وسلم في المغرب بغير ذلك، فقرأ بالطور مرة، وقرأ بسورة المرسلات، بل قرأ بسورة الأعراف طولى الطوليين في مرة أو أكثر من ذلك، أما في العشاء فهو يقرأ فيها كالعصر بأواسط المفصل، وقد قرأ عليه الصلاة والسلام في العشاء: إذا السماء انشقت ذات مرة، وسجد فيها، وكذلك في الصحيحين من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ بن جبل: {أفتان أنت يا معاذ -لما أطال القراءة- اقرأ "بالشمس وضحاها"، "والليل إذا يغشى"، و"سبح باسم ربك الأعلى"} هذا ما يتعلق بما يقرأه الإنسان.(75/18)
حكم قراءة الفاتحة للمأموم والإمام والمنفرد
المسألة الرابعة: قراءة الفاتحة، وهي ركن للإمام والمنفرد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} أما المأموم فإن كان الإمام يسكت قرأ الفاتحة، وإلا سكت المأموم وتكفيه قراءة إمامه إن شاء الله تعالى، وفي ذلك أقوال كثيرة هذا أصحها وأرجحها فيما ظهر لي، ولذلك أدلة؛ من أعظمها قول ربنا تعالى في القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] .
قال بعض المفسرين: أجمع العلماء على أن ذلك في الصلاة، فإذا كان الإجماع على أن هذه الآية نزلت في الصلاة، فكيف نستثني منها الحالة الوحيدة التي يمكن أن يقرأ فيها الإمام والمأموم، وهي ألا يسكت الإمام بعد قراءة الفاتحة؟! فإذا لم يسكت الإمام فعليك أن تسمع وتطيع لما قال الله، فتسكت رجاء أن تدخل في رحمة الله تعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأئمة: {يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فعليهم ولكم} فقوله: (يصلون لكم) دليل على أن قراءة الإمام قراءة لمن وراءه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا} فقوله: {وإذا قرأ فأنصتوا} بعد ما بين ما يقول الإمام، بين ما يقول المأموم، فإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال المأموم: ربنا ولك الحمد، وإذا ركع الإمام ركع المأموم، فبين ما يجب عليهم جميعاً، وهو الركوع -مثلاً- والوقوف والسجود وغير ذلك.
وبين ما يجب على الإمام دون المأموم، وهو قول: سمع الله لمن حمده، وبين ما يجب على المأموم مع الإمام، وهو قول: ربنا ولك الحمد، ثم قال: {وإذا قرأ فأنصتوا} فدل على أن المأموم مطالب بالإنصات متى شرع إمامه في القراءة حتى لو لم يتمكن من قراءة الفاتحة، وقد جاء في ذلك حديث: {من كان له إمام فقراءته له قراءة} وهذا الحديث جاء عن أنس بن مالك وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وجابر وغيرهم وصححه جماعة من أهل العلم، كالإمام البوصيري والإمام شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن المعاصرين الشيخ الألباني وغيرهم، وضعفه آخرون.
وعلى كل حال فإنه لم يثبت قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت وهو إمام، حتى يتمكن من وراءه من القراءة، ولو كانت قراءة الفاتحة واجبة على المأموم، لسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتمكن المأموم من قراءتها، وقد قال عليه الصلاة والسلام يوماً بعدما انصرف من صلاة الفجر، قال: {ما لي أنازع القرآن؟! لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، فنهاهم قال الزهري: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة} .(75/19)
وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر
ثالثاً: يضع يده اليمنى على يده اليسرى كما سبق، وهذا يكاد يكون اتفاقاً بين أهل العلم وخالف في ذلك القليل، ثم يضع يديه على صدره، لحديث وائل بن حجر قال: {صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره} والحديث رواه ابن خزيمة وفي سنده ضعف، ولكن له شاهد آخر مرسل صحيح، عن طاوس قال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره} والحديث هذا رواه أبو داود وهو مرسل صحيح، وبه يتقوى حديث وائل بن حجر رضي الله عنه.
وهناك أقوال: بعضهم يقول: يرسل يديه، وبعضهم يقول: يضعهما فوق السرة، وبعضهم يقول: يضعهما تحت السرة، وأود أن أقول: إن الأمر في ذلك كله واسع، فأما السنة فلا شك أن السنة وضع اليمنى على اليسرى، وليست إرسال اليدين، ثم إن وضعهما على صدره أو تحت الصدر قليلاً أو فوق السرة أو تحت السرة فذلك كله واسع، والأولى أن يضعهما فوق الصدر.
إنما ينبغي ألا تكون هذه المسألة من المعضلات، وألا تكون مثاراً للجدل والإشكال والقيل والقال، وينبغي أن يكون فيها تعاذر وتناصح وتغافر، فلو خالفتني في هذه المسألة فلا حرج عليك إن شاء الله، وأرجو ألا تؤاخذني إن خالفتك أيضاً، فإن الصلاة -كما أسلفت- عبادة المقصود فيها ما يقرب إلى الله تعالى، وليس المقصود فيها الجدل والقيل والقال وارتفاع الأصوات واختلاف القلوب، ولأن نضع أيدينا مختلفين، فهذا وضعهما على صدره، وهذا وضعهما فوق سرته، وهذا وضعهما تحت سرته، مع اتفاق القلوب وسلامتها والنصح للمسلمين لهو خير عند الله تعالى من أن نفعل غير ذلك، وتكون القلوب مختلفة متناحرة مليئة بالبغضاء لإخوانك المسلمين.(75/20)
تكبيرة الإحرام
أولاً: يرفع العبد يديه في مبدأ الصلاة، ويقول: الله أكبر، وهذه تكبيرة الإحرام، وبها يدخل الإنسان في الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم} فإذا كبر دخل في الصلاة وأحرم بها، فأصبح محرماً عليه أن يأكل أو يشرب أو يتكلم أو ينصرف عن القبلة أو يعاني أي عمل من أعمال الدنيا التي تتنافى مع الصلاة.
وهذه التكبيرة ركن من أركان الصلاة، وينبغي أن يرفع يديه مع التكبير، يرفعهما إلى منكبيه -كما جاء في بعض الأحاديث- أو إلى أطراف أذنيه، كما جاء في أحاديث أخرى، ورفعهما إلى المنكبين هو مذهب الجمهور، وأكثر الأحاديث عليه، ولو رفعهما إلى أطراف الأذنين فلا حرج، فقد جاء في أحاديث أخرى، وتوسط بعض أهل العلم فقال: يكون أسفل اليد إلى المنكب، وأطراف الأصابع إلى فروع الأذنين.
وهذا الرفع مسنون عند تكبيرة الإحرام، كما هو مسنون أيضاً عند تكبيرة الركوع، وعند الرفع من الركوع، وهو أن يقول: سمع الله لمن حمده ويرفع يديه، كما هو مسنون في موضع رابع عندما يقوم من التشهد الأول، فهذه أربعة مواضع، ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره أنه يشرع للإنسان أن يرفع يديه فيها مع التكبير أو مع التسميع، وهو سنة على كل حال، كما هو مذهب الجماهير من العلماء بما في ذلك الأئمة الأربعة، رفع اليدين عند التكبير والركوع والرفع من الركوع والقيام من التشهد الأول هو سنة وليس بواجب، كما هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.(75/21)
دعاء الاستفتاح
ثانياً: بعد التكبير يستفتح العبد، وهو سنة وليس بواجب عند جميع أهل العلم، وأي دعاء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يستفتح به العبد، مثلاً: {سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك} هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم وغيره، وجهر به عمر وعلمه الناس، ورجحه الإمام ابن القيم من نحو عشرة أوجه، واختاره الإمام أحمد، وفي كتاب التوحيد لـ ابن مندة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الكلام إلى الله: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك} وسند الحديث جيد.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه عليه السلام كان يستفتح فيقول: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} وإن دعا بغير ذلك من الاستفتاحات الواردة، وهي نحو أربعة عشر استفتاحاً، فلا بأس بذلك، ولو جمع بين استفتاحين لم يكن عليه في ذلك إن شاء الله حرج كما رجحه الإمام ابن تيمية رحمه الله، ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] .(75/22)
آداب ومناقب
أتجاوز بعض الأشياء الباقية وانتقل إلى النقطة الرابعة وهي آداب ومناقب: أولاً: المصلي يجب أن يكون قدوة في عمله وقوله وسلوكه، فأولئك المترددون على المساجد هم رمز للهداية، ورمز للتقوى، ورمز للدين والطاعة، فينبغي أن يكون من تعظيمهم لقدر الصلاة أن يحرصوا على أن يكونوا قدوة في أعمالهم وأقوالهم لئلا يؤخذ عليهم شيء.
ثانياً: ينبغي احترام المساجد بتنظيفها وتطييبها وتطهيرها وحفظها وصيانتها، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وحماية المساجد من كل ما يتنافى مع العبادة، مثل البيع والشراء فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمر أن يقال لمن يبيع ويشتري: {لا أربح الله تجارتك} .
ومثله الشعر، فتناشد الأشعار بأن يكون المسجد كأنه منتدى أدبي أو أمسية شعرية للقيل والقال، والأشعار والرد، وأما قراءة الأبيات لمناسبة، فهذا لا بأس به.
ومثله أيضاً رفع الأصوات في المساجد والجدل العقيم، ومثله وضع الصور والرسومات الملفتة للمصلي خاصة في جهة القبلة، لأنها تشغل المصلي، وربما أخذت شيئاً من وقته، ولهذا إذا كان في قبلة المصلي ما يشغل بصره أو في جهة نظره في موضع قيامه وفي موضع سجوده فإنه لا بأس حينئذ لهذا العارض الطارئ أن يغمض عينيه إن كان يحتاج إلى ذلك، وإلا فالأصل ألا يغمض الإنسان عينيه، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغمض عينيه في الصلاة.
ثالثاً: ينبغي للمتردد على المسجد أن يحترم إخوانه من المصلين، بحسن معاملتهم، والهشاشة والبشاشة في وجوههم، والبسمة لهم والسؤال عن أحوالهم، وتجنب ما يحرجهم أو يعنتهم أو يشق عليهم، فقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .
ومن ذلك أيضاً تجنب أن يطيل الإنسان الصلاة طولاً يشق على من وراءه، أو يطيل القراءة طولاً يشق على من وراءه، وقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وقال له: {أفتان أنت يا معاذ} وخاصة في صلاة الفريضة لأنها واجبة على الجميع، أما النافلة كما هي الحال في صلاة التراويح والقيام في رمضان فالأمر أوسع؛ لأن النافلة بإمكان الإنسان الذي يشق عليه ذلك كالكبير والمريض وغيرهم، أن يقعد، وبإمكانه أن يصلي ما كتب الله له، ثم يدع ما لا يطيق، ومثله أيضاً مراعاة المصلين في أسلوب الوعظ والحديث، بحيث يتلطف معهم، ويحرص على التسلل إلى قلوبهم بالكلمة الهادئة الهادفة.(75/23)
تحذيرات نبوية
خامساً: تحذيرات نبوية: التحذير الأول: ترك الصلاة: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقال: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن من ترك الصلاة كفر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وقال بعضهم: هو كفر أصغر، والأقرب ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ونسبه إلى جماعة من العلماء: أن تارك الصلاة إن تركها بالكلية، لا يصلي ليلاً ولا نهاراً، لا مع الجماعة ولا في بيته، لا في رمضان ولا في غيره، لا جمعة ولا جماعة، فهو كافر، أما إن كان يصلي ويترك ويصلي أحياناً وقد ينشغل، فهذا على خطر عظيم، وقد أتى باباً من أبواب الكبائر، ويخشى أن يختم له بسوء، وقد يجره ذلك إلى ما هو أعظم منه، لكن لا يحكم عليه بالردة والخروج من الإسلام.
التحذير الثاني: ترك الجماعة، فإن الجماعة واجبة، أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} وقال عليه الصلاة والسلام: {صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين -وفي رواية- بخمس وعشرين درجة} إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أنه يلزم الإنسان أن يصلي مع الجماعة إذا كان صحيحاً مقيماً معافىً.
التحذير الثالث: من التساهل بالطهور، فإن المتساهل على خطر عظيم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسن الإنسان وضوءه لصلاته.
التحذير الرابع: من عدم متابعة الإمام، بحيث يسابقه الإنسان، فيرفع قبله، أو يسجد قبله، أو يوافقه أحياناً، فيرفع معه أو يسجد معه، مع العلم بأنه لم يسلم إلا بعد سلام الإمام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسابقة، وحذر منها أشد التحذير، وفي حديث البراء بن عازب -في الصحيح- قال: {كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كنا وراءه، لم يحن أحد منا ظهره حتى تقع جبهته صلى الله عليه وسلم على الأرض، ثم يخر أحدنا بعد ذلك ساجداً} فلا تنتقل إلى الركن إلا بعد أن يتم انتقال الإمام إليه، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كما في حديث أنس {أيها الناس إنما أنا إمامكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف فإني أراكم أمامي ومن خلفي} وفي حديث أبي هريرة أيضاً وهو في الصحيح: {أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار} وهذا من التشديد والوعيد على من فعل ذلك.
التحذير الخامس: من رفع البصر إلى السماء، خاصة حال الدعاء، وفي جميع الصلاة فإنه محرم، وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم} .
التحذير السادس: من مسح الحصى والأرض والتراب باليد، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {إن كنت ولا بد فاعلا فواحدة} وقال في حديث آخر: {واحدة أو دع} .(75/24)
الأسئلة(75/25)
عدم اتفاق الأنبياء في أحكام الصلاة
السؤال
قرأت في كتاب عن توحيد الله تعالى، فقال: كل الأعمال لم تتوحد بين الأنبياء، وإنما كلهم أمروا بالتوحيد، وضرب لذلك مثلاً بالصلاة، فقال: لم تفرض على كل الأنبياء، بينما الأنبياء أمروا بالتوحيد، فهل كلامه صحيح؟
الجواب
الظاهر أن الصلاة مفروضة على الأنبياء جميعاً، لظاهر النصوص التي ذكرتها، ولكن لا يلزم أن يكون الأنبياء متفقين في جميع تفاصيل أحكام الصلاة.(75/26)
كيفية التعامل مع شخص في البيت لا يصلي
السؤال
أعيش في بيت يوجد فيه شخص لا يصلي، ويصعب التعامل معه، وتوجد والدتي، ولا ترضى بخروجي من البيت، فما هي الوسيلة المثلى التي أستطيع بواسطتها دعوته؟
الجواب
ينبغي أن تبذل الأسباب المعروفة في دعوة هذا الإنسان إلى الصلاة، ولا تيئس منه، فإنني وجدت الكثيرين يريدون أن يستجاب لهم من أول وهلة، فنحن نجد أن الرسل والأنبياء دعوا قومهم وصبروا عليهم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] فلعل نصر الله تعالى يأتيك من خلال هداية أخيك على يدك: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم} فاصبر عليه وادعُ له، وحاول أن تبذل ما تستطيع، فإذا أيست من هدايته، فعليك بمقاطعته، إذا كنت لا تستطيع أن تكون في بيت آخر غير البيت الذي هو فيه.(75/27)
حكم الوسوسة في النجاسة
السؤال
عندما يتوضأ الإنسان ويصيب جسمه نجاسة من رشق الماء أو غير ذلك، هل ينجس بذلك أم لا؟
الجواب
إن كان يعلم يقيناً أن هذه نجاسة فلا شك، أما ما يقع لكثير من الموسوسين الذين إذا أصابهم ماء في دورة المياه قال: هذا لا بد أصابته نجاسة، فهؤلاء لا يلتفت إليهم، والأصل في الأشياء الطهارة، وخاصة أن دورات المياه اليوم لا يبقى فيها شيء من النجاسة، بل تزول حالاً بالماء، فلا تكون هذه الدورة حينئذ نجسة، ولا يكون الماء الذي يرشق على الإنسان من خلال هذه الدورة نجساً إلا إذا علم يقيناً قطعياً لا شك عنده فيه أنه نجس.(75/28)
أحد أدلة كفر تارك الصلاة
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم في أئمة الجور: {لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة} وقال: {إلا أن تروا كفراً بواحاً} هل يعد هذا من الأدلة على كفر تارك الصلاة؟
الجواب
هذا أحد الأدلة التي استدل بها من قال بكفر تارك الصلاة.(75/29)
من أحكام سجود السهو
السؤال
سجود السهو متى يكون قبل السلام؟ ومتى يكون بعده؟ وهل يكون السجود بعد الصلاة واجباً أم للأفضلية؟
الجواب
أما أنه واجب فليس بواجب، فلو سجد كل سجود السهو قبل السلام فلا حرج في ذلك، كما هو رأي جماهير أهل العلم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، أما متى يكون السجود قبل السلام، فإنه يكون قبل السلام إذا سجد للسهو عن نقص، كما لو نسي التشهد الأول -مثلاً- أو نسي سبحان ربي الأعلى أو نسي سبحان ربي العظيم، فإنه يسجد للسهو قبل السلام، لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة وهو في الصحيح.
أما متى يكون بعد السلام، فإنه يكون بعد السلام إذا سجد عن زيادة، مثلاً لو صلى خمساً أو جلس للتشهد الأول يظنه التشهد الأخير، ثم نبهوه بعد ذلك، فقام وأطال في الصلاة، أو صلى عن ركعتين وسلم، ثم تنبه فأتى بالركعتين الباقيتين، فهذا يكون زيادة؛ لأن التشهد الطويل والسلام في صلب الصلاة تعتبر زيادة، فحينئذ يسجد للسهو بعد السلام، أما إن شك في الصلاة فإنه يكون له حالان: الحال الأولى: أن يترجح عنده أحد الطرفين، فشك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، ورجح أن الصلاة حينئذ ثلاث، فإنه يأتي بالرابعة ويسجد للسهو بعد السلام.
الحال الثانية: فهي أن يشك ولا يترجح له شيء، لا يدري هل هي ثلاث أم أربع، فحينئذ يأخذ بالأقل، فيعتبرها ثلاثاً، ويسجد للسهو قبل السلام.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(75/30)
واجب أئمة المساجد مع تاركي الصلاة في منطقتهم
السؤال
كثير من الأئمة لا يتابعون المتخلفين عن الصلاة، مع أن بعضهم لا يصلي أبداً، وبعضهم يصلي وقتاً واحداً في اليوم، فما واجب الأئمة هؤلاء؟
الجواب
ينبغي -ليس على الأئمة فقط بل على أهل الحي- أن يكون في كل حي مجموعة من الناس محتسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأوا في الحي رجلاً لا يصلي زاروه في بيته أول مرة، وسألوه عن أحواله وأوضاعه، وقالوا: أنت جارنا، ونحب أن نتعرف عليك وتتعرف علينا، فبعض الناس يستحي من مجرد الزيارة فيصلي، فالحمد لله، وإذا لم يجد هذا زاروه مرة أخرى، وأعطوه كتيباً عن الصلاة وأهميتها أو شريطاً، فإن نفع فالحمد لله، وإذا لم يجد زاروه مرة ثالثة، وتكلموا معه بوضوح عن الصلاة، وما يجب عليه تجاهها، فإن استجاب وإلا ألحوا عليه، فإذا أيسوا منه ضغطوا عليه، إما أن يصلي وإما أن يفارقهم.
فمثلاً: لو وجدوا إنساناً يشكون في أمره أن عنده منكرات أو معاصي كمن يبيع أو يتعاطى مخدرات، أو أنه يتوارد عليه أناس مشبوهون، أو أنه إنسان مفسد أو أنه مخل بالأمن أو أي شيء آخر من الأمور التي يخشون منها، فينبغي أن يكون هؤلاء قائمين بمهمة الاحتساب في حيهم وما حوله، ويكون الإمام أو المؤذن أو طالب العلم الموجود في المسجد مسئولاً عن مثل هذا العمل.(75/31)
حول صحة حديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء)
السؤال
ما صحة الحديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء لم يزد بها من الله إلا بعدا} ؟
الجواب
هذا الحديث لا يصح -والله أعلم- مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه جاء من قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.(75/32)
ركعتا بعد الظهر من السنن الرواتب
السؤال يقول: لم تذكر ركعتين بعد الظهر!
الجواب
نعم، ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، هذا في السنن الرواتب.(75/33)
حكم قضاء السنن والرواتب
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه، إن الإنسان إذا فاتته صلاة فإنه يصليها متى ذكرها، فهل السنن الرواتب تدخل في ذلك؟
الجواب
السنن والرواتب إن كان الإنسان تركها ناسياً أو مشغولاً فهي تدخل فيها: {من نام عن صلاة أو نسيها} أما إن تركها تفريطاً وإهمالاً، فمن أهل العلم من يقول: لا يصليها إذا تركها إهمالاً وتفريطاً، ومنهم من يقول يصليها متى وجد لذلك نشاطاً.(75/34)
كيفية استحضار الخشوع
السؤال
أنا شاب محب للخير، وأحضر المحاضرة، وأحافظ على شعائر الدين، ولكني مبتلى بعدم الخشوع في الصلاة، وكذلك النوم عن صلاة الفجر مع وضع المنبه، فما نصيحتك لي؟
الجواب
ينبغي أن تبذل الأسباب في ذلك، أما فيما يتعلق بالخشوع، فعليك أن تكثر من التبكير إلى الصلوات، والسنن الرواتب وقراءة القرآن وسؤال الله تعالى أن يرزقك قلباً خاشعاً، فإن هذا من عند الله تعالى يهبه من يشاء، وتلح في ذلك، وتجاهد نفسك ولا تيئس، ولو لم تذكر الخشوع إلا وأنت في آخر الصلاة، فلا تقل: هذه الصلاة مضت، وقد أخشع في التي بعدها، بل حاول أن تستجمع قلبك في أي وقت من الصلاة، ولو كنت في التشهد الأخير.
أما ما يتعلق بصلاة الفجر، فاتخذ الأسباب الكافية، وبكر في النوم، وحاول أن تجعل هناك منبهاً أو تجعل هناك من يوقظك من أهلك، وابذل وسعك في ذلك، وتذكر أنه لو كان عندك موعد في الخطوط في رحلة بالطائرة قبل الفجر أو مع الفجر كيف تكون أعصابك متوترة مستعدة، فربما تصحو بالليل عدة مرات خشية أن يفوتك الحجز، فكذلك ينبغي أن يكون قدر الصلاة في قلبك.(75/35)
قضاء الركعة التي لم يقرأ فيها بالفاتحة
السؤال
من لم يقرأ الفاتحة سواء كانت الصلاة سرية أم جهرية فهل يأتي بركعة أم ماذا؟
الجواب
إذا كان الإمام ترك قراءة الفاتحة فلا شك أن عليه أن يعيد الركعة، ومثله أيضاً المنفرد.(75/36)
حكم صلاة التوبة
السؤال
هل يوجد صلاة للتوبة؟
الجواب
نعم يوجد للحديث الذي ذكره علي رضي الله عنه وهو صحيح ورواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم، أنه قال: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً استحلفته فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يذنب ذنباً، فيتوضأ، ويصلي ركعتين، ويستغفر الله تعالى إلا غفر له} فهذه صلاة التوبة.(75/37)
الصلاة في القبر من خصائص الأنبياء
السؤال
لقد ذكرت في بداية الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بموسى عليه السلام وهو يصلي في قبره، فهل هناك أعمال في الحياة البرزخية، أم أن هذا من خصائص الأنبياء؟
الجواب
كلا، بل هذا من خصائص الأنبياء.(75/38)
بيان السنن الرواتب
ذكر بعض الإخوة أنني قلت فيما يتعلق بصلاة المغرب: إنه يقرأ غالباً بطوال المفصل، والواضح من السياق أنني أقول: يقرأ في المغرب غالباً بقصار المفصل، وقد يقرأ بأطول منها، بل قد يقرأ بسور طوال كما قرأ بطولى الطوليين، هذا فيما يتعلق بالمغرب، أما ما يتعلق بالسنن الرواتب فأعيدها تأكيداً، لها وتذكيراً بها لعدم وجود فرصة لتفصيلها: أولاً: ركعتان قبل الظهر -وقال بعض العلماء: أربع ركعات قبل الظهر- وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فهذه عشر ركعات أو ثنتا عشرة ركعة، وهناك غيرها من النوافل كالركعات قبل العصر أربعاً، وركعتين بين الأذان والإقامة، وصلاة الضحى أربع أو ست أو ثمان، وقال بعضهم: إلى اثنتي عشرة ركعة، ومثل الوتر يوتر بواحدة وهذا أقله، أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة وهو أكثر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو زاد عن ذلك إلى ما كتب الله تعالى له، فلا حرج عليه في ذلك كله، المهم في صلاة الليل أن يسلم من كل ركعتين: {صلاة الليل مثنى مثنى} إلى غير ذلك من النوافل.(75/39)
من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين
الفقه هو العلم.
ولكن للتفقه طرق، وأساليب متعددة، ولكل طريقة مزايا، كما أنها قد تؤدي إلى شيء من السلبية، وهنا تجد كلاماً واضحاً، وإرشادات نافعة حول الفقه والتفقه.(76/1)
قصور في الفهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: أيها الإخوة: كثير من الشباب المتجه إلى الله تعالى في هذا العصر، أصبح هم طلب العلم الشرعي من أكبر الهموم لديهم، وأصبحوا يتطلعون إلى أن يعرفوا حكم الله ورسوله فيما ينزل بهم من نوازل، ومنهم من يتطلع إلى أن يكون فقيهاً أو عالماً أو مفتياً، ينفع الله به الأمة ويجلو به الظلمة.
ولذلك أصبحت كثيراً ما تسمع أسئلةً حول رغبة بعض الشباب عن جوانب من الخير، كالدعوة إلى الله تعالى، والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعبادة؛ بحجة الانقطاع إلى العلم والإقبال عليه، وهذا الفهم هو نابع من قصور في معرفة معنى العلم، في القرآن والسنة وعند السلف الصالح، فلم يكن معنى العلم عند سلف الأمة هو معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية معرفة مجردة فحسب، وإن كان هذا جزءاً من العلم، وكان مفهوم العلم عندهم مفهوماً واسعاً، يشمل المعرفة العقلية لهذه العلوم بألوانها، من معرفة الأحكام الشرعية والعقائد وغيرها، ثم يشمل تطبيق هذه العلوم في الواقع، وظهور آثار هذا العلم بأعمال القلوب، من الحب والخشية والإنابة والخوف ونحوها، وبأعمال اللسان، من الذكر والتسبيح والدعاء والتعليم ونحوها، وبأعمال الجوارح، كالعبادة والجهاد وسواه، فكان هذا المفهوم متكاملاً عند السلف الصالح.(76/2)
المقصود الأعظم من وجود الإنسان هو: العلم العمل
أيها الإخوة: طلب العلم بألوانه والعمل به هو المقصود الأعظم من وجود الإنسان، بما في ذلك طلب الفقه، وأعني بالفقه المعنى الاصطلاحي، الذي يُعبر عنه بأنه: معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية أي: معرفة الحلال والحرام والمستحب والمكروه، والمباح بأدلتها، فهذا هو المعنى الاصطلاحي للفقه، طلب هذا العلم وتحصيله بأدلته هو أيضاً من العلم، لا نقول: إنه العلم كله، ولكنه من العلم.(76/3)
العلم ليس الفقه فحسب
وهذا ما يجب أن ينتبه له الشاب، وهو أن العلم في الإسلام ليس مجرد معرفة الأحكام الفقهية التفصيلية، وما ورد من الحث على العلم فهو يشمل ألوان العلوم مع التطبيق العملي، أرأيت قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] هل المقصود بالفقه في هذه الآية {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] هو فقط معرفة الحلال والحرام؟ كلا! لأن معرفة الحلال والحرام ليست هي التي يتم بها الإنذار، بل الإنذار يتم بالتخويف من الله تعالى والتذكير بأيامه، والوعد بالجنة والوعيد بالنار، وما أشبه ذلك، فهذا هو الذي يكون فيه الإنذار أكثر من غيره، وفي الآية قال الله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فأنت -مثلاً- لو أتيت لإنسان غير مسلم وقلت له: إن حكم الإسلام كذا، وهذا حلال وهذا حرام، قد لا ينفعه ذلك، بل في غالب الأحيان لو أتيت لإنسان عاص، وقلت له: إن الحكم كذا والحكم كذا مجرداً، فقد يستجيب، والغالب أنه لا يستجيب، إلا إذا جعلت هذا الحكم ضمن مؤثرات عديدة، خوفته بالله وذكرته به، وبينت له مغبة عمله، وإلا فقد يكون عارفاً بالحكم -أصلاً- ومع ذلك يعاند ويعصي على بينة.
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فليس المعنى في هذا الحديث: أن يفقهه في الدين، أي: أن يجعله عالماً بالحلال والحرام فقط، كلا! بل المعنى أشمل من ذلك، فالمعنى أن من أراد الله به خيراً جعله عالماً في الدين، عالماً بالله تعالى، وعالماً بالعقيدة الصحيحة، وعالماً بالحلال والحرام أيضاً، ومتأثراً في قلبه بهذا العلم ومطبقاً في جوارحه، وإلا فإن من علم العلم الشرعي من الفقه وغيره، ثم لم يعمل به ولم يدع إليه، فهذا لا يقال إنه أراد الله به خيراً، لأن علمه أصبح حجة عليه لا حجة له.
وهكذا الحديث المتفق عليه، لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس قال: {الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} أي إذا حصَّلوا الفقه، الذي هو العلم بالله وشرعه، علماً يورث تأثر القلب وانصياع الجوارح للعمل، ولذلك فإننا ينبغي أن ننتبه لهذا المفهوم، وألاَّ يكون توجهنا ورغبتنا في العلم هي رغبة في كسب إقبال الناس، لأن الشاب حين يرى إقبال الناس على المفتي وكثرة حاجتهم إليه، يخطر في باله أن يكون كذلك ليصرف به وجوه الناس إليه، وهذا والعياذ بالله من المقاصد الخطرة في طلب العلم، التي بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أرادها فجزاؤه النار حيث قال صلى الله عليه وسلم: {من تعلم هذا العلم ليباهي به السفهاء أو يماري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فالنار النار} وفي الحديث الآخر: {من تعلم علماً مما يتبغي به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا لدنيا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام} والحديث عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح.(76/4)
طرق تلقي الأحكام الشرعية
حول هذا اللون من العلم أشير إلى بعض القضايا، وإن كان المجال لا يتسع لكل ما يتعلق بذلك، فأشير أولاً: إلى طرق التعلم أو الفقه في الدين، طرق معرفة الأحكام الشرعية، وهناك أكثر من طريقة لتلقي هذه الأحكام.(76/5)
الدراسة اللامذهبية
أما الطريقة الثانية: فهي أن يبدأ طالب العلم أو المتفقه بدراسة المسائل الفقهية أصلاً، ليس على وفق مذهب معين، بل يبدأ في الدراسة منذ أول تفقهه عاملًا على البحث عن الترجيح، وهذا قد يكون باعتماد كتب فقهية أو حديثية.
ففيما يتعلق بالكتب الفقهية، هناك كتب مما يمكن أن يسمى بالفقه المقارن، بمعنى أن مؤلف هذا الكتاب يذكر القول وما يقابله، ويقارن بين الأقوال ويصل إلى نتيجة، دون أن يصل إلى مذهب معين، وقد لا يلتزم بالمقارنة؛ لكن يعتمد ذكر المسائل على القول الذي يعتقد أنه الراجح مع دليلها.
ومن أمثلة هذه الكتب: كتاب فقه السنة لـ سيد سابق، وهو يصلح أن يعتبر من الفقه المقارن إلى حد، ومن أمثلة الكتب التي تعتمد على ذكر القول الراجح بدليله -القول الراجح لدى المؤلف- كتاب الدرر البهية والدراري المضية للشوكاني، والروضة الندية لـ صديق حسن خان، وإن كانت لا تستوعب جميع المسائل الفقهية.
فقد يبدأ الطالب بقراءة هذه الكتب، أو يبدأ بقراءة كتب حديثية وليست فقهية، من الكتب التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام.
فإن العلماء منذ القديم عنوا بالتصنيف في أحاديث الأحكام، فصنف فيها -مثلاً- الإمام المجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام - كتاباً سماه المنتقى من أحاديث المصطفى، وصنف الإمام المقدسي كتابعمدة الأحكام وصنف الحافظ ابن حجر كتاب بلوغ المرام.
وهناك كتب أخرى غير هذه الكتب، ولكنها قد تكون أقل شهرة منها.
وهذه الكتب التي جمعت أحاديث الأحكام، عُني العلماء -أيضاً- بشرحها، ومن أشهر شروح هذه الكتب، ولعله -والله أعلم- أفضل كتاب مطبوع في شرح أحاديث الأحكام، كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني، شرح فيه المنتقى لـ ابن تيمية الجد رحمه الله، وهناك شروح لكتب أخرى، كسبل السلام والبدر التمام شرح بلوغ المرام، ولكتاب عمدة الأحكام عدد من الشروح القديمة والحديثة، من أبسطها وأوضحها: تيسير العلام للشيخ ابن بسام وغيره.
أقول: قد يبدأ الطالب بقراءة هذه الشروح قراءة متأنية، ويتيح لنفسه فرصة معرفة الأقوال المتنوعة في المسألة والأدلة لكل فريق، وما رجحه المصنف أو يمكن أن يرجحه هو أو غيره، فهذه طريقة لا تعتمد مذهباً فقهياً لكنها تعتمد على المقارنة والبحث الراجح، وهذه الطريقة -أيضاً- كالأولى، لها إيجابيات ولها سلبيات.
أ/ إيجابيات هذه الطريقة: فمن إيجابيات هذه الطريقة: تدريب الطالب على النظر المتوازن، فتعطيه فرصة النظر في الأقوال كلها، والترجيح بينها، نظرة فيها نوع من التوازن، وتقويم أدلة كل فريق.
ومن إيجابيتها: أنها تربي في الشباب قدراً -إن صح التعبير- من الاستقلالية وعدم التعصب لشيخ معين، أو كتاب معين، أو مذهب معين، أو قول معين.
ومن إيجابياتها: تدريب الطالب على المرونة في التفكير وسعة الأفق، بمعنى أن الإنسان الذي لا يعرف إلا قولاً واحداً تجد أنه ينكر كل ماعداه، وليس لديه -أحياناً- استعداد أصلاً أن يناقش، لكن إذا عرف الطالب الأقوال، وأن كل قول له ما يؤيده من الأدلة، سواءً كانت قوية أو ضعيفة، فإن هذا يعطيه قدرة على تحمل الآراء الأخرى وتفهمها، والمرونة في التعامل مع من يقول بها، دون حرج أو تبرم أو ضيق.
ومن إيجابياتها: كسب الوقت، لأن العمر قصير، والشاب إذا قرأ كتاباً مرة قراءة متأنية قد لا يعود إليه، خاصةً في هذا العصر الذي ضعفت فيه الهمم وانشغل الإنسان فيه بأشياء كثيرة جداً، قد يكون العلم الشرعي هو أحدها في بعض الأحيان.
ب/ سلبيات هذه الطريقة: ولهذه الطريقة أيضاً سلبيات، من سلبياتها: أن الشاب إذا كان مبتدأً، غالباً يكون غير مؤهل لقراءة الأقوال المتعارضة والأدلة واختيار القول الراجح، لأن هذا يتطلب وجود خلفية علمية عنده، ووجود معرفة بالأصول بصفة عامة، ووجود إلمام مجمل بعدد من العلوم، وهذا قد لا يتيسر للطالب في بداية التفقه.
فيكون اختيار الطالب حينئذٍ لقول من الأقوال ليس لقوة هذا القول، لكن لسبب آخر، أحياناً قد يكون لغرابته، لأن بعض الناس يولع بالغرائب، فالقول الشاذ يجد له أنصاراً في بعض الأحيان.
وقد يكون قبول الشاب لقول من الأقوال ليس لأنه راجح وصواب، لكن لأن أحد العلماء أيد هذا القول وتحمس له وعرضه بصورة قوية، كما تجد -مثلاً- بعض الشباب حين يقرءون للإمام ابن حزم في المحلى أو غيره؛ فلأن الإمام أبا محمد -رحمه الله- يطرح آراءه بقوة وبحماس، ويرد على المخالفين بقوة أيضاً، وقد يقسو عليهم أو يشتد، فيصبح القارئ الذي لا زال في بداية الطلب أسيراً لهذا المصنف فيتقبل آراءه لهذا السبب.
وقد يكون ترجيحه لقول من الأقوال اغتراراً ببعض الظواهر، مع الغفلة عن أمور أخرى قد تكون أقوى في الدلالة منها، فهذه سلبية.
السلبية الثانية: أن الشاب في مثل هذه المرحلة إذا بدأ هذه البداية؛ قد يصبح لديه ولدى غيره من بني جنسه، نوعاً ممكن أن نسميه -تجوزاً- بالفوضى التشريعية، بمعنى: أن يصبح كثير من الشباب -وإن كانوا في مقتبل العمر وبداية الطريق- لديهم جرأة على الكلام عن الحلال والحرام، والخلاف والقيل والقال في هذه الأمور، وهذا يحدث نوعاً من الفوضى بينهم وفي المجتمع، خاصة لدى العامة الذين تعلموا أن يأخذوا الأحكام من العلماء المعروفين، ولا تتسع عقولهم.
لأن المسألة فيها أقوال كثيرة، وفيها راجح ومرجوح وشيء من هذا القبيل، إنما تتسع نفوسهم لأن يقول لهم الشيخ بكل حزم وقوة: حلال أو حرام، افعل أو لا تفعل، فيمتثل وهو طيب الخاطر.
ولذلك من مخاطر هذه الطريقة: أنها قد توجد عند الناس نوعاً من الفوضى والتوسع في هذا المجال، وعدم وجود ضوابط يركن إليها.
فهذه بعض سلبيات هذه الطريقة، وهذه أيضاً بعض إيجابيتها.(76/6)
البدء بالتفقه مذهبياً
الطريقة الأولى من هذه الطرق: هي أن يبدأ الشاب أو طالب العلم، بالتفقه وفق مذهب من المذاهب المتبوعة، كالمذهب الحنبلي أو الشافعي أو المالكي أو الحنفي، أو غيرها من المذاهب التي هي مذاهب لأهل السنة والجماعة، فيأخذ الأحكام الشرعية أو يدرسها في كتاب من الكتب على مذهب من المذاهب.
فمثلاً: في مثل بيئتنا ومجتمعنا، يتجه الطالب في بداية التفقه إلى دراسة الأحكام على ضوء مذهب الإمام أحمد، ويختار في ذلك كتاباً من الكتب المختصرة، أو المتوسطة، ككتاب الروض المربع -مثلا- أو كتاب منار السبيل، أو كتاب العدة للمقدسي، أو حتى كتاب الكافي لـ ابن قدامة، ويدرس الأحكام الشرعية التفصيلية في هذا الكتاب من أولها إلى آخرها، وليس قراءة وإنما يدرس هذه الأشياء دراسة.
وبذلك يكون حصل على رأي المذهب في هذه لمسائل التي درسها، على حسب ما ترجح لصاحب الكتاب أنه هو المذهب، وبذلك يكون لنفسه خلفية علمية شاملة في طريقة الاستنباط والأصول العامة، والقواعد التي بنى عليها الأصحاب اختياراتهم وآراءهم الفقهية.
ثم بعد ذلك يبدأ في تمحيص المسائل بصفة تدريجية، سواءً بالتسلسل، أو كلما عرضت له مسألة واحتاجها درس هذه المسالة دراسة أوسع، دراسة مقارنة بمعنى أنه يدرس هذه المسألة بأدلتها ليتوصل فيها إلى القول الراجح، ولو كان هذا القول -مثلاً- قولاً ضعيفاً في المذهب، لكنه هو الراجح عند أكثر العلماء أو عند المحققين، أو لم يكن قولاً في المذهب لكنه قول آخر في مذاهب أخرى.
وتكون هذه مرحلة ثانية، وهذه الطريقة لها فوائد وإيجابيات، ولها سلبيات.
أ/ الإيجابيات لهذه الطريقة: فمن فوائد هذه الطريقة: أنها تكون لطالب العلم خلفية في معظم المسائل الفقهية وغالبها مما بحثها الفقهاء، وتجعله على اطلاع على أقوال أئمة المذهب في هذه المسائل، ثم إنها تجعل الشاب أمام قول محدد لا يحتاج إلى أن يتيه بين أقوال متباعدة أو متضاربة، وقد يقع عنده حيرة واضطراب، فهو أمام قول واحد -غالباً- أو أكثر من قول، لكنها في الغالب تعتمد على قول واحد، أو تنتهي إلى ترجيح قول واحد.
ب/ سلبيات هذه الطريقة: ولهذه الطريقة في المقابل بعض السلبيات، من أبرز هذه السلبيات: أن طالب العلم حين يفتح بصره على كتاب من هذه الكتب، ثم يفهم جميع ما فيه، معتقداً أن هذا هو الفقه الذي يتعلمه، ويمتلئ قلبه وعقله به، ولو سئل لأجاب بما علم، وإذا عرضت له مشكلة عالجها على وفق ما فهم وهكذا، حتى يتعصب -أحياناً- لهذه المسائل، ولو علم أو ظهر له أن هناك دليلاً يرجح له خلاف ما درس؛ لما كان لديه قوة وشجاعة في الانصياع للدليل وترك ما علم، على حد قول الشاعر:- أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فهذه سلبية قد تقع للبعض وليس لكل طالب، فإن بعض الطلاب إذا كان لديه وعي وبصيرة ويقظة، فهذا أمر آخر لعله تأتي الإشارة إليه.
ومن سلبيات هذه الطريقة: أنها توجد عند طالب العلم شيئاً من الركون إلى ما درس، بمعنى أنه إذا قرأ رأي الأصحاب في هذه المسائل وهو أمر جاهز يسير نسبياً؛ ركن إليه وأصبح ليس لديه تطلع إلى مزيد من البحث والتحصيل، وتمحيص هذه المسائل والوصول إلى نتائج أصح، فيركن إلى ما علم.
ومن سلبيات هذه الطريقة: أنها تجعل المتفقهة سريع التنقل في الآراء، فإن سلم من التعصب فإنه سيكون سريع التنقل، لأنه اليوم يفتي بما درس، ثم غداً يبحث فيجد أن الأمر خلافه فيتغير رأيه في هذه المسألة.
فهذه إيجابيات هذه الطريقة وهذه سلبياتها، وهي طريقة البدء أولاً بكتاب على ضوء مذهب معين أياً كان هذا المذهب، وقد مثلت بالمذهب الحنبلي، ويمكن أن يقال هذا في المذهب الشافعي -مثلاً- في دراسة المهذب أو غيره، وفي المالكي في دراسة الكافي أو غيره، وفي الحنفي في دراسة الدرّ المختار أو غيره، أو أي كتاب آخر يمكن أن يقال فيه ما يقال في هذا المذهب.
ثم تأتي المرحلة الثانية في هذه الطريقة، وهي أن يبدأ لطالب بالتمحيص بعد أن يكون قد أنهى دراسة المسائل على ضوء مذهب معين.(76/7)
المزاوجة بين الطريقتين
قد يقول قائل: أنت الآن عرضت علينا طريقتين، وكل طريقة قلت لها إيجابيات وسلبيات، فما الجدوى؟ وما هو الحل؟ أما الجدوى، فإنني أقول: إن كل طريقة من الطريقتين، لو سلكها إنسان عارفاً بإيجابيتها وسلبياتها ولديه تأهيل، فيمكن أن تكون طريقة صحيحة، بمعنى: أن الطالب الذي عنده قدر من التمكن، لو بدأ بدراسة الأقوال على ضوء مذهب معين بادئ ذي بدء، ثم انتقل بعد ذلك إلى التمحيص، أو أنه بعد أن صار عنده نوع من التمكن -أيضاً- بدأ بدراسة هذه المسائل بالطريقة المقارنة، كلا الأمرين حسن ولا بأس به، لأنه بالدرجة الأولى تعود السلبيات -غالباً- إلى الشخص وإمكانياته، فكل شخص له ما يناسبه، وكون الإنسان يدرك السلبيات والإيجابيات؛ هذا يعينه على أن يتقي السلبيات ويستفيد من الإيجابيات.
أما الحل الذي قد يكون مناسباً ووسطاً: فهو أن يعمل طالب العلم على المزاوجة بين هاتين الطريقتين، بمعنى: أن يحرص الطالب في دراسة المسائل على أن يدرسها -مثلاً- دراسة من الكتب المقارنة، كنيل الأوطار -كما مثلت- أو غيره، على أن يُعنى بكتب الفقه، بحيث يقرأ في كل مسألة ماذا قال الفقهاء فيها، يقرأ في كتاب المغني -مثلاً- أو حاشية ابن قاسم، أو الكافي أو أي كتاب آخر، ويعرف الأقوال ويطلع أيضاً على الكتب الأخرى، لأن هذا يوجد عنده نوعاً من الاعتدال.(76/8)
أصناف الشباب المتفقهين
من الملاحظ في واقع الشباب المتفقهين أنهم على أصناف: الصنف الأول: منهم من يتفقه على مذهب معين، فتجد أنه يزدري ولا يقيم وزناً لمن يتفقهون تفقها مقارناً، أو يحرصون على معرفة القول بدليله أياً كان، لأنه يعتبر أن هؤلاء سيضيعون عمرهم بلا طائل، وأن الطريقة السليمة هي أن تتلقى المذهب عن الشيخ وينتهي الأمر.
الصنف الثاني: أن بعض الشباب المتحمسين بالغوا في نبذ كتب المذاهب، واعتمدوا على الكتب الحديثية التي تعرض الأقوال بأدلتها، ولم يقيموا وزناً لكتب المذاهب، فصاروا يعتبرون أن من تفقهه على مذهب معين، أنه ما حصل على علم شرعي، وأنه مجرد مقلد، إلى آخر ما يمكن أن يقال، فهذان طرفان.(76/9)
الاعتدال مع الطرفين
والتوسط أن يقال: إن عند كل طرف من الطرفين حق وخير، فالمذاهب الفقهية لا شك أن فيها خير كثير، وهي جهود أئمة علماء مجتهدين، أطبقت الأمة على فضلهم واتباعهم والاعتراف بهم، وشأن العامي -أياً كان العامي، ولو كان دكتوراً إذا كان عامياً في العلوم الشرعية- أن يقلد هؤلاء العلماء أحياءً كانوا أو أمواتاً.
وكذلك الكتب المقارنة التي تذكر الأقوال بأدلتها، فيها خير كثير من جهة أن الحق -كما هو معروف ومتفق عليه عند جميع أهل الإسلام- ليس محصوراً في مذهب معين، لا الحنبلي ولا الحنفي ولا المالكي ولا الشافعي، بل كل مذهب من هذه المذاهب فيه أقوال راجحة، وأقوال مرجوحة.
فالمزاوجة بين هاتين الطريقتين تجعل طالب العلم أقرب إلى الاعتدال والتوازن، والاطلاع على هذه الكتب وتلك والاستفادة مما في النوعين.(76/10)
الوسائل المعينة على التفقه
النقطة الثانية التي أحب أن أشير إليها هي: الوسائل التي يستعين بها الطالب على التفقه، وهي كثيرة، أذكر منها أربعاً:(76/11)
من وسائل التفقه: التتلمذ المباشر
الوسيلة الثالثة: هي وسيلة التتلمذ المباشر: أعني ألا يعتمد الطالب على نفسه فقط، بل يحرص على أن يتتلمذ على الشيوخ، سواء من حلقات العلم أو من المحاضرات أو الأشرطة أو غيرها، ومن التتلمذ المهم أن يراجع الطالب الشيخ كلما أشكل عليه أمر، ويعرض عليه كل نتيجة توصل إليها، فلا يستبد بالآراء ويستقل بنفسه، فهو ضعيف مهما كان، ولا يمكن أن تهمل خبرة علماء قضوا أعمارهم في التحصيل والدرس والترجيح، وأدركوا من أسلوب التعامل مع النصوص ما لم يدرك الطالب المبتدئ.(76/12)
من وسائل التفقه: البحث
الوسيلة الرابعة هي البحث: والبحث ضروري لكل طالب، فلا يكفي أن تقرأ، فلابد أن يتدرب الطالب على البحث بعد معرفة الشروط الأساسية للبحث، يحرص على أن يأخذ مسائل ويبحثها من خلال مراجع معتمدة بحثاً علمياً دقيقاً؛ ليتعلم أسلوب الكتابة والترجيح وكيفية الجمع بين الأقوال وصياغتها، ثم يجب أن يعرض هذا البحث الذي عمله على شيخ أو أستاذ يصححه له، ويراجعه، ويبين له الأخطاء، وليست مهمة هذا الشيخ أو الأستاذ أن يقول لك: هذا البحث ممتاز، وقد بلغ الغاية وإن وصلت فيه إلى ما لم تستطعه الأوائل، فهذا نوع من إثارة الغرور في نفس الطالب، لا يفعله الأستاذ الناصح، بل مهمة الأستاذ وإن أثني عليك وطيب خاطرك أن يبين لك في المقابل مثالب هذا البحث، ومآخذ هذا البحث وعيوبه، ويرشدك إلى ما هو الأفضل والأسلم فيه.(76/13)
من وسائل التفقه: الحفظ
الوسيلة الأولى منها هي: الحفظ.
والحفظ كان السلف يعنون به عناية كبيرة منذ الصغر، حفظ القرآن الكريم، ثم حفظ السنة أو بعضها، وحفظ بعض المتون، ولا زال علمائنا حتى اليوم يعتبرون أن من أساسيات طالب العلم أن يكون لديه بعض المحفوظات من المتون المهمة، ولا يغني عن الحفظ وجود وسائل معاصرة وتسهيلات معينة، فإنه لا يغني عن الحفظ، صحيح أن الحفظ لم يعد بنفس الصورة، لكن لا لازال الحفظ مهماً وأساسياً لطالب العلم، فعلى طالب العلم أن يحفظ بعض المتون ولو صغرت، أحياناً قد تجد متناً أو منظومات في الفقه أو الحديث، هل تعلمون أن الصنعاني نظم بلوغ المرام، وهذا النظم قد يكون بذاك المتانة، لأن طبيعة نظم الأحاديث، يعني فيه شيء من العسر، لكن المقصود أن كل علم من العلوم فيه متون مختصرة منثورة أو منظومة، متن في المصطلح في الفرائض في اللغة العربية، هذه المتون ليست كبيرة ولا مكلفة، ولو استطاع كل طالب أن يحفظ في إجازة من الإجازات متن في الأصول أيضاً، يكون صفحات معدودة، لحصَّل من وراء ذلك خيراً كثيراً، وأصبح يثبت علمه، والواقع أن الأشياء التي يحفظها الإنسان في صغره تبقى معه، ولهذا فمن الخير توجيه طلاب العلم في صغر سنهم إلى حفظ بعض هذه المتون، بل إن العوام في مجتمعنا إلى وقت قريب، كان العامي يعتبر أن حفظ الأصول الثلاثة، وآداب المشي إلى الصلاة من الأمور المهمة، وكان عامة الناس في المسجد يجلسون إلى الإمام ويقرءون عليه هذه المتون، فالحفظ أمر مهم.(76/14)
من وسائل التفقه: القراءة
والوسيلة الثانية: هي وسيلة القراءة، والطالب الذي لا يقرأ لا يحصل على علم، ولابد أن يكون للطالب طُولَعَة، يعني لديه نهم ورغبة شخصية في القراءة, بحيث أنه يستغل ويهتبل كل فرصة ممكنة له في القراءة، وليست القراءة قراءة الخطافين الذي يقرأ من كل كتاب عشر صفحات أو عشرين صفحة ثم يغادره إلى غيره، بل لابد أن تكون قراءة متأنية مركزة، وقد قيل: أن تقرأ كتاباً واحداً ثلاث مرات خير من أن تقرأ ثلاث كتب مرة واحدة، فمن المهم أن يكون لطالب العلم قراءة مستمرة، في كتب مختارة في أنواع العلوم.
وفيما يتعلق بالقراءة: من المفيد أن يسجل طالب العلم الشوارد، التي يقف عليها أثناء قراءته، أثناء قراءتك لكتاب ما قد تجد فوائد ملتقطة هنا وهناك، ربما تتعب في البحث عنها فلا تجدها، وبالمصادفة وقفت عليها دون قصد في كتاب من الكتب، فحينئذ يحسن بك أن تعتمد التسجيل، فتجعل الصفحات الأولى من الكتاب -الصفحات البيضاء- مكان تسجل فيه الفوائد التي تلتقطها أثناء القراءة أين كانت، وترجع إليها بين حين وآخر، وقد جربت هذه الطريقة في عدد من الكتب فوجدتها في غاية النفع لطالب العلم.(76/15)
نقاط تتعارض مع التفقه السليم
أخيراً: أشير إلى نقاط تتعارض مع التفقه السليم؛ الذي ينبغي أن يحرص عليه كل طالب علم، فهي سلبيات أو مثالب يحسن للطالب الناصح لنفسه أن يتجنبها، من ذلك:(76/16)
التجرؤ على العلماء
أخيراً من المثالب التي ينبغي أن تتقى: أن بعض الشباب حين يطلع على الأقوال المختلفة والأدلة، ينظر إلى ظواهر بعض النصوص نظرة مباشرة وبسيطة فيخيل إليه أن من خالفوا ذلك الظاهر قد أخطأوا وانصرفوا عن دلالة هذا الحديث، فيتجرأ على العلماء سواء منهم العلماء السابقين أو اللاحقين، فتجده يستعمل أحياناً عبارات لا تتناسب مع مكانة هؤلاء العلماء، أخطأ فلان في هذه المسالة، قد يقول طالب مبتدئ أخطأ الإمام أحمد في هذه المسألة، أخطأ مالك -مثلاً- فيها، حتى لو أديت المعنى بغير هذا الأسلوب فالعبارة غير مناسبة، بل قد تجد بعض الطلاب المبتدئين يقول: وشذ فلان من العلماء في هذا القول، وهذا ليس مناسباً أن تنسب هذا إلى علماء أفذاذ أطبقت الأمة على تلقي علمهم والأخذ عنهم واتباعهم، فينبغي للطالب أن يحرص على معرفة أقدار هؤلاء العلماء، وتعظيمهم، والانتفاع بهم، وعلى أن يمكن ثقة الناس بهم، لا أن ينزعها منهم، وهو في الواقع لن ينزعها بل سوف ينزع ثقة الناس منه هو، حين يتعرض لهؤلاء العلماء، لأننا نشهد لله أن هؤلاء العلماء الذين اتفقت الأمة على اتباعهم في الجملة كالأئمة الأربعة، والثوري والطبري والأوزاعي وأشباههم، أن هؤلاء العلماء ما كانوا يريدون إلا الحق، ويكفي أن تعرفوا القصة التي ذكرها الرازي وغيره عن الإمام الشافعي أنه ذكر حديثاً قال: ثم ذكر حديثاً في مسألة وكان عنده أحد تلاميذه فقال الشافعي: إن هذا الحديث صحيح فقال التلميذ: أتقول به يا إمام؟ أي: أتقول بمضمونه، فغضب الشافعي واحمر وجهه، ونفض يده على تلميذه، وقال: رأيتني خارجاً من كنيسة؟ هل رأيت في وسطي زناراً؟ يعني رأيت علىَّ علامات اليهود أو النصارى، حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح ولا أقول به، والأمر أنهم كلهم يأخذون هذه الأحكام والآراء من الكتاب والسنة، لكن أبى الله أن تكون العصمة إلا لرسوله وأنبيائه، فعلينا أن نعرف لهم قدرهم ونبجلهم ونعظمهم ولا يلزم من ذلك، أن نأخذ أو نقلد إماماً منهم في كل مسألة إلا أن يكون الإنسان عامياً، فالعامي مذهبه مذهب مفتيه، ولا بأس أن يقلد أحد العلماء أمواتاً كانوا أو أحياءً هذا ما أردت بيانه، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والفقه في الدين، وأن يرزقنا العلم النافع والعلم الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه اللهم صلِّ وسلم على عبد ورسولك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(76/17)
الولوع بالغرائب
من العيوب والمثالب التي ينبغي أن يتقيها طالب العلم: ولع البعض بالغرائب.
فبعض الشباب حين يبدأ في الطلب يصبح لديه رغبة في أن يكون عنده تميز يميزه عن الآخرين، أو اطلاع على مسألة ليست عند غيره، هذا أمر فطري عند كثير من الناس، ولذلك كان بعض طلاب الحديث -في الماضي- يولعون بالغرائب، يولعون بالأحاديث الغريبة التي لا توجد إلا عندهم ولو كانت ضعيفة أو موضوعة، المهم أن يكون الحديث غريباً غير موجود عند جميع الرواة.
ولذلك كان أبو يوسف يقول: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
هذه الصورة قد توجد بأسلوب آخر عند بعض المبتدئين في التفقه، فيكون لديه رغبة في وجود مسائل فقهية ينفرد بها عن غيره في الاطلاع، وهذه المسائل قد يكون قال بها بعض العلماء لا شك، ولا يلزم أن يكون ابتكر هذا القول من عند نفسه، لكن العالم الذي قال بهذه المسألة معذور، لأنه عالم متبحر، ومن حقه حينئذٍ أن ينفرد بقول أو بمسألة أو مسألتين، من الطبيعي أن يكون للفقيه مسائل انفرد بها، وهذا يصنف فيه كتب أحياناً، ولو بحثت في العلماء المشهورين لوجدت كل عالم انفرد بمسائل، لكن الطالب المبتدئ ليس معذوراً أن يأخذ زلة هذا العالم فيتبناها، أو هذا القول الذي انفرد به.
ومن ذلك أنك تجد -مثلاً- بعض الشباب، قد يسمعون قولاً لأحد العلماء في تحريم الذهب المحلق على النساء، مع أن هذا القول قد حكى عدد من العلماء، كـ البيهقي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم، الإجماع على خلافه، لكن لبعض العلماء قول آخر في ذلك، هذا العالم هو معذور في تبني هذا القول، لأنه يرى ذلك، لكن طالب العلم المبتدئ كونه يأخذ هذا القول ويتبناه ويدافع عنه وينشره غير معذور.
وكذلك بعض طلاب العلم والمتفقهين قد يسمعون أن هناك قولاً بأن الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة لا يشرع ولا يجوز، أو أن الزيادة على خمس تسليمات في التراويح لا يجوز، فيأخذون هذه الأقوال مع أنها أقوال -في نظري- أقرب إلى الشذوذ، وأعود فأقول: العالم الذي قال بها هو معذور بذاته، لأنه عالم متبحر ومتمكن، ولديه علم واطلاع وتمحيص، وهو لم يأتِ ببدع من القول، لكن المبتدئ لا ينبغي له أن يكون حريصاً على تتبع الزلات، فقد قال بعض السلف: من حرص على تتبع زلات العلماء اجتمع فيه الشر كله.
وهذا صحيح، فلو أن كل عالم أخذت منه زلاته لاجتمع فيك الشر كله.(76/18)
الاعتناء بالجزئيات مع التقصير في المهمات
إن كثيراً من الطلاب في هذا العصر، وهذا أمر مشهود يعنون عناية بالغة جداً ببعض الجزئيات، ويشغلون أنفسهم وغيرهم ووقتهم وجهدهم فيها، وهذه الجزئيات فرق بين أن نقول للناس: هذه -كما يقول البعض- قشور، اتركوها، لا تشغلوا أنفسكم بها، فهذا لا نقوله، ومعاذ الله من ذلك، فليس في الدين قشر ولب، لكن أيضاً لابد أن نعرف أن الدين فيه أصول وفروع، وفيه أشياء مهمة وأشياء أهم منها، وهناك أشياء كليه وجزئية، وفي أشياء تقدم على غيرها، فكون طالب العلم -مثلاً- بداية طلبه للعلم هو أن يشغل نفسه-مثلا- بالإصبع في الصلاة يعني في التشهد وبين السجدتين، كيف يحرك؟ فتجد بعض طلاب العلم يحركونه باستمرار، ثم تجد آخرين لا يحركونه أبداً بل يتركونه، تجد نوعاً ثالثاً يرفعونه بصفة مستمرة ولا ينزلونه أبداً، فئة رابعة يحركونه مع حنيه شيئاً ما، فئة خامسة -وهذا حدثني فيه أحد الإخوان أنه رأى أحد المبتدئين في العلم يفعله- يحرك إصبعه بصفة كأنه يرسم دائرة، وحين سأله عن حجته في هذا الفعل قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحلق إصبعه، فهو يظن أن التحليق أنه يرسم حلقة بإصبعه هكذا والواقع أن تحليق إصبعه، أنه كان يضع الإبهام مع الوسطى هكذا، هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا الشاب حين أرشده إلى الحق قبله منه، وهذا أمر حسن بلا شك، هذه المسألة لا باس أن يعرف الطالب فيها ما هو الحق، لكن أن يكتب عشرات البحوث في هذه المسألة ما بين كتب مطبوعة، وبحوث منشورة في عدد من المجلات الإسلامية، وبحوث لم تنشر، وربما تسيطر على وقت الشباب في عدة جلسات، في حين أنك قد تناقش بعض هؤلاء الإخوة في مسائل أصولية، وفي قضايا مهمة وكبرى فتجد أن كثيراً منهم لا يفقهون فيها شيئاً، هذا مثال.
من الأمثلة جلسة الاستراحة كثيراًَ ما يشغل الشباب أنفسهم ببحث هذه المسألة، نظراً لكثرة الاختلاف فيها وشدته، ومن الأمثلة تقديم اليدين والركبتين في حالة السجود، هذه الأمثلة والمسائل نقول: لا شك أن فيها خطأ وصواب، وفيها راجح ومرجوح ولا بأس، بل ينبغي لطالب العلم أن يبحث عن الراجح بدليل هذا كله لا غبار عليه، لكن أن يصبح حظنا من الفقه هو أن نأخذ هذه المسائل التي هي معترك الأقران، ونشغل بها وقتنا وعمرنا وكتبنا ومجلاتنا ومجالسنا، فهذا ليس من الحكمة ولا من العدل، بل العدل يقتضي والحكمة أن تضع الأمور في مواضعها، وهذه الأمور الأمر فيها واسع، ولا ينبغي أن نشدد فيها على الناس، جلس الإنسان جلسة الاستراحة أو ما جلس فهو سنة، وإن ما جلس فهو ترك سنة، قد لا يعتقد أنها سنة، بل قد يعتقد أنها مكروهة كما هو مذهب بعض الفقهاء فتركها، فالأمر في ذلك واسع، ولا ينبغي أن نضيق على الناس في هذه الأمور، ومن فوائد -كما ذكرت قبل قليل- من فوائد الإطلاع على الأقوال المختلفة أن يصبح لدى المتفقهة قدراً من المرونة في التعامل مع الناس، وتقدير آرائهم ومواقفهم المخالفة له.(76/19)
الأسئلة(76/20)
الخلافات بين الفقهاء
السؤال
نلاحظ خلافات بين العلماء بالمناهج الفقهية، فكيف يوفق المسلم بين هذه الأشياء؟
الجواب
الاختلاف من شأن البشر، ولو شاء الله عز وجل لأنزل شريعته وجعل ضمن البيان الذي كلف به الرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الشريعة؛ أن يقوم بتفصيل كل ما يمكن أن يختلف الناس عليه على مر العصور، لكن حكمته سبحانه اقتضت غير ذلك، فأنزل الوحي قرآناً وسنة، وجعل أهل العلم يستنبطون ويقتبسون من هذه النصوص، بما جدَّ ويَجِدّ من أحداث ووقائع، وبذلك يقع الاختلاف، في ثبوت النصوص أو عدم ثبوتها، ثم يقع الاختلاف في دلالتها على المقصود، وفي نسخها أو عدم نسخها، إلى غير ذلك، ولهذا أقول: من واجبنا أيها الشباب ألا نضيق ذرعاً باختلاف أهل العلم مادام في إطار الشرع، ولم يخرج عن أصول أهل السنة والجماعة إلى تفريط أو إفراط، يجب ألا نضيق ذرعاً بذلك، وإن اختلف العالم مع العالم فإن هذا اختلاف طبيعي، ومن الطريف أن بعض الشباب في إحدى الكليات كانوا يقولون: إن مدرس الفقه يأتينا في المحاضرات الأولى -مثلاً- فيشرح لنا أبواب المياه على ضوء المذهب، وقد يكون المدرس مالكياً أو حنفياً أو شافعياً فيرجح مذهبه فنخرج برأي، فيأتي في المحاضرة الثانية مدرس الحديث ويعرض لنا المسألة ويخرج لنا برأي آخر، ألا يوجد حل لهذا الاضطراب والتناقض الذي نعيشه؟ فقلت لبعض الإخوة: دعوا مدرس الفقه ومدرس الحديث جانباً، وافترضوا جدلاً أن الذي يدرسكم الفقه -مثلاً- هو أبو حنيفة نفسه، وليس تابعاً من أتباعه، وأن الذي يدرسكم الحديث هو مالك أو أحمد رحمهما الله، وأن الذي يدرسكم الأصول هو الشافعي -مثلاً- جدلاً، ألا يقع الاختلاف؟ سيقع، بل هو واقع.
إذاً: لا ينبغي أن نضيق ذرعاً بوجود الاختلاف، بل الشيء الذي نحرص عليه هو أن نربي أنفسنا ونربي المجتمع كله على الطريقة الصحيحة في التعامل مع اختلاف العلماء، وهذا ينبغي أن يركز عليه سواء من قبل العلماء أو من قبل طلاب العلم أو غيرهم؛ أن نربي الناس على الطريقة الصحيحة في التعامل مع اختلاف العلماء؛ أن لا نضرب أقوال العلماء بعضهم ببعض، ولا نعارض هذه الأقوال بعضها ببعض، نعلِّم الناس أنك أنت أحد رجلين إما أن تكون طالب علم ولديك إمكانية الترجيح بين الأقوال فالمجال أمامك مفتوح، أو أن تكون عامياً فتختار من هؤلاء العلماء الأوثق لديك علماً وديناً وورعاً وتقلده وانتهى الأمر، ولا نسمح أن يكون الخلاف ميداناً للطعن في أهل العلم من قبل بعض أهل الفساق والسفهاء، بل ربما اتخذوه ذريعة والعياذ بالله إلى الطعن في الدين في بعض الأحيان، هذا الخلاف لابد منه ولا يلام العلماء في ذلك.(76/21)
من أسباب الخشوع في الصلاة
السؤال
ما هي الأمور التي تؤدي إلى الشواغل في الصلاة؟
الجواب
هذا السؤال أجبني عن الموضوع -على كل حال- لكن كل لأمور منها أمور داخلية وهو أن يحرص الإنسان على تفريغ قلبه من الشواغل والإقبال على الصلاة بقلبه، وهناك أمور خارجية، وهي أن يحرص الإنسان على إبعاد ما يشغله في الصلاة من صوت، أو منظر، أو شغل، أو كونه حاقناً، أو حاقباً، أو ما أشبه ذلك، حتى يتفرغ للصلاة ويقبل عليها، والله أعلم سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(76/22)
حكم من لم يتفقه في الدين
السؤال
هل من لم يتفقه في الدين يعني أن الله يريد به شراً؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الفقه والمتفقهين في هذا الحديث: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} ومعنى ذلك: أن من أعرض عن الدين لا يعلمه، ولا يتعلمه فهو على شفا هلكة، لأن هذا من سمات الكافرين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] فالإنسان المعرض عن الدين بالكلية، لا يتفقه لا بالعقائد، ولا في الأحكام، ولا فيما يحتاج إليه من أمور دنياه، لا شك أنه على شفا هلكة، كيف يعبد الله وهو لا يعرف الطريق إليه؟ كيف يعبد الله ولا يعرفه، أيضاً هذا لا يمكن، هناك واجب عيني على كل إنسان وذلك يتمثل في معرفة العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومعرفة الأحكام التي يحتاج إليها في واقع حياته، هذا لا بد منه.(76/23)
الدعوة هل تشغل عن العلم
السؤال
يتوهم بعض الشباب أن العمل للدعوة، يشغلهم عن طلب العلم الشرعي، فنرجو التوجيه حيال هذا الأمر؟
الجواب
هذه الأمور كلها تتكامل، وينبغي للإنسان أن يقوم بهذه الأمور جنباً إلى جنب، ويحرص على التوازن فيها.(76/24)
التفقه فمن يشتغل بالعلوم الطبيعية
السؤال
لقد ذكرت طريقة التفقه في الدين، وأرى أن الطريقة التي ذكرتها أنها تناسب كثيراً من تفرغ تفرغاً تاماً للعلم الشرعي، سواء بالالتحاق بالكليات الشرعية أو ملازمة العلماء، ولكن ما هي الطريقة المناسبة لمن يتجه في دراسته إلى العلوم الطبيعية؟ مع أنها تأخذ وقتاً طويلاً من وقت الإنسان؟
الجواب
لا شك أن الحديث هو موجه الآن أصالةً لمن يريد أن يتفقه في الدين، وقضية التفرغ، قضية نسبية قد يكون متفرغاً، وقد يكون شخصاً ذا مواهب وقدرات غير عادية ولو لم يكن متفرغاً، لكن الإنسان المشغول بأمور أخرى وعلوم أخرى مما يحتاج المسلمون، أو من طلب المعاش، أو بنحو ذلك، هذا الإنسان عليه أن يُعنى بمعرفة الأحكام التي تخصه، عليه أن يُعنى بمعرفة الأحكام التي تخصه في مجال عمله، فإن كان طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك حرص على معرفة ما يحتاجه في عمله الذي يزاوله في واقع الحياة.(76/25)
الفتوى من غير أهلها
السؤال
ما رأيك فيمن يفتي بمسألة واضحة جداً، ولكنه ليس من أهل الفتوى؟
الجواب
الوضوح يختلف، إذا كانت المسألة واضحة يعرف هو دليلها، فينبغي أن ينبه عليها إذا وجد من يخطئ فيها، وعلى سبيل المثال وجوب صلاة الجماعة، كل إنسان في هذا المجتمع يعرف أن صلاة الجماعة واجبة، فلو وُجِدَ إنسان مقصر فيها، فليبين له أن صلاة الجماعة واجبه وتركها معصية، ويذكر له آية أو حديثاً وما أشبه ذلك فهو مطلوب منه، كذلك إذا كان الإنسان يريد أن ينقل فتوى عن أحد العلماء، ففرق بين الإفتاء وبين نقل الفتوى، فقد ينقل إنسان عن فلان إذا كان ضبط الفتيا التي سمعها من هذا العالم، وهو يعرف الفروق وما يؤثر في الحكم ومالا يؤثر، ومتأكد منها، فلا بأس أن ينقلها لمن احتاج إليها، أما إن شك فيها، أو كان لا يعرف أحياناً الفروق بين المسائل -مثلاً- قد تشبه مسألة أخرى، فعليه حينئذٍ أن يقي نفسه ويتوقف سواء عن القول على رسول الله بغير علم، أو على التّقّول على أهل العلم بلا تثبيت.(76/26)
كتاب المازني في أصول الفقه
السؤال
نرجو توضيح كتاب المازني في أصول الفقه للمبتدئ؟
الجواب
في أصول الفقه كتب كثيرة جداً، منها كتاب للأشقر اسمه الواضح في أصول الفقه وهو كتاب أسلوبه بسيط ومفيد وهو للمبتدئين، كما ذكر مؤلفه، فهذا الكتاب نافع، هناك كتاب آخر أكثر دقة وأكثر اختصاراً، بل ويناسب أن يحفظه الطالب، هو كتاب الوصول إلى علم الأصول للشيخ محمد بن صالح العثيمين، فهذا الكتاب مختصر ومفيد أيضاً، وهناك كتب أخرى -كما ذكرت- فيها جوانب طيبة وبحوث طيبة لكن لا تخلو من أخطاء، هناك كتاب لـ عبد الوهاب خلاف اسمه علم أصول الفقه، فيه مباحث مفيدة ونافعة ومبسطة، ولكن فيه عيوب وأخطاء، وأنبه عليها حتى إذا قرأه الطالب انتبه لها: أن المؤلف -غفر الله لنا وله- كان يعقد باستمرار مقارنات بين الشريعة وبين القانون الوضعي المطبق، وقد يقول: إن الشريعة وافقت القانون أو ما أشبه ذلك، وهذا مما لا يسوغ ولا ينبغي، فنحن ينبغي أن نرفع الشريعة ونجلها التي هي شريعة رب العالمين، عن أن نقارنها بحثالات أذهان أولئك القوم.(76/27)
كيفية حب القراءة
السؤال
ما هي الطريقة التي بها يمكن حب القراءة؟ لأن البعض لديه رغبة أكيدة في العلم، إلا أنه يجد في نفسه مللاً بمزاولة القراءة، مع العلم أن لديه كثيراً من الكتب؟
الجواب
كثرة الكتب لا تخرج عالماً، ولو كان العلم بالكتب لكان الوراقون وأصحاب المكتبات أعلم الناس، وحب الاطلاع والقراءة غريزة يمكن أن ينميها الإنسان، وعلى الإنسان أن يستعين بوسائل تعينه على القراءة، مثل أن يقرأ مع غيره، وأن يتابع مع شيخ، سواءً في حلقة الدرس أو من خلال أشرطة، وأن يحرص على البداءة بالكتب الواضحة، وهذه وسائل قد تعينه وغيرها أيضاً.(76/28)
صفات الداعية
إن الدعوة إلى الله هي من أفضل الأعمال والواجبات، وهي مهمة الأنبياء والرسل، وهي من أفضل مقامات العبودية كما قال ابن القيم، ولا يقوم بها إلا من وفقه الله تعالى لذلك، فحري بالداعية إلى الله أن يتصف بالأخلاق الحسنة حتى يقبل الناس دعوته، ويسمعون لما يقول، فيا ترى ما هي صفات الداعية؟ هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر جملة من الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، كالإخلاص، والعلم الشرعي، والصدق، والعدل، والحكمة، والصبر.(77/1)
الدعوة إلى الله مهمة الأنبياء والمرسلين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الدعوة إلى الله عز وجل هي مهمة الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فالدعوة إلى الله جل وعلا، هي أعظم ميزة أو صفة يمكن أن يتميز بها الإنسان، وعلى مدى العصور السابقة كلها، كان الله عز وجل يقيض لهذه الدعوة من يحملها، من العلماء العادلين، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين} وقد جاء هذا الحديث من طرق عديدة، وحسنه بعض أهل العلم.(77/2)
على الداعية أن يتصف بالصفات الحميدة
وفي هذا العصر الذي نعيش فيه؛ نسمع ونرى كثيراً من الناس، من العلماء والشباب وغيرهم، ممن يحملون هم الدعوة إلى الله عز وجل، ويصنفون أنفسهم في قائمة الدعاة إلى الله تعالى، ولا شك أن هذا الانتساب انتساب شريف، يجب أن نزكيه بتصحيح هذه النسبة وتحقيقها، بحيث تكون اسماً على مسمى، ويكون المنتسب إليها جديراً بالتحلي بها وتمثيلها أمام الناس تمثيلاً صحيحاً، وكل خلق حميد يطلب من المسلم أن يتحلى به؛ فإنه مطلوب من الداعية -بصفة خاصة- أن يتحلى به، فحين نقول مثلاً: إنه مطلوب من كل مسلم أن يكون كريماً جواداً سمحاً؛ فمن باب أولى أن يكون الداعية كذلك، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أكمل خصال الكرم والجود، فكان جواداً في ماله وعلمه وجاهه، لا يُسأل صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أعطاه إياه، حتى إنه يعطي غنماً بين جبلين، ويعطي مائة من الإبل، وكان الرجل يذهب إلى قومه ويقول: يا قوم أسلموا، فوالله لقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
إذاً فكل خصلة طيبة مطلوبة في المسلم؛ فهي مطلوبة في الداعية من باب الأولى.
والكلام على الخصال والأخلاق الحميدة المطلوبة من المسلم أمر يطول، لكنني سأقف الآن على بعض الخصال المطلوبة من الداعية بصفة خاصة، وهي خصال معينة لا بد أن يتنبه لها الداعية أكثر من غيره؛ لأن فقدها في الداعي قد يجعل النتائج عكسية، ويجعله بدلاً أن يكون داعية إلى الله، يقول للناس: هلموا إلى الله والدار الآخرة، يجعله يحذر الناس من سلوك هذا الطريق بفعله وواقعه، وإن كان يدعوهن إليه بلسانه وقوله!(77/3)
الإخلاص لله عز وجل
أول خصلة لا بد من الإشادة بها هي: الإخلاص لله جل وعلا.
ولذلك يقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فالدعوة إلى الله عبادة، وكل عبادة لابد فيها من الإخلاص، قال الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] .(77/4)
معنى الإخلاص
والإخلاص معناه: أن يقصد الإنسان في عمله وجه الله تبارك وتعالى والدار الآخرة، فلا يقصد من وراء دعوته طمعاً دنيوياً، ولا يقصد من دعوته سمعة ولا جاهاً ولا منصباً، ولا لفت أنظار الناس إليه وتكثير الأتباع، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية، التي قد تخطر في بال الداعية إلى الله جل وعلا.
وقد يقول القائل: وماذا يقصد الداعية إلى الله إلا الإخلاص ورجاء ما عند الله؟! فأقول: كلا! فلا نظن أبداً أن الخطر الوحيد الذي يهدد الداعية، هو أن يكون قاصداً للدنيا وقاصداً للمال، هذا خطر، ولكن هناك ما هو أشد خطورة منه، فإن كثيراً من الناس ربما يكون الحصول على الثناء الحسن والمديح من الناس؛ أغلى عنده من الذهب والفضة، ومستعد أن يضحي بالأموال الطائلة من أجل السمعة الحسنة.
فالداعية قد يكون مهدداً بأن يكون قصده كسب ثناء الناس ومديحهم.
وهناك مقصد آخر قد يلقي به الشيطان في نفس الداعية، وهو تكثير الأتباع، والتكاثر بالأتباع، وكثيراً ما كان بعض الناس يفتخر بأنه يحضر مجلسه ألف أو ألفان من الناس! ويحضر درسه المئات أو الآلاف من الطلاب! ويحضر خطبته جماهير غفيرة تكتظ بهم المقاعد والمواقع! فينبغي أن يتنبه الداعية إلى أن يكون دافعه إلى الدعوة هو ابتغاء ما عند الله تعالى، لا أكثر من ذلك ولا غير، لا يريد دنيا ولا منصباً، ولا مكانة عند الناس، ولا مديحاً منهم، ولا تكثيراً للأتباع والتفاخر بذلك، بل هو يقصد أن يقوم بمهمة، يشعر بأن الله تعالى أو جبها عليه وألزمه بها، فهو أجير ينفذ ما أمره الله تعالى به.
ولا شك أن الداعية يفرح بكثرة من يستجيب له، وهذا أمر طبيعي، ويحزن حين يرى إعراض الناس، لكن انظر؛ هل أنت تفرح بكثرة الناس حول داعية آخر؟ إن كان كذلك فحسن، وهذا يدل على الإخلاص، أما إن كنت تحزن، وتتمنى أن يكون حضورهم عندك وقبولهم لك، وإنصاتهم لما تقول وسماعهم لما تأمر، فحينئذٍ عليك أن تتهم نيتك، وتسارع إلى تجديد قصدك، قبل أن يفوت الفوت ولا ينفع حينئذٍ ندم.
والإخلاص لابد منه -كذلك- في العلم والتعليم، وهو جزء لا يتجزأ من الدعوة، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم وغيرهما بسند على شرط الشيخين -كما يقول الحاكم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله يريد به عرضاً الدنيا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} وفي الحديث الآخر، من حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أول من تسعر بهم النار، وهم ثلاثة منهم: {رجل عالم قارئ جيء به، فعرفه الله جل وعلا نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته} هذا رجل كان في الدنيا علماً يشار إليه بالبنان، وهو أيضاً ممن لم يكتم علمه، بل علمه وبذله في المساجد والمداس والحلق وغيرها، {فقال: يا رب، تعلمت فيك العلم وعلمته.
قال الله جل وعلا: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو قارئ فقد قيل.
ثم أمر به فسحب على وجه وألقي في النار} .
فينبغي على الداعية أن يصحح مقصده، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] [يوسف:108] فجعل أول شرط من شروط الداعية: أن تكون دعوته إلى الله.
هل تعلم أن الإنسان -أحياناً- يدعو إلى نفسه؟ ويعجبني في هذا المقام أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كان يمشي يوماً في المسجد الحرام، فمر برجل يقص -والقُصَّاص نوع من الوعاظ، كانوا يجلسون فيتحدثون ويذكرون القصص، فيلتف الناس حولهم- فقال رجل لـ عبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أتدري ما يقول هذا؟ قال: نعم، يقول: انظروا إلىَّ انظروا إلىَّ.
فابن عمر لا يعنيه ما يقول هذا القاص، قد يكون يتلو آية أو حديثاً، أو يقرر حكماً شرعياً، أو يقول كلاماً ليس خطأ، لكن ابن عمر رضى الله عنه، شعر من حال هذا القاص وصفته وهيأته، أن حاله أقرب إلى الرياء منها إلى الإخلاص، فقال: إن هذا القاص يقول: انظروا إلي انظروا إلي، كأن القضية قضية إثبات وجود.
فالأمر خطير ومصيبة؛ أن يصبح الداعية -أحياناً- مثل الشمعة التي تضيء للناس وتحرق نفسها، قد ينتفع الناس بعلمك ودعوتك، ويدخلون بذلك الجنة، ويكون سبباً لدخول صاحبه النار، أي أن هذا العلم الذي استنار الناس به ودخلوا به الجنة، قد يدخل به صاحبه النار؛ لأن الناس أخذوه بصدق وجد وعملوا به؛ فدخلوا الجنة، وصاحبه أخذه برياء أو سمعة فدخل به النار.
وحين نقول: الداعي إلى الله، نقصد كل من يدعو إلى الله في أمر عظيم أو يسير، لأن الدعوة ليست حكراً على طبقة معينة، أو على طائفة معينة، فكل إنسان يعلم شيئاً من الخير؛ يجب أن يدعو إليه بقدر ما يستطيع- فيا أيها الداعي إلى الله، صحح نيتك فيما تعمل وتدعو إليه، حتى يكون عملك لك لا عليك.(77/5)
العلم الشرعي
الشرط الثاني أو الصفة الثانية من صفات الداعية -بعد أن يتحقق عنده الإخلاص-: أن ينطلق ليتعلم حدود ما أنزل الله على رسوله.
اسمع ماذا يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] الاهتمام بالدعوة، هو مهمة طائفة من الناس من المؤمنين يتخصصون لهذا الأمر، لإنذار قومهم، فينفروا في طلب العلم {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] فينبغي لطائفة الدعاة إلى الله تعالى، أن ينفروا للتفقه في الدين، فلا بد من العلم بجميع أنواعه وألوانه، والعلم ليس علم اللسان فقط، بل علم اللسان وعلم القلب، علم القلب الذي يورث الخشية من الله عز وجل، والخوف منه، والعمل الصالح، ولذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: عالم عامل معلم، يدعى كبيراً في ملكوت السماوات.(77/6)
طلب العلم يعصم الداعية من الانحراف في مسألة الولاء والبراء
من الانحرافات المنهجية، أو من الأمثلة التي قد يقع فيها الداعية بسبب ضعف العلم الشرعي: ألا يفهم الداعية مسألة الولاء والبراء على أصولها الصحيحة، فبعض الدعاة -مثلاً- تجد ولاءهم وبراءهم، ليس ولاءً وبراءً محرراً في الله تعالى، بل هو -وأحياناً- ولاءٌ على اللافتات والرايات والحزبيات والتجمعات، وليس في الله جل وعلا، وهذا خطر عظيم، ربما يبغض الداعية إنساناً شديد الإيمان بالله ورسوله شديد الحب لهم، كثير الجهاد والعمل والدعوة إلى الله، لأنه ليس من طائفته، وقد يحب إنساناً آخر دونه بمراحل، وربما يوجد عنده عيوب وأخطاء، لسبب أنه من فئته أو من أصحابه، وهذا خطر عظيم! وربما نستطيع أن نشبهه بما كان يوجد في الماضي، من الحزبية والتعصب للمذاهب الفقهية، فكان -مثلاً- المتعصب لإمام من الأئمة، كـ الشافعي أو أبي حنيفة، ربما يقع في حق عالم من العلماء جليل القدر؛ لأنه يتبع إماماً آخر، وكم لقي ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء، من العنت والحرب؛ بسبب أنهم يخالفون هؤلاء في مذهبهم، مع أننا نعلم أن ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء المحققين رحمهم الله أجمعين لم يكونوا يتعصبون إلا للحق، لكنهم ابتلوا بمتعصبين، يوالون ويعادون في أمور ما أنزل الله بها من سلطان.
واليوم نجد كثيراً من الدعاة ابتلوا بهذا الأمر؛ فتجد الداعية إذا ذكرت له فلاناً: أشاح بوجهه وأعرض، وربما أظهر من حركات شفتيه ويديه وهيئته ما يدل على الامتعار، وحين تستغرب فتبحث عن السبب؛ تجد أن هذا الداعية ليس من أصحابه ولا من فئته، ولذلك اتخذ منه هذا الموقف.(77/7)
العلم الشرعي يكسب الداعية التوازن في فكره ومنهجه
من أمثلة الانحرافات المنهجية التي قد يقع فيها الداعية بسبب ضعف العلم الشرعي: تضخيم بعض القضايا على حساب قضايا أخرى، وقد تكون أحياناً قضايا فقهية، والاختلاف في القضايا الفقهية موجود من عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يضر مادام هو مبني على الدليل الشرعي، لكن بعض الناس قد يجعلون من الاختلاف في قضية فقهية، مدخلاً للولاء والبراء، فيتولى فلاناً لأنه يوافقه في هذه المسألة الفقهية، ويعادي فلاناً لأنه يخالفه في تلك المسألة الفقهية.
