دور المرأة المسلمة
السؤال
المرأة المسلمة، ما رأيكم في دورها الذي يمكن أن تقوم به في هذه الأزمة التي تعيشها الأمة؟
الجواب
دور المرأة في الدعوة يبدأ مع دور الرجل تماماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة، في أول صحيح البخاري، حين ذكرت نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء إلى خديجة، فذكرته وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وكانت تقول له: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً} فبدأ دور المرأة متزامناً مع دور الرجل، وكان دورها التثبيت والتقوية، والنصيحة والمشورة والحماية والمشاركة.
وكل هذه الأدوار نحتاجها من المرأة المسلمة اليوم، خاصة ونحن ندرك أن المرأة المسلمة والمجتمع المسلم البيت المسلمة، يتعرض لحملات شرسة من الأعداء، والمرأة هي الهدف الأول لسهام الأعداء الداخليين والخارجيين، ولهذا فإن العناية بالمرأة وتوعيتها، وقيام الفتاة المسلمة بدورها الدعوي والإصلاحي، ووجود من يعتنين بذلك، ويتخصصن له، ويبذلن في سبيله الغالي والنفيس، هذا أمر أصبح ضرورة لا خيار لنا فيها بحال من الأحوال.(47/36)
واقع الصحوة الإسلامية
السؤال
بالنسبة إلى الصحوة الإسلامية تحتاج منا إلى وقفة، فلو تحدث لنا الشيخ سلمان عن أسباب هذه الصحوة، وعن الواقع الذي تعيشه وتقويمه لهذا الواقع؟
الجواب
بالنسبة للأسباب؛ فالصحوة هي الأصل، والانحراف هو الطارئ، فالصحوة لا تحتاج إلى البحث عن الأسباب، إنما الذي يحتاج إلى البحث عن الأسباب هو الانحراف الذي كان في الماضي في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وفي معظم قطاعات المجتمعات الإسلامية.
فذلك الانحراف هو الذي يحتاج إلى البحث عن أسبابه؛ لأنه خروج عن الخط الأصلي الذي تميزت به هذه الأمة.
ولا شك أن هناك خط انحراف تاريخي طويل، أدى إلى ما وصلت إليه الأمة، فصحت الأمة بعض الشيء على نفسها، وهي في أحضان الأعداء، والسهام مصوبة إليها من كل جانب، فبدأت تدرك أنه لا يمكن أن تتخلص من كيد أعدائها وتحتفظ بنفسها، إلا من خلال الرجوع إلى مقوماتها الأصلية.
فهي لا تستطيع أن تواجه العدو بفكر العدو نفسه، ولا يمكن أن تواجه العدو إلا وهي أمة مستقلة، وإلا معنى ذلك أنها سوف تذوب وتصبح جزءاً من أعدائها، كما ذابت أمم كثيرة لما حاول أعداؤها أن يدخلوها ضمنهم، وسيطروا عليها، وهيمنوا عليها، واكتسحوها، فضاعت حضاراتها وضاعت مقوماتها، وضاع تاريخها، فأصبحت جزءاً من عالم آخر.
أما الأمة الإسلامية، فإن هذا لا يمكن أن يكون بالنسبة لها، ولا يمكن أن تستأصل وتكون جزءاً من أمة أخرى.
ولذلك تعود إلى مقوماتها الأصلية، إلى دينها، وعقيدتها الصحيحة، كلما تعرضت لهجمات العدو، وهذا الذي حصل بالنسبة للصحوة الإسلامية.(47/37)
بعض سلبيات الصحوة
السؤال
ما هي سلبيات الصحوة؟
الجواب
في الواقع أن الصحوة تعتبر بداية مشجعة؛ ولذلك فمن الطبيعي أن يكون ثمة سلبيات كثيرة، لعل منها أن هذه الصحوة ما زالت لا تخاطب كل طبقات المجتمع، ولعل من سلبياتها: أن هذه الصحوة، أو الدعوة الإسلامية بشكل أصح وأوسع، لا تملك من الوسائل الإعلامية ما يكافئ ويقاوم قوة العدو.
ولعل من سلبياتها أيضاً: ضعف التعليم، ولعل هناك نوعاً من التخبط، لأننا ما زلنا في البداية، ولذلك تجد الدعاة إلى الله عز وجل لا يملكون مناهج صحيحة، ولا يملكون مناهج مكافئة، ولا يملكون من ذلك إلا القليل، ومع ذلك ينبغي أن يكون عندنا ثقة بالله عز وجل، وأمل كبير في مقبلات الأيام.(47/38)
مستقبل الصحوة الإسلامية عقبات على طريق الصحوة
السؤال
ما مستقبل الصحوة الإسلامية؟ وما المحاذير والعقبات التي تقف في طريقها من وجهة نظر الشيخ سلمان العودة؟
الجواب
بالنسبة لمستقبل الصحوة، وهو مستقبل الإسلام أيضاً، فهو من جهة: مستقبل مضمون، وأعجب كيف يقلق قوم بين أيديهم كتاب الله عز وجل الذي يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ويقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] ويقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] ويقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] إلى آخر حشد هائل من النصوص، وأحاديث من السنة، تؤكد أن الأمة باقية والإسلام باقٍ: {بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر} فالمستقبل لهذه الأمة ولهذا الدين ولهذه الصحوة بلا شك.
لكن هذا المستقبل؛ قضى الله تعالى وقدرَّ، أنه يتم من خلال جهد الناس وتضحيتهم وعرقهم وسهرهم وجهادهم، والله تعالى قادر على أن يكون ذلك بواسطة ملائكة ينزلون من السماء، لكن شاء جل وعلا أن يكون هذا أثر من جهود الناس الذين ابتلاهم واختبرهم بهذا، لذلك فمن البدهي أن نقول: إن المستقبل لهذا الدين ولهذه الأمة، وللإسلام.
وقد يكون في الطريق عقبات كثيرة ومتاعب ومصاعب، كما قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} [التوبة:16] وذكر في آيات كثيرة الابتلاء وأنه سنته في خلقه.
فهناك محاذير وعقبات تواجه الدعاة إلى الله عز وجل، وقد تؤخر أو تؤجل من النصر الذي يمكن أن يحصل عليه المسلمون.
ومن أهم هذه المحاذير: التفرق، فإن الله عز وجل قال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فإن التفرق والشتات من أهم أسباب الفشل، وذهاب الريح، وتسليط الأعداء، قال الله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] إذ أنه يفتت الجهود ويشتتها، ويضرب بعض الدعاة ببعض، ويحول الجهد بدلاً من أن يكون مضاعفاً ضد العدو، إلى أن يكون العدو بعافية وبمنجاة، والجهد يضرب بعضه بعضاً، فيحطم بعضه بعضاً.
ومن أهم المحاذير التي تخشى دائماً وأبداً: أن يندفع الدعاة إلى الله عز وجل والمؤمنون بعواطفهم قبل أن يحتكموا إلى منطق العقل، وقبل أن يستشيروا من هم أوسع منهم علماً، وأوضح منهم وأكثر وعياً، وأكثر قدرة على تصور الأمور ومعرفة النتائج والإيجابيات والسلبيات.
إن مما نواجهه ونجده عياناً: أن الصحوة في أكثر من بلد إسلامي، أينعت وكادت أن تصل إلى حد أن تقطف الثمرة، ويحقق الله لها خيراً كثيراً، ويكون لها مكانة بين الناس، وتصل إلى كل بيت وإلى كل شخص.
ولكن يكون هناك تحرك غير مدروس، أو يكون هناك تسرع، أو يكون هناك استجابة لبعض دوافع الاستفزاز، أو يكون هناك انفعالات تدعو إلى الدفاع، وتدعو إلى تصرف طائش، وتدعو إلى استخدام القوة في غير أوانها، أو في غير مكانها، وبأسلوب غير مناسب وممن لا يملك مثل هذا الحق، فتؤدي إلى أن تكون هذه عقبات في طريق الصحوة.
وقد يخسر الدعاة شيئاً كثيراً دون أرباح تذكر، وما السبب إلا أنهم استجابوا لنوازع ودوافع واندفاعات، وربما الواحد منهم يريد أن يعبر عن شعور في نفسه، أو عن غضب، أكثر مما يبحث عن عز ونصر للإسلام والمسلمين.
وأعتقد أن قضية الدعوة إلى الله عز وجل، ليست تنفيس عواطف، ولا مسألة تفريج انفعالات يحسها الإنسان، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} فليجرب الداعية نفسه، هل هو فعلاً وقاف عند حدود الله تعالى؟ إذاً: قد يبلغ به الانفعال ذروته وأوجه، ومع ذلك يمسك ويلجم نفسه بلجام التقوى، والخوف من الله تعالى، فلا يتحرك إلا حيث يعتقد أن الشرع يريد منه أن يتحرك، ولا يندفع أي اندفاع يعتقد أنه يضر بالدعوة، وأحياناً شدة الاندفاع قد تجعل الإنسان يعمى، حتى عن معرفة النتائج وحسن تقديرها.
وأعتقد أن من أعظم المخاطر والمحاذير والعقبات، التي نستطيع أن نقول: إنها أثرت تأثيراً بالغاً في مسيرة الدعوة الإسلامية في أكثر من بلد هي الاندفاعات غير المدروسة، واستخدام القوة بأساليب ليست شرعية ولا يقرها النظر الصحيح، بل إن النتائج تؤكد أن آثارها السلبية كبيرة، ونتائجها الإيجابية إن لم تكن معدومة، فهي ضئيلة جداً.
فما أحوج الدعاة إلى الله عز وجل، أن يتذرعوا بالصبر والحلم وسعة البال وطول النفس، وإذا أشكل عليهم أمر أن يرجعوا إلى علمائهم، وإلى من هم أقدم منهم وأوسع علماً، ويستنيروا بالآراء، والعاقل من حنكته التجارب، ومن اتعظ بأمسه ليومه.
فهذه من أعظم المحاذير التي يُخشى على مستقبل الصحوة الإسلامية منها.
أما إذا سلكت الصحوة الإسلامية أسلوب الحكمة، وأسلوب الدعوة الهادئة، فأعتقد أن النفوس تملك قدراً كبيراً من التأهيل لقبول ما لدى الدعاة، ولسماع كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستفادة من الموعظة، ومن الحكمة.
وهناك مؤشرات كبيرة تدل على هذا منها: قرب النفوس من الخير، واستعدادها لذلك.
فأرجو الله عز وجل وأسأله أن يجنب شباب الصحوة وشباب الدعوة مثل هذه المزالق والمنعطفات، التي لا تعود عليهم بمصلحة، لا في دينهم ولا في دنياهم.
وكم من إنسان يذهب من هذه الدنيا، يعتقد أنه مجاهد وموحد، لكن قد يكون مأزوراً غير مأجور، لأنه ما حسب حسابات صحيحة، ولا درس الأمور دراسة صحيحة، ولا عمل بما يقتضيه الشرع، وما تمليه العقول السليمة، فأدت إلى نتائج أضرت به وبدعوته.(47/39)
الجزيرة العربية وبعض مميزاتها
السؤال
الجزيرة هي بلد الإسلام، وقلعته الأولى، هذا ما تطرحونه دائماً يا شيخ سلمان في بعض أحاديثكم ومحاضراتكم وندواتكم، وهو بلا شك رد على كثير ممن يريدون أن ينالوا من هذه القلعة، فهل يمكن أن تذكر لنا ما تتميز به هذه الجزيرة؟ وما يجب على أبنائها من عمل في سبيل حماية دينها وكيانها؟
الجواب
بالمناسبة أذكر أنني قرأت في إحدى المجلات، في مقابلة مع أحد قادة التحالف، أنه سئل عمَّا لاحظه في هذه الجزيرة، فكان يقول: إنه مضطر إلى أن يعترف بأن هناك عناية إلهية تحمي هذه الجزيرة، وأن الله تعالى يدافع عن أهلها، فهو قال كلاماً هذا معناه.
وأعتقد أن هذا كلام صحيح، والعدل ما شهدت به الأعداء، فلا شك أن هذه الجزيرة هي أرض الإسلام ومنطلقه، وإليها يجتمع وينظم ويأوي مرة أخرى، وكل الفتن التي تعم المسلمين إذا وصلت إلى هذه الجزيرة تحطمت ولا أدل على ذلك من أعظم فتنة؛ فتنة المسيح الدجال، يبدأ العدد التنازلي عنده عندما يصل إلى المدينة المنورة، فيخرج إليه الرجل الصالح، ويفضح أكاذيبه، فيظل في تأخر وتراجع حتى يقتل في الشام، كما هو معروف في الروايات الصحيحة.
فهذه الجزيرة هي قلعة الإسلام وأرضه، وإليها يأوي مرة أخرى، وفيها البلاد التي اختارها الله عز وجل، كمكة والمدينة، وهناك أحاديث وآثار أكثر من أن تذكر.
في هذه البلاد تتميز الدعوة الإسلامية بمميزات، قد لا توجد في أي بلد آخر، لعل من أهمها: أن هذه الدعوة مرتبطة بالمشايخ والعلماء وطلبة العلم المعروفين، فهي ليست مبتوتة عنهم، أو هي طرف وهم طرف آخر، بل الكل نسيج واحد، لا يفترق بعضهم عن بعض.
ولعل من آثار ذلك: أن الصحوة تميزت بأنها صحوة علمية شرعية، تعتمد على النص والدليل من الكتاب والسنة، فهي بعيدة عن اندفاعات العواطف الهوجاء، كما أنها بعيدة عن البدع والانحرافات والأخطاء.
إضافة إلى أن هذه الصحوة، سلمت من ألوان التطرف الذي قد يكون حصل في أكثر من بلد، بل في أكثر من زمان ومكان، من حيث وجود نوع بما يسمى التطرف، واسمه الشرعي الغلو، أعني الغلو الحقيقي، ولا أعني الغلو الذي يلصقه بعض المغرضين بالإسلام وبالدعوة الإسلامية، من أجل تشويه الصورة، فيعتبرون أن الملتزم بالسنة، والعامل بالكتاب، الداعي إلى الله تعالى، متطرفاً مهما كان.
حتى إنني قرأت في أحد المجلات في هذا الأسبوع، يقول: "إن المتطرفين قالوا كلاماً لم يُقل عبر التاريخ كله" فتعجبت وتساءلت في نفسي: ما هذا الكلام الجديد الذي لم يقله أحد عبر التاريخ كله؟ فقال: "إنهم يقولون: إن سماع الموسيقى حرام" يا سبحان الله!! هذا الكلام لم يقل عبر التاريخ، دعك من قناعتك أنت، وإن كنت لست أهلاً لتَبُتَّ في قضايا شرعية، لكن إلى هذا الحد تتجاهل الحقائق!! إذاً: أنا لا أعني التطرف بمفهوم العلمانيين وأعداء الدين، إنما أعني التطرف والغلو الحقيقي الذي يحكم العلماء عليه فعلاً بأنه تطرف، مثل: من يكفر المسلمين أفراداً أو مجتمعات، فهذا لا شك أنه من الغلو، وهو من فكر الخوارج، وهو موجود في أكثر من بلد، لكن هذه البلاد حماها الله تعالى من مثل هذا التطرف، ووجود حالات فردية -مهما كان- لا تعتبر ظاهرة تستحق أن يشار إليها، وتكبر بحال من الأحوال، فهذه من المميزات.
كما أن هذه الصحوة سلمت من الاختلافات التي توجد في بلاد أخرى كثيرة، فهي دعوة إلى الله عز وجل، تقوم على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن تلاعب الأهواء، وبعيداً عن الدوران وراء أشخاص بأعيانهم، ولذلك نرجو الله تعالى أن تكون دعوة واحدة، لا يفرقها مفرق ولا يشتتها مشتت.
فهذه بعض ميزات الدعوة الإسلامية في هذه البلاد، وتلك بعض ميزات هذه الجزيرة.(47/40)
وسائل ترشيد الصحوة الإسلامية
السؤال
عندما تحدثنا الآن عن الإيجابيات والسلبيات في الصحوة، وذكرنا أن هنالك محاذير وعقباتٍ، يخيل إلي أن الموضوع يدعونا إلى أن نوجه سؤالاً إلى الشيخ سلمان حول وسائل النهوض وترشيد هذه الصحوة، لتحقق الآمال المرجوة منها؟
الجواب
الحقيقة إذا شعر المسلمون بأنهم هذه الصحوة، والصحوة هي هُم، وأنها جزء من مجتمعهم، فأعتقد أن المجتمع والأمة والصحوة إلى خير، لأن كل فرد سيجعل من همه تصحيح المسار، وتوجيه هذه الدعوة توجيهاً سليماً.
الأب في بيته، والأخ والأخت، والقريب والبعيد، والكبير والصغير، والعالم والمتعلم، الجميع يتعاونون في هذا السبيل، فإذا حدث هذا؛ فهذا خير كبير للأمة وللمجتمع ولهذه البلاد دون شك.
وعلى أي حال، فإن ترشيد هذه الصحوة، إضافة إلى أنه مسئولية الجميع، هو أيضاً مسئولية من يملكون القدرة على تصور الأمور تصوراً صحيحاً، ورسم الطريق الصحيح، وفهم الأشياء على ضوء الكتاب والسنة.
إن ترشيد هذه الصحوة يعني ضرورة التوجيه الدائم للشباب؛ لأن الإنسان لا بد له من سير؛ فإن وجد الطريق الصحيح، ووجد من يدله عليه سار، وإن لم يجد الطريق الصحيح، فسوف يجتهد ويمضي، وقد يخطئ ويصيب، وقد لا يكتشف خطأه إلا متأخراً، بل قد يصعب عليه أن يتراجع عن خطأٍ أصر عليه سنين عدداً.
ولذلك كان من هدفين اختيار سلسلة من الكتب، عنوانها: نحو ترشيد الصحوة، وقد خرج الكتاب الأول من هذه السلسلة، وهو بعنوان: من أخلاق الداعية، وقد ركزت فيه على عدد من الجوانب، خلاصتها: الدعوة إلى الاعتدال، إلى التوسط، والبعد عن الإفراط أو التفريط في كثير من الأمور، مما يضمن للداعية قدراً كبيراً من الانضباط.
ولعل من القضايا الأساسية التي تحتاج إلى ترشيد هي: علاقة الشاب الداعية أو طالب العلم، أو الشاب المتدين، بالمجتمع، بأسرته وبوالديه وجيرانه وزملائه، وبالحي وبالبلد، بل بالمجتمع كله، فهذه من القضايا التي تحتاج إلى الكثير من التركيز.
بمعنى: ألا نركز في ذهن الشاب المتدين، أنه طرف والمجتمع طرف آخر، وأن العلاقة بينهما علاقة تباعد وتضاد، كلا، بل نشعر هذا الشاب بأنه عنصر إصلاح في هذا المجتمع، وأن دوره في الإصلاح إنما يتم من خلال إقامة الجسور مع هذا المجتمع.
بالخلق الحسن، بالكلمة الطيبة، بتعميق الصلة بالناس، بتقديم الخدمات لهم، حتى في المجالات الدنيوية، بالخدمات لأهل البيت، وللإخوة وللأخوات، للجيران، إيصال الخير إليهم بكل وسيلة، فيكون أنموذجاً حياً لما يدعو إليه الإسلام، بحيث إننا سنستغني بذلك عن الكثير من الكلام الذي يقال في تلميع صورة الدعاة إلى الله تعالى، وسنستغني عن الكثير من الكلام الذي يقال في الدفاع عن الدعاة، وسنستغني عن كثير من الكلام الذي يقال في حماية أعراض الدعاة، أو رد بعض الإشاعات والأقاويل والتهم التي تحاك ضدهم.
لماذا؟ لأنه أصبح كل داعية وكل شاب متدين، أصبح أنموذجاً عملياً لما يدعو إليه.
فهو وسيلة إيضاح واضحة، لا تدع لأحد مجالاً، بحيث إنه إذا وجد مجلس واكتظ هذا المجلس، تحدث هذا فأثنى على شاب طيب، وآخر أثنى وآخر وقد يكون من بينهم مريض القلب، في قلبه مرض وحقد، لكن لا يستطيع أن يتكلم؛ لأنه يشعر أنه يسبح ضد التيار الذي تكلم فيه هؤلاء المؤمنون.
فما أحوجنا إلى تربية الشباب المتدين على تمتين وتعميق الجسور والروابط مع المجتمع، والقيام بالخدمات التي يحتاجونها، حتى في المجالات الدنيوية، فضلاً عن المجالات الدينية، من إيصال الكتاب، والشريط، وإيصال المفهوم الصحيح، والفكرة الطيبة، وكل وسيلة من شأنها أن تحقق هذا الهدف.
والحقيقة هذا الموضوع مهم، وكم كنت أتمنى أن يكون موضوعاً لمحاضرة أو درس، عسى الله تعالى أن يوفق لذلك، لكن -على الأقل- نلقي هذه الإضاءة السريعة.(47/41)
أهم مظاهر غربة الدين ووسائل رفع هذه الغربة
السؤال
من خلال سلسلة الغرباء، التي أصدرتموها، ما أهم مظاهر غربة الدين، وما وسائل رفع هذه الغربة في نظركم؟
الجواب
تحدثت في الجزء الأول عن مظاهر غربة الدين في العصر الأول، كما أنوي الحديث في سلسلة رقم [3] عن وسائل دفع ورفع هذه الغربة، وفي العدد الخامس منها -إن شاء الله تعالى- سيكون الحديث عن الغربة المعاصرة وأهم مظاهرها، ووسائل دفعها أو مدافعتها.
وهذا العدد الخامس هو لا يزال في طور الإعداد، وهو يحتاج إلى وقت كبير، لكن من أهم مظاهر غربة الدين في هذا الوقت، وما أكثر مظاهرها: أولاً: ما أشرنا إليها قبل قليل من قضية العلمنة، التي غزت العالم الإسلامي، بحيث أصبح الدين في نظر كثير من الناس، وفي واقع الحياة، معزولاً عن جوانب كثيرة من شئون الحياة، لا يستشار فيها، وإن استشير فإنما يستشار لتقرير أمر معين يراد أن يكون.
فهذا جانب من مظاهر غربة هذا الدين، حيث أصبح بدلاً من أن يخدم أصبح يستخدم في جوانب معينة، ويعزل عن أكثر جوانب الحياة.
ثانياً: الجهل بقضية الإسلام، أصولاً وقواعد، الجهل بالعقيدة الصحيحة، غلبة البدع المنحرفة: الصوفية، والرافضة، والبدع الاعتقادية الأخرى، أما البدع العملية فحدث ولا حرج، وتضرب في طول البلاد وعرضها، فتجد أن هذه الأشياء أصبحت جزءاً من الدين، يتدين به جماهير المسلمين وعامتهم في بلاد كثيرة دون أن ينكرها أحد، بل إذا همَّ أحد بإنكارها اعتُبر أنه يغير السنة، وهذا يذكرنا أيضاً بكتاب من الكتب المخطوطة في موضوع الغربة، اسمه: بيان غربة الإسلام في بلاد مصر والشام وما حاذاهما من بلاد الأعجام.
ويتحدث هذا الكتاب بالدرجة الأولى، عن قضية الصوفية وانتشارها وتغلغلها في فترة تاريخية مضت -في فترة بعيدة- فما بالك في هذا الزمان، والله المستعان.(47/42)
واقع الأمة الإسلامية اليوم
السؤال
عندما نفتح بوابة للتأمل على واقع الأمة الإسلامية في هذا الزمن، فما الذي سيقوله الشيخ سلمان العودة في وصفه لهذا الواقع؟
الجواب
واقع الأمة الإسلامية، أصبح على سبيل الإجمال ليس بحاجة إلى بيان، فإن كل فرد منا يعيش هذا الواقع، ولعل من إيجابيات هذا الواقع: أنه لم يعد هناك أحد مقتنعاً بصلاحية هذا الواقع للبقاء والاستمرار، فقد وصل الواقع في الأمة الإسلامية من التردي إلى الحد الذي أصبح الجميع مقتنعين بأنه واقع متردٍ يجب أن يتغير، فيكفي هذا وصفاً لهذا الواقع، فهو نهاية مجموعة من الإحباطات، ومجموعة من حالات الفشل والتأخر عن دين الله عز وجل، والانفلات من قيم الدين وأحكامه، حتى الانفلات، من مصالح الدنيا التي يحتاج الناس إليها وهذا نتيجة طبيعية لترك الدين، ونرجو أن يكون هذا بداية للتصحيح، فإن الأمر إذا بلغ نهايته، معناه بداية صفحة جديدة، يرجى أن تكون أفضل مما كان عليه الحال.(47/43)
أخطر الأعداء
السؤال
هنالك بعض النقاط حول واقع الأمة الإسلامية، نستأذنكم بأن نطرحها بشكل سريع؛ منهم أخطر أعداء الأمة؟ وما وسائلهم في تفريقها وتمزيقها من وجهة نظركم؟
الجواب
أخطر الأعداء ذكرهم الله تعالى في كتابه: وهم اليهود، فاليهود أخطر الأعداء، وأشدهم عداوة، وأعظمهم مكراً وكيداً، وإن كانوا يكيدون على التقية والخفاء، فهم لا يستطيعون مواجهة الأمة في وضح النهار، إنما من وراء الأستار يكيدون ويدبرون، ولهذا لا يحتفظ التاريخ بمعركة فاصلة مع اليهود للمسلمين قط، إنما يحتفظ بمناورات ومحاورات وكيد خفي، ولا يزال الكيد موجوداً إلى اليوم.
وبقي أن نعلم أن هناك معركة قادمة، شاء الناس أم أبوا مع اليهود، كما حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مكانها على نهر الأردن، كما في حديث نهيك بن صريم، وهذه المعركة آتية لا ريب فيها.
وفي حديث في الصحيحين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن المسلمين سوف يقاتلون اليهود، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} فخطر اليهود هو أعظم خطر على الأمة الإسلامية.
العدو الثاني: النصارى، وهم أيضاً عدو تاريخي كبير، وملاحهم مع الإسلام في الماضي والحاضر والمستقبل معروفة، وامتلأت بها صفحات كتب التاريخ.
العدو الثالث: المشركون والوثنيون، ويدخل فيهم الملاحدة الشيوعيون ونحوهم، وهؤلاء أيضاً عدو شديد العداوة.
والعدو الرابع: هم المنافقون، ولعل المنافقين هم من أخطر الأعداء؛ لأنهم يتعاونون مع كل عدو ضد الإسلام والمسلمين، ولأنهم مندسون في الصف، وتمييزهم صعب، وهم يعتبرون جزءاً من الأمة، ويتسمون بأسماء المسلمين، وقد يكون لهم من القدرة على التأثير والتغيير والإفساد ما ليس للعدو البعيد المتميز.
فهذه أبرز أعداء هذه الأمة، وينبغي أن نعلم أن هذه الأعداء جميعاً تتحالف بعضها مع بعض ضد الإسلام.(47/44)
من خطط الأعداء في تفريق الأمة الإسلامية
السؤال
هنالك مقولات تفرق عادة بين المسلمين، وتنطلق من خلالها أخطار تحدق بالأمة، كأخطار القومية والشعوبية، كيف يمكن لك أن تحدد هذا؟
الجواب
القومية والشعوبية، وجهان متقابلان في الظاهر، والقومية هي التي تغالي في تقدير قيمة العرب، والشعوبية هي التي تسقط العنصر العربي وتزدريه وتحتقره، وكلاهما انحراف عن الجادة، والعرب في ميزان الشعوب لهم ميزات وفضائل متى تمسكوا بهذا الدين، لكن إذا تخلوا عن هذا الدين فلا قيمة لهم ولا اعتبار.
ويبقى أن من خطط الأعداء: تفريق المسلمين، لأنهم يدركون أنهم يستطيعون أن يقضوا على المسلمين متى ما أوجدوا الفرقة بينهم، فكل فئة يمكن القضاء عليها على انفراد، لكن لو واجههم المسلمون كأمة واحدة ولحمة واحدة؛ لعجز العدو عنهم.
ولهذا فخطط الأعداء تبدأ بتفريق المسلمين بدعوات القومية ودعوات الشعوبية، فضلاً عن الدعوات الأخرى من الدعوات الأرضية، كالبعثية واليسارية والماركسية وغيرها، حتى يفرقوا الأمة ويمزقوها، ويقطعوا أجزاءً وأوصالاً من جسدها، فجزء صار بعثياً، وجزء صار اشتراكياً، جزء صار شيوعياً، كل هذه أوصال انفصلت عن جسم الأمة الإسلامية، فإذا بقيت الأمة فرقوها بشتى الشعارات والآراء، حتى يقضوا عليها شيئاً فشيئاً.(47/45)
منهج أهل السنة والجماعة في التغيير
السؤال
إزاء هذا الواقع، ما منهج أهل السنة والجماعة في تغيير واقع الأمة إلى الأصلح؟ وما وسائل تحقيق هذا المنهج؟
الجواب
هذا السؤال مهم جداً، لأنه مجال أفكار وآراء كثيرة متباينة، وأعتقد -أيضاً- أن مثل هذا الموضوع ليس مجرد سؤال، بل هو موضوع كبير، وهو مما يحتاج إلى أن يتنادى إليه العلماء والدعاة والمصلحون في حلقات نقاش طويلة، ولو أمكن في بعض المؤتمرات التي تعقد في أكثر من مكان، أن يكون هذا من موضوعات البحث، بحيث تطرح فيه أوراق مختلفة، ويكون هناك نقاش للوصول إلى الأفضل.
لكنني أود أن أشير إلى عدد من الكُتاب عُنوا بهذا الموضوع، ولا يمكن لمن يتكلم في هذا الموضوع؛ أن يتجاهل ما كتبه المفكر الجزائري المسلم: مالك بن نبي، فقد كتب عدداً من الدراسات، مهما يكن عليها من مآخذ وملاحظات، إلا أن فيها نفساً جيداً في قضية النظرة السليمة للتغيير -تغيير واقع الأمة- لأننا يجب أن ننظر للأمة على أنها كلُّ، وليست أجزاء.
إذاً: التغيير يجب أن يكون تغييراً حقيقياً للأمة، وليس تغييراً شكلياً، والتغيير الحقيقي للأمة لا بد أن ينطلق من الإنسان، فإذا أفلحنا في تغيير الإنسان، معنى ذلك أننا أفلحنا في تغيير الأمة، وبدأت البداية صحيحة.
ويكون التغيير بتغيير الإنسان عقدياً، وهذا التغيير العقدي بإصلاح عقيدته في الله وفي الملائكة، والكتب، والرسل، وفي البعث وفي كل قضايا الإيمان، وهذا التغيير يترتب عليه تغيير في سلوك الإنسان، ويترتب عليه تغيير في واقع الأمة بأكملها؛ لأننا نملك قناعة بأن هذه الأمة أمة عقدية، ومتى تخلت عن هذه الميزة فليس لها قيمة، فهي أمة عقدية.
فلا بد أن ينطلق التغيير من الإنسان، الإنسان يجب أن يكون منطلقاً لهذا التغيير.
يتساءل بعضهم عن عقبات وأوضاع كثيرة موجودة في واقع الأمة، وكيفية تغييرها.
فنقول: هذه العقبات مرتبطة بأشخاص، وأفراد الأمة، والقرآن الكريم واضح كل الوضوح في الترابط الكامل بين جميع طبقات هذه الأمة، كالترابط بين الآباء والأبناء، وبين العالم والمتعلم، وبين الرجل والمرأة، وبين الحاكم والمحكوم فالترابط بين كل فئات المجتمع، وهذه قضية ثابتة في الشرع.
وخذ على سبيل المثال، قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] نولي أي: نجعلهم أولياء، والولاية في أصل اللغة العربية معناها: أن شيئاً يلي شيئاً، أي: أنه قريب منه، مقترباً منه، وموالياً له.
إذاً هذا المجتمع الذي يوالي بعضه بعضاً، فكبيره يوالي صغيره، وحاكمه يوالي محكومه، وهكذا الرجل والمرأة، والعالم والمتعلم، إذاً: هذا المجتمع بينهم قاسم مشترك عام، وهو روح تسري في هذه الأمة، فمتى أمكن تغيير الفرد وبدأ تغيير الفرد بداية صحيحة، معنى ذلك أن هذه الأمة ستتغير لا محالة، وأن مقتضى عدل الله عز وجل أن الله تعالى يولي بعض الظالمين بعضاً، وكذلك يولي بعض الصالحين بعضاً، فيوم كان الناس في مثل حال عثمان وعلي وعمر والزبير وطلحة، كان على رأسهم مثل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولما تردت أوضاع الناس؛ تردت أوضاعهم على كافة المستويات، على مستوى العالم، والمتعلم، وعلى مستوى الحاكم، والمحكوم، والرجل والمرأة.
ومن الملاحظ أن الأمة من ضمن ما تعيش من آفات وأمراض وعلل؛ أنها دائماً تحاول أن تلقي بالمسئولية على الآخرين، ومن ضمن ذلك: أن الناس يلقون بالمسئولية على أي جهة، يمكن أن تتحمل الوزر عنهم في زعمهم مثلاً، فتجد أن العامة يلومون العلماء، وقد تجد من العلماء من يلومون العامة، وقد تجد من الرعايا من يلومون حكامهم، وقد تجد الحكام يلومون رعاياهم، أي أن هناك روح التلاوم الكبيرة، ولا شك أن نسبة الخطأ تتفاوت، فليست المسئولية واحدة.
لكن من حيث مبدأ التغيير والإصلاح، إذا تصور شخص أن القضية هي إصلاح العالم فقط، أو إصلاح الحاكم فقط، أو إصلاح المرأة فقط، فإنه يكون مخطئاً، فلا بد من إصلاح المجتمع بأكمله، وبالتالي فإن المجتمع عبارة عن أفراد فلا بد من إصلاح الإنسان، والتركيز على الإنسان في بنائه وفي عقيدته، وفي تصحيح نظرته؛ لأن العقيدة منطلق لكل التصرفات، فتصحيح العقيدة يتبعه تصحيح كل تصرفات الإنسان.
والكلام في هذه القضية لا شك يطول، بل إنني أعلم أن هنالك رسائل ماجستير ودكتوراه في مثل هذا الموضوع، لكن هذه على الأقل نظرة عابرة تتناسب مع ضيق الوقت.(47/46)
آثار أزمة الخليج
السؤال
أزمة الخليج المعاصرة، صورة من الصور الدامية في واقع هذه الأمة، ولا شك أن لهذه الأزمة آثارها التي ظهر بعضها، والتي ربما يظهر بعضها في المستقبل.
فما تصوركم لهذه الآثار، وما توقعاتكم للآثار المستقبلية من خلال استقراء أحداث هذه الأزمة؟
الجواب
في الواقع ينبغي أن نسأل أولاً: هل هي أزمة مبتوتة الأصل عن واقع الأمة؟ بمعنى أنها مجرد نزوة من طاغية، أم أن الأمر مع ذلك وأكبر من ذلك.
لا شك أن القضية نزوة طاغية، هذا موجود، لكن لا أعتقد أن هذا الأمر بهذا التبسيط، ولعل هذا من عيوبنا في التفكير، فأحياناً قد نضخم القضايا أكبر من حجمها، حتى كأنها تستعصي على الحل، ثم نُهوِّنها من جهة أخرى حتى كأنها لا تحتاج إلى حل.
فأعتقد أن القضية ليست قضية فردية، بل القضية تنبعث من مشكلة الأمة بأكملها، فهي أزمة ضمن أزمة أكبر منها، هي مظهر في الواقع أو عرض لمرض تعيشه الأمة، وهو غياب الإنسان، -كما ذكرنا قبل قليل- هذا نموذج.
أزمة غياب الإنسان الفاعل المؤثر في الأمة، وبالتالي يمكن أن ينتهي دور حاكم العراق، ويأتي دور عشرات أمثاله، لماذا؟ لأن غياب الإنسان الذي يقول له: لا، ويمنعه من الطغيان، ويمنعه من الاستبداد والاعتداء على حقوق غيره، ويمنعه من الظلم، غياب هذا الإنسان، هي الأرضية الخصبة التي يمكن أن ينبت فيها مثل هذا الحدث مرة أخرى أو يتكرر.
إذاً هي جزء أو إفراز واقع الأمة، ولذلك فإن الآثار في اعتقادي باقية، ونسأل الله تعالى أن يقي الأمة شر أعدائها، وأن يكفيها كل من يريد بها سوءاً أو مكروهاً.
وأما سبل الاستفادة من تلك الآثار والخروج منها، فلا شك أنه ما أنزل الله من داءٍ إلا وله دواء، وأن سبل الإصلاح كثيرة، لكنها تحتاج إلى العزيمة الصادقة في إزالة الأسباب التي قد تُوجد مثل ذلك، فإذا أقبلت الأمة على الإنسان -ثروتها الهائلة المهدورة- تنمي فيه رجولته وكرامته وإنسانيته، وتحفظ له شرفه وقيمته وقدره، ولا تهدر ذلك على عتبة النفاق والتردد والمجاملة وإذا اعتبرت الأمة بأفرادها وبالبشر الذين هم جزء منها؛ فمعنى ذلك أن الأمة سلكت الطريق الصحيح للإصلاح، وهذا كله لن يكون ولن يتم إلا من خلال مراجعة المنهج الإلهي، والرجوع إليه، والتزام الناس بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في دقيق أمورهم وجليلها.(47/47)
وضع الجهاد الأفغاني
السؤال
ننتقل إلى سؤال آخر حول واقع الأمة الإسلامية، وهو سؤال يتعلق بالجهاد، فالجهاد في بعض الدول الإسلامية قائم وبحمد الله، ولو أخذنا مثلاً على ذلك أفغانستان؟ فما تقويمكم لوضع الجهاد الأفغاني الآن؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر في أحاديث كثيرة؛ أن الجهاد ماض إلى قيام الساعة، ومصداق ذلك أن هذه الراية مرفوعة، كلما سقطت في بلد تلقفها آخرون، ولعل المجاهدين في أفغانستان ممن شارك في حمل هذه الراية، وإحياء هذه الشعيرة على مدى أكثر من عشر سنوات، وهذه منِّة كبرى من الله تعالى منَّ بها على أهل تلك البلاد.
والجهاد الأفغاني أصبح مدرسة تخرج منها كثيرون، وتعلم منها المسلمون في أكثر من بلد كيفية صناعة العزة والكرامة، وكيفية رفض مؤامرات الأعداء، وكيفية التحرر من كيدهم ومكرهم، حتى استطاع المسلمون أن يؤثروا في واقع أكبر دولة في العالم، واقع روسيا الشيوعية.
ولست أزعم أن سقوط روسيا هو بسبب الجهاد الأفغاني، فلا شك أن هذا زعم مفرط للخيال، ولكنني أعتقد أن للجهاد الأفغاني أثراً لا ينكر فيما حصل للشيوعية، فهو أحد الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها الشيوعيون.
ومجموع هذه الأخطاء كان سبباً في سقوط الشيوعية في بلاد العالم، وتخلخل وضع الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية كما هو معروف، وتعرضها للانهيار الاقتصادي والسياسي الذي تعاني منه الآن.
فالجهاد الأفغاني مدرسة استفاد منها المسلمون في أكثر من بلد، وفي كيفية إحياء شعيرة الجهاد، في كيفية مقاومة عدوهم، ولهذا فلا غرابة أن نسمع بأخبار الجهاد في إرتيريا وفي الفلبين وفي أكثر من بلد إسلامي.
ولكن من الأشياء التي أتساءل عنها بدهشة، أن هذا الجهاد الذي عمره -كما ذكرت- أكثر من عشر سنوات، عدد من قتلوا -ونرجو من الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله- قد يقارب المليونين، والأموال الذي بذلت فيه طائلة هائلة لا يقدرها إلا الله، العرق، الدموع، الدماء، السهر، تضحيات جسام، ألا تستحق هذه الجهود الجبارة، وهذه التضحيات الجسيمة، ألا تستحق من المسلمين نوعاً من المراجعة، ونوعاً من محاولة الدراسة لمعرفة الأرباح والخسائر، ومعرفة الخطأ والصواب، ومعرفة أسباب تأخر النصر، ومعرفة أهم العقبات والمعوقات، ومعرفة وسائل تحقيق النصر، ومحاولة تصحيح المسار، ومحاولة الاستفادة من الجهاد في أفغانستان؛ للجهاد في أي بلد إسلامي آخر، ومحاولة الاستفادة حتى لواقع الأمة الإسلامية؟ أعتقد أن هذه الأسئلة وغيرها كثير لم يطرح إلى الآن، وهو في الواقع مدهش، فهو يدل على أن المسلمين يملكون التضحيات، لكنهم لا يملكون التفكير الجاد في كثير من الأحيان.
فأقل ما يجب للجهاد الأفغاني على المسلمين والعلماء والمفكرين؛ أن يكون هناك مؤتمر، بل مؤتمرات أو دراسات -على الأقل- على صفحات المجلات والصحف، دراسات منصفة هادفة، يعنيها همُّ الإسلام، وليس يعنيها شيء آخر، ولا تنطلق من منطلق التشفي أو الوقيعة، أو أي منطلق غير شرعي، إنما تنطلق من منطلق النصيحة لله ورسوله، ثم النصيحة لهؤلاء المجاهدين، ثم النصيحة للمسلمين في كل مكان، تعمل على مراجعة المسيرة، ومعرفة أين أخطأنا وأين أصبنا، وما حجم أرباحنا، وما حجم خسائرنا، وكيف نستفيد من هذا الأمر للمستقبل!! أما أن نتعامل مع القضية بعاطفية محضة؛ فهذا لن ينقلنا من ورطة إلا إلى ورطة أخرى، ولن ينقلنا من مشكلة إلا إلى مشكلة أعقد منها.
وأسأل الله تعالى أن يكلل جهود المجاهدين الأفغان بالنجاح، ويكلل جهود المجاهدين في كل مكان.
وأثني على الانتصار والنجاح الذي حصل في رمضان، وهو سقوط مدينة خوست أحد أكبر المدن الرئيسية، في أيدي الإخوة المجاهدين.(47/48)
ولاية الفقيه
السؤال
مسألة ولاية الفقيه، أثارها بعض الناس، واتهم بعض الدعاة بالدعوة إليها، فما قول الشيخ سلمان العودة في هذه المسألة؟
الجواب
الناس قد يتكلمون في أمور، لا يستطيعون أن يدركوا خلفياتها ولا أبعادها الفكرية ولا العقدية أو سواها.
فأول سؤال يجب أن يطرح: ما هي ولاية الفقيه؟ فمن حق قرائي أو مستمعيَّ أن أشرح لهم المصطلح، والمصطلح ليس ملكي، ولا أنا الذي ابتدعته، أي أن الذي كتب في هذه المسألة، ليس المصطلح ملكه ولا هو الذي ابتدعه، إنما هو ناقل فليحدد لنا ما هي ولاية الفقه.
ولاية الفقيه مبدأ شيعي (100%) غير قابل للنقل لأي مذهب آخر، لأن الشيعة تميزوا بميزات عن أهل السنة.
ومن مميزاتهم أنهم يعتقدون بوجود إمام غائب، غاب سنة (260هـ) ولن يعود إلا في آخر الزمان، وهو الإمام الثاني عشر محمد بن حسن العسكري،ولهذا يسمون الإثنى عشرية، لأنهم ينتظرون ظهور هذا الثاني عشر.
وكثيراً ما يقولون بما فيهم الخميني: (عج) بعدما يذكرون اسمه، فهم يرمزون له بحرف العين والجيم، رمزاً لقولهم: عجل الله فرجه وسهل الله مخرجه، فهم يعتقدون أن هذا الإمام المختفي في السرداب سيظهر.
ولذلك سخر منهم الشعراء، وقال قائلهم: ما آن للسرداب أن يلد الذي أدخلتموه بجهلكم ما آن فعلى عقولكم العفاء فإنكم كلفتم العنقاء والغيلان أي: أنكم أتيتم بالمستحيلات، رجل غاب سنة (260هـ) ودخل السرداب، ويخرج بعد عشرات القرون بل مئات القرون، فهذا أمر عجاب، فالشيعة يعتقدون بالإمام الثاني عشر، ويرون أن الأمور كلها موقوفة إلا بظهور هذا الإمام، فلا ولاية إلا بظهوره، وكل دولة تقوم قبل ظهوره؛ فهي دولة باطلة ظالمة طاغية وحكامها مغتصبون.
فهذه هي عقيدتهم، وبالتالي واجهوا إحراجاً كبيراً طوال التاريخ، فأوجد الخميني في ولاية الفقيه لهم مخرجاً، حيث أنه جعل الفقيه الشيعي ينوب عن الإمام الغائب -بزعمهم- في تولي مسائل معينة، فجعله نائباً عنه وسمى هذا الاجتهاد الخاص به ومن قبله بأحد مشايخه، سماه: ولاية الفقيه.
فأهل السنة والجماعة ليس عندهم الإمام الثاني عشر، وأهل السنة والجماعة منذ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كان الحكم فيهم للكتاب والسنة، والذين يحكمونهم -بحمد الله تعالى- مسلمون، وبالتالي ليسو بحاجة إلى ولاية الفقيه؛ لأن الفقيه حينئذٍ ينوب عمن؟! فليس هناك أصلاً من ينوب عنه هذا الفقيه؛ حتى تقوم هذه الفكرة أو النظرية أصلاً، إنما هي نظرية شيعية بدءاً وانتهاءً.
أما أهل السنة والجماعة، فالذي يحكمهم مسلم، سواء كان فقيهاً أم يأخذ عن الفقهاء، والأمر سيان، سواء حكم بعلمه هو إن كان عالماً، كما يُفعل بالنسبة للخلفاء الراشدين، أو عمر بن عبد العزيز أو معاوية بن أبي سفيان أو غيرهما من الخلفاء الفقهاء، أم كان يرجع إلى فقهاء أهل السنة، فيأخذ منهم، ويستشيرهم، ويصدر عن رأيهم، فالأمر في ذلك سيان، والحكم والولاية فيه لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن هذا المنطلق يتبين أن القضية زوبعة في غير محلها، وإنما الذين أثاروا هذه القضية -في الواقع- انطلقوا من ألعوبة نفسية يخادعون بها، وهذه الألعوبة قرأناها يوم كنا طلاباً، وأعتقد أنهم يسمونها التعلم الشرطي، أي: ربط شيء بشيء، بحيث لا يهمه إن كان الكلام خطأً أو صواباً، قبله الناس أم لم يقبلوه، حتى لو اكتشف الناس أنه خطأ، لكن يكفي أن تربط اسم فلان باسم فلان، بحيث يكون هناك شيء من التداعي، كلما ذكر فلان ذكر معه شخص آخر، فيكون هذا مدعاة لتشويه الصورة، أو للتخويف، أو لإحداث نوع من علامات الاستفهام.
وأعتقد أن هذا نوع من الكيد والمكر الفاسد، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] ولهذا دائماً تكون النتائج -بحمد الله- عكس ما يراد له.(47/49)
خطبة الجمعة بين الدور المنوط بها والواقع الذي نعيشه
السؤال
خطبة الجمعة، بين الدور المناط، والواقع الذي تعيشه؟
الجواب
خطبة الجمعة هي من أعظم وسائل الدعوة، لا يوجد وسيلة في الدنيا، بأن يأتي الناس لسماع إنسان -بأوامر الله تعالى وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم- إلا خطبة الجمعة، فبمقتضى التعبد؛ الإنسان مسوق ومدعو إلى الإنصات، وكل مسلم يأتي للجمعة، حتى المقصرين في الفروض الخمسة، ولا يصلونها مع الجماعة، أو يفرطون فيها، يأتون يوم الجمعة، وينصتون للخطبة، بمقتضى أمر الشرع، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت} حتى إنكار المنكر وأنت تسمع الخطبة لا تنكر، حتى رد السلام وأنت تسمع الخطبة لا ترد، حتى تشميت العاطس وأنت تسمع الخطبة لا تشمت، لماذا؟ لأن المطلوب كمال الإنصات للخطيب.
يبقى السؤال: هذا الخطيب كم يستمع إليه؟ لا أعني خطيباً بعينه، لكن عموم خطباء المسلمين، وعموم المساجد يحضرها ملايين بلا شك، بل مئات الملايين في أنحاء العالم الإسلامي، فماذا يسمعون؟ هذا هو السؤال الكبير! ألا تستحق خطبة الجمعة التي يحشد لها هذا الحشد الهائل، ألا تستحق جهوداً خاصة؟! ألا تستحق كتباً معينة؟! ألا تستحق دورات تدريبية للخطباء؟! ألا تستحق تأهيلاً للخطباء؟! ألا تستحق عناية الدعاة إلى الله عز وجل والعلماء والخطباء بالدرجة الأولى، بحيث يكون هنالك اهتمام؟! فليس كثيراً على الخطيب؛ أن يخصص يوم الجمعة والخميس كاملاً؛ لإعداد الخطبة ومراجعتها، وضبطها وتصحيحها، بحيث تكون ملائمة للواقع، وتمس حاجات الناس وواقعهم وظروفهم، وتناسب مستواهم العقلي والذهني واللغوي، وتحرك مشاعرهم، وتكون منوعة، ويلتزم فيها بتربية الناس على الكتاب والسنة والدليل الشرعي، إلى غير ذلك من الأشياء التي يجب على الخطباء أن يحرصوا على إيصالها إلى الناس.
أما واقع الخطبة فالله المستعان! فهناك خطب لا شك على المستوى المطلوب، وخطباء مشاهير ربما بلغت شهرتهم العالم الإسلامي، وهذا أمر مما يحمد بلا شك.
لكن بالمقابل هناك خطباء كثير، قد تجد أن الخطيب في واد، والناس في واد آخر، حتى إننا دخلنا في عدد من المساجد، في العديد من البلدان الإسلامية، فوجدنا أن الناس حلقاً حلقاً، كل عشرة يتحدثون فيما بينهم، وكأنهم في مطعم أو ناد، والخطيب يصيح بأعلى صوته، ولا نكاد نرى إنساناً يستمع لهذا الخطيب، ما السر في ذلك؟ هناك عدة أسباب، منها: أن الخطيب قد لا يكون لامس شغاف قلوب الناس، أو تلمس حاجاتهم، أو خاطبهم بصورة مباشرة، لأن الكلام المؤثر يستمع إليه الجميع، حتى من لا يرغب في الاستماع.
وأمر آخر: قصر الخطبة على معان محددة، بعيدة عما يعتمل في نفوس الآتين إلى المسجد.
وأضرب على ذلك مثالاً: حين كانت الأزمة في الكويت وغزو الكويت، وما ترتب عليها من آثار بعيدة؛ أصبح كل مسلم مشحون بهذه القضية، ثم يأتي إلى المسجد فماذا يسمع؟ قد يجد أن الخطيب يتكلم عن أحكام تغسيل الموتى مثلاً، وهذا الموضوع جيد بحد ذاته، ولا بد للناس أن يعرفوا كيفية تغسيل الموتى، وأحكام الدفن، وما شابهه، لكن هل هذا اليوم هو يومه المناسب؟ ليس هذا اليوم يومه المناسب، هذا في وادٍ وذاك في واد آخر.
فكان ينبغي أن تعالج الخطبة واقع الناس، أو تستفيد من واقع معين لتوجيه الناس نحو الأشياء المطلوبة لهم.(47/50)
رد الأفكار المنحرفة وكيفية الرد عليها
السؤال
الأفكار المنحرفة لا تقدم نفسها للناس بنفسها، وإنما يحملها أشخاص ويقدمونها إلى الناس، فالرد الأسلم هل هو التركيز على الأفكار لدحضها؟ أم على الأشخاص الذين يحملونها لإسقاطهم؟
الجواب
المهم أولاً: هو الأفكار بلا شك؛ لأن الفكرة تنتشر، بخلاف الفرد يذهب ويأتي، ويموت وينتهي ويتراجع، لكن المهم الفكرة في الدرجة الأولى، لأن الفكرة تنتشر وتبقى، وهي بحاجة إلى دحض، وإذا سقطت الفكرة سقط من يحملها.
لكن أيضاً لا ننسى أن الفكرة تتقمص أشخاصاً، وخاصة الأفكار الأرضية في كثير من الأحيان، ليس لها عمر ولا بقاء، ولا امتداد، لأنها كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
فهي تقوم بأفرادها، خذ على سبيل المثال: الناصرية فهي فكرة شاعت وذاعت وراجت في يوم من الأيام، ببقاء أو بوجود شخص يتبناها ويدعو إليها، وأوتي ملكة الخطابة والبيان والتأثير بأسلوب معين، فتجاوب معه سريع التأثر والانفعال في شرق البلاد وغربها، حتى في هذه البلاد وسواها، لكن انتهى فماتت بموته، ودفنت معه في كفنه.
إذاً: الفكرة هي الأهم، أيضاً الأشخاص الذين تقمصوا هذه الفكرة وتبنوها، وأصبحوا رموزاً تعرف بهم، ويعرفون بها، هم أيضاً بحاجة إلى أن يكشفوا للناس؛ حتى لا يغتروا بهم أو ينخدعوا بهم.(47/51)
برنامج الشيخ سلمان اليومي
السؤال
ننتقل إلى بعض الأسئلة السريعة، لنصل بعد ذلك إلى ختام هذا اللقاء، حيث أسعدتنا -جزاك الله خيراً- بهذه الإجابات المختصرة، ولكنها إجابات مفيدة ونافعة بإذن الله تعالى.
فما البرنامج اليومي الذي يتبعه الشيخ في حياته اليومية؟
الجواب
أولاً: درس بلوغ المرام بعد صلاة الفجر، ثم الدرس العلمي الذي أشرت إليه سابقاً، حيث يستمر ساعة تقريباً، وقد يزيد على ذلك في بعض الفرص، ثم ساعة أو أكثر للراحة، ثم الإفطار، ثم بعد ذلك الاشتغال إلى الظهر بما يتيسر، إن كان هناك دروس أو محاضرات، أو قراءة لبعض الكتب، أو تصحيح لكتب أخرى، أو ما أشبه ذلك.
ثم بعد صلاة الظهر وقت للإجابة على الأسئلة بالهاتف، ثم الغداء، ثم وقت الراحة قبل صلاة العصر.
بعد صلاة العصر امتداد لوقت الضحى، إما قراءة لكتب، أو إعداد لدروس أو محاضرات، أو مراجعة كتب معينة.
وبعد المغرب إلقاء درس أو محاضرة، كما هو في يوم الأحد والثلاثاء، وبقية الأيام قد يكون فيها استقبال بعض الضيوف وبعض الطلبة والمحبين، وقد يكون للاستفادة من أشياء مفيدة، أو لزيارة الوالدة أو بعض الأقارب أو نحو ذلك.
وبعد العشاء، إذا كان هناك درس أو محاضرة؛ فالغالب أني لا آوي إلى البيت إلا متأخراً بعض الشيء، ثم يكون هناك تناول طعام العشاء، ثم قد يكون هناك استفادة من الوقت، في قراءة أو تحضير أو مراجعة أو إجابة على بعض الأسئلة، أو تصحيح، وقد يكون هناك أحياناً ارتباطات أخرى.
وقبل النوم يكون هناك ساعة ونصف أو ساعتين: تحضير لدرس الفجر: قراءة من صحيح البخاري وصحيح مسلم، والواسطية، ونخبة الفكر، ونحوها من الكتب، وتخريج لبعض هذه الأحاديث وما أشبه ذلك، ثم النوم بعد ذلك.
فهذه صورة مجملة للبرنامج اليومي.(47/52)
ضيق الوقت بالنسبة للأسرة
السؤال
هل تجد صعوبة أو ضيقاً في الوقت بالنسبة إلى الأولاد والأسرة؟
الجواب
لا شك أنه في حالة وجود الدروس بكاملها قائمة، أن هذا يؤثر على ارتباطات أخرى تأثيراً بليغاً، ولذلك أكثر المستفيدين من توقف الدروس هم الأولاد والوالدة حفظها الله، ولعل ما يحدث هو ببركة دعائهم أيضاً.(47/53)
مكتبة الشيخ سلمان
السؤال
هل يمكن أن نتجول جولة ذهنية في مكتبتك العامرة، ونعرف بعض معالمها وأوصافها ليعرفها الإخوة المستمعون؟
الجواب
عندي مكتبة -بحمد الله- لا بأس بها، وقد قيض الله لي مجموعة من الفضلاء الطلاب والإخوة يوافونني بما يجد في المكتبة العامة من مطبوعات قديمة أو جديدة، في تأليفها، وهذه المكتبة عندي مقسمة إلى أنواع الفنون: تبدأ بالتفسير فالعقيدة، ويتبعها الفرق والملل والأهواء والنحل، ثم الفقه وأصوله، ثم منوعات مختلفة، -وأنا أسردها لك الآن على حسب تسلسل الكتب فيها- ثم التاريخ والسيرة النبوية، ثم الأدب والشعر وما يتعلق بهما، ثم اللغة والنحو والصرف، ثم الموسوعات والقواميس والمعاجم والمنوعات، ثم كتب الوعظ والتربية والتوجيه ونحوها، ثم كتب التراجم ونحوها، ويدخل فيها كتب الرجال في الحديث النبوي ثم كتب الفهارس، ثم كتب السنة النبوية، تأتي في الأخير، وهي في الواقع في الأول؛ لأنها تكون قريبة من مكان جلوسي، بحيث يسهل تناولها لكثرة الحاجة إليها، وكثرة التردد عليها.
وفي هذه المكتبة مجموعة لا بأس بها من أمهات الكتب، وفي ألوان وأنواع وفنون، ولا زال هناك حاجة إلى المزيد.
السؤال: هل هناك عدد تقديري بالنسبة للكتب؟ الجواب: لا أستطيع أن أحددها بالطبع.
السؤال: هل هي مرتبة بحسب الترتيب المعروف؟ الجواب: ليست مرتبة، إنما مرتبة على حسب الفنون، وبسبب الانشغال ليس هناك ترتيب دقيق حتى في داخل الفن الواحد، فهي لا زالت تحتاج إلى حملة أخرى لمزيد من التنظيم.
السؤال: لكن بالنسبة إليك من خلال تعودك عليها لا يكون لك مشكلة في الرجوع، أليس كذلك؟ الجواب: ليس هناك مشكلة كبيرة.(47/54)
الأدب والأدباء
السؤال
بالنسبة للأدب والأدباء، هل لديكم متابعات للساحات الأدبية، وما رؤيتكم للأدب الإسلامي؟
الجواب
في الواقع هناك متابعة قد تكون محدودة، من خلال ما ينشر من كتب أو دواوين أو مقالات أو أشعار أو نحوها، في المجلات الإسلامية والمجلات المتداولة، أو في أشرطة من خلال أمسيات شعرية، أو دواوين ملقاة في أشرطة.
وهناك بعض المتابعات فيما ينشر من نقد أو نظرات في الأدب أو دراسات أدبية، لكنها تبقى في إطار محدود؛ لعدم التفرغ وعدم التخصص.
أما فيما يتعلق بالأدب الإسلامي؛ فلا شك أنه لون من ألوان الدعوة إلى الله عز وجل، بأسلوب يخاطب طبقة غير قليلة من الناس، وهو لا زال كأساليب الدعوة الأخرى، يحتاج إلى مزيد من التأصيل ومزيد من العناية، وتوسيع مجال مخاطبته لفئات المجتمع.
ونسأل الله أن يجعل فيك يا دكتور عبد الرحمن، وفي أمثالكم خيراً وبركة.(47/55)
حب الشيخ للشعر مع قصيدة من شعره
السؤال
يلاحظ كثرة إيراد الشيخ سلمان للشعر في ندواته ومحاضراته، فهل نعتبر ذلك حباً للشعر فقط، أم أن هناك تجارب في نقد الشعر وقرضه؟
الجواب
في الواقع كلا الأمرين، فمن جهة محبة الشعر، فأعتقد أن حب الشعر أمر طبعي موجود عند أكثر الناس، والتلذذ بسماعه، خاصة إذا كان ذا معان قوية وجذابة ومؤثرة، ولذلك كنت أحفظ من صغري عشرات المقطوعات الشعرية بعضها طويل جداً قد يصل إلى ستين أو سبعين أو خمسين بيتاً، ولحفظها في الصغر صرت لا أنساها، وتأتي على لساني كثيراً، وأرى أن إيراد جميل الشعر وحكمه، أنه مما يجمل ويزين الدروس والمحاضرات والمجالس، ويتجاوب معه عدد غير قليل من المستمعين.
السؤال: نسمع شيئاً من شعرك؟ الجواب: الشعر حقيقة استغنيت عنه بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فشغلت بروايات الحديث، وأرجو الله أن يكون الأمر كذلك، وأرجو أن أكون اشتغلت بكتاب الله تعالى عن الشعر.
لكنني كنت أقول الشعر، وربما كانت الفترة الذهبية في ذلك هي المرحلة المتوسطة والثانوية، وإن كان هناك محاولات في المرحلة الابتدائية في الشعر بنوعيه، ومن القصائد التي أذكرها، قصيدة عنوانها: أمة الإسلام، وربما كانت على غرار قصيدة عمر أبو ريشة: أمتي هل لك بين الأمم، قلت في مطلعها: سبح الحق بتيار الدم واشتوى باللهب المضطرم قد عرفناه جمالاً ألقاً ساحر الأنفاس حلو النغم قد عرفناه وما زال وما ينبغي للحق غير الشمم ذلك الإيمان مصباح الدجى وعذاب الكافر المنهزم وضياء الله في الأرض فما غيره يبرئها من سقم عرف الله مطيع مخبت طاهر النفس رضي الشيم ليله محرابه منطقة الدمع مشكاة الظلام الأسحم وهداه الوحي أن شط بمن حوله الجهل ولثم الصنم أمة في الأرض لا يقهرها مجرم بل هي ذل المجرم لا تقل ذلت فما يصدق أن يستذل الفأر ليث الأجم وانتظر وثبتها في غدها انطلاقاً من هداها القيم انتظر وثبة جيل مؤمن طاهر النفس رضي الشيم يغسل الأرض من الكفر فقل ما يريد الناس غير المسلم زمزم فينا ولكن أين من يقنع الدنيا بجدوى زمزم(47/56)
كتب ينصح بقراءتها
السؤال
ما الكتاب الذي حاز على إعجابك وتود أن يقرأه الشباب؟
الجواب
الأسئلة عن الكتب من الأسئلة المحرجة، لكثرة الكتب، وكثرة الجيد منها، فيصبح الإنسان -أحياناً- كالذي يريد أن يفاضل بين أعزاء لديه، بين أولاده، كلما اتجه إلى واحد أدلى الآخر بحجته، ولكن من الكتب القديمة التي قرأتها واستفدت منها كثيراً كتاب: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وميزة هذا الكتاب أنه عني بسرد نصوص كثيرة جداً في باب العقائد، ولا شك أن النصوص في أبواب العقائد مهمة للقارئ، لربط القارئ بالنص من كتاب أو سنة.
وهناك كتاب آخر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للشيخ: أبي الحسن الندوي وهو أيضاً من الكتب التي قرأتها واستفدت منها كثيراً.
وكتاب: خصائص التصور الإسلامي، لـ سيد قطب رحمه الله، أيضاً كتاب بديع، وفيه وقفات ولمحات مفيدة، وغيرها كثير.(47/57)
آخر كتاب قرأه الشيخ
السؤال
إذاً نقول آخر كتاب قرأه الشيخ سلمان العودة، وهل يمكن أن تلقي الضوء عليه؟
الجواب
آخر كتاب قرأته، بل لعله من آخر ما قرأت كتاب اسمه: البعد الديني للسياسة الأمريكية، للدكتور يوسف الحسن، وهي أطروحة دكتوراة، وهذا كتاب في الواقع قيّم في بابه؛ لأنه يكشف عن الدوافع الدينية وراء السياسات الغربية، ويثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بل بمنطق علمي قوي ورصين لمن يدعون إلى العلمانية في بلاد الإسلام، أنه حتى تلك الدول التي تتظاهر بالعلمانية أنها تتحرك بدوافع دينية خفية، هي وراء دعمها لإسرائيل، وهي وراء مواقفها من العرب والمسلمين، وهي وراء تصرفات كثيرة جداً في حياتها السياسية.
وهذا الكتاب مليء بالنقول والنصوص والدراسات والتوثيقات، وهو يتحدث عن الحركة الأصولية المسيحية كما يسميها، أو اللوبي الصهيوني المسيحي في الولايات المتحدة.(47/58)
سماع الأشرطة، وأول من تأثر بهم الشيخ
السؤال
هل تسمعون أشرطة؟
الجواب
نعم، على الأقل في السيارة أحياناً، ولعل من آخر ما سمعت من أشرطة هو للشيخ عبد الوهاب الناصر، مثل هتافات العيد، وغيبة الوعي.
وكذلك شريط لأخي الشيخ عائض القرني، وهو بعنوان: واجب الأمة بعد كشف الغمة، أيضاً.
السؤال: مَن مِن الدعاة يسمع الشيخ سلمان أشرطته، وبمن تأثرت في البداية؟ الجواب: بالنسبة للدعاة مثل ما ذكرت لك، غالب ما أسمع لهؤلاء وقد أسمع لغيرهم، فكل شريط جديد يصلني وأجد وقتاً لسماعه أستمع إليه.
أما موضوع التأثر، بالمناسبة أذكر أن أول محاضرة ألقيتها -إن صح تسميتها محاضرة- كانت في المرحلة الثانوية، لا أدري بالضبط في أول أو ثاني ثانوي، وكانت المحاضرة عند أحد شيوخنا، الشيخ الدكتور: صالح الخزيم أستاذ في قسم الفقه في الجامعة الآن.
فكأنه أحب أن أتعود على إلقاء المحاضرات، فاقترح أن أقوم بها بالنيابة عنه، وفعلاً ذهبت إلى ذلك المكان، ولم أكن أعرف نوعية الحضور، ولذلك أعددت محاضرة عنوانها: (الحضارة الغربية بين إفلاس الروح وطغيان المادة) .
وجمعت فيها وثائق وحقائق وأرقاماً عن الفساد الأخلاقي والتأخر والانحراف، وأشياء كثيرة جداً في واقع الحضارة الغربية، فلما تقدمت وجدت أن الحضور كلهم أو غالبهم من الصبيان، وقد يكون في مقدمتهم مجموعة من أساتذتهم الكبار، لكنهم قلة، لكنني كنت مضطراً إلى إلقاء الكلام الذي أعددته، فألقيت المحاضرة وربما كان غالبهم يغط في نوم عميق.
وبعدما انتهت المحاضرة؛ قام المقدم يختم ويشكرني وينتقد في نفس الوقت هذا الموضوع، الذي جعل الطلاب يشردون ولا يستمعون المحاضرة، وكان المفروض أن يكون الموضوع على مستوى الأطفال، ولم أكن أعرف أنهم أطفال.
فالشيخ صالح الخزيم بارك الله فيه، لم يتحمل هذا الموقف، وقام وعلق على ذلك المعلق بكلام آخر، عز فيه الموقف ودافع عني بما فتح الله عليه في تلك الساعة، ولا زلت أذكر هذا الموقف.
وأعتبر أن البداية كانت على يد الشيخ صالح بارك الله فيه.(47/59)
رسالة إلى العلماء والدعاة
السؤال
نريد من الشيخ سلمان أن يبعث بمجموعة رسائل، إلى: أولاً العلماء والدعاة.
الجواب
أما بالنسبة للعلماء، فالأمة أمانة في أيديهم، وكذلك الدعاة إلى الله عز وجل، وهم مسئولون عنها أمام الله تعالى حفظوا أم ضيعوا، وما أظنهم -إن شاء الله- إلا حافظين للأمانة، أسأل الله أن يعينهم على ذلك.(47/60)
رسالة إلى شباب الصحوة
السؤال
ثانياً: شباب الصحوة.
الجواب
أما حديثي ورسالتي إلى شباب الصحوة: فأولاً: سلامة القلوب، والبعد عن تلبيس الشيطان، وإثارة العداوة والبغضاء فيما بين المؤمنين.
ثانياً: الروابط والوشائج والجسور مع المجتمع، فهي خير معبر لدعوتهم.(47/61)
رسالة إلى المرأة
السؤال
ثالثاً: رسالة إلى المرأة.
الجواب
القرار، القرار في بيتها، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] صوني جمالك عنا إننا بشر من التراب وهذا الحسن روحاني أو فابتغي فلكاً تأوينه ملكاً لم يتخذ دركاً في العالم الثاني(47/62)
رسالة إلى مسئول
السؤال
رسالة إلى مسئول.
إذا كان الناس مسئولين عن أنفسهم، فأنت مسئول عن نفسك وعنهم، الله الله فيما استرعاك الله.(47/63)
برنامج الشيخ في القرآن الكريم
السؤال
برنامج الشيخ سلمان العودة في القرآن الكريم ومائدته؟
الجواب
القرآن الكريم مأدبة الله عز وجل، والسلف رضي الله عنهم كانوا يحرصون على كثرة قراءة القرآن، ومع الكثرة كانوا يحرصون على نوعية وكيفية القراءة، وكيف يتأثرون به ويطبقونه عملياً، وقد غلب على المسلمين في هذه العصور الناحية الكمية على الناحية الكيفية، فأصبحوا يسمعون في أحاديث المساجد -مثلاً- أن فلاناً ختم خمسين وفلاناً ختم مائة مرة، لكن قلَّما يسمعون أحاديث وأخباراً وآثاراً وانفعال عن تأثر وأفعال أولئك القراء بما قرءوا، ولذلك كانت عادتهم دائماً السؤال عن كم، وليس السؤال عن كيف.
أما فيما يتعلق بالعبد الضعيف، فهو مفرط بالكيف مفرط بالكم، وليس له إلا سعة رحمة الله تعالى.(47/64)
طريقة الشيخ في تربية أبنائه
السؤال
ما هي طريقة الشيخ سلمان في تربية أبنائه؟
الجواب
هناك تقصير كبير في هذا الجانب، ولعل العذر الذي يتذرع به بعضنا وأنا منهم، هو الانشغال بأمور أخرى قد يرى كثير من الدعاة أن فائدتها أوسع وأعم، ومع ذلك فالإنسان يحرص على إيجاد جزء -ولو قليل- من الوقت يقضيه مع أبنائه، في توجيههم في بعض الأمور، بل وفي ممازحتهم، إذا أمكن صحبتهم في السيارة، أو في بعض الأسفار التي لا حرج من صحبتهم فيها؛ للتعويض عما يحدث من تقصير، وإيصال بعض الأشرطة المناسبة ليسمعوها، وربما يكررون سماعها فيحفظونها.
أحياناً يكون هنالك بعض الحوافز على حفظ شيء، أو حل الواجب أو ما أشبه ذلك، وحفظهم عن الشارع بقدر المستطاع، وجعل علاقتهم بالمسجد وبالبيت فحسب، أو بصلات مع أناس يطمئن إليهم ويثق بهم الإنسان.(47/65)
اعتناء الداعية باللغة والأسلوب
السؤال
داعية يقدم ما لديه بأسلوب لا يعتني باختياره، وبلغة عربية فيها شيء من الخلل أو الضعف، ما رأيك في هذا؟
الجواب
لا شك أن هذا قدم مادة صحيحة، ولكنها في طبق مكسور.(47/66)
برنامج مقترح للشاب
السؤال
نريد منك برنامجاً مقترحاً لشاب ملتزم؟
الجواب
ليست المشكلة في ترتيب الوقت بالدقيقة أو بالساعة، فكم من إنسان يرتب وقته ولكنه لا يستمر على هذا الترتيب أكثر من أسبوع، إنما الشيء المهم هو أن يحدد الإنسان له أهدافاً لا بد من تحقيقها.
فخلال هذا الأسبوع سوف أقرأ كتاب كذا وهو ثلاثمائة صفحة، وسوف أقرأ من القرآن كذا، وسوف أحفظ من القرآن كذا، وسوف أقوم بزيارة إلى بعض الدروس العلمية، وفي نهاية الأسبوع ماذا أنجزت من هذه الأهداف.(47/67)
مشاركة شعرية للدكتور عبد الرحمن العشماوي
السؤال
جزاكم الله خير يا شيخ سلمان وهنا نقف وقفة أخرى؛ ليختار لنا الشيخ سلمان -جزاه الله خيراً- مادة في هذه الوقفة؟
الجواب
لعل مسك الختام قصيدة مختارة بصوت الأخ الكريم الدكتور عبد الرحمن العشماوي.
الحقيقة أنا لم أكن جاهزاً بأوراق لألقي قصيدة، ولكنني أحفظ بعض القصائد، فعندي قصيدة عنوانها: وشم على ذراع بغداد.
سأستجيب لدعوتك الكريمة، وألقي منها بعض الأبيات، وهي من آخر ما كتبت من القصائد، فأقول في مطلعها: بغداد بغداد هذا ما رأيناه وكم يكذِّب فينا ما سمعناه ما بال عينيك يا بغداد قد عميت عن ظالم صمتك المشئوم أغراه الحاضر المرُّ يا بغداد يؤلمني فأين ماضيك؟ أين العز والجاه؟! ما زال يروي لنا التأريخ قصته فكم حديث على شوق رويناه وكم حديث عن الأمجاد أسعدنا عشنا نردده حتى حفظناه وكم حديث عن الأحباب أطربنا وزادنا طرباً لما أعدناه بغداد يا لغة الإشراق في شفتي ويا غناءً عصامياً شدوناه وقع الحوافر يا بغداد أغنية ثراك ينشدها والرمل أفواه وحمحمات خيول النصر تطربني الحرب دائرة والناصر الله صهيلها في دروب الحق يملكني فكم أذوب به وجداً وأهواه وابن الوليد يروِّي الأرض من دمه والعين في رؤية الأحداث عيناه لم يستعر مقلة أخرى ولا شفة أخرى ولم تصغ للتضليل أذناه كيانك الضخم يا بغداد حصَّنه سيف المثنى ونور الحق جلاه كيانك الضخم بالإسلام قام ولم يقم على فكر زنديق ودعواه النور فوق ذراع الشمس صبَّحه والنور فوق ذراع الفجر مسَّاه بغداد هذا هو الزيف الرهيب وما أظن قومك إلا من ضحاياه نمضي ومن حولنا غابات أسئلة كثرت تكاد تذهلنا عمن قصدناه أين الكتائب والرايات خافقة والله أكبر لفظ جلَّ معناه وأين ربعي والإيمان يرفعه وأين رستم لم تحمله رجلاه أين الرشيد الذي ما كان يذكره نقفور إلا وتلقي السيف يمناه أين ابن حنبل في بغداد مجلسه يزهو فكم طالب للعلم يغشاه لو أبصرت مقلة المنصور ما صنعت بك الدعاوى لما سارت مطاياه ولو تأملك المأمون لاحترقت أوراق حكمته وانهد ركناه ولو درى دجْلة عن بعض من وقفوا على شواطئه ما سال مجراه بغداد ما بال عين الكرخ ترمقنا حيرى وعهدي بأن الكرخ تياه بغداد بغداد ما بال روح الجسْر قد فنيت فما ترى مقلتي إلا بقاياه أين الرصافة وابن الجهم ينشدها شعراً على مسمع التأريخ ألقاه بغداد لم نترك لأمتنا بابا ًمن النصح إلا قد طرقناه ولم ندع لغة في الشعر صادقة إلا ذكرنا بها حقاً وقلناه لكنها تصرف الوجه الجميل فوا بؤساه من غفلة المحبوب بؤساه لا فض فوك، بارك الله فيك.
أيها الإخوة المستمعون، كان هذا اللقاء الذي استمتعنا به جميعاً مع فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة، الذي تعرفونه جميعاً من خلال ندواته ومحاضراته وإسهاماته.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنه، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم.
شكراً لله تعالى على أن هيَّأ لنا هذا اللقاء، وشكراً للشيخ سلمان على تحمله لنا في هذا اللقاء أيضاً، وشكراً لكم أيها الإخوة المستمعون على حسن إصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
والحمد لله رب العالمين.(47/68)
دعوة للإنفاق
تحدث الشيخ في هذا الدرس عن نماذج مشرقة من صور الإنفاق في الإسلام في العصر القديم والحديث، ووضح عدة طرق في الكتاب والسنة للحث على الصدقة والإنفاق، ثم ذكر عقوبة عدم الإنفاق، ثم ذكر أوجهاً كثيرة للإنفاق في الخير.
وعقب بذكر حجج بعض الناس في عدم الإنفاق والرد عليها.(48/1)
سبب هذه الدعوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده وسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذه دعوة للإنفاق.
في الدرس الخامس والثمانين من سلسلة الدروس العلمية العامة المنعقدة في هذا البلد الطيب بريدة، في الجامع الكبير منها ليلة الإثنين العشرين من شهر شوال من سنة (1413هـ) .
دعوة للإنفاق!! أولاً: لماذا هذه الدعوة؟ إنها دعوة أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حيث صعد المنبر في مسجده وجامعه الكبير في المدينة المنورة كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم: {أن قوماً من مضر أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم مجتابي النمار، متقلدي العباء والسيوف، وكانوا فقراء، فتمَّعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم، فقام، فأمر الناس بالصدقة، وقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ولو بشق تمرة} .
إنها دعوة للإنفاق تبدأ من تلك الصيحة النبوية على أعواد منبره الشريف، وتصل إلى أذن كل مسلم يملك أن يساهم فيها، وإذا كانت تلك الدعوة التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً بقدوم قومٍ من مضر كانوا فقراء جياع عراة، فإن المسلمين اليوم كلهم أصبحوا كأولئك النفر من مضر، فقد ألهبت ظهورهم سياط الجلادين، وأصمت آذانهم صرخات المستغيثين والمستنجدين، وآذاهم ألم الحر والبرد والجوع والعري، ولعبت بهم ألوان الأمراض والعلل، وقصرت بهم النفقة، فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين.
نعم! لقد أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان فيه ينهى أشد النهي عن السؤال من غير ما حاجة، حتى قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه: {من سأل الناس تكثراً، فإنما يسأل جمراً، فليستقل، أو ليستكثر} .
وفي الصحيحين من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: {سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم سألته- كما في بعض الروايات- الثالثة، فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إن هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ، بورك له فيه، ومن أخذه بإسراف نفسٍ، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع -وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه- واليد العليا خير من اليد السفلى -اليد العليا هي اليد المتصدقة المعطية الباذلة، والسفلى هي الآخذة الممتدة للسؤال والطلب، واليد العليا خير من اليد السفلى- قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يدعو حكيماً، فيعطيه العطاء الذي يستحقه، فيأبى حكيم أن يأخذه، ثم كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يدعو حكيماً، فيعطيه العطاء، فيأبى حكيم أن يأخذه، فيقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه: يا معشر المسلمين! إني أشهدكم على حكيم بن حزام أني أعطيه العطاء له من فيء المسلمين، فيأبى أن يأخذه} فما رزأ أحداً شيئاً حتى لقي الله عز وجل، ولذلك قال حكيم -كما في رواية في الحديث نفسه رواها أحمد في مسنده- أنه قال: {فما زال الله عز وجل يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالاً منا} .
إن مسألة الإنسان لنفسه معيبة ومذمومة خاصة حين يسأل تكثراً وعنده ما يغنيه، أما حث الإنسان الناس على الصدقة والبذل للمسلمين، فهي لون آخر محمود مأثور.(48/2)
أهمية هذه الدعوة
ثانياً: إننا نؤكد ضرورة إطلاق هذا النداء في مثل هذا الوقت خاصةً أن حاجات المسلمين اليوم لا تجد من يسدها، أليس من المحزن أن تقوم مشاريع الجهاد -مثلاً- على التسول، أو الشحاذة كما يقال؟ أو أن تقوم مشاريع الدعوة إلى الله على مثل ذلك؟ أو مشاريع التعليم دون أن يكون هناك مصادر ثابتة تدر على مثل هذه الأعمال العظيمة الجليلة؟ إن الكنيسة تملك دولاً وأساطيل بحرية وجوية، وشركات كبرى، وميزانية ضخمة ليس فقط لحماية النصارى، بل لدعوة المسلمين وتنصيرهم، وإخراجهم عن دينهم، على حين لا يملك المسلمون من المؤسسات المتخصصة إلا أعداداً محدودة لا تبلغ بالقياس إلى شدة الحاجة شيئاً يذكر، خاصة وإحصائيات الأمم المتحدة تثبت أن أكثر من (70%) من المشردين واللآجئين والفقراء والأيتام هم من المسلمين.
إن ميزانية التنصير قبل عامين بلغت [181] مليار دولار -وليس ريالاً- فقط لا غير، كما بلغ دخل الكنائس أكثر من [9.
5] بليون دولار، وهناك [163] بليون دولار لخدمة المشاريع النصرانية التي يسمونها مشاريع خيرية، وحققت الإرساليات النصرانية الأجنبية في أنحاء العالم دخلاً مقداره حوالي [9] بليون دولار.
فهذه الأرقام الخيالية، الأرقام التي تسمى أرقاماً فلكية يملكها النصارى، لكن هل تعرفون كلكم إحصائية لعدد الأموال المخصصة للدعوة إلى الإسلام، أو لدعم الجهاد، أو لإطعام الجياع، أو لتعليم المسلمين دينهم؟ إن من المؤسف أن مثل هذا الرقم غير موجود أصلاً؛ لأنه لا يوجد أيضاً جهة مسئولة عن قضايا المسلمين، لا حكومة، ولا دولة، ولا مؤسسة، ولا غير ذلك، بل المسلمون لا بواكي لهم، وإنما يقتاتون على بعض المساهمات الخيرية الفردية التي لم تصل إلى مستوى العمل الجماعي المنظم.(48/3)
أهم الطرق التي وردت في الكتاب والسنة للحث على الإنفاق
ثالثاً: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا} [الحديد:10] لقد جاءت الزكاة بمعناها الشرعي الخاص في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن الكريم، وحث الله تعالى على الصدقة والإنفاق، وتنوعت في ذلك الطرائق، وأهم تلك الطرق التي رصدتها في القرآن والسنة في الحث على الإنفاق تقرب من عشرين طريقة، أسردها على عجالة كما يلي:(48/4)
حفظ مال المتصدق
الثامنة عشرة: حذَّر الله تعالى من البخل وعواقبه، وحذر المؤمنين من أن يستخلف غيرهم، فقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .(48/5)
الثبات على الدين
التاسعة عشرة: هي سبب في حفظ الأولاد والذرية من بعدك بعدما تكون رفاتاً رميماً موسداً في قبرك: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] إنك تجد الكثيرين من التجار والأثرياء إذا ماتوا، اختلف أولادهم، وتصارموا فيما بينهم وتباعدوا وتقاطعوا وفرقوا وقسموا المال؛ بل ربما ترك المال، لأنهم اختلفوا عليه، وما ذلك -ربما والله أعلم- إلا بسبب التقصير في الإنفاق.
العشرون: الصدقة من أسباب الثبات على الدين: {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:265] .(48/6)
النفقة طهارة للنفس
الثانية عشرة: النفقة مضاعفة في أجرها وثوابها، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] .(48/7)
عدم الإنفاق مهلكة
الثالثة عشرة: ترك الإنفاق مهلكة في الدنيا والآخرة، فأنفقوا في سبيل الله، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] .(48/8)
المال مال الله
الرابعة عشرة: المال مال الله، وأنت فيه خليفة مستخلف فيه، أو وكيل، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وقال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] .(48/9)
الإنفاق سبب لرحمة الله
الخامسة عشرة: هي طهارة للنفس وزكاء لها، كما قال سبحانه وتعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] يعني: النار، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] .(48/10)
الإنفاق سبب للمغفرة
السادسة عشرة: هي سبب لرحمة الله عز وجل للمتصدقين والمنفقين، قال جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] .(48/11)
عقوبة عدم الإنفاق
السابعة عشرة: هي سبب للتكفير ومغفرة الذنوب، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن} والحديث جاء أصله في الصحيحين في قصة خطبة العيد، وجاء -أيضاً- عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كما عند الترمذي وأبي داود، وهو حديث حسن، وله شواهد.(48/12)
الله غني عنكم والصدقة قربة منه تعالى
سابعاً: الله غني عنك، وإنما ابتلاك ليعلم -وهو أعلم في كل حال- أتشكر أم تكفر: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] وقال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:10] .
إن الله تعالى لو شاء، لأجرى الجبال ذهباً وفضةً مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن به حاجة عليه الصلاة والسلام أن يربط على بطنه حجرين من الجوع يوم الأحزاب، ولكن هكذا الدنيا، هكذا أرادها الله عز وجل، والله تعالى قادر على أن يعطي جنده وأولياءه والمجاهدين في سبيله من نعيم الدنيا الشيء الكثير، ولكنها دار الابتلاء.(48/13)
النفقة قربة إلى الله
ثامناً: النفقة قربى إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] الفريضة أولاً، وهي الزكاة، ثم النافلة، وربنا عز وجل يقول: {وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} .(48/14)
النفقة سبب في دعاء الصالحين لك
تاسعاً: هي سببٌ في دعاء الصالحين لك بالخير، ولهذا قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الصدقة والزكاة، ثم يقول: {اللهم صلِّ على آل بني فلان، اللهم صلِّ على آل أبي أوفى} كما في الصحيح، وكذلك قال الله تعالى في الآية السابقة: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] أي: دعواته لهم.
إن المؤمنين جميعاً يدعون للمنفقين، بل وحتى الملائكة، فما من شمسٍ تطلع إلا وملكان يقولان: {اللهم أعط منفقاً خلفاً} وهكذا الصالحون من المؤمنين يدعون للمنفقين.
وأقول أيها الأحبة: حق عليَّ وعليكم أن ندعو سراً وجهاراً حتى في صلاتنا وسجودنا للذين يساهمون في أعمال الخير، ويدعمون مشاريعها سواء عرفوا، أو لم يعرفوا، هذا بعض حقهم، وإذا كنت أنت عاجزاً عن الإنفاق، فادع لمن أنفقوا، فإنك لست عاجزاً عن الدعاء.(48/15)
فداء النفس من العذاب
عاشراً: الصدقة فداء للنفس من عذاب الآخرة، فقد أخبر الله تعالى عن الكفار: أنه لو كانت لهم الدنيا ومثلها معها في الدار الآخرة، لافتدوا بها من سوء العذاب يوم القيامة، فلماذا لا يفتدي الإنسان نفسه باليسير؟ قال الله عز وجل: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31] ليس في ذلك اليوم بيع، ولا شراء، ولا صداقة، ولا علاقة، وإنما هي الحسنات والسيئات.(48/16)
الصدقة من علامات التقوى
الحادية عشرة: الإنفاق علامة من علامات التقوى، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:2-3] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:133-134] .(48/17)
شرف المتصدق
سادساً: الله عليم بما أنفقت ومُطِّلع عليه، وحسبك بذلك شرفاً ورفعة، قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] .(48/18)
الدعوة لسرعة الإنفاق
أولاً: الدعوة إلى المسارعة إلى الإنفاق في زمن الحاجة والفقر والشدة، فهو خير من البذل زمن السعة والغنى.
إن المسلمين اليوم جياع فقراء ضعفاء وهم غداً -بإذن الواحد الأحد- أقوياء أغنياء أعزاء غير محتاجين إلى أحدٍ من الناس، فالذين ينفقون زمن الفقر والحاجة قبل الفتح هم أعظم درجة، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] .
إن الإسلام منصور، وراية الجهاد مرفوعة، فأدرك شرف المشاركة اليوم قبل أن يفوتك الفضل والنبل.(48/19)
ما نقص مال من صدقة
ثانياً: النفقة مخلوفة عليك لا تضرك أبداً قطعاً ويقيناً، وعداً من عند من لا يخلف الميعاد: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] وفي الصحيح: {يا بن آدم أنفق، يُنفق عليك} .
وأيضاً: في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما نقص مال من صدقة} .
لقد حدثني غير واحد من الأثرياء والتجار، وأصحاب رءوس الأموال يقولون: والله نراها عياناً بأعيننا ونحسها بأيدنا ما أخرجنا شيئاً لله تعالى إلا أعطانا الله تعالى عنه عوضاً عاجلاً غير آجل ندرك أنه مقابل ما أنفقنا وتصدقنا.
إذاً: أيقن بذلك، وسوف يخلف الله عليك في الدنيا قبل الآخرة بشرط اليقين والثقة بالله تعالى وحسن النية في العطاء، لا تعط وتقل: أريد عاجلاً في الدنيا، فهنا يدخل النية ما يشوبها، وتأتي الآية الكريمة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] أعط للآخرة وسوف تأتيك الدنيا تبعاً، والله تعالى لا يخلف الميعاد.
عجباً لمن يعرف ذلك كله كيف يتراجع، أو يتردد في الإنفاق؟! ألا تريد أن تكون أنت صاحب الحديقة، {اسق حديقة فلان} -كما في صحيح مسلم- فقد جاءها مطر وسحاب مخصص وملك مبعوث لهذا الإنسان، فصاحب هذه حديقة ماذا كان يصنع؟ يرد الثلث فيها ويأكل الثلث ويتصدق بالثلث.(48/20)
الثواب من الله على المتصدقين
ثالثاً: الأجر والثواب في الآخرة للمنفقين والمتصدقين المخلصين، فهي تجارة مضمونة، ولكن ليس فيها شائبة ربا، أو شبهة حرام: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] .(48/21)
الصدقة دليل على البراءة من النفاق
رابعاً: الصدقة دليل على البراءة من النفاق، وبرهان على الإيمان وصدق اليقين في القلب، قال الله تعالى عن المنافقين: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} [النساء:39] .
وقال عن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] .
فهذا هو الحصار الاقتصادي الذي تواصى به المنافقون بالأمس في الضغط على المؤمنين، ومحاولة التضييق عليهم، وحرمانهم من الوظائف والأعمال والأموال والمرتبات، والتضييق عليهم في أرزاقهم وأموالهم حتى ينفضوا.
لقد ظن هؤلاء أن اجتماع المؤمنين والمسلمين هو على المغنم، وعلى الدنيا، فاعتقدوا أن المال هو الذي يقدم ويؤخر، والله تعالى يقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] .
فهم ما اجتمعوا على المال، ولا من أجله، ولذلك لن يفرقهم الجوع أبداً.
لقد كان السجناء من المؤمنين والدعاة في بعض السجون يجوعون، ثم يعطى الواحد منهم قطعة من الشوكولاته تصله من بعض أقاربه بالتهريب وبطريقة سرية، فلا يأكلها، بل يعطيها إخوانه، ثم تدور على المجموعة حتى تصل إلى الأول الذي أخرجها طيبةً بها نفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: {والصدقة برهان} أي: دليل على صحة وصدق إيمان المتصدق.(48/22)
فائدة الصدقة إنما تكون لنفس المتصدق
خامساً: أنت تتصدق على نفسك، وليس على غيرك، فأكثر إن شئت، أو أقلل، قال الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه، قالوا: يا رسول الله، كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخَّر} .
أنت حين تجمع المال وتضعه في الأرصدة، وقد بلغت الستين، أو الخمسين، أو السبعين، أو ما أشبه ذلك، هل تنتظر عمراً آخر تصرف فيه هذا المال؟، بل أنت حين تكون كبير السن عاجزاً وقليل الأكل، وقليل الشرب، قليل اللبس، وزاهداً في متاع الدنيا، ومع ذلك تمسك بهذه الأموال، فماذا تنتظر فيها؟(48/23)
آداب الإنفاق
أولاً: لا منٌّ ولا أذى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:264-263] .
ثانياً: لا رياء ولا سمعة إن أظهرت الصدقة، وإنما تظهرها للقدوة الحسنة والسنة الحسنة، وإن أخفيتها، فالأصل هو الإخفاء، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
ثالثاً: أن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] .
رابعاً: لا تتصدق إلا بالطيب: {فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] .
خامساً: لا تعد ما أخرجته -من الزكاة، أو الصدقة- مغرماً، بل هو مغنمٌ لك، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً} [التوبة:98] قال ابن قتيبة: أي غُرماً وخسارة، وقال غيره: يعدونه من التزام ما ليس بلازم، يقول: لماذا أتعب في جمع المال، ثم أخرجه في غير مصلحة دنيوية مشاهدة؟ فهو لا يرجو لذلك ثواباً، ولا جزاءً عند الله تعالى.
سادساً: أن يخرج المال طيبةً به نفسه، ليس كارهاً له، ولهذا وصف الله تعالى المنافقين، فقال: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] وأثنى على المؤمنين أنهم إن وجدوا مالاً تصدقوا، وإن لم يجدوا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
سابعاً: أن تتصدق في وقت صحتك وعافيتك وشبابك وحاجتك وخوفك من الفقر، كما قال عليه الصلاة والسلام: {أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وترجو الغنى} وهذا المعنى موجود في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] .(48/24)
عقوبات ترك الإنفاق
إنها عقوبات كثيرة أهمها اثنتان: الأولى: الاستبدال، فإذا قصرتم، فعند الله تعالى خير منكم قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38] .
الثانية: يعاقب الله تعالى على ذلك، بهذا المال في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34-35] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في حديث طويل: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحب الذهب والفضة الذي لا يُؤَّدي منها حقها، إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الخلائق، فيرى سبيله إما إلى جنة، وإما إلى نار} ومثله -أيضاً- صاحب الإبل والبقر والغنم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء جميعاً.
إذاً مالُك إن ادخرته ومنعت زكاته، ومنعت الصدقة، فإنك تعاقب به كما قال الله تعالى عن الكفار: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] فيعذب الإنسان بماله، يعذب بالخوف على المال، ويعذب بالانكسار الاقتصادي، ويعذب بالصفقات التي تذهب سُداً، يعذب بالخوف على المال، يعذب بالقلق والتوتر، وقلَّ أن تجد إنساناً غنياً ثرياً لا يخاف الله، ولا يُؤدي حق المال فإنك لو نظرت إليه لوجدت معه ألواناً وألواناً من العلاجات، يأخذ هذا في الصباح، وهذا في الظهر، وهذا لينام، وهذا ليستيقظ، وهذا من أجل أن يواصل العمل، فأي خير في مال لم ينفع صاحبه إلا بمثل ذلك.(48/25)
نماذج حية
إن المتصدقين كثير، والمستجيبين لهذا النداء الرباني مِنْ فَجْرِ هذه الأمة، ومن فجر الإسلام إلى يومنا هذا هم جمعٌ غفيرٌ.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يقول له النبي صلى الله عليه وسلم عندما تصدق مرة: {يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم الله ورسوله} .
وهذا عثمان يجهز جيش العسرة فيخرج نوقاً بأحلاسها وأقتابها فيقول له صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} .
وهذا طلحة بن عبيد الله كان يُسمَّى طلحة الفياض، فهو أيضاً متصدق، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث فيها ضعفٌ بأنه طلحة الفياض، يوماً من الأيام نام طلحة رضي الله عنه وأرضاه عند زوجته وهي من نساء المؤمنين الفضليات، فتقلب على فراشه، فقالت له: [[يا طلحة ما بك؟ هل أنت شاك في أهلك، أو رابك منهم شيء؟ قال: كلا، فنعم حليلة الرجل المسلم أنتِ، قالت: فما بك؟ قال: أموال جاءتني من الشام، وكانت تعد بمئات الألوف، فقالت: فأين أنت من فقراء المهاجرين والأنصار؟ فأثنى عليها خيراً، ودعا لها، ثم جاء بالأواني، فملأها من الذهب والفضة وفرقها، فلم يصبح عنده شيء إلا أقل القليل، فلما أصبح، قالت له زوجته: لقد أعطيت الناس، فأين نحن من هذا المال؟ قال: لماذا لم تذكريني؟ فنظروا ما بقي، فإذا هو ألف دينار، فأعطاه زوجته]] وجاءه يوماً من الأيام رجل، فسأله برحم، فقال: [[والله إن هذه رحم ما سألني بها أحدٌ قبلك، هذه أرضٌ عندي قد سامها مني عثمان رضي الله عنه وأرضاه بثلاثمائة ألف دينار، فإن شئت أخذتها، وإن شئت أبيعها لك، ولك الثمن، فقال الأعرابي: لا، أريد الثمن، فباعها على عثمان، وأعطاه الثمن كاملاً غير منقوص]] .
وهذا فياض آخر هو نور الدين، وفي قصته عجبٌ أي عجب، فهو صاحب الشام، الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الأتابك ليث الإسلام البطل الهمام، وقصصه كثيرة، وأمره عجيب، ولعلك أن تراجع سيرته، لكنني أطل على شيء يسير منها.
كان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، -وهو ملك من ملوك المسلمين- ومرة سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطيور.
ماذا كان خبره؟ يقول الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده ينسخ تارة- هذا ملك يكتب بيده ليبيع الكتب- ويعمل أغلافاً -أغلفة للكتب- تارة أخرى، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفياً يراعي مذهب الشافعي ومالك، وكان ابنه الصالح إسماعيل من أحسن أهل زمانه.
قال ابن الأثير: كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، طلبت منه زوجته مالاً، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فكأنها استقلتها -رأت أنها قليلة- فقال لها: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي من أموال المسلمين إنما أنا خازنه.
وكان كثير التهجد، كثير العبادة، مخاطراً بنفسه في ذات الله تعالى، قال له قطب الدين النيسابوري يوماً من الأيام: بالله عليك يا أمير ألا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة، لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف، فقال: ومن أنا؟ من هو محمود حتى يقال فيه مثل هذا الكلام؟ حفظ الله البلاد قبلي فلا إله إلا هو.
وكان ديناً تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق كما يقول الذهبي، وكان لهذا الرجل مجموعة من الأعمال خاصة في آخر عمره حيث أكثر من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط كل ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية على أهل الكتاب والخراج والعشر، وكتب في ذلك إلى جميع البلاد.
وكان له رسم بنفقه خاصة في الشهر -من الجزية- يسيره.
قال السبط ابن الجوزي: كانت له عجائب، وكان يخيط الكوافي ويعمل السكاكر، فيبعنها له سراً ويفطر وهو صائم على ثمنها، ويتصدق على الأرامل والأيتام والفقراء والمساكين.
ومما يتعلق بذلك وهي فائدة ربما لا يكون لها علاقة بالموضوع، لكن للفائدة أن السبط ابن الجوزي ذكر أيضاً في تاريخ مرآة الزمان، قال: حكى لي نجم الدين بن سلار عن والده أن الفرنج لما نزلوا على دمياط، ما زال نور الدين عشرين يوماً يصوم ولا يفطر إلا على الماء، فضعف، وكاد أن يتلف، وكان مهيباً ما يقدر أحد أن يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى، لبعض جلسائه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: يا يحيى بشِّر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط، فقال الإمام يحيى: يا رسول الله، ربما لا يصدقني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل له بعلامة يوم حارم، وانتبه يحيى من نومه.
فلما صلى نور الدين الصبح وشرع يدعو الله تعالى هابه الإمام أن يكلمه، فقال له نور الدين: يا يحيى تحدثني أنت، أو أحدثك أنا، فارتعد يحيى، وأعجم فلم يستطع الكلام، فقال له نور الدين: أنا أحدثك: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقال لك: كذا وكذا وكذا، قال يحيى: نعم.
قال له يحيى: فبالله ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم -ما هي هذه العلامة؟ - قال نور الدين: لما التقينا العدو، خفت على الإسلام، فانفردت ونزلت من فرسي، ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي من محمود الكلب؟! الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك- يخاطب رب العالمين- قال: فنصرنا الله تعالى عليهم، فهذا يوم حارم.
فهذه نماذج سريعة من المتصدقين الكرماء الأجواد، ولا يعني ذلك أن الزمان قد انقضى عن أمثال هؤلاء، فهناك نماذج معاصرة كثيرة، وهناك رجال يتبرعون بعشرات الملايين، ويرى أحدهم أنه ما أخرج شيئاً في سبيل الله عز وجل، بل يدري أن ذلك بعض حق الله تعالى عليه في المال، أما الأغنياء، فكثير منهم على هذه الشاكلة يتصدقون وينفقون سراً وجهراً في سبيل الله عز وجل، ولا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى، فجزاهم الله خيراً، وأوسع الله لهم في أرزاقهم، وحتى الفقراء والمعوزون يتصدقون بالكثير، ولعلي ربما ذكرت لكم أمثلة كثيرة لا مانع أن أذكرها الآن للمناسبة.
فهذه أرملة ذكرت خبرها جريدة الأنباء الكويتية تبرعت عن طريق جمعية إحياء التراث بقطعة ذهب صغيرة ربما لا تعادل خمسين ريالاً، فاشتراها أحد التجار بخمسة آلاف دينار كويتي، وتبرع بهذا المال لأعمال الخير.
وصاحب الغترة -وما خبره عنكم ببعيد- لم يجد ما يتصدق به إلا غترته، فخلعها وتصدق بها فاشتريت بآلاف الريالات.
وثالث تبرع بدمه في أحد المستشفيات، وأخذ هدية من المستشفى مقابل التبرع، فتبرع بها للبوسنة، وهو يقول: إذا لم نستطع أن نريق دماءنا في أرض المسلمين والإسلام هناك، فالأقل أن نتبرع بحقنة من دمنا لإخواننا المسلمين.
وهذا طفل رابع يجمع التبرعات للمسلمين في الصومال والبوسنة، ولإطعام جائع، ولتفطير صائم، ولكسوة عاري، وقد سماه بعد الظرفاء شاحت للإسلام، وهذا الطفل قلَّ شهر أو أسبوع إلا ويأتيني بمبالغ قد تصل -أحياناً- إلى آلاف الريالات جمعها من قرش وريال وخمسة وعشرة.
وهناك أخوات موفقات وإخوة موفقون من المدينة والرياض والخبر وجدة والقصيم وبعض دول الخليج قد تجمع المرأة من الأخوات الكريمات من راتبها وراتب زميلاتها في العمل مبلغاً طيباً، وتبعث به إلى مشروع هنا، أو مشروع هناك.
ومن الطرائف المضحكة أن طفلاً صغيراً أعطى أحد الإخوة الشباب ريالين، وقال له: خذ هذه الريالين أحدهما للبوسنة والآخر للهرسك، وآخر نسي كلمة البوسنة والهرسك فلم يحفظها، فدفع عشرة ريالات، وقال: هذه للأوس والخزرج.(48/26)
جهد المقل
أورق بخيرٍ تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً وهو مجهود بث النوال ولا تمنعك قلته فكلما سد فقراً فهو محمود وللبخيل على أمواله عللٌ زرق العيون عليها أوجهٌ سود وقال آخر: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب إن الكثيرين يستقلون ما لديهم من المال فيمنعونه، والقليل خيرٌ من العدم، وفي الحديث: {لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاةٍ} وفي حديث آخر: {ولو بظلف محرق} وفي حديث ثالث: {ولو بشق تمرة} إنه جهد المقل، وقد {سبق درهمٌ ألف درهم} بل الحرقة منك وفي قلبك تكفينا إذا لم تجد غيرها.
والله مدح المؤمنين -أو بعضهم- من الفقراء والمعدمين بقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] ولقد أثنى الله عليهم في القرآن بدموعهم التي أراقوها، لأنهم لم يجدوا ما ينفقون، فإن وجدت مالاً فتصدق، وإن لم تجد فتكفينا دموعك، فهي دموع صادقة إن شاء الله، وربما تدخل الجنة وسوف تجد هذه الدموع في ميزان حسناتك يوم القيامة.
أيها الأخ الكريم: إنك تتعذر منا بأنه ليس عندك مال.
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وأنا لي معك حديثٌ في الأسبوع القادم، حديث ذو شجون، وقد جعلت عنوانه: دلوني على سوق المدينة، سوف أتحدث وأدلك على طرق كثر أنت غافلٌ عنها، وأزيل عنك الغشاوة في أمور كثيرة.
إنه لا يجوز أبداً أن يكون أهل الإسلام وأولياؤه ودعاته وشباب الصحوة كلهم فقراء محتاجين، لقد رأيتك أيها الأخ الكريم مراراً، وأنت قادمٌ علي، فأيقنت أنك قادمٌ بعطاء سخي لإخوانك هنا أو هناك، فإذا بك تحمل أوراقاً تطلب فيها مساعدةً في سداد دين، أو تفريج كرب ألم بك، وأنت معذورٌ ربما، ولكن نريد منك أن تسعى إلى تغيير حالك وحال غيرك بقدر المستطاع.(48/27)
لمن نعطي؟
أولاً: المتسولون الذين يطرقون الأبواب، ويمرون في الشوارع، ويقفون أمام المصلين يكثر فيهم الكذب، وقد كشفنا وكشف غيرنا الكثير من ذلك، سواء كانوا يطلبون العطاء لأنفسهم، أو لأولادهم، أو لديات، أو كانوا ربما أحياناً قد يطلب الواحد منهم لمشروع، وبعد التحقق يبدو أن هناك خطأً، أو مبالغةً في الأمر، وقد يكون الموضوع مزوراً في بعض الأحيان، حتى بعض الأوراق والوثائق قد تكون مزورة أو قديمة، أو قد يكون كتب لهم رجل أحسن بهم الظن، وحملهم على ظاهرهم.
إنه ينبغي لنا ألاَّ نعطي إلا بعد التثبت من حال الإنسان، ولو كان في بلد ناءٍ، خاصةً إذا كان يجمع لمشروع خيري -مدرسة، أو مركز، أو مسجد، أو ما شابه ذلك- حتى لو كان هذا المشروع في الصين، أو في الهند، أو في أفريقيا.
إن من السهل أن تُجمع عشرة مشاريع، ثم يسافر شاب إلى الهند، أو إلى الصين، أو إلى أفريقيا بتذكرة لا تكلف أكثر من ستة آلاف ريال، ويتأكد من هذه المشاريع بنفسه، ثم يرجع بخبر جهينة الخبر اليقين.
وقد يجمع في المساجد، أو في غير المساجد مبالغ طائلة قد قبض على بعض هؤلاء، ووجد معه مائة ألف ريال جمعها خلال أقل من أسبوع، وتبين أن مدعاه ليس بصحيح، ثم إن هذا لا يعني إهمال المشاريع الإسلامية بحجة عدم التثبت، فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، فبعض الناس لا يُعطي بحجة الشك، وبعض الناس يُعطي بلا تثبت! لا، ولكن حينما تريد العطاء، فأعطه من تثق بهم أنهم يتثبتون ويطمئنون ويكونون وسطاء مأمونين يستطيعون أن يوصلوا هذه الأموال إلى مستحقيها.
ثانياً: أصحاب العاهات، وبعض النساء، وبعض العاطلين مهمتهم الطواف والسؤال، ولا مانع أن تعطي هذا الإنسان مبلغاً يسيراً مجاملةً من مالك الخاص، أما أن تعطيه من حق الفقراء، ومن مال الله عز وجل، فلا وألف لا، لا تعطه من الزكاة، وأنت يغلب على ظنك أنه غير محتاج، وأنه يجمع أموالاً طائلة، وربما ملك ما لا تملكه أنت نفسك.
ثالثاً: العوائد المألوفة، أنت معتاد أن تعطي بعض الجيران، وبعض الأقارب، وبعض المعارف كل سنة من الزكاة، وهم قد تغيَّرت أحوالهم، وسددت ديونهم، واستغنوا بغنى الله عز وجل، وتحسنت أوضاعهم، وتوظف أولادهم، فلا داعي لاستمرار هذا العطاء، بل يجب أن تقطعه إذا علمت أنهم استغنوا عنه، ولا يجوز لك أن تعطيهم مجاملة، وأنت تعلم أنهم غير محتاجين.(48/28)
أوجه الإنفاق
أما أوجه الإنفاق فهي كثيرة:(48/29)
بناء المساجد
حادي عشر: المساجد: {ومن بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاةٍ، بنى الله له بيتاً في الجنة} فالمساجد في المناطق التي يحتاج إليها سواء في هذا البلد، أو في أي بلد إسلامي لا تقل أهمية المسجد عن غيره، لكن يجب أن تعرف ماذا سيكون مصير المسجد بعد البناء، وأن تعتدل في نفقته.(48/30)
صناديق الأسر
ثاني عشر: صناديق الأسر: وهي مهمة جداً للتكافل الاجتماعي، والترابط الأسري، فإن بعض الأسر خاصة الأسر الكبيرة تجعل لها صندوقاً واشتراكاً شهرياً من جميع أفراد هذه الأسرة، ثم يكون هناك مجلس خاص يدير هذا الصندوق ويستثمره، فيعطي المحتاجين، والشباب الراغبين في الزواج، والفقراء، والأيتام، والأرامل، وأمثالهم، ومثل هذه الصناديق ظاهرة موجودة في هذه المنطقة بحمد الله عز وجل، وفي مناطق أخرى كثيرة، وينبغي السعي إلى تعميمها ونشرها، فإن فيها فوائد: فوائد دينية، وفوائد ترابط الأسرة، والغنى وعدم الحاجة، إضافة إلى مصالح أخرى كثيرة.(48/31)
إعانة من أراد الزواج
رابعاً: من طرق الإنفاق، الشباب الراغبون في الزواج، فإنهم يحتاجون إلى إعفاف فروجهم، وغض أبصارهم، وبناء الأسرة السليمة التي تعبد الله تعالى وتوحده، وحبذا أن يكون ذلك بالقرض الحسن لتربيتهم على الاستغناء عن الناس، وعلى البحث عن الرزق الحلال، وعلى الاعتماد على الله عز وجل، ثم على أنفسهم، وفي ذلك فائدة تربوية عظيمة.(48/32)
المشاريع الاستثمارية الخيرية
خامساً: المشاريع الاستثمارية الخيرية، وهي مهمة جداً، ومثلها الأوقاف التي توقف لصالح أعمال الخير من الأحياء، أو من الأموات، والتعجيل بها في حال الحياة أحسن وأفضل منها بعد الموت.
إن الكثيرين يوصون بالثلث بعد الموت، وهذا في الأصل إنما هو صدقة من الله عز وجل، وإلا فالإنسان بعد موته يكون ماله لورثته، لكنك تدري أن كثيراً من الأموات ضاعت أوقافهم ووصاياهم واختلف فيها الأولاد، وتركوها، ولم تجد من يقوم بها، أو استلمتها بعض الجهات الرسمية، ولم يكن فيها كبير نفع.
لكن لو أنك أوقفت شيئاً في حال حياتك على أعمال الخير والدعوة، وجعلته استثماراً يدر ويفيد سواء أكان أرضاً، أو عمارةً، أو محطةً، أو مشروعاً تجارياً، أو ما أشبه ذلك وكتبته لأعمال الخير، فإنك تقوم به في حال حياتك، ويكون بعد وفاتك معروفاً محدداً لا يختلف عليه أحد، وهذا عمل عظيم، لأنه يترتب عليه وجود أعمال استثمارية ثابتة ريعها معروف، ودخلها ثابت يصرف منه في أعمال البر.(48/33)
التعليم
سادساً: التعليم: كبناء المدارس، والمعاهد، وإرسال المعلمين، وكفالتهم، وطباعة الكتب، وبناء الأربطة والمساكن للطلاب وللمدرسين وغيرهم، وإعداد خلوات تحفيظ القرآن الكريم، ويوجد ذلك في مناطق أفريقيا لذلك سواء في السودان، أو في الصومال، أو في غيرها من المناطق الإفريقية.
ومن ذلك أيضاً تفريغ بعض النابغين من الطلبة، وإعدادهم إعداداً جيداً بصورة صحيحة ليتفرغ لطلب العلم بعيداً عن الاشتغال بالرزق والبحث عنه؛ ليتفرغوا لهذا العمل الجليل.(48/34)
الجمعيات الخيرية
سابعاً: الجمعيات الخيرية سواء كانت جمعيات خيرية تخدم البلد، أو المنطقة، أو كانت جمعيات إسلامية عالمية تعمل على خدمة المسلمين في كل مكان، ويجب أن يتولى إدارة هذه الجمعيات كلها -بنوعيها- الأمناء الأخيار: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وحبذا أن يكون لكل داعية، أو مهتم، أو غني، أو عالم أن يكون له جمعية، بل أن يكون له شبكة من الجمعيات عبر العالم، لئلا تكون أعماله وبضاعته هي الكلام فحسب.
فعليه أن يكون عنده نشاط للأيتام والأرامل، وآخر للتعليم -تعلم الدين- وثالث مركز للدعوة، ورابع مكتب للإعلام وهكذا يستثمر هذا العالم، أو الداعية، أو المهتم، يستثمر فرصته وعلاقاته في دعم هذه الجمعيات والإشراف عليها، ومن الضروري أن يكون هناك تنسيق بين هذه الجمعيات وتعاون على البر والتقوى، وعدم تضارب في الجهود، كما يجب عدم التسرع في إطلاق التهم على الآخرين بدون بينة، أو روية، أو تثبت أن أموالهم لا تثبت، أو أنها تضيع سدى.(48/35)
المبرات الخيرية
ثامناً: المبرات الخيرية للأسر المحتاجة داخل المدن، أو القرى، أو المناطق النائية، بحيث توفر هذه المبرات الأموال، فتنفق على الأسر في السكن، وفي الطعام، وفي الشراب، وفي اللباس، وفي الغذاء، وفيما يحتاجون إليه، وينبغي أن يقوم على هذه المبرات العلماء وطلبة العلم، بحيث تكون مأمونة، ولا تكون فرصة لضعاف النفوس الذين يصطادون في الماء العكر، ويثرون على حساب الأيتام والأرامل والفقراء.(48/36)
المستودعات الخيرية
تاسعاً: المستودعات الخيرية: كالمستودع الخيري الموجود، الذي يقوم عليه الشيخ صالح الهنيان جزاه الله خيراً، والتي تستقبل الأواني المنزلية والأثاث والطعام والأدوات الكهربائية وغيرها، وتصلح ما فسد منها، وتقوم عليها، ثم تعطيها المحتاجين.(48/37)
الفقراء والمساكين
عاشراً: الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام أينما كانوا، فإن لهم حقاً في أموال الأغنياء، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] وقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] .
أيها الأحبة: تردني أسئلة كثيرة من الناس رجالاً ونساءً: فلان حاله كذا، فهل نعطيه؟ وفلانة حالها كذا، هل نعطيها؟ ويتبين لي من تلك الأسئلة أن معظم الناس يعطون زكواتهم وصدقاتهم لأقوام ربما لا يستحقونها، أو هم في غنىً عنها، وأقل ما نقول: إن هناك من هو أحوج إليها منهم.(48/38)
الدعوة إلى الله
ثانياً: الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإقامة المراكز الإسلامية، أو طباعة الكتب، أو توزيع الأشرطة، أو كفالة الدعاة.
إن كفالة داعيةٍ واحدٍ في الاتحاد السوفيتي لا يكلف شهرياً، أكثر من مائة ريال، إذاً تستطيع أن تكفل داعية سنة كاملة بألف ومائتي ريال فقط.
إننا بذلك نستطيع أن نوفر آلاف الدعاة، ولا يكلفنا ذلك شيئاً كثيراً، وإنني أعجب أيها الإخوة، وحق لي أن أعجب أن يأتي تاجر محسن متصدق فيبني مسجداً، ويجعله فخماً ضخماً واسعاً مرتفع البناء ربما كلفه ثلاثة ملايين دولار مثلاً في البناء، ثم لا يوجد من يصلي في هذا المسجد، ولا من يؤم، ولا من يخطب، ولا من يعلم، وبناء المسجد شيء حسن، وسوف أذكره بعد قليل، ولكن لو كان هذا المال صرف كله، أو جله، أو بعضه لكفالة دعاة يقومون بتوعية الناس، وتصحيح عقائدهم، وإعادتهم إلى دينهم، وتعليمهم أحكام شريعة ربهم، لكان ذلك خيراً وأقوم.
إن طباعة خمسين ألف نسخة من كتاب لا تكلف أكثر من عشرين ألف ريال، يستطيع خمسة أن يقوموا بمثل هذا العمل الجليل اليسير في نفس الوقت.(48/39)
الشعوب المنكوبة
ثالثاً: الشعوب المنكوبة في العراق شعب يحاصر منذ أكثر من ثلاث سنوات لا يصل إليه من الطعام والشراب واللباس والكساء إلا أقل القليل، وأحلف بالله الذي لا يحلف إلا به لو كان شعب العراق نصرانياً، لتنادت أمم النصارى كلها لفك الحصار عنه، ولكن لأنه شعب في غالبيته أبيٌ مسلمٌ، فإن أمم الغرب كلها تتحالف على الحصار عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} .
فكيف بإنسان؟! فكيف بمسلم؟! فكيف بشعب مسلم بأكمله يُحاصر حتى من قبل دول عربية إسلامية؟! إن هذه الصحيفة التي أدارتها الأمم المتحدة لحصار المسلمين في العراق هي صحيفة آثمة ظالمة، وواجب على المسلمين أن ينكروها ويرفضوها، وأن يتنادوا لنصرة إخوانهم ودعمهم بالمال والطعام والشراب والغذاء والكساء والدواء، وبالدعوة إلى الله تعالى، فإن إيصال الكتب ممكن، وإيصال الأشرطة وارد.
بل إنني أقول لكم من معلومات مؤكدة -أيها الإخوة- إن عدداً من شباب الشيعة تحولوا إلى طريقة أهل السنة والجماعة وعلى الطريقة السلفية السليمة في مناطق الأهوار وفي غيرها، داخل العراق، بل وداخل إيران بواسطة جهود المخلصين والدعاة والكتب والأشرطة.
فعلينا أن نكون عوناً للمسلمين وللدعوة في كل مكان.
وفي مصر شعب بأكمله يُجّوَّع وذلك من أجل أن ينشغل بالبحث عن لقمة العيش، ويضيق عليه، ويُودع شبابه في غياهب السجون، فالمساجين يعدون بالآلاف، والقتلى يعدون بالمئات، ومع ذلك حصلت نكبات وزلازل وأزمات، فتجد أن هناك تبرعات كثيرة لا يصل الناس منها إلا أقل القليل، بل إن الجماعات الإسلامية التي كانت تدعم المسلمين في مصر قد حوربت، والذي ثبت عليه أنه يدعم ويوصل بعض الأموال قد سجن، وقد سجن أكثر من أربعين طبيباً، لأنهم ساعدوا المسلمين هناك.
ولذلك أقول للإخوة: ادعموا إخوانكم المسلمين في كل مكان، ادعموا إخوانكم المسلمين في مصر، لكن حذار أن يكون الدعم عن الطرق الرسمية التي تصل إلى الحكومات، فإن الحكومات قد تتقوى بها على ضرب الإسلام، وعلى حصار المسلمين، وعلى قتل الأبرياء، وعلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ولولا الحياء لذكرت لكم نماذج أحلف بالله لا تصدقون أنها تقع، لولا أنني قرأتها في صحف موثوقة مصرية مضبوطة عندي تدل على أن هناك خططاً مبيتةً لإشاعة الجريمة في الذين آمنوا، وقطع دابر العفاف في أوساط تلك الشعوب المؤمنة الأبية في مصر وفي غيرها.
فعلينا أن ندعم المسلمين، ولكن بواسطة الطرق الخاصة التي تصل إليهم، ولهذا أقول للموظفين: إذا جاءك طلب المساعدة، فإياك إياك أن تبذل شيئاً تعين به على قتل مسلم، أو على التضييق عليه، أو على الترويج للسياحة، أو على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وإذا كنت تريد الدعم، فأنت تعرف سبله وطرقه وأبوابه التي تطمئن إلى أنها تصل إلى المحتاجين.
وفي أفغانستان دولةٌ بأكملها عانت أربع عشرة سنة من ويلات الحرب، وهي الآن تعاني أيضاً من بقايا آثار الخلاف بين أصناف وطبقات المجاهدين، فهي محتاجةٌ إلى دعم الإخوة المؤمنين سواء عن طريق التعليم، أو عن طريق نشر الكتب، أو نشر الدعوة، أو عن طريق المساعدة، أو عن طريق مساعدة اللاجئين والمهاجرين، أو غير ذلك من الوسائل.
وفي الجزائر أيضاً شعبٌ يموت جوعاً، خمسة عشر شخصاً يعيشون في غرفة واحدة، لا يجدون مأوى إلا غرفة واحدة حتى إنهم الآن بدءوا يسلكون أسلوب النوم بالتناوب إذ لا تتسع لهم، فينام خمسة الآن على حين يذهب الباقون يبحثون عن أي عمل آخر، ثم تأتي نوبة الآخرين ليقوم هؤلاء وينام الآخرون بدلاً عنهم.
وفي طاجاكستان الأمر كما ذكرت، وفي البوسنة الأمر معروف، ودولة البوسنة والهرسك فيها مدن ومناطق محاصرة منذ ما يزيد على سنة، سراييفو، سربنيتشا، قورازدا، وغيرها مدن محاصرة على مدى أكثر من سنة لا يكاد يصل إليها إلا أقل القليل، فعلينا أن نهب لنصرتهم.
وفي فلسطين شعب يجوع ويضيق عليه، ويمنع حتى من الأعمال التي يمارسها -وهي أعمال متواضعة- بين اليهود في داخل ما يسمى بدولة إسرائيل، فيحال بينه وبين العمل، ويبن رغيف الخبز، وبين العيشة التي يقوم بها أوده، فضلاً عن الذين أبعدوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا: ربنا الله، فهم بأمس الحاجة إلى دعمكم وعونكم وتأييدكم، فأين أنتم من هذه الشعوب المنكوبة؟ إنني أعجب من أخ يقارن مصيبة فرد مهما عظمت وجلت بمصيبة شعب بأكمله يعاني مثل هذه الآلام.
أيها الإخوة: إنني أُحذركم مرة أخرى من الطرق الرسمية التي تتولاها حكومات تلك الدول، فإنه لا ينفعنا أن نكتشف بعد عشرة سنوات، أو عشرين سنة أن هؤلاء كانوا خونة، وأنهم يحاكمون كما وقع في الجزائر حيث حُوُكِمَ بعض رءوس الفساد، واتهموا وثبت أنهم كانوا يسرقون الأموال، فماذا ينفعنا أن نكتشف ذلك بعدما ضاعت أموالنا؟(48/40)
الجهاد في سبيل الله
أولها: الجهاد في سبيل الله، ومساعدة المجاهدين بالمال والسلاح وغير ذلك من الوسائل في كل مكان، وراية الجهاد اليوم مرفوعة في بلاد عديدة، ففي البوسنة مؤمنون يقاتلون عن دينهم وعن أرضهم وأعراضهم، وفي طاجاكستان أعداد من المؤمنين المجاهدين في الشعاب.
وقد رأينا البارحة مندوباً منهم موثوقاً -إن شاء الله تعالى- يمثل الحزب الإسلامي الوحيد هناك، حزب النهضة، فيقول: عدد المجاهدين أكثر من مائة ألف مجاهد متحصنين في الجبال، وقد استطاعوا أن يردوا نصف تلك الدولة التي سقطت في أيدي الشيوعيين، بلد قتل فيها أكثر من مائتي ألف مسلم خلال ثلاثة أشهر، وفقد منها مائة ألف مسلم أيضاً، وشرِّد أكثر من مليوني مسلم حيث ذهب أكثرهم إلى الدول المجاورة ومنها أفغانستان المنهمكة والمنشغلة بهمومها الخاصة.
شعب يقتل لماذا؟ لأنه أقرب الشعوب لآسيا الوسطى وإلى الإسلام، وأكثرها تديناً وصلاحاً، فلذلك رفعوا راية الجهاد، وهم أحوج ما يكونون إلى المال.
وهناك في إرتيريا مؤمنون مجاهدون على الطريق الصحيح، ويحتاجون إلى الدعم بالمال، وهناك في الفلبين مسلمون يُقتلون، وقد هدمت قرى بأكملها، وقد اعتدى الجنود الحكوميون على أعراض المسلمات، فأصبحت المسلمات نهباً مباحاً، ففي الهند اعتدوا على المسلمات بالاغتصاب، وفي الفلبين، وفي البوسنة، وفي كشمير، والله تعالى وحده هو المستعان.
وأقول: أيضاً في الجزائر عشرات الآلاف من الشباب الذين يدافعون عن دينهم، وعن أعراضهم، وعن تحكيم شريعة الله عز وجل، ويقاتلون أولياء العلمانية، وأولياء الاشتراكية، وأولياء الغرب، والجميع محتاجون إلى دعم إخوانهم المسلمين، ليس فقط لدعم الجهاد بنفسه، بل لحماية ظهور المجاهدين، ورعاية أسرهم، فإن أهل الفساد والريب يقولون: لا تنفقوا على هؤلاء، ويحاصرونهم، ويتابعون كل من يدخل إلى بيوتهم، أو يوصل إليهم خيراً، يريدونهم أن يموتوا فقراً وجوعاً وعرياً، وأن يحنوا رءوسهم بسبب الحاجة والفقر، فلابد من خلافتهم في أهلهم وأطفالهم وأولادهم بخير.
إنني أعجب -أيها الإخوة- حين نسمع عن الشباب المجاهد في أفغانستان، وما يعانيه في بيشاور وغيرها، أولاً من الحصار الدولي التي تحكمه حامية راية الصليب أمريكا نسأل الله تعالى أن يُعجل بسقوطها وهلاكها وتمزقها.
فهي تتصل الآن بقوة بالباكستان وتضغط عليها وتتحالف في ذلك مع مصر، فهناك ثلاثي -أمريكا ومصر وباكستان- للتضييق على المجاهدين في بيشاور، والقبض على المجاهدين.
وقد قبض هناك على عشرات من الشباب، وأودعوا السجون، وهناك تخطيط للقبض على البقية الباقية، وإرسالهم إلى دولهم لتتولى محاكمتهم وسجنهم وتعذيبهم.
فماذا كانت ذنوبهم؟ لقد كانوا بالأمس يُودَّعون من قبل دولهم بالحفاوة والتكريم، بل ويعطون تذاكر مخفضة، أما اليوم، فهم يؤتى بهم يقادون مكبلين بالأغلال والقيود ويودعون في السجون، ويعتبرون إرهابيين ومتطرفين، لقد كانت المهمة أن يقاتلوا الروس يوم كان الاتحاد السوفيتي عدواً لأمريكا، فكانت بعض الدول العربية تتعامل معهم على هذا الأساس.
أما اليوم وقد سقط الاتحاد السوفيتي، فقد أصبح هؤلاء هم الخطر، وبدأت الدول تتآمر ضدهم، ثم إنهم يعانون حالاً من الجوع والفقر، وقلة ذات اليد، ويحتاجون إلى دعم إخوانهم المسلمين.
إن الأمة التي تريد أن تكون مجاهدة حقاً عليها أن تحفظ للمجاهدين سابقتهم وفضلهم، وأن تقوم بحقهم عليها.
نعم! إن المال لو وُفِّر لانتصر الجهاد في أكثر من موطن.(48/41)
حجج ضعيفة(48/42)
دعوى عدم وصول الأموال إلى مستحقيها
وبعض الإخوة يتعذرون ويقولون: إن هذه الأموال قد لا تصل إلى مستحقيها.
وأقول: عندي لك جوابان سريعان: فأما أولهم: فعلى لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل خرج بصدقته ليلة فوضعها في يد إنسان، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية! لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية وعلى سارق! لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية وعلى سارق وعلى غني! فقيل له: إنه في الصدقة المتقبلة، أما الغني، فلعله أن يعتبر فينفق، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما السارق فلعله أن يستغني فيستعف عن سرقته} .
وأمرٌ آخر: أن هناك طرقاً موثوقة تستطيع أن تطمئن بها إلى وصول المال إلى مستحقيه.(48/43)
عدم الإنفاق خوفاً من المسئولية
الحجة الثالثة: البعض يحجمون عن الإنفاق خوفاً من المسئولية، ومن أن يحاسبوا من بعض الجهات، ومن بعض الدوائر: لماذا دعمت هؤلاء؟ ولماذا دعمت هؤلاء؟ ولماذا أنفقت هنا؟ ولماذا أنفقت هنا؟ وأقول: هناك أيضاً جوابان: أولها: قال الله جل وعز: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فيجب أن تخاف الله تعالى أن يحاسبك لماذا لم تدعم أولئك المحتاجين؟ ولماذا لم تساعد عبادي المجاهدين؟ ولماذا لم تتبرع لمشاريع الخير والدعوة؟ فيجب أن تخاف حساب الله قبل أن تخاف حساب المخلوقين.
ثانياً: هناك طرقٌ مأمونة بحيث تستطيع أن توصل المال إلى وسيط تطمئن إليه وتثق به، دون أن يكون هناك أي وثيقة أو مستند رسمي.(48/44)
الإنفاق علىمن لا نعرف حاله
فقد تقول لي: كيف نطعم المسلمين الذين تحدثت عنهم كثيراً، وهم في غالبهم منحرفون مقصرون، بعضهم لا يصلي، وبعضهم لا يعرف دينه، وبعضهم مسرف على نفسه، وبعضهم واقع في المعاصي، وسوف أجيبك بأربع نقاط على عجالة: أولاً: هم في الجملة مسلمون، ولهم عليك حق الأخوة الإسلامية ولو كانوا مقصرين، فأنت لا تستطيع أن تخرجهم في جملتهم عن مسمى الإسلام.
ثانياً: إن أكمل وأحسن طريقة للدعوة إلى الله أن تشبعه وتطعمه وتعالجه وتساعده وتكسوه، ثم تقدم له الهداية والدعوة بعد ذلك، وليس صحيحاً أن تقوم بدعوته وهو على هذا الحال من الفقر والجوع وتقول عنه ما تقول.
ثالثاً: أنت في سباق مع النصارى الذين لا يكفيهم أن يكون هذا المسلم مقصراً، أو مفرطاً، بل ولا يكفيهم أن يكون هذا المسلم مبتدعاً، أو ضالاً، بل يريدونه أن يكون نصرانياً، بل يريدونه أن يكون قسيساً داعية إلى الكفر.
الأمر الرابع: إن المسئولية علينا جميعاً، فنحن مسئولون أيضاً كما نحن مسئولون عن فقرهم، نحن مسئولون عن جهلهم في الدين، وواجب علينا أن نحمل إليهم الدعوة إلى الله عز وجل، ونحرص على إيصالها إليهم بقدر المستطاع، ونحن كما صحنا بك إليك وصوتنا وطلبنا منك أن تبذل لهم الطعام والشراب والكساء، فنحن أيضاً قد دعوناك إلى بناء المسجد، وبناء المركز، وبناء المدرسة، وطباعة الكتاب، وطباعة الشريط.(48/45)
طرق وأساليب
أولاً: عليك بالاعتدال عن الإنفاق على نفسك وأهلك وأولادك، وتوفير جزء ولو يسير من الدخل لتستفيد منه في الإنفاق.
إنني أعرف أن أكثر الآباء قد يُعطي الطفل عشرة ريالات، أو يشتري له لعبة بمائة ريال، فإذا انكسرت اللعبة، قال للطفل: لا يهم، البقية في حياتك، ثم يشتري له غيرها، وفي المقابل لو أتاه فقير، أو مسكين، أو مشروع خيري، فإنه يتردد في إعطائه ولو أقل مبلغ من المال، وهذا من كيد الشيطان، فإنه لا تأتي الحسابات والتساؤلات والشكوك والظنون إلا في المجال الخيري الذي ينفعك في الدار الآخرة.
ثانياً: نحتاج إلى ترك بعض المظاهر والعادات الأسرية والمدنية والقبلية، كارتفاع المهور في الزواج، وتضخيم المناسبات والمبالغة فيها، كما نحتاج أيضاً إلى الاقتصاد في الملبوسات والمصاغات، والأحذية الموجودة بكميات كثيرة لدى الرجال والنساء، فانظر في زوجتك -مثلاً- وفي نفسك كم يوجد عندكم من الذهب، كم الذي تلبسه زوجتك؟ وكم يوجد من الملابس لك ولها لا تلبسونها قط؟ وكم يوجد من الأشياء التي لا تحتاجونها وربما يكون فات وقتها؟ ولا مانع أن تشتري لنفسك ولولدك ولزوجك شيئاً جميلاً، والبس من غير إسراف، ولا مخيلة، ونوِّع، وتصدق أيضاً.
كما أننا نحتاج إلى التبرع بالمواد العينية الفائضة عن حاجتك من غسالة، أو ثلاجة، أو فرش، أو ملابس، أو غيرها بشرط أن تكون نظيفة، أو صالحة للاستعمال، بل وحتى الأطعمة مطبوخة كانت، أو غير مطبوخة يجب إيصالها لمستحقيها، مع العناية بجودتها، وحسن مظهرها، وعدم وضع الأطعمة وتكويمها في الأماكن العامة والشوارع، بل ربما تكون أحياناً مختلطة مع القمامات والأوساخ.
ثم هناك أمر ثالث: وهو اقتطاع جزءٍ ولو يسير من الراتب يكون على شكل اشتراك شهري للمعلم، أو المعلمة، أو الموظف، أو الموظفة، أو أي إنسان بحيث يخرجه شهرياً، وإنني أخاطب المرأة على وجه الخصوص، فأقول: المرأة غير مسئولة عن صرف شيء من المال في بيتها، بل ولا على نفسها، ولا على أولادها، حتى ملابسها، حتى حذائها، حتى طعامها على زوجها، أو أبيها فهو مطالب بتأمينه لها، فلماذا لا تدخر ذلك كله ليوم الحساب، أو تستثمره لأمر دنيوي، ويعلم الله تعالى من قلبها أنها تنوي أن تتصدق كلما رزقها الله تعالى؛ ليكون ذلك سبباً في سعة رزقها وحسن توفيقها في عاجل أمرها وآجله.
رابعاً: إن وجود هذا الاشتراك الأسبوعي، أو الشهري، أو حتى السنوي في نشاط من النشاطات، أو عمل من الأعمال، أو جمعية، أمرٌ حسن؛ لأنه يعتاد الإنسان عليه، فلا يشق عليه إخراجه.
وكذلك يعرف أن هناك دخلاً ثابتاً محسوباً يعتمد عليه ويحسب ضمن المبلغ الداخل، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.(48/46)
حملات تبرع
هناك حملات للتبرعات التي ينبغي أن نقوم بها في أي مكان، بين الزملاء، أو في المساجد، أو في الجوامع، أو في الجمع، أو في الأعياد، أو في رمضان، أو حتى في وقت استلام الراتب من كل الطلاب، أو الموظفين في أي دائرة، أو حتى في الأزمات التي تمر بالمسلمين، وليكن لك أنت شرف السبق إلى ذلك والمسارعة والمساهمة.
مع أنه ينبغي علينا جميعاً حينما نبذل ونتبرع أن نراعي أهل الثقة والعدالة، وأن نتأكد من وصول الأمر إلى مستحقيه.
ثم هناك نقطة إضافية وهي تخصيص جزء من عملك التجاري الاستثماري- كما أسلفت- فإذا كان عندك عشرة فروع لمتجرك فلماذا لا تخصص واحداً منها لمشاريع الخير؟ وجرِّب وقس وسوف تجد أن مالك يتضاعف بذلك، وخاصة حينما تتولى إدارته بنفسك وتنميه لوجه الله عز وجل، ثم هناك المشاريع الاستثمارية التي يقوم عليها بعض الأخيار لصالح الدعوة، وهذا واجب على الدعاة أن يقوموا به، وواجب على الاقتصاديين أن يفكروا جيداً في هذا الأمر ويعملوا له.
إن الكثيرين قد يتساءلون عن مثل ذلك، إنها أموال تصرف في أعمال الخير في تجارة، في أرض، في مزرعة، في أي عمل آخر، ويكون هناك مجموعة من الأمناء القائمين على هذا المشروع بحيث يطمئن إلى استمراره وألاّ يكون مرهوناً بحياة إنسان، أو موته، وألاّ يكون فيه مجال لضياع الأموال، أو استغلالها من قبل بعض ضعفاء النفوس، وإن كانت مثل هذه الأمور مما لا ينبغي أن يطال بتفصيلها.
وهناك مشروع صناديق الدعوة، وقد يكون هذا الصندوق في المسجد، أو في غرفة الصرف في الدوائر الحكومية، أو حتى في البيت لتبذل فيه المرأة، أو يضع فيه الطفل ما تيسر له، وفي خلال شهر، أو شهور يكون قد اجتمع فيه مبلغ كبير، وينبغي أن تفتح هذه الصناديق أولاً بأول ليأخذ ما فيها، ويمكن أن تفهم صناديق الدعوة بطريقة أشمل من ذلك بحيث تكون على تلك مؤسسة صغيرة لها إدارة، لها دخل ثابت وإيرادات، ولها مصروفات، ولها نشاطات، ولها حسابات.
وهناك الزكاة وهي من أعظم مصادر المال وأهميتها، وضرورتها واضحة جداً، فينبغي أن توضع في موضعها المناسب، ولو أن أغنياء المسلمين أخرجوا زكاة أموالهم، لاستغنى المسلمون جميعاً، سواء كانوا من المجاهدين، أو من الفقراء، أو من المحتاجين، أو من الراغبين في الزواج، أو سواه.
إن هناك من المسلمين من يملكون أموالاً هائلةً طائلةً زكاتها تدفن فقر المسلمين جميعاً، فلماذا لا يحاسب المسلم نفسه محاسبة الشريك الشحيح؟ بل وحتى يخرج احتياطاً لئلا يدخل شيء من مال الزكاة في ماله الخاص، بل إذا لزم الأمر، فلا مانع من تعجيل الزكاة إذا كان هناك مناسبة، فادع إلى تعجيلها، فقد روى الترمذي وأبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: {أن العباس سأل الرسول صلى الله عليه وسلم تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول مسارعة إلى الخير، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك} والحديث رواه أحمد أيضاً والدارقطني والحاكم، وفي سنده ضعف، ولكن له شواهد.(48/47)
دعوة للمشاركة الفعلية
إني أدعو الجميع إلى المشاركة الفعلية، وأن يكون دعم البرامج الدعوية هدفاً لكل مسلم ذكراً، أو أنثى، مدرساً، أو مدرسةً، موظفاً، أو موظفةً، أو تاجراً، أو عاملاً، أو مزارعاً، أو صانعاً، أو طالباً، أو كبيراً، أو صغيراً، فإن الدعوة هي قضية الأمة كلها، كما إني أدعو الجميع أيضاً إلى الورع عن أخذ المال الذي يشك فيه، أو يظن أنه ليس أهلاً له، أو ليس محتاجاً إليه.
فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أن الحسن رضي الله عنه وأرضاه أخذ تمرةً من تمر الصدقة وهو طفل صغير، فوضعها في فمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كخٍ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة} .
وكذلك روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرةٍ في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة، لأكلتها} .
وثمت حديث آخر أختم به رواه أبو داود والنسائي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: {أخبرني رجلان أنهما أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إليها النظر، وخفضه، فرآهما رجلين جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب} .
والحديث صحيح، وقد روى أيضاً أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر وبلفظ آخر: {لا حظ فيها لغنيٍ، ولا لذي مرة} فإلى أولئك الذين يأخذون الأموال من الصدقات والزكوات وغيرها وهم أغنياء عليهم أن يتقوا الله عز وجل، ولا يأخذوا مالاً لا حق لهم فيه، وسوف أتحدث في حديث أكثر صراحة مع إخواني من شباب الصحوة سواء كانوا طلاباً، أو مدرسين، أو غير ذلك، سوف أتحدث إليهم كما أسلفت في الأسبوع القادم بحديث عنوانه: دلوني على سوق المدينة.(48/48)
الأسئلة(48/49)
حث للمسلمين على التبرع
السؤال
ما رأيكم في التبرعات التي تجمع من قبل محطة تلفزيون MBC الشرق الأوسط لمسلمي البوسنة والهرسك؟
الجواب
نعم، لقد قاموا بحملة بلغ مجموع ما جمعوا فيها سبعة عشر مليون دولار، يعني: حوالي خمسين مليون ريال سعودي، وذلك خلال أسبوع تقريباً، ويؤسفني أن أقول: إن المذيعين الذين كانوا يطلون على الشاشة، وينادون المسلمين ويتصايحون على أوضاعهم، كان كثيرٌ منهم رجالاً ونساءً هم من الموارنة من النصارى الذين يتباكون على المسلمين وإخوانهم هم الذين قتلوهم.
وإنني أقول: إنه حقٌ علينا أن نكون أسرع إنفاقاً، وأكثر صدقة، فسبعة عشر مليون دولار جمعت في أسبوع، فلماذا لا يجمع الخطباء في المساجد أضعاف هذا المبلغ من المحسنين؟ إنني أعجب من محسن يعطي بعض المؤسسات الرسمية مجاملة، ويعطي بعض المجالات، وبعض الجمعيات التي يعلم أنها غير موثوقة، أو بعض الأندية، ثم يتراجع عن أعمال الخير، فإذا جاء العمل في سبيل وجه الله، الذي فيه الأجر، وفيه الثواب، وفيه السعادة في الدنيا والآخرة، وفيه صحة البدن، وفيه صلاح الولد، وفيه الغنى، تراجع، أو لم يعط إلا أقل القليل.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.(48/50)
تعليق على منشور نشر في جريدة الوطن الكويتية
وهذا عبارة عن منشور نشر في جريدة الوطن الكويتية بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي السابق إلى الكويت، ولا شك أن بعض الإخوة من الكويت يقولون: إننا بحاجة إلى كلمة تلقونها بهذه المناسبة حيث ترون في هذا المنشور ما يندى له الجبين: العنوان: بسم الله الرحمن الرحيم.
أهلاً بك يا جورج بوش، يقول: من أعماق أهل الكويت نقول: مرحباً بك يا ضيف الكويت العظيم وصحبك الكريم!! إن شعبنا الوفي على انتظار لتعبير صادق عن عرفانه وامتنانه لك يا جورج بوش وللشعب الأمريكي القدير.
فقد كنت يا ضيفنا الكبير رمز شعبك العظيم وبقية الحلفاء الأوفياء والنصير الأول للكويت في محنتها، والمدافع الباسل عن حقها في الحرية والاستقلال.
وأنت الذي صنع التحرير، وأعاد البسمة والأمل إلى كل الكويتيين، سيظل اسمك محفوراً في وجداننا، وسيبقى أثرك بيننا مدى الدهر، واحتفاء بهذه المناسبة الكبيرة تدعو اللجنة التحضيرية لجمعيات النفع العام جموع المواطنين والمؤسسات إلى المشاركة والمساهمة في مهرجان الوفاء كل وفق إمكانياته؛ للتعبير عن التقدير.
ثم يقول هناك: الإعلانات الترحيبية في وسائل الإعلام أسوة بالمناسبات الوطنية.
ثانياً: تشييد وتنصيب الشعارات واللافتات في الشوارع الرئيسية ترحيباً بالضيف الكبير.
ثالثاً: تزيين المباني والمنازل والمقار بالأعلام والصور والإضاءة - صور من؟ صور جورج بوش فسوف يصبح وثناً تعلق صوره في الديوانيات والدوائر الحكومية.
رابعاً: إعداد الشعارات والملصقات ورسوم الأطفال، واللوحات التعبيرية.
خامساً: إرسال البرقيات والرسائل الترحيبية للضيف العظيم وفق ما سيعلن عنه لاحقاً.
سادساً: التجمهر في الأماكن التي سيعلن عنها مع الأعلام والصور واللافتات والأطفال.
فلنهب جميعاً صغاراً وكباراً شيباً وشباناً لنقدم عرفاننا لهذا الرجل العظيم، ولننشد: مرحباً بك يا جورج بوش على أرض الكويت الحرة.
والتعليق على هذا المقال: أن مثل هذا التصرف، ومثل هذا الصنيع، دع عنك الجوانب الشرعية، ودع عنك الأثر العقائدي الذي سوف يحدثه ويحفره في عقول وقلوب الأطفال والصغار والسذج والبسطاء والجهلة، إن مثل هذه الشخصية الكافرة لم تتدخل في الكويت من أجل سواد عيوننا، ولا رغبة في تحريرنا، بل تدخلت من أجل أن يظل النفط يذهب إلى هناك، وتدخلت محافظة للمصالح الأمريكية، وهذا أمر معروف عند الجميع، فأي شيء فعلوه لنا عندما تدخلوا لمصالحهم الخاصة.
إنهم ينظرون إلينا ونحن نعمل مثل هذه الأعمال -الصبيانية- ينظرون إلينا على أن هذه هي عقلية الرجل العربي البدوي المتخلف البسيط الساذج المغفل الذي يتصرف مع الأحداث وفق هذه النظرة البسيطة البعيدة عن الواقعية، والبعيدة عن الإدراك.
ثم أي مصلحة سياسية لكم في مثل هذا العمل؟! إنكم تعرفون أن أمريكا أعلنت قبل عشرة أيام أن دول الخليج -السعودية والكويت- قد تنكرت للجميل الأمريكي الذي فعلته أمريكا حينما تدخلت في حرب الخليج، وأعلن ذلك من قبل جهات رسمية من قبل وزارة الخارجية في الولايات المتحدة.
فهم يريدون منكم ليس أن تستقبلوا هذا الرجل، بل يريدون أن يظل نفطكم واقتصادكم، وأن تظل عملتكم وقفاً على الاقتصاد الأمريكي، يريدون منكم أن تدعموا أمريكا، وأن تحرروا اقتصادها، وأن تسارعوا إلى مد يد العون كلما دعتكم إلى ذلك أسوة باليابان، وأسوة بالدول الأخرى.
فإذا قالت لكم أمريكا: ادعموا بوريس يلتسن في روسيا ضد القوميين المتشددين، قلتم: سمعنا وأطعنا.
وإذا قالت لكم: ادعموا الشيوعيين الطاجيك ضد الديمقراطيين وضد الإسلاميين، قلتم: هانحن نسارع إلى ذلك، وإذا قالت لكم: ادعموا أي حزب سواء في فرنسا، أو في إسرائيل، أو في غيرها ضد حزب آخر، سارعتم إلى ذلك لتكونوا رهن إشارة المصالح الأمريكية ومراكز القرار في الكونجرس وفي مجلس الشيوخ، وفي غيرها.
هذا هو ما يريدونه منكم، أما مثل هذه الصرخات، ومثل هذه التصرفات، ومثل هذه الحركات، فإنها لا تنم عن أكثر من عقلية ساذجة لا تقدم ولا تؤخر.(48/51)
تعليق على خبر نشر في جريدة تصدر في الأردن
وهذا خبر نشر في جريدة تصدر في الأردن اسمها جريدة شيحان، يقول: هل ظهر المسيح في سماء الصومال؟ وقد قال هذا الخبر: لقد ذهب الأمريكان إلى الصومال وبدأت الألاعيب والصرعات التي تحاول التعتيم على الوجود الأمريكي في الصومال، وبدلاً من إغاثة الصوماليين الجياع بأكياس الطحين وما تيسر من أغذية أخذ الأمريكان معهم صرعاتهم المستحدثة بالكمبيوتر والتكنولوجيا المتطورة.
ففي الأول من شباط الماضي هبت عاصفة رملية فوق العاصمة مقديشو، لكن هذه العاصفة فوق العاصمة، لم تكن كأي عاصفة أخرى حيث شكلت رمالها في سماء المدينة صورة للسيد المسيح عليه السلام، وهي صورة مطابقة تماماً للصورة التي تتضمنها الكتب الدينية النصرانية.
ويبدو أن الصورة التي يفترض في ظهورها إحياء الأمل قد صممت خصيصاً لخدمة عملية إعادة الأمل الأمريكية في الصومال حيث ركع الجنود الأمريكان على الأرض، وبدأ بعضهم بالصلاة والبكاء فور رؤيتهم للصورة.
والكثيرون يقولون: إن هذه الصورة نوع من الوهم صنعتها العاصفة، لكن البابا يوحنا بولس الثاني يقول: إن ظهور وجه السيد المسيح- كما يعبر، وهو على كل حال سيد عليه الصلاة والسلام، لكن ليس كما يعتقدون هم، فإنهم يعتقدون أنه رب وإله- يقول: إنه مؤشر له دلالات كثيرة للبشر.
وقال أحد العاملين في الفاتيكان: نحن لا ننظر إلى هذا الموضوع باستخفاف، بل نأخذه على محمل الجد تماماً.
وكان جندي مارينز أمريكي قد التقط صورة للوجه الذي ظهر في العاصفة ونُشرت الصورة في الصحف الغربية، وظهر واضحاً أن الصورة التي بلغ ارتفاعها حوالي 100 متر هي صورة مطابقاً لوجه السيد المسيح كما يعرفه أبناء النصارى في العالم.
وبناءً على الأنباء الواردة من مقديشو، فقد أصدر البابا أمراً بتحري وتقصي الحقائق، وبعد ذلك بدأت الأخبار تتوالى عن معجزات كما يزعمون تحققت في الصومال بعد ظهور الصورة.
ومنها على سبيل المثال: شفاء رجل من الروماتيزم، وشفاء رجل آخر من السرطان، أما أغلب الأخبار، فكانت عن رجل ميت استيقظ وعادت له الحياة أثناء الجنازة.
ويقول مصدر في الفاتيكان: إن حوالي مائتي معجزة قد حدثت.
هذا نموذج على ما يبدو لبداية حملة -ولا يزال الخبر للجريدة تنصيرية جديدة في الصومال، لكن هذه المرة مدعومة بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا.
إن هذه الصورة لا تعدو أن تكون لعبة، فهم حينما وجدت هذه العاصفة عملوا على تسليط بعض الأضواء وبعض الأنوار وتوجيهها إليها، فظهرت معالم هذه الصورة لخداع البسطاء والسذج الذين لا يدرون ماذا وراء الأكمة، ثم بدءوا يروجون مثل تلك الأخبار وتلك الدعايات، ويعطون بعض المرضى أموالاً مقابل أن يعترفوا أنهم كانوا مرضى، ثم شفوا وعوفوا ببركة النصارى الذين ينتشرون هناك.
وهذا يؤكد ما هي الأهداف التي يسعى النصارى إلى تحقيقها في الصومال، أو في الخليج، أو في أي مكان من الأرض، وبالتالي هذا يؤكد على أهمية الدور الإسلامي في تنوير عقول المسلمين وحمايتهم من الخداع والتضليل النصراني الذي يستغل جهلهم وبساطتهم، ويستغل فقرهم، ويستغل مرضهم بتحويلهم من مسلمين إلى نصارى.(48/52)
تعليق على تعميم وزع على مدارس المملكة
تعميم: هذا أيضاً عبارة عن تعميم وزع على جميع المدارس الحكومية، بل على جميع المدرسين، وربما لأول مرة، وخلاصة التعميم يتحدث عن موضوع المناهج الدراسية، وينفي ما نقله مجموعة من طلبة العلم والمشايخ، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي في أحد لقاءاته العلمية عن موضوع تعديل المناهج، ويقول: إن الحديث بتلك الطريقة قد أحدث بلبلة لدى من ينخدعون بالأحاديث المثيرة.
وإذا أحسنَّا الظن بهذا المتحدث، فإنه على ما يبدو قد بنى معلوماته على مصادر غير موثوقة، وكان حرياً به أن يتصل بالمسئولين، ثم يقول: أولاً: المرحلة الابتدائية: لقد رأت الوزارة سيراً على سياستها أن في كتب المرحلة الابتدائية ما لا ينسجم مع مفردات المنهج، أو مع مدارك التلاميذ في هذه المرحلة، فقامت بتخفيض دروس بعض الكتب، أو بإعادة كتابتها بطريقة مختصرة خاصة الرياضيات والعلوم والجغرافيا والتاريخ وقواعد اللغة، وبذلك يتضح عدم صحة قول من قال بأن الرياضيات مثلاً قد ضخمت.
والرياضيات لا شك أن الجميع يعلمون أنها ضخمة، وكلنا لنا أولاد في المدارس، فنعرف أن الطالب يحمل كتاب الرياضيات تعد صفحاته بالمئات على حين أن المقرر الديني يكون عبارة عن بضع صفحات.
وقال في التقرير: لم يتم بعد تخفيض، أو تعديل شيء من كتب المواد الشرعية.
وأنا سوف أقتصر في التعليق على هذه النقطة، فإن هذه الكلمة بالذات كلمة أمينة في التقرير، حيث يقول: لم يتم بعد تخفيض أو تعديل شيء من كتب المواد الشرعية، بل اقترح ذلك اقتراحاً، إن الكلام الذي تحدث به الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي كلامه هو عندي وعند الكثيرين ممن يطلعون على حقائق الأمور، ومن مصادر موثوقة أيضاً.
لكن نحن جميعاً نعلم أنه فعلاً لم يتم هذا التعديل بعد، ولو تم التعديل لربما لم يكن للحديث كبير فائدة، وربما كان الحديث بعد فوات الأوان، ولذلك سارع الشيخ جزاه الله خيراً إلى سبق الأحداث بذلك الحديث حتى يحول بين هذا التعديل وبين أن يتحول إلى واقع وإلى كتب مطبوعة موزعة، فإن في تلك اللحظة سيصعب التراجع، وسيقال: هذه كتب طبعت، وطبعت بمئات الآلاف، ووزعت على المدارس واستلمها الطلاب، فتعديلها حينئذٍ صعب، وفيه أيضاً نوع من الإرباك، وقد يعطي الآخرين انطباعاً أن السياسة التعليمية غير منضبطة، وأنها مرتجلة إلى غير ذلك من الوسائل والحيل والعلل.
إذاً كان هناك تعديل، وكان هناك تخطيط لأن يتم، بل لا أذيعكم سراً إذا قلت: إن الكتب التي جرى عليها التعديل بالقلم موجودة عندي وموجودة عند الشيخ سفر، وموجودة عند بعضكم، وقد تم التعديل عليها على أعلى المستويات في الوزارة، وحذف منها أشياء كثيرة وبعناية، وخفضت بشكل ملفت للأنظار، وحذف منها أشياء من الواضح أنها حذفت مسايرةً للسياسة لسياسة ما يسمى بالتطبيع والسلام مع العدو اليهودي في فلسطين-.
بل وفي مقرر التاريخ والجغرافيا حذف أشياء حتى في الكتب المطبوعة التي تتعلق بالجهاد، أو تتعلق بفلسطين، أو تتعلق باغتصاب هذه الدولة وهذه الأرض المباركة من المسلمين على يد اليهود، هذا كله موجود، نعم لم يتحول ذلك بالضرورة إلى كتب مطبوعة، لأن ذلك أمر كان، ما زال خطة يسعى إليها، والحمد لله يعجبني في هذا التقرير أن يقولوا: إنهم ليس لديهم نية للتغيير.
فنحن والحمد لله إذاً حصلنا على وعد، وبغض النظر عن أي شيء آخر، فنحن نرجو أن نكون حصلنا على وعد صريح استلمه كل مدرس من الوزارة بأنه ليس هناك أي حذف للمواد الشرعية، فعلينا أن نتمسك بهذا الوعد، وأن نحرص عليه، وأن نتابع الأمور بدقة وعناية، وأن نحرص على محاسبة جهات تعديل المناهج أولاً بأول على وفق الوعد الذي قطعوه على أنفسهم وعمموه وشهدوا به حينما وزعوا مثل هذا التعهد على كل مدرس وكل عامل في الوزارة.
هذا هو الذي يهمني، أما أعراضنا، أو أشخاصنا، فلا يضيرنا أن يقول فيها أحد ما قال باجتهاد أو بغير اجتهاد، ونقول: فداء لدين الله عز وجل وشريعته وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنفسنا وأموالنا وأعراضنا وكل غالٍ ورخيصٍ مما نملك.(48/53)
الأفضل في إنفاق المال
السؤال
أيهما أفضل: إنفاق المال في الدعوة، أو في إطعام الفقراء؟
الجواب
كل ذلك خير، والأفضل هو الأحوج.(48/54)
حكم بعض العبارات التي يطلقها بعض الناس للتهرب من الإنفاق
السؤال
ما رأيكم في بعض العبارات التي يطلقها بعض الناس وخاصة بعض من ينسبون إلى الخير عندما تدعوهم إلى الإنفاق، مثل: لا أرغب، أو هناك من هو أحق، أو هناك أولويات، أو التزامات كثيرة، أو المسألة كثرت، خاصة إذا أكثر الصلاة؟
الجواب
هذا من الشيطان، فهذا الإنسان الذي يقول هناك أولويات ربما يكون لا يتصدق، أو الالتزامات كثيرة، هذا أيضاً ربما لم يقم ولا بشيء واحد منها، فنحن لا نفترض على الناس بالضرورة أن يتصدقوا عن طريقنا وبواسطتنا، لكننا ندعوهم عموماً إلى الإنفاق.(48/55)
حكم الإنفاق والصدقة لمن عليه دين
السؤال
يقول: هل يجب على الذي عليه دين الإنفاق؟
الجواب
عليه أن يسعى في سداد دينه أولاً، ثم ينفق مما آتاه الله.(48/56)
توجيه لدعوة صاحب محل لبيع الأغاني
السؤال
يقول: تعلمون أن هناك إنساناً فتح محلاً لبيع الآلات الموسيقية والعود في هذا البلد، وقد خطب الشيخ محمد المحيسني عن هذا الموضوع، فأرجو حث الحضور على إنكار هذا المنكر؟
الجواب
نعم، هذا مكان موجود في خلف العمارة المعروفة بعمارة البرج، وفيه بيع الأغاني والأشرطة المحرمة وبيع الآلات الموسيقية، فأنصح الإخوة أن يتصلوا بذلك الأخ الذي قام بهذا العمل، ويناصحوه في الله تعالى، ويصبروا عليه، ويوسعوا له الصدر بقدر المستطاع، ويكاثروه حتى يبلغوه النصيحة، فلعل الله تعالى أن يهديه وأن تكون سبباً في هدايته، أو أن يضيق ذرعاً، ثم يقوم ببيع هذا المحل والتخلص منه.(48/57)
ضرورة التحري عند إعطاء الصدقات والزكاة
السؤال
يوجد كثير من هيئات الإغاثة بمسميات مختلفة أيها يمكن الثقة بهم لمساهمة الناس بذلك لإيصالها إلى المحتاجين المحسنين الحقيقيين؟
الجواب
ينبغي للإنسان أن يتحرى أن يوصل ماله إلى الجهات والمؤسسات والهيئات الإغاثية، والأشخاص الذين يطمئن إليهم ويثق بهم، ويغلب على ظنه وصول المال عن طريقهم.(48/58)
كيفية تنظيم جمع التبرعات
السؤال
يقول: تعلمون ما في الشباب من نشاط وحماس لا حدود له، وأحياناً أيضاً لا تنظيم له، فما هو دور الشباب الملتزم، وحتى غير الملتزم في تنظيم الإنفاق وجمعه من الأعيان؛ حتى يكون هذا العمل عملاً جماعياً لا حرياً -بمعنى الحرية-؟
الجواب
هذا يمكن تنظيمه عن طريق أئمة المساجد والدعاة المعروفين والمحتسبين، بحيث أن يكون الإنسان إذا أراد جمع المال يجمعه عن طريق أحد الدعاة، أو أحد الخطباء، أو أحد المشايخ المعروفين حيث يكون هناك تفويض له: أولاً: حتى يكون له وجه أمام الناس.
وثانياً: حتى يطمئن الناس إلى مثل هذا الإنسان، ويعطوه بعض المال.(48/59)
وساوس شيطانية
السؤال
يقول: كنت أنفق مالي ولو كان قليلاً، ولكن يداخلني الشيطان بأني أرجو من وراء هذا الإنفاق جزاء الدنيا العاجل، فهل يثيبني الله عز وجل عليه في الدار الآخرة؟
الجواب
عليك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وألاَّ تتردد في الإنفاق، وحاول أن تصحح نيتك وتستعيذ بالله وتقول: {اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} .(48/60)
العطية على شكل مكافأة
السؤال
يقول: بعض التجار يُعطي عماله في العيد مبالغ على شكل مكافأة ويحسبها زكاة، فهل هذا جائز؟
الجواب
أما إن كان هؤلاء العمال فقراء محتاجين، فيجوز لهم أن يعطيهم من الزكاة شريطة ألاَّ يكون عطاؤه من الزكاة حماية لراتبه، أو حماية لماله، أما إن كانوا أغنياء، فلا يجوز.(48/61)
دعاة في البيوت
تحدث الشيخ عن أهمية البيوت وحاجة الإنسان إليها واهتمام الإسلام بها، وحرمة الدخول إليها بغير إذن وحرمة النظر إليها، والوصية بالجار، وجعل النافلة فيها، ثم تحدث عن أهمية الدعوة إلى البيوت وأنها أثر للصحوة الإسلامية.
ثم تحدث عن ثلاثة واجبات في البيوت وهي: أولاً: القيام بمصالح الأهل وإثبات الشخصية.
ثانياً: التوعية والإرشاد والتعليم.
ثالثاً: المراقبة والمحاسبة.(49/1)
أهمية البيت في الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: لقد كنت ألاحظ وأنا في كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم، نخبة من الطلاب هم من خيرة الطلاب، لا تفارق البسمة شفاههم، والسرور يبدو على محياهم، والحب يغمر قلوبهم، فكنت أجد هؤلاء الشباب حين أسأل عنهم في كثير من الأحيان من هذه المنطقة المباركة، وكنت أظن هؤلاء نخبة قد اختاروا هذا الطريق، فلما أتيت إلى هذه المنطقة هذا العام، وفي العام الماضي ومن قبله، وجدت أن هذا الأمر الذي لاحظته على أولئك النخبة من الشباب البررة الأخيار الأطهار، وجدته وضعاً عاماً لدى السالكين إلى الله، والمستقيمين على صراطه في هذه الأرض، فهنيئاً لهذه المنطقة بأهلها من المؤمنين الصادقين، المحبين للخير، المجتمعين عليه، الفرحين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] .
أحبتي! هذه المحاضرة عنوانها: (دعاة في البيوت) وأعتقد أن موضوع هذه المحاضرة من أخطر الموضوعات التي يجب أن يتحدث عنها الخطباء والمحاضرون، ويجب أن يستمع إليها الناس من كافة الطبقات، وذلك بسبب أن كل أسرة -في الدنيا كلها- لابد أن يكون لها بيت يئويها، وهذا البيت الذي تأوي إليه الأسرة يحوي جميع شرائح المجتمع، ففيه الأبوان، والأولاد، والصغار من الأطفال، وفيه الذكور وفيه الإناث، فهو عبارة عن مؤسسة متكاملة، وهذه المؤسسة في النهاية: هي التي تكِّون المجتمع الأكبر.
ومن جهة أخرى، فإننا نجد أن كثيراً من المجتمعات، قد تفتقد بعض المؤسسات، فهناك مجتمعات -مثلاً- قد لا يوجد فيها مدارس، وهناك مجتمعات أخرى قد لا يوجد فيها أماكن العمل ومؤسسات العمل، وهناك مجتمعات أخرى قد لا تجد فيها الأصدقاء والقرناء، بل هناك مجتمعات كثيرة قد لا يوجد فيها حتى المسجد، وحتى المجتمعات الإسلامية مر عليها وقتٌ من الأوقات لم يكن يوجد فيها مساجد بصورة كافية، ففي مكة -مثلاً- لم يكن يوجد في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، إلا المسجد الحرام فقط، وكان تحت قبضة قريش وسطوتها، حتى كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً محيطة بها، وكان المسلمون لا يستطيعون أن يؤدوا عباداتهم، ولا أن يقرءوا القرآن في ذلك المكان الطاهر الأمين المبارك.
لكن البيت، هات لي منذ وجدت الدنيا إلى اليوم مجتمعاً لا توجد فيه البيوت التي تأوي إليها الأسر، بغض النظر عن كون هذا المجتمع مسلماً أو كافراً، غنياً أو فقيراً، كبيراً أو صغيراً، فالأسرة تأوي إلى بيت، والبيت موجود في كل مجتمع.
ألا تعتقدون أن مؤسسة بهذا الانتشار، وبهذه السعة، وبهذا الشمول، جديرة وحقيقة منا بأن نخصص لها جزءاً من وقتنا للحديث عنها؟ بلى.
نجد أن الإسلام منذ نزل كتابه الأول -القرآن الكريم- نجد أن قضية عناية الإسلام بالبيت كمؤسسة مثلاً، خذ على سبيل المثال بعض التشريعات الإسلامية المتعلقة بالبيت -ليس طبعاً هذا موضع الحديث لكن هذه أمثلة فقط لبيان أهمية البيت في الإسلام-:(49/2)
تحريم دخول البيت إلا بإذن أهله
مثلاً تحريم دخول المنزل إلا بإذن أهله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] معنى تستأنسوا: أي تستأذنوا، السلام عليكم، أأدخل؟ السلام عليكم، أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن لك وإلا فارجع، فلا يجوز للإنسان أن يدخل بيت أحد إلا بعد الاستئذان، فإن أذن له وإلا رجع، ومن أجل هذا فرض الاستئذان لحماية البيوت، وبيان كرامتها.(49/3)
تحريم النظر إلى البيوت
بل الأمر أشد من ذلك، حتى مجرد النظر حرمه الإسلام، ففي يوم من الأيام، كما في الصحيح: {كان الرسول عليه الصلاة والسلام في غرفته، وكان معه مشط يمشط به رأسه عليه الصلاة والسلام، فنظر رجل من خلل الباب، نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لو علمت أنك تنظر لضربت بها عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر} حتى عندما تجد الباب مفتوحاً، أو النافذة مفتوحة، أو يكون بيتك أرفع من بيت الجيران، يحرم عليك حينئذ أن تنظر في داخل البيت، لأن للبيوت كرامة وحرمه، حتى بمجرد النظر إليها، فإن هذا ممنوع، بل بلغ من عناية الإسلام بهذا الأمر، أنه لو أن إنساناً نظر في بيتك، وتيقنت هذا، ففقأت عينه، فعينه هدر، لا قيمة لها؛ لأنه قد أهدر كرامتها حين استخدمها فيما لا يجوز وما لا يسوغ، وقد سمح لبصره أن يتسلل إلى بيوت الآخرين، لأن بيوت الناس فيها عورات محفوظة مصونة، ومن أجل ذلك وضع الإسلام هذا السياج.(49/4)
حقوق الجيران
قضية الجيران: التشريعات الإسلامية كثيرة في حقوق الجار، والجار هو جارك في المنزل الذي إلى جوارك، فله حقوق حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: {مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} إلى هذا الحد كثرت الوصايا بالجار، حتى توقع الرسول عليه السلام أن الأمر يؤول إلى أن الجار سيرث مثلما يرث الأخ والابن، ومثلما يرث الزوج وترث الزوجة.(49/5)
جعل النافلة في البيت
ومن ذلك -أيضاً- تجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يأمر أصحابه ويأمر المؤمنين بأن يصلوا في بيوتهم -أحياناً- صلاة النافلة، ففي الصحيحين عن ابن عمر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً} يعني صلّ في البيت، حتى قال عليه الصلاة والسلام، في الحديث الآخر: {أفضل صلاة الرجل في بيته، إلا المكتوبة} فالنوافل يستحب أن يؤديها الإنسان في المنزل لأسباب: أولاً: أنه أبعد عن الرياء.
ثانياً: حتى يراك أهل البيت فيقتدون بك في عملك، وعبادتك، كيف تصلي، وكيف تركع، وكيف تسجد.
ثالثاً: وحتى تطرد الشياطين عن هذه المنازل؛ بذكر الله تعالى فيها، وإقام الصلاة، فإن هذه البيوت إذا أقيمت فيها الصلاة أصبحت تشبه المساجد، لكن إذا تركت الصلاة فيها، فإنها تصبح كالقبور التي لا تجوز الصلاة فيها، فتشبه القبور من هذه الناحية، فما بالك إذا تحولت البيوت إلى أماكن للفساد وللرذيلة وللانحلال وأصبح فيها قنوات كثيرة، ونوافذ كثيرة، توصل إلى البيت ورياح الفساد، رياح الانحلال، فحينئذٍ تصبح ليست كالقبور، فالقبور ليس فيها هذا، بل تصبح أشبه ما تكون بالمواخير، وأماكن الفساد، وبيوت الحرام.(49/6)
توجيه الدعوة إلى البيوت
إخوتي الكرام: الإسلام جعل للبيوت هذه الكرامة، وهذه المكانة، ومن ذلك وجوب التوجه إلى البيوت بالدعوة إلى الله تعالى، ولو نجحنا في إقناع الناس بالاهتمام ببيوتهم، وتوجيه الدعوة إليها، فإننا سنجد أمراً عجيباً.
إخوتي الكرام: إن أكبر دولة، وأقوى دولة، وأغنى دولة، لو أرادت أن تجند دعاة لأي مذهب أو لمبدأ الإسلام أو أي دين آخر، ولو مبدأ آخر، ممكن أن تجند ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف داعية، خذ على سبيل المثال: هذا البلد الذي نحن فيه الآن: لو أردنا تجنيد دعاة على أحسن الأحوال -وهذا أمر أعتبره ضرباً من الخيال لكن جدلاً- ممكن أن تجند ثلاثمائة داعية في هذا البلد، وهذا أمر كلكم توافقون على أنه ضرب من الوهم، لكن لنفرض هذا جدلاً، لكن ما الذي يحدث لو استطعنا أن نقنع كل شاب، وكل إنسان متدين، بأن يقوم بدور الدعوة في منزله؟ الذي يحدث أننا جندنا ألوفاً من الشباب، يقوموا بمهمة الدعوة، فهذا أمر، وهو بدون مرتب -أيضاً- بل أجر من الله تعالى.
الأمر الآخر: لو أنك جندت دعاة يستطيعون أن يقتحموا البيوت، فالداعية يخاطب الناس في المسجد، أو في المركز، أو في النادي، لكن لا يستطيع أن يقتحم بيوت الناس ليخاطبهم وهم في قعر بيوتهم، ولو فرض جدلاً أن الداعية استطاع أن يقتحم بيوت الناس، فإنه لا يملك من وسائل التأثير والقوة ما يملكه الشاب، أو تملكه الفتاة في بيتها، ففي البيت أنت عنصر من عناصر تكوين المنزل، فهذا أبوك، وهذه أمك، وهذا أخوك، وهذه أختك، وهذه زوجتك، وهذا طفلك وولدك، فأنت ترتبط معهم بوشائج وروابط من ارتباط العائلة، والأسرة، والنسب، والمعرفة، والتاريخ، قوية وكبيرة تستطيع من خلالها أن تفعل في هذا البيت مالا يستطيع أن يفعله غيرك بحال من الأحوال.
إخوتي الكرام: ومن يتصور أن أي مسلم في الدنيا، ينتظر أن يأتي داعية يدخل بيته؛ ليصلح أخته، أو زوجته، أو أمه، أو أباه، هذا لا يتصور بحال من الأحوال.(49/7)
الصحوة الإسلامية
إخوتي الكرام: اليوم -ولله الحمد- نحن نجد إقبال الناس على الإسلام بشكل غريب، منقطع النظير، سرت له قلوب المؤمنين، وفرحت وأشرقت، وأصبح حديثاً على ألسنتهم، كمال قال الأول: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع فنحن كل ما تحدثنا عن قضية الصحوة، والإقبال على الإسلام نفرح؛ لأننا نتكلم عن واقع شاهدناه، نتكلم ونعلن انتصار الإسلام في هذا الزمان على يد أولئك القوم الذين آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى هدى، أما أعداء هذا الدين، وأعداء هذه الصحوة، فهم يتحدثون حديث المسعور: الذي فوجئ بما لم يكن له في حساب، حتى أصبحت مراكز القوة الغربية، تصدر التقارير بعد التقارير عن أخطار هذه الصحوة، وأهمية وكيفية مواجهتها.
هذه الصحوة المباركة الكبيرة، لا شك أنك تجد لدى نفوس الكثير من شبابها آمال وتطلعات عريضة كبيرة، أي شاب تجده يقول: أطمع في انتصار الإسلام، وأن ترفع راية الإسلام خفاقة في كل الأرض، وأن يطرد اليهود من فلسطين، ومن أفغانستان، وأن تعود بلاد الإسلام المنكوبة المسلوبة، وأن نسر بتحكيم الإسلام في أنفسنا ودمائنا وأموالنا وأعراضنا، وأن يقوم الإسلام من جديد، كما قام أول مرة، ويكتسح الدول الكافرة، كما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذه لا شك آمال، وطموحات، وتطلعات، عزيزة في نفس كل إنسان، ومهما كان الأمر لا تجد مسلماً إلا ويخطر في باله هذا الأمر، حتى كان أحد الشعراء يتكلم على لسان الجميع، حين قال، وهو يرى الظلمات تتكاثف من حول المسلمين: سنصدع هذا الليل يوماً ونلتقي مع الفجر يمحو كل داج وغاسق ونمضي على الأيام عزماً مسدداً ونبلغ ما نرجوه رغم العوائق ونصنع بالإسلام دنياً كريمة وننشر نور الله في كل شارق فهو يتكلم بلسان الجميع.(49/8)
البيت هو الخطوة الأولى
لكن السؤال المهم: ما هي الخطوة الأولى لهذا الهدف الكبير؟ هدف بناء الإسلام، وإقامة الإسلام، ونشر الإسلام في الدنيا كلها، ما هي الخطوة الأولى؟ وهناك مثل صيني يقول: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فما هي الخطوة الواحدة؟ أقول: الخطوة الواحدة، بعد إيجاد الداعية: هي البيت، ومن المؤسف أن تجد بعض الشباب، وبعض الفتيات الذين يطمعون في تغيير الدنيا -كل الدنيا- عاجزين عن تغيير بيوتهم، فمن عجز عن حمل هذه الأمانة القليلة، كيف يستطيع أن يحمل الأمانة العظمى؟ هذا لا يكون.
ولذلك نجد أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تنفعل نفوسهم بأحلام، وتطلعات انتصار الإسلام، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسلمان، وبلال، وعمار، وصهيب، يوم كانوا في مكة تحت التعذيب، والإيذاء، والتكذيب، والسخرية، كانوا يتوقعون ذلك اليوم الذي ترفع فيه كلمة لا إله إلا الله، ولذلك صبروا وصابروا؛ حتى رزقهم الله تعالى النصر، ومكَّن لهم في الأرض.
فكانوا يعرفون أن انتصار الإسلام يمر من خلال بيوتهم، ولذلك خذ أبا بكر -مثلاً- أبو بكر من أولاده؟! أولاد أبي بكر في ضمن قافلة الإسلام، حيث كانوا من المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم، والمجاهدين في سبيل الله، وأنتم تعرفون دور أبنائه في قضية الهجرة وبناته أيضاً، وخذ عمر لما أسلم، عمر أولاده من أكبرهم، وأكثرهم شهرة؟ عبد الله بن عمر الذي رُشِّح للخلافة رضي الله عنه بعد عهد الخلفاء الراشدين، وعلي بن أبي طالب أولاده الحسن والحسين، وأمثالهم من المؤمنين الصالحين الذين أراقوا دمائهم طاهرة زكية؛ لترتفع لا إله إلا الله، وخذ الزبير من أولاده؟ عبد الله بن الزبير، وأمثاله من الرجال الصالحين الصادقين الذين تربوا على الإسلام، وضحوا في سبيل الإسلام، وهكذا بقية البيوت -بيوتات الصحابة- كان كل بيت محضن للتربية، كل واحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خرج لنا مجموعة من الشباب المؤمنين المجاهدين، ومن خلال هذه الأعداد التي تخرجت من البيوت تكون جيش الإسلام، وتحقق انتصار الإسلام، وجاء وعد الله تعالى بالنصر والتمكين.(49/9)
واجباتنا في البيوت
أيها الأحبة: ثلاث واجبات أساسية أريد أن أقف عندها هي واجباتنا في البيوت.(49/10)
المراقبة والمحاسبة
الخطوة الثالثة وهي خطيرة جداً، وهي: قضية المراقبة والمحاسبة، مراقبة أهل البيت ومحاسبتهم على الأخطاء، وأذكر أيها الإخوة إنساناً من أحد البلاد العربية، كان عمره ستين سنة، وكانت رتبته وكيل وزارة في بلده، يقول والدي حتى هذا السن يحاسبني على ذهابي وإيابي، فإذا أردت أن أخرج في غير وقت العمل كان يقول لي: -وأنا ابن خمسة وخمسين، أو ستين سنة، وكيل وزارة، كان أبوه يوقفه- ويقول له: إلى أين؟ فيقول: إلى المكان الفلاني، فإذا رجع متأخراً -مثلاً- سأل ما سر التأخر؟ من أين أتيت؟ يقول: كان يحاسبني وأنا بهذا المستوى، وفي هذا الموقع الوظيفي الهام.
إذاً القضية ليست مربوطة بسن معين، أبداً.
حتى كبير السن ممكن أن يساءل ويناقش، فأب عنده فتاة مزوجة، لا يقول: أنا زوجتها وهي الآن في عنق زوجها وفي ذمته، لا.
بل يمكن أن يحاسبها ويسألها، فالرسول عليه الصلاة والسلام في يوم من الأيام، كما في سنن النسائي بسند -إن شاء الله- لا بأس به: {جاء من عند جنازة -دفن رجلاً من الأنصار- فأقبل فوجد ابنته فاطمة رضي الله عنها عند الباب -قابلها عند البيت، وفاطمة متزوجة، وفاطمة رضي الله عنها لا تحتاج إلى كلام، فهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نساء أهل الجنة- فقال لها: من أين أقبلت؟ -من أين؟ هذا سؤال- قالت: يا رسول الله، أتيت من عند أهل هذا الميت، فعزيتهم بميتهم، قال عليه الصلاة والسلام: لعلك بلغت معهم الكدى -وصلت معهم إلى المقابر- قالت: لا يا رسول الله -معاذ الله- وقد سمعتك تذكر فيما تذكر، لا يمكن أن أذهب للمقبرة، وأنا سمعت الوعيد الشديد على المرأة التي تذهب إلى المقابر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: والله لو بلغت معهم الكدى ما رأيتِ الجنة حتى يراها جد أبيك} وجد أبيها كان كافراً، وهو عبد المطلب فالمهم: من أين أقبلت؟ ومرة أخرى: {جاء الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيت علي بن أبي طالب، ولم يجد علياً -والحديث في الصحيح- فوجد فاطمة، قال لها: أين ابن عمك؟ -أين علي؟ - قالت: يا رسول الله! كان بيني وبينه مغاضبة! مثلما يحدث بين أي رجل وزوجته، وهناك سوء تفاهم -فخرج مغضباً- وكان هذا وقت القيلولة، ولذلك الرسول يسأل أين علي؟ فحسب العادة الإنسان يكون موجوداً فيه في بيته فخرج الرسول عليه السلام يبحث عن علي فوجده مضطجعاً في المسجد، نائماً على جنبه، وقد انحسر الرداء عن جنبه، فنام على التراب، ولصق التراب بظهره وجنبه، فضربه الرسول عليه السلام وقال له: قم يا أبا تراب} فكان علي رضي الله عنه يفرح بهذا اللقب، ويفخر به، لأن الذي سماه به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعجب من ذلك وأغرب، في صحيح مسلم قصة عائشة رضي الله عنها: {في يوم من الأيام دخل الرسول عليه السلام في ليلة عائشة عليها في حجرتها، ووضع ثيابه ووضعت هي ثيابها -يعني يتهيئوا للنوم- ونامت رضي الله عنها ونام النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوارها، حتى ظن أنها قد رقدت، فقام بهدوء صلى الله عليه وسلم، ولبس ثيابه ثم خرج -كانت عائشة لم تنم بعد، وإنما تظاهرت بالنوم، فلما رأته خرج، قالت: الآن ذهب إلى بعض أزواجه، أو بعض إمائه، فقامت ولبست ثيابها، وخرجت وراء الرسول عليه الصلاة والسلام -لكن من بعيد تلاحظه، وتمشي وراءه- فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى البقيع، فوقف قليلاً ثم رجع، فلما رأته رجع أسرعت.
قالت: فهرول فهرولت، فأحظر فأحظرت، فسبقته فدخلت -دخلت الحجرة- ثم تغطت بلحافها، وأغمضت عينيها -وشخرت وتظاهرت رضي الله عنها بأنها نائمة ومستغرقة في النوم- وجاء الرسول -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- وجلس إلى جوار حبيبته عائشة رضي الله عنها أمنا، فلحظها صلى الله عليه وسلم، ووجد أن نفسها سريع، فهي تتنفس بسرعة شأن الإنسان المتعب، قال: مالي أراك يا عائشة حشي الرابية؟ لماذا صدرك ملآن من الهواء؟ ففتحت عيناها، وقالت: لا شيء يا رسول الله! قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، خرجت وراءك، قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قالت: نعم، فلكزها، قالت رضي الله عنها: فلكزني في صدري لكزة أوجعتني، فضربها، وقال: أخشيت أن يحيف الله عليك ورسوله، قالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله.
قال: يا عائشة إن جبريل أتاني حين دخلت، ولم يكن ليدخل عليك، وقد وضعتِ ثيابك، فتكلم لي فخرجت إليه، فقال لي: إن الله تعالى يأمرك أن تستغفر لأهل البقيع، فخرجت واستغفرت لهم} .
فانظر مساءلة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة، لماذا؟ أين كنت؟ ما الذي دفعك إلى الخروج؟ ثم انظر إنه يؤدبها، ويضربها في صدرها ضربة توجعها، لأن مثل هذا العمل لا يكون ولا يصير، ولـ عائشة رضي الله عنها أخبار عجيبة في هذا الباب.
والمقصود من هذه القصص، أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحاسب زوجاته، ويحاسب بناته، ويحاسب الآخرين، ويأمر الناس أن يحاسبوا من تحت أيديهم على الحركات، والتصرفات، والذهاب، والإياب، وعلي كل شيء كبيراً كان أو صغيراً فهذا لا يمنع من المحاسبة.(49/11)
التوعية والإرشاد والتعليم
الخطوة الثانية وهي ضرورية -أيضاً- وهي: قضية التوعية والإرشاد والتعليم، فالرسول عليه السلام يقول: {الأقربون أولى بالمعروف} ولاشك أن التوعية والإرشاد من المعروف، والرسول عليه الصلاة والسلام وُجِه بقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فجمعهم {يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، وقال: أنقذوا أنفسكم من النار، لا أغني عنكم من الله شيئاً} فالأقربون أحق وأولى بأن توجه الدعوة إليهم، وغير صحيح أن تدعو البعيد وبيتك نفسه مليء بالمنحرفين والمنحرفات، وألوان الفساد وصوره.
فلابد أن تبدأ بالبيت من خلال التوعية، والتوجيه، والتربية، والإرشاد، وفي ذلك صور منها: 1- التعليم: التعليم: اجعل عندك حلقة في التعليم في المنزل، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: {أن بعض النساء جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال -مجالسك كلها عامرة بالرجال- فاجعل لنا يوماً تأتينا فيه فتحدثنا، فواعدهن فقال: موعدكن بيت فلان، فجاء إليهن النبي صلى الله عليه وسلم، ووعظهن وذكرهن، وقال لهن: ما منكن من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد، فتحتسبهم إلا كانوا لها حجاباً من النار، فقالت امرأة: يا رسول الله! واثنان، قال: واثنان} وجاء في رواية أخرى: {أن امرأة قالت: وواحد، قال: وواحد} فالمهم في الحديث أن الرسول عليه السلام خصص للنساء يوماً معلوماً، والبخاري بوب على هذا الحديث: باب من جعل للنساء يوماً على حده، فهذا من ناحية.
الناحية الأخرى: أنك تلاحظ في الكلام الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أنه تكلم مع النساء، ومع أهل البيت بالأمور التي يحتاجونها، إذن لابد أن تحرص على التوجيه والتربية في البيت، خاصة فيما يحتاجه أهل المنزل، وصور التربية كثيرة، ممكن أن تجعل في البيت مكتبة صغيرة فإذا كان عندك كتب ورسائل صغيرة للنساء والفتيات والأولاد، وعندك قصص للأطفال، وعندك مجلات مفيدة، وعندك بعض الكتب التاريخية، وبعض كتب الوعظ والإرشاد، فتجعلها في مكتبة صغيرة، وفي متناول أهل البيت، هيئ لهم أسباب الخير، وبجوار هذه المكتبة مكتبة أخرى صوتية، ومجموعة من الأشرطة المتعلقة بأهل البيت-مثلاً- فيها أشرطة للصغار وأناشيد وقصص وخطب مؤثرة ومواعظ ومحاضرات وأشياء تتعلق بأحكام العبادات أمور تخص المرأة، واجعلها -أيضاً- في متناول أهل المنزل، واجعل هناك برنامج للاستفادة من هذه المكتبة، ومن تلك الكتب.