وقد يكون الاختلاف في قضية اجتهادية في الدعوة، فقد تتخذ أنت أسلوباً في الدعوة إلى الله جل وعلا، قد لا يعجبه، مثلاً: أن تستخدم -لا أقول في الدعوة، لكن من ضمن الأعمال والأشياء التي تقوم بها- أنك أحياناً قد تنشد أناشيد معينة فيها معانٍ إسلامية، وهذه الأناشيد هناك من قد يقف منها موقفاً، ويرى أنها لا تجوز.
وتبقى في إطار القضية الفقهية، فنقول: إن من العلماء الكبار، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، من أفتى بأن هذه كما قالت عائشة رضى الله عنها، لما سئلت عن الشعر، ما هو؟ قالت: هو كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
وكذلك الأناشيد، هي كلام حسنها حسن وقبيحها قبيح، فوفق ضوابط معينة لا إشكال فيها، مثل: السلامة من استخدام الآلات الموسيقية، أو الطبل أو الدف أو غيرها، والسلامة من المعاني السيئة، فبعض الأناشيد الإسلامية الموجودة في الأشرطة، يكون فيها معانٍ صوفية أو شركية أو غيرها، وأيضاً: البعد عن الإكثار من هذه الأشياء، بحيث لا تغلب على الإنسان؛ لأن بعض الشباب يفطرون على الأناشيد ويتغدون أناشيد، ويتعشون أناشيد وينامون أيضاً على الأناشيد!! وهذا ليس سليماً، فالإسراف مرفوض في كل شيء، فالمفروض أن لا تتعدى هذه الأناشيد قدرها، بحيث أنها تزيل السأم والملل في سفر أو إقامة أو غير ذلك فقط، ففي هذا الإطار لا أشكال فيها، لكن هناك من قد يقول لك: أنا لا أرى جواز هذه الأناشيد، ولا إشكال أيضاً فمادام أنك فلا تراها لا تستخدمها أنت، إنما هل ينبغي أن تتخذ موقفاً من فلان؛ لأنه لا يوافقك في هذا الرأي؟! هذه قضية فرعية، ولك اجتهادك فيها، لكن لا ينبغي أن تكون هذه المسألة مدار الولاء والبراء والحب والبغض، وهي قضية -كما ذكرت فرعية.
فالعلم الشرعي الصحيح والفقه العميق، يحمي الإنسان من تضخيم بعض القضايا الفرعية، أو التهوين من بعض القضايا الكلية.
ففي مقابل ذلك؛ تجد بعض الدعاة ربما لا يقبل الحديث في قضايا أصولية مهمة، يقول: هذه تفرق الشمل لو سمع أحداً يتكلم -مثلاً- عن توحيد العبادة، وضرورة إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وتحريم عبادة غير الله، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لتحذير الناس منه ونهيهم عنه.
وبالتالي الكلام عن القبوريين، الذين يطوفون بالقبور ويسألون أصحابها، ويدعونهم وينذرون لهم وما أشبه ذلك، وأن هذا شرك بالله جل وعلا، قال: يا أخي اترك هذا الكلام، هذا يفرق الصفوف!! أو سمع آخر يتحدث عن الرافضة -مثلاً- وخطرهم على الإسلام وانحرافهم، قال: دع هذا الكلام، فإنه يفرق الصفوف! إذاً: هناك من يهون بعض القضايا الكبيرة بحجة جمع الصفوف، وهناك من يعظم بعض القضايا الجزئية، فيوالي أو يعادي عليها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والعلم الشرعي الصحيح يعصم الإنسان -بأذن الله- من الوقوع في هذا الخطأ أو ذاك.(77/8)
طلب العلم الشرعي يعصم الداعية من الانحراف في منهج الدعوة
كذلك طلب العلم الشرعي يجعل الداعية بعيداً عن الانحراف في منهج الدعوة.
والانحراف في منهج الدعوة يتمثل في صور كثيرة، منها -على سبيل المثال-: أن يشتغل الداعية بالتجميع العاطفي، الذي سرعان ما يتبخر ويزول.
فبعض الدعاة -مثلاً- همه أن يجمع أكبر عدد ممكن من الناس، وليس همه أن يربيهم على الإسلام الصحيح، وأن يخرج رجالاً يعبدون الله على بصيرة، ويدعون إليه ويجاهدون في سبيله، وإنما همه أن يجتمع حوله عدد كبير من الناس، ولو كانت مستوياتهم ضعيفة، فيثير في نفوسهم الحماس فيقول لهم: قضايا المسلمين في بلد كذا، والمسلمون يقتلون في بلد كذا، فيثير عندهم الحماس للإسلام، وهو حماس مبهم غامض!! ولست أدعو إلى تجاهل قضايا المسلمين، أو الغفلة عن مشاكلهم، كلا! بل ينبغي أن يكون المسلمون كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كالجسد الواحد إذا اشتكي منهم عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد أصبع ولو بردى أنت لخطبٍ أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع فالمسلمون أمة واحدة يألم أقصاها لأدناها، ولكن ينبغي -مع ذلك- ألا يكون هدف الداعي هو فقط إثارة حماس الناس وعواطفهم لقضايا المسلمين؛ لأن هذا الحماس سرعان ما يخبو ويفتر بعدما يتجاوز الإنسان فترة معينة من عمره، ويتحول الإنسان إلى تاجر وموظف، أو أي شيء آخر، لكنه ليس داعية إلى الله -جل وعلا- وهذا هو السر في أنك تجد بعض الناس في فترة من فترات عمره، متألقاً مشرقاً كداعية، لكن بعد فترة سرعان ما يخبو ويذبل، لأنه ما قام على أصول صحيحة وثابتة من العلم الشرعي الصحيح، بل كان مجرد حماس فتر بعد ما تقدمت به السن.(77/9)
العلم الشرعي يعصم الداعية من الانحراف السلوكي
كذلك العلم الشرعي يعصم صاحبه من الانحراف السلوكي، وقد تجد بعض الدعاة منظرين أو نظريين، قد يتحدث الواحد منهم -مثلاً- عن الإسلام وقضايا الإسلام وشئون المسلمين ومشاكل الأمة الإسلامية، وقضايا كثيرة قد يتحدث عنها بكلامٍ جيد، لكن حين تنظر في سلوك هذا الداعية؛ لا تجد سلوك الإسلام كاملاً متمكناً فيه، قد تجد أن هذا الداعية يمشي وهو مسبل ثوبه، حالق لشعر وجهه، تارك للصلاة مع الجماعة، أو مقصر في ذلك، وأنا لا أقول: إن هذه الأشياء لا يمكن أن تقع من مسلم، كلا بل قد يقع المسلم في بعض هذه المعاصي، وهو يعلم أنها معاصٍ أو لا يعلم، لكن المصيبة كل المصيبة، أن تقع من داعية يدعو إلى الله جل وعلا، فهنا لا يمكن أن يُتسامح بحال من الأحوال في داعية إلى الله تعالى يقع في مثل هذه الأمور، لأن الناس يقتدون به في مثل هذا الأمر، ويعتبرون أن ما يفعله حجة -على الأقل- على سبيل التسامح والتساعد، ومن المعروف أن الناس إذا وجدوا أن العالم أو الداعية يقع في أمر؛ فإنهم يلتمسون في ذلك العذر ويتوسعون فيه، ويقولون: لو أن هذا الأمر ممنوعا لما وقع فيه فلان وفلان وفلان! فلا يمكن أن يقول جمهور الناس: إن هذا الإنسان أخطأ، بل بالعكس، جمهور الناس يفرحون بخطأ هذا الداعية أو العالم ليقتدوا به، ولذلك قيل: إذا زل العالِم زلَّ بزلته عالَم.
وكان عمر رضي الله عنه يقول لـ زياد بن حدير: [[أتدري ما يهدم الإسلام؟ قال: لا.
قال: يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين]] فزلة العالم تساهم في هدم الإسلام، ولذلك كثير من الناس اليوم حين تقول له: يا أخي، هذا العمل محرم، والدليل قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك: يا أخي، لو كان حراماً ما فعله فلان وما فعله فلان، فيحتج عليك بفعل فلان وفلان من الناس، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن علماء السوء وقفوا في طريق الجنة، يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم ويحذرونهم منها بأفعالهم، فهم قطاع طريق في الواقع وليسو أدلاء، وهذا أمر مشهود، فكم حال خطأ العالم أو الداعية بين الناس وبين ترك المعصية، تأتي إلى إنسان مثلاً يشرب الدخان، فتقول له: يا أخي، التدخين حرام ثبت طبياً ضرره وكل ما ثبت ضرره فهو حرام، ولا ضرر ولا ضرار، وفيه إتلاف للمال، وفيه وفيه، فيقول: يا أخي، هناك عالم في بلد كذا يشرب الدخان، وقد رأيته بعيني، وتأتي إلى آخر فتقول: يا أخي، الغناء فيه من النصوص والوعيد كذا وكذا، وقد أجمعت الأمة على تحريمه فيقول لك: يا أخي، أنا سمعت بأذني العالم فلان يفتي بأن الغناء حلال!! وهكذا تجد أن الناس يلتقطون أي زلة أو غلطة من داعية أو عالم فيتشبثون بها، وهذا لا شك أنه خطأ، بل العكس، إن الإنسان الذي يأخذ زلات العلماء؛ يجتمع فيه الشر كله، فمنهج هؤلاء العامة ليس سليماً، لكن نحن نقول: الداعي إلى الله جل وعلا وطالب العلم، ينبغي أن يكون مستقيماً في سلوكه، فلا يدع للناس فرصة ليتشبثوا بخطأ وقع فيه، حتى لو كان أمراً مباحاً قد يتوسع الناس فيه، فينبغي للداعية أن يتجنب هذا الأمر المباح، حين يكون أمام العامة على الأقل؛ لئلا يعطي للناس فرصة للوقوع في الحرام، بحجة أن فلان فعل ذلك، فطلب العلم الشرعي يعصم الداعية بإذن الله من الوقوع في الانحراف السلوكي.(77/10)
طلب العلم يحفظ الداعية من الانحراف العقدي
إن طلب العلم الشرعي الصحيح، هو ضمانة تحفظ الدعية بإذن الله عز وجل من ألوان الانحراف، وإن من ألوان الانحراف الذي قد يقع للداعية: الانحراف في معتقده، ونحن نجد على مدار التاريخ؛ أن هناك دعاة لكن إلى ضلاله، ومن أمثلة ذلك: انحراف الخوارج، الذين كانوا يكفرون المسلم بالمعصية، ويقابله انحراف المرجئة، الذين كانوا يقولون: كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، كذلك لا يضر مع الإيمان معصية، وكلاهما غلوّ وانحراف، ونحن نجد حتى في واقع الدعاة في هذا العصر، في بعض البلاد الإسلامية، هذا الانحراف أو ذاك موجود، والسبب هو فقدان العلم الشرعي، فتكون علوم الإنسان في الدعوة، مبنية على اجتهاد شخصي وعلى ميزاته، فإذا وُجد إنسان حاد المزاج، حاد الطبع شديد الانفعال قوي الغيرة، ثم شاهد الانحرافات والمعاصي والأخطاء، قام وقال: هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وربما أطلق عليهم ألفاظ الكفر دون تبصر أو تثبت، فهذا انحراف، فما الذي يعصم الإنسان من الوقوع في هذا الانحراف؟ يعصمه بإذن الله جل وعلا العلم، فالعلم نور في قلب الإنسان.
كذلك الانحراف في الوقوع في التجهم أو الاعتزال أو التأويل أو التحريف أو التبديل، إنما العاصم من ذلك -بإذن الله جل وعل- هو العلم الشرعي.(77/11)
أنواع الناس في العلم والعمل
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أنواع الناس وطبقاتهم، ففي حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً} انظر هذا المثل النبوي، فالإسلام أصوله وفروعه مثل المطر الذي نزل على أرض، والأرض ليست سواء، والبقاع تختلف، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأرض أنواعاً، ذكر منها طائفة طيبة قبلت الماء، إذ هي أرض خصبة عندما نزل الماء عليها شربته وقبلته؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فهذا مثل للإنسان الذي تعلم العلم وشربه وامتلأ به قلبه، وخشعت به جوارحه؛ فأثمر العمل والدعوة والصدق والإخلاص، هذه طائفة، وهذا هو ما يجب أن يكون عليه الداعية.
وهناك أرض أخرى عندما نزل عليها المطر كانت أرضاً تمسك الماء لكن لا تنبت الكلأ والعشب، فنفع الله بها الناس حيث شربوا منها وسقوا وزرعوا، فهذا مثل إنسان تعلم العلم وحفظه، لكن لم يستفد منه الفائدة المطلوبة، فالناس ينتفعون بما عنده من العلم لكن هو لم ينتفع، فهو مثل الأرض التي حفظت الماء، لكن ما شربت الماء ولا أنبتت العشب.
القسم الثالث أو الطائفة الثالثة: أرض قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إذا ما جاءها ماء شربته ثم لم تنبت شيئاً، فلا هي أمسكت الماء لينتفع به الناس، ولا هي عندما شربت الماء أنبتت العشب، فما استفاد الناس منها لا عشباً كلأً ولا ماءً تحفظه، فهذا مثل إنسان لا تعلم ولا عمل ولا دعا.
فانظر يا عبد الله، في أي هذا الطبقات أو الطوائف أنت، ولا شك أن الجدير بكل داعية؛ أن يجعل نفسه من الطبقة الأولى، التي انتفعت بما أنزل الله على رسوله من الهدى والعلم، فعلمت وعملت ودعت إلى ذلك.
ولذلك نجد في الآية الكريمة التي تلوتها شرط البصيرة {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فلابد من البصيرة فيما تدعو إليه.(77/12)
الصدق
الخصلة الثالثة أو الشرط الثالث من شروط الداعية هو: الصدق.
وأول ما يتبادر من كلمة الصدق، هو الصدق في اللسان، ولكن الواقع أن الصدق يكون في القلب قبل أن يكون في اللسان، ولذلك يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فحقيقة الصدق هي الإخلاص التام في القلب، ومنه يفيض الصدق على الجوارح كلها، فتكون أقوال الإنسان وأفعاله كلها تنطق بالصدق.
ومسألة الصدق قضية كبيرة ومهمة جداً، ويعجبني الحديث الذي رواه الترمذي وهو حديث صحيح، عن عبد الله بن سلام رضى الله عنه، وكان يهودياً فأسلم، قال: {لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتحدث الناس به وسمعت بمجيئه ذهبت إليه، قال: فاستثبت في وجهه أي نظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عميقة ومتأنية، واسمع رأي عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فمن خلال نظرة واحدة فقط على وجه الداعية، خرج بها عبد الله بن سلام رضي الله عنه، بنتيجة كبيرة جداًً قال: فلما نظرت في وجهه؛ عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام} .
وتدبر قوله: فلما نظرت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، كم من الدعاة اليوم من إذا نظرت إلى وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب؟ وكيف يكون هذا؟ هذا يكون عن طريق ممارسة الصدق في الأقوال والأعمال، واتخاذه ديدناً للإنسان، حتى يتحول إلى خلق وسجيه لا يحيد الإنسان عنها بحال من الأحوال، حتى يألف الناس هذا الأمر منه، وتصبح أساريره تنطق بهذا.(77/13)
الوضوح في القول
كثير من الدعاة إلى الله عز وجل وطلاب العلم، توسعوا في مسألة التأويل في العبارات والأقوال، واتخاذ ما يسمونه بالمداراة والتورية وغيرها، حتى وقع الناس منهم في الإبهام والإيهام، وصار الناس لا يثقون لهم بقول ولا كلام.
أحياناً الداعية لا يكذب كذباً صريحاً يؤخذ عليه لكن يستخدم التورية والتأويل، لكن الناس من كثرة ما استخدم هذا الإنسان التورية والتأويل؛ صاروا لا يثقون فيه لأنهم اكتشفوا أنه لا يعطي الحقيقة.
الفقهاء أحياناً يتكلمون عن التورية وأساليبها، ومتي يفعلها الإنسان وما أشبه ذلك، لكن كون التورية والتأويل ديدناً عند الداعية، بحيث إن كثيراً من أموره مبنية على التأويل والتورية! هذا أسلوب تربوي خاطئ، أولاً: لأنه يربي من حوله على عدم الوضوح وعدم الصدق، ثم إنه يورث الناس عدم الثقة بهذا الداعية وبما يقول، حتى لو صدقهم ما صدقوه حينئذٍ.
وعدم الوضوح في الأفعال، لا يقل خطورة عن عدم الوضوح في الأقوال، فالداعية مطالب بالصدق في أفعاله، وقد يقول الإنسان: كيف يكون الصدق في الأفعال؟ فنقول: نعم، يكون الصدق في الأفعال، ولعل من الأمثلة على الصدق في الأفعال: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي وغيره وفي سنده مقال، في قصة الرجل الذي أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وهو ابن أبي السرح، وكان أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، جاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس له الأمان، فكان الصحابة جالسين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء به عثمان قال: {يا رسول الله! هذا ابن أبي السرح وهو يلتمس الأمان، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم بعض الوقت ثم أمنه، فلما انصرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا قام رجل منكم حين سكتّ فعلاه بالسيف فقتله؟ فقالوا: يا رسول الله، هلا أومأت إلينا، إشارة خفية منك يا رسول الله، ولو بطرف العين، كافية لأن نقوم بهذا العمل فتقول الرواية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين} هذا هو الوضوح، فالداعية إلى الله جل وعلا، يجب أن يترسم خطى النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوح والصدق، في أقواله وأعماله.(77/14)
العدل
الخصلة الرابعة: هي العدل.
والعدل بمعناه العام، يشمل عدل الإنسان مع نفسه ومع غيره، مع العدو والصديق، والقريب والبعيد، وفي عبادته وسلوكه وغير ذلك، وبالعدل قامت السماوات والأرض، كما نطق بها اليهود شهادة لما رأوا عدل النبي صلى الله عليه وسلم.
والعدل يكون في أمور كثيرة جداً:(77/15)
الاعتدال في الحكم على الأشياء
وإن من العدل: الاعتدال في الحكم على الأشياء والأشخاص والكتب والمجلات والجرائد والأعمال والمؤسسات وغيرها، كل شيء تريد أن تتكلم منه، أو تحكم عليه؛ لا بد أن تراعي العدل، فإذا كان فيه الصواب، تقول الصواب فيه، أو كان فيه الخطأن فتبين الخطأ، ولا يحملك كون الخطأ يغلب على هذا الكتاب -مثلاً- أو على هذا الشخص، لا يمنعك هذا أن تذكر ما فيه من الصواب، والعكس بالعكس: لا يمنعك كون الصواب غالباً أن تذكر ما فيه من خطأ.
وكثيراً ما يخل الداعية بخلق العدل، فمثلاً حين يريد الداعية أن يتحدث عن شخص قريب محبوب لديه، شيخ أو أستاذ أو معلم أو مربٍ، تجد هذا الداعية يتكلم عن هذا الإنسان، كما لو كان يتكلم عن أحد الخلفاء الراشدين، أو العشرة المبشرين بالجنة، أو على الأقل أصحاب بدر، فتجده يضفي عليه من الخصال فوق ما يستحق، لأنه يتكلم بلسان المحب الذي لا يرى إلا المحاسن، وكما يقال: وعين الرضى عن كل عيب كليلة فهذا ليس من العدل، ولو كان شخصاً فاضلاً، ولو كنت معجباً به، فعليك أن تقتصد في الثناء على هذا الإنسان، فلا تعطه فوق منزلته؛ لأن إعطاءك له فوق منزلته، هو باب من أبواب الغلو في الصالحين.
ومما ينافي العدل: كذلك ألا يعدل الداعية في الحكم على البعيد، الذي لا يوافقه في مشربه ومسلكه ومنهجه، أو حزبه أو طائفته أو فئته، فينسى فضائله، حتى لو كان هذا الإنسان له فضائل مشهورة مذكورة، فإنه قد ينساها أو يتجاهلها، ويؤكد فقط على الجانب المظلم، بل ربما تتحول الحسنات عنده إلى عيوب؛ لأنه يتحدث بعين السخط، وعين السخط كما قيل: ولكن عين السخط تبدي والمساويا فهنا لابد من العدل، وأن تذكر ما في هذا الإنسان من فضائل مهما كان، والواقع أن الإنسان حين يستخدم العدل هنا، يربي الناس على هذا المنهج أولاً، ثم يكسب ثقة الناس؛ لأن الناس أصبحت تعرف أن فلاناً حين يتحدث، لا يتحدث عن هوى أو شهوة أو غرض شخصي، إنما هو إنسان يضع الحق نصب عينيه، ويحكم على الناس بقدر ما وسعه اجتهاده، لا يحابي أحداً فيعطيه فوق قدره، ولا ينتقص أحداً دون منزلته، فقد يخطئ بلا شك؛ لأن البشر غير معصوم من الخطأ، لكن هو في الجملة معتدل في منهجه، وقد يخطئ، فلا يسلم من الخطأ أحد في هذا الباب ولا في غيره.(77/16)
الحكمة
الشرط الخامس أو الصفة الخامسة من صفات الداعية هي: الحكمة.
والعلماء يعرفون الحكمة بأنها: وضع الشيء في موضعه، وفضلها عظيم، ويكفيك قول الله جل وعلا: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] فالحكمة خير كثير كما ذكر الله جل وعلا، وقد أمر الله الداعية أن يدعو بالحكمة فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] .
والحكمة لها صور شتى، منها -مثلاً- مخاطبة الإنسان بما يناسبه، فالناس طبقات شتى، وكل فئة من الناس يناسبهم أسلوب معين، فأنت حين تتحدث مع العامي تحتاج إلى أسلوب خاص، وحين تتحدث مع طالب العلم تحتاج إلى أسلوب آخر، وحين تتحدث مع إنسان مثقف تحتاج إلى أسلوب ثالث، وحين تتحدث مع عمال تحتاج إلى أسلوب رابع، وحين تتحدث مع زملاء تحتاج إلى أسلوب، وحين تتحدث مع من هم دونك تحتاج إلى أسلوب، أو مع من هم فوقك تحتاج إلى أسلوب.
فمن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فتخاطب كل إنسان بما يناسبه، فلو حدثت العالم -مثلاً- بما تخاطب به العامي لكان هذا خطأ، ولو خاطبت العامة بما تخاطب به طلاب العلم لربما كان هذا لهم فتنة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: [[حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]] وجاء في الأثر: [[ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة]] .
ومن صور الحكمة: عدم التعجل والاندفاع وراء الطيش والحماس غير المتزن، وقد ذكر لنا الله جل وعلا في كتابه نموذجاً لذلك، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] .
جاء في حديث ابن عباس في السنن، وهو حديث صحيح، أن هذه الآية نزلت في قوم في مكة، والمسلمون مضايقون مضطهدون، كانوا يقولون: لو قاتلنا، لو جاهدنا، لو حملنا السلاح ضد الأعداء، فقيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة، فلما فرض عليهم القتال ووجب عليهم؛ نكص بعضهم وتراجعوا، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، وإذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، فالمطلوب من الداعي الحكمة والاتزان وعدم التعجل، والتدرج في الأمور، فما يكون صواباً في حال قد يكون خطأ في حال آخر.
ومن صور الحكمة: عدم الإقدام على عمل ضرره أكبر من نفعه، أو حتى ضرره مساوٍ لنفعه؛ لأنك تعمل، والعمل لا شك أنه مجهول، فحين تكتشف أن هذا العمل الذي تعمله ضاع قد تتركه، حتى حين تكتشف أن ضرره مساوٍ لنفعه حينئذٍ تتركه؛ لأنه لا داعي لأن أتعب نفسي فيه، وأنا أعرف أن الضرر مساوٍ للمصلحة.
فمن الحكمة عدم الإقدام على عمل كهذا، وذلك كما إذا وجدت إنساناً على معصية، وتعرف أنك لو نهيته عنها، لوقع في معصية أخرى مساوية لتلك المعصية.
ومن صور الحكمة: تقديم الأهم على المهم، وتقديم المهم على ما دونه، حين تتعارض وتتزاحم الواجبات.
فإذا كان عندك مجموعة واجبات كثيرة، لا تستطيع أن تقوم بها كلها دفعة واحدة، فعليك أن ترتب الواجبات فتبدأ بالأهم، وافترض أن عندك إنسان عليه مجموعة من الأخطاء والمعاصي، فهو تارك للصلاة، وفي نفس الوقت يشرب الخمر ويسمع الغناء، وأنت ترى أنه ليس من المصلحة أن تقول له: يا فلان، إن ترك الصلاة وشرب الخمر وسماع الغناء هذه كلها معاصٍ وكذا وكذا فمن المصلحة أن تبدأ مع هذا الإنسان بالتدرج، وما الإنسان خاصة إذا كان جاراً لك، فعندك وقت طويل معه، فمن الحكمة أن تبدأ معه في مسألة الصلاة فتدعوه إلى الصلاة، وتبين له خطورة تركها، وتحثه عليها حتى يستجيب لك، ثم تنتقل إلى المعصية الأخرى، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن ابن عباس، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله} لأن مسألة التوحيد هي أهم ما يدعى إليه: {فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} إذاً لا بد من التدرج في الدعوة ومراعاة الأهم ثم المهم.
من صور الحكمة: مراعاة الرفق، والله عز وجل حين بعث موسى وهارون إلى فرعون قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ولذلك يقال: إن أحد الدعاة المتعجلين دخل على أحد الخلفاء، وتكلم عليه بكلام قاس شديد، فكان الخليفة أفقه من هذا الإنسان، فقال له: قف، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأمره بالرفق والقول اللين، بعث الله موسى إلى فرعون وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] وموسى خير منك وفرعون شر مني، فلا داعي لأن تقسو علي وتغلظ لي في المقال.
فمراعاة الرفق والأناة والحلم وسعة الصدر على المدعوين، من أهم صور الحكمة المطلوبة من الداعية.(77/17)
الصبر
أخيراً من شروط الداعية وخصاله: الصبر.
والصبر هو حبس النفس على ما تكره كما عرفه أهل العلم، فلا بد للداعية من الصبر، ولذلك قال الله جل وعلا في صفة المفلحين الرابحين: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] فلا بد من الصبر للداعية، أولاً: الصبر على الإسلام نفسه، من الإيمان والعمل الصالح وما يتبعهما، فلا بد من الصبر على ذلك.
وثانياً: لا بد من الصبر على الصبر، بمعني أن الداعية قد يصبر وقتاً من الأوقات، ولكنه يمل بعد ذلك ويترك الصبر، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، يقول عليه الصلاة والسلام: {ومن يتصبر يصبره الله} فقد يكون من شأن الإنسان العجلة وعدم الصبر، لكن إذا تكلف الصبر رزقه الله الصبر، حتى يصبح سجية له، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر، فهو خير وأوسع من المال ومن الثروة ومن الجاه، ومن الزوجة الجميلة، ومن النصر الرفيع ومن كل شيء، وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر.
فسبحان الله! كم من إنسان يبدأ بعمل طيب، لكنه يعجز فينقطع في عرض الطريق، لماذا؟ لأن ما عنده صبر، وكم من داعية يواجه بالإيذاء والتكذيب وبالسخرية، فيترك الدعوة إلى الله جل وعلا؟ لأنه لم يتميز بالصبر، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضاً- في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عمر وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} .
فالداعية بالذات يحتاج إلى الصبر، يقول الله جل وعلا: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] سيجد الداعية من يشكك في نيته، لماذا؟ لأن الأنبياء وجدوا من يشكك في نياتهم قال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] موسى وهارون قال عنهما فرعون: إنهما يريدان الكبرياء في الأرض! قال تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] إذاً لهم مقاصد سياسية على حد تعبير المعاصرين! هكذا يزعم فرعون، فيجد الداعية من يشكك في نيته فلا يحزن، وسيجد الداعية من يرفض قبول دعوته فعليه أن يصبر، وسيجد الداعية من يترك الميدان، ممن حوله من الدعاة الذين كان يأمل فيهم، فوجد أنهم ضعفوا وتخلوا، فيجب أن يصبر، وسيجد الداعية أن هناك من أقرانه وزملائه من يؤذيه وينال منه، وهذا من أشق الأمور على النفس، ولذلك يقول القائل: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند فأنت لا تستغرب أن ينال منك عدوك؛ لأنه عدو، بل إن الغريب لو لم ينل منك، إنما تستغرب أن ينال منك أخوك وصديقك وقريبك ومرافقك، لكن ليجعل الداعية شعاره حين يسمع مثل ذلك قول كُثَيِّر: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر لـ عزة من أعراضنا ما استحلت إذاً سيلقى الداعي أذى كثيراً، حتى إنك قد تلقى الأذى من أهل بيتك، من زوجتك ومن أولادك ومن جيرانك، فلا بد من التحلي بالصبر والنهاية للصابرين، جعلني الله وإياكم منهم.
والحمد لله رب العالمين.(77/18)
الأسئلة(77/19)
الإكثار من سماع الأناشيد
السؤال
كنت أكثر ما أسمع من الأشرطة هي الأناشيد، فهل في ذلك شيء؟
الجواب
أرى أن لا تكثر من سماع الأناشيد، فالأناشيد -كما ذكرت- ينبغي إذا استخدمها الإنسان، أنه يستخدمها على أنها مثل الملح، تستخدم لإزالة السأم والملل، أما الإكثار منها فهو مذموم، ولذلك بوب البخاري فقال: باب من كان الغالب عليه الشعر، ثم ساق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً؛ خير له من أن يمتلئ شعراً} فكأنه حمل الحديث على الإكثار من ذلك، وأن يكون هو الغالب على الإنسان.(77/20)
استخدام جميع وسائل الدعوة
السؤال
لماذا لا يستخدم الدعاة المسلمون الوسائل الحديثة، كالإذاعة والصحافة وغيرها لتوجيه المسلمين؟
الجواب
مطلوب من الداعية أن يستخدم كل وسيلة مباحة للدعوة إلى الله، وإيصال صوت الحق إلى جمهور الناس.(77/21)
لابد من موافقة الفعل للقول
السؤال
ماذا نقول لداعية لا يترك يوماً إلا وقد شرب الدخان؟
الجواب
نقول له: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم، وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعل ما نستقبل من أيامنا خيراً مما نستدبر، وأن يتوب علينا ويغفر لنا خطأنا وزللنا، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.(77/22)
الأخ الذي لا يصلي
السؤال
لي أخ لا يصلي أبداً، وإذا نصحته أخذ يتكلم علي بكلام بذيء فماذا أفعل به؟
الجواب
إذا استفرغت الوسائل والأسباب في دعوة أخيك، وأتيته من كل طريق تستطيعها فيئست منه، فأرى أن تقاطع أخاك ولا تكلمه ولا تؤاكله ولا تشاربه ولا تجالسه.(77/23)
بعض وسائل الدعوة
السؤال
نحن شباب نريد أن نطبق الدعوة إلى الله عز وجل هنا في هذا البلد، فهل أذهب بنفسي إلى الشخص الذي أريد دعوته وأدعوه عندي في بيتي؟ أم أذهب إليه في بيته وأدعوه، أم نذهب نحن مجموعة من الشباب إليه في بيته، أم نذهب في رحلة، فأيها أفضل؟
الجواب
كل ذلك طيب، وهذه الأمور تختلف بحسب حال المدعو، فبعض الناس من الأفضل أن تزوره في بيته، وبعض الناس من الأفضل أن تدعوه إلى بيتك، وبعض الناس تدعوه بمفرده، وبعض الناس تدعوه إلى مجموعة من زملائك، وبعض الناس من المناسب أن تخرج معه مع مجموعة من زملائك في رحلة، وبعضهم تدعوه إلى حلقة تحفيظ قرآن، أو حلقة علمية أو ما أشبه ذلك، فكل إنسان له ما يناسبه، وهذه الأمور ليس فيها حَجر ما دامت وسائل مباحة.(77/24)
حب المدح على فعل الخير
السؤال
يقول إنني عندما أفعل خيراً أحب المديح عليه؟
الجواب
إذا كان فعل الإنسان للخير لوجه الله، لكنه فرح بما يسمع من مديح الناس فلا بأس، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في صحيح مسلم: {تلك عاجل بشرى المؤمن} أما إن كان يفعل الخير من أجل أن يمدحه الناس عليه، فهذا من الرياء وعليه أن يتجنبه.(77/25)
اختلاف العلماء
السؤال
إذا اختلف العلماء فكيف نعمل في ذلك؟
الجواب
إذا اختلف العلماء -فكما أسلفت قبل قليل- هل أنت طالب علم أو عامي مقلد؟ إن كنت عامياً فانظر أفضل العلماء في نظرك فقلده في هذا الأمر، أفضلهم علماً وعملاً وديناً، وإن كنت طالب علم، فقارن بين هذه الأقوال من حيث الدليل والأقرب إلى الصواب، وخذ بما تراه أنه أقرب إلى الصواب، أما الأخذ بالتشهي فليس صحيحاً.(77/26)
وسوسة الشيطان بأن الإنسان مراءٍ
السؤال
يقول أنا شاب تطوعت، ولكني أحس أن التطوع رياء، أرشدوني إلى طريق الخير؟
الجواب
تطوعت أي سلكت طريق الاستقامة، وهذا ليس تطوعاً في الحقيقة بل هو واجب، لأن الاستقامة على دين الله وعلى الخير وتجنب المحرمات، هذه من الواجبات وليست من التطوع، أما هذا الإحساس فقد يكون من الشيطان؛ لأنه يريد أن تعود إلى ما كنت عليه، فيخيل إليك أن ما تفعله هو من الرياء، فعليك أن لا تلتفت إلى هذا الشعور، بل استمر في عمل الخير.(77/27)
وصايا على طريق الدعوة
السؤال
هذا الأخ يريد أن يكون داعية إلى الله، على الرغم من أن عمره لم يتجاوز خمس عشرة سنة، فأوصني ما هو الواجب عليَّ فعله فإنني في حيرة من أمري؟
الجواب
أولاً: أحمد الله جل وعلا، مضى وقت من الأوقات، كنا نجد شباب هذه الأمة وهم في سن الخامسة عشرة، إذا سألت الواحد منهم: ماذا تتمنى أن تكون؟ يقول: أتمنى أن أكون مثل اللاعب فلان، أو مثل الممثل فلان، أو مثل المغني فلان، والحمد لله اليوم الأمة صحت ووعت، وأصبح الشاب وهو في سن الخامسة عشرة، يتمني أن يكون داعية أو عالماً فهذه بداية طيبة، وعليك أن تبدأ الخطوات، فسنك يؤهلك لذلك، عليك أن تتعلم وتحرص على القراءة بِنَهَم، وتجالس العلماء، وتحفظ القرآن، وتحرص على أن تتدرب على الكلام والإلقاء أمام الناس والحديث، وحسن الخلق، فتربي نفسك على الأخلاق الفاضلة، واستمر على هذا الطموح، وادع إلى الله تعالى بقدر ما تستطيع بين أقرانك وزملائك، والله تعالى يتولانا ويتولاك.(77/28)
اليأس من استجابة المدعوين
السؤال
إذا دعوت الناس ولم يسمعوني فهل أترك هذه الدعوة؟
الجواب
لا تترك هذه الدعوة؛ لأنه يكفيك أن تدعو، وهذه عبادة قمت بها وأجرت عليها، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر في حديث ابن عباس: {أنه يوم القيامة يأتي النبي وليس معه أحد} فلست خيراً من أنبياء الله ورسله، فمنهم من يأتي وليس معه أحد، فأنت رابح على كل حال، ثم إن كون الناس لم يستجيبوا لك الآن، يستجيبوا لك بعد ذلك، لأن من المعروف أن الناس يقبلون الحق -ولله الحمد- في هذا العصر، حتى الكفار إذا دُعوا تجد كثيراً منهم يسلمون، فالمسلمون من باب الأولى، فكونك دعوت ولم يستجب لك لا يدعوك إلى أن تترك الدعوة، بل فكر في نفسك، هل فيك عيب أو تقصير أو عدم استخدام للأسلوب المناسب، أو عدم التحلي بالخصال المطلوبة؟ فاعمل على تحقيق هذه الأشياء واستمر في دعوتك.(77/29)
الداعية لا يقتصر على العلوم الشرعية
السؤال
هل كل داعية إلى الله يقتصر على العلوم الشرعية أم لا؟
الجواب
ليس كل داعية إلى الله مطلوب أن يقتصر على العلوم الشرعية، بل مطلوب من الدعاة إلى الله جل وعلا، أن يتعلموا سائر العلوم التي تحتاجها الأمة، فجميل أن يوجد من بين الدعاة إلى الله جل وعلا، الطبيب والمهندس والطيار والإداري والموظف والخبير، وفي أي شأن من شئون الحياة، وهذا يعطي صورة على أن الإسلام دين ينظم جميع شئون الحياة، وأنه سبب في تقدم المسلمين وحيازتهم على العلوم في جميع المجالات، لكن الداعية -أيضاً بشكل عام- حتى حين يكون طبيباً أو مهندساً، لا بد أن يكون عنده قدر من العلم الشرعي، خاصة فيما يدعو إليه، وفي الأمور التي يجب عليه تعلمها.(77/30)
الأخذ برأي الألباني في التصحيح والتضعيف
السؤال
ما رأيك في تصحيح فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وتضعيفه؟
الجواب
لا شك أن الشيخ الألباني من كبار علماء السنة في هذا العصر؛ إن لم يكن أكبر علماء السنة في هذا العصر، وهذا لا يعني أن تقلده في كل ما صحح أو ضعف، فهو كغيره من العلماء يخطئ ويصيب، فكما ذكرت إن كنت مقلداً وتقول: الألباني اطلع على ما لا يطلع عليه غيره؛ فلا تثريب عليك في ذلك، وإلا فالأولى أن تقارن حكمه بحكم غيره من العلماء الذين سبقوه، أو حتى عاصروه وهم كثير، وتخرج من ذلك بنتيجة صحيحة.(77/31)
واجبنا نحو من يدعو بغير علم
السؤال
هناك بعض الناس يدعون على غير علم فيضلون، فما واجبنا نحن؟
الجواب
واجبك أن تدعو إلى الله تعالى على بصيرة، وكذلك أن تنبه هؤلاء إلى أنه ينبغي لهم أن يتعلموا ما تصح به دعوتهم.(77/32)
بعض شروط الداعية
السؤال
ما هي الشروط التي يجب أن يفعلها الداعية قبل أن يدعو؟
الجواب
الشروط أن يكون مخلصاً عالماً بما يدعو إليه، وينبغي أن يعمل بما يدعو الناس إليه؛ لئلا يكون من الناس الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.(77/33)
حكم التهاون عن صلاة الجماعة
السؤال
ما حكم من قصَّر في أداء الصلاة في المسجد؟
الجواب
صلاة الجماعة واجبة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، وهذا الذي ذكره صاحب الاختيارات الفقهية عن شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن الصحيح أن صلاة الجماعة واجبة، فتاركها آثم.(77/34)
الغيرة من الدعاة الآخرين
السؤال
أنا شاب فتح الله على قلبي، ومضيت أدعو إلى الله، فهدى الله أشخاصاً على يدي، وعندما أرى شخصاً من الذين كنت سبباً في هدايتهم بعد الله مع شخص آخر، أغار عليه؟
الجواب
هذا سؤال مهم ويشكر كاتبه على هذا؛ لأن كون الإنسان دائما يراقب نفسه، هذا من أهم الأشياء التي تمنع الإنسان -بإذن الله- من الوقوع في الخطأ، ولذلك الله عز وجل قال: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2] النفس اللوامة: هي التي تلوم صاحبها على النظرة، وعلى الخطوة، وعلى الأكلة، وعلى كل شيء، بل على الخطرة التي تخطر بالقلب، والغيرة هذه من الأخطاء، فلا تغار، بل يجب عليك إذا رأيته يسير مع شخص آخر مستقيم أن تفرح بذلك، وتقاوم هذه الرغبة التي تجدها في نفسك، وإذا وجدت فرصة أن تأمره بأن يذهب مع فلان أو يأتي مع فلان فافعل، حتى تزيل ذلك، وكما أسلفت قبل قليل، فالأخلاق إذا تصنعها الإنسان وعمل على تحقيقها فإنه يكتسبها، الأخلاق يمكن أن تكتسب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ومن يتصبر يصبره الله ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله} .(77/35)
سبب انقطاع الدروس
السؤال
بعض الدروس والحلقات تبدأ في فترة من الزمن ثم تنقطع، فما هو السبب في ذلك؟
الجواب
الأسباب كثيرة فقد يكون التخطيط لهذا الدرس أو الحلقة غير جيد، كأن وضع في مسجد غير مناسب، ليس فيه جمهور من الطلاب، أو طاقة الحي لا تحتمل هذا الدرس مثلاً، وقد يكون السبب راجعاً إلى المدرس، بحيث لم يقم بالواجب عليه وبالتالي تسلل الطلاب لواذاً، وقد يكون السبب راجعاً إلى منهج الدرس، فقد يأخذ الأستاذ الطلاب بمنهج ثقيل يصعب عليهم الالتزام به، وقد يرجع السبب إلى الطلاب.(77/36)
ضرورة معرفة الحديث الصحيح من غيره للداعية
السؤال
هل يجب على الداعية معرفة صحة الحديث من عدمه؟
الجواب
يجب على الداعية معرفة صحة الحديث الذي يستشهد به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من تحدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين} فلا ينبغي للإنسان أن يستشهد بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وهو يعلم أنه ثابت صحيح أو حسن.(77/37)
حكم أخذ تضعيف الأحاديث من عالم بعينه
السؤال
ما الحكم إذا ضعف عالم حديثاً، هل نأخذ به، أم هناك شروط أخرى؟
الجواب
إذا ضعف عالم معتبر حديثاً، فأنت إما أن تكون مقلداً أو تكون طالب علم، فإن كنت مقلداً لك الحق أن تأخذ كلام هذا العالم فلا تعمل بهذا الحديث، لكن إن كنت طالب علم فابحث، فيمكن أن تجد عالماً آخر يصحح هذا الحديث.(77/38)
سبب الانتكاس بعد الهداية
السؤال
يوجد بعض الشباب يهديه الله ويكون من الطيبين، ولكن ما يلبث إلا مدة ثم يعود ويكره الحلقات والدروس والعلم، فما هو السبب؟
الجواب
قد يكون السبب راجعاً إلى أن هذا الشاب له قرناء سيئون، أغروه بالفساد وحاولوا أن يجروه عن طريق الهداية، وقد يكون بسبب زملائه الطيبين، كأن يحدث منهم تقصير أو خطأ أو سوء معاملة نفرت هذا الشاب، أو يحملوا هذا الشاب ما لا يحتمل فأحياناً إذا استقام هذا الشاب، ربما يكلفه زملاؤه بحفظ شيء من القرآن وشيء من السنة، ويثقلون عليه بالجد فيثقل عليه الأمر، فيترك طريق الخير، فعلى الشباب الصالحين إذا اهتدى إنسان أن يأخذوه شيئاً فشيئاً، ولا يثقلوا عليه بالعلم والحفظ في سورة قد تنفره، ويرصوا على معاملته بالخلق الحسن، وإن رأوا منه خطأ عالجوه بطريقة هادئة، ويعملوا على ربطه بمجموعة من الأصدقاء، يستغني بهم عن الأصدقاء السيئين، وحتى لو وقع منه الانحراف لا ييئسوا منه، بل عليهم أن يكرروا معه مرة أخرى، ويحرصوا على كسبه بالأسلوب الحسن، وإن أمكن أن يذهب إليه بعض الأصدقاء الذين يثق بهم، ويسألونه عن سبب تركه لهذه الحلقات والدروس، فهذا أمر حسن.(77/39)
تأخير صلاة العصر عن وقتها
السؤال
هل يجوز جمع صلاة العصر مع صلاة المغرب، إذا تأخرت عن الصلاة لعذر، أم أصلي العصر في اليوم الثاني؟
الجواب
من المعروف أن صلاة العصر تجمع مع ما قبلها إذا كان هناك حاجة إلى ذلك، كما إذا كان مسافراً أو مريضاً محتاجاً للجمع، فإنه يجمع الظهر مع العصر جمع تقديم أو تأخير، إما في وقت الظهر أو في وقت العصر بحسب ما يتيسر له، وكذلك يجوز له أن يجمع المغرب مع العشاء، إذا احتاج إلى ذلك لسفر أو مرض يحتاج معه إلى الجمع أو نحو ذلك، يجمع المغرب مع العشاء في وقت إحداهما، إما في وقت المغرب أو في وقت العشاء بحسب ما تيسر له، أما الفجر فإنها لا تجمع وإنما تصلى في وقتها، أما صلاة العصر فإنه يحرم تأخيرها عن وقتها، لكن لو فرض أن إنساناً أخرها لعذر، مثل أن يكون نائماً ولم يجد من يوقظه، حتى غابت الشمس وخرج وقت العصر، فحينئذٍ يصليها متى استيقظ، أو كان ناسياً للصلاة، فإنه يصليها متى ذكرها ولو بعد غروب الشمس، ولو بعد صلاة المغرب أو العشاء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك} .(77/40)
إنكار المنكر
السؤال
هناك كثير من المنكرات، ولكن قد نقول: إن الحكمة أن لا ينكر المنكر إذا وجدته، فما توجيهكم في ذلك؟
الجواب
إنكار المنكر مطلوب، وهو فرض كفاية كما هو رأي الجمهور، فلا أحد يمنع منه، لكن إذا تعارض عندك عدة منكرات ورأيت أن من المصلحة ألا تنكرها دفعة واحدة، فعليك أن تبدأ بالأهم ثم المهم.(77/41)
أخطاء الغزالي في كتابه: السنة النبوية
السؤال
هل في كتب الشيخ الغزالي ما يخرجه من الإسلام؟ ونرى بعض العلماء يبقى فترة من الزمن على ثقة من الناس وعلى ما يحبون، وما هي إلا لحظات حتى يظهر على الملأ ببعض المؤلفات التي تخالف السنة النبوية؟ وهل بلغ الغزالي ردك عليه؟ وهل تاب مما قال في كتبه؟ وما توجيهك لعوام البشر الذين يؤيدونه فيما قال، لا على أن ما قاله صحيح، لكن لأنه حاز على بعض الجوائز العالمية، فهل يعني عصمته؟ أرجو التوجيه حيال ذلك، على أنه لا يلزم من هذا التأييد على الخطأ؟
الجواب
أما ما كتبه الغزالي، فقد كتب كلاماً كثيراً فيه مخالفات صريحة للكتاب والسنة وأخطاء، وقد تحدثت عنها في مجموعة من المحاضرات والدروس، ثم في كتاب طبع بعنوان: "حوار هادئ مع الغزالي" وبإمكان الأخ السائل الرجوع إلى الكتاب، وأما فيما يتعلق ببلوغه فقد بلغته الأشرطة، وأرجو أن تكون هي وغيرها مما كتبه العلماء، سبباً في تراجع الشيخ الغزالي عن آرائه التي قال بها.
أما سبب كون بعض العلماء أو بعض الدعاة يكسب ثقة الناس، ثم يخرج عليهم بآراء غريبة، فهذه لها أسباب عديدة منها: أن الناس -أحياناً- لا يقرءون، فيعطون العالم أو الداعية الثقة بسرعة، وهذا بسبب عدم القراءة، وهذا عيب موجود فينا، وهو عيب كبير جداً فكثيراً ما نثق بإنسان ثقة إجمالية؛ لأننا نسمعه في الإذاعة أو في التلفاز أو في الكتب، أو نسمع أنه داعية ذهب أو راح، أو اتخذ موقفاً طيباً فنعطيه ثقة مجملة، لكن لا نقرأ! وإذا قرأنا نقرأ بإعجاب، والقراءة بإعجاب تجعل الإنسان لا ينتبه للأخطاء، أنا لا أقول اقرأ قراءة الذي يبحث عن الخطأ، لكن اقرأ وأنت مفتح الذهن، بحيث تقول: للخطأ خطأ وللصواب صواب، ولذلك كثير من الأشياء التي قال بها الغزالي في كتابه الأخير: السنة النبوية، هي موجودة في بعض كتبه القديمة، لكن الناس لم يقرءوها، ولذلك فوجئوا بها؛ لأن هذا الكتاب انتشر ونشر في جريدة الشرق الأوسط، وقد يكون هناك أسباب أخرى، أما بالنسبة للناس، فالناس ما أمروا باتباع فلان ولا فلان، فإن الله عز وجل يسألنا يوم القيامة: ماذا أجبتم المرسلين؟ فليس يعفيك أمام الله جل وعلا أن تقول: قلدت فلاناً وتابعت فلاناً، وأنت تعرف أن فلاناً مخطئ فيما ذهب إليه، وأن العلماء ردوا عليه وبينوا خطأه.(77/42)
أمر الجار بالصلاة
السؤال
هناك جيران للمسجد لا يصلون، فقلت لهم أكثر من مرة: صلوا، وإن أحببتم أن أطرق عليكم الباب في صلاة الفجر فلا مانع، فلم يقبلوا ذلك، فما هو الحل؟ وهل يلحقني من ذنوبهم شيء؟
الجواب
الواقع أن الجار له حق على جاره، فينبغي أن ينصحه بقدر ما يستطيع، فما قمت به من دعوتهم إلى الصلاة حسن، وعليك أن تكرر الأمر وليس مجرد كلمة، بل ادخل عندهم في البيت، وتكلم معهم حول مسألة الصلاة في المسجد ووجوبها، واطلب منهم أن يصلوا، وإذا لم يفعلوا كرر الأمر عليهم مرة أخرى، وأحسن إليهم ماداموا جيراناً، أحسن إليهم بالهدية، الهدية للأولاد وما أشبه ذلك، فربما تكون هذه الهدية سبباً في قبولهم لما تقول، فإذا يئست من قبولهم، فإن كنت ترى أن في إبلاغ الجهة المختصة، هيئة الأمر بالمعروف فائدة؛ فعليك أن تفعل ذلك.(77/43)
حكم القول في كتاب الله بدون علم
السؤال
ما رأيك في رجل يعلم الناس وليس بعالم، ويفسر آيات من القرآن، برغم أن معنى الآيات ليس كما فسرها، هل عليه شيء أم لا؟
الجواب
إن علَّم الناس ما لم يعلم أو فسر القرآن برأيه، فهو آثم وقد أخطأ ولو أصاب، وليتبوأ مقعده من النار، والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فالمتكلف في الشرعيات لا يجوز له أن يتكلم إلا بعلم ودليل.(77/44)
بعض الكتب في السيرة النبوية
ِ
السؤال
يقول: أنا أريد أن أنمي ثقافتي في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وعلماء السلف، لآخذ العبرة منهم وأرتقي بنفسي، فما هي الكتب التي تنصحني بها مع ذكر المؤلفين؟
الجواب
فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فالناس في السيرة عيال على ابن إسحاق، فسيرة ابن إسحاق، التي أخذها عنه ابن هشام هي أوفى وأوسع ما كتب في السيرة، وهي مطبوعة في أربعة مجلدات، ولكنها ليست سيرة موثقة توثيقاً تاماً، بل فيها الأخبار المعضلة والمنقطعة وغيرها، ولذلك هناك كتاب آخر في السيرة لـ ابن كثير، هو جزء من البداية والنهاية، لكنه مطبوع مستقلاً باسم "السيرة النبوية" بعناية مصطفى عبد الواحد في أربعة مجلدات، وابن كثير إمام محدث، ولذلك ظهرت بضاعته الحديثية في هذا الكتاب، فهو من الناحية التوثيقية أفضل من كتاب سيرة ابن هشام، وهناك كتب كثيرة في السيرة، فهناك: تهذيب سيرة ابن هشام، وهناك الفصول في اختصار سيرة الرسول لـ ابن كثير وغير هذه الكتب.
وأما ما يتعلق بسيرة الصحابة وعلماء السلف، فلعل من أوفى وأوسع المصادر في ذلك كتاب: سير أعلام النبلاء للذهبي وهو كتاب ضخم جداً، ولذلك قد يصعب على الشاب المبتدئ أن يقرأ فيه، لكن يمكن أن يقرأ -مثلاً- كتاب الإصابة لـ ابن حجر، وهو كتاب أيضاً يعتبر ضخماً، فإن أحب الشاب أن يقرأ في ذلك كتاباً مختصراً، فيمكن أن يقرأ أي كتاب من الكتب المعاصرة، التي ذكرت طرفاً أو نتفاً من سير الصحابة، ككتاب صور من حياة الصحابة وصور من حياة التابعين وغيرها.(77/45)
الكلام في الناس بغير علم
السؤال
بماذا ترد على من يحكم على بعض الدعاة بغير علم، فيحكم عليهم بأشياء مخلة بالدين، ويشوه صور بعض الدعاة وينفر منهم ويحذر؟
الجواب
الواقع أن السؤال عام، فنحن نقول: الكلام في الناس بغير علم، سواءً أكانوا من الدعاة أم من العلماء أم من غيرهم لا يجوز، فالقول في الناس بغير علم حرام، ولا ينبغي للإنسان أن يتكلم في فلان وفلان، ويشوه صورتهم وسمعتهم عند الناس بغير حق، لكن إذا وجد إنسان عنده خطأ اشتهر عنه وتداوله الناس وتناقلوه، فينبغي لأهل العلم أن يتحدثوا عن هذا الخطأ ويبينوه حتى يحذره الناس(77/46)
واجب الداعية نحو من هم تحت يده
السؤال
ما هي أهم الأمور التي يبدأ الداعية إلى الله بعملها فيما تحت يده؟
الجواب
من تحت يده، هذه تشمل أنواعاً، فمن تحت يد الداعية قد يكونون أهل بيته، وهؤلاء لهم حقوق، وقد يكونون طلاباً في حلقة أو درس، يريد الداعية أن يربيهم على العلم والمعرفة، وعلى كل حال، فهؤلاء وأولئك ينبغي على الداعية إلى الله جل وعلا؛ أن يربيهم على المعرفة الصحيحة بالإسلام والعمل بأحكامه، وينبغي للداعية أن يربيهم بقوله وفعله، فحسن الخلق يبلغ به العبد درجة الصائم القائم، وهو من أهم المداخل التي تجعل الداعية مقبولاً عند من يدعوهم إلى الله تعالى.(77/47)
الجمع بين العلم والدعوة
السؤال
أيهما أفضل الانعزال لطلب العلم ثم الدعوة، أو الدعوة على علم بسيط؟
الجواب
الإنسان ينبغي أن يجمع بين الأمرين فيدعو ويتعلم، ولننظر كيف كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ينفذون هذا الأمر، والذي أعلمه من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه؛ أن الواحد منهم كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجلس في المجلس ويسمع إلى أحاديث ومواعظ وتوجيهات وآيات، ثم ينطلق إلى قومه فيدعوهم إلى الله تعالى، وقد تسلم القبيلة بأكملها على يده، وقد يجلس أياماً أو ليالي ثم ينطلق داعية، فليس من شرط الداعية أن يكون عالماً ملماً بجميع العلوم، لكن ينبغي أن يكون عنده علم شرعي يؤهله للدعوة، فلا يدعو إلى ما لا يعلم، كما أن على الداعية وهو يدعو، أن يتزود من العلم يوماً بعد يوم، أما كون بعض الدعاة ينطلق في الدعوة، وكل وقته في الدعوة، ليس عنده وقت للعلم، فحين تقول له: يا أخي، أنت مضيع لنفسك، الناس تعلمت وعرفت، وأصبحت تعرف الحلال والحرام، والحديث الصحيح من الحديث الضعيف وتقرأ، وأنت تعلم ذلك، يقول: أنا مشغول بالدعوة إلى الله تعالى! إذاً: أنت تدعو إلى ماذا؟ ربما تدعو إلى أمر قد لا تعرفه، قد تدعو إلى بدعة وأنت تظنها سنة، إلى خطأ وأنت تظنه صواباً، قد تخطِّئ عملاً وهو صواب، فلا ينبغي للداعية أن يدعو إلى شيء إلا وهو يعلمه، فيدعو إلى الله على بصيرة، كما أنه لا يجدر بالداعية أن يضيع وقته كله في الدعوة على حساب طلب العلم الشرعي، بل يعتدل في ذلك، ولذلك ذكرت قبل قليل أن من شروط الداعية: العدل في المنهج والسلوك، فيعتدل الداعية، يأخذ العلم بقدر ويدعو إلى الله بقدر.(77/48)
صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة
كم تعرضت المرأة -ولا تزال- للمؤامرات الشرسة التي تستهدفها وتستهدف فساد المجتمع كله من فسادها، ولهذا كان من واجب الدعاة أن يولوا المرأة اهتماماً خاصاً.
وهذا الدرس يوضح لنا أحوال المرأة في الجاهلية المعاصرة، ويقارن هذه المعاناة بما تتمتع به المرأة من الحقوق وما تعيشه من حياة كريمة في ظل الإسلام.(78/1)
المخرج من الأزمات التي تمر بها الأمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ,ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فلا شك أنكم جئتم وأنتم تقرءون عنوان هذه المحاضرة، ألا وهو الحديث عن (صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة) وفي بادي الرأي فإن الموضوع قد يكون بعيداً عن القضية التي تناولها أخي أبو محمد جزاه الله خيراً، ألا وهي الأحداث الأخيرة التي نعيش آلامها وهمومها ومخاوفها جميعاً، ولكنه يمت إليه بسبب أي سبب، ألا وهو الحديث عن أن مصائب الأمة وآلامها ونكباتها الذي هو أثر من آثار بعدها عن هدي الله عز وجل في جميع شؤون حياتها، وأثر من آثار اعتمادها على الأمم الأخرى في سائر شؤونها، حيث أصبحنا نستورد منهم كل شيء , وأصبحنا نعتمد عليهم في كل شيء، ونأخذ منهم كثيراً من العادات والأخلاق والنظرات والأفكار والسلع والبضائع إلى آخره، وكما يقول المثل: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
فإنما أصابت الأمة هذه الضربات الموجعة، ومزقتها هذه الشعارات الجاهلية البراقة يوم اختفت القيادات الشرعية الصادقة، فأصبحت الأمة نهباً لأصوات شتى، هي في ظاهرها أصوات مخلصة، وفي حقيقتها يسمع العاقل منها فحيح الأفاعي، وأصبحت الأمة نهباً لشعارات شتى، هي في ظاهرها شعارات براقة جميلة أخَّاذة، وفي حقيقتها الموت الزؤام، ولذلك فلا غرابة أن يكون نداؤنا وإلحاحنا وإصرارنا في مثل هذه الأحداث، على أن نقول: ليس المخرج من مثل هذه الأحداث هو انفعال مؤقت نعيشه بسبب أزمة طارئة، ولا غليان حادث أو عارض بسبب الأخبار التي نسمعها في كل ساعة وفي كل حين كلا! المخرج من هذه الأحداث -بل ومما ينتظر الأمة من الأحداث مما هو أشد وأعظم- هو أن تستعصم بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم في الكبير والصغير من أمورها، والجليل والخطير، وألا ترضى عن شريعة الله تبارك وتعالى بدلاً.
بل أقول: العاصم -بإذن الله تعالى- أن تحمل الأمة -وأخص شبابها وفتياتها- همّ إعادة الحضارة الإسلامية إلى الوجود بجميع جوانبها؛ لتكون بديلاً عن الحضارات الزائفة التي تهيمن على البشرية في مشارق الأرض ومغاربها.(78/2)
دواعي الحديث عن المرأة في الجاهلية المعاصرة
وقد يتساءل بعض الإخوة وبعض الأخوات عن سِرِّ طرحي لهذا الموضوع: "صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة".(78/3)
مواجهة دعاة التغريب
والحاجة أيضاً ماسة لطرح هذا الموضوع -ثالثاً- من أجل مواجهة دعاة التغريب الذين يريدون أن تكون المرأة أَمَة (قَيْنة) يعبثون بها، ويستمتعون بها كيف شاءوا، ثم يلقون بها كما يلقي أحدهم بأعقاب السيجارة في القمامة، فكذلك يريدون أن يستمتعوا بهذه المرأة.
وأذكر أنني قرأت في بعض المجلات كلمة لفتاة من إحدى دول المغرب العربي، تذكر كيف أنها وقعت ضحية لجماعة من الشيوعيين الذين خدعوها بالشعارات البراقة، باسم البروليتاريا، وحقوق العمال، والأخوة الأيديولوجية وغير ذلك من الشعارات حتى عبثوا بها وأهدروا كرامتها، واستلوا منها أنوثتها، ثم ألقوا بها جثة بعد أن عبثوا بحسدها، فشعرت بالخطورة، وحينئذ لم يفدها هذا الأمر إلا أن تعلن توبتها ورفضها لهؤلاء، بل أعلنت في الصحف أنها سوف تنتقم من هذا المجتمع، ومن مثل تلك الشخصيات التي قادتها إلى هذه الهوة السحيقة.
فنحن حين نبطل الأصل الذي يتمسك به دعاة التغريب، نستطيع أن نبطل الفرع، ونقول لهم: قد تبين زيف الحضارة التي تنادون بها وتدعون إليها، فعليكم أن تسكتوا وتدخلوا في جحوركم، أو تسلموا وتؤمنوا وتعودوا إلى ربكم.(78/4)
طمأنة قلوب المؤمنين والمؤمنات
وأخيراً فإن طرح مثل هذا الموضوع هو سبب تطمئن به قلوب المؤمنين والمؤمنات، على أنه مهما كثرت الشعارات والانحرافات، وكثر في أوساط الفتيات: التقليد والتشبث بعادات الأمم الأخرى وأخلاقها وأزيائها وتسريحاتها وأخلاقها ومُثلها، إلا أن مثل هذه الأمة لا بد أن تعود إلى أصالتها.
يحدثني أحد الشباب -وهو ثقة- أنه ذهب إلى بريطانيا يدرس فيها، وأقام هناك عند أسرة أو عائلة مكونة من امرأة عجوز كبيرة السن وزوج، ومجموعة من الفتيات خارج البيت يزرن أمهن بين الفينة والأخرى، فيقول لي: إنه كان يتحدث مع هذه المرأة عن الإسلام، وعن أخلاقيات الإسلام، وعن مثل الإسلام وقيمه، فكانت تقول له: إن هذه الصورة التي تتحدث عنها صورة رائعة، وأننا نفتقدها في بلادنا، فيقول لي هذا الشاب ذهبت تودعني إلى المطار لما أردت أن أسافر، وكانت تتحدث معي بلهجة حزينة، وتكاد أن تبكي؛ لأنها فقدت الحنان، وتشعر أن زوجها يريد أن يتخلى عنها، لأنه شاب وهي أكبر منه سناً، وبناتها يركضن وراء الحياة بعيداً عنها، وتتمنى أن تعيش في بلاد الإسلام، فقالت: نحن لن نراكَ بعد الآن؟ فقال لها مازحاً: لقد ذكرتِ لي أنك إذا مت فإنك تريدين أن تحرق جثتك، فإذا مت فأنا سوف آتي لأشارك في مراسم العزاء، وأشارك في حرق هذه الجثة، وهو يضحك عليها، فيقول: فدمعت عيناها، وقالت لي: أريد أن أعيش في مثل مجتمعكم ولو سنة واحدة، ثم أحرقوني بعد ذلك! وتقول: والله إن خمسة وخمسين سنة قضيتها، ومع ذلك إنني أشعر أنني لم أدخل إلى الحياة حتى الآن! صيحات الخطر تتعالى في بلاد الغرب، والنذر تتوالى عندهم، والدراسات تعلن النفير وأن حضارة الغرب آيلة إلى الفناء والسقوط، ولذلك فإن البديل هو الإسلام، فلتطمئن نفوس المؤمنين والمؤمنات، وليعلموا أن هذة الأمة -أمة الإسلام- لا بد لها من الرجوع إلى دينها والعودة إلى مصادرها الحقيقية، ومظاهر ذلك ظاهرة الآن.
فنحن الآن نجد كثيراً من الفتيات والحمد لله قد عدن إلى الالتزام في عاداتهن وفي أزيائهن وأخلاقهن وأفكارهن، وهذه بوادر نرجو أن تكون بداية لعودة حقيقية عامة شاملة عند بنات هذا الجيل إلى دين الله وشرعه.(78/5)
بيان عظمة الإسلام
فأقول: أتحدث -أولاً- عن هذا الموضوع لأجلَّي جانباً من عظمة الإسلام في أحكامه وتشريعاته فيما يتعلق بحياة المرأة الخاصة وعلاقتها بالمجتمع من حولها، وكما يقول الشاعر: والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فإنما عرف الناس فضل النور، حين خيم عليهم الظلام، ولا يعرف قيمة العافية إلا من عانى المرض، ولا يدرك شأن الإسلام إلا من عرف الجاهلية، هذا أولاً.
ثم إننا ندرك من خلال ذلك عظمة الإسلام في تلك التشريعات، على سبيل المثال، وفيما يتعلق بموضوع المحاضرة، كيف أن الإسلام جاء بالتشريع الذي يسد من خلاله منافذ الحرام، فيأمر المرأة بالحجاب، وينهاها عن التبرج، ويأمرها بالقرار في البيوت، والبعد عن مخالطة الرجال أو مزاحمتهم، فنجد الإسلام وهو يسد المنافذ المحرمة، ثم يفتح المنافذ المباحة بالزواج الشرعي: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وبذلك يقيم حياة اجتماعية سليمة، يجد الرجل فيها أن اتجاهه منصب إلى وجهة واحدة في بيته وفي منزله، فلا تتوزع طاقاته وقوته نهباً لمظاهر يراها في المجتمع وانحرافات وأشياء تثيره، وقد تكون سبباً في بعده وفي عزوفه عما أحل الله تعالى له.
وفي مقابل ذلك فإننا نجد الغرب باسم الحرية الشخصية المزعومة، استجاز التعري وافتضاح المرأة في قارعة الطريق، وفي الشارع، وفي أماكن اللهو، وفي أجهزة الإعلام، فهانت المرأة: أماً وأختاً وقريبة، وكذلك عزف عنها الزوج؛ لأن الرجل يجد في المجتمع من المظاهر الجذابة، ومن الصور الجميلة في كثير من الأحيان ما لا يجده في منزله ومع أهله، وهكذا ساهمت هذه الحرية الشخصية المزعومة في تدمير البيوت، وكانت سبباً في اضطراب الأوضاع الاجتماعية وشيوع الرذائل، وعلى رأسها جريمة الزنا وما يتبعه من فساد عريض في أمور الاجتماع والصحة والاقتصاد وغيرها.(78/6)
مواجهة التقليد
سبب آخر يستدعي طرح هذا الموضوع، ألا وهو مواجهة التقليد الذي أصبح سارياً في مجتمعنا عبر الشاشة وعبر المشاهدة الشخصية المباشرة، فلا شك أن مجتمعنا لم يعد الآن جزيرة معزولة في هذه الدنيا، بل أصبحت الفتاة ترى في الشاشة صوراً كثيرة، وقد تسافر مع أهلها، أو مع زوجها إلى بلاد غربية، فكثيراً ما نقتبس تلك العادات والأخلاق والتقاليد، حيث أصبحت الموضات التي تنتشر عند فتياتنا هي الموضات الغربية، وتسريحات الشعر منقولة عن فرنسا أو غيرها، والأخلاق هي الأخلاق، بل حتى أمورنا الخاصة، أصبحنا نستحلي ونستملح ونستطيب ما جاءنا من عند أعدائنا.
وأذكر أن إحدى الأخوات المهتديات تقول: إنها كانت تحتفظ في زمن جاهليتها وضلالها بألبوم فيه أكوام وأعداد من الصور لـ ديانا ولـ تشارلز ولبقية الفئة، التي أصبحت كثير من فتياتنا تتعلق بهم وتتابع أخبارهم، وقد تعرف الفتاة -أو يعرف الفتى- من أخبار هؤلاء التائهين الضائعين الضالين الحائرين ما لا يعرفه عن أخبار الصحابة والتابعين، وما لا يعرفه عن أخبار آبائه وأجداده، بل وما لا يعرفه عن أخبار علمائه الذين يعيشون في عصره وفي وقته! وقد سئل أحدهم عن جماعة من العلماء المعاصرين المرموقين في هذه الجزيرة، فكان يقول: من فلان؟ من هو فلان؟ وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم َأتَذَكَّر أني قرأت كتاباً هو عبارة عن مراسلة تخص امرأة أمريكية مهتدية، كانت يهودية ثم أسلمت، ولا تزال تعيش على قيد الحياة في بلاد الهند، اسمها بعد إسلامها مريم جميل، وكانت تراسل وتكاتب الشيخ الداعية أبا الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، ففي هذا الكتاب صورة عجيبة عن الرفض الفطري عند تلك المرأة لهذه العادات والتقاليد الموجودة في الغرب، فكانت تكتب له قبل أن تسلم عن امتعاضها وانزعاجها من مبالغة الغرب في العناية بالملابس والثياب والأزياء، وتفننهم في إظهار زينة المرأة بكافة الصور والأشكال، وتلاعبهم بجسد المرأة حيث جعلوه سلعة تباع وتشترى وتروج البضائع من خلالها، وتستغل أبشع استغلال في الإعلانات عبر التلفزيون وغيره، فكانت -وهي المرأة الكافرة وقتها- تعرب عن امتعاضها من هذه الصورة التي تستغل المرأة من خلالها، وكان ذلك من أسباب رفضها لدينها وحضارتها الغربية، وإقبالها على الإسلام، حيث آمنت وأسلمت، وأصبحت في عصمة أحد الدعاة المسلمين في الباكستان كما أسلفت.
والمؤسف -أيها الإخوة- أن يقوم إعلامنا بدور فعال في نقل تعاسة الغرب إلى عقول أبنائنا وبناتنا، فإن كثيراً من الشباب يعكفون على الشاشة، وربما يقضون أمامها وقتاً طويلاً، ومن خلال هذه المشاهد التي تعرض في قنوات التلفاز، يقتبسون أشكالهم وأزياءهم وتسريحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم، حتى أفلحت أجهزة الإعلام في قلب مجتمعنا، وجعل ما كان ممقوتاً مذموماً بالأمس مستحسناً لدى كثير من الشباب اليوم، وأوجد التناقض في نفوس الشباب والفتيات، فالفتاة التي تقرأ -مثلاً- في مدارسها وفي مقرراتها أن المرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها، وأنه يجب أن تستر جسدها كله عن الرجال الأجانب، وألا تختلط بهم، وألا تخلو مع غير ذي محرم، أصبحت تشاهد في التلفاز امرأة مثلها وقد نشرت شعرها وكشفت صدرها وذراعيها وساقيها، وأصبحت تضاحك رجالاً أجانب وتمازحهم وتركب معهم، وتذهب وتجيء، وتخلو وتختلط، ويحدث ما هو أكثر من ذلك من الصور التي لا تحتاج مني إلى تفصيل وبيان.
ومن الطبيعي لفتاة مراهقة -مثلاً- لم تجد التوجيه السليم أن تنطبع في ذهنها هذه الصورة، وأن تعمل على تطبيقها في حياتها العملية، أو تتطلع إلى ذلك إذا لم يتح لها المجتمع أن تطبقها.
على أننا نجد أن إعلام الغرب على ما فيه، إذا أردنا أن نقارنه بالإعلام الموجه الهادف في البلاد الإسلامية، لوجدنا أن إعلام الغرب أهون من الإعلام الموجود في بلاد الإسلام؛ وذلك بسبب أن إعلام الغرب يحكي واقعهم الاجتماعي، ولا تكاد تجد في إعلامهم صورة بعيدة عما هو واقع في مجتمعهم، بل ربما نقول العكس أنك تجد في مجتمعاتهم صوراً لا تنشر في إعلامهم أحياناً، فإعلامهم هين بالقياس إلى مجتمعهم، وليس يسعى إلى جر مجتمعهم إلى هوة سحيقة أسوأ مما هم فيه.
أما الإعلام في البلاد الإسلامية فهو على النقيض من ذلك، فهو مسلط على شعوب مؤمنة، الإسلام دينها وعقيدتها، والشريعة منهجها، والحشمة ديدنها وميراثها، فيتسلط هذا الإعلام ليخرج العذراء من خدرها، ويلقي بها في قارعة الطريق، يتسلط على عقول فتياتنا، حتى يقنع الفتاة بأن هذه الأشياء أفكار قديمة، وأنها يجب أن تواكب العصر، وتتحرر مما يسميه بالتقاليد القديمة، وهذا صحيح أنه قد لا يقال بهذه الحروف، لكنه يقال بلغة هي أفصح من هذه الحروف، ألا وهي لغة الصورة المعبرة، التي يكون تأثيرها أحسن من خطبة أو كلمة تقال أو تسمع.(78/7)
صور من المجتمعات المعاصرة
أريد أن أتحدث عن صور عديدة -بشيء من الاختصار- مع المقارنة مع أخلاقيات الإسلام وقيمه، وواقع الأمة الإسلامية خاصة في العصور الزاهية:(78/8)
القصور الشديد في تربية الأطفال
أنتقل إلى نقطة أخيرة وهي ما يتعلق بتربية الأطفال، قصة تقول: أن امرأة في مدينة شيكاغو -وهي مدينة معروفة بالجريمة- جردت أطفالها الخمسة الذين كانوا يتراوحون ما بين سنة إلى خمس سنوات، جردتهم من ملابسهم، وبدأت تضربهم وتكوي أبدانهم بأعقاب السجائر، وتعذبهم وتغلق عليهم الأبواب، وتجيعهم يوماً كاملاً، فبصر بهم رجل من الجيران، فجاء وأنقذهم، وبعدما سألوهم، تبين لهم أنهم طيلة ذلك اليوم لم يأكل الواحد منهم إلا بيضة واحدة، وأنهم تعرضوا لألوان من الضرب على يد أمهم.
وفي مدينة أوكلند أيضاً بكاليفورنيا، يقول: يوجد أكثر من أربعة ملايين طفل، يقضون أكثر من ثلاث ساعات في البيوت بمفردهم، وأعمارهم تتراوح ما بين ثلاث سنوات إلى سبع سنوات، يأتي من المدرسة قبل مجيء أبيه وأمه من العمل بأربع ساعات فيجلس في البيت، خاصة في أوقات الشتاء والبيت ظلام، والرياح تعصف، والأمطار تهطل، والمخاوف تحيط به من كل جانب، وهو طفل عمره أربع سنوات جالس في البيت لوحده.
وهل أتاك نبأ أطفال المفاتيح؟ وما أدراك ما أطفال المفاتيح؟! دهشت إحدى المعلمات حين وجدت أن أربعة وعشرين من بين ثمانية وعشرين من طلابها هم من أطفال المفاتيح! بمعنى أن الطفل بحكم أنه يخرج من البيت قبل والديه ويدخل قبلهما لا بد أن يكون معه مفتاح، يفتح البيت ويدخل، ويغلق على نفسه، ويجلس ساعات طويلة بانتظار مجيء أمه أو مجيء أبيه، وهذا يجعله عرضة للوقوع في الجرائم: جرائم الخطف، السرقة، المخدرات، احتمال الحرائق في البيوت حتى بلغ الحال في كثير من هؤلاء الصبيان، أن الواحد يغلق على نفسه دورة المياه حتى يأتي أهله، إذا نام فإنه يعيش في أحلام مزعجة، وبالتالي هذا الطفل حينما يكبر يقوم بسداد الديون لوالديه! فحين تنتقل إلى كبار السن تجد أن مصيرهم إلى دُور العجزة، وقد رأينا كثيراً من هذه الدور يرقد فيها الكثير من الكبار، أحسنهم حالاً يبتسم ويفتخر، حين يقول لك: إن ولدي بار بي أشد البر، فتقول له: كيف؟ فبقول: والله يزورني في العيد (عيد الكريسمس) -كما يسمونه- يزوره مرة في السنة! وآخر تعلو وجهه ابتسامة حين يتحدث عن ولده أيضاً بكل فخر؛ لأن ولده أرسل له بطاقة معايدة، وهذا ما زاره، بل أرسل له بطاقة معايدة في العيد فقط! وثالث يمكن أن يتصل به في الهاتف، وكفاه ذلك.
وفي مدينة، سان فرانسيسكو، رجل عمره خمسة وأربعين سنة، عاش على مدى خمس سنوات كلها يقضيها في الشارع، معه حقيبة فيها فراش للنوم، يقول: أما طعامي فإني آخذه من صناديق القمامة! وهذه لا تظنوها مبالغات، والله لقد رأيناهم! وقرأنا في الإحصائيات أنه يوجد في ولاية أكثر من خمسة ملايين يعيشون على الأرصفة من دون مأوى، ورأينا كثيراً من هؤلاء يتسولون في الشوارع، تعطيه قرشاً أو قريباً من ذلك، وبعضهم يفتش القمامة لعله يجد شيئاً يأكله! هذا في أرقى بلاد العالم تقدماً ورقياً وحضارة! إنهم يسددون الديون التي أخذوها من أطفالهم حين أهملوهم وتركوهم، هذا الرجل الذي تحدثت عنه هو واحد من أربعة آلاف رجل في مثل هذه المدينة.
وفي مقابل ذلك تجد العناية بالحيوانات -الكلاب والقطط- بشكل غريب، بل العناية بالدمى -التماثيل- بصورة أحياناً تدعو إلى الضحك: جلسات نفسية لهذه الدمى، مستشفيات خاصة، وعلاج وتجميل وترميم، وأشياء غريبة.
وفي مدينة من مدن أمريكا، قال لي بعض الشباب: لو ذهبنا لمشاهدة بعض مستشفيات الحيوانات! حتى نرى جزءاً مما أنعم الله به علينا من نعمة الإسلام والعقل، فقلت له: هلم، فذهب بي إلى مستشفى، وجدنا على مدخل هذا المستشفى المجلات الكثيرة المتخصصة في قضية الكلاب وأمراضها وعلاجها وكيفية التغذية، إلى غير ذلك، ثم جاء الطبيب المختص، وأخذ يذهب بنا إلى المستشفى ويشرح لنا: هذه الغرفة خاصة للعمليات، وهذه غرفة للمرضى، وهذه غرفة الطبيب، وهذه غرفة الأشعة، وهذا المختبر، وهذه غرف للترقيد، ووجدنا بعض النزلاء، حتى وجدنا أن امرأة كبيرة السن قد انحنى ظهرها، وهي تقوم بخدمة الكلاب، بالكنس والتنظيف وتقديم وجبات الطعام، وغير ذلك من الأشياء.
وأحياناً تدخل إلى الفندق، فتجد أن الكلب جالس على الكرسي، وأمامه الطاولة وأن الرجل صاحبه أو المرأة يأتي بالصينية عليها الطعام ويقدمها له، وأما الكلب فهو جالس يشاهد الشاشة، أصبح الرجل وأصبحت المرأة مجرد خدم لمثل هذه الحيوانات من القطط أو الكلاب أو غيرها! وسألتهم: هل هذا هو المستشفى الوحيد؟ وكانت تلك المدنية مدينة صغيرة جداً، سكانها لا يتجاوزون عشرين ألفاً، أو ثلاثين ألفاً، فقالوا لي: هذا المستشفى رقم عشرة! مدينة كهذه المدينة فيها عشرة مستشفيات مخصصة للكلاب! لكن كبار السن لهم دار واحدة للعجزة، يحشرون فيها حشراً ويهملون، حتى أولادهم هم أول من يتخلى عنهم! وهذا جانب يكشف نعمة الله بالإسلام علينا، وأننا يجب ألا ننخدع ببهرج الحضارة الغربية، فإنها تعيش أسوأ ظروفها، ولست أقصد أن كل ما عندهم شر أو سيء أو مذموم، كلا! لكن المؤسف أننا أصبحنا نحاول أن نأخذ منهم أسوأ ما عندهم، ونقلدهم في هذه الأمور المنحطة من أخلاقيات أو تقاليد أو عادات، أو تسريحات، أو أمور سيئة، أما القضايا الحيوية المهمة: قضايا العلم، قضايا الصناعة، قضايا الدقة، العناية بالإحصائيات، التقدم العلمي في كافة مجالاته، التنظيم، التخطيط، فكل هذه الأمور قد لا نفكر بأن نأخذها عنهم، فكثير من المسلمين أصبحوا يأخذون من عند هؤلاء القوم أسوأ ما عندهم، ويقلدونهم فيها، ويغضون الطرف عن الأشياء الحسنة التي يمكن أن تؤخذ، -كما قيل-: الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها.(78/9)
الامتناع عن تعدد الزوجات
صورة خامسة: تتعلق بتعدد الزوجات، وتعدد الزوجات عندهم ممنوع تماماً، ويستحيل أن تجد رجل هناك معه زوجتان، لكن لا غرابة أن تجد رجلاً يقيم العلاقة مع مئات من النساء، فتعدد الزوجات ممنوع لكن تعدد الخليلات والعشيقات أمر مباح! ومع الأسف أن هذا اللوثة انتشرت في عدد من البلاد الإسلامية.
حدثنا الشيخ يوسف القرضاوي، قال: حدثنا الشيخ عبد الحليم محمود -شيخ الجامع الأزهر سابقاً- قال: إنه زار أحد البلاد الإسلامية، ورأى فيها من قريب قصة طريفة وقعت، أنَّ رجلاً ثارت بينه وبين صديق له خصومة، فقال له صديقه: والله لأفضحنك وأوقعنك في فخ لا مخرج لك منه، قال: ما تصنع؟ قال: سوف أبلغ الجهات المختصة بأنك متزوج من اثنتين وفعلاً معه زوجتان، كل واحدة في بيت، يتردد على هذه يوماً وعلى هذه يوماً، فذهب هذا -الذي كان صديقاً له- إلى الشرطة وأبلغهم أن فلاناً مرتكب لجريمة ألا وهي أنه متزوج باثنتين، فراقبوه فترة، وفعلاً وجدوه يتردد على بيتين، فقبضوه متلبساً بالجرم المشهود، وبدءوا معه محضر التحقيق، لكن الرجل كان ذكياً وقد أعد للأمر عدته، فقال: لا! أنتم غلطتم علي، هذه زوجة فعلاً ولي منها أولاد، لكن هذه ليست زوجة وإنما هي صديقة، أقمت معها علاقة صداقة، فقالوا له: نحن آسفون ونعتذر! وأخرجوه وودعوه بكثير من الحفاوة والاعتذار إليه، فمادامت القضية قضية صداقة، فالحقيقة أننا أخطأنا، وما كنا نتصور هذا الأمر، والواقع أن فلاناً ضللنا وخدعنا إلى هذا الحد!! وهذه بلاد كان الإسلام يحكمها في يوم من الأيام! على مستوى الإعلام في البلاد الإسلامية كلها، نلاحظ قضية حرب التعدد بشكل عجيب، كما في المسلسلات الهادفة، فكل مسلسل يعرض أن تعدد الزوجات لا بد أن ينتهي بالفشل، وهروب الزوج، ومشكلات لا أول لها ولا آخر، وتشتت الأولاد وضياع الأسرة.
القصص المتداولة في المجتمع عن أن فلاناً تزوج اثنتين وما عدل، وهجر الأولى أو فعل بالأولى كذا، أو غير ذلك من القصص الذي يتداولها الناس إلى آخره.
أنا لا أنكر أن بعض ذلك حق، لكن أصل الزواج نفسه فيه مشاكل، فلو نظرت في حياة أي زوجين في الدنيا، لا بد أن تجد بينهم قدراً من المشكلات، وليس هناك زوجان يعيشان حياة هانئة (100%) فأصل الزواج لا يخلو من مشاكل، وإنما الزواج الذي نستطيع أن نقول: إنه سعيد أو ناجح، هو الذي يكون الغالب عليه الراحة نسبة (60%) أو (70%) هذا زواج ناجح، وإلا فهناك مشكلات معينة، فلا تكون المشكلة سبباً في أن الواحد يقول: ما أريد أن أتزوج! لأن فلاناً معه مشكلة مع زوجته أدت إلى الطلاق، كذلك لا ينبغي أن نقول: نحن نحارب تعدد الزوجات لأنه يوجد واحد عدد فما عدل -مثلاً- أو ظلم الأولى أو شرد الأولاد أو غير ذلك.
وعلى كل حال فإن الإحصائيات الغربية تقول: في أمريكا -مثلاً-، في بعض الولايات، نسبة عدد النساء إلى عدد الرجال نسبة (119) إلى (100) أي أن لكل مائة رجل مائة وتسعة عشرة امرأة، ومعنى ذلك بعملية حسابية في تلك الولاية لا بد من أحد أمرين: إما أن تبقى تسعة عشر امرأة بدون زوج، وإما أن يتزوجها رجل آخر، بحيث بصبح عنده زوجتان، وفي ولايات أخرى، أذكر منها ولاية مررت بها اسمها ولاية بسبرج، في هذه الولاية نسبة النساء إلى الرجال (160) إلى (100) يعني كل مائة رجل يقابلها مائة وستون امرأة، وهنا ندرك أنه لا بد من التعدد أو الضياع لهؤلاء النسوة.(78/10)
الاختلاط
الاختلاط بطبيعة الحال موجود عندهم في كل مكان: في العمل، في السوق، في السيارة، في القطار، في المدرسة ولكنهم مع ذلك بدءوا يدركون الآثار الاجتماعية والتعليمية والأخلاقية الضارة للاختلاط، فيسعون إلى إيجاد أماكن خاصة بالنساء، في مقابلها أماكن خاصة بالرجال.
على سبيل المثال في مدينة كولومبيا في أمريكا، زرناها وهي في ولاية نيزوري، فوجدنا فيها جامعة عريقة كبيرة خاصة بالفتيات لا يدخلها الرجال في مجال الدراسة، وسألت بعض الشباب، فقال لي: إنه يوجد في أمريكا ما يزيد عن سبعين جامعة على هذا النمط، جامعات خاصة للبنات.
هذا في الوقت الذي نجد فيه كثيراً من البلاد الإسلامية تخلو من إيجاد جامعات خاصة للبنات! ومثلما أوجدوا جامعات خاصة للبنات، فقد قرأت في الأخبار أنهم في ألمانيا أوجدوا فنادقاً مخصصة للنساء، وفي أكثر من بلد من البلدان الأوروبية أوجدوا مستشفيات ومستوصفات مخصصة للنساء، يعالج فيها النساء، أو تكون خاصة بمراجعة النساء فحسب.
ومع الأسف أنه في بعض البلاد الإسلامية التي تستطيع أن تفعل الكثير، يحتج بعض المسؤولين فيها؛ بأنه لا يمكن إيجاد مستشفى خاص بالنساء، لماذا لا يمكن إيجاد مستشفى للنساء؟ هل بسبب العجز المالي؟! المجتمع كله ينادي بذلك، المجتمع يتطلع إلى حماية النساء ووقايتهن من بعض الأوضاع السيئة في بعض المستشفيات، ثم نتعلل بذلك، بل أين أصحاب الأموال والاستثمارات الضخمة، عن إيجاد مستشفيات مخصصة للنساء، يأمن فيها المؤمنون على عوراتهم، على زوجاتهم، على بناتهم؟ إن هذا من الميادين التي هي من أعظم الثغرات الموجودة في مجتمعاتنا.(78/11)
الطلاق في مجتمعاتنا
في مجتمعاتنا اليوم أيها الإخوة: لا شك أن نسبة الطلاق ارتفعت لكن مهما كان الأمر، فإن الفرق كبير مقارنة بأحوال الغرب، فالنسبة عندنا ترتفع لكنها لا تزال أدنى بكثير من هذه النسب الموجودة ببلاد الغرب وبمراحل، وإن كانت الأسباب هي هي، تنوعت الأسباب والموت واحد، فإن أسباب الطلاق في مجتمعاتنا تمت بسبب إلى أسباب الطلاق إلى مجتمعهم: فالرجل الذي يكثر من النظر إلى النساء ذاهبات وآيبات، فإنه يصبح عنده تذوق لجمال النساء وطولهن وقصرهن وأشكالهن وهيئاتهن، يبدأ بعد ذلك سلسلة من المقارنة بين من يرى من النساء وبين زوجته، وهي مقارنات غير صحيحة؛ لأن الرجل قد يرى من المرأة جوانب تعجبه، ولا يدرك الجوانب التي لا ترضيه، حتى أن من الطريف أن رجلاً معروفاً كان يكثر من النظر إلى النساء، وإن كان رجلاً عفيفاً في فرجه، لكنه يطلق بصره، ففي يوم من الأيام رأى في الشارع امرأة فتعلق قلبه بها فرجع إلى بيته، وهو حزين مهموم ضيق الصدر، فلما قدمت له زوجته الغداء، رأت عليه آثار الهم، فبدأت تسأله لكن لم يجبها، فأصرت عليه، فلما رأى إصرارها أخبرها بالأمر، وقال: إنني نظرت إلى امرأة، فتعلق قلبي بها وهذا هو السبب، فضحكت في وجهه، وقالت: والله! أنا تلك المرأة؛ لأنني أعرف أنك تنظر إلى النساء، وأن الشيطان يزين لك صورة المرأة الأجنبية البعيدة بخلاف المرأة المتاحة التي هي في إمكانك وفي متناولك، فتنكرتُ وتلبستُ بثياب جميلة، وعرضت لك حتى يكون في هذا لك درس أي درس! فطموح النظر من أسباب الطلاق.
كذلك فقدان العلاقة الزوجية العاطفية الوجدانية هو من أسباب الطلاق أيضاً، فإن الزواج عقد مقدس، وهو رباط بين قلبين قبل أن يكون رباطاً بين الجسدين.
ومنها أيضاً عدم الثقة بالمرأة، أو عدم ثقة المرأة بزوجها هو من أسباب الطلاق، المشاكل العادية الصغيرة من أهم أسباب الطلاق، وقليل من حالات الطلاق يكون بسبب مشكلة مزمنة، تتطور وتمتد وتكبر، لكن معظم حالات الطلاق تكون نتيجة مشكلات صغيرة جداً، تكثر ثم تكثر ثم تتراكم، حتى تكون النهاية هي كسر العلاقة الزوجية.
الأعصاب المشدودة عند الزوج، وكونه متهيئا لأن يُطْلِقَ بكلمة "طالق" في كل وقت، هذا أيضاً من أسباب الطلاق، ولذلك من المفروض في الإنسان أن يحكم نفسه بالحكمة والصبر.(78/12)
الإسلام يحترم المرأة
إننا نجد في الإسلام أن المرأة تجلس متربعة على عرش بيتها، تقوم على رعاية أسرتها وأولادها، والرجل يقوم بخدمتها ويذهب ليكدح في الليل والنهار، ويتعب ويعرق من أجل أن يحصل لقمة العيش لها وله ولأولادهما، وهذه في الواقع درجة من رعاية المرأة لا توجد في أي دين آخر ولا في أي مذهب، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره، أنه قال: {دينار تنفقه في سبيل الله، ودينار تتصدق به على مسكين، ودينار تعتق به رقبة، ودينار تعطيه زوجتك، أو تنفق منه على زوجتك: أفضلها الدينار الذي تنفق منه على زوجتك} فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الزوجة جزءاً من واجب الرجل، واعتبرها قربة وطاعة لله عز وجل يثاب عليها، وفي الحديث الآخر لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النفقة، قال: {حتى اللقمة يضعها الرجل في فيِّ امرأته صدقة} والحديث له معنيان: المعنى الأول: أن الرجل يكدح من أجل لقمة العيش التي يقدمها لزوجته، ويتعب، وفي النهاية يستلم الراتب، فيشتري به حاجيات ومتطلبات للبيت، أو للمرأة خاصة أو للأطفال، والمرأة حتى لو كانت امرأة عاملة: مدرسة أو مربية أو غير ذلك، فإن الزوج لا يمكن أن يطالبها -إلزاماً- بأن تنفق على البيت أو على شيء منه، بل كثير من الرجال يأنف أن تنفق الزوجة على البيت، حتى ولو أرادت هي بذلك فإنه يمنعها، ويقول: لا أريد شيئاً من هذا المال، فهو لك أنفقيه أو تبرعي به.
أما تكاليف البيت وما يتعلق به فإنها إلي.
فالجانب الأول: لقمة تضعها في فيِّ امرأتك وأنت تذهب وتكدح للإنفاق على البيت.
الجانب الثاني: وقد أشار إليه بعض الشراح، قالوا: هذا تعبير من الرسول صلى الله وعليه وسلم عن شدة حفاوة الرجل بزوجته، حتى إنه أحياناً قد يصنع لها الطعام، وقد يقدم لها اللقمة، ويضعها في فمها فعلاً، وهذه صورة المقصود من ورائها التعبير عن شدة الروابط بين الزوجين إلى هذا الحد الذي يضع الرجل اللقمة في فم امرأته.
وهذا ليس بغريب! فقد كان بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أزواجه -خاصة عائشة رضي الله عنها- من العلاقة الحميمة والود الغامر الشيء العظيم الذي لا يكاد يوصف أو يذكر، أما هناك -عند الغرب- فإن هذا التكافل الموجود في الإسلام غير موجود عندهم، فإن كل شيء بمقابل، ولعل من الطريف أن نعلم أنه حتى الموت بمقابل، لا تعتقد أنك تستطيع أن تموت بالمجان، كلا! فإن تكلفة الموت حسب إحصائيات دقيقة ألفين ومائتين وخمسة وثمانين دولار، هذه تكلفة الموت أما مجموعة التكاليف بما فيها الكفن والدفن والقبر، لأنه لا بد أن تشتري القبر الذي سوف تدفن فيه، وهذه ليست بنكت، هذه حقائق، مجموع تكلفة الإنسان تتراوح بحسب الطبقة -إن كان غنياً أو فقيراً- تتراوح ما بين ستة آلالف إلى عشرة آلاف دولار! يموت الإنسان بستة آلاف إلى عشرة آلاف دولار، فكل شيء عندهم بمقابل، ليس عندهم شيء يدخل في باب التبرع أو الإحسان أو الإنفاق أو الاحتساب لله تعالى، فهم قوم ماديون بكل ما تحمله الكلمة من معنى.(78/13)
ارتفاع نسبة الطلاق
الصورة الرابعة: وهي الطلاق، في عام (1900م) كان الطلاق (10%) قفزت النسبة في عام (1948م) لتصبح (40%) أما الآن فنسبة الطلاق في أمريكا تتجاوز (70%) من الزيجات تنتهي بالفشل والطلاق، والأسباب معروفة: منها: الخيانة الزوجية، وقد ذكرت لكم سلفاً أن نسبتها (75%) للمتزوجات، أيضاً: التكاليف الباهظة في وقت ليس لدى الرجل استعداد لتحمل أية مسؤولية لا عن الزوجة ولا عن الأطفال، فهو يريد أن يستمتع بالمرأة، لكن لا يريد أن تنجب، وإذا أنجبت لا يعترف بهذا الولد، ولا ينفق عليه.
من الأسباب أيضاً: العمل: فالرجل يعمل والمرأة تعمل، وبالتالي ليس بينهما علاقة زوجية حقيقية.
كذلك من الأسباب: استرجال المرأة بحيث أن الرجل لا يستمتع بها، وأذكر أن رجلاً أمريكياً أسلم، وكان عنده زوجة أمريكية، فعاش معها صعوبات شديدة، وفي النهاية آل الآمر إلى الطلاق، والطلاق عن طريق المحكمة طبعاًً، ثم ذهب هذا الرجل المسلم يبحث عن زوجة بديلة، فتزوج امرأة مسلمة من جنوب شرق آسيا، ولما تزوجها قال: والله العظيم أصبحت أحس كأن المرأة الأولى التي عشت معها رجل تماماً، ولم أعرف معنى المرأة إلا الآن، وأدركت الآن كيف تكون المرأة، أي بما فيها من تذلل للرجل، وتواضع له، وخدمة وتحبب وتقرب إليه.
وهذه هي الميزة التي تميز المرأة، وكلما كانت المرأة كذلك كان هذا أدل على كمالها، فإن كمال المرأة في هذا الضعف التي تتميز به عن الرجل، وليس كمال المرأة في استرجالها وتقمصها لأخلاق الرجال وصفاتهم، ولذلك كان العرب يعيبون المرأة بكونها امرأة مسترجلة.
ومن الأسباب أيضاً: ضعف الحوافز، فما الذي يغري الرجل أن يبقى مع المرأة، مادام يجد المرأة في كل مكان، ويستطيع أن يرضي غريزته بأحسن منها وبأجمل منها، وبأعداد كبيرة من النساء، وبنفس الوقت هو ليس لديه معاني أخلاقية ولا مثل يرعاها، فما الذي يغريه أن يبقى تحت سقف واحد مع امرأة؟ بل يؤول الأمر أجياناً كثيرة إلى الطلاق، ولأن الطلاق قد يكون فيه صعوبة، يؤول الأمر إلى أن الرجل يضرب المرأة ضرباً مبرحاً، حتى تطالب هي بالطلاق، ومن النساء من تموت تحت الضرب، وقد يعمد الرجل إلى قتل امرأته أو إحراقها حتى يتخلص منها، وفي هذا معلومات وقصص وإحصائيات تثير العجب وتدعو إلى الذهول!(78/14)
عمل المرأة
الصورة الثالثة: قضية عمل المرأة، المرأة في بلاد الغرب تضيع في دخان المصانع، وتعمل ليل نهار، وتعودت على حمل الأثقال، وعلى القيام بالأعمال الشاقة التي لا يعانيها إلا كبار الرجال، ومع ذلك كله فإنها لا تأخذ من الراتب إلا نسبة (60%) من راتب الرجل! لماذا تعمل المرأة في بلاد الغرب؟ الأمر الأول: تعمل لتثبت شخصيتها، وإن لم تكن بحاجة لذلك لكن يهمها أن تثبت شخصيتها، وهذا من أثر شعورها بأن الرجل متقدم عليها، فهي تحرص على أن تثبت شخصيتها.
ولذلك يقول بعض المفكرين: هل من قبيل المصادفة أن تصبح المرأة -حتى لو سلمنا لدعاة التغريب- مغلوبة مهضومة على مدار التاريخ، هل من قبيل المصادفة أنه على مدار التاريخ المرأة دائماً هي المغلوبة؟ لماذا لم نجد في عصر من العصور أو في مجتمع من المجتمعات أن الرجل أصبح مستضعفاً مغلوباً، وأن المرأة قد بخست الرجل حقوقه ومنعته بعض ميزاته وصلاحياته؟ فهذا دليل على أن المرأة خلقت لمهمات معينة، والرجل خلق لمهمات أخرى.
الأمر الثاني: الذي يدعو المرأة إلى العمل في بلاد الغرب هو: الحرص على الأمن، أحد الشباب يسأل موظفة في مطار نيويورك تعمل أحياناً إلى أربعة عشر ساعة في اليوم والليلة، فيقول لها: هل أنت مرتاحة في هذا العمل؟ تقول له: هذا العمل أفضل لي من غيره، وإن لم أكن مرتاحة فيه، ثم يقول لها: ما وجه ارتياحك لهذا العمل أو تفضيلك له؟ تقول: أهم شيء عندي هو أنني أقضي جزءاً من وقتي خلال هذا العمل، فأتخلص من الفراغ، الأمر الثاني: أنني خلال قيامي بهذا العمل، أحتك بالناس، وهذا يسألني، وهذا أقوم له بعمل معين، فهو أفضل من الانفراد، جانب ثالث: وهو المهم، أنني أشعر من خلال قيامي بالعمل بشيء من الأمن، فإنني إذا خرجت إلى المجتمع، تخطفتني العصابات اللصوص والمغتصبون وغيرهم، فهي تخاف، أما داخل المطار، فهي تحس بشيء من الأمن، ولذلك تفضل هذا العمل.
الأمر الثالث: أن المرأة لا بد أن تقوم بواجباتها، وتنفق على نفسها، فالرجل يخدم نفسه، والمرأة تخدم نفسها، خلافاً لما نجده في الإسلام.(78/15)
الإسلام والعلاقة الزوجية
من هنا ندرك جانباً من حكمة الإسلام في حجاب المرأة وسد المنافذ المحرمة -كما أسلفت- الأمر الذي يقوي العلاقات والروابط بين الزوجين، حتى يصبح الرجل عند المرأة ذا مكانة كبيرة، وكذلك المرأة، إلى حد أنه ورد -كما في سنن ابن ماجة وغيره- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن للرجل من المرأة شعبة ليست لأحد} أي أن للرجل عند المرأة مكانة ليست لأحد غيره، حتى أخوها ليس في مكانة زوجها، وإنما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك {حينما قبل لـ حمنة بنت جحش: احتسبي عند الله أخاكِ، فإنه قد قتل، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم قيل لها: احتسبي عند الله زوجك، قالت: واحزناه! وولولت تبكي رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن للرجل من المرأة شعبة ليست لأحد} فالعلاقة حميمة قوية وطيدة؛ لأن الإسلام قصر الرجل على المرأة، والمرأة على الرجل.
ومن أبرز المميزات التي توصف بها النساء أنهن قاصرات، أي قصرن طرفهن على أزواجهن، فأصبحن لا يطمحن إلى غيره، وكذلك الرجل قصر طرفه وهمه على ما أحل الله تبارك وتعالى له , وأعرض عما حرم الله، فكان هذا سبب في قوة الارتباط وشدته.
ولذلك ورد في صحيح مسلم حديث فيه عبرة، عن جابر رضي الله عنه {أن النبي صلى الله وعليه وسلم خرج في يوم من الأيام فرأى امرأة في السوق فأعجبته، فدخل عليه الصلاة والسلام إلى بيته، فجاء إلى زينب بنت جحش وهي تشتغل في جلد تصلحه، فدعاها وقضى صلى الله وعليه وسلم حاجته منها، ثم خرج وقال لأصحابه: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه} .
إنه صلى الله وعليه وسلم بذلك يشير إلى أن المرأة بطبيعتها ذات إشارة للرجل، فمشاهدة صورة المرأة بالنسبة للرجل بحد ذاته فيه إثارة حتى ولو كانت محجبة، فكيف إذا كان عندها شيء من السفور أو التبرج أو التعطر أو التغنج أو محاولة العبث بمشاعر الرجال، فحينئذٍ يكون الحل الشرعي هو أن الإنسان يذهب إلى ما أحل الله تبارك وتعالى له: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6] .
ففرق أي فرق بين من يرى صورة المرأة، فيركض وراءها، ولا يبالي أذلك حلالاً أم حراماً، وبين إنسان إذا رأى أي أمر يثيره، ويهيج غريزته وعاطفته، فإنه يذهب إلى أهله ويتذكر أن الله سد عليه باب الزنا، وفتح له باب النكاح الشرعي.
ومن جانب آخر أوصى الإسلام الرجل بالمرأة كما أوصى المرأة بالرجل، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: {استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها} وفي الحديث الآخر: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر، استوصوا بالنساء} يعني اقبلوا وصيتي فيهن، وأوصوا بعضكم بعضاً بهن، فإنهن بحاجة إلى الوصاية.
وحين يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة بالضلع، فإن هذا من وضوح الإسلام وصراحته في تصوير طبائع النفوس البشرية، فإن هذا يجعل الرجل يدرك أن الحياة الزوجية لا بد فيها من تنغيص، وتكدير، وأن المرأة لا يمكن أن تأتي له على ما يريد، كما أنه هو لا يمكن أن يأتي لها على كل ما تريد، فلا بد أن يقدم هو بعض التنازلات، وتقدم هي بعض التنازلات، حتى تستقر الحياة الزوجية، وتخف فيها المشكلات، وكما نقل الإمام ابن قتيبة، عن بعض الشعراء قولهم في وصف المرأة: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا أن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفاً واقتداراً على الهوى أليس غريباً ضعفها واقتدارها يعني بذلك أن المرأة فيها ضعف من جانب، وهو أنها خلقت من ضلع أعوج، أو هي كالضلع كما ورد في بعض الأحاديث، وبالمقابل فيها قوة من جانب آخر، قدرة على احتواء الرجل وعلى غلبته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن} يغلبن الرجال فهن أغلب، وهذا جانب قوة.
أتجمع ضعفاً واقتداراً على الهوى أليس غريباً ضعفها واقتدارها(78/16)
آثار الزنا
وآثار الزنا معروفة، ويكفي فيها انتشار الأمراض، الهربس وهو مرض مستعصي على العلاج، ومن أسوأ آثاره أنه سبب رئيسي للإصابة بسرطان الرحم.
الإيدز وهو الذي ينتشر الآن بصورة وبائية فتاكة لا يمكن مواجهتها، وهو مرض فقدان المناعة، ويكفي أن تعلموا أن أكثر من (90%) -عموماً- مصابون بأمراض جنسية! ولو لم تكن كهذه الأمراض الخطيرة.
ومن الأمور الغريبة أن المصابين أو المصابات بالذات بمرض الإيدز يحرصن على الانتقام من الرجال، قرأت قصة في أحد الكتب، يقول: إن رجلاً عربياً من الأثرياء، أصحاب الجيوب المليئة، ذهب إلى زيارة أحد الدول الأوروبية، فلما دخل المطعم وجد في أول المقاعد امرأة جميلة جالسة، وبجوارها حقيبتها ومعها كلبها، فنظر وتقدم إليها وصافحها، وسألها: هل يمكن أن يقدم لها شيئاً من الطعام أو غيره؟ فوافقت فأحضر لها الطعام والشراب وغير ذلك، ثم اقترح عليها أن تذهب معه إلى غرفته في الفندق، فوافقت أيضاًَ، وباتت معه تلك الليلة، وارتكب معها ما حرم الله عز وجل ثم نام، فلما استيقظ في الصباح، لم يجد المرأة إلى جواره، فقام مسرعاً يبحث عنها في الغرفة فلم يجدها، فخرج خارج الغرفة في السيب فلم يجدها أيضاً، فدخل وهو حزين كئيب، فأراد أن يغسل يديه ووجهه في دورة المياه، فلما دخل وجد زجاجة المغسلة مكتو ب عليها بقلم الروج، "مرحباً بك عضواً جديداً في نادي الإيدز".
فهذه المرأة مصابة بالإيدز، ومن المعروف أنه ينتقل عن طرق عديدة منها المعاشرة الجنسية، فهي تصطاد الرجال بهذه الطريقة لتوقعهم في شراك هذا المرض الخطير الفتاك، ثم تعبث بهم وتشمت بهم، وتنتقم منهم بهذه الطريقة الرهيبة.(78/17)
انهيار العلاقات الزوجية
جانب آخر فيما يتعلق بصور من الحضارة الغربية، موضوع العلاقات الزوجية، بعد أن تظفر الفتاة بالزوج، بعد جهد جهيد، ما الذي يحدث؟ يحدث أن هذه العلاقة سرعان ما تضعف وتزول، وذلك لأسباب:- منها: أن الرجل يجد المرأة على قارعة الطريق مهيأة له، فيبدأ بالمقارنة، ولا بد أن يجد له في السوق أو في الشارع أو في ميدان عمله امرأة تكون أحسن من زوجته، فيصرف النظر عن زوجته، ويصبح لا يطيق البقاء معها.
ومن جانب آخر: المرأة مسترجلة، المرأة في كثير من الأحيان أخذت عادات الرجل وأخذت أخلاقه، فأصبحت كأنها رجل آخر تقوم مقام الندية له، ففقد المجتمع التكافل، ولذلك تجد حين يذهب الرجل وزوجته إلى المطعم، ويأتون بالطعام -لأنهم في الغالب لا يأكلون في البيوت بل يأكلون في المطعم- تجد الرجل يدفع عن نفسه، والمرأة تدفع عن نفسها، وكل واحد يدفع قيمة الطعام الذي أكله! فغير واردٍ في الحسبان أن الرجل يدفع عن زوجته أو العكس، بل كل واحد مسؤول عن نفسه.
الرجل حينما يستقدم ضيوفاً في بيته، فليس من عاداتهم أن المرأة تقوم بالطبخ للضيوف، لا! بل هو يطبخ لضيوفه، وهي إذا استقدمت ضيوفاً تطبخ لضيوفها أيضاً، لا تكلف زوجها أن يقوم بالنيابة عنها، وكل واحد مسؤول عن أموره الخاصة، وليس هناك أي مسؤولية أو قوامة، بل العلاقة بين الزوج وزوجته علاقة آلية بحتة.
يقول مدير البعثات المصرية في فترة من الفترات في أمريكا: إنه دعي إلى حفلة من الحفلات هناك، وصادف أن زوجته كانت مريضة في تلك الليلة، فاتصل بالمسؤولين عن تنظيم الحفلة، وقال لهم: لا أستطيع حضور الحفلة؛ لأن زوجتي مريضة، ولا أريد أن أحضر، فقالت له -التي تنظم الحفلة-: لا بد أن تحضر أنت ولو بدون زوجتك، وقد كان حظنا سعيداً -تقول- لأن هناك امرأة سوف تحضر إلى الحفلة قد مات زوجها اليوم، فمن حسن الحظ أن تحضر أنت حتى تكون رفيقاً لها! أي أن هناك امرأة مات زوجها الآن، وفي المساء سوف تحضر حفلة، وكل ما في الأمر أنها تجد رجلاً آخر يكون رفيقاً لها خلال هذا الاحتفال!! فأين الروابط العميقة التي تربط بين الزوجين؟! وأين العلاقات التاريخية العميقة؟! أين العلاقات التي تمتد من الدنيا إلى الآخرة؟! حتى إن الزوج الذي هو زوج لامرأته في الدنيا هو زوج لها في الجنة إذا كانوا من أهل الجنة، فهي علاقة راسخة تتجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، وعلاقة عميقة، أما هؤلاء فهي علاقة آلية شكلية بحتة، المرأة يموت زوجها في الصباح، وفي المساء تذهب لتحضر احتفالاً من الاحتفالات.
وحدثنا الشيخ الإمام الأستاذ سيد قطب رحمه الله وجادة في كتابه: أمريكا التي رأيت، يقول: إنه ذهب إلى امرأة أمريكية فجلس عندها، فوجدها تتحدث مع زميلة لها، وهو ما سمع أول القصة، لكن سمع آخرها، فسمعها تقول لها: من حسن حظي أنني كنت مُؤمِّنَةٌ على حياته -أي سجلته في شركة التأمين- ولذلك لم يكلفني علاجه حين المرض إلا تكلفة زهيدة جداً من خلال الهلال الأزرق -كما يسمونه- فكانت التكلفة بسيطة جداً وكذلك لما مات كانت تكاليف الدفن وغيرها بسيطة، لأن الشركة المؤمنة قامت بهذه التكاليف، قال: ثم ابتسمت ضاحكة، وخرجت بكل برودة، فيقول سيد رحمه الله: لم يخطر على ذهني إلا أنها تتحدث عن كلبها، لأنها تتكلم بصورة باردة لا مبالاة فيها، فسألت المرأة الأمريكية: عن ماذا تتحدث صديقتك؟ قالت: إنها تتحدث عن زوجها الذي مات منذ ثلاثة أيام، كل ما في الأمر أنها ما تكلفت في تكاليف العلاج ولا في تكاليف دفنه، والأمر بالنسبة لها أمر هين جداً.
هذه العلاقة الجافة الآلية الباردة هي سبب للسفاح، والسفاح أيضاً -وهو الزنا- سبب لها، فحسب الإحصائيات والمعلومات الموثقة المؤكدة، أن (100%) من النساء هناك قبل الزواج يمارسن الزنا بدون أية صعوبة في ذلك، بل إننا نجد أنهم في عاداتهم وتقاليدهم، ليس عندهم وفي قاموسهم معنى لكلمة العرض أو الشرف التي يفتخر بها المسلم، بل يفتخر بها الإنسان السوي، فهذه الكلمة ليس لها وجود في قواميسهم، لا يقابلها كلمة تترجم إلى معانيها، وهذه قضية قديمة عند الرومان والإفرنج، فإننا كنا نسمع الأمهات -كما ذكر لي أحد الخبراء- تدعو على طفلها أحياناً إذا بال وتقول له: عطاك الإفرنج! فما هو الإفرنج؟ يقول: الإفرنج هذا عبارة عن مرض من الأمراض الجنسية، وهو مرض الزهري تقريباً، فكانت الأم تدعو على ولدها بهذا المرض، وإنما سمي بالإفرنج، لأن الإفرنج لما جاءوا إلى البلاد الإسلامية كان هذا المرض متفشياً فيهم؛ لأن الزنا عندهم مستباح منذ عهود قديمة، فهي كما يقال: شنشنة أعرفها من أخزم.
أما بعد الزواج، فقد تقل نسبة الخيانة عندهن إلى (75%) وهذا أيضاً حسب إحصائيات ومصادر رسمية موثقة عندهم.(78/18)
هدي الإسلام
في مقابل ذلك، ننظر في هدي الإسلام فنجد عائشة رضي الله عنها تقول كما في صحيح مسلم: {تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، أي عقد عليها وهي بنت ست سنين، ودخل عليَّ وأنا بنت تسع سنين} تقول: {قدمنا المدينة، فأصابتني الحمى فامرق شعري -تمزق شعرها- فتركتها أمها - أم رومان - حتى نبت شعرها ووفى جميمة -كثر شعرها شيئاً ما- قالت: فما راعني إلا وأمي تصرخ بي، وأنا ألعب مع بنات في أرجوحة -هذه أم المؤمنين تلعب وعمرها تسع سنوات في أرجوحة مع مجموعة من زميلاتها، فأمها - أم رومان - تصرخ بها: يا عائشة -فتأتي إليها تقول: فلما أتيت إليها- وأنا لا أدري ما تريد- أخذتني، فإذا بنسوة من الأنصار، فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني -غسلن شعرها ورأسها ومشطنها وسرحنها وألبسنها- ثم قلن لي: على اليمن والبركة وعلى خير طائر، فلم أرع إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمنني إليه في الضحى} فهذه أم المؤمنين تتزوج وعمرها تسع سنوات، وكانت خير زوجة لخير زوج صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها.
في مجال الفتيات يأمر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أولياء الأمور: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلو تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} فيأمر الفتاة وولي أمرها أن يكون مقياسهم وهو من يرضى دينه وأمانته فيزوج، وهذا فيه أمر بالتزويج بمعنى عدم تأخير الزواج، وفيه أمر أن يكون المقياس في اختيار الزوج هو من يرضى دينه وترضى أمانته.
وفي مجال الرجال يأتي عبد الرحمن بن عوف في يوم من الأيام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وعليه أثر صفرة، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: {مهيم -أي ما شأنك؟! - فيقول: تزوجت يا رسول الله} لقد مكث في المدينة أياماً يضارب في السوق، لأنه تاجر يتقن فن التجارة، ثم يكسب المال ويتزوج بعد ذلك فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: {ما هذا؟ - لأنه وجد الطيب- قال: تزوجت يا رسول الله، قال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال عليه الصلاة والسلام: بارك الله لك! أولم ولو بشاة} أي اصنع وليمة، فخلال أيام يتزوج عبد الرحمن بن عوف! جاءت امرأة في يوم من الأيام -كما في الصحيحين أيضاً من حديث سهل بن سعد - إلى رسول الله صلى الله وعليه وسلم، وقالت: {يا رسول الله! جئت أهب نفسي لك، فصعد فيها النظر وصوبه -نظر إليها، فكأنها لم ترقه صلى الله عليه وسلم! لأن الجمال بطبيعة الإنسان مطلوب- فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، قال: التمس -اذهب وابحث عن مهر- التمس ولو خاتماً من حديد، فما وجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم أحفظ سورة البقرة وآل عمران وسورة كذا وسورة كذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن} أي: تعلمها هذه السورة وتحفظها إياها، وهذا مهرها الذي تدفعه لها.
إذاً حتى هذا الرجل عندما قال له: {التمس، قال: ما عندي إلا إزاري -أي ما عنده إلا ثوبه، يريد أن يعطيه مهراً للمرأة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أعطيتها إزارك بقيت لا إزار لك فما تصنع بإزارك، إن لبسَتْه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء} .
إذاً الرجل يشعر بأهمية الزواج والمبادرة فيه إلى حد أنه مستعد أن يتخلى عن نصف إزاره كمهر للزواج، فأين هذا من كثير من الشباب الذين يماطلون في قضية الزواج بكافة الحجج التي هي في كثير من الأحيان قد تكون أوهاماً أكثر مما تكون حقائق؟! يريد أن يتخرج، ثم يبني بيتاً، ثم يكون له محل يضمن له إيراداً طيباً، ثم بعد ذلك يبدأ بالبحث عن المرأة التي قد تستغرق سنوات، وهكذا الفتاة، تقع عندها في كثير من الأحوال نفس التصورات، تنتظر مرة بعد أخرى، تريد أن تتخرج، ثم تريد أن تعمل، وهكذا يتقدم السن بالشباب والفتيات دون زواج.
أما أولياء الأمور فأمرهم شأن آخر، ويعجبني ما قرأته في بعض كتب الأدب، يقولون: إن علياً رضي الله عنه لما ماتت زوجه فاطمة رضي الله عنها اليوم، تزوج في الليل، فقيل له: كيف تزوجت؟! قال: خشيت أن ألقى الله وأنا عزباً!، يشعر أنه وهو يتزوج يقوم بعبادة لله عز وجل، ويمارس شعيرة مقدسة، وليست مجرد قضاء الوطر أو الشهوة الجسدية فحسب.(78/19)
العزوف عن الزواج
الصورة الأولى: تتعلق بظاهرة العزوبة عند الغربيين: فقد دلت الإحصائيات على أنه في عام (1980) ميلادية، كان هناك أكثر من (50%) من الفتيات ما بين سن عشرين إلى خمسة وعشرين سنة، وهن عازبات غير متزوجات، وارتفعت هذه النسبة عام (1984) ميلادية لتصبح (56%) أما الآن فالنسبة أكثر من (70%) بالمائة منهن! وخلال زيارتي لإحدى تلك البلاد، يقول لي أحد الشباب: إن إحدى الفتيات الغربيات الأمريكيات تقول له: إننا نعيش أزمة حقيقية، فالفتاة ليس من السهل أن تحصل على زوج صدقني! إنني عرضت نفسي على أحد الشباب هناك، فكان يقول لها: عندي إحدى عشرة فتاة موجودات في القائمة وأنت رقم اثنى عشر في القائمة، بعد تصفية إحدى عشرة فتاة، إذا ما صلح لي واحدة منهن فيمكن أن يأتي الدور عليك! فهذا الشاب يعبث بكرامة تلك الفتيات، ويأخذ أعز ما لديهن، ثم يلقي بهن ويذهب إلى أخريات، وهكذا دون حسيب أو رقيب أو مسؤولية معينة تمنعه من مثل هذه العمل، والفتاة ترضى أن تكون رقم اثنى عشر على رأس قائمة عند شاب، وتنتظر هذا الانتظار الطويل، حتى تحصل على زوج، وسوف نعرف كيف تكون حياتها مع هذا الزوج، على فرض أنها حصلت عليه.
حين نقارن هذا الوضع بوضعنا الحالي نجد أنه بدأ يتسرب إلى بلاد المسلمين، فأصبحت كثير من الفتيات تعيش عزوفاً عن الزواج لأي سبب من الأسباب، ولست هنا أُحَمِّل الفتيات المسئولية الكاملة، ولكنني أقول الجميع مسئولون، فأولياء الأمور مسئولون، والشباب مسئولون، والفتيات أيضاً يتحملن جزءاً من المسئولية في مسألة تأخر الزواج والعزوف عنه.(78/20)
الأسئلة(78/21)
دور الشباب
السؤال
ما هو دور الشباب الملتزم تجاه هذا الحادث الذي حل هذه الأيام بالأمة؟
الجواب
في الواقع أن جزءاً من الدور تبين سابقاً، أن يقوم الإخوة الشباب بصفة خاصة وغيرهم من المسلمين بنجدة إخوانهم ويهبوا لنصرتهم وغوثهم ومساعدتهم بما يحتاجون إليه من الأموال أو غيرها، ومساعدتهم بالتوجيه والإرشاد، فإن الطرق يكون حينئذ والحديد ساخن، والتقبل أكبر وأكثر، وهذا جزء كبير من الواجب.
الواجب الثاني: هو الصبر، فإن الله تعالى تعبدنا بالصبر، وجعله صفة من أخص وأعظم صفات المؤمنين، وأمرنا بأن نتواصى به قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فإن المؤمن يجب ألا تستفزه الأحداث، ولا تخرجه عن طوره، ولا تجعله يتصرف بلا وعي، بل ينبغي أن يصبر ويتريث حتى تنكشف له الأمور، ويقدم على بصيرة، أو يحجم على بصيرة، وينتظر حتى تنجلي عما تنجلي عنه.
الأمر الثالث: هو الدعاء، فإن الدعاء من أعظم الأسلحة: أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجل وللأجل انقضاء فالدعاء سلاح من أعظم الأسلحة، وينبغي أن نتترس به ونتدرع به، فيقوم العبد لله عز وجل ويبكي بين يديه، ويدعو الله بتفريج كروب المكروبين ونصر المسلمين، ورفع راية الدين، ودحر المعتدين، وأن يعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويكون صادقاً في دعائه مع الله تعالى، فهذا من أعظم الأسلحة التي ينبغي للمؤمن أن يقوم ويتعبد بها.
والحمد لله رب العالمين.(78/22)
أعمال الإغاثة
السؤال
هل التطوع في أعمال الإغاثة والمساعدة يعتبر من الجهاد في سبيل الله؟
الجواب
لا شك أن المؤمنين كما أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} وهم: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً} فالمؤمن يحزن لحزن أخيه ويفرح لفرحه، ويقوم بما يستطيع من مساعدته سواء بنفسه أو بماله أو بجاهه أو بما يملك، ولذلك {من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه، ومن ستر مسلماً ستره الله، ومن أعان مسلماً أعانه الله تعالى} .
فالمؤمن يحس بآلام إخوانه المؤمنين، وأنه حين يغيث ملهوفاً أو منكوباً، فإنه ليس يقدم تطوعاً كما عبر الأخ السائل، بل يقوم بواجب، كما أنه لو حدث له مثل هذا الموقف، لكان بحاجة إلى من يساعده في ذلك.
وحين يحتاج الناس إلى من يطعمهم؛ يجب على المسلمين أن يطعموهم، وحين يحتاجون إلى من يكسوهم؛ يجب على المسلمين أن يكسوهم، وحين يحتاجون إلى من يساعدهم؛ تجب مساعدتهم.
حتى قال بعض أهل العلم: إن الإنسان لو لم يعط حقه؛ أخذه بالقوة.
واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سألوه وقالوا: {يا رسول الله! إنا ننزل على أقوام فلا يأمرون لنا بما ينبغي للضيف -ما يعطوننا القرى والضيافة اللازمة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا نزلتم على أقوام فأعطوكم ما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يعطوكم ما ينبغي للضيف فخذوا منهم} أي تأخذون منهم ما تحتاجونه مما هو واجب لكم عليهم، ما دمتم محتاجين إلى ذلك أو مضطرين إليه.
فأقول: ليس تطوعاً أن تبذل من مالك لإخوانك، أو أن تقوم بأعمال الإغاثة أو المساعدة، بل ليس تطوعاً أيضاً أن تقوم بالتوجيه والإرشاد، وتبصير هؤلاء الإخوة وتسكينهم وتذكيرهم بأن الأيام دول كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ومحاولة تعزية من أصيب بشيء أو فقد شيئاً، هذا كله جزء من الواجب الملقى على عواتقنا.(78/23)
ما تكشفه المرأة أمام المحارم
السؤال
ما هي حدود ما يمكن أن تكشفه المرأة أمام محارمها، وما يجب عليها ستره أمامهم؟
الجواب
المشهور عند الفقهاء أن ما تكشفه المرأة أمام محارمها، هو ما جرت العادة بكشفه، كشعرها وأطرف ذارعيها وأطراف ساقيها، وما أشبه ذلك.(78/24)
واجب المرأة في تغيير المنكر وحكم مشاركتها في الإعلام
السؤال
ما هو الواجب على المرأة في تغيير المنكر؟ وهل لها أن تدخل في قنوات إعلامية لإحداث التغيير؟
الجواب
واجب المرأة في تغيير المنكر هو واجب الرجل، وكل في مجاله، فالمرأة تغير المنكر بوسائلها المتاحة في مجتمعاتها النسائية، كما أن الرجل يغير في مجالاته وفي مجتمعات الرجال، والمرأة تستطيع من ذلك في مجالها ما لا يستطيعه الرجل، وأما قضية الدخول في مجالات الإعلام، فإنني لا أرى ذلك مناسباً في مثل مجتمعاتنا الإسلامية، لأن الأصل في المرأة التستر والبعد عن التعرض للعيون، أو فيما يتعلق بصوتها أيضاً، فإن في صوت المرأة -كما هو معروف- من الفتنة والإثارة الشيء الكثير، وكون المرأة مثلاً تتكلم في الإذاعة، فيسمع صوتها الملايين، لا أعتقد أن هذا سائغاً، أو صالحاً، أو أنه وسيلة في الدعوة إلى الله عز وجل، فهذه الأمور تترك للرجال يعانونها ويقومون بها، أما المرأة فتبقى في مجالاتها الأخرى: تغير المنكر في بيتها، في مدرستها، في اجتماعها النسوي، في حفل الزواج في وسط النساء، مع أقاربها، مع بنات جنسها، وتدعو إلى الله تعالى بقدر ما تستطيع.(78/25)
موقفنا أمام الأحداث
السؤال
لاحظنا تضعضع الناس تجاه الأحداث الجديدة، فهل هذا هو الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وما السبيل إلى عافية الأمة من ذلك؟
الجواب
هذا جزء من الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه فسره بقوله: {حب الدنيا وكراهية الموت} ؛ فإنه لا يصاب بالتزعزع والوهن إلا الإنسان المتعلق بالدنيا ومادياتها، الذي يخاف من الموت، ويكرهه، ويريد أن يستمتع بهذه الحياة، أما المؤمن الذي استعد لبذل روحه في سبيل الله عز وجل، وقال كما قال الأول: ما ضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف أما المؤمن الذي يقول:- وإني لمقتاد جوادي كقاذف به وبنفسي العام إحدى المقاذف فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يُعلى بخضر المطارف ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف المؤمن الذي هذا منطقه وهذا سبيله من ماذا يخاف؟ أشد ما يتصور هو الموت، وهذا هو أمنيته وغايته، فلم يعد يخاف من شيء إلا من الله عز وجل، ولذلك يفرح المؤمن بالشهادة في سبيل الله عز وجل، أما حين يرى هذه المصائب والابتلاءات التي تنزل بالمسلمين، فلا شك أن الحزن لذلك جزء من الدين، والتأسف والتأسي لما حدث جزء من الأخوة الإيمانية التي ربطت بين أتباع "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وأهلها.
ولكن فرق بين ذلك وبين الشعور بالخوف والضياع والحيرة التي أصبحت تلف كثيراً من الناس، فقدان التوكل على الله عز وجل، حتى إن بعض الناس والعياذ بالله أصبحوا كأنهم لا يثقون إلا بالماديات، ولا يتعلقون إلا بالأسباب الدنيوية، فأصبحت تجد الإنسان يركض كالمسعور فيما يتعلق بأموره الخاصة، يوفر السلع الاستهلاكية في البيت بشكل مثير للانتباه ويدخر من القوت ما يكفي لسنوات، يحول أمواله بعملة أخرى، أو يحولها إلى سبائك من الذهب، وبعضهم غادروا بأهلهم وبأنفسهم إلى بلاد أخرى، وهذه في الواقع ليست صفات المؤمنين، بل المؤمنون كما حكى الله عنهم: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] .
أما المنافقون فقالوا كما حكى الله عنهم: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وكانوا يقولون: محمد يعدكم كنوز كسرى وقيصر وأحدكم لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته، فالقوة والكثرة والضجيج لا يمكن أن تؤثر في المؤمن، بل يقول -كما هو منطق الأنبياء عليهم السلام- مثل ما قال نوح: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] ومثل ما قال صالح: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] .
كما أنه يجب ألا نجعل أنفسنا نهباً لهذه الشائعات المغرضة، والتهويل التي أصبحت الإذاعات تملأ بها أسماعنا، وتهز بها قلوبنا، بل ينبغي للإنسان أن يعتصم بالعقل والعلم، ويعتصم بالله عز وجل قبل ذلك، ويجعل في قلبه من الطمأنينة والسكينة والأنس بالله عز وجل والاطمئنان إليه ما يكون خير رفيق له، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب فقال: {إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك, وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى لي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت} فعبر بكل معاني التوكل على الله والتفويض إليه، والثقة به، ولا شك أن من كان هكذا اعتقاده بالله عز وجل، فلا بد أن يضع الله تعالى في قلبه السكينة والطمأنينة، ولذلك تجد المؤمن لو سلب كل نعمة؛ لكان من إيمانه بالله في أعظم نعمة، وتجد المؤمن وهو في قلب الأحداث والمصائب والنكبات؛ يعيش حالة من الهدوء وسكينة الأعصاب، وراحة الضمير، يتعجب منها الجميع، فمثل هذه الأحداث لا شك أنها محك: يتبين من خلالها قوة الإيمان وضعفه، فإذا ظهر للإنسان ضعف إيمانه من خلال موقفه المتزعزع من مثل هذه الأحداث، فعليه أن يبادر في تجديد إيمانه وتعميق ثقته بالله عز وجل.(78/26)
ملابس الأطفال
السؤال
هناك سؤال يتلخص في صعوبة الحصول على الملابس الجاهزة للأطفال، حيث إن الملابس المتوفرة في الأسواق ليست مناسبة لأطفال المسلمين؟
الجواب
أولاً: هذا يدعونا إلى أن نسأل أنفسنا: لماذا؟ هذا يخضع لقانون العرض والطلب، فلأن هذه الملابس الجاهزة يريد أكثر الناس لها صفة معينة، المصانع تصنع على حسب ما يريد المشتري، وحين يعلمون أننا نريد نوعاً معيناً من الملابس، ولو كان فضفاضاً ساتراً، فإنهم لا بد أن يصنعوه، ولو من زاوية المصلحة المادية البحتة لهم.
ثانياً: يمكن أن تعمل المرأة تحويراً في هذه الملابس، بحيث تكون مناسبة وملائمة.(78/27)
خدمة المرأة لزوجها
السؤال
ذكرت شيئاً من صور التعامل بين الزوجين في الغرب، فما رأيكم فيمن يقول: إن خدمة المرأة لزوجها ليس بواجب شرعي عليها؟
الجواب
نحن نرجو ألا نلجأ في قضية البت في قضية الواجب، أو ليس بواجب؛ لأنه إذا وصلت القضية إلى قضية مشاحة فهذه مشكلة، فإن الأصل أن الزوجة التي تحس بالعلاقة الزوجية الصادقة مع زوجها تريد أن تخدمه ولو رأت غيرها يقوم بخدمته، لغارت من ذلك وامتعضت منه، فهي تريد أن تباشر شئونه بنفسها، وتعتبر هذا جزءاً من واجبها ومهمتها مع زوجها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن الزوج أيضاً هو الآخر يتواضع مع زوجته، ولا بأس أن يشاركها في بعض أعمالها على سبيل المباسطة والبعد عن التكلف والكبرياء.
وقد صح أن عائشة رضي الله عنها {سُئلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة} وهذا رسول الله صلى الله وعليه وسلم على رغم مشاغله الكثيرة المنوطة به، يتفرغ أحياناً ليباسط زوجته في بعض أعمالها، فأقول: ليس هناك ما يدعو إلى أن يبتَّ في القضية وأن تقول الزوجة: إنني لا أعمل أي عمل إلا إذا كان هذا واجباً عليّ! ليس هناك ما يدعو إلى هذا.(78/28)
الحلال البغيض
إن الله تعالى شرع لعباده الزواج، لحكمة بالغة عظيمة، وفي مقابل ذلك شرع لهم الطلاق، حتى تسير الحياة الزوجية بدون ما يكدر صفوها أو يغيرها، فإذا رأى الزوجان أن لا سبيل إلى بقاء الزواج بينهما؛ لأمور لا يمكن بقاؤه معها، رجعا إلى حل هذه العقد الزوجية بالطلاق، فالطلاق أحياناً يكون هو الحل للمشكلات الزوجية، وليس ذلك باطراد، بل لابد من أخذ جميع الحلول المناسبة حتى يكون الطلاق هو الأخير، ولذلك فقد تحدث الشيخ حفظه الله عن حكم الطلاق في الإسلام، وأنه قد يكون خيراً للمرأة والرجل، وذكر حال المرأة قبل الإسلام، وذكر تنظيم الإسلام للحياة الزوجية، ثم ذكر أسباب الطلاق مع علاج كل سبب بشيء من التفصيل.(79/1)
أبغض الحلال إلى الله الطلاق
حمداً لله تعالى حمداً، وشكراً لله تعالى شكراً، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، ونصلي ونسلم على نبيه ومصطفاه، وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله، وصحبه ومن والاه.
أما بعد: عباد الله، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فهذا الدرس هو الستون من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تلقى بالجامع الكبير ببريدة، يلقى في هذه الليلة- ليلة الإثنين- السادس عشر من شهر ذي القعدة، من سنة (1412هـ) عنوانه: (الحلال البغيض) .
ترامى إلى مسمعي صوتها المتهدج الباكي، الذي تقطعه الأنات والزفرات، وظللت فترة طويلة أستنطقها فلا أفهم ما تقول، وبعد جهد جهيد علمت أنها مطلقة تسأل عن بعض ما تعاني، ليست هذه حالة فردية ولكنها تتكرر كثيراً، ولا يملك الإنسان أمامها حين لا يعرف التفاصيل والأسباب إلا أن يشارك هذه المرأة الحزينة آلامها وعذابها، وهو يتذكر ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود، وابن ماجة، والبيهقي، والحاكم، وغيرهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق} .
وهذا الحديث روي مرفوعاً متصل الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروي مرسلاً، والصواب أنه مرسل عن محارب بن دثار، لا يذكر فيه ابن عمر رضي الله عنه، وهذا ما رجحه جماعة من أئمة الحديث، كـ أبي حاتم الرازي، والدارقطني، والبيهقي، والخطابي، والمنذري، والألباني، وغيرهم، ولكن يغني عن هذا الحديث في تقبيح الطلاق وتشنيعه من غير سبب ولا حاجة ما رواه مسلم في صحيحه، في كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم -أي: من جنود إبليس- فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول له: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت -وفي رواية- فيلتزمه} أي: يضمه إليه ويعانقه.(79/2)
الطلاق ليس شراً محضاً على المرأة
وعلى كل حال، فالطلاق ليس بالضرورة شراً محضاً على المرأة، بل قد يكون خيراً لها وللرجل في حالات كثيرة، وقد يكون نجاةً لها من وضع اجتماعي لا تطيق الصبر عليه، أو من زوج ظالم لا يحترم لها حقاً، ولا يرعى لها حرمةً ولا كرامةً، أو من زوج فاجر لا يخاف الله تعالى ولا يرجوه، فجواره شؤمٌ، وفراقه خير وبر، أو حتى من زوج كتب الله بغضه في قلبها؛ فهي لا تطيقه بحال من الأحوال.
ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم، عن ثوبان رضي الله عنه وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة طلبت الطلاق، أو سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة} ولا شك أن هذا الحديث صريح في تحريم أن تسأل المرأة زوجها أن يطلقها من غير سبب، ولا شك أن بغض المرأة زوجها بغضاً يحول بينها وبين القيام بحقوقه، والوفاء بحاجاته الشرعية، أن هذا سبب وجيه لطلب الطلاق.
ولهذا لما اختلعت حبيبة بنت سهل الأنصارية من زوجها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام -وكانت تبغضه- فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطلاقها، وقال: خذ الحديقة وطلقها تطليقة} وكان رجلاً ذميماً، ولكنه كان خطيباً مفوهاً جهير الصوت، وكان من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، شهد معركة أحد وبيعة الرضوان {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] .
ولما قدم وفد تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، افتخروا بأمور، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {قم فأجبهم} .
فقام وتكلم بكلام قوي، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بنو تميم: والله لخطيبه أحسن من خطيبنا، وشاعره -يعنون حسان بن ثابت - أحسن من شاعرنا، وقد استشهد هذا الرجل النبيل الفاضل، في معركة اليمامة، في قصة طويلة عجيبة ذكرها أهل السير المهم أن زوجته طلبت منه المخالعة وردت إليه ما أعطاها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقصته مع زوجته قصة صحيحة، رواها مالك وأبو داود والنسائي وغيرهم، وإسنادها صحيح.
ومن هنا ندرك الخطأ الذي يقع فيه البعض، حين يقول مثلاً: الطلاق ظلم للمرأة، بل إنني أعرف حالات كثيرة، أصبح الطلاق فيها مطلباً ملحاً تحاوله المرأة، ولكن يحول بينها وبينه رجل ظالم متلاعب محتال، يلعب بها يمنة ويسرة ويحتال عليها، فلا تستطيع أن تثبت عند القاضي ما يدعوه إلى إلزام زوجها بالطلاق، مع أن المرأة مستعدة أن تفتدي نفسها من زوجها بالغالي والنفيس، وكما قيل: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا(79/3)
الطلاق في غير الإسلام
الطلاق قرين النكاح منذ أول البشرية: ولهذا يقول فولتير: إن الطلاق وجد في العالم مع الزواج في زمن واحد تقريباً، غير أني أظن أن الزواج أقدم من الطلاق ببضعة أسابيع، بمعنى أن الرجل ناقش زوجته بعد أسبوعين من الزواج، ثم ضربها في الأسبوع الثالث، ثم طلقها في الأسبوع الرابع.(79/4)
حال المرأة قبل الإسلام
وعلى كل حال، ففي كثير من الجاهليات كان الطلاق مشروعاً بلا عَدد ولا عُدد، فيطلق الرجل زوجته ثلاثاً وعشراً ومائة، ودون أن يكون لذلك عدة في التفريق بين الأزواج المتعاقبين.
ففي جاهلية العرب -مثلاً- عرف الناس العضل، وهو: أن الزوج بعد ما يطلق الزوجة، قد يعضلها ويمنعها من الزواج بغيره، ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك، وقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] فقد يعضلها قريبها أو أبوها أو أخوها، وحتى الزوج أحياناً قد يمنعها، فلا تنكح من بعده إلا بإذنه.
وكذلك التعليق: أن يعلق الرجل المرأة، فليست بالزوجة، وليست بالمطلقة، وهذا أيضاً مما نهى الله عنه ورسوله، فقال تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] وجاء له ذكر في القصة المعروفة، في حديث أم زرع، فكانت إحداهن - وهن إحدى عشرة امرأة اجتمعن فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً- والحديث في صحيح البخاري، فكانت إحداهن تقول: زوجي العشنق، إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، فهي لا مخرج لها من أحد هذين الأمرين.
ومثله أيضاً الظهار، كان معروفاً في الجاهلية، يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ولما حدث هذا في الإسلام، وسألت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {ما أراك إلا قد حرمت عليه، فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] } ثم بين الله تعالى كفارة الظهار المعروفة في القرآن.
ومثله الإرث أيضاً، فكان الرجل يرث المرأة، يرثها كما يورث المتاع، ويضع عليها إن أعجبته رداءه أو ثوبه، فتكون له، ولا تملك أن تنكح غيره.
ومن طرائف أخبار أهل الجاهلية، بل أخبار أهل الإسلام الذين تأثروا بالجاهلية وورثوا بعض عاداتهم، ولم يستقيموا على أمر الإسلام، من طرائفهم في الطلاق -أمر عجيب في التلاعب به وإيقاعه لأدنى سبب- ما قاله الأصمعي لـ هارون الرشيد: إن رجلاً من العرب طلق خمس نسوة في مجلس واحد.
فضحك الرشيد، وقال له: كيف وإنما ينكح الرجل في الإسلام أربع نسوة لا خمساً؟ فقال له الأصمعي: كان رجلاً أحمق فدخل على نسائه، أربع نسوة، وهن متلاحيات فيما بينهن -بينهن خصومة وجدل وقيل وقال وارتفاع الأصوات- فنظر إلى إحداهن، وقال: والله ما أظن هذا الأمر إلا من قبلك يا فلانة، اذهبي فأنت طالق! فقامت إحداهن، وقالت: والله لقد عجلت عليها بالطلاق يا فلان، فلو أدبتها بغيره لكان حقيقاً لك ذلك.
فقال: وأنت طالق أيضاً! فقالت الثالثة: قبحك الله! لقد كانتا محسنتين إليك مفضلتين عليك.
فقال: وأنت أيضاً أيها المعددة أياديهما طالق!.
فقامت الرابعة، وقالت: ضاق صدرك عن نسائك إلا بالطلاق.
قال: وأنت تبع لهن! وكانت جارة من جاراته تسمع هذا الخبر وتسمع الأمر، فلما سمعت طلاقه لزوجاته الأربع، أشرفت عليه من طرف الدار، وقالت له: والله لقد شهد العرب عليك وعلى قومك بالضعف؛ لما عرفوا عليك وعنك من العجلة وسوء الخلق.
وقال: وأنت أيضاً أيها المؤبنة المؤنبة المتكلفة، أنت طالق إن أجاز زوجك هذا.
فناداه زوجها من أقصى الدار يقول: قد أجزت! قد أجزت! وطلق رجل زوجته بعد خمسين سنة، وهذا ممن تأثروا بآثار الجاهلية.
فقالت له: أبعد خمسين سنة تطلقني؟ فقال: والله ما أعيب عليك إلا هذا! أي: ما طلقها إلا لطول مكثها معه.
يريد الفتى طول السلامة جاهداً فكيف ترى طول السلامة يفعل(79/5)
نظام الإسلام في المعاملة الزوجية
ولما جاء الإسلام حفظ حقوق المرأة، ونظم العلاقة بين الزوجين، ووضع الضوابط الكثيرة لاستمرار الحياة الزوجية:(79/6)
الطلاق في كثير من البلاد ليس بيد الرجل
وفي كثير من البلاد لا أقول البلاد الغربية؛ بل حتى الإسلامية قد حرموا الطلاق ومنعوه، وجعلوا الطلاق إلى القاضي، فلا يملك الرجل إيقاع الطلاق إلا عند القاضي، بعد ما يثبت أن هناك ما يدعو إليه، وهذا الأمر يفضي إلى المضارة والمضايقة والمكايدة بين الزوجين، فالمرأة قد تضايق الزوج وتكايده، والزوج أيضاً يضايق المرأة ويكايدها، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الضرب، بل إلى القتل، وعندي كثير من القصاصات الصحفية في بلاد الغرب، بل في بلاد العرب في مصر وفي غيرها، تتكلم عن رجال قتلوا أزواجهم، أو عن نساء قتلن أزواجهن؛ لأنه لم يكن هناك حل لفصم عرى الزوجية إلا القتل! ولعله من المعروف الموافق للفطرة وللشريعة أيضاً، أن يكون الطلاق بيد من بيده عقدة النكاح وهو الرجل، فهو الطالب أصلاً، وهو الخاطب، وهو الباذل، وهو المنفق؛ ولذلك كان أمر الطلاق إليه في شريعة الله عز وجل، قال الحسن بن علي بن الحسين لزوجته يوماً من الأيام، وهي عائشة بنت طلحة، قال لها: [[أمرك بيدك.
-أي إن شئت أن تطلقي فاطلقي- فقالت له: قد كان أمري بيدك عشرين سنة، فأحسنت حفظه، فلماذا أضيعه الآن إن وضعته بيدي ساعة من نهار؟ أنا قد صرفته إليك الآن وأرجعته إليك]] فأعجب بهذا العمل وأمسكها، وكان قد سخط عليها.(79/7)
التسامح بين الزوجين
أولاً: شرع الإسلام التسامح بين الزوجين، وتغافل كل منهما عما قد يبدر الآخر في حالة الغضب أو الانفعال أو غير ذلك، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وهو نموذج لمن تأدبوا بأدب الإسلام وتخلقوا بخلقه، وتربوا على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أصحاب محمد عليه الصلاة السلام - أبطالاً في المعارك فقط، بل كانوا أبطالاً في كل حال، حتى إن الواحد منهم في معاملته مع أزواجه، كان نموذجاً للكمال والمروءة والرجولة وجميل الخصال، فـ أبو الدرداء يقول لزوجته: [[إذا رأيتني قد غضبت فترضيني، وإذا رأيتك أنا قد غضبت فإنني أترضاك، وإن لم نفعل فإننا لا نصطحب]] فقال الزهري تعليقاً على هذا الخبر: وهكذا تكون الإخوان، تتحمل مني في حال الغضب، وأتحمل منك في حال الغضب.
وهذا ما شرعه الله تعالى في قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] فإن الإمساك بمعروف: هو الإحسان إلى المرأة، بتحمل ما قد يبدر منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر} فقد تجد فيها نقصاً في جانب، يسدد في جانب آخر، أو تجد منها خلة في وقت، ولكن تجد منها في وقت آخر ما يغطي على هذا ويمسحه ويزيله.
ومن أروع وأجمل النماذج في الإمساك بمعروف والتسامح بين الزوجين، ما جاء في قصة أم زرع، التي ذكرتها قبل قليل، وقد روتها عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فعقب عليها عليه الصلاة والسلام بقوله لـ عائشة {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع، غير أني لا أطلق} جاء هذا في رواية.
فكيف كان أبو زرع لـ أم زرع؟ وكيف كانت هي له؟ تقول أم زرع -وهي المرأة الحادية عشرة من ذلك المؤتمر الذي عقد في الجاهلية -تقول في صفة زوجها وقد بدأت به وبحالها معه.
فقالت: {أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق -أي أهلها كانوا فقراء معزولين- فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق- أي خيل وجمال وإبل وزرع وغير ذلك -فعنده أقول فلا أقبح- أي لا يقول: كلامك هذا غير جيد أو يرده عليها، بل يحسن لها ما تقول- أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح، وآكل فأتمنح} فهو أعطاها كل ما تريد، من المأكل والمشرب، والراحة في بيتها، وتطييب خاطرها بالقول والفعل.
لما ذكرت معاملتها له، وكلامها هذا بعد ما طلقها، قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟! عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟! منامه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟! طوع أبيها وطوع أمها، وغيظ جارتها، وملء إهابها -تصفها بالكمال في خلقها وجسمها وطاعتها لوالديها- جارية أبي زرع -خادمته- فما جارية أبي زرع قالت: لا تنقث ميرتنا تنقيثا، ولا تبث حديثنا تبثيثا ولا تملأ بيتنا تعثيثا، أي نظيفة وخدومة وأمينة على السر وعلى الكلام وعلى متاع البيت، حتى ذكرت ضيف أبي زرع، وهذا كلام امرأة تحب زوجها وتعلقت به، ولذلك فهي تثني عليه وعلى أمه وعلى ولده وعلى بنته وعلى خادمه وعلى ضيفه وعلى كل شيء.
ثم ذكرت أن أبا زرع هذا، خرج يوماً والأوطاب تمخض، فرأى امرأة فأعجبته، فطلق أم زرع ونكحها، ثم تزوجت أم زرع بعده رجلاً آخر، فأعطاها من كل شيء من المال وغيره، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك.
أي أعطيهم، قالت: فوالله لو جمعت كل ما أعطاني، ما بلغ إناءً من آنية أبي زرع، لأنه كما قيل: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ عائشة: {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} أي: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسارع فيما تحب عائشة رضي الله عنها وتهوى، وكان يُسأل: من أحب الناس إليك؟ فيقول: {عائشة.
فيقال: ومن الرجال؟ فيقول: أبوها} فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأساً أن يبوح بمحبته لـ عائشة، ولم ير بأساً بذكرها واسمها، مع أن كثيراً من الناس يرون الآن أن ذكر اسم الزوجة عيب وعار يستحى منه، وأن البوح بمحبتها ومكانتها في القلب هو عيب وعار آخر، وهذا ليس من أمر الإسلام.
وعلى كل حال؛ فقد شرع الإسلام التسامح بين الزوجين: أولاً: وعظ المرأة وتذكيرها.
ثانياً: شرع الإسلام للزوج حين يرى من زوجته مالا يحب ولا يرضى، أن يعظها بالقرآن والحديث والتذكير، وبالأمر وبالنهي، وغير ذلك مما يكون فيه أمر لها وتذكير لها بما يجب عليها، كما قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ، فإن أجدى الوعظ كفى، وإن لم يجدِ الوعظ، فإنه يمكن أن ينتقل بعد ذلك إلى الهجر، يهجرها في المضجع ويعرض عنها، فإن لم يجدِ، فإنه يضربها ضرباً غير مبرح، كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يجدِ ذلك، فإنه يمكن أن ينتقل إلى قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] .
إذاً يجب عدم إدخال أي طرف آخر، إلا حينما يتعذر الإصلاح عن طريق الزوجين فقط، فإذا لم يجدِ الإصلاح بينهما عن طريق المناقشة، أو عن طريق الوعظ، أو عن طريق الهجر، أو عن طريق الضرب الغير مبرح، فحينئذٍ يمكن أن يدخلا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وإذا أراد هذان الحكمان الإصلاح وفق الله بينهما قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] ولذلك يبقى الطلاق هو آخر الحلول، وآخر الدواء الكي.
وليس الطلاق كلمة تقال في لحظة انفعال أو غضب، فهذا لا يفعله عقلاء الرجال، ولكنه قرار مدروس محكم، يتخذه الزوج، بل ربما يتخذه الزوجان بالاشتراك بعد طول دراسة وتأني، ولهذا حرم الله تعالى -مثلاً- طلاق الحائض، وحرم أيضاً طلاق المرأة إذا كانت في طهر جامعها فيه، فلا يحل للرجل أن يطلق امرأته إلا في طهر لم يجامعها فيه، وهنا لا يكون الرجل طلقها في ساعة انفعال، بل انتظر حتى تطهر -مثلاً- إن كانت حائضاً، أو حتى تحيض ثم تطهر إن كان جامعها في ذلك الطهر، ثم هو في الطهر قد يكون متطلعاً إليها، مشتاقاً إلى معاشرتها، فلا يوقع الطلاق حينئذٍ، وهنا يكون الطلاق حلاً لمشكلة قائمة، لا صبر لهما أو لأحدهما عليها.
قال الأصمعي: كنت أغدو إلى رجل من الأعراب؛ أقتبس منه بعض الغريب، وأسأله عن بعض الكلمات التي لا أعرف معناها، قال: وكان كثيراً ما يذكر عندي أمامة وهو اسم زوجته، فدخلت عليه مرات فوجدته لا يذكرها، فقلت له: رأيتك لا تذكر أمامة، فأنشأ يقول: ظعنت أمامة بالطلاقِ ونجوت من غل الوثاقِ بانت فلم يألم لها قلبي ولم تدمع مآق ودواء ما لا تشتهيه النفس تعجيل الفراق والعيش ليس يطيب بين اثنين من غير اتفاق لو لم أُرَحْ بفراقها لأرحت نفسي بالإباق أي: لو لم أطلقها؛ لهربت من البلاد؛ لأن الحياة بينهما كانت أمراً صعب الاحتمال.
ومما يذكر في أخبار العجم: أن رجلاً منهم يقال له بولس طلق زوجته، وأراد بعض أصدقائه رده عن ذلك، وأثنوا عليها بأنها امرأة جميلة عاقلة ولود، فقال لهم: حذائي جديد، جيد الصنع، ومع ذلك فأنا مضطر إلى تغييره، ليس هناك أحد سواي يعلم أين يؤلمني بغض النظر عن هذه الكلمة، لأنها كلمة من رجل جاهلي، فلهذا لا غرابة أن يشبه المرأة بالحذاء، ولكنه أشار إلى معنى قد يوجد عند الكثيرين، وهو أنه يقول: هناك مشكلة قائمة بيني وبين زوجتي، هذه المشكلة من الصعب أن يدركها الناس؛ لأنها قضية دقيقة خفية، لا أحد يعرف من أين يأتيني الألم!(79/8)
الطلاق في غير الإسلام
والطلاق من حيث حكمه في الإسلام، تجري عليه الأحكام الخمسة.(79/9)
الطلاق المندوب
أما الطلاق المندوب، أي: المستحب، فكأن لا تكون الزوجة طيبة الخلق عفيفة، أو يخافا ألا يقيما حدود الله.(79/10)
الطلاق المباح
أما الطلاق المباح، فهو عند الحاجة؛ لسوء العشرة أو للتضرر بذلك.(79/11)
الطلاق المكروه
أما الطلاق المكروه، فهو: ما كان لغير سبب، مع استقامة الحال، وحسن الأمور، وطيب العلاقة بينهما فلا شك أن هذا مكروه، ولا أدل على كراهيته من فرح الشيطان به كما سبق، وكما أسلفت في تلك الطرفة، أن رجلاً طلق امرأته بعد خمسين سنة، فقالت له: أبعد صحبة خمسين سنة؟ فقال: والله ما لك عندنا ذنب غير هذا! ولا شك أن هذا ليس من الوفاء، وليس من شيم الرجال، فجدير بالرجل أن يحفظ مكانة زوجته وقدرها ولو كبر سنها، فإن المرأة بعد هذا السن الطويل، يكفيها أن تكون في البيت أماً أو حتى جدة؛ يؤخذ رأيها في المنزل، وتصبح بالخير وتمسى به، وتسمع من طيب الكلام وجميل الحديث ما يحفظ لها كرامتها وإنسانيتها، ويجعلها تعيش في عز وأمن وكرامة، وهذا هو اللائق بالبيوت التي بنيت على كلمة الله عز وجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع: {اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم -أي: أسيرات - أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بشريعة الله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(79/12)
الطلاق الواجب
أما الطلاق الواجب: فهو في مثل ما ذكر بعض الفقهاء، إذا حكم الحكمان كما قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ورأيا أن الحياة بينهما مستحيلة، وأنها ضارة لهما شرعاً وديناً، أو حتى دنيا، فحكما بالفراق.
ومثله المولي كما يقول تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] فلو حلف ألا يأتي امرأته، ثم أصر على ذلك، ورفض فيئة إليها بعد التربص أربعة أشهر؛ فإنه يجب عليه حينئذ أن يطلقها.(79/13)
الطلاق المحرم
فهو أحياناً حرام لا يجوز، وهو وذلك مثل الطلاق البدعي؛ أن يطلقها وهي حائض، وهذا لا يجوز، أو يطلقها في طهر قد جامعها فيه أيضاً فهذا لا يجوز.
أما إن كانت حاملاً فإنه يجوز له أن يطلقها بكل حال.
ومثله أيضاً: أن يجمع للمرأة عدة طلقات، يطلقها مرتين أو ثلاثاً في مجلس واحد أو في طهر واحد، فهذا لا يجوز، ولذلك يقال: إن رجلاً من الأعراب جاء إلى ابن عباس فقال له: إني طلقت -وكان غاضباً يتطاير الشرر من عينيه- فقال له: إني طلقت امرأتي مائة طلقة، فماذا ترى يا ابن عباس؟ فرأى ابن عباس أن هذا الرجل غاضب، وأنه يخشى منه شراً، فقال له: عندي لك رأي.
قال: ما هو؟ قال: أنا أسامحك عن سبع وتسعين طلقة، واذهب إلى غيري ليفتيك في أمر الثلاث الباقيات، وما ذلك إلا لأن السبع والتسعين أصلاً هي عبث ولغو لا قيمة لها، فحلله منها ابن عباس جزاه الله خيراً، أما الثلاث الباقيات التي عليها الكلام، فقال له: اذهب إلى غيري.
وقيل لـ ابن عباس أيضاً: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد كواكب الجوزاء، قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] أي: الطلقة الأولى طلقة رجعية، والطلقة الثانية رجعية، ثم بعد ذلك ما هناك إلا أن يمسكها بإحسان ومعروف، أو يسرحها بإحسان ومعروف أيضاً، (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وهذه هي الطلقة الثالثة، ولما طلق عبد الله بن عمر رضي الله عنه زوجته وهي حائض؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه- وأمره أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يطلقها فليطلقها في طهر لم يجامعها فيه.(79/14)
لماذا يقع الطلاق؟
ثم ننتقل إلى السؤال الكبير المهم: لماذا يقع الطلاق؟(79/15)
مفاسد هذا الاعتقاد
وأقول: إن هذه الحقيقة المرة لا بد أن يسمعها الجميع؛ لأن اعتقاد السحر والجن والعين لا ينتهي عند مجرد الاعتقاد، بل يترتب عليه عدد من المفاسد العظيمة، فمن المفاسد التي تترتب عليه: الأمر الأول: ظلم الناس.
فيقولون: سحرتها فلانة، ويسمون امرأة بعينها، أو يقولون: أصابتها فلانة بعينها، جارتها أو قريبتها أو زميلتها؛ لأنها غبطتها على ما رأت، أو فلان عانها أو سحرها، لأنه خطبها فرفضت فهذا من الظلم، والله تعالى لا يحب الظالمين، وهو من الظلم لعباد الله.
الأمر الثاني: إتيان الكهنة والعرافين؛ وكثير من الناس خاصة النساء، تذهب إلى الكهنة والعرافين؛ إما ليصرفوا قلب زوجها إليها، أو لتعرف ماذا أصابها، وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أتى عرافاً، فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة} من أتى عرافاً، أي: رجل أو امرأة، فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة.
هذا ولو لم يصدقه، أما من أتاه فصدقه بما يقول، فوعيده أعظم من ذلك.
ولذلك روى أصحاب السنن، وأحمد، والحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم} .
وفي رواية: {فقد برئَ مما أُنزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم} .
والعراف هو: الذي يدعي معرفة علم الغيب، فيقول: فلانة أصابتها فلانة، وفلانة وضع لها سحر في مكان كذا إلى غير ذلك.
وبالمناسبة: لابد من إعلان الحرب على السحرة والعرافين والكهنة الموجودين اليوم في مجتمعنا، ويتصل كثيرون فيخبرون عنهم، ولا بد من فضح هؤلاء، ورفع أمرهم إلى أهل العلم والدعاة والمشايخ، فإن أمكن الاستعانة بالجهات الرسمية في إيقافهم عند حدهم، ومنعهم من العبث بالمجتمع، ونهب أموال الناس بالباطل فُعِلَ، وإن لم يمكن، فعلى أقل تقدير أن يفضحوا، ويبين أمرهم للناس ليتجنبوهم.
الأمر الثالث: من مفاسد الاعتقاد بأن ما حصل بين الزوجين سببه العين أو السحر مثلاً: ضياع المال؛ فإن كثيرين ممن يدعون القراءة على الجن ويأخذون أموالاً، ثبت أنهم كذبة متأكلون، يضحكون على عقول السذج والمغفلين، ويدَّعي الواحد أن هذا فيه جني، وأن الجني تكلم على لسانه وهو كاذب، أقول: ثبت لي هذا في عدد من هؤلاء، وليس هذا في الجميع، فلا شك أن هناك من أهل الخير والعلم والذكر والإيمان من قد يقرأ على المصروع، وقد ينطق الجني على ما هو معروف، لكن إثبات حالة من هذه الحالات أمر يحتاج إلى تثبت وتيقن، بل بعض هؤلاء يأكلون أموال الناس بالباطل، أما السحرة فحدث ولا حرج، فقد يطلب من الإنسان خمسة آلاف ريال، أو عشرة آلاف ريال قبل أي شيء.
الأمر الرابع: أن هذا يجعل الزوجين يعرضان عن الأسباب الحقيقية، فقد يكون سبب ما جرى تقصيراً من أحد الزوجين، فلا ينشط لدفع هذا التقصير، ولا لمعرفة السبب الحقيقي وإزالته؛ لأنه اعتقد واعتمد على أن الأمر لا يعدو أن يكون جناً أو سحراً أو عيناً أو ما أشبه ذلك، ثم إنه ليس من مصلحة الزوجين أن يعقدوا المسألة بهذه الطريقة، ويجعلوها بهذه الصعوبة، فيقول: القضية سحر أو جن.
هذا تعقيد وتصعيب للأمر، ولو قلنا: إن القضية لا تعدو أن تكون سوء تفاهم بين الزوجين، لأمكن حله عن طريق بعض التعليمات والتوجيهات وبعض النصائح، وغير ذلك من الأمور التي ربما يمر شيء منها.
فعلى كل حال لو فرض أن الأمر وصل إلى ما وصل إليه، فيجب على الإنسان أن يؤمن بأن الخير فيما يختاره الله تعالى له قال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ولا يليق بالمسلم ولا بالمسلمة أن يذهب إلى أحد لكي يضيع دينه في سبيل عرض من الدنيا قليل.(79/16)
عزو الطلاق إلى أسباب غامضة كالعين والسحر
ويميل الكثيرون في موضوع الطلاق إلى تفسيره بالأسباب الغامضة، ويربطون الحدث بها، فمثلاً أكثر من رأيت وسمعت من الأزواج المطلقين والزوجات المطلقات، أكثر من سمعت يعزون أيّ تغيير في الحياة الزوجية، أو عزوف من أحد الزوجين عن الآخر أو فراق، يعزونه إلى أحد ثلاثة أسباب: إما الجن أو العين أو السحر.
وهم بهذا يهربون من تحمل المسؤولية، ويقنعون أنفسهم بأنه لا يد لهم فيما جرى، وأن ما جرى محض قضاء وقدر، ليس لهم فيه حيلة ولا اختيار ولا سبب.
ولا شك أن المسلم يؤمن بقضاء الله وقدره، فالإيمان بالقضاء والقدر هو من أركان الإيمان، والمسلم أيضاً يؤمن بالجن، بل ويؤمن بأن الجني قد يتلبس بالإنسي، وهذا جاء في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فأثبت المس في القرآن.
ويؤمن المؤمن- أيضاً- بالعين، وقد جاء في القرآن: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51] قال بعض أهل العلم: أي بالعين، وفي الحديث الصحيح: {العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين} وقال عليه الصلاة والسلام: {إنها تُورد الجمل القدر، وتورد الرجل القبر} .
فالعين حق، وكذلك يؤمن المسلم بالسحر، وأنه يقع ويؤثر كما ذكر الله تعالى في القرآن، ولكن الحكم بأن فلاناً وفلانة فيهما عين، أو بأن فلاناً أصابه سحر، أو فلانة أصابها مس، هذا أمر يحتاج إلى تثبت وتأكد، وأقول: اطلعت على حالات كثيرة، يدعي أصحابها الجن، وتبين لي خلافها.
اتصل بي إنسان يوماً من الأيام، فادعى أنه أصابه مس من الجن بالهاتف، فما زلت معه حتى اقتنع هو فعلاً بأن القضية لا تعدو أن تكون نوعاً من التمثيل.
فتاة أيضاً تشعر بأن أهلها معرضون عنها، لا يعطونها قدراً من الاهتمام، فتتظاهر بأنها مصروعة أو ممسوسة، حتى تلفت نظرهم إليها؛ ليقبلوا عليها ويهتموا بها، وقد يكون لسبب آخر.
وأيضاً كثيرون يدعون أن ما أصابهم سحر، وأنا أعلم أن ما أصابهم ليس كذلك، وإنما هو بأسباب أخرى، إما عدم وفاق بين الزوجين، أو لعدم محبة، أو لغير ذلك من الأسباب.
فلا ينبغي أن نصدق من أول وهلة، أن ما بين الزوجين هو سحر أو جن أو عين أو غير ذلك، بل ينبغي أن ندرك أن هناك أسباباً كثيرة، غالباً ما تكون من عدم وفاق بين الزوجين، أو تكون خطأً من أحدهما تجاه الآخر، أو تكون انصرافاً في قلب المرأة عن الزوج، أو في قلب الزوج عن المرأة، وقد لا يبين هذا من أول الأمر، فأيام الزواج الأولى كافية في الحكم، فقد تظن الزوجة أن الزوج يحبها وليس كذلك، ثم بعد فترة يتغير الحال.(79/17)
قد يقع لأسباب تافهة
في كثير من الأحيان تكون الأسباب تافهة، بل في غمرة الغضب والانفعال تنفلت الأعصاب، خاصة حين يكون الزوج عصبياً لا يملك نفسه، وتكون المرأة أيضاً لا تحسن سياسة الزوج، فربما طلقها -مثلاً- لأنها لم تحسن طهي الطعام؛ أو لأنها أحرقت الثوب حين كوته؛ أو لأنها تأخرت في إيقاظه عن الدوام أو لغير ذلك.
وهذا طلاق يتبعه غالباً الأسف والندم القاتل، فيذهب المطلق عند أبواب العلماء، يلف يمنة ويسرة، ويلتمس المعاذير ويبحث عن مخرج له، فمرة يقول: طلقتها وهي حائض؛ لأنه عصبي، فيقول: أنا طلقت زوجتي عدة طلقات، لكن مرة وهي حائض، ومرة طلقتها في طهر جامعتها فيه، ومرة جمعت لها طلقتين أو ثلاثاً في كلمة واحدةً، ومرة جعلته طلاقاً معلقاً، فقلت: إن خرجت فأنت طالق فخرجت، أو إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق فذهبت إلى غير ذلك.
ومما يذكر ويحكى: أن الفرزدق كان عنده امرأة يحبها اسمها نوار، فطلقها فندم على ذلك ندماً شديداً، فأنشأ يقول: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار وكانت روضتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار فأصبحت الغداة ألوم نفسي بأمر ليس لي فيه اختيار ثم أراد الفرزدق زوجته، فذهب إلى ابن الزبير يريد أن يراجع زوجته وذهب إلى ولده حمزة؛ ليشفع له عند أبيه، وذهبت نوار إلى زوجة عبد الله بن الزبير تقول لها: بلغي زوجك بأني لا أريد الفرزدق فلا يحاول؛ إنني لا أريده؛ لأنه رجل فيه كذا وكذا، فكان كل ما صنعه حمزة نهاراً من إقناع والده بالشفاعة؛ نقضته زوجته ليلاً، حتى غلبت المرأة، وقرر ابن الزبير أن لا يعود الفرزدق إلى زوجته، فقال الفرزدق يهجو عبد الله بن الزبير ويخاطبه: أما البنون فلم تُقْبَل شفاعتهم وشُفِّعَت بنت مظعون ابن زبانا ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً إلى آخر البيت.
المهم أن ابن الزبير قال للمرأة: إن هذا رجل شاعر، فإني أخاف أن يهجوني، فلو رجعت إليه، فقبلت الرجوع إليه، ثم طلقها مرة أخرى، وأشهد على هذا الحسن البصري وطلاب حلقته، فجاء وهم جالسون فقال: اشهدوا أني قد طلقت زوجتي نواراً، فشهدوا عليه، ثم ندم بعد ذلك.
وهكذا يطلق يوماً ثم يندم يوماً آخر، ولهذا كانت العرب تذم الإنسان المزواج أو الذواق المطلاق، بل جاء في هذا حديث -لكنه لا يصح، في ذم الذواق المطلاق أو المزواج المطلاق، يتزوج بكرةً ويطلق مساء.
إن من الثابت أن الأسباب التافهة المتكررة، هي التي تقوض الحياة الزوجية غالباً، وتجعل استمرارها أشبه بالمستحيل، وتقضي على كل معاني السعادة، فما إن يتذكر الرجل زوجته -مثلاً- وهو غائب عنها أو بعيد، حتى تقفز إلى ذهنه مجموعة من الصور والمشاكسات والمشاكل، وفي النهاية تعطي هذه المشاكل الطرفين قناعةً بأن الطلاق هو الحل، أما المشاكل الكبيرة والمشاكل العويصة المزمنة، فهي أقل تأثيراً وأقل ضحايا.
فغالب الأسباب هي أسباب صغيرة، ولكنها كثيرة تتكرر يومياً، ولهذا يتعجب الكثيرون، لماذا طلق فلان فلانة مع أنه ما حصل شيء؟! هو يحبها، وما نعرف منهم شيئاً!! أمور بسيطة تافهة، ولكن هذه الأمور البسيطة التافهة كثرت، وكما قيل: إن السيل من نقط، حتى آلت إلى مثل هذا الأمر.(79/18)
أسباب الطلاق
هناك أسباب حقيقية وكثيرة للطلاق منها:(79/19)
المعصية سبب في الطلاق
من أسباب الطلاق أيضاً: المعصية، وكم من زوجة تركت زوجها لأنه لا يصلي، أو يتعاطى المخدرات، أو يحمل أفكاراً فاسدة، أو يسافر إلى الخارج للفساد، أو يتعامل بالربا وما حرم الله عز وجل أو غير ذلك، وكم من طلاق كان سببه كثرة سفر الزوجين إلى الخارج، مرة لقضاء شهر العسل، ومرة لقضاء الإجازة، وثالثة ورابعة! أو كان الطلاق نظراً لاحتواء البيت على ما حرم الله عز وجل، كمشاهدة التلفاز، وما يعرض فيه من مشاهد مؤذية فاسدة، أصبحت يوماً بعد يوم تتردى وتنهار، ويعرض فيها ما يهدم الدين والأخلاق، أو مشاهدة أشرطة الفيديو أيضاً التي أصبحت الجهات المراقبة لها تتسامح فيها أكثر وأكثر؛ فيعرض فيها كل شيء، اللهم إلا الفاحشة، أما مشاهدة ما سوى ذلك فهو أمر موجود.
فكيف ترى في بيت تعرض على شاشاته في كل غرفة من غرفه مشاهد تحكي أوضاع المجتمعات الغربية، وما فيها من تقهقر وانحلال وإباحية وفساد؟! فالرجال والنساء بعضهم مع بعض يرقصون أو يتعاطون الخمور، وقد بدت السيقان والأفخاذ والأذرع والصدور والنحور والشعور وغير ذلك! كيف ترى هذا البيت الذي يُعصى الله تعالى في كل زاوية من زواياه، وفي كل ركن من أركانه، أنه يقوم على أساس صحيح سليم؟! أو بيت آخر تصدح فيه كلمات الغناء الماجن الخليع، كيف تقوم له قائمة؟! أو بيت يعج بالخدم والسائقين، ممن ليس لهم حاجة في المنزل، وممن ليس عليهم رقابة، وليس لهم أدنى قدر من التربية.
، فمثل هذه المعاصي في كثير من الأحيان هي من أسباب الطلاق.
ومثله أيضاً ما يحدث في الزواج، سواءً في ليلة الزواج من مخالفات شرعية، كالاختلاط، والأغاني المحرمة، والتصوير وسوى ذلك، أو حتى قبل الزواج.