وفي نفس الوقت، لابد من أمر ثالث، من الضروري أن نفعله جميعاً أيها الإخوة وهو أن يقيم كل واحد منا في البيت درساً، ولو في الأسبوع مرة، إذن الأمر الثالث مع المكتبة الصوتية، ومع المكتبة الصغيرة، هو أن تجعل في البيت جلسة في الأسبوع -جلسة منوعة- للكبار وللصغار وهذه الجلسة تحتوي على، حفظ القرآن، حفظ حديث، مسابقة، شعر، أسئلة، تدريب على بعض العبادات، تنبيه على بعض الأخطاء، ترقيق وتحريك للقلوب، بحيث أنك تستطيع أن تؤثر في أهل البيت، وتعلمهم الضروريات.
وكثيراً ما استشهد -أيها الإخوة- بقصة ذكرها لي بعض الشباب، يقول: عنده جدة عجوز كبيرة في السن، فيوم من الأيام -هذا الشاب- يقول: قلت لجدتي، -يقول في الحقيقة: أنا غافل لكن أحببت يوماً من الأيام أن أسأل- فقلت لها: يا جدة، إقرئي عليَّ بعض القرآن حتى أنظر إن كان عندك أخطاء أو لا، قالت: يا ولدي أنا لا أحفظ شيئاً من القرآن إلا سورة واحدة فقط، أقرأها في كل صلاة، والله عفو كريم، قال: إقرئيها، وظن أنها الفاتحة، يقول: فقالت لي: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا إليها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا تقول: والله أنا أحفظ هذه من مطوع من زمان، وأقرأها في كل صلاة، والله غفور رحيم، يا سبحان الله! إن هذا الوضع ليس بغريب، وجاءني شاب آخر حدثني عن زوجته، وقال: إنها لا تصلي، ولما أمرها بالصلاة، قالت له: أول مرة أسمع أن المرأة مطالبة بالصلاة، والذي نفهمه أن الدين للرجال، وما عمرنا سمعنا آية تخاطب النساء ولا حديث ولا عالم، ونحن نعرف أن الصلاة للرجال، والنساء ليس عليهن صلاة، وهذا واقع، وقد أعطيته بعض الأشرطة، وسمعت أنه تحسن حالها، وأصبحت تصلي مع المسلمين، وتصلي في رمضان مع الناس، فهذا واقع.
وثالث حدثني عن أخته، وأنه مضى عليها وقت، وهي فتاة لا بأس بسنها، لا أقول: كبيرة لكنها امرأة، لم تكن تعلم بقضية البعث والنشور -لم تعلم- خاصة إذا كانت لم تدرس، ولم تتعلم شيئاً من ذلك، ربما تعرف الصلاة، وتعرف القراءة في الصلاة، وتصلي، لكن قضية بعث ونشور لم تعلم بها.
إذاً هذه الجلسة المقترحة في البيت تعطيهم الضروريات من الدين وتفهمهم وتصحح الأخطاء الموجودة عندهم أياً كانوا، للكبار وللمتوسطين وللصغار وللذكور وللإناث، المهم أنها جلسة، ويكون فيها متعة، ويكون فيها طرافة، وفيها جاذبية، ويجعل الإنسان فيها أشياء من شأنها أن تشد الحضور، وتشد أهل البيت إلى الحضور إلى هذه الجلسة.
2- الأمر بالمعروف النهي عن المنكر: القضية الثانية التي من ضمن التعليم والتوجيه والتربية: قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالكلمة وبالإصلاح، وبالوعظ، ولذلك أنتم تعرفون قصة الرسول عليه السلام، كما في الصحيح: {أن الرسول عليه السلام مر على امرأة، وهي تبكي على قبر -تبكي عند قبر- فقال لها: يا هذه اتق الله واصبري، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فذهب الرسول عليه السلام وتركها، قالوا لها: تعرفين من هذا؟ قالت: لا.
قالوا: هذا رسول الله، فأصابها من ذلك هم شديد، وجاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام -فلم تجد عنده بوابين- قالت: يا رسول الله، لم أعرفك، سامحني، قال لها عليه الصلاة والسلام: إنما الصبر عند الصدمة الأول} فأمرها بالمعروف أولاً: بالصبر والتقوى، وأمرها ثانياً: بأنه كان يجب عليها أن تصبر عند الصدمة الأولى، حين سمعت بخبر موت ولدها.
ومرة أخرى: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب -على بنتها ذهب- وهو حديث عمرو بن شعيب وسنده حسن، قال لها عليه الصلاة والسلام: {تؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ فخلعتها وألقتهما، وقالت: هما صدقة لله ولرسوله} .
إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث إذا وجد أمراً مما ينكر أو يستنكر نبه عليه، من خلال الوعظ، والإرشاد، والتذكير بالله تعالى، لأن الموقف الآن ليس موقف القوة، واستخدام السلطة، بل الآن نحن في موقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بالله: {اتق الله، إنما الصبر عند الصدمة الأولى} والوعيد بالنار: {أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار} .
إذاً نحن مطالبون بأن نحيي قلوب أهل البيت، ونربطها بالخوف من الله تعالى، والطمع في رضوانه وجنته، وهذا أمر مبني على تحريك الإيمان في النفوس.
إذاً القضية الثانية هي قضية التربية، والتوجيه، والتوعية، في داخل المنزل، فالآن أمامنا شاب بنى له مكانة جيدة في البيت، فأصبح محترماً، خدوماً، يبذل من وقته لأهل البيت، ثانياً: قام بجهد في التربية، فجعل هناك نشاطاً داخل البيت، تدريس، تعليم، توجيه، إرشاد، فبعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة.(49/12)
القيام بمصالح أهل البيت
أما الواجب الأول فهو: أن يحرص الشاب الداعية، بل والفتاة على أن يقوموا بمصالح أهل البيت، المصالح والاحتياجات الدنيوية، وذلك من أجل تحقيق مكاسب عديدة في نفس الوقت -فمثلاً- حين يوجد شاب صالح في البيت، لا يتصور أن يصبح هذا الشاب، إما مع مجموعة من زملائه ذاهباً أو آيباً في رحلة، أو في مركز، أو في حلقة علم، أو في مدرسة، وإما أن يكون في عمله الخاص يقرأ في كتاب، أو يحفظ، أو يسمع شريطاً، أو نائماً، وليس له دور في البيت، فمن يشتري الحاجيات، من يذهب بالأهل إلى هنا أو هناك من الأمور التي لا بد لهم منها؟ من يقوم بهذه الوليمة التي عندنا الليلة؟ من يستقبل الضيوف؟ من يودعهم؟ من يستقبل فلان في المطار؟ من يذهب بفلان للمطار؟ هذا الشاب يقول: والله ليس عندي وقت، وأنا مشغول!! فتخلى هذا الشاب عن دوره، وبالتالي جاء دور غيره، جاء دور الشاب المنحرف، فقد يكون هناك شاب آخر أخ له منحرف ينافسه، فأصبح هذا الشاب المنحرف هو الذي يقوم بكل الاحتياجات والمتطلبات، وبالتالي أصبح الشاب المنحرف هو القيم الحقيقي على البيت، وهو الشخصية المؤثرة، وهو الشخص المقبول، فكلامه مؤثر، وأمره نافذ، ونهيه مطاع، لا يعصى له أمر ولا إشارة، لأن له كلمة وله تأثير في البيت، لكن الشاب الطيب ليس له وزن؟ لأنه لا ينفعهم بشيء.
وهذا واقع في عدد من البيوت، ولا أقول: إنه ظاهرة موجودة، لا؛ لكنه موجود إلى حد ما في عدد غير قليل من بيوت بعض الشباب الصالحين.
وأحياناً: يكون الشاب الصالح ترك البيت ليس لأخ آخر، بل قد يكون تركه للسائق والخادم، فالسائق يذهب بالبنات إلى المدرسة، ويذهب بهن إلى السوق، وقد يجلس معهن في السيارة وفي السوق ساعات طويلة، وإلى المدرسة، ومن المدرسة، وإلى المطار ومن المطار، وإلى آخره، فيكون الشاب ترك حاجيات البيت ومتطلباته، ليس لأخ آخر قد يكون منحرفاً، أو فاسقاً، بل للخادم والسائق، ونحوهم فهذا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب الطيبين.
1- أعذار الشباب والفتيات: والذي يتوجب على الشاب أن يصون أهل بيته عن كثرة الذهاب، والإياب، بأن يقوم هو بقسط من هذا الواجب، خذ مثلاً: لهم حاجة في السوق، تذهب أنت لتأتي بهذه الحاجة، غير معقول أن تقول لأخواتك: لا أريد أن تذهبوا إلى السوق فإذا قالوا لك: لكن اذهب أنت لتأتي بحاجياتنا، يقول: لا والله أنا مشغول.
فدعونا نحلل كلمة مشغول، فقد جاء إلىَّ أحد الشباب يشتكي إلى أمراً كهذا، فقلت له: بارك الله فيك، اعرض عليَّ وقتك، وما هو برنامجك؟ قال: من الساعة الثامنة إلى الثانية عشرة أجلس للقراءة في الكتب، قلت له: جيد؛ متي تصلي الفجر؟ قال: الساعة الرابعة.
قلت: كم بين الساعة الرابعة والساعة الثامنة؟ أربع ساعات، ماذا تصنع بها؟! نائم على فراشك، هذا لا يكون، ليس البيت -بارك الله فيك- فندقاً تأوي إليه؛ لتنام وتأكل وتشرب، ثم تصبح إمبراطوراً يصدر الأوامر هنا وهناك: لا تخرجوا، لا تدخلوا، لا تذهبوا، وتريد أن تطاع، في الوقت الذي لم تقدم أنت فيه البديل الصالح، فإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، ومن ذلك أن تبذل من وقتك وجهدك ما يحقق لأهل البيت متطلباتهم، فتخصص جزءاً من وقتك للذهاب بالأهل إلى بعض الحاجيات، وأن تقوم بنفسك بتلبية بعض المطالب التي يحتاجون إليها، وبعض الشباب يعتبر هذا مضيعة للوقت.
ونفس الكلام بالنسبة لبعض الأخوات الطيبات -بعض الفتيات المتدينات- تجد أنها إذا أتيتها في شغل البيت -أعمال البيت التي يحتاج إليها- لا تقوم بها، تقول: أنا والله مشغولة، وأريد أن أقرأ قرآن وأسبح وأهلل وأصلي لله عز وجل، وأحيناً تخرج في الدعوة إلى الله تبارك تعالى، وبالتالي تجد الفتاة تسأل كيف أؤثر في البيت؟! وكيف أعمل؟! البيت فيه تلفاز، وفيه فيديو، وفيه خادمة، وفيه سائق، وتأتي بالسلسلة، ويأتي الشاب -أيضاً- بسلسلة من المنكرات الموجودة في البيت، يتساءل كيف أقضي عليها؟! يا إخوة: القضاء على المنكرات وإصلاح أحوال البيوت، يبدأ أولاً: بأن يبني الشاب، وتبني الفتاة مكانته في المنزل، عن طريق الخدمات التي تقدمها شخصياً لأهل المنزل، فلا تكن صفراً على الشمال، فلا تعرف إلا في حالات معينة، بل أثبت وجودك وشخصيتك، من خلال القيام بالأعمال التي يحتاجون إليها، حتى الأعمال الدنيوية لابد أن تشارك فيها بصورة جيدة.
2- الهروب من واقع البيت: وبعض الشباب -بصراحة- وإذا أردنا أن نضع النقاط على الحروف، يعانون حالة هروب من المنزل، كيف حالة هروب؟! يعاني حالة هروب لأن هذا الشاب لما صحا واستقام وهداه الله عز وجل، وجد البيت مليء بكثيرٍ من المنكرات -كما أسلفت- فوجد أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ماذا أفعل؟ حاول ينتزع نفسه من هذا المنزل، أين تذهب بارك الله فيك؟ قال: إلى أفغانستان، وهذا جيد، فالجهاد في أفغانستان من أعظم صور الجهاد التي تحققت للمسلمين في هذا العصر، ويعجبني أن بعض الشباب في سؤال وجهوه لي بالأمس سموها أرض الكرامة، وهذا اسم أطلق على لسان عدد من الدعاة والمصلحين.
وفعلاً، هي أرض الكرامة.
أفغانستان رفعت رءوسنا عالية، وأفغانستان هي رقم واحد في تقديري في الجهاد الإسلامي، الحقيقي الذي حقق الله تعالى به للمسلمين ما لم يتحقق في غيره، وهذا لا جدال فيه، لكن فرق بين أن أذهب هارباً من وضع أعيشه في المنزل، وبين أن أذهب بطوعي واختياري.
أحدهم يقول: عجزت عن أهل البيت، والله أنا أريد أن أخرج من المنزل، وأصدقكم الحديث، وبعض الشباب صارحوني بهذا، حتى إن أحدهم كتب لي رسالة طويلة، ومن ضمن الرسالة يقول لي بالحرف الواحد، بعدما ذكر مشكلة طويلة قال: وأقول لك بصراحة: لقد حاولت الانتحار!! هكذا يقول ولكن بصورة شرعية، كيف؟ حاولت أن أذهب إلى أفغانستان، وأنا لا أوافقه على هذا، فهذه شهادة في سبيل الله إن كتبت له، وقتل مقبلاً غير مدبر، وكانت نيته صالحة، فلا شك أنها -إن شاء الله- شهادة، نرجو له بها الخير والنجاة عند الله تعالى يوم القيامة، ونسأل الله أن يكتب للمسلمين في أفغانستان وغيرها النصر.
لسنا مع مثل هذا الشاب، لكن أنا أحدثكم عن مشاعر بعض هؤلاء الشباب، ولذلك ربما بعضهم، عندما يذهب إلى هناك لا يقوم بالواجب المنتظر منه، لأنه لم يكن يقصد فعلاً أن يحقق للإسلام نصراً، وأن يشارك في الجهاد، وإنما كان قصده أن ينتزع نفسه من بيت لا يطيق البقاء فيه، وبعضهم قد يهرب بصورة أخرى، فينتقل ليدرس في بلد آخر، أو ينتقل ليسكن في بيت آخر، أو ما أشبه ذلك، والمهم أن بعض الشباب يعيشون حالة هروب -مما يدلك على أنه فعلاً مجرد هارب من البيت- وأنك قد تجد بعض الشباب يذهبون إلى أماكن كثيرة، بدون إذن أبويهم، بما في ذلك الذهاب للجهاد، وينسون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الصحيح: {أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد} والرجل الآخر كما في الحديث الصحيح أيضاً لما جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: {ألك أم؟ قال: نعم.
قال: الزم قدمها فثم الجنة} فإذا كنا نريد الجنة، فمن أقرب الطرق إلى الجنة أن تلزم قدم الأم، ولذلك من القصص العجيبة -القصة ربما تعرفونها- رجل كان في عهد عمر رضي الله عنه خرج إلى الجهاد وترك والديه، وما كان لهم غيره، فخرج في الغزو، فكان أبوه يبكي الليل والنهار على ولده، وكان اسم الولد كِلاب، فكان يبكي الليل والنهار، ويقول: ألا من مبلغ عني كلابا كتاب الله لو عقل الكتابا تركت أباك مرعشة يداه وأمك لا تسيغ لها شرابا فكان عمر يسمعه مرة بعد أخرى، وفي أحد المرات هذا الرجل بدأ يتكلم على عمر نفسه ويقول: سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساط يعني سوف أشكو عمر إلى الله تعالى، لأنه كان سبباً في ذهاب ولدي مع الجيش، فدعاه عمر وهو يبكي، فقال له: ماذا؟ قال: ولدي خرج في الغزو وتركني كما ترى، فأرسل إليه عمر أن يأتي، ولما جاء هذا الشاب قدمه عمر لوالده، فبدأ الأب يشمه ويقبله ويبكي، فشاركهما عمر في البكاء رضي الله عنه وأرضاه، وقال له: لا تخرج من عند والديك ما داما حيين، ولا تخرج من المدينة ماداما حيين.
إذاً: قضية الجهاد التي هي ذروة سنام الإسلام، الأصل أنها مرتبطة بأن يستأذن الإنسان من والديه، فإن لم يأذنا له فيحرم عليه الخروج، اللهم إلا في حالة واحدة فقط لا غير، وهي ما لو كان العدو على أطراف المدينة، وقيل: والله إذا لم تحرج أنت سوف يقتحم العدو المدينة، ويقتلك ويقتل والديك، فهنا نقول: اخرج ولو بدون إذنهم، أما حين يكون العدو بعيداً، فحتى لو كان الجهاد فرض عين، أرى أنه لا يمكن إلا أن يستأذن الأبوان في ذلك.
وعلى كل حال القضية أن الإنسان أحياناً يعجز عن المجاهدة القريبة، ومن عجز عن مجاهدة الموقع القريب، فمن باب أولى أنه يعجز عن مجاهدة الموقع البعيد، فمن عجز أن يقوم بواجبه في المنزل، فهو أن يقوم بواجبه على مستوى الأمة الإسلامية كلها أعجز وأعجز.
إذاً الواجب الأول باختصار: أن يثبت الشاب لنفسه شخصية، من خلال القيام باحتياجات الأهل، ويحرص على أن يبقى في المنزل مهما كانت العقبات والظروف، ويجاهد كما سيأتي بقدر المستطاع.(49/13)
أجهزة ووسائل تحيط بالبيت
إخوتي الكرام: البيت اليوم تحيط به -في داخله، أو في خارجه- أجهزة ووسائل عديدة، تتطلب أن نلقي نظرة ولو سريعة عليها، وخذوا بعض الأمثلة، ولو كنت لا أستطيع أن أحيط بكل شيء.(49/14)
الهاتف
جهاز ثالث، وهو من الخطورة بمكان وهو: قضية الهاتف، أي بيت اليوم، بل أي غرفة في بيت لا تخلو من هذا الهاتف، فكيف يستخدم هذا الهاتف؟ المؤسف -أيها الإخوة- أن عدداً ممن لا يخافون من الله عز وجل، قد يستخدمون هذا الهاتف بصورة سيئة، وليس سراً أن نقول: إن كل جريمة وأقول هذا الكلام من واقع معرفة ومن واقع سماع من بعض الإخوة العاملين في هذه المجالات -أن كل جريمة في المجتمع، فالهاتف وسيط فيها، في أحد مراحلها إما في البداية وإما في الوسط، أو في النهاية، وكل لقاء بين اثنين كان بدايته الهاتف، وكيف تم الأمر؟! الأمر في ذلك بسيط، شاب يعبث في الأرقام، ويتصل -أحياناً- يجد فتاة مثله ليس له ولا لها هدف، والهدف من ذلك هو قضاء وقت الفراغ، وهذه هي البداية، ولا يزال الأمر يتدرج من التسلية وقضاء وقت الفراغ، إلى اللقاء، وإلى معرفة الاسم، وإلى اللقاء مرة أخرى، إلى ارتكاب الحرام، كما قال الأول: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء سلسلة يجر بعضها بعض.
أحياناً قد يكون الشاب يعرف البيت لأنه بيت صديق، وأحد زملائه في هذا البيت، ويعرف أن في هذا البيت أخوات لصديقه، فيقوم يتصل أين فلان؟ فيقولون: غير موجود، فيقول: قولوا له فلان اتصل بك، وقد يعطي اسماً غير صحيح حتى يوجد نوعاً من الطمأنينة عند من يكلمهم، وبعد ذلك يتدرج في الحديث، متى يأتي؟ أين ذهب؟ ويسأل عن بعض أموره الخاصة، حتى يوجد أرضية مناسبة.
وأقول لكم: أنا مطلع على بعض الأشياء من هذا القبيل، ورأيتها بعيني وأوقفت عليها بنفسي، ومن خلال تدرج وخداع، ولم يكن الأمر مقصوداً من الطرفين، لكن أحياناً يصل إلى نهاية بائسة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
فالهاتف من أخطر الأجهزة، وبعض الناس يقول لك: أنا ليس أمامي إلا أن أضع جهاز تصنت، وأشتري المسجل الذي يباع ويسجل المكالمات، بمجرد ما ترفع السماعة يتحرك جهاز التسجيل، فيقول أتصنت على المكالمات، وأنا لا أقول: إن هذا غير صحيح، لكن يمكن أن تستخدمه في وقت الحاجة، إذا وجد عندك قرائن قوية على أن هناك أمراً يدار في الخفاء، أما الأصل فليس كذلك، فالأصل هو أن تحرص على التربية والتوجيه، وعلى أن تراقب الجهاز مراقبة صحيحة، وعلى توجيه الإخوة والأخوات إلى الخطر الذي يداهمهم من خلال سوء استخدام هذا الجهاز.(49/15)
السوق
ومن الوسائل التي أصبحت تساهم في ذلك: قضية السوق، واليوم أصبحت أسواقنا عامرة بكثير ممن يرتادونها من الفتيات، والبنين، والشباب، والرجال، وكثير من البيوت -مع الأسف- التي يوجد فيها عناصر صالحة، تجد أن المرأة سواء أكانت زوجة، أو أختاً، تذهب إلى السوق، وتطيل البقاء فيه، وتذهب اليوم لشراء حاجة، وتذهب غداً لتردها، وتذهب بعد غد لتشتري لبنت الجيران مثلها، وتذهب في اليوم الرابع لتشتري لصديقتها مثلها، وتذهب في اليوم الخامس، حتى أصبح الذهاب ديدناً وعادةً لا تستطيع أن تتخلى عنه، مع من تذهب؟! مع السائق، وقد تجلس في السوق ساعات طويلة، لا يدري صاحب البيت أين كان هذا الذهاب، هل كان فعلاً للسوق أم لغير السوق؟! ونحن نفترض السلامة في كثير من الحالات، لكن نضع -أيضاً- احتمال وجود حالات ليست كذلك، ولا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، فلابد من أن يضع الإنسان حماية، فأنا عندما أجد تردداً للسوق، فأولاً: ينبغي أن أباشر هذا العمل بنفسي، فإذا كان أهل البيت يجتاجون شيئاً آتي به، وإذا لم أستطع أذهب معهم، ولا مانع أن أضحي بالوقت من أجل الحفاظ، يا أخي حتى -والله- لو كانت بنتي، أو أختي، أو زوجتي أحميها حتى من النظرة الخاطفة النهمة المسعورة، حتى النظرة، ومن هو الذي لا ينظر؟ أحميها من الكلمة العابثة، حتى لو لم تستجب لها وما التفتت إليها، وأحميها من اليد الطائشة، أحميها من الذئاب المسعورة.
وفي الواقع لو اطلع الإنسان -أحياناً- على بعض القضايا، وبعض الأعمال، وبعض الناس الذين تركوا البيع والشراء في هذه الأسواق، يقولون لي: لا يبيع ويشتري في أسواق النساء إلا مفتون، وهم يعممون هذا الكلام من واقع أنهم وجدوا واقعاً معيناً، ورأوا بأعينهم، ونحن لا نوافقهم على هذا التعميم ولاشك، لكنا نقول: ينبغي أن نضع في الاعتبار أن الإنسان بشر من لحم ومن دم، وإذا كان الإنسان الطيب الخير -أحياناً- قد يفتن، فما بالك بالإنسان الذي ليس كذلك، وليس عنده رادع قوي من إيمانه، ويرى المناظر والمشاهد صباحاً ومساءً، وقد يجد فئاة متطيبة، أو متبرجة، أو متزينة، تجذبه صورتها بأي شكل من الأشكال، فهنا الفتنة ممكنة وقريبة، فينبغي للإنسان أن يحرص على حماية أهل بيته من خلال مراقبة هذه الأجهزة، وغيرها من الأجهزة المؤثرة في المنزل.(49/16)
المدرسة
المدرسة -مثلاً- فهذه فتاة تدرس في المدرسة، معنى ذلك أن البيت لا ينفرد بها، فهناك وسيلة أخرى، ومؤسسة أخرى، وهي المدرسة، من التي تدرسها في المدرسة؟ ماذا تتلقى؟ وما هو تأثير المدرسة عليها؟ فهذا أمر أنت لا تستطيع أن تعرفه إلا من خلال أن تفتح عينيك.
فانظر ماذا ترجع به هذه الفتاة من المدرسة، هل ترجع بعلم صحيح، وبأخلاق عالية، وبخوف من الله، بدين، بإيمان، بيقظة، أم أنها تنقص يوماً بعد يوم؟ فمن غير المناسب، أن يُلقي الإنسان بفلذة كبده إلى مدرسة، ويقول: والله أنا وضعتها في أيدي أمينة، بل تأكد أن هذه الأيدي أمينة -فعلاً- قبل أن تطمئن إليها اطمئناناً كاملاً، وحتى حين تطمئن إليها لا تتخلى عن دورك أنت، فدورك مكمل لدور المدرسة.(49/17)
الأصدقاء والصديقات
أمر آخر، قضية الصديقات لهذه البنت، لها مجموعة صديقات في المدرسة وفي غيرها، وقد يحصل بينهن لقاءات، وفي بعض المدارس -كما علمت ذلك واطلعت عليه، وتأكدت منه- بل في أكثر المدارس يوجد نوع من الشلل، مجموعة فتيات، خمس أو عشر أقل أو أكثر، بينهن روابط عميقة، واتصالات دائمة، تناول الفطور -مثلاً- في الفسخ، في الدراسة، في المزح، في المخاطبات، في المراسلات مشتركة بين هذه المجموعة، قد تكون فتيات طيبات، وهذا -ولله الحمد- كثير ولا غبار عليه، لكن الذي أُحذِّر منه هو الأمر الآخر، قد تكون هذه المجموعة مجتمعة على قيادة فتاة غير مستقيمة فتجرهن إلى الهاوية.
ويؤسفني -أيها الأحبة- أن أقول لكم: قد اطلعت بنفسي على أوراق مكتوبة من قبل هذه الفتيات، والله يندى لها الجبين، ولا يتصور إنسان -لم يكن يخطر في بالي وعقلي- أن فتيات في سن المرحلة المتوسطة يفكرن هذا التفكير، أو يصلن إلى هذا المستوى، لكن إذا وجد الإنسان ذلك ورآه بعينه، بدأ يفكر عن الأسباب، فتذكر أموراً كثيرة، والمقصود أن (90%) من هؤلاء الفتيات عندهن بساطة، وعلى الفطرة، وفيهن غرارة، وطيبة قلب، وسذاجة، وسماحة، لكن توجد واحدة يكون فيها شر، وفيها قوة شخصية، فتكون قائدة فتجر هذه المجموعة من الفتيات إلى المهاوي.
ونفس الكلام يقال بالنسبة للشباب في مدارسهم، فيجرهم ذلك إلى الوقوع في الانحرافات، وتعاطي المخدرات، وعلى أقل تقدير: التدخين والفساد وترك الصلاة والسهر على الأرصفة، إلى غير ذلك من الصور والأشياء التي أنتم خبيرون بها.
إذاً الأصدقاء من الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يراقبها جيداً، فيعرف من الأصدقاء الذين يذهب معهم ولده، ومن الصديقات اللآتي ترتبط بهن بنته.(49/18)
خلاصة ما سبق
إذاً أختم هذه المحاضرة بتلخيص لما ذكرته.
البيت مهم، لو نجحنا في تجنيد الشباب ليكونوا دعاة في البيوت، لنجحنا في تجنيد ألوف مؤلفة، يستطيعون أن يدخلوا إلى أعماق البيوت، ويؤثروا فيها من الشباب ومن الفتيات.
وسائل التغيير والإصلاح في المنزل: أولاً: أن يكون للشاب والفتاة شخصية قوية من خلال الخدمات، والإصلاحات، والمشاركات.
ثانياً: من خلال قنوات التوجيه، والتوعية، والإرشاد، والتعليم.
ثالثاً: من خلال الرقابة الصحيحة على المنزل وعلى من فيه.
وأسأل الله عز وجل أن تكون هذه الكلمة أو المحاضرة، سبيلاً إلى أن يقف كل شاب منا ليؤدي الدور المطلوب منه من خلالها، فلا شك أنكم تعرفون أن المقصود من هذا الكلام هو أن نحققه عملياً، خاصة وأنتم تدركون أن البيوت اليوم لا أستبعد صحة أن نقول: إن كل بيت اليوم، فيه مؤامرة تدار بشكل أو بآخر، وكما قال الشاعر: مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب مؤامرة تدور بكل بيت لتجعله ركاماً من تراب فالمغني الذي يطل على بيتك، والراقصة، والمتحدث، والشريط، والكتاب، وديوان الشعر، والصورة، والمجلة، كلها وسائل تشترك في هذه المؤامرة التي تدار في جميع بيوتنا إلا ما رحم الله.
فأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لأن نكون قائمين على بيوتنا كما يجب، مصلحين فيها، محققين للأمانة التي حملنا الله تبارك وتعالى إياها.
وأستغفر الله تعالى لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده، ورسوله بنينا محمد وعلى آله، وأصحابه أجمعين.(49/19)
الأسئلة(49/20)
حكم حضور حفلات الزواج
السؤال
ما حكم حضور حفلات الزواج لأننا نشعر بالخجل من ردهم، لأنهم من الجيران؟
الجواب
هذه من القضايا فأحياناً شاب داعية، لا يحضر حفلة الزواج، ويريد أن يدعو ويغير الدنيا، فاحضر حفلة الزواج إلا إذا كان في حفلة الزواج منكر محرم لا تستطيع تغيره، أما إذا لم يكن فيها منكر ظاهر، والزواج يباح فيه الدف الذي يضرب من جهة واحدة إذا كان في وسط النساء، وليس فيه أشرطة أغاني مسجلة، أو الميكرفونات التي تذيع وما أشبه ذلك، فلا بأس أن يحضر الإنسان حينئذٍ، ولم يكن فيه تصوير، ولا غير ذلك من الاختلاط، والمنكرات، فيحضر، أو كان فيه منكر يستطيع أن يغيره، أو يقلل منه بقدر ما يستطيع فيحضر أيضاً، ويحرص ويحاول أن يكون له دور.
وهذا مثال -أيها الإخوة- افترض أن هناك زواجاً عند الجيران أو عند بعض الأقرباء، فأنت قمت بدور كبير في موضوع الزواج، ذهبت وأتيت بعقود الكهرباء والمصابيح، وأتيت بالفرش، ووزعت الدعوات، وجهزت المكان، ثم شاركت في إعداد أمور كثيرة، ألا تعتقد حينئذ أنك لما تقول لهم: لا نريد الأغاني، أن يقولوا لك: سمعنا وأطعنا، لأنهم يقولون: نستحي منك، لأنك إنسان صنع لنا معروفاً، واشتغل معنا الأيام السابقة، فصعب أننا نخالف أمره، فتجد حينئذٍ عندما تأمر وتنهى أن لك موقعاً، ولك مقام يؤثر، أما حين تكون إنساناً أجنبياً، أول مرة تحضر، وفي طرف المجلس، فقد لا يقبلون منك، ونحن بحاجة إلى أن نهيئ الناس لقبول دعوتنا، والاستجابة لأوامرنا.
وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(49/21)
الجهاد الأفغاني
السؤال
هذه أسئلة عن أفغانستان يقول: الجهاد في أفغانستان، وفي الفلبين، وفي فلسطين قبلة المسلمين الأولى فرض عين -الأخ أفتى بأنه فرض عين، وهذا حسب وجهة نظره- لأنه لا يزال العدو في بلاد المسلمين، وبذلك يجب على كل مسلم أن يخرج للجهاد دون إذن أبيه أو أمه، وهذا فيه إجابة لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وهذه فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز؟
الجواب
هذا الأخ وَهِمَ، فهذه ليست فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ولا غيره من علمائنا، بل علماؤنا في المملكة خاصة -حسب ما أعلم- متفقون على أنه لا يجوز الخروج للجهاد في أفغانستان، ولا في غيرها من بلاد المسلمين الآن، إلا بإذن الأبوين، وهذه فتوى ثابتة عنهم ومكتوبة في أوراق ومسموعة في أشرطة، وسمعتها منهم مشافهة أيضاً.
أما مسألة أن الجهاد فرض عين، فهذه كلمة يجب التفصيل فيها، وأنا مع الأخ أن الجهاد فرض عين، لكن ما هو الجهاد الذي هو فرض عين؟ الجهاد بالاصطلاح الشرعي ففرض عين، فرض عين أن تجاهد نفسك في ذات الله تعالى، والمجاهد، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله} والمشاركة في الجهاد بأي صورة من الصور، مساعدة المسلمين، إعانتهم بالمال، والدعاء، بتبني قضيتهم إعلامياً، بالدفاع عنهم، بالمساعدة بالنفس، إن كنت تغني عنهم، هذا كله صحيح.
ولذلك أقول أيها الإخوة: طبيب يريد أن يذهب للتمريض حبذا وحيَّ هلا، وينبغي أن يذهب عاجلاً، غير آجل.
وإنسان خبير عسكري، يقول: أستطيع أن أنظم صفوف المجاهدين وأنفعهم، وربما أقوم بما لا يقوم به غيري، نقول له: هلم الليلة قبل الغد، داعية، معلم، طالب علم يقول: أريد أن أنشر بينهم الخير، والعلم، والاستقامة، والصلاح، وأصحح الأخطاء الموجودة عندهم، نقول: هلم الآن قبل فوات الأوان.
لكن شاب قد لا يغني وقد لا ينفع، نقول: هل هناك فعلاً حاجه إليك أنت شخصياً في الجهاد؟! لا أعتقد أن هناك حاجة له، بل بالعكس أنا سمعت شفهياً من عدد من قادة الجهاد، أنهم يحتاجون إلى المال أكثر مما يحتاجون إلى الرجال، ويمكن قيمة التذكرة التي سوف تسافر بها تنفع أكثر، وأنت اجلس جاهد في موقعك، لأن الجهاد كما قال الأخ السائل: في جميع بلاد المسلمين، وهذه من بلاد المسلمين، وهناك بلاد للمسلمين كثيرة فيها لا أقول: كفار، بل فيها منافقون، يحاولون هدم الإسلام، ويحاولون تخريب البيوت، ويحاولون تلويث البيئة، ونشر الفساد، فهل ننتظر في كل بلد إسلامي حتى يحتله العدو، ويصبح مثل أفغانستان ثم نجاهد، لماذا لا نجاهد بالحماية وبالوقاية؟ وقاية بلاد المسلمين من أذى الأعداء الظاهرين، والمستترين، خاصة جهاد المنافقين، فحين نقول: الجهاد فرض عين، أقول: صحيح، لكن الجهاد بشكل أعم جهاد النفس، جهاد الكفار، جهاد المنافقين، هذا يعني في المجمل هو فرض عين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] .
بل إن جهاد المنافقين -أحياناً- قد يكون أعظم وأخطر من جهاد الكفار، لأنه عدو مستتر يحتاج إلى قوة، ومقاومة، وكشف، وتعرية، أما الجهاد في أفغانستان، وفي الفلبين، وفي فلسطين، فنحمد الله تعالى، أن في هذه المواقع وفي غيرها رايات إسلامية مرفوعة، نعتقد -إن شاء الله- أنها رايات صادقة، ففي أفغانستان عدد من الأحزاب الإسلامية الموثوقة، وفي فلسطين عدد من الجهات الإسلامية، وفي الفلبين كذلك جهات إسلامية صادقة موثوقة، تتبنى الجهاد في سبيل الله، وتحيي ما اندرس من أمر الإسلام، لأن الناس يوماً من الأيام، كادوا أن ينسوا هذه الفريضة الغائبة والشعيرة العظيمة، فلما قام الجهاد في هذه المواقع ألهبت الحماس في نفوس المسلمين، وحركت الهمم، وبينت للناس أن الجهاد كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام: {الجهاد ماض إلى يوم القيامة} ولا يمكن أن يتوقف بحال من الأحوال، فجددوا ما اندرس من أمر هذا الدين، وأحيوا في نفوس المسلمين أهمية هذه الشعيرة، والشريعة، والفريضة، وكفاهم ذلك فخراً.(49/22)
جهاد الأعداء
السؤال
قلت إن الجهاد يكون بدون استئذان من الوالدين عندما يكون العدو في أطراف المدينة، فإذا كان المجاهدين يقاتلون العدو لمدة عشر سنوات، ولم يستطيعوا حتى الآن إقامة حكم الإسلام، فهل ننتظر أن يقوم أعداء الله باحتلال دول المسلمين دولة دولة، حتى يصلوا إلى المدينة التي أنا فيها، ليجدوها لقمة سهلة للقضاء عليها؟
الجواب
أخشى أن هذا الذي يقع، إذا قلنا للناس: هاجروا إلى مكان كذا، فلو قلنا للشباب: هاجروا إلى أفغانستان، معناه: أنَّا وضعنا البيض -كما يقول المثل-: في سلة واحدة، فلو فرض أنه لم تنجح قضية المسلمين في أفغانستان، معناه أن بلاد المسلمين كلها صارت مجالاً مفتوحاً، فعندنا باب واحد انكسر ساح العدو إلى نهاية المطاف، لكن نحن نقول: لا.
ضعوا أسواراً خلف أسوارٍ خلف أسوار، والعدو قوي أكثر مما نتصور، ومستميت أكثر مما نتصور، وموحد أكثر مما نتصور، ومخطط أكثر مما نتصور، ولذلك ضعوا أسواراً بعد أسوار بعد أسوار، واجعلوا الجهاد في كل بلد إسلامي، ولنعلم أن كل بلاد المسلمين مستهدفة، من عدو ظاهر أو مستتر كما ذكرت، فليس صحيحاً أن نفكر ونجعل في بؤرة الشعور عندنا موقع، وننسى مواقع أخرى، وأستغرب أن بعض الإخوة قد ينسون حتى الفلبين الآن، الفلبين -ممكن تذكر الأسئلة- لكن قل من يذهب إليها، فلسطين كذلك، خاصة في موضوع المساعدة والدعم المادي، ليس هناك مساعدة بدرجة كافية، صحيح أن أفغانستان لها ميزة، ميزتها أنها بلد مفتوح، بإمكان أي إنسان أن يذهب، والميزة الثانية: أن فيها راية إسلامية صافية ولله الحمد إلى حد بعيد، وقيادات جهادية موثوقة، فلذلك أقبل الناس عليها، ونحن ممن يشجع على ذلك على سبيل الإجمال، لكن بالصورة التي ذكرتها في إجابة السؤال السابق.(49/23)
أفضل أماكن الجهاد
السؤال
هذا يذكر ويقول: إني أحبك في الله، وأتابع محاضراتك عن طريق الأشرطة، زادنا الله وإياك علماً، ثم يقول: أزمعت الرحيل إلى أرض الجهاد برضى والدي، فأي الجهاد تنصحونني أن أنضم إليه هناك؟
الجواب
في الواقع -إن شاء الله- أن هناك جهات عديدة كلها فيها خير وفيها بركة، ولا أستطيع أن أذكر لك جهة دون أخرى، فإن عدداً من الجهات الإسلامية -حسب ما وصلني من معلومات- موثوقة، يقوم عليها أناس -إن شاء الله- صالحون، وفيهم خير، وفيهم إيمان، وفيهم استقامة، وإن كان بعضها قد يفضل بعض من نواحي، فبعض الجهات قد تكون أصفى عقيدة، وأسلم منهجاً، وبعضها قد تكون أقوى تنظيماً وأدق وأبلغ نكاية في العدو، وبعضها قد تكون أنشط في مجال الدعوة إلى الله، لكل وجهة هو موليها، وفي كل خير، ونسأل الله تعال أن يرزقنا وإياك الشهادة في سبيله.(49/24)
عتاب للرجال من النساء
السؤال
هذه أسئلة من النساء تقول: كلمة للأزواج الذين ينشغلون عن زوجاتهم وأولادهم في الدعوة؟
الجواب
وهذه مشكلة أيها الإخوة -كما أسلفت إليها- ربما تجد زوجة الواحد منا عليها نواقص كثيرة، في ملبسها، وفي علمها، وفي فهمها، وفي يقينها، وفي إيمانها، لأن الزوج مشغول، وفي الواقع أن للزوجة لشغلاً، فينبغي للإنسان أن يشتغل بأهله، مثلما يشتغل بغيرهم، يدعوهم إلى الله، يصلحهم، يعلمهم، يبين لهم ما يجب عليهم، وأنصح الأزواج أن يلتفتوا إلى زوجاتهم، ويجعلوا للزوجة -كما أسلفت- درس أسبوعي على الأقل، حفظ سورة من كتاب الله، حديث، شرح الحديث، مناقشة، بيان بعض الأحكام الشرعية.(49/25)
منكرات الأسواق
السؤال
أذهب إلى سوق النساء لحاجة هامة جداً، وقد تكون في الشهور العديدة مرة واحدة، وذلك لأنني أجد من المنكر ما يعلم به الله، فإذا ذهبت إلى هناك أتألم جداً لذلك المنكر الذي لا أستطيع أن أغير منه إلا اليسير، وقد أجد صعوبة لكثرته بين النساء والباعة هناك، فما هو المطلوب! هل أجعل إنكاري في القلب أم ماذا؟ وهل أحاسب على ما أجد، مما لا أستطيع فعله وتغييره، وما هو دورنا إزاء ذلك؟
الجواب
بطبيعة الحال الأخت لم تذهب لتنكر، إنما ذهبت لقضاء حاجتها، ولو وقفت عند كل منكر ما استطاعت أن تقضي حاجة، لأن المنكرات كثيرة لا أقول: بعدد الأشخاص؛ بل تجد على الشخص الواحد عدة منكرات، فبعض المنكرات الظاهرة المعتادة بين الناس لا يلزم الأخت أن تغيرها، مادام لها غرض معين محدد تريد أن تقضيه، وتعود إلى منزلها، لكن لو رأت منكراًَ ظاهراً مستغرباً مثل رجل يخاطب امرأة بكلام لا يليق، أو امرأة بالغت في التبرج بصورة غير مألوفة، أو ما أشبه ذلك من المنكرات الشاذة، التي ينفرد بها أفراد رجال أو نساء، فحينئذٍ عليها أن تقوم بواجبها تجاه هذا المنكر، وكذلك إن استطاعت أن تغير بعض المنكرات القليلة بما لا يؤثر عليها، مثل: امرأة جلست بجوارها، فأعطتها كتاباً أو شريطاً، ونصحتها، وقالت لها كلمة طيبة.(49/26)
حكم الأناشيد
السؤال
مجموعة أسئلة حول الأناشيد الإسلامية؟
الجواب
الأناشيد الإسلامية أصح وأعدل الأقوال فيها، أنها شعر وكلام حسنها حسن، وقبيحها قبيح، ويوجد من الأناشيد الإسلامية أناشيد فيها -مثلاً- أمور محرمة، مثل الطبول، فهذه محرمة، أو يكون معنى الأنشودة -أحياناً- معنىً صوفياً، أو بدعياً، وأذكر أنني سمعت أنشودة، وكررتها حتى حفظت بعض أبياتها، وأذكر من الأبيات التي وردت في تلك الأنشودة يقول: أو سترت اسمكم غيرة هاأنا ألوث بالشعب والمنحنى فما في الغنى أحدٌ مثلكم وفي الفقر لا أحد مثلنا فأنتم هو الحق لا غيركم فيا ليت شعري أنا من أنا ففيها أبيات موحشة وأقل ما يقال فيها أنها ذات معان غامضة، وتقرب أن تكون من عبارات الصوفية واستعمالاتهم، فهذه ينبغي طرحها، وإبعادها -أحياناً وهو أمر مؤسف- ذكره لي بعض الشباب، توجد أناشيد بأصوات فتيات ولو صغيرات، فهذا لا يصلح -مثلاً- فتاة في سن الحادية عشرة والثانية عشرة تنشد، هذا لا يصلح، لأن صوتها، خاصة بإنشاد الشعر هذا مدعاة لفتنة كبيرة، أما إذا كان النشيد فيه معاني طيبة، إثارة حماس، دعوة إلى خير، تربية على الأخلاق الفاضلة، ويؤدى بأصوات قوية، بعيدة عن التكسر، والتثني، ومحاكاة أصوات وأنغام الفساق من المغنيين والمغنيات، فلا حرج في ذلك.
لكن أنبه إلى محذور وهو بشرط ألَّا يغلب على الإنسان، لا يغلب عليك، فبعض الشباب يفطرون على أناشيد، ويتغدون على أناشيد، ويتعشون -أيضاً- على أناشيد، فهذا لا يصلح، ويجب عليه أن يغير الوجبات، ولذلك البخاري رحمه الله قال في صحيحه: باب من كان الغالب عليه الشعر، ثم ساق فيه حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً خير له من أن يمتلئ شعراً} وهذا إشارة إلى أنه يمتلئ جوفه، أي أصبح كل أكله أناشيد، حتى امتلئ بطنه منها، أما شخص يسمع أنشودة وهو في السيارة، أو في سفر، أو عمل، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا ينشدون ويرتجزون: لأن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعدا نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا إلى غير ذلك من الأناشيد التي كانوا يقولونها في أسفارها وفي قتالهم وفي أعمالهم، في بناء المسجد، وهذا كله ثابت في الصحيح، فلا حرج فيها ما لم تغلب على الإنسان، وما لم يكن فيها آلات محرمة، وما لم تكن معانيها -كما أسلفت- سيئة أو رديئة.(49/27)
تعدد المناهج في الدعوة
السؤال
هذا يسأل عن قضية تعدد الأفكار والمناهج في الدعوة، وما السبيل إلى تلافيها؟
الجواب
في الواقع أن الخلاف إذا كان داخل إطار أهل السنة والجماعة، والمنهج الصحيح، فالأمر فيه يسير، وينبغي أن نعود أنفسنا والناس على أن الخطب هين، ونحن نشترط شروط: أولها: أن تكون عقيدتك عقيدة أهل السنة والجماعة، فلا تأتنا ببدعة من بدع الصوفية، أو المعتزلة، أو الرافضة، أو الباطنية، أو غيرها، بل تلتزم بالمنهج الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في توحيد الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات، وغير ذلك.
الشرط الثاني: الانصياع للدليل الشرعي، فلا تقدم على كتاب الله، وسنة رسوله أحداً، فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل: دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر فإذا جاءك قال الله، فلا تقل: قال الشافعي، قال مالك، قال أحمد، قال أبو حنيفة، فإذا قال الله، سقط كل قول عند قول الله تعالى، مع أنك تعلم أن هؤلاء الأئمة، وغيرهم ليسوا إلا مقتبسون من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغترفون من بحره.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفا من الديم فتعظم الأئمة، وتتبعهم، لكن بالدليل، إنما في البداية أنت موافق معنا على أنه إذا استبان الدليل، لم يكن لأحد أن يدعه لقول إنسان كائناً من كان، فهذا الشرط الثاني، فإذا وجد عندك هذان الأمران، فإنك من أهل السنة والجماعة، كيف تدعو إلى الله تعالى؟ تقول: أريد أن أُعلِّم الناس العلم الشرعي، لأن الناس في حاجة إليه، فجلست في المسجد حلقات بعد حلقات فهذا جيد وحسن، والناس في أمس الحاجة إلى هذا الأمر، لكن لا تخطئ من يشتغل في مجال آخر، فإنسان يشتغل بالوعظ، يقول: الناس ليس عليهم قصور من جهة العلم، وهكذا يتصور، والناس يعرفون أشياء كثيرة لكن ما عملوا بها، فيعرفون أن الربا حرام، ويأكلونه ليلاً ونهاراً، ويعرفون أن الغناء حرام ويستمعونه سراً وجهاراً، فالناس الناس بحاجة إلى أن نحرك قلوبهم بالإيمان، والناس بحاجة إلى سياط الوعظ، فمن هنا من سلك طريق الوعظ، فقل هذا جيد وحسن، فالناس محتاجون إليه.
وشخص ثالث: قام بالتربية، قال: الوعظ والعلم كلها جيدة، لكن نحن بحاجة إلى شباب يتربون، ويطبخون على نار هادئة، حتى يكونوا جنوداً للإسلام، فاشتغل بتربية الشباب، وإعدادهم من خلال المدارس، والمراكز، وحلقات التعليم، وغيرها، فهذا كله جيد -أيضاً- وحسن، وبعض هذه الأمور يكمل بعضاً.
والمهم -أيها الأحباب- ألَّا يكون بعضنا يشتغل ضد البعض الآخر، وألَّا تتناقص هذه الجهود، وأن تتكامل: {كلٌ ميسر لما خلق له} {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84] فأنت على ثغرة أنا لا أستطيعها، وأنا على ثغرة أنت لا تستطيعها، ربما يكون العالم الشيخ في حلقته، لو وعظ ما حرك القلوب، وهذا ملاحظ، والواعظ لو تكلم في الفقهيات والشرعيات لأتى بالعجب العجاب، وهكذا كل إنسان يصلح في مكانه، وحسن في موقعه، فإذا خرج عن موقعه فسد وأفسد.
إذاً لا ينبغي أن ينتقص بعضنا جهد بعض، أو يقلل منه.(49/28)
العلم الشرعي للداعية
السؤال
هل العلم الشرعي مهم للداعية قبل البدء في الدعوة؟ إذ يوجد بعض الإخوة -هداهم الله- يربون أفرادهم على الحماس، دون علم شرعي؟
الجواب
هذه من القضايا التي يخفى أمرها على كثير من الشباب، فنحن نقول: العلم الشرعي شرط لئلا تدعو إلى شيء لا تعلمه، فغير صحيح أن تدعو إلى أمر وأنت لا تعلم هل هو مشروع أو غير مشروع، أهو حلال أم حرام، مستحب أم مكروه، فهذا لا يصلح، فلا تدعُ إلى أمر إلا وأنت تعرف أنه مطلوب، ولا تنهى عن منكر، إلا وأنت تعرف أنه منكر فعلاً، فمن أول وأهم شروط الداعية العلم بما يدعو إليه، لكن ليس شرطاً أنك لا تدعو إلا بعد أن تصبح علامة زمانه، وفريد عصره، ووحيد دهره، فهذا ليس شرطاً وهذا لا يمكن أن يكون لأحد، وقد لا يتيسر لك ولا لكثير من أمثالك، والرسول عليه السلام يقول: {بلغوا عني ولو آية} .
فإذا عرفت شيئاً ادع إليه، لكن لا تدع إلى ما لم تعلم، فتقول: أنا داعية، فتصبح تتكلم في كل شيء، لأنه -مع الأسف- بعض الناس لا يفرقون، فيتكلم في كل شيء، فإن سألته في الفقه أجاب! وإن سألته في الحديث أجاب! وإن سألته في الشعر أجاب! وإن سألته في التوحيد أجاب! وإن سألته في الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو أوضاع العالم، كأنه موسوعة، وهذا لا يكون إلا لأفراد قلائل من الناس، وإنما ممكن أن أعد موضوعاً وأجهزه وألقيه أحسن ما يكون، ولكن حين تسألني عن موضوع آخر أقول: أنا لا أعلم، اسألوا أهل الذكر، واسأل العلماء، وإذا لم تستطع فأنا أسأل، وليس هناك حرج في هذا، أما أن أقول: لا أدعو إلا بعد أن أتعلم، فمتى أتعلم؟! وبالعكس أنا ألاحظ نقطة مهمة أيها الإخوة! وكنت أحذر منها بعض طلاب العلم، ورأيتهم وقعوا فيها، فالإنسان الذي يقول: أتفرغ لطلب العلم حتى أحصل منه على شيء كثير، وبعد فترة لما يكبر يكون قد تعود على معاشرة الكتب، ومجالستها، والعيش بينها، فلا يطيق فراقها، فإن قيل له: هذا درس، هذه محاضرة اعتذر منه، وإذا جُر بالقوة جاء للناس مرة فتكلم، فشعر بشيء في قلبه، وشعر بشيء من الوحشة من الناس، لأنه لم يتعود، قال: الكتب ممتازة، والكتب مريحة، ولذلك ربما يبدأ، ثم ينقطع لأنه لم يتعود على الدعوة، فمن المهم أن طالب العلم يتعود على الدعوة من خلال أنه إذا حصّل شيء يوصله للناس، وتعرفون أنتم موضوع الزكاة، فالآن عندما يكون عندك مبلغ من المال، نقول: أخرج زكاته، وعندك مقدار من العلم، فأخرج زكاته، لكن إذا كثر مالك فالزكاة المطلوبة منك أكثر، أي تتناسب طردياً مع كثرة المال الموجود عندك، أما إذا كنت ليس عندك نصاب فالزكاة ساقطة عنك، فإنسان يقول: لا أعرف شيئاً فهذا نقول له: لا تعلم إذاً فمن هو المسلم الذي لا يعرف شيئاً؟! فهذا يعرف الوضوء، يعرف الصلاة فعليه أن يعلمها.(49/29)
كسب بائع الدخان والجراك
السؤال
والده يبيع الدخان والجراك، وعنده محل مخصص لذلك، يقول: نصحته بعدم إقامة هذا المحل، وسألني بعض النقود لإعانته على إقامته، فرفضت طلبه؛ لأنه حرام، وبينت له هذا، بم تنصحني أن أفعل مع هذا الوالد؟ وهل يجوز أن آكل من أكل البيت، وهو مصدره من نقود من هذا المحل؟
الجواب
الواقع، بالنسبة لمسألة الأكل من هذا البيت إن كان كسب الوالد كله من الجراك، فلا تأكل في هذا البيت، لأنه مال حرام، أما إن كان مال الوالد مختلط، بعضه من الجراك، وبعضه ورثه من جده، وبعضه من إيجار المحل الذي يؤجره، يعني مال مختلط بعضه حلال وبعضه حرام، فلا حرج أن تأكل منه، أما إعانته فلا تعينه على ذلك، لكن أنصحك بأن تقترح على الوالد -كن إنساناً عملياً- فاقترح على الوالد مشروع تجاري، وقل له: أنا مستعد أن أعمل معك في هذا المحل، وأساعدك بالمال، وبنفسي، وبكافة الاحتياجات والمتطلبات، بشرط أن تترك هذا الجراك الذي تبيع فيه، وأعتقد أن الوالد يفعل إن شاء الله تعالى.(49/30)
كيفية دعوة الزملاء
السؤال
هذا سؤال آخر حول كيفية التعامل مع الزملاء غير الملتزمين حيث يريد السائل دعوتهم؟
الجواب
بالنسبة للزملاء: أولاً: نسأل: ما موقعك منهم؟ فالواقع أن هناك قضية وهي قضية الحب والإعجاب، ومن أعظم وسائل الدعوة المحبة، فإن الإنسان إذا أحبك أصبح مستعداً أن يبذل من أجلك الشيء الكثير، ومستعد أن يستمع إليك، وإذا أعجب بك، يعجب بما يأتي عن طريقك، ولذلك على الداعية أن يكون أريحياً، شهماً، قوياً، مقدماً في الأمور إن كان مع مجموعة من الزملاء -مثلاً- كان طالباً في المدرسة، فينبغي أن يكون مبرزاً قدر المستطاع، ومتقدم في دراسته، وإن كان موظفاً ينبغي أن يكون نموذجاً في الالتزام بالدوام، والقيام بالعمل، وخدمة الإخوان والزملاء، والإحسان إليهم، والخلق الفاضل معهم، وإن كان مع مجموعة في رحلة فيكون سباقاً في الخدمة، ومحاولة تسهيل المهمة لزملائه، وهكذا، ومن خلال هذه الوسائل يستطيع أن يكسب ثقتهم، ويضمن وجود نوع من التقبل عندهم، ثم يوجه إليهم الدعوة.
من وسائل الدعوة وهي كثيرة: الشريط، حتى لو كنت لا تعرف الشخص، فدعك من كونهم زملاء يمكن تتدرج في دعوتهم، وافترض أنهم أناس لا تعرفهم، فقد لا تلتقي بهم يوماً من الدهر، فأعطه شريطاً إسلامي، أو أعطه كتاباً، إن لم ينفعه لم يضره، وافترض على أسوأ الأحوال أنه ألقى بالشريط، لم يسمعه، فيمكن يأخذه واحد آخر يسمعه، وإن لم يحصل هذا فما ضرك شيء، والمال الذي بذلته موفور ومحفوظ لك عند الله تعالى، فساهم في نشر الخير، كتاب، رسالة صغيرة، اتصال هاتفي، إهداء مجلة، كلمة طيبة، نصيحة، وسائل الدعوة كثيرة، المهم أن يوجد من بيننا وأناس تتحرق قلوبهم إلى إصلاح الناس، أناس يغلي في قلوبهم همُّ يجعلهم لا يهنئون بنومهم، ويقظتهم، وأكلهم، وشربهم، يدعوهم ويحفزهم إلى الدعوة إلى الله تعالى، يحرصون على كسب الناس يوماً بعد يوم، وجلبهم إلى طريق الخير، فإذا وجد هذا الهم في نفس الإنسان، فحينئذٍ سوف تكون الطرق كلها أمامه مفتوحة.(49/31)
كيفية معالجة المنكرات في البيوت
السؤال
كيفية معالجة المنكرات في البيوت، وحكم العيش معها، مع المقابلة بالعناد، والاستهزاء -مثلاً- أنت قليل الحياء، وأنت كذا وأحدهم يسأل -مثلاً- عن الأغنية في التليفزيون، وكيفية إمكانية مواجهتها والتخلص منها، وكيفية إقناع الوالد بأخطاره ومضاره، لأنه أصبح بالنسبة لهم عادة، ونقاط توجيهية للتخلص من منكرات البيوت، فضلاً عن المنكرات التي تكون من خلال اجتماع الرجال، والنساء في مجلس واحد في المنزل، إلى غير ذلك؟
الجواب
لاشك، أن هذه الأسئلة مندرجة تحت النقطة التي ذكرت، وهي قضية التوجيه أولاً، فيجب أن يكون التوجيه أولاً، لأنك في الغالب في البيت لا تملك سلطة، فنحن حين نقول للشاب: عندما تكون أنت بيت وتتزوج، وتسكن في بيت مستقل، هنا اصنع البيت على عينك وكما تشاء، فلا يدخل في البيت إلا ما تحب، وافعل في البيت كما تحب، لكن إذا كنت أنت عنصر في البيت، وقد تكون أصغر الأولاد، وقد تكون البنت أصغر البنات، ويريد أن يغير أشياء كثيرة ويصلح، هنا الأمر فيه شيء من الصعوبة، وإن كان ممكناً -والله- أيها الإخوة، وأعرف بيوتاً كثيرة تغيرت بسبب صلاح إحدى البنات، أو أحد الأولاد، وحدثني أحد الإخوة عن بيت وأشار إليه، كان فيه سائق وخادمة، حتى يقول لي: إنه كان السائق والعياذ بالله يلعب الكرة -كرة السلة- مع البنات في المنزل، وكان في البيت أجهزة فساد، وهدم، وتخريب، وكل ما يخطر على بالك، يقول: سبحان الله! الأب لا يعرف المسجد، وأحد الأولاد دخل في كلية الطب، فوفقه الله بقوم صالحين واهتدى، يقول: فبدأ يؤثر في بقية إخوته، ثم في بقية أخواته، حتى خرج السائق، وخرجت الخادمة، خرجت الأجهزة، وما هي إلا أشهر يسيرة، يقول: حتى لاحظت أن الأب بدأ يتردد على المسجد، ويصلي الصلوات الخمس في جماعة، وهناك بيوت كثيرة أعرفها من هذا النمط.
فقضية الإصلاح ممكنة، لكن اصبر، ولا تتعجل الخطوات، لأنك لست سلطاناً تأمر فيطاع، أخرجوا الجهاز؟! فيخرج، لا.
ليس ضروري، قد تجد نفسك محتاجاً إلى أن تعطي الأمر نفساً، وتصبر بعض الشيء، وتتريث، وتحاول أن تقنع الأهل بمفاسد التلفاز، وتقنع إخوانك الصغار وأخواتك، شيئاً فشيئاً حتى يقل الراغبون فيه، ويمكن إخراجه، إلا إذا كانت الظروف مواتية، مثل: أن تكون أنت الابن الأكبر، ولك مكانة، ولك تأثير، ولك قبول عند الوالد، فهنا لا مانع أن تستخدم مكانتك في ذلك، لكن الغالب أن كثيراً من الشباب موقعهم ضعيف، وقد يصعب عليهم أن يقوموا بهذا الأمر من أول وهلة، ويحتاج الشاب إلى صبر.
أما موقف الشاب من المنكرات مثل: سماع الغناء، فالأصل أن الشاب ينبغي أن يحرص ألَّا يسمع الغناء، والغناء ليس هناك شك أنه محرم، وسماع الموسيقى حرام بإجماع العلماء أيضاً، لكن في حالة إذا لم تستطع، فما الحل؟ حتى لو فرض أنك دخلت المنزل أو خرجت وهناك موسيقى، أو غناء، وأنت لم تقصد أن تسمعه، فحينئذ أنت سامع، ولست مستمع، بمعنى أنه وصل إلى أذنك بغير اختيارك وبغير إرادتك، فلست آثماً لكن عليك أن تعمل على تغيير هذا المنكر بالوسائل التي أشرت إلى شيء منها سابقاً.(49/32)
الطريقة المثلى للتفقه في الدين
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس القيم عن أن الفقه هو طريق معرفة أحكام الله تعالى التي لا إيمان للفرد إلا بها والانقياد لها.
وأبرز النعمة العظيمة من الله تعالى في هذا العصر الذي يشهد صحوة يتوجه شبابها للدليل ونبذ التعصب المذهبي الذي كان سائداً في قرون كثيرة مضت، ثم يذكر الخلاف بين العلماء وما الواجب على المسلم تجاهه، وحكم الاجتهاد والتقليد وأقوال العلماء فيه مع الترجيح، وذَكَر مسائل تتعلق به ثم محاذير في مجال التفقه للشباب، ثم أجاب عن مجموعة من الأسئلة.(50/1)
الحاكمية لله وحده
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة والأخوات: إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الخلق، ولذلك فهو المستحق وحده لأن يعبد، فالذي له الخلق هو الذي له الأمر، ولذلك جمع الله بينهما في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] فكما أن الله هو الخالق المتصرف في الأكوان، المقدر للأقدار، فهو -أيضاً- سبحانه المستحق للعبادة، المشرع لعباده.
ولذلك فإنه لا يحق لأحدٍ أن يقبل ديناً من عند غير الله، وهذه القضية هي قضية أصولية جوهرية في الإسلام، فحق التشريع هو لله وحده، وهو الحاكم والحكم بين عباده، ومن قبل من غير الله ديناً أو شرعاً أو حكماً أو تحليلاً أو تحريماً؛ فقد اتخذ من هذا الذي تلقى عنه إلهاً من دون الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] ويبين سبحانه أن ما عدا الشريعة فهو الهوى، فيقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] وهذه القضية الواضحة هي جزء من معنى الإيمان بالله عز وجل وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقد ذكر الله تعالى في كتابه صنفين من الناس:- الصنف الأول: هو صنف المنافقين، الذين لا يقبلون حكم الله ولا ينقادون له إلا حين يوافق أهواءهم، فيقبلونه ليس لأنه حكم الله، لكن لأنه يوافق الهوى، وقد ذمهم الله عز وجل بقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُون * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:48-50] .
الصنف الثاني: هم المؤمنون المسلمون، المستسلمون لله عز وجل، وهذا الاسم الذي يحملونه، الإسلام: يعني الانقياد والطواعية التامة لحكم الله ورسوله، سواء أوافق الهوى أم خالفه، وقد مدحهم الله عز وجل وأثنى عليهم بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51-52] .
فالأمر بيّن واضح، المؤمن المسلم منقاد لحكم الله ورسوله، والذي يعترض على حكم الله أو يأباه أو يرفض الانصياع له فهو منافق وليس بمؤمن، ولذلك فإن المؤمن لا يحول بينه وبين امتثال حكم الله ورسوله، إلا أن يعرف هذا الحكم، فإذا عرفه انقاد له برغبة وقبول واستسلام، كما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] لا يحول بين المسلم وبين تنفيذ الحكم الإلهي إلا معرفة هذا الحكم، فإذا عرفه استجاب له، سواء أعرف العلة من وراء ذلك أم لم يعرفها، وسواء أوافق هوى الناس أم لم يوافقه، وسواء أوافق هوى النفس أم لم يوافقه، فهذا حكم الله ينقاد له مسلماً بلا حرج.
ولذلك فإن من المهم أن يعرف كل مسلم تحلى بهذه الصفة أن لله عز وجل في كل واقعة حكم، وهذه قاعدة أصولية مهمة، فما من قضية تقع إلا ولله ورسوله فيها حكم، إما تحليل أو تحريم أو كراهة أو استحباب أو إباحة، ولا تخلو قضية أو واقعة من حكم لله ورسوله.
ولذلك فإن المسلم لا ينفك عن امتثال حكم الله ورسوله في كل واقعة تعرض له في حياته، والمسلم يستطيع معرفة حكم الله ورسوله، إما عن طريق البحث في الكتب والنظر في الأدلة والتوصل إلى هذا الحكم، إن كان أهلاً لذلك، أو عن طريق سؤال أهل العلم الذين أمر الله عز وجل من لا يعلم بسؤالهم، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] .(50/2)
التفقه طريق معرفة أحكام الله
ولذلك -أيضاً- أمر الله عز وجل المؤمنين أن يكون من بينهم من يتفقه في الدين، فقال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين} [التوبة:122] لأنفسهم ولقومهم: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] وأثنى الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة على الفقه في الدين وعلى المتفقهين فيه، كما في الحديث المتفق عليه، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ولما سئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال في آخر الحديث: {فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} والحديث -أيضاً- متفق عليه، ولاشك أن المقصود بالفقه في هذين الحديثين المعنى العام، الذي هو المعرفة بالدين، والمعرفة بالعقائد الصحيحة، والمعرفة بكتاب الله، والمعرفة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا سنتحدث في هذه المحاضرة عن المعنى الاصطلاحي الخاص للفقه في الدين، ونعني به معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، معرفة الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمباح، من الأدلة الشرعية المعروفة، وليس المقصود بالحديث التفقه في الدين بمعناه العام.(50/3)
نعمة توجه الصحوة لطلب الدليل
أيها الإخوة: إن من نعمة الله على هذه الأمة في هذا العصر خاصة، أن مَنّ الله عليها بوجود هذه الصحوة الإسلامية، التي عمت سائر البقاع، وسائر الأجناس وكافة الطبقات، فأصبحت تجد في المسلمين من كبارهم ومن شبابهم، من رجالهم ومن نسائهم، من أقبلوا على هذا الدين بصدق وإخلاص، ومن اتجهوا للتفقه في الدين، ومعرفة الأحكام، وهذه نعمه يمتن الله بها علينا في هذا العصر، حيث نرى بأعيننا إقبال الناس على الإسلام، ورغبتهم فيه، في حين أنه مر بالمسلمين -منذ وقت غير بعيد- زمان قلَّ فيه المقبلون على الخير، وضعف شأنهم، وحتى الذين كانوا مستقيمين لم يكن لدى أكثرهم وعي صحيح، ولا حرص قوي على التفقه في الدين، ومعرفة حكم الله ورسوله فيما يعرض لهم.
ومن الجوانب الإيجابية المشرقة في هذه الصحوة الإسلامية، أنها صحوة تعتمد على البصيرة، وعلى الكتاب والسنة، وكم هو أمر طيب أن تجد كثيراً من الشباب ذكوراً وإناثاً يسألون عن حكم الله في مسألة ما، وما حكم كذا؟ ما حكم كذا؟ فإذا سمعوا ممن يفتيهم الحكم في هذه المسألة تحليلاً أو تحريماً، بادروا بأدب وحسن خلق واحترام وتلطف إلى السؤال عن الدليل الذي اعتمد عليه فيما أفتى به من تحليل أو تحريم، وهذا أمر كان معروفاً بين الصحابة والتابعين، حتى إن علياً رضي الله عنه، يقول -في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره-: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته بالله، فإذا حلف لي صدقته} وهذا صحابي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ علي رضي الله عنه يقول له: احلف لي بالله أنك سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هكذا، فإذا حلف له صدقه، وما زال الصحابة والتابعون يسألون عن حجة من أفتى.
إن من الجوانب المشرقة في الصحوة الإسلامية التي نعيشها اليوم، أن تعتمد على البحث عن الدليل وعن الحجة، التي يعتمد عليها المتكلم في حكم الله ورسوله، وهذا أمر طيب، فقد مر على المسلمين زمان طويل، ضعف فيه انتماؤهم للكتاب والسنة، وغلب عليهم التقليد الأعمى في كثير من الأحيان، بل وتعصبوا لآراء الرجال وأقوالهم، حتى إن أحد المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية يقول: كل نص خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول! فهو يقول: إن كل آية أو حديث خالفت ما ذهب إليه إمامه فإن هذه الآية أو الحديث إما أنها منسوخة وإما أنها مؤولة، فأصبح يقدم كلام إمام على كلام الله ورسوله، بل ويقول أحدهم في كتاب له في التفسير، عند قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:24] يقول: فلا يجوز الأخذ بما خالف أقوال الأئمة الأربعة وإن كان قول صحابة، وإن كان حديثاً، وإن كان آية قرآنية! وهذا الكلام يوجد في كتب توجد اليوم بين المسلمين في المكتبات، وقد أبدى كثير من العلماء امتعاضهم من هذا التعصب الممقوت الذي يرفضه الأئمة المتبعون ويأبونه ولا يقرونه، حتى قال أحد أئمة الأندلس وهو المنذر بن سعيد البلوطي يشكو ما وصل إليه قومه من التقليد وترك الدليل، يقول: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فان عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله: فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك وأشهب وسحنون من أئمة المالكية.
إن الأئمة -أيها الإخوة- المتبوعين وغيرهم من علماء السلف يرفضون مثل هذا اللون من التعصب الممقوت، ونحمد الله أن قلَّ التعصب أو اختفت هذه الظاهرة في كثير من البلاد الإسلامية، وأصبح كثير من المتفقهين وطلاب العلم يبحثون عن الدليل، فإذا صح الدليل آثروه على أقوال أئمتهم وعلى آراء الرجال.
ولهذا فإنني آثرت أن أتحدث عن بعض القضايا المتعلقة بهذا الأسلوب، والواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية، وهو أسلوب التفقه في الدين، وكيفية أخذ الحكم من القرآن والسنة، ومثل هذا الموضوع لا تفي فيه محاضرة، بل ولا محاضرات، وهو أمر يطول، لهذا فإنني سوف أقتصر على الحديث عن ثلاث نقاط:- الأولى: الحديث عن الاختلاف بين العلماء، والموقف الصحيح منه.
والثانية: هي الحديث عن قضية الاجتهاد والتقليد.
والنقطة الثالثة: هي الإشارة إلى بعض المحاذير والأخطاء التي يتخوف من وقوع بعض المتفقهين فيها.(50/4)
الخلاف بين العلماء
ففيما يتعلق بالخلاف بين العلماء، يتبرم كثير من الناس من وجود هذا الخلاف ويضيقون به ذرعاً، سواء من العوام الذين لا يطيقون قضية: في المسألة أقوال، وإنما يريدون أن تقول لهم حلال أو حرام فقط، أو حتى من بعض الطلاب الذين يعتقدون أن بالإمكان جمع المسلمين كلهم على حكم واحد في كل مسألة، فيقول البعض: إن من الممكن أن نضع حداً للخلاف بين العلماء وبين المسلمين، وأن نجمع المسلمين على قول واحد في جميع المسائل.(50/5)
عدم إمكانية جمع المسلمين على مذهب واحد
وأقول إن هذا القول مما يثير له العجب، وهو قول غير صحيح في نظري لأسباب:- أولاً: طبائع البشر تختلف وتتفاوت تفاوتاً عظيماً، سواء في ذلك العلماء أو غيرهم.
ثانياً: الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء علماً وعملاً وإخلاصاً وتجرداً، وأقواهم عقولاً، وأعلمهم باللغة، وأسلمهم فطرة، ومع ذلك اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة جداً مبثوثة في كتب العلم، ثم إن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في السابق هي موجودة اليوم، بل هي اليوم موجودة بصورة أعظم مما كانت موجودة في الماضي، وما يقوله البعض من أن العلم تيسر، والمطابع أصبحت تدفع بأعداد كبيرة من الكتب إلى آخره، هذا كله غير كافٍ في إثبات إمكانية جمع المسلمين على كلمة واحدة في كل مسألة.
لذلك فإنني أقول: إن من المهم أن نعرف أن الخلاف بين العلماء أمر لابد منه -في الأصل- وعلينا ألا نتعب أنفسنا في التخلص من هذا الخلاف بالكلية، ورفضه نهائياً، أو دعوة الناس إلى أن نجمعهم على قول واحد في جميع المسائل الجزئية والفرعية، لكن الموقف الصحيح الذي يجب أن نتخذه من هذا الخلاف، هو الذي يجب أن نبحث فيه وندرسه بصورة صحيحة حتى يكون الخلاف بين العلماء إيجابياً مثمراً، وليس خلافاً ضاراً بالمسلمين.(50/6)
الموقف من خلاف العلماء
فأولاً: يجب على المتفقه وطالب العلم أن يحرص على معرفة الخلاف بين العلماء في المسائل التي يبحثها ويريد أن يصل فيها إلى الحق، ولذلك من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه -كما يقول بعض السلف-.
ويقول الإمام أيوب السختياني رحمه الله: أجسر الناس على الفتيا أقلهم معرفةً باختلاف العلماء، وأورع الناس عن الفتيا، أكثرهم وأعلمهم باختلاف العلماء، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعرف الخلاف يأخذ المسائل -أحياناً- بشيء من البساطة، دون أن يدرك الأقوال الأخرى، والأدلة التي تمسك بها هؤلاء الأقوام، فإذا اطلع على الخلاف أصبح متصوراً للموضوع كاملاً، وقادراً على أن يختار من بين هذه الآراء والأقوال ما يجده أسعد بالدليل وأقرب إلى الكتاب والسنة، فهذه قضية.
القضية الثانية: أنه لا يجوز أن نختار من أقوال العلماء ما يعجبنا أو ما نشتهيه نفسياً دون دليل ودون تعليل، فبعضهم يعرض الأقوال في مسألة من المسائل، ثم يقول: أنا أميل إلى هذا القول، فتقول له: لماذا؟ هل معك حديث أو آية، أو تعليل صحيح، أو قياس؟ فيقول: لا، ولكنني أطمئن لهذا القول، وتطمئن إليه نفسي، واطمئنان النفس ليس من ضمن الأدلة الشرعية.
ثالثاً: يجب عدم التشدد أو التشديد على المخالفين، بل التحلي بالحلم وسعة الصدر، ولذلك كثر عن السلف الثناء على الحلم ومدح أهله وبيان أنه قرين العلم، يقول عطاء -مثلاً-: ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ويقول طاوس: ما حمل العلم بمثل جراب حلم، ويقول الشعبي: زين العلم حلم أهله، وهذه الآثار كلها رواها الدارمي في سننه.
إذاً: فعلينا أن نتحلى بالحلم وسعة الصدر، ومادمنا نعرف أن الخلاف واقع، فليس من الصواب أن نحمل على المخالفين، ونتهمهم -دائماً- بأنهم غير متجردين، أو بأنهم متمسكين بآرائهم، لأنك إذا قلت عن أحد: إنه متمسك برأيه، وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، فإنه هو يقول عنك الكلام نفسه، فيقول: فلان متمسك برأيه وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، وليس قبول كلامك فيه بأولى من قبول كلامه فيك.
رابعاً: ينبغي أن يعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله، ومن عدا ذلك فلا يمكن أن يسلم من الخطأ بصفة نهائية، وإذا كان الصحابة قد خطّأ بعضهم بعضاً في مسائل من العلم، فغيرهم من باب الأولى.
وهناك أشياء من العلم يسميها العلماء المسائل الشاذة أو شواذ العلم، وكل عالم أو فقيه أو إمام تجد له مسألة أو مسألتين أو أكثر من ذلك خالف فيها جماهير العلماء، وخالف فيها الدليل الصحيح -أيضاً- لكن عن اجتهاد وحسن نية، وليس إعراضاً عن الحق، فعلى الإنسان أن يعرف هذه الشواذ من العلماء فيجتنبها؛ مهما يكن هذا الإمام أو العالم الذي وقع فيها، إماماً مشهوراً ومتبوعاً ومتفقاً على جلالته، فخطؤه لا ينقص من قدره، وإنما يثبت بشريته فحسب، وكما قيل:- ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه خامساً: يجب عدم التعصب للأشخاص أو الشيوخ، والدخول في معارك في تفضيل فلان على فلان، سواء من الأئمة الذين ماتوا وبقيت آثارهم ومذاهبهم، أو من العلماء الذين من الله على هذه الأمة بوجودهم اليوم، فلا نشتغل بأن فلاناً أفضل من فلان، ومذهبه أحسن من مذهبه وأقواله أصوب، ونثير معاركاً كلامية طويلة في هذا الباب، وأستأنس لهذه القضية بالقصة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {كان رجل من اليهود يبيع سلعة في السوق، فأعطي بها ثمناً أقل مما يريد، فكأنه لم يرتضِ هذا الثمن، فقال: لا والذي فضل موسى على العالمين - يعني لا أبيع هذه السلعة- فتصدى له رجل من الأنصار فلطمه، وقال: تقول: والذي فضل موسى على العالمين، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب هذا اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشتكى إليه، وقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: إن فلاناً الأنصاري قد لطمني في وجهي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأنصاري، وقال له: لم لطمته؟ قال: يا رسول الله إنه قال: والذي فضل موسى على العالمين، وأنت بين أظهرنا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رؤي الغضب في وجهه، وقال: لا تفضلوني، لا تفضلوا بين الأنبياء، فإنني حين يصعق الناس ثم ينفخ في الصور أكون أول من يفيق -أو في أول من يفيق- فأنظر فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور} .
وهذا الحديث يمكن أن نأخذ منه عدم الدخول في معارك في المفاضلة بين العلماء، خاصةً إذا كان ذلك يوهم تنقص بعضهم وازدرائه أو نسبتهم إلى شيء من الجهل أو الهوى أو ما شابه ذلك، أو يدعو إلى تفرق أو اختلاف.
فهذه أهم القضايا التي يجب أن نضعها في اعتبارنا ونحن ننظر في الخلاف بين العلماء، ولا يجوز -أيها الإخوة- أن تكون هذه القضايا التي وسعت الصحابة والتابعين والمسلمين الأولين ميداناً للخصومة والتنافر والتنافس بين المسلمين.(50/7)
حكم الاجتهاد والتقليد
ثم أنتقل إلى القضية الثانية، وهي الحديث عن موضوع الاجتهاد والتقليد، وهي قضية طويلة، وأقول بصورة موجزة: إن الناس فيها طرفان ووسط، فهناك طرف يقول: لا يجوز تقليد أحد من العلماء بحال من الأحوال، ويتزعم هذا القول الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله، حيث يقول في كتابه الإحكام في أصول الأحكام: التقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء في خدرها، والراعي في شعب الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر بلا فرق، فهو يرى أن الأعرابي الراعي في غنمه، أو العبد المجلوب أو الفتاه العذراء التي لم تتلق شيئاً من العلم؛ هم والعالم على حد سواء يجب أن يجتهدوا ولا يقلدوا أحداً! وهذا القول واضح البطلان، ويكفى تصوره في إبطاله، لأنك لو تصورت المسلمين اليوم وهم كما تقول الإحصائيات، يربو عددهم على ثمانمائة مليون مثلاً، ولنفترض أنهم يمثلون عشر هذا العدد أو أقل، سيوجد عندنا ثمانمائة مليون عقل تجتهد في قضيه واحدة، فكم فسيوجد من الاجتهادات والشذوذات والانحرافات والمخالفات والفوضى التي لا أول لها ولا آخر، ثم ما قيمة العالم إذن إذا كان مطلوب من كل إنسان أن يجتهد؟ فما قيمة العالم المتميز بمعرفة الدليل، والحديث الصحيح، والحديث الضعيف إلى آَخره؟ ولنفترض -مثلاً- أن واحداً أو أكثر من هؤلاء الذين قلت: إنهم يجب عليهم أن يجتهدوا وألا يقلدوا أحداً، لنفترض أن منهم من قال: أنا اجتهدت، فوصل اجتهادي إلى نتيجة، وهي وجوب التقليد لي ومن كان على شاكلتي! فما موقفك حينئذ؟ فهو اجتهاد أمرت به فوصل إلى هذه النتيجة بطريقة صحيحة، وهذا يدل على فساد هذا القول.
وهناك طرف آخر مقابل له، يقول: بأن باب الاجتهاد قد أغلق، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجتهد في مسألة جزئية ولا غيرها، بل عليه أن يقلد إماماً من الأئمة، وألا يخرج عن قوله أبداً، وهذا القول -أيضاً- قول مرجوح لا دليل عليه، فإن الله عز وجل يسألنا يوم القيامة، فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] ولا يسألنا ماذا أجبتم فلاناً أو فلاناً؟ بل يسألنا ماذا أجبتم المرسلين؟ والقول الوسط في قضية الاجتهاد والتقليد، يتلخص في النقاط التالية:-(50/8)
العامي حكمه التقليد
والقضية السادسة في موضوع الاجتهاد والتقليد، هي: أن العامي حكمه التقليد أو فرضه التقليد، وقد حكى ابن قدامة رحمه الله هذا إجماعاً من أهل العلم، أن العامي حكمه وفرضه التقليد، وليس المقصود بالعامي فقط من لا يحسن القراءة والكتابة، فقد يكون العامي أستاذاً وعالماً في فن من الفنون، ومتخصصاً في قضية من القضايا، لكنه عامي في قضايا الشريعة لا يصدر فيها ولا يورد، ولا يعرف منها قليلاً ولا كثيراً فمثل هذا فرضه التقليد، ولكن عليه حين يقلد -سواء قلد إماماً من الأئمة الأربعة، أو قلد شيخاً من الشيوخ المعاصرين الذين حوله في مسألة من المسائل- عليه أن يتعود على سؤال العلماء عن الدليل حتى تكون عبادته لله تعالى على بصيرة.(50/9)
الحذر من تقليد المعاصرين
وهناك قضية خامسة أشير إليها، وهي أن بعض الذين ينبذون التقليد ونحن -بلا شك جميعاً- نحمد للإنسان، أن يقدم نصوص الكتاب والسنة على قول فلان وفلان، وكل إنسان في قلبه إيمان يفرح بذلك، لكن قد يترك الإنسان أحياناً تقليد الأئمة المتبوعين الكبار المشهود لهم بالفضل والعلم ويقلد من هو دونه بمراحل، فيكون كمن ترك البحر وذهب ليستقي من السواقي الصغيرة، فعلى الإنسان أن يدرك أن التقليد في كثير من الأحيان، يتسرب إليه بصورة خفية، وقد تجده يسمع قول الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة فلا ينتبه له ولا يهش حين يسمعه، ولكن إذا سمع قول فلان، وخاصة إذا كان من الأئمة والعلماء المعاصرين، فإنه يقوم له ويقدره، ويقدمه على أقوال هؤلاء الأئمة، ولاشك أن الحق -أيضاً- لا يعرف قديماً وحديثاً، فقد يصيب المتأخر وقد يخطئ المتقدم، ونحن نجد أن الإمام في الصلاة يأتي آخر الناس فيتقدم عليهم.
ولا غرابة أنه يوجد اليوم بين المسلمين من العلماء من لم يكن للمسلمين عهد بمثله منذ زمن، ولو أردنا أن نضرب أمثلة لذلك -مثلاً- لوجدنا أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أو فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين أو فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أو غيرهم من العلماء -وهم بحمد الله كثير- هم أئمة أفذاذ، قد نقول: إنه يندر توفر مثل هؤلاء في وقت وزمان واحد، وأن الله قد امتن على هذه الأمة بوجودهم.
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن الإنسان الحي تقبل أقواله وآراؤه وتعيش أكثر من الإنسان الميت، ويجد من وسائل الانتشار والتلاميذ الذين تلقوا عنه وأعجبوا بشخصيته وقوته وجر أته في الحق وفضله، من يغلب هذا عليهم فتصبح أقوال هذا الإمام عنده مقدمة، وهذا أمر قد يكون طبيعياً في بعض الأحيان، لكن على الإنسان ألا ينسى أنه إذا كان يحارب التقليد، فحينئذ عليه ألا يترك أو يحارب تقليد إمام متقدم ليقلد إماماً متأخراً، بل يأخذ الحق ممن جاء به.(50/10)
اتباع الأئمة مع معرفة الدليل أمر سائغ
القضية الثانية: أن أتباع هؤلاء مع معرفة الدليل الذي ذهبوا إليه أمر سائغ ومشروع، ولا حرج على الإنسان في الانتساب إلى مذهب من هذه المذاهب، وكونه يعرف بأنه شافعي أو حنبلي أو مالكي أو حنفي، شريطة ألا يكون في هذا تعصب لما قال به هذا الإمام ولا تقديم لأقواله على الكتاب والسنة، ولا حط من قدر غيره من العلماء.(50/11)
وجوب اتباع الإنسان للدليل وإن خالف مذهبه
شالقضية الثالثة: أنه حين يترجح لك أن الحق في هذه المسألة مخالف للمذهب الذي تنتسب إليه فإنه لا يجوز لك شرعاً أن تترك هذا الحق الذي عرفته من الكتاب والسنة لقول إمامك، بل يجب أن تنتقل من قول إمامك إلى قول ذلك الإمام، وأضرب لذلك مثلاً، القول بأن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء، هذا القول -هو فيما أعلم- من مفردات الإمام أحمد رحمه الله، لكن يشهد له الحديث الصحيح: {أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم توضئوا من لحوم الإبل} .
إذاً: فلو كنت شافعياً، أو مالكياً لم يجز لي عند الله عز وجل أن أترك الحديث الصحيح لقول إمامي، لأن إمامي يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو لا يرضى بأن أترك الحديث الصحيح إلى قوله.
رابعاً: فإن هذه القضية التي أشرت إليها وهي قضية اتباع الحق ولو خالف المذهب؛ قضية جوهرية وذلك لأنه شاع عند كثير من الناس، أن التمذهب يعني اقتصار الإنسان على قول إمام المذهب الذي ينتسب إليه، وصار من الصعب على كثير منهم أن يترك قول إمامه للآية أو الحديث الصحيح؛ وهذا خطر عظيم، والإنسان الذي يعرف الحق عياناً ظاهراً ثم يتركه لأنه مخالف لمذهبه يخشى عليه أن يكون ممن قال الله عز وجل فيهم أو في أمثالهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وتفسير هذه الآية الذي لا إشكال فيه، هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من حديث: {أليسوا يحلون لكم الحرام فتطيعوهم، ويحرمون عليكم الحلال فتطيعوهم، قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم} .(50/12)
الحذر من الاعتداد بالنفس في الترجيح
ولكن علينا -أيها الإخوة- أن نعرف قدر أنفسنا، وعلى كل إنسان منا أن يعرف قدر نفسه، وباعه في العلم، وقدر العلم الذي حصله، والمدة التي قضاها في طلب العلم، بحيث لا يكون عند الإنسان اعتداد مفرط بشخصيته، يدعوه إلى أن يطِّرح أقوال الأئمة بكل سهولة، وليست القضية أن يطرح قول إمامه فقط، بل قد يترك الإنسان قول جمهور العلماء، بل قول الأئمة الأربعة إلى قول مأثور عن إمام من الأئمة، بكل سهولة ويسر، وليس لأن الدليل واضح وبين؛ لأن الدليل لو كان واضحاً وبيناً لكان واضحاً لغيره من العلماء، ولكن لأن هذا الإنسان يوجد لديه اعتداد بنفسه، وخاصة حين يكون في فترة الشباب -وأرجو من إخواني الشباب ومن أخواتي ألا يؤاخذوني إذا قلت مثل هذا الكلام، فأنا واحد منهم.
وأنا حين أقول ذلك أنتقد نفسي كما أنتقد غيري- إننا نحن الشباب في كثير من الأحيان، نميل إلى مخالفة المألوف والمعروف، ونميل إلى بعض الأقوال ولو لم يكن دليلها قوياً لمعنى قام في نفوسنا، ويعجبني في هذا المقام الكلمة التي ربت بها أمنا عائشة رضي الله عنها أحد الشباب الذين كانوا يتفقهون، وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، فقد كان من التابعين الذين يتلقون العلم عن الصحابة وعن أمهات المؤمنين، فكان يخالف في بعض المسائل، فسأل عائشة رضي الله عنها -كما يقول هو فيما رواه مالك في الموطأ والترمذي، أنه سال عائشة رضي الله عنها- فقال لها: يا أم المؤمنين متى يجب الغسل؟ وهو بهذا يتساءل عن قضية اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم، هل يغتسل الرجل بالإنزال أو يغتسل بمجرد أن يجاوز الختان الختان؟ ولا شك أن القول الصحيح أن الرجل إذا جاوز ختانه ختان المرأة وجب عليه الغسل ولو لم ينزل، فقالت له عائشة رضي الله عنها تؤدبه: [[يا
أبا سلمة إن مثلك كمثل الفروج -يعني الديك الصغير- سمع الديكة تصيح فصاح بصياحها، ثم قالت له إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل]] وكثير منا نحن الشباب ذكوراً وإناثاً، يكون الواحد منا كمثل الفروج سمع الديكة تصيح فصاح بصياحها.
ولذلك تجد الواحد منا -أحياناً- وهو لا يزال في بداية الطلب يبحث في مسألة فيقول: المسألة فيها أقوال كذا وكذا، وعندي أن الصواب كذا وكذا، وكلمة عندي من الكلمات التي لا يستعملها إلا العلماء أو الناس الذين لهم قدر.
وكذلك تجد بعض الإخوة إذا ألف كتاباً أو رسالة أو تكلم يكتب في الصفحة الواحدة أو بين كل كلمة وأخرى: قلت، وقلت، وهذه الكلمة -أيضاً- لا ينبغي أن يستعملها إلا العلماء، وهكذا استعمال ضمائر المتكلمين، ونرى، ويظهر لنا، وما أشبه ذلك كل هذه الأشياء، وإن كانت أموراً شكلية، إلا أنها تدل على نوع من الاعتداد الزائد بالرأي وبالشخصية، وأرجو ألا يفهم كلامي هذا خطأ، فأنا لا أدعو إلى الجمود على قول معين -كما قلته صراحة- ولا إلى ترك الحق الظاهر، لأنه مخالف لقول الجمهور -مثلاً- كلا، وإنما أدعو إلى الاعتدال فلا نجمد عند تقليد إمام معين.
كذلك لا تنعكس الأمور فيصبح الواحد منا وهو لم يحفظ الأربعين النووية -مثلاً- أو لم يحفظ من آيات الأحكام إلا القليل، أو لا يعرف في اللغة العربية إلا شيئاً يسيراً، يتصدى للكلام في المسائل العويصة ويفتي فيها، دون نظر في أقوال الأئمة.(50/13)
حرص الأئمة الأربعة على اتباع الحق
أولاً: هؤلاء الأئمة المتبوعون -وخاصة الأئمة الأربعة- كلهم حريصون على معرفة الحق واتباعه، وكلهم يأخذون بالقرآن والسنة، فإذا صح لديهم الحديث فهو مذهب الواحد منهم لا يقبل عنه بديلاً، وما أكرمهم الله عز وجل بما أكرمهم به من قبول المسلمين لهم عامة وخاصة، إلا لما وصلوا إليه من صدق الاتباع وتجنب الابتداع، فالذين يدعون إلى التعصب لإمام من الأئمة يجنون على الإمام نفسه، فقد تجد -مثلاً- من يقول لك: يجب اتباع الإمام أبي حنيفة فقط، لماذا؟ فيقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سراج أمتي أبو حنيفة، وهذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يأتيك آخر فيقول لك: يجب اتباع الإمام مالك، تقول له: لماذا؟ فيقول لك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وأحمد وغيرهما: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة} وينزل هذا الحديث على الإمام مالك، ويبني عليه نتيجة غير صحيحة، وهي أنه يجب اتباعه، وقد يأتي ثالث فيقول لك: يجب اتباع الإمام الشافعي، تقول له: لماذا؟ يقول لك: لأن الإمام الشافعي قرشي والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه: {الأئمة من قريش} ورابع يقول لك نتبع الإمام أحمد، وخامس وهكذا، فنقول هؤلاء الأئمة كلهم يقتبسون من مشكاة الكتاب والسنة، وأقوالهم على العين والرأس، لأننا نعتقد عقيدة في قلوبنا أنه لا أحد منهم يتعمد مخالفة ما صح لديه من مفهومات الكتاب والسنة.(50/14)
محاذير في موضوع التفقه
النقطة الثالثة والأخيرة في موضوع المحاضرة، هي الإشارة إلى بعض المحاذير التي يُخشى من وجودها في واقعنا اليوم:-(50/15)
الفتيا
المحذور الخامس: قد يقول البعض أنا لا أفتي، وإنما أنا أنقل فتاوى أهل العلم، وكثير من الناس يتساهلون في نقل الفتيا، حتى العوام أحياناً، تجده في المجلس يقول لك: أنا كنت في مجلس الشيخ فلان؛ فسئل عن كذا فقال كذا، وقد يتكلم في مسائل كثيرة، ولا شك أن نقل الفتيا، ليس مثل الفتيا نفسها، لكن هل كل إنسان يحق له أن ينقل الفتيا؟ أقول: لا، لا ينقل الفتيا إلا من فهمها فهماً جيداً أولاً، ثم من كان لدية القدرة على نقلها بصورة صحيحة، ثم من يوثق بأنه يملك قدراً من العلم يجعله يعرف الفرق بين الأشياء، ويدرك ما يؤثر في الحكم وما لا يؤثر، وما يغير معنى الكلام وما لا يغير.