ومن ذلك: الإسراف في المهور، وهذه القضية لا أدري متى تنتهي، إنها ما زالت عقبة تحول بين كثير من الناس وبين إعفاف فروجهم بما أحل الله عز وجل، وقد نهى عنها عمر رضي الله عنه كما في سنن أبي داود وغيره: [[لا تغالوا في صدق النساء]] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {أكثرهن بركة أيسرهن مؤنة} فينبغي أن نحمل على عواتقنا تيسير مؤنة الزواج بقدر المستطاع، وليست القضية منافرة أو مفاخرة أو مباهاة بمقدار المهر الذي دفعه فلان! فإذا كنا نعرف جميعاً حجم المشكلة الاقتصادية التي يعانيها الشباب الآن، وهو يجلس إلى الثانية والعشرين من عمره، وهو طالب في الجامعة، وبعد ما يتخرج قد يجد صعوبة في التوظف في حالات كثيرة، وإن توظف قبل ذلك، توظف بمرتب لا يكفيه، فمتى يتمكن من توفير المهر، الذي قد يصل إلى أربعين أو خمسين أو ستين ألف ريال؟ ثم إذا وفر المهر، فمتى يوفر المنزل؟ ولو كانت شقة صغيرة؟ ومتى يتمكن من تأثيثه؟ إلى غير ذلك من التكاليف الباهظة الصعبة، التي أصبحت تثقل كواهل الشباب، وإن كنا نشكر -بهذه المناسبة- اللجان التي قامت على مساعدة الشباب الراغبين في الزواج، سواءً في هذا البلد أو في الرياض أو في جدة أو في غيرها.
ومن ذلك -مما يتعلق بقضية المعصية-: الغفلة عن ذكر الله تعالى في كل حال، ذكر الله تعالى عند الدخول على المرأة، وعند دخول المنزل، وعند معاشرتها، وعند الصباح، وعند المساء وغير ذلك؛ فإن ذكر الله تعالى يحفظ العبد بإذن الله عز وجل من كيد وشر شياطين الجن والإنس.(79/20)
سوء التربية
من أسباب الطلاق: سوء التربية؛ ومن أمثلة سوء التربية: الدلال الزائد للبنت قبل الزواج، وعدم تعويدها على تحمل مسؤولية الزوج أو مسؤولية المنزل، خاصة حين تكون وحيدة أبويها، فيراعون ظروفها، وأنها الآن مشغولة بالدراسة أو مشغولة بغير ذلك، أو لا يريدون أن تتحمل أية مشقة، فيكون نتيجة ذلك أنها تكون غير قادرة على المشاركة في إقامة الحياة الزوجية.
ومن سوء التربية: ترك الولد أو البنت للتلفاز والصحيفة، فتجد البنت -مثلاً- تقرأ مجلة سيدتي أو حواء أو الحسناء أو الشرقية ولا تعرف من ذلك إلا هذه الصحف والمجلات التي تغريها بكل نقيصة.
فمثلاً: تقرأ في مجلة سيدتي: أول امرأة عربية تدير المؤتمرات! أو تقرأ: أول فتاة خليجية برتبة ملازم شرطة! فتأخذ من هذا أنه ينبغي أن يكون لها شخصيتها، ولها قوامتها، ولها سيطرتها، وأنه ينبغي أن تفرض شخصيتها على الرجل ولا تطيعه! ولذلك كان من أهم مهمات هذه المجلات، التي هي منابر هدم وتخريب وأحياناً ضرار، من أهم مهماتها: إغراء المرأة بأن تحارب من حولها، فهي تشجعها على رفع قوامة الرجل -مثلاً- حتى كتبت مرة إحدى المستغربات المسترجلات في صحيفة سعودية، تقول: الرجال يقولون: الرجال قوامون على النساء! فجعلته من كلام الرجال! الرجال يقولون: المرأة ناقصة عقل ودين.
فجعلت كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً للرجال! أو تصور هذه الصحف الحياة العائلية للبنت على أنها ميدان حرب، وأنها يجب أن تخوض معركة مع زوجها، وتخوض معركة أخرى مع أبيها الذي يبتزها، وتخوض معركة ثالثة مع أخيها الذي أخذ الصلاحيات، وأصبح هو يخرج ويلعب ويسرح ويمرح، ويمنعها من الخروج في زعمهم، ومعركة رابعة وخامسة وسادسة فعبأوا هذه البنت، وحاولوا أن تكون قنبلة تحارب المجتمع وتسعى إلى تدميره.(79/21)
أسباب أخرى
وأخيراً: فإن هناك أسباباً وهمية؛ مثل أن بعضهم قد يشك في زوجته، خاصة لو لم ير في ليلة الزواج ما يدل دلالة قاطعة على بكارتها، وينسى أن هذا الأمر ليس أمراً قاطعاً ضرورياً لكل امرأة، وقد يكون هناك أسباب وجيهة، وقد يكون هناك أمور لا يدري بها، وقد يكون عنده هو شيء من عدم الخبرة في مثل هذه الأمور، فتسرعه في إلقاء لفظة الطلاق، دون تبصر، ودون تثبت، ودون تأني، هو بلا شك غير محمود.
وبعضهم أصلاً يشك ويوسوس في الطلاق، فهو لا يقبل من المرأة أي شيء، ويظن فيها بكل قول أو فعل أو حركة أو اتصال أو مكالمة، فبعض الناس يوسوسون في مثل هذا الأمر، ولا شك أن هذا ليس من شيم الرجال ولا من مكارم الأخلاق.(79/22)
تدخل الآخرين في الحياة الزوجية
من أسباب الطلاق وهو من الأسباب المهمة: تدخل الآخرين في الحياة الزوجية.
يروى أن أحد الصحابة رضي الله عنه، رأى من زوجة ابنه أمراً يكرهه، فأمره أن يطلقها، فطلقها الولد وهو حزين، فسمعه أبوه يوماً وهو يقول: فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تطلق فرق له وأمره أن يراجعها.
وهذا أيضاً من مثالية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وتقديرهم لظروف الآخرين، ظروفهم النفسية، ظروف التعلق القلبي والمحبة والارتياح مع المرأة، حتى لو كان الأب يجد فيها بعض ما لا يحب منها، أو كانت الأم كذلك.
إن تدخل أهل الزوج -مثلاً- في الحياة الزوجية مع ولدهم؛ يعكر صفاء حياتهم، وكذلك تدخل أهل الزوجة يزيد الأمور تعقيداً، ولا داعي لأن أذكر صور التدخل بينهما، فهي ذات أشكال وصور كثيرة، ولكنها غالباً ما تتم على شكل وصايا من أم الزوجة لابنتها، تظن أنها تستطيع أن تستحوذ بها على الزوج وتكسب منه كل شيء، أما أم الزوج، فإنها تشعر في كثير من الأحيان، بأن بنت الناس هذه المرأة الغريبة الجديدة، قد اختطفت ولدها وفلذة كبدها من يدها، ولذلك فهي تعتبر أنه لا بد من الحيلولة دون ذلك، وعلى هذه الرحى تنطحن العلاقة الزوجية.
وحكمة الزوجين وتفهمهما، من الممكن أن تضع حداً لتدخل أهل الزوج أو أهل الزوجة، فمن الممكن ألا يطلع الزوج أهله ولا الزوجة أهلها على ما يجري أولاً، ثم إذا علموا؛ فينبغي أن يعالج الأمر بالحكمة، ويعتبر أنه يمكن أن يواجههم بالكلام الطيب، فيقول: إن شاء الله يكون خيراً، وسوف ترضى وما أشبه ذلك، ولكن يبقى أنه يدرك أن الحياة الزوجية تخصه هو دون غيره، وهو الذي تولى عقدة النكاح وأمر الزواج.
ومن واجب أهل الزوجين: الكف عن التدخل في خصوصيات الآخرين، وألا يكونوا سبباً في تدمير حياة ابنهم أو حياة ابنتهم، فمثلاً إذا تم الطلاق، فمتى سيتزوج الولد؟ بعد زمان طويل، نظراً لأن تكاليف الزواج كثيرة جداً.
أما الفتاة فأمرها أصعب، فإن المرأة المطلقة عندنا، أصبح الكثيرون ينظرون إليها نظرة ريبة، لماذا طلقت؟ قد تكون غير صالحة للحياة الزوجية.
وربما يتأخر زواجها، أو على الأقل لا يأتيها من هو كفء وملائم لها، فيتزوجها إنسان ليس مناسباً لها في كثير من الأحيان.
وعلى أي حال، فإن الطلاق مصيبة في حق الزوج وفي حق الزوجة، ولذلك ينبغي ألا يسعى أهل الطرفين إلى إيقاع هذه المصيبة عليهما.
أما التدخل من الأباعد، سواء أكانوا من الجيران أم الأصدقاء أم حتى من غيرهم، فهو مشكلة أخرى، تأخذ أيضاً طابع النصيحة، أو طابع التثبت من خبر سمعناه، سمعنا يا فلانة أن فلاناً فعل كذا أو قال كذا، أو يا فلان سمعنا أن فلانة اتصلت، أو قالت، أو خرجت، أو دخلت، أو فعلت.
ولذلك ينصح الزوجان بعدم إفشاء أسرار الحياة الزوجية مهما كانت، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح- نهى الرجال والنساء عن ذلك، وكذلك ينصح الزوجان بأن يتفاهما على كل الأمور بينهما، ويجعلا تدخل الآخرين على أضيق نطاق، ولا يسمحا لأحد أن يتدخل في هذه الأمور الواقعة بينهما.(79/23)
عدم أخذ رأي الطرف المهم من الزواج
من الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب أو بعض الأسر: عدم أخذ رأي الطرف المهم في الزواج؛ فربما يزوج الولد دون أن يؤخذ رأيه، يقول له أبوه: هذه بنت عمك، لا بد أن تتزوجها، وإذا لم تتزوجها فأنا لا يمكن أن أكلمك أو أقبل منك شيئاً وإلى غير ذلك، أو -وهذا كثير بالنسبة للبنت- ربما يعطي الأب البنت لولد أخيه أو قريبه دون أن تدري، وهذا لا يجوز، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيح: {لا تنكح البكر حتى تستأمر} أي: تستأذن، فلا بد أن يستأذنها أبوها، وإذنها أن تصمت على أقل تقدير، فإن وافقت وقالت: نعم.
فهذا لا شك أنه نور على نور، أما أن يزوجها الأب دون علمها، ودون أن يأخذ إذنها وموافقتها، فهذا ظلم لها، وهو لا يجوز، كما قرره أهل العلم، ومن أفضل من قرر ذلك: الإمام ابن القيم في زاد المعاد.
وكثير من الأسر يقولون: فلانة لفلان، هذا معروف منذ الطفولة، وكأنه قرار نافذ لا يمكن أن يرد، حتى لو كانت هي لا تقبل به.
وبعض الأسر لا يزوجون إلا من الأسرة نفسها، وكأنهم من آل بيت النبوة، حتى آل بيت النبوة ليس لهم ميزة خاصة، لكن أحياناً أسر وقبائل وعوائل عادية، ومع ذلك يقولون: لا نزوج فلاناً! صحيح أنه رجل له مكانته وله فضله وجاهه وليس فيه شيء، إلا أنه من قبيلة أخرى، أما فيما يتعلق بالقبائل والشعوب، فهذا أمر آخر، والله المستعان!(79/24)
المثالية عند الزوجين
ومن أسباب الطلاق أيضاً: المثالية عند الزوجين؛ بحيث ينتظر كل واحد منهما من الآخر أن يقدم له كل شيء، على حين أنه هو لا يملك أن يبادله المثل، والحديث يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وهي نصيحة عظيمة ثمينة: {وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه} فينبغي أن يتصور الإنسان أخطاءه هو، حتى يقدر أخطاء زوجته، ويتصور نقصه هو حتى يستطيع أن يهضم نقصها، فإن نظرت فوجدت فيها شيئاً من النقص في الجمال، فتذكر أنك أنت لست من الجمال في تلك الدرجة التي توصف وتذكر، وإن وجدت في زوجتك شيئاً من التقصير معك؛ فتذكر أيضاً أنك مقصر معها، وإن وجدت في زوجتك شيئاً من الجفاء فتذكر أنك أنت الآخر عندك شيء من الجفاء والقسوة، وإن وجدت أن فيها تقصيراً في عبادتها، فتذكر أنك أنت الآخر مقصر ولو أنك قمت عليها وعلمتها لتعلمت وتفهمت، فإن كنت أنت الزبير فانتظر أسماء، وهكذا.
أما أن يكون الواحد منا يتجاهل عيوبه وأخطاءه وزلاته ونقائصه وتقصيره، ويريد أن تكون زوجته مثالية، في جمالها ودينها وخلقها وعقلها ومنطقها وعبادتها وعلمها وذكائها، فهذا لا يكون.
قال رجل لآخر: ابحث لي عن زوجة.
قال: ما صفاتها؟ قال: أن تكون جميلة دينة صينة عاقلة طويلة بيضاء حسناء خلوقة فصيحة.
فقال: قد وجدتها قد وجدتها! عليك بقيام الليل وصيام النهار، فهذه من الحور العين، لعل الله أن يبلغكها في الجنة! 1- المقارنات: من المثالية: المقارنات، وطالما دمرت المقارنات البيوت، المقارنة مع الآخرين والأخريات، فمثلاً الزوج يقارن زوجته في شكلها بالأخريات، وربما وقعت عينه على امرأة، إما من غير قصد وإما لمعصية أنه عصى الله ونظر إلى مالا يحل، فنظر إلى امرأة في السوق، أو على شاشة التلفاز أو بما بلي به الناس من الأفلام التي دمرت أخلاقهم وعقولهم وبيوتهم وأسرهم، أو على صدر مجلة أو صحيفة، فأصبح يقارن زوجته بهذه، فيجد زوجته دونها، ولذلك يعزف عنها ويعرض عنها، يقارنها في الأخلاق، ويرى أن زملاءه وأصدقاءه إذا جلسوا وتحدثوا، فربما تكلم واحد منهم عن زوجته، فذكر شيئاً من جميل خلقها على سبيل قصة ذكرها أو حادثة أو مناسبة، فأصبح دائماً وأبداً يعقد آلاف المقارنات بين زوجته وبين ما يسمعه من صديقه فلان وزميله علان، وبينما رأى في المكان الفلاني وما سمع هنا وهناك، وبالتالي كل يوم يمر يزيده قناعة بأنه مهضوم الحق، وأن زوجته ليست هي المناسبة لمستواه وقدره ومقامه.
وكذلك الزوجة تجلس مع زميلتها، فتجد أن واحدة منهن تقول: زوجي أعطاني كذا، فتقول في قلبها: أنا زوجي ما أعطاني.
وتقول الثانية: زوجي أعطاني كذا، فتقول: مع الأسف زوجي لا هذا ولا ذاك، والثالثة تقول: زوجي خرج بي إلى السوق، وزوجي سافر بي.
فتقول في قلبها: أنا مسكينة قعيدة البيت، لا أخرج من البيت أبداً! وهكذا كلما سمعت من زميلاتها بدأت تقارنه بنفسها، وتنسى أنها هي قد تكذب -أيضاً- على زميلاتها، وربما يكون كلامهن معها هو الآخر كذب، فإن هذه المرأة التي تقول في نفسها: زوجي ما أعطاني شيئاً، ولكنها تقول لزميلاتها: والله أنا زوجي لم يقصر معي؛ بل اشترى لي من الذهب كذا، وسافر بي إلى كذا، وخرج بي إلى كذا، وقال لي كذا، وتتشبع بما لم تعط، وربما يكون ما قالته هي لهن -وهو كذب- سبباً في مقارنات يعقدنها مع أزواجهن.
فقد تكون كل واحدة من هؤلاء النسوة تكذب على الأخريات، وهذا الكذب قد يكون سبباً في تدمير البيوت، لأن المقارنة هنا، تبدأ، فتقارن الزوجة بين زوجها وبين أزواج زميلاتها أو صديقاتها أو حتى أخواتها، فزوج فلانة فعل كذا، وأتى بكذا، وقال كذا.
فتبدأ المقارنة في الشكل -كما قلت- أو المقارنة في الأخلاق، أو المقارنة حتى في نمط الحياة القائمة بينهما، كل اثنين عبارة عن شركة بينهما نمط خاص من الحياة، لا ينبغي أن يقارن بينه وبين غيره، أي أن شخصية فلان لا يمكن أن تقارن بفلان، وهكذا المرأة كل واحدة لها شخصيتها المميزة عن غيرها.
والمقارنة أيضاً تكون في سيطرة الرجل على زوجته أو تسامحه معها، أنا -مثلاً- رجل متسامح مع زوجتي، فإذا جلست مع زملائي؛ اكتشفت أن فلاناً رجل قوي الشخصية شديد القوامة على زوجته، فترتب على هذا أني أشعر بالهضم! ولذلك أقول: إن زوجتي قد تسلطت علي، وأخذت مني حقوقاً إلى غير ذلك، فلا بد أن أثبت شخصيتي أمامها!! فتجد أن الرجل يثور، ويريد أن يستعيد كرامته المسلوبة وشخصيته وقوامته، وربما كان ذلك سبباً في حصول الطلاق، والعكس مع أنه من الممكن أن توجد حياة زوجية بين رجلين، ويكون الزوج متسامحاً مع زوجته، والتسامح لا يعني ضعف الشخصية بحال من الأحوال، ومن الممكن أن يعيش الزوجان حياةً سعيدةً، ويكون الزوج قوي الشخصية نافذ الأمر على زوجته، وقد تطبعت هي على هذا الأمر وألفته وتقبلته بقبول حسن، ولا ينبغي أن يقارن الإنسان بين هاتين الحياتين أو هاتين الصورتين.
وعلى أي حال، فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا تخلو حياة زوجية من مشكلات، فلا ينبغي أن نكون مثاليين في تصورنا للحياة، اللهم إلا حياة الشيوخ المسنين، التي لم يبق منها شيء إلا صبحك الله بالخير ومساك الله بالخير، أما هذه المشاكل الصغيرة أو المشاكسات الصغيرة، فهي كما قال بعضهم: هي نوع من البهارات التي تجدد الحياة الزوجية، متى كانت هذه المشاكل بالقدر المعتدل، ولم تترك آثاراً بعيدة المدى في نفس أحد الزوجين.
2- قضية الحب التي غرسها الإعلام: من المثالية أيضاً: التعويل على قضية الحب التي غرسها الإعلام الفاسد في النفوس، من خلال المسلسلات وغيرها؛ فكثيرون يبنون حياتهم الزوجية على أحلام الحب الخيالية المثالية، وينسون الفرق بين امرأة للحظة أو لساعة أو لليلة فيما حرم الله عز وجل، وبين امرأة للعمر كله، بل للدنيا والآخرة فيما يحبه الله تعالى ويرضاه.
وكثير من الشباب والفتيات يتحدثون عن مبدأ الحب قبل الزواج الذي، تلقوه من خلال المعلم الفاسد المنحرف الذي يسمى التلفاز، ومن خلال شريط الفيديو، ومن خلال المجلة الهابطة، ومن خلال القرين السيئ أو القرينة السيئة، فتلقوا مبدأ الحب قبل الزواج، ولا شك أن الكثيرين منكم سمعوا وقرءوا ما كتبته -مثلاً- كريمة شاهين، في مجلة سيدتي، أو سمعوا أو قرءوا ما كتب في روايات عبير وغيرها، التي تباع -لا أقول في المكتبات- بل تباع في البقالات، وقل شاب يقرأ إلا وقد اطلع على مثل هذه الأمور، واعتبر أن ما فيها هو المثل الأعلى لحياته!! وأود أن أشير بهذه المناسبة، إلى أن الإعلام يقدم لنا نماذج من الفنانين والممثلين والفنانات وغيرهم، هذه النماذج كلها نماذج فاشلة على كافة المستويات، هي من أقل النماذج نجاحاً حتى في حياتها الزوجية، وليس من الأسرار أن نقول إن الممثلين والممثلات والفنانين، أغلبهم فاشلون في حياتهم الزوجية، ولم يكد ينجح أحد منهم في إقامة حياة سعيدة، إلا بعد ما اعتزل الفن وتاب إلى الله تعالى؛ فكيف يُقتدى بهم وهذه أحوالهم؟ فضلاً عن انحرافهم عن طريق الله تعالى ومخالفتهم لأمر الله عز وجل، لكن حتى في دنياهم وحتى فيما يظن أنهم ناجحون فيه هم في الحقيقة فاشلون مخفقون، ولعل من أسباب اشتغالهم بمثل هذه الأمور أنهم فشلوا في حياتهم الخاصة، فتلهوا بمثل هذه الأمور العامة.
3- استحضار الصور الجميلة: من المثالية أيضاً: استحضار الصور الجميلة التي تراها العين -كما ذكرت قبل قليل- وينسى هؤلاء أن صناع السينما من اليهود الذين يهدفون إلى تدمير الحياة الاجتماعية في بلاد المسلمين خاصة، ينتقون أجمل الصور ويقدمونها للناس؛ للإغراء والفتنة والإثارة وتدمير البيوت، ولذلك لا غرابة أن يكون أهم أهداف دعاة الإسلام هو ترسيخ دعائم الحياة الزوجية الاجتماعية، ومنابذة ومخالفة الفكر والمكر اليهودي ومن ورائه الفكر والمكر العلماني، الذي يتسلل من خلال الإعلام الفاسد في بلاد الإسلام.
4- وجود علاقة سابقة بين الزوجين: ومن المثالية: وجود علاقة سابقة بين الزوجين، يحكمها التصنع والتَّعَمُّل والمجاملة، سواء علاقة عبر الهاتف أو حتى أكثر من ذلك، فلا تصمد هذه الصورة الخيالية المليئة بالمجاملة والمليئة بالمثالية، لا تصمد على محك الواقع، وقد يشك أحدهم -أيضاً- في الآخر بعد الزواج، أنه يحدث منه خيانة، كلما رأى الزوج زوجته تتصل بالهاتف، أو وجد مكالمات طويلة أصابته الشكوك والظنون.(79/25)
عدم مراعاة التكافؤ بين الزوجين
من الأخطاء التي يقع فيها الشباب أحياناً: عدم مراعاة التكافؤ والتناسب بين الزوجين أي: عدم مراعاة المستوى بينهما، فمثلاً: المستوى العقلي، كون المرأة على مستوى والرجل على مستوى آخر، فقد يكون هو ذكياً جداً وهي دون ذلك، عندها بساطة أو سطحية، أو العكس فقد تكون المرأة ذكية جداً والرجل مغفل يؤخذ ما معه، فهذا لا شك من أسباب عدم الوئام بين الزوجين.
ومثله المستوى الاجتماعي، كون المرأة من مستوى وهو من مستوى آخر، فهي من طبقة عالية ذات مكانة وينظر إليها في المجتمع، وهو من طبقة متوسطة الحال، أو فقيرة أو بعيدة أو ضعيفة، وكذلك المستوى الاقتصادي المادي، ومثله المستوى النفسي والخلقي، وهذا كثيراً ما يغيب عن الناس.
فأحياناً قد يكون سبب الفراق وعدم الوئام بين الزوجين أن الطِّبَاع لم تتفق، أي ما تراكبت طباع الزوج مع طباع الزوجة، فالتصرفات التي تفعلها لا تعجبه وليس فيها خطأ، و0التصرفات التي يفعلها هو لا تعجبها، وبالتالي دائماً هي تنتقده وهو ينتقدها، مع أنه ليس هناك شيء واضح، لكن ليس هناك اتفاق وانسجام في الطباع، وهذا يمكن أن يعرفه الإنسان من السؤال عن أمها وأخوالها، وكما يقول العوام في أمثالهم: قبل أن تضمها اسأل عن أمها.
وكذلك معرفة إخوانها، ومدى إمكانية انسجامه معهم، والسؤال عن أخلاقها هي أيضاً وطبيعتها، وهل هي امرأة اجتماعية أو انعزالية، وهل هي محبوبة، إلى غير ذلك من الأخلاق التي يمكن معرفتها من خلال السؤال عن أحوالها.(79/26)
عدم الدقة في التحري قبل الزواج
ولعل هذا من أكبر وأخطر الأسباب، فبعض الشباب الذين يقدمون على الزواج، يركزون على جانب واحد فقط كالجمال مثلاً، فيبحث عن الجميلة، ويركز على الصفات الجسمية، ولكنه يغفل عن الجوانب الأخرى، فبعد ما يتزوج قد يجد الجمال، لكن الجمال من الممكن أن يذبل خلال شهر أو شهرين أو حتى سنة، ثم تظهر بعض السلبيات الأخرى التي تجعل الحياة مستحيلة، فأي قيمة لجمال يصاحبه غرور؟ أي قيمة لجمال ليس معه عفة؟ وأي قيمة لجمال ليس معه تربية حسنة؟ وبعض الشباب يقول: أبحث عن ذات الدين، ولا شك أن هذا هو ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {فاظفر بذات الدين تربت يداك!} ولكن مع ذات الدين، لا بد أن يكون الإنسان معتدلاً في بحثه؛ لأن بعضهم قد يبحث عن ذات الدين فيسئ إليها، فبعد ما يتزوجها وهي ذات دين، ربما تصوم النهار وتقوم الليل، وبعد ذلك يقول: والله لم أحبها، لماذا يا فلان؟ قال: لأنها امرأة ليس فيها أي قدر من الجمال، مواصفات الجمال معدومة فيها.
أي فأنت هنا لم تحسن إليها بل أسأت إليها، والرسول عليه السلام طلب منك أن تبحث عن ذات الدين لتحسن إليها، وربما تدخل بها الجنة، أما أن تبحث عنها حتى تؤذيها وتضايقها في البيت، وتضطهدها وتظلمها، وربما تقبحها في شكلها أو أمام الآخرين فهذا لا يسوغ، دعها عند أهلها يرزقها الله تعالى من هو خير منك، وقد يرزقك الله تعالى من هو خير منها.
فعلى كل حال، ينبغي أن يراعي الإنسان الموضوعية والاتزان والشمول عند البحث، فلا يركز على جانب واحد فقط، فإذا وجده بحث عن الجوانب الأخرى التي ربما فقدها.(79/27)
عدم النظر إلى المخطوبة
من الأسباب: عدم النظر إلى المخطوبة؛ فإن كثيرين لا ينظرون إلى المرأة قبل أن يتزوجوها، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالنظر إلى المخطوبة، أمر المغيرة وغيره كما في الصحيح وقال: {انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً} وقال عليه الصلاة والسلام: {إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما- أو فإن استطاع- أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل} وكل هذه أحاديث صحاح، وأَمرُ الرسول صلى الله عليه وسلم كله بركة، وإن غضب الناس، فربما من أول نظرة، يشعر الإنسان بأنه لا يحب هذه المرأة، فلا يسيء إليها ويهضمها ويظلمها، بل يدعها عند أهلها ويبحث عن غيرها، وهي أيضاً ربما تجد غيره أفضل منه.
بعض الناس أيضاً ينظر نظرة لا تنفع ولا تسمن ولا تغني؛ لأنها نظرة خاطفة، أو نظرة عابرة، لا تدل ولا تفيد شيئاً، أو ينظر بعدما تم كل شيء، وهذه النظرة أيضاً لا تنفع؛ لأنه لو وجد في نفسه عدم قبول، فإنه لا يستطيع أن ينسحب، وقد تم كل شيء.
بعضهم قد يكتفي بوصف الأهل، فهذه الأم -مثلاً- ذهبت لتنظر إلى بنت فلان، وقد تكون فتاة ذكية خلوقة طيبة خدومة، فلما دخلت هذه المرأة الضيفة وهي لا تعرفها، أقبلت إليها وحملت عباءتها، ورحبت بها وأجلستها، وقدمت لها القهوة والشاي، فأعجبت المرأة بها، فلما رجعت أصبحت تصفها لولدها وصفاً؛ لأنها لم ترَ منها إلا المحاسن، حيث أعجبت بخلقها وأدبها وتلطفها وخدمتها، ثم يأتي الولد، فلا يجد الوصف الذي وصفته أمه أو أخته أو قريبته، والحل بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أن ينظر إليها.
والنظر يعطي الإنسان مسؤولية، لأنه لا يمكن أن يقول: ما وجدت الجمال.
! فسيقال له: أنت نظرت بعينك، لم يكن هناك وصف ولا وسيط ولا شيء، نظرت بعينك وعينك لا تخونك! وبعض الشباب -مثلاً- ليس لديه قدرة على تصور الأمر، ربما قبل الزواج تفكيره محدود، فالتفكير الوحيد عنده هو أن يفكر في امرأة تعفه لا غير، أو ينظر نظرة مثالية في بناء بيت الزوجية والعلاقة التي يمكن أن تقوم بينه وبين الفتاة، ولهذا لا يكترث كثيراً لمعرفة المواصفات في شريكة العمر ورفيقة الدرب، ولذلك نحن نلوم الشباب على تأخير الزواج لما في ذلك من المضار والمفاسد، ولكننا لا نلومهم أبداً إذا كان تأخيرهم بسبب مزيد من البحث والتحري؛ لئلا تظلم نفسك أو تظلم غيرك، فكون الإنسان تأخر وهو يبحث، ولكن يقول: ما وجدت المرأة المناسبة.
شريطة أن تكون الشروط معتدلة، هذا لا يلام، أما كونه يقدم إقداماً عشوائياً، فهذا لا شك ضرر عليه وعلى الفتاة وعلى المجتمع.(79/28)
الأسئلة(79/29)
جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة في أفغانستان
السؤال
هذا أخ يسأل عما سبق أن تكلمت فيه في إحدى المحاضرات عن المجاهدين الأفغان، ويقول: إنك تكلمت عن الحزب الإسلامي وعن الأحزاب الأخرى، ولم تتكلم عن جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، وعن الشيخ سميع الله، يقول: إنك تركته لأنه ليس له جبهة ذات تنظيم معترف بها من قبل الأحزاب الأخرى، مع أنها إحدى الجماعات الإسلامية، التي أبلت بلاءً حسناً في معاركها مع الشيوعية، وهي أول جماعة حوربت من أجل دينها وعقيدتها إلى غير ذلك؟
الجواب
أقول: الذي أذكر أنني تكلمت عن هذه الجماعة، بل دعوت الإخوة السامعين إلى ضرورة محادثة الإخوة في أفغانستان من قادة الجهاد، إلى إشراك هذه الجماعة في أية حكومة تقوم هناك، وأننا لا ينبغي أن نرمي بثقلها في هذا الجانب، وأقول: جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، هي إحدى الجماعات المجاهدة الداعية إلى الكتاب والسنة في أفغانستان، ولها جهود جهادية وعلمية مشكورة معروفة، وقد سبق أن تكلمت عنها في: (خلل في التفكير) وإنما تكلمت على ضوء الواقع القائم هناك، باعتبار أكثر الأطراف تردداً وأكثرها تأثيراً، وإلا فهذه الجماعة بلا شك مما ينبغي أن نقوم جميعاً بدعمها، ومطالبة الإخوة قادة الأحزاب الإسلامية بإشراكها في الحكومة القائمة.(79/30)
البث المباشر
وصلتني عدد من الأوراق، تتحدث عن مسألة البث المباشر، وهو أحد الأخطار الداهمة الآن، فقد أصبحنا نرى ونشاهد في عدد من المدن في هذه البلاد، تلك الأقراص التي تستقبل القنوات الفضائية العالمية، وأصبحنا نقرأ في الصحف دعايات لها، وعلى سبيل المثال: هذه إعلانات وزعت على بعض المساكن، فهذا إعلان وزع في جدة، عن أمر يتعلق بالاشتراك في أشرطة الفيديو، اشتراك شهري في إحدى المحلات، ومدة الفيلم محدودة وقصيرة، مقارنة بمدة البحث عن المحطات الفضائية، بالإضافة إلى البرامج الثقافية والتعليمية الغير متوفرة في الفيديو، فيدعون -بناءً عليه- إلى الاشتراك أو تركيب هذه الإيريلات، التي تستقبل القنوات المصرية، أو قناة تلفزيون الشرق الأوسط MBC أو القناة الأمريكية، أو حتى القنوات الفرنسية أو غيرها.
وهذا أيضاً مثله عرض خاص من أحدى المؤسسات، عن رغبتها في بث القنوات الفضائية، القناة المصرية والـ MBC وغيرها، مقابل رسوم اشتراك، قدرها مائة ريال فقط للشهر الواحد، وهناك مغريات كثيرة، ما عليك إلا الاتصال والاستفسار.
ومئات الأوراق في الحقيقة من هذا القبيل، سبق أن جاءتني في أوقات شتى، وهذا خطر ينبغي أن يقوم أهل العلم والدعوة إلى الله -بل عامة الناس- بمحاربته، بل بلغني أن بعض أصحاب محلات صناعة الألمنيوم، يقومون بصناعة هذه الأقراص وإعدادها وتجهيزها وتركيبها، وبعضهم يعلنون أن لديهم مهندسين مختصين وفنيين، يمكن أن يقوموا بمثل هذه العمل.
ونحن نقول -حتى أرد على اعتراض البعض الذين استغربوا مثل هذه الحملة- أقول: نحن لا نشك أنه تأتي في مثل هذه القنوات أخبار، وتأتي أحياناً أخبار مصورة، ويأتي أخبار قد لا يمكن أن تصل عن غير طريقها، لكن كم عدد الذين يهتمون ويتحمسون لمثل هذه الأمور، من الناحية الأخبارية والناحية العلمية والتثقيفية ومتابعة ما يجد؟ أقول: إنه في مجتمعنا عدد قليل؛ لأن مجتمعنا -مع الأسف الشديد- لا يزال أقل بكثير مما هو مطلوب في حجم المتابعة والاهتمام بأمور المسلمين، فضلاً عن أن يكون مهتماً بالأحوال العالمية.
وإنما نجد الكثيرين من أفراد المجتمع، قد يكون لديهم -خاصة من الشباب المراهقين- اهتمام أكثر بمشاهدة ما يعرض، مما يخل بالدين والأخلاق والحياء، ومما لا يمكن مشاهدته في التلفزيون أو في أشرطة الفيديو، فما هو الشيء الذي لا يعرض في التلفزيون أو لا يعرض في أشرطة الفيديو؟ إذا كنا نعلم يقيناً وقطعاً أنه في التلفزيون يعرض، وفي أشرطة الفيديو أيضاً يعرض -وبدون مبالغة- امرأة ليس عليها ما يسترها إلا ما يستر سوءتها فقط، وربما ظهر أحياناً على الشاشة رجل كما ولدته أمه، وهو يركض على مرأى من الناس كلهم.
إذا كان هذا يعرض -أحياناً- وفي أشرطة الفيديو يعرض الشيء الكثير من ذلك، من الرقص ومن الفساد، بل ومن شرب الخمور وغيرها، فلم يبق إلا ما هو أشد وأنكى من ذلك، ونحن نربي ونشفق على قلوب شبابنا وفتياتنا أن يسمروا عيونهم بمثل هذه الشاشات، التي لن يجني من ورائها إلا الشر للأمة والمجتمع.(79/31)
أخبار الجهاد في أفغانستان
السؤال
هذه أسئلة كثيرة تتحدث عن آخر ما حدث للمجاهدين في أفغانستان؟
الجواب
هناك أخبار تدل على أن هناك حاجة كبيرة إلى الدعوة الإصلاحية، خاصة بعد ما هدأت الأمور بعض الشيء، فلا بد من القيام بإرسال الكتب والنشرات والأشرطة، والمشاركة في الدعوة هناك من خلال الوسائل الممكنة، كالإذاعات المرئية والمسموعة وغيرها، وتوزيع الكتب وغير ذلك، كما أن هناك تنبيهاً: إلى أن هناك وجوداً للشيعة في بعض المناطق، والشيعة يسيطرون على مناطق فيها صواريخ اسكود قريبة من كابول، ومنطقة مدخل هو عبارة عن جسر وبجانبه مسجد، وقد اتخذوا المنارة نقطة للسيطرة على هذا الجسر، ويوجد بأيديهم مناطق أخرى أيضاً، ولكن مما يذكر أن هذه المنصات التي يسيطرون عليها، يقول أفراد الحزب الإسلامي: إنهم قد نزعوا صواعقها؛ ولذلك فإنهم لا يمكن أن يستخدموها.
أيضاً هناك اعتراف دولي بالحكومة القائمة -كما هو معروف- اعترف بها ما يزيد على مائة دولة، وأفغانستان الآن تمر بمرحلة حساسة، ويجب أن يتميز المجاهدون هناك والمسلمون في كل مكان، بقدر كبير من الحرص واليقظة على حفظ الجهاد وقبض ثمراته، ومنع الغرب أو الشرق أو إيران أو غيرها من التدخل.
يقول بعض الإخوة من الشباب: ذهبنا إلى كابول مع وفد المجاهدين، وكان الوفد تقريباً ألفاً ومائتي سيارة، وكذلك معهم بعض المهاجرين، ورافق الوفد الشيخ عبد رب الرسول سياف، وبرهان الدين رباني، وعدد كبير من القادة، وبعد يومين وصل أحد القادة أيضاً.
ويقول الأخ أيضاً، وهذا حصل قبل فترة، وحصل بعده أيضاً بعض الأخبار التي تقول: إنهم دخلوا إلى مكتب وزير الأمن الذي انتحر سابقاً في مكتبه، وأنه ما زال دمه موجوداً على سجاد المكتب، ووجدوا أوراقاً على مكتبه، وأوراقاً تخص بعض المشايخ الذين كان لهم دور في الجهاد، وملفات الأسرى العرب، وكذلك ملفات سرية، تدل على تورط كثير من الدول العربية وغيرها في قضية أفغانستان، وكذلك إيران والهند وغيرها، وبدأ الإخوة بترجمتها من اللغة الفارسية إلى العربية، حتى يعلم الجميع أن العالم كله قد اجتمع ضد هذه الدولة الإسلامية الوليدة، وأجمع على ألا تقوم لها قائمة، إلا أن الله تعالى غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وبدأت أيضاً سلطات المجاهدين هناك، بفرض الحجاب عبر الإذاعة والتلفزيون، ومنع تداول المشروبات الكحولية التي كانت تغص بها أسواق كابول، وأمروا بنزع التماثيل والصور الكبرى لقادة الشيوعيين، واستبدالها ببعض المناظر المباحة -كما يقول- واحتلت الدبابات والمدرعات مواقعها داخل مفارق الطرق في كابول، وأعيد الموظفون إلى أعمالهم، وفتحت المدارس من جديد، وعادت الحياة إلى طبيعتها، وقد تقابل الشيخ رباني وسياف مع حكمتيار، وكتبوا بعض الاتفاقيات من أجل موضوع المليشيات الجوزجانية، وضرورة إخراجها إلى الشمال.
على كل حال أقول: هذه من أخطر القضايا، قضية المليشيات؛ فإنها ما زالت عقبة خطيرة في أفغانستان وفي كابول بالذات، لأن لها وجوداً كبيراً، ولا زال وجودها ربما في كابول أكثر بكثير من وجود المجاهدين، وقد بلغني أخبار أخيرة، بأنهم يهددون بأن يكون لهم مجال ووزن وقيمة، وكذلك من المخاطر -كما قلت سابقاً- وجود بعض المتنفذين في السلطة، ممن لا يوثق بعقائدهم ولا بانتمائهم ولا بولائهم، بل هم أصحاب وجوه غربية وعقائد صوفية.
ورد خبر قبل أيام: صرح شقيق أحمد مسعود، صرح قائلاً: إن الخيار العسكري بين الجمعية والحزب لم يبق له أثر، وحل محله التفاهم السياسي والاتجاه الايجابي وطريق التحسن -ولله الحمد- كما يقول الخبر، وعلى كل حال هذه أخبار نرجو الله أن تكون دقيقة، ومع ذلك ما زلنا ندعو إلى مزيد من بذل الجهود، في جمع كلمة المجاهدين وإبعاد أي شبح للمواجهة فيما بينهم.(79/32)
خبر عن البوسنة والهرسك
هذا يقول: هجوم صربي شامل على سراييفو، ودمرت مساجد ومنشآت إسلامية، والمجموعة العربية طالبت عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، وهناك أخبار مزعجة جداً، لكن الوقت يضيق عن قراءتها، وقد نشر في بعض الصحف يوم الجمعة 13/ ذي القعدة.
وكذلك هذا خبر في جريدة الوطن العربي، يقول: تنسيق أمني تونسي مصري جزائري؛ توقعاً لعودة ثمانية آلاف أصولي، استعدوا! المتطرفون عائدون من أفغانستان، وألف أصولي إلى مصر في طريق العودة، وشبكة أصولية عالمية على الأرض الأفغانية بقيادة الترابي وأحمد الخميني، طهران كانت محطة إرسال للمتطوعين، والخرطوم محطة استقبال.
هذه المجلة البائسة التائهة الضائعة، قد فقدت قراءها، حيث فقدت مصداقيتها وأصبحت مجرد إذاعة لبعض الأنظمة المعروفة، ولا هم لها إلا السخرية بالمتدينين واتهامهم بشتى التهم، حتى إنها أحياناً -وقد رأيت هذا بعيني- صورت مجموعة يقرءون القرآن في حلقة.
وقالت: المتطرفون يجمعون الصبية الحسان لماذا؟ فكأنها تتهمهم بشتى الأمور، أما هؤلاء الذين قضوا حياتهم في أماكن الفساد ومواكير الانحلال والإباحية، فإنهم لا تدب إليهم أية تهمة فيما يظنون ويزعمون!! اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، اللهم أصلح سرنا، وعلانيتنا، وظاهرنا، وباطننا.
والحمد لله رب العالمين.(79/33)
غلاء المهور
السؤال
يتكلم عن قضية غلاء المهور وما يتعلق به؟
الجواب
غلاء المهور له سلبيات كثيرة.
منها: تأخير الزواج، وكثرة العوانس في البيوت، ويترتب على ذلك الاتصالات الهاتفية، ويترتب عليها الخروج إلى الأسواق، ويترتب عليها ارتكاب الفواحش والعلاقات المحرمة بين الجنسين، ويترتب عليها تأخير النسل والإنجاب، وتأخير إقامة البيوت والأسر، ويترتب عليها أن الزوج يصبح متحاملاً على زوجته، ودائماً وأبداً يشعر في قلبه أنه تكلف من أجلها، وركبته الديون، وأراق ماء وجهه في طلب الإعانات إلى غير ذلك، فهو ينتظر منها أن تكون على مستوى معين، قد لا يمكن أن تكون عليه.(79/34)
الاحتفالات النسائية وخطرها
هذه بعض الموضوعات وبعض الأوراق التي وصلتني، منها هذه الورقة، تكلم فيها الأخ عن احتفال أقيم في الرياض، في الأسبوع الماضي في فندق الأنتركنتنتل، وبدأ من الساعة التاسعة إلى الساعة الرابعة فجراً، حفل غنائي نسائي وهو للبنات، وجرت فيه بعض الرقصات والغناء النسائي، مع أنه ورد منع من تعليم البنات كما يقول، ولكن لم يكن هناك امتثال، مع الالتماس من المسؤولين في الهيئات على مثل هذا الأمر، وتدخل بعض المشايخ!! ولا شك أن مثل هذه المهازل التي تتكرر في مجتمعنا، يجب أن يوضع لها حد، وأن يكون لأهل الخير والعلم والدعوة والإيمان جهاد في مقاومة هذا الفساد الذي يراد بالمرأة في مجتمعنا على أكثر من مستوى.
ومما وصلني أيضاً -وهو يتعلق بهذا الأمر- أن هناك أخباراً عن إقامة حفل أيضاً في حي السفارات بعد فترة، وهي أيضاً لطالبات الكلية التطبيقية التابعة لجامعة الملك سعود، وقد كتب لي مجموعة من الإخوة عن ذلك، وندعو الإخوة الذين كتبوا، والمشايخ الذين أرسلوا، أن يبعثوا بالإعلانات والوثائق والأوراق التي تتعلق بهذا الأمر، إلى المشايخ وطلبة العلم والدعاة؛ ليمكن إنكار هذا المنكر بالطرق الممكنة، فإن هذا من المنكر الذي يحب علينا جميعاً عامة وخاصة، علماء وطلبة علم ودعاة، أن نساهم في إنكاره، فإنه مما لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه، وهو مما يكون سبباً في دمار البيوت وخرابها وفسادها.(79/35)
الطلاق ليس عيباً في المرأة
السؤال
كثير من الناس يظنون أن أية امرأة مطلقة فإنها لم تطلق إلا لعيب فيها، فتبقى أمداً طويلاً بلا زوج بسبب هذه النظرة؛ فما رأيكم؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، قد يكون العيب في الزوج نفسه، قد يكون الزوج مطلاقاً، وقد يكون عصبياً، وقد يكون الزوج لم يقبل هذه المرأة لا لعيب فيها؛ لكن لأنه لم يكتب بينه وبينها وفاق وانسجام، وقد يكون الأمر فعلاً من الزوجة، لتقصير حصل منها، وكل ذلك وارد، ولهذا أقول للزوج والزوجة: كون فلان طلق، فهذا لا يدعو إلى رفضه، والآن هناك دراسة على مجتمع القصيم، تقول: هناك (22%) من الأسر تقريباً، لا تزوج الولد أو الشاب الذي سبق أن طلق بغض النظر عن الأسباب، وأما بالنسبة للفتاة التي طلقت، فهناك أكثر من (76%) لا يقبلون الزواج منها لأي سبب من الأسباب، وأرى أن الأمرين كلاهما خطأ.
فبالنسبة للزوج الذي طلق، يحب أن أعرف ما هي الأسباب، فإن وجدت أنه رجل انفعالي وعصبي ويطلق، وكلمة الطلاق عنده هكذا، فهذا لا يستحق أن أعطيه ابنتي؛ لأنه ليس على مستوى المسؤولية! لكن إن وجدته رجلاً متعقلاً ديناً حكيماً، ولكنه لم يكتب بينه وبين زوجته وفاق، لأسباب معروفة، وطلقها بستر وصيانة، وبعد اتفاق بينهما وما أشبه ذلك.
فهذا ما الذي يمنع من تزويجه؟ ومثله البنت أيضاً، فإذا عرفت أن هذه الفتاة طلقت لريبة، هذا أمر! لكن إذا عرف أن طلاقها كان بسبب من الزوج، أو ظلم لها أو تقصير، أو غير ذلك، أو تعجل، أو لأن الرجل مثلاً شكاك أو كثير الظن أو غير ذلك، فهذا لا يعيب المرأة في شيء، ويجب أن نعلم أن أكثر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم -بل كلهن- تزوجهن عليه الصلاة والسلام ثيبات، إلا عائشة لم يتزوج بكراً غيرها، ولهذا أيضاً كانت هي أحب نسائه إليه.(79/36)
النظر إلى المخطوبة
السؤال
البعض يقول: إذا تركت الخاطب ينظر، فإذا لم تعجبه ابنتي ربما ينشر ويذيع بأنها كذا وكذا؟
الجواب
على كل حال.
هذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام وخبره ونصحه، وينبغي أن يتخذ في ذلك من الاحتياطات ما يضمن ألا يقع هذا المحذور الذي تخافه.(79/37)
امرأة لا تنجب الأولاد
السؤال
هناك امرأة ذهبت إلى مستشفى الولادة والأطفال، وهي تصرخ لدى المسؤولين، وتقول: هناك تقرير بأني لا أنجب، وهددني زوجي بالطلاق، وأنا عندي أولاد، ويريد أن يستقدم زوجة من الخارج؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر} فبقاء هذه المرأة عنده قد يرزق بسببها، وقد ينصر بسببها، وقد يعافى بسببها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري في صحيحه} .
فلعل هذه المرأة امرأة صالحة، يكون وجودها خيراً وبركة على زوجها، حتى وإن كانت لا تنجب، ثم إن هذه التقارير غير مؤكدة ولا يقينية، قد يكون الأمر بخلاف ما قالوا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -أيضاً- في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وهو صحيح: {إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة} .(79/38)
مشكلة الأم والزوجة
السؤال يقول: أمي شديدة الغيرة من زوجتي، فمهما فعلت مع أمي فأنا مقصر، فكيف توجهني؟ مع أن هذه الظاهرة متفشية، والوالدة مكثرة من القيل والقال وكثرة الشكاية؟
الجواب
هذه فعلاً مشكلة، الأم لها حق قال الله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] وعلى الولد أن يكون لبقاً حين تعامله مع زوجته، خاصة حين يكون أمام أمه، فلا يشعرها بأنه يفضلها عليها أو يعطيها أي شيء، بل يشعر أمه بأن القرار الأخير لها، وإن كان الأمر في الواقع ليس كذلك، فكثير من الآباء والأمهات، يكفيهم أن يقول الولد لهم: لبيكَ! وسيكون ما ترضى، وبإذن الله لن يقع شيء يسخطك، ولن يكون إلا ما يرضيك وما أشبه ذلك، ثم هو يتصرف بما يراه مناسباً بطريقة لبقة، وكما يقولون: الكلام اللين يغلب الحق البين.
ثم إن كثيراً من الأسر في كثير من البلاد، جرت العادة أن الولد يستقل في بيت بمجرد ما يتزوج، خاصة حين يكون أهله ليسوا في حاجة إليه، كأن يكون هناك أولاد لهم غيره، أو هم بجواره، أو هم مشتغلون عنه، وهذا في نظري -إذا لم يكن ثمة حاجة وهذا الأمر جيد؛ لأنه يجعل للزوجين كمال الاستمتاع بينهما وعدم وجود تدخل، وكذلك يضمن أن تكون العلاقة بين المرأة وبين أم زوجها، وبينها وبين أهلها أيضاً علاقة طيبة وحسنة وحميدة؛ لأن مبناها على الزيارة والمجاملة والترحيب والتحية وغير ذلك، أما إذا وجد حاجة من الأهل للولد أو لزوجته، من خدمة المنزل، أو أنهم لا يستغنون عنه، أو لا يوجد غيره أو غير ذلك من الأسباب، فهذا يقدر بقدره.(79/39)
التدخل في خصوصيات الآخرين
السؤال
ما رأيكم في كثير من الرجال والنساء الذين يتكلمون في الأزواج، وهل طلق فلان أو راجع، ولماذا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.
أرجو وعظ هؤلاء؟
الجواب
نعم، هذه من مشكلاتنا الاجتماعية، التدخل في خصوصيات الآخرين، وهي تنم عن الفراغ الذي يعانيه المجتمع، فليس عندنا موضوعات ذات بال نتكلم فيها ونناقشها؛ ولهذا نملأ وقتنا وأحاديثنا ومجالسنا بالكلام عن فلان وفلانة، وهل تزوجت أو طلقت؟ وماذا حصل؟ وما هي الأسباب؟ ويبدأ الناس يفيضون ويتحدثون ويشيعون الإشاعات والقالات، التي هي في كثير من الأحيان ليس لها أصل.(79/40)
المستضعفون
المستضعفون في هذا الزمان كثير ينادون! يصرخون! يتوجعون! ولكن من المجيب؟! فإذا نظرت المرأة في بيت زوجها، والعمال في أيدي كافليهم، والأولاد الصغار تحت رعاية أبويهم؛ فإنك تجد الاستضعاف وصل إلى منتهاه.
حول هذا الحديث تكلم الشيخ حفظه الله ورعاه.(80/1)
علاقة الدين بحماية المستضعفين
الحمد لله تعالى حمداً، والشكر لله تعالى شكراً، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حديثي إليكم في هذه الليلة: ليلة الثلاثاء 14 من شهر رمضان، هو: عن المستضعفين.
فلقد جاء الدين بحماية المستضعفين من سائر الأجناس والألوان والطبقات وهم أولئك الذين لا يجدون سلطة تحميهم، وليس لهم قوة تنفع أو تدفع إلا قوة الله تبارك وتعالى، ولهذا قال الله عز وجل في محكم تنزيله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] فالقتال في سبيل الله عز وجل يهدف إلى حماية المستضعفين من بطش الجبارين والمستكبرين وإحقاق الحق لهم، وحماية حقوقهم المشروعة.
ويقول الله عز وجل في موضع آخر: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:97-99] فجعل الله عز وجل الضعف في الإنسان رجلاً أو امرأةً كبيراً أو صغيراً سبباً من أسباب الرخصة والتوسعة عليه.(80/2)
الضعفاء هم أتباع الأنبياء
وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الضعفاء هم أتباع الأنبياء، وأن أكثر أتباع الأنبياء منهم، فأي نبي يبعث إنما يتبعه ضعفاء الناس، ومن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس قال: {فضعفاء الناس اتبعوه أم كبراؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم} وقال عليه الصلاة والسلام: {ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم بدعائهم واستغفارهم} فالضعيف يدعو فيستجاب له، ويستغفر فيغفر له، ويستنصر فينصر، لأنه صاحب قلب منكسر، وصاحب عين دامعة، وصاحب نفس بعيدة عن التكلف، وبعيدة عن الغلو، وبعيدة عن الكبرياء والتعاظم والجبروت والغرور الذي يصيب أهل المنازل العالية من الدنيا عادة، فالضعيف سالم ناجٍ من هذه الأشياء إلا ما ندر، ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث ثلاثة أنواع ممن لا يكلمهم الله، وذكر منهم: {عائل مستكبر} ومعنى عائل أي: فقير، ومع ذلك مستكبر، لأن الفقر يناسبه عادة التواضع، فإذا صار مع فقره مستكبراً، دل هذا على فساد في طبعه، ورداءة في خُلقه، ولهذا كان من أهل النار والعياذ بالله تعالى.
وقد عاقب الله عز وجل بني إسرائيل -كما في الحديث الصحيح- بالهلاك؛ لأنهم كانوا يعاملون الضعيف معاملة، ويعاملون القوي معاملة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وإذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} .(80/3)
الضعفاء أقرب الناس إلى الخير
والضعفاء -أيها الأحبة- هم غالباً أقرب إلى الخير، وأقرب إلى الله تعالى زلفى، وأقرب إلى اتباع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى، فقال صلى الله عليه وسلم: كل ضعيف متضعف ذي طمرين لا يؤبه له} كما في سنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد، ومعنى كل ضعيف متضعف ذي طمرين أي: ثوبين باليين خلقين لا يؤبه له.
وكذلك قال في الحديث والآخر -حديث عياض بن حمار، وهو في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد- قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وأهل الجنة ثلاثة: -وذكر منهم- ضعيف متضعف لو أقسم على الله تعالى لأبره} أي: فيه ضعف ومسكنة وتواضع وبعد عن الأبهة والخيلاء والغطرسة والكبرياء التي هي شأن المستكبرين في هذه الدنيا، والذين هم وقود النار يوم القيامة: {يحشر المستكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يطؤهم الناس، ثم يوضعون في سجين} والعياذ بالله تعالى.(80/4)
مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء
ولهذا تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم راعى الضعفاء في مسائل كثيرة جداً يصعب حصرها، وراعى أيضاً حالة الضعف في الإنسان، فالمسافر مثلاً: له رخص؛ لأنه ضعيف، أو يعرض له الضعف، والمريض له رخص؛ لأنه ضعيف، ويحتاج إلى تخفيف في الصوم والصلاة والطهارة وغيرها، والصغير له رخص، واليتيم وغير ذلك من الأحكام الكثيرة.
ومنها على سبيل المثال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العشاء يوماً من الأيام إلى نحو منتصف الليل، ثم جاء وصلى بالناس، ثم قال عليه الصلاة والسلام: {لولا ضعف الضعيف لأخرتها إلى هذه الساعة} فبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة العشاء في أول وقتها مراعاةً للضعفاء، من أجل أن يمكنوا الصلاة ويدركوها دون أن يشق عليهم ذلك، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود.
ولما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الإمام بالتخفيف في الصلاة إذا كان يصلي بالناس، علل ذلك بأن وراءه الكبير والضعيف، كما في رواية البخاري وغيره، فالضعيف سواء أكان شيخاً كبيراً أم مريضاً أم نحو ذلك ممن يشق عليه طول القيام وطول الصلاة، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف من أجلهم.
وكذلك أيضاً ما يتعلق بالدفع من مزدلفة، فإنه صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء من النساء والصبيان ومن معهم -ومن في حكمهم- في الدفع مبكراً بعد مغيب القمر من مزدلفة وذلك مراعاة لضعفهم وحاجتهم إلى هذا التخفيف.
وهذا الباب واسع جداً في ذكر ما شرع الله تعالى من أنواع التخفيف والتوسعة على الناس مراعاةً لضعف الضعيف وحاجات المحتاج، ومراعاة للكبير وللضعيف والصغير والمرأة ونحو ذلك.
والضعف سبب لكثير من الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة مراعاةً لحاجتها.
ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمر المغانم في الأمم السابقة بيَّن أنه كانت تنزل نار من السماء فتحرقها -تحرق الغنائم- فلما رأى الله تعالى ضعف هذه الأمة، طيبها لها وأحلها، قال عليه الصلاة والسلام: {وذلك أن الله رأى ضعفنا وعجزنا، فطيبها لنا} كما في الحديث المتفق عليه، ولهذا أحلت هذه المغانم لهذه الأمة، ولم تكن تحل لأحد من الأمم قبلها.(80/5)
المستضعفون في هذا الزمان
إذاً: من خلال هذه النصوص السريعة يتبين لنا أن الدين جاء بحماية المستضعفين، والدفاع عن حقوقهم، وما زال المسلمون عبر التاريخ يعتبرون ردءاً دون الاعتداء على الضعفاء حتى إن المسلمين قد يخوضون معارك ضارية يهدفون من ورائها إلى حماية المستضعفين، فماذا نجد اليوم؟ ماذا نجد في مجتمع المسلمين؟ بل ماذا نجد في المجتمع القريب منا؟ نجد انتهاك حقوق الضعفاء على أشده، وهذا باب يطول، ولكنني سوف أعرض لكم بعض النماذج.(80/6)
الأمَّة
والأمة تعتبر مستضعفة بالقياس على من ولاه الله أمرها من الحكام والمسئولين الذي أمر الأمة بأيديهم، فإذا رفقوا بها، وأحسنوا رعايتها، وقاموا بحقوقها، وراعوا حاجاتها، وحافظوا على كرامتها وإنسانيتها وحقوقها، آجرهم الله تعالى على ذلك، وبارك لهم في أمرهم وأمنهم، ونفع بهم، ورزقهم المحبة والقبول، فتجد الألسنة كلها ثناءً عليهم ومدحاً لهم ودعاءً لهم.
وإذا كان الأمر على نقيض ذلك من المشقة على الأمة وإيذائها وإثقالها بالضرائب والرسوم، وكثرة الضغط عليها، ومصادرة حريتها وتخويفها وترويعها وإشغالها بما لا حاجة لها به، والتضييق عليها في دينها أيضاً، والتأثير على أخلاقها، وعلى أديانها، وعلى أعراضها، ونقل الفساد إليها، والتضييق عليها في اقتصادها وفي تجارتها، وفي أرزاقها إلى غير ذلك، فإن هذا من المشقة التي تسبب غضب الله تعالى ومقته لهؤلاء، وتجعل قلوب الناس تنكرهم وتبغضهم، فتكون الألسنة كلها ذماً لهم وتوبيخاً ونقداً ودعاءً عليهم، وهذا هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: {أنتم شهود الله في أرضه، هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً، فوجبت له النار} والحديث متفق عليه، ويقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به} فدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم مستجابة في حق كل من رفق بالأمة أن يرفق الله تعالى به ويحفظه، وفي حق كل من شق على الأمة وضايقها في دينها ودنياها وأمنها واقتصادها وإعلامها وغير ذلك، أن الله تعالى يشق عليه، ويسلط عليه.
الضعفاء كثيرون، بل الأمة كلها في حالة استضعاف وأقولها بالخط العريض: الأمة كلها في حالة استضعاف، ولكن الضعف درجات، فعلينا أن نتقي الله تعالى في الضعفاء الذين تحت أيدينا حتى يهيئ الله لنا من يتقي الله تعالى فينا، ونحن ندعو في دعاء القنوت: اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
أنت خف من الله تعالى في من هو تحت يدك، فارحمهم حتى لا يسلط الله عليك من لا يخافه فيك.
أما إن اعتديت على الضعفاء الذين تحت يدك، فسوف يسلط الله سبحانه وتعالى عليك من لا يخافه ولا يرحمك.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم من كل سوء ومكروه إنه على كل شيء قدير.
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك يا حي يا قيوم، اللهم اغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، ووفقنا لما تحب وترضى أجمعين، اللهم وفقنا أن نرفق ونلطف بالضعفاء الذين تحت أيدينا، اللهم وفقنا أن نقوم بحقوق رعايانا، اللهم وفقنا أن نقوم بحقوق رعايانا سواء كانت حقوق دينية أو حقوق دنيوية إنك على كل شيء قدير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , والحمد لله رب العالمين.(80/7)
من الضعفاء الأولاد
الصنف الثالث من الضعفاء هم: الأولاد من الذكور والإناث من الصغار؛ فما أحوجهم إلى ابتسامة من أبيهم، ضحكة، مزحة معهم، وقت ولو عشر دقائق، أو ربع ساعة يتحدث معهم، ويبادلهم الحديث، وقد ينشغل الأب في أعمال: في مزارع أو في تجارات، أو غير ذلك، ولا يراه الأبناء إلا قليلاً، وإذا رأوه كان مشغولاً بأمور كثيرة، ونفسيته غير مرتاحة، ولهذا لا يهنئون به ولا يرتاحون.
وهم أقل الناس انتفاعاً به واستفادةً منه وإقبالاً عليه، فلا علاقة بينه وبينهم، ولا عاطفة، ولا ود، ولا حب، حتى إنه لو قبَّل أحدهم، لاستنكر هذا واستغربه، واعتبر هذا أمراً غير مألوف، وأنه خارق للعادة، لأنه لم يجر به إلف.
وهو لا يأكل معهم، ولا يشرب معهم، ولا يشتري لهم ما يحتاجون، ولا ييسر لهم الأسباب التي يقضون بها أوقات فراغهم، ولا يراعيهم في دينهم، ولا يعلمهم، ولا يربيهم، ولا يحافظ عليهم، بل- كما ذكرت- قد ترك لهم هذا الجهاز.
واعتبر أن أهم ميزة في التلفاز أنه يبعد الأطفال عنا، فهؤلاء الأطفال يشاهدون ما يسمى بأفلام الكرتون أو الصور المتحركة وعيونهم مسمرة فيه، ولا يدري الأب ماذا يواجهون، وماذا يشاهدون، وماذا يتلقون، والمهم عنده أنهم قد سكتوا، وأنهم لا يحدثون ضجيجاً في البيت، ولا صخباً، ولا إزعاجاً، ولا يخربون الأثاث والمتاع وغير ذلك، ولا يؤذون والدتهم إذا كانت في المطبخ أو غير ذلك، فهذا هو كل ما ينظر إليه الوالد من التلفاز، أما تأثير هذا على عقولهم، وأخلاقياتهم، ولغتهم، وشخصياتهم، فهذا هو آخر ما يخطر في باله وهذا من الظلم.
ومن الظلم أيضاً: أن يقصر الأب في نفقة أولاده: في طعامهم، في شرابهم، في ملابسهم، في أحذيتهم، وفيما يحتاجون، ومن الظلم أيضاً - كما ذكرت- ألا يجعل لهم وقتاً يجلس معهم فيه، ويبادلهم فيه المشاعر، ويقوم بحق الأبوة والتربية الواجبة في عنقه، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فأنت راعٍ في بيتك، ومسئول عن رعيتك.(80/8)
من الضعفاء العمال
والصنف الثاني من المستضعفين هم: العمال.
والعمال يعانون في مجتمعنا الأمرين، وتصل إليَّ شكاوى مكتوبة وشكاوى هاتفية، يعجب الإنسان من أن رجلاً يؤمن بالله يبلغ به الجشع والطمع والحرص إلى هذا الحد، ومن الناس من يأتي بالعمال، ثم يسرحهم وهو لا يعرف عنهم شيئاً إلا أنه يطالبهم في رأس كل شهر أن يحضروا له خراجاً معلوماً يثقل به ظهورهم وكواهلهم، ربما يصل أحياناً إلى ألف ريال، أو ثمانمائة ريال، أو سبعمائة ريال، فيجهد العامل ويتعب، وقد لا يحصل العامل إلا على ألف ومائتي ريال مثلاً، أو ألف وثلاثمائة، فيأتي لرب العمل النائم المتكئ على أريكته، فيعطيه سبعمائة أو ثمانمائة، ويأخذ هو الذي جهد وعرق جبينه أربعمائة ريال أو ثلاثمائة ريال، فلا يدري أيستخدمها في سكن أم في لباس أم في طعام أم يرسلها لولده، أم ماذا يصنع بها؟ خاصة وأن كثيراً من هؤلاء العمال أصلاً لا يأتي إلا وقد أخذ منه المكتب أو الجهة التي أتت به من هناك، مبلغاً ضخماً بحجة أنه سوف يأتي إلى هذا البلد الرغيد، ويسدد هذا المبلغ سريعاً، فقد يأخذون منه هناك خمسين ألف ريال، أو مائة ألف ريال، ويقولون له: أنت تذهب إلى بلاد غنية، وهناك السكن موفر، وهناك إعاشة، وهناك نقل، وهناك تكييف، والعمل في اليوم ست أو سبع ساعات، والخميس والجمعة إجازة، وكذا وكذا، ويجعلون له الدنيا -كما يقال- ورقاً بلا شوك، ويسلتون عرق جبين هذا المسكين.
فإذا جاء هنا صدم بالواقع، فبعضهم لا يجد عملاً، فيضطر إلى أن يرجع، وقد يرجع على حسابه لأنه لم يكمل المدة، وقد أثقل ظهره الديون التي أضيفت على الفقر الذي كان يظن أنه سوف يزول بمجيئه إلى هذه البلاد، وبعضهم يجلس هنا، ولكنه يجلس يسام ألوان الهوان والخسف، وتسرق جهوده من قبل رب العمل الذي أخذ منه عن طريق النسبة شيئاً ضخماً كبيراً، وبعضهم يماطل ولا يعطيه الراتب، وقد يكون هناك شركات تمر سنة، أو سنتان لم يعطوا العامل مرتباً واحداً.
بعضهم -والله- يبكون بكاء الأطفال بل بعضهم يبلغ به الوقاحة أنه يطلب من العامل أن يوقع على ورق أبيض، فيقول: وقع على هذه الأوراق فيوقع، من أجل ماذا؟ من أجل أن هذا العامل لو اشتكى إلى بعض الجهات كمكتب العمل أو غيره، فيكتب هذا الرجل في الورقة أي شيء يريده، ويقول: إن العامل قد وقع على هذا العقد، والحقيقة أن العامل قد وقع على ورقة بيضاء بسبب الضغط والإكراه، وهذه حالات -أيضاً- كثيرة تصلنا، وتصل شكاوى من هذا القبيل من عدد من العمال أنهم يوقعون على بياض، فلا عناية، ولا رعاية، ولا إعاشة، ولا سكن، ولا خدمة، ولا تكييف، ولا مرتب، وفوق هذا كله يفتقد حتى الخلق الحسن، فلا يخاطب العامل إلا بأبشع الألفاظ، وأحط الألقاب، ويعير ويسب ويغلظ له في القول، ويحتقر، ويزدرى.
فيا أخي: إن هذا العامل إنسان مثلك، خاصة إذا كان مسلماً فله مزيد من الحقوق.
وكنا نطمع أن هذا العامل إذا جاء إلى هذا البلد، تحفظ له حقوقه، وتصان على المستوى الرسمي والشعبي، ويحفظ له قدره، وتحفظ له إنسانيته، وثقوا ثقة كاملة بأنه بقدر ما تؤذون عمالكم يسلط الله عليكم من يؤذيكم، وهذا أمر مشاهد للعيان، فكل إنسان يظلم يبتلى كما قيل: وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالمٌ إلا سبيلى بأظلم فهذا الظالم يبتلى بمن يظلمه، ويسومه الخسف، ويعتدي على حقوقه، ويصادر كرامته وحريته مثلما فعل هو بالآخرين، فالظلم من الذنوب التي يعجل الله بعقابها في الدنيا قبل الآخرة، وهو من حقوق العباد، والظالم ينتظر دعوة المظلوم التي يرفعها الله تعالى فوق الغمام، ويقول: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} .
تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنمِ وكنا ننتظر أن هذا العامل إذا جاء، يجد البيئة الإسلامية، ويُعلَّم الدين، ويُعَلَّم العقيدة الصحيحة، ويُعّلَّم العبادة الصحيحة، ويُذَكَّر بالله تعالى، فلا يخرج من هذا البلد ما دام مسلماً إلا وقد تشبع بالفهم الصحيح للإسلام، وامتلأ قلبه حباً لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، ثم حباً للمؤمنين في هذا البلد، ورغبةً في الخير، وإذا رجع إلى بلده، كان مشعلاً للنور والإضاءة والهداية والدعوة، لكن الواقع الآن بالعكس.
فإن كان العامل كافراً، رجع كما كان أو أشد، سيئ الظن بأهل هذا البلد، فيرجع وقد أخذ صورة سيئة عنهم، وعن أخلاقهم، وعن معاملاتهم، وعن أمورهم، وعن وعن إلخ، وإن كان مسلماً رجع يشتم وينتقد، ولقد رأينا عمالاً في بلادهم وسمعنا أخباراً كثيرة، بل لا أبالغ حين أقول: إن صحفهم في بلادهم تنشر فضائح كثيرة عن مشاكل العمال ومشاكل المستقدمين والخادمات وغير ذلك في هذه البلاد، مما يحصل لهم من أمور حتى إنه في بعض البلاد الآسيوية كادوا أن يصدروا قراراً بمنع إرسال العمالة إلى هذه البلاد نظراً لما لوحظ من سوء المعاملة والقسوة والظلم ومصادرة الحقوق وعدم إيصال مرتباتهم إليهم، فأي أخلاق هذه؟! وأي صورة قدمناها لهؤلاء الذين يعيشون بين أظهرنا؟! والحقيقة أن هذا شيء مخزٍ وتأخر وضياع أن يجلس العامل الكافر في هذه البلاد أربع، أو خمس أو عشر سنوات ثم يرجع ولم يعرف الإسلام، أو يأتي العامل المسلم إلى هذه البلاد، ويرجع كما كان أو أسوأ، بل إن كثيراً من الناس يأتي بالعمال ويتركهم ولا يدري ماذا فعلوا، وقد يتورطون في قضايا مخدرات، وفي جرائم، وفي بيع الخمور، وفي أمور كثيرة؛ خاصة أن الكثير منهم لا يجدون مرتباً، فيضطرون إلى البحث عن الكسب الحرام.
فلنتق الله تعالى في هؤلاء الضعفاء، ولنعلم أنه إن لم تكن الجهات الرسمية -مكتب العمل أو غيره- تستطيع أن تكتشف الألاعيب التي يصنعها أرباب العمل، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] وسوف ينتقم من كل من تعدى أو ظلم، أو أخذ مالاً بغير حق، أو سرق جهد أحد، أو اعتدى على أحد في نفس أو عرض أو مال، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع! قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصوم وحج، ولكن يأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار} .
فهذا الأوضاع مؤسفة جداً، حيث توجد هذه الآلاف المؤلفة، بل مئات الألوف، حتى إنك في بعض الأحياء وفي بعض الشوارع تستغرب الوجه العربي فيها، فأمرك كما قال المتنبي: ملاعب جنةٍ لو سار فيها سليمان لسار بترجمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان ومع ذلك يرجع هؤلاء كما جاءوا بل أسوأ، فيرجعون بانطباع سيء عن هذه البلاد وأهلها، وهذا الانطباع هم يحسبونه على الإسلام، ويظنون أن هذه من تعاليم الدين، وأن هذه ثمرة الإسلام، لأنهم قد لا يقتنعون بالكلام النظري عن أن الإسلام دين حق، ويأمر والعدل، ويأمر بالإحسان، ويأمر بالرفق بالضعيف، فهذا كله قد لا يفهمونه ولا يفقهونه؛ بل قد لا يسمعونه أصلاً، لكنهم أخذوا انطباعاً سيئاً عن التطبيق العملي الفاسد الذي يوجد لدى كثيرين ممن أتوا بهؤلاء العمال لحاجة ولغير حاجة.
ومع الأسف ليس هناك ضوابط حقيقية لاستقدام العمال والخدم والخادمات، وهناك أمور ومشاكل وفضائح روائحها تزكم الأنوف.
فإذا قرأت في الصحف فإنك تجد فيها إعلانات عن استعداد لإرسال الخادمات إلى كل البيوت، وهن خادمات يشتغلن باليوم، فهل هي خادمة أم هي شيء آخر للترويح والتسلية والترفيه؟ هذا الله أعلم به.
وبعض الخادمات يقع عليهن انتهاك الأعراض في البيوت، فالبيت فيه شاب في مقتبل السن، ممتلئ قوة وشباباً وحيوية، وفيه هذه الخادمة وقد تكون شابة غير متزوجة، وقد تكون مسلمة، وقد لا تكون مسلمة -الله أعلم بحالها- فيخرج أهل البيت ويتركونها في البيت، بل أعلم حالات أنهم يخرجون ويتركونها مع هذا الشاب، بل أعلم حالات أن هذه المرأة كان لها زوج في بلدها وتوفي، فأصبحت تتزين وتتجمل وتتطيب كأحسن ما تستعد المرأة لزوجها، ثم يلتقي بها شاب في هذا المنزل على مرأى ومسمع من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وبنيه ولا أحد ينكر ولا يستنكر هذا والعياذ بالله.
فضلاً عن الاغتصاب الذي يقع في كثير من البيوت كالاعتداء على أعراض الخادمات بالقوة من قبل صاحب البيت، أو من قبل أحد الأولاد إلى غير ذلك، فضلاً عن أن كثيراً من البيوت قد يوجد فيها مصانع للخمور يقوم بها الخدم، وكذلك كثير من المزارع، وقد تكون الخادمة أحياناً جعلت من هذا البيت وكراً للدعارة دون علم.
فإحدى الخادمات -مرة من المرات- كان يأتيها رجل ويدخل عندها، وهي تقول: هذا أخي، فمنع أهل البيت دخوله، فجاءت وبكت عند الأم العجوز، وقالت: منعوا أخي وكذا، فقالت العجوز: هذا مفتاح الدور الأرضي- ما يسمى بالبدروم- فإذا جاء افتحي له واجلسي معه، ولا يدري أحد بذلك، وهي تظنه أخاها، وتبين بعد زمن طويل أن هذا المكان تحول إلى وكر للفساد والرذيلة والدعارة، وأن هذه المرأة أصبح يأتيها أعداد وألوان وأصناف من هؤلاء الخدم والعمال ليس لها بهم علاقة إلا العلاقة الحرام والعياذ بالله.
والكلام الذي نقوله عن القسم الأول -عن المرأة- نقوله أيضاً عن العامل ذكراً كان أو أنثى.
أولاً: لماذا استقدمت هذا العامل؟ هل لحق أم لباطل؟ هل لحاجة أم لغير حاجة؟ هل الأمة تحتاج هذا أم أنه عبء على البلاد في اقتصادها وفي أخلاقها وفي أمنها وفي كل شيء؟ ثانياً: هل اخترت المسلم عندما استقدمته أو أنك اخترت الأرخص أو الذي تعتقد أنه أنفع لك بغض النظر عن ديانته؟ ثم لما أتيت به، هل قمت بحقوقه الدينية من تعليمه الإسلام، وتربيته على الأخلاق، وإعطائه الكتب بلغته، وإعطائه ما يمكن أن يساعده في تعلم الإسلام والصلاة وغير ذلك، أم قصرت في حقه؟ ثم هل راقبته في عمله أم لم تراقبه؟ هل تورط في أمور محرمة: أعمال غش، خيانة، فواحش، خمور، دعارة، معاكسات هاتفية غير ذلك، أم أنك تراقبه وهو في مرأى منك؟ ثم هل قمت بحقو(80/9)
من الضعفاء المرأة
فمن الضعفاء المرأة، فالمرأة في مقام الضعف بالنسبة للرجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] وكثير من النساء هن في موقع قعائد البيوت، ورهائن الجدران، لا يخرجن منها إلا لحاجة لابد منها، أو لضرورة لا مخلص عنها، فتكون تحت هيمنة الرجل وسيطرته وقوامته وظله، فماذا نرى؟ نجد أن الرجل يؤذي المرأة، ويغلظ لها في القول أحياناً، ويقسو عليها ويظلمها، بل قد يضربها، ويكثر من هجرها في الفراش، ويقبح لها في القول، ويمنعها من حقوقها الواجبة لها، ويحرمها من كثير مما تحتاج.
وربما احتاجت المرأة إلى أن تذهب إلى المستشفى، فيمنعها من ذلك، ولو كان بها داء عضال، أو مرض مزمن، أو شيء لا تستطيع أن تصبر عليه إلا أنه يمنعها من ذلك، فإذا أصرت وألحت، وبخها برديء القول، وقبيح الكلام، وهددها بألوان التهديد، فلا يرى لها قدراً ولا قيمة، وكأنه يعاملها بما كانت تعاملها به الجاهلية الأولى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58-59] فهو إن أمسكها أمسكها على هون في بيته مذلاً لها، مقصراً بحقوقها، مؤذياً لها بالقول والفعل، معتدياً عليها، مانعاً عليها ما يجب، هذا فضلاً عن أن الأكثرية من الناس يمنعون المرأة مما يحتاج إليه الإنسان العادي.
فالإنسان العادي يحتاج إلى قدر من الفسحة، وإلى قدر من التوسعة، وإلى قدر من التلطف خاصة في المناسبات كالأعياد، وبعض الفرص وغيرها، فتجد أن كثيراً من النساء في البيوت يشتكين مر الشكوى، وقد قال سيدنا ونبينا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم: {لا تضربوا إماء الله} فنهى عن ضرب النساء، وهذا إيماء إلى النهي عن كل ألوان الإيذاء والاعتداء على حقوق المرأة، فإذا كنت تظن أن المرأة ليس لها من يدافع عنها، أو أنها لا تستطيع؛ لأنها إن اشتكت إلى أهلها، هددتها أنت بالويل والثبور وعظائم الأمور، فإما أن تسكت وتصبر على الذل والهوان، وإما أن تشتكي، ويكون هذا سبباً في طلاقها، فإذا كنت تظن أن المرأة في موطن الضعف، وأنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فتذكر أن الله تعالى هو الذي يدافع عن حقها، وأن المظلوم الضعيف الذي لا يوجد من يدافع عنه في هذه الدنيا يدافع الله تعالى عنه.
وقد يبتليك الله تعالى بعقوبة في دنياك: ضيقاً في رزقك، أو مرضاً في بدنك، أو ضيقاً في صدرك ونفسك، أو رداً لعملك، أو عقوبة في الآخرة -وهي أشد وأنكل- بسبب هذه الضعيفة التي أمسكتها في بيتك على هون، وآذيتها وصادرت حقوقها، واعتديت على إنسانيتها وكرامتها ومكانتها.
فيا أخي المسلم: اتق الله في هذه المرأة التي ولاك الله أمرها، وقد أخذ الله عليك العهد إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، فإما أن تمسكها بالمعروف، وتحفظ لها حقها، وإما أن تسرحها بإحسان معززة مكرمة.
أما إمساك مع الذل والهوان، فهذا ما لم يأذن به الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تضربوا إماء الله فجاءه عمر، وقال: يا رسول الله، ذئرن النساء} أي: كثير من النساء قد اشتكين وارتفعت نفوسهن على الرجال؛ لأنه كما هو مطلوب أن الرجل لا يظلم المرأة، كذلك أيضاً مطلوب أن المرأة لا تظلم الرجل، وكما أن هناك -الآن- جمعيات في الغرب للدفاع عن حقوق المرأة كما يزعمون، فهناك أيضاً عندهم جمعيات جديدة للدفاع عن حقوق الرجل، لأن المرأة قد تعتدي على الرحل أحياناً، وفي إحدى الصحف المحلية -لا بارك الله في تلك الصحيفة- نشرت يوماً من الأيام مقالاً عريضاً: عشر وسائل لقتل الرجال، أعطت المرأة التي تريد قتل زوجها، عشر نصائح تستطيع أن تتوصل بها إلى قتل زوجها.
فـ عمر جاء يقول: {يا رسول الله! ذئرن النساء، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بأن يؤدب زوجته فيما لا يضر بها، فرجعت النساء تشتكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد طاف ببيت آل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم} فالرجل الذي عصاه في يده، ولا يضع عصاه عن عاتقه، ضراب للنساء، هذا ليس محموداً، ولهذا لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة في رجل خطبها، قال لها: {أما فلان فضَّراب للنساء} وفي رواية: {أما فلان فإنه لا يضع عصاه عن عاتقه} أي: من كثرة ضرب النساء، وقيل: لأنه ذو أسفار، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاحه والزواج منه، لأن فيه هذه الآفة، وفيه هذا العيب، فليس من الرجولة ولا من المروءة أن تظن -كما يقول بعضهم- أن الأنثى لابد من إذلالها، ولابد من كذا، ولابد من كذا، فتجده يعلق العصا في البيت ليضرب بها زوجه، وقد يضربها لسبب أو لغير سبب، وقد يعتدي عليها بكلام هو أشد من لسع السياط، فيؤذيها في نفسها، ويحقرها، ويسب شكلها، وقد يسب أباها وأمها.
بل تشتكي بعض النساء فتقول: إن زوجها إذا غضب عليها - والعياذ بالله - يشتم العاشر من أجدادها، ولا يترك كلمة بذاءة إلا ألحقها بها، وكثير منهم ربما يطلق عليها التهديد بالطلاق لأدنى سبب، وكلما حصل شيء هدد بالطلاق، أو حلف بالطلاق، أو قال: إن كذا فأنت طالق، وإن ذهبت فأنت طالق، وإن دخلت فأنت طالق، وإن خرجت فأنت طالق! حتى أصبح الطلاق - والعياذ بالله - ملعبة في ألسنة كثير من الناس، وقد يسمع الجيران صراخ الرجل على زوجته، وضجيجه ووعيده، ويراه الأطفال، وهو بهذه الصورة كأنه سبع ضار، وقد احمرت أوداجه، وخرجت عيونه، وارتفع نبضه، وارتفع صوته، وفقد صوابه، فيتعجبون أن أباهم يكون بهذه الصورة التي لم يألفوها ولم يعرفوها، فيتعود الأطفال حينئذٍ على إهانة أمهم؛ لأنهم رأوا الأب يهينها، فيشجعهم ذلك على إهانتها، ويحتقرونها، ولا يعرفون لها فضلاً، وينشئون على العقوق بها؛ فتكون الأم تصطلي بنيران عدة، من جهة نار الزوج الذي لا يعرف لها قدراً، ولا يقيم لها وزناً، ومن جهة أخرى: نار الأطفال الذين تعودوا على انتهاك حقوقها، والإيذاء لها، والاعتداء عليها، وربما لا تجد مصدراً تشتكي إليه، فلا تجد أباً يمكن أن يسمع كلامها، أو أخاً تشتكي إليه، ولو شكت إلى أهلها فربما طلقها الزوج، أو ما أشبه ذلك.
فليعلم المسلم خاصة أن الله تعالى بالمرصاد لكل الظالمين، ومن أظلم الظالمين رجل ملكه الله تعالى امرأة، فكانت عانيةً عنده، وأسيرةً في يده؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم} أي: كالأسيرات في بيوتكم وتحت ملككم، فكان يجب على الرجل أن يتقي الله تعالى في هذه المرأة، فلا يظلمها، بل يعرف لها حقها، فأنصح الإخوة أن يراجعوا هذا الباب، وألا يستجيبوا لنزوات النفس، ودوافع الهوى، وأن يعرفوا أن للمرأة حقاً.
وأنا أعرف أن كثيراً من النساء يصبن بألوان من الآفات والأمراض الظاهرة والخفية، وما ذلك إلا بسبب كثرة اعتداء الرجل عليها، وإهانته لها، وبخسه لحقها، فهو لا يمكنها من السفر، ولا من الذهاب، ولا من الإياب، ولا يسافر بها، ولا تشارك المسلمين في أعمال، ولا في عبادات، ولا في صلوات، ولا تستطيع أن تخرج أحياناً إلى جيرانها، ولا يخرج بها إلى السوق لقضاء حقوقها الضرورية، ولا يذهب هو أيضاً لقضاء هذه الحقوق، ولا يوكل من يقوم بها، ولا يأتي بها، ولا يأذن لها أن تتصل بأحد، ولو بالهاتف إلا قليلاً، وقد يتجمع هذا الشر كله في بيت واحد عند بعض الناس، وأعرف نماذج من هذا النوع، وليس هذا مبالغة، وقد يكون هذا الشر مفرقاً في بيوت كثيرة، فعلى الإنسان أن يعرف أنه موقوف بين يدي الله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] ومما سوف تسأل عنه: ماذا قدمت لأهلك؟ وماذا صنعت لهم؟ وإن من الظلم -أيها الإخوة- بل من أظلم الظلم للزوجة والأولاد أن يهمل الإنسان رعايتهم، ويهمل القيام على شئونهم الدينية، فلا ينصح لهم، ولا يذكرهم بالله، ولا يأمرهم بالمعروف، ولا ينهاهم عن المنكر، بل غايته أنه أحضر لهم أحياناً وسائل الإفساد من تلفزة، وربما فيديو أحياناً، وأشرطة الأغاني والمجلات الخليعة للزوجة وللأولاد وللبنات وغير ذلك، وترك لهم الحبل على الغارب في هذا البيت، وقد يكون في البيت خدم وسائق غير مسلمين وغير ذلك، والأب لا يدري، وآخر من يعلم، وقد منحهم ثقة مفرطة، وترك أمرهم، وهذا لاشك أنه من الظلم، لأنهم بحاجة إلى رعايتهم في أمور دينهم كما هم بحاجة إلى رعايتهم في أمور دنياهم.(80/10)
الأسئلة(80/11)
حكم توبة العلماني
السؤال
ما رأيك في توبة العلماني، هل تقبل منه توبته أم لا؟
الجواب
نعم، إذا تاب إلى الله تعالى توبة صادقة نصوحاً، وأظهر الإيمان، وبدأ يكتب عن الدين، وينتقد المفسدين، فمن تاب تاب الله عليه، والله تعالى يتوب على الكافر، ويتوب على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ويتوب على المشرك، فكل من تاب تاب الله عليه.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(80/12)
بعض المفطرات في نهار رمضان
السؤال يقول: دخل والدي المستشفى في نهار رمضان، وقد كشفوا عليه بالمنظار بحيث أدخلوا لياً عن طريق الفم إلى المعدة علماً أنهم لم يضعوا في المعدة أي مواد مفطرة، وإنما ذلك للكشف مع أنه لم ينزل قيء، فهل هذا مفطر؟
الجواب
ما دام أنه دخل عن طريق الحلق ووصل إلى المعدة -أرى أنه لا يستخدم مثل هذا في نهار رمضان أبداً- فأرى لوالدك أن يقضي يوماً بدله، والله تعالى أعلم.(80/13)
أهمية إقامة الصلاة في الميكرفون
السؤال
هذا يسأل عن الإقامة بالميكرفون، ويقول: إنها تسبب تهاون الناس وتأخرهم؟
الجواب
هي قد تسبب تهاون بعض الناس، لكنها قد تسبب أيضاً إسراع بعض من الكسالى الذين ربما تفوتهم بعض الصلاة، فأرى أنه لا بأس أن يقيم الإنسان في الميكرفون حتى ينبه من حوله إلى الإسراع والمبادرة إلى الصلاة.(80/14)
صلاة التراويح تعادل قيام ليلة
السؤال
هل يكفي أن يصلي الإنسان التراويح حتى يحصل على أجر قيام ليلة؟
الجواب
نعم، إن شاء الله تعالى.(80/15)
حكم حضور الدروس وترك إمامة المسجد
السؤال
ما رأيكم في مؤذن في مسجد يوكل من ينوب في بعض الأحيان، وذلك ليحضر مثل هذا الدرس؟
الجواب
إذا كان التوكيل في حالات قليلة لحاجة ومصلحة ظاهرة، فلا حرج في ذلك إن شاء الله.(80/16)
توجيه لشاب
السؤال
أرجو أن توجه لي كلمة لعل الله أن يهديني بها، وكذلك إخواني الذين هم مثلي؟
الجواب
أدعو هؤلاء الإخوة إلى الإدمان على حضور الدروس العلمية والمحاضرات، وكذلك سماع الأشرطة وقراءة بعض الكتيبات اليسيرة، لعلهم يجدون فيها ما يقوي إيمانهم، ويبعدهم عن مثل هذه الأشياء التي ما يزالون يقيمون عليها.(80/17)
التوبة والندم من المعاصي
السؤال
كنت غير ملتزم، لكن ليس بأنني فعلت شيئاً من الكبائر، ولكني كنت أتكلم بالكلام السيئ نظراً لأني كنت أرافق بعض الشباب الغير ملتزمين، وأنا الآن التزمت والحمد لله، لكن الشيطان يلاحقني في كل مكان حتى كأنه يكلمني، ويقول لي: إنك تذهب إلى المسجد للرياء والسمعة، فلا أدري هل تقبل توبتي؟
الجواب
نعم، من تاب تاب الله عليه، وعليك إن كنت ظلمت أحداً، أو تكلمت في عرضه، أن تكثر من الاستغفار له، وأن تكثر من الكلام الطيب الذي يكفر الله تعالى به عنك، مثل: ذكر الله، وخاصة كلمة لا إله إلا الله، فإنها أفضل الذكر، وأفضل الكلام، والإكثار من قراءة القرآن، والاستغفار، والله تعالى غفور رحيم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74] .(80/18)
كيفية الإحرام من الميقات
السؤال
من أي المواقيت يحرم من يريد العمرة، لكنه وصل إلى جدة قبل أن يحرم؟ وهل تسن ركعتا تحية المسجد في الحرم قبل أداء العمرة أم أنه يجب الشروع في العمرة دون حاجة إلى السنة؟
الجواب
لا تسن، لأن الطواف هو تحية للمسجد، وبعد الطواف سوف يصلي ركعتين، فلا حاجة أن يصلي ركعتين تحية للحرم ما دام أنه يريد أداء العمرة، أما من ذهب إلى جدة، فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات سواء كان في الطائرة أو في غيرها، وفي الطائرة يعلنون عن قرب الميقات، فيقولون: بقيت ربع ساعة أو عشر دقائق على الميقات، فعليه أن يحرم، أما إن وصل إلى جدة، فعليه أن يخرج إلى الميقات، وهو رابغ، أو ما يحاذيه.(80/19)
حكم خروج النساء إلى الأسواق
السؤال
ستبدأ إجازة المدارس بعد يومين، ستخرج جماعات من النساء إلى الأسواق ليلاً كالعادة في كل سنة من هذا الشهر المبارك، فأرجو توجيه كلمة للنساء ولأولياء الأمور توضحون فيها المخاطر الناتجة عن التسوق ليلاً؟
الجواب
نعم، خروج النساء إلى السوق ينبغي أن يقيد بالحاجة، فلا تخرج المرأة إلا لحاجة، أما إن كان خروجها لمجرد التسوق، أو الفسحة، أو قضاء وقت الفراغ، فهذا مذموم.
ثانياً: إذا خرجت، فينبغي أن يخرج معها وليها، وأي عيب أن يخرج معها، فيحفظها، ويكون قريباً منها، ويكون في ذلك بعد عن أن تنهبها عيون الذئاب الجائعة، أو تمتد إليها ألسنتهم أو أيديهم بالسوء؟! وإذا أمكن أن يقوم الرجل بقضاء حاجات أهله بنفسه، فإن ذلك أحوط وأولى، وإذا قُدِّر أن الرجل خرج بأهله إلى السوق، فينبغي أن تخرج المرأة بعيدةً عن الطيب، بعيدةً عن لبس الملابس الجميلة، أو المثيرة، أو الجذابة في شكلها وهيئتها، أو الملابس الضيقة، بل تلبس ملابس فضفاضة، وملابس غير ملفتة للنظر، وبعيدة عن الطيب.(80/20)
من هم مساكين الحرم؟
السؤال
من هم مساكين الحرم؟ وهل كل من يتسول في الحرم يعتبر من مساكينه، أقصد المساكين الذين تجب لهم الفدية؟
الجواب
هم من وجدوا في الحرم سواء من أهل الحرم، أو من الطارئين عليه من غيره ممن يظهر عليهم الفقر والمسكنة.(80/21)
حكم وضع الحذاء والطفل أمام المصلي
السؤال
هناك أمور تعملها بعض النساء ونود أن نسأل عنها: تستقبل الأحذية بحيث تضعها أمامها، أو أن تضع طفلها النائم أمامها.
الجواب
الأولى أن تضع الحذاء وراءها، أو بين قدميها، أو أن تصلي وهي لابسة الحذاء أيضاً إن كان هذا لا يؤذي من حولها.
وكذلك وضع طفلها النائم، فتضعه في المكان الذي تطمئن إليه فيه، ويكون بعيداً عن إيذاء الآخرين، وإذا أمكن أن يكون طفلها لا يأتي معها أصلاً بأن أمكن أن يبقى في بيتها، ويوجد من يقوم عليه، كان هذا أولى، وإن بقيت هي مع أطفالها في البيت وصلت ما كتب لها، فهذا خير.(80/22)
حكم لبس القفاز في الصلاة
السؤال
ما حكم لبس القفاز أثناء الصلاة؟
الجواب
لبس القفاز أثناء الصلاة جائز.(80/23)
حكم متابعة الإمام
السؤال
ما حكم إطالة السجود بعد الإمام للدعاء؟
الجواب
ينبغي أن تنهض مع الإمام أو بعده بيسير.(80/24)
حكم المداومة على صلاة القنوت
السؤال
ما حكم المداومة على صلاة القنوت من غير رمضان؟
الجواب
إذا كان السؤال عن الوتر فنعم، فالوتر مشروع في كل وقت.(80/25)
حكم تقبيل الأيدي بعد الدعاء
السؤال
ما حكم تقبيل الأيدي بعد الدعاء؟
الجواب
تقبيل الأيدي بعد الدعاء ليس له أصل قط.(80/26)
حكم البكاء في الصلاة
السؤال
ما حكم رفع الصوت بالبكاء أثناء الدعاء؟
الجواب
إذا غلبها البكاء، ولم تستطع كتمه، فلا شيء عليها، فإن استطاعت، فعليها أن تكتمه ما استطاعت.(80/27)
حكم الوفاء بالنذر
السؤال
امرأة نذرت أنها إذا نزلت بيتاً ملكاً فسوف تقوم ببناء مسجد في منزلها، ونذرت أن تقوم الليل، فوضعت المسجد، وصلت به أياماً ثم تركته وهي تقوم الليل أحياناً؟
الجواب
عليها أن تقوم الليل دائماً ما دامت قد أنها نذرت ذلك، ولو أن تقوم بثلاث ركعات من الوتر كما نذرت والتزمت بذلك.(80/28)
الإحسان إلى الجيران
السؤال
عندنا جيران لنا إذا فضلت فضلة من طعامهم، أتوا بها، ونحن والحمد لله لسنا بحاجة إليها، فهل لنا ردها أم لا؟ أفتونا
الجواب
إن قلتم: ليس لنا بها حاجة ليبحثوا عمن هو أحق بها وأحوج فلا حرج، وإن أخذتموها وأعطيتموها من يحتاجها، فلا حرج أيضاً، وقد يكون هذا أولى من أجل جبر خواطرهم.(80/29)
شرود الفكر في الصلاة
السؤال يقول: إني شاب أحب الدين والمتدينين، ولكن قلبي قاسٍ، وإذا صليت وجدت فكري شارداً، وتنتهي الصلاة، ولا أفقه شيئاً منها؟
الجواب
ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت، وإن العبد لينتهي من صلاته -كما في الحديث الذي في السنن وهو صحيح- ما كتب له إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها سبعها ثمنها تسعها عشرها، فعليه أن يستحضر قلبه في الصلاة ما استطاع، ويدافع وسواس الشيطان، ويقبل على صلاته، ويبكر إليها، ويحسن الطهور، ويصلي إن استطاع، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويبعد الشواغل عن قلبه، ويحرص على الإقبال على العبادة في كل وقت، وما دام يحب الدين والمتدينين، فهو إن شاء الله تعالى إلى خير.(80/30)
الدعوة إلى الله في الأسواق والأرصفة
السؤال يقول: ما رأيكم بتوجيهنا نحن الشباب لنقوم هذه الليلة بجولات هادفة لدعوة إخواننا أهل الأرصفة والشوارع إلى الله انطلاقاً من هذا المسجد بعد التراويح، أليس هذا العمل جيداً؟ وإذا كان كذلك، فلماذا أنتم لا تقومون بتكوين جماعات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأنتم القادة ونحن العاملون؟
الجواب
سبق أن دعوت الإخوة في مسجد المحيسني في درس بعنوان: خمسة مقترحات، إلى مثل هذا العمل، وليس في هذه الليلة فقط، بل في كل ليلة فيقوم الإخوة مثنى وثلاث ورباع أيضاً بجولات على إخوانهم في الشوارع والأرصفة.
فعلى الإخوة أن يرتادوا هذه الأماكن وغيرها؛ وعليهم أن يرودو هؤلاء الشباب، ولا يطيلوا البقاء عندهم، فيثقلون عليهم، ولتكن الجلسة خمس دقائق، فيها بسمة طيبة، وكلمة طيبة، ودعوة إلى الله، وكتاب، وشريط، ودعوة إلى مشاركتنا في الصلاة في المسجد، وتذكير لهم بإخوانهم، وما أشبه ذلك من الأمور التي تحرك قلوبهم، وأن تحسنوا الظن بهم، ففطرهم سليمة، وفيهم خير كثير.
وأنا أدعو الإخوة في هذه الليلة بالذات -ما دام أن الأخ طلب- أن يخرجوا في هذه الليلة إلى هذه الأماكن -أماكن تجمع الشباب- ويزوروهم ويتحدثوا معهم، ويبلغوهم سلامنا، وسلام إخوانهم في هذا المسجد، ودعاءنا لهم بأن الله تعالى يبارك لهم في أوقاتهم وشبابهم، ويحفظهم في أنفسهم، وفي دينهم، وفي عقولهم، وفي أموالهم، وفي أعراضهم، ويقيهم شر عدوهم، فيبلغوهم سلامنا ودعاءنا، ويتكلموا معهم بالكلام الطيب المفيد.(80/31)
حكم أخذ المصاحف من المساجد
السؤال
ما حكم أخذ القرآن من المسجد؟ وهل في ذلك إثم مع أنني كنت قد أخذته؟
الجواب
إذا كان هذا المصحف وقفاً في المسجد، فلا ينبغي إخراجه، ومن أخرجه فعليه أن يعيده إلى المسجد.(80/32)
حكم رفع الصوت بالقرآن
السؤال
يقول: لقد ذكرت في كتابك وقفات للصائم -صفحة (40) في الوقفة العاشرة- أن رفع الأصوات عند قراءة القرآن ليس من سمت المؤمنين بل هو منكر، فما هو حد رفع الصوت؟ والذي دعانا لذلك أننا فهمنا أننا لا نرفع أصواتنا مطلقاً، فإن كان كذلك، فاعلم أن في هذا مشقة على من تعود رفع الصوت، وكذلك بعدم رفع الصوت سوف يكون بعض الناس كسولاً؟
الجواب
لم أقل هذا الكلام الذي نقلته عني في الكتاب، وإنما خلاصة الكلام الذي ذكرته أنه إن كانت الأصوات متداخلة بحيث لا يشوش بعضها على بعض، ومستوى رفع الصوت واحد تقريباً، وكل إنسان يقرأ وهو مرتاح لا يشوش عليه من حوله، فهذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعرف منازل الأشعريين إذا نزلوا بالليل، وإن لم أكن رأيت منازلهم في النهار من أصواتهم بالقرآن} .
وإنما الذي نهيت عنه هو أن بعض الناس يرفع صوته بالقرآن رفعاً بليغاً بحيث يكون مخالفاً للأصوات الأخرى المختلطة، فيشوش بذلك على من حوله، أو يكون منفرداً، فيرفع صوته رفعاً بليغاً أيضاً، فيشوش على الآخرين الذين يقرءون خفية، أو يقرءون بصوت غير مرتفع، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وسنده صحيح: {كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض} أي: لا يشوش بعضكم على بعض.(80/33)
كيفية صلاة الاستخارة
السؤال يقول: أرجو أن تجيب على هذا السؤال، دعاء الاستخارة من السنن التي يجهلها بعض المسلمين، وأنا من ضمنهم، وأرجو أن تبين لنا الصفة الشرعية، وهل يؤتى بالدعاء قبل أن يعزم الإنسان على الأمر، أم هل يقال بعد العزم؟
الجواب
أما دعاء الاستخارة، فقد رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، فيقول: إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به} .
هذا هو الدعاء، وهو مشروع في الأمور التي يتردد فيها الإنسان، ولا يتبين له فيها وجه الخير، فيطلب من الله تعالى أن يوفقه لما هو الخير، وهذه الصلاة تصلى في أي وقت، اللهم إلا في أوقات الكراهة -لا تصلى في وقت الكراهة- إلا إذا احتاج إلى ذلك، كأن يكون كان هناك أمر يفوت، مثلاً يكون هذا الأمر ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ولو لم يحسمه قبل طلوع الشمس، فإنه يفوت، فمن الممكن في هذه الحالة أن يصلي بعد الفجر، أما إن كان في الأمر فسحة، فيؤجل الصلاة إلى وقت ليس من أوقات النهي التي ينهى عن الصلاة فيها، ثم يصلي هاتين الركعتين، ثم يدعو هذا الدعاء.(80/34)
كيفية قضاء الصلاة الفائتة
السؤال
هذا أخ بعد السلام والدعاء يقول: هل توجد صلاة كفارة عن الصلوات التي فاتت المسلم في عمره؟ وما هي كيفيتها؟ وهل ورد في ذلك حديث صحيح؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
من ترك الصلاة، فعليه أن يصليها إن كان نام عنها أو نسيها، فيصليها إذا ذكرها أو إذا استيقظ، وجمهور أهل العلم يرون أنه يصلي ما ترك من الصلوات لأي سبب تركها، فقضاء الصلاة هو بأن يصليها كما هي: إن كانت رباعية صلاها أربعاً، وإن كانت ثلاثية صلاها ثلاثاً، وإن كانت ثنائية صلاها اثنتين.(80/35)
تشجيع الشباب على فعل الخير
السؤال يقول: السلام عليكم ورحمة الله، نداء عاجل وبعد: لقد تحدثت الليلة الماضية عن قضية في غاية الأهمية، وهي العشق، وعالجت القضية معالجة شافية، ولكن حبذا لو رفعت اللبس الذي حصل عند بعض الشباب مما جعلهم يحجمون عن أفعال الخير، ولا يستثمرون الفرص المتاحة أمامهم من تعلق بعض الشباب بهم، واستغلال ذلك بالنصح والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وتوزيع الشريط الإسلامي إلى آخره، فهؤلاء الشباب يعملون لهدف نشر الخير، والأخذ على أيدي الشباب، فحبذا لو فصلت في ذلك، ووجهت هؤلاء الشباب العاملين إلى الخير الوجهة السليمة، وشجعتهم على ذلك، وجزاك الله خيراً.
الجواب
نعم، نشجعهم على فعل الخير، وما من خصلة من الخصال إلا ولإبليس فيها غايتان: إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط، فكما أننا لا نأذن للإنسان ولا نبيح له أن يعمل عمله رياءً وسمعةً، كذلك لا نجيز له أن يترك العمل الصالح خوف الرياء والسمعة.
وأيضاً كما أننا لا نبيح للإنسان أن يتسامح في هذه الأمور، ويطلق بصره، أو يتيح للناس فرصة وقوعهم في مثل هذا الأمر، كذلك ليس من الحق ولا من العدل أن يترك الإنسان عمل الخير خشية الوقوع في هذه الأمور، أو أن يجر الناس إلى مثل ذلك فلا إفراط ولا تفريط، وعلى الإنسان أن يفعل الأسباب، ويتقي الله تعالى ما استطاع.(80/36)
أحوال إخواننا المسلمين في الجزائر
السؤال
نرجو منك أن تخبرنا عن أحوال إخواننا المسلمين في الجزائر، فنحن متعطشون لأخبارهم أيما تعطش، فنرجو منك أن توجز لنا أخبارهم.
الجواب
آخر خبر وصل إليّ اليوم، فقد وصل إليّ ورقتان فيهما وثيقتان تدلان على أن المحفل الماسوني في الشرق الأوسط قد رفع رئيس تلك الدولة، ورفع وزير الدفاع خالد نزار من المرتبة الثامنة والعشرين في المحفل الماسوني إلى المرتبة الثانية والثلاثين، وقد وصل إليّ الشهادتان اللتان فيهما بيان ذلك، ويبدو أنهما نشرتا في بعض الصحف التركية، وفيهما بعض الترجمة العربية، فهذا آخر ما وصل إليّ من الأخبار، وهناك أخبار متداولة يسمعها الناس جميعاً.
ونسأل الله تعالى أن يعز الإسلام في ذلك البلد وفي كل بلد.(80/37)
حكم صبغ الشعر
السؤال
ما حكم صبغ الشعر بغير اللون الأسود، بقصد الزينة لا بقصد التشبه بالكفار؟
الجواب
إذا اجتنبت المرأة السواد، فلا عليها أن تصبغ شعرها، لكن لا ينبغي أن يكون صبغ شعرها ديدناً لها كل يوم تحدث له لوناً جديداً وتلونه بألوان شتى، وتحاكي في ذلك الصبغات الموجودة عند نساء الكفار.(80/38)
حكم وضع الحناء للمرأة
السؤال
ما حكم عدم وضع الحناء في اليدين؟ وحكم الحديث الذي ينسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والذي فيه أن امرأة توفيت وليس في يديها حناء، عند ذلك قال عليه الصلاة والسلام: انظروا إن كان في يدها حناء أم لا، ليرى إن كانت لم تضع الحناء لم يصل عليها.
الجواب
هذا ليس بصحيح، ووضع الحناء أمر جائز، وهو من جملة الزينة.(80/39)
أهمية الثبات على الالتزام
السؤال
يقول: الرجاء التنبيه على أهمية الثبات على الهدى والالتزام، وعلى أهمية الرفقة الصالحة، والحذر الشديد من الرفقة السيئة خصوصاً الشباب الصغار الملتزمين، كيف لا وكثير من الشباب تجده ملتزماً، ثم يستخفه الشباب المنحرف، ومن ثم يبتلى مثلهم، فالرجاء التنبيه على أهمية الثبات، وسؤال الله عز وجل الثبات، وابسطوا لنا الجواب وفقكم الله الكريم الوهاب.
الجواب
لا شك أن الثبات على أمر الهداية لا يقل أهمية عن الهدى والهداية بذاتها، فإن الإنسان قد يعرف طريق الهداية، ثم ينحرف - والعياذ بالله- فيجعل الله صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، فلا يقل أهمية عن الحصول على الهداية ثبات الإنسان عليها، وقد قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] .
فعلى العبد أن يتقي الله تعالى، ويسأل الله تعالى الثبات بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويسعى إلى الحصول على وسائل الثبات، والتي من أهمها أن يعلم أن الأمر كله بيد الله، وأنه ليس بيده شيء، وأنه لم يحصل على الهداية بقوته وحوله، وإنما بحول الله تعالى وقوته، فعليه أن يكثر من سؤال الله تعالى، وعليه أن يكثر من الاستغفار، وعليه أن يعلم أنه ليس بيده شيء إلا أن يوفقه الله تعالى لذلك، كما أن عليه أن يكثر من الأعمال الصالحة، فهي مثل الأشجار التي يغرسها الإنسان في التربة حتى تضمن عدم انتقالها، أو ذهاب الريح بها إلى موضع آخر، فصحبة الأخيار من أهم وسائل الثبات.(80/40)
حكم الإعجاب بالعمل الصالح
السؤال
في كثير من الأحيان عندما أعمل عملاًً من الأعمال كالصلاة والصيام وغير ذلك، يدخلني الإعجاب بعملي، فهل هذا محمود أم مذموم؟ وإذا كان مذموماً، فأرجو أن ترشدوني إلى الطريق الصحيح لتجنب هذا.
الجواب
أما العمل الصالح بذاته كالصوم والصلاة فهو محمود لا شك، وأما الإعجاب فلا شك أنه مذموم، فالعجب بهذا العمل مذموم، وكيف تعجب بهذا العمل والله تعالى هو الذي قد وفقك إليه، وحرك همتك له، ورزقك الإقبال عليه، وهو الذي خلق كل الجوارح التي استخدمتها في هذا العمل، وهو الذي خلق القلب الذي اتجه إلى هذا العمل، وهو الذي خلق اللسان الذي ذكر قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] وهو الذي أبعدك عن الأعمال السيئة، ووفقك للأعمال الصالحة، فكل ذلك منه وكرمه، وينبغي للعبد ألاَّ يعجب بعمل عمله.(80/41)
حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية
السؤال
ما هو القول الراجح في قراءة الفاتحة في التراويح، علماً أن الإمام لا يسكت؟
الجواب
لا يلزمك أن تقرأ الفاتحة على القول الراجح من أقوال أهل العلم، بل قراءة الإمام تكفي من خلفه، فإن سكت قرءوا، وإن قرأ أنصتوا، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإذا قرأ - أي: الإمام- فأنصتوا} قال الإمام مسلم: وهذا حديث صحيح.(80/42)
صحة حديث: من صام يوماً في سبيل الله
السؤال
ما صحة حديث: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً} ؟
الجواب
الحديث هو: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} والحديث في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري.(80/43)
القيام في صلاة الليل
السؤال
إذا جلس المأموم حتى يركع الإمام في التراويح، فهل يعد ممن قام ليله؟
الجواب
إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له ذلك، فإن صلى قائماً كتب له الأجر كاملاً، وإن صلى قاعداً، فله نصف أجر، كما جاء في الحديث: {صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم} .(80/44)
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
تحدث الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن مسألة حماية الله تعالى لعبده إذا عرفه في الرخاء، فبدأ ببيان حقيقة الدنيا، وفقر الإنسان الفطري، وذكر نماذج من حفظ الله للغرباء، وعرف معنى التعرف على الله في الرخاء، ضارباً بعض الأمثلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته، وقصة فرعون الذي لم يعرف الله في الرخاء، فلم ينجه في الشدة.(81/1)
حقيقة الدنيا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.
أيها الإخوة: إن الله تبارك وتعالى بين لنا في القرآن الكريم أعظم بيان وأوضحه حقيقة هذه الحياة الدنيا، فقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] وقال سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} [يونس:24] وقال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] .
وبيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أوضح بيان، فقال عليه الصلاة والسلام: {مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها} إن هذه الدنيا كما رُوي عن عيسى عليه السلام: [[إنما هي قنطرة يجب على الإنسان أن يعبرها ولا يَعمُرها]] فهذه الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، أما الدار التي فيها القرار فهي الدار الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] .(81/2)
الإنسان فقير بطبعه
ولذلك فإن هذا الإنسان في هذه الدار إنما هو فقير بطبعه، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:17] فالإنسان فقير مهما يكن جمع من الأموال ومهما يكن له من الأولاد، ومهما يكن له من السلطان؛ فهو فقير لأن المال يزول، والولد يموت، والسلطان يزول، ويبقى الإنسان ضعيفاً محتاجاً، وحتى مع بقاء المال والجاه والسلطان والولد يبقى الإنسان فقيراً محتاجاً إلى الله عز وجل.
وأنتم تعرفون في حياتكم العملية كثيراً من الناس حتى مع غناهم ومع سلطانهم ومع كثرة أموالهم وأولادهم تجدونهم يصابون -مثلاً- بالقلق النفسي أو بغيره من الأمراض فتتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق، ويتمنى الواحد منهم أن يتخلى عن كل ما يملك في سبيل تحصيل السعادة التي فقدها، وهذا يبين لك أن الغنى ليس في المال والولد وغيره، وإنما الغنى في القلب، وأن العبد فقير في جميع الأحوال محتاج إلى الله عز وجل ثم هو مع هذا كله؛ حتى ولو فرض بقاء المال والولد والسلطان وحتى لو فرض وجود السعادة في قلبه؛ هو فقيرٌ في هذه الحال، ولا أدل على فقره من أنه يبقى خائفاً من هذا الموت المحتوم المقدور عليه، فهو يترقبه بكرة وعشياً، وهذا الموت هو سلطان جعله الله على رقبة كل مخلوق حتى الرسل والملائكة، فجميع المخلوقين يموتون ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
ولذلك فالإنسان يحس دائماً وأبداً بالخوف والقلق من هذه الأعراض التي تنهشه أو تتناوشه، ثم من هذا الموت الذي لا بد له منه، ولذلك روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مربعاً، وخط في وسطه خطاً خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الخط الطويل من جهته التي في الوسط -في وسط المربع- ثم قال صلى الله عليه وسلم: هذا الإنسان -هذا الخط الطويل الخارج من المربع هو الإنسان- وهذا أجله محيط به، وهذه الخطط الصغار هي الأعراض، إن أخطأه هذا نهشه هذا} .
إذاً: فالإنسان معرض لهذه الأعراض من الأمراض والمصائب والنكبات والفقر وغيرها؛ فإن سلم من هذا أصابه هذا ولابد، لأن الدنيا دار أقدار، ولا بد فيها من المصائب لكل إنسان، ثم بعد هذه الأعراض كلها يأتي هذا الموت الذي يقطع على الإنسان آماله وطموحاته وتطلعاته.
هذا هو الإنسان، وإذا كنا جميعاً ندرك حقيقة هذا الأمر وحقيقة هذه الدنيا، فإننا نجد كثيراً من الناس، بل أكثرهم يعيشون دنياهم في خوفٍ وقلق، فلو نظرنا -مثلاً- إلى غير المسلمين بكافة أنواعهم لوجدنا أنهم يعيشون في حالة خوفٍ دائم لا يهنأ لهم ضمير ولا يرتاح لهم بال؛ خوفاً من هذه المصائب والكوارث، ثم خوفاً من هذا الموت الذي يدركون أنه ملاقيهم لا محالة.
ولذلك تجدون الكافرين يشعرون بأن هذا الكون كله عدوٌ لهم، وهم حين يتجهون فيه إلى العلم الذي يكتشفون فيه أسرار الكون؛ يتجهون من منطلق شعورهم بأن هذا الكون عدوٌ لهم فيحاولون اكتشافه، ويسمون هذه الاكتشافات قهراً للطبيعة؛ لأنهم يظنون ويدركون أن الطبيعة عدو لهم.
أما المؤمن فإنه يدرك مع هذا الخوف الذي يصيب قلبه ويعرض له أحياناً أن الملجأ من الله عز وجل هو إليه؛ كما قال الله عز وجل في شأن الثلاثة الذين خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] ويقول سبحانه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذاريات:50] .
فالإنسان إذا خاف من شيء فر منه، إلا المسلم فإنه إذا خاف من الله عز وجل فر إليه، ولذلك يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبد الذي يخاف من المصائب، ويخاف من الأمراض، ويخاف من الأعراض، ويخاف من الموت، ويخاف مما بعد الموت، وما بعد الموت أشد من الموت وإن كان الموت أشد مما قبله، المؤمن الذي يخاف من ذلك كله لا مهرب له ولا مفر إلا عبر طريق واحد؛ وهو أن يتعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء ليعرفه الله عز وجل في حال الشدة.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في النصيحة التي وجهها لحبر الأمة عبد الله بن عباس كما يرويها ابن عباس نفسه رضي الله عنه يقول: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك -وفي رواية تجده أمامك- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في مسنده.(81/3)
بيان الغرباء
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغرباء الذين تعرفوا إلى الله في الرخاء؛ وسلكوا سبيل الاستقامة والصلاح، ورضوا بالله عز وجل وإن سخط الناس، واستقاموا على طريق الإسلام والسنة؛ إن هؤلاء القوم لهم طوبى، وطوبى كما عرفها العلماء: هي الخير الكثير الطيب؛ والجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فهو وعدٌ من الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالخير الكثير الطيب للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويُصلحون ما أفسد الناس، وهم قومٌ صالحون قليلون في قوم سوءٍ كثيرون من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
وهذا الوعد الذي جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم شهد الواقع والتاريخ بصدقه، فإننا نجد الغرباء الأولين الذين بدأ الإسلام على أيديهم أول مرة؛ نجد أن الله عز وجل كتب لهم من الخير الكثير ما يعرفه الخاص والعام، فهم حين كانوا في مكة والناس حولهم مشركون كثيرون وهم مسلمون قليلون؛ والناس يعادونهم ويرمونهم عن قوس واحدة، نجد أن الله عز وجل يقيض لهم من يحميهم وينصرهم.(81/4)
السلف الصالح
ثم إن الغرباء بعد ذلك على مدار التاريخ يلقون من العناية والتكريم ما لا يخطر على بال، وأضرب لكم مثلاً واحداً بما لقيه رجل من الغرباء ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي كان إماماً في العلم والعمل والدعوة والجهاد، فقد ذكر مترجموه من سيرته: أن قازان ملك التتر لما جاء بجيشه وجنده إلى بلاد الإسلام، وعسكر قريباً من دمشق وأراد أن يغير عليها، ذهب العلماء إليه ومعهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فلما دخلوا عليه قام شيخ الإسلام وتكلم أمامه بكلام شديد، وقال له: "يا قازان إن أجدادك الكفار المشركين لم يصيبوا المسلمين من الضر والضرر والأذى مثلما حاولت أنت، مع أنهم كانوا مشركين وأنت تدعي أنك مسلم" فقال له قازان: أيها الشيخ ادعُ لي فرفع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يديه وقال: "اللهم إن كان عبدك هذا جاء مجاهداً في سبيلك لنصرة دينك وإعلاء كلمتك فأيده وانصره، وإن جاء محاداً لك مؤذياً لعبادك المؤمنين فأهلكه واقض عليه وعلى جنده"، وظل شيخ الإسلام يدعو على هذا الطاغية، وهذا الطاغية قد رفع يديه إلى السماء يؤمن على دعاء شيخ الإسلام، ثم خرج شيخ الإسلام مع العلماء من عنده، فقال العلماء له: إننا لا نريد أن نصحبك؛ لأننا لا نأمن أن يرسل إليك هذه الطاغية في الطريق من يقتلك، فقال الشيخ: وأنا لا أريد أن أصحبكم، فذهب هو في طريق وذهب بقيتهم في طريقٍ آخر، أما هو رحمه الله فلم يصل إلى بيته في دمشق إلا في وسط كوكبة من الجنود الذين ذهبوا من جيش التتر ليحرسوه، أما بقيتهم فإن أحدهم يقول: أما نحن فسلط علينا مجموعة من العيارين فشلحونا وآذونا وأخذوا ما بأيدينا.
فهذا أيضا نموذج من الخير الطيب والجزاء الحسن في الدنيا الذي أعده الله تعالى للغرباء.(81/5)
أول الغرباء
ولا أدل على ذلك مما ورد في الرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى ابن إسحاق وغيره- عن عبد الله بن عمرو بن العاص: {أن المشركين اجتمعوا في الحجر فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من شأن محمد؛ إنه قد سب آلهتنا وفرق جماعتنا وشتم أجدادنا وعاب ديننا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ دخل النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، حتى إذا مر بهم قالوا له بعض القول وغمزوه به؛ فنظر إليهم ثم مضى وتركهم.
حتى إذا مر بهم مرة أخرى قالوا له مثلما قالوا في المرة الأولى، فمضى صلى الله عليه وسلم وتركهم، حتى إذا كانوا في المرة الثالثة قالوا له مثلما قالوا في المرة الثانية، فأقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: تسمعون يا معشر قريش، والله لقد جئتكم بالذبح، قال عبد الله: فأخذت القوم كلمته، فوالله ما منهم رجل إلا وكأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم أذية له ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم! انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً} .(81/6)
الصحابة في مكة
وهكذا أصحابه رضي الله عنهم قيض الله لهم من يحميهم ومن يجيرهم ومن يعتق عبيدهم حتى أذن الله عز وجل لهم بالهجرة إلى الحبشة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره بسند صحيح قال لهم أو أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأخبرهم بأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، فخرجوا فلقوا من جوار النجاشي وعطفه وبره بهم ما أنساهم جور قريش وظلمها وإيذاءها.
فلما سمعت قريش بما لقوه في الحبشة أرسلت إليهم من يحاول أن يغير من رأي ملك الحبشة فيهم، ولكن هذين الرسولين باءا بالخيبة والفشل، وقال النجاشي للمسلمين: [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي -يعني آمنون- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم]] وبقي المسلون في الحبشة في خير دار عند خير جار، ثم قيض الله عز وجل لهم بعد ذلك من إسلام الأنصار واستقبالهم وإيوائهم ما لا يخفى على أحد، وكان هذا جزءاً من الخير الكثير الطيب الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء في هذا الحديث.(81/7)
معنى التعرف إلى الله في الرخاء
أيها الإخوة: إن العبد الذي يشعر بالخوف ويحتاج إلى الأمن في هذه الدار، ويدرك أنه لا مفر من الله عز وجل إلا إليه؛ يحتاج إلى أن يكون من الغرباء الذين تعرفوا إلى الله عز وجل في الرخاء فعرفهم في الشدة، فيا ترى ما معنى التعرف إلى الله عز وجل في الرخاء؟ إن التعرف إلى الله يشمل ثلاثة أمور: أولاً: التعرف إلى الله عز وجل بالإقرار به والإيمان به ومعرفة أنه لا يتصرف في هذه الأكوان ولا يديرها إلا الله عز وجل، وبهذا يخرج الدهريون والشيوعيون والملحدون والصوفيون وغيرهم ممن لا يؤمن بالله أو ممن يعتقد أن هناك مدبراً للكون مع الله عز وجل.
ثانياً: التوجه إلى الله عز وجل بالعبادة وصرف كل أنواعها إليه سبحانه لا إلى غيره، فلا يبقى الإنسان بدون معبود كما هو شأن كثيرٍ من الضالين والمنحرفين الذين لا يجدون شيئاً يعبدونه، حيث لم تتوجه قلوبهم إلى عبادة الله عز وجل، فمنهم من يعبد الدنيا، ومنهم من يعبد الكرة، ومنهم من يعبد معشوقته، ومنهم من يعبد المال، ومنهم من يعبد غيرها من الأشياء التي لا يدركون أنهم قد عبدوها وهم في الحقيقة قد عبدوها وتألهت قلوبهم إليها.
فلا بد من العبادة، ثم لا بد من العبادة لله عز وجل وحده لا إلى غيره، وهذا هو معنى التوحيد، وهو معنى كلمه لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله عز وجل، ويخرج بهذا من لا يدركون أنهم عابدون، كما يخرج به من يعبدون غير الله كمن يعبدون الملائكة أو يعبدون الأنبياء أو يعبدون الأولياء أو يعبدون غيرهم من المقربين أو سواهم، فلا بد من التقرب إلى الله عز وجل، والتعرف إليه بالأعمال الصالحة، وكلما زادت عبادة الإنسان وكثرت أعماله الصالحة كان أكثر تعرفاً إلى الله عز وجل، وأكثر قرباً منه، وضمن أن يكون الله عز وجل في الشدائد معه في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: التعرف إلى الله بأسمائه وصفاته، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر} والله عز وجل له أسماء كثيرة غير محصورة، ولذلك فإن الدعاء المأثور كما نردده في دعاء القنوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة الطويل أنه صلى الله عليه وسلم: {يخر ساجداً تحت العرش فيفتح الله عليه فيحمده بمحامد يعلمه إياها ذلك الوقت؛ لا يعلمها الآن} أي: وقت حياته صلى الله عليه وسلم.
فأسماء الله لا يحصيها إلا الله ولكن من هذه الأسماء تسعة وتسعون اسماً لها خاصية هي أن من أحصاها دخل الجنة، فلننظر ما معنى الإحصاء؟ إن الإحصاء يشمل أموراً عديدة: - يشمل أن تعرف هذه الأسماء، فمن كان لا يعرف هذه الأسماء فهو لم يحصها، فعليك أن تبحث عن كتاب من الكتب التي عنيت بإحصاء أسماء الله الحسنى وتحفظ هذه الأسماء عن ظهر قلب.
- ثم عليك أن تعرف ما معنى هذه الأسماء، فإن لكل اسم منها معنىً مراداً منها تدل عليه لغة العرب، فعليك أن تتعرف على هذا المعنى.
- ثم إن كل اسم منها يدل على صفة من صفات الله عز وجل، فعليك أن تتعرف على الصفة التي يدل عليها هذا الاسم.
ثم عليك أن تُقرِّ بهذه الأسماء وبالصفات التي دلت عليها.
ثم عليك أن تمرر هذه المعاني على قلبك وتحرص على تذكرها بكرة وعشياً، وتعمل بمقتضاها من فعل الطاعات وترك المعاصي.
فإذا فعلت ذلك فإنك حينئذ قد أحصيت هذه الأسماء وقد فزت بالبشارة النبوية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها دخل الجنة} .
إذاً: التعرف إلى الله عز وجل يكون بثلاثة أمور: أولاً: بالإقرار به وتوحيده.
ثانياً: بصرف العبادة إليه والتقرب إليه بالأعمال الصالحة.
ثالثاً: بمعرفة أسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها من فعل الطاعة وترك المعصية.
فإذا تعرفت إلى الله عز وجل بهذه الأشياء في حال الرخاء، كان الله عز وجل لك في الشدة، سواء الشدائد التي تعرض لك في الدنيا من الفقر أو المرض أو غيرها، أو في الشدة التي تعرض لك لا محالة عند نزول الموت، أو في الشدة التي تعرض لك في قبرك أو في الشدائد التي تواجهك بعد اليوم في يوم القيامة.
وهذا وعد صادق من الله عز وجل على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
فأولاً: الإنسان يحتاج إلى الثبات على دينه، وإلى أن يكون الله عز وجل موفقاً له في ذلك ليحفظه من الشهوات ومن الشبهات.
فإذا عرفت الله عز وجل في الرخاء عرفك فيما يعرض لك في شئون دينك، فحفظك من الشبهات التي قد تصدك عن سبيل الله، ولذلك يذكر الله عز وجل في كتابه قصة ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] .
وإنك تجد كثيراً من الناس تعرض لهم في فترة من فترات عمرهم -خاصةً في فترة الشباب- بعض الشبهات والوساوس التي تتعلق بالألوهية أو بالنبوة أو بغيرها من قضايا الاعتقاد، فإذا كان الواحد منهم صادقاً في اللجوء إلى الله عز وجل فسرعان ما تزول هذه الشبهة وتغادر قلبه، حتى ولو لم يقرأ في الكتب ولو لم يجد حلاً لما أشكل عليه من القضايا والمشكلات والشبهات، وإنما يدفع الله عز وجل عنه التفكير في هذا الأمر ويغادره إلى غير رجعة ويصبح مطمئن القلب بالإيمان.
وتجد آخرين مهما أوتوا من العقل والعلم؛ ومهما قرءوا وسمعوا تجدهم يعانون من ألوان الشبهات بسبب ضعف يقينهم، وضعفت عبادتهم، وضعف تعرفهم إلى الله عز وجل في الرخاء فلم يتعرف عليهم في الشدة.(81/8)
أمثلة لتعرف الله إلى عبده في الشدة
وقد يعرض للإنسان فتنة في دينه أيضاً، فيحتاج إلى أن يكون الله عز وجل معه، وأنتم تسمعون قصة يوسف عليه السلام وما عرض له من امرأة العزيز حين تزينت؛ وقالت: هيت لك، وكان في حكم الرقيق في بيت الملك، وهذه سيدته تدعوه إلى المعصية، بل وتهدده إن لم يفعل بالسجن أو الصغار، فهذا موقف شدة، ولأن يوسف قد تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء، فإن الله تعالى يتعرف إليه في هذه الشدة، فيقول: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] .
وكذلك قد يعرض للإنسان مصيبة في شأن دنياه كما عرض لإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، فقال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وهذا كما قال أحد الشعراء: خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم فهذا الأمر هو سنة الله عز وجل في أنبيائه وفى أتباعه، فإذا صدقوا في التقرب إليه والتعرف عليه كان الله عز وجل لهم في حال الشدة.
وإنني أضرب لكم في نهاية هذه الكلمة مثلين متقابلين يبينان الفرق بين من تقرب إلى الله وبين من تنكر لله عز وجل: المثل الأول: هو ما حكاه الله عز وجل من قصة يونس عليه السلام: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:140-141] حين أداروا القرعة فوقعت على يونس -عليه السلام- فألقوه في اليم فالتقمه الحوت وهو مليم، يقول الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144] فإنه لما قال: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:88] ثم بين تعالى أن هذا ليس خاصاً بيونس بل هو عام لكل من تعرفوا إلى الله عز وجل في الرخاء فقال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] .(81/9)
مثل لمن لم يعرف الله في الرخاء
وانظر إلى المثل الآخر المقابل لذلك، وهو مثل فرعون حين أطبق عليه البحر وأدركه الغرق، فحينئذ أدرك فرعون أنه هالك لا محالة، وأدرك أن ما كان له من المال والولد والسلطان والخدم لم يعد ينفعه، فقال: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال ذلك بعد فوات الأوان، فجاءه
الجواب
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91-92] .
وفى الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يقول: كيف لو رأيتني يا محمد وأنا آخذ من حالِّ البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة} وفعلاً بين الله عز وجل مصيره يوم القيامة، فقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] وبين مصيره في حياة البرزخ ويوم القيامة في آية أخرى، فقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45-46] .
فيا أيها المسلم، يا أيها العبد الذي يدرك لا محالة أنه معرض لكثير من المصائب والنكبات في نفسه وفى ماله وفى ولده، ومعرض لأن تصيبه مصيبة الموت في كل لحظة، خذ بوصية الصادق المصدوق، الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، فتعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء ليعرفك في حال الشدة.
أما إذا لم تفعل فإن الله عز وجل يتركك حتى لا يبالي في أي واد هلكت، وحينئذ لا ينفعك أن تجأر إليه إذا نزلت بك الشدة وألمت بك المصيبة.
اللهم اجعلنا ممن تعرف إليك في حال الرخاء فتعرفت إليه في حال الشدة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(81/10)
الأسئلة(81/11)
كيفية مدافعة الرياء
السؤال الأخير: إني أحب أن أطبق جميع ما أمرني الله سبحانه وتعالى به، وأفعل ذلك على قدر استطاعتي والحمد لله، ولكني أخاف أن يحبط الله عملي؛ لأني أحب أن يعرف الناس ذلك، فأخاف أن يكون ذلك من باب الرياء، أرشدوني إلى حل يخلصني من ذلك؟
الجواب
الحل يتمثل في عدة أمور: الأمر الأول: أن يحرص الأخ السائل وغيره على التعرف إلى الله عز وجل حق المعرفة؛ لأنه حينئذٍ سيدرك من عظمة الله عز وجل ما يجعله يحتقر العمل للمخلوقين، ويدرك أن العمل ينبغي ألا يقصد به غير هذا العظيم سبحانه وتعالى، وهذا يحتاج إلى مجاهدة وطول تأمل وتفكر في معاني الأسماء والصفات كما سبق.
الأمر الآخر: أن يحرص على كثرة الدعاء بأن يرزقه الله عز وجل النية الصالحة ويحفظه من الرياء.
الأمر الثالث: أن يحرص على إخفاء عمله ما استطاع، فإذا ظهر هذا العمل دون إرادته ففرح بذلك، فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تلك عاجل بشرى المؤمن} لما سئل عن الرجل يعمل العمل فيعرف ويذكر بذلك، فقال: {تلك عاجل بشرى المؤمن} فاحرص على إخفاء العمل، فإذا ظهر العمل دون علمك ففرحت بذلك فلا شيء فيه.
الأمر الرابع: أن تحرص على مجاهدة نفسك في النية حتى في الأمور الظاهرة؛ لأنني لا أرى أن يترك الإنسان بعض الأعمال التي يعلمها الناس خوف الرياء كإمامة المسجد -مثلاً- أو النصيحة والموعظة أو غيرها من الأمور فيقول أخاف من الرياء، بل عليه أن يؤدي ما يستطيع من هذه الأعمال ويحرص على مجاهدة نفسه، وهذا نوع من الجهاد العملي؛ لأن الإنسان الذي عنده مراقبة ويخاف من الرياء فهذا دليل على وجود شيء من الإيمان في قلبه، فإذا استمر هذا الإيمان وحرص على تنميته فإنه -إن شاء الله- إلى خير، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.(81/12)
إجابة المضطر
السؤال
كيف الجمع بين عنوان المحاضرة وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] ؟
الجواب
لعل هذه الآية أو معناها جزءٌ مما تهدف إليه المحاضرة -في الجملة- فإن المضطر هو في حال شدة، فإن كان قد تعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء؛ فإن الله تعالى يتعرف إليه في حال الشدة كما وعد، كما إن هذا لا يعني حجر رحمة الله عز وجل، فرحمة الله واسعة وقد يجيب الله عز وجل المضطر إذا دعاه، لعلمه سبحانه بما قام في قلب هذا الداعي من الضعف والانكسار والتذلل والتعبد لله عز وجل فيجيبه سبحانه وتعالى.(81/13)
حكم مذاكرة الدروس في الاعتكاف
السؤال
أنا أريد الاعتكاف في العشر الأواخر لكن عندي امتحان بعد العيد فكيف أصنع؟ هل يجوز أن أحمل دروسي معي حيث محل اعتكافي وأكون بين مذاكرة دروسي وبين العبادة؟ وهل يخل ذلك بشروط الاعتكاف، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
الجواب
لا بأس بمذاكرة الدروس في حال الاعتكاف؛ لأنها لا تخل بالاعتكاف، وإن كان الإنسان في حال اعتكافه الأصل تفرغه لطاعة الله عز وجل وذكره، ولكن هذه الدروس إن كانت نية الدارس فيها صالحة فهي -إن شاء الله- جزءٌ من التقرب إلى الله عز وجل، وإلا فإن الإنسان يشتغل بها حيناً ويشتغل بعبادة الله وقراءة القرآن أحياناً أخرى حال اعتكافه.(81/14)
حكم خروج المرأة إلى المسجد مع غير محرمها
السؤال
ما هي نصيحتكم لأخواتنا المسلمات وبالأخص فئة قليلة -ولله الحمد- من اللاتي يعنيهن السؤال، والسؤال يقول: ما حكم المرأة التي تأتي إلى المسجد مع غير محرمها وبعضهن تكون مع سائق كافر أو تكون مع محرمها ولكنها سافرة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما بالنسبة لركوب المرأة مع غير محرمها وخاصة وأنها قد جاءت إلى المسجد، فهذا أمر عجيب؛ لأن المسلمة الحريصة على قيام رمضان وعلى سماع القرآن، فالأصل فيها أن تحرص على طاعة الله عز وجل وتجنب معصيته في كل أمرٍ من الأمور، ولهذا فإنه لا ينبغي لها أن تركب بصحبة سائقٍ وليس معها محرم، كما إنه لا ينبغي للمرأة المسلمة أن تخرج سافرة ولا متعطرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} وبين في الرواية الأخرى معنى قوله فهي كذا وكذا: {فهي زانية} والحديث صحيح، وفي الحديث الآخر الصحيح أيضاً: {ثلاثة لا يُسأل عنهم: رجل عصى إمامه وخرج عن الطاعة، وعبد أبق من مواليه، وامرأة خرج عنها زوجها فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم} يعني من شدة ما ينتظرهم من العذاب، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم: {نهيه عن الدخول على النساء والخلوة بهن فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} فينبغي للمرأة المسلمة أن تحرص على تعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، وتعليمها وعلى التزامها، وخاصة أولئك الأخوات اللاتي يأتين إلى المسجد لمشاركة المسلمين في الصلاة مما يدل على حرصهن -إن شاء الله- على الخير.(81/15)
حكم لفظ: صديق الله
السؤال
درسنا في المدرسة موضوعاً عنوانه كيف يكون الإنسان صديقاً لله، وجوابه هو بالعبادة والتقرب إليه بالطاعات، ولكن هل يجوز هذا التعبير كتعبير فقط؟
الجواب
والله في هذا التعبير نظر؛ لأن الصداقة جرى بين الناس في تعريفها معنى معين، ولا أعلم أن هذا المعنى ورد في القرآن أو في السنة، فعلينا إذا أردنا أن نذكر الله عز وجل أو أسمائه أو صفاته أو شيئاً يتعلق به سبحانه أن نقتصر في ذلك على الوارد، وألا نسمي الله عز وجل بأسماء لم ترد أو نصفه بصفات لم ترد، ولو كان معناها صحيحاً ووارداً.(81/16)
علاج ضعف الإيمان
السؤال قبل الأخير: فضيلة الشيخ: يتعرض الإنسان لفترات فتور في إيمانه، فلا يحس بما كان يحس به من قبل في بداية هدايته عند تلاوة القرآن وذكر الموت، فكيف يعالج الإنسان هذا الفتور؟ وما وسائل تقوية الإيمان، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما وسائل تقوية الإيمان فمرت الإشارة العابرة إلى ذلك.
أما ما يعرض للإنسان من فتور، فإنني أقول: إنه قد يكون طبيعياً في بعض الحالات، فإن الإنسان إذا اهتدى إلى الله عز وجل وتنسك وأقبل على العبادة؛ يكون في أول أمره متحمساً وشديد الحرص، ثم مع الزمن والاستمرار قد يعرض له بعض الفتور في العبادة؛ وقد لا يجد بعض ما كان يجده من اللذة في أول الأمر، فأقول: إن كل عابد له شِرَّة وله فترة -كما في الحديث الصحيح- فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فالمقصود أن يكون العابد في حالي شرته وفترته، يعني: في حال قوته وضعفه، ألا تخرجه الشدة إلى بدعة وألا يخرجه الفتور إلى تقصير وإخلال بالعبادة، وعليه أن يحرص على أن يرفع نفسه دائماً، فإن الخطر كل الخطر هو أن يرضى الإنسان بالوضع الذي يعيشه، ويقنع بما هو فيه؛ لأنه حينئذ سيبدأ بالهبوط دون أن يشعر.
أما حين يحرص الإنسان دائماً على الارتفاع ويجعل له مثلاً أعلى وقدوة بالسلف الصالح، ويحرص على أن يزيد من العبادة بين وقت وآخر فهو حينئذٍ -إن شاء الله- إلى خير ولو حصل له حالات فتور في بعض الوقت.(81/17)
الأيام دول
السؤال
تعرض علينا شبهة شيطانية، وهي: أننا في زمن رخاء فلن تأتينا فيه الشدة، فكيف السبيل إلى دفعها؟
الجواب
إذا كنا في زمن رخاء فعلينا أن نستغل هذا الرخاء ونستفيد منه حتى يدفع الله عز وجل عنا الشدة، ولا شك أن الرخاء يختلف في الفرد عنه في الأمة، فبالنسبة للأفراد: منهم من هو في حال رخاء، ومنهم من هو في حال شدة، أما بالنسبة للأمة فالناس في هذا البلد لا شك أنهم في حال رخاء وسعة من العيش وبحبوحة من الرزق، ولكنهم في بلدان أخرى هم في حال شدة، فالمسلمون -مثلاً- في أفغانستان لا شك أنهم في حال شدة، والمسلمون في كثير من بلدان الشام كفلسطين ولبنان وغيرها وفي كثير من بقاع الأرض هم في حال شدة وقد سُلط عليهم الأعداء، وهذا يجعلك أيها المسلم تتذكر أن الرخاء لا يدوم، فكما أن رخاء الفرد يتغير فالغني يفتقر والصحيح يمرض، فكذلك رخاء الأمم لا يدوم فإن الأيام دول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فعلينا أن نتعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء فننفق ما وهبنا الله عز وجل من الأموال؛ وندرك أنها ليست لنا وإنما نحن مستخلفون فيها، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] وعلينا أن نستفيد مما أعطانا الله عز وجل في هذه الحال وننفقه في طاعة الله حتى نكون ممن تعرف إلى الله في الرخاء ليعرفنا في الشدة، وييسر لنا أسباب دفعها، وإلا فإن الله عز وجل إذا تخلى عن فرد أو أمة وإن كان بأيديهم أسباب ووسائل كثيرة فهم إلى هزيمة وبوار ودمار.(81/18)
معاني الرخاء والشدة
السؤال
أرجو من سماحتكم التفضل بتعريفنا عن معنى الرخاء والشدة، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لعله اتضح من خلال الكلمة معنى الرخاء، والشده والرخاء حالة السعة التي تكون في هذه الدنيا للإنسان من توسيع عليه في المال والولد ومن غير ذلك من ألوان النعيم الدنيوي.
وأما الشدة فهي ضد ذلك مما يعرض له من الأعراض والمصائب والنكبات، وقد يدخل في الشدة أيضاً ما يعرض للإنسان في شأن دينه من الشدائد، كما أسلفت من الشبهات أو من الشهوات، ويدخل في الشدة شدة الموت، وشدة القبر، كما يدخل فيه الشدائد التي تعرض للإنسان في يوم القيامة.(81/19)
حفظ الله دائماً
السؤال
ما السبيل إلى تقوية الصلة بالله عز وجل؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحفظ الله عز وجل دائماً وأبداً؟
الجواب
السبيل هو المجاهدة، فالله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وكل إنسان يعرف كثيراً من أسباب الطاعات المقربة إلى الله عز وجل الموصلة إلى رضاه، من الصلاة والصيام والزكاة والصدقات وكثرة النوافل وقراءة القرآن وصلة الرحم وكثرة الدعاء وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها.
كل إنسان يعرف أشياءً كثيرة من هذا الباب، ولكن السائل وغيره كثيراً ما يتساءلون عن السبيل الذي يجعل الإنسان يستمر على هذه الأشياء.
فأقول: إن الشيء الغالي النفيس لا يأتي إلا بتعب حتى أمور الدنيا الغالية النفيسة لا تأتي إلا بشيءٍ من التعب، ولو نظر الواحد منا في حياته لوجد أنه إذا اقتنع بأمر وأراده بذل في سبيله الكثير من الوقت والجهد حتى يصل إليه، وكذلك الحال في شأن الدين فإذا كنت مؤمناً -وأنت بحمد الله مؤمن بالله واليوم الآخر، وبأن الذي يرضي الله يحظى بالسعادة في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، وهي سعادة لا يمكن وصفها بحال من الأحوال- فاعلم أن تحصيل ذلك يحتاج إلى شيءٍ من التعب، وإلى شيءٍ من المجاهدة، فقد تجاهد نفسك وتعمل الطاعات ثم يحصل لك شيء من الضعف أو التردد أو التأخر.
فحينئذٍ عليك أن تخرج نفسك من هذا مرة أخرى وتجرها من هذا الأمر الذي صارت إليه، وتجاهدها حتى تصل إلى وضع أحسن مما كنت قبل ذلك، وهكذا مع القناعة التامة بأن الله عز وجل وعد كل من جاهد فيه أن يوصله إلى ما يريد من الخير والحق، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وأكد الله عز وجل هذا بأكثر من مؤكد أكده باللام والنون: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) فلا بد من الإيمان بهذا وأنه وعد حق وصدق قطعه الله عز وجل على نفسه، فجاهد تجد الهداية.(81/20)
نسيان القرآن
السؤال
فضيلة الشيخ، إنني أحفظ القرآن ليس الكثير ولكن بعض السور الطوال، ولكن بعد يوم أو يومين أنسى ما حفظته، فبماذا تنصحوني لمتابعة الحفظ، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً لا شك أن حفظ القرآن فضيلة ومزية ينبغي أن نحرص عليها ونتنافس فيها، يقول الله عز وجل عن هذا القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فحفظ القرآن ثروة عظيمة للإنسان، وعلى الذي يحفظ القرآن أن يحرص على تعاهده، وأن يجعل لنفسه برنامجاً مستمراً يتعاهد فيه هذا القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً أو تفصياً من الإبل في عُقلها} فعلى الإنسان أن يحرص على الحفظ واستكماله، وأن يحرص على تعاهد ما حفظ بالصلاة وغيرها حتى يستمر معه، ولا ينبغي أن يقول: إنني أنسى ما حفظت ولذلك لن استمر في الحفظ، فهذا الكلام في نظري غير صحيح، بل عليه أن يحفظ ويواصل الحفظ ويحرص على تعاهد ما حفظ، ويتوكل على الله عز وجل ومن يتوكل على الله فهو حسبه.(81/21)
زمن الغرباء
السؤال
فضيلة الشيخ: هل نستطيع أن نقول: إن هذا العصر هو الذي ينطبق عليه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: {طوبى للغرباء} أم لا؟
الجواب
هذا الحديث ليس خاصاً بعصر معين، فطوبى للغرباء في كل زمان وفي كل مكان، وقد توجد الغربة في مكان دون مكان، فيصبح المسلمون غرباء في بلد ويصبحون أعزة في بلدٍ آخر، وقد تكون الغربة في المكان الواحد، وأيضاً في زمان دون زمان فيصبح المسلمون غرباء اليوم في هذا البلد مثلاً؛ ثم يكتب الله عز وجل لهم النصر والتمكين فتزول غربتهم عنهم في هذا البلد ويصبحون غرباء في بلد آخر وهكذا.
أما الزمن الذي تستحكم فيه غربة الإسلام استحكاماً تاماً فهو في آخر الزمان بعد عهود عيسى والمهدي عليهما السلام، بدليل ما روى ابن ماجة وغيره بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الرجل الكبير والشيخ والعجوز يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها} فحديث حذيفة هذا يدل على أن استحكام الغربة هو في آخر الزمان، أما اليوم فالمسلمون في زمن غربة ولكن ليس زمن استحكام الغربة.(81/22)
عمارة الدنيا
السؤال
فضيلة الشيخ قلت: إن عيسى عليه السلام قال: [[الدنيا كالقنطرة اعبروها ولا تعمروها]] ما معنى ذلك؟
الجواب
معناه: أنه يقرر ويقول: إن الدنيا كالجسر والمعبر الذي يمضي عليه الإنسان إلى غيره، فالإنسان لا يقيم الأبنية على الجسور والقناطر والمعابر وإنما يمضي عليها إلى غيرها، فهو يقرر أن الدنيا جسر إلى الآخرة؛ ومعبر وقنطرة إليها وإلى حياة البرزخ، فعلى الإنسان أن يعبرها ويمضي عليها ويحرص على تقديم الأعمال الصالحة فيها وألا يشتغل بعمارتها والمبالغة في ذلك بحيث يخرجه هذا الأمر عما خلق له، أما عمارة الدنيا من حيث الأصل فهو جزءٌ من العبادة، فالله عز وجل يقول: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] والإنسان مطلوب منه أن يقوم بشئونه في هذه الدنيا، وأن ينفق على نفسه وعلى من ولاه الله أمره، وأن يقيم بناء دولة الإسلام إلى غير ذلك من الأمور التي لابد منها، وإنما المقصود الاشتغال بفضول الدنيا والتوسع فيها بما لا حاجة له في الدار الآخرة.(81/23)
خروج المتصوفة من الإسلام
السؤال
ذكرت أن الصوفيين خرجوا من الإيمان لعدم اعتقادهم تصرف الله المطلق في الأكوان، فهل كل الصوفية على هذا النمط، مع العلم أن هناك فرقاً بين المتقدمين منهم والمتأخرين، وحبذا لو وضحتم هذا الأمر، ووضحهم أيضاً، رأيكم في التعميم عند الكلام على المتصوفة، دون تفريق بين شدة البدعة -كالبدع الكفرية مثلاً أو قلتها، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما الصوفية الذين ذكرت أنهم خرجوا من الإيمان بالأمر الأول وهو المتعلق بالإقرار بالله عز وجل وتوحيده، فهم من وصفتهم بأنهم يقولون: بوجود متصرف مع الله عز وجل، فمن الصوفية من يزعم أن من الأقطاب أو الأوتاد أو غيرهم من له مشاركة في التصرف في شئون الكون، وهذا أمر ثابت بالنسبة لبعضهم، فمن كان منهم على مثل ما ذكرت فهو داخل في هذا الأمر.
أما عموم الصوفية فهم لا شك أنهم أنواع وأقسام ويتفاوتون في حجم شدة البدعة أو ضعفها، فمنهم من تصل به البدعة إلى الكفر كهؤلاء القوم، وكالصوفية القائلين بوحدة الوجود مثلاً، ومنهم دون ذلك، وإن كان التصوف في جملته دخيلاً على الإسلام من حيث الاصطلاح في رأى كثير من الباحثين.(81/24)
مؤاخاة المهاجرين والأنصار
السؤال
المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، ألا تلاحظ أن كثيراً من العلماء والمحاضرين والمؤلفين يمرون عليها مروراً عابراً لا توقف فيه ولا استقصاء ولا استنباط، بينما هي مدرسة يستنتج منها إضاءات لطريق العلاقات الاجتماعية والحياة الاقتصادية، فهل بالإمكان إيضاح الأسس الاقتصادية والتعاونية لحياة المهاجرين والأنصار؟ وهل حياة المسلمين اليوم مثل حياتهم رضي الله عنهم أجمعين؟
الجواب
بالنسبة لموضوع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فمن المعلوم أن البيئة العربية التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم كانت بيئة قبلية، فكانوا يتناصرون ويتفاخرون على أساس القبيلة، فيقول قائلهم: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون به من قبائل شتى بل كان منهم العربي، وغير العربي فكان يوجد في أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مثلاً سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، إضافةً إلى أتباعه من العرب وهم كثير.
ولذلك ذكر كثير من العلماء والأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين بعض أصحابه في مكة كما في مستدرك الحاكم وغيره، وورد في ذلك روايات عديدة وإن كان علماء آخرون ينكرون هذه المؤاخاة قبل الهجرة.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة نزلوا على الأوس والخزرج، وكان الأوس والخزرج أيضا بينهم من العداوة والبغضاء والحروب المدمرة ما حفل بذكره التاريخ، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم كلمتهم عليه وألف بينهم فأصبحوا بنعمة الله عز وجل إخواناً، فاستقبلوا المهاجرين أفضل استقبال وفرحوا بهم وتنافسوا في ضيافتهم حتى أنه لم ينزل مهاجريٌ على أنصاري إلا بقرعة، وقد بلغ حد الإيثار بينهم؛ ما ورد في القصة الصحيحة أن سعد بن الربيع يقول لـ عبد الرحمن بن عوف وكان أخاه: [[انظر أي زوجتي أفضل فأطلقها حتى تعتد فتتزوجها وخذ من مالي ما شئت، فيقول له: بارك الله لك في أهلك ومالك]] .
وقد ذكر الله عز وجل لهم هذا الجميل فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] فإذا استطاع المسلم في هذا الزمان وفى كل زمان أن يتخلص من شح نفسه؛ ومن حب المال ومن حب الدنيا وأن يؤثر أخاه على نفسه فإنه حينئذ يكون قد تشبه بهؤلاء القوم الصالحين فيحشر معهم، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى وأحمد وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو معهم} .(81/25)
سلطان العلماء
العز بن عبد السلام شخصية بارزة على مر التاريخ الإسلامي، نال شهرته لأنه رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، ينكر المنكر علانية وسراً على الملوك والأمراء، أحبه العامة وهابه الخاصة، ترأس عدة مناصب فكان أكبر منها، لا يداهن ولا يحابي أحداً، أخلص عمله لله فأعانه الله ووقاه، كان رحمه الله متصفاً بصفات شخصية، أنكر المنكر بلسانه ويده، وفي هذا الدرس سرد للمواقف البطولية له بغرض الاقتداء والعبرة لا لتسلية وإطراب الآذان السامعة، تأمل ثم تفكر وتشبه فإن التشبيه بالكرام فلاح.(82/1)
بين يدي الدرس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة: هذا هو الدرس الثالث والعشرون، في ليلة الإثنين السادس والعشرين، من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) وعنوان هذا الدرس هو: (سلطان العلماء) .
لا تنتظروا مني -أيها الإخوة- أن أتحدث لكم عن تفصيلات عن حياة العز بن عبد السلام، أنه ولد في عام (577هـ) أو توفي في عام (660هـ) أو عاش في الشام، أو مات في مصر.
فإن هذه التفاصيل محلها كتب التراجم والتاريخ وهي لا تعنينا في كثير ولا قليل، فضلاً عن أن هذه المعلومات متوفرة بشكل واضح في مصادر ترجمة الإمام العز بن عبد السلام، ككتب طبقات الشافعية للسبكي، والأسنوي وابن قاضي شهبة، وبعض الرسائل الجامعية التي قدمت عن حياة هذا العالم الجليل.
والتي كتبها مجموعة من الباحثين كـ عبد العظيم فوده، والدكتور عبد الله الوهيبي، وعلي الفقير، وسيد رضوان الندوي، وغيرهم.
إذاً: ليست مهمتي في هذه الجلسة أن أتحدث لكم عن ترجمة العز بن عبد السلام الملقب بـ سلطان العلماء، كلا، وإنما أريد أن أقف عند جوانب ووقفات مهمة في حياة هذا الرجل، وقد تتساءلون: لماذا أتحدث عن ترجمة هذا الإمام؟ فأقول: إن التاريخ يعيد نفسه، فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم، والمواقف المنتظرة من رجال اليوم، هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس، والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها وتعيد النظر فيه.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثبٍ فساءل الصرح أين العز والجاه؟! وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرسٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه واسترشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه يجب أن نعود إلى ماضينا، إلى تاريخنا نستلهم منه الدرس والعبرة.(82/2)
حجته في الإنكار العلني
لم يكن العز بن عبد السلام يرى مانعاً شرعياً من ذلك، بل بالعكس كتب العز بن عبد السلام لأحد الأمراء، لما كتب إليه أحد الأمراء خطاباً شديد اللهجة يعاتبه على بعض الأمور ويقول تكلمت في أمور لا داعي لها وكان يجب أن لا تتحدث فيها، وفرض عليه الإقامة الجبرية في بيته وعاقبه بعقوبات.
فقال له العز بن عبد السلام: كل ما فعلتَ لا يضيرني، بل هو أمر كنت أتمناه منذ زمان، وأما قولك بأن كلامي يثير الفتنة فأنا ما تكلمت إلا بالحق، ورد البدع لا يثير الفتن، إنما الذي يثير الفتن هو السكوت على البدع وجحد الحق وكتمانه.
العز بن عبد السلام رحمه الله كان ينطلق من مبدأ صريح، وموقف واضح عبّر عنه في خطابه الذي أشرت إليه قبل قليل، فقال لهذا الأمير الذي عاتبه: "ثم إننا بعد ذلك نزعم أننا من جملة حزب الله عز وجل وأنصار دينه وجنده، والجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي" هكذا يقول العز بن عبد السلام "الجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي".
إذاً ليس صحيحاً أن الإنسان يدعي أنه جندي من جنود الله عز وجل، مجاهد في سبيل الله، آمر بالمعروف ناه عن المنكر ثم لا يخاطر بنفسه في هذا السبيل ولو مرة واحدة، هذا لا يكون أبداً، الذي يريد السلامة لا يكون جندياً، ولا يلبس لباس الجند، ولا يحمل البندقية؛ بل يجلس في بيته، هذه هي طريقة العز بن عبد السلام رضي الله عنه.(82/3)
فوائد الإنكار العلني
كان الشيخ يدرك أن في ذلك الإنكار العلني وقول كلمة الحق والصدع بها، فوائد عديدة ومن أهمها: أولا: أن العالم يعذر ويعرف الناس أنه قال وتكلم وأمر ونهى فلم يطع؛ فيعذر، ولا يكون مجالاً لحديث الناس أن يقولوا: داهن، ونافق، وسكت عن الحق، لا، بل يعرفون أنه قال بملء فيه ولكن لم يستجب له فحينئذٍ هو معذور في ذلك.
وقد مررت بعددٍ من بلاد الإسلام في أقاصي الأرض بل وفي غيرها من البلاد الكافرة التي يوجد بها بعض المسلمين، فوجدت أنهم يعتبون كثيراً على علماء الأمة أنه حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وما سمعنا كلمة حق.
إذاً: العالم إذا قالها صريحة واضحة؛ فإنه يكون في ذلك العذر له عند الناس.
ومن فوائد ذلك -أيضاً- التفاف العامة حول هذا العالم إذا رأوه يقول كلمة الحق بقوة وشجاعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنهم إذا رأوا ذلك التفوا حوله، وأحاطوا به، وأخلصوا له الود، ووفوا معه، لماذا؟ لأنهم يعرفون أن هذا عالم يريد وجه الله والدار الآخرة، ليس له مطامع، ولا مقاصد، وأنه بذل نفسه في سبيل الله عز وجل.
فمن أجل ذلك يحيطون به، ويفدونه بأرواحهم ومهجهم، ويبذلون من أجله وفي سبيل الحفاظ على مكانته كل غالٍ ونفيس، بخلاف ما إذا لم يكونوا يعلمون بما يقول ويفعل فإنهم قد يتهمونه، ويسوء ظنهم به، وينفضون من حوله، فيبقى العالم منفرداً ليس معه أتباع، ولا يستجيب له أحد، ولا ينتفع بعلمه أحد.
ومن فوائد إنكار العالم بهذه الطريقة: أنه يشجع الآخرين على الإنكار، فإن كثيراً من الناس يقولون: إذا سكت العالم فغيره من باب الأولى، وإذا سكت طالب العلم فكذلك.
فكان العز بن عبد السلام رضي الله عنه ورحمه الله حين يصدع بها عالية مدوية على أعواد المنابر وفي ملأٍ من الناس، كان يفتح الطريق للآخرين ويقودهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يهابوا ولا يخافوا في الله لومة لائم.
ومن الفوائد: قبول الحق، فإن الحق إذا قيل علناً، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، من قبل عالم موثوق معروف بصدقه وإخلاصه وأنه لا يريد الحياة الدنيا ولا زينتها، ولا يبغي علواً في الأرض ولا فساداً كان إعلانه بذلك سبباً في قبول الحق الذي قال به والإذعان له.
ومن أهم فوائد ذلك: رفع مستوى الأمة، وعدم حجب الحقائق عنها، بمعنى أن العالم إذا جهر بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر كأنه يقول للأمة كلها: أنتم الحكم بيني وبين خصمي، فأنا قلت الحق وأنتم اسمعوا، فيرتفع مستوى الأمة حينئذٍ، وتصبح أمة مؤثرة قوية، كل فرد منها له قيمته، وله مكانته ورأيه، وله كلمته، وليسوا مجرد أتباع يؤمِّنون ويؤيدون ولا يعرفون هذا من ذاك، ولا يستطيعون أن يشاركون بالرأي والمشورة، لا، بل أصبحت أمة قوية لها ثقل ولها مكان.
وهذا لا يكون إلا إذا أشركها العلماء في أمورهم، وأمرهم، ونهيهم، وصدعهم بالحق؛ وجعلوا الأمة تشارك معهم في هذا العمل، لا يحجبون الحقائق عن الأمة بحجة أن الناس رعاع والناس همج والناس فيهم، وفيهم، لا، كانوا يعلنونها للناس ويجعلون الناس يتبنون الدفاع عن الحق بمجرد أن قاله العالم ونطق به.(82/4)
أبرز الجوانب في شخصيته
ومن أبرز الجوانب التي أود أن أتحدث فيها عن شخصية هذا الرجل: هو ما يتعلق بالشجاعة والجرأة التي كان يتميز بها في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد جدد السلطان العز بن عبد السلام الإنكار العلني على السلاطين والأمراء، فكان ينكر عليهم علناً وأمام العامة، وأحياناً من على أعواد المنابر ولا يخاف في الله لومة لائم، وهذا هو الهدي والسمت الذي كان موجوداً عند الصحابة رضي الله عنهم والتابعين.
فمثلاً لما جاء مروان بن الحكم وغير بعض سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدم خطبة العيد على الصلاة ثم خطب على المنبر، قام أبو سعيد الخدري وأنكر عليه، وكذلك قام رجل آخر فيما بعد وأنكر، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، بل إن الرجل وقف للأمير وجره بثوبه وقال له: خطبت قبل الصلاة وكانت الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هنالك.
وهكذا كان عمر رضي الله عنه يقف على المنبر، فيأمر وينهى، فيقوم إليه الرجل فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويحتج عليه وهو على المنبر، فجدد العز بن عبد السلام هذا الهدي والسمت الذي كان معروفاً عند الصحابة والتابعين والأئمة المهديين فكان ينكر على هؤلاء العلية من القوم، على السلاطين وغيرهم علانية، ولم يكن يعتقد أن في هذا ضرراً أو إثارة فتنة.(82/5)
لماذا لقب بسلطان العلماء؟
لقب الشيخ بهذا اللقب الذي اخترته عنواناً لهذه المحاضرة (سلطان العلماء) من قبل أحد تلاميذه، وهو الشيخ المعروف الإمام ابن دقيق العيد، ولهذا اللقب سرٌ معروف يتضح من خلال هذه المحاضرة.
وخلاصته أن العز بن عبد السلام كان محتسباً على عِلْية القوم من الأمراء والسلاطين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان ذا قوة وسطوة وهيبة تذل عندها كل القوى، وتضعف عندها كل الإمكانيات.
والشيخ الإمام العز بن عبد السلام عاش في الشام ثم في مصر، وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين، وكانت دولةً قوية، ولكن في آخر عصرها تنافسوا على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضاً، حتى اضطر بعضهم إلى أن يتحالف مع الصليبين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه، وبني عمه، أو يستعين بهؤلاء النصارى الصليبيين في قتالهم وفتح بلادهم.
ثم كان في آخر دولتهم أن حكمت امرأة ولأول مرة في تاريخ الإسلام تملك المسلمين امرأة كانت تسمى شجرة الدر، وحيث أنها لما مات زوجها أخفت خبر وفاته وعينت رجلاً يحكم بالاسم، وكانت هي تدير الأمور، وظلت على هذا الحال ثلاثة أشهر تقريباً حتى امتعض الناس من هذا الأمر وغضبوا، ثم تنازلت هي عن الأمر وعاد الحق إلى نصابه.
وهذه من الأشياء التي يتمسك بها بعض الذين يحاولون أن يقولوا: إن المرأة يمكن أن تتولى السلطة والحكم في بلاد الإسلام، يحتجون بأنه على مدى أربعة عشر قرناً حكمت امرأة ثلاثة أشهر، ولا أدري كيف يحتجون بثلاثة أشهر ولا يحتجون ببقية القرون كلها، التي لم يحدث فيها ولا من قبيل المصادفة أن امرأة حكمت، ولم يحدث فيها مرة واحدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة -مثلاً- في أحد الغزوات أو السرايا أنه كان يجعل امرأة تكون نائباً عنه في المدينة المنورة؟! والمهم أن هذا هو حال دولة بني أيوب.
بعد ذلك آل الأمر إلى ما يسمى بالمماليك، وكانوا من الأتراك وغيرهم وكانوا عبيداً مماليك للحكام، ثم قفزوا على السلطة وحكموا فيها فترة من الزمن، وقد عاصر الإمام السلطان العز بن عبد السلام - سلطان العلماء - عاصر بداية وجود هذه الدولة وعاش فترة فيها.(82/6)
أمثلة للإنكار العلني عنده
ومن هذه الطريقة كان له مواقف في غاية العجب، وهذه المواقف لولا أنها مسطرة ومكتوبة لقلنا إنها خيال من الخيال لكنها مكتوبة، والذين كتبوها من العلماء الذين عاصروه وعاشروه وعاشوا معه، فأذكر لكم بعض هذه المواقف العجيبة:(82/7)
بيعه للمماليك الأمراء
موقف ثالث أعجب من الموقفين السابقين كليهما: كان الذي يحكم مصر -كما ذكرت سابقاً- المماليك، وقد بايعوا أمراء العباسيين لما خرجوا في آخر الأمر، لكن كانت الحكومة الحقيقية بيد المماليك، أي أن نائب السلطنة كان مملوكياً وكذلك أمراء الجيش والمسئولون كلهم مماليك، في الأصل أرقاء، وكانوا يسمون العز بن عبد السلام قاضي القضاة -يعني أكبر القضاة- وإن كان كثير من أهل العلم أنكروا هذه الكلمة.
المهم أنه كان كبير القضاة بمصر، فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء لواحد من هؤلاء المماليك يراها لا تصلح فيبطلها؛ لأن هذا عبد مملوك حتى لو كان أميراً كبيراً عندهم أو قائداً في الجيش، فيرده ويقول له: يجب أن يُحَرر فيباع أولاً، وبعد ذلك يصح بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها، أما الآن فهم عبيد.
لهذا فإنهم تضايقوا من هذا العمل، وجاءوا إليه يقولون له: ماذا تصنع بنا؟ قال: أريد أن أبيعكم، فغضبوا أشد الغضب، ورفعوا أمره إلى السلطان، فغضب السلطان وقال: هذا أمرٌ لا يعنيه، هذا يتدخل فيما لا يعنيه -وهذه كلمة قديمة تستخدم: هذا يتدخل فيما لا يعنيه- فلما سمع العز بن عبد السلام هذه الكلمة، تصرف تصرفاً بسيطاً لكنه مهم، فقام وعزل نفسه من القضاء.
إذاً: من أهم جوانب قوة العز بن عبد السلام أنه كان أكبر من المناصب، وأكبر من الوظائف، وأكبر من الأسماء، ولذلك ما كان يتطلع إليها أو يستمد قوته منها، بل كان يستمد قوته من إيمانه بالله عز وجل، ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق، ثم من هذه الأمة التي أعطته مهجها وأرواحها.
وأصبح العز بن عبد السلام في حياتهم وقلوبهم هو تاج الزمان ودرته، وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته، فلذلك عزل نفسه من القضاء؛ لأن كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرف القاضي، والعالِم يحكم فيها بحكم الله ورسوله.
ثم قام بتصرف آخر مشابه، وهو أنه جمع متاعه وأثاث بيته واشترى حمارين، وضع الأثاث والأمتعة -البسيطة- في حمار، وركّب زوجته وطفله على الحمار الآخر وأمسك رسن الحمار، ومشى باسم الله.
فإلى أين هذا الموكب البسيط المتواضع؟ إنه يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الأصلي، يرجع إلى الشام، وليس في الأمر ما يدعو إلى أن يذكر.
إنها قصة عادية رجل ركب حمارين ومشى لكن ما الذي حدث؟! لقد خرجت الأمة كلها وراء العز بن عبد السلام، حتى ذكر المؤرخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد والرجال والنساء والأطفال، وحتى الذين لا يؤبه لهم، هكذا تقول الرواية: أي النجارون، الصائغون، والصباغون، والكناسون وكل أصحاب الحرف والمهن الشريفة والوضيعة من الأمة خرجت وراء العز بن عبد السلام في موكب مهيبٍ رهيب.
فجاء الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمهم إذا خرج العز بن عبد السلام وخرجت الأمة كلها وراءه؟! ما بقي لك أحد، قد ذهب ملكك، فأسرع الملك الصالح أيوب إلى العز وركض يدرك هذا الموكب، ويسترضيه، ويقول له: ارجع ولك ما تريد، قال: لا أرجع أبداً إلا إذا وافقت على ما طلبت: أن نبيع هؤلاء المماليك، قال: لك ما تريد، افعل ما تشاء.
فرجع العز بن عبد السلام، وبدأ المماليك يحاولون به: أمعقول يبيعنا؟! أمعقول أن مسئولاً كبيراً في دولة المماليك يعلن عليه بالأسواق بالمزاد العلني: من يشتري؟ من يشتري؟ لا يمكن هذا! فغضبوا حتى قام نائب السلطنة وهو واحد منهم وذهب وقال: لا بد من تصفية جسدية، لا يوجد حل إلا أننا نقتل هذا الرجل؛ لأنه أصبح غصة في حلوقنا فلابد من قتله.
فذهب نائب السلطنة -وهو مملوكي وهو أول من سوف يحرج عليه في المزاد العلني- ذهب ومعه مجموعة من الأمراء ثم طرق باب العز بن عبد السلام وكانت سيوفهم مصلتة يريد أن يقتله فخرج ولد العز بن عبد السلام واسمه عبد اللطيف، فلما رأى ما رأى -موقف مهيب مخيف- رجع إلى والده، وقال: يا والدي انج بنفسك، الموت، الموت، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر: كيت، وكيت، فقال العز بن عبد السلام لولده: يا ولدي والله! إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله عز وجل.
ثم خرج مسرعاً فما لبس ثياباً ولا شيئاً؛ لأنه يخشى أن تفوته هذه الفرصة خرج مسرعاً إلى نائب السلطنة فلما رآه يبست أطرافه وتجمد! وأصابته حالة عصبية من الذعر والرعب، وأصبح يضطرب، وسقط السيف من يده، واصفر وجهه، وبدأ يضطرب، وسكت قليلاً، ثم تراد إليه نَفَسُه، فبكى وقال: يا إمام، حدِّث، ماذا تعمل؟ قال: أبيعكم.
قال: تحرج علينا؟ قال: نعم، قال: تقبض الثمن؟ قال: نعم، قال: أين تضعه؟ قال: في مصالح المسلمين العامة، في بيت المال أضعه، فطلب منه الدعاء، لقد بكى بين يديه وطلب منه الدعاء له، ثم انصرف.
لقد فعلها العز بن عبد السلام رضي الله عنه، فقام وجمع هؤلاء، وأعلن عنهم، وبدأ يبيعهم، وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعد أن يوصله إلى أعلى الأسعار، لا يبيعه تحلة للقسم، لا، بل يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء، فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني مثل البائع الشحيح، فلا يبيع الأمير إلا بعدما يستوفي قيمته.
وهذه القصة حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأنها لم تحدث في تاريخ البشرية كلها، وأعتقد أن هذا صحيح، طيلة تاريخ البشرية في جميع الأمم، إذا أتوا يفاخرونا نفاخرهم بأئمة أفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام، هاتوا لنا عالماً يقف مثل هذا الموقف! أو شخصية فكرية في الأمم كلها يقف مثل هذا الموقف! وتاريخ الإسلام كله لا يعرف فيه مثل هذا الموقف الذي حصل للعز بن عبد السلام رضي الله عنه وأرضاه.
وقد سجل هذا الموقف بقلمه البارع وأدبه الرفيع الأديب مصطفى صادق الرفاعي رحمه الله في كتابه وحي القلم تحت عنوان (أمراء للبيع) وألف أحد المعاصرين كتاباً سماه العز بن عبد السلام بائع الملوك.
هذا جانب، إذاً، العز بن عبد السلام كان شجاعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بكلمة الحق، وكان يرى أن يقول ذلك علانية وصراحة ولا يداهن ولا يخاف في الله لومة لائم.(82/8)
موقفه مع نجم الدين أيوب
خرج العز بن عبد السلام -كما ذكرت لكم- إلى مصر واستقبله نجم الدين أيوب وأحسن استقباله وجعله في مناصب ومسئوليات كبيرة في الدولة.
وكان المتوقع أن العز بن عبد السلام يقول: هذه مناصب توليتها ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظاً على مصالح المسلمين، وأن لا أعكر ما بيني وبين هذا الحاكم خاصة أن الملك الصالح أيوب في مصر مع أنه رجل عفيف وشريف، إلا أنه كان رجلاً جباراً مستبداً شديد الهيبة، حتى إنه ما كان أحد يستطيع أن يتكلم بحضرته أبداً، ولا يشفع في أحد، ولا يتكلم إلا جواباً لسؤال لشدة هيبته.
حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائماً نقول -ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب -: ما نخرج من المجلس إلا إلى السجن؛ لأنه رجل مهيب وإذا سجن إنساناً نسيه، ولا أحد يستطيع أن يكلمه فيه أو يذكره به، وكان حوله الخدم، والحشم، والأعوان، والشرط.
رجل له هيلمان، وسلطة، وصولجان، وخوف، وذعر في نفوس الناس، والخاص والعام، فماذا كان موقف العز بن عبد السلام مع هذا الرجل؟ كان له موقف في غاية الطرافة: في يوم العيد خرج الموكب، موكب السلطان يجوب شوارع القاهرة والشرطة مصطفون على جوانب الطريق والأمراء، وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فكان له هيبة وأبهة والسيوف مصلتة.
فوقف العز بن عبد السلام وقال: يا أيوب! -يخاطب الحاكم- يا أيوب التفت إليه الحاكم مذهولاً من الذي يخاطبه باسمه الصريح، هكذا بلا مقدمات: يا أيوب فالتفت إليه، فقال له: ما حجتك عند الله عز وجل غداً إذا قال لك ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر فأبحتَ الخمور.
فقال: ويحدث هذا في مصر؟ قال: نعم، في مكان كذا، وكذا، حانة يباع فيها الخمر، فقال: يا سيدي! هذه من عهد أبي أنا ما فعلت هذا، فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذن أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] فقال: لا، أعوذ بالله وأصدر أمراً مرسوماً بإبطالها فوراً ومنع بيع الخمور في مصر.
موقف عجيب وانتهى الموقف، ورجع العز بن عبد السلام رضي الله عنه إلى مجلسه يعلم الطلاب ويدرسهم، وكان يعلمهم مواقف البطولة والشجاعة قبل أن يعلمهم الحلال والحرام، ويعلمهم الغيرة على الدين مثلما يعلمهم الأحكام، لأنه لا قيمة لطالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث، ومع ذلك غيرته ميتة على الإسلام، لا يغضب لله ورسوله، لا يتمعر وجهه إذا ما رأى المنكر، لا يتطلع إلى منازل الصديقين والشهداء، ما قيمة هذا العلم؟! فرجع العز بن عبد السلام إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه، يقال له الباجي، يسأل، فيقول: يا سيدي، كيف الحال؟ قال: بخيرٍ والحمد لله، قال: كيف فعلت مع السلطان؟ قال: يا ولدي، رأيت السلطان في أبهة ومنظر ومظهر فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فأردت أن أهينه.
إذاً: العز بن عبد السلام كان يربي السلطان، كان العز يستطيع أن يقول للحاكم بأذنه: في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر، لكن لماذا أعلن هذا الأمر على الناس؟ إنه يريد أن يربي السلطان، فهو يريد إنكار منكرين في وقت واحد، المنكر الأول -وهو صغير بالنسبة للثاني-: الحانة التي يباع فيها الخمر، ويمكن أن تزال ببساطة.
لكن المنكر الثاني الأكبر هو: هذا الغرور، وهذه الأبهة، وهذا الطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم، فأراد أن يقمعه ويقعده ويزيله، قال: فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فقال له الباجي (تلميذه) : يا إمام، أما خفت؟ قال: لا والله يا ولدي، استحضرت عظمة الله عز وجل فرأيت السلطان أمامي كالقط.
إلى هذا الحد! يا سبحان الله! لكن ما رأيكم في طالب علم أصبح يخاف حتى من القط! هل يأمر؟ هل ينهي؟ لا، ولذلك أقول: كان العز بن عبد السلام رضي الله عنه يتخذ هذه المواقف لأغراض عديدة منها -كما سيأتي- تربية الناس على مثل هذه المواقف وأن يجر الأمة كلها إلى مواقف شجاعة قوية.(82/9)
إنكاره على الملك إسماعيل لتحالفه مع النصارى
لما كان العز بن عبد السلام في دمشق كان الحاكم في دمشق رجلاً يقال له الملك الصالح إسماعيل من بني أيوب، فولى العز بن عبد السلام خطابة الجامع الأموي.
وبعد فترة حصل أن الملك الصالح إسماعيل حالف النصارى الصليبيين أعداء الله ورسله، وسلّم لهم بعض الحصون كقلعة الشقيق وصيدا وبعض الحصون وبعض المدن، أعطاها لهم من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب بمصر.
فلما رأى العز بن عبد السلام هذا الموقف الخياني المتآمر الموالي لأعداء الله ورسله لم يصبر، فصعد على المنبر وتكلم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقالها له صريحة، وقطع الدعاء له في الخطبة بعد ما كان اعتاد أن يدعو له، وختم الخطبة بقوله: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ثم نزل، وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده، فغضب عليه غضباً شديداً، وأمر بإبعاده عن الخطابة وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة.
بعد ذلك خرج العز بن عبد السلام من دمشق مغضباً إلى جهة بيت المقدس فصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة والتقى بأمراء النصارى قريباً من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من خاصته وبطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام ولاطفه ولاينه بالكلام الحسن واطلب منه لعلك تأتي به معك إلي ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه.
فذهب الرسول إلى العز بن عبد السلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه إلا أن تأتي وتقبل يد السلطان لا غير، فكل ما في الأمر أن تأتي إلى الملك الصالح إسماعيل وتقبل يده، وتعود إلى ما كنت عليه ونزيدك مناصب جديدة.
فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: يا مسكين! والله ما أرضى أن الملك الصالح إسماعيل يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده! يا قوم، أنا في وادِ وأنتم في وادٍ آخر، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له: إذن نسجنك، فمعي أمر إذا لم تمتثل أن تسجن، فقال: افعلوا ما بدا لكم.
فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ القرآن في هذه الخيمة، وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد مجلساً أو مؤتمراً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، وكانوا قريبين من العز بن عبد السلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر قساوسة المسلمين، -يريد أن يفتخر عندهم بهذا العمل- سجناه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين، فماذا قال له ملوك النصارى؟ -لقد ظن أنهم سوف يشكرونه على هذا العمل- لكنهم قالوا له: والله! لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.
أي لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص للأمة وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة؛ لغسلنا رجليه وشربنا الماء الذي غسلنا به رجليه، فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذل، وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، فجاءته جنود المصريين وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبد السلام.
هذا موقف صدع به العز بن عبد السلام -رحمه الله- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر، ورأى أن هذا الذي يسعه، مع أنه كان يستطيع غير ذلك، لكن رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب خاصةً أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها وتجولوا في أسواقها ودكاكينها، وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين.
ولذلك وجه إليه استفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح إلى النصارى؟ فأفتى رضي الله عنه بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز، لأنك تعلم أنهم سوف يصوبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.(82/10)
تغيير المنكر بنفسه
الجانب الثاني: أن الأمر تعدى عند العز بن عبد السلام رضي الله عنه إلى أنه كان يتولى بنفسه تغيير المنكرات، كما سبق ذكر شيء من ذلك.(82/11)
إنكاره المنكر على أحد وزراء الدولة
ومن أطرف المواقف التي تذكر في هذا الجانب أنه قال له تلاميذه يوماً من الأيام: إن وزيراً كبيراً في دولة المماليك بنى في مكان كذا وكذا داراً -يسمونه في ذلك العصر- طبل خانة، وهو مكان مخصص للغناء والرقص والموسيقي والفساد، وكان هذا المكان بقرب أحد المساجد.
ومن هنا نلاحظ كيف أن الأمة كانت تواصل العلماء، فتخبرهم بما يجري وما يقع؛ لأن العالم ليس كالشمس يشرق على هذه الدنيا كلها، بل يحتاج من تلاميذه وممن حوله أن يقولوا له: حصل كذا وحصل كذا، بحيث أن الأمة كلها تمد جسورها مع العالم، فجاءوا وقالوا له: الأمر كيت وكيت، فتأكد لديه الخبر، فجمع أولاده وبعض تلاميذه، وذهب إلى هذا المكان الذي يسمونه طبل خانة، ثم أخذ الفأس وبدأ باسم الله وهدمه هو من معه حتى سووه بالأرض.
فهل اكتفى بهدم هذا المنكر وإزالته؟ لا، فالرجل طموح، فقد قام وأصدر بياناً أو قراراً بأن الوزير هذا ساقط العدالة فلا أحد يقبل شهادته ولا يقبل منه أي خبر من الأخبار، وأعلنه للناس فسرعان ما تناقلت الأمة هذا الخبر عن العز بن عبد السلام.
وكانوا يظنون أن الخبر محصور في مصر فقط، لكن تعجبوا أشد العجب وعظمت مصيبتهم حينما حصلت القصة التالية: أرسل ملك مصر إلى الخليفة العباسي رسالة بواسطة أحد الأشخاص، رسالة شفهية، فلما وصلت الرسالة إلى الخليفة العباسي، قال للرسول من أين سمعت هذه الرسالة؟ هل سمعتها من ملك مصر مباشرة.
قال: لا، سمعتها من فلان -يعني الوزير الذي أسقط العز بن عبد السلام عدالته-.
فقال الخليفة: ارجع فلن أقبل هذا الخبر حتى تأتيني به من حاكم مصر مباشرة، فرجع الرسول وقال لهم: القصة كيت، وكيت، فعرفوا أن الأمة كلها فعلاً مع العز بن عبد السلام.(82/12)
لماذا أنكر المنكر بيده
نلاحظ -أيها الإخوة- من هذه القصة أمرين: أولا: أن العز بن عبد السلام كان يتولى بنفسه -أحياناً- مباشرة تغيير المنكر باليد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} والعز كان يستطيع أن يغير بيده، فتغييره رضي الله عنه باليد يعتبر موقفاً وسطاً بين صورتين تقعان في كل زمان ومكان: الصورة الأولى: صورة بعض المتعجلين الذين يتولون تغيير المنكرات بأيديهم، لكنهم ليس لديهم قوة ولا مكانه بحيث أن تغييرهم للمنكر قد يعود بنتائج سلبية، وهذا ما نلاحظه في هذا العصر، في كثيرٍ من البلدان يكون تغيير المنكر باليد -بإتلافه، أو إحراقه، أو هدمه، أو منع وقوعه- سبباً في مضاعفة المنكر.
وبمقابل ذلك وهي الصورة الثانية، التي يكون فيها التهاون والسكوت، فموقف العز موقف متميز عن بعض طلبة العلم والمحسوبين على الدعوة وعلى الخير ممن إذا رأى المنكر طأطأ رأسه، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، وربما في المرة الثانية لا يأتي من عند هذا المكان حتى لا يرى المنكر! فنقول: لا، لا يصلح الهروب من المنكرات، فهروبك من المنكر لا يعني أن المنكر قد زال، وقولك: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا طيب وذكر لله عز وجل، لكن يجب أن تشفع ذلك وتؤيده بموقف إيجابي فعال، تعمل فيه على إزالة المنكر، فكان موقف العز بن عبد السلام موقفاً وسطاً، فهو رجل متمكن له قوة وقدرة استطاع بها أن يغير المنكر بيده، فهذا جانب.
الجانب الثاني: أن الذي جعل العز بن عبد السلام رضي الله عنه يقف هذا الموقف هو أن الأمة كلها وراءه، ولذلك لما أصدر القرار بإسقاط عدالة هذا الرجل، لم يعد أحد يقبل منه أي قول، ويمكن أن زوجته لو رجع إليها في البيت ليخبرها بخبر، لقالت له: ما أقبل منك هذا الكلام لأنه قد أسقط عدالتك العز بن عبد السلام! إذا كانت الأمة فعلاً ملتفة حول علمائها وقاداتها الشرعيين فإنها تكتسب بهم قوة، وتكسبهم قوة أما هم فإن الواحد منهم يستطيع أن يأمر وينهى، لأن وراءه حشد من الأمة، إذا غضب غضبت له ألوف وألوف، ومن جهة أخرى، أن الأمة تتقوى بهم؛ لأن هؤلاء العلماء ما اكتسبوا مكانتهم إلا لأنهم كانوا هم المدافعين الحقيقيين عن مصالح الأمة، كما سوف أبين ذلك بعد قليل.(82/13)
مكانته لدى الأمة عامها وخاصها
جانب آخر في حياة العز بن عبد السلام يحتاج أن نقف عنده، ألا وهو: مكانة العالم لدى الأمة عامها وخاصها، وأعني بعامة الأمة: جماهير الأمة، وأما الخاصة: فهم علية القوم، من سلاطينها ومسئوليها وحكامها، كيف كانت مكانة العز بن عبد السلام وغيره من العلماء عند هؤلاء العامة؟ أولاً: مما لا شك فيه أن العالم حلقة وصل بين العامة والخاصة، بين الحاكم والمحكوم، لماذا؟ لأن الحاكم يحتاج إليه، لتأييد مواقفه، وكسب الناس، ولذلك كان أول ما يتولى الحاكم المملوكي أو غيره أول من يبايعه العز بن عبد السلام، ثم بعد ذلك يبايعه الوزراء، ثم الناس، فكان الحاكم يدري أنه يحكم أمة مسلمة، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه لا يستطيع أن يستقر ويضمن هذه الأمة، إلا إذا حكمها بكتاب ربها وسنة نبيها، وأرضى الواسطة بينه وبين هذه الأمة وهم العلماء.
فكان العالِم يحتاجه الحاكم، وفي نفس الوقت تحتاجه الرعية؛ لأن الرعية لها حاجات ومطالب وآراء واجتهادات لا يمكن أن يوصلوها بأنفسهم، فكانوا يحتاجون إلى العالم حتى يوصل هذه الأمور إلى من فوقه، فهو حلقة وصل رابطة واسطة بين الأمة وبين حكامها ومسئوليها.(82/14)
معايشته للواقع جعل الأمة ترتبط به
الجانب الثالث الذي جعل الأمة ترتبط بـ العز بن عبد السلام هو: قضية معايشته الواقع، فما كان يعيش في برج عاجي -كما يقولون- معزول عن هموم الأمة، ومشاكلها، وأوضاعها، بل كان يعيش مشاكل الأمة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، أولاً بأول.
وخذ على سبيل المثال فضلاً عن المواقف التي ذكرتُ وهي كافية، لكن خذ جانباً آخر وهو الكتب التي كتبها العز بن عبد السلام، صحيح أن العز بن عبد السلام له كتب في الفقه والحديث والأصول والتفسير وغيرها.
لكن مع ذلك لاحظ بعض الكتب التالية للعز بن عبد السلام: كتاب اسمه الفتن والبلايا والمحن والرزايا يتكلم فيه عن المصائب والصبر عليها وما أشبه ذلك، وهذا له علاقة كبيرة بالمصائب والمشاكل التي كانت تعيشها الأمة، وله كتاب اسمه ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام.
وقد ألف هذا الكتاب لما اجتاح الصليبيون بلاد الشام، وبدءوا يحاربون المسلمين، ففزع كثيرٌ من المسلمين، وبدءوا يفرون إلى الأمصار الأخرى ويهربون، فكتب هذا الكتاب ليثبت المسلمين ويحاول أن يجعلهم يقيمون في بلاد الشام ولا يخرجون منها، بل على العكس فقد حث المسلمين في الأمصار الأخرى أن يحرصوا على الانتقال إلى الشام وسكناها ومدافعة الأعداء فيها.
وله كتاب اسمه أحكام الجهاد تكلم فيه عن الجهاد وأحكامه وما يتعلق به وفضله، إضافة إلى أنه -هو نفسه- كان يقوم بالجهاد مباشرة ويشارك فيه، حتى إنه في أحد المرات لما غزا التتار بلاد مصر وخاف الحاكم منهم، جاء العز بن عبد السلام إلى الحاكم -وهم في رمضان- وقال له: لماذا أنت جالس إلى الآن؟! لماذا تجلس ولا تحارب هؤلاء القوم؟! قال له: هل تضمن لي على الله النصر؟ قال له: نعم، أضمن لك على الله النصر، قم فقاتل، فقام وقاتل وكان العز بن عبد السلام في جيشه يثبت الناس، ويرفع معنوياتهم، ويقويهم، ويلهب حماسهم حتى كانت الدائرة على الأعداء وانتصر المسلمون.
وللعز بن عبد السلام كتب في الفتاوى يفتي بها للأسئلة التي ترد من كل مكان وهي مرتبطة ارتباطاً كبيراً بالواقع الذي كان يعيشه.(82/15)
مدافعته عن مصالح الأمة
كان العالم في ذلك الوقت -خاصةً العز بن عبد السلام - مدافعاً عن مصالح الأمة سواء في أمورها الخاصة أم العامة.
ولعل من أبرز الصور التي تتجلى فيها مدافعته عن مصالح الأمة: الناحية الاقتصادية، وقد سبق القول بأن الاقتصاد من الأمور التي يشترك الناس كلهم في الغضب لها أو الرضا لها، فإذا مست الجوانب الاقتصادية في حياة الناس؛ سخطوا، وإذا أرضوا بالمال؛ رضوا كلهم؛ طيبهم وفاجرهم.
ولذلك كان العز وغيره من العلماء يحرصون على حماية مصالح الناس، ومن المؤكد أن العز بن عبد السلام لم تكن عنده امتيازات شخصية، ولا كان عنده رواتب فخمة، ولا كان عنده قصور ولا شيء في هذا، بل -كما ذكرت سابقاً- كان الموكب الذي أراد أن يخرج به من مصر عبارة عن حمارين، وكان أثاثه كله يوجد في هاتين المزادتين.
فمرة من المرات لما كان في دمشق حدثت مشاكل وزوبعة، وأخذ ورد، وكان بسبب ذلك انخفاض في الأسعار وأصبحت البساتين تباع بأسعار زهيدة، فقالت له زوجته بعد أن باعت مصاغها وحليها: خذ، اشتر لنا بستاناً نصطافُ فيه، نخرج في الصيف نجلس فيه، فأخذ الحلي وذهب وباعها ثم وجد الناس محتاجين فتصدق بها، ورجع إلى البيت، فقالت له زوجته: اشتريت بستاناً؟ قال: نعم، اشتريت لك بستاناً ولكن في الجنة، قد رأيت الناس محتاجين ففرقت هذا المال فيهم، فقالت له: جزاك الله خيراً.
إذاً، الأمة عرفت أنه رجل يبذل ماله ويحرص على قضاء حقوق المحتاجين ولو من مال ومصاغ زوجته، فهذا يستحق أن تقف الأمة وراءه، وهذا في أموره الخاصة، وإن كانت أموراً بسيطة لأن العالم عادةً ليس عنده أموال يوزعها، وليس هو موزع أموال، العالِم في تاريخ الأمة كلها ما كان يوزع أموالاً إلا في حالات نادرة، إنما يوزع الهداية بين الناس، هداية الدلالة والإرشاد.
والمواقف العامة هي الأخطر، فقد كان العز بن عبد السلام مدافعاً عن مصالح الناس الاقتصادية والمالية يدافع عن جيوبهم، يمنع ظلمهم والاعتداء على حقوقهم، وخذ هذا المثال:(82/16)
بعض مواقفه الدفاعية عن مصالح العامة
عندما أراد حاكم مصر -المظفر قطز أن يقاتل التتار رأى أن أموال الخزينة لا تكفي، فلابد أن يأخذ من الناس، فجمع العلماء وقال لهم: ما رأيكم نريد أن نأخذ من الناس أموالاً نستعين بها في تجهيز الجيش، والسلاح، ودفع رواتب الجند، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا بد منها.
ونحن نواجه عدواً اجتاح بلاد العراق والشام ووصل إلينا، وقد تنتهي دولة الإسلام على يديه فلا بد من المقاومة، فقد يوافق بعضهم في مثل هذه الظروف وهم يواجهون الخطر والعدو.
لكن العز بن عبد السلام لم يوافق، وقال له: هذا لا يمكن، إلا بعد أن نأخذ كل ما عندكم أنتم وبقية سلاطين المماليك وأمرائهم، فكل ما عندكم من الخوائص المذهبة، والآلات النفيسة، والأموال الطائلة، والامتيازات والاختصاصات حتى لا يصبح مع الواحد منكم إلا ثيابه ومركوبه، فرسه وسلاحه وثيابه، فإذا كفت أموالكم فالحمد لله رب العالمين وإذا لم تكف فحينئذٍ ننتقل إلى أن نأخذ من أموال الناس، فوافق قطز مضطراً على هذا العرض وجمع أموال المماليك وأمراء المماليك فكفت وزادت على الكفاية.
هذا الموقف تتناقله الأمة، وتشعر من ورائه بأن الذي حفظ أموالها وحماها من أن تظلم أو يؤخذ مالها بغير حق هو العز بن عبد السلام، فتفي له بهذه المواقف، وتدرك أن هؤلاء العلماء هم الذين يستحقون أن تقف الأمة وراءهم.
فهذا مثال يكشف عن قدرة العز بن عبد السلام على ما يمكن أن نعبر عنه بقيادة الناس وقيادة الأمة.(82/17)
بذله للعلم مكنه من قيادة الأمة
جانب آخر أيضاً مكنه من قيادة الأمة، وهو: أن العز بن عبد السلام رضي الله عنه كان باذلاً لعلمه، ليس مجرد موسوعة علمية لا يحصل علمه إلا إذا فتح درساً أو سُئل، بل كان دائماً يبذل العلم، ولذلك من الأشياء الملفتة للنظر أنه حتى الملوك في ذلك العصر كانوا ذوي علم رفيع وثقافة عالية.
فعلى سبيل المثال كان منهم غيورون على الإسلام يدركون أن الإسلام يحارب من الشرق بالتتار ومن الغرب بالصليبيين، وأنه لابد من حماية هذا الإسلام والدفاع عنه، وكانوا يدافعون عن الإسلام بكل ما يملكون.
وكان منهم أناس يمكن أن نصفهم بأنهم من العلماء، بنوا المدارس، وأقاموا الإسكانات للطلاب، والأوقاف، والمكتبات، والجامعات، والمدارس التي كانوا يسمونها مدارس الحديث ودور الحديث والفقه وغيرها، وحرصوا على تنمية القدرة العلمية للأمة، وكان منهم علماء نور الدين كان متبحراً في العلم حتى أنه ألف كتاباً في الجهاد، وبعده صلاح الدين، فقد كان حافظاً للقرآن، ويحفظ مع القرآن كتاب التنبيه في الفقه الشافعي ويحفظ أيضاً ديوان الحماسة، هذا صلاح الدين! وكان في كل مجلس يحضر الفقهاء والمحدثين والمؤرخين ويقرءون عليه القرآن والفقه والحديث والتاريخ وغير ذلك.
الملك الكامل كان عالماً أخرج أربعين حديثاً صنفها في كتاب بإسناده، وله تعليقات على صحيح مسلم.
فإذا كان حال علية القوم فمن دونهم كذلك، فكان العلم مبذولاً وكان الذي يتولى هذه الحركة العلمية هم العلماء، وهذا يكشف لنا عن سر وهو أن بضاعة العلم رائجة.
ولذلك الذين يملكون هذه البضاعة وهم العلماء لهم رواج، ولهم مكانة، ولهم ثقل في الأمة، أما إذا كانت الأمة يخيم عليها الجهل، فيصبح العالِم هنا -كما يقولون- مثل الريحانة في وسط النتن، لا يعرف الناس ما عنده، ولذلك لا يهتمون له، ولا يسعون إليه، ولا يقدرونه، لأنهم لا يعرفون البضاعة التي عنده.
أرأيت لو أن مجموعة من الناس، جهلة، بدائيين لا يعرفون شيئاً فجاءوا إلى رجل عنده ذهب وهم جياع مثلاً فقال لهم: عندي ذهب، فإنهم لن يلتفتوا إلى هذا الذهب، فهو والبعر عندهم سواء، لا يعرفون قيمته! فهكذا الأمة إذا عاشت بجهل فإنها لا تقدر العالم ولا تعرف بضاعته، لذا فمن أعظم الوسائل لربط العالم بالأمة وربط الأمة بالعالم: نشر العلم والقعود للتدريس، والإفتاء، والتعليم، وأن تكون الأمة كلها في حركة لا تتوقف.(82/18)
تضامن العلماء ومواقفهم الشجاعة وسيلة إلى الإنكار العلني
نقطة رابعة: أن العلماء كانوا متضامنين، فما كان العلماء - مثلاً - يقفون عند العز بن عبد السلام ويقولون: هذا سرق الأضواء! وهذا فعل، وهذا فعل وما أبقى لنا شيئاً! كلا، لقد كان العلماء يداً واحدة، خاصةً العلماء العاملين.(82/19)
لفتتان مهمتان في حياته
وأخيراً: فإنني أختم الحديث عن العز بن عبد السلام رضي الله عنه بلفتتين مهمتين في حياته، وهاتان اللفتتان ليس لهما علاقة ظاهرة بالموضوع الأصلي إلا أنهما عبارة عن قصتين مهمتين من المصلحة أن يسمعهما من يسمع ترجمة العز بن عبد السلام وما يتعلق بمواقفه البطولية الجهادية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الموقف الأول: كيف طلب العلم؟ كان جاهلاً أول أمره وكبر سنه وهو لم يتعلم -وهذا عبرة لبعض الذين كبروا ولم يتعلموا- وفي أحد الأيام كان نائماً في الكلاسة -وهي زاوية في الجامع الأموي بدمشق- لأنه كان في سكن للطلاب حينذاك وللناس عموماً، فكان نائماً والليلة شديدة البرد فاحتلم في تلك الليلة واستيقظ فذهب بسرعة وكان ثمة بركة في طرف المسجد شديدة البرودة حتى ربما أنها متجمدة، فخلع ثيابه ونزل في تلك البركة واغتسل في ماء بارد ثم خرج حتى كاد أن يغمى عليه وذهب ونام مرة ثانية، ثم احتلم مرة أخرى أيضاً فاستيقظ.
حتى ذكر ابن السبكي القصة هذه عن والده يقول: ما أدري حصلت له القضية مرتين أو ثلاث، في ليلة واحدة، وفي كل مرة كان يذهب إلى هذا المكان البارد ثم يلقي بنفسه فيه حتى أنه قال أغمي عليه في المرة الثانية أو الثالثة أغمي من شدة البرد، فاستيقظ بعد ذلك وجلس حتى طلع الفجر، بعد ذلك قيل أنه أغفى إغفاءة بسيطة وسمع واحداً يقول له في النوم: هل تريد العلم أو العمل؟ فقال: لا، أريد العلم؛ لأن العلم يقود إلى العمل.
فلما أصبح الصباح أخذ كتاب التنبيه في فقه الشافعي، واعتكف عليه حتى حفظه ثم بعد ذلك ظل يطلب العلم حتى أصبح -كما يقول السبكي - أعلم أهل زمانه، وكان كثير التعبد لله جل وعلا، فهذا درس فيه عبرة وفيه عجب.
الموقف الثاني: وإذا كان الموقف الأول يتعلق ببداية طلبه للعلم وبداية حياته العلمية، فإن الموقف الثاني يتعلق بنهاية حياته، ففي نهاية حياته، لما حضرته الوفاة، وقرُب موته جاءه السلطان بيبرس وكان يحبه، حتى إنه لما مات قال السلطان بيبرس: لا إله إلا الله ما اتفق موت الشيخ إلا في زمني وفي عهدي -يعني: هذا ليس بخير أن يموت الشيخ في زمني- جاءه في مرض موته وقال له: المناصب التي أنت فيها عين أولادك -وكان عنده أكثر من ولد من أشهرهم عبد اللطيف طالب علم مترجم له- يقول: عَيَّن المناصب لأولادك، فلان في القضاء، وهذا في المدرسة التي تدرس فيها، والثالث فقال: ما فيهم من يصلح -المسألة ليست مجاملات ولا تتم الأمور بهذه الطريقة فأولادي ما فيهم من يصلح- وإنما أعين فلاناً -وذكر رجلاً بعيداً أجنبياً- وقال: إنه هو الذي يصلح وهو الجدير بمثل هذه المناصب.
أيها الأحبة: إنما قصدت من عرض سيرة العز بن عبد السلام ليس المتعة فقط ولا الرواية التاريخية، إنما قصدت أمراً آخر وهو أن الأمة إذا ندَر الرجال في واقعها دائماً تلتفت إلى الوراء، تلتفت إلى الماضي، تبحث عن هؤلاء الرجال، وهذه الأمة ما عقمت أرحام النساء أن تخرج لنا رجالاً من أمثال العز بن عبد السلام وغيره؛ بل ومن هم أفضل منه -بإذن الله تعالى- لكن على الأمة أن تعي دورها، وتبدأ بإعداد نفسها لمثل هذه المواقف الرجولية الصلبة التي هي أحوج ما تكون إليها، فإن الأمة مقبلة على تاريخٍ طويل، الله أعلم بما يلقاها فيه من الفتن، والمحن، والشدائد، وهي أحوج ما تكون إلى الرجال الذين يكونون كالقمر في الليلة الظلماء.(82/20)
التزام العالم بالمواقف البطولية خير معلم
موقف آخر: ولعله قبل الأخير، وهو أن الأمة خاصة في أزمنة الفتن والضعف كهذا الضعف الذي نعيشه الآن وكالضعف الذي كان في زمن العز بن عبد السلام حيث تسلط عليها التتار من جهة، والصليبيون من جهة، والضعف الداخلي من جهة ثالثة، والتفرق والتمزق إلى غير ذلك؛ كانت تعيش وضعاً شبيهاً نوعاً ما بالوضع الذي نعيشه الآن، فكان السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي يحمل الراية؟ الأمة كلها في حيرة تريد أحدا يحمل الراية ويقول: أنا لها، حتى تسير الأمة كلها، ويسير العلماء، وطلاب العلم والدعاة وراءه.
إن العز بن عبد السلام رضى الله عنه تربى على يد علماء فيهم قوة مثل فخر الدين بن عساكر الذي كان في دمشق وألزموه بالقضاء، فرفض القضاء ثم وليه بعد جهد جهيد، ولم يدم فيه، وكان هذا الرجل قوياً في الحق حتى إنه أنكر على حاكم دمشق أنه كان يضمن الناس الخمر والمكوس التي يتلفونها، فإذا أتلفوها طلب منهم الضمان فأنكر عليه ابن عساكر هذا الأمر، فهذا من شيوخ العز بن عبد السلام.
ومن شيوخه أيضاً رجل اسمه عبد الصمد الحرستاني وهذا أيضاً ألزم بالقضاء، فلما ألزموه به صار فيه على طريقة السلف الصالح على الجادة، وفي إحدى المرات كان في مجلس القضاء فجاءه خصمان، فأحدهما قدم له ورقة خطاب، فأخذ الخطاب وجعله في الدرج، ثم قال: ماذا عندك، وأنت ماذا عندك، فسمع كلام الخصوم، ثم بعد ذلك حكم لهذا، ثم فض الخطاب، فلما فض الخطاب قرأه وإذا هو خطاب من الحاكم يشفع فيه لهذا الرجل الذي حُكم عليه أن حاول أن تنظر في أمره وأن تجعل الحق معه، فألقى بالكتاب في القمامة، وقال: قد غلب كتاب الله كتاب هذا الرجل، حكمت قبل بالحق ولا أحكم بالباطل بمجرد أنه أتاني خطاب من السلطان! فذهب هذا الرجل إلى الحاكم يظن أنه سينتصر له، وقال له: حصل كذا، وكذا، فقال: صدق، كتاب الله مقدم على كتابي.
فما دام حكم بالشرع بالكتاب والسنة، فهل يرجع عن الكتاب والسنة لكتابي؟! هو صادق فيما قال.
فكان هذا من شيوخ العز بن عبد السلام وعلى يد هؤلاء العلماء تعلم العز بن عبد السلام دروس القوة، والشجاعة، والغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن بعد العز بن عبد السلام تلقى على يديه رجال من أمثال ابن دقيق العيد مثلاً، فقد عزل نفسه من القضاء مرات فكل ما حصلت مشكلة يعزل نفسه عن القضاء، ويقول: ما لي به حاجة، أنتم ألزمتموني به ولا أحتاجه، ثم يعزل نفسه عن القضاء، وقد حصل لـ ابن دقيق العيد موقف مشابه لموقف شيخه العز بن عبد السلام، فإن السلطان محمد بن قلاوون أراد أن يجمع المال لحرب التتار من الناس ولو بالقرض مثلما فعل قطز من قبل.
فجمع العلماء، فقال له ابن دقيق العيد: لا يمكن أن تأخذ الأموال من الناس إلا بعد أن تجمع الأموال من السلاطين، والأمراء، ومن حريمهم، حتى قال له: إن منكم -من أمرائكم- من جهز بنته لتزف إلى زوجها وعمل في حفلها الجواهر، واللآلي، والحلي الفاخرة، وجعل معها الأواني من الذهب والفضة، وإن منكم من رصع مداس زوجته بالجوهر، فإذا أتيتم بهذه الأموال ولم تكف فبعد ذلك ننتقل إلى أموال الرعية.
فهو موقف مشابه يذكرنا بموقف العز بن عبد السلام.
إذاً القضية -أيها الأحبة- قضية تربية، العز تلقى هذه الشجاعة والقوة في الحق من مثل ابن عساكر وعبد الصمد الحرستاني وأدى الأمانة إلى من بعده كـ ابن دقيق العيد وغيره من التلاميذ.
وهكذا أقول: يجب على طلبة العلم والمعلمين اليوم ألا يحرصوا على حشو أذهان التلاميذ بالمعلومات الجافة فقط، تجد الطالب أحياناً يستطيع أن يحفظ متناً أو يقول لك حكماً أو يذكر خلافاً أو ما أشبه ذلك، لكن ليس لديه غيرة، لا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا يعد نفسه حتى يكون قائداً للأمة، رضي من الغنيمة بالإياب، هذا لا يصلح أبداً، ينبغي أن يكون العالم مدرسة تخرج تلاميذ فيهم التكامل، فيهم العلم الشرعي المبني على الدليل، فيهم العمل، الصدق، الإخلاص، العبادة بحيث أن الأمة تلتف من ورائهم، والأمة أحوج ما تكون لمثل هؤلاء؛ لأن الأمة اليوم في مشارق الأرض ومغاربها قد التفت حول العلمانيين، واليساريين، والمنحرفين، والضالين، لماذا؟ لأنهم خدعوا الأمة، قالوا: نحن ندافع عن حقوق الناس.
فالشيوعيون -مثلاً- يدعون أنهم يحفظون أموال الأمة ويدافعون عن حقوق ما يسمونهم بالكادحين، فالشيوعيون مذهبهم نظرياً أن الحكم للكادحين، للعمال الذين يسمونهم بطبقة البروليتاريا، وهذه دعاوى عريضة باطلة لكن هكذا خدعوا الناس، ولذلك قال زعيمهم ماركس: يا عمال العالم اتحدوا.
الشيعة أيضاً خدعوا الأمة بمثل هذه الدعاوى الباطلة ولذلك كانوا يدعون أنهم يحافظون على حقوق من يسمونهم بالمستضعفين، ويحاربون قوى الاستكبار العالمي وغير ذلك من هذه العبارات والمصطلحات الكاذبة التي ضللوا بها الأمة، وقل مثل ذلك في العلمانيين وغيرهم، فإن الأمة أحوج ما تكون إلى طلبة العلم الذين تلتف حولهم.(82/21)
الاحترام المتبادل
ولذلك على سبيل المثال: لما خرج العز بن عبد السلام من الشام إلى مصر كان المفتي في مصر هو الإمام عبد العظيم المنذري وكان هو المفتى والعالم المبجل فيها، فلما جاء العز بن عبد السلام قال الإمام المنذري: قد كنت أُفتي يوم لم يكن الإمام العز موجوداً، أما الآن فإن منصب الإفتاء متعين عليه ورفض أن يفتي، من جاءه قال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام، وهذه القضية لا شك أنها ترفع من قيمته.
أيضاً مرة أخرى لما غضب عليه أحد أمراء الشام ومنعه من التدريس والخروج وفرض عليه الإقامة الجبرية، ذهب أحد الفقهاء الأحناف وكان فقيهاً مهيباً، فوقف عند الباب على حماره، فقال الحاكم: دعوه يدخل، فلما دخل قام إليه وأنزله بنفسه، وقدمه، وقدره، وأبى أن يأكل إلا بعده، فقال له: ما الذي جاء بالشيخ؟ قال: ما الذي حدث بينك وبين الإمام العز بن عبد السلام.
قال: كذا، وكذا، وذكر القضية.
فقال هذا الفقيه: والله لو كان العز بن عبد السلام في الصين أو الهند لكان جديراً بك أن تسعى في أن يحضر إليك فإنه شرفٌ لك أن تملك أمة فيها مثل العز بن عبد السلام، فينبغي أن تسترضيه، فوافق على ذلك، وأرضى العز بن عبد السلام، وجعله في مقام رفيع.
فتضامن العلماء يكسبهم مقاماً قوياً، ويجعل يدهم واحدة، وكلمتهم واحدة، أما إذا اختلفوا فإن بعضهم يضرب بعضاً، وقديماً قال رجل لأولاده: كونوا جميعاً يا بني إذا اعتدى خطبٌ ولا تتفرقوا آحادا تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا وقد استفاد الشيعة من هذا الأمر، فأذكر أنني قرأت منذ زمن في ترجمة الهالك الخميني أنه غضب عليه حاكم إيران في وقته لمواقفه، وحاول أن يصدر قراراً بإعدامه وقتله، فماذا فعل رجالات الشيعة في إيران؟ لقد اجتمعوا سريعاً وأصدروا قراراً بترقية الخميني إلى مرتبة آية الله.
وهذه مرتبة دينية عندهم لآياتهم وزعمائهم الدينيين ومراجعهم العلميين، ومن وصل إلى هذه المرتبة فإنه لا يمكن أن يكون في حقه إعدام ولا حكم من هذا القبيل، فرفعوه بذلك، ومنعوا الحاكم من أن يقتله، فاستغلوا قضية التضامن فيما بينهم على ما هم عليه من باطل وفساد في منع أي ظلم أو اعتداء لأحد منهم.(82/22)
الأسئلة(82/23)
ذكر بعض العلماء أشباه العز بن عبد السلام
السؤال
هل هناك علماء في مثل صولة وجولة العز بن عبد السلام على الباطل؟ وهل هناك شباب في مثل هذا أو لهم مواقف عظيمة تدل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
نعم لعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يشبه العز بن عبد السلام أو يضارعه أو يفوقه في مثل هذه المواقف البطولية، وسوف أخصص محاضرة عن شيخ الإسلام ابن تيمية ومواقفه الشجاعة في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تكون المحاضرة الثالثة أو بعدها بقليل -إن شاء الله-.(82/24)
صوفية العز بن عبد السلام
السؤال
ما صحة قول من قال: إن العز بن عبد السلام فيه نزعة صوفية في عقيدته؟
الجواب
أما مسألة فيه نزعة صوفية، نعم فيه نزعة صوفية، لكنها صوفية أقرب إلى الاعتدال فكأن العز بن عبد السلام -رضي الله عنه ورحمه الله- كان يحسن الظن بالصوفية ويحضر بعض مجالسهم ويسمع إليهم وكان يتكلم في كتبه عما يسمى بالحقيقة والشريعة، وإن كان يقول: إن الحقيقة خاضعة للشريعة وقد أنكر على الصوفية الغلاة بعض انحرافاتهم وضلالاتهم في عدد من كتبه، وكان عنده تصوف لكنه فيه نوع من الاعتدال وإرجاع التصوف للكتاب والسنة.(82/25)
حكم تقليد العالم أو القارئ في صوته
السؤال يقول: هل يجوز للإنسان أن يقلد صوت شيخ من المشايخ، وذلك إما على سبيل الإعجاب بذلك الشيخ أو الإعجاب بنفس نغمة صوته؟
الجواب
إذا كان التقليد ليس على سبيل السخرية فهو جائز، لكن مما أستسمجه أن يقلد صوته بطريقة دائمة، بصورة تدل على أنه يقلده، بمعنى أن التقليد نوعان: فأحياناً يكون التقليد عفوياً أي: أنك من كثرة ما سمعت لهذا العالم أو لهذا القارئ -مثلاً- تسرب إليك صوته فأصبحت تقلده بدون أن تقصد، فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله- لكن بعض الناس يتعمد أن يقلد شخصاً ما أو قد ينتقل من شخص إلى آخر في أصواته أو قراءته أو ما أشبه ذلك فهذا مما لا أرى أنه مناسب.(82/26)
إنكار المنكر لا يتعارض مع واقع الأمة
السؤال
كان هناك مدرس يسبل ثيابه، وبعد ذلك نصحته، وعندما أتى في محاضرته الثانية ألقى محاضرة يقول فيها: إنه لا يأخذ من طالبه النصيحة، وأن العالم يمر بمرحلة خطيرة وينبغي أن نغض الطرف عن بعض الأخطاء، ويقول: هذه شكليات وينبغي أن نهتم بالجوهر؟
الجواب
في الواقع أن العالم يمر بمرحلة خطيرة هذا صحيح، وأحياناً إذا رأيت وسمعت قلت: سبحان الله! هذه بداية الفتن والملاحم التي يخشى أن يكون لها ما بعدها على مستوى الأمة وعلى مستوى العالم، فالعالم يمر بمرحلة خطرة هذا صحيح، لكن هذه المرحلة الخطيرة لا تمنع الإنسان أن يهتم بالأمور الأخرى كأمور الحلال والحرام، وينبه على هذا المنكر أياً كان هذا المنكر، ولا يأخذ منك التنبيه على إنكار الإسبال -مثلاً- دقيقة واحدة، ولن تضيع وقتك كله في هذا الموضوع.
ويمكن أن تشتغل بقضايا الأمة ومشاكلها؛ لأن الذي يستنكره كثيرون هو أن بعض الناس أصبح لا هم لهم إلا بعض المنكرات الموجودة في المجتمع مثل إسبال الثياب -مثلاً- أو حلق اللحى، أو التدخين، لا يتكلمون إلا فيها، ولا شك أن من قصر كلامه على هذه الأمور فهو مخطئ، بل ينبغي أن يتكلم في هذه الأمور ويتكلم في غيرها مما هو أهم منها.(82/27)
تحريم مصافحة النساء الأجنبيات
السؤال
ما حكم مصافحة النساء الأجنبيات خاصة إذا مدّت إحداهن يدها إليّ؟
الجواب
لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية، لما رواه الطبراني وغيره بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأةً لا تحل له} .(82/28)
ضابط الشرك بالله
السؤال
متى يكون اقتراف الذنوب من الشرك؟
الجواب
إذا عبد الإنسان غير الله، سجد لغير الله أو عبد غير الله فهذا يكون من الشرك، وكذلك إذا استحل محرماً معلوم تحريمه من الدين بالضرورة فهو كذلك، وإلا فالذنوب لا يكفر بها صاحبها كما قال الإمام الطحاوي: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلدون في النار، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن كانوا غير تائبين بعد أن لاقوا الله عارفين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.(82/29)
حكم قول رضى الله عنه لغير الصحابي
السؤال
سبق أن نهيت أن يقال لغير الصحابة: رضي الله عنه وأنت تطلق للعز بن عبد السلام عبارة رضي الله عنه حبذا لو أفدتنا أفادك الله، ورعاك؟
الجواب
أما مسألة رضي الله عنه فما أعتقد أنني نهيت عنها، قلت: إن هذا الشعار أكثر ما يستخدم للصحابة رضي الله عنهم ولو استخدم في حق غيرهم ممن بعدهم فلا حرج في ذلك، لكنه شعار يطلق غالباً على الصحابة رضي الله عنهم.(82/30)
حكم قولك عن فلان إنه غني عن التعريف
السؤال
إنك قلت في المجلس السابق عن أحد العلماء: إنه غنيٌّ عن التعريف وسمعت من أحد المشايخ أن "غني عن التعريف" ليست إلا لله سبحانه وتعالى؟
الجواب
"غنيٌّ عن التعريف" المقصود بها أنه معروفٌ عند السامعين لا يحتاج إلى أن أقول: إنه ولد عام كذا، ودرس كذا، وتخرج، وتوظف في الوظيفة الفلانية، ولا أجد في هذه الكلمة -إن شاء الله تعالى- حرجاً.(82/31)
الإنسان هو الذي يرفع نفسه وهو الذي ينزلها
السؤال
هذا شاب ملتزم، ويريد أن يبدأ بالدعوة إلى الله تعالى، فيريد أن يبدأ بأهله ولكن ليس له قيمة عندهم، فبماذا تنصحه؟
الجواب
أنصحك أن تسعى إلى أن توجد لنفسك قيمة، فمثل ما طالبنا العلماء والأئمة أن يكون للعالِم قيمة عند الأمة حتى يغير المنكر، كذلك أنت في البيت لن تستطيع أن تغير إلا إذا كان لك في البيت قيمة، وكيف يكون لك قيمة في البيت؟ أن تكون إنساناً فعالاً مؤثراً، فلا يصح أن يكون الإنسان مقصراً في حقوق الأهل في البيت، ثم يريد أن يغير، إذا كان للأهل مشوار فاذهب بهم أنت، أو احتاج الأهل شيئاً من السوق فأحضره أنت، أو عند الأهل مناسبة أو وليمة فحاول أن تكون أنت القائم عليها، أو زواج فتكون أنت المشارك فيه، بعد ذلك ثق ثقة تامة أن الأهل سوف يطيعونك فيما تأمرهم به وتنهاهم عنه.
اجعل في البيت مكتبة صوتية، هاتِ لها بعض الأشرطة المختارة، ومكتبة صغيرة فيها بعض الكتب الصغيرة المناسبة للأطفال والنساء والشباب واجعلها في متناول أيديهم، يسمعون متى شاءوا.
وإذا استطعت أن تجعل في البيت حلقة علمية ولو بعد حين، يلتقون فيها، يقرءون آية من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبياتاً من الحكمة، أو أحكاماً شرعية، كصفة الصلاة، وما أشبه ذلك، وهكذا شيئاً فشيئاً، لكن لا تتعجل الأحداث.(82/32)
واجبات طالب العلم في إنكار المنكر
السؤال يقول: بعد ما سمعنا عن العز بن عبد السلام الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ماذا يجب علينا -كشباب ملتزمين- نحو هذه المنكرات في هذا العصر؟
الجواب
في الواقع أنه يسرني مثل هذا السؤال، وقد تكرر، لماذا؟ لأن المقصود أصلاً من طرح مثل هذه الموضوعات هو أن يثار مثل هذا السؤال في أذهاننا، وهذه بداية العافية، وبداية الشفاء، أن يثار عندنا مثل هذا
السؤال
ما هو الواجب علينا؟ وأقول الواجب علينا أمور: أولها: أن ندعم مكانة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بكل وسيلة، ومن دعمهم أن نرفع مقامهم عند الناس، أرأيتم -أيها الإخوة- إذا دخل العالم في مجلس أو مناسبة ثم رأى عامة الناس ممن قد لا يعرفون هذا العالم -مثلاً- رأوا الحفاوة والتكريم والتفاف الطلاب حوله والسؤال وما أشبه ذلك، فإن الناس يخضعون لقوله ويسمعون له ويطيعونه ويقدرونه، لكن إذا كان العالم يضيع في الدهماء، وقد يضرب كتفه كتف آخر، ولعله لا يقول: السلام عليكم، أو كيف حالك يا فلان أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يصلح.
والواجب الثاني: أن تراسل العلماء بما ترى من المنكرات، وقد سبق أن ذكرت في بعض المحاضرات طريقة يسلكها بعض الدعاة -وهي طريقة جيدة- فيوم من الأيام فتحت صندوق البريد، فوجدت فيه قُصاصة من جريدة مكتوباً فيها رسالة مختصرة صغيرة بحجم هذه الورقة مثلاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه القُصاصة من جريدة كذا، نُشرت يوم كذا، وفيها ما ترى، نرجو أن تقوموا بواجبكم في هذا المجال.
أنا متأكد أن الذي أرسل هذه القصاصة أرسلها على الأقل بخمسين أو مائة ممن يعرف ومن السهل أن يعرفهم ويراسلهم وبناءً على هذه القصاصة التي وصلتهم سوف يقومون بدورهم وأقل شيء أن أحدهم رفع سماعة الهاتف -مثلاً- على صاحب المنكر، وقال: يا أخي قرأنا في الجريدة كذا، وكذا، وجزاك الله خيراً نرجو أن تراعوا هذه الأمور أنه لا يجوز، وفي القرآن كذا، وفي السنة كذا، ومشاعر الناس، وما أشبه ذلك.
فيحاول أن يؤثر فيه، فإذا حصلت عدة اتصالات على صاحب المنكر أو وسائل أخرى في التغيير فإن هذه لا بد أن تحدث صدى كبيراً، فأقل شيء يجب عليك هو أن يكون دورك الإعلام بوقوع المنكر بطريقة مؤكدة إلى من تعتقد أنهم سوف يقومون بالاحتساب.
واجبك الثالث: هو أن تحتسب بنفسك إذا استطعت، ما الذي يمنعك؟ فلا أحد يمنع أبداً أن ينكر الإنسان المنكر كبيراً أو صغيراً بالأسلوب الحسن، فتقول: حصل كذا وهذا لا يجوز ثم ماذا يضرك؟ لا يضرك شيء أبداً -إن شاء الله- حتى لو فرض أنه ما قبل منك، أو سخر منك، أو استهزأ بك، أو ضرك في نفسك ومالك أو أهلك، فلا يضير هذا، فهو في سبيل الله.(82/33)
لا تعارض بين من ينكر المنكر سراً أو جهراً
السؤال
يقول: ذكرت في أحد الدروس أننا يجب أن لا نقول: إن علماءنا في عصرنا هذا مقصرون ولا يغيرون المنكر، بل ربما أنهم يناصحون الأمراء وغيرهم بأمور لا نعرفها، ويتركون أشياء بسيطة في مقابل أمور عظام، ولكن في كلامكم ما يتناقض مع ما سبق.
الجواب
لا، في الواقع ليس في كلامي ما يتناقض، في اعتقادي أن العالِم قد يُنكر بالطريقة التي يراها وهو عند الله تعالى معذور، إذا اجتهد وعلم الله تعالى أنه مجتهد، وليس هدفه إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحجة، فأنكر بطريقة سرية أو علنية فإنه معذور عند الله تعالى وعند خلقه، فليس صحيحاً، أنني أقول: إن العالم مقصر أو قاعد لأنني لم أعلم بإنكاره، قد يكون أنكر وما علمت، وهذه من الأعذار التي يجب أن نلتمسها للعلماء، لكن مع ذلك لست أرى مانعاً أن يكون في الأمة هؤلاء وهؤلاء، وأن يكون في الأمة من ينكر المنكر علانية ويقيم الحجة ليقطع دابر مثل هذا الكلام الذي قد يقال، وقد يقوله أناس لا يستأذنوننا أن يقولوه، ويقولوه وإن كرهناه وإن لم نرضه، لكن يقوله الناس، فالناس لا تستطيع أن تضع في أفواههم أقفالاً فلا تتكلم إلا بما نريد، قد يقولون كلاماً -وليس بحق- أن العالم -مثلاً- لا يُنكر.
وقد واجهت شيئاً من ذلك في بعض البلاد -كما أشرت إليه- وبذلت جهدي في إيضاح وجهة نظر بعض علمائنا الذين أعلم أنهم مخلصون وجادون كسماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز، وأن الواحد إذا بذل جهده واستفرغ وسعه فإنه معذور، ولا نشك أنهم مخلصون يبذلون ما يستطيعون، وكون الواحد يقول: إني فعلت كذا، وفعلت كذا، وفعلت كذا، هذا لا يراه هو.(82/34)
ليبدأ كل فرد بما يستطيع عمله وليرشد الآخرين إلى ما لا يستطيع
السؤال يقول: لماذا لا نرى أي كتاب مخالف للبدعة ويوضح ذلك في مجلاتنا ووسائل إعلامنا؟ فهذا تقصير واضح: فما الجواب على ذلك؟
الجواب
هناك كتابات -في الواقع- موجودة في بعض الصحف وفي بعض المجلات وفي بعض وسائل الإعلام، أما أنها غير كافية فأنا معك أنها غير كافية، ولكن نحن نقول -أيها الأحبة- بالمناسبة باختصار، سبق أن تكلمت في محاضرة عنوانها "نحن المسئولون" وأنا أدعو الأخ السائل إلى مراجعتها، فلا يوجد داع أن نلقي باللوم على العلماء فقط، لماذا لا يفعلون؟ أنت لماذا لا تفعل؟! لماذا لا تكتب للصحف؟! لماذا لا تكتب للمسئولين؟ لماذا لا تخاطبهم؟ لماذا لا تبذل الوسع في تغيير المنكر بقدر ما تستطيع؟ هذا واجب علينا جميعاً، الأمة الآن في بداية يقظة، وبدأت الحياة تدب فيها، فلا يمكن أن الأمة تستطيع أن تسد كل الثغرات في وقت واحد، فلو أتيت للاقتصاد -مثلاً- تجد سؤالاً يطرح لماذا لا يتحقق اقتصاد إسلامي؟! لماذا لا توجد دراسات اقتصادية؟! لماذا لا توجد بنوك شرعية؟! لماذا لا توجد مؤسسات إسلامية؟! مثلاً، تنتقل إلى الإعلام تجد نفس المشكلة، تنتقل إلى التعليم تجد نفس المشكلة، إذن الأمة في بداية يقظة ونحن بحاجة إلى تضافر الجهود وبحاجة إلى أن هذا السؤال يتحول من: لماذا لا يصنع العلماء كذا؟ إلى سؤال يوجهه الأخ الحبيب الكريم لنفسه: لماذا لا أصنع أنا هذا الأمر بدلاً من أن أقول لماذا فلان لم يفعل؟ أسأل نفسي! ولذلك من أعظم خصائص الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله والتي تعجبني أنك إذا أتيته وأخبرته بمنكر وقع لا يقول: يجب على العلماء أن يفعلوا كذا، ويجب على فلان أن يفعل كذا، أبداً بل يقول: نحاول، ونبذل الجهد، ونكتب، ونتصل، ونعمل ما يلزم، وإن شاء الله لا يحصل إلا الخير، لكن تأتي للبعض فيقولون: يجب على العلماء أن يفعلوا، ويجب على المسئولين، ويجب على طلبة العلم، فنوزع الواجبات ونخرج نحن خارج الدائرة، هذا لا يصلح!(82/35)
حكم توزيع أوراق دعائية لكتابة الأسئلة عليها
السؤال
الأوراق التي توزع في المسجد تكتب عليها الأسئلة أوراق دعائية المقصود بها بث الدعاية.
الجواب
لا بأس بهذا -إن شاء الله- ما دام الذي يوزع الأوراق -جزاه الله خيراً- خدمنا بهذا، فلا حرج في هذا -إن شاء الله- أو يحضر الأخ السائل أوراقاً، لكن بشرط أن الأخ لا يحضر أوراقاً دعائية أيضاً.(82/36)
بعض مؤلفات العز بن عبد السلام
السؤال
هل ألف العز بن عبد السلام شيئاً من الكتب تنصح باقتنائها، حقق لنا ما نصبو إليه من عزة ورفعة تحت ظل الإسلام الحنيف؟
الجواب
نعم حقق وكتب العز بن عبد السلام كتباً كثيرة جداً تقارب الأربعين كتاباً، منها كتاب التفسير ومنها كتب في أصول الفقه >قواعد الأحكام، ومنها كتب منوعة: منها كتب في مقاصد الصلاة، في مقاصد الصيام، وكتب في الجهاد، وأشرت إلى شيء من ذلك، ومنها كتاب في مشكل القرآن، وكتابان في التفسير إلى غير ذلك.(82/37)
كتاب وحي القلم مفيد لمن يفهمه
السؤال يقول: ما رأيك في كتاب وحي القلم؟
الجواب
وحي القلم كتاب أدب في ثلاثة مجلدات، للأديب العربي مصطفى صادق الرافعي، وهو كتاب جيد وإن كان مستوى أسلوبه رفيعاً، قد لا يتقنه ولا يستطيع أن يفهمه كل إنسان، لكن الذي لديه تمكن في الأدب واللغة يستفيد من الكتاب.(82/38)
كتب تتحدث عن سيرة العز بن عبد السلام
السؤال
ما أحسن كتاب في سيرة العز بن عبد السلام؟
الجواب
هناك كتب كثيرة جداً في هذا الموضوع، وقد أشرت في مطلع المحاضرة إلى كتب طبقات الشافعية وبعض الرسائل الجامعية، ولعل أفضل كتاب في سيرة العز بن عبد السلام كتاب اسمه العز بن عبد السلام ومنهجه في التفسير للدكتور عبد الله الوهيبي.
هذا في مطلعه حوالي 100 صفحة ترجمة جيدة للعز بن عبد السلام، وكتاب لـ سليم الهلالي اسمه صفحات مطوية من حياة العز بن عبد السلام وهي ليست صفحات مطوية، بل صفحات مكشوفة لكنه وقف وقفات جميلة مع ترجمة العز بن عبد السلام وبأسلوب جيد.(82/39)
نماذج الأولين إنما تذكر للعبرة والقدوة
السؤال
يقول: ذكرت نماذج للعز بن عبد السلام تبين قوته في الحق، ولا شك أن كل إنسان يريد أن يكون مثله.
الجواب
نعم هذا الذي أريد أن يثور في نفوسنا أننا نحاول أن نربط أنفسنا بتاريخنا وبماضينا، وندرك أن هذه القصص والمواقف لا تقال لمجرد التسلية والمتعة التاريخية، وإنما تقال للعبرة والقدوة.(82/40)
أسباب التفاف الناس حول العالم
السؤال
يقول: إن العز بن عبد السلام كان الناس كلهم معه، ولكن المسلم اليوم والداعية قد لا يجد من يؤيده إلا القليل من الناس!
الجواب
هذا من جهة صحيح، ولذلك أقول كما قال الشاعر لما نسبوه إلى الجبن وأن موقفه كان موقفاً غير شجاع في المعركة قال: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرّتِ أي لو أن من خلفي رجال شجعان أقوياء؛ لتشجعت، لكن الذين خلفي كانوا نساءً وأشباه رجال، ولذلك انسحبت من المعركة، هذا معنى كلام الشاعر، لكن نأتي للسؤال: لماذا لا تقف الأمة مع العالِم الآن؟ صحيح، نحن نقول: يجب أن تقف الأمة معك -أيها الداعية، أيها المصلح- إنما يجب أن تسأل نفسك السؤال: لماذا لم يحصل هذا؟ فليس صحيحاً أن نلقي بالمسئولية على الآخرين -دائماً- ونخرج نحن أبرياء، لا، ينبغي أن نسأل أنفسنا: ما هو السبب في انفصال الأمة في كثير من الأمصار والأقطار عن علمائها؟ والأسباب واضحة فلا بد للعالم أن يكون مع الأمة، وأن يكون الدفاع عن مصالح الأمة هو همه الأكبر، فـ ابن تيمية رحمه الله، لماذا كان بتلك المكانة؟ لأنه كما يقول الذهبي في ترجمته، أما العامة فكان منتصباً لخدمتهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه، يحاول أن يقضي حقوق الناس، ويدافع عن مصالحٍ يحميهم، وبذلك تحس الأمة فعلاً بأهمية هؤلاء الناس؛ لأن الناس -مهما كان الأمر- مرتبطون بدنياهم، هذا جانب.
والجانب الآخر: الاستعلاء عن الدنيا بالكلية ومحاولة التخلي عن الدنيا، حتى يدرك الناس أن هذا العالم إنما يريد الله والدار الآخرة لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً.
الجانب الثالث: المواقف الشجاعة، فالناس يعجبون بالشجاع، والسيف البتار يثني عليه الجميع، والرجل للمواقف القوية وكلمة الحق، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يتناقل الناس أحاديثه وأخباره.
ولذلك قيل قديماً: إن الناس قلوبهم مع علماء الحق ولو كانت سيوفهم مع أمراء الباطل، أي ولو بالقوة قاتل مع فلان إلا أن قلبه مع العالِم، والأمة مهما كان الأمر لا قوام لها إلا بعلمائها.(82/41)
احترام العلماء وتبجيلهم مدعاة لاجتماع العامة والخاصة حولهم
السؤال يقول: ذكرت أنه يجب على الأمة عامتها وخاصتها أن تلتف حول العلماء، نرجو توضيح ذلك بإعطاء صور وأمثلة لذلك لأنه قد يخفى على أغلب الحاضرين ما المقصود بالالتفاف؟ وما هي ضوابطه، ومتطلباته، وأسسه التي يجب أن تسير الأمة حول علمائها؟
الجواب
أعني بالالتفاف: أن الأمة يجب أن تعتبر أن العلماء الشرعيين هم لبها، وروحها، وقيادتها، ويكون ذلك: بتعظيم العلماء، وتقديرهم، ومنع النيل منهم، منع الاعتداء عليهم، أو ظلمهم، أو التنقص من حقهم، وحفظ مكانتهم وقدرهم، وأن يعرف القريب والبعيد أننا نحترم علماءنا.
بل إنني أدعو -وخاصةً طلبة العلم- إلى أن نشعر الناس بتقديرنا لبعضنا البعض، وتقدير طلبة العلم بعضهم لبعض، وتقديرهم العلماء ولو بصورة أكثر مما هو الواقع، بمعنى أنه إذا كان معي أحد من طلبة العلم، وعندي عامة، أو جهلة، أو فساق فأقدم هذا الزميل -مثلاً- أو القريب أقدمه وأفضله وأجعله يبدأ بالحديث قبلي، ويدخل قبلي، ويخرج قبلي بحيث يشعرون هم بالاحترام؛ لأن الأمة إذا وجدت طلبة العلم يحترمون العلماء؛ احترمتهم.
ولذلك من الأخطار أن طالب العلم -أحياناً- قد يزدري العالم لخطأ وقع فيه، ومن الذي لا يخطئ خطأ أو عشرة أو عشرين أو خمسين؟! ولو أن كل عالم أخطأ رفضناه وتركناه وتخلينا عنه لما بقي أحد، بل إذا أخطأ العالم التمس له عذراً لعله أُتي من قبل اجتهاده أو غفلته عن جانبٍ من الأمور أو ما أشبه ذلك.
وعلى كل حال فهو معذور إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، فلا ترفض العالم لمجرد أنه أخطأ خطأ أو خطأين، ولا تسمح بأن ينال من قدر العالم، أحياناً يقال في مجلس هذا العالم: الدنيا في يده، له أموال، وله كذا، وله كذا، ويكذب عليه.
وقد حضرت مجالس يتكلمون فيها عن بعض العلماء أن عندهم، وعندهم، وأعرف أن هؤلاء العلماء عليهم ديون! وأحدهم وهو من أكبر علماء المملكة يستدين إلى الراتب -تصوروا هذا الأمر- لأحواله وأموره وحاجاته، فإذا جاء الراتب سدد الديون التي عليه، وأحياناً يُنال من العالم أنه يخالف ما يقول، حتى إن أحدهم قال: إن العالم الفلاني الذي يقول كذا، ويقول كذا ويحارب الاختلاط -في المستشفيات وفي المدارس وفي الجامعات وفي غيرها- بنته تدرس في بلد كذا وكذا في جامعة مختلطة، يدرس فيها الشباب والبنات سوياً، فقال له أحد الحضور: أنت تكذب فإن هذا العالم أصلاً عقيم لم يولد له أولاد ولا بنات.
وأحياناً ينال من العالم بأنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وأنت لا تعلم، قد يكون هذا العالم يأمر وينهى لكن بينه وبين صاحب المنكر، لم ير مصلحة لإعلام ذلك على الناس، وبغض النظر عن هذا الاجتهاد؛ إلا أننا نقول: ينبغي أن تبحث له عن عذر، وألا تسمح لا لنفسك ولا لغيرك بالنيل من العلماء، بل ينبغي لكل فرد من أفراد الأمة أن يعتبر أن من أعظم مهماته حماية أعراض العلماء.
كم هو والله مؤسف أنه أحياناً في بيئات دينية صالحة يأتي ذكر فاسق من الفساق، معروف بعدائه للإسلام، فتجد الثناء عليه: بأنه إداري ناجح، يهتم بأمور الناس، وهو أديب، وشاعر، ومصلح، وهكذا يلقون عليه من الألقاب ما لا يستحق، فإذا جاء ذكر عالم جليل -وهذا والله يجرح الفؤاد- وجدت هذا يتهمه بشيء وهذا يقول فيه شيئاً، وهذا ينال منه، وهذا يلمزه، وهذا على أحسن الأحوال يسكت، فهذا لا يصلح، فينبغي أن يكون كل فرد من الأمة من أهم مهماته حماية أعراض العلماء، ليس فقط حماية أعراضهم؛ لأن هذا واجب عليك تجاه كل إنسان.
لكن نريد أكبر من هذا، نريد مع حماية أعراضهم: الثناء عليهم، وتبجيلهم، وحفظ مقامهم، وتقديرهم، يا أخي ما الذي يمنع الأمة أن تشعر كل الناس أن علماءنا يبجلون، ويقدمون، لا أتكلم بين يديه إلا بأدب، ولا أخاطبه بأي لهجة لا تناسب، ولا أرفع صوتي بين يديه، ولا أسير أمامه، ولا أتقدمه بفعل، وأحاول أن أخدمه بقدر ما أستطيع ولو رفض ذلك وكان لا يريده، لأنه ليس المقصود أن نعطي نحن الناس مكاناً لا يستحقونه، لكن مقصودنا أن نربط الأمة بقياداتها الحقيقية، وأن لا نسمح بتسلل الخفافيش إلى هذه المواقع المهمة في الأمة.(82/42)
شروط الدعوة
إن اختلاف أساليب الدعوة وطرقها لا يعني اختلاف الدعوة أو المنهج.
ولذلك فإن الشيخ تكلم في هذا الدرس عن عدة محاور لتوضيح ماهية الدعوة إلى الله، وخلص إلى أن للدعوة حقيقة وخصائص تتميز بها، وبين أن الدعوة في الأمة كالروح في الجسد، ثم بين الشيخ كذلك بعض الأساليب في الدعوة موضحاً أن الدعوة لا تجدي نفعاً ما لم تكن خالصة لله تعالى، وكذلك وضح الشيخ حقيقة مهمة وهي: أن الدعوة واضحة ولها أهداف ومعالم، وأن فشل الدعاة لا يعني فشل الدعوة لأن نجاحها مضمون بإذن الله، ثم نصح الدعاة بالرفق والدعوة إلى الله على بصيرة.
وعرج على مقتطفات من كتاب الدعوة إلى الإصلاح، وتكلم فيه عن الإجازة وكيفية استغلالها، ثم تكلم عن أخبار البوسنة والهرسك وختم الدرس بالأسئلة.(83/1)
حقيقة الدعوة إلى الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ثم أيها الإخوة: هذا هو الدرس الواحد بعد التسعين من سلسلة الدروس العلمية العامة يستأنف في هذه الليلة المباركة إن شاء الله، ليلة الإثنين آخر المحرم (29 / 1414 هـ) وقد حدث انقطاع في الفترة الماضية بسبب الحج، ثم الاستعداد للامتحانات، وها نحن نستأنف بحمد الله تعالى في مطلع هذه الإجازة، وإنني في مستهل هذا اللقاء المبارك أزجي الشكر والدعاء للقائمين على هذا المسجد، على مجهودهم وعنايتهم وما جرى فيه من التعديلات والإصلاحات، جعل الله تعالى ذلك في ميزان الجميع.
ثم إن بعض الإخوة، يحرصون على معرفة بعض الدروس والمحاضرات السابقة، فأحب أن أقول: إنه في تلك الفترة لم يكن ثمة درس أو محاضرة للأسباب السابقة، اللهم إلا في الأسبوع الماضي، حيث قامت محاضرة بعنوان: (حديث الهجرة) وكان ذلك في مدينة ينبع ليلة الثلاثاء السابق.
أما حديث هذه الليلة فهو بعنوان: (شروط الدعوة) .(83/2)
أولاً: ما هي الدعوة؟
قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] من هذه الآية الكريمة؛ يتضح أن الدعوة هي حث الناس كافة على الرجوع إلى الله تعالى، وطاعة شريعته واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام.
وحين نتحدث عن الدعوة، وهي بهذا شريعة ربانية يجب ألا نتحدث بشيءٍ من عند أنفسنا؛ بل من دلائل الوحي وإرشاداته وتوجيهاته، وحين أقول: شروط الدعوة؛ فإنني لا أعني بها ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يتبادر إلى الذهن، حينما نقول مثلاً: شروط الصلاة أو شروط الوضوء، أو شروط الإيمان، أو ما شابه ذلك، كلا! بل أعني بها المعنى اللغوي.
فالشرط في اللغة: هو العلامة، كما ذكر ذلك ابن فارس في المعجم وغيره من اللغويين.
إنها معالم يهتدي بها الداعون وحسب، وليس المعنى ألا يدعو الإنسان إلا وقد تكاملت فيه الشروط والأوصاف.
فلو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد عليه الصلاة والسلام.
هذه الكلمات التي أقولها لكم اليوم -أيها الإخوة- لم أنقلها من كتاب، ولم ألتقطها من دراسة، وإنما مرجعها أحد شيئين: إما القرآن الكريم، أو سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأقواله وأفعاله.
وهي استنباط اجتهادي قابل للخطأ والصواب، فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى، وله الحمد والشكر وهو لذلك أهل، وما كان فيها من خطأٍ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله من ذلك بريئان.(83/3)
خصائص الدعوة إلى الله
ثانياً: خصائص الدعوة.
من الآية الكريمة السابقة؛ تبدو خصائص الدعوة التي سوف نتفيء ظلها الآن، ونتحدث عنها.(83/4)
عموم الدعوة إلى الله
الخصيصة الثالثة: العموم.
فليست دعوة للنخبة من المثقفين والمتعلمين، ولا لكبراء القوم وعليتهم، ولا للعرب، وليست الدعوة لفترة معينة أو جيل خاص؛ بل هي دعوة للأبد، لكل الناس، فلا يجوز أن نستثني من الدعوة أحداً، ولا أن نجاري بعض العادات الاجتماعية أو الموروثات العقلية، التي توهمك أن هناك من لا حاجة لدعوته؛ لأنه لا أمل في هدايتهم، فالله تعالى يهدي من يشاء، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل.
لقد أسلم عمر، الذي كان يتربص بالرسول صلى الله عليه وسلم ويعد العدة لقتله، فلما قرب من الصفا صفا.
توجه الدعوة للنصارى بالأسلوب الشرعي، وتوجه الدعوة لليهود، مع ما عرف عنهم من خبث الطباع والتلون على الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتوجه الدعوة للغارقين في الشهوات، فربما هداهم الله سبحانه وتعالى، وتوجه الدعوة للمنحرفين عن السنة توجه الدعوة للإسماعيلية، وتوجه للصوفية، وتوجه للشيعة وسائر الفرق.
وأقول على سبيل المثال: الكتب التي تنتقد مذهب الشيعة الجعفرية الإمامية، كثيرة جداً ولا حرج في ذلك؛ فهذه بحوث علمية روعي فيها العدل والإنصاف؛ لكن كم من الكتب وكم من الأشرطة التي تخاطب هؤلاء بالدعوة، بالأسلوب العلمي الشرعي، وتدلهم على ما في المذهب مما يخالف القرآن ويخالف العقل، ويخالف ما تقتضيه الفطرة السليمة؟! كم يوجد من المواد التي تخاطبهم بالدعوة الصريحة الصادقة الناصحة، التي تريد لهم الهداية إلى الحق، والرجوع إلى السنة والوصول إلى الصواب؟! إنه ليس هناك خدمة يقدمها أحد لمثل هؤلاء؛ أعظم من أن يشيع أنه لا أمل في هدايتهم، وأنه لا ينبغي الاشتغال بدعوتهم.
إن عموم الدعوة وشمولها أمر مسلم من الناحية النظرية؛ ولكني أسائل نفسي وأسائلكم: من منا يقوم بتأدية ذلك عملياً؟ وكم بذلنا من الجهد لذلك؟! إنني أستطيع أن أقول -وعن معرفة-: إن الدعوة إلى الله لا تزال محصورة بين فئة من الشباب الدارسين، الذين تظهر عليهم سمات الصلاح وقابلية الخير، أما هذا المجتمع الواسع العريض، برجاله ونسائه وأطفاله وتجاره، وفقرائه بموظفيه الكبار والمتوسطين، وبطبقاته الاجتماعية المختلفة والمتفاوتة، بعوامه وفلاحيه؛ بل بمنحرفيه وشارديه، وبأقاليمه التي يفصل بعضها عن بعض حدود المكان، وحدود التقاليد والعادات والموروثات التاريخية والحساسيات السابقة؛ إن هذا المجتمع لا يزال بمنأى عن الدعوة الصادقة التي تكسر الحواجز والجدران، وتصل إلى كل العقول والقلوب، وتخاطب الناس بالأسلوب الحسن المثالي.
فأسألكم أيها الأخيار أيها الأحبة أيها الدعاة: متى تتحول هذه النظرية المسلمة بعمومية الدعوة وشموليتها إلى واقع عملي؟ ومتى نفلح في تكسير الحواجز بيننا وبين الناس؟(83/5)
البصيرة في الدعوة إلى الله
الخصيصة الرابعة: البصيرة، قال الله تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فهي ليست دعوةً عامية، ولا نعرة جاهلية، ولا تقليداً لفلان وفلان، بل هي دعوة مستبصرة؛ شعارها قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وفيصلها: الحجة القاطعة اليقينية البينة.
وهي بصيرة في كل شيء؛ بصيرة في حقيقة الدعوة، فيعلم الإنسان إلى ماذا يدعو، وماذا يريد من الناس.
وبصيرة بطريقة الدعوة ومعرفة ما يحل وما لا يحل، وسلوك السبيل الأقوم لتحصيل المراد، وإدراك العوائق والعقبات التي تعترض سبيل الداعية؛ ليتسلح لها وستعد ولا يفجأ بها.
وبصيرة بحال المدعوين، تعين على تلمس أسباب هدايتهم، وبصيرة بأعداء الدعوة؛ ليكون الداعي منهم على حذر، وبصيرة بالنفس؛ ليعرف الداعي مقصده ونيته ودافعه؛ فلا يلتبس عليه الأمر، ولا تتداخل عنده المقاصد ولا يغالطه الشيطان فيزين له القبيح، أو يقبح له الحسن، ويغيريه بالتعصب والغضب والحمية للنفس أو للمذهب أو للطائفة أو للجماعة أو للإقليم أو للشيخ أو لغير ذلك.(83/6)
إخلاص الدعوة لله عز وجل
الخصيصة الثانية: أن الدعوة دعوة لله تعالى، كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67] .
إنها دعوة تتبرأ من وصمة الدعوة القومية، أو الإقليمية أو المحلية، ليست دعوة إلى مذهب خاص، ولا إلى هدف دنيوي، بل هدفها واضح، دعوة إلى الله تعالى، فهي دعوته وهي بضاعته سبحانه وتعالى وسلعته؛ أما الداعية فهو دلَّال يعلن على تلك السلعة، وليس مالكاً لها، ينادي عليها وله -فقط- السعي والسمسرة؛ هذا إن صدق وأخلص.
فهذا هو الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم يُخاطب في القرآن الكريم، ومن ورائه كل داعية مخلص في الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويقال له كما قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188] وكما قال سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الجن:22] وكما قال أيضاً: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس:49] ويخاطب بقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] .
فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت هذه الآية بالتهديد والوعيد بالعذاب العظيم، ويخاطب بقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ويخاطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب:1] ويخاطب بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} * {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1-2] لأنه صلى الله عليه وسلم عبس وتولى أي: أعرض {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا} [عبس:2-10] ويُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] .
هكذا يُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على أصحابه، وتسطر في المصحف لتتلى إلى يوم القيامة: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] .
وكان من دعائه الذي عَلَّمَه صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في الصحيحين: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} مغفرة من عندك ليس لي فيها يد ولا استحقاق إلا محض فضلك وإنعامك ونوالك.
وهكذا ورث هذا السمت العظيم، ورثه وارثوا الدعوة عبر العصور؛ فكانوا في غاية التواضع لله تعالى والانكسار له؛ لا تختلط بدعوتهم شائبة من طمع شخصي، بل هم عبيد متواضعون، كلما زاد قبول دعوتهم زادوا انكساراً وتواضعاً وذلاً لله تعالى، وهذا نموذج لهم: الإمام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه ذكر صاحب الوافي وصاحب الدرر الكامنة، وغيرهما من بديع شعره وعظيم نظمه في الضراعة لله تعالى والتواضع وهضم النفس، وقال الصفديp: أنشدني إياها ابن القيم من لفظه لنفسه، هو قائلها، وحقيقةً فكل داعية -شاعراً كان أو غير شاعر- ينبغي أن يقول هذه الكلمات؛ تعبيراً عن نفسه قبل أن تكون تعبيراً عن الإمام ابن القيم رحمه الله: بني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم بني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم بني أبي بكر غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علم بني أبي بكر غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له هم بني أبي بكر يروم ترقياً إلى جنة المأوى وليس له عزم بني أبي بكر يرى العزم في الذي يزول ويفنى والذي تركه غنم بني أبي بكر لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهم بني أبي بكر كما قال ربه هلوع كنود وصفه الجهل والظلم بني أبي بكر وأمثاله غدا بفتواهم هذي الخليقة تأتم وليس لهم في العلم باع ولا التقى ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم فوالله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم ماذا تظن؟ هل تعتقد أن ابن القيم قال خلاف ما يدور في قلبه؟ كلا والله! بل كان صادقاً مع نفسه، يتحدث عن حقيقة مشاعره، وإن كنا نحن نرى له من العلم والفضل والجلالة والإمامة ما لا يرى هو لنفسه.
إنها الصورة التي يجب أن يقولها كل صادق عن نفسه، فلا تغره المظاهر والظواهر عما يعلم من حقيقة ذاته، ولا يجعل شخصه مقياساً، من أحبه ووافقه فهو على هدى وصواب، ومن خالفه أو نافسه فهو بضد ذلك.
إن الدعاة وطلبة العلم هم أولى الناس وأحراهم بالبراءة من الحظوظ الشخصية بالكلية، يكفيهم ما عند الله تعالى؛ هذا إن كانوا صادقين.
أما إن كانوا كاذبين؛ فما يصيبهم في الدنيا -مهما عظم- هو أقل مما يستحقون، والله تعالى هو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الدعوة -أيها الأحبة- ليست حظوظا شخصية، ولا مكاسب آنية، والذي يريد الدنيا وجاهها وزخرفها وزينتها ومناصبها وبهارجها فليختر طريق الدنيا، إذ الدنيا والآخرة ضرتان، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] .
وهذه الخصيصة يتفرع عنها ملاحظات: الأولى: هدف الدعوة يجب أن يكون واضحاً.
إن الدعوة لها هدف واضح المعالم، بينٌ لا خفاء فيه ولا غموض.
فبعض الناس تعلم أنه يعيش بلا هدف، فإذا أراد أن يعير شخصاً قال: فلان له أهداف وهذه نفسها كلمات السابقين {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] أي إن الباطن غير الظاهر.
والآخرون يقولون: يجب عدم خلط الدعوة بالسياسة، والدعوة ليس لها أهداف سياسية وهذا مقبول.
نعم مقبول أن يُسمع من العلمانيين، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، أو يكفرون بالكتاب كله؛ لكن لا يتصور صدوره من مسلم يؤمن بشمولية الإسلام، ويعترف بفرضية الجهاد، ويقر بضرورة الحكم بشريعة الله تعالى، ويعلم أنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] ويكفر بالطاغوت -كل الطاغوت- ومن الطاغوت: الحكم بغير شريعة الله تعالى.
إذاً: فالدعوة الربانية في أي مكان أو بلد وجدت، وبأي صوت سمعت، وبأي أسلوب صيغت؛ هي دعوة ذات أهداف، وأهدافها شاملة للحياة كلها: في الاعتقاد والتشريع، والاجتماع والاقتصاد، والسياسة والتعليم والإعلام، وكل شيء، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89] .
إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت واضحة الأهداف شاملة المقاصد؛ حتى يوم كانت في مكة محصورة بين جدرانها وحدودها هي لم تكن دعوةً ذات مطامع شخصية ولا مطامع ذاتية؛ لكنها لم تأت أبداً لتتوارى في جانب -فقط- من جوانب الحياة، ولا لتعالج جزءاً من أجزاء الوجود؛ لا لتعالج الأمن المتردي -مثلاً- في الجزيرة، ولا لتحل بعض المشكلات الاجتماعية؛ بل جاءت منذ أولها وبدايتها لتتدخل في كل شيء، وتنظم كل شيء، وترد كل شيء إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] .
وإن أي خطة تريد أن تستأثر بجزء من الحياة -مهم أو غير مهم- وتعتبره حراماً على الدعوة لا يجوز القرب منه؛ فهي محاولة لسلب الدعوة مضمونها الشرعي، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ويقول سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ(83/7)
الدعوة في الناس كالروح في البدن
إن الدعوة نقلة روح تسري في البدن، فيتبعها قلق وهم وتوتر وحركة وانزعاج في نفوس المدعوين وهذا يتفرع عنه عدة ملاحظات: الملاحظة الأولى: أن الداعية قلِقٌ لحال الناس، من غير يأس ولا قنوط، فهو لا يهدأ ولا يستقر.
فمن جالسه أعداه، وصار يقلق لنفسه ويهتم لها؛ ولهذا قيل للحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إنا نجالس أقواماً يخوفوننا.
قال: لأن تجالس أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن؛ خيرٌ من أن تجالس أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاف]] ولو رأى لقيط بن يعمر الإيادي حال الداعية الصادق وحرصه على الناس؛ لعلم أنه أحق بقوله إذ يقول: لا منزفاً إن رخاء العيش داخله ولا إذا عض مكروه به خشع مسهد النوم تعنيه أموركم يروم منها إلى الأعداء مطلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبِعا طوراً ومتبَعا لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه هم تكاد حشاه تحطم الضلعا حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأي لا قحماً ولا جزعاً الملاحظة الثانية: إن الطريق -طريق الدعوة والإيمان- يحفل بالمتراجعين والمتلونين والناكصين والناكثين والمترددين، فهذا النائم الذي أغراه وثير الفراش، واستغرق في حلم لذيذ؛ تأتيه يد تهزه وتقول له: استيقظ، كم سيكره هذه اليد، ويتمنى لو أسلمته لنومه الهادئ، وخلت بينه وبين إخلاده الهنيء؟! البعض يوقظه أبوه أو أمه ولهم عنده أرفع المكانة؛ فيصرخ في وجوههم بعنف ويتصرف بعصبية، وهكذا حال بعض المدعوين مع من يدعونهم، وآخرون قد يقومون من نومهم ويعركون عيونهم ويقتربون من أنبوب الماء؛ فإذا وجدوا أدنى مسوغ إلى معاودة النوم فعلوا.
فقد يقول: بقي من الوقت خمس دقائق أو عشر، وقد يقول: دورة المياه مشغولة، أو الرقيب قد ذهب؛ فيرجع أدراجه، ويعود إلى فراشه.
إنها حال بعض المدعوين الذين يحملهم الحنين إلى الماضي، إلى معاودة ما كانوا عليه؛ وهذا حال دعاة ومدعوين آخرين، وما أجمل بالداعي أن يصبر على ضعف الناس وتراجعهم، وأن يطيل النفس معهم، وألا يحملهم على ما لا تطيقه إمكانياتهم وطبائعهم! قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو داع يصدع بين أظهر قريش بمكة، قال له: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] قال الإمام الطبري رحمه الله: "اختلف أهل التأويل في ذلك: فمنهم من قال: خذ العفو من أخلاق الناس، وخذ الفضل وما لا يجهدهم.
ومنهم من قال: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] أي: الفضل الزائد من أموال الناس.
ومنهم من قال: بل ذلك أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض عليهم القتال.
قال رحمه الله: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: خذ العفو من أخلاق الناس واترك الغلظة عليهم.
ثم قال: أمر الله بذلك نبيه في شأن المشركين، ولا دلالة على أن ذلك منسوخ، وإنما هو في حق من لم يؤمر بقتاله من المشركين؛ إذ لا يجب استعمال الشدة والغلظة في حق جميعهم".
هذا معنى ما قاله رحمه الله.
إن العفو هو ما جاء بلا مشقة ولا عسر ولا تكلف، فالتيسير والسماحة والصبر والتغاظي؛ هي من المروءات التي يجب أن يلتزمها الداعية، والتي لا نجاح له إلا بها.
فأنت حينما توقظ نائماً؛ حبذا أن تأتيه بلطف، وتحركه بهدوء وتصبر عليه ما دام النوم يثقل جفنه، وأنت ليس لك عليه سلطان، فإذا عاد ونام؛ فتلطف معه وعد إليه مرة أخرى، ولا يغلب جهله حلمك بحال من الأحوال!.
الملاحظة الثالثة: ومما يتعلق بهذا: أن مهمة الداعية ليست تبكيت الناس بالضرورة ولا تقريعهم، ولا يلزم أن يبدأ بعيبهم وذمهم؛ لأنه بهذا قد يثير حمية الانتصار لأنفسهم، أو لعاداتهم ومذاهبهم، وأقوالهم، ويعين الشيطان عليهم؛.
وهذا مما تختلف فيه الأحوال، فمن الناس من يعرف أنه مخطئ، وأن ما يفعله ضلال أو معصية أو مخالفة، وأنه منحرف عن سواء القصد، فهذا تبدأ معه من حيث انتهى، وتبين له عواقب ما هو فيه، وأسباب الخروج منه، وتعينه على نفسه بكافة الوسائل.
مثال: شارب الخمر يعلم أنه حرام، وأن الله تعالى قال: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] وأن العربي في جاهليته كان يسميها الإثم.