واليوم -أيضاً- أصبحت وسائل التوثيق موجودة، وبإمكانك أن تكتب هذه الفتيا على ورقة أو أن تسجلها في شريط، حتى تكون موثقة ومطمأناً إليها، فلو أحببت أن تنشرها للناس، فأطلع عليها هذا العالم الذي أفتى بها، وافترض أنك سألت عالماً عن مسألة، فأفتاك فيها بقول وقد يكون أفتاك بملابسات شخصية تعنيك أنت، وقد يكون تسامح في العبارة، فاكتب هذه الفتيا في ورقة واعرضها على الشيخ، وقد حصل أن أحد العلماء المشار إليهم بالبنان، كان يتكلم مع طلابه، وطلابه يسجلون ما يقول ويكتبون بعده، فلما عرضوه عليه، أصلح منه أشياء كثيرة، وعدل وزاد ونقص، وهذا أمر طبيعي ليس بالغريب، لكن يجب أن نفهمه حتى لا ننقل فتيا أحد إلا بعد التثبت منها.(50/16)
النوازل
المحذور السادس والأخير: هناك نوازل وقضايا جديدة وجدت في واقع المسلمين اليوم في مجالات كثيرة، خاصة وعامة، على مستوى الفرد والمجتمع، فيما يتعلق بالمرأة وفيما يتعلق بالرجل، وهي أشياء كثيرة، وكل واحد منكم يعرف منها الكثير، وهذه النوازل الكلام فيها أصعب من الكلام في غيرها، بل إن بعض هذه النوازل من الصعوبة بحيث لو عرضت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، وتجد بعض الإخوة، قد يتكلم فيها بكل يسر وسهولة وبساطة، ثم يقول: لا تعقدوا الأمور، ولا تحولوا بين الناس وبين دين الله، دعوا الناس ليأخذوا من القرآن والسنة بسهولة، ولا تضعوا هذه العراقيل أمامهم! فنقول: إن الله عز وجل قد يسر القرآن للذكر كما أخبر عز وجل، وصحيح أنه لا يجب المبالغة في وضع العقبات والعراقيل أو اشتراط الشروط المعينة في الإنسان الذي يريد أن يأخذ من القرآن والسنة، لكن من المعروف في كل مجال أن كل علم أو فن له أهله، فمثلاً الأطباء لا يرضون أن يتدخل مهندس فيتكلم في قضاياهم، ويعطى وصفات طبية -مثلاً- ويعتبرون هذا نوعاً من الخطأ، يعاقب عليه الفاعل والعكس كذلك.
فما بال القضايا الشرعية هي التي أصبحت يتدخل فيها كل أحد، ونحن لا نمانع أن يتكلم الطبيب أو المهندس أو أي نوعية من الناس في قضايا الدين بعدما يتحقق فيه قدر معين من الشروط، ولابد من الاتفاق على هذه الشروط، أما أن يتكلم الإنسان في هذه الأمور دون أن يكون له فيها خلفية، فهذا يسيء أكثر مما يحسن، ويفسد أكثر مما يصلح.
وأقول في الختام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] .(50/17)
الأخذ عن الشيوخ
المحذور الرابع: هو اعتماد الإنسان على نفسه في تلقى العلم دون العناية بالأخذ عن الشيوخ.
وقديماً قيل: من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، وكان يزيد بن هارون رحمه الله يحث الطلاب على حضور مجالس العلم والأخذ عن الشيوخ، ويقول: من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب، فبقدر تخلف الإنسان عن حضور مجالس العلم والأخذ من العلماء ينقص تلقيه، واليوم أصبحت الوسائل أكثر تيسيراً، فبإمكان الإنسان أن يحضر حلقات المشايخ والعلماء ودروسهم وغير ذلك.
لكن قد يقول قائل: ربما لا يتيسر لي ذلك وقد يتساءل البعض بالنسبة إلى الأخوات الحريصات على التفقه.
فأقول: إن الأمر قد أصبح ميسوراً أكثر من ذي قبل، وعلى سبيل المثال، نجد أن دروس العلماء والأئمة تسجل في أشرطة، وتنشر بين الناس في كل مكان، فتجد أشرطة للشيخ ابن باز والشيخ ابن جبرين والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الألباني وغيرهم من أهل العلم وهذه الأشرطة متخصصة ومتسلسلة، وفى علوم شتي، فيأخذ الإنسان يمسك فناً من الفنون أو علماً من العلوم، ويسمع هذه الأشرطة ويتابع في الكتب التي تشرح، ويسجل كل ما أشكل عليه في ورقة ثم يسأل عنه، سواء بصفة مباشرة أم بواسطة التليفون، أم بغير ذلك، فقد أصبحت الوسائل اليوم ممكنة في الأخذ عن العلماء والاستفادة من علمهم أكثر من أي وقت مضى، وأنصح نفسي وإخواني وأخواتي بالحذر من الاعتماد على النفس في العلم، لأن الإنسان كلما ازداد علمه كلما ازداد علماً بجهله، كما يقول الشاعر:- وكلما أزددت علماً ازددت علماً بجهلي وهذا -والله- حق فكلما ازداد الإنسان اطلاعاً على العلم ومعرفة له كلما ازداد علمه بجهله، لأنه يدرك حينئذ أن العلم بحر، لا يدرك له ساحل، وأن ما حصله منه إنما هو شيء يسير بالقياس إلى ما يجهله، وهذا يجعله يتواضع ويدرك الحاجة الدائمة إلى الأخذ عن العلماء والتلقي عنهم والاستفادة منهم.(50/18)
الاستعجال في أخذ العلم
المحذور الأول: بعض الإخوة والأخوات الحريصين على التفقه -زادني الله وإياهم علماً وفقهاً- يبلغ الحرص بهم أن الواحد منهم يتمنى أن يحتقب -يجمع- العلم ويجمعه كله في أقصر وقت ممكن، فتجده يجهد نفسه من جهة ويشغل نفسه بألوان كثيرة من العلم من جهة ثانية، وينسى قضية التدرج في العلم، وقد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم عن بعض السلف أنهم قالوا: من أراد أن يحصل العلم في يوم وليلة فهو مجنون، وليس المقصود في يوم وليلة، أي في أربع وعشرين ساعة، بل المقصود الإشارة إلى قضية التدرج، وعامل الزمن، وأنك حين تتجه لطلب العلم الشرعي، يجب أن تدرك أنك محتاج إلى وقت طويل حتى تحصل على هذا العلم، قد تحصل على علم بمسألة معينة، لكن أن تحصل على علم واسع، وبمسائل شتى وفي فنون متعددة، فإنك تحتاج إلى وقت طويل.(50/19)
الحذر من التناحر في الخلاف
المحذور الثاني: هو جعل الخلاف الفقهي سبباً للتناحر، بحيث أنني بحثت مسألة فوصلت فيها إلى حكم، وبحثت أنت مسألة فوصلت فيها إلى حكم آخر مخالف، فتجد أنه أصبح بيني وبينك خصومة وتناحر وتباعد أحياناً، وتحزب على هذا الأساس، ولذلك يأتي بعض الناس في الشق الآخر فيقول: يجب عدم طرق هذه الموضوعات، لماذا؟ قال: لأنها تثير الخلاف بين المسلمين، وتثير العداوة، فهذا خطأ.
بل نقول: يجب طرق القضايا الفقهية والقضايا الفرعية وبحثها والحديث عنها ونشرها بين الناس، ولا يعني الاختلاف فيها بيني وبينك أنني أتخذ منك موقفاً لأنك خالفتني في مسألة أو لأنني خالفتك في مسألة، والناس يقولون كلمه حق: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وعوامل الأخوة والتقارب بين المسلمين أقوى بكثير من عوامل التباعد مع أن الاختلاف بمجرده ليس من عوامل التباعد.(50/20)
الجرأة على الفتوى
المحذور الثالث: هو الجرأة على الفتوى.
وأقول: يجب أن يفرق بين عمل الإنسان بالشيء لخاصة نفسه، وبين فتياه لغيره، فالإنسان قد يجد نفسه -أحياناً- مضطراً لأن يفتي لنفسه في مسألة من المسائل، ولو لم يكن أهلاً لذلك، لكن أن ينشر هذه الفتيا على الناس، بأي وسيلة من وسائل النشر، فهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأن الناس أصبحوا يتعبدون الله عز وجل بفتياه، وقد أشار إلى الفرق بين فتيا الإنسان لنفسه خاصة، وبين فتياه للناس عدد من الأئمة، منهم الإمام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم في الجزء الثاني الصفحة الثمانين.(50/21)
الأسئلة(50/22)
النسبة إلى المشايخ
السؤال
ماذا تقول في الشباب الذين يسمون بالألبانيين وكذلك النساء؟
الجواب
يسمون -كما يقول الأخ السائل- بالألبانيين، نسبة إلى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو من الأئمة والعلماء المعاصرين الذين خدموا السنة النبوية خدمة جليلة، ولا يبعد أن يصدق فيه قول بعض أهل العلم: أنه لا يعرف في زماننا هذا أحد خدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما خدمها الشيخ حفظه الله وأمد في عمره على عمل صالح وتقبل منا ومنه.
وهؤلاء المنسوبين إلى الشيخ لا أعتقد أنهم يرضون بهذه النسبة أو يوافقون عليها، وإنما قد يسميهم بها غيرهم من الناس لملحظ لحظه، وهو أنهم يعتنون كثيراً بكتب الشيخ وبالأخذ عنه.
وأقول: لا يجوز الانتساب لأي شخص معين حين يكون هذا الانتساب يعين التلقي عنه دون غيره أو التعصب له أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن هذا موجوداً لدى كثير من هؤلاء الشباب والأخوات، لكن من الحق أن أقول: إن الحي دائماً يملك من وسائل الانتشار أكثر من الميت، ولذلك يقول الشاعر:- والحي قد يغلب ألف ميت فمن هو الذي يمكن أن يقول أنه سيوجد على مدى التاريخ إمام كالإمام البخاري أو الإمام أبي حاتم الرازي أو أبي زرعة أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من الجهابذة، وقد أصبح كثير منا يسمع حكم الإمام أحمد أو الإمام البيهقي أو الإمام البخاري أو الدارقطني على الحديث مثلاً، فلا يعير هذا الحكم اهتماماً، فإذا سمع من يقول صححه فلان من العلماء المعاصرين اعتبر هذا أمراً نهائياً، وهذا إن وجد فهو يعتبر خطأ، وهؤلاء العلماء أنفسهم لا يرضون مثل ذلك؛ لأنهم من الفضل بحيث لا يقرون أن يقلدهم الناس ويتركوا غيرهم دون معرفة بالدليل، ويقول البعض: لأن هؤلاء المشايخ المعاصرين يذكرون الحديث ويفصلون القول فيه والتخريج، وأقول ارجع قليلاً إلى الوراء وانظر إلى إمام كالحافظ ابن حجر -مثلاً- في خدمته للسنة واستحضاره للأدلة، وجمعه للطرق فإنك تجده فذاً ولا يكاد يكون له نظير، واقرأ في فتح الباري، واقرأ في كتابه نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، واقرأ في غيرها من الكتب فإنك تجد العلم الغزير -أيضاً- فكما يوجد عند العلماء المعاصرين فضائل هي -أيضاً- موجودة وأكثر منها عند المتقدمين.
وأقول: يجب على كل طالب علم أن يوقر أهل العلم ويعظمهم ويثني عليهم ويعرف لهم قدرهم ويدافع عنهم ضد من قد ينال منهم، يستوي في ذلك الشيخ الألباني وغيره من العلماء، لكن لا يعني هذا أن يقصر الإنسان نفسه على التلقي على هذا الشيخ والتشبع بآرائه وشغل الحياة كلها بالدعوة إلى هذه الآراء والنقاش حولها وإقناع الناس بها، خاصة إذا كان هناك أراء فقهية، خولف فيها هذا العالم الجليل من قبل علماء آخرين أجلاء، سواء من العلماء الماضين أو من العلماء المعاصرين، وكل يؤخذ من قوله ويترك.
ولكن أقول بالمناسبة يجب أن نحمي ظهور هؤلاء العلماء، لأننا نجد بعض أهل البدع وبعض المنحرفين وبعض الجهال قد ينالون من هؤلاء العلماء أو يطعنون فيهم أو يسبونهم والعياذ بالله فعلى المسلم أن يذب عن عرض أخيه، فضلاً عما إذا كان عالماً له منزلته ومكانته، ولحمه مسموم ولا يجوز النيل منه، فعلينا أن نحتسب عند الله حماية ظهور هؤلاء العلماء والدفاع عنهم، ومعرفة قدرهم دون أن يؤدي بنا ذلك إلى أن نرفعهم فوق رتبتهم حيث هم لا يريدون ذلك، وهو -أيضاً- أمر غير مطلوب شرعاً.
والحمد لله رب العالمين.(50/23)
استفت قلبك
السؤال
إنه لا يجوز أن يرتمي الشخص إلى ما ترتاح إليه النفس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {استفت نفسك ولو أفتاك الناس} ما معنى هذه العبارة؟ وما مدى صحة هذه العبارة؟
الجواب
العبارة في حد ذاتها صحيحة، وكيف نسأل عن صحتها وقد قالها رسول الله صلى عليه وسلم؟ لكن لعل السائل يسأل عن صحة الحديث، فالحديث صحيح، لكن يجب أن نعرف معنى هذه العبارة، ومتى يحتاج إليها الإنسان.
فإن الإنسان في كثير من الأحيان قد يعرف الحق فيتمحل الوسائل لترك الحق إلى الباطل؛ لأن الحق لا تأنس به نفسه والعكس، فقد يعرف الإنسان الباطل والخطأ فيتمحل الوسائل والتأويلات للوقوع في هذا الخطأ؛ لأنه مع أنه أمر يريده يعرف أنه في قرارة قلبه أن هذا الأمر خطأ.
الأمر الثاني: إن الإنسان الذي رزق تقوى واستقامة ونقاء وصفاء في قلبه، بلا شك أن قلبه قابل للحق أكثر من ذلك الإنسان هو الذي مظلم القلب.
الأمر الثالث: أن العلماء ومنهم ابن عبد البر ذكروا أنه قد يوجد حالة محدودة ونادرة وتعتبر استثناء من الأصل قد يلجأ الإنسان فيها لمثل هذا، وذلك متى؟ حين يبحث في المسألة ويجمع الأدلة، ويسأل الناس، ثم يقف مع ذلك كله غير قادر على الترجيح بواسطة الدليل فهذا منتهى قدرته، فحينئذٍ يمكن أن يلجأ إلى ما تطمئن إليه نفسه بعد ذلك.
ولذلك تجد بعض العلماء الكبار المشار إليهم، يقول: والذي تطمئن إليه النفس، لكن اطمئنان نفسه ليس على سبيل التشهي والرغبة، بل لأنه من كثرة ممارسته لبحث النصوص، وكثرة سماعه لها ومعالجته لها، تكون لديه ملكة في ذلك، كما كان يوجد لدى بعض المحدثين ملكة يعرفون بها علل الحديث، ولو لم تكون العلل ظاهرة.(50/24)
التأثير النفسي على طلب العلم
السؤال
هل تأثر الحالة النفسية على طلب العلم، كأن يبحث الرجل مع أخ يحبه في الله، أو يبحث مع شخص يبغضه في الله؟
الجواب
لا شك أن الحالة النفسية ذات تأثير كبير في تحصيل الإنسان وطلبه، ولذلك على الإنسان حين يطلب العلم أن يبحث على الوسائل المعينة المريحة لنفسه، كأن يبحث في جو مناسب، وفي جو هادى، وفي وسط قوم يحبهم، فيبحث وهو مرتاح، أما لو بحث وهو منفعل مثلاً، أو هو مشغول القلب في أمر من الأمور أو في وسط قوم يكره مجالستهم أو مثل ذلك، فهذا لا شك يؤثر في تحصيله.(50/25)
التفضيل بين العلماء
السؤال
هل يجوز التفاضل بين العلماء، كأن يقال: إن الشيخ فلان بن فلان، أفقه من الشيخ فلان بن فلان؟
الجواب
الناس يتفاوتون، والله سبحانه وتعالى يقول بالنسبة لرسله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] فالتفاضل موجود بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين الناس وبين العلماء، لكن لا يجوز أن يكون هذا التفاضل بين العلماء مدعاة للتحزب والتعصب، أو سبباً في معارك تثور بين أتباع هذا الإمام وأتباع هذا الإمام، وكل ينتصر لنفسه، أو أن تكون بقصد تنقص الشخص المفضول ونسبته إلى شيء من الخطأ أو التقصير أو ما أشبه ذلك.(50/26)
إشارة لبعض كتب الفقه
السؤال
أرجو الإشارة إلى بعض الكتب النافعة للتفقه في الدين وكذلك الأشرطة، وهل تنصح بسماع الأشرطة الخاصة بالأمور الفقهية من شيخ واحد أو من عدة مشايخ؟
الجواب
بالنسبة للكتب المعينة على التفقه فكثيرة جداً، أذكر منها: كتاب لـ ابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، ويوجد كتاب للخطيب البغدادي رحمه الله اسمه الفقيه والمتفقه، ويوجد مجموعة من الكتب في آداب طالب العلم والمتعلم، مثل: تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة، ومثل تعليم المتعلم طرق التعلم للزرنوجي، ومثل الحث على طلب العلم للعسكري، ومثل كتاب منتهى الإرب للشوكاني، وغيرها من الكتب وأنصح الإخوة والأخوات الحريصين على التفقه، أن يقرءوا هذه الكتب ويستخرجوا منها الفوائد المتعلقة بطريقة التعلم ووسيلتها فهي كتب نفيسة.
أما بالنسبة للتلقي عن الشيوخ، فأنصح نفسي وإخواني وأخواتي بأن يعدد الإنسان وينوع مشايخه الذين يتلقى عنهم، حتى يكون عارفاً بخلاف الناس، ويكون لديه قدرة على اختيار الأسلم والأقرب، وحتى يسلم من التعصب لشيخ معين أو لرأي معين، وحتى يكتشف ما قد يقع فيه شيخه من أخطاء.
ولذلك قال أيوب رحمه الله كما في سنن الدارمي: إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فجالس غيره.(50/27)
مشكلة ضعف الحفظ
السؤال
كثير من الأسئلة جاء على نمط السؤال التالي:- أنا أريد أن أكون من الداعيات إلى الله بما علمت من الحق، وأريد أن أساعد أخواتي المسلمات بمعرفتي فيه، ولما أرى، مما تقع فيه الفتاة الملتزمة، وقد بدأت أتعلم في مدرسة ولكني أشكو إلى الله تعالى قلة حفظي ونسياني كثيراً من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وأيضاً لا أعرف كيف ومن أين أبدأ، وأي الأمور أهم بالنسبة لي، فهلاَّ ساعدتموني، جزاكم الله خيراً.
الجواب
لعل هذا السؤال ينم بلا شك عن حرص شديد على تحصيل العلم, وأعود فأقول: ربما يكون الاستعجال -أحياناً- سبباً في فوات بعض الخير على الإنسان، فعلى الشاب والشابة ألا يكونا عجولين بتحصيل العلم، وأن يحرصا على الأناة وطول النفس، ومع الزمان والدأب والإصرار يحصل المرء على خير كثير، ولو أن الإنسان كلما قرأ أو سمع حفظ لوجدت أن كثيراً ممن يوجدون اليوم بيننا جهابذة يفوقون غيرهم من العلماء السابقين لأنهم قرأوا وسمعوا الكثير، ولأنهم قرأوا ما كتبه أولئك وما كتبه من بعدهم، لكن كل الناس يقرأ فينسى، ثم يقرأ نفس المعلومة مرة ثانية فينساها ثم يقرؤها مرة ثالثة فترسخ في ذهنه، فالتكرار والبدء والإعادة هو سبب مهم جداً في الحفظ والاحتفاظ بالمعلومات.
قضية ثانية وهي: أن الاستمرار في هذا الأمر والتدرب عليه يوسع عقل الإنسان ويقوي ذاكرته، وهذه القضية عرفها سلفنا الصالح، فيقول الزهري مثلاً: إن الإنسان ليطلب العلم، وقلبه كالشِّعب فما يزال يطلب العلم حتى يكون قلبه كالوادي، يعني أن الإنسان من استمراره في طلب العلم تتسع مداركه وتقوى ذاكرته، كما أن هذا الأمر قد عرفه التربويون المعاصرون وتحدثوا عنه، وهو أن الذاكرة تقوى بالتمرن والاستمرار والتدريب.
فعلى الأخت أن تستمر في هذا الطريق، وأن تدرك أنها حتى لو انتهت أيامها وهي في هذا الوضع التي تتحدث عنه، فهي في جهاد، ومن الجميل أن يلقى الإنسان ربه على مثله إذا حسنت النية وحسن القصد، وإننا بالاستمرار والدأب نحصل على شيء كثير، لكن علينا أن نتجنب الاستعجال.(50/28)
ذم البغي في الخلاف
السؤال
يقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19] يقول بعض الناس مستدلاً بهذه الآية لا ينبغي العلم والتعلم لأنه يوجب الخلاف بين الناس، فما رأي فضيلتكم في هذا؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
هل الله سبحانه وتعالى ينعي على أهل الكتاب الخلاف بسبب العلم؟ كلا، بل بسبب البغي، فهذه الآية دليل على تحريم البغي بين الناس، أما أن العلم جاءهم، فهذا وصف لإقامة الحجة عليهم، فالله عز وجل يقول لم يكن اختلافهم ناتجاً عن وجود الجهل، وإنما كان اختلافهم مع وجود العلم، إذاً فما السبب؟ السبب هو البغي.
إذاً: فالجهل من أسباب الخلاف والبغي من أسباب الخلاف، أما العلم فإنه من أسباب جمع الكلمة، لأن العالم الحقيقي هو من يملك سعة في صدره، وفسحة في قلبه، وإدراك أن هذا الخلاف بين الناس ما دام منطلقاً من الكتاب والسنة، وما دام المخالف متبعاً لدليل فإنه يسعه ذلك، ولا ينبغي أن أتخذ منه موقفاً معادياً.(50/29)
خطأ مشهور
تحدث الدرس عن حكم بعض المسائل الشرعية وبعض الأخطاء والاعتقادات المشهورة عند بعض الناس مثل التهنئة بشهر رمضان وهذه عادة لا عبادة، واعتقاد المرأة عدم صحة الصيام إن حاضت بعد أذان المغرب مباشرة، وأحكام الفطر للمسافر، وذكر بعض المفطرات، وأهمية تبييت النية في الفرض، وحكم السواك والحجامة والدم الخارج من الجرح، وغيرها.(51/1)
تصحيح الخطأ وإعلان الصواب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذي قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في هذه الليلة -وهي ليلة الأحد السابع من شهر رمضان، من هذا العام عام (1413هـ) - تكتمل اللقاءات المتفق على عقدها في هذا المجلس، وسوف ننتقل بعد غدٍ -إن شاء الله تعالى- إلى مسجد الشيخ عبد الله الجاسر لإكمال هذه الدروس في ليلة الثلاثاء، وقد كنت تحدثت في أول ليلة، كلمة قصيرة بعنوان: (كتب عليكم الصيام) وفي الليلة الثانية كانت رسالة إلى أحد الإخوة، وعنوان هذه الكلمة: (رسالة خاصة) أما اليوم الثالث، والرابع فكانت عن (جهاد المرأة) وفي الأمس جاءكم فضيلة الدكتور/ عبد الله بن حمود التويجري وفقه الله تعالى وجزاه الله تعالى خيراً.
أما اليوم، فلي حديثٌ إليكم وإلى الأخوات الكريمات بعنوان: (خطأ مشهور) وفي بعض الأمثال يقول الناس: خطأ مشهور خير من صواب مغمور، يعني: خفيٌ مستور، والواقع أن هذا الكلام ليس بصحيح، بل إن الخطأ يجب تصحيحه، ولو كان مشهوراً، وكلما زادت شهرة الخطأ تعين إصلاحه وبيانه والتنبيه عليه، وهكذا بالنسبة للصواب والحق، فكلما كان خفياً كان إعلانه أوجب وألزم، ولهذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء، وقال في الحديث الذي رواه ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما وهو في صحيح مسلم وغيره: {فطوبى للغرباء} ووصف الغرباء -كما في بعض الآثار- بأنهم: {يصلحون إذا فسد الناس -أو يُصلحون ما أفسد الناس-} لأنهم ينشرون السنة إذا خفيت، ويحاربون البدعة إذا ظهرت، ويأمرون بالمعروف إذا ترك، وينهون عن المنكر إذا شهر وفُعل، وإذا كان هذا الكلام -خطأ مشهور خيرٌ من صواب مغمور- في الأمور اللغوية مثلاً، أو ما أشبه ذلك فالأمر أهون وأيسر، أما في المجالات الشرعية فإن الأمر يختلف، ومن هنا أحببت التنبيه للإخوة والأخوات على بعض الأحكام التي هي على ظهورها وشهرتها ومعرفتها إلا أنه يكثر اللبس فيها، والخطأ والسؤال عنها، مع أنها تكرر مرة بعد أخرى ويتكلم عنها المفتون والمرشدون، والمعلمون، والوعاظ والمتحدثون في المساجد، إلا أن الإنسان يكتشف أن المجتمع بحاجة إلى مزيدٍ من التوعية والإرشاد، ويا ليت وسائل الإعلام التي دخلت كل بيت جُندت لهذا الهدف؛ لتعليم الناس أمور دينهم وتوعيتهم بأحكام ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لفعلت خيراً كثيراً، ولكفَّت عن الناس شراً كثيراً، ولكفتهم مئونة عظيمة، ولكن إلى الله المشتكى، فإن وسائل الإعلام ليست إيجابية بل هي على النقيض من ذلك، فهي تعمل على هدم ما يبنيه المسجد وما يؤسسه الداعية وما يصنعه الكتاب أو الشريط وكما قيل: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم(51/2)
مسائل يكثر اللبس فيها
أيها الإخوة، وهذه المسائل: هي مسائل فقهية عملية، وقد اخترت منها ما يتعلق بالصيام على الأغلب، وسوف أكملها -إن شاء الله تعالى- فيما بعد، كما إنني لم أحرص على ترتيب هذه الأشياء بحسب الموضوعات، وإنما عملت على ذكرها كيفما اتفقت؛ ليكون ذلك أنشط للذهن حيث ينتقل من موضوعٍ إلى آخر.(51/3)
حكم استخدام حبوب منع الدورة الشهرية أو الحمل في رمضان
سابعاً: ومن المسائل أيضا التي تحتاج إلى بيان، هو أن كثيرٌ من النساء تسأل عن حكم استخدام حبوب منع الدورة الشهرية أو حبوب منع الحمل في رمضان من أجل أن تواصل الصيام إلى نهاية الشهر، ومن أجل أن تصلي مع المسلمين، فما حكم تناول هذه الحبوب؟ أقول: الراجح -إن شاء الله تعالى- أنه يجوز للمرأة أن تتناول هذه الحبوب في ليل رمضان من أجل ألا تأتيها العادة الشهرية، حتى تصوم الشهر كله، وحتى تصلي مع المسلمين أو من أجل أن تعتمر إذا كانت ذاهبة إلى العمرة.
فالراجح أن ذلك جائز إذا كان لا يضر بصحتها، وإذا تناولت المرأة هذه الحبوب، ثم توقف عنها الدم فلم يأتها، فحينئذٍ واجب عليها أن تصوم تلك الأيام، وأن تصلي وليس عليها قضاء؛ لأنها صامت، فكيف تقضي وقد صامت.
وبعض النساء، بل كثير منهن تعتقد أنها تتناول هذه الحبوب من أجل الصلاة ثم تصوم؛ لأنه لم يأتها الدم ثم تقضي الصيام بعد ذلك، وتظن أن الصيام وقت عادتها مع أن الدم لم يأتها لا يجزئ، وهذا خطأ، إذاً ما دام أن العادة انقطعت عنها، وأدت الصوم في وقته المعتاد -في رمضان مع المسلمين- وهو صوم صحيح، فأي معنى لكون المرأة تقضي الصيام بعد ذلك في شوال أو في غيره من الشهور، فهذا خطأ.(51/4)
حكم صيام من به مرض لا يرجى برؤه
ثامناً: وكذلك من المسائل: مسألة المريض الذي أصابه مرضٌ لا يُرجى برؤه، مثل ما يسمى بالجلطة -مثلاً- أو السرطان، أو التليف، أو ما أشبه ذلك من الأمراض الشديدة التي يغلب على من أصيب بها ألا يشفى أو يعافى منها، إلا في حالات نادرة، فما حكم هذا الإنسان وهو لا يستطيع الصيام، أو نصحه الأطباء بعدم الصيام؛ لأن الصوم يزيد في مرضه؟! فهذا الإنسان يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، نصف صاعٍ من برٍ أو أرز أو نحوهما، سواء أطعم في اليوم نفسه، أو أطعم بعد انتهاء رمضان، وكل ذلك جائز، ولا يضره.
ولا يضره -أيضاً- أن يكرر الإطعام لمساكين بأعيانهم، بمعنى أنه أطعم مجموعة من المساكين للأسبوع الأول، ثم في الأسبوع الثاني أعاد الصدقة والكفارة عليهم هم أيضاً، فهذا لا مانع منه ولا يضره، وليست مثل كفارة اليمين، فإن كفارة اليمين لابد فيها من إطعام عشرة مساكين، كما ذكر الله تعالى في كتابه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] فبالنسبة لكفارة اليمين، لابد من إطعام عشرة مساكين، فلو أطعم تسعة، لم يكمل الكفارة بأكملها بل لا بد أن يبحث عن عاشر غيرهم ويطعمهم، أما بالنسبة لكفارة الصيام، فلو أعادها على مساكين، وكررها عليهم، فإن ذلك لا يضره شيئاً.(51/5)
حكم صيام من افتقد عقله
تاسعاً: وأيضاً مما يتعلق بذلك لو كان هذا المريض أو الكبير قد فقد عقله، وأصبح في حالة الخرف والشيخوخة، وهو لا يدري، ولا يعرف الليل من النهار، بل يعود -أحياناً- أقل من الطفل الصغير فلا يعرف شيئاً مما حوله، فهو قد فقد عقله وانتهى وأصبح لا يمر به يوم وهو مالك عقله، فإن مثل هذا ليس عليه صيام، ولا كفارة، بل قد سقط عنه التكليف، فهو في حكم المجنون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في السنن وهو حديث صحيح-: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ} فإن مثل هذا الإنسان المخرف ليس عليه صيامٌ ولا إطعام ولا على أهله ولا على أولاده شيءٌ من ذلك.(51/6)
مسألة كفارة اليمين
عاشراً: وكذلك من المسائل: مسألة كفارة اليمين: كثير من الناس والنساء خاصة يعتقدون أن كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيام، حتى أن من النساء من تظن أنه لا يجزئ في كفارة اليمين إلا صيام ثلاثة أيام، وهذا خطأ، بل صيام ثلاثة أيام عن كفارة اليمين لا يجزئ إلا لمن عجز عما قبلها، وهذا حكم منصوص بالقرآن الكريم قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] فهذه الأشياء الثلاثة على التخيير إما أن تطعم عشرة مساكين فتعطي كل مسكين نصف صاع، وليكن معه شيءٌ من اللحم، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإذا عجزت عن هذه الثلاث، حينئذٍ تنتقل إلى الصيام، ولهذا قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] أما من وجد واستطاع فواجب عليه الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة، ولو صام لم يجزئه الصيام.(51/7)
حكم التهنئة بشهر رمضان
أولاً: من المسائل التي يكثر اللبس فيها: مسألة التهنئة بشهر رمضان، فإن بعض الناس -بل أكثر الناس- يهنئ بعضهم بعضاً، كأن يقولوا: مباركٌ عليكم الشهر، أو هنيئاً لكم، أو تقبل الله منا ومنكم، أو ما أشبه ذلك، وآخرون لا يفعلون ذلك، وفئة ثالثة قد تنكر على من فعله، فما هو الحكم في ذلك؟ لقد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يهنئ أصحابه بقدوم رمضان، ولكن هذا الحديث لا يصح.
وجاء -أيضاً- عن السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يهنئ بعضهم بعضاً ستة أشهر على قدوم رمضان، ويعزي بعضهم بعضاً ستة أشهر على فواته، وهذا كذبٌ على السلف رضي الله عنهم، إذ لو فعلوا ذلك لاشتهر ونقل، ولم يكن هذا من عادتهم وديدنهم قطعاً.
فما هو حكم التهنئة بشهر رمضان؟ الأظهر أن هذا من قبيل المباحات والعادات، فإذا هنأ الناس بعضهم بعضاً فلا حرج في ذلك، ومن هنأ فإنه يرد، فإذا قيل له: تقبل الله منا ومنكم، فإنه يدعو بنحو هذا الدعاء، أو يقول: نسأل الله لنا ولكم القبول، أو جعله الله علينا وعليكم شهر خيرٍ وبركة، أو ما أشبه ذلك من العبارات والألفاظ التي هي داخلةٌ في المباحات، فهي من العادات، وليست من العبادات، ولهذا لم يثبت في الشرع: أنه يستحب أن يهنئ الناس بعضهم بعضاً بقدوم رمضان، ولكنه أمرٌ مباح، ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى إذا هنأه أحدٌ بالشهر رد عليه، وإلا لم يبتدئه هو بالتهنئة، وهكذا هو الحال، وهذا الأقرب والأوجه، والله تعالى أعلم.(51/8)
لزوم الصيام قبل طلوع الفجر
ثانياً: مسألة اللزوم للصيام قبل طلوع الفجر، فإن كثيراً من العوام يعتقدون أن الإنسان إذا نوى الصيام قبل طلوع الفجر، فإنه لا يجوز له أن يعود فيأكل، أو يشرب، ويسميه بعضهم: الاستعقاب، فإذا انتهى من الأكل شرب ماءً، ثم يبدأ الصيام والإمساك قبل الفجر، وبعد ذلك لو أعجبه طعامٌ، أو قدم له شيءٌ فإنه لا يأكل، ويقول: نويت، والصحيح: أنه لا ينبغي للإنسان أن ينوي الصيام إلا مع الفجر، فتأخير الصيام إلى طلوع الفجر هذا هو المشهور والمشروع، وهو السنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {فَصْل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور} لأن أهل الكتاب لا يتسحرون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحور، وهو: أن يأكل الإنسان الطعام في وقت السحر، ولو نوى الصيام قبل طلوع الفجر ثم أعجبه طعامٌ، أو شرابٌ، أو اشتهى شيئاً منه، فإن له أن يأكل ويشرب، كما قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فهذا مما ينبغي التنبه عليه.(51/9)
الإصابة بالحيض بعد غروب الشمس في رمضان
ثالثاً: كثيرٌ من النساء تسأل عما إذا أصابها الحيض بعد غروب الشمس وبعد الإفطار وقبل أن تصلي المغرب، وتعتقد كثيرٌ كثيرٌ من النساء أنه إذا أصابها الحيض قبل صلاة المغرب، بل بعضهن تقول، قبل صلاة العشاء الأخير، فإنه لا يحسب لها صيام ذلك اليوم، وهذا خطأ أيضاً، فإن الصواب أن الإنسان إذا غربت عليه الشمس تم صومه ولا يضره ما حدث بعد ذلك، فالمرأة -مثلاً- لو أصابها الحيض بعد غروب الشمس حتى ولو قبل أن تفطر بلحظة واحدة فإن صومها صحيح، ويومها لها ولا قضاء عليها، هذا هو الصواب الذي لا شك فيه.
أما ما شاع عند النساء أنها إذا حاضت قبل الإفطار، أو إذا حاضت قبل صلاة المغرب أو إذا حاضت قبل صلاة العشاء أو إذا حاضت قبل أن تفطر وبعد أن أذن المؤذن وغربت الشمس أن عليها أن تعيد صومها فهذا باطل، بل صومها صحيح ما دام أن الشمس غابت وهي طاهرة لم تحض.
ومثل ذلك -أيضاً- أن كثيراً من النساء، خاصةً من كبيرات السن تظن أنه لا يجوز أن تصلي إلا إذا صلى الإمام في المسجد، سواء صلاة الفجر أو غيرها، فتعتقد كثيرٌ من النساء أنه لا يجزئها أن تصلي إلا بعد أن تصلي الجماعة في المسجد، والصواب أنه إذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] .
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن جبريل جاءه، فأمه -في مكة- في أول الوقت وفي آخره، والحديث صحيح، وكذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في أول الوقت وفي آخره وبين لهم المواقيت بقوله وفعله، فإذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي.
فالمرأة إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر وكان مؤذناً مأموناً جاز لها أن تصلي الفجر، فتصلي الراتبة -راتبة الفجر- ركعتين، ثم تصلي بعد ذلك صلاة الفجر، سواء كان المسجد المجاور لها قد صلى الفجر، أو لم يصل، تأخر أو لم يتأخر، فلا علاقة لصلاة المرأة بصلاة المسجد المجاور لها ولا غيره.(51/10)
وقت الفطر للمسافر
رابعاً: مسألة متى يفطر المسافر؟ وهذه يخطئ فيها كثيرون، أعني الذي ينوي السفر فهو مقيم ونوى السفر، فهذا لا يجوز له أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً، أما مجرد النية فلا تبيح له الفطر، ولهذا قال الله تعالى في شأن الصيام: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] فقوله: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) تدل على التمكن، أي أنه واقع في السفر، أو كأنه راكب للسفر، أي أنه مسافر فعلاً ومتمكن من السفر، فلا يجوز للإنسان أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً، أما مجرد النية في السفر فلا تبيح له أن يفطر، ولذلك كان العذر المبيح للفطر وللقصر بالنسبة للصلاة وللجمع ولسائر الرخص الشرعية هو السفر، وليس نية السفر، فمادام في بلده أو في بيته، فلا يجوز له أن يفطر، ولا أن يقصر الصلاة، ولا يجمع الصلاتين -أيضاً- حتى يسافر فعلاً.
أما إذا كان الإنسان يريد أن يسافر في الطائرة -وهذا مما يكثر السؤال عنه- فإذا كان قد حجز على طائرة معينة -حجزاً مؤكداً للسفر- وكان المطار خارج البلد -كما هو الحال في القصيم أو في الرياض أو في غيرها من البلاد التي يكون المطار فيها خارج المدينة- فإنه إذا خرج من المدينة إلى المطار بنية السفر، وهو حاجز فإنه يجوز له أن يتمتع برخص السفر حينئذٍ: من الفطر والقصر وغير ذلك.
أما إذا كان لم يحجز، وإنما ذهب لعله أن يجد رحلة يدركها فيسافر عليها، ويحتمل ألا يدرك، فإنه حينئذٍ لا يفطر ولا يقصر وليس مسافراً ما دام أن المطار ليس مسافة قصر، وجميع المطارات الموجودة في داخل هذه البلاد لا تعد مسافة قصر فإنها لا تتجاوز -في الأعم الأغلب- عشرين أو ثلاثين كيلو متراً والإنسان لا يذهب إليها بنية السفر إليها، ولكن يذهب بنية السفر منها إلى غيرها من البلاد.
إذاً: الخلاصة فيما يتعلق بالمسافر على الطائرة: أنه إذا كان قد حجز على الطائرة، وكان المطار خارج المدينة، فإذا خرج عن المدينة جاز له أن يتمتع برخص السفر، أما إذا لم يحجز فإنه لا يفطر ولا يقصر، ولا يجمع؛ لاحتمال ألا يتمكن من السفر فيعود إلى بلده.(51/11)
حكم صوم من أدركه الفجر وهو جنب
خامساً: -وهي مهمة أيضاً- من أدركه الفجر وهو جنب -من رجلٍ أو امرأة- قد يكون الرجل أو المرأة جنباً في الليل، ثم لا يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، إما عمداً وإما نسياناً، وإما لأنه نام، ولم يستيقظ إلا بعد الفجر، فما حكم صومه؟ صومه صحيح، ولا يضره أن يكون أخر الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر، وقد جاء في الصحيحين والسنن وموطأ مالك من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنبٌ من جماع ثم يغتسل ويصوم} .
إذاً لا يضر الإنسان -رجلاً كان أو امرأة- أن يؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر ولو متعمداً، فإن هذا لا يضر ولا حرج فيه، ولا بأس عليه في ذلك وصومه صحيح.
وهناك سؤالٌ تسأل عنه بعض النساء، تقول: إنها لم تغتسل من الجنابة إلا بعد طلوع الشمس فما حكم صومها؟ فنقول أيضاً: صومها صحيح؛ لأن الصوم لا علاقة له بالطهارة، فصومها صحيح ولو كانت جُنباً -ومن المعلوم أن الحائض والنفساء لا تصوم، فالحيض والنفاس من مفسدات الصيام، إنما لو كانت جنباً أو غير متوضئة- فإن هذا لا يؤثر في الصيام، ولكن يرد
السؤال
لماذا أخرتِ صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس؟ إن كان التأخير لعذر مثل أن تكون نامت من غير تفريط، ولم تستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فلا حرج عليها، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك} وفي الحديث الأخر أيضاً في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك -مرجعه من غزوة تبوك- أنه لم يستيقظ هو وأصحابه إلا من حر الشمس، ثم قال: {هذا مكانٌ قد حضرنا فيه الشيطان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنه، فأذن بالرحيل، ثم توضأ وصلى بأصحابه بعد ما طلعت الشمس} .
إذاً إن كان تأخير الصلاة إلى بعد طلوع الشمس لعذر كالنوم أو نحوه، فلا حرج في ذلك، أما إن كان التأخير لتفريط فهو ذنبٌ عظيم وخطرٌ جسيم، بل هو من كبائر الذنوب، أن يؤخر الإنسان الصلاة إلى أن يخرج وقتها، فعليه أن يصحح توبته حينئذٍ وألا يعود إلى مثلها: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17] .
والخلاصة أن الإنسان إذا أدركه الفجر وهو جنب فصومه صحيح، وعليه أن يغتسل للصلاة، أما الصوم فلا يضره ألا يكون وقع كله في حالة طهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر، فالصوم لا تعلق له بالطهارة كما أسلفت.(51/12)
حكم الاحتلام في نهار رمضان
سادساً: ومثل ذلك سؤالٌ يتكرر كثيراً، وهو أن البعض يقول: إنه يستيقظ وهو قد احتلم في نهار رمضان، فما حكم صومه؟ فأقول: الاحتلام -وهو أن يقع من الإنسان وهو نائم ما يوجب الغسل- ليس من مفسدات الصيام، ولا يضر الصيام أبداً، بل عليه أن يغتسل للصلاة، ولا يضر الصيام أن يكون وقع الاحتلام في نهار رمضان.
فما يتناقله البعض أو يظنونه من أن الاحتلام من مفسدات الصيام فهذا باطل وخطأ.
أما الذي هو من مفسدات الصيام، فهو الجماع في نهار رمضان، فإنه من مفسدات الصيام والمفطرات بالإجماع، كما قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] يعني النساء: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فدل على أن المباشرة -وهي إتيان النساء- والأكل والشرب تفعل في الليل إلى أجلٍ، وهو أن يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم يمسك بعد ذلك عن هذه الأشياء وعن غيرها من المفطرات.
ومثله -أيضاً- إذا عبث الإنسان بنفسه، فخرج منه المني في نهار رمضان بالاستمناء -أو ما يسمونه بالعادة السرية- سواء كان ذلك بيده أو بغير ذلك، فإن هذا من المفطرات؛ لأنه إخراجٌ للشهوة، والله تعالى يقول في الحديث القدسي عن الصائم: {يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي} فدل على أن الصائم واجب عليه أن يدع شهوته حال الصيام من أجل الله تعالى؛ طاعة لله تعالى وامتثالاً لأمره وتركاً لنهيه.
فإذا استمنى الإنسان في نهار رمضان، فإنه يفطر بذلك وعليه القضاء، ولكن الصحيح أنه ليس عليه الكفارة، وإنما الكفارة على من جامع زوجته في نهار رمضان من غير عذر -أي ليس مسافراً مثلاً- وإنما جامعها وهو مقيمٌ فعليه حينئذٍ القضاء، والاستغفار، والكفارة، وعليه أن يمسك بقية يومه.
ثم إني أنبه إلى أن العادة السرية مع أنها تفطِّر من فعلها في نهار رمضان إلا أنها من أعظم الأسباب والأفعال المؤثرة في شخصية الإنسان وفي تفكيره وفي حياته وفي سلوكه، فإن كثيراً من الشباب يصابون بألوانٍ من المشاكل النفسية والأمراض والأزمات والقلق والتوتر والخجل، بل والأمراض الجسدية كضعف البصر، والارتعاش في الأطراف، واحمرار الوجه بل والضعف الجنسي إلى غير ذلك من الأسباب والنتائج، كل ذلك من جراء الوقوع في هذه العادة السيئة، ومن جراء الإدمان عليها وكثرتها، والإنسان إذا وقع فيها ربما يصعب عليه الخلاص منها، وربما يتحول إلى مدمن، فعلى الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه، وأن يجاهد ما استطاع في ذلك بقدر ما يملك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول، كما في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن مسعود: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} فإذا كان العبد يفعل مثل هذا الفعل وهو صائم مع أن الصوم هو العلاج، فإن هذا هو من أعظم الأخطار.
ومثل هذا الكلام، أعلم أن الكثير يشمئز من الحديث عنه، ولكنها مسائل لا بد منها، لأن الكثيرين يحتاجون إلى بيانها، والله تعالى لا يستحي من الحق.(51/13)
مسائل متنوعة(51/14)
حكم تحليل الدم في نهار رمضان
ومن ذلك أيضاً ما يسمى: بالتحليل -في هذا العصر- فإذا كان يمكن تأجيل التحليل إلى الليل -أعني تحليل الدم- فهو أولى من أجل براءة الذمة؛ لكن لو كان ذلك غير ممكن فحلل الإنسان الدم في نهار رمضان، فإن صومه صحيحٌ، ولا قضاء عليه ما دام لم يفطر، أما إن قيل له: لابد أن نأخذ الدم وأنت صائم ثم نأخذه وأنت مفطر؛ فحينئذٍ لا يجوز له أن يحلل في نهار رمضان، بل عليه أن يؤجل التحليل إلى الليل إلا أن يكون ذلك لازماً ولابد منه لضرورة؛ فحينئذٍ فإنه يحلل وعليه أن يقضي ذلك اليوم الذي أفطر فيه.
هذا مع أن التحليل -في الغالب- دمٌ يسير لا يقاس بالحجامة التي يخرج بها من المريض دمٌ كثير.
إذاً: الخلاصة في هذه المسألة: هو أن خروج الدم من الصائم بجرحٍ لا يؤثر في صيامه -إن شاء الله تعالى- أما الحجامة فمن أهل العلم من قال: إنها تفطر استدلالاً بحديث: {أفطر الحاجم والمحجوم} ، والجمهور قالوا: لا تفطر استدلالاً بحديث ابن عباس: {احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم} وبحديث أبي سعيد: {أرخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة للصائم} أما بالنسبة للتحليل -تحليل الدم- فإنه لا يفطر وإن أمكن تأجيله إلى الليل فهو أحوط وأولى.(51/15)
حكم الحجامة في نهار رمضان
الرابعة عشرة: أما بالنسبة للحجامة: فقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحجامة تفطر الصائم، ونقل هذا عن جماعة من الصحابة وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه وغيره، وقال به الإمام أحمد رحمه الله، وجماعة من الأئمة والسلف، ومن أقوى أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم: {أفطر الحاجم والمحجوم} وذهب جمهور أهل العلم وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وجماعة قبلهم من الصحابة والتابعين، منهم أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وأم سلمة، وجماعة من التابعين كـ عروة بن الزبير وسعيد بن جبير والثوري وغيرهم، فإن هؤلاء يرون أن الحجامة لا تفطر الصائم، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: {أفطر الحاجم والمحجوم} منسوخ بأدلة كثيرة، قوية، منها الحديث الذي في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: {أحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم} ومثله حديث أبي سعيد الخدري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في الحجامة للصائم} وقوله رضي الله عنه: أرخص في الحجامة دليلٌ على أن هذا الحكم كان قبله منع، فإن الرخصة تكون بعد عزيمة، وبعد منعٍ، فالظاهر -والله أعلم- أن الحجامة لا تفطر الصائم، وعلى الإنسان ألا يحتجم في نهار رمضان من أجل الخروج من الخلاف، وإبراء الذمة واطمئنان القلب، فإنه لا حرج عليه قط عند أحد من أهل العلم أن يؤخر الحجامة إن احتاج إليها إلى الليل.(51/16)
حكم خروج الدم من الجرح في نهار رمضان
الثالثة عشرة: مسألة أن بعض الناس يظنون أن خروج الدم من الجرح، ولو كان دماً يسيراً يفسد الصيام، بل بعضهم يظن أنه إذا جرح ولو لم يخرج الدم، حتى ولم يجاوز موضع الجرح أن ذلك يفسد الصيام، وهذا أيضاً غير صحيحٍ، ولا دليل على ذلك، ولعل بعض الناس فهمو ذلك من مسألة الحجامة وقاسوه على ذلك، والأمر مختلف، فإن هذا الجرح اليسير الذي أصاب الإنسان هو عن غير تعمد، بل يكون جرحاً وقع عليه من غير قصد فلا يؤثر، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يتعلق بالقيء: {من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه} رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح كما قال ابن تيمية وبعض أهل العلم.
إذاً إذا تعمد الإنسان القيء بيده أو بسم شيء أو بأي شيء وتعمد ذلك من أجل أن يقيء فعليه القضاء، أما من ذرعه القيء وأصابه من غير قصد، سواء كانت امرأة حاملة أو رجلاً أو غير ذلك، أو شم روائح من غير قصد، فحصل منه القيء، فهذا عليه أن يخرج ما في فمه، وصومه صحيح، وهكذا الحال بالنسبة للدم، فحتى على القول بأن الحجامة -وهي إخراج الدم عن طريق المحاجم- تفطر الصائم، فإن الجرح الذي يصيب الإنسان من غير قصد، ويكون الدم فيه يسيراً، وربما لا يتجاوز موضع الجرح، فإن ذلك لا يفطر الصائم.(51/17)
حكم السواك في نهار رمضان
الثانية عشرة: مسألة أن كثيرٌ من الناس يتجنبون السواك في نهار رمضان كله، وهذا خطأ، لأنه لا تعارض بين السواك والصيام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الصحيحين: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} والحديث الآخر: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع -أو عند- كل وضوء} ؛ فالصواب أنه يشرع للصائم أن يستاك كما يشرع لغيره.
أما عند صلاة الفجر وصلاة الضحى وما أشبهه مما يكون في أول النهار فهو مشروع عند سائر أهل العلم، وكذلك عند الوضوء في أول النهار، وما أشبه ذلك مما يقع قبل الزوال.
أما ما يقع بعد الزوال، فقد ذهب بعض أهل العلم أنه لا يشرع لحديث علي رضي الله عنه: {إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي} أي: استاكوا في أول النهار، ولا تستاكوا في آخره، ولكن هذا الحديث -حديث علي - رضي الله عنه ضعيفٌ جداً، فقد رواه البيهقي، والدارقطني وغيرهما وسنده في غاية الضعف، فلا يحتج به، وقد عارضه حديث آخر وهو وإن كان ضعيفاً أيضاً إلا أنه خيرٌ من حديث علي رضي الله عنه، وهو: {رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم} ويُغني عن هذين الحديثين، قوله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} {عند كل وضوء} فيدخل في ذلك الصلاة والوضوء للصائم وغير الصائم، وقبل الزوال وبعد الزوال، فيدخل في هذا الحديث السواك لصلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء والوضوء لهذه الصلوات كلها.
وكذلك يستحب للإنسان أن يستاك في مواضع أخرى، فإن المواضع التي يشرع للصائم، وللإنسان أن يستاك فيها ستة مواضع: 1- عند الصلاة: لقوله صلى الله عليه وسلم: {عند كل صلاة} .
2- عند الوضوء: لقوله صلى الله عليه وسلم: {عند كل وضوء} .
3- عند قراءة القرآن: وقد جاء في هذا أحاديث، عن علي رضي الله عنه وغيره: {إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك} وهذه الأحاديث لا يخلو شيء منها من مقال ففيها ضعف.
4- عند دخول المنزل: لما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: {أنها سُئلت بأي شيء يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته، قالت: بالسواك} 5- عند تغير رائحة الفم: لقوله صلى الله عليه وسلم، كما في سنن النسائي وغيره بسندٍ صحيح: {السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب} فقوله: مطهرة للفم دليلٌ على أن السواك يشرع لتطهير الفم وتنظيفه.
6- عند الاستيقاظ من النوم: لحديث حذيفة المتفق عليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من النوم يشوص فاه بالسواك} .
إذاً يشرع للإنسان أن يستاك في هذه المواضع الستة، سواء أكان صائماً أم غير صائم، أما ما يظنه بعض العلماء من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} من أن الاستياك يعارض هذا الحديث فهذا ليس بجيد: 1- لأن الخلوف من المعدة، فهو رائحة تنبعث من المعدة؛ بسبب خلوها من الطعام، وليس من الفم، إذاً السواك لا يزيل الخلوف، ولا مدخل له فيه.
2- إن كثيراً من العلماء قالوا: إن هذه الرائحة هي عند الله تعالى أطيب من ريح المسك {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله} بل جاء في بعض الأحاديث {يوم القيامة} .
إذاً لا تعلق لذلك بأمور الحياة الدنيا، والسواك لا يضر ذلك، بل هو يزيد رائحة الفم عند الله تعالى طيباً إلى طيب، فإن السواك -أيضاً- مما يرضي الله عز وجل، وهو مما أمر الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا بقي شيء في فم الإنسان من أثر السواك، فعليه حينئذٍ أن يزيله دون أن يفضي به إلى الوسوسة، فإن كثيراً من الناس يشقون على أنفسهم، ويبالغون ويشددون فيشدد الله عليهم، وربما يُبتلون بألوانٍ من البلايا والمصائب؛ بسبب مبالغتهم في ذلك، فيبالغ الواحد منهم -مثلاً- في إخراج بقايا السواك من فمه، أو يبالغ في إخراج بقايا الطعام بعد السحور من فمه، أو يبالغ حتى في إخراج الريق من فمه، فإذا تعقد ريقه حاول إخراجه، وشق على نفسه، وبعضهم يجد مشقة عظيمة في المضمضة والاستنشاق، وكل ذلك من الآصار والأغلال التي وضعها الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمة، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال الله تعالى قد فعلت، فكل الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، قد وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، فينبغي علينا -عباد الله- أن نيسر على أنفسنا وعلى غيرنا في هذه الأمور.(51/18)
حكم تبييت النية من الليل لصيام الفرض
الحادية عشرة: أن بعض الناس يسمعون أنه لا بد من تبييت النية من الليل لصيام الفرض، وهذا صحيح، فإن صيام الفريضة كصوم رمضان والنذر والكفارة لا بد فيها من أن تبيت النية، أي لا بد للإنسان أن ينوي من الليل أنه سوف يصوم غداً، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى} والحديث الآخر في السنن وهو صحيح: {لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل} لكن البعض يعتقدون أن تبييت النية لا بد فيه أن يستيقظ قبل الفجر، فلو أن أحدهم نام في الساعة الثانية عشرة ليلاً، أو في الواحدة ليلاً ثم لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، ظن أنه لا يجزئه صيام ذلك اليوم، ويقول: لأنني لم أبيت الصيام من الليل، وينسى هؤلاء أو يجهلون أن الليل يدخل بغروب الشمس، هذه واحدة.
ثم إن بعض هؤلاء يجهلون معنى تبييت النية، ويبالغون في ذلك، ويدخل عليهم الوسواس، والصواب أن المسلم الذي جرت عادته بصيام رمضان فهو لا يفطر منه شيئاً قط، يكفيه مجرد أن يخطر الصوم على باله، فإن هذا يعني أنه ناو للصيام، ومستحضر له ولم ينو الفطر ولا قطع الصوم، وإنما نوى الصيام لله تعالى، ومنذ دخول الشهر وهذه نيته، أما المبالغة في ذلك، والإسراف والوسوسة، فإنها من كيد الشيطان الذي ينبغي للإنسان أن يسعى في دفعه ما استطاع.(51/19)
دعوة تبرع للمسلمين في البوسنة
الخامسة عشرة: -أيها الإخوة- هذه هي معظم المسائل المتعلقة بالأخطاء المشهورة بالنسبة للصائمين، وقبل أن أغادر هذا المكان أود أن أقول لكم: إننا سنعمل في كل ليلة على أن نجمع ما تيسر من أموال المسلمين لدعم أو مساعدة إخوانهم في كل مكان، وفي هذه الليلة سوف يتم الجمع بعد صلاة التراويح مباشرة لصالح إخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك وأرجو منكم أنتم -أيها الإخوة أو الأخوات- أن تبذلوا ما تجود به نفوسكم في هذا السبيل فإن الأمر عظيم والخطب جليل، والكارثة التي ألمت بالمسلمين هناك لا تكاد توصف.(51/20)
نداء إلى الرجال
أما بالنسبة لكم أنتم أيها الرجال، فلتعلموا أن أمثالكم من الرجال الأشداء الأقوياء، هناك يتحرقون إلى قطعة سلاح يدافعون بها عن أنفسهم وعن أعراضهم وعن بلادهم فلا يستطيعون، وفي البوسنة والهرسك أكثر من مائة ألف شاب أقوياء، الواحد منهم لو أردت منه أن يهد جداراً لفعل، لكنه لا يملك قطعة سلاح يدافع بها عن نفسه، وربما لو تمكنوا من عشرات الملايين من الدولارات لاستطاعوا أن يحرروا كل شبرٍ من بلادهم، والله لتسألن عن هذا الأمر أيها الأحبة، فعليكم أن تقفوا مع إخوانكم في الدعم بقدر ما تستطيعون.(51/21)
نداء إلى النساء
أما أنتن يا معشر النساء، فعليكن أن تتذكرن الكلام الذي قلناه مراراً بأن أكثر من مائة وعشرين ألف مسلمة قد انتهكت أعراضهن بالاغتصاب، بل أحياناً الاغتصاب الجماعي من هؤلاء الوحوش والخنازير، أعداء الإسلام من النصارى والصليبيين، أكثر من مائة وعشرين ألف فتاة، ما بين سن السادسة إلى السبعين من عمرها، منهن أكثر من ستين ألف حوامل، وإذا حملت المرأة احتجزوها في معسكرات، حتى لا تتمكن من إسقاط الحمل، فهم يريدون أن تلد وتنجب أولاداً من النصارى حتى يلاحقها الذل والعار حتى الموت، وبالأمس نشرت الصحف مجموعة صور لرجال ونساء عراة من المسلمين في معسكرات الصرب لم يبق من أحدهم إلا جلدٌ على عظم وهم يمشون مثل الكلاب على أقدامهم وعلى ركبهم وأيديهم مطأطئ الرءوس، ترهقهم الذلة وتغشاهم الكآبة، ووراءهم جنود الصرب وأسلحتهم مشهرة إلى رءوس المسلمين يطلبون منهم أن يزحفوا زحفاً طويلاً بهذه الطريقة، وعلى الجليد والثلج، وفي وسط المخاوف، وكل من أبدى تردداً أو عجزاً أو ضعفاً أو لم تحمله رجلاه، فإنهم يصوبون السلاح إلى رأسه.
لقد تخلى العالم كله عنهم، وبقيتم أنتم يا أهل التوحيد، يا أهل لا إله إلا الله، فيجب عليكم أن تقفوا معهم، فاصدقوا الله.(51/22)
البذل بالمال في سبيل الله
إنني أعجب، وحق لي أن أعجب! فنحن نطالبكم بالبذل، ثم ننظر ما هي حصيلة هذا الجمع في مسجد ضخمٍ كبيرٍ كهذا المسجد المبارك الذي يحضره ألوف، بل ربما عشرات الألوف، فإذا نظرنا وجدنا أربعين ألف ريال، سبحان الله! حتى الزكاة يجوز أن تدفعها لهؤلاء المسلمين، وفي النهاية أربعون ألف ريال!! ما الذي يجعل النصارى وهم أهل شرك وتثليث وإلحاد ولا يرجون من الله، ومع ذلك يجمعون مئات الملايين من الدولارات، وأنتم -أيها المسلمون- تتراجعون وتتأخرون؟! ما الذي يجعل النصارى وأولاد النصارى يأتون من روسيا لمساعدة إخوانهم من النصارى، وقبل أمس في الصحف أكثر من عشرة آلاف شاب أرثوذكسي من النصارى -من القوميين المتعصبين- الروس ينضمون إلى القتال في صفوف الصرب، ويشدون عزائم إخوانهم من أهل الكتاب.
أما المسلمون فعدد المسلمين الذين يقاتلون هناك إلى جوار إخوانهم يقدر بالمئات، ونحن لا نطالبك الآن أن تجاهد بنفسك، إنما نطالبك بأن تجاهد بمالك، وما نريده منك سوى مائة ريال أو ألف ريال وإن كنا نقبل منك حتى الشيء اليسير، ولا تحقرن من المعروف شيئاً.
وأنتِ أيتها المسلمة لا تحقري من المعروف شيئاً ولو من حليكن كما قال عليه الصلاة والسلام: {والمرء في ظل صدقته يوم القيامة} والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {سبق درهم ألف درهم} وإنما الأعمال بالنيات، ولو ريالاً فإن فيه خيراً كثيراً إن شاء الله.
ونحن نطالب أهل الغنى والجدة واليسار أن يتقوا الله في إخوانهم، والله ثم والله لسوف تسألون عنهم، فهم يستصرخون بكم ويصيحون، والعالم الغربي الكافر يجد نفسه مضطراً إلى أن يظهر الغضب والانزعاج، ويقف ولو إعلامياً إلى جوار المسلمين، ثم يخذلهم إخوانهم المسلمون، وبعض الناس يقولون: المسألة طالت! فهل هي بأيدينا؟ فهذا أمرٌ عند الله تعالى ولو طالت، فنحن لا نطالبك -يا أخي- بشيء من نفسك: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] نحن نقول لك: أخرج الزكاة، فأنت تعطي زكاتك -أحياناً- لإنسان قد يكون محتاجاً، ولكن ما هي حاجته؟ بعضهم يشتري أشياء إضافية للمنزل، أو ما أشبه ذلك، وربما يكون عليه ديون قابلة للتأخير وربما يكون بعض الكماليات، وربما امرأة تشتري به ذهباً تتجمل به أو تجمل به بناتها، ولكن أمامك أناس يموتون جوعاً وعطشاً ومرضاً، في الصومال، وأمامك مصائب أمم بأكملها، وكوارث حلت بشعوب تقدر بملايين، أفلا تعي؟! أفلا تعقل؟! أفلا تدرك؟! أتقيس مأساة فرد بمأساة أمة؟! ومصاب بيت بمصاب شعبٍ بأكمله؟! فأطالبكم -أيها الإخوة المسلمون وأيتها الأخوات المؤمنات- مجدداً أن تصدقوا لله في هذه الليلة بالذات، ولعله ألا يخرج منكم -بإذن الله تعالى- أحد، إلا وقد غفر الله له بصدقة نوى بها وجه الله تعالى لا يعلم بها أحد، تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وربما ينصر الله سبحانه وتعالى إخوانكم المسلمين بهذا المال، وؤأكد لكم أننا وغيرنا من الذين يجمعون التبرعات نستطيع بحمد الله تعالى أن نوصلها إلى المسلمين هناك حتى تسد فاقتهم وفقرهم، ويُشترى لهم بها الأطعمة، والحليب، والملابس، والأغذية والأكسية، والسلاح، وكل شيء ممكن بالمال، والمشكلة الوجيدة هي المال.
ويا معشر النساء، أدعوكن إلى الصدقة، ولو من حليكن، وأنبه بعض الشباب أنه بمجرد صلاة الوتر، فعليهم أن يقفوا على الأبواب، ويحرصوا على جمع ما تجود به نفوس إخوانهم وأسأل الله بصفاته العليا، وبأسمائه الحسنى في هذه الساعة المباركة، وفي هذه الليلة المباركة لكل من تصدق وأنفق مما يستطيع ولو بالقليل؛ أن يجعل الله تعالى ذلك صحةً في بدنه، وطولاً في عمره، وسعةً في رزقه، وعافية في الدنيا، وعفواً في الآخرة، وصلاحاً في ولده، وسعادة في قلبه، ورفعة في درجاته، إنه على كل شيء قدير.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم أصلحنا يا مصلح الصالحين، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.(51/23)
الأسئلة(51/24)
الأكل مع أذان الفجر
السؤال يقول: ما حكم الأكل مع أذان الفجر وما مقداره؟
الجواب
بالنسبة للأكل فللإنسان أن يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر، فإن كان هناك مؤذن يؤذن على الوقت فإذا سمعت صوته في أول الأذان فعليك أن تمسك، أما إن كان المؤذنون يحتاطون ويبكرون دقيقة أو دقيقتين فعليك أن تأكل بمقدار هذه الدقيقة أو الدقيقتين.(51/25)
عشاء الوالدين في العشر
السؤال
ما رأيكم في عشاء الوالدين الذي يقام في العشر الأواخر؟
الجواب
هذا ليس له أصلٌ، لكن الصدقة مشروعة عن الوالدين وغيرهم، وليس في الصدقة اختلاف كما قال بعض السلف، فبإمكان الإنسان أن يتصدق عن نفسه أو عن والديه بمالٍ أو طعامٍ أو عشاءٍ يعطيه الفقراء والمساكين أو ما أشبه ذلك.(51/26)
جمع التبرعات
السؤال
يقول: لو نبهت الإخوة الحضور بأن عليهم واجباً نحو إخوانهم فلو أن كل واحدٍ منهم قام في مسجد الحي الذي يسكن فيه وجمع التبرعات للمسلمين لحصل من ذلك خيرٌ كثير؟
الجواب
هذا سبق وأن نوهت به، وأدعوك أنت -يا أخي- أن تكون من أول المبادرين إلى هذا العمل، فأنت -إن شاء الله تعالى- مشتركٌ في الأجر؛ لأنك دللت على خير والدال على الخير له مثل أجر فاعله، لكن عليك أيضاً أن تكون مسارعاً إلى الخيرات.(51/27)
حكم الإفطار في السفر بعد الصوم
السؤال يقول: لقد ذهبت إلى الرياض وأنا صائم، وشق عليَّ ذلك اليوم، وبعد رجوعي شربت قليلاً من الشاي بسبب أثر الصداع في رأسي، فما رأيكم في صومي هذا؟
الجواب
ما دام أنك كنت مسافراً فكان بإمكانك أن تفطر؛ فإن الله سبحان وتعالى قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] وما دمت قد أفطرت فعليك قضاء ذلك اليوم الذي أفطرته.(51/28)
حكم التسوك قبل قراءة القرآن
السؤال
ذكرتم أنه لم يصح في التسوك قبل قراءة القرآن حديث، فهل نحمل السواك عند القراءة على أنه من المستحبات وليس من السنن؟
الجواب
جاء الترغيب به في مجموعة أحاديث، رأى بعض أهل العلم أن بعضها يقوي بعضاً ويشد بعضها بعضاً، ومنها حديث: {إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك} وعلى كل حال فالسواك من فضائل الأعمال ولا حرج أن يتسوك الإنسان قبل الصلاة.(51/29)
الجماع في صيام التطوع
السؤال
ما رأيكم في من جامع زوجته عالماً بصيامه، وهو في صيام تطوع غير رمضان كيوم الخميس والإثنين؟
الجواب
من جامع زوجته في صوم تطوع فلا شيء عليه، فالمتطوع أمير نفسه، وليس عليه في ذلك شيء، وإن أحب أن يقضي بدله يوماً آخر -فيتطوع بيومٍ آخر- فهذا حسن، ولو لم يفعل فليس عليه شيء.
أما من جامع زوجته في نهار رمضان فإنه قد آتى ذنباً عظيماً، وعليه أربعة أمور: 1- أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه أفطر من غير عذر.
2- أن يتوب إلى الله عز وجل توبةً نصوحاً؛ فإن هذا من الكبائر.
3- أن يقضي يوماً مكانه كما ذهب إليه أكثر أهل العلم.
4- عليه الكفارة وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ولو أفطر فيهما يوماً واحداً من غير عذر لزمه أن يستأنف الشهرين من أولهما، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وهذه الكفارة على الترتيب على رأي جماهير أهل العلم خلافاً للإمام مالك.
أما من كان صومه قضاءً لواجب، مثل إنسان قضى يوماً من رمضان في شوال، ثم أفطر فهذا آثم أيضاً؛ لأنه من شرع في أداء صوم الواجب ولو لم يكن من رمضان كالقضاء أو الكفارة أو النذر فإنه لا يجوز له أن يفطر في ذلك اليوم.(51/30)
الذهاب إلى مكة للعوائل والخادمات
السؤال
هل تنصح بالذهاب إلى مكة بالعوائل، وما حكم ذهابهم مع الخادمة الكافرة؟
الجواب
لا أنصح بذلك بالنسبة للعوائل، اللهم إلا أن يكون معهم من يحفظهم ويضبط أمورهم ويقضي حاجاتهم ويتابعهم جيداً، فإن أوضاع البلد الحرام في هذا الشهر لا تخفى على الكثيرين من اختلاط الشباب والفتيات وكثرتهم في الحرم وخارج الحرم وفي الأسواق وفي الأزقة، بل وفي الشقق والعمارات والفنادق وغيرها، وقد اطلعنا واطلع غيرنا من ذلك على أشياء كثيرة توجب على أولياء الأمور الذين يكون عندهم شباب مراهقون أو بنات مراهقات ألا يذهبوا بهم، اللهم إلا أن يكون الذهاب ليومٍ واحد يقضون فيه العمرة ويحققون فيه الفضيلة الواردة في صحيح البخاري: {عمرة في رمضان تعدل حجة معي} ثم يعودون، أما كونهم يقضون الشهر كله أو العشر الأواخر هناك ويترك الأب الحبل على الغارب لأولاده، فلا يدري أين ذهبوا ولا أين جاءوا؟ ويكون هناك تسوق في الشوارع، وذهاب وإياب ولقاءات وأعداد كبيرة عند الهواتف واتصالات ورسائل متبادلة وأمور كثيرة؛ فإن هذا لا شك ربما يكون الأمر فيه خلاف ما ذهب الإنسان إليه، ويكون كمن بنى قصراً وهدم مصراً.
وكذلك بعض الشباب -وقد أعجبني بعضهم- حين رأى الأوضاع لم يُطِقْ صبراً فعاد؛ لأنه وجد هناك بعض المغريات والفتن.
من اللاء لم يحججن يبغين حجةً ولكن ليقتلن البريء المغفلا أما الذهاب بالخادمة الكافرة فلا يجوز، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ويؤسفني أن بعض الإخوة يقول: أن قريبة له رأت امرأة في الحرم ولما أقيمت الصلاة، قالت للخادمة: قومي اخرجي، فقامت الخادمة وخرجت، فقالت لها: لماذا؟ قالت: لأنها كافرة، وأريد أن تخرج حتى تُقضى الصلاة، فلم يكتفوا بإدخالها مكة بل أدخلوها إلى المسجد الحرام، وهؤلاء ارتكبوا عدداً من ذنوب: أولها: استقدام امرأة بدون محرم.
ثانياً: إدخال الكافرة إلى جزيرة العرب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} {لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب} {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} .
ثالثاً: أنهم أدخلوها مكة والله تعالى يقول: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] ومكة كلها حرام.
رابعاً: أنهم أدخلوها إلى المسجد نفسه، وهذه الأشياء كلها مما نهى الله تعالى عنها.(51/31)
صلاة المسافر خلف المقيم
السؤال يقول: أنا كنت مسافراً وجئت إلى مسجد أهله مقيمون، ووجدت الإمام في التشهد الأخير وعندما سلم قمت وصليت ركعتين فقط؟
الجواب
لا، بل عليك ما دمت اقتديت بإمام مقيم أن تأتي بأربع ركعات؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح {وما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا} وأنت فاتك أربع ركعات، ولذلك قال السائل لـ ابن عباس ماذا أكون بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: تصلي ركعتين فدل على أنه كان مستقراً عندهم أن المسافر إذا كان مع إمامٍ مقيم فإنه يصلي وراءه أربع ركعات في الرباعية ولا يقصر الصلاة معه، وهذا مذهب كثيرٍ من أهل العلم خلافاً للإمام مالك رحمهم الله تعالى أجمعين.(51/32)
الذهاب إلى الديار المقدسة
السؤال يقول: من يذهب إلى الديار المقدسة وهو إمام، ويترك جماعة المسجد؟
الجواب
عليه أن يحرص إن ذهب أن يجعل في المسجد من ينوب عنه ويقوم مقامه، وأنصح ألا يكثر الإخوة الذهاب، بل لو أن الإخوة جلسوا في بلادهم وذهب الواحد يوماً، ورجع لكان هذا أولى.(51/33)
كلمة توجيهية
السؤال يقول: مضى ثلث هذا الشهر تقريباً، ولا يزال بعض الناس على ما هم عليه من الذنوب والمعاصي وتضييع الوقت من غير فائدة، فهل من كلمة توجيهيه تهديها لهذه الفئة؟
الجواب
أُذكر الإخوة بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن أبي موسى وغيره: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، صعد المنبر، وقال: آمين آمين آمين، قالوا: يا رسول الله، قلت آمين، قال: جاءني جبريل فقال من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين} فما بالك بإنسان دعا عليه جبريل وآمن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يتب الإنسان في رمضان فمتى يتوب؟ إذا كنت -يا أخي- أيام ومواسم الطاعات وغيرها عندك سواء، فمتى يستيقظ قلبك؟! وإذا كنت يوم الجمعة تفكر بأن هذا اليوم يومٌ فاضل، وهو يوم فيه خلق آدم وفيه أهبط من الجنة وفيه تقوم الساعة وفيه وفيه وفيه ساعة تستجاب فيها الدعوة، وفيه تشرع كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تتذكر فقط أن يوم الجمعة يومٌ فيه إجازة وترتكب فيه بعض الذنوب والمعاصي التي لا ترضي الله، ومثل ذلك هذا الشهر الكريم لا تذكر من ذكرياته إلا أن الليل وقتٌ للعب الكرة سواءً في الملاعب أو مشاهدة اللاعبين على شاشة التلفاز، حيث لم تقصر رعاية الشباب فقد أعدت لشبابنا في هذا الشهر خمس عشرة مباراة طيلة خمسة عشر يوماً من أيام هذا الشهر!! وأما بالنسبة للشباب الذين لا يستطيعون الحضور فالحمد لله الوسائل والإمكانيات تتيح أن تُنقل لهم هذه المباريات حيةً على الهواء ليستمتعوا بمشاهدتها طيلة ليالي هذا الشهر الكريم!! أما في النهار فهم مشغولون بالدراسة أو بالعمل، ولك أن تتصور بقية اليوم، فمتى يجد الإنسان وقتاً لقراءة القرآن أو لذكر الله أو للتفكير في أمور الآخرة، أو حتى لمصلحته الدنيوية -الله المستعان-.
أسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(51/34)
طريقة إقناع الآخرين بالإنفاق
السؤال
أبي رجل ميسور، وأتاه الله تعالى مالاً، وأحب له ما أحبه لنفسي، فما هو السبيل الذي أستطيع أن أسلكه معه حتى يكثر من الصدقة والبذل في سبيل الله، ودعوة الناس إلى الخير؛ لأنه يقبض يده عن هذا الخير العظيم، وفقنا الله وإياكم إلى الخير؟
الجواب
عليك أولاً بكثرة الدعاء له، ثم عليك أن تكلمه في ذلك بالكلمة الطيبة، وأن تكون عاملاً معه في عمله حتى يقتنع منك ويرتاح إليك ويقبل رأيك، ثم عليك أن تسلط عليه بعض الأخيار الذين يدخلون معه مدخلاً حسناً، ويقنعونه بعمل الصالحات.(51/35)
حكم من احتلم في نهار رمضان
السؤال
إنسان احتلم في نهار رمضان فهل يصح صومه أم لا؟
الجواب
الاحتلام في نهار رمضان هو أن يرى الإنسان وهو نائم شيئاً، فتخرج منه شهوته، هذا الاحتلام لا يفطر الصائم، وعليه إذا استيقظ أن يغتسل، ولا شيء عليه.(51/36)
حكم الروائح الطيبة للصائم
السؤال
الروائح الطيبة هل تفطر، مثل دهن العود وغيره؟
الجواب
الروائح الطيبة لا تفطر، فالرائحة ليست من المفطرات، لكن إذا كان لهذه الرائحة جرم مثل الدخان الذي يتصاعد من البخور، فعلى الإنسان ألا يقربها من أنفه أو يشمها.(51/37)
حكم معاجين الأسنان للصائم
السؤال
ما حكم استخدام معاجين الأسنان للصائم؟
الجواب
معاجين الأسنان -أيضاً- لا تفطر الصائم إذا اكتفى بأن يغسل بها فمه، وينظف بها أسنانه، وعليه بعد ذلك أن يخرجها من فمه، ولا يصل إلى حلقه شيءٌ منها.(51/38)
الخشوع في الصلاة
السؤال
من يصلي خلف إمام جيد الصوت من أجل صوته، ويحاول أن يخشع في الصلاة، ولكنه يخشع قليلاً ثم ينصرف إلى الدنيا، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
لا حرج للإنسان أن يذهب إلى مسجد يظنه أقرب إلى الخشوع، وليس عليه في ذلك شيء، بل يرجو أن يكون له في كل خطوة حسنة -إن شاء الله تعالى- كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة للخشوع فأولاً الخشوع مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] وذكر الله تعالى هذا في صفات المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] .
ولكن ما هي الأسباب التي تمنعنا من الخشوع؟ لعل من أعظم الأسباب كثرة المعاصي، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14-15] فبعض الناس إذا اجتمع قلبه وقربت دمعته جاءه الشيطان يركض فصور أمام عينيه معصيته يوم كذا وكذا، فتفرق الخشوع من قلبه وزال عنه حتى أن عينه لا تبض بقطرة، فهذا من شؤم المعاصي والذنوب فعليك أن تقاومها وتحاربها، ثم إن الخشوع وحده لا يكفي، ولهذا الله سبحانه وتعالى ذكر وجوهاً خاشعة وقال: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:4-7] الخشوع لا بد معه من إيمان، ولا بد معه من اتباع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد معه من إحسان، ولابد معه من عمل حتى يكون هذا الخشوع مؤثراً.(51/39)
كثرة الخدم والسائقين
السؤال يقول: ما رأيك في كثرة الخدم والخادمات والسائقين في هذا المجتمع وغيره، ومن الملاحظ أن هذا الأمر لم يعط حقه من التحذير، مع بيان أخطاره في المجتمع؟
الجواب
نعم هذا خطر عظيم، وتأتينا اتصالات، وأخبار، وأسئلة فضيعة من الجرائم التي تقع داخل البيوت من كبار السن، ومن صغار السن من الرجال، ومن النساء بسبب كثرة الخدم والخادمات، ومجيء النساء بدون محارم، وعدم التوقي منهم وجعلهم في البيوت، وإطلاعهم على الأسرار، وسهولة اتصالاتهم الهاتفية، واستقبالهم لمن شاءوا، وخروجهم متى شاءوا، واختلاط الرجال بالنساء، وخلوتهم معهن، واختلاط النساء الخادمات بأهل المنزل، وتزينهن أحياناً، وقد تكون المرأة قد جاءت من مكان بعيد فمنذ سنوات وهي بعيدة عن زوجها أو غير متزوجة أحياناً وهي امرأة فيها ما في غيرها من النساء من الغريزة التي ركبت، وكذلك أهل المنزل قد يكون فيهم الشاب الأغرار، ويحصل من جراء ذلك خطرٌ شديد، ويتحمل وزر هذا الأمر وحوبه ومغبته بالدرجة الأولى من تسبب في ذلك، ومنهم أولياء أمور أمن أهل البيوت والآباء وسواهم ممن سهل هذه المهمة أو أذنوا بها أو سمحوا بوجودها أو ساعدوا عليها.(51/40)
تهاون في الصلاة
السؤال
أنا أحب الشباب الملتزمين، ولكنني أتهاون في الصلاة كسلاً، وأريد أن أتوب وأرجع إلى عملي الصالح، ادع لي بالتوفيق والتوبة الصالحة؟
الجواب
نسأل الله تعالى أن يوفقك، ويتوب الله علينا وعليك إنه على كل شيء قدير، ولكن مع ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة بن مالك: {أعني على نفسك بكثرة السجود} فعليك أن توطن نفسك على العبادة وعلى الصلاة وعلى ثني ركبتك في المسجد، وعلى مصاحبة الناس الصالحين، وعليك أن تكثر أنت من دعوة الله تعالى، فإنه لن يدعو لك أحداً أنصح لك من نفسك، والله تعالى قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فقبل أن تطلب من الناس أن يدعوا لك فعليك أن تدعو لنفسك دعاءً صالحاً، وإياك إياك أن تكون ممن ذكر الله تعالى فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49-50] فعليك أن تدعو أنت لنفسك وتصدق الله تعالى.(51/41)
الجمع بلا خوف ولا مرض ولا سفر
السؤال
ما رأيك في الحديث الذي جاء في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الظهر مع العصر، وجمع المغرب مع العشاء، من غير عذر ولا مرض} ؟
الجواب
الحديث ليس كذلك من غير عذرٍ ولكن فيه من غير خوفٍ وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه ولا سفر، وفي رواية ولا مرض، وسُئل ابن عباس رضي الله عنه قال: أراد أن لا يحرج أمته، فدل على أنه فعل ذلك لدفع الحرج عنهم، وجماهير أهل العلم على أنه لا يجوز جمع الصلاة إلى الأخرى إلا لحاجة أو عذرٍ، إما مرض أو سفر أو خوف أو ريح شديدة، أو ما أشبه ذلك من الأسباب المبيحة لجمع الصلاة إلى الصلاة الأخرى.(51/42)
حرب على الله ورسوله
السؤال
هل صحيح ما يقال: أنه في بعض مساجد الرياض مكتوب كلامٌ فيه سب لله سبحانه وتعالى، وما الذي يجب أن يفعل تجاه هؤلاء؟
الجواب
نعم هذا صحيح، وقد كتب به إليَّ بعض الشباب الذين أعرفهم وهم ثقاة، وشاهدوا هذه الكتابات بأعينهم، وفيها سبٌ لله رب العالمين في محاريب المساجد -والعياذ بالله تعالى- ويبدو أنها أكثر من مسجد، وهذه قد تكون حدثت من بعض الذين يحاربون الله ورسوله ويستفزون المسلمين ويحاولون أن يستثيروا مشاعرهم خاصة في هذا الشهر الكريم، وإذا كان هذا حدث من شخص مجهول وفي مكان خاص وهو لا شك من الأمور الفضيعة العظيمة التي تكاد السماوات أن تتفطر منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، وقد قال الله هذا فيمن ادعوا أن لله تعالى ولداً: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:88-92] .
أقول: إن الكلام الذي كتب أبشع وأفضع وأشنع مما قاله النصارى بحق رب العالمين، وأعظم وأطم مما قاله اليهود في حق رب العالمين، فإن لله وإنا إليه راجعون.
ثم إني أقول: إن هناك أشياء كثيرة مما ينبغي للمسلمين أن يحتسبوا عليها -الآن- وأن يعلنوا إنكارها قبل أن يسلط الله عليهم ثم يدعونه فلا يستجيب لهم، فإن هذا الإعلام -الذي يغير أخلاق المسلمين وعقائدهم صباح مساء من خلال التلفاز والإذاعة والجريدة والمقالة، ويحارب الكلمة الهادفة الصادقة بكل وسيلة- من أعظم المنكرات التي يجب على كل مسلم أن يحتسب عليها.
وكذلك الربا الذي شاع وانتشر في بلاد المسلمين وأصبحت بيوته أعظم البيوت، فقد أصبحت تناطح السحاب -أحياناً- بارتفاعها وقوتها، وكأنها قلاع أعدت لحرب الله تعالى ورسوله، ومع ذلك قلما نسمع خطبة تحذر من الربا أو درساً في النهي عنه أو بياناًَ يوجه المسلمين إلى تركه، وقلما نسمع صوتاً ناصحاً يطالب وبقوة بوجوب تحويل الاقتصاد إلى اقتصادٍ شرعي إسلامي لا شبهة فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] إن كنتم مؤمنين: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] فأمةٌ يحاربها الله تعالى كيف تفلح؟ وكيف تنجح؟ كيف تستقيم اقتصادها؟ وكيف تنتصر على عدوها؟ وكيف تجتمع كلمتها؟(51/43)
حكم طاعة الوالدين في عدم الجهاد
السؤال
يقول: ما رأيكم في الذهاب إلى البوسنة والهرسك للجهاد، هل يستأذن الإنسان والديه علماً أنهما لن يوافقا على ذلك؟ لقد وجهت لكم السؤال أكثر من مرة إليكم- والسائل مسلم من مصر؟
الجواب
لا يجوز الجهاد إلا بأذن الأبوين، وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً جاء من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أحيٌ والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد} وفي رواية: {أنه قال: يا رسول الله، جئت إليك من اليمن، فتركت أبواي يبكيان، قال: أرجع فأضحكهما كما أبكيتهما} وفي صحيح البخاري أيضاً: {أنه عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن أفضل الأعمال، قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أيٌ؟ قال: الجهاد في سبيل الله} ولكن بإمكان الأخ أولاً: أن يذهب إلى هناك للدعوة وللتعليم، فإنه من أعظم ألوان الجهاد، وهم أحوج ما يكونون إلى من يعلمهم دين الله عز وجل، فقد خرجوا من جحيم الشيوعية الذي سيطر عليهم أكثر من أربعين سنة، كما أن بإمكان الأخ أن يجاهد معهم بالمال، وقد كتب بعض الإخوة ورقة يقول فيها: لو أن بعض الشباب قاموا بجمع التبرعات من أحيائهم، أو في مسجدهم، أو زملائهم في العمل، وأقول: إن هذه فكرة طيبة جداً، ولنفرض أن ألفاً من الإخوة الذين يستمعون هذا الكلام الآن، انتدب كل واحدٍ منهم نفسه لأن يجمع ما استطاع من التبرعات خلال هذا الشهر، إما من جماعة المسجد الذي يصلي فيه، أو من زملائه في العمل إذا أخذوا الراتب -إن كان ثمة راتب- أو من أقاربه، أو يذهب إلى بعض التجار ويطلب منهم حتى ولو كانوا لا يعرفونه فأقلهم سوف يعطيه ألف ريال -على الأقل- من باب المجاملة، فإذا كان ألف شاب جمعوا لنا كل واحدٍ منهم ألف ريال، فمعنى ذلك أننا جمعنا مليون ريال بكل سهولة ويسر، وعلى الإنسان أن لا يحقر من العمل الصالح شيئاً.(51/44)
طلب توجيه دعوة
السؤال
دعوة الإخوة في البلاد وما حولها لتأسيس مؤسسة لنشر جريدة إسلامية، وهل هذا مستحيل؟
الجواب
في هذه البلاد أشك في إمكانية ذلك، ولكن هناك بلاد أخرى قد يكون أنسب لإصدار مطبوعة إسلامية، أو ما أشبه ذلك من الأعمال الإعلامية.(51/45)
كشف الحجاب
السؤال
أنا شاب مصري، ولي أخت في الجامعة تلبس الحجاب الشرعي، ولكن المسئولين في الجامعة يرفضون دخول المحجبات إلى الكلية إلا إذا كشفت وجهها إلى رجل الأمن الموجود على الباب، فماذا أفعل؟
الجواب
كونها تكشف وجهها لرجل الأمن ثم تعيد غطاء الوجه، لا حرج عليها -إن شاء الله تعالى- في ذلك.(51/46)
البعد في الآمال
السؤال
إلى أي مدى نستطيع أن نذهب بآمالنا التي في انكشاف واقعنا المعاصر؟
الجواب
عليك أن تذهب بأملك إلى غير حد؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي} والله إننا نعلم أن المستقبل للإسلام كما نعلم أن دون غدٍ الليلة، وليس شرطاً أن نشهد هذا بأعيننا، ولكن علينا أن نباشر صنعه بأيدينا، وعلينا أن نعمل الأسباب، وبوادر نصر الإسلام تلوح ظاهرة في الأفق، خذ على سبيل المثال الجزائر: حاربوا الإسلام، وأدخلوا ثلاثين ألف في السجن، ومع ذلك هناك تقارير في الأيام القريبة للدول الغربية، تقول: على الدول الغربية أن تعرف كيف تتعامل مع الإسلام في الجزائر، لأن الإسلام هو الذي سوف يحكم في الجزائر طال الزمن أم قصر؟ وهناك عشرات الآلاف قد جندوا أنفسهم وهم في المدن، وبعضهم من العسكر، وبعضهم من غير العسكر، ويستعدون لمقاومة الأوضاع الفاسدة هناك، وبغض النظر عن النتائج التي تحصل من جراء مثل هذا العمل، وهل تؤدي إلى نتيجة أو لا تؤدي، إلا أننا نعلم في الجزائر ليس همَّاً لفئة محدودة من الشباب ولا لقلة قلية من العسكر، ولا لطائفة من العلماء، بل هو همٌ للشعب كله، وأكثر من 80% من الشعب ينادي بالإسلام، ويطالب بتحكيم الشريعة، فمن الذي يستطيع أن يقتل 80% من الشعب؟ فهذا محال، ومثل ذلك في اليمن الآن، ومثله في مصر فهم قد قتلوا المئات وسجنوا الآلاف في مصر، ومع ذلك الإسلام في ازدياد، والخير في قوة وفي نمو، والشباب الذين يودعون في غياهب السجون يهتفون للموت في سبيل الله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها وهم يريدون الموت، وعدوهم لا يمكن أن يفعل بهم أكثر من الموت.
إذاً عليك أن تعرف أن الإسلام دين الله، إن الشيوعية سقطت في سبعين سنة، وأمس قرأت كلاماً لرجل غير مسلم، يقول: على أعداء الإسلام من الغربيين أن يعلموا أنه إذا سقطت الشيوعية في سبعين سنة فالإسلام لن يسقطه سبعين سنة، ولا سبعمائة سنة؛ لأن عمر الإسلام الذي جاء على يد محمد صلى الله عليه وسلم 1400سنة، أما الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء وهو التوحيد، فهو من عهد آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فقد ذهبت أمم وقرون وأجيال وطغاة وعروش وبقي الإسلام: والحق منصورٌ وممتحن فلا تعجب فهذي سنة الرحمن والمهم هو أن تكون صادقاً، وعليك بالثبات، وعليك بالصبر، وعليك بالجهاد، وكن جندياً من جنود الإسلام، ونم قرير العين إن هذا الدين دين الله، وهذا ليس من شأني ولا شأنك، فإن هذا دين رب العالمين وسوف ينصر الله تعالى دينه، ومن حسن الظن بالله تعالى أن تعلم أن الأمر كذلك.(51/47)
حكم إقامة مراكز للتدريب على الجهاد
السؤال يقول: حكم الجهاد في البوسنة وفي فلسطين، ولماذا لا تقام مراكز تدريب للشباب هنا؟
الجواب
الله المستعان الله المستعان، الشباب لم يقم لهم مراكز تدريب، بل أقيم لهم -بارك الله فيك- مدرجات كرة تضيع أوقاتهم، أما حين يكون هذا الأمر متعسراً عليهم؛ لبعد المسافة، فقد وضعت لهم أجهزة التلفاز التي تنقل المباريات ليلياً في نهار رمضان حيةً على الهواء، حتى يلهوا الشباب في مثل هذه الأمور، فلا ينفعوا في دنياهم ولا في دينهم.
ونسأل الله أن يعيننا ويبصرنا بهذه المخاطر التي تهددنا، حتى نستطيع أن نكون رجالاً على أقل تقدير يدافعون عن بلادهم، ودعك من البوسنة والهرسك أو غيرها، وكلها بلاد الإسلام، لكن كل بلاد الإسلام مهددة أيضاً، والواجب أن يكون المسلم عنده قوة يستطيع أن يدافع بها ولو عن بلده أو حتى عن بيته ومحارمه.
فهذا هو الواجب على المسلمين -ومع الأسف- وأقول: هو موجود في كل بلاد الدنيا إلا في بلاد التوحيد وبلاد الإسلام، حتى إسرائيل تجند الشباب بالقوة، بل يؤسفنا أن نقول: حتى البنات يجندونهن، مع أنهم اليهود الجبناء الأنذال، لكنهم يشعرون بأنهم في حالة حرب مع المسلمين، ونحن لا نقول بتجنيد النساء؛ لأنه لا شك أن هذا خطرٌ كبيرٌ وعظيم، والذي يثير العجب والدهشة أن بعض الصحفيين يطالبون بتجنيد البنات، أو بفتح مجالات رياضية للبنات؛ لأن البنت قد تحتاج إليها في الدفاع عن الوطن، والآن الرجال أصحاب الشوارب لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك ولا فتحت لهم مثل هذه الأبواب ومثل هذه القنوات، ومثل هؤلاء لا يعرفون ولا حتى كيف يخادعون ولا حتى كيف يكذبون.
لكني بالمناسبة أدعو الله أن ينصر المسلمين في البوسنة والهرسك إنه على كل شيءٍ قدير، وأسأله في هذه الساعة المباركة أن ينصر المسلمين في فلسطين وأن ينصر المسلمين في مصر وأن يفك أسرى المأسورين وأن يرحم موتاهم إنه على ما يشاء قدير، وأسأل الله تعالى أن ينصر الإسلام والمسلمين في تونس وفي الجزائر وفي اليمن، وفي أفغانستان وفي طاجكستان، وفي كل مكان إنه على كل شيءٍ قدير.(51/48)
حكم دعاء الاستفتاح لكل ركعة في التراويح
السؤال
هل يجب أن يقرأ المصلي دعاء الاستفتاح في بداية كل ركعة في صلاة التراويح؟
الجواب
أجمع العلماء على أن دعاء الاستفتاح ليس بواجب، ولكنه سنة، فإن قرأ الإمام فاكتفي بالاستعاذة من الشيطان الرجيم.(51/49)
حكم التسوك وقت العصر
السؤال
هل يجوز التسوك وقت العصر؟
الجواب
نعم التسوك مشروع في كل وقت في الحالات المذكورة في الحديث، كالسواك عند الصلاة، أو عند دخول المنزل، أو ما أشبه، وهو ذلك مشروعٌ في كل وقت سواءً قبل الزوال أو بعده على الراجح من أقوال أهل العلم، وفي الحديث: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} وفي الحديث الآخر: {لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} .(51/50)
التقصير في العمرة
السؤال
اعتمرنا ومعنا فتاة عمرها أربع سنوات؛ لكن نسينا أن نقصر لها، فما هو الواجب علينا؟
الجواب
الواجب أن تقصروا لها، والله أعلم.(51/51)
صفوف النساء
السؤال
بالنسبة لصفوف النساء؟
الجواب
ينبغي أن تسد، ويتم الصف الأول فالأول.(51/52)
الأطفال مع النساء في المساجد
السؤال
بعض النساء تكون في الصف الأول، ومعها طفل فيأخذ محلاً؟
الجواب
ينبغي ألا يكون معها طفل بجانبها، وإن خافت عليه فتضعه أمامها، أو قريباً منها، وإن كثر أطفالها فالأولى أن تجلس في بيتها، وتصلي ما كتب الله لها.(51/53)
طلب توجيه نصيحة للمدرسين
السؤال
أرجو توجيه كلمة للمدرسين، والمدرسات لاستغلال هذا الشهر بالقيام بواجبهم وبالدعوة داخل مدارسهم، فالنفوس قريبة من الخير.
الجواب
نعم هذه فرصة كبيرة، وعلى المدرسين والمدرسات مربي الأجيال أن يحرصوا على توجيه كلمات وعظ وإرشاد لفلذات الأكباد من البنين والبنات، وأن يذكروهم بالله تعالى، وينبهوهم على المخاطر التي تهددهم، مما يكيد لهم الشيطان -شيطان الجن- ومما يكيده لهم شياطين الإنس من المفسدين، سواء في وسائل الإعلام، أو عبر الهاتف، أو عبر الشريط، أو غير ذلك من وسائل الغناء والفساد والفجور وما أشبه ذلك.(51/54)
حبوب منع الحمل في نهار رمضان
السؤال
امرأة تستخدم حبوب منع الحمل، وإذا تركت الحبوب جاء الحيض، فهل إذا نسيت أن تأكل حبة ثم تذكرت في النهار، هل يجوز لها أن تأكل حبة؟
الجواب
لا يجوز لها أن تأكل في النهار، ولو أكلت لأفطرت، لكن إذا جاءها الحيض الذي تعرفه فعليها أن تقضي ذلك اليوم.(51/55)
طلب نصيحة
السؤال
أرجو توجيه أخي ونصحه، حيث أنه حضر في هذا المجلس، فهو سريع الغضب ويغضب لأتفه الأسباب، فيسب زوجته، ويشتمها ويعلو صوته، حتى يتلفظ بكلامٍ لا يقال للكفار، فضلاً عن المسلمين.
الجواب
{جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوصني -كما في الصحيحين- قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب} فالغضب من الشيطان، وهو جمرة تتقد في قلب ابن آدم، فإذا غضب وهو قائم فليقعد، أو قاعد فعليه أن يضطجع وأن يتوضأ، فإن الوضوء يطرد الشيطان، ويسكن الغضب بإذن الله تعالى، وعلى الإنسان أن يدرب نفسه، فإنه ما أنزل الله من داءٍ إلا وأنزل له دواء، فدواء الغضب: هو تدريب النفس على ذلك، وأن يحرص الإنسان على ألا يتكلم في حال الغضب، بل أن ينصرف ويتجنب مؤثرات الغضب وأسبابه، فربما طلق الإنسان زوجته، بسبب الغضب، وربما شتم، وربما وقع في الكفر أحياناً والعياذ بالله والرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً مغضباً، فقال: {إني لأعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد، فقال رجل: وما هي يا رسول الله؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل: أتراني مجنوناً؟} أي: حتى أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا كان من غضبه، فعلى الإنسان إذا غضب أن ييقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.(51/56)
دعاء الإفطار
السؤال
هل يصح أن يقول: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت؟
الجواب
هذا جاء في حديث، ولكن فيه ضعفٌ أما الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، أنه كان يقول إذا أفطر: {الحمد لله، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى} وإذا أراد أن يفطر قال {بسم الله} .(51/57)
الرائحة في رمضان
السؤال
هل الرائحة تفطر الصائم؟
الجواب
لا، الرائحة ليست من المفطرات.(51/58)
الصوم وإتيان المحرمات
السؤال
هل كل محرم يفطر الصيام كأكل الربا وشرب الدخان؟
الجواب
أما أكل الربا أي: أخذ المال من الربا، فهذا محرم ومن الكبائر، ولكنه لا يفطر الصائم، أما شرب الدخان إذا شربه في نهار رمضان، فإنه يفطر، ولا شك في ذلك، ولا أعتقد أن ثمة خلاف بين أهل العلم في هذا، فشرب الدخان وتعاطيه في نهار رمضان من المفطرات، أما كونه يتعاطى الدخان في الليل فهذا محرم.(51/59)
حكم من سافر ووصل بلده قبل الغروب
السؤال
إذا كان الرجل مسافراً ووصل إلى بلده قبل غروب الشمس، فهل يمسك أم لا؟
الجواب
من أهل العلم من يقول يمسك؛ لأن سبب الفطر قد زال وهو السفر، والراجح أنه لا يلزمه الإمساك؛ لأن ذلك اليوم غير معتد به، ولكن عليه أن لا يعلن الفطر، خاصة لمن لا يعرف سبب فطره.(51/60)
حكم صلاة العصر بنية الظهر
السؤال
هل أصلي العصر بنية الظهر، ثم أقضي العصر، إذا تذكرت وقت العصر أني لم أصل الظهر؟
الجواب
لو أتيت إلى الجماعة، وهم يصلون العصر، ثم تذكرت أنك نسيت صلاة الظهر، فحينئذٍ لك أن تدخل معهم، وتنويها الظهر، فإذا صلوا، فإنك تأتي بعد ذلك بصلاة العصر، ولا حرج عليك في ذلك إن شاء الله تعالى.(51/61)
حكم صحة حديث {صوموا تصحوا} ؟
السؤال
ما صحة حديث: {صوموا تصحوا} ؟
الجواب
هذا الحديث ليس بصحيح، أما حديث: {الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة} فهو حديث صحيح.(51/62)
حكم مد الرجلين تجاه القبلة
السؤال
ما حكم مد الرجلين تجاه القبلة في الحرم وغيره؟
الجواب
ليس في ذلك حرج فيما أعلم.(51/63)
الدعاء بين باب الكعبة والحجر الأسود والملتزم
السؤال
هل يشرع بعد طواف العمرة أن يقف المعتمر بين باب الكعبة والحجر الأسود والملتزم، ويلصق صدره بالكعبة، ويدعو بما شاء، وأن له دعوة مستجابة؟
الجواب
جاء ذلك في حديثين في سنن أبي داود، لا بأس في إسنادهم، فلا حرج على الإنسان، أن يجلس في الملتزم ويلصق صدره ورأسه ويديه، ويدعو الله بما أحب.(51/64)
الصيام في السفر
السؤال
ما رأيك في من يصوم في السفر، ويقول: لا توجد مشقة حتى أفطر؟
الجواب
إذا لم يكن في السفر مشقة في رمضان، فالصوم أفضل من الفطر، وذلك لأن فيه تعجيلاً لبراءة الذمة، وفي الحديث المعروف حديث أبي الدرداء أنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في يومٍ شديد الحر وما فيهم صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو الدرداء.
فالصوم في السفر، إن لم يكن فيه مشقة، هو أولى، وأحسن إن شاء الله تعالى.(51/65)
قراءة القرآن وحفظه
السؤال
أنا -والحمد لله- معتاد أن أختم كتاب الله في سائر الشهور، لكن لم أحفظ منه إلا القليل، فأسأل عن الأفضل، هل أجعل ما خصصت من وقتٍ في اليوم للحفظ أم للقراءة، علماً بأن الوقت المخصص لذلك لا يزيد عن ساعتين؟
الجواب
حبذا أن تجمع بين هذا وهذا، فتجعل لك ورداً من القراءة في رمضان لتختم القرآن مرة أو مرتين وتجعل لك وقتاً آخر لحفظ كتاب الله تعالى.(51/66)
انفجار في المصنع العالمي بنيويورك
السؤال
في هذا اليوم سمعت خبراً من إذاعة لندن يقول: أنه حدث انفجار مروع في المصنع التجاري العالمي في نيويورك وقد حدثت أضرار كبيرة في المبنى، وقد مات خمسة أشخاص، وأصيب ألف، وحدثت أضرار في السيارات؛ وقد تسبب هذا الحادث في ردة فعل قوية عند الرئيس؟
الجواب
أخونا الشيخ: محمد دعا قبل أمس أن يسقط دولة الصليب أمريكا، وأقول: بإذن الله تعالى المسألة مسألة وقت، فقد قرأت تقريراً مُهماً قبل ثلاثة أيام أن عام 1995م يعني بعد سنتين هو عام تراجع، وانهيار أمريكا، وقرأت تقارير أخرى كثيرة -تعتبر طويلة النفس- تقول أنه عام 2000م أي بعد سبع سنوات: سوف تضطر أمريكا إلى أن تنام على بطنها -يعني تنهار- والاقتصاد الأمريكي يتراجع إلى الوراء، والمشكلات مزمنة، والعجز كبير والمصاعب جمة، وعلى المسلمين أن يصدقوا الله تعالى في جمع الكلمة، والدعوة إلى الله، ويدركوا أن وراثة الأرض لهم، كما وعد الله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وهذا وعدٌ جازم قاطع، والمسألة عندنا مسألة وقت لا غير، وإذا لم يتحقق هذا بعد سنة فإنه سوف يتحقق بعد سنتين، أو عشراً أو ما شاء الله تعالى، فعلينا أن نصدق الله تعالى، وأن يعلم الله من أنفسنا أننا أهل لذلك؛ فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:40-41] .(51/67)
حكم إحرام الحائض والنفساء
السؤال تقول: سمعت الجواب أن أحرم من حيث أحرم أهل البيت -تقول وهي حائض- فهل أجلس بملابسي بعد الإحرام علماً أني نفساء- أم أُغيّر ملابس الإحرام، أم أحرم بملابس أخرى بعد الاغتسال؟
الجواب
بالنسبة للحائض والنفساء -سبق أن بينت- إذا وصلت إلى الميقات، فإنها تُحرم بالعمرة، ولكنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فإذا طهرت اغتسلت وقضت عمرتها، ولا مانع أن تطوف بملابسها التي كانت فيها حال الحيض إذا كانت هذه الملابس طاهرة ولم يأتها شيءٌ من الدم، فإن جاءها شيءٌ من الدم غسلته ولبسته.(51/68)
إمكانية إيجاد أداة إعلامية إسلامية
السؤال يقول: يتساءل قطاع عريض من الناس، عن إمكانية إيجاد أداة إعلامية إسلامية تكون محطة ثقة المسلمين، ومحل اعتبارهم، وهل ما يوجد اليوم بالساحة من بعض المجلات، والإصدارات الإسلامية التي فيها ما فيها يحقق هذه الأمنية، وإذا كان الجواب بالنفي، فما المخرج من دوامة كلامهم عن الأصوليين والمتطرفين والمتشددين وغيرها من المصطلحات الضالة المضللة؟
الجواب
أقول لك: نحن سلبيون، نحن سلبيون حقيقة في أمور أقل من هذا، فالآن توجد إذاعات دولية وعالمية تعرض للبيع، ولو أن المسلمين أقوياء لاشتروها، واستطاعوا أن يخاطبوا العالم كله، بالدعوة إلى الإسلام ونشر القضايا، والأخبار الصحيحة، ولكن المسلمين مع ذلك لا يزالون دون المستوى المطلوب منهم، فهم يتساءلون لكن لا يفعلون، ويرون المنكر ثم يقولون: لماذا يحصل؟ فلماذا لم يتصلوا بمصدر المنكر! لقد نشرت جريدة اليوم -قبل أيام- قبل رمضان -وهي جريدة تُباع وتصدر وتطبع في هذه البلاد- صورة لامرأة عارية، كيوم ولدتها أمها، والإعلان موجود عندي، فماذا فعلت؟ هل اعتذرت الجريدة؟ مجرد اعتذار على بعض صفحاتها، هذا لم يحدث، لماذا؟ لأننا سلبيون -وذكرتُ لكم بالأمس- أن رئيس تحرير جريدة الندوة رجع إلى رئاسة الجريدة بعد أن طُرد منها، فهو طرد لتهدئة النفوس ثم رجع، فماذا صنعنا نحن، وقد طالبناكم مرات ومرات بمقاطعة خضراء الدمن الشرق الأوسط- والتركيز عليها بالذات حتى تفلح الحملة، وتؤدي ثمرتها، ومع ذلك لا زال هذا دون المستوى المطلوب، وفي كل يوم -دعونا نكون صرحاء- دعوناكم للتبرع لإخوانكم المسلمين، ومع ذلك التجاوب طيب ولا شك، ولكن أقل مما نريد منكم.
إذاً لن تفلح قضايا المسلمين ما دامت قضايا يهتم بها أشخاص معدودون، حتى تصبح قضايا تعيش مع المسلمين جميعاً، وتنام معهم في فرشهم، وتستيقظ معهم وتأكل معهم وتشرب، حينئذٍ تنجح قضاياهم الجهادية والإعلامية وغيرها.(51/69)
حكم الملابس التي عليها صور
السؤال يقول: ما حكم شراء بعض الملابس للأطفال التي يكون عليها صور، علماً أن أكثر الملابس الموجودة في السوق عليها صور؟
الجواب
هي -على كل حال- تعتبر مهانة، ولكني أنصح أن يحرص الإنسان على تجنب شراء مثل هذه الملابس التي عليها صور، فإذا اشتراها فليحاول أن يطمسها أو يضع عليها شيئاً، أو يقطع بعض هذه الصورة، أو على أقل تقدير أن يلونها بلون الثوب، بحيث لا تكون الصورة بلونٍ متميز.(51/70)
حكم بقايا الأطعمة
السؤال
ما حكم وضع بقايا الأطعمة في سلة مخصصة ومن ثم إعطائها لعامل النظافة أو وضعها عند الباب؟
الجواب
بالنسبة لبقايا الأطعمة، إذا كانت بقايا تصلح للأكل، فينبغي أن يعطيها للمحتاجين إليها، أما إذا كانت لا تصلح، فأرى أن يضعها الإنسان في مكان طيب طاهر ليستفاد منها، ولو أن تكون علفاً للحيوانات.(51/71)
حكم التكفير عن عدة كفارات
السؤال
يقول: عليَّ كفارة أكثر من مرة، وأرسلت بعض النقود لإمام المسجد؛ لإفطار أكثر من ثلاثين صائم بنية الكفارة؟
الجواب
إذا كان المقصود كفارة من الكفارات المعروفة، مثل كفارة عن صيام -مثلاً- أو عن يمين، فأرى أنه لا يكفي هذا، بل لا بد أن تطعم عشرة مساكين بالنسبة لكفارة اليمين، وهكذا كفارة الصيام تطعم عن كل يومٍ مسكيناً وذلك لأن الصائم قد لا يكون فقيراً، فقد يأكلها غنيٌ فلا تقع في محلها.(51/72)
الاحتلام في نهار رمضان وفوات الجماعة
السؤال يقول: أنا من طلاب الجامعة الذين يبعدون عن بريدة مسافة مائتين وخمسين كيلو متر، وكما تعلمون أن هناك فتوى بقصر الصلاة، عند فوات الجماعة علينا، وقد نمت في هذا اليوم، وعندما استيقظت عند إقامة صلاة العصر، وجدت نفسي قد احتلمت، فلو أنني قمت، واغتسلت، فإنني لا ألحق صلاة الجماعة في المسجد من أجل ذلك.
الجواب
على كل حال سبق أن بينت أن الاحتلام لا يبطل الصيام، وما دمت صائماً فعليك أن تتم صومك، حتى الذين يفتون الطالب أنه مسافر، يرون أنه إذا لزم الصيام ونواه وجب عليه أن يتمه هذا مذهب كثير من أهل العلم، فمثل حالك عليك أن تتم صومك، والاحتلام لا يبطل الصوم، وأما بالنسبة للصلاة فإنك تغتسل وتصلي ولو كنت منفرداً.(51/73)
أسباب كثرة الخلافات في المجتمع
وهناك نقطة صغيرة سأذكرها بإيجاز لأهميتها وهي: كثرة الشكوى هذه الأيام وفي كل وقت من كثرة الخلافات في المجتمع، فخلاف الزوج مع زوجته كثير، وخلاف الأبناء مع أبيهم، وخلاف الجيران مع جيرانهم، وخلاف الأقارب مع أقاربهم مع أن الإسلام هو الدين الذي جاء لربط أواصر الأخوة بين الناس، حتى الأبعدين فضلاً عن الأقربين، والشكاوى في هذا كثيرة جداً، وقد تأملت أسبابها، فوجدتها كثيرة، لكني سأذكر منها سببين للمناسبة: أولهما: كثرة الكلام في غير طائل، والقيل والقال، والغيبة، والنميمة ونقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، والله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فأكثر ما يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين المؤمنين بسبب الكلام، والقيل والقال، وما أشبه ذلك، فعلينا أن نتحرى الكلام الطيب وأن نحرص على أن لا ننقل من الكلام إلا أحسنه، فإن الناقل كالقائل.
السبب الثاني: هو المعاصي، فإن المعاصي سبب في الافتراق وتغير القلوب واختلاف النفوس، قال لي إنسان -هذه الأيام-: إن صديقي فلاناً يشرب الخمر، قلت له: بئس العمل، فقد نهى الله عنه وتهدد فاعليه، فقال لي: إنه لا يكون أحسن لي ولا أطيب ولا أجمل خلقاً، ولا أرق قلباً منه حين يشربها، قلت له: صدق الله وكذبت أنت، يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] فأثبت سبحانه أن الخمر والميسر من أسباب العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وهكذا سائر المعاصي.(51/74)
حكم الصبغة السوداء للمرأة
السؤال
ما حكم استعمال المرأة للصبغة السوداء لكي تتجمل بها لزوجها؟
الجواب
هناك حديث جاء عن جماعة من الصحابة: {غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد} ولهذا ذهب كثير من أهل العلم أنه لا يجوز للمرأة ولا للرجل أن يصبغ بالسواد، ولكن له أن يصبغ بغير ذلك.(51/75)
حكم ما نقل عن السلف بخصوص رمضان
السؤال
ما ينقل عن السلف من الدعاء ستة أشهر أن يبلغهم الله رمضان، وستة أشهر أن يتقبله منهم، ما صحة ذلك؟
الجواب
لا أظن أن هذا يصح، والله تعالى أعلم.(51/76)
حكم خلوة المرأة بالسائق
السؤال
ما الحكم فيما قيل من أن السائق إذا كان محل ثقة فإنه يجوز أن تذهب المرأة معه إلى السوق، أو إلى داخل العمران؟
الجواب
هذه من المشكلات التي عمت بها البلوى، فكثير من البيوت يكون فيها سائق وحده، ويجلس في البيت ويكون على مقربة من النساء، ويتعرف على أحوالهن، وقد يذهب بهن، وقد تتجمل له المرأة وتركب معه، وهي متطيبة وينفرد بها، وإلى غير ذلك من المفاسد، وبالمقابل هناك خادمة ينفرد بها الأولاد، ويكون من جراء ذلك مفاسد عظيمة، نطلع نحن وغيرنا على شيء كثير منها: {وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فعلى الجميع الحذر من ذلك غاية الحذر.(51/77)
الصدقة بركة
السؤال
أخت تقول: أنا امرأة في الحرم تضايقت من المتسولين، وصرفت خمسين ريالاً منهم ووزعتها عليهم، ولم أتحرك من مكاني، هل عليَّ شيء؟
الجواب
لا شيء في ذلك، بل أن الصدقة -إن شاء الله- مخلوفة، خاصة في هذا الشهر، وفي البلد الحرام، ولكن على الإنسان أن يتحرى أهل الحاجات.(51/78)
حكم ما يأخذه المواطن من الدولة
السؤال
ما حكم ما يأخذه المواطن من الدولة، هل أخذنا له جائز أم محرم؟
الجواب
ما دام هذا الأخذ جاء لك وليس على حساب غيرك، فمجرد إنسان تقدم بمعروف، أو حتى وصله من غير طلب فلا حرج عليك من هذا، فإن كان من غير طلب فلا حرج عليك ألبتة بل له أن يأخذه، فإن كان محتاجاً فبإمكانه أن يصرفه في سبل الخير، أما إن كان نتيجة طلب فهو مباح -أيضاً- وإن كان الأفضل ألا يطلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ل حكيم بن حزام: {ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك} والحديث في الصحيحين، وأما إذا كان هذا المال تخصيصاً لك -مخصصات لك- وأنت لا تستحقها، وهناك من هو أحوج وأحق بها ومحرومٌ منها فحينئذٍ لا يسعك أن تأخذها، فإما أن تتركها وأما أن تأخذها وتصرفها لمن تعلم أنهم محتاجون.(51/79)
وكن من الشاكرين
تناول الشيخ -حفظه الله- قضية وجود الله وإحسانه إلى خلقه مؤمنهم وكافرهم، وأهمية الشكر ولزومه تجاه هذه النعم، ثم علق على أن الشكر المطلوب لا يعني حاجة الله إليه وإنما حاجة العبد إليه، وأن الإنسان لا يستطيع أن يؤدي شكر النعمة ولو عكف حياته كلها عبادةً وذكراً، ولا يكلفه الله من الأعمال إلا ما يطاق.
ثم ختم حديثه بالتذكير بحاجة الإنسان إلى ربه وأن هناك شدائد لا مخرج منها إلا بالله.(52/1)
جود الله وعطاؤه يعم المؤمن والكافر
الحمد لله الكريم الجواد، واسع الفضل، جزيل العطاء، القائل سبحانه: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] .
اللهم أنزل على هذا الجمع المبارك من بِرِّكَ وجودِكَ ورحمتِكَ يا حي يا قيوم، ما تبيض به وجوههم، وتشرح به صدورهم، وتنور به دروبهم، وتغنيهم به من الفقر، وترحمهم به يا حي يا قيوم، وتعزهم به من الذلة، اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً، اللهم اغفر لنا في ليلتنا أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين.
أما بعد: من أسماء الله تبارك وتعالى الجواد، أي ذو الجود والكرم، فهو الذي يُعطي بغير حساب، ويُعطي من لا يستحق العطاء، حتى إنه جلَّ وعلا لم يقصر عطاؤه في هذه الدنيا على المؤمنين الصادقين القانتين فحسب؛ بل حتى الكفار يأكلون من رزقه، ويتنفسون الهواء الذي أعطاهم، ويشربون الماء الذي سقاهم، ويأكلون الطعام الذي سخر لهم، وهم يكفرون بالرحمن، فخيره إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد، وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: {إني والإنس والجن لفي نبأٍ عجيب، أخلقُ ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلىَّ صاعد} ماذا قالوا؟ قالوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [مريم:88] وقالوا: إن له صاحبة من الجن وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181] .
بل بلغت الوقاحة بأقوام أن يقولوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37] ويقولوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] .
وهذا كله لم يحل بينهم وبين رزق الله وعطائه، فهؤلاء الكافرون المعاندون المرتدَّون والملحدون، يأكلون مما رزق، ويشربون مما خلق، ويتنفسون هواءه، ويعيشون في كونه، يستظلون سماءه، ويجلسون على أرضه، وهذا من جميل عطائه.(52/2)
لزوم شكر الله على نعمه وعطائه
وأقل ما يقوم به العبد في مقابل شكر هذا العطاء الكبير، هو أن يقول: شكراً يا ألله، فقد جرت العادة أن الإنسان يقول لأخيه الإنسان لو قدم له خدمة زهيدة بسيطة، كأن يركبه على سيارته، أو يقوم بمتابعة معاملةٍ تخصه، أو يرد عليه بكلمة؛ فإنه يقول له: شكراً، حتى لمن يؤدي له واجباً لابد من أدائه.
فلو أن شخصاً استدان منك مبلغاً ثم رده عليك، لقلت له: شكراً حتى أصبحت هذه الكلمة عادةً مألوفةً عند الناس؛ فهذا الإله العظيم الذي هذا عطاؤه، وهذا فضله، وهذا منُّه، قلبك لا يخفق إلا بإذنه، وبصرك لا ينطلق إلا بإذنه، وسمعك لا يصيخ إلا بإذنه، ورجلك لا تمشي إلا بإذنه، ويدك لا تبطش إلا بإذنه، وفمك لا يمضغ إلا بإذنه، وكل جسمك إنما يتحرك بإذنه!! أليس حقاً عليك أن تقول له: شكراً يا رب؟! هذا الذي أعطاك ويرضى منك بهذه الكلمة، متى خرجت من قلبٍ صادق.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها} فهذا يرضي الله تبارك وتعالى عنك.
وهذه الكلمة التي تبذلها لكل إنسان ممن يستحق ومن لا يستحق، ألا ترى حقاً عليك أن تبذلها لهذا الخالق العظيم الحكيم المبدع العظيم، فتقول له وأنت تعفر وجهك بالتراب، وتقول له وأنت ساجد: شكراً لك يا رب على جميل عطائك، أصححت جسمي على حين أن المستشفيات ملأى بالمرضى، وأحييتني على حين أني قد سرت خلف أعدادٍ كبيرةٍ من الجنائز.
وأودعتُهم إلى القبور، وعافيتني إذا ابتليت غيري، وأغنيتني إذ أفقرت غيري، ورزقتني سمعاً وبصراً وفؤاداً، وأنت خير الرازقين، فشكراً لك يا رب من أعماق قلبي، شكراً لك على هذا العطاء الذي لا ينتهي، وشكراً لك على هذه المنن التي لستُ لها بأهلٍ، ولكنك أنت يا رب أهل التقوى وأهل المغفرة.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:126] فهذا أبونا وسيدنا -سيد الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام- يدعو الله تعالى لهذا البلد، مكة وما حولها أن يجعلها الله بلداً آمناً وأن يرزق أهلها من الثمرات، ثم تذكر إبراهيم شرطاً فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:126] أي: كأن إبراهيم دعا للمؤمنين بأن يرزقهم الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] يعني: الرزق ليس خاصاً بمن آمن بالله وعمل صالحاً، ولكن الرزق يأكل منه حتى الكافرون، فيغدق الله تبارك وتعالى عليهم النعم، ولكن يضطرهم بعد ذلك إلى عذاب النار وبئس المصير.(52/3)
الشكر يكون بالقلب واللسان
فيا أخي المؤمن: من حقه تبارك وتعالى عليك أن تقول له: شكراً، كلمة مكونة من ثلاثة حروف أو أربعة، ومن حقه عليك أن تكون كلمة الشكر هذه من قلبك، وليس من أطراف لسانك، فإن الله عز وجل هو المطلع على خفايا القلوب، فلابد أن يتواطأ قلبك مع لسانك في شكر المنعم جل وعلا، فتقول له: شكراً بلسانك، وقلبك معترفٌ بأن هذه النعم من عنده.
فلا تنسب النعم إلى غيره، وتقول: هذه النعمة من فلان أو من علَّان، أو تدعو لفلانٍ وعلانٍ فحسب مع أنهم ليسوا إلا أسباباً فقط.
وهب أنك -ونسأل الله تعالى أن يشفيك ويعافيك وألا يصيبك بمكروه- أحسست بألمٍ ثم ذهبت إلى الطبيب، فعالجك وأبدى وسعه حتى شفاك الله على يديه.
فتجد الكثيرين يكتبون كلمات العرفان لهذا الطبيب، وربما نشروها في المجلات والجرائد، أو لمن تعاون معهم، أو لمن تسبب في نقلهم إلى مستشفى من المستشفيات، أو لمن واساهم أو لغير ذلك، لكن ربما ينسى الكثيرون توجيه الشكر الخالص للمنعم الأول وهو الله جل وعلا.
من الذي وجه قلوب الناس إليك حتى أعانوك وساعدوك؟! من الذي حرك همة الطبيب حتى عُني بك وأبدى وسعه في علاجك؟! من الذي جعل العلاج شافياً ونافعاً؟! وربما تناول إنسانٌ علاجاً فكان فيه حتفه، وكان سبب هلاكه، فمن الذي جعل هذا العلاج بلسماً وترياقاً شافيا لك من مرضك؟ إنه الله، فلابد أن توجه الشكر له أولاً قبل أن تشكر المخلوقين.(52/4)
كمال الشكر وحقيقته
ثم من كمال شكرك له عز وجل أن تثني عليه بما هو أهله، فالله تعالى هو المستحق للحمد، وكل فضلٍ فهو به جدير، وكل نقصٍ فهو منزه عنه جل وعلا.
إذاً تعبَّد له تعالى بكثرة الثناء عليه، وكثرة مدحه في الخلا وفي الملا، أعني في خلوتك وانفرادك عن الناس، وفي حضور الناس.
يا أخي! تذكر، لو أن إنساناً من الناس صنع لك معروفاً، فإنك إذا كبر المجلس من حولك، قلت: فلان جزاه الله خيراً، والله ما قصر فعل معي كيت وكيت وإذا كان في المجلس أحدٌ يعرفه وتتوقع أنه سوف ينقل إليه الكلام، ويقول: فلانٌ قال فيك كذا وكذا، فإنك تبالغ في المدح، وتقول: لا أعلم أحداً له في عنقي مِنَّهً بعد الله عز وجل، وبعد رسله، وبعد الصالحين، وبعد والدي مثل فلان، فقد قدم لي من الخدمات كيت وكيت وكيت.
ومن الجيد أن تفعل ذلك؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تجدوا أنكم قد كافأتموه} فإذا كان هذا في شأن المخلوق، أليس الله من حقه علي وعليك أن نمدحه سبحانه، ونثني عليه، ونعطر مجالسنا بذكره، ونتلو آياته، وأسمائه الحسنى في الليل وفي النهار، وفي الغدو وفي البكور؟! يقول الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] سبحان الله! كل الكون يسبح الله تعالى، ويلهج بذكره، كما قال الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فكل شيء يسبح الله تعالى، حتى الجبال، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] فكانت الجبال تُسبِّح بتسبيح داود عليه الصلاة والسلام، فيسمع لها زجلٌُ بذكر الله تعالى، وتسبيحه، والطير تسبح الله تعالى وقد سُخرت لداود عليه السلام، فالإنسان فقط هو الذي يشذ أحياناً عن هذا الموكب فينحرف ويعصي، يقول ربنا عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:41] .(52/5)
لن تضر الله شيئاًَ إذا لم تسبح
أفتحسب أنك تضر الله تعالى شيئاً إذا لم تسبح؟ إن الله عنده ملائكةٌ في السماوات يسبحونه.
أتدري كم عدد الملائكة في السماء؟ الله أعلم.
لكن خذ نموذجاً واحداً فقط: في السماء السابعة البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة، كما في صحيح مسلم، فهم يدخلون مرةً واحدة فقط، يومياً سبعون ألف ملك، واحسب من بداية الدنيا إلى يوم القيامة، واضربها في سبعين ألف، فهؤلاء الملائكة الذين يدخلون البيت المعمور.
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي ذر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطَّت السماء} والأطيط: هو أزيز الرحل بالراكب، فإذا ثقل عليها الحمل صار له أزيز من ثقل ما فوقه، كذلك السماء لها أزيز من ثقل من فوقها من الملائكة: {ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضعٌ جبهته لله عز وجل راكعُُ، أو ساجدُُ، أو قائم!!} أهل السماء الأولى يقولون: سبحان ذي الجبروت والملكوت! وأهل السماء الثانية يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثالثة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت.
وهكذا، خلق لا يحصيهم إلا الله عز وجل، هؤلاء ليس لهم وظيفة إلا التسبيح لله، وذكر الله، وتعظيم الله، والعبودية المطلقة لله تعالى، فماذا يضر إذا أنفلت إنسان من هذا الموكب وكفر بالله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] فمن الناس من يسبح الله عز وجل ويحمده ويشكره، فهذا مشى في هذا الموكب الكريم وأطاع الله تعالى، وآخرون لا يسبحون الله فحق عليهم العذاب وأهانهم رب العالمين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] فهل أنت تتعبد لربك بالثناء عليه؟ وهل أنت تعبد الله تعالى بمدحه والثناء عليه أم لا؟ فإذا قلت: الله غني، نعم هو غني سبحانه؛ لكن أنت المستفيد، فأنت المستفيد لأنك تؤدي بعض شكر نعمة الله، وتؤدي بعض الجميل، مع أنك لا تستطيع أن تقوم بأداء نعمة الله تعالى.
والله لو ضللت عمرك كله من يوم أن وعيت إلى أن تموت وأنت في سجدةٍ واحدةٍ لله وفي صلاةٍ وذكرٍ وتسبيح فإن هذا لا يؤدي شيئاً يُذْكَر من شكر نعمة الله تعالى.(52/6)
إياك وكفران النعمة
إن الله تعالى لا يكلفك إلا بما تستطيع، فهو يكلفك بكلمة شكر تقدمها للخالق المبدع العظيم جل وعلا، ويكلفك بأن يخفق قلبك بحبه، ويكلفك بأن توظف جوارحك في طاعته، فلا ترتكب معصية لله تعالى قط، خاصة وأنك إذ تعصي الله تعالى، فإنما تعصي الله بنعمته، فالذي يسرق يستخدم يده في السرقة، ويده إنما هي خلق الله ونعمة الله، والذي ينظر إلى الصور والأفلام، والمسلسلات الهابطة والمجلات الخليعة، أو يقرأ الكتب الإلحادية، إنما يستخدم عينه وهي نعمة الله، والذي يسمع ما يسخط الله تعالى من الفٌحش والبذاءة والسباب والشتام أو من كلام الكفر أو غير ذلك أو الغناء، إنما يسمعه بأُذنه وهي نعمة الله، والذي يشرب الحرام فيتناول المخدرات، أو المسكرات، أو حتى الدخان، إنما يستخدم فمه، وفمه نعمة الله، وهكذا لا تستطيع أصلاً أن تمارس أي عملٍ في الدنيا إلا بهذه النعم التي أعطاك، فهل من حقه عليك أن تعصيه باستخدام نعمته فيما لا يرضيه؟ وهل هذا شكر نعمة الله جل وعلا؟! {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] .(52/7)
اعمل فالموت قادم
جاء ملكُ الموت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فلما رآه موسى لطمه لطمة كما في صحيح البخاري، فرجع ملك الموت إلى ربه جلَّ وعلا، وقال: {يا ربِ، أتيتك من عند عبدٍ لا يريد الموت، فقال الله تعالى: اذهب إلى موسى فقل له: ضع يدك على متن ثور؛ فإن لك بكل ما غطت يدك -بكل شعرة- سنة، فرجع ملك الموت إلى موسى، وقال له: ربك يقول لك: كذا وكذا، فقال له موسى صلى الله عليه وسلم: ثم ماذا بعد هذا العمر الطويل؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن} وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تكون جبانا فمادام أن الموت لابد منه، فالآن، ثم دعا ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر، فمات هناك!! فالموت هو أعظم الشدائد، حتى إن عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما في مستدرك الحاكم وغيره وسنده جيد- لما حضره الموت كان عنده ولده عبد الله فقال له: [[عمرو: بايع، قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أريد أن أشترط أن يغفر لي، قال: بايع فإن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، والهجرة تجب ما قبلها -أو قال الحج- قال: فبايعته، فوقع حبه في قلبي، حتى إني ما كنت أستطيع أن أنظر إليه صلى الله عليه وسلم، إجلالاً وإعظاماً له، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، قال: ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها]] يعني تولى أمور الخلافة والمشاركة في أحوال القتال، والإمارة وغيرها من الأشياء التي يخاف من عواقبها، ولا يدري ما حاله فيها، إلى آخر الخبر.
المهم أن حالة الموت وساعة الصفر كما يقال: من أحرج المواقف، فمن هو الذي سوف يسعفك؟ يقول الله في القرآن الكريم: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] .
فهذا تحدٍ، إذا كنتم لا تؤمنون بالجزاء والحساب، وتظنون أنكم لن تدانوا ولن تحاسبوا يوم القيامة، فارجعوا الروح إلى الجسد، فارجعوها إن كنتم صادقين، وهيهات!! فالله وحده هو الذي يمكن أن يسعفك وينقذك، فيلطف بك، ويرأف بك في هذا الموقف العسير، وينزل عليك من السكينة والجود ما يجعلك تموت وأنت قرير العين، وفرح بلقاء الله: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه} فالمؤمن يموت بعرق الجبين، ويموت وهو يتهلل، ويقول كما قال بلال: غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه ويموت وهو يقول كما قال حذيفة وغيره: [[أعوذ بالله من يوم صبيحته إلى النار، لا أفلح من ندم.
الحمد لله الذي سبق بي الفتنة]] .
فيحمد الله أن توفاه قبل أن يفتن في دينه، ويموت وهو يقول كما قال بعض المحتضرين، وقد أخبروه بأنه قد يُئس من شفائه وعلاجه، فقال أبياتاً يودع بها من حوله، ويذكر بها ربه، ويشكره على نعمائه وجوده وكرمه، وهي أبياتُُ طويلة منها قوله: أهاجك الوجد أم شاقتك آثارُ كانت مغاني نعم الأهل والدارُ وما لعينك تبكي حرقةً وأسىً وما لقلبك قد ضجت به النارُ هيهات يا صاحبي آسى على زمنٍ ساد العبيد به واقتيد أحرارُ أو أذرفُ الدمع في حبٍ يفاركني أو في اللذائد والآمال تنهارُ أَمَتُّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر صرارُ وبعت لله دنياً لا يسود بها حقُ ولا قادها في الحكم أبرارُ وإنما جزعي في صبيةٍ درجو غُفلٍ عن الشر لم توقد لهم نارُ قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم للمكرمات فلا ظلمُُ ولا عارُ واليوم سارعت في خطوي إلى كفنٍ يوماً سيلبسه برٌ وكَفَّارُ بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدارُ تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزارُ وأنتمُ يا أُهيل الحي صبيتكم أمانةٌُ عندكم هل يهمل الجارُ فيموت وهو يحمد الله، وهو يشكر الله، أهذا خيرٌ أم من يموت والعياذ بالله على شر حال، كما قيل: إن أحدهم حين حضرته الوفاة قال لأخيه: هات لي المصحف، وكان رجلاً مسرفاً على نفسه، شديد الوقيعة في الدين وأهله، ضالاً منحرفاً، ففرح أخوه، وقال: لعله أن يتوب، فأسرع وأحضر له المصحف، فلما أعطاه المصحف، قال: هذا هو المصحف، قال: نعم: قال: أشهدك أني كافر بهذا الكتاب، ثم لفظ روحه والعياذ بالله فجلس أخوه شهوراً وهو مريضٌ وما به مرض؛ مما علم من سوء حال وخاتمة أخيه نسأل الله السلامة والعافية.
فأنت مقبلٌُ على شدائد في الحياة ولابد، وأنت محتاج فيها إلى الرب الرحيم الكريم الجواد، فأكثر من ذكره، وأكثر من شكره، وأكثر من الثناء عليه، وحَمْدِه ومدحه، واعتبر أن من أعظم القربات التي تتقرب بها إلى الرب جل وعلا هي ترديد أسمائه الحسنى وصفاته العليا والثناء عليه والغضب له، فتغضب له أشد مما تغضب لنفسك؛ فلو أن أحداً سبك أو شتمك، فإنك ستغضب له أشد مما تغضب لقبيلتك؛ لو أن إنساناً نال من قبيلتك وعشيرتك، وتغضب له أشد مما تغضب لبلدك لو أن أحداً تكلم في بلدك.
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن يحبهم ويحبونه، وأسأل الله تعالى أن يشرح قلوبنا جميعاً بذكره وشكره.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اجعلنا ممن يذكرونك كثيراً، ويسبحونك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً.
اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، آمنا بالله وتوكلنا على الله، وفوضنا أمورنا إلى الله، لا إله إلا الله.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، ونسأله بمنه وكرمه ألا يرد هذه الدعوات الحارة، وهذه الصرخات المؤمنة، ونسأله سبحانه أن يفتح لها أبواب السماء، وأن يستجيب لنا، إنه على كل شيء قدير، وهو بالإجابة جدير، وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .(52/8)
أطِعِ الله وأنت المستفيد
فأنت المستفيد إذ تذكر ربك، وأنت المستفيد إذ تشكره، وأنت المستفيد إذ تعظمه، فيشرق قلبك بحبه، وينشرح صدرك، وتأنس نفسك، فإن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته أهرول} فالله تعالى لك بكل خيرٍ أسرع، والمصطفى عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وسنده صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا غلام، إني أعلمك كلمات -ومنها- تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} فأنت مقبل على شدائد، شدائد لا يعلمها إلا الله، والآن نحن مجموعة في هذا المسجد -والغيب لله- لو كشف لنا سجل مستقبلنا ماذا سنرى؟! سنرى من كُتب عليه أن يموت بمرض خطير، وسنرى من بين سجلاتنا من كتب عليه أن يموت بحادث سيارة، وسنرى من بين سجلاتنا من كتب عليه أنه سيموت خلال أشهر، وسنرى من كتب عليه أنه سيموت خلال سنوات، وسنرى أموراً كثيرة؛ لكن الله من حكمته ستر الغيب: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] فهذه شدائد أنت محتاج فيها من يأخذ بيدك، ومن ينقذك فلا تستسلم لليأس مثلاً، ولا يصيبك همُُ وغمٌ وحزنُُ وكآبة فأنت محتاج إلى الله تعالى في كل حال، وخاصةً في أزمنة الشدائد، وهب أنك عشت حياتك في سرور لا ينتهي، ونعيم لا يوصف، وقرة عينٍ لا تكاد تخطر على بال، فإن الموت لك بالمرصاد، وهو آتٍ لا محالة.(52/9)
الأسئلة(52/10)
أجهزة التسجيل وبر الوالدين
السؤال
إن أبي قد منع دخول الأشرطة الإسلامية؛ لأنه يراها كأشرطة الغناء، وقد منع -أيضاً- الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم وذلك بالدعاء والحرج، بل منع جهاز المسجل والراديو الذي لا يُسمع به عندنا غير ما ذكرت، وذلك لحجة أن هذا يضر الأبناء والبنات ويفسدهم، وأنا لا أستغني عن ذلك لا عن الأشرطة ولا عن إذاعة القرآن، ولا أستطيع ترك ذلك لما أجد من مشقة عظيمة، ولا أستطيع السماع خارج المنزل، فأرجو نصيحة أبي، وهل أخرج المسجل والراديو والأشرطة لأنه قد حرِّج ودعا عليَّ، فماذا أفعلُ إذاً؟
الجواب
في الواقع أن جهاز التسجيل الآن، وما يُستخدم فيه من أشرطة إسلامية من أشرطة القرآن الكريم، وأشرطة المواعظ والخطب والدروس والمحاضرات وغيرها، مما لا يُستغنى عنه بحالٍ من الأحوال، وقد أجمعت الأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها على فائدة هذا الجهاز وأهميته؛ إذا استخدم في مثل هذه الأمور، فلن يكون أبوك على صوابٍ إذ منع مثل هذا خاصة مع وجودك أنت في البيت، وأنت -إن شاء الله- شابٌ صالح، فحقٌ على أبيك أن يدع الأمر لك، في وجود جهاز التسجيل في البيت وكذلك جهاز الراديو إذا كان لا يُسمع فيه إلاَّ ما يرضي الله: من القرآن الكريم، وفتاوى العلماء، وغير ذلك.
وينبغي لأبيك أن يراجع نفسه بأن يعلم أن هذا الجهاز سواء الراديو، أو المسجل يظهر فيه العلماء، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، ومن قبل ذلك الشيخ عبد الله بن حميد، وجميع علماء المسلمين بدون استثناء، فلن يكون هناك مسوغ بأن يسلك منهجاً غير مسلك العلماء، فإنهم هم الأسوة والقدوة، وإذا أصر على موقفه، فمن حقك أن يوجد هذا الجهاز في بيتك دون علمه وأن تسمعه فيما لا يؤذي أباك ولا يضايقه، ولا حرج عليك في ذلك -إن شاء الله- ما دمت باراً بأبيك قائماً بحقه.(52/11)
العناية بالعقيدة
السؤال
لقد استفدنا من هذا الحديث الذي كان قبل الصلاة فائدة عظيمة، فحبذا لو ركَّز العلماء على هذه العقيدة التي هي السبيل إلى الصراط المستقيم؟
الجواب
أرجو الله أن تعالى أن يكون الأمر كما ذكرت، وأن يكون الجميع قد استفادوا ويستفيدون، فإن العبرة هي بثمرة القول، لا بحسنه في ذاته أو بكونه حقاً في ذاته، والتركيز على هذه العقيدة وإحياء القلوب بها، هو من أهم الأشياء التي ينبغي أن يُعنى بها العلماء والدعاة إلى الله تعالى.(52/12)
معدل القراءة للقرآن في شهر رمضان
السؤال
ما هو المعدل المتوازن لختم القرآن في هذا الشهر المبارك؟
الجواب
كل إنسان بحسب وسعه وطاقته، وقد نقل عن السلف في ذلك أشياء متنوعة، فمنهم من كان يختم في يوم، ومنهم من كان يختمُ في يومين، ومنهم من كان يختمُ في ثلاث، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {ما عقل من ختم في أقل من ثلاث} وأمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يختم القرآن في أسبوع، وهذا في أيام السنة كلها، فعلى الإنسان أن يقرأ في أوقات فراغه كلها، ولا يكن همه أن يختم فحسب، وليكن همه أن يحرك قلبه بالقرآن، وهمه أن يحيي موات نفسه بذكر الله تعالى، وأن يتدبر القرآن؛ فإن القرآن إنما نزل كما قال تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ولهذا كونه يقف عند معاني القرآن، ويردد الآيات، ويتأثر بها، ويخشع ويتخشع ويبكي ويتباكى، فإن هذا خيرٌ من كونه يهذّ القرآن هذّاً كهذّ الشعر، وينثره كنثر الدقل، لا يقف عند آياته ولا عند معانيه، فعلى الإنسان أن يكثر من تلاوة القرآن وأن يحرك قلبه به، ثم ما تيسر من الختم بعد ذلك فحسن، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن كله مرات في هذا الشهر ويختمه، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري أنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن في كل سنة مرة في رمضان، فلما كان العام الذي مات فيه وقبض صلى الله عليه وسلم، عرضه على جبريل مرتين، يعني يقرؤه من أوله إلى آخره، ليعرف الناسخ والمنسوخ وما استقر عليه الأمر بعد ذلك، ويكون هذا جُزءاً من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فعلى الإنسان أن يحرص على ختم القرآن؛ مع حرصه على تدبر معانيه وعبره وآياته.(52/13)
حكم من أتى عليه رمضان وعليه صيام من رمضان السابق
السؤال
من عليه الصيام من رمضان الماضي وأتى رمضان الثاني ولم يقضه فما الحكم؟
الجواب
أولاً: عليه القضاء، ولا يجوز له أن يؤخر قضاء رمضان الفائت إلى ما بعد رمضان الثاني إلا لعذر، كأن يكون مريضاً أو يشق عليه القضاء، أو عليه قضاءٌ كثير أو ما شابه ذلك، ولا يستطيع أداءه، فإن جاء رمضان الآخر ولم يقض، فعليه أيضاً القضاء، وقال كثير من الفقهاء: عليه مع القضاء أن يُطعم عن كل يومٍ مسكيناً.(52/14)
قسوة الوالدين على أبنائهم
السؤال
أنا شابٌ نشأت بين والديّ، ووجدت منهما -سامحهم الله- الشيء الكثير من عدم المبالاة بي، وإهانتي، وعدم إعتبارهم لي، ولا زلت على ذلك، وأنا الآن متزوج، فبماذا توصونني تجاه ذلك، مع أن الإهانة من أبي خاصة ما زالت توجه إليَّ أمام زوجتي؟
الجواب
حقيقة هذا خطأ، فبعض الآباء لا يرى لولده قيمة ولا قدراً، وهذا خطأٌ كبير، حتى ابنك الصغير يجب أن تعلم أن من أهم وسائل تربيته هو أن تحترمه وتقدره ولا تهينه خاصةً أمام الناس، وتضع له شخصية، فتستشيره في بعض الأمور، خاصة في الأمور التي تخصه هو، حتى لو ذهبت لتشتري لولدك لعبة، فمن المصلحة أن تجعل له قدراً من الاختيار، فتقول له: هذه اللعبة من صفتها كذا، وقيمتها كذا، وهذه من صفتها كذا، وقيمتها كذا، وتجعله يختار، لأنه يخرج بذلك إنساناً قوي الشخصية، له ذاتية وله اعتبار، وأيضاً يخرج محباً ومقدراً لك.
أما إذا سحقت ولدك ولم تجعل له قيمة ولا وزناً؛ فإنه يكبر وهو يشعر بالهضم والضيم، ولا يستطيع أن يستقل بنفسه بأمرٍ من الأمور، فإذا كبر الولد وأصبح متزوجاً فلا يحق لوالده إهانته بحالٍ من الأحوال، لا أمام زوجته ولا أمام الناس، بل ولا حتى على انفراد، فينصح الآباء أن يتجنبوا ذلك، وأن يتقوا الله تعالى، في مثل هذه الأمور؛ فإن هذا لا يحل لهم.
أما بالنسبة لك أنت أيها الولد، فما عليك إلا الصبر الجميل، وأن تدرك أن بِرَّك بأبيك يقتضي حلمك عنه، وصبرك عليه، وتحملك ما يبدر منه، وأنت تقابل ذلك بأن تقول له: سمعاً وطاعة، ولبيك وجزاك الله خيراً، وأحسن الله إليك، وأن لا تواجه ما يفعله أبوك بقسوةٍ أو شدة أو غضب، فإذا خلوت بأهلك أو زوجتك؛ أخبرتها بأن هذا الأمر من والدك أمرُُ لا بد منه؛ لأنه شديد الغضب أو سريع الانفعال، وأنه لا يصبر وأنه يندم بعد ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يكف، فتعتذر لوالدك أمام زوجتك أو أمام من أهانك أمامه، فإن خلوت بوالدك فنبهته لذلك بالكلمة الطيبة كان ذلك منك حسن، وعليك على كل حال أن تدرك أن صبرك على والدك سوف تجد بإذن الله تعالى عاقبته في أولادك، فتجد أن الله تعالى يسخرهم لك، ويلين قلوبهم لك، ويحببهم إليك ويرزقهم برك.(52/15)
الطرق الموصلة إلى التوكل
السؤال
التوكل صفة مطلوبة في المسلم، فما هي الطرق الموصلة إلى هذه الصفة؟
الجواب
من أهم الطرق الموصلة إلى التوكل، أن تكثر من ذكر الله تعالى ومعرفة أسمائه وصفاته، فإن من عرف الله تعالى حق المعرفة، توكل عليه، ولهذا كان أكثر الناس توكلاً على الله تعالى هم الرسل والأنبياء؛ لأنهم يعلمون أن مقادير الأمور كلها بيد الله، فهو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وهو القابض، الباسط، الخافض، الرافع، النافع، الضار، المعطي، المانع، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} .
الأمر الثاني: أن تعلم أن الأسباب كلها ما هي إلا وسائل يجري الله تعالى قدره من خلالها، فالأسباب لا تنفع ولا تضر، وإنما هي وسائل يجري الله تعالى القدر من خلالها، فالعلاج الذي تتناوله، بل حتى الطعام الذي تأكله والشراب الذي تشربه، كل هذه الأمور إنما هي وسائل أجرى الله تعالى النتيجة عليها، ولو شاء الله تعالى لجعلها عكس ما تريد.
فعليك أن تكثر من ذكر الله، وتفويض الأمور إلى الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كما في حديث البراء بن عازب في صحيح البخاري يقول: {اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت} وقال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وكان من الدعاء الذي يقرؤه المسلم في كل صلاة، بل في كل ركعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لا نعبد إلا أنت ولا نستعين بغيرك، فاعبده وتوكل عليه.(52/16)
حكم الفصل بصلاة النافلة بين فريضة حُمعت مع أخرى
السؤال
إذا كنت مسافراً، وصليت في مسجد في الطريق جماعة صلاة الظهر، وأريد أن أصلي العصر قصراً، وحضرت جنازة، فهل أصلي العصر أو أصلي على الجنازة قبله؟
الجواب
إذا كانت الجنازة تفوت فعليك أن تصلي على الجنازة ثم تصلي العصر بعد ذلك، وهذا الفاصل لا يضر.(52/17)
السواك أثناء الخطبة
السؤال
ما حكم السواك والإمام يخطب؟
الجواب
لا ينبغي للإنسان في حالة الخطبة أن يتشاغل عن الخطبة بشيء لا بسواكٍ ولا بغيره، والسواك له مواضع، فمن مواضع السواك: عند الوضوء، وعند الصلاة، وعند قراءة القرآن، وعند دخول المسجد، وعند دخول البيت، وعند الاستيقاظ من النوم، وكذلك عند تغير رائحة الفم، فهذه هي مواضع السواك، وينبغي أن يعلم أن السواك مشروعٌ في رمضان وفي غيره، قبل الزوال وبعده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي الحديث الآخر: {عند كل وضوء} .(52/18)
حكم تركيب اللولب لمنع الحمل
السؤال
حكم تركيب اللولب للمرأة، وقد سمعنا من بعض النساء أنه يؤخر العادة الشهرية يوماً أو يومين فتترك الصلاة؟
الجواب
إذا احتاجت المرأة إلى منع الحمل لظروف صحية؛ فإن لها أن تمنع ذلك بأي وسيلة من الوسائل التي لا تضر بصحتها، ثم بعد ذلك إذا نزلت عليها العادة المعروفة -دم الحيض المعروف- فعليها أن تترك الصيام أو الصلاة، فإذا ارتفعت العادة وارتفع الدم المعروف -دم الحيض- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {دم الحيض أسودُ يعرف} فهو أسود ذو رائحه منتنة تصاحبه آلام في العادة، وإذا وجد في العادة توقفت، وإذا ارتفعت العادة فإنها تصوم وتصلي، وبعض النساء تقول: إنها لو استخدمت حبوباً أو غيرها لمنع العادة؛ ثم امتنعت العادة وصامت تظن أن عليها قضاء تلك الأيام، وهذا خطأُُ ليس بصحيح، بل متى صامت المرأة فصومها صحيح، مادام أن العادة لم تنزل معها.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، إنه على كل شيءٍ قدير.
وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(52/19)
كيف نتحرر من الأوهام
الأوهام التي تداهم الإنسان وتشغله كثيرة فما هي الأوهام؟ وما حقيقتها؟ وكيف تنشأ؟ وما علاقة الدنيا والموت والآخرة، وفوات المصالح الدنيوية وغرور الإنسان، ما علاقة ذلك بالأوهام؟ هذا ما أجاب عليه الشيخ حفظه الله، مدعماً ذلك بالشرح والتفصيل وضرب الأمثلة، فجزاه الله خيراً.(53/1)
مرض الأوهام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على عبدك وحبيبك وخليلك وخيرتك من خلقك نبينا محمد، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
أما بعد: هذه الليلة هيل ليلة الإثنين، الرابع من ربيع الثاني من عام (1411هـ) وقم الدرس (24) من الدروس العلمية العامة، عنوان هذه المحاضرة: كيف نتحرر من الأوهام؟ (كيف نتحرر من الأوهام؟)(53/2)
الإنسان والأوهام
لا شك أن الإنسان تصيبه كثير من الأوهام، وهذا الوهم الذي تتحدث عنه الأخت هو وهم الخوف الزائد التي أحست به، والأوهام كثيرة؛ بل إنني تأملت حالي وحياتي وحال الناس؛ فوجدت أن غالب أمرنا يدور على أوهامٍ في أوهام، وأننا نقتات الأوهام بكرة وعشياً في كثير من الأمور، بل لا أبالغ إذا قلت أن تأثير الأوهام في حياتنا أكبر بكثير من تأثير الحقائق، ولذلك لا تطمعوا أن أستقصي هذه الأوهام وآتي عليها في مثل هذه المحاضرة؛ فإنها أكبر بكثير من ذلك؛ لكنني سوف أتحدث عن أهم هذه الأوهام.
كثيراً ما يشكو الناس من الأمراض؛ سواء أكانت هذه الأمراض أمراضاً بدنية أم كانت أمراضاً قلبية، أي: من ضعف الإيمان، وضعف اليقين، وضعف التوكل، ومن الشهوة، ومن الشبهة…إلخ.
وأعتقد أن هذه الأمراض التي يشتكي الناس منها نصفها أمراضٌ حقيقية أو أقل من ذلك، والنصف من ذلك -بل يزيد- هي عبارة عن أمراض وهمية، فالوهم ذاته مرض أكبر وأعظم من الأمراض التي نشتكي منها.(53/3)
الموت بالأوهام
ويقال في القصة أو في الأسطورة: إن الوباء -أي المرض أو الطاعون- مر برجل! فقال له الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: ذاهب إلى قرية كذا وكذا، لأهلك خمسة آلاف رجل قد أمرت بإهلاكهم، وفعلاً انتشر الطاعون في تلك القرية، ولكن مات خمسون ألفاً بدلاً من خمسة آلاف، ثم رجع الوباء فمر بالرجل، فقال له: من أين أتيت؟ قال: من قرية كذا وكذا، قال: إنك كذبتني! أخبرتني أنك سوف تقتل خمسة آلاف، والواقع أنك قتلت خمسين ألفاً، فقال له الوباء: كلا! أنا قتلت خمسة آلاف، أما الباقون فقد قتلهم الوهم، أي: من شدة الخوف من هذا المرض، توهموا أنهم أصيبوا بجرثومته، فما زالت بهم الأوهام حتى جعلتهم على فرشهم، وأودت بهم إلى مراقدهم وإلى قبورهم.(53/4)
رسالة
حين أعلنت هذا العنوان لم أكن أدري أن معي ورقة فيها سؤال مطول من إحدى الأخوات رائدات هذه الحلقة، تقول فيها ما خلاصته: أنها تحس بخوفٍ شديد بعد الأحداث التي حصلت في الكويت، وما تلاها من تطورات.
وتقول: بأنها تشعر بذلك وهي في صلاتها: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99] تقول: إنها خائفة! تتذكر هذه الآيات وهي نائمة فتهب من فراشها مذعورةً فزعة، وتضطرب أعصابها، وتحس في قلبها خفقاناً شديداً لا يهدأ إلا حين تقوم فتتوضأ وتصلي وتدعو الله عز وجل.
وتقول الأخت الكريمة: إن ما يزيد من خوفها وقلقها وتعجبها؛ عندما ترى النساء مشغولاتٍ بالتفصيل والخياطة والتجميل وغير مباليات، بل يصرح بعضهن بأنهن يشعرن بالأمان، ليس النساء العاديات، بل وكثيراً من المتدينات والصالحات اللاتي تعقد عليهن الخناصر.
وتتساءل عن معنى خوفها هذا! هل هو خوفٌ زائد لضعف الإيمان، وضعف التوكل على الله عز وجل؛ أم ما معناه؟ ثم تذكر في آخر رسالتها: أنها بعد سماعها لمحاضرة (نظرة في أحاديث الفتن) هدأ حالها وأصبحت تحس بتفاؤل شديد، وسرورٍ ورجاءٍ عظيم، وبدأت تفكر في طموحات واسعة، لكن كان هذا لفترة قصيرة، ثم عاودها الخوف وتختم رسالتها وتقول: أفتوني في أمري، إني أراكم إن شاء الله من المحسنين!.
لم أكن أدري أن هذه الرسالة من ضمن هذه الأسئلة! حين أعلنت عن العنوان وهو (كيف نتحرر من الأوهام؟!) ولا شك أن هذه الرسالة داخلة في موضوع محاضرة هذه الليلة، وسوف نتحدث أو نتعرض لجانب من هذا الموضوع.(53/5)
كيف ينشأ الوهم وما حقيقته
أيها الأحبة: باختصار شديد: الوهم ينشأ من وضعنا للأشياء في غير موضعها، حين نصغِّر الكبير ونكبِّر الصغير؛ فحينئذٍ يتولد لدينا الوهم، وأضرب لكم بعض الأمثلة المادية القريبة: الشمس -مثلاً- جرمٌ هائل، ولما تقرأ كلام العلماء في جرم الشمس وحجمها وثقلها تتعجب أشد العجب! وتقول: سبحان الله العظيم! وتبارك الله أحسن الخالقين! لكن حين تأتي إلى إنسان شابٍ صغير أو طفلٍ ثم تريه الشمس وهي في رابعة النهار وفي كبد السماء، وتشير إليها؛ ثم تشير في مقابل ذلك إلى شيءٍ آخر قريب من عينيك وليكن -مثلاً- برجاً ضخماً، فتقول له: أيهما أكبر؟! بكل تأكيد هذا الصغير سوف يقول لك: إن البرج أكبر؛ مع أن هذه حقيقة مضحكة في نظر الناس؛ لأنه لا مقارنة بينهما، لكن لأن هذا الصبي الصغير لا يعرف حجم الشمس ولا يعرف أنها بعيدة عنه جداً، تصور أنه البرج -أكبر منها لأنه أقرب من الشمس- فهذا وهم في نفس الصغير! فكيف نشأ؟! نشأ لأنه وضع الأشياء في غير موضعها، فكبرَّ الصغير -وهو البرج- وتصور أنه كبير، وصغَّر الكبير -وهو الشمس- فتصور أن الشمس صغيرة لصغر عقله، وقد نضحك نحن من هذا المثال؛ لكننا نمارس هذا المثال على نطاق أوسع، وفي مجالات أخرى.
مثال آخر -وهو مثال مادي-: لو أتيت بورقة صغيرة ووضعتها قريباً من عينيك؛ لوجدت أنها تحجب عنك الدنيا كلها! الدنيا بسعتها وعرضها احتجبت وراء قصاصة من الورق بحجم راحة اليد! وذلك لأنك قربتها من عينيك فكبرت وغطت، أما الدنيا فكانت وراء ذلك، فهذا أيضاً وهم يحجب عن الإنسان رؤية الأشياء على حقيقتها.
وهكذا الأشياء المعنوية؛ خذ -مثلاً- قضية الموت؛ فالموت يحجبه عن كثير من الناس الوهم، لأن الموت يتصور الإنسان أنه بعيد، فينظر إليه نظرة صغيرة ولا يعطيه ما يستحق من التفكير، ولا ما يستحق من الاستعداد؛ وتكبر في عينه أشياء قريبة جداً، ولو تصور الموت؛ لتغير الميزان عنده.(53/6)
الموت الموت
ولذلك عند الموت -مثلاً- يصحو الإنسان على الحقائق ليجد أنه في هذه الدنيا كان يركض مغمض العينين ولا يدري ما أمامه، ولا يدري أن أمامه عن قريب حفرة سوف يقع فيها، فإذا وقع في هذه الحفرة صحا، وهي الموت، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:16-22] .
مثلاً: أنت في هذه الدنيا عندك موازين: مصالح، وأشياء تحبها، وأمور تبغضها، أناس تصادقهم، ناس تعاديهم، أشياء تفعلها، أشياء تتركها، وعندك أشياء كثيرة في هذه الدنيا، ولو سألناك على أي أساس هذه الأشياء؟! لماذا تحب فلان وتبغض فلان؟ لماذا تفعل هذه الأشياء وتترك هذه الأشياء الأخرى؟ قد تجد أنها لمصالح دنيوية.(53/7)
سبب الوهم
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38-39] إذاً ما سبب هذه القضية، وهذا الوهم الكبير الذي يحصل؟ سببه الغفلة والإغراق في الأشياء المادية التي يراها الإنسان، بمعنى أن الإنسان أعطاه الله عز وجل حواس، مثل: السمع والبصر واليد وغيرها، وأعطاه عقل فالإنسان يستخدم الحواس فيرى ويسمع فتؤثر فيه؛ لكنه لا يستخدم العقل، مع أن كثيراً من الأشياء التي مطلوب من الإنسان أن يفكر فيها؛ لا تدرك بالحواس، فمثلاً الجنة والنار لا تدرك بالحواس، وعذاب القبر لا يدرك أيضاً بالحواس، وقد تدرك آثار بعض ذلك؛ فيحتاج الإنسان إلى أن يحرك عقله، ويستخدم ما وهبه الله عز وجل ويتفكر؛ ولذلك أثنى الله عز وجل على الذي يتفكرون، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قام كما في صحيح البخاري وغيره، ففي إحدى الليالي: قام صلى الله عليه وسلم من نومه في آخر الليل، فتوضأ من شن قربة كانت معلقة، ثم نظر إلى السماء ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:190-192] .(53/8)
حقيقة الدنيا
وأيضاً الدنيا قريبة عندنا؛ فحجبت عنا الآخرة؛ فالدنيا بالنسبة لنا -مثلما ذكرت- كالبرج الضخم عند الطفل، فالدنيا لأنها قريبة منا ونحن نعيش فيها؛ حجبت عنا الآخرة؛ فأصبحنا مشغولين مشغوفين بالدنيا ومصالحها وحقائقها، ومشغولين بها عن الدار الآخرة وما فيها، مع أنه لا مقارنة بين الدنيا والآخرة وكما قال عز وجل: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بأنعم رجلٍ من أهل الدنيا، وهو من أهل النار، فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيغمس بالنعيم غمسة، فيقال له: يابن آدم هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك بؤسٌ قط -أو شدة قط-؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت شراً قط، وما مر بي بؤسٌ قط} .(53/9)
الموت والهم عند الإنسان
لو أتيناك وأنت على فراش الموت، وسألناك: هل أمورك السابقة ما زالت كما هي؟ هل الناس الذين كنت تحبهم لا زلت تحبهم؟ لقلت: لا والله! الآن أبغضهم وأتخلى عنهم! لماذا؟ لأنهم لم ينفعوك، وهل الدنيا التي كنت تحبها وتركض وراءها لازلت كذلك تحيها؟ لقلت: لا والله! {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] أي تخلى عنك.
إذاً: عند الموت تتغير الحقائق كثيراً في ذهن الإنسان، لكن بعد فوات الأوان!(53/10)
الموت قد يصبح وهماً
وهذا الموت الذي نغفل عنه، هو الآخر قد يصبح وهماً من الأوهام أحياناً، بمعنى: أن بعض الناس يخاف من الموت إلى حد أن الخوف نفسه أصبح وهماً، فيتوهم الموت في كل لحظة وقيام وقعود فإذا كان الإنسان صالحاً؛ ترك العمل الصالح بسبب غلبة الخوف على قلبه، وإذا كان ضعيف الإيمان؛ ترك كثيراً من الأمور والمواقف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والدعوة -خوفاً من الموت؛ بل قد يترك بعضهم الأسفار في حج أو عمرة أو أيَّ خيرٍ خوفاً من الموت؛ وإن كان في الدنيا فقد يصاب بالأمراض، وقد رأيت عدداً من الناس يعانون من وهم الموت؛ حتى إن أحدهم كان يقول لي: أنه لا يستطيع أن يمر من عند المقبرة، فهو يعمل في مكان معين والمقبرة في طريقه، فيذهب إلى مكان بعيد، أي: يسلك طريقاً بعيده حتى يتحاشى أن يمر بالمقبرة في طريقه، لأنه يقول: إذا مررت من عند المقبرة تنغص عليَّ يومي وأصبح لا أستطيع أن أصنع شيئاً، ويقول: كلما قمت بعمل؛ أتخيل أنني لا أتمه إلا وأموت، فإني وأنا داخل عليك الآن أشكو إليك حالي، تجد أنني أفكر فيما إذا مت الآن سوف تكون -الأخ يعنيني محرجاً، كيف سوف يتصرف؟ وكيف يمكن أن أبلغ أهله؟ وكيف يمكن أن أتخلص من الموقف؟ وما أشبه ذلك فيقول: يهيمن عليه خوف الموت إلى حد أنه أصبح - وهذا نوعٌ من الوسوسة - الخوف من الموت وهماً كبيراً يغطي على عين الإنسان.(53/11)
من فوائد معرفة حقيقة الموت
والتصور الصحيح لهذه القضية: هو أن يدرك الإنسان أن الموت أمرٌ عاديٌ جداً، فالموت هو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم أصلاً، سواء الذي يخاف من الموت أشد الخوف حتى أنه وصل إلى درجة الوسوسة؛ أو ذلك الإنسان الذي دفعه الخوف إلى ترك الجهر بكلمة الحق، أو ترك الأمر المعروف والنهي عن المنكر، أو ترك الجهاد في سبيل الله؛ فكل هؤلاء لم يضعوا الموت في موضعه الطبيعي ولم يعرفوا الموت حق المعرفة.
فالموت هو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم، بل هو ولادة أخرى، كما أنك ولدت أول مرة من بطن أمك؛ كذلك تولد مرة أخرى بالموت، وتنتقل إلى عالم آخر؛ ولذلك يقول الشاعر وهو يتكلم عن أحد الموتى: تمخضت المنون له بيومٍ أتى ولكل حاملة تمام يعني: كأنه قال: إن المنون -وهو الموت- مخاض، يعني: ولادة أخرى للإنسان؛ ولذلك يقول بعض الحكماء: إن الإنسان في الدنيا مثل الفرخ في البيضة، فكما أن اكتمال نمو الفرخ وبلوغه -كماله المقدر له- يكون بانكسار هذه البيضة وخروجه منها، فكذلك الإنسان خروجه من هذه الدنيا -خاصةً الإنسان المؤمن- هو نوعٌ من الكمال له:- أولاً: لخروجه على الإيمان -هذا إذا خرج مؤمناً -وتجاوزه الخطر، وتجاوز القنطرة.
ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت كانت فاطمة رضي الله عنها تقول: {واكرب أبتاه، وترى النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه الكرب ويتغشاه، ويتفصد جبينه عن العرق، فتقول: واكرب أبتاه، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} أي: آخر ما عليه، واليوم يقضي محمد صلى الله عليه وسلم آخر ما عليه، فهذه الكربات هي آخر عهده بكل الآلام وبكل الأحزان وبكل ما يكرهه الإنسان بعدها يفضي إلى نعيم دائم لا تَحوَّل عنه ولا زوال، فهذا كمال للإنسان.
كما أن الإنسان المؤمن عند انتقاله إلى الدار الآخرة هو كمال أيضاً؛ لأنه ينتقل إلى رضوان الله تعالى وجنته ونعيمه، وهذا لا شك ما لا يحصله الإنسان، ولا يدركه في هذه الدنيا.
كما أنه كمال من وجه ثالث؛ فإن الإنسان في هذه الدار هي دار التي الأحزان والأكدار: جبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفيرٍ هار فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفرٌ من الأسفار فالدنيا جبلت على كدر، ففيها الموت وفيها الآلام وفيها الأحزان وفيها المخاوف، وفيها الهموم، وفيها وفيها لكن! إذا انتهى الإنسان وأفضى إلى الدار الآخرة ترك ذلك كله وراء ظهره.(53/12)
تصور الموت وقت المعصية
وتصور -أخي الكريم- أن الإنسان وهو يواقع معصية: من نظرة حرام، أو شهوة حرام، أو كلمة حرام، أو ما أشبه ذلك، لو تصور نفسه في تلك اللحظة وهو يعاني سكرات الموت؛ هل كان يفعل تلك المعصية؟ كلا، ولو فعلها هل كان يتلذذ بها؟ كلا، لم يكن ليتلذذ بها، بل كان الموت ينغص عليه كل لذة، كيف لا! ونحن نجد أن الموت ينغص على الإنسان اللذات المباحة، فضلاً عن اللذات المحرمة، فضح الموت الدنيا، فلم يبق فيها لذي عقلٍ فضلاً ولا مكانة!!(53/13)
من آثار الجهل بحقيقة الموت
فلو أن الإنسان تذكر هذه الحقيقة؛ لاعتدلت في ذهنه موازين كثيرة؛ لكن القضية أنه استبعد هذا أتم الاستبعاد، فتولد عن ذلك أمراضٌ كثيرة، منها: الانقطاع عن الله عز وجل، وضياع الإنسان في أودية الدنيا؛ ومنها إغراق الإنسان في الشكليات، فصار مأسوراً بالملابس، بالسيارة، بالزوجة، بالبيت، بالمظهر، بالوظيفة، بالسمعة، بالأمور الشكلية التي ليست مقصودة أصلاً للإنسان في الدار الآخرة؛ وإن كانت قد تكون مطية إذا أحسن فيها النية.
ومن الآثار السيئة لذلك: أن الإنسان أصبح يحسن القبيح، ويزين في عينه الحسن، كما قال الشاعر: زُين في عينك القبيح كما زُين في عين غيرك الحسن يقضي على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن وقال الله تعالى -وقوله أبلغ وأصدق-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:14-16] وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] .(53/14)
إفاقة المحتضر
والإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب صيد الخاطر له كلمة جميلة، وضع لها المحقق عنواناً: إفاقة المحتضر، والمحتضر هو الذي نزل به الموت، يقول رحمه الله: أظرف الأشياء وأعجب الأشياء! إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف، ويقلق قلقاً لا يُحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو ترك للتدارك، أي: لو من أن يتدارك ما مضى، ويصدق توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها من الغم والأسف، يقول: ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية؛ لحصل كل مقصود من العمل بالتقوى، فالعاقل من مثل تلك الساعة -التي سوف يلقاها عند موته- وعمل بمقتضى ذلك، فإن لم يتهيأ له تصوير ذلك على حقيقته؛ تحايل على أن يتصوره على قدر إمكانه، كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: إن مت اليوم ففلان يغلسني، وفلان يحملني، فهو يتصور الأمر كأنه قريب، ولم يجعل هاجس الموت آخر ما يخطر في باله.
وذُكر رجل، بالغيبة عند معروف -وهو أحد الزهاد المعروفين- فقال معروف للمتحدث: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.(53/15)
كارهوا الموت
ولذلك لا يكره الموت إلا أحد رجلين:(53/16)
الإنسان المذنب العاصي
النوع الثاني ممن يكرهون الموت: هو الإنسان المذنب العاصي -مثلي ومثلك- ممن يخاف من ذنوبه، فهو يخاف أن يلقى الله عز وجل، وليس له وجهٌ يواجه به رب العالمين، فكيف يلقى الله وقد بارزه بالذنوب والمعاصي، وخيره إليه نازل وشره إليه صاعد؟! فيخجل العبد من ربه، ويتمنى أن يمد الله تعالى في أجله لعله يعمل صالحاً، ولعله يجدد توبة، ولعله يكفر عما سلف من ذنوبه ومعاصيه.
ولذلك الإمام الشافعي ويذكر أنه لما حضرته الوفاة، والإمام الشافعي شاعر كما هو معروف، وهو القائل: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد فلما تلفت ونظر قال: ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما فلولاك لم يصمد لإبليس عابدٌ فكيف وقد أغوى صفيك آدما فلله در العارف الندب إنه يفيض لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل مد ظلامه على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفي ما سواه في الورى كان أعجما ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول حبيبي أنت سؤلي وموئلي كفى بك وللراجين سؤلاً ومغنما ألست الذي غذيتني وهديتني ولا زلت مناناً عليّ ومنعما عسى من له الإحسان يجبر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما فهذا النمط الآخر ممن يكرهون الموت: من قدموا ذنوباً وسيئات يخافون أن يلقوا الله تبارك وتعالى بها.(53/17)
إنسان لا يؤمن بالدار الآخرة
إما إنسان لا يؤمن بالدار الآخرة، كافر والعياذ بالله، فيرى أنَّ قصاراة هذه الدار الدنيا، ولسان حاله كما يقول أحد الزنادقة: خذ من الدنيا بحظ قبل أن تنقل عنها فهي دارٌ لست تلقى بعدها أطيب منها فهل هذا الكلام صحيح أم خاطئ؟ ليس بالضرورة أن يكون خطأ، فقد يكون صحيحاً بالنسبة له هو؛ لأنه إذا لم يكن تاب من هذا الكلام فهو من الكفار، والكفار عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا؛ فالكافر قطعاً لن يلقى بهذه الدنيا داراً أطيب منها، كيف وهو ينقل من نعيمه وملذاته وبيته وقصوره وجماله وزيناته وأمواله؛ ينقل إلى العذاب والعياذ بالله؛ وينقل إلى سخط الله عز وجل، وينقل إلى الملائكة الذين يضربونه في قبره بمطرقة من حديد فيصيح صيحة يسمعه كل شيءٍ إلا الجن والإنس -كما في حديث البراء وهو حديث صحيح- فصحيح أن الدنيا للكافر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} .
ويروى أن الـ حافظ ابن حجر رحمه الله -ذكر في ترجمته- أنه مر بموكب -وابن حجر كان إماماً جهبذاً، له مكانه وفضله -فكان يمشي معه الناس في السوق- فمر في موكب حسن برجلٍ من اليهود في مهنة رديئة -كأن يكون مثلاً: يمسح الأحذية أو غير ذلك - فوقف هذا الرجل الكافر للإمام الـ حافظ ابن حجر وقال له: أريد أن أسألك سؤالاً، قال ما لديك؟ قال: أليس رسولكم -ونقول نحن صلى الله عليه وسلم- يقول: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} قال: بلى، قال: لكن أنت الآن في جنة وأنا في سجن؛ فكيف يحصل هذا؟! قال: نعم، أنت الآن وإن كنت في سجن إلا أنك إذا نسبنا ما أنت فيه وقارناه بما أنت صائر إليه في الدار الآخرة إذا ما لم تكن أسلمت فهو يعتبر جنة؛ وكذلك أنا؛ إذا وفقني الله عز وجل وسددني وثبتني ومت على الإسلام والإيمان، فما أنا فيه بالقياس إلى ما أنا صائر إليه من النعيم المقيم هو يعتبر سجناً، فأسلم هذا اليهودي، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ولذلك فإن الكافر يريد أن يأخذ مثلما سمعتم في البيت السابق الذي يقول: خذ من الدنيا بحظٍ قبل أن تنقل عنها أي: يريد أن يأخذ من هذا النعيم؛ لأنه ليس عنده إلا فترة واحدة، فقط وهي الدنيا، فيأخذ منها بقدر ما يستطيع، فهو يملئ فرجه وبطنه ويده من الشهوات بقدر ما يستطيع.
ولذلك عمر الخيام وهو أحد شعراء الفرس المشهور بالخمريات وشعر الغزل، والعكوف على الشهوات، له قصيدة -ضمن الرباعيات المشهورة له- يخاطب ساقيه أو منادمه فيقول: أفق وصب الخمر أنعم بها … إلى أن يقول في البيت الذي بعده: وُروِّ أوصالي بها قبل ما يصاغ دن الخمر من شربها يعني: عجل اسقني الخمر قبل الموت.
إذاً: الكافر هذه فلسفته وهذا مذهبه، يقول: عجل واشرب من الخمر وارتكب من الحرام، واملأ نفسك من الملذات؟ لأنه ليس عندك إلا فترة واحدة؟! أما المؤمن فعنده منطق آخر مختلف تماماً، فهو يقول: وارد في حسابي جداً أنني أُؤجل كثيراً من أعمالي الصالحة للدار الآخرة؛ وهذا وارد جداً في الحساب، خاصة إذا كانت هذه الأعمال محرمة أو كانت مما يعوق عن الله عز وجل؛ فإن الإنسان يؤجلها؛ ولذلك قد يخرج الإنسان المال وهو يحبه، كما قال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8] .
ولذلك روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قصة طويلة؛ وهي المعروفة بقصة سرية القراء الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أحياءٍ من العرب، وهم سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان معهم حرام بن ملحان خال أنس بن مالك فلما جاءوا إلى القوم الذين بعثوا إليهم، وقف حرام بن ملحان يدعوهم إلى الله عز وجل، ويبلغهم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأشاروا إلى رجلٍ منهم -واحدٌ من هؤلاء الكفار المشركين المدعوين- قيل إنه عامر بن الطفيل وقيل إنه جبار بن سلمى، فجاء إلى حرام بن ملحان وطعنه بالرمح حتى أنفذه، أي: طعنه في بطنه حتى خرج الرمح من ظهره، ففار الدم بغزارة فماذا صنع حرام بن ملحان؟ والآن أنت أمام إنسان تخلى عن أمر دنيوي، تخلى عن الدنيا كلها، فهل بكى على ما خلف من الزوجة والأولاد وعلى العبيد وعلى الدنيا وعلى المزارع والبساتين؟ كلا، لم يحصل هذا، إنما استقبل الدم الذي يفور من بطنه بغزارة، حتى امتلأت يده، ثم رشق الدم على رأسه، ووجه وصدره وقال: [[الله أكبر! فزت ورب الكعبة]] وهذا عجيب! فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على البقية وقتلوهم، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قرآناً نسخ بعد ذلك، وهو: {أن بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا} فكان الرجل القاتل يتعجب من هذا المؤمن! الذي يقتل الآن، ويقول: فزت ورب الكعبة، عجيب! فهل تعتقد أنه يمثل؟! هذا ليس موقف تمثيل، بل هذا موقف يصدق فيه الكاذب، ويؤمن فيه الكافر؛ فهو موقف جدِّ لا هزل فيه، والرجل يقول الحقيقة: [[فزت ورب الكعبة]] ولابد أنه رأى بعينه وامتلأ اليقين بقلبه، فصار يقول: فزت ورب الكعبة.
إذاً: المؤمن عنده منطق آخر ومقياس آخر غير مقياس أهل الدنيا؛ وهذا المقياس يقول: من الممكن جداً أن يتخلى الإنسان المؤمن عن كثيرٍ من أمور الحياة الدنيا رغبة في الله تعالى والدار الآخرة.
وهذا النوع الأول من الذين يخافون من الموت: وهو الذي لا يؤمن بالدار الآخرة، فيريد أن يبقى أكبر مدة ممكنة في الدنيا، حتى يستمتع بلذاتها.(53/18)
حال الصالحين مع الموت ونظرتهم له
أما الصالحون فهم بضد ذلك:(53/19)
التحرر من وهم الموت
كما أن هذه النظرة إلى الموت أكسبت المؤمنين الشجاعة في مواقفهم؛ لأنه ليست الشجاعة في الحروب فقط، فالشجاعة تكون أيضاً في المواقف، فما هو الذي يمنعني ويمنعك من أن نقول كلمة الحق ونصدع بها ونجهر بها؟ إنه الخوف؛ ورأس الخوف من الموت، لكن حين يتحرر الإنسان من الخوف، وعلى رأس ذلك الخوف من الموت؛ تزول عنده المخاوف والأوهام فيصبح هذا الإنسان يتعامل مع الحقائق؛ فهو يقول كلمة الحق ولا يبالي؛ لأنه يعرف أن الموت سوف يأتي في الوقت المكتوب -لا يتقدم ولا يتأخر- فلا يرهبه؛ فحينئذٍ: تجد أنه إذا اقتنع بأن من المصلحة أن يقول الحق: قاله ولا يبالي ولا يخاف.
والأمثلة على الصدق والقوة في الحق بسبب التحرر من الدنيا كثيرة، ولعل ما ذكرته لكم في المجلس السابق من قصص العز بن عبد السلام رحمه الله! هي أنموذج للتحرر من الموت الذي جعل العلماء ينطلقون من هذه الأوهام ويتخلصون منها، فيكون الواحد منهم شجاعاً في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله! وهو أحد العلماء المشهورين بالنطق بكلمة الحق والجهر بها، يقول: قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنُ وأنني مولعٌ بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضو على صم الحصى كمداً من مات من غيظهم منهم له كفن ولما أحرقوا كتبه رحمه الله -كما ذكرت هذا في غير هذه المناسبة، فقد أحرقوا كتبه من باب الغضب عليه، والحقد والكراهية- تحداهم! ولاحظ التحرر من الأوهام، وهذا وهم آخر، وهم الخوف على الكتب، والخوف على العلم، الخوف على المنصب، والخوف على المكانة، هذا وهم تحرر منه ابن حزم فكان يقول: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدرِي يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبريِ دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدريِ وإلا فعودوا في الكتاتيب بدأةً فكم دون ما تبغون لله من ستر كذاك النصارى يحرقون إذا علت أكفهم القرآن في مدن الثغر إذاً: قضية التحرر من الموت هو سر الشجاعة التي يتميز بها المسلم، سواء كانت الشجاعة في ميدان المعارك أو الشجاعة في كلمة الحق.(53/20)
المجاهدين والموت
وقد قرأت في سير بعض المجاهدين المتأخرين في كتاب لـ حافظ وهبه عن تاريخ الجزيرة العربية، يذكر أن بعض المعروفين بالإخوان الذين قاتلوا مع الملك عبد العزيز وكان منهم شجعان وأقوياء؛ فيقول: إن شخصاً منهم أتى إلى الشيخ، وهو موجود في المسجد -ولاحظ الصدق في البساطة، والوضوح بدون تكلف- والشيخ عنده عصا كانوا يسمونها المشعاب -فقال له: يا شيخ أنا منافق وبكى، قال: ما الذي بك؟ قال: نعم أنا منافق! إني إذا خضت المعركة أشعر بشيء من الرهبة في قلبي، وقد يمر في خاطري ذكر زوجتي وذكر ولدي، وأنا في صلب المعركة، وهذا لا يليق بالمؤمن، وهذا لا يليق بالمسلم، فأخبره الشيخ وقال له: يا ولدي، بارك الله فيك وثبتك الله، هذا أمر طبيعي، وهذا أمر جبلي، وذكره بـ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وكيف أنه في معركة مؤتة مرت في خاطره هذه الأشياء فتأخر بعض التأخر، فقال: يا نفس، إلى أي شيءٍ تتوقين؟ تتوقين إلى زوجتي، فهي طالق إلى عبيدي؛ فهم أحرار إلى مالي فهو صدقة لله عز وجل؛ ثم خاض المعركة وقاتل حتى قتل، وما زال يذكر له من هذه القصص ويورد عليه، فلما انتهى قال له هذا الرجل ببساطته وصدقه وإخلاصه: والله الذي لا إله إلا هو ما أخرج من عندك حتى تخرج النفاق من قلبي بعصاك هذه، فهو يطلب منه أن يؤدبه حتى يخرج هذا النفاق من قلبي ما هو هذا النفاق؟ النفاق أنه يحس بشيء من الرهبة، أو يتذكر شيئاً من الدنيا.
فهذا المنطق في فهم الموت أكسب المؤمنين شجاعة لا توصف؛ وما أخبار المجاهدين الأفغان عنا ببعيد، وكيف أنهم شباب أحياناً وقد اطلعت على كثير منهم ورأيت أسماءهم وسمعت بهم ورأيت منهم الكثير، تجد شاباً ما طرَّ شاربه، فهو في أعمار أولادنا! يخجل الإنسان من هؤلاء، فتجد الواحد منهم يترك دنياه ويذهب ليبحث عن الشهادة، وبغض عن رأيي الخاص في هذه القضية، وهل هناك تشجيع قوي للجهاد في أفغانستان، أم لا؛ فهذه قضية أخرى ليس لها مجال الآن؛ لأني تكلمت عنها وسأتحدث عنها -إن شاء الله-.
لكن أقول: إن مجرد كون هذا الشعور القوي عند هذا الشاب -يبحث عن القتل في سبيل- فهذا شعور كبير يستحق الإشادة.(53/21)
الرسول صلى الله عليه وسلم
فهذا محمد صلى الله عليه وسلم تاج الصالحين وإمامهم وخيرهم وبرهم وأفضلهم -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد التفت إلى أصحابه -وهم مجندلون في التراب، شهداء عند الله عز وجل- فقال صلى الله عليه وسلم: وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل} فيتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قُتل شهيداً في تلك المعركة مع هؤلاء الشهداء في معركة أحد.(53/22)
ابن مسعود
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، يقول أنه حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أبصر ناراً في طرف العسكر في إحدى الليالي؛ قال: {فذهبت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا معهم جنازة رجلٍ من المؤمنين المسلمين، هو عبد الله ذو البجادين قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره ووسده بيده، ثم واره وأهال عليه التراب، ثم قال: االلهم إني أمسيت راضياً عنه فارض عنه، فقال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة} .(53/23)
علي بن أبي طالب
وهذا علي بن أبي طالب، البطل الشجاع الذي لم يكن الموت عنده يساوي شيئاً ولا يخافه ولا يرهبه، لسان حاله يقول كما قال الشاعر: ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطفِ وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف فهو يقول خشية الموت عندي نكتة باردة، وأنا لا أخاف الموت! فخشية الموت عندي أبرد الطرف.