سقوني الإثم ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور وأن العربي العاقل كان يتجنب الخمر؛ لأنها تذهب بلبه وعقله وتجعله كالصبيان أو كالمجانين.
إذاً هو يعرف أنها حرام، وأنها إثم وزور، وأنها معصية لله عز وجل؛ وإنما غلبه هواه أو عادته أو شهوته أو إغراء قرناء السوء؛ فحينئذ هو قطع مرحلة، وعليك أن تأخذه من هذا؛ لتحمله على ترك هذا الحرام ومجانبته والعياذ بالله من شرها وإثمها.
ومن الناس من يظن نفسه على صواب، وقد امتلأ قلبه وعقله بتصويب ما هو عليه؛ إما لأنه أُشرب الهوى وهو لا يدري، وإما أنه يقلد من هو أكبر منه وأعلم وأوسع، أو لغير ذلك من الأسباب، وبعضهم قد يتعصب لاسم أو لشيخ أو لمذهب أو لطريقة، وهو لا يعرف حقيقة هذا المذهب، ولا ماذا عليه ذلك الشيخ، وإنما أمرٌ ورثه.
فمثل هذا قد ينفع فيه بيان الحق، فيكشف بنفسه زيف الباطل ولو لم تشر إليه بإصبعك.
مثال: أعلم أن جماعات كثيرة من شباب طائفة الإسماعيلية ذكوراً وإناثاً، يزيد عددهم على أربعمائة أو خمسمائة، كل هؤلاء قد تسننوا وتركوا مذهبهم الفاسد.
وأعتقد أن المذهب الإسماعيلي -حيث كان- يعاني في هذا الزمان انهياراً يهدد باندراس المذهب وانقراضه، والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً.
تتساقط من هذا المذهب لا أقول: لبنات بل جدران ولوائح بأكملها، هذا مع الخلاف العميق الذي يعيشونه اليوم، ويعيشونه عبر التاريخ بعد وفاة كل زعيم من زعمائهم، أو مبايع من أئمتهم المتبوعين -كما يحدث الآن تماماً- والملاحظ أن أتباع المذهب الإسماعيلي يغلب عليهم الجهل بالمذهب؛ فالعصبية لهذا المذهب تثور حين تبدأ أن تعرفه بمذهبه، وتقول له: هل أنت إسماعيلي مثلاً؟ إذاً: مذهبكم يقول كذا ويقول كذا فتعلمه من المذهب ما لم يكن يعلم، وربما أشرب حب التعصب؛ فأخذ هذه الأشياء التي تقول واعتقدها وآمن بها تكبراً وعناداً وهوىً.
إذاً فمن المناسب ألا تفعل ذلك، بل تبين له الحق وتعظم الله تعالى في عينه، وتذكر أسماءه وصفاته؛ وتبين له مكانة الرسل عليهم السلام، وتعرفه بالإيمان والإسلام، وذلك هو المدخل الملائم، فإذا عرف الحق؛ انكشف له زيف الباطل وبان له عواره.
وهذا -بلا شك- لا يعارض نقد المذهب علانية على المستوى العلمي والمستوى العام، إذ نقد المذهب ينفع طائفة أخرى ممن يعرفون المذهب ويبحثون عن الحق حيثما كان.
إننا نريد نمطاً من الدعاة يتسلل إلى قلوب الناس وإلى عقولهم، ويدخل إليهم دخول الهواء البارد العليل، يلفح وجوههم برفق وسكينة، ويعمل على إيصال الحق كاملاً غير منقوص، دون أن يتعمد إثارة مشاعر الرفض أو الكراهية، أو استنفار عوامل التعصب والحمية الجاهلية عند المدعوين.
الملاحظة الرابعة: إن طريق الدعوة مليء بالصعاب، قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن حبان واللفظ له، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: {أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا وقد لقينا من المشركين شدة: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ فجلس مغضباً محمراً وجهه، فقال: إن من كان قبلكم ليُسأل الكلمة فما يعطيها -رجل من المؤمنين يعذب على كلمة سوء أو باطل أن يقولها؛ فيرفض ويصر ولا يعطيهم تلك الكلمة- فيوضع عليه المنشار فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وإن كان أحدهم ليمشط ما دون عظامه من لحم أو عصب بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم تعجلون، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه} .
السؤال
هذا الخبر: هل هو خاص بمن كانوا قبلنا من الأمم السالفة؟ كلا! وكيف يكون خاصاً وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به خباباً وأصحابه، وهم يلقون عنت قريش وأذاها؛ ليصطبروا ويعتبروا.
هل هو خاص بالصحابة رضي الله عنهم؟ كلا! ولم يكن خاصاً بهم، فرسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وكما أن هذا البلاء يتعرض له كل داعية، فكذلك الوعد الرباني بالتمكين؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب؛ هو قرينه وملازمه، فالعبد لا يُمَكَّنْ حتى يبتلى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والخراج بالضمان} شرط بشرط، فمن وفى بشرطه؛ وفى الله تعالى له بوعده، وأنجز له ما وعد.
إذاً: فما هو الصبر؟ إنه ثلاث مسائل: أولها: ألا يشك ولا يرتاب في الحق الذي يحمل.
ثانيها: أن يرضى لله تعالى ويسلم، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فيرضى بقضاء الله تعالى وقدره.
الثالثة: ألا يوافق المبطلين على مذاهبهم وما هم عليه من الزيف والضلال.(83/8)
تغيير حال المدعوين
الخصيصة الأولى: أن الدعوة انتقال بالمدعوين من حال إلى حال؛ من الكفر إلى الإسلام، أو من الضلال إلى الهدى، أو من المعصية إلى الطاعة، أو من الغفلة والرقود إلى التيقظ والانتباه.
فالداعية كالسليم.
يقول العرب: السليم لا ينام ولا ينيم، أي الملدوغ لا ينام ولا يدع أحداً ينام من صياحه وأنينه.
فالداعية لا ينام ولا ينيم، قد غلبه هم الدعوة وأقلقه، وهذا القلق الذي يحدث للداعية -حرصاً على الناس- يصيب الآخرين، فيحدث عندهم قلق، والقلق الذي يحدثه الداعية في نفس المدعو؛ هو سبب من أسباب القبول والتصحيح، فالإنسان الراضي المطمئن بحاله، القانع بما هو عليه؛ قد لا يُطمع في انتقاله ولا قبوله، وأول مراحل قبول الدعوة هو تذمر الإنسان مما هو عليه، وتطلعه إلى حال أفضل وأحسن.
مثال: الكافر الموسع عليه في الدنيا، الراضي بحياته، المعرض عن التفكير؛ هو بعيد عن الهداية، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:8] .
مثال آخر: النصراني الذي بدأ يضيق ذرعاً بتناقضات النصرانية المحرفة واختلافاتها، ويتبرم من تصرفات رجال الكنيسة وأَلاَعيبهم، ويتقلب على فراشه فلا ينام، لأنه يشعر أنه ليس على شيء؛ هذا مرشح للهداية وقبول الحق بإذن العزيز الحميد، وهذا القلق والتوتر هو أول آية وعلامة على قبول الهداية والتطلع إليها والشغف بها.
وإذا كان الكفر موتاً ونوماً وعمىً؛ فإن الإيمان حياة ويقظة وإبصار.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت} وما يستوي الأحياء ولا الأموات، فالذاكر ربه هو المؤمن، وهو المسلم المطيع القائم القانت الذاكر، والغافل الذي لا يذكر ربه؛ هو الكافر أو المنافق أو المعرض أو البعيد عن الهداية.
إن دبيب الروح في الجسد الخاوي؛ يحدث الارتعاش والانتعاش والتوتر، كما أن خروج الروح من الجسد يستتبع الآلام العظام والكربات الجسام، هذا يقع في عالم الماديات كما يقع في عالم المعنويات.
في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان بسند على شرط الإمام مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما نفخ الله الروح في آدم، فبلغ الروح رأسه، عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له ربه تبارك وتعالى: يرحمك الله} وهذا الحديث له شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند الترمذي والحاكم وغيرهما، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
لماذا عطس؟ لأن الروح بلغت رأسه، والعطاس له معنى، فدبيب الروح -دبيب الحياة في الجسد- يحدث في الجسد زلزالاً قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد ما معناه: "العطاس زلزلة البدن، وهي كزلزلة الأرض؛ ولهذا شرع التشميت أو التسميت للعاطس، أن يقال له: يرحمك الله".
{وإذا عطس فحمد الله فشمته أو فسمته} ما معنى التشميت أو التسميت؟ أي دعوة إلى رجوع هذا الإنسان إلى حالته من الدعة والسكون؛ فإن العطاس -كما يقول ابن القيم - يحدث في الأعضاء حركةً وانزعاجاً.
والعرب تعتقد أن العطاس أمان من الموت للصبي بإذن الله تعالى؛ ولهذا تقول امرأة عن ولدها: أخذته بالفطسة، بالتثاؤب والعطسة؛ ويعتقد العوام أن الصبي إذا عطس ما فطس، أي: ما مات، وفطس أي: مات، وهذه لغة عربية صحيحة.
إذاً: العطاس زلزال للبدن، ومن أسبابه تغلغل الروح وتخلخلها في البدن.
قد تخللت مسلك الروح مني ولذ سمي الخليل خليلا فدخول الروح يحدث حركة وانزعاجاً، وكذلك دخول روح الإيمان أو روح البحث عن الحق، أو روح حب الخير، وحب الرجوع إلى الله تعالى والرغبة في التوبة؛ هي تحدث في العقل والبدن والقلب زلزالاً يقلق الإنسان، حتى يجد مستقره في الهداية بين صفوف التائبين، وبالمقابل: فإن خروج الروح ومغادرتها البدن يحدث أشد من ذلك وأعظم، وقد روت عائشة رضي الله عنها، كما في الصحيحين قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {إن من نعم الله علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري؛ وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، ثم قالت: وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء -إناء فيه ماء- فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله.
إن للموت سكرات.
ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى حتى قبض صلى الله عليه وسلم فمالت يده} وفي رواية لها رضي الله عنها قالت: {والله ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان صلى الله عليه وسلم يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه} إنها معاناة خروج الروح من البدن، وما يستتبع ذلك من الآلام.
وإذا كان هذا وذاك في دخول الروح وخروجها من الجسد فإن المادة واحدة، ولذلك يشعر الذين بدأ الإيمان يدب في قلوبهم، وبدأت التوبة تحادث عقولهم وأرواحهم؛ يشعرون بتلك الحركة وذاك الانزعاج، ويسرعون إلى الخير وقائلهم يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] كما يشعر أولئك الذين سلبوا الإيمان، أو سلبوا جزءاً منه، فنقص إيمانهم وقل يقينهم؛ يشعرون بهم عظيم وشقاء مرير؛ لأن الإيمان روح، قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] .
ولهذا لما جاء الملك بالوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ غطه وضغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله وقال: اقرأ فعل ذلك ثلاثاً، ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خديجة؛ رجع متغيراً منتقع اللون، يقول: {زملوني دثروني، يا خديجة! لقد خشيت على نفسي} .(83/9)
من كتاب (الدعوة إلى الإصلاح)
أخيراً أيها الأحبة: هذه هي الاجتهادات التي أردت أن أعرضها لكم على ضوء الآية الكريمة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] .
وإنني بعد أن سطرت هذا الكلام؛ وقفت على كتاب صغير وهو رسالة مطبوعة في عشرات الصفحات، وهي بعنوان: الدعوة إلى الإصلاح للشيخ الفاضل العلامة/ محمد الخضر حسين، وهي رسالة مفيدة حافلة بجليل المعاني؛ فأليها ألفت الأنظار، وأرجو من الإخوة أن يقرؤوها؛ لتكمل لهم ما يكون من نقص في هذا الموضوع.
ثم بعد ذلك أنتقل إلى بعض التعليقات والموضوعات التي نقضي بها ما بقي من الوقت.(83/10)
الإجازة الصيفية وكيفية استغلالها
النقطة الأولى: الإجازة الصيفية وقد طرقت أبوابنا؛ بل مضى منها جزء.
وحول الإجازة أقول باختصار: الإعلانات.
إعلانات السفر تملء صحفنا ومجلاتنا إعلانات السفر للكبار والصغار، والهدايا والجوائز والأسر؛ بل وحتى الأطفال! وكثير من وكالات السفر تقدم الخدمات والتسهيلات للرحلات التي تعلنها وبأسعار مخفضة إلى بلاد الغرب، وأحيانا إلى بعض المواقع التي يغلب على من يذهبون إليها؛ أنهم يذهبون لأغراض شهوانية دنيئة رديئة، وهذا مما يجب إنكاره، ودعوة هؤلاء إلى أن يتقوا الله تعالى في أولاد المسلمين وبناتهم.
وبالمقابل وفي الوقت الذي نجد فيه الكثير من الناس يحزمون حقائبهم ويشدون أمتعتهم للسفر إلى بلاد بعيدة حواجز اللغة تحول بينهم وبينها، وربما لأول مرة يطرقونها، بلاد مخالفة لهم في العادات وفي التقاليد، وقبل ذلك في الدين، ويجدون فيها صعوبات جمة، يتجشمون الصعاب كلها من أجل شيء يسمونه السياحة، أو المتعة أو اللذة أو الخبرة التي يحصلون عليها -كما زعموا.
إني أسأل -وموضوعنا اليوم هو موضوع الدعوة-: كم من الناس -من الدعاة وطلبة العلم والأخيار- قد حزموا أمتعتهم ليقوموا بجولات وأسفار ورحلات، لكن لهدف مختلف؟ لهدف الدعوة إلى الله، وأن يصلحوا من أمر الناس ما فسد؟ سواء أكانت تلك الجولات على مستوى المنطقة؛ فإن في هذه المنطقة -على سبيل المثال: منطقة القصيم- مئات القرى النائية، التي أهلها بأمس الحاجة، وأحياناً يكونون بأمس الشوق والرغبة؛ إلى من يدعوهم أو يسمعهم الخير أو يعلمهم ما جهلوا من الأحكام.
كم يوجد من الحملات والجولات التي تستهدف زيارة الناس على مستوى البلاد كلها؟ فيذهبون إلى مناطق الشمال أو الجنوب، أو إلى المنطقة الشرقية، أو إلى أنحاء المنطقة الوسطى، ويزورون الناس في قراهم ومدنهم ومراكزهم وأماكنهم، ويخطبون فيهم، ويتحدثون معهم، ويوزعون الكتب والأشرطة، ويدعونهم إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن مثل هذه المهمة النبيلة الجليلة؛ مما ينبغي أن نتنادى إليها ونتداعى، ونحن نستقدم أيام الإجازة الصيفية، وينبغي أن يكون لكل واحد منا شرف المشاركة.
ولو أن يكون لك أسبوعاً واحداً في الإجازة.
قد تقول: أنا موظف! فحتى ولو كنت موظفاً، خذ إجازةً في هذه الإجازة؛ لأنك أصلاً ستأخذ الإجازة حتى تذهب بأولادك -على أحسن الأحوال- تذهب بهم إلى زيارة أقارب، وربما يكون بعض الفضلاء يذهب بهم إلى البيت العتيق في عمرة، أو يذهب بهم إلى بعض البلاد في السياحة.
فلماذا لا تأخذ إجازة أخرى تجعل هدفها الدعوة، أو المشاركة للدعاة؟ بل وأوسع من ذلك، نحتاج إلى من ينتدبون أنفسهم ليكونوا سفراء ورسلاً يذهبون إلى أنحاء العالم الإسلامي للدعوة إلى الله بلاد بأكملها قد يكون سكانها مائة مليون، قرأت أن سكان بنجلاديش مائة مليون؛ فعجبت لذلك! لأني أول مرة أقرأ هذا الخبر.
وسكان إندونيسيا أكثر من مائة وخمسين مليون.
وقل مثل ذلك في بلاد كبيرة، كباكستان أو نيجيريا أو غيرها من الدول الآسيوية أو الأفريقية، التي يكون -أحياناً- سكانها مسلمون (100%) حسب الرقم الجغرافي؛ ومع ذلك كم مرة زرناهم؟! وكم مرة واصلناهم بالدعوة؟! وكم مرة أوصلنا إليهم العلم والهداية؟ أو طبعنا كتباً بلغاتهم أو أشرطة بلغاتهم؟ أو ذهبنا إليهم ووقفنا في صفهم وعالجنا مرضاهم، ودعونا وشاركنا في أعمال إغاثة إنسانية؟! إن هذا جزء من الواجب الذي ينبغي أن يقوم به كل فرد منا بحسبه.
1- كثرة الزواجات في الإجازة: جانب آخر يتعلق بالإجازة: موضوع الزواجات.
وهي تكثر في الإجازة ولا شك، ويحتاج الكلام عن الزواجات إلى حديث طويل، وأحيل إلى شريط: تنبيه الناس على ما يقع في بعض الأعراس، لكني أشير إلى ملاحظات مهمة: أولها: هناك ظاهرة جميلة بدأت تبرز اليوم، وهي أن عدداً غير قليل من حفلات العرس يقام في بيوت أهل العروسين، أو يقام في استراحات خاصة بهم أو مستعارة من بعض أقاربهم أو معارفهم، أو تقام في ساحة عامة في الحي تستخدم في مثل هذه المصالح العامة للناس، وهذا أمر جيد جداً؛ لأنه يغني عن القصور وما فيها -أحياناً- من الترف والبذخ، وما يصاحب حفلات الزواج في القصور من المفاسد التي لا تخفى في بعض الأحيان -ليس في كل الأحيان- كما إنه يتيح للحضور ولأهل العروسين أن يستثمروا حفلهم في النافع المفيد، من الكلمات الوعظية والتوجيهات والإرشادات، والقيام بالأعمال التي يتطلع الناس إليها، وقد اعتادوها وألفوها.
الملاحظة الثانية: أن بعض الأعراس ترسل فيها دعوة العرس أو البطاقة، عبارة عن شريط من الأشرطة الخيرة، يحمل هداية أو دعوة أو إرشاداً أو توجيهاً، وهذا أيضاً تقليد حسن جميل، فربما لو حسبت تكاليف الشريط لم تجد كبير فرق عن بطاقة الدعوة، وحتى لو زاد أو طبعت عليه الدعوة، إلا أن في هذا الشريط هديةٌ وخيرٌ وبرٌ وحفظٌ له، وكثير من البطاقات لا يستجاب لها أو تهان، وقد يكون فيها ذكر الله عز وجل، فينبغي أن يشاع هذا وينشر بين الناس.
2- الدروس العلمية أثناء الإجازة: النقطة الثالثة المتعلقة بالإجازة هي: الدروس العلمية.
وأحب أن أقول: إن مما يسر ويفرح ويبهج النفس؛ أن تقام دروس ودورات مكثفة في أنحاء البلاد، في هذه الإجازة؛ لاغتنام أوقات الشباب في النافع المفيد، وقد أخذت هذه المنطقة -بحمد الله تعالى- بحظ وافر، فأزجي الشكر للقائمين على مكاتب الدعوة الذين أقاموا تلك الدورات وأعلنوا عنها؛ أنها دورات مكثفة، وأعرف منها في هذا البلد دورتين: إحداهما تقام في هذا المسجد يومياً، دروس بعد الفجر وقبل الظهر وبعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب، وهي دروس في الحديث وفي الفقه وفي المصطلح وفي التفسير وفي العقيدة، تبدأ من أول الكتب وفي نية الإخوة المشايخ أن ينهوا تلك الكتب؛ ليستفيد الطلاب المبتدءون خلال هذه الإجازة، وأن يختموا مجموعة من المتون المفيدة.
أما الدورة الثانية، فهي في جامع الجاسر، وهي -أيضاً- بعد الفجر وقبل الظهر وبعده وبعد العصر وبعد المغرب، ويشارك فيها كوكبة من طلبة العلم، وهي لطلاب هذه البلاد وللوافدين عليها من البلاد الأخرى.
فأدعو الإخوة إلى أن يحرصوا على حضورها والمشاركة فيها، ويدعو الآخرين إليها.(83/11)
أخبار من البوسنة والهرسك
النقطة الثانية: أخبار من البوسنة والهرسك.
أولاً: هذه قصيدة أقرؤها أولاً، ثم أفاجئكم بذكر قائلها: أيها المسلمون لستم من الغرب بحال تستوجبون احتراما إنما أنتم لدى الغرب قوم خُلِقوا عن سوى الشرور نياما فإذا ما وسعتم الناس حلماً عده الغرب شرة وعُراما وإذا ما ملأتم الأرض عدلاً عد جوراً أو مفخراً عدَّ ذاما وإذا ما افترى عليكم عدو أيدوه وصدقوا الأوهاما وإذا ما جنى عليكم أناس سكتوا عنهم ومروا كراما كم بأرض البلقان منكم قتيل وأيامى مضاعة ويتامى نشر الظالمون في الأرض منهم جثثاً تملأ الفضاء وهاما لو أتينا تلك البلاد رأينا الـ يوم منهم جماجماً وعظاما ما نظا في الدفاع عنهم بنو العـ رب حساماً ولا أحاروا كلاماً إن تكن هذه السياسة عدلاً فإلى الظلم نشتكي الآلاما رحم الله أمةً أصبح الغر ب يرى كل ذنبها الإسلاما هذا الكلام تعليق على أوضاع البوسنة والهرسك، تعليق على الحملة الغربية الشرسة ضد المسلمين، واتهامهم بالتطرف والإرهاب، وإلصاق كل عيب بهم؛ وإنما عيبهم الحقيقي أنهم مسلمون.
بقي أن تعرفوا أن قائل هذه القصيدة ليس شاعراً إسلامياً وليس من الأحياء؛ وإنما هو الشاعر العراقي المعروف: معروف الرصافي، وهي موجودة في ديوانه.
أما فيما يتعلق بأخبار البوسنة والهرسك، فأبشركم بكل خير إن شاء الله تعالى.(83/12)
وضوح التواطؤ الدولي
أولاً: التواطؤ الدولي ظاهر ومكشوف، والأمم كلها قد أطبقت على منع المسلمين من امتلاك السلاح ليدافعوا عن أنفسهم، وقد نشرت الصحف الغربية كلها، ونشرت مجلة المجتمع، ووصل إلينا خطاب من رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر إلى وزير دفاعه يؤكد له ضرورة حرمان المسلمين من حق الدفاع عن النفس، ومنعهم من أن يحصلوا على السلاح، وقال: إننا لا نريد أن تتكرر تجربة أفغانستان في أوروبا، وإن هذا السلاح الذي يحصل عليه المسلمون هناك؛ سيكون سلاحاً يستخدمونه في إقامة دولة أصولية، وعلينا أن نقضي على المسلمين قضاءً مبرماً، ولا نسمح لهم بالوجود.
وكان ذلك الخطاب ينضح بالحقد والكراهية للإسلام والمسلمين، وهذا الخطاب قد نشر في أكثر من مجلة فلا داعي إلى قراءته.
وبلا شك أن الأمم كلها قد تخلت عن المسلمين وأسلمتهم، في الوقت الذي لا زالت صحائفها وشاشاتها وأخبارها تنشر يوماً بعد يوم، بالصوت والصورة؛ أخبار المآسي التي يشهدها المسلمون، من الموت والجوع والعطش والفقر والحرمان، والقتل والتشريد والاغتصاب وغير ذلك؛ ومع ذلك كله: انقطع التيار الكهربائي عن سراييفو لمدة ثلاثة أسابيع، وانقطع عنها الماء؛ حتى إن الرجل الواحد يمضي في اليوم -في النهار- أكثر من عشر ساعات؛ ليحصل على قارورة من الماء بوزن هذا الكأس، وهي تعادل أقل من ربع ما يكفيه في المقياس العادي.
ويوماً من الأيام سقطت قذيفة على مجموعة يبحثون عن الماء فقتلت منهم عشرة.
وظل المسلمون ثلاثة أسابيع بلا كهرباء، وهدد المسلمون بأن يموت أكثر من ثلاثين ألفاً منهم؛ بسبب فقدان الماء وانتشار أمراض التيفود وغيرها.
بعد ذلك ظن المسلمون الظنون، وأحلف لكم بالله إنني كنت أرى أخبارهم فأشيح عنها بعيني؛ لئلا أقرأ ما يحزنني ويشق عليّ؛ في الوقت الذي يشعر الإنسان -أحياناً- بأنه أشبه ما يكون بمكتوف الأيدي، فإذا بنعم ربنا سبحانه وتعالى تتوالى، فيمطر عليهم ربنا الماء من السماء {وَيُنزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال:11] فتنزل السماء خيراتها وبركاتها، وتمطر سراييفو أياماً، ويعود التيار الكهربائي، وتعود أيضاً شبكات المياه إلى وضعها الطبيعي.(83/13)
بشارات
ثانيا: قرأت في جريدة الرياض قبل أيام؛ خبراً بالخط العريض يقول: طائرات مجهولة تقصف مواقع الصرب، ثم ذكر الخبر أن مصادر صربية قالت: إن طائرات مجهولة لم يكتشفها الرادار ولم يعلمهم بها؛ مصبوغة باللون الأبيض، لا يعرفون من أين جاءت، ولا كيف حلقت؛ أنها حلقت في بعض مواقعهم وأمطرتهم؛ ولكن قنابل وشظايا ونيران، ثم غادرت سليمة ولا يعرف أيضاً إلى أين توجهت! ويقول الخبر: ومن المعلوم أن المسلمين لا يملكون أية طائرات حربية؛ إنما كل ما يملكونه هو تلك الطائرات التي تستخدم في رش المبيدات على المزارع.
فمن أين جاءت هذه الطائرات؟! إنها ولا شك مدد من رب العالمين، من أين؟! لا ندري من أين؟! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] قد تكون مدداً من السماء، وقد تكون مدداً من هنا أوهناك؛ المهم أنها من رب العالمين، في الوقت الذي يحكم العالم الحصار على المسلمين في البوسنة؛ لئلا تصل إليهم ولا بندقية ولا رصاصة؛ ومع ذلك فإن الله تعالى ليس بغافل عما يعملون.(83/14)
انتصارات كاسحة
أمر ثالث: انتصارات كاسحة حققها المسلمون اليوم أقرأ خبراً: أن مدينة من أعظم مدن الكروات قد سقطت في أيدي المسلمين، وغادرها أكثر من ستة آلاف كرواتي إلى مدن أخرى.
وكذلك مناطق الجنوب كلها تكاد أن تكون سقطت في أيدي المسلمين وسيطروا عليها، مدينة مستاأعظم مدينة في الهرسك وهي العاصمة، سيطر عليها المسلمون بالكلية تقريباً، وطردوا الكروات منها، وأقاموا الخط الذي يربطها بسراييفو، وهو خط مفتوح يسيطر عليه المسلمون تماماً.
وكذلك مدينة ترافنك ومدينة نوفي ترافنك، وغيرها من المدن التي كانت بأيدي الكروات، أو بعضها في أيدي الصرب وبعضها مشترك؛ مع ذلك سيطر عليها المسلمون، وقاموا بمجهود كبير في ذلك.
واستطاع المسلمون في معركة واحدة وخلال وقت ليس بالطويل، أن يحطموا أكثر من اثنتي عشرة دبابة للصرب، وكذلك استطاعوا أن يقتلوا مئات الكروات في معارك بينهم.
ومن أكبر الدلائل على شعور الصرب والكروات بالهزيمة: تصريحات رئيس كل من الصرب والكروات في البوسنة، في فينا قبل ثلاثة أيام تقريباً: أنهم مستعدون لإعطاء المسلمين حوالي (30%) من الأرض، وهي أكثر بكثير -يقولون- من التي يمكن أن يحصل عليها المسلمون عن طريق القتال، وهذا التصريح تكرر منهم مراراً! ومن الأخبار الطريفة: أن المسلمين احتلوا مدينة فيها مزرعة ضخمة جداً، فوجدوا في هذه المزرعة حوالي ألف خنزير، ولا شك أن هذه ثروة في نظر الكروات والصرب لا تقدر بثمن؛ فأجروا مفاوضة مع الصرب على أن يبادلوهم هذه الخنازير بصفقة أسلحة -أعتقد أنها مجموعة من الدبابات لعلها: عشرين دبابة أو أقل أو أكثر من ذلك- فوافق الصرب على هذا، وقال المسلمون للصرب: لا نستطيع أن نأتيكم بهذه الخنازير؛ لأننا إذا أتينا نكون في مرمى قذائف الكروات؛ فنريد أن توجهوا مدفعيتكم إليهم وتضربوهم؛ لتأمنوا لنا الطريق.
ففعل الصرب! وبدءوا يضربون مواقع الكروات؛ ليؤمنوا الطريق للمسلمين، حتى جاءوا وتم هذا التبادل، ثم رجعوا سالمين!!!(83/15)
تقييم للوضع في البوسنة والهرسك
وعلى كل حال؛ فإن لي تعليقاً أخيراً في موضوع البوسنة والهرسك، وهو يتمثل في النقطة التالية: لو أننا نفكر في قضية البوسنة الآن، كما لو كانت تحدث اليوم؛ لقال الكثيرون: إن هذا انتحار وهذه مغامرة غير مأمونة العواقب، وقضية القضاء على المسلمين في البوسنة لا تستوعب أو لا تستدعي أكثر من أسبوع أو أسبوعين على أكثر تقدير، لماذا؟ لأنهم أقلية ودولة ناشئة بلا جيش، ولا طائرات، ولا سلاح، وفي وسط بحر كافر نصراني، ويجاورهم الصرب رابع أقوى جيش في العالم، والصرب معروفون تاريخياً بالقسوة والقوة والشدة والبأس والنجدة في الحروب، وإلى جوارهم الكروات، وهم أيضاً كفار نصارى والأمم الغربية وأوروبا كلها؛ لا يمكن أن ترضى بإقامة دولة إسلامية، أو حتى دولة للمسلمين في وسط أوروبا؛ تهددهم وتقض مضاجعهم؛ ولذلك فإن التفكير المنهزم سيقول: لا داعي لأن يقوم المسلمون بأي شيء، وعليهم أن يستسلموا ويتخلوا حتى ولو ذبحوا ذبح الشياة في بيوتهم وحصونهم ومزارعهم.
أما أن تتصوروا أن المسلمين سيغضبون لإخوانهم؛ فهذا وهم! هكذا سيقول المنهزمون! لماذا؟ قالوا: لأن المسلمين مشغولون بأنفسهم، وكل أمة مشغولة بنفسها، وجراحاتهم كثيرة، ولا زالوا دون المستوى المطلوب في التجاوب مع قضايا المسلمين ومع همومهم.
أقول: هذا حديث النفس حين تشف عن بشريتي وتعود بعد ثوانِ:وتقول لي إن الحياة لغاية أسمى من التصفيق للطغيان أما الواقع فقد أثبت خلاف ذلك، وأثبت أن المسلمين في البوسنة والهرسك أقوياء، وأن العالم الإسلامي بدأ يصحو ويستيقظ، ولعلي أقول لكم: اجتمع بعض الرسميين المسلمين في الباكستان قبل أسبوع، وأعلنوا أنهم مستعدون لإرسال أكثر من عشرين ألف جندي مسلم إلى البوسنة والهرسك، وبعد ذلك -بيوم واحد فقط- تغيرت اللهجة في أوروبا وكانوا يهددون بسحب قوات الأمم المتحدة من البوسنة فعدلوا عن ذلك، وبدءوا يرسلون قوافل الإغاثة، وبدءوا يتنادون لعمل جاد لحماية المسلمين من عدوان الصرب والكروات عليهم، وبدأت على الأقل اللهجة الرسمية في أوروبا تأخذ مجرى آخر إنهم يخافون أشد الخوف أن يتحرر هذا المارد المسلم من قيوده وأغلاله، وأن يستخدم قواته وإمكانياته مهما ضعفت؛ وحينئذ لن يقوم للغرب قائمة! أقول: إن العالم الإسلامي فيه خير كثير، وخاصة على المستوى الشعبي.
إنني أعرف -أيها الإخوة- أن واحداً من إخواننا من الدعاة إلى الله تعالى؛ جمع للمسلمين في البوسنة والهرسك ما يقارب ثلاثين مليون ريال، وهذا الرقم ليس بالسهل، فلو تصورنا أن عشرة دعاة في هذه البلاد المباركة فعلوا مثل ذلك؛ لكان معنى ذلك أنه تم جمع ما يزيد على ثلاثمائة مليون ريال؛ فإذا تصورنا في بلاد الخليج الغنية الثرية التي أنعم الله عليها بالنفط، وفي العالم الإسلامي كله، لو تصورنا أن مائة داعية جمع كل واحد منهم مثل ذلك، ماذا تكون النتيجة؟! ثلاث مليارات من الريالات لصالح المسلمين في البوسنة، وهذا الرقم الخيالي هو عملياً ممكن وليس بالصعب -حسب ما ذكرت- ولو تحقق هذا الرقم، لكان المسلمون أكثر تقدماً وانتصاراً مما هم عليه الآن.
وإنني أقول بالتأكيد: هذه الانتصارات التي يشهدها المسلمون في البوسنة، ونسمع اليوم بعضاً منها؛ هي -بفضل الله تعالى- ثمرة جهودكم أنتم، وأموالكم أنتم، ومشاركتكم أنتم، وثق ثقة تامة أن الريال أو العشرة أو المائة التي بذلتها وبعثت بها؛ أن الله تعالى قد بارك فيها ونفع، وأنها قد وصلت وبلغت محلها، وأن دعوات المسلمين تنطلق لهم وهم في الثغور، والخنادق، تحت أزيز الرصاص، وتحت وطأة الهجوم العدواني المسلح، وهم في ساعة يرجى فيها الإجابة، يدعون لكل من وقف معهم في محنتهم، ودعوتهم يرجى ألا ترد، فأنتم جزءٌ غير قليل من المشاركين مع إخوانهم في تلك المحنة التاريخية، التي ربما أقول: لم يشهد لها تاريخ أوروبا مثيلاً؛ بل ربما لم يشهد لها التاريخ كله مثيلاً.
وأرجو أن يكون هذا حافزاً للهمم وتحريكاً لها، وشحذاً لأن يساهم الإخوة بمزيد من التبرع ومزيد من المشاركة، وألا يكلُّوا ولا يملُّوا فإن العدو قوي وشرس وشديد، والخطر عظيم، وينبغي أن نحرص على المحافظة على هذه المكتسبات وعلى هذه الانتصارات.(83/16)
قراءة لمقابلة مع الشيخ ابن عثيمين
هذه مقابلة أحببت أن أشرككم معي فيها، وقد نشرت في جريدة المسلمون في عدد (437) وهي مقابلة مع الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وأقرأ أجزاءً من هذه المقابلة؛ لما فيها من فائدة، وفيها إجابة على بعض الأسئلة التي قرأتها وبعث بها بعض الإخوة.(83/17)
وسائل الدعوة
السؤال
هل وسائل الدعوة إلى الله تعالى اجتهادية أم توقيفية؟
الجواب
لا شك أن وسائل الدعوة يقصد بها الوصول إلى الحق، وأعظم ما يدعى به الخلق وأنفعه وأكمله: كتاب الله وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن بعض الناس يفعل أشياء لا يريد أن تكون وسيلة للدعوة، ولكن يريد أن يتألف بها القلوب حتى لا ينفر الشباب.
فمثلاً: يجعل من وسائل التأليف اللعب بالكرة على وجه يكون مبنياً على الحشمة وعلى البعد عن السفاهة، بحيث يكون اللاعبون لا يقصدون إلا الرياضة وتنشيط الجسم مع الستر الكامل، واجتناب اللغو والسب والشتم وما أشبه ذلك، فهو يقول: أنا لا أريد بهذه أن تكون وسيلة دعوة؛ فأنا أعلم أن الوسائل: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن أنا أريد التأليف لكي لا ينفر الناس عن الحضور إلي، وما أشبه ذلك.
فلا أرى في ذلك بأساً، ولا أسميها وسائل دعوة؛ ولكني أسميها: وسائل تأليف القلوب، أي: تأليف القلوب على الدعوة.
انتهى كلام الشيخ وهذا منهاجه.
أسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، وأن ينزل علينا من رحماته وبركاته إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.(83/18)
حكم التسرع في التكفير والتفسيق والتبديع
السؤال
ما رأيكم فيمن يتسرع من الشباب أو غيرهم، في التبديع والتفسيق والتكفير؟
الجواب
هذا حرام لا يجوز، فكما أن التسرع في التحليل والتحريم حرام؛ فإن التسرع في التبديع والتفسيق والتكفير حرام أيضاً؛ فحذار أن يقول المسلم على الله ما لا يعلم؛ فإن الله حرم ذلك، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .
والحكم بتكفير الشخص يتعلق فيه أمران لابد منهما:- الأول: أن نعرف أن الأدلة دلت على أن هذا الذي كفرناه من أجله كُفْر، وكم من الأشياء يظن الإنسان أنها كفر وهي ليست كفراً.
فلابد أن نعلم أن الأدلة دلت على أن هذا الفعل أو هذا القول كفر.
الثاني: أن نعلم أن هذا القائل لهذه المقالة، أو الفاعل لهذا الفعل، لا يعذر بقوله ولا بفعله؛ لأنه قد يقول الإنسان مقالة الكفر فيكون معذوراً إما بجهله وإما بتأويل وإما بحال طرأت عليه، كغضب شديد، أو فرح شديد أو ما أشبه ذلك، ولا تكون الكلمة في حقه كفراً إلى آخر الجواب.(83/19)
نصيحة لمن يتتبع هفوات العلماء وزلاتهم
السؤال
ماذا تقولون لمن يتتبعون أخطاء العلماء وسيئاتهم، ثم يبرزونها ويسكتون عن حسناتهم؛ بدعوى أن هذه الأخطاء في باب العقيدة؟
الجواب
هذا خطأ، فالعقيدة كغيرها من حيث إنه قد يقع فيها الخطأ، أفلم يعلم هؤلاء أن العلماء قد اختلفوا في أبدية النار، هل هي مؤبدة أو غير مؤبدة؟ وهؤلاء من السلف والخلف، وقد اختلفوا في شيء من العقيدة؛ فهل نظهر سيئاتهم؟!.
وكذلك الصراط الذي يوضع على جهنم: هل هو صراط طريق كغيره من الطرق، أو هو أدق من الشعرة وأحد من السيف؟ الذي يوزن يوم القيامة: هل هي الأعمال أم صاحب العمل أم صحائف الأعمال؟ هل رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أم لم يره؟ هل تعاد الروح إلى البدن فيكون العذاب على البدن والروح، أو على الروح وحدها في القبر بعد الدفن؟.
كل هذه مسائل في العقيدة واختلف فيها العلماء؛ فهل نظهر سيئاتهم أو نرفضهم؟!(83/20)
العدل في التقييم
السؤال
ما رأيكم فيمن أراد أن يقيم شخصاً ولا يذكر ما لديه من خير؛ بل يذكر مساوءه فقط؟
الجواب
هذا من الإجحاف والجور؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فنهى الله سبحانه وتعالى أن يحملنا بغض قوم على عدم العدل، بل أمرنا أن نقول العدل، وقد أقر الله تعالى الحق الذي صدر من المشركين، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم الحق الذي صدر من اليهود قال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] فكان الجواب {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28] فأبطل قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] لأنه باطل، وسكت عن قولهم: وجدنا عليها آبائنا؛ لأنه حق.
وجاء حبر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنا نجد في التوراة أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع -وذكر بقية الحديث- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول الحبر وقرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فأقر اليهودي على قول الحق وهو يهودي! فالواجب على من أراد تقييم شخص تقييماً كاملاً -إذا دعت الحاجة- أن يذكر مساوءه ومحاسنه، وإذا كان ممن عرف بالنصح للمسلمين؛ أن يعتذر عما صدر منه من المساوئ، فمثلاً: نحن نرى من العلماء -كـ ابن حجر والنووي وغيرهم- من لهم أخطاء في العقيدة؛ لكنها أخطاء نعلم علم اليقين -فيما نعرف من أحوالهم- أنها صدرت عن اجتهاد، فمثلاً: نجدهم يؤولون قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] إلى آخر ما ذكره الشيخ.(83/21)
كيفية التعامل مع أخطاء العلماء وكتبهم
السؤال
هناك ظاهرة غريبة بين بعض الشباب، وهي أنهم يحرقون كتاب في ظلال القرآن وكذلك كتب ابن حجر مثل فتح الباري وكتب النووي لقولهم: إن لهؤلاء أخطاء في العقيدة؟
الجواب
قد يوجد من الناس من هو أحمق، لا يزن بالقسطاس المستقيم، ولا يعرف للعلماء حقهم، ولا يعرف المصالح أو المنافع التي حصلت من هذا العالم؛ فإذا زل في زلة جعل كل شيء خطأ، فيكون هذا الرجل أشبه ما يكون بمن تحسن إليه مدى الدهر، فإذا أسأت إليه مرة قال: ما رأيت منك خيراً قط.
فالإنسان العاقل يجب أن يعرف للإنسان حقه، أما أن يحرق كتاب فتح الباري فإنا نسأل الله العافية، كأنه أحرق سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكلام العلماء، وأحرق هذا الكنز الثمين للأمة الإسلامية فعلى من فعل مثل ذلك أن يتوب إلى الله تعالى مما صنع، وأن يستغفر الله عز وجل، وإذا كان أحرق كتاباً لغيره فعليه ضمانه، وإن كان كتابه فالخسارة عليه، وكذلك الأمر في الظلال؛ فهو لا شك فيه أخطاء وفيه كلام صحيح؛ فلو أنه تتبع الأخطاء التي يرى أنها أخطاء -كما فعل الشيخ عبد الله الدويش ونبه عليها- وأبقى الكتاب ينتفع بما فيه من الخير، ويحذر مما فيه من شر؛ لكان أولى.(83/22)
كتاب الظلال وعقيدة وحدة الوجود
السؤال
ما رأيكم في كتاب الظلال لـ سيد قطب، فبعض الناس يدعي أن في هذا الكتاب عقيدة وحدة الوجود؟
الجواب
هذه دعوى أن في الكتاب عقيدة وحدة الوجود؛ لأن هذا لو ثبت؛ لكان من أعظم الكفر؛ لكن نقول لهذا القائل المدعي: هات البينة على ما قلت؛ أن هذا الكتاب فيه القول بوحدة الوجود أو تقريرها.
والكتاب على كل حال فيه مباحث جيدة، وقد قرأت بعض المآخذ عليه من بعض العلماء الأفاضل، وهو لا يخلو من أخطاء كأي عمل من أعمال ابن آدم، فقد قال ابن رجب رحمه الله وهو من تلاميذ ابن القيم قال في القواعد الفقهية: يأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، فمن يسلم من الخطأ؟ كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون الرجاعون إلى الحق، والكتاب فيه صواب وفيه خطأ، فنقبل الصواب ونرد الخطأ.(83/23)
صفات الله عز وجل
تحدث الشيخ -شارحاً للعقيدة الواسطية- عن صفة الرؤية وعن آثار الإيمان بأن الله يرى، ثم فسر الآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال، ومثل بقصة عيسى واليهود وقصة صالح وقومه، ثم شرح معاني العفو والمغفرة والقدرة والرحمة، وتكلم عن صفة العزة والبركة، ثم شرع في ذكر ما تنزه عنه الله تبارك وتعالى.(84/1)
صفة الرؤية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله خاتم النبيين وآله وصحبه والتابعين.
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] وقوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] .
في هذه الآيات الكريمات استرسل المصنف رحمه الله تعالى في ذكر الآيات المتعلقة بالرؤية وإثبات الرؤية لله عز وجل والبصر، وأن من أسمائه السميع البصير، ثم عقبها بالآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال وما أشبه ذلك.
فمن الآيات المتعلقة بالرؤية قوله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] وهذه الآية في سورة العلق، وهي خطاب لـ أبي جهل وأمثاله من المشركين، الذين كانوا يمنعون المؤمنين من الصلاة وينهونهم عنها ويتهددونهم بها.
فقال الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9-14] .
وهذا تهديد ظاهر؛ لأن ذكر الرؤية في هذا السياق يوحي بما بعدها من الأخذ بالعذاب في العاجل والآجل، فإن إخبار الكافر أو المنافق بأن الله تعالى يراه، هو تهديد له، أي: إن ما تعمله هو مرئي لنا وأنك محاسب عليه، كما أن إخبار المؤمن أو المجاهد بأن الله تعالى يراه؛ هو تأييد له بأن الله تعالى معه ويراه ومناصره ومجازيه على عمله، فقوله عز وجل لـ أبي جهل هنا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] .
أي: يرى ما يعمل من الاستهزاء بالمؤمنين ومحاربتهم ونهيهم عن الصلاة واضطهادهم على فعلها، وأنه عز وجل سوف يأخذه بهذا العمل؛ ولهذا ختم السورة بقوله: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَة * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:15-18] .(84/2)
انكشاف الخلق لله
قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] هذه الآية من سورة التوبة وهي خطاب للمنافقين، الذين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] فيقول: وقل اعْمَلُوا أي: اعملوا ما شئتم، وعلى أنه خطاب للمنافقين، فهذا الأمر أمر تهديد ووعيد، كما في قوله عز وجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] وكقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} .
فيقول الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فأما رؤية الله عز وجل للعمل، فهي متحققة حال وقوعه، فإنه يقع برؤية من الله عز وجل، ويراه سبحانه حال وقوعه، هذا فضلاً عن علمه بهذا العمل قبل وقوعه، وعلمه به علم تحقق وقوعه بعدما يقع، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يكشف له صنيع هؤلاء، ويريه عملهم ويفضحهم.
وكذلك رؤية المؤمنين لهم في الدنيا بأن يعرفهم الله عز وجل على أعمال هؤلاء المنافقين، وقد يكشف لهم ما خفي من أمرهم؛ كما يحدث كثيراً أن الإنسان قد يستخفي بعمله حيناً من الدهر، ثم يفضحه الله في عقر داره.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وقد جاء في حديث مرفوع وفيه ضعف: {ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه} وهذا مشاهد، فكم من إنسان يخادع ويتستر، لكن الله عز وجل يكشفه للمؤمنين، ويظهر حقيقة عمله، فهذا تحقق رؤية المؤمنين لهذا العمل في الدنيا.
وأما في البرزخ فقد جاء في آثار أيضاً فيها نظر؛ أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الأموات.
وأما في الآخرة: فالأمر حينئذ لا خفاء فيه ولا شك قال الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] فإن العبد يومئذ مكشوف، وكل شيء منه مكشوف، بدءاً ببدنه الذي لا يستره ساتر كما قال صلى الله عليه وسلم: {تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً} وكما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] .
فهو مكشوف الجسد مكشوف السريرة: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:9-10] مكشوف الماضي كله {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وقال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:12-13] .
فيراه الناس ويسمعون ماذا عمل وماذا أخذ وماذا ترك، وأنه شقي أو سعيد، اللهم إلا المؤمن التائب؛ فإن الله تعالى يستره بذنبه حتى إذا وافى يوم القيامة قال الله عز وجل له: كما في حديث النجوى -حديث ابن عمر - {فعلت كذا فعلت كذا، قال: يا رب سترتها عليَّ في الدنيا فاغفرها لي، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه! وأما الكافر أو المنافق فكما أخبر تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فيكون في ذلك فضيحة لهم وكشف لما كانوا يكنون في الدنيا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105] .(84/3)
آثار الإيمان برؤية الله للعبد
وهذا كما سبق في الآية قبلها؛ أن ذكر الرؤية في الخطاب مع المؤمنين هو نوع من التأييد والتطمين لهم، فإنه عز وجل يراك حين تقوم، تراوح بين قدميك بقيامك وركوعك وسجودك ودعائك وتضرعك.
فأنت بمرأى من الله عز وجل؛ ولذلك يكون المؤمن مرتاح النفس عارفاً عالماً أن عمله لا يضيع؛ فإن العبد إذا علم أنه مراقب من قبل الله عز وجل، وأن عمله يَرى من الله تعالى سره ذلك، وهذا من طبيعة البشر؛ أنه إذا رأى من يكبره كشيخه أو والده أو من كلفه بعمل معين، وأمره أن يقوم به على الوجه الأكمل، ثم رأى أنه يطلع على عمله ويتابعه عليه وهو مخلص في ذلك سره هذا، كما هو معروف من طبيعة الإنسان، وجاءت الأديان مؤيدة لهذا الأمر، كون العبد يعمل العمل الصالح فيسره أن يُحمد به، فتلك عاجل بشرى المؤمن.
فكيف إذا علم أن الله عز وجل هو المطلع عليه؟! فلهذا سلى وعزى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى فقال له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:217-218] والله عز وجل يرى نبيه في كل وقت، يراه حين يقوم، وحين ينام أيضاً، وفي الليل، وفي النهار، ويراه في كل حال، ولكنه خص هذا الوقت -وقت القيام- للسبب الذي ذكرت، وهو أن العبد محتاج فيه إلى الصبر والتثبيت؛ فلذلك ذكره الله عز وجل بأنه يراه.
وهذه الرؤية لها ما بعدها، فهو يحب هذا العمل منك ويشكره لك ويثيبك عليه؛ فلهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم ما ذكرته عائشة كما في الصحيح: {أنه قام حتى تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
فقال عليه الصلاة والسلام:- أفلا أكون عبداً شكوراً} .
ولهذا لما عَرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان كما في حديث جبريل المشهور قال: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} أي: أنت بين أمرين: أن تعبد الله كأنك تراه وتنظر إليه، فحينئذٍ تصلح من عبادتك وتحسن من حالك ولا تألو ولا تمل، لكن إن لم يصل لك هذا ولم تستطعه؛ فإنه يراك أي: تذكرَّ أن الله عز وجل يراك، وتذكر العبد لرؤية الله عز وجل تحدث نشاط القلب واندفاع الهمة والدأب على العبادة والجلد عليها، فهذا من معاني قوله عز وجل: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218-220] .
وفي الآية إثبات الرؤية لله جل وعلا وأنه يرى كل شيء، ولا يحجب رؤيته شيء من ظلام أو سهل أو جبل أو بر أو بحر أو غيره، وفيها أن من أسمائه عز وجل: السميع العليم.(84/4)
عظمة بصر الله
وفي الآية إثبات الرؤية لله عز وجل، وأنه يرى كل مرئي سبحانه، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم {: إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهو عز وجل يرى كل شيء، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، لا يحجب بصره جبل ولا مرتفع ولا منحدر ولا شيء، بل الخلق كلهم بمرأى منه عز وجل: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] .
وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالتوكل عليه، فيقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220] فأمر الله عز وجل نبيه بالتوكل عليه وحده دون سواه والانقطاع إليه، ووصف عز وجل نفسه بقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218] أي: حين تقوم ليلك للعبادة والتهجد، فالله تعالى يراك.(84/5)
الآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال
انتقل المصنف رحمه الله إلى نوع آخر من الآيات الكريمات المتعلقة بالمكر والكيد والمحال، والمحال: اختلفت عبارة السلف في تعريفه، فقال بعضهم: البطش، وقال بعضهم: الكيد والمكر، وهذا هو المتبادر، أي: شديد المكر والكيد بأعدائه.
ومكره عز وجل وكيده بأعدائه يأخذ صوراً شتى؛ فإنه عز وجل يوصف بهذا وصفاً مقيداً لا وصفاً مطلقاً، مثل المحال والكيد والمكر، فهذه يوصف الله تعالى بها وصفاً مقيداً، فيقال: يمكر بأعدائه، أو يمكر بمن يمكر به، أو يمكر بمن يمكر بالمؤمنين، وما أشبه هذا، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً؛ لأن هذا ليس من الأسماء الحسنى، ولا من الصفات العلى التي يوصف بها بإطلاق، كالكرم والقوة والعزة وما أشبه ذلك، بل هذا يحمد في حال ويذم في حال؛ ولهذا لا يوصف الله عز وجل به على سبيل الإطلاق، وليس من الأسماء الحسنى.
وكذلك لا يشتق له عز وجل منها اسم ولا صفة مطلقاً، فلا يقال من أسمائه الماكر مثلاً ولا الكائد، بل حتى الأشياء التي ليست مدحاً محضاً ولم ترد في الكتاب والسنة، فإنه لا يسمى بها، فلم يرد -مثلاً- في أسمائه عز وجل أنه المتكلم ولم يرد في أسمائه المريد، وإن كان متكلماً يتكلم متى شاء عز وجل بما شاء، وإن كان فعالاً لما يريد، يريد ما شاء ويفعل ما يريد، ولكنه لم يرد وصفه بذلك في الكتاب والسنة.
وأشد من ذلك: الكيد والمحال والمكر، فإن الله عز وجل لا يوصف بها وصفاً مطلقاً، وكذلك لا يشتق له منها اسم، فلا تقول من أسمائه الماكر أو الكائد؛ لأن المكر منه حسن وقبيح، ومنه محمود ومنه مذموم، فأما المكر بالماكرين من الكافرين والمستهزئين والفجار وأشباههم فهو محمود، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن نفسه، وأما ما سوى ذلك فهو مذموم.
ولهذا لم يرد المكر والكيد وما أشبههما في الكتاب إلا مقيدة، ولهذا قال الله عز وجل هاهنا: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] في سياق صنيعه عز وجل بأعدائه وأعداء رسله، أي أنه شديد المكر والكيد بهم.
ومن مكره بهم جل وعلا وكيده لهم: أنه يستدرجهم قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] ويملي لهم {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] حتى إذا أخذهم أخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وكما قال: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] .
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} وكما قال سبحانه في غير موضع: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183] وكما قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، التي ذكر الله عز وجل فيها أنواعاً من كيده ومكره بأعدائه ومحاله بهم، أنه يماحلهم ويمكر ويكيد بهم عز وجل؛ لكفرهم وعتوهم وفسادهم ومناوءتهم لأنبيائه ورسله والصالحين من عباده.(84/6)
قصة صالح وقومه
قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] أيضاً لها سياق، وهو في قصة قوم صالح: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49] أي: نقتله ونقتل أهله في الليل بياتاً {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49] أي: ليس عندنا خبر عن الموضوع.
هذه خطة وهذا مكر البشر الضعيف الهزيل، يستسهل بالأمر فيفضحه الله عز وجل، يخطط لشيء فيحبط الله خطته وما سعى إليه.
فهذا مكرهم؛ أنهم يقتلونه ثم ينكرون ذلك، فقال الله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] مكرهم كبير، لكن مكر رب العالمين أكبر {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:51-52] .
هذا هو الفرق بين مكر الله ومكر العباد هم قد خططوا واجتمعوا بالليل سراً وتقاولوا واتفقوا على قتل النبي وقتل من معه وإنكار ذلك وجحوده، لكنه ما تم ولم يستمر، انظر كيف كان عاقبة مكرهم! لكن مكر رب العالمين ظهرت آثاره: أنا دمرناهم وقومهم أجمعين.
ولذلك قد يخطط العبد الخطط، وقد كتب الله عز وجل أن يقبض روحه قبل أن توضع هذه الخطة موضع التنفيذ، وقد تخطط أمة من الأمم وقد كتب الله عليها الانهيار قبل أن تحقق ما تريد، وقد يشتغل قوم وقد كتب الله لهم الخسف أو الزلزال أو المسخ أو الريح العاصف أو الطوفان أو الفيضان أو الغرق وهم لا يشعرون قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] .
فالخلاصة: أن معنى هذه الآيات كما في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل:50] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ) [آل عمران:54] ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] أن الله عز وجل يوصف بالمكر وصفاً مقيداً، أنه يمكر بأعدائه، يمكر بالماكرين، يمكر بالكافرين، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً.
وكذلك قوله عز وجل: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] ومثله قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] فهو يثبت الكيد لله عز وجل بمن يكيد لرسله وأنبيائه وأوليائه والصالحين من عباده.
ويكيد أيضاً للصالحين، بمعنى: أنه يصنع لهم صنعاً خفياً مما تكون فيه نجاتهم.
ولعل من الآيات التي ذكرتْ ذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] فإن الكيد هو التدبير اللطيف الخفي، الذي قد لا يدركه الإنسان، فكذلك الله تعالى كاد ليوسف، بمعنى: أنه كاد كيداً له لمصلحته ولخيره، فكان يقع ليوسف عليه السلام كثير من الأمور التي يظنها الناس شراً، مثل ترك إخوته وإلقائهم له في الجب، ومضايقته وبيعه، وكونه في قصر العزيز، ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه، وسجنه إلى غير ذلك، ثم تبين أن هذا كله كان من تدبير الله عز وجل التدبير اللطيف الخفي ليوسف عليه الصلاة والسلام.(84/7)
عظات وعبر
وفي الآية عبرة وأي عبرة أيها الإخوة! أن أعداء الدين يخططون ولا يألون جهداً؛ لأن المكر بالنسبة لهم دقة التخطيط، فيخططون وينتبهون لكل دقيق وجليل، ويضعون أعينهم ويرتبون، ويحسبون لكل شيء حسابه، هذا مكرهم هم، مكر البشر مكر الإنسان، مكر الليل والنهار، ولكن قارن مكرهم بمكر رب العالمين: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] .
والآية التي قبلها في المكر: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فهؤلاء مكروا، والله عز وجل مكر بهم، كما قال الله عز وجل: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] مكرهم ليس بالسهل بل هو عظيم! ونحن نرى اليوم مكر الكافرين وكيدهم، شيء تشيب منه الرءوس، يشتغلون وَيَصِلُون الليل بالنهار؛ في التخطيط للمسلمين والإيقاع بهم وحصرهم وأخذهم في الضحى من النهار، وهكذا خيل إليهم وظنوا أن الأمور قد استحكمت بأيديهم، وأنه لا أحد ينافسهم ولا يهيجهم ولا يغير من سلطانهم، لكنهم نسوا الأمر الثاني.
أما نحن المؤمنين فلا يمكن أن ننسى هذا، وإلا فسوف نفضي إلى اليأس، لا ننسى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] ولا ننسى {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] فالقرب من الكفار واليهود والنصارى لا يعتقدون قضية مكر رب العالمين.
بل هم يعتقدون أن كل الأمور بأيديهم، وأن القوة بأيديهم والتخطيط لهم، وأجهزة أمنهم ومخابراتهم وقواهم ومباحثهم وجهودهم ودراساتهم ومراكز أبحاثهم مهيمنة، وأن الأمر قد استوثق في أيديهم واستتب لهم، لماذا؟ لأنهم كما أخبر الله عز وجل لا يشعرون.
ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام تربى في بيت فرعون، فهذا من عدم شعورهم؛ لأن فرعون يمكر بالمؤمنين، ويقتل بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، كما هو معروف، فهذا هو مكره، وهو مكر البشر الضعيف الهزيل، لكن مكر رب العالمين عظيم فقد كتب الله هلاك فرعون على يد موسى الذي تربى في حجره، وعلى يد زوجته، وفي قصره، ويأكل من نعمه: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] .
فالمؤمن دائماً يضع هذا في حسابه؛ لأن حسابات البشر تخطئ، وتنتبه لأمر وتنسى مائة، والله عز وجل هو الرقيب والمحيط المطلع على كل شيء ولهذا يضيع مكرهم أدراج الرياح، ويحبط الله عز وجل صنيعهم وما يسعون ويخططون له.(84/8)
قصة عيسى واليهود
قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] هذا جاء في سياق اليهود وكيدهم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك -كما هو معروف في الروايات الإسرائيلية- أنهم أرادوا قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، فدخل بيتاً فدخل وراءه أحد الخونة من أتباعه ليدل اليهود عليه، فرفع الله عيسى إليه فلم يجده هذا الرجل، ثم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل من أتباعه، فخرج فقال: ما وجدت في البيت أحداً، فشبه لهم فظنوه عيسى فقتلوه.
فلاحظ أولاً كيف وقى الله عز وجل نبيه ورسوله من كيدهم بل رفعه الله إليه، كما قال عز وجل عن اليهود {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157-158] وقال في الآية الأخرى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] فألقي الشبه على ذلك الرجل فقتلوه.
فانظر كيف وقى الله نبيه منهم، وانظر كيف مكر الله عز وجل بهذا الخائن، فألقى عليه شبه عيسى، فدارت الدائرة عليه ووقع السيف في رقبته، فظن اليهود أنهم قتلوا عيسى.
ولذلك ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان حكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، وتخرج خيراتها الأرض في زمنه.
وخروج عيسى عليه السلام متواتر في الآيات والأحاديث، وذكره الله تعالى في مواضع من كتابه كما في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] وفي قراءة {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] بفتح العين واللام في كلمة (لَعَلَمٌ) وكما في قوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159] .
وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها حديث في الصحيحين، وساق ابن كثير في سورة المائدة طائفة كثيرة منها، وهي أحاديث تبلغ مبلغ التواتر؛ ولذلك كان الإيمان بنزوله من أصول عقائد أهل السنة والجماعة.
وكأن نزوله عليه الصلاة والسلام -والله تعالى أعلم- مربوط بخدعة أخرى من خدع اليهود مثل التي حصلت أول مرة حين رفع، فإن رفعه كان مكراً من الله عز وجل باليهود والنصارى الذين أرادوا قتله، فكذلك نزوله هو أيضاً مكر بهم.
ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحصل بين عيسى وبين الدجال، والدجال هو زعيم من زعماء اليهود، يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، ويسيح في الأرض، ويتبعه الفساق والكفار والمنافقون من كل مكان.
فبعد حيلة من حيل اليهود وارتفاع من شأنهم؛ ينزل عيسى مرة أخرى ليقطع الله به دابرهم ودابر إخوانهم من النصارى، والأمر أقرب ما يكون، فهذا معنى قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] .(84/9)
العفو والقدرة والمغفرة
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149] في هذه الآيات الكريمات التي سردها المصنف رحمه الله تعالى، لا يزال في مجال إثبات مجموعة من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى اللائقة بعظمته وجلاله، مثل صفة العفو والقدرة والعزة والجلال ونحوها مما جاء إثباته في القرآن الكريم.
وقد ساق رحمه الله تعالى هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149] فالمعنى: أن الله عز وجل يوصي عباده في هذه الآية العظيمة بالعفو عند المقدرة، وهذا من فضائل الصالحين وأصحاب المروءة، أنهم يعفون عند قدرتهم على الشيء، فإذا أساء إليهم أحد بقول أو فعل مروا به مرور الكرام وأعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
ولم يؤاخذوهم بما صدر منهم من قول أو فعل؛ إيثاراً للصبر ولما عند الله عز وجل؛ فإنهم يعلمون أن ما عند الله عز وجل خير وأبقى.
ولذلك لا يستجيبون لدوافع النفس التي تدعو إلى الغضب للذات والانتصار للنفس، بل تجد أحدهم يغضب لله عز وجل، فإذا انتهكت حرمات الله غضب وزمجر وانتصر لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، لكن إذا تعرض له أحد بشخصه بقول أو فعل، فإنه يمر به مرور الكرام ولا يلتفت إليه ولا يغضب له، على النقيض من حال كثير من الناس في هذا الوقت -نسأل الله العفو والمسامحة- فإن أكثرهم يغضب لنفسه أكثر مما يغضب لربه ودينه، فإذا سمع من ينال منه أو يشتمه أو يسبه، أو يتكلم في نسبه أو أحد أقاربه أو أسرته أو عائلته، غضب غضباً لا يقوم له شيء، واستخدم وسائل الإنكار الثلاث: اليد واللسان والقلب بحسب الإمكان! لكن قد يسمع هذا الشخص أو غيره يسب الله تعالى، أو يسب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يسب الإسلام، فلا يغضب كغضبه ذاك، ولا يستخدم وسائل الإنكار كما استخدمها في المرة الأولى.
ولا شك أن الجدير بالمسلم أن يكون غضبه لله عز وجل لا لنفسه، فيؤثر الإعراض عمن تعرض لذاته أو شخصه ما لم يكن في ذلك مذلة للإسلام، ولكنه لا يطيق الصبر والسكوت على من يتعرضون لدينه، فالله عز وجل يوصي عباده بالصبر والإعراض والعفو عن السوء الذي يصيبهم من الناس، ويختم الآية بذكر اسمين من أسمائه عز وجل وهما: العفو، والقدير.(84/10)
تعريف الغفور
والغفور: مأخوذ من الغفر، وهو يأتي في اللغة أيضاً بمعنى الستر والتغطية، فكونه عز وجل غفور، من دلالاته ومعانيه أنه يستر ذنوب عباده ويمحوها عنهم، فلا يؤاخذهم بها في الدنيا، ولا يعذبهم بها في الآخرة، ولا يفضحهم بها على رءوس الخلائق، ولهذا كان من المناسب جداً في الدعاء؛ أن العبد إذا أراد أن يدعو بمحو ذنوبه أن ينادي الله تعالى باسمه الغفور، فيقول: يا غفورُ اغفرلي.(84/11)
تعريف الرحيم
وأما الرحيم: فهو اسمه جل وعلا وهو من صفة الرحمة، والرحمة صفة له تليق بجلاله، وليست هذه الصفة ولا غيرها مما يشابه حال المخلوقين أو يماثلهم، فإن الرحمة في المخلوق ضعف وانكسار ورقة قلب، أما الرحمة منه جل وعلا فهي صفة تليق بجلاله، بمقتضاها يعفو عن المخطئين، ويرحم عباده ويتجاوز عنهم ويدخلهم جنته، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؛ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} فهم يدخلون الجنة برحمته جل وعلا، والله غفور رحيم.(84/12)
تعريف العفو
والعفو: هو في الأصل من عفا يعفو، وهو يعني عند العرب زوال الشيء، كما يقال: عفت الديار، أي: زالت عن أماكنها وتهدمت ولم تبق على حالها.
والمقصود به في حق الله جل وعلا: أنه يسامح عباده، ولا يؤاخذهم بما يصدر منهم، بل يعاملهم برحمته وفضله، فمن أسمائه (العَفُوُّ) لمن يستحق العفو.(84/13)
طلب المؤمنين: العفو من الله
ولذلك كان العفو من أعظم مطالب المؤمنين، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويأمر أصحابه أن يدعوا بذلك.
فكان يسأل الله تعالى العفو والعافية، كما في دعائه عليه الصلاة والسلام المحفوظ: {اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي} وكما كان في وصيته لـ عائشة رضي الله عنها لما سألته: {إن علمتُ ليلةَ القدر أي ليلة هي، ما أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} .
وقد ذكر الله تعالى العفو في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم، وأنه يعفو عن عباده، وعفا عن طائفة كبيرة منهم ممن تاب إليه وأناب، وأن العفو من صفاته والعَفُوَّ من أسمائه.
وأما القدرة فلعله سبق الإشارة إليها، وأن من أسمائه (القدير) والقدرة من صفاته فهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
والمعنى: أن الله تعالى مع قدرته -وهو السر في جمع الاسمين والله أعلم- أن الله مع قدرته على أخذ الظالمين والانتصار منهم وإنزال العقوبة بهم إلا أنه لا يعاجلهم بالعقوبة بل يمهلهم، وقد يعفو عنهم أو عن بعضهم، يعفو عمن يشاء والعفو عنهم برحمته وفضله جل وعلا، ففي هذه الآيات إثبات صفة العفو والقدرة وإثبات اسم (العفو) و (القدير) .(84/14)
قصة أبي بكر مع مسطح
وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] وهذه الآية هي في سورة النور، وقد نزلت في سياق حديث الإفك وما تلاه من آثار، حيث إن أبا بكر رضي الله عنه، كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته وهجرته وفقره، فكان قد ضمه إليه ينفق عليه، فلما صار حديث الإفك وكان مسطح ممن وقع فيه وأشاعه وأذاعه وتكلم فيه، فلما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها؛ حلف أبو بكر رضي الله عنه أنه لا ينفق على مسطح بن أثاثة شيئاً، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُواْ الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور:22] .
وقوله: "ولا يأتل" أي: لا يحلف، وأولوا الفضل والسعة أي: أولوا المال الوفير والفضل الواسع والكرم والجود، وعلى رأسهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإن الله أثنى عليه في غير موضع، منها هذا الموضع، ومنها قوله عز وجل في آخر سورة الليل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19-21] .
حتى ذكر بعض المفسرين الإجماع على أن هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه، فأثنى الله تعالى عليه بأنه من أولي الفضل والسعة، ونهاه وأمثاله من الفضلاء الذين وسع الله عليهم أن يحلفوا على ألا يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، أي: كـ مسطح بن أثاثة وغيره، وفي هذا دليل كبير على أن الإنسان لا ينبغي له أن يبخس أحداً حقه لخطأ وقع فيه.
ولهذا وصف الله عز وجل هؤلاء بأنهم من المهاجرين في سبيل الله، فلم تحبط هجرتهم لأن بعضهم وقع فيما وقع فيه من حديث الإفك أو غيره، بل وصفهم الله تعالى في القرآن بأنهم من المهاجرين في سبيل الله وأمر بالعفو عنهم، وباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم.
فهكذا الداعية وطالب العلم يحرص أبداً على أن ينزل الناس منازلهم، وألا يكون مثل صاحب جور، إن مدح أسرف وإن ذم أسرف، وإن حصل من أحد زلة أنسته كل محاسنه، كلا! بل يحرص على أن يكون صاحب ميزان وقسطاس مستقيم، يعرف للناس حقوقهم، وإن زل منهم من زل أو أخطأ من أخطأ، إلا أنه يضع كل شيء في موضعه، فلا يحمله الغضب من خطأ فلان على أن يظلمه أو يجور عليه، فينسى فضائله ومحاسنه وأعماله، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم لو ذهبنا نستقصيه.
وأمر عز وجل بالعفو والصفح: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] أي: ينسوا ما صدر منهم أو يتناسوا ما صدر منهم من خطأ ويصفحوا عنهم فيه ويسامحوهم، وحرض الله عز وجل على ذلك أتم التحريض بقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] ولهذا لما سمع أبو بكر رضي الله عنه قال: [[بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي]] .
وأعاد ما كان ينفق على مسطح رضي الله عنهم أجمعين، وذلك لقوة الحث والتحضيض في هذه الآية على الإنفاق في سبيل الله بقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] ومن الذي لا يحب أن يغفر الله له؟ إذاً فليسامح الناس عما صدر منهم في حقه وليعف عنهم ويصفح.
{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] فهذه من أسمائه عز وجل.(84/15)
صفة العزة
وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] في هذه الآية إثبات صفة العزة له سبحانه وتعالى، والاسم منها العزيز، وهو من أسمائه الحسنى أيضاً الثابتة في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3] كما أن الصفة نفسها بلفظ العزة ثابتة في مواضع عدة في الكتاب والسنة منها هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
وهذه الآية جاءت في مجال كشف المنافقين كـ عبد الله بن أبي بن سلول وغيره، ممن قالوا في غزوة بني المصطلق: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] فعدوا أنفسهم أعزة وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه أذلاء، وهددوا بإخراجهم من المدينة، فقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] فالعزة هي من الله تعالى وإليه، فهو العزيز، ومن لاذ بجانبه فهو العزيز أيضاً، ولهذا قال: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:65] .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أصابه وجع فليضع يده على موضع الوجع، وليقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر} وهذا في الصحيح، وكذلك من دعائه صلى الله عليه وسلم: {أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، أعوذ بعزتك أن تضلني} ومثل ذلك كثير معروف، فالعزة من صفاته، والعزيز من أسمائه.(84/16)
معاني العزة
والعزة تحتمل عدة معاني: منها الغلبة، تقول: عز فلان فلاناً، أي: غلبه، سواء أكانت الغلبة بالحجة أم كانت الغلبة بالقوة، ولعل منه قوله تعالى على لسان دواد عليه السلام: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] فقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] أي: غلبني بالحجة، فالغلبة من معاني العزة.
ومن معاني العزة: القوة والصلابة، كما يقول العرب: هذه الأرض عزاز -وهذا مستخدم حتى عند العامة- أي: أرض قوية صلبة، وليست أرضاً رمليةً رخوةً، فمن معاني العزة: القوة.
ومن معاني العزة: العلو، سواء أكان علو القدر أم علو القهر أم علو الذات، وكل هذه ثابتة لله تعالى.(84/17)
عزة المؤمنين
ومن عزته جل وعلا يستمد المؤمنون عزتهم، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولهذا لا تجد المؤمن الصادق إلا عزيزاً بإيمانه، حتى لو كان فقيراً أو ضعيفاً في نفسه، وما تلك المواقف الشجاعة القوية المحفوظة للمؤمنين من العلماء والمجاهدين والدعاة المخلصين؛ إلا آيةٌ على عزتهم، وأنهم يقولون: هذا الرأس الذي يطأطئ لله رب العالمين لا يمكن أن يطأطئ لغيره بحال من الأحوال، وهذا القلب الذي يتعبد لله لا يمكن أن يدين بالعبودية لغيره، وهذا اللسان الذي يلهج بذكره تعالى لا يمكن أن يستخدم في القيل والقال، والإطراء الذي لا حاجة إليه، والمبالغات التي تمتعر منها النفوس السليمة.
وهكذا يكون المؤمن عزيزاً في قوله وفعله ومواقفه؛ عزةً لا تجعله ذليلاً مهيناً، وهي عزة أيضاً معتدلة لا تفضي بالمؤمن إلى نوع من العلو والاستكبار والتعاظم، بل هو متواضع في نفسه، ولكنه إذا أريد على إذلال نفسه أو إهانتها؛ فإنه يغضب ويزمجر كما يزمجر الأسد، ولا يرضى لنفسه الدنية في دينه، حتى ولو كان فقيراً، ولو كان ضعيفاً، ولو كان معدماً لا يملك شيئاً، ولو كان أسيراً، ولو كان مهزوماً، ولو كان مريضاً؛ فإن العزة جزء من دينه لا يتجزأ.
ومن يوم أن فقد المسلمون هذا الشعور بالعزة، أصبحت أمم الأرض كلها تعبث بهم كما تشاء، فلا بد من بعث العزة في نفوس المؤمنين وإثارة الحمية الدينية في قلوبهم.
وقوله عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] هذه كالآيات التي قبلها في إثبات العزة والاعتراف بها حتى على لسان عدو الله إبليس؛ فإنه أقسم بعزة الله جل وعلا على ما أراد {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ففيه إثبات العزة لله عز وجل والاعتراف بها، حتى على لسان مردة الشياطين وعلى رأسهم إبليس اللعين.
وبالمناسبة: فإن القسم بالله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته جائز، فيجوز أن يقسم الإنسان بعزة الله تعالى على شيء، فيقول: بلى وعزة ربنا، أو لا وعزة ربنا، أو ما أشبه ذلك، أو بغيرها من أسمائه أو صفاته.(84/18)
صفة البركة
وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:78] تبارك: مأخوذ من البرَكََة، و (البركة) هي الخير الكثير الثابت المستقر، ومنه قالت العرب للماء الكثير المجتمع: البِرْكَة؛ لأنه ماء مستقر في مكانه لا يتجاوزه، فالبَرَكَة هي الخير الكثير الثابت المستقر، ومنه يقال برك البعير إذا استقر في مكانه وقعد، وهذا اللفظ في قوله: "تبارك" لم يأت إلا في حق الله تبارك وتعالى، كما في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:78] {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزخرف:85] وفي مواضع كثيرة جداً في القرآن الكريم.(84/19)
اختصاص "تبارك" بالله
ولذلك نص جماعة من أهل العلم كما ذكر ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد": أنه لا يجوز إطلاق هذا اللفظ على غير الله جل وعلا، فلا يجوز أن تقول مثلاً: تبارك فلان، ولا يجوز أن تقول: تباركت الدار، وإن كان هذا موجوداً عند العامة، فإذا جاءهم أحد في البيت قال أحدهم: البيت يتبارك بدخولك يا فلان، أو السيارة تباركت بركوبك فيها، من باب الكلام الطيب والمجاملات -لا أقول أنه طيب لأنه ممنوع- لكن من باب المجاملات التي يتداولونها فيما بينهم، وإذا كثر الشيء عندهم وطال، قالوا: تبارك هذا الشيء من الطعام أو غيره، وقالوا: هذا الطعام -ما شاء الله- تبارك.
وأصلاً تبارك؛ تعني أن البركة من عنده هو، أما إذا كانت البركة من غيره -كما هي الحال بالنسبة للطعام أو الدار أو السيارة أو سواها- فإنه لا يقال: تبارك، ولكن يقال: بورك فيه: لأن البركة ليست من عنده وإنما هي من عند الله تعالى، ولهذا لا يقال: تبارك الشيء، إنما يقال: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] .
وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:78] هذا ثناء على الله تعالى وعلى اسمه الكريم بالجلال والعظمة والكبرياء والإكرام، الذي هو تنزهه جل وعلا عن كل صفة من صفات النقص والعيب، أو تكريمه تعالى للطائعين في الدنيا بالسعادة، وفي الآخرة برضوانه والجنة، فهو عز وجل كريم، ومن صفاته الكرم والإكرام أيضاً، فهو يكرم عباده دنياً وأخرى متى أطاعوه والتزموا أمره.(84/20)
ما تنزه الله عنه
وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] هنا بدأ المصنف رحمه الله في ذكر بعض الأشياء المنفية عن الله تعالى، والتي يسميها العلماء: السلوب، أي: جمع سلب، والسلب: هو النفي الذي هو ضد الإثبات، ولهذا من أهل البدع من لا يصفون الله تعالى إلا بالسلوب، أي: بالنفي، نفي النقائص، فلا يثبتون شيئاً إنما ينفون النقص، فيقولون: إنه تعالى ليس كذا وليس كذا ولا شك أن الأصل الإثبات وليس النفي، وإنما يكون النفي لأسباب معلومة: كما إذا تبادر إلى ذهن بعض الناس معنى غير لائق فإنه ينفى، أو ادعى آخرون صفة نقص لله جل وعلا فإنها تنفى؛ ولهذا جاء النفي في مواضع معلومة محددة لسبب معلوم محدد أيضاً.(84/21)
نفي السمي عن الله
ومن ذلك قوله جل وعلا: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وهذه الآية في سورة مريم، وفيها أمر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ بأن يعبد ربه ويصبر على عبادته: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] ثم قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وهذا سؤال واستفهام، ما هو المقصود من هذا الاستفهام؟ المقصود منه الإنكار، فهو استفهام إنكاري، استفهام بمعنى النفي أي: لا سمي له.
والسمي يحتمل أكثر من معنى، فيحتمل أن يكون المقصود: أنه ليس له من يماثله في اسمه حقيقة، وهذا لا شك فيها؛ فإن الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وإن وجد من المخلوقين من يسمى ببعض أسمائه جل وعلا؛ فإن الفرق بين الاسمين مما لا يحتاج إلى بيان، فهو كالفرق بين المخلوق والخالق، ليس بينهما تماثل ولا تقارب إلا في أصل المعنى.
فمثلاً: إذا وصف العبد بالكرم، ووصف الله تعالى بالكرم، فالعبد قد يوصف بأنه كريم فيقال: فلان كريم، والله تعالى كريم، فأي تماثل أو تشابه بين هاتين الصفتين، أما كرم العبد فهو أنه قد يعطي من ماله، وهذا المال الذي عنده إنما هو في الحقيقة من مال الله قال الله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور:33] وقد يعطي الدرهم أو الدرهمين أو الدينار أو الدينارين، فإن كان بالغاً في الكرم مبلغه تخلى عن ماله، وهذا لا يحصل إلا للنوادر الذين يتحدث عنهم في التاريخ.
أما الله جل وعلا فإن كرمه شامل للدارين، وكل كرم في المخلوقين فهو من كرمه سبحانه وتعالى، فإنه هو الذي جَبَلَ عباده على هذه الصفات، وهو الذي أعطاهم ما يجودون به على الناس.
والحمد لله رب العالمين.(84/22)
رسالة من وراء القضبان
الإصلاح قضية أمة بأكملها لا فئة معينة أو أفراد مخصوصين، والعلماء هم من ينادي بالإصلاح ولكن قد يسجنون بسبب ذلك، وهذه رسالة إلى الأمة من وراء القضبان تبين القضية وتجلي متعلقاتها، وما هو الغرض منها.(85/1)
طريق الدعوة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينة ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: فهذه رسالة من وراء القضبان لكل من يريد أن يعرف قضية الدعاة والدعوة إلى الله عز وجل.(85/2)
حملة اعتقالات للدعاة
أيها الأحبة: لقد حدثت -كما تسامع الكثيرون- حملات متعددة من الاعتقالات كان آخرها في غضون هذا الأسبوع شملت مجموعة من الدكاترة والمشايخ والفضلاء، كان من آخرهم فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، وفضيلة الدكتور عبد الله بن حامد الحامد، والدكتور محسن العواجي، وغيرهم من طلبة العلم والشباب، وقد أكون فرداً صغيراً ضمن هذه القافلة المباركة إن شاء الله تعالى.
وحقيقة يعلم الله أني لا أكره مشاركتهم ولا مشاركة غيرهم في هذا الشرف الذي نتوج به رءوسنا وجباهنا؛ لأنني كلما اعتقل شاب من أبناء هذه البلاد المباركة صغيراً أو كبيراً بغير جرمٍ اقترفه، أو ذنب فعله، شعرت وأنا عاجز عن أن أعمل له شيئاً -لأنه ليس هناك مجال للصوت ولا للكلام- شعرت بتوبيخ يجعلني أتمنى أن يكون الأمر علي دون أن يكون على غيري، وأكون في موقف المتفرج عليهم.
ولذلك فإن مثل هذا العمل يدفع عني وعن أمثالي من الإخوة الدعاة والمصلحين إحراجاً كبيراً نواجهه أمام جموع الشباب وغيرهم ممن قد يظنون أننا نتخلى عن قضيتهم، أو أنهم يذهبون بها ويتلقون بعض الأذى، أما نحن فآمنون سالمون في أولادنا وأهلنا، فنحن نقول لهم: نحن معكم في السراء والضراء، ويجب أن نكون قبلكم في كل أمر تتعرضون له أو يتعرض له غيركم، هذا فضلاً عما يعلمه الجميع من أنه منذ فترة ليست بالقصيرة كنا تحت طائلة من الإجراءات الظالمة التي شملت الفصل عن الأعمال، والمنع من الدروس والمحاضرات والخطب والندوات والتسجيلات، وغيرها من الأشياء التي هي مجال الدعوة إلى الله تعالى ووسيلة مخاطبة الناس بما يعتقد الإنسان ويدين.
إن مثل هذه الأشياء التي حدثت كلها لا نعدها شيئاً يذكر بالقياس إلى هذا الطريق الذي سلكناه، والكثير من الإخوة يقدمون أحياناً لوناً من التعزية أو التصبير أو التثبيت، وقد جاءني مرة أحد الشباب من إحدى المناطق -ربما قطع أكثر من خمسمائة كيلو متر- وقال لي: ما أتيت إلا لأقرأ عليك حديث ابن عباس رضي الله عنه: {يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ثم خرج من عندي ومضى لحال سبيله، ولقد كان لهذه الكلمات وقع عظيم حتى كأني أسمعها لأول مرة؛ لأنني سمعتها من إنسان مخلص يتكلم قلبه قبل أن يبين لسانه.(85/3)
استصغار البلاء واستعظام الحيلولة دون الدعوة
ولكنني أقول لجميع هؤلاء الإخوة: ماذا لقينا أصلاً حتى يطلب منا أن نصبر أو نحتسب؟ فالواقع أن كل ما حصل مهما كان في نظر الناس كبيراً فإنه لا يعنينا في جانبه الشخصي، فلا يعنينا -مثلاً- أن يقطع راتب الإنسان لأن الرزق من عند الله تعالى، ولا يعنينا أن يمنع الإنسان من العمل فإن مجال الدعوة إلى الله واسع رحب لا يتوقف على مجال بعينه ولا على طريق بذاته، اللهم -لا شك- أن الحيلولة بين الإنسان وبين الدعوة، بين الإنسان ومخاطبة الأمة بما يعتقد في قلبه وما يدين، أن الإنسان يرى أن ترك ذلك وأن السكوت عليه خيانة للأمانة التي حملها، بل وخيانة للأمة التي تنتظر من دعاتها، بل من جميع أفرادها حتى ولو كانوا أفراداً عاديين؛ أن يقولوا كلمة الحق، وأن يصدقوا الله تعالى ويبصروا الناس بما يعرفون، كل بحسب وسعه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.
فلا شك أن الحيلولة بين الإنسان والدعوة هو أمر خطير، ولا يمكن السكوت عنه، أو الصبر عليه، أما ما عدا ذلك فهو هين يسير، ماذا خسرنا باستثناء قضية الدعوة؟ في الواقع أن الإنسان ما خسر إلا كما قال لي أحد الإخوة: حبوب البندول التي كان يتعاطاها بسبب تعب العمل وعنائه ولأوائه، ثم بعد ذلك ارتاح، فإن كان من أهل العبادة فبعد صلاة الفجر قراءة قرآن حتى ترتفع الشمس، ثم صلاة ركعتين، ثم يقبل على أمر الدنيا، وهذا هو الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الدعاة حتى كان ابن تيمية يفعل ذلك ويقول: هذه ضحوتي لو لم أتغدها لم تحملني قواي أو لم تحملني رجلاي، فإن لم يكن منهم وكان من البطالين الكسالى فبعد صلاة الفجر يقبل على عمل، أو راحة، أو ما أشبه ذلك من الأمور، ثم إن الإنسان يرى من الناس من الحفاوة، إن ذهب إلى سوقٍ أو مطارٍ أو مدرسةٍ أو مؤسسةٍ شيئاً يخشى أن يكون أجره عُجِّل له في هذه الدنيا، وألا يكون له عند الله شيء، ويخشى أن يكون هذا من الاستدراج، ويشهد الله تعالى أننا نخشى من ذلك على أنفسنا لما نراه من حرص الإخوان والأحبة بل وسائر الناس على تقديم ما يستطيعون؛ مع أننا نعتقد وندين على أننا لا نستحق ذلك ولا شيئاً منه.