وكان رضي الله عنه يقول: [[والله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع عليَّ الموت]] وكان يخوض المعركة ويضرب بسيفه حتى ينكسر وهو يقول: أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر وانظر كيف هي الحكمة! وانظر الفهم! وانظر الإدراك! وانظر كيف تحولت المعاني من كلام يقال على لسانه إلى واقع يحكم حياته! يقول علي رضي الله عنه: أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يعني: متى أفر من الموت؟ والآن أنا مقبل على معركة، فهل يحق لي أن أخاف من الموت؟ يقول: لا يحق لي أن أخاف! لماذا؟ لأنه إن كان مقدوراً عليه أن يموت فسيموت ولو بغير المعركة، وإذا كان المقدور أن ينجو فإنه لن يموت بسبب دخوله المعركة: أي يوميَّ من الأيام أفر؟ يوم لا قُدّر أم يوم قدّر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر ولذلك مما يتعلق بسيرته رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان رضي الله عنه كما جاء في روايات عديدة يخبر أنه مقتول، وأنه يعرف قاتله، وليس بالضرورة أنه يعرفه باسمه، لكن يدري أنه مقتول، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تخبرنا من سيقتلك فنقتله؟ فالإمام رضي الله عنه بحكمته وإدراكه وذكائه قال: إذاً تقتلون غير قاتلي، فكر فما هو معنى هذا الكلام؟! معناه أن من هو مكتوب له أنه يقتلني سيقتلني.
إذاً: لا يمكن أن يقتل قبل أن يقتلني، فهو لا بد أن يقتلني، فلو قتلتم أحداً لكان هذا الذي قتلتموه ليس هو الذي كتب وله أنه سيقتلني؛ لأنه مكتوب عند الله أن الذي سيقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو عبد الرحمن بن ملجم فلابد أن يقتله عبد الرحمن بن ملجم، ولو قتلتم رجلاً آخر، فلن يكون هو قاتل علي [[إذاً: تقتلون غير قاتلي]] .
قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:51-52] فهذا المنطق في فهم الموت؛ أكسب المؤمنين على مدار التاريخ شجاعة في الحروب.
وقوة، حتى كان الواحد منهم يخوض المعركة ويتعرض للموت، وليست مسألة أنه يخاف ولا يتعرض للموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف خير الناس وأفضلهم: {رجلٌ مؤمن على متن فرسه يقوده في سبيل الله يبتغي الموت أو القتل مظانه} أي: إن هذا الرجل يبحث عن الموت، وليس هو خائفاً أو تغلب على الخوف، بل هو يبحث عن الموت.(53/24)
وهم الفوت
وهم آخر غير الموت، ورأيت أن أسميه: وهم الفوت، وأعني بالفوات: خشية الإنسان فوات المصالح الدنيوية واللذات الدنيوية، وأن يبتلى بضدها من المصائب والنكبات، كالخشية -مثلاً- على المال والرزق أو الخشية على الأهل، والخشية على الولد، أو الخشية على سائر اللذات الدنيوية من المآكل والمشارب والمناكح والمراكب، ومثله الخشية على الحرية، وهذه من أعظم الأشياء التي يخاف منها الإنسان، فهو يخاف من أن يحبس، فبعض الناس يعتبر الحبس موتاً آخر.
ولما سجن الأديب المعروف العقاد -سجن تسعة أشهر- ثم أخرج من السجن، قال قصيدة طويلة جميلة، من ضمنها يقول: وكنت جنين السجن تسعة أشهر وهأنذا في ساحة الخلد أولد ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد وانظر ومنطق الحكماء!: والحقيقة هذا الكلام -بغض النظر عن مصداقيته- كلام يقول الجميع أنه صدق، فهو سجن تسعة أشهر ثم خرج، فماذا يقول؟ وكنت جنين السجن تسعة أشهر وهأنذا في ساحة الخلد أولد ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد أي: إن العاقل يولد كل يوم، يعني: بالخبرة والتجربة والمعرفة، وأما الجاهل الغبي فيموت في اليوم الواحد مرات.
إذاً: الإنسان عنده وهم آخر غير وهم الموت؛ وهو وهم الفوت: فوات المصلحة، فوات الدنيا، فوات الرزق، فوات المال، فوات الأولاد، فوات الأهل، فوات اللذة، فوات السيارة، فوات المراكب الدنيوية؛ وهذا هو الذي يمنع الإنسان من البذل والمجاهدة في سبيل الله، فكم من واحدٍ يقعد عن الجهاد! لماذا؟ لأنه خائف على أولاده، ولعلكم جميعاً تذكرون ذلك الشاعر الذي يقول: لولا بنيات، وهو يقصد بناته الصغار: لولا بنيات كزغب القطا ردَّدن من بعض إلى بعض لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض فهل تعتقد أن المجاهدين الصادقين لا يحبون أولادهم؟ والله إن الواحد منهم يضم ولده على صدره حتى يكاد أن يكسر أضلاعه؛ من شدة شوقه وحبه له وحنانه وعطفه عليه، ويكفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المجاهدين، وإمام المتعبدين، يذهب إلى ابنه إبراهيم وهو عند أبي سيف القيم كما في صحيح البخاري، حيث كانت زوجة أبي سيف ترضع إبراهيم -كانت حاضنة ومرضعة لـ إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما مرض إبراهيم؛ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه إلى أبي سيف فتعجل بعض الناس وتقدم وقالوا لـ أبي سيف: الرسول صلى الله عليه وسلم قادم -أي: استعد- ليطفئ الكير حتى يزول الدخان، ويستعد لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحمله وشمه وقبله.
ثم بعد ذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم وهو يجود بنفسه -أي: يموت- فضمه النبي صلى الله عليه وسلم إليه وبكى ودمعت عيناه؛ فتعجب الصحابة، وقالوا: هذا وأنت رسول الله!! هذا أنت يا رسول الله تبكي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا تسمعون؟! إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه} والحديث الآخر: {إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} .
وقال صلى الله عليه وسلم: {إن له مرضعاً تكمل رضاعه في الجنة} وكذلك عمر: جاءه مرةً عيينة بن حصن أو غيره فوجد أنه يقبل الصبيان -وعمر هو أمير المؤمنين- يضم هذا ويشم هذا ويحمل هذا ويضع هذا! وهذا حصل للرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقال له الرجل: أتقبلون صبيانكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لا يرحم لا يرحم} وعمر أجابه بنحو ذلك.(53/25)
أمثلة على الفوت
وأضرب لكم -مثلاً- والأمثلة في موضوع الفوت، في الواقع تطول جداً لكن أمثلة سريعة.
خذ مثلاً نعيم الدنيا وقارنه بنعيم الجنة، إن نعيم الدنيا معروف، ويكفيك أن الله عز وجل كتب الفضيحة على الدنيا بحيث أن كل لذة في الدنيا فهي مشوبة بأمر يكرهه الناس، فلو نظرت -مثلاً- إلى الطعام! متى يكون الطعام لذيذا؟ إذا شعرت بالجوع، إذاً ألم الجوع يسبق لذة الطعام، وكذلك الطعام إذا ذكر الإنسان إلى ماذا يصير! فيجد أنه يصير إلى ما هو معروف فيكرهه، ويدرك أن لذات الدنيا مشوبة ومطوقة ومنغصة بأمور يمقتها الإنسان ويكرهها.
ونفس الكلام يمكن أن نقوله: عن لذة النكاح -وهي أعظم لذات هذه الدنيا- فيجد الإنسان أن هذه اللذة فيها من القبح والكراهة شيءٌ قد يمتعض منه الإنسان ويكرهه، ولولا أن النفس والجبلة قد جبلت عليه، وهي حكمة من الله عز وجل لاستمرار النسل والتوالد إلى أن يشاء الله عز وجل.
أما الآخرة: فأمرٌ آخر وراء ذلك، فليس فيها جوع ولا عطش ولا كدر ولا غم ولا هم ولا حزن، وإليك هذه الأمثلة.
في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه يقول: [[غاب عمي أنس بن النضر عن معركة بدر فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتالٍ قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتالهم، ليرنَّ الله ماذا أصنع، وهاب أن يقول غيرها -أي: ما استطاع أن يقول غير هذه الكلمة- قال: فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون -انهزموا- قام أنس بن النضر فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المؤمنين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم استقبل المشركين يضربهم بسيفه ويقاتلهم قتالاً شديداً، فلقيه سعد بن عبادة فقال يا سعد، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد]] فهو يحلف بالله أنه وجد ريحها، وحاشاه أن يكذب.
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها والمؤمنون الذين كانوا يقاتلون في الأزمنة الأخيرة كانوا يقولون بلهجتهم العامية: هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها فكانوا يحسون بريح الجنة فيقولون: هبت ريح الجنة، وكان يقول: [[الجنة ورب النضر! إني لأجد ريحها من دون أحد]] والله الذي لا إله إلا هو إنه لصادق.
والقضية ليست تخييل ولا رسم ولا تصوير، فالرجل لشدة شوقه إلى الجنة شم ريحها في أنفه؛ فاشتاق إليها وأسرع إليها، وصار يقاتل المشركين حتى قتل، وبعد المعركة بحثوا عنه، فما عرفه أحد إلا أخته، يقول أنس: [[فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة ما بين طعنة بسيف أو رمية بسهم أو ضربة برمح، ووجدناه قد قتل ومَثَّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته عرفته ببنانه، قال: فكنا نظن فيه وفي أمثاله نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]] ] وخذ -يا أخي الكريم- هذا المثال الآن: أنس بن النضر كبرت عنده الحقائق وصغرت عنده الأوهام، فحقيقة الجنة كبرت عنده حتى أصبحت حقيقة حسية يشمها بإحدى الحواس الخمس التي أعطاه الله عز وجل وهي الشم، وصغرت عنده الدنيا حتى أصبح يطؤها بقدمه ولا يلتفت إليها.
فهنا تحرر هذا الرجل من الوهم -وهم التعلق بالدنيا- وكيف لا يكون كذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {لقاب قوس أحدكم في الجنة خيرٌ مما تطلع عليه الشمس وتغرب} ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري أيضاً: {لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها} أٌف وتُفٍ على لذات الدنيا ونعيمها وبهرجها بالقياس إلى هذه الجنة!! فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكن ما هو الجاري؟ وما هو الحاصل بالنسبة لنا؟ الحاصل: أن لذات الدنيا كبرت في قلوبنا، فأصبحنا نتفنن -مثلاً- بالمطاعم والمشارب والملابس والقصور والسيارات والنساء، وأغرقنا في هذا الأمر حتى غلب علينا، وبالمقابل صغرت عندنا الحقائق الكبيرة -حقائق الجنة ونعيمها- حتى أصبحنا لا نتذكرها إلا في المناسبات، من رمضان إلى رمضان، أو بمناسبات الوعظ والتذكير يتذكر الإنسان هذا الأمر، وقد يبكي بعض الصالحين ثم يغادر ذلك وينساه، ويعود إلى ما كان عليه في دنياه، وهنا الخطأ فيجب أن نعيد الأمور إلى نصابها.
وخذ مثلاً نساء الجنة من الحور مع نساء الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث من قرأه وتأمله؛ يعجب له أشد العجب، والحديث رواه البخاري - يقول صلى الله عليه وسلم: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الدنيا لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً} الله أكبر! وهذا كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فهي تضيء ما بين المشرق والمغرب ولملأته ريحاً من طيب ريحها، وقارن هذه بأجمل نساء الدنيا وأعطر نساء الدنيا، وهل هناك وجه للمقارنة؟! هل يقارن الذهب بالخزف؟ هيهات هيهات، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها} .
إذاً: فأعد الحساب يا أخي الحبيب: {ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} أي: خمارها إن صح التعبير كما نسميه في هذه الدنيا.
إذاً: امرأة من نساء أهل الجنة خير من الدنيا وما فيها!! أفلا ما تستحق هذه الدنيا أن نقول لها: بئس لك متى ما كنتِ عائقاً في الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة؟! بلى والله.
فيا أخي: أعد النظر في هذا الحديث، واقرأ وتأمل فإن هذا هو كلام الصادق المصدق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها} .
ونعود -أيضاً- إلى ابن الجوزي رحمه الله! وننقل لكم النقل الثالث والأخير، يقول -أيضاً- في صيد الخاطر: والله إني لأتخايل دخول الجنة، ودوام الإقامة فيها من غير مرضٍ ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ؛ بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتورها منغص، في نعيمٍ متجدد في كل لحظة؛ بل في زيادة لا تتناهى، فأطيش يقول رحمه الله: فأطيش ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه، فوا عجباً من مضيع لحظةٍ يقع فيها، فتسبيحة يغرس لها في الجنة نخلة أكلها دائمٌ وظلها، فيا أيها الخائف من فوت ذلك، شجَّع قلبك بالرجاء، ويا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية.
فما هي الأشياء التي -ونحن نتحدث عن وهم اللذة الدنيوية- نتحسر على قوتها أيها الإخوة؟ نحن بحاجة إلى أن نكون صرحاء مع أنفسنا.
نحن غالباً ما نتحسر على فوات الدنيا: فوات المنصب أو الشهادة أو الوظيفة أو الزوجة أو ما أشبه ذلك، وهذا غالب حديث الناس، فهم يتحسرون على فوات أمورهم في الدنيا لماذا؟ لأنه كبر عندهم الصغير وهي الدنيا -وقد تقدم- وصغر عندهم الكبير وهي الآخرة، فتولد عندهم من ذلك وهمٌ عظيم.
أما الصالحون والعارفون فكانت حسرتهم على فوات الخير -فمثلاً- من التابعين من كان يتحسر على فوات صحبته صلى الله عليه وسلم كما كانوا يقولون لـ حذيفة رضي الله عنه: [[والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أكتافنا]] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر بعض من يأتون بعده، وأن الواحد منهم يتمنى أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولو وُتر أهله وماله، يعني: يتمنى أن يخسر ويفقد الدنيا بمقابل أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتمنون صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا الصالحون حتى اليوم.
وأسألكم بالله! هل هناك واحد منا جلس يوماً من الأيام حزيناً فلو سئل ما سبب حزنك؟ لقال: حزنت لأنني حرمت من رؤية وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحرمت من سماع كلامه وحديثه، وحرمت من الجلوس إليه، وحرمت من الصلاة وراءه؟! فهل هناك أحد منا مرَّ في خاطره هذا الشعور؟! اصدقونا فوالله إن كنتم مثلي فلا أظن أحدكم كذلك، فينبغي أن نعيد الحساب إذاً.
مثلاً: كانوا يتحسرون على فوات -المشاهد تقدم سمعتم قبل قليل- فـ أنس بن النضر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله غبت عن أول قتالٍ قاتلت فيه المشركين، يعني: معركة بدر غاب عن هذا المشهد وعن هذا الموقف العظيم -معركة بدر- فيفكر بعملٍ صالح في معركة أحد، فهو يتحسر على فوات ذلك، ويتحسرون على فوات بيعة العقبة، وعلى فوات بيعة الرضوان، وعلى فوات المشاهد العظيمة والمناسبات الكبيرة، وهم يتحسرون -أيضاً- على فوات الشهادة، فكان الواحد منهم يذم نفسه ويوبخها على أنه ما رزق الشهادة، ويقول مخاطباً نفسه: [[لو كان لكِ عند الله تعالى قدر؛ لرزقك الشهادة في سبيله]] أما نحن فحسراتنا على هذه الدنيا الفانية.(53/26)
علاج وهم الفوت
ولما كان كل الناس يحبون أولادهم ويتعلقون بهم، لكن لم يكن هذا ليمنعهم من البذل والمجاهدة في سبيل الله عز وجل.
فكيف نعالج التعلق بالدنيا؟! سواء كان التعلق بالزوجة، فيخاف الإنسان على زوجته أحياناً، أو يخاف على فوات اللذات، ويخاف على الرزق -كما ذكرت- يخاف على أهله، يخاف أن يحرم من هذه الأشياء؛ بل يخاف من أن يأتيه أشد منها وعكسها من المصائب الدنيوية -من الفقر والذل والهوان وما أشبه ذلك- كالجوع أو الخوف، فيخاف من هذه الأمور؛ فما هو العلاج؟ العلاج هو: أولاً: أن تتصور الأمور الدنيوية على حقيقتها، وتعرض عن الشكليات، فإياك والتعلق بالشكليات! وخذ مثلاً الحياة: كيف تقاس الحياة؟ وهل تقاس الحياة بعدد الأيام والليالي؟ أي: فلان عاش مائة وعشرين سنة فمعنى ذلك أنه انتهى من الحياة بشكلٍ جيد وأخذ حقه وافياً، والآخر الذي عاش أربعين أو خمسين سنة فهذا مسكين! ولم يعش شيئاً؟ كلا، فالحياة لا تقاس بالمدد والأعمار! فكم من الناس عاش أربعين سنة، لكن لما مات كانت الدنيا كلها قد انتفعت به؛ فأصبح كما يقال: ملء سمع الدنيا وبصرها، وقد تجد شاباً مات في الثلاثين أو بعد الثلاثين بقليل، ومع ذلك هو باقٍ بين الناس بالذكر الحسن؛ وبالمؤلفات النافعة، بالعلم، بالدعوة، بالمواقف المذكورة المشكورة المشهورة، بالجهاد، بالمنهج الذي خطه ورسمه للناس، المهم أنه باق بين الناس وإن كان في قبره:- يا رب حيٌ رخام القبر مسكنه ورب ميتٍ على أقدامه انتصبا إذاً: الحياة لا تقاس بالأيام والليالي، بل تقاس بالآثار، ولذلك أوجه إليك سؤالاً وأرجو -إن شاء الله- أنه من قلبٍ خالص، وأن توجه هذا السؤال إلى نفسك؛ بل هما سؤالان: السؤال الأول: اسأل نفسك: كم عمرك؟ السؤال الثاني: ماذا قدمت في هذا العمر الذي مضى؟ قد يكون عمرك أربعين أو خمسة وأربعين، فمعناه: أن زهرة عمرك انتهت، قوة الشباب وأريحيته، وتوقده، وحيويته، ونشاطه انتهت أو كادت، فتدارك ما بقي من عمرك، بارك الله فيك! والرسول صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة ورواه البخاري عن أنس يقول: {من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه} .
فالمقياس في بسط الرزق ليس هو كثرة المال، والمقياس في طول العمر ليس هو كثرة الأيام والليالي، فكم من إنسان كان ماله وبالاً عليه.
وأنا -والله- مرة من المرات زرت واحداً من كبار الأثرياء أصحاب رءوس الأموال، الذين يعدون على الأصابع؛ فوجدت هذا الرجل في حالة يرثى لها! في همٍ وغم لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد فقد وعيه وعقله وأصبح كأنه صبيٌ صغير، فقال لي: هلمَّ معي أريك بيتي -بيت سكنه منذ عشرات السنين- فصار يذهب بي إلى هذه الغرفة وتلك الغرفة، ويتذكر ذكريات الطفولة والصبا، وأيامه في صغره، وأعماله وعمله…الخ، فقلت سبحان الله! رجع الإنسان كما كان؛ كأن فترة الدنيا هذه كلها قد انتهت وشُطِّب عليها؛ فسار الإنسان في آخر عمره لا يتذكر إلا أيامه الأولى، أيام شظف العيش، وأيام الجوع، وأيام الفقر، وأيام الكد والكدح، فماذا نفع المال، وماذا نفع هذا الإنسان؟! لا شيء.
إذاً: ليس المقياس كثرة المال؛ بل كثير من أصحاب رءوس الأموال هم رواد المصحات النفسية، فهم يعيشون من الأمراض والأحزان والمخاوف شيءٌ لا يوصف أبداً، ولا أحد يتصوره، كذلك بالنسبة للدنيا ليس المقياس هو كثرة الأيام والسنين؛ بل المقياس هو مدى ما فعله الإنسان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه} .
الإيمان بالقدر: ثانياً: العلاج الثاني: هو أن يعرف الإنسان أن المقدور كائن، فإذا كان الله عز وجل كتب لك في هذه الدنيا شيئاً من ألوان المسرات الدنيوية، فسوف يصيبك مهما كان، حتى لو تركته فإنه يلحقك، وكم من إنسان سواء من السابقين أو اللاحقين كان يدفع الدنيا عنه بالراحتين وباليد ثم تلحقه الدنيا.
فـ عبد الله بن المبارك هل كان يبحث عن الدنيا؟ أبداً كان يركلها بقدمه وتقبل عليه؛ وفي مقابل ذلك: كم من إنسان يواصل كلال الليل بكلال النهار، ويتعب ويكدح من أجل الحصول على الدنيا وما حصل عليها؛ فالأسباب مشروعة فعلاً؛ لكن المقسوم سيقع لك.
الاهتمام بالآخرة والعمل لها:- ثالثاً: العلاج الثالث هو: أن يوسع الإنسان نظرته بحيث يضم الآخرة إلى الدنيا -كما ذكرت في مطلع الحديث- فيفكر بالآخرة كما يفكر بالدنيا، فلا ينتهي نظره عند تسرب العمر، بل يمتد إلى الدار الآخرة وما فيها.
وهاهنا أنقل لكم كلاماً للإمام ابن الجوزي رحمه الله! في كتاب صيد الخاطر وضع له المحقق عنواناً، يقول: لا ينبغي الحزن للموت، يقول: هو يتكلم عن نفسه: ما زلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد، ولا أنظر -أو أتذكر- إلى بلى الأبدان في القبور إلا وأحزن لذلك حزناً شديداً.
يقول: فمرت بي أحاديث كانت تمر بي ولا أتفكر فيها، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما نفس المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرده الله عز وجل إلى جسده يوم يبعثه} -يعلق أي يأكل من شجر الجنة فهذه روح المؤمن- يقول: فرأيت أن الرجل إذا ارتحل إلى الدار الآخرة فإنما يرتحل إلى الراحة، وأن هذا البدن ليس بشيء؛ لأنه مركب تفكك وفسد، وسيبنى بناءً جديداً يوم البعث، فلا ينبغي أن يتفكر الإنسان في بلاه ولتسكن نفسه إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة، فلا يبقى كبير حزنٍ للإنسان، وإن اللقاء للأحباب في الدار الآخرة عن قريب، وإنما يبقى الأسف -عند من يتأسفون على موت الأحباب والأصحاب- لتعلق الخلق بالصور، فلا يرى الإنسان إلا جسداً مستحسناً جميلاً قد نقض فيحزن لذلك، والجسد ليس هو الآدمي وإنما هو مَرْكب الآدمي، وإنما الآدمي حقيقة هو الروح، فالأرواح لا ينالها البلى والأبدان ليست بشيء.
هكذا يقول رحمه الله وهو منطقٌ حسن من هذا الرجل العارف البصير رحمه الله!(53/27)
مقارنة بين الحرمان الدنيوي والحرمان الأخروي
وفي مقابل قضية اللذات الدنيوية مع لذات الآخرة نقارن، العكس أيضاً، وهي الحرمان الدنيوي مع حرمان الأخروي.
فبعض الصالحين بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ أي: لما ذكرت عنده النار، فقيل: لِمَ تبكي؟ قال: والله لو أخبرني الله عز وجل أنه سوف يسجنني في حمام لكان هذا أمر عظيم؛ فكيف وقد أخبرت أني إذا عصيت سوف أسجن في النار؟ وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه وفي صحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عما أعد الله تعالى لأهل النار فيها، من الأمور التي يطول العجب منها، وأعظم ذلك: حرمانهم من رؤية الله تعالى والجنة والخير وإقامتهم الدائمة الأبدية في هذا العذاب الذي لا ينقطع، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الموت يكون في يوم القيامة بصورة كبشٍ أملح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة؛ أتعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم نعرفه، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار؛ أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم! هذا الموت قال: فيذبح في قنطرة بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة؛ لا موت، ويا أهل النار؛ لا موت، كلٌ خالد فيما هو فيه، فيزداد أهل الجنة سروراً إلى سرورهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم} .
ويقول الله عز وجل في قضية الجهاد: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:81-82] فقوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا} [التوبة:81] إلى قوله {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] ما هو الجواب؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:82] .
إذاً: هل قارن هؤلاء بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟ فهم فعلاً تخلصوا من الحر ولم يخرجوا في الغزو فسلموا، فهم جلسوا تحت المكيفات وفي الظل الظليل وفي الهواء البارد، في مزارعهم وفي ثمارهم، ولم يخرجوا في الحر، فسلموا من هذا الخطر القريب الصغير، وهو خطر الحر الدنيوي لكنهم وقعوا في الحر الأعظم، وهو نار جهنم، {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:82] فلو كان عندهم فقهٌ وعقلٌ وعلم لتحملوا الحر الدنيوي في سبيل النجاة من الحر الأخروي.
وكذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم -في الحديث الآخر لما ذكر المرور بين يدي المصلي، أي: الذي يمر بين يدي المصلي- قال: {لو يعلم المار بين يدي المصلي، ماذا عليه -أي: من الإثم- لكان يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه} يعني: أنت مررت بين يدي المصلي الآن، وقطعت صلاته، وإذا قيل لك لماذا مررت بين يديه؟ تقول: أنا مستعجل ولم أستطع أن أنتظر حتى يكمل الصلاة، فيقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم: لو تعلم العقوبة لكان لك أن تنتظر أربعين سنة واقفاً خيراً من أن تمر بين يديه؛ لكن الإنسان غفل عن العذاب الأخروي وفطن للعذاب الدنيوي وهو تأخره عن عمله أو طول انتظاره أو وقوفه في الشمس؛ فاختلت الموازين عنده.
ولعل من الأشياء التي يكثر الناس من الحديث عنها اليوم هي قضية الأسلحة الكيماوية، فقد أصبحت خطراً كبيراً والكثير منا قد يكون لأول مرة يسمع بهذا الكلام في مناسبة الأحداث الأخيرة، فإن هناك أسلحة كيماوية كثير من الناس لأول مرة يعرفونها أو يسمعون بها أو يسمعون الحديث عن خطرها وآثارها المدمرة، فأصبحت شبحاً مزعجاً لكثيرٍ من الناس، حتى أصبحت بعض النصائح والتوصيات تقول للناس: لا فائدة، لا بد من الموت، وعليك الاستسلام والانتظار حتى يأتيك الموت.
فهذا الخطر كبر في أعين الناس، وربما قد يمنع بعض الناس من الجهاد في سبيل الله.
وافترض أنه كان هناك جهاد في سبيل الله، فأراد أن يجاهد وخشي من هذه الأشياء، فقد لا يجاهد في سبيل الله؛ لماذا؟ لأنه خائف، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح: {لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم} أي: ودخان جهنم ولا شك لا يقارن بأسلحة الدنيا مهما كان الأمر، فإذا أردت النجاة من هذا الدخان في جهنم؛ فعليك أن تبتغي الموت أو القتل مظانه، وأن تسعى إلى أن تعفر وجهك وأنفك بالغبار في سبيل الله عز وجل، وإن ترتب على ذلك مفاسد لك بالنسبة للدنيا، من مرض أو موت أو ما أشبه ذلك، فهذه في الحقيقة مصلحة وليست مفسدة.
وأنا الآن تحدثت لكم عن السبيل إلى التخلص من وهم الفوت -وهم الخوف من فوات المصالح الدنيوية- فذكرت أولاً: تصور هذه الأشياء على حقيقتها؛ ثم ذكرت معرفة أن قدر الله كائن، ثم ذكرت ساعة النظرة: بحيث ينظر الإنسان إلى الدنيا وإلى الآخرة معاً.(53/28)
معرفة أن النقص مركب في الدنيا
النقطة الرابعة هي: أن يعلم الإنسان أن النقص مركبٌ في الدنيا، سواءً بطاعة أو بمعصية، أي: هناك تعب للإنسان، والشقي والسعيد كلهم يتعبون، يقول صلى الله عليه وسلم: {كل الناس يغدو} أي: كل الناس يتعبون ويجهدون، ولا يوجد أحد مرتاح في هذه الدنيا.
كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن فالمؤمن يشكو والكافر يشكو، فقد يكون المؤمن فقيراً قد يكون غنياً، وكذلك الكافر وقد يكون المؤمن صحيحاً وقد يكون مريضاً، وكذلك الكافر، وقد يكون المؤمن قوياً وقد يكون ضعيفاً، وكذلك الكافر.
إذاً: هذه الدنيا مركبة على النقص، وحتى الإنسان حين يتجه إلى أموره الدنيوية فإنه يتعرض لنقص، إما من مرضٍ أو فقرٍ أو مصائب أو أحزان أو غير ذلك؛ لكن تعب السعيد شيءٌ آخر ولا أريد أن أتحدث عنه فسبق وأن تكلمت عن تعب السعداء وتعب الأشقياء؛ لكن أضرب لكم أمثلة سريعة تناسب المقام يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح: {لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة} أي: قرصة العقرب، وأمرها سهل.
إذاً: الموت مكتوب على الجميع، وكل الناس يتألمون من الموت، لكن الشهيد مع أن له عند الله الكرامة العظيمة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {للشهيد عند الله سبحانه وتعالى ست خصال -وذكر- أنه يغفر له مع أول قطرة من دمه، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع…} إلى آخر ما قاله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فموته في الدنيا ليس موت تعب، بل كما يجد أحدكم من القرصة.
وقد تسمع بمغنٍ أو فنان أو خبيث من خبثاء الدنيا، جلس أياماً في فراش الموت يعاني من الآلام والمصائب والمصاعب المبرحة ما أن لو وضعت على جبل لانهد وتفتت والعياذ بالله " {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85]-نسأل الله العفو والعافية- فهذا نموذج.
نموذج ثانٍ: {مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بامرأة -كما في الصحيح- وهي تبكي على قبر -أي: عند قبر ولدٍ لها مات- فقال لها صلى الله عليه وسلم: اتقِي الله واصبري، فما عرفت المرأة الرسول صلى الله عليه وسلم- فقالت: إليك عني -ابتعد عني- فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، ثم قيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت عنده فلم تجد عنده بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، واعتذرت إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى} فكل المصائب وكل الأحزان عند الصدمة الأولى.
يا أخي الحبيب -مثلاً- أنت لم تتعود على الشيء، ولذلك تخاف منه، لكن الخوف بحد ذاته هو الخطر وإلا لو أزلت هذا الخطر وهذا الخوف؛ لتبين لك أن الأمور أقل مما تتصور.
فمثلاً: كثير من الناس يكرهون أن يتكلم الناس فيه، فهو حساس، ولا يجب أن يسمع أي كلمة نقد، ولذلك تجد أن الإنسان دائماً حذر يأتي من هنا ومن هنا يحب أنه لا يسمع أي ملاحظة؛ وهذا مستحيل، فالناس: أولاً: لا بد أن يتكلموا فيه، فليس هناك أحد من البشر المخلوقين يرضى الناس كلهم عنه، كما سبق أن تكلمت في محاضرة: المستقبل للإسلام.
إذاً: لا يمكن أن ترضي الناس كلهم، فهذه واحدة.
الثانية: أنك إذا جعلت همك هو إرضاء الله عز وجل، وتحري الصواب؛ فبعد ذلك يمكن أن أول مرة تسمع فيها كلمة نقد تجرحك؛ لكن عندما تسمعها مرة ثانية وثالثة، ورابعة وخامسة وعاشرة؛ يصبح الأمر عندك طبيعياً؛ فيصبح الذي يقول لك: أخطأت ولماذا وماذا، مثل الذي يقول لك: أحسنت وجزاك الله خيراً، فيكون الأمر عندك سيان، فهذا أمر يعطيه الله العبد وهو الصبر عند الصدمة الأولى.
إذاً: إذا أردت -مثلاً- أن تعود نفسك على أي أمر من الأمور، فابدأ بالصبر عند الصدمة الأولى، فمثال هذا الكلام ينطبق على كل شيء.
مثلاً: الآن أنت شاب تريد أن تتدرب على الكلام أمام الناس فيكون عليك الصبر عند الصدمة الأولى، فأنت أول مرة سوف تجد صعوبة في الكلام وستجد أنك مضطرب، ويمكن أن يضيع نصف الكلام الذي سوف تقوله؛ لكن إذا وقفت ثم استمريت في الحديث؛ بعد ذلك تجد في المرة الثانية أن الأمر عندك هين، كما يقولون بالنسبة للسباحة، فلكي يتعلم الإنسان السباحة؛ يحتاج إلى أن يجزم أول مرة بعد ذلك يهون الأمر لديه، فكل الأمور الشرعية الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الاتصال بالناس، الدعوة إلى الله، الوقوف أمام الناس، الكتابة، الخطابة إلى غير ذلك، كل الأشياء الصبر فيها عند الصدمة الأولى، فأزل هذا الوهم -وهم الخوف- الذي يمنعك، ثم بعد ذلك ستجد الأمور سهلة -بإذن الله تعالى- أكثر مما تتصور.(53/29)
وهم انتظار المحنة
وانتظار المحنة أحياناً أعظم من وقوعها، فمثلاً واحد -الآن- ينتظر ضربة، تجد أنه يعيش في آلام شديدة، وكل يوم ينتظر وينتظر، لكن إذا وقعت المحنة؛ كانت هينة أخف مما كان يخشاه ويحذره.(53/30)
وهم الشعور بالعجز
ومن الأوهام التي تكبر في أعيننا: وهم الشعور بالعجز، بحيث أن كثيراً منا يخيل إليه أنه لا يقدر على شيء، فيقول: أنا لا يسمع لي، والأبواب مقفلة، ولا أستطيع أن أصنع شيئاً البتة -نحن نتحدث أنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً للإسلام وللدين وللدعوة- فكثير من الناس هذا منطقهم، وكم من الأسئلة جاءتني: أنا لا ستطيع أن أصنع شيئاً من قال ذلك يا أخي؟!(53/31)
الثقة بما منحك الله
إذاً: لابد ن الثقة بما منحك الله عز وجل من قدرة، فلست أنت أضعف الناس، ويجب ألا تصدق أنك لا تستطيع أن تعمل شيئاً، فالمريض الذي يحمل بالنقالة من غرفة إلى أخرى يستطيع أن يصنع الكثير متى كان صاحب همة عالية، لكن أنت إنما أوتيت من قبل ضعف همتك، وقلة طموحك، فأصبح ليس لديك رغبة لتصنع شيئاً، ثم تبحث عن عذر، ثم تقول: إنني عاجز، فلابد أيضاً من التجربة والتدرج في العمل الذي تريده، تدرج شيئاً فشيئاً وجرب الأمور حتى تأخذ نفسك على العمل وتعتاد.(53/32)
الدعاء
وأخيراً: لا بد من الدعاء.
فالدعاء قد يجري الله عز وجل به للعبد ما لا يخطر له على بال، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في الصحيحين يقول: {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} أي: لصدق اليقين، فلماذا أقسم على الله؟ أقسم على الله لأنه قام في قلبه من شدة التوكل على الله، وشدة الثقة واليقين بوعد الله عز وجل أن أصبح الأمر كالمشاهدة، فأصبح يحلف على الله أن يفعل كذا، فيحصل ذلك فعلاً، كأن ينزل مطراً فينزل المطر: {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} وللسلف قصص ربما لو جمعناها لكانت درساً مستقلاً في هذا الباب، فادع الله عز وجل، وجأر إلى الله بالدعاء، وثق بأن الله تعالى يستجيب لمن دعاه.(53/33)
طول الأمل يزيد العجز
ومما يدخل في موضوع العجز: تعليق الإنسان على المستقبل، فإذا طلبت منه أن يفعل شيئاً قال لك: الآن لا أستطيع، لكن -إن شاء الله- في المستقبل إذا كبرنا؛ وطالب العلم يقول: إذا تعلمت، وطالب الجامعة يقول: إذا تخرجت، والآخر يقول: إذا انتهى سكني فأنا منشغل في بناء قصر؛ فإذا انتهى بناؤه -إن شاء الله- تفرغت، فإذا انتهى من القصر بدأ ينشغل بالبستان، فإذا انتهى البستان؛ بدأ بمشروع، وهكذا ينتقل من عقبة إلى عقبة أو من عقبة إلى عائق آخر، وهذا طول الأمل الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر عنه عليه الصلاة والسلام فقال: {إن ابن آدم يكبر وتكبر معه خصلتان: حب الدنيا وطول الأمل} مع أن المستقبل قد لا يجيء فقد تموت هذا أولاً.
والثانية: حتى لو جاء المستقبل، فالمستقبل يحمل معه مشاغله ومشاكله وعوائقه.
فلذلك أنصح إخواني في الله: أنه لا أحد يعلق على المستقبل، اترك المستقبل لله عز وجل، والذي تستطيع أن تعمله؛ اعمله الآن، والذي لا تستطيع أن تعمله؛ دعه وقل: إن أمكنني الله منه فعلته:- وخذ لك منك على مهلةٍ ومقبل عيشك لم يدبر وخف هجمة لا تقيل العثار وتطوي الورود على المصدر ومثل لنفسك أيُّ الرعيل يضمك في ساحة المحشر(53/34)
اليقين يقتل العجز
وقد أعجبني أن أسوق لكم هذه القصة، وهي رواية إسرائيلية، لكن فيها لمحة حسنة جميلة أحببت أن ألفت لها نظر أحبابي: والقصة رواها ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين يقول بكر بن عبد الله المزني وهو من التابعين: [[إن الحواريين فقدوا عيسى عليه السلام -فقدوا نبيهم- فذهبوا يبحثون عنه، فجاءوا إلى شاطئ البحر فوجدوه في البحر والموج يرفعه تارة -أي: يمشي على البحر- ويضعه مرة أخرى، وعليه إزارٌ ورداء، فأقبل نحوهم، فلما اقترب منهم قال له أحد الحواريين -ولعله من أفضلهم-: ألا أجيء إليك يا نبي الله، أأخوض البحر إليك؟ قال: نعم تعال، فوضع الرجل الحواري رجله اليمنى في البحر، فلما وضع اليسرى قال: غرقت غرقت يا نبي الله، فمد يده عيسى عليه السلام إليه وقال: أرني يدك يا قصير الإيمان، أي: أعطني يدك يا قصير الإيمان.
لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة لمشى على الماء]] .
وقد يقول قائل: لماذا تذكر هذه القصة؟ أولاً: القصة صحت أو لم تصح فهذا موضوع آخر، وهي رواية إسرائيلية ذكرها بكر بن عبد الله المزني وهو تابعي -كما ذكرت لكم- لكن السلف لم يجدوا حرجاً من سياق بعض الإسرائيليات التي لا يكون فيها غرابة ولا نكارة؛ لأن معجزات الأنبياء أو بالأصح لأن آيات الأنبياء حق، فالنبي قد يمشي على الماء، وقد يُخضع الله له من نواميس الكون الشيء الكثير، فليس في القصة غرابة ولا نكارة، وإنما مقصودي بها أن كثيراً من الناس شدة خوفهم تمنعهم من أن يعملوا أي شيء، وبالتالي يحسون بالعجز كما أحس هذا الرجل حين وضع رجله في الماء فأحس أنه يغرق، فقال: غرقت يا نبي الله، لكن لو كان عند الإنسان توكل على الله عز وجل وثقة به؛ لربما استطاع أن يتغلب على كثير من العقبات ولا يشعر بالغرق! إذاً: لابد من اليقين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم من ضمن ما كان يدعو به في مجلسه، أنه كان يقول: {اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا} فقد يبدأ الإنسان بمشاريع أو يفكر على الأقل بمشاريع خيرية كثيرة، مشروع كتاب، مشروع درس، مشروع إصلاح، أمر بالمعروف، نهي عن منكر، تكوين حلقة علمية، أي عمل يمكن أن يخطر في بال أحدنا، فما هو المانع الذي يمنعه من ذلك؟ إنه الخوف من أنه سوف يفشل في هذا العمل، فلا بد من اليقين، والحديث الذي ذكرته: {اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك} رواه الترمذي وحسنه ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.(53/35)
وهم "أنا" غرور الإنسان(53/36)
علاج الاستكبار والغرور
فهذا الإنسان وأيّ إنسان يقع عنده الاستكبار والغرور، كيف يعالج هذا الاستكبار؟ التذكير بالله: أولاً: يعالج بتذكيره بالله عز وجل؛ لأن الإنسان المستكبر إنما استكبر في نفسه حين غفل عن ربه فوقع في القضية التي ذكرتها لكم في البداية، فهو قد كبر في عينه الصغير وصغر في عينه الكبير، فنفسه الصغيرة كبرت حتى صارت الأنا ملء الدنيا عنده، والله جل جلاله بعظمته وكبريائه صغر في عينه حتى لا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يرجوه، فهنا حصل الوهم عند الإنسان، ولذلك تجد عند الإنسان من الوهم بقدر ذلك، فأحياناً قد تجد إنساناً طيباً مسلماً قد يشعر أو يحس أو يسمع بانتقاص الدين أو سب المؤمنين أو سب الرسل أو حتى سب الله عز وجل، فلا يغضب ولا يثور؛ لكن لو سمع أحداً يسبه لغضب وزمجر وأرغى وأزبد وقام ليدافع عن نفسه، فعلامَ يدل هذا؟ يدل على الأنا؛ وأن عندك قدر من الأنا، فهو وإن لم يصل إلى حد الشرك؛ لكنه وهم يجب أن تنتصر عليه بحيث يكون غضبك لله ورسوله ودينه؛ أعظم بكثير من غضبك لنفسك.
وأنا أدعوكم مرة أخرى -يا أحبابي- إلى أن تطبقوا هذا المعيار على أنفسكم، هل فعلاً نحن نغضب لله ولرسوله مثلما نغضب لأنفسنا؟ فإذا قيل لك: إن المكان الفلاني فيه معصية أو في البلد الفلاني ترتكب فيه معصية؛ فانظر وراقب ما هي المشاعر التي تثور في قلبك؟! ثم إذا قيل لك: إن بعض الجيران قد أعطى ولدك كفاً بغير حق، فانظر ما هو الشعور الذي يثور في نفسك؟! ومثال آخر: قيل لك: إن هناك كاتباً أو شاعراً في أقصى الدنيا ألف كتاباً يسخر فيه من الأنبياء والمرسلين فانظر ماذا يكون رد فعلك؟! ولو قيل لك: إن آخراً ألف كتاباً يهجوك ويسبك ويشتمك وينسبك إلى أن فيك كيت وكيت من النقائص، فماذا يكون رد فعلك؟! قارن بين الحالتين حتى تعرف: هل كبر الله جل وعلا في عينك أم كبرت في عينك نفسك، فكبر في عينك الصغير وصغر في عينك الكبير.
فلا بد أن يعرف الإنسان ربه جل وعلا حق معرفته بقدر ما يطيق، وأن يتعرف إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته وآياته وسننه وأفعاله جل وعلا.
تسليط الدنيا على ابن آدم: والأمر الآخر الذي يعيد الإنسان إلى الاعتدال ومعرفة نفسه: عبر الحياة ومآسيها، أن الله تعالى سلط الدنيا على بني آدم، فهؤلاء الذين يكبرون في عيون أنفسهم ويستكبرون سرعان ما يصغرون حتى يصيرون أصغر من النمل، سبحان الله! كتب الله أن يفتضحوا في الدنيا قبل الآخرة! ولنفرض أنه سليم من الأمراض ولا يسلم، وسلم من الآفات والفقر والجوع لكن الموعد عند الموت، فيصبح هذا الإنسان المستكبر أحقر من ذبابة، فـ أمية بن أبي الصلت كان مستكبراً، حتى أنه من استكباره رفض الانصياع للرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به؛ انظر ماذا كان حاله عند الموت؟! عند الموت أصبح يتقلب ويقول -كأنه يخاطب الملائكة-: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما ثم قال: ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في رءوس الجبال أرعى الوعولا كل عيش وإن تطاول دهراُ صائر مرة إلى أن يزولا وكذلك الملوك والسلاطين والخلفاء الكبار، حين نزل بهم الموت كان الواحد منهم يتمنى أنه كان فقيراً لا يعرف؛ لأنه ذهب صفو الدنيا -بالنسبة لهم- وبقي لهم الكدر في الدنيا وفي الآخرة.
فالذين يدركون تحول هذه الحياة وسرعة انتقالها؛ لا بد أن يدركوا أنهم أضعف من أن يكبروا في عين أنفسهم، وأن الإنسان لا حول له ولا قوة إلا بالله.
أحبتي الكرام: -كما أسلفت لكم- الأوهام كثيرة: وهم الدنيا، وهم الموت، وهم الخوف، من المخلوقين، وهم اللذة، وهم الشعور بالعجز، وهم استكبار الإنسان، كل هذه الأوهام عندنا قدر منها، سواء قل أو كثر.
فأدعو الإخوة إلى أن يراجعوا أنفسهم ويكونوا صرحاء للغاية لعل الله عز وجل أن ينقذنا من هذه الأوهام؛ لنعيش في دنيا الحقائق.(53/37)
وهم الأنا يؤدي إلى الكفر
ومن الأوهام: وهم الأنا، والأنا: أعني به غرور الإنسان، فمع أن الإنسان ضعيف بكل معاني الضعف، فكثيراً ما ينتابه الغرور، فيعظم ذاته والعياذ بالله إلى درجة الكفر بالله تعالى، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:11-12] فهذا الشيطان ماذا قال؟ وكفر إبليس من أين جاء؟ جاء من قوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فأنا هذه هي التي كفر بها إبليس.
وهذا فرعون رأس الطغاة يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} قال سبحانه: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:50-53] .
وهذا قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:76-79] إنما أوتيته على علمٍ من عندي، فهو يرى أنه بجدارته ومواهبه أستحق ما أعطاه الله عز وجل.
وبعدهم طاغية هذه الأمة الذي أنزل الله تعالى فيه قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:77-86] أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا، إنه العاص بن وائل لما جاءه خباب يتقاضاه -كما في صحيح البخاري-دين له عنده، فقال أعطني الدين، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قال: لا أكفر حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: فدعني حتى أموت وأبعث فسوف أوتى مالاً وولداً فأقضيك، فأنزل الله قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} فما هي المسوغات أن يؤتى مالاً وولداً؟ وما هي الجدارة التي استحق بها هذا الأجر؟ قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:11-16] وقال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:38-39] أي: أنت تعرف من أين خلقت؟! فليس هناك مسوغات لدخول الجنة إلا العمل الصالح، فإذا خسرت العمل الصالح فأنت من أهل النار، إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] .
إذاً: تعظيم الذات -الأنا- قد توصل الإنسان والعياذ بالله إلى درجة الكفر، وأحد الشعراء المعاصرين، بالمناسبة أحد الإخوة وجه لي سؤالاً وأذكره لأن له مناسبة، يقول: كيف تستشهد ببيت عمر الخيام، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من أنشدكم شعراً في المسجد فقولوا له: فض الله فاك} مع أن البيت فاحش؟ وأقول: الحديث الذي استشهد به الأخ لا يصح، بل كان الصحابة رضي الله عنهم كـ حسان وكعب وعبد الله بن رواحة ينشدون الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: {زد أو هيه} وأحياناً يقول: {اهجمهم وروح القدس معك -أو جبريل يؤيدك-} فالحديث الذي استشهد به الأخ لا يصح.
واسمحوا لي أن استشهد لكم ببيتين لهذا الخبيث المخبث نزار قباني وإنما أتيت به بمناسبة الأنا -عبادة الأنا- والشرك بالله عز وجل عن طريق عبادة الذات، يقول بلسانه: مارست ألف عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي والواقع أنني أشهد بالله العظيم أن هذا الكافر العنيد ما مارس أي عبادة إلا عبادة ذاته وعبادة الشهوة، وعبادة المرأة التي يوم كان المسلمون يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله، كان هو يقول للمرأة: أشهدُ ألا امرأةً إلا أنتِ، كما أخرج كتاباً بهذا اللفظ، فالرجل لم يكن يعبد إلا نفسه وشهوته، فعبادته لذاته هي الأولى والأخيرة، وإنما صرحت بكفره؛ لأنه ثبت عندي؛ لأنه قال ما قد ذكرت لكم، وقال أبشع وأفضع وأشنع منه، ولست أحفظ من شعره كثيراً؛ لكنني أذكر أنه نسب إلى الله تعالى من النقائص والعيوب في شعره -كالملل والعجز والضعف وغير ذلك- ما يكفر به قولاً واحداً عند جميع المسلمين إلا أن يتداركه الله بتوبة ويسلم من جديد؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، والإنسان ما دامت روحه في جسده فقد يتوب، فيتوب الله عليه مرة أخرى، ويقول هذا المستكبر: أنا أرفض الإحسان من يد خالقي قد يأخذ الإحسان شكلاً مفجعا فانظر كيف عبادة الأنا والعياذ بالله، ويا سبحان الله! وتبارك الله! وما أحلم الله! يعني: السمع والبصر والفؤاد والجسم والبدن والهواء والأكل والشرب والحنان والعطاء والصحة والعافية والرزق، ممن أتت بهذا المسكين؟ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] ومع ذلك يرفض الإحسان، فتبارك الله ما أحلمه!!(53/38)
الأسئلة(53/39)
بلية النظر إلى الحرام
السؤال يقول: أنا شاب ابتليت بالنظر، وعندي وهم لا أدري هل هو وهم أم حقيقة، وهو أني لا أستطيع التخلص منه؟
الجواب
لا بل تستطيع أن تتخلص من هذا النظر؛ لكن لا شك أن النظر يحتاج إلى مجاهدة، وفي نفسي أن أخصص له درساً إن شاء الله تعالى.(53/40)
حسن الخاتمة
السؤال يقول: أسأل الله تعالى لنا ولكم ولجميع إخواننا الحاضرين أن يحسن لنا خواتيمنا ووالدينا وذوي أرحامنا خاصة، وجميع المسلمين عامة آمين اللهم آمين.
بعد أن تحدثت عن الأوهام حول الموت، فما هي الأشياء الأساسية التي نتشبث بها حتى يدركنا الموت ونحن على حالة طيبة؟
الجواب
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وحالة الموت هي حالة شدة، والأشياء التي تتشبث بها أنك تتعرف على الله في الرخاء بالبحث عن مرضاته.(53/41)
فضل سورة الملك وأسباب عذاب القبر
السؤال
ما هي أسباب عذاب القبر الحقيقية، وهل صحيح أن من قرأ سورة الملك قبل النوم وقي من عذاب القبر؟
الجواب
نعم صحيح أن من قرأ سورة الملك قبل أن ينام فإنها المنجية: {سورة من كتاب الله، ثلاثون آية ما زالت بصاحبها حتى أنجته من عذاب القبر} وهي سورة تبارك الذي بيده الملك.
أما أسباب عذاب القبر فكثيرة: منها: الغيبة والنميمة.
ومنها: أن الإنسان لا يستنزه ولا يستبرئ من البول.
ومنها: أن الإنسان لا يتعلم الدين وهذا من أعظم الأسباب المجهولة عندنا، أن الإنسان يؤخذ الدين بالوراثة والتقليد ولا يخصص وقتاً لتعلم الدين، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الاختبار في القبر، فقال: {أما الكافر والمنافق فيقول: هه هه لا أدري! كنت أقول ما يقوله الناس} .
إذاً: هو يردد كلاماً يقوله الناس ولم يأخذ الدين بالدراسة، وعن العلم والعلماء والكتب، إنما أخذه بالتقليد والوراثة فقط.(53/42)
الخشوع في الصلاة
السؤال
إني شاب -لله الحمد- محافظ على الصلاة مع الجماعة في كل وقت، كما أنني بعض الأيام أقوم الليل وأصوم الست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ ولكن عندما أقوم إلى الصلاة أحاول أن أخشع، ولكني أخرج من الصلاة وأفكر في أمور كثيرة ثم أتعوذ من الشيطان وأتفل ثلاثاً وأعود مرة أخرى وهكذا؟
الجواب
تكلمت عن الخشوع في الصلاة في دروس بلوغ المرام في الأسابيع الثلاثة الماضية فبإمكان الأخ الكريم أن يراجعها.(53/43)
أبيات جميلة
السؤال
ما رأيك في هذه الأبيات، وهل من الحسن التمثل بها خصوصاً في هذه الأحداث؟ وربك ما أخشى من الموت إنه طريقٌ وكل الناس في الدرب سائر وربك ما أخشى من الحرب إنها سجال فمحظوظ بهن وعاثر وربك ما أخشى من الفقر إنه بتدبير من تهفو إليه المشاعر ولكنني أخشى من الغفلة التي تموت بها عند الخطوب الضمائر أخاف علينا من خطوبٍ كثيرة تزلزلنا والقلب في الغي فاجر أقول لقومي لا تسوقوا ركابكم إلى غير دين الله فالموج هادر ولا تيئسوا ما خاب أصحاب ملة إذا ما تواصوا بينهم وتآزروا
الجواب
في الواقع الأبيات جميلة وحلوة! وأنا أبدي إعجابي أولاً بالأخ الكريم الذي يبدو لي أنه كتب الأبيات من الذاكرة؛ لأن فيها بعض الملاحظات اليسيرة التي عدلتها، وقبل ذلك: إعجابي بالشاعر الكبير الدكتور/ عبد الرحمن العشماوي؛ ومن هذا الموقع أقول جزاك الله خيراً يا عبد الرحمن العشماوي.(53/44)
التوبة والابتلاء كفارة للذنوب
السؤال
كنت جاهلاً ففعلت معصية فأنزل الله بي عقوبته، وهي مرض، والآن تبت إلى الله عز وجل، فهل هذه كفارة؟
الجواب
نرجو الله عز وجل أن يكون كفارة ما دمت تبت إلى الله عز وجل، فلا شك أن العبد إذا تاب تاب الله عليه، وهذا المرض الذي ابتليت به إذا صبرت عليه أجرت عليه أيضاً.(53/45)
وجوب الإنصات لقراءة القرآن
السؤال
إذا قرأت مع الشريط وأنا أقصد المراجعة؛ فما الحكم؟
الجواب
ينبغي لمن سمع القرآن أن ينصت.(53/46)
حكم ركعتي تحية المسجد
السؤال
يدخل بعض الإخوان إلى المسجد قبل الأذان فيجلس دون أداء تحية المسجد بحجة وقت النهي.
فما الحكم؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع، فإن صلى ركعتي تحية المسجد فهذا حسن وجيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وإن ترك بحجة أنه وقت نهي؛ فلا حرج عليه في ذلك؛ لأنه لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وإن كنت أرى أن يصلي ركعتين.(53/47)
حكم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية
السؤال
الذي لا يستطيع أن يقرأ سورة الفاتحة في الصلاة الجهرية لأنه يرددها حتى يركع الإمام وفي بعض الأحيان لا يتمها؟
الجواب
إذا كان الإمام لا يسكت لقراءة الفاتحة؛ فلا أرى أنه يجب على المأموم أن يقرأها.
وأترك بقية الأسئلة إلى أسئلة أخرى عندي -إن شاء الله- سأجيب عليها.
ولا أترك شيئاً منها بإذن الله تعالى إلا ما كان مكرراً أو لا داعي له.
سبحانك وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(53/48)
الموقف من العقاد ومؤلفاته
السؤال
هل تنصح بقراءة مؤلفات العقاد؟
الجواب
استشهدت ببعض أبيات العقاد، والعقاد له كتب طيبة ومفيدة، فهو أديب معروف، لكن لا شك من حيث الوضوح في تصوراته الإسلامية وفهمه للإسلام نظر، أي: لا تؤخذ من العقاد، إنما يستفاد منه في مجاله وفنه.(53/49)
الاهتمام بالصلاة على النبي
السؤال
إذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم تسرع بها حتى -أحياناً- تخل بها ولا نسمع منها إلا السين والصاد، وكأنه شيءٌ ثانويٌ تريد أن تتخلص منه؟
الجواب
صحيح أنك مصيب فيما ذكرت، وكنت ممن يحذر من هذا؛ لكني -أحياناً- عندما أشعر بضيق الوقت وكثرة الموضوع الذي أريد أن أتحدث إليه؛ يغلبني ذلك، فأسأل الله أن يعفو عني، وجزاك الله خيراً.(53/50)
صلة الرحم سبب في طول الأجل
السؤال
ذكرت حديث: {من أحب أن يبسط الله له في رزقه وينسأ له في أثره الخ} والآجال مقدرة عند الله عز وجل قبل أن يولد الإنسان؟
الجواب
نعم مقدرة؛ لكن لا مانع من أن يكون قد قُدر لهذا الإنسان طول الأجل؛ لأن الله تعالى كتب أنه يصل رحمه، فكان هذا سبباً لزيادة عمره.(53/51)
مواضيع رفع السبابة في الصلاة
السؤال
ما هي مواضع رفع السبابة في الصلاة؟
الجواب
مواضع رفع السبابة في الصلاة: عند الدعاء في التشهد الأول والأخير، فإذا قلت السلام عليك أيها النبي السلام علينا أشهد أن لا إله إلا الله، اللهم صلِّ على محمد، اللهم بارك على محمد، فكل ذلك ترفع فيه السبابة.(53/52)
الحث على صيام الإثنين
السؤال
أرجو أن تحث وتذكر أن غداً الاثنين لمن أراد أن يصوم، وأنت تعلم ما ورد عنه؟
الجواب
وإنما قرأت هذا؛ لأنه سبق أكثر من مرة جاءتني ورقه مثل هذه وأعرضت عنها؛ لأن الناس يعرفون الأيام، وإنما تكررت فذكرتها، والأخ إنما ذكرها يرجو أن يكون شريكاً في الأجر.(53/53)
أدعية تصرف الوهم
السؤال
هل هناك أدعية أو آيات تبعد الإنسان من الأوهام والخوف؟
الجواب
أقول: نعم، وهذا ما فاتني أن أذكره لضيق الوقت، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا خاف من قوم قال: {اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم} .(53/54)
خطورة النظر إلى الحرام
السؤال
أحسب نفسي ملتزماً ودائماً مع الشباب المستقيمين، وأدعو الله عز وجل مع مجموعة من شباب المرحلة المتوسطة والحمد لله أسير معهم على أحسن وجه، وكذلك لي لقاء مع طلبة الجامعة، لكن المشكلة أنني في الآونة الأخيرة -منذ سنة ونصف- وأنا مشغول بالنظر الحرام في المجلات والصور الجميلة التي دخلت علينا ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا في الحقيقة ضعف إيماني بالله كثيراً مع أني أحفظ كثيراً من آيات الله عز وجل، لكني كلما تذكرت المجلات ذهبت واشتريت بعضاً منها…الخ، لكني أخشى أن أفتضح أو ألقى الله عز وجل بحالة ليست مرضية؟
الجواب
نعم يخاف عليك ذلك في الواقع:- كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر فأحذر يا أخي: يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وجاهد ثم جاهد واقرأ كتاب الجواب الكافي في من سأل عن الجواب الشاف للإمام ابن قيم الجوزية.(53/55)
كراهية الموت خوفاً من السكرات
السؤال
ما رأيك فيمن يكره الموت، لا حباً في الدنيا ولكن خوفاً من سكراته؟
الجواب
إذا تذكر هذا، فعليه أن يتذكر ما بعد ذلك، فإن كان من الصالحين؛ فإنه يصير بعد ذلك إلى مغفرة من الله ورضوان.(53/56)
وهم اليأس من الفوز بالجنة
السؤال يقول: أنا شاب يصيبني الوهم بأنني لن أفوز بالجنة، فلذلك أقلل وأتقاعس عن الأعمال الصالحة؟
الجواب
لا، بالعكس! الوهم الذي يصيبك، يجب أن يكون حادياً لك إلى أن تضاعف من أعمالك الصالحة.(53/57)
وهم الخواء والخوف من غير المسلمين
السؤال يقول: من الأوهام: عقدة الخواء والاعتقاد بأن الأجانب دائماً متفوقون على المسلمين؟
الجواب
نعم هذه لا شك أنها من الأخطاء والمفاهيم السائدة عند المسلمين، وسببها هو التخلف الذي يعانيه المسلمون في كثيرٍ من المجالات، ونرجو من الله عز وجل أن يرفع عن المسلمين هذه الضوائق التي يعيشونها، وأن يكتب لهم العز والنصر في التمكين في الدنيا، حتى يزول هذا الوهم عن الشباب، ولن يكتب الله عز وجل النصر والتمكين حتى يزول هذا الوهم من نفوسهم.(53/58)
شمول أجر استماع المحاضرة للجميع
السؤال
الجالسون في الشارع، يستمعون للمحاضرة أيعتبرون من الذين تحفهم الملائكة، حيث أن الذي في الشارع يسمع الصوت واضحاً والجو بارد؟ ويقول: لماذا لا يفرش السطح حتى يجلس فيه بعض الإخوة بدلاً من الشارع؟
الجواب
الحقيقة يؤسفني جداً أن يجلس الإخوة في الشارع، وهذه قضية لا بد أن تحل بإذن الله تعالى ونرجو الله أن تحفهم الملائكة، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.(53/59)
مخطط البعث العراقي
السؤال
يقول: أحد الشباب: أحد الإخوة تكلم عن مخططات حزب البعث العراقي في هذا البلد قبل سنة، ويقول الأخ: إنني كنت حاضراً في ذلك المجلس؟
الجواب
هذا صحيح، قد كنت حاضراً في أحد المجالس، وكان معنا أخونا الكريم الشيخ/ أسامة بن لادن، فتكلم عن خطر العراق ومخططه للغزو، وكان هذا قبل سنة، فما ذكره لك السائل صحيح.(53/60)
مكانة الإمام الشافعي
السؤال يقول: ذكرت الإمام الشافعي في قسم العصاة فهل ذلك موافق لسيرته وصلاحه، مع أننا لا ندعي له العصمة ولكن يحتاج السامعون لتصحيح ذلك؟
الجواب
ليس الشافعي من قسم العصاة وحاشاه من ذلك؛ بل هو من نبلاء هذه الأمة وعبادها وصالحيها وأئمتها، لكنه هو نفسه يرى لنفسه ذلك وهذا من تواضعه -كما أسلفت- وله أبياتٌ من الشعر يقول: أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا سواءً في البضاعة فرد عليه الإمام أحمد كما يقول بعضهم ببيتين يقول: تحب الصالحين وأنت منهم وترجو أن تنال بهم شفاعة وتكره من بضاعته المعاصي وقاك الله من تلك البضاعة(53/61)
قواعد في توحيد الكلمة
من الملاحظ في ساحة العمل الإسلامي أنه يهدم بعضه بعضاً، وأن كثيراًً من الدعاة في دوامة الفرقة والاختلاف، ومن أهم أسباب ذلك غياب فقه الشمولية وضيق الأفق والانتصار للنفس والتعصب للرأي والتقليد الأعمى للمشايخ والزعماء وغياب فقه الأولويات، وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقد ذكر الشيخ عشر قواعد، جدير بالدعاة أن يلتزموا بها حتى تتكامل الجهود من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض.(54/1)
أهمية توحيد الكلمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله عليه صلواته وسلامه.
أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنت وعدتكم في المجلس السابق أن يكون موضوع الحديث في هذه الليلة حول: توحيد كلمة المسلمين، أو الدعاة على وجه الخصوص، وأرجو أن أفي بما وعدت الآن بحسب ما يتسع له الوقت، فسوف تكون كلمتي بعنوان (قواعد في توحيد الكلمة) .
وحقيقة لا أكتمكم حديثاً أني ما أجهدت نفسي في بحث هذا الموضوع وإعداده، كما نوهت بذلك مراراً، وأنا حين أقول ذلك أريد أن يكون هذا عذراً لديكم ولدى من قد يسمع هذا الحديث، فيما قد يراه من نقص أو خلل أو عدم اكتمال أو استطراد أحياناً؛ لأن الجلسات نريد أن تكون فيها نوع من الأخوة والمؤانسة والاسترسال في الحديث، بعيداً عن روتين الدرس أو المحاضرة وما فيه -أحياناً- من استمرارية معينة ورتابة في بعض الموضوعات.(54/2)
مشكلة ضيق الأفق
ليست القضية قضية جدل ومناظرة فقط، بل نحن نتكلم باسم الله وباسم الدين وباسم القرآن وباسم السنة وباسم الحديث، ولذلك لا نريد من أحد أن يخالفنا لأننا نزعم أننا نمثل الكلمة المقدسة، وهذا يقع في أذهان الكثيرين نتيجة ضيق الأفق وتحجير المفاهيم وإعجابهم بما عندهم من العلم، كما قال تعالى: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وكما قال صلى الله عليه وسلم: {وإعجاب كل ذي رأي برأيه} .
فنتيجة لذلك لم يعد لدينا إمكانية أن نتحمل وجهة نظر أخرى، فعندنا شيء من الأحادية في الرأي وضيق الفهم، والمشكل أيها الأحبة -وأقولها بمرارة وصراحة- أننا -أحياناً- نظرياً قد نقول خلاف ذلك! وطالما سمعت من بعضهم وهو يقول: من خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه أقرب إليك ممن وافقك بغير دليل؛ لأن هذا الذي خالفك إنما خالفك للدليل، ويجب أن تكون العلاقة بينكم أمتن.
وهذا كلام نظري جميل، لكن دعنا ننظر في واقعنا العملي، وفي تعاملنا مع من خالفونا، فتجدني أنا ذلك الذي أردد دائماً وأبداً قضية الحوار والنقد البناء، وتقبل وجهات النظر المختلفة، وعدم إلزام الناس بالرأي الواحد، وجعل الناس يعيشون في بحبوحة الشريعة التي فتحها الله سبحانه وتعالى لهم، فأنا لا أحجر واسعاً، وأنا لا أفرض رأيي بثقله وبشريته وخصوصيته على النص الشرعي، أنا ذلك الذي يقول هذا الكلام تجدني أغظب بمجرد أن أرى شخصاً اختلف معي، وترتفع درجة الحرارة عندي، وتختلف نبرة الكلام، ويتغير مجرى الحديث، وتحتد اللهجة، ويبدأ القصف والقصف المضاد.
فهذا -أحياناً- يرجع إلى نوع من التربية الخاطئة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الحلقة العلمية أو الارتباط بالعالم وعلى مستوى الدعوة أو الارتباط بمجموعة من مجموعات الدعوة وحتى على مستوى الأسرة والأب، نوع من التربية التي جعلت الثمرة -حقيقة- ثمرة مرة.
وأنا أقول: إن هذا الأمر عام في طلبة العلم وغيرهم، ولكنني رأيت في بعض طلبة العلم حاجة إلى التنبيه على مثل هذا الأمر أكثر من غيرهم، فهم الأليق بأن يكونوا أوسع الناس أفقاً، وأبعد الناس نظراً، وأكبر الناس عقولاً، وأصبغ الناس، وأحلمهم، وأرحم الناس بالناس، والمنتظر منهم ومن غيرهم أن من أساء إليك أن تحسن إليه، ومن أخطأ في حقك أن تصيب في حقه، وألا تقابل الإساءة بالإساءة، بل تقابل الإساءة بالإحسان، وتعفو وتصفح وتلتزم بالأفق الأوسع الأمثل الذي ذكره الله عز وجل {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34-35] .
أقول أيها الأحبة: طالما سمعت من كثير من الإخوة الأحباب كلاماً قد يكون له تأثير في القلب، أقله تحزين النفس وانقباض الضمير وشيء من التوتر والقلق، ولكن العبد يحاول أن يلجم نفسه بلجام الإعراض والصبر، لماذا؟ لأن أقل ما نضحي به هو أن نضحي بشيء من أعصابنا، من أجل ألا يرانا الناس وقد تماسكنا بالتلابيب مع رجل من أهل الإسلام، ومن أجل ألا يقول قائل: لماذا أنت مختلف مع فلان؟ نعم، قد يختلف معي أي إنسان، وذلك من حقه، لكن لن تجدني -إن شاء الله- مختلفاً مع أحد، بمعنى أن لي منه موقفاً مبدئياً في كل ما يصدر منه، بل أحاول -أو يجب أن أحاول- أن يكون موقفي من الجميع، ماداموا إخوة في الإسلام والعقيدة الواحدة والمنهج الواحد والكتاب الواحد والسنة الواحدة والطريق الواحد في الجملة، أن يكون الأمر كما قال القائل: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وما أسهل وأجمل أن نتلفظ بهذه الكلمات الجميلة المعسولة الحلوة! وما أمر وأقسى أن نجرب ولو موقفاً واحداً فقط، تخلينا فيه عن انتصار لأنفسنا أو ثأر لشخوصنا أو غضب لذواتنا في سبيل الله عز وجل، وحرصاً على وحدة كلمة المسلمين! فبمجرد ما يواجه الواحد منا موقفاً عملياً تقع القضية التي طالما تكلمت عنها أمامكم، وهي قضية أن الواحد يقول: ليس المقصود أنا، بل المقصود المنهج، والمقصود الدعوة، والمقصود الدين، ولذلك يجب ألا أسكت، ويحب أن أرد؛ لأن القضية لا تستهدف فلاناً، وإنما القضية قضية دين الله.
وهكذا ألبسنا أنفسنا لبوس أننا نمثل دين الله تبارك وتعالى، وأن من تناولنا فكأنما أساء إلى الدين، والواقع أن ذلك ليس بصحيح فيمكن أن يختلف معك شخص في قضية أو قضايا قليلة أو كثيرة من منطلقات شرعية أو عقلية، وما زال الناس يختلفون، ويرد بعضهم على بعض دون أن يفضي الأمر إلى تشاتم أو تراشق بالسباب أو تبادل تهم أو طعون.
فالمقصود أن جزءاً كبيراً جداً من المجهود الإسلامي يضيع في مهارشات بين الدعاة، ولا أقول: لا ثمرة لها، بل نتيجتها عكسية؛ لأن الشرخ الذي يحدثه اختلاف الدعاة فيما بينهم عند العامة والخاصة، وعند خصوم الإسلام من العلمانيين وغيرهم، هذا الشرخ ليس من السهل أن ينمحي أو يزال والناس إذا رأوا رجلاً خارجاً من الصف وآخر داخلاً فيه فإنهم لا يقولون: هذا خرج وهذا دخل، بل يقولون: الصف معوج، وخاصة إذا كانوا أهل غرض وأهل هوى، وما بالك بإنسان حديث عهد باستقامة والتزام، فوجد أن هذا الإنسان -مثلاً- يمثل رمزاً للخير والدعوة والاستقامة والصلاح، وقد يكون هو سبباً في هدايته ولو كان عنده خطأ أو تقصير أو مخالفات، لكنه فتح عيونه على الخير بواسطة فلان، ثم وجد أن فلاناً تتناوشه السهام والطعون والكلام، فهو بين أمرين: إما أن يدخل في هذه المعمعة، فهذه مشكلة؛ لأنه حديث عهد وطري العود، وإما أن يسمع هذا الكلام ولا يرد عليه، فقد يورث هذا الكلام عنده شيئاً من الشك في الرمز الذي فتح عيونه على الخير عن طريقة، فيكون ذلك سبباً في فساده وانحرافه وبعده عن الدين، وهكذا أصبحنا والعياذ بالله نخرب بيوتنا بأيدينا في بعض الأحيان، وأعيذ بالله كل مؤمن أن يكون هذا حاله، كما أني لا أحب أن يفهم من كلامي التعميم أو أن هذا حال كثيرين، بل هذا حال مجموعة قليلة بلا شك، ولكن مع ذلك أرى أنه ينبغي ألا نفرِّط حتى في القليل، حتى جهد الواحد منا يجب ألا يضيع.
إذاً: من أجل إنتاجية أكبر، ومن أجل فائدة أعظم للأمة، ومن أجل أن تكون جهود الدعاة كلها تتجه في الاتجاه الصحيح صوب التغيير للأفضل والأسلم، أطرح عشر قواعد لن يكون الوقت مسعفاً بالكلام عنها تفصيلاً، لكني سأذكرها إجمالاً إن شاء الله، أرجو أن يتسع الوقت لها، وكما ذكرت لكم فهذه القواعد كل ما فعلته فيها أنني دونتها من طرف الذهن ليس على سبيل الاستيعاب ولا على سبيل الاستقراء لكل القواعد، بل هناك مئات القواعد التي يمكن أن تذكر في هذا لكن هذه من طرف الذهن.(54/3)
مساوئ الفرقة
أقول بكل تأكيد: لو نظرنا في أولياء الإسلام وأنصاره، من دعاة أو مصلحين أو فقهاء أو علماء أو عامة، لوجدنا أنهم يشكلون نسبة عالية جداً في كل المجتمعات الإسلامية، وأجزم -دون تردد- أنه لا يوجد أي دين أو نحلة أو مذهب يملك من حيث الطاقة البشرية ما يملكه الإسلام، ليس في هذه البلاد فحسب، بل في بلاد المسلمين في كل مكان، ومع ذلك أكاد أجزم -إن لم يكن في كل البلاد ففي معظم بلاد العالم الإسلامي- أن المنتسبين إلى الدعوة والعلم، وأن أولياء الإسلام هم من أقل الناس إنتاجية وثمرة في ميدان الواقع، ولعل أهم سبب يعزى إليه هذا الخلل الكبير في العطاء والإنتاج والبذل هو التشرذم والتشتت وتفكك الجهود، الذي يجعل جزءاً غير قليل من الطاقة الإسلامية -أحياناً- يضيع في تدمير بعضه بعضاً.
فعلى سبيل المثال: إذا ألَّفت أنت كتاباً، وألَّفت أنا كتاباً في الرد على ذلك الكتاب، وأنت طبعت من كتابك عشرين ألف نسخة، وأنا لكي أضمن لكتابي أن يكون انتشاره أوسع طبعت أربعين ألف نسخة، وبذلت جاهي لدى المحسنين والمصلحين وفي دور النشر وغيرها من أجل تسهيل مهمة طباعة الكتاب وبيعه بأرخص الأثمان أو حتى توزيعه بالمجان.
إذاً: ستون ألف نسخة من كتاب كان يمكن أن يكون كتاباً مفيداً نافعاً يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين، فنتيجة ستين ألف نسخة من هذه الكتب، وما ترتب عليها من ضياع أموال، وأخطر من قضية ضياع الأموال ضياع الأوقات، لا يمكن أن يقول قائل: إن النتيجة صفر! بل أقل من الصفر وتحت الصفر! لماذا؟ لأن الثمرة التي يخرج بها معظم الناس؛ أن هؤلاء المتدينين دائماً يتهارشون فيما بينهم، وعندهم شهوة المخاصمة، فإذا لم يجد أحداً يخاصمه فإنه يخاصم نفسه في المرآة، لماذا؟ لأنه لابد أن يجادل أحداً، ولا بد -أيضاً- أن يخرج هو المنتصر والغالب والفائز.(54/4)
تكامل الجهود الدعوية
القاعدة الأولى: ما يمكن أن نسميها بقاعدة الخطوط المتوازية.
أي: ليس بالضرورة أن يكون الدعاة كلهم على قلب رجل واحد، أو يكون اجتهادهم متطابقاً، أو يكونوا قوالب مصبوبة متساوية في الطول والعرض والارتفاع، فهذا ليس لازماً، بل يمكن أن نفهم بعض جهود الدعاة تشكل خطوطاً متوازية لا تلتقي، ولكنها لا تتعارض ولا يطأ بعضها بعضاً، فإذا افتراضنا مثلاً أنك تقوم أنت بمجهود وأنا أقوم بمجهود آخر، أنت تقوم بفرض كفاية، وأنا أقوم بفرض كفاية آخر، والناس يحتاجون إلى كل ألوان الخير في المجتمع، حتى أمور الدنيا فإن الناس يحتاجون إلى ألوان من الخير، يحتاجون إلى النجار، ويحتاجون إلى الطبيب، ويحتاجون إلى المهندس، ويحتاجون إلى البقال، ويحتاجون إلى البائع، كما يحتاجون إلى البلدي الذي يقوم بتنظيف الشارع، وكل مهمة لا تقضي على المهمة الأخرى، فمهمة المسئول الكبير -على أهميتها- لا تغني عن مهمة الموظف الصغير، ولو بقيت القاذورات في الشوارع أسبوعاً لضاق الناس بها ذرعاً ولما استطاعوا أن يهنئوا بحياتهم.
إذاً: ضع في اعتبارك أنك قائم بجهد الدعوة مهم أو أهم أو أقل أهمية، وأن غيرك يقوم بجهد آخر، فاجعل ما تقوم به أنت موازياً لما يقوم به هو، وليس شرطاً أن تقر كل ما قام به أو توافقه على مجهوده، لكن اعتبر أنه يسد فراغاً ضعيفاً، وأنت تسد فراغاً قوياً مثلاً، فدع هذا الإنسان وما اختطه لنفسه، وقد يتبين أن الخير والبركة في شيء آخر خلاف ما كنت تظن.(54/5)
كل يعمل في مجاله
فأنت مثلاً متحمس لقضية قد ملأت عليك عقلك وجوارحك، واستولت على اهتمامك؛ لأنك ولدت معها، وعشت معها، ونشأت عليها، وسمعت شيوخك يؤكدون عليها، ولذلك أعطيتها اهتمامك، وبارك الله فيك وفي مجهودك، لكن قد يكون غيرك يبذل مجهوداً آخر لا يستغني عنه الناس، فالناس محتاجون إلى العلم الشرعي، لكن وجود العلم الشرعي، ووجود طلبة مختصين فيه لا يغنينا عن وجود واعظين في المساجد يرققون قلوب الناس، ووجود هؤلاء لا يغني عن وجود معنيين بالإحسان إلى الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والراغبين في الزواج وغيرهم، وهؤلاء وأولئك لا يغنون أبداً عن وجود الصحفي أو السياسي المسلم الذي يعرف الأحوال والأحداث والأخبار ويتابعها ويحللها، ويربط بعضها ببعض، ويربي الناس على إدراكها ومعرفة مقاصدها، وهؤلاء كلهم جميعاً لا يغني أحد منهم عن وجود المعلمين في المدارس، أو وجود الموجهين، أو وجود حلق تحفيظ القرآن الكريم، أو وجود المراكز الصيفية، أو وجود الدورات العلمية، أو وجود الجولات الوعظية إلى آلاف الأمثلة في المجالات الدعوية المختلفة، فلماذا لا يكمل بعضها بعضاً؟! وإذا لم اقتنع بشيء فعلي ألا أعمله، لكن ليس شرطاً للعمل المثمر أن يمر عبر قناعتي العقلية، فيمكن أن يكون عملاً مثمراً وأنا لم أقتنع به، وقد أكتشف بعد حين أن قناعتي كانت في غير محلها، أو حتى قد أموت بقناعتي غير عابئ بهذا الموضوع، لكن الناس المنصفين يعلمون أن هذا الأمر له ثمرة وله إيجابية، والعدل قد يدل على ذلك، وقد تكلم الإمام ابن تيمية كثيراً عن جهود بعض المتصوفة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
ولأن يدخل الإنسان الإسلام على يد صوفي، ويصبح مسلماً مبتدعاً أحب إلينا من أن يبقى كافراً، وإلا فما هو رأيكم؟ إنها ولا شك معادلة لا تحتاج إلى تأمل، أي: إن استطعنا أن ندعوه ونهديه إلى الإسلام الصحيح السليم البعيد عن الشوائب والمخالفات والمغالطات والانحرافات فهذا هو المتعين، لكن أحياناً لا تستطيع ذلك ولا تملك الكفاءات له، بل قد تجد الجهل يعم حتى في أوساط المتعلمين في دول ومدن وأوضاع كثيرة، فتأتي القضية أن الجود من الموجود، ولأن يذهب داعية مسلم ولكن عنده تخليط وشوائب، فيهدي الله على يده يهوداً أو نصارى ويصبحوا مسلمين ولو على شاكلته وطريقته خير من أن يبقوا على كفرهم، وهذا لا يشك فيه عاقل.(54/6)
حسن الظن والاحتياط في الحكم
القاعدة الثانية: (التفريق بين الدعوة وبين الحكم على الناس) .
بمعنى أنك فيما يتعلق ببيان الحق إذا سئلت عنه، سواء شفوياً أو كتابياً، في كتاب أو مقالة أو مناسبة أو أخرى؛ فإن الإنسان ينبغي أن يذكر الحق بأحسن ما يجد من العبارات وبأفضل ما يجد من الأساليب، ويسوق الأدلة ويحشد ما لديه من الوسائل للإقناع بهذا الحق الذي يعتقده هو، واضعاً في اعتباره أنه قد يوجد من يخالفه في هذه المسألة، إن كانت مسألة قابلة للاجتهاد، ويكون عنده أدلة وتأويلات فيما ذَكَر، فهذا شيء، لكن هذا غير الانشغال بالحكم على الناس، فليس كل من وقع في خطأ يكون قاصداً الوقوع في هذا الخطأ أو متعمداً أن ينسب إليه، حتى إن الإنسان قد يقع في الكفر ولا يقال له كافر، وقد يقع في البدعة ولا يقال له مبتدع، وقد يقع في المعصية ولا يقال له فاسق، ففرق بين الوقوع في الشيء وبين نسبة الإنسان لهذا الشيء، فقد يقع الإنسان في البدعة متأولاً مجتهداً.(54/7)
التدرج في المجال الدعوي
أما إذا كان المجال مجال دعوة، فعليك حينئذ بالوضوح وبالصراحة وبوضع النقاط على الحروف وبيان الحق، مع ملاحظة أن التدرج مطلوب حتى في ميدان الدعوة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل، كما في حديث ابن عباس في الصحيحين: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} إلى آخر الحديث.(54/8)
درء التهمة عن العلماء أمر مطلوب شرعاً
إذاً: هناك فرق بين الدعوة وبين الحكم على الآخرين، فأنت عندما تصير إلى موضوع الحكم لا يضرك أبداً أن تحتاط، فأنت تعتبر نفسك كالقاضي، والقاضي يجب أن ينظر في الأدلة والقرائن والدعوى ونقض الدعوى، ويتأمل ويجتهد ويتحرى حتى لا يصدر حكماً خاطئاً، وإذا وجدت مندوحة عن وصف الشخص -مثلاً- بالكفر أو بالفسق أو بالبدعة وهي شرعية بلا تكلف، تعين عليك سلوكها، لأن مهمتي ومهمتك ليست هي نبز الناس بالألقاب وتوزيع المعايير عليهم واتهامهم بشتى التهم، وكأني أريد أن أثبت لنفسي البراءة من خلال الطعن في الآخرين، فهذا من أخطر ما يمكن أن يكون.
وبدون شك أنه يسرنا جميعاً أن يكون الناس أخياراً، ويسرنا أن يكون الناس صالحين وأهل تقوى وأهل سنة، فأي ضرر عليك وعليه إذا صار الناس على الخير؟! هل من جيبي أعطيتهم شيئاً؟! وإذا دخل الناس الجنة هل هم سيأخذون مالي أو مال أبي أو جدي؟! كلا، بل كما قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] .
إذاً: ينبغي أن يكون عندي هذه البحبوحة وهذه السعة وهذه الرحمة للناس، وهذه الفرحة بكل خير يصيبونه، والحزن لكل شر يقعون فيه، والحدب على إصلاحهم والتحري لهم؛ وفرق بين أن تكون مهمتي كأنني مقاتل في ميدان، أريد ألا يدخله أحد غيري أنا ومن يقع عليهم الاختيار، وبين كوني إنساناً يهمه أن يدعو الناس بكل ما أوتي من قوة إلى هذا الباب، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] .
فعلى الإنسان أن يحرص -فيما يتعلق بالحكم على الناس- ألا يتسرع بالحكم، وألا يعمم الأحكام، وألا يتكلم على الأشخاص بقدر المستطاع.(54/9)
الاختلاف في مسألة لا يكون سبيلاً إلى العداوة
وعلى سبيل المثال: يوجد من المشايخ في هذا العصر من يعتبر أن وضع اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع بدعة، ويوجد من العلماء في هذا العصر ومن قبل من يرى أن وضع اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع أنه هو السنة، ويستدلون بحديث سهل بن سعد في البخاري: {كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة} ويقول: من المعروف أن هذا في القيام، سواء قبل الركوع أو بعده، فهل أستطيع أن أصف من فعل هذا أو ذاك بأنه مبتدع؛ لأنه خالف السنة في نظري؟ لا يمكن؛ لأن هذه مسألة فيها اختلاف.
حتى لو فرض جدلاً أني رجحت أحد الأمرين، فهذا لا يعني وصم الآخر بأنه مبتدع، بل حتى لا نوافق أصلاً على وصف العمل بأنه بدعة، لكن من باب التسليم والتوضيح بهذا المثال فقط، وقد يقع الإنسان في شيء نقر بأن هذا العمل بدعة أو مخالف للسنة، لكن لا يوصف الشخص بأنه مبتدع، بل قد يقع في الكفر ولا يوصف بأنه كافر إلا بعد وجود الشروط وزوال الموانع من هذا الإنسان، فقد يكون جاهلاً ومثله يُجْهل، وقد يكون متأولاً، أو قد يكون قاصداً شيئاً آخر غير ما ظننت؛ أنا ظننت أنه يسخر بالدين، ولما سألته تبين أنه يقصد معنى آخر لا علاقة له بهذا الباب إطلاقاً.
وقد يكون يسخر ولكن في حالة غياب عقله وإدراكه عنه، أو غلبه نوع من المواجيد عنده جعلته يقول ذلك.
حتى إني رأيت أن الإمام الذهبي رحمة الله عليه في مواضع كثيرة، يتأول لكلمات واضحة وضوح الشمس، أنها نقض لأصول الشريعة، حتى إنه -أحياناً- يتأول أنه ربما أن الإنسان قال هذه الكلمة في حالة غياب عقله، من أجل ألاَّ يصفه -مثلاً- بالكفر، لماذا؟ لأن أهل السنة هم أرحم الناس بالناس.(54/10)
لا إنكار في المسائل الاجتهادية
القاعدة الثالثة: يمكن أن نعبر عنها بقاعدة: (لك الغنم وليس عليك الغرم) .
فإذا قام شخص بمجهود في الدعوة، أنت لك رأي غير موافق في هذا المجهود، فلماذا لا تتذرع بالصمت؟ هل هناك نص شرعي يلزمك بأن تعطي رأيك في كل مسألة وأن تعلن موقفك، وهل أنت جهة رسمية لا بد أن تعلن موقفك في كل قضية؟! لا، إذا اقتنعت بهذا الجهد فحبذا وساعد وأعن وأيد، وإذا لم تقنع فإنه يسعك الصمت، فإن كان هذا الجهد خيراً ونافعاً أصابك منه شيء، وإن كانت الأخرى فليس عليك غرم؛ لأنك لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن ينسب إليك بحال من الأحوال، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى نوع من هذا المعنى أو هذه الحكمة قال: {يا ويح قريش! لقد حمشتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟! فإن انتصرت فعزي عزهم، وإن كانت الأخرى فقد كفوني بغيرهم} بمعني اترك المعركة يديرها غيرك، وأنت لست ملزماً بأن تتخذ موقفاً من كل قضية.(54/11)
من محاسن الوفاق بين الدعاة
وهذا سوف يعفينا من مشاكل كثيرة جداً؛ لأننا نجد -كما ذكرت- أحياناً المجهود الإسلامي يحطم بمجهود إسلامي مماثل، ونجد أحياناً أن العدو لا يحتاج إلى أن يبذل شيئاً، العدو يكفيه أن يقف متفرجاً؛ لأن المحاولة التي قمت بها أنت أحبطتها أنا، وبذلك لم يحتج العدو إلى أن يبذل مجهوداً لإيقافي عند حدي أو إيقافك عند حدك؛ لأن المعركة التي دارت بيني وبينك أعفت خصمنا المشترك من أن يقوم بأي جهد.
وليس شرطاً كما يتوقع البعض أن العدو دائماً خلف ما يقع بين المسلمين! فالآن -مع الأسف- إذا وقع شيء، قال بعض الشباب: هذه مؤامرة من العدو! وهذه خطة دولية مثل الذي يجري في أفغانستان مثلاً أو غيرها، وقد يكون هناك أصابع خفية دولية أحياناً، لكن في أحيان كثيرة بسبب غفلة المسلمين وسطحية تفكيرهم وضيق أفقهم وعدم قدرتهم على تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم قدرتهم على أخذ زمام المبادرة، وعدم قدرتهم على الحوار الموضوعي يجعلهم هذا أحياناً يتصرفون بالنيابة عن عدوهم وخصمهم من حيث لا يريدون ولا يشعرون، والعدو يؤيد هذا العمل ويشجعه.(54/12)
مثال للتعامل مع المخالفين في مسألة اجتهادية
مثال: قد يوجد جهاد إسلامي في بلد ما، فإذا كان عندك وضوح وقناعة بأن تؤيد هذا الجهاد، فواجب عليك نصر المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالتناصر بين المسلمين، فقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وإذا استنصرك فانصره} وقال: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} .
لكن افرض أن عندك تردداً في هذا الموضوع، ولست متأكداً من استخدامهم للوسائل الشرعية، ولست متأكداً أن تكون النتيجة النصر، فحينئذ ربما يأتي شخص ليشن هجوماً حرب بيانات ويقول: هؤلاء طائشون، خوارج، متسرعون، جهلة، أغبياء، حمقى إلى آخر العبارات.
فهذا نتيجته -وهي أقل نتيجة- إيغار الصدور والطعن في الظهور.
فدع هؤلاء القوم ما داموا لم يستشيروك، والحمد لله أنت قد كفيت، دع هؤلاء وما اجتهدوا فيه، فإن وفقهم الله تعالى وحقق النصر على أيديهم فنصرهم نصر لك؛ لأنه لا تعنيك قضيتك الشخصية بقدر ما يعنيك أمر الإسلام، وإن كانت الأخرى فأنت لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن تكون محاسباً عليه، ولن تكون مسئولاً عنه بحال من الأحوال ما دمت لم تشارك فيه برأي أو قول أو فعل.(54/13)
تقدير الظروف المحيطة ومقدار الوسع
القاعدة الرابعة: (تجنب أسلوب طرح الأسئلة) .
فأسلوب طرح الأسئلة هو في نظري أسلوب قاتل في الدعوة.
مثال: أنت داعية مجتهد -جزاك الله خيراً- ذهبت إلى بلد من البلاد الإسلامية، فوجدت أن الناس هناك جهلة وبحاجة إلى التعليم، فأقمت مدرسة، لكنك وجدت مبنى ليس كما تحب فهو أقل مما تريد، وليس فيه فصل بين أقسام الرجال والنساء، وأتيت تبحث عن مدير فوجدت مديراً (50%) مما تريد، فهو أقل بكثير مما تريد، ثم بحثت عن المدرسين فجاءك المدير ببعض المدرسين، ومن هنا ومن هنا أوجدتم مجموعة مدرسين: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع! فإذا أتيت للمناهج الدراسية لم تجد مناهج على ما تريد لا كتب ولا مطبوعات ولا أشياء، فأتيت من هنا ومن هنا بمناهج ليست هي التي تتمنى، ولكن قلت: الجود من الموجود.
فأتيت أنا -وكأني عنترة بن شداد كما يقال- زائراً إلى هذا البلد، ومنطلقي منطلق الوصاية على الدين، وعلى الدعوة، وعلى المؤسسات والمشاريع، وأتيت بورقة وقلم وبدأت أدون الملاحظات: لماذا المدير كذا؟ ولماذا المنهج كذا؟ ولماذا المبنى كذا؟ ولماذا هؤلاء المدرسون والطلاب شأنهم كذا؟ قلت أنت: يا أخي تعال استلم المدرسة بارك الله فيك! واعمل فيها ما شئت! واختر لها المدير الذي تريد والمدرسين والمناهج والطلاب والمبنى، وتحت يدك من المال كذا وكذا، فإنك تجد أن هذا الإنسان يقف مكتوف الأيدي ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، لأن هذا هو المتاح وهذا هو الممكن.