المقصود أننا لم نخسر شيئاً من أمر يتعلق بالدنيا حتى يأتينا من الإخوة -أحياناً- نوع من التسلية أو نوع من العزاء، وإن كان الصبر مأمور به على كل حال.(85/4)
حديث إلى الجمهور
بعض الإخوة حدثوني حديث المشفق الخائف بعد ما عرفوا أني أستقبل الضيوف في أوقات الصلوات في مسجدي، وفي يوم الخميس ليلة الجمعة من كل أسبوع ما لم أكن مسافراً أو مشغولاً، ويتجمع عندي أعداد الشباب من مناطق مختلفة يزيدون أو ينقصون، ومن الطبيعي حين يجلسون يستمعون فإننا لن نتحدث بلغة الإشارات أو بلغة الصمت، بل سأتحدث ويسمعون، وسأجيب حين يسألون، هذا أمر طبيعي وحق مكفول لكل إنسان -لا أقول لي- في شرائع السماء كلها، بل وفي قوانين الأرض أيضاً، مع أن المرجع هو إلى شريعة الله تعالى الخاتمة المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، فعدد من الإخوة كانوا مشفقين علي، ويقولون: نخشى أن ينالك من ذلك ضرر.
وأقول للإخوة الآن علانية كما كنت أقول لهم سراً من قبل حين يسألونني: إن تعرض الإنسان للسجن فهذا أمر طبيعي، فوالله يوم أوقفت عن الدروس والمحاضرات كنت قبل الإيقاف أحدث الإخوة بأنه أمر طبيعي أن يوقف الإنسان وإن لم يكن شرعياً ولا مقبولاً؛ لكن من الطبيعي أن يتعرض أي داعية أو مصلح أنا أو الشيخ سفر أو غيرنا من الدعاة -نسأل الله أن يجعلنا كذلك- أن يتعرض لمثل هذه الأمور.(85/5)
وضع الداعية للأذى في اعتباره قبل وقوعه
ولا زلت أقول بعد ما حصلت هذه الجلسات في المنزل: إنني كنت واضعاً في اعتباري أنه ربما يترتب على ذلك ما يترتب عليه من آثار، أي قيمة وأي معنىً لوجود الإنسان إذا كان من غير رسالة يحملها ويؤديها؟! هب أنك حر طليق تأكل وتشرب وتنام وتذهب وتجيء لكنك لا تقوم بأداء المسئولية العلمية والشرعية والاجتماعية التي تشعر أن الله تعالى حملكها ووضعها على عاتقك بحسب ما أعطاك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] .
إذاً ليس في الأمر غرابة، والسجن أمر طبيعي مألوف، ويجب أن نضع في اعتبارنا -يا كل المخلصين، ويا كل الصادقين، ويا كل دعاة الإصلاح، سواء أسرَّوا أو أعلنوا- يجب أن نضع في اعتبارنا أن الفساد المتجذر في مجتمعنا وفي جميع مجتمعات المسلمين بنسب متفاوتة؛ فساد يضرب برواقه على كل مجالات الحياة بدون استثناء، فساد في مجال التعبد، وفي مجال الأخلاق، وفي مجال السلوك، وفي المعاملات، فساد في الاقتصاد والسياسة والإعلام والتعليم.
إن هذا الفساد الشامل يتطلب إصلاحاً كاملاً، ومن الخطأ أن نتصور أن الإصلاح سيتم عن طريق مجرد الكلام، أو مجرد أن نحمل قلوباً طيبة، أو تصورات سليمة فقط دون أن نتحمل في سبيل الكلمة التي قلناها أو التصور الذي حملناه ولو بعض الأذى والعناء! إن هذا الفساد الموجود -والذي لا يشك فيه أحد على الإطلاق وإن اختلفت الطرق في إصلاحه- له أنصار كثيرون، وله متحمسون، وسدنة، وله أرباب من البشر يرون بقاءهم في بقائه، ووجودهم بوجوده، وأن زواله كشف لهم، ولذلك فهم ضد كل مصلح يسعون إلى التأليب عليه ويحاربونه بكل وسعهم، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فهذه سنة الله تعالى.
أقول: لا غرابة وإن كانوا ملومين لمخالفتهم شريعة الله ومخالفتهم للحق والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] وكذلك يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .
إذاً الصراع صراع بين الحق والباطل، بين الإصلاح والفساد، بين الهدى والضلال، بين العدل والظلم، وهو صراع أزلي، ولابد أن نوقن ونعتقد بأن أي داعية إصلاح يحتاج إلى أن يبرهن على صدقه وإخلاصه، وأنه لا يريد مطمعاً دنيوياً، وأنه صادق في دعوته، وأنه مستعد أن يبذل ويضحي في سبيلها، لا بد أن يبذل ما يكون عربوناً وبرهاناً للناس فيكون ذلك شاهد عدل على ما سمعوه بآذانهم.
ربما يسمع الناس كلاماً معسولاً جميلاً في الأشرطة والمحاضرات والدروس، أو في البرامج أو الندوات وغيرها، وربما يكون الكلام بحد ذاته حلواً مؤثراً مقبولاً؛ لكن ما هو البرهان على أن هذا المتكلم صادق فيما يقول؟ وما هو البرهان على أنه مخلص؟ وما هو البرهان على أنه متجرد عن الهوى؟ وما هو البرهان على أنه بقدر الكلام الذي يقوله؟ البرهان هو أن يعزز قوله بفعله، وأن يصبر ويصابر، وأن يتحمل مسئولية الكلمة التي قالها مهما كلفه ذلك من تضحيات، فينبغي أن نضع ذلك في بالنا، وما لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يتصور أبداً أن يقع إصلاح أو تعديل حقيقي.
إننا نعلم جميعاً أن إصلاح خلل جزئي في مكان معين: في مدرسةٍ، أو شخص غير كفء، أو في أي وضع من الأوضاع مهما كان يسيراً، هذا الإصلاح يتطلب مجهوداً ضخماً، وقد ينجح وقد لا ينجح، فكيف نتصور أن إصلاح الأمة كلها في مجالاتها وأنشطتها المختلفة أنه لن يكلفنا أكثر من كلمة نقولها، أو ورقة نكتبها، أو برنامج نقدمه، أو شريط نسجله، هذا لا يمكن أن يكون.
ثم إننا نعلم جميعاً أن الغش والفساد محرم في كتاب الله تعالى وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في أصغر الأمور، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يبيع تمراً فلما قلبه وجد أن أسفل التمر قد أصابه الماء، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا} كما في صحيح مسلم، فإذا كان الغش في زنبيل من التمر أو غيره حرام، بل يصل إلى أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله بأنه يخرج من سيماء المؤمنين وعلاماتهم وأوصافهم، فما بالك إذا بدأت الأمة كلها تمارس الغش في مؤسساتها ومجالاتها المختلفة وجوانبها! فحينئذٍ يكون السكوت عن ذلك نكولاً عن الحق، وتراجعاً وضعفاً وخوراً، ولا يمكن أن ينجو من العذاب قوم هذا شأنهم، إلا أن يصدعوا بالحق، ويصيحوا في الناس، فحينئذٍ تكون النجاة بإذن الله تعالى للجميع، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فإذا كنا مصلحين نجونا من عذاب الله تعالى، وإلا ألم بنا العذاب وحلت بنا الكارثة.(85/6)
الدعوة لله لا طلب الدنيا
أيها الأحبة: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] ماذا يريد الدعاة؟ هل طلبوا مالاً، أو منصباً، أو وظيفة، أو رتبة؟ كلا والله! وإنني أقول والأمر يستدعي أن يقال هذا الكلام، وهو في نفوسنا يجمجم منذ زمن بعيد؛ لكن آن الأوان أن يقال: والله إن هذه الأشياء كلها ليس لها عندنا من وزن ولا قيمة، وليست في برنامجنا أو اعتبارنا ولا في ميزاننا كأشخاص، فلا يعنينا هذا الأمر قط، ولو أراده إنسان لعرف أن الطريق إليه سهل، فليس هو مكلفاً أو مؤذياً، بل الأمر كما قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90] فنحن ندعو إلى إصلاح أحوال الناس كلها، وإلى إتاحة المجال للدعوة إلى الله تعالى، والكلمة الحرة الصادقة المنضبطة بضابط الشرع، يقولها داعية، أو خطيب، أو إعلامي صحفي، أو كاتب، أو شاعر، أو ناثر، أو معلم، أو موظف، ندعو إلى أن يتمكن الناس من التعبير عن الحق الذي يعتقدونه، والمشاركة في الإصلاح لهذه الأمة التي تحيط بها الأخطار والفتن من كل جانب.(85/7)
الغرض الإصلاح لاحظ النفس، والحرية حق الجميع
فالدعاة إلى الله تعالى يبرءون من جميع المصالح والحظوظ الشخصية، بل هم يتنازلون عن حقوقهم الخاصة من مرتبات أو أعمال أو أموال أو وظائف، فإنهم لا يطالبون بها ولا يرون أنها بالنسبة لهم قضية تستحق أن يثار حولها كلام طويل، وليس يضيرهم ولا يزعجهم هذا، وليست قضيتهم أن يوجد من يعتدي عليهم أو من يؤذيهم أو يسجنهم أو يتجسس عليهم أو يطاردهم، هذه أيضاً ليست هي قضية الدعاة أبداً.
إنما الدعاة يطالبون بقضية تخص الأمة والبلاد من شرقها إلى غربها، تخص المنطقة الجنوبية وتخص المنطقة الشمالية، وكما تخص المنطقة الشرقية كما تخص المنطقة الغربية، وتخص المنطقة الوسطى، بل إنها تخص هذه البلاد وتعم كل مسلم يعنيه أمر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
فالقضية هي قضية الامتثال لشريعة الله تعالى التي جاءت بالعدل وجاءت بالمساواة، وجاءت برفع الظلم، وجاءت بتحقيق المطالب الإنسانية، وجاءت بحفظ كرامة الإنسان وحقه، فلا يُعتدى عليه ولا يظلم ولا يبخس حقه، ولا يهضم، ولا يتجسس عليه، ولا يوقف بغير بينة وبغير نص، ولا يحقق معه إلا بنص، ولا يحق لأحد أن يتجسس عليه أو يتلصص على مكالماته، أو خصوصياته أو مراسلاته، أو محادثاته، إلى غير ذلك، ليس الدعاة بل الأمة كلها، كل إنسان مسلم ومواطن من المسلمين له هذا الحق.
ولذلك فليست قضية الدعاة قضية شخصية وإنما هي قضية تهم الأمة كلها من أولها إلى آخرها، أما الدعاة فقد آن الأوان ليعلنوها للناس كلمة صريحة، العدو والصديق القريب والبعيد الحاكم والمحكوم من يعرفهم ومن لا يعرفهم: لا نسألكم عليه من أجر، لا نسألكم عليه مالاً.
إن رأيتمونا يوماً من الأيام طلاب جاه، أو طلاب شهرة، أو طلاب منصب، أو طلاب مال، أو طلاب وظيفة، فاحثوا في وجوهنا التراب، واعتبروا هذا آية على عدم مصداقية ما ندعو إليه، نحن دعاة حق نرى أنه يجب أن يدعو إليه الجميع، ويجب أن يلتف عليه الجميع، ويجب ألا تسقط هذه الراية بحال من الأحوال، لأنها الراية التي تسعى إلى إعادة الحقوق إلى أهلها، سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً معنوية، مثل كون الإنسان يعرف ما يخصه، هو فرد من الأمة له الحق أن يعرف لماذا حصل كذا، ولماذا اتخذت الأمة هذا الموقف، ولماذا حاربت هذا، ولماذا سالمت هذا، ولماذا عادت هذا، وما هي الأشياء التي ستفعلها، هو فرد من الأمة من حقه أن يعرف ما يخصه، ولا يجوز أبداً أن يعتم عليه، أو يضلل، أو يعمى؛ بحيث يعتبر أنه قاصر العقل، والفكر، ليس على مستوى أن يدرك أو يفهم، ولهذا ينبغي أن تكون الأمور في ظنهم أسراراً وطلاسم لا يعرفها إلا نفر قليل، أما الباقون فمن حقهم أن يقرءوا -مثلاً- في الجرائد أو يسمعوا من الإذاعة، وما قرأوا أو سمعوا، فليعتبروا أن هذا هو الكلام الذي يجب أن يقوله حتى لو لم يؤمنوا به ولو لم يصدقوه، ويجب أن يرددوه ويجيبوا به.
إذاً أين عقول الأمة؟ أين أفكار الأمة؟ أين المختصون؟ بل أين الآلاف المؤلفة من الدكاترة والفضلاء والأساتذة وطلاب الجامعات والمتخرجين الذين بذلت أموال طائلة من أجل إعدادهم وتعليمهم وتخريجهم؟ فما معنى -بعد ذلك- أن يحازوا ويحصروا ويقال لهم: إن عقولكم في إجازة مفتوحة، ليس من حقكم أن تفهموا، ولا أن تسألوا، وتناقشوا، وتشاركوا، ولا أن تشيروا، هذه مصادرة لحقوق معنوية كبيرة للأمة لأن الإنسان إنسانيته ليست بجسمه، كما قال القائل: أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان وقول الله أبلغ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .(85/8)
المشاركة حق كل فرد وليس الصواب حكراً على أحد
فالله تعالى كرم الإنسان بالعقل، فلماذا نجعل هذا العقل في إجازة مفتوحة؟ ونفترض أن جماهير الناس ليست على مستوى أن تفهم الأحداث، ولا أن تشارك فيها أو أن تشير!! من أين جاء هذا المعنى الغريب عن الأمة التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم على المشاركة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصعد على المنبر فيتحدث مع الناس في أي قضية من القضايا، يصعد المنبر -مثلاً- فيتكلم في حادثة الإفك، يصعد المنبر ويقول: أشيروا عليَّ أيها الناس، في قضية بدر أو أحد، في المعارك التي تخوضها الأمة، في المواقف المختلفة، حتى في قضية توزيع المال، عندما يتكلم الناس يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: {يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟! ألم أجدكم ضلالاً} إلى آخر الحديث المعروف وهو في الصحيحين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه من بعده وخلفاؤه الراشدون، والخلفاء المسلمون يعتبرون الأمة مسئولة معهم كما يحتاجونها في حال الشدة، فلذلك كانوا يشركونها في مثل هذه الأمور ولا يصادرون رأيها أو قناعتها.
نعم لا بد من ضوابط لذلك، ولا بد من قنوات؛ لكن أين هذه القنوات، وأين هذه الضوابط، وأين هذه الفرص التي تجعل للناس على الأقل ولو قلنا لنخبة من الناس مجالاً أن يعبروا عن رأي أو اجتهاد قد ينفع الله به، وقد يكون سبباً في دفع أذى أو ضر عن البلاد والعباد؟! إن الله تعالى لم يجعل الصواب حكراً على فئة بعينها ولا شخص بذاته، حتى ولو كان عالماً جليلاً، أو ذكياً نبيلاً، أو عبقرياً فذاً، أو شهيراً خطيراً، فإنه قد يوجد الحق والرأي السداد عند عامة الناس فضلاً عن خاصتهم.
إذاً هذه الحقوق التي يمكن أن نعبر عنها بالحقوق المعنوية إضافة إلى الحقوق المادية التي يتكلم الناس كلهم عنها من تجار ومزارعين ومتوسطين، وموظفين وغير هم ممن حرموا كثيراً من حقوقهم، أو سدت في وجههم أبواب الوظيفة، أو سدت في وجههم أبواب العمل الحر الذي يسددون به ديونهم، أو ينفقون به على أزواجهم وأولادهم، أو على الأقل ينفذون به ما أباح الله تعالى وأحل لهم: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] فلماذا يمنعون هؤلاء من ذلك في الوقت الذي تجد الكثير منهم قد يجدون أنفسهم محتاجين أو مضطرين فيما يعتقدون إلى أن يستدينوا من البنوك بفوائد ربوية، والله تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] لكنهم يرون أنه ليس لهم مخرج إلا ذلك، والواقع أن المخارج المباحة كثيرة.(85/9)
الأخطار المحيطة بالأمة تقتضي الإفصاح والإصلاح
إنه لم يعد يخفى على أحد أن مجتمعنا هاهنا ومجتمعات المسلمين عامة أصبحت جزيرة في بحر متلاطم، فالأخطار كبيرة جداً، واليوم كنت أقرأ في بعض الجرائد أن الرئيس الأمريكي يستقبل من يسميهم ببذور السلام، وهم مجموعة من أطفال وصبيان العرب واليهود يزيدون على مائة أخذوا في جولة طويلة في أمريكا، يربون على مسخ جميع ألوان التميز والاستقلال والاعتقاد والانتماء؛ ليكونوا قوماً -فيما يعتقدون ويعلنون- ليس بينهم عداوة كما يزعمون ويعبرون، هم بذور السلام، وسيكون العداء بينهم قي المستقبل -كما يعبر الرئيس الأمريكي- مجرد ذكرى قديمة نسوها ومضت عليها الأيام والليالي، هذا جانب.
جانب محاولة تحويل المنطقة إلى سوق للبضائع اليهودية مثلاً، سواء أكانت هذه البضائع بضائع فكرية ثقافية، أم إعلامية، أم أمنية، أم تجارية، أم غير ذلك.
جانب تحويل بلاد المسلمين إلى مجرد أتباع ضعفاء لا يعلم بهم، ولا يقام لهم وزن في هذا المعسكر أو ذاك، لهذه الدولة أو تلك.
جانب تحويل المسلمين وجعلهم عبارة عن قطيع يساق إلى مرعاه، ولا يدري إلى أين يسافر، وليس من حق الواحد أن يعبر ولا أن يتكلم ولا أن يبدي رأيه، بل عليه أن يبصم على كل شيء، ويؤيد كل شيء، ويوافق على كل شيء، وألا يعترض، وإلا فإنه يكون حينئذٍ قد وضع نفسه تحت طائلة العقاب والتأديب والتشهير والأذية وتسلط الأجهزة الأمنية إلى غير ذلك مما هو معروف.
وهذا الطريق صد عن سبيل الإصلاح، ويراد به وضع العراقيل والعقبات أمام أي إصلاح؛ سواء أكان إصلاح فرد أم تيار بحيث إن الناس يرون أن الطريق صعب وشاق ويرجعون -كما يقال- وأول الدرج، من أول السلم.(85/10)
الكبت للحريات وتكميم الأفواه يتحول حقداً
إذاً المهمة هي مهمة إصلاح أوضاع الناس، حتى أوضاع الناس الدنيوية، فالكثيرون يتحدثون في مجالسهم وخصوصياتهم عما يشعرون به من فقدان العدل الاجتماعي، ومن سحق كثير من الطبقات، وأنهم لا يجدون حقوقهم في المال العام، في الوظائف، وفي المخصصات، ولا يجدون حقوقهم في الفرص التي هي في الأصل حقوق مشتركة للأمة يتساوى فيها الجميع، يشتكي من ذلك المزارع، ويشتكي منه الموظف الصغير والمتوسط، ويشتكي منه الطلاب، والمتخرجون، ويشتكي منه ألوان وأصناف من الناس، وكثير من رجال البادية، وكثير من أهل المناطق المختلفة المتباينة وغيرهم، فالجميع يتحدثون عن ذلك.
فبالله! من هو المستفيد من أن تظل هذه الأشياء مجرد مشاعر دفينة في النفوس تتحول إلى أحقاد بغضاء وتدمير للمجتمع، دون أن تعطى فرصة على الأقل للتنفيس؟! ماذا يضرك أن تعطي الناس مجالاً للتنفيس عما في نفوسهم؟ ربما شعر لو تحدث أنه وضع عن ظهره حملاً ثقيلاً وعبئاً جليلاً ينوء به، وما يضيرك أن يتحدث عنك الناس؟ بل ماذا يضير أن يتحدثوا ويأخذ من كلامهم النافع المفيد ليكون نبراساً؟ فإننا لا نعتقد أن أحداً يملك أن يصلح الأمة وهي فاسدة أو نائمة، بل ولا أحد يستطيع ذلك لو أراده، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يريده إلا دعاة الإصلاح الذين يشهد الناس لهم بذلك، أما مجرد أن أدعي -أنا أو غيري- ذلك، فهذه دعوى لا تصدق ولا تكذب إلا من خلال الواقع الذي يمكن أن يحكم لها أو عليها.(85/11)
الدين شامل للحياة لا خاص بالمسجد
على كل حال، هذا الموضوع، باختصار شديد هو قضية الدعاة، قضية الإصلاح بمعناه الشامل، الإصلاح الشرعي الديني والدنيوي، نحن نعتبر الإصلاح الدنيوي جزءاً من الإصلاح الديني، فالدين ما جاء ليحكم المسجد فقط، بل الدين جاء ليعلمنا أن الاقتصاد ينبغي أن يكون بصورة معينة، وأن المال ينبغي أن يوظف بطريقة صحيحة، وأن الصناعة ينبغي أن يبرز فيها المسلمون، والإعلام، والتعليم، والحياة الاجتماعية أيضاً.
فالدين جاء ليحكم الحياة، وليعلم الإنسان من يوم يولد كيف يسمي، بل قبل ذلك عملية اللقاء والاتصال بين الزوجين كيف تتم من أجل ضمان صلاح المولود كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى علمه كيف يوسد الإنسان في قبره، وأيضاً جاء الدين بتحديد الطريقة في الدفن، وما بين ذلك من حياة الفرد رجل أو امرأة كبير أو صغير أب أو أم، في المجالات الاجتماعية على مستوى الأسرة، وعلى مستوى البلد والمدينة، وعلى مستوى الجماعة، والطائفة، وعلى مستوى الدولة، والأمة: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9] .
إذاً هداية القرآن جاءت لتهيمن على الحياة، لا ليفتتح البرنامج بالقرآن ويختم به فحسب، ولا من أجل أن نزين به مكتباتنا، أو نزين به مساجدنا، ولا من أجل أن نقرأه فحسب -وإن كان ذلك مطلوباً- لكن جاء حتى نتمثل هدايته تميزاً لأمتنا بكل مجالات الحياة يوم أن تفاخر الأمم بأديانها ومذاهبها وكتبها وتراثها، فإن تاريخنا هو هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى رحمة وشفاء وهدى ونوراً وبياناً لنا، فأعرضنا عنه أيما إعراض، واكتفينا بتلاوته إن تلوناه، كما قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: [[نزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا تلاوته عملاً]] .(85/12)
الإصلاح صعب والخطأ وارد
نعم.
نحن ندري أن الإصلاح يحول دون شهوات الكثيرين من الناس، وأن طريق الإصلاح ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق مفروش بالأشواك والمتاعب؛ لكن لماذا تلومون قوماً اختاروا هذا الطريق ورأوا أن يسلكوه، وسألوا الله تعالى أن يثبتهم عليه حتى النهاية، وهم يحرصون على الاعتدال قدر المستطاع، ومراعاة الحكمة والقول الحسن بقدر ما يملكون، ولا يعصمون أنفسهم، ولا يبرئون أنفسهم من أن يكونوا كغيرهم عرضة للاجتهاد الذي يخطئ ويصيب في قول أو فعل، ورحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا، بل حتى العدو إذا أهدى عيباً فيجب أن نفرح به وكما قيل: عداتي لهم فضل عليّ ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن سوءتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وأقول: إن مهمة الإصلاح ليست وقفاً على الدعاة الشرعيين! بل يجب أن يكون الإصلاح شأننا جميعاً: أساتذة الجامعات المختصون سواءً أكانوا اقتصاديين، أم تربويين، أم في مجال الفيزياء، أم في مجال الكيمياء، أم في مجال الطب، أم في مجال الهندسة، أم في مجال التصنيع، أم في أي جانب من جوانب الحياة، إعلاميين أو تعليميين أو معلمين أو غير ذلك، يجب أن ندري أن الإصلاح مهمة الجميع ومسئولية الجميع، ومجالات الحياة المتنوعة وميدانها الفسيح يتطلب كوادر ضخمة من أبناء الأمة المخلصين، الذين يملكون التصور السليم لسبل الإصلاح، ويملكون العزيمة والإرادة القوية لتنفيذ هذا التصور بقدر المستطاع وبقدر ما تسمح به الظروف.
أيها الإخوة: ليس عندنا سر ولا أمر خفي، بل كل ما لدينا قلناه في الأشرطة وتحدثنا فيه على الملأ علانية، وهذا هو سبب ما قد نجده ونلقاه من مضايقات؛ لأننا قلنا ما نعتقد.
نعم.
حاولنا أن نتلطف في الأسلوب، ونهذب العبارة، ولا نهجم على الموضوع بشكل مباشر وفق اجتهادنا الخاص؛ لكننا قلنا كثيراً مما نحب أن نقول، ومما نعتقد أنه يجب أن يقال، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.(85/13)
انفتاح العالم ثقافياً ونحن أولى
أيها الإخوة: إنني أتعجب من حالنا وحال الناس في هذا الزمان، العالم اليوم كله مفتوح ثقافياً، والحادثة تجري في الشرق فتسمع في الغرب، يعطس الرجل في واشنطن فيشمته آخر في موسكو، فالعالم قرية واحدة -كما يقال.
الاتصال: أصبح هناك ثورة في الاتصالات، فلماذا -والعالم مفتوح ثقافياً- نقف نحن في مكاننا، وكأننا لم نستفد من حركة التاريخ ومن التغيرات الجذرية والجوهرية التي وقعت في العالم كله، لقد انتهى عالم بأكمله في امبراطورية الاتحاد السوفيتي البائدة، كان يقوم على الكبت والإرهاب وحكم الـKGB، وعلى إلغاء الدساتير، وتعطيل جميع الأمور باعتبار أن الحزب الواحد تتلخص فيه الحياة كلها.
لقد انتهى ذلك العالم ومضى إلى غير رجعة، ودول العالم كلها اليوم أصبحت تتفاخر في كسب رضا شعوبها، وكسب قناعتهم، وأنها تحقق لهم مطالبهم وتحادثهم بشكل واضح وصريح، ويرى هؤلاء أن من حق الأمة عليهم أن تتحدث عن بياناتهم حتى إنني أقرأ هذا اليوم في الجريدة خبراً أن رئيس فرنسا صحته تتدهور وحتى الآن لم يصدر تقريراً ومن المتوقع أن يصدر تقريراً في تاريخ كذا وكذا، فهذا تقريراً للأمة عن قضية صحة الرئيس للأمة، وهي قضية شخصية وإن كان لها أبعاد، يرون أنفسهم ملزمين أن يصدروا تقريراً له، قدر لا بأس به من المصداقية للأمة، وأن لا تحجب الحقائق عنهم بحال من الأحوال، فضلاً عن الانفتاح الذي نشهده قريباً وبعيداً منا، فلماذا نظل نحن وكأننا ضد حركة التاريخ وضد طبائع الأشياء؟ لماذا نجعل الحياة أسراراً غامضة لا يفهمها الناس مع أنها في الواقع أمور بسيطة ويسيرة؟ نعم.
قد يكون هناك أمور خاصة لا يفهمها كل أحد، وهذا شيء طبيعي، حتى في مجال العلوم الشرعية؛ لكن لا يمنع أن نبسط ونسهل بعض العلوم ليفهمها عامة الناس، فلا بد من تعليم الأمة الأحكام الضرورية التي لا بد أن تفهمها، وقل مثل ذلك في جوانب الحياة الأخرى.
فاليوم التعليم نفسه قد يعطي الطالب مبادئ عامة، حتى لو كان طالباً متخصصاً قد يعطى مبادئ عامة في كل العلوم الأخرى باعتبار أن هذا قدر لا بد منه، فلماذا لا نعتبر حتى في الأمور العملية والواقعية، وأوضاعنا المالية، وعلاقاتنا وخصوصياتنا وأمورنا وحاضرنا، ومستقبلنا، والتحديات التي تواجهنا؟ لماذا هذه الأشياء لا تسهل وتبسط ليكون للناس قدر منها ليفهموه، فيستطيعوا أن يتجاوبوا معه، ويشاركوا فيه، ويدركوا أن قضاياهم مطروحة، وبشكل واضح؟(85/14)
ماذا نريد وبماذا اتهمنا؟
هذا سؤال لابد أنه سيطرح، وسيتساءل عنه الكثيرون، فأقول لكل من يسأل: والله الذي لا إله غيره، إنني لا أعلم تهمة إلا أننا نتحدث وفق القناعات الشرعية المتكونة لدينا بالصورة التي لا بد أن أكثر أو كل من سمع هذا الشريط ربما سمع شيئاً منها قل أو كثر نتحدث في توجيه الأمة، وقضاياها، ونحاول أن نكون مدافعين بقدر ما نستطيع، نعم.
أصواتنا ضعيفة، وكلماتنا قليلة، لكن نحاول أن نكون مدافعين عن بعض حقوق الأمة، ونحاول أن نصحح ما يمكن تصحيحه، وأن ندافع عقاب الله وعذابه الذي لا بد أن ينزل بهذه الأمة إذا لم تستدرك نفسها وتصحح أوضاعها، لأن هذا هو الناموس، والسنة الإلهية.
والعذاب الإلهي ليس شرطاً أن يكون ناراً تنزل من السماء، أو بركاناً يخرج من الأرض، بل قد يكون أزمة اقتصادية تخنقنا، وأنتم تسمعون التقارير في الشرق والغرب الآن عن الأوضاع المتردية لدول الخليج واقتصادها، وربما يتضرر الصغار قبل الكبار.
قد يكون العذاب الإلهي أن يلبسنا الله شيعاً ويذيق بعضنا بأس بعض، فيسلط بعضنا على بعض، فنعود كما كنا أمماً وشعوباً وأحزاباً بدلاً من أن تتعارف وتتآلف وتتآخى في إخاء الدين والإيمان والإسلام؛ وتتحول إلى أمم يحارب بعضها بعضاً، ويبغض بعضها بعضاً.
وقد يكون العقاب الإلهي شيئاً آخر لا يخطر في بالنا الآن ولا نتصوره، لكن قد يسلط الله علينا عدواً من سوى أنفسنا يأخذ بعض ما في أيدينا -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- إذا وقعت المنكرات والمعاصي ولم يوجد من ينكرها أو يغيرها.
إن المنكرات المعلنة لا بد أن تنكر بصوت جهوري علناً؛ حتى يعلم الناس أن الدين لا يرضى ذلك ولا يقره، وأن أهل الدين لا يتحملون مسئولية هذه الأشياء، ولا يتحملون مسئولية الظلم الذين يقع -مثلاً- أياً كان مصدره أو أياً كان موقعه، ولا يتحملون مسئولية مصادرة حقوقهم الخاصة، ومسئولية الحيلولة بينهم وبين مالهم من الفرص والوظائف والأعمال والحقوق، فلابد أن يكون الإنكار علانية في هذه الأمور المعروفة المشهورة التي لا تخفى على أحد كائناً من كان.
ولذلك لما استدعينا إلى وزارة الداخلية قبل سنة، أنا وفضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي وكتبنا خطاباً للشيخ عبد العزيز بن باز، لم يكن هناك من أمر يوجه إلينا، إلا أننا تكلمنا مرة عن الربا وأنكرناه، وتكلمنا مرة عن السلام مع اليهود واستنكرناه، وتكلمنا مرة عن بعض المظالم الاجتماعية الموجودة وأنكرناها، ومرة عن تسلط بعض الأجهزة على الناس وأنكرناها، وعن حقوق المسلمين وما لهم، وأنه لا يجوز ترويعهم ولا أذيتهم، وما أشبه ذلك من الأمور التي جاء بها الدين ولا ينكرها أحد من العقلاء، هذا هو ما اتهمنا به.(85/15)
أصحاب التشويشات
يبقى أن هناك من قد يكون لهم تهويشات أو تشويشات لأنني أعتقد أن هناك من سيقولها، ولا أرى مانعاً أن أشير إليها، فإن هناك من يريد أن تظل الأمة في صمت تام، فإذا تكلم أحد قال: هذا يريد سلطة، أو يريد منصباً، أو حكماً، وليس هذا أمراً جديداً: {أتواصوا به} فهذا أمراً قديم: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] ففرعون قال مثل هذا لموسى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] وقريش قالت هذا للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] .
إذاً كل داعٍ من السهل أن يتهم، والتهم جاهزة معلبة، فهذا يُتهم وأنا أتُهم والثاني والثالث، والأمر طريق مفتوح، ليس هناك رقيب على أفواه الناس، وفي مثل هذا المجال الأمر واسع، ولكن يبقى
السؤال
إذا كان هؤلاء يقولون شيئاً فليعلنوه للناس، أعندهم أدلة أو وثائق؟ أعندهم شيء يدل على أن لنا من ذلك أكثر من دعوة الإصلاح؟ وأكثر من محاولة تعديل العوج الذي يشتد ويتفاقم في الأمة؟ إذا كان شيء من ذلك فنحن نطلب أن يبين للأمة ليعرفه الخاص والعام، ويكون الناس على بصيرة من أمرهم.
أيها الإخوة: ليعلم الجميع ممن يستمع إلى هذه الكلمة أننا -أستغفر الله ثم أستميح إخواني من دعاة الإسلام عذراً إذا تكلمت بلسانهم في هذه الفقرة- أننا معاشر دعاة الإسلام، دعاة أمن وسلام، الأمن فالسلام والخير والرفاهية التي يتبحبح فيها المسلمون لنا فيها سند، ومتى وجدت فنحن بعض المستفيدين منها، فلا يسرنا أبداً أن تتحول بلاد المسلمين كلها ولا هذه البلاد إلى بلاد فتن وحروب، ولا أن يختل فيها الأمن، ولا أن تزول وحدتها، بل نحن دعاة أمن ووحدة واستقرار وسلام ولا يحق لأحد مهما كان أن يدَّعي أنه أحرص على الأمن والوحدة والسلام من دعاة الإصلاح، نعم قد يختلف الأسلوب، فنحن من أسلوبنا وطريقتنا وعقيدتنا أنه من أجل المحافظة على أي نعمة أو خير حبانا الله به، ومن أجل طلب المزيد، ومن أجل مدافعة عقاب الله؛ يجب أن نكون جميعاً أيدياً تغسل هذا المجتمع، وتصحح أوضاعه، وتستدرك عليه أولاً بأول، تنكر المنكر في وقته ولو أدَّى الأمر إلى بعض الضغوط، والاستمرار والإصرار والصبر والمصابرة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وحتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
نعم، نعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره لحفظ أمن هذه البلاد وحفظ استقرارها ووحدتها، أليس الجميع مؤمنين بالقرآن يرتضونه حكماً بينهم؟! إذاً فلنسمع: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62-63] فنصت الآية على أن الله تعالى هو الذي ألف بين المؤمنين بالإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقال له: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] فنقول لكل إنسان، ولكل تاجر أو ثري، ولكل عالم وحاكم، كما قال الله لرسوله: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] إنما تؤلف قلوب الناس بالعدل، والإيمان، وتؤلف قلوب الناس بالصدق، حفظ حقوقهم، مشاورتهم، وتؤلف قلوب الناس بالصبر عليهم وحسن التعامل معهم.(85/16)
فوائد السجن ومسئولية كل فرد
أما السجن فلا يعنيني في قريب أو بعيد، فأمره سهل وأتذكر قول الله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يشعر الإنسان كأنه يزور بلداً لأول مرة، وبلد تزوره لأول مرة فيه العجائب والغرائب والمفاجآت، والأمور التي تستفيد منها وتضيفها إلى معلوماتك، فتجدد إيمانك وعقلك، ويقينك، فرصة أن تهرب من زحام الناس وكثرتهم وحطمتهم وأسئلتهم، أن تهرب وقتاً اضطرارياً تخلو فيه بنفسك، ثم تخلو بربك، وتجرب نفسك، وصبرك وعبادتك، وإيمانك وقربك من الله وصدقك، وقدرتك على تحمل تبعة ما تدَّعيه أو تقوله من إصلاح أو تغيير في أحوال الناس، فهو جزء من الطريق، بل له فوائد كثيرة جداً، فهو ضريبة الحق، والسنن الجارية على من كان قبلنا، وهو الطريق إلى تصحيح الأوضاع ولا شك في ذلك، بل إنني أطمع وأرجو أن يكون ذلك تفجيراً للطاقات الكامنة في الأمة، لأننا نحتاج إلى أعداد غفيرة من الدعاة والمصلحين والمجاهدين في هذا السبيل، من الذين يصبرون ويصابرون ويرابطون ويراقبون الله لعلهم يظفرون بالفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
الأمة تحتاج إلى أعداد كبيرة، ونريد أن تخرج هذه المواهب، وأولئك الرجال، وأن يقوموا بدعوتهم ويصححوا أوضاعهم، ويجتهدوا في الإصلاح بقدر ما يستطيعون.
فالقضية ليست قضية شخص بعينه فلان أو علان عالم أو داعية أو مسئول، بل القضية قضية الأمة بكاملها.
فيا رجال الأمة! يا دعاة الأمة! يا شباب الأمة! يا خبراء الأمة! أياً كنتم وأياً كانت مستوياتكم، كلكم جميعاً مطالبون أن تكونوا دعاة إصلاح، ودعاة تغيير نحو الأفضل، وتصحيح لكل فاسد، واحتساب على جميع ألوان المخالفات الشرعية، سواء أكانت مخالفات تتعلق بعلاقة الناس مع ربهم، أم علاقة بعضهم ببعض حكاماً أم محكومين، كباراً أم صغاراً، رجالاً أم نساء.
يجب أن تتفجر طاقات الأمة ومواهبها، وينبغي أن يخرج للأمة رجالها، فالله تعالى لم يجعل دينه رهناً لأحد، حتى شخص محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] أما من دونه من الناس حتى لو كانوا علماء أو كباراً، فالأمر لا يتعلق بهم، أما أمثالنا فضعفاء لا نقدم ولا نؤخر لكنها كلمة استدعاها المقام، فهذا الحدث وقبله أحداث كثيرة وبعده؛ تؤكد المعنى الذي لا زلنا ندندن حوله منذ سنوات وهو أن مهمة الإصلاح ينبغي أن لا تكون مرهونة بأفراد يذهبون أو يجيئون يثبتون أولا يثبتون يصبرون أو لا يصبرون يحيون أو يموتون يخطئون أو يصيبون، بل مهمة الإصلاح ينبغي أن تكون الأمة كلها قيّمة عليها، حتى هذا المصلح إذا أخطأ يحب أن تعترض عليه الأمة وتصحح له خطأه، فلا أحد عندنا معصوم، ولا أحد مقدم من البشر خلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى، أما الأمة فلا ينبغي أن ترهن نفسها في شخص بعينه، والأمة -والحمد لله- موجودة وحية، ولهذا ينبغي أن تمارس مهماتها وأدوارها وأعمالها وصلاحياتها دون أن ترهن نفسها لرأي فلان أو علان، أو لقول زيد أو عبيد من الناس، فهو يعبر عن رأيه وقد يكون خطأ أو صواباً، مجتهداً أو غير مجتهد، لكن ليست الأمة ملزمة بهذه الآراء، كل إنسان ينبغي أن يجتهد ويسعى في الإصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله تعالى بقدر ما يستطيع، وهو مسئول بحسب إمكانيته واجتهاده، وبحسب ما أراه الله تعالى.
نعم.
كم في السجن من نِعَمْ، ومن مواهب، وكم فيه من بركات وخيرات -نسأل الله تعالى بحوله وقوته وقدرته وعظمته وجلاله وكرمه أن لا يحرمنا منها-.
نعم.
ليست العبرة بكبر المساحة أو صغرها، أو التكييف أو المأكل والمشرب، أو نوع المعاملة، بل العبرة بإفاضة الله الخير عليك، فإن أهل الكهف كانوا في كهفهم، ومع ذلك يقولون: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16] تصور هذا الكهف الصغير تنتشر فيه رحمة الله تعالى، والنشر يدل على معنى واسع مع أنه في كهف ضيق، لكن بركة الله تعالى لا حد لها، ورحمة الله تعالى وسعت كل شيء -نسأل الله أن يشملنا بعفوه ورحمته- إذاً المسألة مسألة دين ودعوة، واعتقالنا جزء من مشكلة ضخمة هي -أولاً- مشكلة جميع المعتقلين منذ سنين طويلة، فإنه ليس أحد يعتقل بموجب نص صريح يبيح اعتقاله، بل لا أبالغ إن قلت: إن كثيراً من المعتقلين قد يدخل ويخرج وهو لا يدري لماذا دخل ولا لماذا خرج!! أما الناس فمن باب أولى أيضاً ألا يدروا لماذا دخل فلان ولا كيف خرج.
فهذه قضية يجب أن يكون لها حل، وإن كان الجانب الشخصي فيها -كما ذكرت- لا يعنيني على كل حال، فالأمر أيضاً أوسع من ذلك، والمسألة مسألة دين، ودعوة، وإصلاح المجتمع بكل جوانبه -كما سبق أن تحدثت وأطلت- هذه بعض المعالم والأفكار والخواطر التي جالت في ذهني فأحببت أن أفيضها لإخواني، قد ينقصها الترتيب والإعداد، لكنني أحببت أن أبوح بها أمانة أرسلها إلى كل من يريد أن يعرف هذه القضية، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لخير الدنيا والآخرة، وأن يجعل ما كتب لنا خيراً في الدارين إنه على كل شيء قدير.
ولا يفوتني قبل أن أنهي هذه الكلمة أن أوصي جميع إخواني الذين يستمعون إلى هذا الكلام بالدعاء الصادق المخلص لإخوانهم، وأنا من إخوانهم أيضاً، فأوصيهم بالدعاء لشخصي الضعيف، ولكل إخوانهم في الله تعالى في مشارق الأرض ومغاربها.(85/17)
الأمن والاقتصاد
مطلب آخر: قضية الأمن، الأمن مطلب شرعي واجتماعي لكل الأمم الشعوب، بل الإنسان مفطور على طلب الأمن، بل حتى الحيوان، والله تعالى يقول: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] .
إذاً الأمن من الخوف إنما يكون بالإيمان، ولهذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الراكب يسير من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، وذلك إذا استقر أمر الدين، وأطاع الناس شريعة الله تعالى وانصاعوا لها.
والاستقرار الاقتصادي، والبحبوحة الاقتصادية، وثراء المال لا يأتي من النفط فحسب أو من الثروات المادية فحسب وإن كانت هي المصادر المباشرة، لكن إذا لم نتصور الإيمان، والنزاهة، والعدالة، فقد يتحول المال أو تتحول الثروات إلى باب للمنافسة وللأحقاد، وباب للتباغض التباعد، ولهذا قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش:3-4] والله الذي لا إله غيره إنه لا استقرار لهذه البلاد، ولا وحدة لها، ولا سلامة لها من عقاب الله تعالى ومن عذابه ولا لأي بلد إسلامي إلا بالانصياع لشريعة الله والرجوع إلى الكتاب والسنة، والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وكل من لا ينصاع لأمر الله والرسول ولحكم الشريعة فليس بمسلم، وكل المسلمين يقولون على الأقل بألسنتهم أنهم يقبلون حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فلماذا لا نرد إلى القرآن؟! لماذا لا نرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى كلام أهل العلم المعتمد في كل ما شجر بيننا من القضايا؟! لماذا نجعل القضية ظنوناً واتهاماتٍ ورمياً بالغيب من مكان بعيد؟! ألسنا أمة واحدة؟! ألسنا نعلم اليوم أن الأيدي تمد لليهود للسلام معهم، وأصبح من لا يؤيد قضية السلام متطرفاً أصولياً يجب محاربته عند الكثيرين؟! أليست الأيدي تمد للشيوعيين؟ أليست الأيدي تمد للنصارى؟ أليست الأيدي تمد إلى العلمانيين؟! أليست الأيدي تمد إلى كل فئات الدنيا؟! ويرى أن من الأصلح والأنسب أن يكون هناك نوع من الحوار والانسجام، فلماذا نحاور أنفسنا أولاً؟! لماذا لا نتحدث مع أنفسنا أولاً قبل أن نتحدث مع غيرنا؟ إنه لا معنى أن نحادث البعيدين في حين أن المجتمع لم يستطع أن يحادث نفسه بشكل صحيح، ولا أن يرد إلى الله وإلى الرسول كما هو مقتضى عقيدته ومقتضى إيمانه، ومقتضى شريعته التي يتمدح بها صباح مساء.(85/18)
قصيدة الحامد (منعوا الكلام)
وقبل أن أترك المجال أحب أن أشرك الإخوة معي في هذه القصيدة التي قالها الدكتور عبد الله بن حامد الحامد، بعد سجنه؛ لأنها تعبر عن جانب من المعنى الذي أريده، عنوانها: (منعوا الكلام) منعوا الكتابة والكلام فاصمت وقل للصمت عاش إن اللسان إذا سعى في النار يشوى كالفراش فاجعل لسانك أرنباً متدثراً جوف الخياش فالرأي صار رذيلة تخفى وتلقى في القشاش إن الكلام جريمة ياويل مرتكب النقاش فإذا تنفس شاعر كالقدر فوق النار جاش وإذا تجرأ عالم أو كاتب قطعوا المعاش ورموه في سجن البلا وكأنه بعض الخشاش ما بين إبرة عقرب أو حية ذات انتهاش لبس القيود أساوراً وخلاخلاً يا للرياش من دون حكم محاكمٍ هل ينتف الطير المراش لو أن محكمة جرت علناً قضت ألا يناش السجن للعلماء أم للمجرمين به افتراش الموت حل بأمتي كبِّر وقل للموت عاش من سوف يوقظ أمة تبني على الريح العشاش؟ قد خدرت إحساسها تدهى فلا تبدي اندهاش ضاعت إذا علماؤها ملئوا الزنازن كالكباش أفلا كلامٌ ثاقبٌ لمثقفٍ لله خاش ليس المعافى أطرشاً خبز العلوم له معاش أو منكراً في قلبه قد كح في جيب القماش بلسانه أقفاله شدت وبعينه والأذن شاش إن المعافى سالمٌ في يوم غاشيةٍ وغاش فالعلم ليس سلالماً للرزق أو لبس الرياش فالعلم ليس كُتيّباً يزهو بمتن أو حواش العلم تضحية إذا شغل المداهن بالمعاش من يبغ نصحاً للورى بسط على الحسك الفراش يا من يروم نمونا لسنا قطيعاً من مواش تنموا بنفط إن جرى أو من حبوب في خياش إن الهواء نمونا برئاتنا منه انتعاش بصحافة وخطابة تجلو الطريق لكل ماش فاسكب لنا حرية إنا إلى الشورى عطاش من يعطها فهو الذي للدين والأمجاد حاش ما نال قوم عزةً والرأي فيهم ذو ارتعاش قولوا لمن قطع المعاش الله قد رزق الخشاش إن الحياة مبادئ ما عاش من عبد المعاش قولوا لمن قطع المعاش احذر خديعة كل واش قد رام كل مثقفٍ هدباً بأطراف القماش قد ظن كل نصيحةٍ غشاً به ذو الحقد جاش إن الكلام جهادنا والرأي للشوك انتقاش وكلامنا رأي بدا لا بالشقاق ولا الهراش فإذا بدا لك صائباً فاكسبه فهو لكم رياش وإذا بدا لك مخطئاً عالجه في مشفى النقاش فالرأي يَعْنُفُ في الدجى والنور للعنف انكماش عذراً إذا صف الهوى قد لامس الجرح المُعاش أنا لن أقول قصيدة أرجو بها وصل المعاش لكن أروم نصيحةً للطيبين بها انتعاش(85/19)
الخاتمة
وختاماً أحب أن أختم بقضيتين مهمتين:(85/20)
الإصلاح عام لكل بلد إسلامي
القضية الثانية: أن مهمة الإصلاح التي نستهدفها ويجب أن يستهدفها جميع المخلصين، ليست مقصورة على بلد بعينه ولا على مجال بخصوصه، بل ينبغي أن نستهدف العمل على إصلاح الأمة في كل مكان بقدر المستطاع، سواء في الجوانب العلمية، أو في الجوانب العملية.
هذه المهمة ينبغي أن ينتدب لها أقوام من بيننا نذروا أنفسهم لهذه المهمة وصبروا عليها، ونحن نعتقد أن جزءً من مسئوليتنا يتمثل في مخاطبة الأمة كلها، بقضاياها العامة، والوقوف مع المسلمين في ملماتهم ومصائبهم ونكباتهم، وتعريف إخوانهم المسلمين بقضاياهم، والعمل على إحياء معاني الأخوة الدينية بين المسلمين، وإزالة جميع المظاهر السيئة من حياتهم أو تفكيرهم.
هذا هدف عام، وهو يتطلب حضوراً علمياً حقيقياً في نوادي المسلمين وأماكنهم وتجمعاتهم وعقولهم بقدر المستطاع، وبقدر ما تسمح به الآلة الإعلامية التي يملكها دعاة الإسلام اليوم.
نحن نعيش مع إخواننا المسلمين في الصومال أو البوسنة أو طاجكستان أو مصر أو بلاد الشاموفلسطين وغيرها كأننا معهم لحظة لحظة، وساعة ساعة، ونعتبر أن هذا جزء من مسئوليتنا، وأنه خيانة للأخوة الدينية أن نتخلى عنهم أو نتركهم ونسلمهم لعدوهم، أو نهمل شئونهم وقضاياهم، وإذا لم نستطع أن نمد لهم يد العون، فلا أقل من أن نلقي الضوء على قضيتهم، أو نتحدث عنهم ولو بكلمة طيبة تداوي جراحهم، وتهدئ مشاعرهم، وتشعرهم بأن هناك من إخوانهم المسلمين من على الأقل يسمع صياحهم ويتأثر بذلك، ويحزن لهم، ويعبر عن شعوره تجاه قضاياهم وأزماتهم ومشكلاتهم.
وبحمد الله تعالى تحقق من ذلك شيء كثير، ونحمد الله عليه، ونسأله المزيد من فضله، كما أسأل الله تعالى أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه دعاة الإسلام من أن يزوروا إخوانهم ويجلسوا بين أظهرهم، ويحادثوهم ويتعرفوا على مشكلاتهم عن كثب فيساعدوهم في حلها مساعدة مباشرة حتى تتحقق الأخوة الدينية الشرعية بين المسلمين في كل مكان، كما قال الله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ} [التوبة:71] نسأل الله تعالى أن يجعلنا من هؤلاء.
إذاً ليست قضيتنا محلية أو خاصة، أو إقليمية، بل قضيتنا هي قضية كل مسلم في الصين أو السند أو الهند أو كشمير أو في بنجلادش أو الأكراد أو العراق أو تركيا أو الجزائر أو تونس أو مصر أو فلسطين أو بلاد الشام أو بلاد أفغانستان أو طاجكستان أو قضية المسلمين في أوروبا أو أمريكا أو في روسيا أو في أي مكان من الأرض، فمفهوم الوطن عندنا شمل واتسع: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيانِ وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطانِ فقضيتنا قضية الإسلام والمسلمين في كل مكان، وينبغي أن تزول فكرة الحواجز والحدود والسدود والموانع التي جعلت المسلم لا ينتصر لأخيه أو لا يسمع صوته، أو لا يستجيب ولا يتجاوب معه، أو لا ينصره ظالماً أو مظلوماً كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فقضيتنا كبيرة، وهذا الأمر الذي قد يدار أحياناً هو شيء يسير بالنسبة لما نتعاطاه، ولما ننظر إليه، فنحن ننظر للخريطة الإسلامية، بشكلها الشامل فنشعر بأن الأمر يتطلب إنقاذاً مباشراً.
هناك حرائق تشب في كل مكان تتطلب إطفاءً، وينبغي أن يتصدى لها ولو نفر قليل بقدر الإمكان، وإن كنا نعرف أن هذه الأمور قد تكون أكبر مني ومنك، ولكن مع ذلك يبارك الله في الجهد اليسير، والله تعالى لا يكلفنا إلا ما نستطيعه، فقضيتنا ليست قضية دولة أو بلد أو وطن أو منطقة، مع أن هذا البلد من لب بلاد المسلمين، وهو بلد تشرئب إليه أعناق المسلمين في كل مكان ويتطلعون إليه، ولعل من هذا المنطلق ما يحظى به صوت الدعوة من تقبل واستجابة من المسلمين في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين ومن غيرها، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك العمل خالصاً لوجه الكريم، وأن يأذن بتوحيد كلمة المسلمين على الحق وأن يزول ما بينهم من تباعد أو تطاحن أو تباغض، ويعودوا كما أمرهم الله تعالى أمة واحدة، متعاونة على البر والتقوى، ما يصيب قريبها يصيب بعيدها، والألم الذي ينزل بمسلم عادي في أي بلد يشعر به أخوه المسلم مهما شطت به الديار ونأى به المزار، لا تحول المسافات المكانية ولا الزمانية دون إحساسه بآلام إخوانه المسلمين ونصره لهم، إن كان نصراً في الكلمة، أو في الوقوف معهم، أو بتبني قضيتهم، أو بالدفاع عن مشروعه، أو بأي أمر يحتاجه هو، ونستطيع نحن أن نؤديه عنه، فقضيتنا هي قضية كل مسلم على ظهر الأرض.
هذا، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين وأن يدمر أعداء الدين، وأن ينصر من يعلم أنه على الحق ويثبته ويهديه، ويكتب له القبول، وأن يهدي من يعلَم عنه خلاف ذلك إلى الحق، ويرده إليه رداً جميلاً، وأن يقصم كل من يعلَم منه العناد والإصرار والمحاربة لدينه وشريعته ونبيه عليه الصلاة والسلام، وأن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وإلى لقاء إن شاء الله قريب غير بعيد.(85/21)
مصادرة الرأي بسبب القلاقل والقضية قضية أمة
أولاهما: إننا نجد في بلاد إسلامية كثيرة مشاكل لها أول وليس لها آخر، في مصر، والجزائر، وأفغانستان، وطاجكستان، وفي بلاد إسلامية أخرى قدر من ذلك يقل منها أو يكثر، فيا ترى ما هو الأمر الذي أودى بالأمور إلى ذلك الحال الحضيض الذي أصبح عسر العلاج؟! إننا لا نشك أن البداية كانت مصادرة الرأي، نعم.
حصلت أخطاء بلا شك، وأخطاء متبادلة، ولا شك أن الأصل ينبغي أن يلام، ولا يجوز أن نلوم الصورة فقط، قد تجد تعجلاً هنا، وقد تقول طيشاً هناك، وقد تقول شباب ولم يدرس لم يتعلم، لكن يجب أن تعلم أن أي مجتمع لا يرسي دعائمه على العدل، وعلى حرية الكلمة المضبوطة بضابط الشرع، وعلى الإنصاف والصدق، والصراحة، أنه معرض لهزات عنيفة!! وهاهنا أقول: لا يجوز لأحد ما يقع في بلد أو آخر، ليقول: إن هؤلاء يريدون أن يجروا البلاد إلى مثل ما هو موجود هنا أو هناك، كلا.
فنحن نخشى على البلاد من ذلك المصير، ونعلم أنه إذا لم تتدارك الأمور فإن عقاب الله نازل، قد ينزل عقاب الله تعالى بأيدي أعدائنا، وقد يكون بأيدي أصدقائنا، فإن الأمور إذا خرجت عن نطاق السيطرة يصبح إعادتها إلى ما كانت عليه حلماً بعيد المنال.
فيجب أن ندرك جميعاً أن هناك قضية هي قضية الأمة، وقد يتصور الكثيرون أن ما نعيشه الآن وضع مستقر وثابت، ولكن يجب أن نعلم أن عقاب الله إذا نزل قد يفاجئ الكثيرين أيضاً، فعلينا أن ندرك أنه لا ضمان لما نعيشه إلا بدعوة الإصلاح الجهورية التي تعطي للإنسان حقه، وتحفظ للمرء المسلم كرامته، وتعيد الأمور إلى نصابها، وتراعي المتغيرات الكثيرة المحلية والدولية، وبغير ذلك فإننا نخشى أن نعود كما كنا أمماً وشعوباً وأحزاباً وقبائل يحارب بعضها بعضاً ويقاتل بعضها بعضاً.
ووالله إن الإنسان ليخشى أشد الخشية على هذا البلد من المصير الذي آلت إليه الأمور في بلاد أخرى كثيرة وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح هذه كلمتي، والأمر كما قال شعيب عليه السلام: {ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] إذاً أولنا وآخرنا، وبدؤنا ونهايتنا، ومطلبنا يتلخص في إصلاح أوضاع الناس، أما الدعاة بذاتهم فلا يضيرهم حتى لو نالهم ضر أو أذى أو حرموا فهذا الأمر سهل ويسير، بل إنهم لا يجدون حرجاً في أن يتنازلوا عن كل هذه الأمور الجانبية والشخصية، أنفسنا وأعمارنا وأموالنا وكل ما نملك فداء لدين الله، فداء لدعوة الإصلاح.(85/22)
خمسة مقترحات
تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس المبارك عن خمسة مقترحات طرحها للدعاة إلى الله ليقوموا بتنفيذها في شهر رمضان وما بعده، وهي تعالج مشكلات واقعة في المجتمع المسلم، وتعتبر معادلة جادة لإخراج الأمة من هذا السبات العميق الذي هي فيه.(86/1)
الخروج في مجموعات إلى الأسواق
اللهم إنا نحمدك ونشكرك، ونثني عليك الخير كله، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة، بلغتنا رمضان، ورزقتنا الصيام والقيام، وأنعمت علينا بنعمك العظيمة وآلائك الجسيمة.
فلك الحمد ولك الشكر حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما تحب وترضى.
ونسألك أن تتم علينا نعمتك بمزيد من الهداية والتوفيق، وبمزيد من الصدق والإخلاص، وأن ترزقنا القبول في كل ما نعمل إنك على كل شيء قدير.
أما بعد: فهذه آخر ليلة أتحدث إليكم في هذا المسجد، في ليلة الأربعاء الثامن من شهر رمضان لعام (1412هـ) وقد سبق أن ذكرت لكم بالأمس أن موضوع حديثي إليكم الليلة سيكون بعنوان: (خمسة مقترحات) وقد سألني بعض الإخوة عن عناوين الدروس الماضية.
فأقول: الدروس الماضية تندرج تحت مسمى: دروس رمضان، وفي الليلة الأولى التي كنت بها في هذا المسجد: ليلة السبت الرابع من شهر رمضان كان عنوان تلك الكلمة: (وكن من الشاكرين) وفي ليلة الأحد الخامس من رمضان كان عنوان الكلمة: (ألوان من الجود) وفي ليلة الإثنين السادس من رمضان كان عنوان الكلمة: (فقد آذنته بالحرب) وفي ليلة الثلاثاء السابع من هذا الشهر كان عنوان الكلمة وهي البارحة: (حديث إلى معتمر) وفي الليلة القابلة سوف أتحدث في مسجدي المجاور لبيتي، وفي الليلة التي تليها وهي ليلة الجمعة عندي محاضرة في مدينة الرس وسأبدأ اعتباراً من ليلة السبت القادم -إن شاء الله تعالى- بإلقاء هذه الكلمات في نفس الموعد في مسجد الجاسر في جنوب البلد.
أيها الأحبة لدي في هذه الليلة خمسة مقترحات، أسال الله تعالى أن ينفعني وإياكم بها.
الأول: تحدثت إليكم البارحة عن بعض ما يجرى في بيت الله الحرام، وفي المسجد الآمن في مكة المكرمة من جراء كثرة القادمين عليه، والازدحام الموجود فيه، وما يحتاج الناس فيه دائماً وأبداً إلى التذكير، وإنني أتقدم باقتراح يتعلق بهذا الموضوع ألا وهو: أن يأخذ الأخيار الطيبون أصحاب الوجوه المسفرة، وأصحاب المظهر الحسن، على عواتقهم مهمة قضاء بعض الوقت في جولات في الأسواق العامة، وأماكن التجمعات.
جولات ليس لها هدف ولا غرض إلا السلام؛ ونشر السلام مطلب شرعي وقد كان ابن عمر رضى الله عنه يخرج إلى السوق لا يبيع ولا يشترى، وإنما يسلم على الناس، ويعتبر هذا قربة إلى الله تعالى، فيكفيك من خروجك إلى الأسواق أن تسلم على الغادين والرائحين والقاعدين، هذا أمر.
الأمر الثاني: إن وجود الأخيار في مثل تلك الأماكن هو بإذن الله تعالى صمام أمان، وعنصر وقاية، يحمي كثيراً من الناس وخاصة النساء من اعتداءات المعتدين، وحركات المشبوهين، ويحول بينهم وبين ما يشتهون، فتكون بإذن الله تعالى مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، فإن رأيت على أحد ما يريب فلا بد من كلمة هادئة تنصحه بها، تأمره بمعروف، أو تنهاه عن منكر، أو تذكره بأمر غفل عنه.
ولو أن الخيرين أخذوا على عاتقهم مثل هذا ولو لبعض الوقت، خاصة في الليل، وتجولوا ولا يذهبون فرادى لأن الشيطان قريب من الواحد وهو من الاثنين أبعد؛ بل يذهبون مثنى وثلاث ورباع، فيسلمون، ويصافحون، ويلاحظون، فإن وجدوا أمراً فيه شبهة ظاهرة، تكلموا بالخير وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
وقد جُرب هذا في أعوام مضت فكان فيه خير كثير ووجدت من ورائه ثمار عظيمة.
فأريد منكم -أيها الإخوة- أن تأخذوا على عواتقكم هذه المهمة، وأن تبلغوها إلى غيركم من الناس أيضاً.
ونحن لا نطلب من أحد أن يحمل العصي، ولا نطلب من أحد أن يمشى في الأسواق بوجوه مكفهرة، وجباه عابسة مقطبة، ولا نريد من أحد أن يتلفظ بالكلمات النابية والعبارات الخشنة، كل هذا لا نريده، بل نريد إنساناً يخرج مع فئة من إخوانه وأصحابه يسلمون على الناس، ويهشون لهم ويبشون، ويصافحونهم، ويذكرونهم، ويأمرونهم وينهونهم، فإن رأوا ما يريب تكلموا بالكلمة الطيبة، وأمروا ونهوا بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذا الأمر لا يحتاج إلى إذن من أحد، ولا إلى ترخيص من جهة، ولن يعاتبك عليه أحد، ولن يلومك عليه أحد؛ لأن الأسواق طرق مباحة للناس كلهم، لا يمنع منها أحد، ولا يحجب عنها قادم.
فأنت كغيرك، وكل ما نريده منك هو ما ذكرنا، فإن وجودك في مثل هذه الأماكن بحد ذاته هو خير كثير، وحماية لأعراض المسلمات، وحماية للشباب -أيضاً- من تلاعب الشيطان بهم، وحتى تطمئن أنت ولا تخشى على نفسك من نظرات تند منك، فإننا ننصحك بأن يكون معك بعض أصحابك وإخوانك وأحبابك يشاطرونك هذا الهم، ويحملون معك هذا الحمل.
هذا هو كل ما نريد منك أولاً وأخيراً، وإنا نظنك -إن شاء الله- من الفاعلين، ولكن لا يكفينا هذا منك حتى تبلغه إلى غيرك -أيضاً- من المعتمرين والزائرين وأن تنصحهم بأن يفعلوا مثل هذا، وإنما نخص بذلك من هم أهل دين، وتقوى، وورع، وخير، وأهل ثقة بالله عز وجل واطمئنان إلى أنفسهم.
أما من يعلم من نفسه الضعف، والتقهقر، وتسلط الشيطان عليه، وتلاعب الشهوات به، فهذا نقول له: السلامة لا يعدلها شيء، والزم بيتك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك، وكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك.
لكن الناس درجاتٌ، ومنازل، وكل إنسان يعلم موقعه ومقامه.
هذا هو الاقتراح الأول، ولا أطيل لأن الاقتراحات خمسة، والوقت قصير، وينبغي ألا يأخذ كل اقتراح أكثر من خمس دقائق على حسب تقسيم الوقت.(86/2)
دعوة الشباب اللاهين
الملاحظة الثانية: وقد جاءتني فيها عدة أسئلة وعدة أوراق ورقاع، وهو أننا في العام الماضي- ولعلكم تذكرون هذا جميعاً- بعد ما وفق الله تعالى وألقيت عدة دروس حول الشباب، كان أولها: (هكذا يصنع الفراغ) ثم درساً آخر بعنوان: (مسئوليتنا عن انحراف الشباب) ثم درساً ثالثاً بعنوان: (جلسة على الرصيف) وقد تحول إلى كتاب طبع منه بحمد الله كميات كبيرة، وأرجو أن يكون الله نفع به.
وجدنا أن عدداً من الإخوة قد أقبلوا على دعوة إخوانهم إلى الله، وقامت بعض المخيمات وبعض الجهود وتوزع بعض الشباب، ولكن هذا النشاط يحتاج إلى تذكير بين أونة وأخرى.
ففي شهر رمضان يحصل تجمعات للشباب، سواء في الشارع الأصفر، أو الأبيض، أو الأخضر، أو في غيرها، أو في أماكن، يسمونه بالتفحيط أو غيرها، فضلاً عن الأماكن الأخرى التي يتجمع فيها إخواننا من الشباب للعب الكرة وإقامة ما يسمونه بدوري المباريات في كرة القدم وفي غيرها، وبعض الجهات التي تقوم بتنظيم هذه الأشياء؛ جهات لا يطمأن إليها، ويُخشى من مغبة تنظيمها لمثل هذا؛ لأنها ليست جهات رسمية مأمونة معلومة، ولكنها اجتهادات فردية قد لا تكون مأمونة العواقب ولا مضمونه.
وهؤلاء الشباب المتواجدون في الشوارع يشاهدون التلفاز، أو يتحدثون، أو يشربون الشاي، أو يقومون بلعب الكرة، فيهم خير كثير، وعندهم فطرة نقية سليمة بحمد الله.
ولكن مع ذلك هم أحوج ما يكونون إلى دعوة من الذين أسبق منهم في الخير، وأرسخ منهم قدماً، وقد كتب إليَّ أحد الإخوة رقعه من هذا المسجد قبل ليلتين، يقول: إنه صلى إلى جانبه شاب قد لا يدل مظهره على الخير والاستقامة، ولكنه رأى أنه لما صلى صلاة الوتر وقنت الإمام أن هذا الشاب يُؤمَّن ويدعو وهو يبكى ويجهش بالبكاء ودموعه تنحدر على خديه، ثم لما انتهت الصلاة جاء يسلم هنا ويصافح المتحدث والإمام والشباب الذين في هذا الموقع، ثم يتجاوز المكان وعلى وجهه ابتسامة عريضة، ابتسامة الفرح والرضا والسرور.
إذاً: هؤلاء الشباب فيهم خير كثير، والفطرة عندهم سليمة، ولكن عليها بعض الغبار يحتاج إلى أن ننفضه ونزيله بما نستطيع، فمن منكم -أيها الإخوة- ينتدب، ونحن نطالبكم جميعاً، وخاصة من أعطاهم الله تعالى شيئاً من الهداية؛ يجب أن يدفعوا زكاة هذه الهداية بدعوة غيرهم، فتزورون إخوانكم بتلك الأماكن التي ذكرت وفي غيرها، زيارة المحب الناصح الشفيق، دون أن تطيلوا عليهم بجلسة تثقل، وإنما عشر دقائق، أو خمس دقائق يصحبها ابتسامة عريضة تعبر عن قلب لا يحمل لهم إلا الحب والإشفاق، وكلمة طيبة تدل على أنك ذو خلق فاضل، وكما قال عبد الله بن المبارك: " حسن الخلق شيء هين: وجه طلق، وكلام لين".
فاذهب إلى هؤلاء بالوجه الطلق، والكلام اللين، والابتسامة الصادقة، وإن كان معك كتاب، أو شريط فحبذا، وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فلا يعدم منك كلمة لا تزيد على خمس دقائق، تذكرهم فيها بأواصر الحب والإخوة بينك وبينهم.
فهذا مما نريده من نشاطات الدعاة إلى الله تعالى في هذا الشهر المبارك؛ الذي تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، وتقال فيه العثرات، وتقبل فيه التوبات، وتقترب فيه النفوس من ربها، وتصفد فيه الشياطين ومردة الجن.
أفلا نستغل الفرصة! فالشيطان مقيد الآن، فلماذا لا نقوم بحملة على من حاول الشيطان أن يعتقلهم، أو يغتال إيمانهم، لننقذهم من أسره وقيوده، ونجرهم من جديد إلى المسجد والمحاضرة والكلمة والشريط والكتاب وندعوهم إلى الله تعالى؟ وهذا لا يشترط فيه أن تكون خريج كلية شرعية، ولا حاصلاً على رسالة عليا، وإنما يشترط فيه أن تكون ذا خلق فاضل، وأن يكون عندك كلمة طيبه تقدمها لإخوانك.
فإن وجدت قبولاً فبها، وإن لم تجد قبولاً فاعتذر منهم وانصرف، وإياك أن تسخط عليهم، أو تقسوا عليهم، فقد يأتيهم غيرك ممن هو أوسع منك صدراً، أو أحلم منك؛ فينفعهم الله تبارك وتعالى به.
فهذا هو الاقتراح الثاني.(86/3)
توزيع الكتيب والشريط على الناس
الاقتراح الثالث: إننا نعلم أن رمضان من خيره وفضله؛ أن المساجد تزدحم بالمصلين من الرجال والنساء، وممن لا يرتادون المساجد في الأوقات العادية ولكنهم في رمضان يتغلبون على دوافع الضعف فيقبلون على المساجد، والمرأة قد لا تأتي إلى المسجد أصلاً إلا في رمضان.
و
السؤال
ماذا صنعنا لرواد المساجد في شهر رمضان من الرجال والنساء؟ أليست هذه فرصة ثمينة لأن يقوم المحسنون والخيرون والقادرون بتوزيع الكتب والأشرطة على هؤلاء لعل الله تعالى أن ينفعهم بها؟! وهي كتب طبعت هنا، وكتبت هنا، فهي كتب موثوقة، وكتب توزع في كل مكان، وطبعها المحسنون، ولا يتطلب الأمر إلا وجود ذوي طاقات يأخذون هذه الكتب ليوزعوها على المصلين في المساجد، أو يأخذوا تلك الأشرطة؛ وهي أيضاً أشرطة ألقيت في مساجد هذه البلاد، وبيعت في محلات تسجيلاتها، ورخصت من جهاتها الرسمية، وطبعت على نفقات بعض الأخيار والمحسنين، فلم يبق إلا قوم من ذوي الطاقات يأخذون هذه الأشرطة ويوزعونها، أو يوصلونها بطرقهم الخاصة إلى أماكن تجمعات النساء في المساجد.
إن من الخير الكبير أن يصل الكتاب الإسلامي إلى أعماق البيوت، وأن يصل الشريط -خاصة- إلى أعماق البيوت؛ فتسمعه المرأة الكبيرة المسنة، ويسمعه الشيخ الهرم، ويسمعه الشاب التائه، وتسمعه الفتاة المراهقة، فيستفيدون منه جميعاً، وينفعهم الله تبارك وتعالى به، ويكتب لك أنت أجر؛ لأنك كنت الوسيط الذي أوصل إليهم هذا الخير الكثير.
فأنا أدعو الإخوة من القادرين، وأدعو الشباب، وأدعو الجميع إلى تبني هذا المشروع.
كل إنسان بما يستطيع، هذا تاجر يساهم بماله، وهذا صاحب إمكانيات يدعم ويقوم بتسجيل هذه الأشياء، وهذا يقوم بتوزيعها، وهذا يرسلها إلى المساجد، وكل إنسان يقوم بجزء من هذا العمل حتى نتمكن من إيصال الخير إلى جميع الناس.
ونحمد الله تعالى على هذه الفرص التي أعطانا الله تبارك وتعالى إياها فينبغي ألا نضيعها بحال من الأحوال: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} .
فمجتمع المسلمين كله مجتمع فعال إيجابي بنّاء ذو كفاءة وإنتاجية، من استطاع أن يتكلم تكلم، ومن استطاع أن يدعو دعا، ومن لا يستطيع أن يتكلم مع العامة فإنه يتكلم مع الخاصة، مع فئات محدودة من الشباب، ومن لم يستطع هذا ولا ذاك فإن دوره ينتقل إلى دعوة الناس وإلى سماع المتكلم، أو إلى سماع الشريط، أو قراءة الكتاب، وبذلك نستطيع أن نكون كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] لابد أن نكون متعاونين على البر والتقوى، متآمرين بالمعروف ومتناهين عن المنكر، كما قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وكما قال سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] .
وأدعو أيضاً الأخوات المؤمنات إلى أن يقمن بدورهن في هذا المجال، فالمرأة أقدر على إيصال هذا الخير إلى بنات جنسها؛ فهي تستطيع أن تدعو بنات جنسها، وتدعو الفتيات خاصة في رمضان إلى الله تعالى، وإلى حضور مجالس الذكر، والصلاة مع المسلمين رجاء بركتهم وقبول دعوتهم ونزول رحمة تعمها معهن، وتوصل إلى أختها كتاباً، أو شريطاً، أو نصيحة مكتوبة، أو مشافهة، أو من خلال الهاتف فتقوم بدورها في الدعوة إلى الله تعالى.
والدين ما نزل للرجال خاصة، بل الدين نزل إلى الرجل والمرأة على حد سواء، والأصل أن كل تكليف كلف به الرجل كلفت به المرأة؛ فالرجل يدعو والمرأة تدعو، والرجل يأمر والمرأة تأمر، والرجل ينهى والمرأة تنهى، ويصلي وتصلي، وهكذا كل عمل كلف به الرجل فالأصل أن المرأة تشترك معه فيه إلا ما دل الدليل على استثنائه.
فندعو أخواتنا من المؤمنات والداعيات وطالبات العلم ومن يكون لديها ولو شيئاً من الخير أن يحرصن على إيصال هذا وإفاضته إلى الآخرين.(86/4)
جمع التبرعات للمسلمين
الاقتراح الرابع: هو جمع التبرعات للمسلمين في كل مكان، والمسلمون يعيشون آلاماً وجراحاً الله تبارك وتعالى أعلم بها، ونسأل الله تبارك وتعالى ألا يكون هذا الوضع السيء الذي يعيشه المسلمون مدعاة إلى تسلل اليأس إلى قلوبنا، نسأل الله أن يرزقنا الثقة بوعده وبنصره، وأن يرزقنا الجهاد لإخراج المسلمين مما هم فيه.
فالمسلمون الآن يعيشون أزمات الجوع والعطش والفقر والعري، وقبل أن آتيكم في هذا المكان جاءني مجموعة من الإخوة يتحدثون عن أوضاع المسلمين في بعض البلاد، ومعهم من الكتب والمشاهد ما تنفطر له القلوب؛ منها اغتصاب النساء في كل مكان، وتهديم البيوت وإحراقها، إحراق المزارع، وهدم المساجد على المصلين أحياناً، وضرب المسلمين؛ بل إنه يبلغ بهم الأمر إذا أرادوا من مسلم أن يعترف بأمر يريدونه فإنهم يخلعون ملابسه ويجلسونه على الجمر -والعياذ بالله! - حتى يعترف لهم بما يريدونه حقاً أو باطلاً.
ويعمدون إلى كبار السن من العجائز -رجالاً ونساءً- ويعاملونهم بألوان من الأذى لا يعلمها إلا الله، وربما جاءوا بشيخ أعمى هرم كبير السن، ليس له إلا ولد واحد في سن السابعة عشر، أو الثامنة عشر، فيصبون البنزين على ولده ثم يحرقونه في الحال.
وهذه ليست مبالغات ولا تهاويل، بل هذه تقع على مسافات ليست بعيدة من بلادنا، في أكثر من مكان وفي أكثر من بلد، ولو ذهبت أسترسل في هذا الحديث لخرج بنا الموضوع إلى حديث آخر، وقد تحدثنا سلفاً وفي مناسبات، وتحدث غيرنا عن أوضاع مريرة يعيشها المسلمون في كل مكان.
واعلم -أيها المسلم- أن الذي تغذى بغيرك يتمنى أن يتعشى بك، وإذا لم تنصر إخوانك فثق أنك قد تستنصرهم وتحتاج إليهم في يوم من الأيام فلا ينصرونك، ولا تغتر بما أنت فيه فالدهر دول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
والملك بيد الله، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فربما افتقر الغني، وربما اغتنى الفقير وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل.
فالأمر بيد الله، والرزق بيد الله، والقوة من الله، والغنى من الله، فاشكر الله تعالى أيها المسلم، والذي نقترحه عليك ونراه حقاً عليك أن تضع لك على المدى البعيد حصالة للنقود تضع فيها مما أعطاك الله تعالى شيئاً من المال تخصصه للمسلمين، أو للأعمال الخيرية كتحفيظ القران -مثلاً- أو نشر الكتاب الإسلامي، أو نشر الشريط الإسلامي، أو مساعدة الفقراء وما أكثرهم في هذا المجتمع، وفي غيره من المجتمعات هم أكثر وأكثر، المهم لو خصصت من راتبك شهرياً -كما اقترح أحد الإخوة عليَّ في رسالة- مائتي ريال في الشهر جعلت منها خمسين ريالاً للمسلمين في أنحاء العالم، وخمسين ريالاً لتحفيظ القران، وخمسين ريالاً لطباعة الكتاب والشريط الإسلامي، وخمسين ريالاً للفقراء والمحتاجين، كم سوف ينفع الله سبحانه وتعالى بهذا المبلغ الزهيد، وكم سوف يدفع الله تعالى به عنك أنت من ألوان البلاء والمحن؟! ولعل من أهم ما يستدفع بالصدقة ميتة السوء التي يخشى كل مؤمن منها، فربما دفعها الله عنك بفضل صدقة يسيرة تنفع غيرك ولا تضرك، فالاقتراح الآن أن يأخذ كل شخص على عاتقه أن يجعل من مرتبه ولو شيئاً يسيراً ولو رمزياً.
وإذا قال القائل: أنا مرتبي زهيد، نقول: ادفع ولو مبلغاً زهيداً، المهم أن تعود نفسك مبدأ الجود والعطاء في سبيل الله، ومبدأ المشاركة؛ لأنك أنت الآن إذا صرت تسمع أن المسلمين يواجهون كيت وكيت من المشاكل والمصائب والهموم، فلابد أن في قلبك حسرة ماذا صنعت لهؤلاء وماذا قدمت لهم؟! أنت تسأل نفسك، فإذا كانت النتيجة أنك ما قدمت شيئاً فسوف تشعر بأنك منسلخ عنهم غير إيجابي ومتفاعل، لا تشعر بمشاعر الأخوة الإيمانية معهم، وهذا لاشك يضر بك كثيراً، لكن إذا شعرت بأنك قدمت ما تستطيع ولو شيئاً يسيراً، ولو بشق تمرة؛ شق تمرة هو صدقة منك على نفسك أولاً وعلى غيرك ثانياً.
فندعو إخواننا المسلمين إلى أن يلتزموا بمثل هذا البرنامج على مدى العام، وبشكل خاص في شهر رمضان؛ فإنه هو شهر الطاعة، وهو شهر الكرم والجود، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فكان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] .
فأنا أدعوكم -أيها الإخوة- إلى مناصرة إخوانكم المسلمين بما تستطيعون، يقول بعض الناس: هؤلاء المسلمون مقصرون في دينهم، وبعضهم عندهم انحرافات، وبعضهم عندهم بدع، ونحن لا نزكي هؤلاء، وهذه الانحرافات والبدع موجودة عندهم وعند غيرهم، والتقصير موجود هنا كما هو موجود هناك، ولكن السؤال أولاً: هل هم مسلمون أم كفار؟ إذا كانوا مسلمين فدعمهم عليك حق ولو كانوا مقصرين، وهم مسلمون ولا شك، هذا أمر.
والأمر الثاني: أنه يفترض أنك داعية، فليس الحل هو أن تتركهم يموتون جوعاً وعطشاً، وتقول: هم مقصرون.
بل الحل أن تذهب لتغيثهم وتسقيهم وتطعمهم وتطببهم -إن استطعت- وتعمل ما تستطيع وتحمل مع ذلك كله الدعوة إلى الله تعالى، والدعوة إلى الالتزام بالحق؛ ودعوتهم إلى العمل بالكتاب والسنة، وتصحيح الأخطاء الموجودة عندهم سواء كانت أخطاء في العقائد، أم في الأعمال، أم في السلوك، أم في غير ذلك.
أما كوننا نتفرج ونسلمهم إلى النصارى؛ يعبثون بعقائدهم، ويعبثون بأخلاقهم، ويقدمون لهم الخدمات.
فهذا والله أمر عجيب! وإذا تخلينا فسوف يزيدون عما هم فيه بعداً وانحرافاً، بل قد يحصل وحصل هذا فعلاً أن هناك قرى أحياناً بأكملها -وإن كان هذا بحمد الله ليس كثيراً لكنه موجود- قد تتحول من الإسلام إلى النصرانية.
لا إعجاباً بالنصرانية؛ فالنصرانية دين أهله تخلو عنه، ولكن جوعاً وعطشاً، وإذا كان لا يأتي الطعام والشراب والكساء والعلاج إلا من خلال اعتناقهم للنصرانية فهم اعتنقوها وهم يشعرون بأنه ليس أمامهم إلا هذا الطريق وأن الأبواب كلها أُغلقت إلا هذا الباب فسلكوه غير مختارين، فأين المسلمون؟! أين أنتم يا عباد الله؟ وأتمنى أن أتعرف حقيقة: هل قلوبكم تحزن لأحوال هؤلاء المسلمين؟! وهل مشاعركم تضطرب لهم؟! هل دموعكم تنهل من أجلهم أم أنكم تشعرون أن هذا الحديث عن شيء آخر لا يعنيكم؟ وقد تعتبرون أن من إضاعة الوقت الحديث عن مثل هذه الأمور، فأرجو أن لا يكون أعداؤنا -أعداء الإسلام- أفلحوا في تمزيقنا إرباً إرباً، وإيجاد الحدود بيننا.
فلا يوجد في الإسلام حدود جغرافية؛ هذا بلد وهذا بلد، بل الإسلام لا يعرف هذا، فأهل لا إله إلا الله محمد رسول الله كلهم أمة واحدة ليس بينهم حدود ولا سدود.
وطني عظيم لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا في إندونيسيا في إيران في الهند في روسيا وتركيا آسيا ستصهل فوقها خيلي وسأحطم القيد الحديديا فلا توجد فوارق في الإسلام، فكونك تشعر أن هذا بلد وهذا بلد هذا شيء آخر، لكن الإسلام ليس فيه تفرقة والمسلمون كلهم أمة واحدة، يد على من سواهم، يحزن بعضهم لبعض.
تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبع ولو أن بردى أنتَّ لخطب أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع أرأيتم ما يجري في العراق الآن؟ نحن نعرف أي حكومة تحكم في العراق من قبل أن تحصل منها أحداث الغزو السابقة، فهي حكومة بعثية علمانية أخذت على عاتقها حرب الدين، وهذا أمر معروف مسلم، لكن شعب العراق شعب مسلم وغالبيتهم من أهل السنة أيضاً، وفيهم الأكراد؛ والأكراد في الأصل كلهم من السنة، وهم الآن يعيشون الآن تحت وطأة الحصار الاقتصادي، بل إن العراق نفسه يمارس حصاراً آخر على الأكراد، فصاروا يعيشون أحوالاً أشبه بالخيال، ولم يعودوا يتحدثون عن أكل اللحم، فهذا أصبح الآن في عداد الأمور الماضية والتاريخ الغابر، فإنهم تمر عليهم السنة ما أكلوه، لكن القضية في الضروريات التي لا تقوم الحياة إلا بها.
وبلاد الإسلام كلها تعاني من مثل هذه الأمور كما تعاني من داء آخر وهو تسلط الطغاة من البعثيين والعلمانيين والمنافقين وغيرهم الذين يهمهم البقاء في كراسيهم ولو مات الشعب كله عن آخره.
فأتساءل أيها الأحبة: هل قلوبنا تخفق لهؤلاء المسلمين؟! هل نحزن لهم على الأقل؟! وهل نشعر ولو للحظات بالمآسي التي يواجهون؟! أم إننا نأكل حتى نشبع، ونشرب حتى نروى، وننام حتى تهدأ أعصابنا، ونرتاح ثم نقوم وكأن شيئاً لم يكن، وكأن الدنيا كلها رغد من العيش، وأمن وأمان لأهل الإسلام في كل مكان، على أقل تقدير -يا أخي- إذا كنت لا تستطيع أن تساعد، فاحزن لهؤلاء, وارث لأحوالهم، وشاركهم همومهم بقلبك؛ وهذا حزن محمود وإن لم نقل أنك تتعبد به، لكنه حزن محمود، فحزنك لما يصيب الإسلام والمسلمين هو حزن محمود يدل على أن في قلبك حرارة وإيمان، وكونك تسمع بالمصائب والنكبات التي تنزل بإخوانك ثم لا يتحرك في جسدك شعرة؛ هذا دليل على أن في قلبك خواءً، وخموداً، وهموداً، وجموداً وأنك لا تشعر بأحوال المسلمين هنا وهناك.
مرة أخرى أدعوكم يا أهل لا إله إلا الله! أدعوكم يا من أنعم الله عليكم! أدعوكم يا رواد المساجد في هذا الشهر المبارك! إلى أن تتقوا الله تعالى في أنفسكم قبل أن تتقوا الله تعالى في إخوانكم المشردين، والمطرودين، والمهاجرين، واللاجئين الذين غالبيتهم من المسلمين.(86/5)