وأنا أعتقد أن هذا من أسباب الخلاف أحياناً، فأنت عندما تنظر لهذا الواقع فإنك تنسب أخطاء هذا الواقع لي، أخطاء المدرسة ومديرها ومدرسيها وطلابها ومبانيها ومؤسساتها ومناهجها، والواقع أنني أنا أوافقك على نفس الملاحظات، لكن هذا الممكن؛ ولأن نعمل وفق المتاح ووفق الممكن أفضل من ألا نعمل.(54/14)
الأوضاع اليمنية
وهذا ينطبق على أعمال كثيرة، وأقرب مثال على ذلك الأحداث في اليمن، وقد انتهت الأحداث في اليمن والحمد لله على أمور طيبة، هي ما كان يتمناه معظم أولياء الإسلام الذي يعرفون حقيقة الأوضاع الجارية في اليمن، لكن كانت الأسئلة تطرح: لماذا يحدث كذا؟ ولماذا يسكتون عن هذا الإنسان؟ ولماذا يتعاملون مع هذا الحزب؟ ولماذا يتكلم فلان؟ ولماذا يصرح عن الله؟ ولماذا يكون كذا وكذا؟(54/15)
القصور البشري
يا أخي لا تتصور أبداً أن هناك نشاطاً في الدنيا حتى ولو كان صغيراً يتطابق مع ما نريده له في الواقع.
دعنا نعود إلى مثال المدرسة، عندما ترسم المدرسة حبراً على ورق أو تضع لها -كما يقولون- صورة هيكلية شكلية، فإن الواقع الحقيقي لهذه المدرسة لا يمكن أن يتطابق مع ما رسمته في ذهنك أو على الورقة أو كصورة مصغرة، بل سيكون مختلفاً كثيراً أو قليلاً عن ذلك، فكيف لو كانت القضية قضية مؤسسة أو وزارة؟! فكيف إذا كانت القضية قضية دولة وأمة بأكملها؟! لا بد أن الأمور تأتي بالتدريج، ولا يمكن تصور دولة الخلافة الراشدة -مثلاً- سنرسم لها مخططاً نظرياً على الورق، ثم تطبق عملياً اعتباراً من الساعة السابعة صباحاً، فهذه خيالات، أما الذي يعيش الواقع فإنه يدري أن المسلمين ينتقلون بين الضعف والقوة والنصر والهزيمة والغنى والفقر والعلم والجهل والمجاهدة والصبر والمصابرة، حتى يأذن الله تعالى بالنصر لمن يشاء، بعد جهود وخطط ومحاولات وتقديم وتأخير.
إذاً: مسألة طرح الأسئلة مسألة سهلة، لكن الواقع العملي ومعايشته هو الأمر المرير الذي يحتاج إلى خبرة ودراية ومعايشة.(54/16)
لا إلزام برأي في المسائل الاجتهادية
القاعدة الخامسة: (لسنا أوصياء على الدعوة أو الصحوة) .
فالدين دين الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والله تعالى تكفل بحفظ القرآن وحفظ أهله؛ ولهذا جاء الوعد النبوي الصحيح المتواتر بالطائفة المنصورة المجاهدة في سبيل الله إلى قيام الساعة، فهذا وعد رباني، وأنا وأنت لسنا أوصياء على الدعوة أو الصحوة؛ فلماذا تجد أننا أحياناً نتكلم كما لو كنا أوصياء؟! لا نريد من أحد أن يتحدث أو يعمل إلا وفق قناعاتنا وآرائنا واجتهاداتنا، وقد نتكلم فنؤيد هذا ونعارض هذا ونمدح هذا ونذم ذاك، ونتكلم عن قضية الصحوة والدعوة على سبيل الخائف الحذر منها، مع أن الواقع أن الدعوة دين الله ودعوة الله، وهو المتكفل بنصرها، وأنا وأنت لسنا إلا بشراً ينبغي أن نبذل بعض الجهود، لكن علينا أن نكون متواضعين فيما يتعلق بتقدير حجم أنفسنا وشخوصنا وعقولنا، بحيث لا نظن أننا أوصياء على هذه الدعوة، ونعتبر أن الشيء الذي لا يمر عبر قناعتنا يحب ألا يكون.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن نتخلى عن الدعوة، بل يجب أن نبذل قصارى جهدنا في الدعوة، نعم تبذل قصارى جهدك، لكن دع الآخرين أيضاً يبذلون قصارى جهدهم، وجهدك يكمل جهدهم، فإن لم يكن مكملاً لجهدهم فعلى أقل تقدير ألا يكون معطلاً أو معارضاً لجهدهم.(54/17)
تبادل الود بدلاً من تبادل الاتهام
القاعدة السادسة: (تبادل حسن الظن وتبادل الملفات) .
لقيت مجموعات من الدعاة فوجدت أن كل واحد يتكلم عن الآخر أو عن الآخرين ويقول: عندي ملفات، فقلت: أي ملفات تعني؟ قال: ملفات الملاحظات والأخطاء والتجاوزات! يا أخي ليست هذه من سمات الأخوة ولا من شيم الأحرار والرجال أهل المروءة والكرم، أن أكون أنا مراقباً عليك وأخطط وأسجل وأدون! يا ليتنا نستطيع أن نصنع هذا مع أعدائنا وخصومنا، فنستدرك خططهم وأعمالهم وأساليبهم، فنحن يجب ألا نسلك أسلوب الملفات والملفات المضادة؛ بمعنى أن كل فئة أو مجموعة أو جماعة تحاول أن تحتفظ بملفات عن أخطاء الآخرين وتجاوزاتهم في المركز الفلاني، وفي المدرسة الفلانية، وفي المسجد الفلاني، والشخص الفلاني، والمؤسسة الفلانية، والوظيفة الفلانية، والوزارة الفلانية، والعمل الفلاني، وهذا قال وهذا فعل وهذا فُصل وهذا لم يفصل وهذا أدخل وهذا أخرج وهذا قيل فيه كذا وهذا ضُرب وهذا لم يضرب.
ويمكن أن نستخدم أسلوب التفويت، وأسلوب الدفع بالتي هي أحسن كما أرشد الله إليه، أسلوب أخذ العفو، وأسلوب الإعراض، أسلوب {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وإذا لم نستخدم هذا الأسلوب مع إخواننا في الدعوة ومع إخواننا في الدين ومع أحبتنا، فبالله عليكم مع من سنستخدم هذا؟!(54/18)
مفارقة غريبة
ولقد لاحظت في نفسي شيئاً وأتمنى ألا يكون موجوداً في الآخرين: أن الواحد منا أحياناً إذا جاءه إنسان عليه سيماء الانحراف، قام له وهش وبش وهل ورحب وابتسم في وجهه، وأعطاه قدراً كبيراً، لماذا؟ قال: لأني أريد أن أتألف قلبه على الخير، وأريد أن يأخذ انطباعاً طيباً عن المتدينين وهذا جميل! فإذا جاء أخوك الذي هو -ظاهراً على الأقل- أقرب إليك وأصدق معك، فقد لا يفعل الإنسان ذلك ولا بعضه، بل قد يكفهر في وجهه، وقد لا يقابله بمثل بذلك، وهذا من حيث الأصل قد يوجد ما يسوغه، لكن على الإنسان أن يحرص -خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الاختلافات والظنون المتبادلة وامتلأت القلوب بالتغاير- على الإنسان أن يحرص على تأليف قلوب الأخيار قبل غيرهم.(54/19)
الحرص على الأخوة هو العبادة الحقيقية
فأنا أقول: ينبغي أن نفوت، وينبغي ألا نثأر لأنفسنا أو نغضب لذواتنا قدر المستطاع، وعلينا أن نتحمل ما قد يصدر من إخواننا، ووالله ما أحلاها أن يتحمل الإنسان جرعة غضب أو غيظ أو أذى لقيه من أخيه! وهذه يا أخي هي العبادة الحقيقية، هذه -والله- هي الدرجات العلى في الجنة، وقد يكون الإنسان صاحب عبادة أو صلاة أو صيام، لكن لا يكون عنده من هذا شيء، فلا يخرج بطائل كبير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث المتفق عليه: {ليس الشديد بالصرعة! إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} ويقول عليه السلام كما في حديث معاذ بن أنس الجهني -وهو في السنن بإسناد صحيح- يقول: {من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه، دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء} .(54/20)
الوسطية والاعتدال بين التهويل والتهوين
القاعدة السابعة: (الاعتدال في التفكير) .
لقد رأيت أن كثيراً من الخلاف بين الأخيار سببه اختلاف التفكير، ولا أشك أبداً أن أنماط التفكير وأساليب التفكير والنظر في الأمور عندنا قد أدركها -كما يقول محمد إقبال - خمول كبير: أرى التفكير أدركه خمول ولم تعد العزائم في اشتعال فالتفكير عندنا -في كثير من الأحيان- تفكير ناقص محصور، ينظر من زاوية ضيقة متأثراً بالواقع ومقلداً، وليت القضية اقتصرت على أن هذه نظرتي! لا، بل تعدى الأمر إلى أنني أحاول أن أفرض هذه النظرة على الآخرين! ونرجع إلى قضية الوصاية على الدعوة، فإذا كان هذا تفكيري، وهذا مستوى نظري، وذا مبلغي من العلم، ومع هذا أنا اعتقد نفسي وصياً على الدعوة، فكيف تتصور دعوةً ومثلي وصي عليها؟! فلا بد من الاعتدال في التفكير، وأضرب لكم بعض الأمثلة:(54/21)
عدم المبالغة في النتائج
وأيضاً من أخطائنا في التفكير -وهذا باب آخر لكن لأن له علاقة بالاختلاف الذي يقع أحياناً بسبب اختلاف المواقف الفكرية- من ذلك: المبالغة في النتائج والإلزام بما لم يلزم؛ فتجدنا أحياناً إذا حصل شيء يتعلق بالدعوة رتبنا عليه نتائج عظيمة؛ مثلاً: إذا خطب فلان خطبة معينة، وقد يكون صريحاً في هذه الخطبة، ووضع النقاط على الحروف، تجد أننا هولنا وقلنا: الصحوة وهذا يضر الأمة ويضر الدعوة وستقع فتن ومشاكل وقيل وقال! يا أخي سبحان الله! من أين نحن خرجنا؟! ومن أين هذا الكلام؟! ومتى يقال؟ ومن يقوله.
؟ وهل هذا الكلام صحيح؟ والناس بمجرد أن تعتاد آذانهم سماع نوع معين من الكلام يصبح الأمر عادياً بالنسبة لهم؟ ولا يحدث الأثر الذي أنت تظنه في مثل هذا الباب.(54/22)
معالجة الخلاف والثقة بالناس
ولا بد أن أضرب لك مثالاً الآن بجوارنا ما يسمى بدولة إسرائيل دولة مسخ، جاء اليهود من روسيا ومن أمريكا ومن بريطانيا ومن بولندا ومن اليمن ومن بلاد المغرب ومن أفريقيا ومن كل مكان، واليهود متناقضون، عناصر مختلفة، أجناس مختلفة، وعقليات مختلفة، ومذاهب مختلفة، وقد أقاموا أحزاباً سياسيةً أيضاً مختلفة، هذا يميني، وهذا يساري، وهذا متطرف، وهذا معتدل، وهذا كذا، وهذا من حزب العمال، وهذا من الليكود، هذا كله موجود وتعرفونه أنتم، ومع ذلك تعرفون أيضاً أنه يوجد عندهم حرية مطلقة في الكلمة، فلك أن تنشئ صحيفة، وقل ما شئت، واخطب كيف تشاء، وتكلم كيف تشاء، واعلن واصرخ، المهم لا تمد يدك فقط، والباقي قل ما شئت ما دامت المسألة كلاماً.
بالله عليكم الآن ألا يوجد استقرار نسبي كبير في إسرائيل تفتقر إليه معظم الدول المجاورة؟ أقول بكل يقين: بلى! والعالم الغربي ينظر إلى إسرائيل على أنها نموذج للحضارة والديمقراطية في المنطقة، لكن نظرة الغرب لا شك أنها منحازة بسبب عدائهم للمسلمين، لكن أيضاً هذه النظرة لم تنشأ من فراغ.
بالعكس، الناس إذا وعوا وفتحوا ونظروا وعرفوا فإنك تضمنهم في هذه الحالة؛ لأن الخراج بالضمان، إن تعود الناس على معرفة الأمور على حقيقتها وجدت رجالاً إذا احتجتهم فزعوا معك، وإذا استفرغتهم أعانوك وأغاثوك، وأما إذا ربيت قطيعاً من الغنم فقد يهجم الذئب عليه ويأكله، وتصيح ثم تصيح ثم تصيح، ولا يغيثك أحد؛ لأنك هكذا اخترت لنفسك، فهذه الشعوب التي هجنت ودجنت وصودرت شخصياتهم، واعتبروا أنه لا يجب أن يعرفوا شيئاً، وأنهم ليسوا على مستوى أن يدركوا شيئاً، ولا أن يسمعوا شيئاً ولا ولا إلى آخر قاموس الهجاء الذي حاولنا أن نخص به الأمة الإسلامية من بين أمم الأرض كلها، وهذا ولَّد أن هؤلاء القوم إذا استنجد بهم إنسان في حالة شديدة لا يستجيبون له لأسباب منها: أولاً: أنهم ربوا على هذا الأمر.
ثانياً: أنهم يقولون: أنت كنت بالأمس تقول فينا كذا وكذا، ونحن كما تقول لا يمكن أن نفزع أو نقوم معك، مع أنه ما من مجتمع أو أمة أو دولة إلا وهي معرضة لأخطار في الداخل وفي الخارج، والخطر لا يخص شخصاً، فالعقوبة إذا نزلت عمت الصالح والطالح، ثم يبعثون على نياتهم، ولذلك جاء في الوعيد للمجاهرة بالمعصية الشيء الكثير؛ لأن المجاهرة بالمعاصي هي ثمرة تخدير مشاعر الأمة ومنعها من الاحتساب الذي يقضي على المنكرات ويزيلها.(54/23)
أهمية الاقتراب من الواقع
ومن ذلك -مثلاً- أنك تجد عندنا تحفظاً مغالىً فيه في تقويم كثير من الأعمال والأمور، فإن الإنسان العاقل الحكيم يستطيع أن يحكم على الأشياء من منطلق نتائجها ومن منطلق المعلومات التي توصل إليها، ومن منطلق أنها أفضل مما ما هو أسوأ منها، أو أنها قد تفضي إلى نتيجة إيجابية جيدة أو ما أشبه ذلك.
لكن الإنسان الذي يعيش في جو مغلق، همه أن يعيش فقط مع الكتاب أو يعيش مع الحلقة العلمية، وليس في قلبه هَم لنصر الدين، وهم التمكين للإسلام، وهم التعاطف مع الأمة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، وهم إعادة القوة والعزة والوحدة للمسلمين في كل مكان، فالإنسان الذي لا يحمل هذه الهموم تكون نظرته نظرةً منغلقة ومحدودة؛ لأنه لا يعتبر نفسه معنياً بالموضوع، ولا يعتبر أن حكمه ذو بال على القضية، بخلاف ما لو أحس بأنه بجزء من هذه الأمة، وأن ما يعنيها يعنيه، فبدون شك أنه سيكون أكثر تحرزاً وانفتاحاً ويقظةً وأكثر مشاركةً.(54/24)
النظر إلى جوانب الخير
من أخطائنا في التفكير: شدة الخوف التي تجعل كل شيء ننظر فيه للجانب السلبي فقط، فننظر إلى أي حدث جديد بخوف، فنخاف من كذا ونخشى من كذا؛ ولذلك حرمنا حتى من الفرح بالخير الذي قد يحصل للمسلمين، والخير الجزئي يمكن أن يقع، وأي تحول يمكن أن يكون لصالح الإسلام نسبياً وجزئياً ولو لم يكن (100%) يفترض أن نفرح، وعلى أقل تقدير نعطي أنفسنا فرصة للفرح في ذات الله عز وجل، أما الإنسان الذي يكون دائماً عنده تخوف وينظر للجانب السلبي، ويتوقع مؤامرة وراء كل شيء، فإن هذا الإنسان لا يستفيد من الأحداث، ولا يشارك فيها ولا ينتفع بها، وأيضاً حتى الفرح لا يفرح بها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
على سبيل المثال: سقطت الشيوعية في أكثر من بلد، فقد يكون المسلم في البلد التي سقطت فيه الشيوعية مغلول اليد لا يصنع شيئاً ولا يبادر، لماذا؟ وهذه آخرها في عدن، لما سقطت الشيوعية كان يأتيني بعض الشباب من هناك ويقولون: نحن خائفون! خائفون من ماذا؟ قال: نخشى أن هذه مصيدة وخطة من أجل أن يظهر الشباب المسلم، فيتم القضاء عليهم! صحيح أن الإنسان يحب أن يفكر، لكن أيضاً لم تفترض دائماً أن العقل والذكاء والدهاء هو وقف على العلمانيين وعلى الشيوعيين وعلى أعداء الدين وعلى الكفار وأن المسلم ليس له عقل؟! يا أخي: المسلم له عقل كغيره، وإضافة إلى ذلك فالمسلم عقله زكي مزكى بنور القرآن ونور السنة ونور الاستبصار ونور التفرس والتوسم، وحديث {اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله} هذا عند الترمذي، وعلمي أنه لا يصح فهو حديث ضعيف، ولكن معناه في الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] والفراسة كانت موجودة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر: {لأن يكون في أمتي محدثون فـ عمر} فالمؤمن عنده إضافة إلى العقل الذي عند غيره، وعنده هذه الفراسة وهذا الإلهام، عنده تزكية القرآن، فلماذا نتصور دائماً أننا ضحية خطط الآخرين ومؤامراتهم، وأن كل ما نفعله هو أن نتقوقع على أنفسنا ونتقرفص، ولا نشارك بشيء، ولا نفرح بشيء، ولا نقدم على شيء؟! لماذا؟ لأننا متخوفون أن يكون خلف القضية مؤامرة! وبهذه بالطريقة هذه سوف تقوقع نفسك! نعم، قد تسلم لكن السلامة بحد ذاتها ليست مطلوبة، فأنت تسافر وفي السفر مخاطرة، وتركب الطائرة والأمر كذلك، وتفتح محلاً تجارياً فقد يفشل وتركبك الديون، نعم يجب أن تحتاط وتفكر تفكيراً صحيحاً في مثل هذه الأمور، فإذا كانت نسبة الخطر (1.
5%) فلا تقم لها وزناً؛ لأن هذا خطر موجود في كل الدنيا، والواحد يمكن أن يأتيه الموت ويرحل أيضاً.(54/25)
مساوئ التقليد
القاعدة الثامنة: (نبذ التقليد والتعصب) .
فإن من أهم أسباب الخلاف والفرقة التعصب والتقليد للشيخ والفقيه والمعلم أو للجماعة التي قد ينتمي إليها الإنسان أو للداعية الذي قد يجلس إليه أو يجتمع إليه والذي ندعو إليه دائماً وأبداً أن نقول: يا أحبة افتحوا نوافذ عقولكم، دعوا الهواء الطلق يهب عليها، واقرءوا بعيونكم، واسمعوا بآذانكم، وفكروا بعقولكم، ثم اجتهدوا في الحكم، واحرصوا قدر المستطاع على العدل والاعتدال والإنصاف والتوسط، وسوف يوفقكم الله عز وجل، وإذا أخطأ الإنسان فلن يكون خطؤه بعيداً.
أما أن تكون القضية تقليداً، وقد رضي الإنسان منا عن نفسه وعقله بأن يقلد فلاناً، فإذا قال: شرقوا شرقنا أو غربوا غربنا، كما قال الشاعر الجاهلي: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم أو أنني غير مهتدي هذا ليس بصحيح وهذا منهج الجاهلية.
أما منهج الإسلام فإنه منهج المسئولية الفردية، ومنهج المحاسبة الذاتية، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فالله تعالى ما أعطاك العقل وهو يريد منك أن تقلد في دين الله تعالى الرجال.
نعم اقرأ وتعلم واستفد من العلماء ومن الدعاة ومن الناس، لكن -يا أخي- من الذي رهن عقلك لزيد وعبيد؟! ومن الذي جعل رأيك يدور مع فلان حيث دار،.
ولو أننا نبذنا التعصب والتقليد لانتهى جزء كبير جداً من الخلاف بين المسلمين ومن التباعد والتباغض بينهم، لأن هذا سيجعل الخلاف أقل مهما كان قد يكون الخلاف بيني وبينك حينئذ في مسألة أو مسألتين، لكن إذا كانت القضية قضية تعصب فسوف يكون الخلاف بيني وبينك خلاف منهج كما يقال، فكل ما يقوله فلان عندك صواب وأنا كل ما يقوله فلان عندي صواب، ولذلك تكون الشقة بيني وبينك بعيدة، لأنها سوف تنتظم مئات المسائل.(54/26)
التنسيق بين الدعاة
القاعدة التاسعة: (الإصرار على قدر من التنسيق بين الدعاة) : لا يكفينا أن يعيش الدعاة في خطوط متوازية كما قلنا، بل ينبغي أن يكون هناك قدر من التنسيق بينهم: التنسيق في الجهود، القيام بأعمال مشتركة، سواء في تجارة أو دعوة أو في تعليم أو في جهود إغاثية وإنسانية أو في أي عمل يمكن أن يحتاج الناس إليه، إضافة إلى ضرورة أن يكون هناك لقاءات وزيارات.
يا أخي أنت -أحياناً- تسمع عن إنسان فتسيء الظن به؛ لأنك سمعت كلاماً موحشاً، لكن إذا لقيته وحادثته وجلست إليه، ورأيت واقعه ومحياه وسيماه وكلامه بخلاف ما كنت تظن، وتبين أن الكلام الكثير الذي رُكن بعقلك وشحنت به نفسك أنه لم يكن له رصيد، قد يكون كلام رجل ساء ظنه به واجتهد، وقد يكون شخصاً مغرضاً أراد الحيلولة بينك وبينه، فلماذا لا نحرص على الاتصال والتنسيق بين الدعاة، واللقاءات بين الكبار والصغار في المنسبات المختلفة؟ ولماذا نجعل أن لقاء الدعاة فيما بينهم مرهوناً بالأزمات والمشكلات؟ فإذا حصلت حادثة أو نكبة أو طارئة أو مصيبة أو كارثة قلنا: تعالوا؟ لماذا نحن متفرقون؟ لماذا لا يرى بعضنا بعضاً؟ فينا كيت وكيت وكيت، فهذا الكلام لماذا لا يخرج إلا الآن؟!(54/27)
الموازنة بين خصوم السنة وترتيب العداوات
القاعدة العاشرة والأخيرة: إن كنت مصراً على أن هناك طائفة من دعاة الإسلام هم أعداء لك، فنحن نقول لك: على أقل تقدير رتب العداوات، هل تعتبر أنهم أشد عداوة لك من اليهود أو من النصارى أو من المشركين أو من المنافقين؟ يقيناً لا تعتقد ذلك، إذاً أجل عداوتهم، وإذا انتهيت من عداوة اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وأهل المخالفة الأصلية للدين، وأهل البدع الغليظة المعلنة الظاهرة الذين اجتمعوا وتحالفوا وتآلفوا عليها، وما بقي إلا عداوة أخيك الذي هو أخوك في الدين، وأخوك في المنهج، وأخوك في الطريقة، وأخوك في الكتاب، وأخوك في السنة، وإنما الفرق بينك وبينه في نظرة أو في جزئية أو في موقف أو في اجتهاد، فإذا لم يبق إلا عداوة هذا، فالله يقويك ويثيبك.
فإذا كنت مصراً على العداوة فعلى أقل تقدير رتب العداوة، واجعل العداوة تتأخر بعض الشيء، واجعل جل همك في محاربة من لا شك في خطرهم على الإسلام، فأخوك هذا قد يوجد من يشك في خطره، وأنا من طبيعة الحال ممن يشك في خطري، لأن المسلم الصادق لا خطر منه على الإسلام -إن شاء الله تعالى- لكن ذلك اليهودي أو النصراني أو المنافق أو الفاجر المحارب المعلن بالعداوة والبدعة والبغضاء لا شك أن خطره على الإسلام كبير، ومتفق على خطورته، فلماذا لا نبدأ بالمتفق عليه ونترك المختلف فيه إلى إشعار آخر؟! جزاكم الله خيراً، ووفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وتوفانا الله وإياكم على الإسلام، وجمعنا على كلمة التقوى والبر، ووحد قلوبنا على ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على إمامنا وسيدنا وقدوتنا سيد الدعاة وقدوة الهداة محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(54/28)
تقويم رجال الإسلام في العصر الحاضر
حول مكانة العلماء وأنهم الخلوف العدول الذين يحمي الله بهم الدين بدأ الشيخ محاضرته؛ مبيناً الاختلاف الحاصل في تقويم الناس، ونشأة علم الجرح والتعديل الناتج عن ضرورة وجود الصالح وغيره في الأمة، وعرج على مظاهر تعامل شباب الصحوة مع الأسماء البارزة علمياً ودعوياً وجهادياً في الأمة، ونبه إلى مناهج الاعتدال في هذه المسألة.(55/1)
أهمية وجود العلماء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام، عنوان هذه المحاضرة هو: (ملاحظات حول تقويم رجال الإسلام في هذا العصر) .
والمقصود بتقويم الرجال هو بيان قيمتهم ومقدارهم, وقد يستعمل بعض الناس لهذا المعنى كلمة تقييم، ولكن بعض اللغويين يرون أن هذه الكلمة خطأ، وأن الصواب هو التقويم، وهذا هو المطرد مع القواعد.
المهم أن ندرك أن الله عز وجل قيض لهذا الدين في كل عصر من يقوم به, ووعد بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله، يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] وهذا وعد قائم إلى قيام الساعة؛ ليظهره على الدين كله, وظهور دين الإسلام على الأديان كلها يشمل عدة أمور، منها: الظهور بالحجة والبيان, بحيث يوجد من الدعاة والعلماء والمصلحين والأئمة من يرفعون شأن الإسلام بالكلمة والكتاب والخطبة والموقف وغير ذلك.
ويشمل الظهور أيضاً: قمة الظهور، وهي الانتصار الكامل لهذا الدين على الأديان كلها، وقد ورد في حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله يقيض لهذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين} وهذا الحديث قد ورد عن عدد من الصحابة كـ أبي هريرة , ومعاذ بن جبل , وابن مسعود , وأسامة بن زيد , وورد مرسلاً عن بعض التابعين, وقد رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وفي شرف أصحاب الحديث، وخرج الطبراني بعض طرقه، وكذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وغيرهم.
واختلف العلماء في صحته، فصححه بعضهم كالإمام أحمد وابن عبد البر وضعفه آخرون كـ العراقي.
والحديث وإن كان ضعيفاً في جميع طرقه, إلا أن معناه صحيح بلا شك، وإنما اخترته لمباشرته في التعبير عن هذا المعنى, وأن الله عز وجل يختار في كل جيل من يحملون هذا العلم والدين، ممن يتميزون بالعدالة والفهم والإنصاف, فيدفعون عن الإسلام تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وهذا الوعد القائم هو لا يزال يجري اليوم، وإلى أن يشاء الله سوف يستمر وجود هذه الحقيقة التي وعد الله بها.(55/2)
الاختلاف في تقويم الرجال
وأمام هذا العدد الكبير من العلماء والدعاة والمصلحين, الذين نجدهم اليوم في واقع الأمة الإسلامية؛ نجد أن الآراء تختلف في كثير من الشخصيات الإسلامية ما بين مادح وقادح, ومؤيد ومعارض, وما بين إنسان ينظر إلى شخصية ما, بأن هذا الشخص هو مجدد هذا القرن, بل مجدد القرون السبعة الماضية, بل مجدد القرون العشرة الماضية.
وقد قيل هذا الكلام عن أحد الشخصيات الإسلامية المعاصرة، وبإزاء ذلك قد تسمع عن الشخصية نفسها كلامًا, بأن هذا الرجل لم يذق طعم الإيمان, ولا وجد نور الإسلام في قلبه.
فإزاء هذا التباين البعيد في تقويم الشخصيات الإسلامية؛ لابد من الإشارة بادئ ذي بدء إلى أننا ورثنا نحن المسلمين ضمن ما ورثناه من تراث هذا الدين القيم: منهج العدل والإنصاف في الحكم على الناس, فيقول الله عز وجل في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135] فيأمرنا بالعدل والإنصاف, وتحري الحق, ولو على أنفسنا أو والدينا أو أقاربنا, ويقول سبحانه في سور المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] .
فكما أنه يأمرنا في الآية الأولى بالاعتدال والعدل حتى مع أنفسنا, أو والدينا وأقربينا, بحيث نقول الحق عليهم -وإن كان عليهم- كذلك يأمرنا في الآية الثانية: بأن لا يحملنا بغض قوم أو عداوتهم على أن نجحف في حقهم, بل لابد من العدل حتى مع العداوة والشنآن.(55/3)
دوام وجود الصالح وغيره في الأمة
تعلمون -أيها الإخوة- أن ضراوة الحرب على الإسلام في هذا العصر؛ أشد منها في أي عصر مضى, وقد نكص كثير من المسلمين عن هذا الدين، وتحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان أنه قال: {وستلحق طوائف من أمتي بالمشركين وستعبد طوائف من هذه الأمة الأوثان} فتحقق هذا الوعد، ولحقت طوائف من هذه الأمة بالمشركين لحوقًا حقيقيًا أو لحوقاً معنويًا، وعبدت طوائف من هذه الأمة الأوثان عبادةً حقيقية، كمن يطوفون بالقبور، ويسألون أهلها، ويرجون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروب، وشفاء المرضى، ويصلون إلى هذه القبور.
أو من يعبدون أصنامًا أخرى، كالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله عز وجل، والمستوردة من الشرق أو من الغرب، أو الأنظمة والنظريات الإلحادية, والمبادئ الهدامة المختلفة.
وإزاء هذا الوضع نجد أن الله تعالى وعد أنه حين يوجد هذا فإنه يوجد في مقابله أمر آخر، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِم} [المائدة:54] ويقول: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .
ففي هاتين الآيتين إشارة إلى أنه إذا وجد في الأمة من ينكص عن الإسلام, أو يتراجع عن الجهاد، أو عن البذل والإنفاق في سبيل الله, فإن الله وعد بأنه سيأتي في ذلك الوقت بقوم يجاهدون في سبيل الله, وينفقون ولا يبخلون, ولا يكونون كهؤلاء الناكثين الناكصين.
ولذلك ذكر الخطيب البغدادي عن أحمد بن سنان: أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام, وقد دخل المسجد؛ فرأى في المسجد حلقتين في إحداهما الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة, وفي الأخرى أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أحمد بن أبي دؤاد ومن معه من أهل الاعتزال، وأشار إليهم وقال: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وأشار إلى الإمام أحمد ومن معه.
فهذه القضية ظاهرة، فمتى ما وجد التراجع، والردة الكلية أو الجزئية عن الإسلام فإنه ويوجد في مقابل ذلك من الرجال الأفذاذ من يقيمون راية الدين, وهذا موجود في هذه العصور المتأخرة, وموجود في عصرنا الذي نعيش فيه.
صحيح أن النوعية تقل، فنحن لو قسنا رجال الإسلام في هذا العصر, برجال الإسلام في العصور الأولى, لربما وجدنا أنهم أقل منهم بكثير، ولا شك في ذلك, فكلما تقادم العهد كلما ضعفت نوعية الرجال القائمين بشأن الإسلام، وهذه سنة لله في خلقه.
لكننا نقول مع ذلك: رجال الإسلام -في الجملة- هم خير من على ظهر الأرض في هذا اليوم؛ وحملة راية الإسلام من العلماء والدعاة والمصلحين على ما فيهم من نقص أو تقصير أو مداهنة أو إيثار للراحة أو ما أشبه ذلك من العيوب التي يرميهم بها كثير من الناس, نقول: هم على ما فيهم خير أهل الأرض.
وفي هذه المناسبة اتذكر أيضًا الكلمة التي رواها عمر بن حفص عن أبيه أنه قيل له: ألم تر إلى أهل الحديث كيف تغيروا وكيف فسدوا؟ فقال: هم على ما هم خيار القبائل, فرجال الحديث على رغم ما أصابهم من ضعف أو تغير أو اختلاف هم خيار القبائل, وإن كان فيهم عيب ففي غيرهم عيوب.(55/4)
علم الجرح والتعديل
وهذا المنهج لم يكن منهجًا نظريًا -فقط- في آيات القرآن الكريم, أو أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام, بل إنه طبق عمليًا, ولعل أبرز صورة طبق فيها هذا المنهج؛ هي ما يعرف بعلم الجرح والتعديل, فقد ورث المسلمون تراجماً لأعداد كبيرة من الرواة ربما يزيدون على عشرات الآلاف من رواة الحديث, وكان الأئمة يتكلمون في كثير من هؤلاء جرحًا أو تعديلاً, وأنت لو نظرت في منهج هؤلاء الأئمة في الجرح والتعديل؛ لوجدت العجب العجاب, ويكفي أن أشير -مثلاً- إلى أن علماء الجرح والتعديل كانوا يوثقون بعض الرجال على رغم أنهم أهل بدع وضلال, كما قال بعضهم عن أحد هؤلاء، قال: فلان ثقة في الحديث رافضي خبيث، وبغض النظر عن كون هذه الكلمة لا تليق بالرجل الذي قيلت فيه؛ فإن المقصود أن هؤلاء العلماء كانوا مع رأيهم أن فلانًا فيه انحراف في جانب معين؛ لم يمنعهم هذا الانحراف من أن يبينوا ما فيه من مزية في الجانب الآخر.
ولذلك وثَّقوا عددًا غير قليل من أهل البدع, مع بيان بدعتهم، فهذا جانب العدل والإنصاف حتى مع من يكون بيننا وبينه اختلاف, وحتى مع من ننكر عليه كثيرًا من البدع والانحرافات الموجودة عنده, فلا يجعلنا ذلك ننسى فضائلهم وحسناتهم.
وفي مقابل ذلك, نجد أن علماء الجرح والتعديل كانوا يذكرون الجرح ولو كان في أقرب قريب.
ولعل من أجلى الصور في ذلك ما ذكره العلماء عن علي بن المديني - علي بن عبد الله بن أبي نجيح السعدي المعروف بـ علي بن المديني - فقد سئل علي بن المديني عن أبيه، ما تقول في فلان؟ فقال: سلوا عنه غيري, قالوا: إنما نسألك أنت, قال: أما إذ أبيتم فإنه الدين، هو ضعيف, فهو حاول أن يدفع هذه الكلمة وأن يجعل غيره يقولها، فلما أصروا عليه, قال في أبيه كلمة الحق: أبي ضعيف في الحديث فلا تأخذوا عنه.
هذا المنهج العادل عند علماء الجرح والتعديل يجعلهم يوثّقون الخصم إذا كان أهلاً للتوثيق من حيث الرواية، ويضعفون أقرب قريب.
ومن باب أولى أنهم كانوا يضعِّفون من كان يوافقهم في المنهج، فقد يضعفون رجالاً من أهل السنة, سواءً تضعيفًا مطلقًا, أو تضعيفًا مقيدًا, كما قيل في نُعيم بن حماد وابن بطة وغيرهما، إلا أنهم من أئمة أهل السنة المشهورين.
فهذا المنهج -أيها الإخوة- نريد أن نعمل على تطبيقه على رجال الإسلام في هذا العصر, مع الإشارة إلى بعض الأخطاء التي تقع من كثير ممن يتحدثون عن هؤلاء الرجال إشارة مختصرة بقدر ما يسمح به الوقت.(55/5)
من رجالات هذا العصر
أيها الإخوة: رجالات الإسلام في هذا العصر هم في ميادين شتى, فأنت إذا نظرت -مثلاً- إلى ميدان الدعوة إلى الله, وجدت رجالًا عرفوا بالدعوة وأثروا في مجتمعاتهم أبلغ تأثير, ولعل من الأسماء البارزة والمشهورة أمثال الشيخ حسن البنا , أو أبي الأعلى المودودي , أو غيرهم من المصلحين, وإذا نظرت إلى مجال الأدب, وإذا نظرت إلى مجال الفكر, وجدت أمثال الأستاذ سيد قطب , ومحمد قطب , وغيرهم من الكتاب المشهورين.
وكذلك كتابات الشيخ أبي الأعلى المودودي , وأبي الحسن الندوي وغيرهم, وإذا نظرت إلى مجال العلم الشرعي والفقه والفتيا والحديث؛ وجدت -أيضاً- علماء أفذاذاً في هذه الجزيرة وفي غيرها.
ولعل من الأحياء الذين يشاد بذكرهم أمثال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في مجال الحديث وإحياء السنة, والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكذلك لا تُنكر جهود آخرين من غير هذه البلاد, كما نجد بحوثاً للدكتور مصطفى الزرقا والدكتور يوسف القرضاوي وغيرهم.
وإذا نظرت إلى مجال الجهاد وجدت شخصيات بارزة في الجهاد, ولعل الجهاد الأفغاني على الساحة هو أبرز ما يلفت الأنظار، فأنت تجد أمثال عبد رب الرسول سياف , أو برهان الدين رباني , أو حكمتيار , أو من تبنوا مسألة الجهاد كـ عبد الله عزام , وغيرهم.
وإذا نظرت أيضًا إلى مجال الخطابة والوعظ, لا يغيب عن بالك أمثال عبد الحميد كشك , وأحمد القطان , وإبراهيم عزت وغيرهم.
والأسماء كثيرة وليس المقصود في هذه الجلسة أن أسرد الأسماء، وإنما اخترت أسماء يكثر الكلام حول عدد منهم, حتى يكون الكلام الذي سأقوله أكثر واقعية وارتباطًا بالحياة التي نعيشها.(55/6)
تعامل شباب الصحوة مع الأسماء المشهورة
وأمام هذه الأسماء: نتأمل في نظرة شباب الصحوة الإسلامية إلى هذه الشخصيات, وكيف يقومونهم، وكيف ينظرون إليهم, فنجد أن هناك ثلاث ملاحظات يجب أن توضع في الاعتبار:(55/7)
تعميم المعرفة
الملاحظة الثالثة والأخيرة في هذا المجال: ولا أكتمكم بأن هذه الملاحظة وإن كانت هي الأخيرة إلا أنها في نظري مهمة, لأنها ملاحظة تتعلق بواقع الدعوة الإسلامية اليوم، وطريقة الشباب في اتباع الرجال, وإن شئت فقل في تقليدهم, وذلك أننا نجد -كما ذكرت في مقدمة حديثي- عددًا كبيرًا من الشخصيات الإسلامية موزعة في تخصصات شتى, فأنت تجد فلانًا في مجال الفقه, وآخر في مجال الحديث, وثالث في مجال الدعوة, ورابع في مجال الوعظ, وخامس في مجال الجهاد, وسادس في مجال الإصلاح الاجتماعي, وسابع في مجال الآداب والشعر, وهكذا.
فكثير من الشباب اليوم تضطرب في أيديهم الموازين، وحين يرون شخصًا قد أبدع ونبغ في مجال، يعتقدون أنه نبغ في كل مجال, فيتحول الخطيب في ذهنهم إلى فقيه ومحدث وإمام وداعية ومرجع في كل شيء, ويتحول الفقيه إلى إنسان يستشار في القضايا الاجتماعية والقضايا الدعوية وربما قضايا سياسية وأدبية وغيرها, وهذا ينافي وضع الشخص في موضعه المناسب, فأنت قد تجد إنسانًا لو سألته عن مسألة في الفقه لوجدته بحرًا لا ينضب, فهو يذكر لك الأقوال والأدلة ويحكم على الأحاديث, ويرجح فتصدر عنه وقد قنعت ورويت, لكن لو سألته عن قضية أخرى بعيدة عن تخصصه لوجدته أشبه بالعامي فيها.
وقد تجد شخصًا آخر يتقن فن الخطابة, فهو يجيد الوقوف أمام الناس والتحدث إليهم بطلاقة وإثارة عواطفهم, ويتكلم بحماس وعاطفة وصدق -إن شاء الله- ويؤثر, وهذا شيء طيب، والمسلم يجب أن يستفيد من هذا وهذا, لكن هذا الخطيب لا يعني أنه تحول بقدرة قادر إلى فقيه ومحدث وإمام ومفتٍ وكل شيء, بل ضع الشخص المناسب في المكان المناسب, فهذا خطيب لا بأس أن تستفيد به في أسلوب الخطابة, وطريقة الخطابة, وبعض الموضوعات التي يناسب الحديث عنها, وما أشبه ذلك.
ثم إذا عرضت لك مسألة فقهية تستفيد ممن هو أهل لها من العلماء والفقهاء والمفتين، وإذا أشكل عليك حديث تستفيد ممن هم أهل تخصص في هذا المجال, فإذا كانت القضية دعوية: استفدت ممن له خبرة في مجال الدعوة, وهكذا يمكن أن تستفيد أيها الشاب ويستفيد المسلمون جميعًا من هذه الشخصيات الإسلامية في كل مجال, دون أن نرفع الشخص عن قدره.
ومما يدلك على أن كثيرًا من الشباب تغيب عنهم هذه القضية؛ أننا نجد في واقعنا أن المتحدث -المحاضر- حين ينتهي من محاضرته، وأنا حين أنتهي الآن من هذه المحاضرة لو كتب لكم أن تستعرضوا هذه الأسئلة التي يستعرضها الأخ الآن, لوجدتم أن هناك من يسأل عن موضوع طبي, وهناك آخر يسأل عن موضوع اقتصادي يتعلق بقضايا البنوك، وهناك ثالث يسأل عن مشكلة اجتماعية, ورابع يسأل عن قضية تاريخية, وخامس يسأل عن مسألة أدبية, وهكذا، فلماذا تغيب قضية التخصص في أذهاننا فنعتبر أن من تحدث في موضوع يمكنه أن يتحدث في كل موضوع؟ وهذا الخطأ -أيها الإخوة- يزداد الأمر فيه، حتى أنك تجد أحيانًا أننا قد نسند هذه القضايا إلى أشخاص ليس لهم علاقة بهذا المجال بالكلية؛ سوى أنهم اشتهروا في مجال معين, وقد أضرب مثالاً لذلك.
فقد يبرز شخص -مثلاً- في جودته في قراءة القرآن, وهو ذو صوت عذب في القراءة, وهذه لا شك ميزة يمتن الله بها على من يشاء من عباده, لكن كون هذا الشخص مجيدًا لقراءة القرآن مثلًا لا يعني أنه فقيه أو داعية, فتجد أن كثيرًا من الشباب لا ينظر إلى الشخص إلا نظرة كلية، إما أن يعطوه (100%) أو يعطوه صفراً, فإذا برز في مجال اعتبروه بارزاً في كل مجال, وهذا الخطأ ينعكس -أيها الشباب- في كثير من الأحيان بالصورة التالية: فنحن ننظر إلى هذا الشخص الذي برز على أنه كل شيء -وخذوا في أذهانكم أي شخصية من الشخصيات المعروفة في المجتمع- وهذا الشخص أصبحنا ننظر إليه على أنه بارز في كل شيء وفي كل مجال, ويمكن أن يتحدث في كل موضوع, ثم بعد فترة وخاصة حين نكبر وتكبر عقولنا ونطلع, نكتشف أن هذا الشخص قد أخطأ في مسألة, أو أن هذا الشخص عنده نوع من الضعف في تخصص من التخصصات, فتجد أننا كما أننا بالأمس أخطأنا فرفعنا هذا الشخص فوق منزلته, تجدنا اليوم نخطئ مرة أخرى فنحط من قدر هذا الشخص وننسى فضائله لأننا اكتشفنا أن عنده خطأ.
وأعرف بعض الشباب يقدرون أحد الشيوخ، وهو أهل للتقدير والفضل في علمه وورعه وتقواه ومنزلته وجهاده في سبيل الله -أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدًا- فينظرون إلى هذا الشيخ على أنه قدوة ومثل أعلى في كل مجال, ثم بعد فترة يكتشف بعض هؤلاء الشباب من قربهم من هذا الشيخ واحتكاكهم به أن هذا الشيخ عنده نقص في مجال من المجالات، فقد لا يكون في ميدان مواجهة الواقع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدرجة المطلوبة؛ لأنه مشغول بقضايا علمية وفقهية, عن معرفة ما يجري في الواقع, فحين يكتشف هؤلاء الشباب هذه الثغرة الطبيعية, ينعكس الميزان في نفوسهم فيسقط هذا الشيخ من عيونهم, وهذا خطأ ولّده الخطأ الأول.
ولذلك ينبغي علينا جميعًا أن نضع الأشخاص في مواضعهم الطبيعية، كل في مجاله, فهذا بارز في الخطابة, وهذا بارز في الفتيا والفقه والعلم الشرعي, وهذا بارز في الحديث, وهذا بارز في الدعوة, وهكذا، حتى إذا وجدنا عند أحد منهم نقصاً في مجال غير مجاله, اعتبرنا أن هذا الأمر طبيعي؛ لأنه النقص الذي يعتري البشر.
وأريد أن أتحفظ على فهم قد يسبق إلى ذهن البعض وهو أننا نقول: إن الدين والعلم الشرعي مهيمن على جميع هذه الأشياء, وهذا لا شك فيه، فالعلم الشرعي مهيمن على كل الأمور, وهو الميزان, لكن هناك قضايا ليست في أمور الحلال والحرام والأحكام, وإنما هي قضايا تتعلق أحياناً بالواقع, وأحياناً بالأدب والشعر, وأحياناً بقضايا تاريخية, وأحياناً بأمور خطابية, وأحياناً بوسائل من وسائل الدعوة التي الأصل فيها الإباحة, فمثل هذه الأمور ينبغي أن نراعي فيها جانب التخصص.
هذه أبرز ثلاث نقاط، أحببت أن ألفت نظر إخوتي الشباب إليها, وهم ينظرون إلى من هم في موضع الأسوة والقدوة.(55/8)
تقديس الأشخاص
الملاحظة الثانية هي: ملاحظة على النقيض من الملاحظة الأولى, فإننا نجد في المقابل أن هناك من يعظم الأشخاص ويقدسهم ويستبسل في الدفاع عنهم, حتى إنه لا يكاد يعترف لهم بخطأ مهما كان, وصحيح أن الجميع متفقون نظريًا على أنهم ليسوا بمعصومين، فكل واحد يريد أن يدافع عن شخص دفاعًا مستميتًا غير موضوعي, يقدم لدفاعه بقوله: إنني أعترف أن هذا الرجل غير معصوم من الخطأ بل هو كغيره عرضة للخطأ, لكنه حين يبدأ في مناقشة ما نسب إلى مثل هذا الرجل من أخطاء يفند جميع هذه الأخطاء ولا يعترف بواحد منها, فيخرج في النهاية وقد برّأ هذا الرجل من جميع الأخطاء والعيوب وإن كان يعترف نظريًا بأنه غير معصوم, وهذا الأسلوب غالبًا ما يصدر عن عصبية، إما عصبية حزبية كما هي الحال بالنسبة للأفراد الذين قد ينتسبون إلى هذا الخط الذي يمثله هذا الداعية أو ذاك, أو عصبية مذهبية، أو عصبية مشيخية, بسبب التلقي عن هذا الشيخ, وهذه العصبية ترى في الاعتراف بخطأ الشيخ قدحًا فيه, وحطاً من قدره, وهذا أيضًا يوجد في بعض ما كتب عن الأشخاص الذين مثلت بهم سابقًا.
فأنت حين تقرأ عن بعض ما كتب عن حسن البنا رحمه الله وخاصة ما كتبه عنه سعيد حوى في عدد من كتبه, تجد المبالغة في ذلك, وتفنيد الأخطاء, وتأويل الكلام, وصرفه عما يدل عليه, بل ربما يتبنى الإنسان قولاً خاطئاً ويقول به حتى يوافق هذا الرجل عليه، لئلا ينسب إليه خطأ وقع فيه, وقل مثل ذلك في بعض ما كتب عن الأستاذ سيد قطب رحمه الله.
ونحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الرجال جميعًا, وتقدير ما قاموا به من جهود وبلاء في خدمة الإسلام, والدفاع عنه, وأنهم كانوا على ثغرات من ثغرات هذا الدين ينافحون عنه, على أن لا يؤتى الإسلام من قبلهم: وآثارهم تنبيك عن أخبارهم حتى كأنك بالعيان تراها لكن هذا الحب لا يمنع -أبدًا- من ذكر أخطاء وقعوا فيها.
ثم أرأيت لو أن إنسانًا اعترف بأن حسن البنا أو سيد قطب أو المودودي أو الألباني أو فلان أو غيرهم وقعوا في خطأ, أو خطأين, أو عشرة أخطاء, أو عشرين خطأ, كان ماذا؟ ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فمن نبل المرء وكماله أن تكون أخطاؤه معدودة, وبصفة خاصة حين تكون الأخطاء لا تتعلق بالجانب الاعتقادي.
والحقيقة أن الأخطاء الفقهية -أيها الإخوة- قابلة للنقاش؛ لأن الأمر فيها يدور على راجح ومرجوح, أو -على أشد الأمور- يدور على خطأ وصواب, وكذلك قضايا الاجتهاد في أمور الدعوة ومواجهة الواقع هي مسائل الأمر فيها يسير, لأن القضايا الاجتهادية للعقول فيها مدار كبير, ومراعاة المصلحة فيها مطلوبة, لكن الأخطاء العقائدية يجب العناية بإبرازها وإظهارها, والتنبيه عليها، وإن استدعى الأمر أن يذكر الشخص الذي صدر منه الخطأ فلا بأس بذلك.
فنقول -مثلاً- إن الإمام حسن البنا مثلاً في كتاب العقائد قال: كذا، وهذا يخالف ما عليه السلف، حيث قال بالتفويض في موضوع الأسماء والصفات مثلاً, أو أن الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن أوَّل عددًا من الأسماء وعدداً من الصفات, وهذا يرجع إلى الملاحظة الأولى: أننا لا نعتبر هذا مدخلاً للحط من قدر الشخص, فنقول: هذا رجل قال كفرًا وهذا جهمي, وهذا معطل, هذا كذا, لكن ننبه على الأخطاء مهما كانت، خاصة إذا كانت تتعلق بجانب العقيدة, ونبين المنهج الصحيح الذي يعتقده أهل السنة والجماعة -المنهج السلفي- في هذه القضايا, مع حفظ أقدار الرجال, فهذا لا بد منه.
وذلك لأن قضايا العقيدة ليست قضايا راجح ومرجوح, أو خطأ وصواب, بل هي قضايا حق وباطل, أو هدى وضلال, فهذه القضية تقابل القضية الأولى.
إذاً: علينا أن ننظر بميزان معتدل.
والكلام النظري -أيها الإخوة- فيه يسر لكن التطبيق العملي صعب, فأنت حين تقع على خطأ، وتجد أن هذا المصنف قد تحمس له وساق الأدلة وسردها, تشعر أنك أمام خطأ وانحراف، فتجد أنك عندما تبين الخطأ قد تجحف وتظلم هذا الرجل.
وعلى العكس من ذلك حين يشرب قلبك هوى رجل من الرجال وتحبه وتحسن الظن به, فإنك لا تجد في قلبك مكانًا لتقبل أي خطأ ينسب إليه, فتعويد الإنسان نفسه وتدريبها على الاعتدال والإنصاف عمليًا هو من الأمور العزيزة التي يجب على الداعية وطالب العلم والشاب المسلم أن يربي ويوطن نفسه عليها.(55/9)
انتقاص الأشخاص
الملاحظة الأولى: هي ضرورة الاعتدال في تقويم هؤلاء الأشخاص, فإنه ليس أحد منهم ولا من غيرهم إلا وفيه نقص, وليس من العدل أن تُعنى ببيان المثالب وجوانب النقص والعيب الموجودة فيهم, وتغفل عن الفضائل والحسنات الموجودة فيهم؛ لأن العناية بمثالب هؤلاء القوم ونقائصهم هو منهج صادر عن انحراف في نفسية الذي ينتقدهم، فإذا رأيت إنساناً يكثر من نقد الناس ويركز على مثالبهم, فيجب أن تعرف أن هذا الأسلوب يرجع إلى نوع من الكبر الموجود في نفسه؛ لأن الشخص المتكبر غالباً يريد أن يضع من أقدار الأشخاص المشهورين, حتى يتفرد هو بالشهرة والكمال, فتكون لديه شهوة الحط من أقدار الرجال، فلان فيه كذا, وفلان كذا, أو فلان قال في الكتاب الفلاني كذا, أو فلان له موقف كذا, ويا ليته يذكر الحسنات، لا, إنما يُعنى بذكر المثالب والأخطاء، هذا لو فرض جدلاً أنها مثالب وأخطاء, ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا, فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس} بطر الحق، يعني: رده، وغمط الناس، يعني: بخسهم أشياءهم.
فالإنسان المتكبر يبخس الناس حقوقهم وأشياءهم, وينظر بعين واحدة لا ترى إلا الأخطاء, بل إنه يرى الحسنات نفسها أخطاءً، وحينئذٍ يصدق عليه قول الشاعر: إذا محاسني اللاتي أُدل بها كانت عيوبًا فقل لي كيف أعتذر وعلى سبيل المثال: لو نظرنا إلى شخصية الشيخ الألباني في هذا العصر, لوجدنا أن للشيخ جهودًا كبيرة في خدمة السنة النبوية, وتقريبها بين أيدي الناس, وتنقيتها من الشوائب: من الأحاديث الموضوعة والضعيفة, وغيرها.
وكتبه لا تخلو منها مكتبة, فللرجل جهود تذكر فتشكر, فضلاً عن جهوده في نشر السنة العملية بين الناس, وتربية الشباب عليها, وهذا عمل لا شك أنه عمل مشكور, وكثير من الناس يتجاهلون هذه الجوانب الإيجابية في شخصية الشيخ, وينظرون نظرة ناقصة إلى بعض الأخطاء التي لا يخلو منها بشر.
مثلاً: ينظرون إلى جانب الحدة في الشيخ؛ وكون الشيخ حادًا حين يقوم الأشخاص والأعمال والكتب, فهو في مقدمة كثير من كتبه قد يتناول بعض ما صدر من كتب أو تحقيقات, ويعلق عليها تعليقات قد تكون شديدة اللهجة أحيانًا, صحيح أن الأولى في هذه التعليقات والتعقيبات أن يكون بأسلوب أكثر هدوءًا, وأكثر لطافة، لكن لماذا يبرز هذا العيب، ويغطي على حسنات الرجل وفضائله؟ بل إنك تجد من الناس من يحول بعض فضائل الرجل إلى عيوب, كمن يطعن في الرجل -مثلاً- بعنايته بدراسة الأسانيد والأحاديث وتصحيحها وتضعيفها, والكلام في الرجال، ويعتبر أن هذا من إضاعة الوقت والعمر بلا طائل.
وخذ نموذجًا آخر: الشيخ حسن البنا رحمه الله، رجل داعية أثر في المجتمع المصري تأثيرًا كبيرًا, وقُتل -كما نحسبه إن شاء الله- في سبيل الله تعالى، وترك آثارًا طيبة بكل حال, سواء آثاراً عملية أو ما كتب في عدد من الموضوعات.
فهذا الرجل تجد أن كثيرًا من الناس ينظرون إليه نظرة معينة فيها كثير من التنقص، والإشارة إلى ضعف علم هذا الرجل مثلاً, وأنه لا يتقن فن الحديث, لماذا؟ لأنه نقل تخريجاً لأحد الأحاديث من العراقي أو من غيره, أو ذكر حديثًا في المسند أو في غيره ولم يتعقبه ولم يتكلم فيه, بل وقد ينتقد لأنه اجتهد في عدد من المسائل الدعوية والواقعية؛ اجتهادًا قابلاً للنقاش والأخذ والرد, وقد تجد من ينتقد الرجل لأنه تكلم في عدد من مسائل الاعتقاد كلامًا يخالف ما عليه منهج السلف الصالح.
والذي يجب أن يعلم هو أن الحق أغلى في نفوسنا جميعًا من الرجال, فنحن لا يجوز أن نجامل أحدًا من أجل أنه فلان, أو فلان، على حساب الحق, وحين يخطئ فلان أو فلان لا يُجامل، والمقصود -الآن- الإشارة إلى أن هذا الخطأ يجب أن يوضع في إطاره الصحيح, فلا يسقط الرجل، بالكلية بل يقال أخطأ في كذا، ويبقى للرجل منزلته وكرامته وبلاؤه في الإسلام.
ومن الأمثلة أيضاً: ما يكتب ويقال عن الشيخ أبي الأعلى المودودي من أن فيه نظرًا لكلامه في عدد من المسائل الإعتقادية والدعوية والفقهية، كلاماً فيه شيء من الخطأ, وفيه أشياء هي من الأمور الاجتهادية القابلة للنقاش, لكن تجد في بعض الكتابات التي صدرت عنه نوعًا من الإجحاف في حقه.
فهذه النظرة التي لا ترى إلا جانب الخطأ يجب أن يتقيها الشباب المسلم, ويدرك أننا لو عممنا هذا المنهج لما بقي لنا أحد, فإننا لو نظرنا حتى في رجالات الإسلام السابقين المرموقين لوجدنا أنهم تعقبوا في أشياء عديدة.
فمثلاً لو نظرت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لوجدت له كثيرًا من الاجتهادات الفقهية والأصولية والعملية, خالفه فيها غيره، وقد يكون الحق معه وقد يكون الحق معهم في مسائل معينة, وفي مسائل يُجزم بأن الحق مع غيره ولو كانت يسيرة أو قليلة, فهذا لا يغض من قدر الرجل وقيمته عند أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة.
ولو نظرت إلى الإمام الذهبي وقرأت في كتبه لوجدت أن له مواقفاً منتقدة هنا وهناك, ولو نظرت إلى الإمام النووي , وابن حجر وغيرهم, لوجدت أنه لا أحد يسلم من خطأ ولو يسير, وهذه حكمة لله عز وجل, أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه, وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله, وكون الشخص يعد له خطأ أو خطآن لا يعني سقوط شخصيته أو انتهاء دوره, فهذه ملاحظة.(55/10)
الأسئلة(55/11)
الجمع بين طلب العلم والدعوة
السؤال
يقول السائل: كثير من الشباب يقول: إن طريق الدعوة يبعدني عن طريق طلب العلم, فكيف ترد على هؤلاء، وما هي الطريقة في التوفيق بين طلب العلم والدعوة إلى الله جل وعلا؟
الجواب
كثير من الشباب يوجد عندهم نوع من عدم التوازن, وقد كنت قبل قليل مثلت بمثال يتعلق بتقويم الأشخاص؛ وهو أنك تجد شابًا يرفع شخصًا فوق منزلته, فإذا اكتشف عنده خطأ حطه دون منزلته, والخطأ نفسه يتكرر في ميادين أخرى، ففي مجال التوفيق -مثلاً- بين طلب العلم الشرعي والدعوة, تجد شابًا منهمكًا في موضوع الدعوة إلى الله والذهاب والإياب ومتحمسًا لهذا الموضوع على حساب الجوانب الأخرى، ولو نظرت إلى عبادته لوجدت أنه آخر من يأتي إلى المسجد -مثلاً- لصلاة الجماعة، وغالبًا ما يقضي الصلوات، ولو نظرت إلى جوانب علمه الشرعي تجده لا يعرف شيئًا من العلوم الشرعية, ربما حتى ما يعرفه أقرانه وأمثاله قد لا يعرفه, فهو لا يكاد يقرأ, لماذا؟ لأنه ليس لديه وقت، فهذه الصورة ينتبه إليها الشاب وبعد فترة يريد أن يستدرك الخطأ فيقع في خطأ آخر، وهو أن يرمي بقضية الدعوة إلى الله جانباً ويتجه بكليته إلى العلم الشرعي, ولا تستبعد أنه ينتبه بعد فترة أنه انشغل بالعلم الشرعي والأقوال والردود وقال فلان ورد عليه وكذا وكذا, وأنه نسي جانب العبادة التي فيها ترقيق للقلوب, وتليين لها, وتقريب إلى الله عز وجل, فربما ألقى بجانب العلم الشرعي واتجه إلى التعبد.
وهكذا يظل الشاب طيلة عمره في ردود فعل لأخطاء سابقة, والذي ينبغي للشاب -أولاً- أن يضبط نفسه على وضع معتدل, فيعطي كل ذي حق حقه, أعط الدعوة إلى الله حقها, وأعط أهلك في البيت حقهم, وأعط طلب العلم حقه, وأعط نفسك حقها, وأعط كل ذي حق حقه, فهذا أولاً وهذا نوع من الوقاية.
لكن حين يكتشف الشاب خطأً وقع منه فالعلاج ليس أن ينتقل إلى الطرف الآخر، فبدلاً من أن تكون مهملاً للعلم تتحول إلى أن تكون مهملاً للدعوة, لا, بل حاول أن تستدرك العلم بصورة تدريجية وهادئة, وينبغي أن تعلم أن العلم الشرعي لا يحصل بين يوم وليلة, وكلما قرأ الإنسان في العلم أدرك أن الأمر يتطلب جهداً ووقتاً, فعامل الوقت مهم في هذا الجانب، فإذا انتبهت لنوع من التقصير تتداركه بصورة معتدلة، ولا تفرِّط في الجانب الآخر.
والحمد لله رب العالمين.(55/12)
اتباع جرح العلماء في بعضهم
السؤال
هل يجوز جرح أحد من العلماء لسبب أننا سمعنا عالماً آخر من العلماء يجرحه؟
الجواب
الشاب أو طالب العلم المبتدئ أسوء ما يعمله أن ينصب من نفسه حكمًا بين هؤلاء الأئمة والعلماء, لكن هذا لا يمنع أن يقلد أحدهم, إذا كان ليس أهلاً لأن يجتهد في المسألة, ويرجح بفهمه وعلمه, فلا مانع أنه يقلد أحد هذين العالمين, أما أن ينحي على العالم الآخر, أو يجرح فيه لأنه سمع عالماً آخر يقول فيه قولًا فهذا لا يجوز؛ لأنه لا يحق له أن يجعل من نفسه حكمًا بين هؤلاء, وكما قال ابن دقيق العيد وغيره: إن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، فعلى الإنسان أن يقي نفسه الوقوع في هذه الحفرة, وخاصة أعراض العلماء، كما قال فيهم ابن عساكر: إن لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة, ولا يجوز أن ننزع ثقة المجتمع بالعلماء, فلو افترضنا أن في المجتمع عالمين انتقد أحدهما الآخر في مسألة, فرد عليه الآخر فتحول طلاب العلم إلى أحزاب، منهم من يؤيد هذا العالم, ومنهم من يؤيد ذاك, وأصبحوا حريصين على أن يسمعوا المجتمع صوتهم، وكل فئة حريصة على أن تسمع المجتمع صوتها, فالنتيجة التي حصلنا عليها هي أننا أفقدنا الناس الثقة بالعلماء، وهذا ليس لصالح أهل الإسلام, لأنه ما من عالم يذهب سواء بالموت أو بسقوط مكانته, إلا ويحل محله إما جاهل, أو مبتدع, أو ضال يصد عن سبيل الله عز وجل.(55/13)
حول كتاب المورد الزلال
السؤال
ألَّف أحد طلبة العلم كتاباً في تقويم تفسير أحد العلماء الذين قدموا أنفسهم في سبيل الله، وعنونه بالمورد الزلال إلى آخر العنوان, فما رأي فضيلتكم في تقويم هذا المؤلف, هل حالفه الصواب أم جانبه؟ أرجو الإجابة على ذلك؛ لأن وجهات نظر كثير من طلبة العلم, اختلفوا حوله, بين مؤيد ومعارض, نرجو الإجابة الشافية؟
الجواب
من الملحوظات أن كثيرًا من الناس يشغلون أنفسهم بمثل هذه القضايا عما هو أهم منها, فقد تجد إنسانًا لا يعرف من القضايا الشرعية -معرفة جيدة- إلا القضايا التي يجري حولها الخلاف, لأنه يهتم بذلك ويحب أن يعرف ماذا قال فلان, وماذا قال فلان, وكيف رد عليه, وكيف أجاب، إلى آخره.
ولذلك فإنني أقول: إن على الإنسان أن يأخذ مثل هذه القضايا بشيء من السعة ويتقبل ما فيها من صواب, ويرد ما فيها من خطأ, دون أن يحدث من جراء ذلك قضية كبيرة تشغل الناس فترة من الوقت.
أما فيما يتعلق بالمؤلف الذي أشار إليه السائل، فإنني قد قرأته, وخلاصة ما يمكن أن أقوله في هذا الكتاب: أن ما فيه من ملاحظات ينقسم إلى أقسام, فهناك ملاحظات غير قليلة حالف الصواب فيها صاحب المورد الزلال رحمه الله, وخاصة القضايا الإعتقادية، فهو في غالبها قد أصاب.
النوع الثاني من الملاحظات: ملاحظات سببها عدم فهم المؤلف لمقصود صاحب الكتاب الأصلي, فرد على ما ظهر له من العبارة, والعبارة تدل على شيء آخر غير ما أراده تمامًا.
القسم الثالث من الملاحظات: هي عبارة عن ملاحظات ليست علمية, وإنما هي قضايا انطلق فيها من رؤية خاصة أو نظرة معينة, ورد على المؤلف فيها، وبعضها قد يكون من القضايا القابلة للاجتهاد, فبعضها مسائل فقهية مثلًا قابلة للأخذ والرد, لأن قضايا الفقه لا تستلزم الرد على مؤلف؛ لأنه -مثلاً- خالف المذهب، فهذه قضية أخرى, وإن كان سيداً رحمه الله ليس من الناس الذين تخصصوا في مجال الفقه, فهو غالباً ينقل من كتب، كما ينقل من ابن كثير أو من الجصاص أو من غيرهم.
وفي الكتاب قضايا كثيرة، مثل القضايا الفلكية التي تحدث عنها، كما قد أشار سيد رحمه الله إلى قضية دوران الأرض, أو بعض المعلومات الفلكية التي نقلها من مصادر متخصصة, وغير ذلك, فهذا تقويم عام، والأمثلة لا يتسع المجال لسردها, وإلا فلدي أمثلة على كل نوع مما ذكرت.
أما أسلوب الكتاب فلعله كان يحتاج إلى شيء من الليونة واللطف, أكثر مما هو عليه, خاصة وأننا نعلم أن سيداً رحمه الله -فيما نظن والله تعالى أعلم- أنه كان يبحث عن الحق ولو أخطأ, ثم إن الرجل له أتباع في أماكن كثيرة, حين يجدون الأسلوب فيه شيء من الشدة؛ ربما يدفعهم هذا إلى نوع من العصبية فيردون الحق، ونحن لا يهمنا أن نسقط قيمة الشخص, بل نحن يهمنا أن نبين للناس الخطأ لئلا يغتروا به, ولذلك وقع هذا في أكثر من مكان، وصار كثير من الناس الذين كان ينبغي أن يقرءوا الكتاب ويأخذوا ما فيه من الحق, صاروا ينبذون الكتاب ويحاربونه, لماذا؟ لأنهم يرون أن فيه بعض العبارات التي لا تناسب, والتي كان الأولى ألا توجد.
على كل حال نحن نعتقد في مؤلف الكتاب أنه ذو نية حسنة, وهو قد قدم إلى ما عمل، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر له ويتجاوز عنا وعنه, وأن يرفع درجاته في المهديين، وأن يعفو عن جميع علماء المسلمين ما قد يكون قد حدث منهم من خطأ أو تقصير, وهو مغمور في جانب فضائلهم وحسناتهم.(55/14)
الارتباط بالمربي
السؤال
هناك أشخاص في مجال الدعوة يرتبطون بمن هم أعلى منهم بالمستوى والسبق إلى الهداية، بحيث يربطون إيمانهم بهؤلاء الأشخاص, ويأخذون منهم عن طريق القدوة الجوانب الإيمانية والسلبية كذلك, فما رأيكم في هذا الأمر؟
الجواب
أما استفادة الإنسان ممن سبقه فهو أمر طبيعي, حتى في الأمور المشروعة أصلاً، وقد سبق أن تحدثت عن هذه النقطة في إحدى المناسبات, ولا أريد أن أعيد ما قلت، ولكن أذكِّر فقط بما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم من مضر مجتابي النمار، يظهر عليهم العري والفقر والجوع، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة وحث عليها, فتصدق الناس، منهم من تصدق بمد أو صاع أو ثوب أو صبرة أو غير ذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى هذا: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} فهذه إشارة إلى أن أصل الصدقة مشروع، لكن حين يبادر رجل فيتصدق فإنه يحرك أريحية الناس إلى الصدقة فيقتدون به في التصدق, ليس من أجل أنه تصدق، ولكنه هو نبههم إلى هذا الأمر.
وكان العلماء والسلف يأخذون العلم عن شيوخهم، بل كانوا يذمون من لم يأخذ عن شيخ, ولذلك قيل: لا يؤخذ العلم عن صُحفي ولا القرآن عن مُصحَفي، وقيل: من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، لكن هذا التتلمذ سواء كان في مجال علم شرعي, أو في مجال دعوة, ينبغي ألا يلغي شخصية الشاب بحيث يذوب في شخصية شيخه ويفنى فيها، ويصبح مجرد ظل يبرر كلام شيخه ويقرره ويدافع عن أخطائه كما سبق, بل يكون فيه نوع من الاقتداء في الأعمال الخيرة, ونوع من الاستشارة فيما يشكل عليه, ونوع من الأدب والاحترام, ونوع من شكوى إذا كان لديه هموم, لكن حين يجد عليه أخطاء أو ملاحظات عليه أن يتقيها هو في نفسه, فتكون رؤيته هذه الأشياء عند شيخه دافعًا له لأن يتقيها, ثم إن أمكن على أن ينبهه إلى هذه الأشياء بالأسلوب الملائم كان ذلك متعينًا عليه.(55/15)
الولاء والبراء
تعرض الشيخ لقضية الولاء والبراء، مبيناً لصور الولاء والبراء.
وذكر صوراً من ولاء وبراء الأنبياء مما ورد في القرآن الكريم، كما ذكر أنواع الموالاة المحرمة في الشريعة الإسلامية.(56/1)
الرابط الذي يجمع أهل الإيمان هو تقوى الله
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] .
أيها الإخوة الكرام: أيها الشباب المؤمن! لا يعرف تاريخ الدين الصحيح في هذه الدنيا إلا نوعاً واحداً فقط من الاجتماع, وهو الاجتماع على طاعة الله عز وجل, فمنذ أول نبي بعثه الله عز وجل إلى أهل هذه الأرض -وهو آدم عليه الصلاة والسلام, فقد كان نبياً مكلماً، مروراً بنوح عليه الصلاة والسلام، وانتهاءً بمحمد صلى الله عليهم جميعاً وسلم, كان الرابط الوحيد الذي يجمع أهل الإيمان هو الاجتماع على تقوى الله وطاعته.
وبهذا الرابط كانت تتحطم كل الروابط الأخرى, فرابطة الأرض والرقعة الجغرافية تذوب وتنتهي، فيجتمع الرجل من المشرق مع الرجل من المغرب على أمر هذا الدين, وأيضاً رابطة العرق والنسب تضمحل وتذوب، فيجتمع العربي مع الفارسي والرومي والحبشي في نسيج واحد متلاحم، وهم يرفعون راية واحدة, وتضمحل وتذوب جميع الفوارق: فوارق الجنس، واللون، والطبقة، وكل الفوارق التي عرفتها البشرية.
وفي مقابل ذلك تنتهي كل الأشياء التي تعارف الناس عليها إذا انتفت رابطة الدين, فمثلاً قد يحارب الأخ أخاه، وقد يحارب الأب ابنه, وقد يحارب القريب قريبه, وقد يتخلى الزوج عن زوجه، إذا انحلت هذه العقدة، وهذه الرابطة -رابطة الإيمان-.(56/2)
الولاء عند العرب
والعربي بطبيعته عنده ولاء للنسب وللقبيلة, ولعلكم جميعاً تحفظون أبيات الشاعر المعروف الذي يقول: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغدِ فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم وأنني غير مهتدِ وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ فهل عرفتم من هو هذا الشاعر؟! إنه دريد بن الصمة.
فكانت هذه هي فلسفة العربي أياً كانت, حيث كان يذوب في القبيلة وينصهر فيها, يدافع عن مصالحها، ويتبنى قضاياها حقاً كانت أم باطلاً!! لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً فهذا الشاعر يمدح قبيلة؛ بأنهم إذا سمعوا واحداً من قبيلتهم يستغيث بهم، ويطلب منهم النجدة، لا يسألونه برهاناً على ما يقول, بل يهبون لسلاحهم وينصرونه بحق أو بباطل! ومن أمثالهم في الجاهلية، كانوا يقولون: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً, وكانوا يطلقونه بالمعنى الجاهلي بمعنى: انصر أخاك على حق أو باطل.
فلما جاء الإسلام قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث أنس قال: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً, قال: يا رسول الله! هذا أنصره إذا كان مظلوماً، لكن إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: تحجزه وتمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره} .
فهذا العربي الذي كانت هذه فلسفته في الحياة، لما جاء الإسلام انصهروا كلهم في مجتمع المدينة المنورة حتى آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم, فجعل كل واحد من المهاجرين ينزل عند واحد من الأنصار, حتى إنه ما نزل رجل من المهاجرين على رجل من الأنصار إلا بقرعة, من شدة المشاحة فيما بينهم حيث كان عدد المهاجرين أقل فكل واحد من الأنصار يقول: هذا يكون عندي!(56/3)
من صور الولاء الحقيقي في الإسلام
ولعل من أرقى وأعظم صور الولاء الحقيقي للإسلام وأهل الإسلام: القصة التي رواها البخاري، قصة سعد بن الربيع رضي الله عنه, وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، فقال له سعد بن الربيع: [[خذ نصف مالي لك، وكان عنده زوجتين فقال: اختر إحدى زوجتي -أجملهما- وانظر إليها، فإذا أعجبتك أطلقها، فإذا اعتددت فتزوجها -إلى هذا الحد-! فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلوني على سوق المدينة]] .
فكانوا رجالاً عمليين، وأصحاب قدرة في مجال التجارة, فدلُّوه على السوق, فبعد أيام تزوج رضي الله عنه من حر ماله.
فكان ذلك المجتمع نموذجاً للولاء الحقيقي لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وما لي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مذهب الحق مذهبُ بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عاراً عليّ وتحسبُ وفي مقابل ذلك تجد الصورة الأخرى أيضاً موجودة في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فمثلاً لا أريد أن أستشهد بالقصة المشهورة: قصة أبي عبيدة عامر بن الجراح أنه قتل والده في معركة بدر, لأن هذه القصة ليست صحيحة, كما ذكر ذلك النووي وغيره من أهل العلم، أنه ليس لها إسناد يثبت, لكن لسنا بحاجة إلى قصة ليست صحيحة, فعندنا العشرات من القصص والأخبار المؤكدة التي كان المسلم يتبرأ فيها من أقرب الناس إليه, فزوجته -مثلاً- إذا أصرت على الكفر طلقها, وكان يغادر بلده ويترك أمه وأباه, مثلما فعل سعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير وp=1000033>عمر بن الخطاب، وأبو بكر وغيرهم، وما هم إلا مجرد نماذج تؤكد المعنى العام.
كم أبٍ حارب في الله ابنه وأخ حارب في الله أخاه!! قال بعضهم لأبيه: بعدما أسلم يا أبتي! والله إني كنت أراك في المعركة فأصد عنك، لا أريد أن أواجهك بشيء تكرهه, قال أبوه: أما أنا فوالله لو رأيتك لعلوتك بالسيف! ولا يمكن أن أعرض عنك أو أن أصد عنك.
إذاً: الولاء والبراء جانبان متلازمان, أو كما يقال: وجهان لعملة واحدة, وهما ظاهران في قضية التوحيد, فشهادة التوحيد -شهادة أن لا إله إلا الله- كما يقول العلماء: نفي وإثبات, ففيها الشق الأول نفي، والشق الثاني إثبات, فهي نفي للألوهية عن كل أحد، وإثباتها لله عز وجل, فهي نفي عن كل أحد غير الله.
وكذلك العقيدة ولاء وبراء، براءة من كل أحد إلا الذين يوافقون الإنسان على نفس الطريق، ويقفون معه على ذات الأرض التي يقف عليها، ويلتزمون بالعقيدة والمنهج الذي يلتزم به.
فلا بد من الأمرين معاً، ولا يتصور في الإسلام شخص يحمل مشاعر إسلامية، ويؤدي النسك والعبادات، ثم بعد ذلك يكون ولاؤه لغير المؤمنين! فهذا لا يتصور بحال من الأحوال، ولذلك يقول الله عز وجل كما في الحديث القدسي الذي رواه البخاري {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي أعلنته بأني محارب له.(56/4)
الولاء والبراء عند الأنبياء
وتاريخ النبوات وأتباع الأنبياء حافل بالأمرين, فلو تأملت في القرآن الكريم تجد قصة نوح وابنه، قال تعالى: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45-46] وفي قراءة (إنه عَمِل غيرَ صالح) إذاً
الجواب
إن ولدك الذي خرج من صلبك قطعاً ولا شك ولا ريب -فليس المقصود نفي أبوته له- إنه ليس من أهلك، لماذا؟ إنه عمل غير صالح, لأن عمله عمل غير صالح, فلما زالت رابطة الدين وانحلت ذهبت معها كل الروابط والعلاقات الأخرى.
وكذلك نوح عليه السلام مع زوجته، قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] , بالرغم من أن نوحاً عليه السلام كان يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] بل نستطيع أن نفهم من هذا النص، من دعاء نوح عليه السلام, أن والد نوح وأمه كانا مسلمين, ولو لم يكونا كذلك لعاتبه الله على الدعاء لهما بالمغفرة، كما عاتب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما سوف يأتي.
وإبراهيم عليه السلام كانت فيه أسوة حسنة للذين آمنوا، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] فتبرءوا من قومهم، مع أنهم في وطن واحد ومن أصل واحد، والنسب واحد، والرقعة الجغرافية واحدة، وقد يكون نظام الحكم الذي يظلهم في ذلك الوقت واحداً، ومع ذلك كما قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] وقالوها بلهجة واضحة ليس فيها غموض ولا لف ولا دوران: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] .(56/5)
ليس في الإسلام وحدة وطنية
إذاً: مسألة المصلحة الوطنية، والوحدة الوطنية ليس لها وجود في الإسلام, والوحدة وحدة على الدين والعبادة فقط, ولهذا يقول إبراهيم ومن معه لقومهم: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] والغريب في قوم يقرءون هذا القرآن، وأنزلت عليهم هذه الآيات وهذه الحجج، ثم تجد أنهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فنسمع ولا أقول من عامة الناس، فقد جرت العادة -دائماً أو غالباً- أن العامة قد تضيع كثير من المفاهيم عندهم، وقد تلتبس كثير من الأمور، خاصة إذا قلّ العلم والعلماء، وشغلوا بأمور جانبيه عن القضايا الأصلية التي ينبغي أن يقرروها.
لكن من المؤسف كل الأسف إذا فسد الملح، كما كان يقول عبد الله بن المبارك: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد أي: الطعام يصلحه الملح، لكن إذا فسد الملح نفسه فماذا يصلح الملح؟!! لا شيء يصلحه.
فالمصيبة إذا كان بعض الدعاة -أحياناً- أو أقول بلهجة أصح: المنتسبين إلى الدعوة، قد يضيع عندهم هذا المفهوم، فتجد من بينهم من ينادي بما يسميه بالوحدة الوطنية، التي تجمع الشيوعي إلى جوار المسلم، إلى جوار القومي، إلى جوار النصراني، إلى جوار اليهودي، والراية التي تظللهم هي الوحدة الوطنية كما يقولون.
فيرددون: جمع ولمّ شمل الوطن الواحد.
ودعك الآن من الحكام الذين يرفعون هذه الراية؛ لأن الحاكم الذي يرفع هذه الراية هو أصلاً يريد أن تستتب الأمور له، وتجتمع الأمة عليه, ولا يهم بعد ذلك إذا كان يحكم، يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً أو غير ذلك! بل يهمه أن يدوم له السلطان، لكن الأمر المؤسف أن يقع الداعية في هذا الأمر, فنسمع من بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية، مناداة بالوحدة الوطنية، على أنهم يسمعون صباح مساء قول الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] .
إن من أطرف وأعجب ما قرأت: أن أحد الكتاب يتحدث عن الوحدة الوطنية، ويحاول أن يلتمس لها مبرراً أو مسوغاً في الإسلام, فبماذا استدل؟! استدل بقصة موسى وهارون: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93-94] وهذا موسى يخاطب هارون عليه السلام, قال هارون كما قال الله تعالى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] فيقول: هذا دليل على مراعاة الوحدة الوطنية! ولا أدري كيف غاب عنه وعن وعيه أن يستدل بمعنى فهمه فهماً غير صحيح في كلام هارون, وينسى أن يستدل بكلام واضح صحيح، لا يختلف على معناه من كلام موسى عليه السلام.
المهم أن هذا موقف إبراهيم عليه السلام من قومه, بل إن والد إبراهيم آزر كان الموقف معه واضحاً: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74] والله تعالى عاتب إبراهيم على دعائه لوالده, فإبراهيم دعا لأبيه قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] فعاتبه الله عز وجل على هذا الدعاء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يلقى إبراهيم أباه يوم القيامة، وعليه قترة وغبرة تغشى وجهه, فيقول له: يا أبتي ألم آمرك فعصيتني؟ يقول: يا ولدي! اليوم لا أعصيك, فيأتي إبراهيم ربه عز وجل يشفع لوالده, ويقول: يارب! إنك وعدتني ألاَّ تخزيني -بناءً على أن الله تعالى أجاب دعاءه يوم قال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:87-88]- وأي خزي أخزى من قذف أبي في النار, فيقول الله عز وجل له: يا إبراهيم! إني حرمت الجنة على الكافرين، ولكن انظر، فينظر إلى أعلى فينفخ الله عز وجل والده حيواناً قبيح الخلقة، سيء الشكل متلطخاً، فإذا نظر إليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد مسخ صورته قذره واستبشعه وطابت نفسه.
فيؤخذ بقوائمه فيلقى في نار جنهم} .(56/6)
قضية الدين والإيمان ليس فيها أوساط حلول
فقضية الإيمان لا يوجد فيها أوساط حلول وليس فيها مجاملات، وليس فيها التقاء في وسط الطريق، فليست المسألة مسألة سلعة بينك وبين شخص آخر, تسومها بمبلغ من المال، وهو يطلب مبلغاً آخر، ثم تتفقان على مبلغ وسط بينكما.
إن قضية الدين والإيمان ليس فيها أوساط حلول, إنما هي قضية واضحة لا تجوز المداهنة ولا المداراة أو المماراة فيها.
وحين تنتقل إلى سيد المرسلين وخاتمهم، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تجد العجب العجاب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، بغض النظر عن مواقفه الشخصية -وهي كثيرة- في براءته من أقاربه إذ كانوا غير مؤمنين, كما قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري قال: {إن آل بني فلان -يصف قوماً من أقربائه من قريش- ليسوا بأوليائي وإنما وليي الله وصالح المؤمنين} فيتبرأ عليه الصلاة والسلام من أقرب الناس إليه لأنهم غير مؤمنين, وفي مقابل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يدني ويقرب من كان مؤمناً، مهما كان نسبه أو بلده أو لونه, فكان في خاصة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلال، وصهيب، وعمار وأشباههم وأمثالهم من المؤمنين الصادقين.
ولكن الأمر الذي ينبغي التوقف عنده هو قضية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تمكَّن من أمر لم يذكر عن كثير من الأنبياء، وهو أن الله مكّنه من إقامة دولة قوية تحكم بالإسلام في المدينة المنورة, وقوام هذه الدولة كان من المهاجرين والأنصار, فالمهاجرون من قريش من مكة، والأنصار من المدينة.
وكانوا يخشون أن تثور العداوات والحروب فيما بينهم, والأنصار أنفسهم -في المدينة- كانوا منقسمين على أنفسهم قبل الإسلام, ودارت معارك ضارية لعل من أشهرها يوم بعاث، وهو يوم تاريخي مشهور بين الأوس والخزرج، وقد سالت فيه الدماء، وتطايرت فيه الرءوس، ولمعت فيه السيوف, وكانت ذكرياته مرة، حتى إن اليهود كانوا إذا أرادوا أن يثيروا الأحقاد بين المسلمين، أمروا أن ينشد ببعض أناشيد وأشعار يوم بعاث، فيثور الأنصار -الأوس والخزرج- إلى سلاحهم من شدة الغليان والغضب.(56/7)
التطبيقات العملية للولاء والبراء
التطبيقات العملية المعاصرة لهذا الموضوع الخطير كثيرة، والحديث النظري عن الموضوع أيضاً يطول, ولا أريد أن أسترسل في ذكر الأحاديث والقصص والآيات في موضوع الولاء والبراء، لأنها معروفة للجميع, ولا أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة هذه الأشياء التي أرجو أنها مستقرة في نفوس الجميع، فإن القرآن الكريم لم يعن بشيء بعد تقرير التوحيد عنايته بإثبات قضية الولاء بين المؤمنين, كما في سورة آل عمران، وسورة المائدة، وسورة التوبة، وسورة هود وغيرها من الآيات, وكذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] ووصف الله عز وجل من يخالف ذلك أنه من الضالين الظالمين المنحرفين عن سواء السبيل.
والتطبيقات العملية المعاصرة لهذا الموضوع كثيرة، ولعلي أشير إلى شيء منها.
فمن أهم القضايا التي يجب الوقوف عندها هي قضية الولاء السياسي والفكري للكفار الذي أصبح يخيم على واقع المسلمين، ويتمثل هذا الولاء في أمور كثيرة لعل من أبرزها:(56/8)
الولاء الفكري للأعداء
من صور الولاء أيضاً: الولاء الفكري للكافر, والولاء الفكري يأخذ صوراً شتى: الصورة الأولى: عدم وصف غير المسلمين بالكفار: لعل من مظاهر هذا الولاء الفكري أننا أصبحنا نسمع نغمة غريبة وخطيرة في نفس الوقت، تنادي: يا إخواننا! لا داعي لِمثل هذه العبارات القاسية!! كيف تصفون الغرب بالكافر! وتصفون الأمريكي بالكافر! أو الفرنسي بالكافر! أو اليهودي بالكافر! أو النصراني بالكافر! فتجدهم يقولون: هذا لا يصح! وهذا لفظ غير حضاري.
وهذا الكلام لا يقوله دهماء الناس, بل إنني -في الواقع- قرأت في كتب ومقالات لناس يسمون بمفكرين إسلاميين -إن صح التعبير-! وأذكر كاتباً كتب كتاباً كاملاً عن هذه القضية، ويدافع فيه عن اليهود والنصارى، بل كُتبٌ في الواقع, ومنها كتاب اسمه: تجديد المجتمع العربي وهو ليس صريحاً في هذا الكلام، لكن من قرأه يحس بهذه النغمة، وهناك ناس أكثر صراحة ممن ينتسبون إلى العلم، نادوا بهذا الأمر يوماً من الأيام.
وفوق هذا وذاك كتبت عدد من المجلات، أذكر منها مجلة العربي، فقد تبنت هذا الموضوع بشكل قوي، وكتب فيها عدد من الكُتَّاب، أذكر منهم فهمي هويدي وغيره, فتجدهم يتحدثون عن -ما يسمونه- المسلمين والآخرين, ويقولون: أديسون هوالذي اخترع أريت الكهرباء التي في بيتك، فكيف نقول أنه كافر؟! وأيضاً الميكرفون الذي نتكلم فيه -الآن- من صنعهم فكيف تحكم بأنهم كفار؟! وهذا غريب جداً! وكيف اضطربت المفاهيم إلى هذا الحد؟! فهذه القضية قضية دين، وهذه من القضايا التي يسميها أهل العلم: من المعلوم من الدين بالضرورة, وهي قضايا أجمعت الأمة عليها، وبدهيات ومُسَلَّمات، والشك فيها يعني الشك في الإيمان.
بمعنى أن كل إنسان يشك في كفر اليهود أو كفر النصارى أو في كفر المشركين؛ أنه يشك في قضايا بدهية مسلمة، ولا أتصور إنساناً مسلماً يقع منه هذا الأمر؛ لأن القضية واضحة ومحسومة في القرآن الكريم وليست هي مسألة للاجتهاد, فالمخالفة في قضايا جزئية وفي مسائل فرعية تُتحمل, لكن المخالفة في قضية جوهرية أصلية في صلب الدين لا يتصور هذا في أي حال من الأحوال!.
وقضية الإسلام والكفر قضية واضحة جداً، ولماذا أنت تدعو إلى الإسلام ما دام أنك ترى أن اليهودية حق والنصرانية حق، والمشركون على حق، إذاً اترك الأمة على ما هي عليه, ولا داعي لأن تقوم بدعوة إلى الإسلام! وكأن بعضهم يقول: إن الحق نسبي، وهذا هو مؤدى كلام صاحب كتاب: تجديد المجتمع العربي، وصاحبه هو زكي نجيب محمود , فمفهوم الكلام أن القضايا هذه نسبية، فالإسلام حق بالنسبة لك واليهودية حق بالنسبة لأصحابها، والنصرانية حق بالنسبة لأصحابها.
إذاً: إذا كان الإسلام -وهو حق- حَكَمَ على الديانات السابقة بأنها ديانات منسوخة، وأن هذا الدين بعث مهيمناً على الديانات السابقة وناسخاً لها, وأن الأنبياء لا يسعهم -لو وُجدوا- إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم, وأن الله تعالى لا يقبل من الناس إلا هذا الإسلام الذي بعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم, فإن إقرارك بأن الإسلام حق يعود على كلامك بالإبطال من الأصل, لأن الإسلام الذي تعترف به أنه حق وتؤمن به، يقول لك: إن تلك الديانات باطلة، فإما أن تقر بأن كلام المسلمين هنا حق, فترجع عن قولك, وإما أن تكفر بالإسلام والعياذ بالله، وبناءً على ذلك لك أن تقول ما شئت: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} .
فهذا نوع من الولاء الفكري للغرب الذي جعلنا أسرى له، حتى تخجل من إطلاق لفظ الكفر عليهم, فقد نسميه الغرب المستعمر، أو الغرب الصليبي، أما كلمة كافر فإنها أصبحت ثقيلة على نفوس الكثيرين, ويستحون من إطلاقها.
والله تعالى قد أطلقها في كتابه على طوائف من الناس, بل لو حسبت كم مرة ورد لفظ الكفر والكافرين والكفار لوجدت مئات المواضع, وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة كلها، فما معنى أن نستحي اليوم من استخدام هذا المصطلح الشرعي، الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وذكره الرسول عليه الصلاة والسلام؟! الصورة الثانية: تبني الأفكار الغربية في بلاد المسلمين: ومن الولاء الفكري للغرب أننا نجد من يتبنى الأفكار الغربية في بلاد المسلمين, ويتبنى نظريات الغرب أياً كانت في أي مجال, كالنظريات الاقتصادية، فإنك تجد الدراسات الاقتصادية في العالم الإسلامي كله بلا استثناء؛ دراسات مبنية على الدراسات الغربية, فلا يوجد -في حدود علمي- دراسات اقتصادية علمية صحيحة تدرس للناس في أي جامعة من الجامعات, وهناك أقسام تسمى بأقسام الاقتصاد الإسلامي، لكن حتى هذه الأقسام -أحياناً- تجد نفسها مضطرة إلى أن تدرس الاقتصاد الغربي؛ لأنه لا يوجد أحياناً المادة الكافية! ولكن المهم أن هناك من يتبنى هذا الاتجاه، ويتحمس في ربط اقتصاد المسلمين بالاقتصاد الغربي, بحيث أصبح مستقراً في أذهان المسلمين أنه لا يُتصور اقتصاد إلا بالربا, وإذا ألغيت البنوك الربوية فإنه لا يكون هناك اقتصاد! فالكثير من الناس لا يتصور وجود اقتصاد إلا قائماً على أساس البنوك الربوية, وهذا -مع الأسف- من ضغط الواقع على المسلمين وشدة تأثيره عليهم.(56/9)
تعريجٌ على مفاهيم العلمانية
وتجد الأحزاب العلمانية، التي تنادي بفصل الدين -لا أقول عن الدولة، أو السياسة فحسب, بل تنادي بفصل الدين- عن الحياة, فتجدهم يقولون: إن الدين ليس له علاقة بالفن, ولا علاقة له بالإعلام, ولا علاقة له بقضايا المرأة, ولا علاقة له بالاقتصاد, ولا علاقة له بالسياسة, الدين فقط علاقة بين العبد وربه! وهذا مفهوم كنسي نصراني معروف، وهو أن المسلم يصلي في المسجد -لا مانع- أو في الزاوية أو في المعبد أو في الكنيسة، وكل إنسان بحسبه, لكن يبقى الدين فيما سوى ذلك موضوعاً على الرف, ولا يستفتى في أي شأن من شئون الحياة! ومن الطريف أني أذكر تصريحاً لبعض رموز العلمانية في إحدى الدول الإسلامية، كان يقول: "إن الدين أشرف وأعظم وأنظف وأنقى من أن نقحمه في السياسة".
إذاً: هو حرص على بقاء الدين، لكيلا يصبح الدين ملوثاً بألاعيب السياسة وأحاديثها ومكرها, فأحب أن يكون الدين بعيداً حتى يبقى نظيفاً, فلا تصيبه الأوساخ السياسية الماكرة الخبيثة! فيقول: الدين أنقى وأنظف وأعظم وأطهر من أن نقحمه في السياسة فنلوثه بذلك, فيبقى الدين للجميع! ولعل الكثير سمع مقولة: (الدين لله والوطن للجميع) ومعنى ذلك أن القضية قضية وحدة على أساس الوطن.
والدين مُبْعدٌ، ولا علاقة له بهذه القضايا السياسية, أو القضايا الاجتماعية, وهذه أيضاً نظرة كنسية واضحة.
والأحزاب العلمانية، والحكومات العلمانية في العالم الإسلامي ظاهرة ولا تحتاج إلى بيان, وقلت في بعض المناسبات: إننا نحصي عدداً من البلاد الإسلامية سقطت في أيدي الكفار الصرحاء، مثلاً: أفغانستان سقطت في أيدي الشيوعيين, وكذلك الأندلس من قبل, وهناك فلسطين سقطت في أيدي اليهود, وهناك بعض الدول الإفريقية سقطت في يد النصارى, وقد تكون أربع أو خمس دول إسلامية سقط في أيدي الكفار الصرحاء المعلنين.
لكن هل نستطيع أن نحصي كم من دولة إسلامية سقطت في أيدي المنافقين، المستسمين بالعلمانيين؟! لا نحصي، ويكفي أن تعرف أن أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، تُحكم بما يسمى بالبانتيلا، الذي ينادي بوحدة الأديان، وأن المسلم لا يسمح له أصلاً في جمعية، أو مؤسسة أو جامعة أو غير ذلك إلا بشرط أن يقر بهذا النظام، الذي يعترف بوجود اليهود، ووجود النصارى, ووجود البوذيين، والباطنيين، وجميع الطوائف، وأن هؤلاء إخوة في وحدة وطنية منسجمة، لا يكدّر صفوها مكدّر, وهذا شرط لكل إنسان يعمل.
وتجد أن أجهزة الإعلام قد يعطون المسلمين -الذين يشكلون أحياناً مائة وأربعين أو مائة وثلاثين مليوناً، نصف ساعة في ليلة الجمعة, ويعطون النصارى نصف ساعة في ليلة الأحد, ويعطون الباطنيين نصف ساعة في يوم الثلاثاء وهكذا! ثم تكون العطلة في يوم الأحد، فهذه الجماهير المهدرة لماذا؟! إنه لا يمكن تفسير ذلك إلا بالولاء للمستعمر، الذي خرج بجنوده وأسلحته، وأبقى من يكون أكثر إخلاصاً له من أبناء البلاد الأصليين, وهذا يذكرني بقول أحد المستشرقين حيث كان يقول: إن شجرة الإسلام لا تجتث إلا بغصن من غصونها.
والنظريات الغربية التي غزت المسلمين اليوم، سواء في واقعهم العملي أو في جامعاتهم أو في عقولهم وأدمغتهم كثير، ولو ذهبنا نستطرد في الحديث عنها لاحتجنا إلى وقت طويل ولم نصنع شيئاً.(56/10)
وجود الأحزاب العلمانية
أيضاً من صور الولاء السياسي للكفار: أن تجد من بين المسلمين أنظمة أو أحزاباً أو تجمعات أو أفراداً يسعون في مصلحة العدو الكافر, ويسهرون على تحقيق مطامحه ومطامعه, ويكونون وكلاء بالنيابة عنهم في كل أمر من أمور الحياة، فهم أكثر إخلاصاً له من أبنائه وأبناء بلده, فهم يستميتون في الدفاع عن مصالحه، وتحقيق مآربه وأهدافه! لماذا؟! لأنهم قد ربطوا مصيرهم به، وأدركوا أنه لا بقاء ولا قيام لهم إلا حينما يكون راضياً عنهم ومقراً لما هم عليه، ولهذا أخلصوا بالولاء له على حساب الأمم الإسلامية, فأصبح كثير من هؤلاء يسعون في المجتمع المسلم بالفساد ويسومون المسلمين سوء العذاب, ويقومون بالكثير من الأعمال والتصرفات والخطط والإجراءات، ويرفعون كثيراً من الشعارات، التي لا تستفيد الأمة منها شيئاً قط إلا التمزق والتفكك والخلاف والضياع، وهم لم يقصدوا أصلاً أن يحققوا مصلحة للأمة، إنما قصدوا أن يثبتوا ويعربوا عن ولائهم الصريح القوي لهذا الكافر الذي ربطوا أنفسهم به.
ومع الأسف الشديد أن تنطلي هذه الأمور على كثير من المسلمين, وتلتبس عليهم الحقائق, فيصبح التمييز بين الحق والباطل في هذا الأمر ضعيفاً عند كثير من الناس, حتى من المصلين! ومن رواد المساجد ودعك من غيرهم، فتضطرب عندهم هذه الأمور وتلتبس حتى لا يميز أحدهم بين حق وباطل!(56/11)
تحكيم القوانين الوضعية
أولاً: قضية الحكم بالقوانين الغربية, وتحكيم غير شريعة الله عز وجل هو بحد ذاته ردة وكفر أصلاً, كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] , فهو بذاته كفر، لكن -أيضاً- كونه يؤخذ من الغرب أو الشرق، من أمريكا، أو فرنسا، أو بريطانيا، أو من غيرهم من أمم الكفر, ويستوردون منهم الأنظمة التي تسير شئون الحياة، وتهيمن على أمور المجتمع، في اقتصاده واجتماعه وسياسته وأخلاقياته وأدبه وفنه وإعلامه إلى غير ذلك, فإنه يضاف إلى كونه حكماً بغير ما أنزل الله أنه يكون ولاء لأعداء الله عز وجل، وهذا من أكثر صور الولاء وضوحاً وصراحة.
فكون الإنسان يعرض عن شريعة الله عز وجل الواضحة البينة، ويلتمس منهجاً في أنظمة الشرق والغرب، هذه ردةٌ -لا شك فيها- عن الإسلام.
بل أقول: ردة بإجماع العلماء، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في كتاب البداية والنهاية, حين تكلم عن الياسق الذي هو نظام جنكيز خان , قال: من حكم بغير ما أنزل الله من الشرائع المنسوخة المنزلة على الأنبياء والمرسلين فهو كافر فكيف من حكم بغير ذلك مما وضعه الناس؟! فهذا كافر بلا شك في كفره بإجماع المسلمين.
فهذه صورة صارخة من صور الولاء, ولا أعتقد أننا نحتاج أن نتلمس هذه القضية، فإن المسلمين -الآن- أصحبوا يحكمون في أكثر مجالات الحياة وجوانبها بغير شريعة الله عز وجل, بل بأنظمة ما أنزل الله بها من سلطان: بأنظمة الشرق والغرب، والأنظمة الديوثية، التي تبيح هتك الأعراض ونهب الأموال, وتلغي أحكام الله عز وجل وتستدرك على الله تعالى في عباده, وهذه لا شك أنها نوع تأليه لهؤلاء، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهِ} [الشورى:21] وقال تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] .
فالله عز وجل لم يشرك أحداً في حكمه, ولم يجعل لأحد أن يعبد من دونه, وفي قراءة ثابتة: {وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] فهو نهي للمسلم أن يشرك في الحكم أحداً مع الله عز وجل، أو أن يعبد في الحكم أحداً من دون الله تعالى.
ولا أجد داعياً لأن نسمي هذا توحيد الحاكمية, كما أطلقه عليه بعض المفسرين المعاصرين، كالأستاذ سيد قطب رحمه الله, وتبعه على ذلك جماعة كبيرة من الكتاب والمفكرين, حيث سموا هذا اللون من الألوهية توحيد الحاكمية.
والواقع أنه جزء من توحيد الألوهية، الذي يتضمن إفراد الله تعالى بالعبادة, لأن من أطاع غير الله في تحليل حرام أو تحريم حلال، أو وضع شريعة، فقد اتخذه إلهاً من دون الله عز وجل، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] .(56/12)
حكم مساكنة الكفار ومعايشتهم
ومن صور الولاء الموجود في بلاد المسلمين وفي واقعهم: قضية مساكنة الكفار ومعايشتهم.
وهذه قضية تعانونها في هذه البلاد، خاصة منكم المقيمين إقامة دائمة, والأصل أن المسلم يسعى لأن يقيم مجتمعاً مسلماً, لأنك إذا وجدت داخل مجتمع، فمن المعروف أنك تدعم هذا المجتمع بوجودك شئت أم أبيت, فالسلعة التي تشتريها من البقالة هي دعم لهذا المجتمع, والدولار الذي تدفعه هو دعم لهذا المجتمع, والغرفة التي تسكنها هي دعم لهذا المجتمع, والسيارة التي تستخدمها هي دعم لهذا المجتمع, والعمل الذي تقوم به هو دعم لهذا المجتمع، لماذا؟ لأن المجتمع عبارة عن مجموعة أفراد، فلو تَخَلَّوا عن المجتمع لذهب المجتمع.
إذاً: وجودك أصلاً في مجتمع ما، هو عبارة عن دعم وتقوية وتعزيز لوجود هذا المجتمع، سواء في الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو غيرها.(56/13)
عداوة الكفار للمسلمين ثابتة أم مؤقتة؟
وهناك سؤال، وأظن أنه يحسم الموضوع: هل عداوة الكفار للإسلام عداوة أصيلة مستحتمة ثابتة, أم هي عداوة قابلة لأن تزول وتنتهي؟!! فإذا كنا نقول: إن عدواتهم يمكن أن تنتهي فلا يوجد مانع من أن نناقش القضية هل الجهاد هجومي أم دفاعي؟!.
أما إذا أيقنا -وهذا طبيعي- ولا أعتقد أن أحداً يجادل في ذلك، وكيف نجادل في الحقائق؟ وكيف نغالط أنفسنا؟! وكيف نغمض أعيننا عن الواقع المشهود والتاريخ المعروف، والأمور تتكشف يوماً بعد يوم عن عداوة هؤلاء الكفار للإسلام وللمسلمين؟! إنَّ الكافر -جنس الكافر- حتى إذا لم يدن بدين فإن عداوته للإسلام قائمة, مع أنهم يتفاوتون، فالوثني في اليابان ليست عداوته كعداوة اليهودي أو النصراني وهذا صحيح! لكن يبقى أنهم كلهم أعداء, وقد يتحالفون -كما هو الواقع- ضد الخطر الإسلامي.
وأعود إلى القضية الأصلية؛ قضية البقاء بين أظهر المشركين فأرى أنه لا يجوز لمسلم أن يقيم بين المشركين إلا لضرورة, كمثل ذهاب شخص للعلاج، أو أمر لا بد منه, أو إذا كان إنساناً مهاجراً مطروداً من بلده ولم يجد بلداً يؤويه إلا هذه البلاد؛ لما فيها من بعض الحرية, أو حاجة مثل دراسة أو مصلحة معينة، كدراسة يحتاج إليها المسلمون ولا توجد في بلاد الإسلام, ومصلحة معينة للدعوة إلى الله عز وجل، كمعرفة أحوالهم وأخبارهم، واستكشاف أمورهم وخططهم, فالمهم أنه جاء لمصلحة معينة.
وأذكر أنني كنت في مجلس مع بعض الإخوة المقيمين, فبدءوا يتكلمون عن قضية أنهم مضطرون للبقاء! فقلت: المضطر للبقاء هذا أمر آخر, لكن نحن نتحدث عمن يبقى باختياره ومن دون مصلحة, فقام أحدهم وقد تحمس للموضوع فقال: يا إخواني! لماذا نغالط أنفسنا, قولوا لي -بالله عليكم- من منكم الذي خرج من السجن وهرب إلى هنا؟! وهل أحد منكم هارب من السجن إلى هذه البلاد؟! فضحكوا كلهم، فليس هناك أحد!! وأحياناً قد يوجد أفراد وقد يوجد أعداد، وقد يوجد أحياناً شعوب, مثل بعض الشعوب التي تعيش هجرة جماعية، وهذا لا نجادل فيه، وهو أمر واقع, لكن يبقى أن هناك حالات كثيرة، فقد يأتي الإنسان إلى هذه البلاد التي فيها فرص الاستثمار الاقتصادي، وكونه يأتي للتجارة ويعود فهذا أمر آخر, لكن أن يأتي ويقيم هنا لمجرد التجارة فإن هذا لا يصلح، أو يأتي ليقيم لأن البلاد تعجبه -طبيعة البلاد أو أي أمر من الأمور- فهذا لا يجوز, لكن حتى الذي يقيم لضرورة تجد آثاراً وبصمات واضحة من هذا المجتمع عليه, فكيف بالذي يقيم باختياره! فهو أصلاً مهزوم، لأنه لم يأت إلى هذه البلاد إلا عاشقاً لها, ومعجباً بأهلها, ومستميتاً مولعاً بحبها مغرماً بها!! ومن عادة الإنسان أن يحب وطنه، وهذه فطرة عند الإنسان.
والشعراء يتغنون بحب أوطانهم: وحبب أوطان الشباب إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا فحب الإنسان إلى بلده الذي هو فيه فطرة, خاصة إذا كان البلد فيه خير وبقايا وآثار من الإسلام.
فهذه القضية ينبغي أن توضع في الاعتبار، وفي إطارها الطبيعي, وقد قلت: لا يجوز إلا لحالات معينة، كمصلحة ظاهرة، أو حاجة لا بد منها، أو ضرورة لا بد منها, ففي مثل هذا الحال لا حرج إن شاء الله.(56/14)
المجتمع المسلم مجتمع متميز
لقد نادى الإسلام بإيجاد مجتمع متميز, وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة, وفي القرآن الكريم تجد أن الله عز وجل في أكثر من موضع ذكر ثلاثة أمور، مركب بعضها على بعض: الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد، وذلك في أكثر من موضع: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [الأنفال:72] فبعدما يوجد الإيمان يلزم أن يدعوك ويحدوك هذا الإيمان إلى أن تهاجر إلى حيث يقام مجتمع مسلم، وهذا المجتمع يحمل على عاتقه مسألة الجهاد: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] فهي أمور مركبة بعضها على بعض.
حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين -بريء من كل مسلم يدخل في الإسلام ثم يظل مع المشركين ولا يهاجر -قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: لا ترائى ناراهما} .
يعني: أبعد عن المجرم حتى أنك لا ترى ناره لو أوقدها, وهو لا يرى نارك لو أوقدتها من شدة بعدك عنه.
فهذه قضية مهمة جداً.
وكذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب، يقول صلى الله عليه وسلم: {من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله} .
وكلمة جامع تحتمل معنين: المعنى الأول: أنه اجتمع معه في مكان، وعايشه، وعاشره، وساكنه، فإنه مثله.
المعنى الثاني: هو الزواج, والمعنى المعروف للجماع هو الزواج من المشركة، وأنه لا يجوز، ويستثنى من ذلك الزواج بالكتابية، كما هو معروف، مع أنه أمر غير محمود العواقب, وله سلبيات خطيرة بعيدة المدى.
والمهم أن بقاء المسلم بين أظهر المشركين خطر كبير, وليس صحيحاً أنك تتمتع بالحرية في هذه البلاد, هناك حرية نسبية بلا شك ولا مجادلة في الحقائق، ولا نغالط أنفسنا, لكن ينبغي أن نفتح أعيننا أيضاً على قضية الدين, فكثير من الأحيان عندما تجلس إلى الإخوة الذين يدرسون في بلاد غير إسلامية مثلاً، تجد أنه يضطر إلى أمور معينة، كصعوبة مراعاة أوقات الصلوات، وأنه لا يستطيع أن يصليها في أوقاتها, وتجده يشتكي لك من قضايا التأمين وأنه مضطر إلى ذلك، وتجده يشتكي من قضايا الاختلاء بالنساء، ومن قضايا مصافحة النساء، ومن قضايا النظر إلى النساء، وألوف القضايا التي يشتكي منها.
وهذه القضايا هل تدل على أن هناك حريات؟ في الواقع لا, وهذه تدل على أن المسلم لا يستمتع بالحرية الحقيقية, لأن المسلم حريته الحقيقية هو المكان الذي يعبد الله فيه, ليست الحرية فقط أن تتكلم.
يا أخي! أصحاب الكهف ماذا قالوا؟! كما قال الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] والكهف أضيق مكان في الدنيا، ومع ذلك قالوا: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16] .
سبحان الله! ينشر معناه شيء واسع وكبير, وهو كهف ضيق لا يكاد يتسع إلا لهم، لكن يشعرون فيه برحمة الله عز وجل؛ لأنهم يتمكنون فيه من عبادة الله تعالى.
ومع ذلك فإن هذه الحرية التي تمنح للمسلمين نحن نعلم يقيناً أنها حرية ما دام الإسلام لم يتحول في هذه البلاد إلى خطر يهدد المصالح اليهودية والنصرانية, وإلا سيحرك الجميع كلهم ضد الإسلام, ولعلكم الآن بدأتم تحسون بشيء من المكر اليهودي في هذه البلاد ضد العرب المسلمين, وضد المسلمين بشكل عام.
وفي فرنسا أيضاً أصبح هناك أحزاب، ترتفع أسهمها يوماً بعد يوم, وهذه الأحزاب أهم ما تنادي به هو التخلص من الأجنبي, ومعروف من هو الأجنبي! ولقد رأيت صور زعيم هذا الحزب تملأ الشوارع، وأخبرني الشباب الصالحون هناك أن مؤيدي هذا الحزب يزدادون يوماً بعد يوم, وقضية الفتيات المغربيات معروفة ولا أحتاج إلى الوقوف عندها.
إذاً: هي حريات نسبية، وهي حريات مؤقتة, ويوم أن يصبح الإسلام قوة تُخاف، ويحسب لها حساب في البلاد غير الإسلامية, لن يترددوا أبداً في مقاومة أي وجود إسلامي حقيقي بكل ضراوة, وهذه قضية أود أن أقف عليها ولكن يؤسفني أن الوقت لا يتسع لها, مع أنه سبق لي أن تكلمت عنها تفصيلاً في محاضرة بعنوان: حي على الجهاد.
وهي أنَّ عِدَاء الكافر للمسلم عِدَاء ليس فيه حيلة، ولا تتصور أن هذا العِدَاء سوف ينتهي يوماً من الأيام, ولا تتصور أن هذا الكافر سوف يتخلى عن دينه، أو يتخلى عن عداوته لك, فإن عدواته لك مغروسة ولا بد.
ولهذا أتعجب أشد العجب من بعض الأطروحات الفقهية، التي يطرحها بعض فضلاء الصحوة الإسلامية والتي تتعلق بهذا الجانب، فتجده ينزل آيات وأحاديث في الحث على الجهاد.
إنّ هذا ضعف وهزيمة, وقد قرأت كتباً كثيرة، وقرأت أطروحات فقهية عديدة في هذا المجال! فتجد أنها تطرح قضية الجهاد بضعف, والواقع أننا يجب أن نأصل القضية.(56/15)
التشبه بالمشركين
من صور الولاء: التشبه بالمشركين.
والله عز وجل قد حذر فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} [الحديد:16] الكاف في (كالذين) للتشبيه: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فالتشبه بالمشركين أياً كانوا لا يجوز في أي أمر من الأمور, إلا اقتباس العلم، والتقدم الصناعي، وأخذ التقنية عنهم، والمعلومات المفيدة، فهذا لا يدخل في التشبه, وإذا دخل في التشبه فهو جائز بأدلة خاصة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ حفر الخندق عن فارس, وكما أنه صلى الله عليه وسلم استفاد من بعض الملاحظات الموجودة في مجتمع فارس والروم, كما قال صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {لقد هممت أن أنهى عن الغيل -وهو وطء المرأة وهي ترضع- ثم رأيت أن فارس والروم يصنعون ذلك فلا يضرهم} فاستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من تجربة موجودة عند فارس والروم.
فهذه قضية لا حرج فيها، ولا غبار عليها, بل بالعكس أن الحكمة ضالة المؤمن، يبحث عنها في أي مكان ويأخذها, ونحن أولى بهذا منهم، ومع هذا فهذه بضاعتنا ردت إلينا, وهذا تراثنا، وهذا تاريخ الأمة وحضارتها، الغرب وطورها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه, فنحن أحق بها وأهلها.
لكن التشبه بالغرب في كل شيء، كالهدي الظاهر، في اللباس, وفي الزي, وفي تسريحة الشعر, وفي طريقة الحديث, وفي طريقة الحياة, وفي طريقة إحياء المناسبات, وفي كل الأمور الخاصة بهم.
والتشبه ضابطه: هو تقليد الآخرين فيما هو من خصائصهم بمعنى أن هناك أموراً مشاعة في الشعوب، لا تخص شعباً ولا أمة دون أخرى، بل هي مشتركة عند الجميع، هذه لا يدخل فيها التشبه, لكن التشبه يطلق على الأمور التي هي خصائص شعب من الشعوب، بمعنى أنك إذا رأيت الأمر تقول: هذه العادة يفعلها الكفار أو اليهود أو النصارى! فيكون خاصية تميزهم عن غيرهم، فالتشبه بهم في هذه الخصائص التي تميزهم عن غيرهم لا يجوز، وهو نوع من الولاء لهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر، الذي رواه أبو داود وأحمد، وغيرهما، وسنده جيد: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} .
فالمسلم مستقل، وقد يكون العمل في الأصل مباحاً، لكن لما صار من خصائص المشركين أصبح حراماً؛ لأن الذي يقلده في هذا الأمر يعيش هزيمة داخلية وهزيمة قلبية وهزيمة فكرية, وبالتالي أصبح يقلد هؤلاء ويأخذ ما عندهم, والأصل أن المسلم قدوة، يأخذ عنه الآخرون، فكيف يرضى الأستاذ المعلم أن يصبح مقلداً تابعاً ذليلاً لغيره؟!(56/16)
الأسئلة(56/17)
حكم الاستعانة بالقوات الأجنبية وتأييد صدام
السؤال
الاستعانة بالقوات الأجنبية في الخليج, كذلك في الذين أيدوا صدام حسين , هل لكم التوضيح بين الفرق بين الولاء والاستعانة؟
الجواب
الفرق بين الولاء والاستعانة: أولاً: هناك من أهل العلم من لا يرى جواز الاستعانة مطلقاً, احتجاجاًَ بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، للذي قال له: {آتي وأقاتل معك, قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا, قال: ارجع فلن أستعين بمشرك} , لكن هذا رأيٌ لبعض العلماء، وليس إجماعاً.
والاستعانة تتلخص في استخدام الكافر في مجال محدود، وغرض محدود, وبصورة تضمن ألا يكون لهذا الكافر تأثير في القرار.
مثلاً: كون الكفار -كما ذكر بعض الفقهاء- يكونون خدماً في الجيش، أو مساعدين، أو حتى في سلاح معين, مثل بعض الأسلحة التي ليست من الأهمية بمكان, فيكون لهم وجود فيها فقط, أي: وجود ثانوي، ووجود مساند أو مساعد، وليس وجوداً أصلياً جوهرياً أساسياً وقد تكون الاستعانة في غير الحرب فتكون الاستعانة في أي أمر من الأمور, فتستخدمهم -مثلاً- في تصنيع أمر من الأمور, وفي إصلاح قضية أو بناء أو عمارة وفي أي أمر من الأمور الدنيوية العادية المحدودة المؤقتة، فأنت تستخدمه فيها ثم تنتهي مهمته عند هذا الحد.
فهذه الاستعانة لا شيء فيها, لكن الاستعانة في مجال الحرب، قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: {ارجع فلن أستعين بمشرك} ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى تحريم ذلك مطلقاً.
والذين أباحوه أجازوه بشروط, وهي شروط قوية جداً: منها: ألا تكون القيادة بأيديهم, وألا يكون القرار لهم, وهذا ظاهر.
ومنها أيضاً: أن يكونوا مأمونين، ولا يخاف من خيانتهم أو غدرهم، وهذا قد يوجد بالنسبة لبعض الكفار مثل عبد الله بن أريقط الذي استأجره النبي صلى الله عليه وسلم ليدله على الطريق من مكة إلى المدينة, فقد استأجره عليه الصلاة والسلام, لأنه أن عبد الله بن أريقط لا يمكن أن يخبر المشركين بهذا الخبر, لأنه رجل أمين، فهو تحكمه أخلاقيات معينة، وقد يكون بينه وبين أبي بكر أو غيره علاقة ومودة في الجاهلية، ولذلك اطمأن إلى أنه سيحفظ له هذا السر فكونك تستأجر مشركين، سواء جواسيس أو مخبرين أو إلخ لا بأس في ذلك, إذا كنت واثقاً منهم, حتى لو لم تثق منهم وتوفرت بقية الشروط، وكان دوره ضعيفاً حتى إذا اكتشفت خيانته لا تهتم به، لا يؤثر شيئاً, أو لا تعتمد عليه أصلاً، فتستخدمه وتستفيد منه ولا تعتمد عليه.
ومن الشروط التي ذكروها: أن يسعى المسلم للاستغناء عنهم بما يستطيع بمعنى أنه إذا وجدت ضرورة للاستعانة فافعل، لكن بشرط أنك تسعى جاهداً إلى أن تزيل هذه الحاجة والاستغناء عن هذا الكافر, وأوصل بعض العلماء وبعض الأصوليين الذين كتبوا في هذا الموضوع شروط الاستعانة بالكافر إلى سبعة شروط -وهؤلاء هم الذين أباحوها- تضمن أن تكون الاستعانة لصالح الإسلام والمسلمين.
أما قضية حاكم العراق فلا شك أن من ضعف الولاء أن يصفق له بعض المنكوبين والمحسوبين على الدعوة الإسلامية, وهذه في الواقع غيبوبة، وغفلة عن الواقع وعن التاريخ, إذ كيف يُنسى تاريخ معين، ونتصور أن الأمور تنتهي بهذه البساطة, فإذا كانت المسألة مسألة كلام فهذا يعني أننا سنضيع فعلاً مرات ومرات، أي أن كل من أحسن لنا الكلام وأحسن لنا القول صدقناه! فمن خطط الكافر -أحياناً- أن يعلن الإسلام ليجر الناس إليه, فإن بعض الذين غزوا بلاد المسلمين من المستعمرين أعلنوا الإسلام، وإن نابليون لما جاء إلى مصر, ذكر الجبرتي أو غيره أنه أعلن الإسلام, وكان يكتب رسائل من عبد الله نابليون إلى من يراه من المسلمين!! أفكلما رفع لنا إنسان شعاراً ركبنا خلفه؟! فقضية ولاء القلوب وقضية التأييد، هذه مواقف شرعية ينبغي أن تكون مبنية على وعي وإدراك، وعلى منطلقات أساسية, فأنت مسلم عملة عجيبة نادرة مهمة، لا تضيع بهذه الطريقة! يوم هنا ويوم هناك! أو تتنقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار! ومن الطرائف -ولعلي أشير إلى هذا في الندوة القادمة- أني التقيت يوماً من الأيام بداعية من أكبر الدعاة, وكان وقتها معجباً بحاكم العراق، وجلست معه جلسة طويلة امتدت ساعات, أحاول إقناعه بأن الرجل علماني وبعثي محارب للإسلام وللمسلمين, وتاريخه يشهد بذلك, والكلام ينبغي ألا يخدعنا، ونحن لا نغلق باب التوبة, لكن الذين كانت جرائمهم تدمير الأمة لا تكون توبته إلا بالإصلاح والبيان، إصلاح ما أفسدوه وأن يبينوا ذلك ويعلنوه, أما كون الواحد يبكي، يقول: لما ذكرت له مأساة حماس دمعت عيناه, فهذه دموع التماسيح يا أخي!! المهم لما جلسنا جلسة طويلة، حتى أنه صار شيء من القناعة في هذا الموضوع, كأنه اقتنع بذلك, وبعد حصول الأحداث الأخيرة, سمعت هذا الداعية يتكلم عن النصارى بمثل الكلام الذي كان يتكلم فيه، أو قريباً من الكلام الذي كان يتكلم فيه عن حاكم العراق, وإن هؤلاء ليس لهم هدف في الإسلام, ولا يريدون الإسلام، ولا يعنيهم الإسلام، ولا يهمهم ارتفع الصليب أو ارتفع الهلال، كما يقول!! إنما يهمهم مصالحهم!! فما هذا الكلام؟! كيف نصدقك والقرآن الكريم ناطق بين أظهرنا؟! قال سبحانه وتعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135] , وهناك آيات كثيرة، فكيف نتجاهل هذه النصوص القرآنية! وهذا المعلم البارز الواضح، ونأتي لمجرد أفكار وخواطر وظنون وتصورات؟! يا أخي! الكافر ليس بالضرورة أن يكون متديناً بدين ومتحمساً له حتى يكون عدواً لك أيها المسلم! أيها المسلمون! يجب أن نتصور أن كل الأمم والشعوب ليس بالضرورة أن كل فرد يحمل نفس الحماس! وخذ المسلمين على سبيل المثال: هل تتصور أنه لن يقوم للإسلام قائمة إلا إذا كانت كل الأمة التي تصل الآن إلى مليار، واعية مدركة فاهمة؟ لا تتصور هذا! فإذا وُجِدت قيادات قوية ناضجة واعية التفت الأمة حولها, وقد يكون فيهم وفيهم!! فاليهود لهم قيادات والباقون أتباع, وإذا حركت القيادات مشاعرهم تجاه قضية حرب تحركوا خلفها وكذلك النصارى لهم قيادات, والناس في الغالب مقلدون، حتى أنت يا أخي! لو فكرنا في نصف عملك -حتى لا نكون متشائمين، أو يصير عندك إحباط- لوجدناه تقليداًَ, كيف تفصل ثوبك؟ وكيف تبني البيت؟ وكيف تلبس؟ وكيف تختار أمورك؟ وكيف تدرس؟ وكيف وكيف.
؟!! فتجد أنك في معظم أعمالك هذه وجَدْتَ طريقاً مسلوكاً فَسَلَكْتَ مثلما سلك الآخرون ولم تبدع! فغالبية الناس يقلدون, وجد لهم رءوس خطوا لهم الطريق فمشوا خلفهم.
فلا تتصور حين نقول: إن النصارى أعداء، وحين تأتي -مثلاً- إلى المواطن العادي في أمريكا تتحدث معه، تجد أنه لا يعادي الإسلام, تقول: هذا كلام صحيح ليس عندهم عداوة!! يا أخي! هذا المواطن العادي! وهذه النقطة لا تلتفت إليها، لأنه جزء من مجتمع تحركه قيادات، سواء قيادات سياسية، أو قيادات دينية, وتوجهه للجهة التي تريدها! وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(56/18)
تحالفات الإسلاميين في المجالس النيابية
السؤال
يا شيخ: إني أحبك في الله، وضح لنا جزاك الله خيراً: تحالفات الإسلاميين في المجالس النيابية, ما هي تطبيقات الولاء والبراء في هذا الأمر؟ الواقع أيها الإخوة مع أنني أبادلكم هذا الشعور بالمحبة، وأسأل الله عز وجل أن يجعل محبتنا فيه، وألا يكون الحب مجرد عاطفة وجدانية ترق بها قلوبنا، وإن كان هذا من سعادة الدنيا أيضاً، إلا أننا ينبغي أن نترجم هذه المحبة بين المؤمنين إلى نوع من الولاء والذي تحدثت عنه؛ الولاء للإسلام وأهل الإسلام والأخوة في الله عز وجل، بكثرة الاجتماعات، والتواصل والتزاور والتناصح والتناصر في كل مجال من المجالات، بحيث يحقق قوله صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} .
تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبع ولو بردى أنت لخطب أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع وقال شاعر آخر: ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطان مجنحة تسمو بروحي فوق العالم الفاني وليس طرطوس مهما لج لي دمها أدنى إلى القلب من فاسٍ وتطوان دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها أعظم بأحمد من هادٍ ومن باني يحب أن نتناصر في الإسلام -أيها الإخوة- بوضوح، إذا اضطهد يهودي في أي مكان من الدنيا ضج اليهود في كل مكان ولا يظهر في أجهزة الإعلام أن اليهود تحركوا، بل يظهر أن الأمم وأن الشعوب تحركت، فاليهود من شدة مكرهم وتخطيطهم استطاعوا أن يتغلغلوا وأن يتخلخلوا تلك الشعوب، فيحركوها لصالح القضايا التي يريدون، فإذا ضويق يهودي في الشرق أو في الغرب تحرك اليهود له وأجلبوا، ولذلك لما حصل في روسيا ما حصل، لما كانت القضية تخص النصارى ضجت الأمم الغربية النصرانية وتحركت ونددت، لكن لما ضرب المسلمون لم يتحرك لهم أحد، ولم يرتفع لهم رأس، ولم ينصرهم أحد بكلمة، فيجب أن نتناصر فيما بيننا بقدر ما نستطيع.
فنتناصر بالكلمة؛ لأن الذي يلقي خطبة في المؤتمر أو في أي مناسبة أو مسجد أو مناسبة معينة، تجمع أناساً صالحين، يلقي خطبة يعبر فيها عن شعوره تجاه أمرٍ من الأمور هذا نوع من المناصرة، والذي يكتب في جريدة مهما كانت هذه الجريدة هذا نوع من المناصرة، والذي يرسل رسالة هذا نوع من المناصرة.
يا أخي تأييدك لأخيك بكلمة هذا نوع من المناصرة، كونك تقول لأخيك: أصبت، هذه مناصرة له، وإذا أخطأ تقول: أخطأت، هذه مناصرة له.
يجب أن نحول مشاعر الحب من مجرد مشاعر عاطفية تلتهب في قلوبنا إلى واقع عملي نتعبد الله تعالى من خلاله.
أما السؤال في الواقع أنه يوجد قضايا ومستجدات كثيرة، أتمنى أن يوجد مجمع علمي شرعي حر نزيه، يدرس هذه القضايا، ويخرج برأي واحد.
أما الجواب على السؤال: فإن دخول الصالحين في المجالس النيابية يحتاج إلى أن يدرس, وأنا لا أعترض عليه, وليس لي رأي معارض الآن، لكن أقول: يجب أن يُدرس: فهل هو يوافق قضية الولاء والبراء أم لا يوافقها؟ لأن هذا الكلام مطروح الآن، ففي تلك المجالس قَسَمٌ على خدمة أنظمة غير شرعية, فبعضهم يجد في هذا حرجاً, وفي الواقع وجهة نظري الشخصية الخاصة أنني أقول: قد يكون الدخول في تلك المجالس -أحياناً- فيه تحقيق لبعض المصالح، ودفع بعض المفاسد, ولا يلزم أن يدخل ويشارك فيه كل المؤمنين والصالحين، لكن لا يمنع أن يدعى من يكون فيه خير، أو من يكون أقرب إلى تحقيق الخير ودفع الشر، ممن يكون مرشحاً لبعض المواقع من قبل الصالحين.
والتحالفات يجري فيها نفس الكلام، فأحياناً قد يتحالفون مع أنظمة ومع أحزاب قد تكون كافرة، كالأحزاب البعثية، والأحزاب الشيوعية -وقد حصل هذا- والأحزاب الناصرية, فهذه مصيبة كبرى ففي الواقع إننا بهذا نلبس الحق بالباطل, والآن نحن في مرحلة دعوة، ولسنا في مرحلة دولة, ويهمنا جداً أن يعرف الناس بالضبط ماذا نريد, وماذا نأمل؟! هل نريد أن يقول الناس عن الدعاة: إنهم طلاب حكم؟! وأنهم يريدون المنصب والكرسي بأي ثمن؟ ويتذرعون إليه بكل وسيلة؟ لا نريد هذا.
بل نريد أن يعلم الناس أننا دعاة إلى دين الله عز وجل, ودين الله عز وجل كامل شامل, فليس هو ديناً في المسجد فقط، بل هو دين الحياة كلها, لكن كوننا نسلك -أحياناً- طرقاً ملتوية، ونتحالف مع أناس نحن خصوم لهم ونحاربهم, ونحن ما أتينا إلى هذه المواقع إلا لمواجهتهم, ففي نظري أنَّ هذا غير صحيح، وأنه يوجد التباساً في نفوس كثير من الناس, حتى لا يصبح لديهم تمييز، وهذه قضية مهمة جداً.
وأذكر قصة طريفة: أحد الملوك أجبر الناس على أكل لحم الخنزير, ومن لم يأكل لحم الخنزير فسيقتله, فأتي بعالم مسلم من أجل أن يأكل لحم الخنزير, لكن الطباخ الذي يطبخ رثى لحال هذا العالم ورق له وأشفق عليه، فطبخ له جدياً وقدمه له، وقال له سراً: هذا جدي -لحم مباح- كل منه ولا تتردد، فلما أُتي به أمام الناس، وقدم له اللحم أبى أن يأكله, فرفع السيف فأبى أن يأكله! قال له الطباخ: كيف؟! قال: لا آكل، لأنه ولو كنت أعلم أنه حلال، إلا أن الناس سيتصورون أني آكل لحم الخنزير!! إن الذين يحملون راية الدعوة كالشامة وسط الناس, وهم دعاة تلتف الناس من حولهم، وتنظر إليهم، وتحسب تحركاتهم وتصرفاتهم، فيجب أن نضع في الاعتبار جيداً ألا نحطم العلاقة بيننا وبين الأمة بسبب من الأسباب.
وإن خسرت كرسياً أو مقعداً في البرلمان أو غيره، فهذا يذهب ويأتي, لكن لا تخسر الأمة، واحذر أن تخسر الأمة!(56/19)
الشريط الإسلامي ما له وما عليه
تحدث الشيخ عن أهمية مناقشة هذا الموضوع، ثم تحدث عن ميزات الشريط الإسلامي وعن العوائق التي تعوق انتشاره وتأثيره ثم أفاض في ذكر السلبيات التي تؤخذ على الشريط الإسلامي ذاكراً المقترحات التي من خلالها يمكن استخدام الشريط لوسيلة دعوية، ثم تطرق إلى ما قامت به بعض الصحف من هجوم على الشريط الإسلامي مفنداً له وراداً عليه.(57/1)
أسباب الحديث عن الشريط الإسلامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، الذي دعا إلى خير منهج وأقوم سبيل, وجاهد في الله تعالى حتى جاءه اليقين من ربه, اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته.
أما بعد أيها الأحبة في هذه الليلة المباركة، وهي ليلة اليوم الأول من الشهر السادس لعام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة, نبقى مع الدرس الرابع والثلاثين، وهو درس استثنائي كما علمتم، وعنوان هذا الدرس: (الشريط الإسلامي ما له وما عليه) .
وسأتحدث عن هذا الموضوع الكبير المهم في عدة نقاط, أبدؤها بالكلام عن أسباب طرح هذا الموضوع، ثم أذكر ميزات الشريط، وأسباب انتشاره، ثم المعوقات, وننتقل بعد ذلك إلى السلبيات والمآخذ، وأنتهي إلى المقترحات، وأخيراً وقفة مع يوميات.
فأما فيما يتعلق بالنقطة الأولى وهي أسباب الحديث عن هذا الموضوع، فلعل الأسباب ظاهرة في ذهن كل امرئ منكم، فإن ثمة أسباباً كثيرة تدعو إلى طرح هذا الموضوع, منها: أولاً: الهجوم على الشريط الإسلامي, فإننا منذ زمن ليس بالبعيد بدأنا نسمع هجوماً ضارياً على الأشرطة الإسلامية وعلى ما يسمى بالكاسيت وتجارة الكاسيت, عبر أجهزة كثيرة، منها: الصحافة التي سخرت أقلام عدد من كتابها لطرق مثل هذه الموضوعات والحديث عنها بطريقة أو بأخرى.
ثانياً: انتشار الشريط والحاجة إلى ترشيده؛ فإن الأشرطة اليوم أصبحت هي أوسع وسائل الدعوة انتشاراً، أوسع من الكتاب، وأوسع من المجلة، وأوسع من غيرها, ولا يكاد يوجد إنسان إلا ولديه مجموعة أشرطة قلَّت أو كثرت، ولا بد أنه استمع شريطاً ما، ثم مهما كان مستواه من حيث السن أو العلم أو العمل والوظيفة أو نوعية الثقافة, أو ما أشبه ذلك.
ثالثاً: أهمية التعاون بين العلماء والدعاة وبين القائمين على محلات التسجيلات، وكذلك بين الرواد الذين يقتنون هذه الأشرطة ويسمعونها، التعاون في اختيار الموضوعات المهمة مثلاً, والتعاون في توفير المادة التي يحتاج إليها في طرق الموضوع, والتعاون في تصحيح ما قد يحدث من أخطاء أو ملاحظات مما لابد للبشر أن يقع فيه.(57/2)
ميزات الشريط
أما ما يتعلق بميزات الشريط، فلا شك أن للشريط ميزات كبيرة، منها: 1- سهولة الاستفادة منه, فإن الإنسان يستطيع أن يستمع إلى الشريط وهو قائم، أو وهو قاعد أو نائم, أو ماشٍ في سيارته، وبكل وضع، وبكل حال؛ ولذلك فإن الاستفادة من الشريط أصبحت كبيرة.
2- سرعة الانتشار، يكفي أن تعلم أن أحد محلات التسجيل الإسلامية يوجد عنده من الأشرطة المتداولة أكثر من تسعة آلاف وخمسمائة شريط, يباع من هذه الأشرطة شهرياً ما يزيد عن ستين ألفَ شريطٍ, وهذه لا شك أرقام قد تكون خيالية بالنسبة لتصور بعض الناس, ويكفي أن تعلم أن هناك شريطاً واحداً، وهو شريط: هاذم اللذات، ولا بد أن أكثركم سمعوه, هذا الشريط بيع منه في محل واحد أكثر من ثلاثين ألف نسخة, وفي المملكة كلها ربما بيع من هذا الشريط ما يربو على مائتي ألف نسخة, ولعله ضرب رقماً قياسياً في سرعة الانتشار وكثرة الانتشار, مع أن المحلات -محلات التسجيلات الإسلامية- هي الأخرى أصبحت -ولله الحمد- في ازدياد وانتشار, ففي الرياض -مثلاً- يوجد ما بين ستين محلاً إلى سبعين محلاً للتسجيل, بل ربما تزيد على ذلك, وفي القصيم يبلغ عدد محلات التسجيلات ما يقارب الثلاثين, ولا تستغرب هذا الرقم أو تعتبر أنه كبير، فهو رقم متواضع, لكن بالقياس إلى الواقع يعتبر رقماً جيداً، وإلا فلو قارنته -مثلاً- بمحلات التسجيل الأخرى -تسجيلات الأغاني- لوجدت أن عدد محلات الأغاني حسب بعض المصادر يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة محل, وهذا رقم لا شك كبير, ولكنها ولله الحمد آخذة في التناقص والانتهاء، وهي تتساقط كأوراق الخريف, وأغلق كثير منها بأسباب مختلفة، وبيع كثير منها، وحول عدد منها أيضاً إلى محلات لتسجيل المواد والأشرطة الإسلامية, وهذه أيضاً نعمة من نعم الله عز وجل.
وهذا يؤكد أن الشريط سريع الانتشار, وأنه قوي التأثير فعلاً.
3- تغطية كافة الطبقات من المجتمع، الرجل الكبير السن يجد ما يناسبه, والمرأة تجد ما يناسبها, بل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يستطيع أن يستمع إلى الشريط وينتفع به, وإنني أتذكر أنني أحياناً أدخل على نساء مسنات، وربما تكون الواحدة منهن في آخر عمرها، وعلى كبر سنها تجد أن عندها أشرطة لبعض العلماء والمشايخ وأشرطة القرآن والحديث والوعظ وما أشبه ذلك, فهي تستفيد منها وتنتفع بها, فهو يخاطب كافة الطبقات, فقد تجد أن هناك أشرطة تخاطب الطفل، ويمكن أن تستفيد الأسر من هذا النوع من الأشرطة وتقتنيها، وتجعل أطفالها يتربون على مواد مفيدة ونافعة.
4- قوة التأثير, وذلك سواء بالصوت والعبارة أو الأسلوب أو غير ذلك, فإن الذي يستمع للشريط كأنه يستمع إلى شخص يتحدث, يستمع إلى العبارات، يستمع إلى مخارج الحروف, يستمع إلى العاطفة, يستمع إلى الأسلوب، يستمع إلى التأثير، وكأنه يستمع إلى خفقات قلب المتحدث, فيتأثر وينفعل معه, ويحزن لحزنه، وقد يبكي, لكن الذي يقرأ كتاباً أصم ربما لا يشعر بمدى تأثر المؤلف بما يقول ويكتب, وهذه ميزة خاصة للشريط, ولذلك يقول بعضهم: الشريط إذا فرغته تحول إلى مادة أخرى غير مؤثرة, لكن إذا استمعت إليه كما هو وبإلقاء محدثه يكون له من التأثير الشيء الكبير.
5- التنوع, فنحن لدينا الآن -مثلاً- في محلات التسجيل دروس مختلفة, وهذه الدروس منها دروس في العقيدة، وهي كثيرة، سواء في كتب معينة كالعقيدة الواسطية أو الطحاوية أو غيرها, ودروس فقهية، ودروس حديثية، ودروس في التفسير، وكذلك اللغة والنحو، ودروس في الأصول, وهذه أشياء كثيرة، وربما كان في فهارس التسجيلات التي صدرت -وهي كثيرة- ما يعطي قائمة ببعض هذه, فضلاً عن المحاضرات، فضلاً عن الندوات والأمسيات الشعرية والقصائد والكتب والإصدارات والمناقشات, وقبل ذلك كله الأشرطة المتعلقة بتسجيل القرآن الكريم, سواء لقراء معروفين أو التسجيل من صلاة التراويح والقيام في شهر رمضان المبارك لأئمة الحرم وأئمة مشهورين, من هذا البلد ومن غيره من البلاد الأخرى, فهي تتميز بالتنوع وتغطية موضوعات شتى ومجالات مختلفة.(57/3)
أسباب انتشار الشريط
لانتشار الشريط أو عدم انتشاره أسباب منها: أولاً: سمعة المتحدث؛ فإن كثيرا ًمن الناس يقتنون الشريط بالنظر إلى المتحدث أو الملقي, خاصة إذا كان من العلماء المشهورين، من أمثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو فضيلة الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني , أو فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين , أو أمثالهم من كبار العلماء أو الخطباء المشهورين الذين يتحدثون بقوة ووضوح وقدرة ويهتمون, فتجد أن كثيراً من الناس يقتنون أشرطة هؤلاء ويتابعونها أولاً بأول، خاصة إذا كانت تصدر على شكل سلسلة لشرح كتاب أو ما أشبه ذلك.
ثانياً: جودة المادة وارتباطها بحدث معين؛ فإن الناس إذا وجدوا مادة قد أجاد فيها من أعدها, واهتم بها وجمع المعلومات الكافية، فإنهم يقبلون عليها، وكذلك إذا كانت المادة متعلقة بحدث معين, وعلى سبيل المثال: الأحداث التي وقعت في الخليج وما تلاها من أحداث متسلسلة جَرَّت الناس إلى سماع ما يقوله المتحدثون والعلماء والخطباء, ومتابعة ذلك؛ فإن جودة المادة وارتباطها بحدث من الأحداث من أسباب انتشارها والإقبال عليها.
ثالثاً: طرافة الموضوع؛ فإن الإنسان حينما يجد إعلاناً في محل التسجيل عن موضوع ما, يجد في نفسه تطلعاً إلى سماع هذا الموضوع, ومعرفة ماذا قال المتحدث فيه، حتى ولو لم يكن يعرف المتحدث, ولا يدري هل أجاد أو لم يجد لكن الموضوع بحد ذاته جذاب, وهذا يدل على أهمية اختيار الموضوعات التي يتحدث عنها الناس.
رابعاً: الدعاية للشريط؛ فبعض التسجيلات -مثلاً- تتقن فن الدعاية لأشرطة معينة, وإبرازها للرواد، وجعلهم يفكرون ويقبلون عليها -وهذا لا شك سواء في محل التشكيل أو في غيره- يصنع إقبالاً على الشريط.
خامساً: الأسلوب الذي طرق به المتحدث موضوعه وطريقة الإلقاء, مثل الإكثار من القصص والشواهد والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث التاريخية والأبيات الشعرية وما أشبه ذلك, فضلاً عن الحماس الذي يتميز به المتحدث.
المهم أن الأسلوب بشكل عام من أقوى الوسائل لإقبال الناس على الأشرطة, فإذا كان المتحدث يتميز بأسلوب قوي، فإن هذا من أسباب ودواعي الإقبال على ما يطرح.
سادساً وأخيراً: عناصر التشويق والإخراج, فإذا تمكن المتحدث أو تمكنت محلات التسجيل من إخراج الشريط إخراجاً جيداً, والاهتمام بعناصر التشويق في بداية الشريط ونهايته، فإنها تستطيع بذلك أن تكسب عدداً آخر من المستمعين إلى هذه المادة.(57/4)
المعوقات التي تحول دون انتشار الشريط الإسلامي
وهناك مقابل ذلك معوقات تحول دون انتشار الأشرطة، وهي كثيرة جداً من هذه المعوقات: 1- الأعداء الخارجيون الذين يحاولون أن يخيفوا الناس من الشريط, ويحملون الشريط ما لا يحتمل, حتى إنهم يصورون الشريط كأنه مادة متفجرة قابلة للانفجار، كما فعلوا في صورهم وكاريكاتيراتهم ودراساتهم, بل إنهم يعقدون الجلسات في أماكن عليا وفي مؤسسات إدارية وسياسية كبرى, ليتحدثوا عن الشريط، ويحاولون أن ينفخوا في هذا الأمر، ليثيروا مخاوف الآخرين من مثل هذه المادة, هذه من المعوقات التي يترتب عليها ما بعدها من التخوف من الشريط، وبالتالي الوقوف في وجهه أو الحيلولة دون انتشاره أو عدم الإذن به وترخيصه, أو ما أشبه ذلك من العقبات التي تحول دون انتشار الشريط.
2- بعض الصحافة والعلمانيين الذين يشنون حملات كبيرة على الشريط الإسلامي، كما سوف أشير إلى ذلك فيما بعد.
3- بعض الجهات والأطراف التي يتوقف على دورها وموقفها انتشار الشريط وتداوله بين أيدي الناس أو عدم انتشاره، وامتناع الناس من شرائه أو تداوله, إضافة إلى أنها تتحكم وتؤثر في فتح المحلات الجديدة وفي عدم ذلك, أو فتح فروع جديدة للمحلات أو تحويل المحلات التي تباع فيها أشرطة الأغاني إلى محلات إسلامية، فبقدر ما يكون التجاوب في هذه المجالات بقدر ما يكون انتشار الشريط أو عدم انتشاره.(57/5)
إيجابيات الشريط الإسلامي
أما إيجابيات الشريط فهي كثيرة جداً، ولا أعتقد أني بحاجة إلى أن أتحدث عن فوائد الشريط وإيجابياته؛ فإن هذا مما يعلمه الخاص والعام, ويكفي لنعرف إيجابيات الشريط أن ندرك هذا السعار العجيب الذي أصاب أعداء الدين والدعوة من انتشار الشريط الإسلامي؛ فإنهم ما أصابهم هذا الذي أصابهم إلا حين رأوا انتشار الشريط وفاعليته وتأثيره, ودخوله في كل بيت وكل عقل وكل سيارة، وتأثر الناس به بكافة طوائفهم وطبقاتهم ومستوياتهم العلمية ومستوياتهم في السن وفي الوظيفة وفي غير ذلك.
فالشريط كما أسلفت وسيلة من أقوى وأكثر وسائل الدعوة تأثيراً وانتشاراً ورواجاً، وكم من إنسان سلك هدايته بتوفيق الله عز وجل ثم بسبب الشريط الذي استمع إليه, فكان السبب في تغيير خط حياته ومساره من الضلال إلى الهدى, ومن الظلام إلى النور, ومن الغواية إلى الرشد, وهذه نعم كبيرة جداً.(57/6)
السلبيات التي تؤخذ على الشريط الاسلامي
أما الجانب الذي أود أن أقف عنده الآن، فهو بعض السلبيات التي قد تؤخذ على الشريط الإسلامي, ونحن بحمد الله تعالى -أقول عن نفسي وعن غيري من دعاة الإسلام- نرجو أن نكون ممن يتسع صدره للأخذ والعطاء والمناقشة والتصحيح، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الإسلام عودنا ذلك, ولهذا لا حرج ولا عيب أن نلاحظ على أنفسنا وأن نعيب أنفسنا وإخواننا بأمور نرجو التخلص منها, ولكن الذي نعيبه على الجميع دائماً وأبداً هو حملات التشهير، وحملات النقد وحملات التجريح والظلم والتهجم الذي ليس له أساس من العقل ولا من العدل ولا من الحكمة ولا من الموضوعية, ومن أناس يدعون مثل ذلك.(57/7)
معالجة السلبيات في التسجيلات
أما بالنسبة للمقترحات فأهم المقترحات، في نظري هي: أولاً: ضرورة نقل مناهج الدراسة إلى أشرطة, سواء مناهج قرآن كريم أو مناهج المواد الأخرى للطلاب في الابتدائي والمتوسطة وغيرها, بحيث تكون في متناول الطلاب بنين وبنات… وهذا مفيد.
ثانياً: وجود برامج متخصصة لطبقة معينة من المجتمع, مثل برامج للعوام، برامج للأطفال، برامج للمرأة، برامج للمثقفين، برامج للشباب إلى غير ذلك, وهناك بداية جيدة، ولكن تحتاج إلى تخطيط وترتيب أكثر.
ثالثاً: اقتراح موضوعات يحتاجها الناس كما أشرت إلى ذلك، وينبغي أن يوجد هناك رابطة بين المتحدث وبين السامع، وذلك بالاقتراح والتجاوب.
رابعاً: تطوير الناحية الفنية في الشريط والإعداد، وهذه ناحية مهمة, فمن المزعج أن يسمع الإنسان شريطاً مشوشاً أو مرتبكاً أو فيه معانٍ متداخلة وأصوات غريبة وما أشبه ذلك, فلذلك لا بد من العناية بها من الناحية الفنية وجودة الإخراج، وبعض المحلات خطت خطوات في هذا المجال.
خامساً: من المقترحات تخفيض السعر بقدر الإمكان, فالناس كما ذكرت في ظروفهم الاقتصادية يهتمون بالسعر.
سادساً: تغطية المناطق بالمندوبين الذي يتابعون ما يجد.
سابعاً: العناية بنوعية الشريط؛ فإن بعض محلات التسجيل قد تسجل على أشرطة غير جيدة, سريعة التآكل والانتهاء، فلا يستفيد منها الناس، ولا يستطيعون الاحتفاظ بها.(57/8)
سلبيات محلات التسجيلات
النوع الثاني من السلبيات: سلبيات في محلات التسجيلات، فمنها: أولاً: تغيير الأسماء أحياناً؛ فإنك قد تجد المحاضر أو الشريط الواحد يحمل أكثر من اسم, أسماء متعددة؛ وذلك لأن الإخوة يضعون عناوين الأشرطة باجتهادهم هم, والمراجع قد يأتي يأخذ الشريط هذا ويظنه جديداً، فإذا استمعه يجد أنه قد اشتراه من قبل, لكن الاسم تغير, وهذه قضية أمانة ينبغي أن يراعى فيها الدقة؛ بحيث يوضع العنوان الذي اختاره المتحدث له.
ثانياً: عدم التركيز على الدروس العلمية؛ فإن العناية بالدروس العلمية وتقديمها للناس ومحاولة نشرها بين الشباب والدعاية لها مهمة؛ لأن الدروس العلمية لا شك هي الباقية بخلاف كثير من الأشياء الوقتية التي قد تنتهي وتزول.
ثالثاً: عدم المبادرة في طلب الحديث أو المشاركة في مناسبات معينة, فكثير من التسجيلات ربما يكون دورهم هو التسجيل فقط والنشر, لكن لا مانع -بحكم أنهم يحتكون بالناس ويدركون أن هناك موضوعات ينبغي أن يكون الحديث عنها, وتحتاج إلى طَرْق أن يقدمها للمتحدثين من المشايخ والعلماء على أن هذه الأشياء يكثر السؤال عنها, وأن كثيراً من الناس يأتي للمحل يقول: هل عندك أشرطة حول موضوع كذا؟ أو ما أشبه ذلك, وكذلك إصدار موضوعات من قبل أنفسهم، فهو أمر حسن.
رابعاً: عدم التعارف بين أصحاب التسجيلات، وهذا من السلبيات التي تؤخذ, فينبغي أن يكون بينهم تعارف وتنسيق في أمور كثيرة، وتبادل الخبرات والمعلومات، وتعاون بما يخدم المصلحة العامة، فإن الذي أعلم من أصحاب هذه التسجيلات أن كلهم أو جلهم على الأقل ممن يحمل هم الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولذلك فإنني أقول: إن الاهتمام بموضوع الشريط والعناية به وعقد الندوات أو حلقات للنقاش لمثل هذا الموضوع بين المختصين هو من أهم الأمور.
خامساً: عدم متابعة الجديد والإعلان عنه, فإنك قد تجد في بعض المحلات عدم معرفة بالجديد من الأشرطة.
سادساً: ارتفاع السعر أحياناً، كما يشكو من ذلك بعض الإخوة, وخاصة أن الناس اليوم يتساءلون ويراقبون ويراعون قضية السعر والمال, بسبب ظروفهم المادية بلا شك, فكل شيء يؤثر فيهم؛ ولذلك كلما أمكن أن يكون السعر منخفضاً كان هذا أكثر تأثيراً في انتشار المادة والانتفاع والإقبال عليها.
والاحتساب بالدعوة إلى الله عز وجل يجب أن يكونه وارداً، أنا لا أقول: إن أصحاب التسجيلات أصحاب أهداف مادية كما يقول بعض الصحفيين، حاشاهم من ذلك! وإن كنا لا نقول: كلهم على قلب رجل واحد أيضاً, لكن أعرف من أصحاب التسجيلات من يبيع بسعر مخفض، وهذه محمدة, وأعرف من يوزع نسخاً مجانية كثيرة، وهذه أيضاً تشكر لهم, وأعرف من يقومون بمشاريع تعاونية خيرية، وأعرف من يقومون بنسخ مواد مفيدة على بعض الأشرطة السيئة بالمجان، في هذا البلد وفي الرياض وفي أماكن أخرى.
على كل حال هذه الأشياء من السلبيات يتحملها الإخوة؛ لأن المقصود منها التوجيه ولفت النظر لبعض هذه الأمور.(57/9)
معالجة هذه المآخذ
أما العلاج من هذه الأشياء فهو: يتمثل في جهد فردي للإنسان، وهو أن يهتم بما يقدم ويضبط ويتعود، وكذلك في جهد علمي من المحلات التي تقوم ببيع الأشرطة الإسلامية, بإيجاد لجان محكمة متخصصة واستشارة العارفين في ذلك, أي: كيف نستطيع أن نضبط هذه السلبيات من المتحدثين؟ أولاً: المتحدث مطلوب منه أن يهتم بما يخصه، وأن يقدم للناس مادة جيدة بقدر المستطاع وبقدر الوقت.
ثانياً: بالنسبة لمحلات التسجيل يا حبذا أن يكون لها لجان متخصصة محكمة، تراعي وتراقب هذه المواد؛ بحيث أنها تعتني بها، وتحاول أن تصححها بقدر المستطاع أو تستبعد ما لا يصلح منها أو تراجع صاحب التسجيل أو تستشير العارفين بهذه الأمور.(57/10)
المآخذ على المتحدثين
بالنسبة للمتحدثين الذين يلقون دروساً ومحاضرات هناك بعض السلبيات منها: أولاً: الإلقاء كما هو معروف يعتريه شيء من التوسع في العبارة أو عجلة أو جهل, ولذلك تأتي أهمية المراجعة؛ فإن الذي يتكلم ليس كالذي يقرأ من ورقة، قد يحصل له سهو، أو غفلة أو عبارة لم يرد أن يقولها فقالها، أو توسع في الأسلوب, ففهمه الناس على غير وجهه, ولذلك فإن من المهم أن يكون هناك مراجعة مستمرة.
وإنه ليطيب لي أن أذكر في هذه المناسبة أنني بإذن الله تعالى سوف أجعل من ضمن الدروس العلمية العامة التي ألقيها في هذا المكان سلسلة من الدروس اسمها: المراجعات, وهذه الدروس سوف أخصصها -إن شاء الله- لبعض الملاحظات والأخطاء التي وقعت مني، سواء اكتشفتها بنفسي من خلال سماع الشريط أو راسلني بها بعض الإخوة جزاهم الله عني خيراً, وسأتحدث عنها في مناسبتها وأبين ما فيها, سواء كان خطأً علمياً أو خطأً في الأسلوب.
وأذكر في هذه المناسبة أن عدداً من الإخوة كتبوا إليّ فيما يتعلق بشريط: جلسة على الرصيف, ونبهت على ذلك، ولكن لا مانع من الإعادة للأهمية أنه عندما تحدثت عن المجاهرين بالمعاصي وعن الأغاني، وذكرت طبقة من المغنين لا كرامة لهم، وأشرت إلى مجاهرتهم بالمعصية, وتحدثت عن قضية الكفر، وأن مثل هؤلاء مخلدون في النار, ففهم بعض الإخوة خلاف ما أريد، وسواء كان الخطأ مني في العبارة وعدم ضبطها أو كان الخطأ مشتركاً مني ومن الإخوة أو منهم, المهم أنني أود أن أشير كما أشرت في المجلس السابق إلى أنني أعني أولئك الذين يستخفون بالمعاصي التي يفعلونها, ويستخفون بحدود الله عز وجل وحرماته, ولا شك أن الاستخفاف من المكفرات التي تدل على أن فاعل المعصية لا يؤمن بتحريمها, وكنت أقصد بالضبط نوعاً من المغنين, كتبوا أغاني ونطقوا بها وسجلوها على أشرطة يتداولها الشباب, وهذه الأغاني يفتخرون فيها بالجريمة, ويفخرون بها، ويعيبون من لا يفعلها, ويتباهون بأنهم غرروا بالفتيات والشباب، وفعلوا معهم الجرائم والموبقات, ويتمنون على الله عز وجل أن يكون الناس كلهم فجرةً ومرتكبي فواحش وما أشبه ذلك من الكلام البذيء الوقح الذي أعوذ بالله أن يقال في مثل هذا المكان، والذي يدل أن قائله لا يؤمن أبداً بقوله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] هذا هو مقصودي فقط، أما مجرد المجاهرة بالمعصية، فلا شك أنه لا يعتبر كفراً، فهذه من القضايا المعروفة.
ثانياً: الخطأ؛ فهو من طبيعة الإنسان، وبسبب سعة انتشار الشريط وكثافة التوزيع كما أشرت إلى بعض الأرقام في ذلك, فإن حجم الخطأ يكون أكبر, فإن الإنسان إذا أخطأ في مجلس من عشرة، فسوف يكون الأمر يسيراً, لكن إذا أخطأ في شريط قد يتداوله الألوف بل عشرات الألوف أحياناً, فمعنى ذلك أن حجم الخطأ يكبر، ويحتاج إلى تصحيح, ولذلك أقول: لا بد أن يكون الحل بأحد أمور: الأول: إما أن يكون ما يلقيه الإنسان مكتوباً, بحيث يقرؤه من ورقة، خاصة إذا كان مهماً.
الثاني: وإما أن يضبط الحديث بعناصر، يتدرج بها واحداً بعد آخر.
الثالث: التدرب على التريث في الحديث وعدم الاستعجال، خاصة في المسائل العلمية والعقدية والقضايا الحساسة التي قد يترتب على الخطأ فيها آثار بعيدة.
الرابع: المراجعة، فإن كل عالم أو طالب علم لا مانع أن يصدر بين الحين والآخر شريطاً بعنوان: المراجعات, أو بعنوان آخر يكتب فيه النقاط التي ينبه عليها, كما يقع ذلك للعلماء في كل زمان وفي كل مكان.
ثالثاً: التكرار؛ فإن كل شيء الآن أصبح يسجل كما تلاحظون، حتى إن بعض العلماء إذا قام من بيته إلى المسجد أو من المسجد إلى بيته أو خرج إلى السوق, فإنه يكون معه طلبة يسجلون ما يقول وهو في الطريق, وأصبح كل شيء يسجل، وبناءً على ذلك أصبح هناك تكرار كبير في أشياء كثيرة؛ لأن الإنسان ليس لديه وقت للتحضير دائماً, وليس التسجيل مقصوراً على مجرد دروس ومحاضرات يعدها الإنسان, بل أصبح يسجل من الإنسان كل شيء, ولذلك أرى أن الحل يتلخص في إحدى النقطتين: إما التجديد وإعطاء المستمعين حقهم, بحيث يتعب الإنسان فيما يقدم للناس, ويعد ويفرغ وقته لهذا الأمر, فإذا استمع إليه الناس, قالوا: إن هذا الإنسان يحترم مستمعيه فعلاً فقد قدم لهم شيئاً, فإذا لم يستطع ذلك لغلبة المشاغل وضيق الوقت، فلا بد من عدم التسجيل, وأن يكون التسجيل لأشياء مخصوصة فقط, والأمور الأخرى لا يأذن الإنسان بتسجيلها, اللهم إلا في نوعية خاصة من العلماء كمن ذكرت أسماءهم من قبل؛ فإن أمثال هؤلاء من العلماء ربما الفتوى مطلوب تسجيلها, مهما كان وقت الفتوى وزمانها ومكانها, لكن البقية يكفي أن يسجل لهم دروس أو محاضرات أعدها وتعب في إعدادها وفي تحضيرها ضماناً لعدم التكرار.
رابعاً: عدم الاهتمام -أحياناً- بالتأصيل, فإن المتحدث قد يتحدث في عموميات كثيرة جداً، ولا يهتم بوضع الأصول والضوابط والمنطلقات التي يستطيع الناس أن يضبطوها ويفهموها ويستفيدوا منها.
خامساً: عدم مراعاة واقع الناس أحياناً في اختيار الموضوع وعدم التفاعل مع الأحداث, فقد تجد أن الناس مشغولون في حديث أو حدث ما, والحديث في مجال آخر! فعلى سبيل المثال لما وقعت أحداث الكويت -مثلاً- وأحداث الخليج بعدها, وهي أحداث حية ومتفاعلة في نفوس الناس كلهم، فقد تأتي إلى خطيب وهو يتحدث في موضع بعيد كل البعد عن هذه القضايا, فالناس يفكرون في أمر، وهو يتحدث في أمر آخر, وهذا لا شك ليس من الحكمة في شيء؛ فإن الحكمة أن يتحدث الناس عن الموضوع الذي يشغل بال المستمعين ليوجههم إلى الطريقة المناسبة والحل الشرعي لمثل هذه القضايا التي تهمهم.
سادساً: عدم التحضير للموضوع -أحياناً- من حيث المعلومات والإحصائيات والحقائق والنصوص وغيرها, وقد يكون الموضوع أمراً مهماً، لكن ليس فيه مادة علمية جيدة قد تعب صاحبها في إعدادها وتحضيرها.
سابعاً: ومن ذلك الأخطاء في اللغة العربية من جهة طبيعية؛ لأن المتحدث قد تسبق إليه كلمة عامية أو خطأ في اللغة العربية رفع المنصوب أو نصب المرفوع أو ما أشبه ذلك, فهذا أمر طبيعي، ولكن ينبغي أن يراعيها الإنسان بقدر المستطاع, أما ما يتعلق باللهجة العامية، فأرى أنه لا بأس أحياناً أن الإنسان لإزالة الملل والسأم عن الناس قد يأتي بمثل عامي أو كلمة عامية بسبب السرعة أو ما شابه ذلك, وهذا معروف عند السلف، فقد كانوا يستخدمون بعض ذلك، ولا حرج إن شاء الله.(57/11)
وقفة مع بعض اليوميات
آخر نقطة في الجعبة فهي وقفة مع بعض اليوميات:(57/12)
الهجوم على الشريط بحجة الخوف من الثورات
أولاً: الهجوم الغربي الكاسح على الشريط لم يعد سراً؛ فهناك جلسات كبيرة في دوائرهم الكبرى السياسية والإعلامية للكلام عما يسمى بمعركة الشريط, والهدف من ذلك تهويل الأمر وإثارة المخاوف من هذه الأشرطة؛ ولذلك تجدهم -كما قرأت في صحفهم واستمعت إلى أخبارهم- يربطونها بثورة إيران وما جرى فيها, وهم بذلك خبثاء بلا حدود؛ لأنهم يتجاهلون، ولا أقول: يجهلون، ولكنهم يتجاهلون عمداً الفوارق الأساسية بين البلاد, فبين هذه البلاد المباركة الآمنة الطيبة وتلك البلاد المليئة بالفتن فرق كبير لا يجهله أحد، سواء من الناحية الاعتقادية أو غيرها؛ فأولئك قوم من الشيعة الرافضة لهم اعتقاد خاص، ولهم مبدأ خاص، ولهم أسلوب خاص في معاملة بعضهم لبعض, وفي معاملة مجتمعهم وفي نظرهم للأمور, وفي هذه البلاد يخيم بحمد الله تعالى مذهب أهل السنة والجماعة بل العقيدة السلفية الصحيحة وآثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- باقية معروفة.
أما من الناحية العلمية فالفرق كبير جداً بين البلدين، فهاهنا العلم بحمد الله يمد رواقه ويضرب، وهناك ليس لديهم علم، إنما لديهم علماء يتبعون، وليسوا علماء بل علماء ضلالة، فالعامة تتبعهم دون روية ودون تبصر ودون تفكير قل مثل ذلك في الناحية الاجتماعية وتركيبة الناس وواقع الناس, إضافة إلى النواحي التاريخية، كل هذه الفوارق المؤثرة الكبيرة يتجاهلها أولئك حين يربطون هذه الأوضاع بما يجري أو ما جرى في تلك البلاد، ويهولون الأمر ويضخمونه من أجل تخويف الناس من هذه الأشرطة.
إيران بلد القلاقل وبلد الثورات وبلد الاضطرابات، وهي من بلاد المشرق, التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: {هناك الزلازل والفتن حيث يطلع قرن الشيطان} .
أما هذه البلاد فهي بلاد الحرم الآمن: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3] بلاد رعاة الغنم حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السكينة والهدوء عندهم، وهم أصحاب الصدق والوضوح والصلاح والاستقامة وتوافق ظاهرهم مع باطنهم, فمن يقيس هذا على ذاك كمن يقيس الخمر على اللبن، كما يقول بعض الإخوة, وهي (شنشنة نعرفها من أخزم) فإن هذه الدوائر تهدف إلى استعداء القادرين على الإسلام وأهله، واختلاق أوهام كبيرة في النفوس لا حقيقة لها, وهذا ليس بغريب، ولكن الغريب أن يتلقف بعض الموتورين هذه الأفكار الغربية الأجنبية, ويأخذونها معلبة وينشروها بأسمائهم دون أن يذكروا المصادر التي نقلوا منها وأخذوا عنها, ولو على الأقل من باب الأمانة العلمية.
فمن زمن حين ثارت قضية الحداثة نُشِرَ في جريدة اليوم في عددها رقم خمسة آلاف وثلاثمائة وتسعة وتسعين مقال بعنوان: فوضى الكاسيت، وتحدث المتحدث في هذا المقال، فجمع بين جلسات الطرب وجلسات الوعظ على حد سواء, وقارن الأغاني الغربية بالخطب العصماء على حد تعبيره, وأبدى امتعاضه من الرواج الكبير التي تلقاه الأشرطة الدينية كما يقول, وذكر أنها أصبحت نوعاً من التجارة الرابحة لدى الباعة الذين لا يريدون خيراً من وراء تسويق هذه الأشرطة كما يقول، وإنما هي متاجرة بالدين لا تليق بمسلم, ووصف المتحدثين بتلك الأشرطة بأنهم لا يعلم إلا الله مدى تمكنهم من الحديث والطرح الجاد لصالح الإسلام والمسلمين, فهو ينتقد أصحاب التسجيلات، وينتقد بعد ذلك الذين يتحدثون في تلك الأشرطة الدينية والخطب العصماء كما يسميها, ووصف ما يجري بأنه نوع من العبث, وأنه خطر داهم لا يمكن الاستهانة به, بل لا بد من التعامل معه بحزم حفاظاً على ماذا؟ ليس حفاظاً على سمعته الشخصية ولا على مكتسباته الحداثية، وإنما يقول: حفاظاً على نقاء الدين الإسلامي الحنيف, تبارك الله! هذه الغيرة الكبيرة ما عهدناها إلا حين جاءت قضية الشريط الإسلامي! حفاظاً على نقاء الدين الإسلامي الحنيف وصيانة للمجتمع من عوامل الانشقاق, إذا تسربت إليه بذور الشر وعوامل الانشقاق! الذين يبثون لانشقاق في المجتمع هم الذين يدعون إلى التوحيد وإلى الصلاة والزكاة والصوم والحج, وهم الذين يحاربون النحل الضالة من العلمانية والحداثية وغيرها, أما أصحاب الحداثة الذين ينشرون سمومهم في هذا المجتمع، ويبثون أوبئتهم، ويدسون رءوسهم في كل مكان، ويدسون أنوفهم في كل مكان, فهؤلاء هم دعاة الوحدة الوطنية أجاركم الله! يقول: لا بد من صيانة المجتمع من بذور الشك التي تنشر على أيدي أولئك الذين يفترون على الله الكذب, وهو لم يحدد من هم , فهذا الكلام نفسه ينطبق على حد زعمه على كل من يتكلم في هذه الأشرطة التي تحدث عنها.
عجباً ما هذا الفزع؟! ما هذه الغيرة العجيبة على الدين وأهله؟! أين هذه الغيرة من تلك الأشرطة التي تتاجر بالعفاف كما أشرت قبل قليل؟! وتبيع الرذيلة عياناً بياناً وتفتك بالشباب؟! وأصحابها منك قاب قوسين أو أدنى؟! وما هذا الاطلاع على دخائل القلوب وما تكنه النفوس والضمائر؟! حين تصف هؤلاء بأنهم يتاجرون بالدين وأنهم وأنهم؟! ثم أين الثقة بالمجتمع؟! لقد عهدناكم تقولون: إن المجتمع محل ثقة, وإننا نريد أن تتاح الفرصة لكل أحد أن يطرح ما عنده من أفكار ومذاهب ونظريات, هكذا تقولون! والمجتمع محل ثقة، لا مانع من طرح كل شيء ليأخذ ما يريد بحرية، ويترك ما يريد بحرية، ولا بد من إتاحة الفرصة لما تسمونه أنتم بالرأي الآخر, فأين هذه الثقة التي كنتم تمنحونها المجتمع؟! لماذا سحبتموها من المجتمع؟! ووصفتم المجتمع بأنه كما يقول كاتب المقال: بأنه من العامة الذين يصدقون كل ما يسمعون؟! لماذا لا تقول أيضاً: إن هؤلاء العامة الذين يصدقون كل ما يسمعون يجب حمايتهم من الحداثة؟! ويجب حمايتهم أيضاً من العلمانية؟! ويجب حمايتهم من الفكر الدخيل الذي يأتي على شكل قصة أو قصيدة أو شعر أو مقالة؟! ويجب حمايتهم من دعاة التخريب والتغريب بل من دعاة الاستعمار الذين يمدحون الاستعمار على صفحات جرائدنا ومجلاتنا؟! ويقولون: إن هذا الاستعمار وإن أخذ أموالنا إلا أنه نَوَّرَ عقولنا وأفكارنا… إلى هذا الحد! ولماذا لا تطالب بحماية الناس من تلك الأفكار والمبادئ التي غزت كثيراً من شبابنا ومثقفينا، وجعلتهم يرددون نظريات الغرب, وتحليلاته دون تعديل يذكر؟! لماذا تغفل عن هذا كله؟! وتجعل همك حول هذه الأشرطة؟! ثم هل أنت على درجة تستطيع أن تقول على هؤلاء: إنهم يفترون على الله الكذب؟ إن كنت عالماً جليلاً فقيهاً نبيلاً تربيت في حلقات العلم, وأخذت من العلم الشرعي بنصيب، وأذنت لك الأمة، فنعم من حقك أن تحكم على أحد أنه يفتري على الله الكذب, أما أن تصف أناساً هم بلا شك أقدر منك في مجال الشرعيات وأدرى منك في هذه الأمور بمثل هذه التهمة، فذلك كما يقول المثل العربي: رمتني بدائها وانسلت، فهذا هو العجب العجاب! وكتب آخر في جريدة عكاظ "باتجاه المطر"، وأشار إلى قضية مهمة, يقول: إن كثيراً منهم معزول, ويتحدث عن نفسه أنه وجد نفسه معزولاً حتى من أقرب الناس إليه, حتى زوجته وبنته وولده؛ حيث يتهمونه بالزندقة والمروق من الدين, لماذا؟ لأن هناك أشرطة تحدثت عن الفاسدين والمفسدين والعلمانيين والحداثيين وغيرهم, وهذا يؤكد فعلاً أن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع متدين, وقد سبق أن ذكرت في بعض المناسبات أن الإنسان المنحرف يجد نفسه معزولاً محصوراً حتى بين أقرب الناس إليه, وهذا مصداق ما كنت ذكرته, فهو يقول: إن الزوجة والتلاميذ والأولاد والجيران والأقارب والمعارف كلهم أصبحوا ينظرون إليه شزراً، وكأنه ملحد أو كأنه زنديق.
وسبب ذلك ما هو؟ يقول كاتب المقال: إن سبب ذلك صكوك النار التي منحها البعض له ولأمثاله من الذين يفكرون بشكل مغاير للسائد, يفكرون بطريقة مخالفة لما عليه المجتمع، ولذلك يزعم أن هؤلاء أعطوه صكاً إلى النار.
ولا شك أن هذا من تهويلهم ومبالغتهم وبعدهم عن الأمانة العلمية؛ فإن صكوك الجنة وصكوك النار هذه لدى النصارى, ونحن المسلمين هاتوا لنا رجلاً واحداً حكم عليه بأنه كافر, هاتوا لنا عالماً أو طالب علم أو داعية أو سمى شخصاً وقال: فلان كافر, أين هذا؟ كونك تقول: هذا العمل كفر, فهذا شيء, وكوني أحكم على الشخص أنه كافر، فهذا شيء آخر, أنا قد أقول مثلاً: إن هذا القول كفر, وأقول ذلك إذا كان القول كفراً، لكن لا يلزم أن أحكم على كل من قاله بأنه كافر؛ لأنه قد يكون قاله جاهلاً أو قد يكون تراجع عن ذلك وتاب منه, وهناك احتمالات كثيرة تمنعني من أن أصدر حكماً عليه شخصياً , لكن يمكنني أن أحكم على الفئة نفسه بذلك، وهم لا يميزون بين هذا وذاك.
وهو وغيره لا يدرون الفرق بينهما؛ ولذلك يتحاملون على طلبة العلم والدعاة والعلماء بمثل هذا الكلام الذي ذكرته, ولذلك يصيح مثل هذا الإنسان يقول: أنقذونا قبل أن تصل النار إلى رءوسنا.
ويكتب ويقول: لماذا يأتي المتحدث في شريط؟ لماذا لا يأتي في النور ويتكلم أمام الجميع؟! فأقول: سبحان الله! هل تركتم مجالاًَ لأحد يتحدث؟! لقد أمسكتم بخناق الصحف ووسائل الإعلام, فأصبحتم لا تأذنون غالباً إلا بالمادة التي تخدمكم، وتئدون وتحاربون كل صوت حر نزيه يفضح ما أنتم فيه أو يخالف ما أنتم فيه, فلا تنشرون من ذلك إلا النزر اليسير.
أما الصوت الذي يؤيدكم ويوافق ما أنتم عليه، فإنكم تلمعونه وتنشرونه, وإن كان ضعيفاً صححتموه، وبالغتم في نشره ونفختم فيه حتى يصبح ذا شأن, فلم تدعوا مجالاً لأحد ليتكلم، ولم يبق للدعاة إلى الله عز وجل إلا المسجد والمنبر والمنصة وما يتبع ذلك من هذا الشريط الذي يعبرون فيه عن الرأي الصحيح, ومع ذلك انزعجوا وصاروا يشنون مثل هذه الحملات التي أشرت إلى شيء منها.
وزعم الكاتب أن الزمن هو الوحيد القادر على فرز الجيد من الرديء من الأفكار, وهذا زعم غريب؛ فالزمن لا يأتي بفرز الجيد من الرديء! وهانحن بعد مرور مئات السنين بل آلاف السنين, نجد الجدل يحتدم بين نظريات فلسفية قيلت منذ قرون طويلة؛ فالزمن لا يحسم شيئاً, وكون الشيء وقع وتحقق في مجتمع الناس لا يصيره صحيحاً مشهوراً، وقد يقع أمر وينتشر بين الناس ويروج ويكون خطأً, ويكون هناك صواب مغمور, فليس الزمن وحده الكفيل -كما تزعم- أبداً.(57/13)
التعليق على مقال بعنوان: "يوميات كاسيت"
وأخيراً طالعتنا صحيفة الكويت بمقال بعنوان: يوميات كاسيت، ففي يوم السبت تكلمت عن شريط أحد العلماء المحدثين المعروفين, وعلق كاتب المقال بقوله: نتمنى من بعض علمائنا الكرام أن يبقوا في مجال تخصصهم وألا يزجوا بأنفسهم في بحار السياسة, وهم لا يحسنون السباحة فيها, حتى لا يغرقوا ويغرقوا شبابنا الحائر معهم.
ويقول: وقديماً قال فقيه ألمعيٌ: بين أصحابنا من أرجو بركته ولا أقبل شهادته, قلت: -والكلام لصاحب المقال- في أمور السياسة, أي لا يقبل شهادته في الأمور السياسية.
فيا عجباً! متى كان الفصل بين الدين والسياسة؟! ومنهج من هذا؟! هل عندنا علماء نرجو بركتهم, ونقبل عنهم الحلال والحرام، ونأخذ منهم الحديث والعلم, ولا نقبل كلامهم في أمور السياسة؟! وهل أمور السياسة بمعزل عن الدين؟! هل هناك سياسة وهناك دين وهما طرفان متنافران؟! أم أن السياسة والاقتصاد والاجتماع والفن والآداب والإعلام وكل أمور المجتمع يجب أن تخضع للإسلام؟ لا شك أن الجواب هو الثاني, ولا نعرف في دين الإسلام فرقاً بين شيء اسمه السياسة وشيء اسمه الدين, وما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس قضاياهم السياسية التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها, والتي تتعلق بمصالح الأمة العامة؟! هل تريد أن يبقى العالم محصوراً فقط في أحكام الذبائح والصيد والنسك والحيض والنفاس والوضوء والغسل ومسح الخفين ويترك قضايا الأمة لغيره, ممن لم يتذوقوا طعم العلم الشرعي؟! ولم يعرفوا ببلائهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل؟! ولا شهدت لهم الأمة بالجهاد في ميدان دعوتها وإعادتها إلى الطريق المستقيم؟! هل تريد هذا؟!! هيهات! ألا تدري أنك بكلامك هذا قد أسقطت مجموعة هائلة من فتاوى وبيانات هيئة كبار العلماء في هذه البلاد, وهي فتاوى وبيانات تتعلق بأمور سياسية بجميع المقاييس, وأسندت الأمر في هذه الفتاوى بعد أن أسقطتها عنهم إلى من تنوبهم أنت, وتقبل شهادتهم.
إنك تطالب باحترام التخصص كما هو ظاهر من عباراتك, وهذا إجمالاً ممكن ومعقول, لكن لننظر هل هذه القاعدة عامة لكل الناس؟! أم أنك مستثنىً من هذه القاعدة؟! ولك الحق في طرح أي موضوع بدون استثناء؟! ما بالك خضت في قضايا مشرقة وأخرى مغرّبة؟! فأنت مرة اقتصادي ماهر ومحلل في مسائل التنمية تكتب كما في بحث أو مقال: أوهام وأضغاث أحلام في ملحمة التنمية، وذلك في مجلة الاقتصاد والإدارة, وتكتب بحثاً بعنوان: التنمية وجهاً لوجه، وهو كتاب مطبوع في سلسلة إصدارات تهامة.
ومرة أخرى أنت خبير في الصناعة والتخطيط الصناعي تكتب بحثاً بعنوان: "الجبيل وينبع كيف ولماذا؟ " وهو موجود في وزارة التخطيط بالرياض, وتكتب بحثاً آخر بعنوان: "الصناعة في الخليج آفاق جديدة"، وهو عبارة عن محاضرة صغيرة ألقيتها في جمعية المهندسين البحرينية, ومرة تكتب في الصحة والخدمات الصحية, حيث نشرت لك مقالة بعنوان: نحو خدمة صحية أفضل، ومرة أنت خبير في السياسة والعلاقات الدولية حيث دراساتك -رسالة الماجستير والدكتوراه- ومن ذلك مقال نشر بعنوان: "نظرية العلاقات الدولية هانس جي ونقاده" وحتى إنك ذكرت في مقابلة في المجلة العربية في هذا الشهر: أن المصلحة الوطنية -وهذا مما يتعلق بالخبرة والسياسة الدولية- تقتضي أنك عندما تكون حليفاً لدولة ما أن تعتبر كل ما يدور بداخل هذه الدولة خيراً كان أو شراً من شئونها الداخلية، أي من حقك أن تعقد حلفاً مع دولة مهما كان فساد هذه الدولة الداخلي, ولا يعنيك شأنها الداخلي, بمعنى أنك حين قلت قصيدة تمجد فيها صمود العراق في وجه إيران, يوم كانت العراق تحارب إيران حسب تصريحك أنت في العدد نفسه: مصيب ولست بنادم على القصيدة، أي من حقك -مثلاً- أن تتجاهل جرائم صدام حسين مع المسلمين الأكراد والسنة في العراق, ومجازره البشعة ضد العلماء في بلده وضد الدعاة, واستئصاله لشأفتهم, وقضاءه المبرم عليهم, وأن تعتبر هذا أمراً داخلياً لا شأن لك به، مادامت مصلحتك الوطنية تقتضي أن تكون حليفاً له, هذا معنى كلامك ومضمون حديثك, وهو جزء مما تتحدث فيه عن العلاقات الدولية والخبرة السياسية! ومرة أخرى أنت مؤرخ تنقل في مجلة اليمامة العدد 684 ورقة عائلية من تاريخ الطبري, لتستنج منها أن عمر رضي الله عنه يدعو زوجته إلى تناول طعام الغداء مع ضيف جاء إلى عمر من أحد البلاد, وأن الذي منع المرأة من ذلك فرفضت القدوم أنها ساخطة على عمر , وإلا كانت جاءت تأكل مع الضيف, ولماذا هي ساخطة؟! سخطت لأن عمر لم يشتر لها ملابس جميلة, كملابس فلانة وفلانة من نظيراتها, ثم عقبت على مقالك هذا بالهجوم على السادة الكرام الذين يتصورون أن المرأة مخلوق من الدرجة الثانية, وربما من الدرجة العاشرة، ولم تبين بالضبط من تعني بالسادة الكرام, فربما نكون نحن جميعاً من أولئك السادة الكرام! ومرة أنت مفسر ومحدث تنقل عن الطبري في تفسيره أقوالاً منكرة غريبة, وآثاراً مرفوضة, وتتجاهل كلام ابن كثير في نكارتها، وتتجاهل العقل الذي يرفضها وينكرها, وتتجاهل أن إسنادها مظلم كالليل، وتُمَكِّن لهذه الروايات لتستدل على بعض نظراتك التي تتعلق بالأوضاع السياسية في منطقة الخليج وما حولها! ومرة أنت باحث اجتماعي كما في كتابتك: "قضية القضايا وبقية القضايا"، حيث تحدثت عن التغيير الاجتماعي، وكيف يتم هذا التغيير، وأنه من خلال التغيير الاجتماعي يمكن أن تحسم قضايا كثيرة في المجتمع, كما حُسمت أمور سابقة, كقضية اللاسلكي -مثلاً- أو تعليم المرأة أو عمل المرأة أو قضية التلفاز أو غيرها, وأنه يجب أن يتم الحوار حول القضايا المفتوحة في جو هادئ, بعيداً عن التشنج والانفعال واستعداء السلطة على الرأي الآخر, وبعيداً عن الاتهامات التي تلقى جزافاً وبلا مبالاة, ولا أدري ما دمت تحذر من الاستعداء -استعداء السلطة على الرأي الآخر- ماذا كنت تعني بالضبط بقولك في يوميات كاسيت: أيتصور بعضنا جهاز الكاسيت معركة باردة؟! أي أن الجواب عندك أنها معركة ساخنة، فخذوا حذركم.
ومرة أخرى أنت كاتب أصولي في أصول الفقه, تكتب عن آداب الاجتهاد والاختلاف في الإسلام, كما في اليمامة، وتنقل عن ابن القيم رحمه الله، والإمام مالك رحمه الله، والإمام الشاطبي رحمه الله, وقد عددت في هذا الكلام نقولاً كثيرة, بل إن الكلام كله نقول، وختمت القول بقولك: ترى متى يتعلم المسلمون المعاصرون من أسلافهم العظام شيئاً من أدب الاجتهاد وأدب الاختلاف.
ونحن نوافق على أنه يجب أن نتعلم من أسلافنا كل شيء، وليس فقط أدب الاجتهاد والاختلاف, لكن لا أدري أين ذهبت هذه الآداب في مقالة الشريط؟! حيث برزت الاتهامات بالكذب والاختلاف, فظهر أنك تتهم بعض المتحدثين بأن هناك أشياء وقصصاً يروونها لا وجود لها إلا في خيالهم, ومعنى ذلك أنهم تخيلوا شيئاً واختلقوه، ورسموا منه قصة موضوعة وسردوا حكايات لا وجود لها إلا في خيالهم, ولا أدري لماذا التدخل في توزيع التخصصات والاستغناء عن خدمات العلماء, إنك تلمح بأن بعض المتحدثين في تلك الأشرطة أنهم كإذاعة بغداد، أو أنهم أخذوا عنها بعض ما يتكلمون فيه عن مخاطر وجود المرأة الأجنبية مجندة كانت أو غير مجندة على هذه البلاد وأخلاقياتها, وأن همهم إثارة البسطاء واستفزازهم بقصص خيالية, فهذا الكلام يصدق على الممثلين، ويصدق على الفنانين، ويصدق على المشتغلين بالإعلام، ويصدق على بعض الأدباء والشعراء الذين همهم إثارة البسطاء واستفزازهم, أما العلماء فإنهم يتكلمون عن حقائق ووقائع، وإن كانت لا تعجبك على كل حال, أين الأسلوب العلمي؟! أين الهدوء الذي تدعو إليه؟!.
وقد تحركت عاصفة جديدة في هذا الكلام، ولكنها عاصفة من نوع آخر غير العواصف التي تعودناها منك، في جريدة: الشرق الأوسط.
ومرة أخرى تتحول إلى مفتٍ يفتي في الجليل والحقير, ففي مقابلة مع عكاظ يفتي بالموسيقى، ويفتي بكشف المرأة لوجهها, ويقول: هاتوا لي دليلاً من الكتاب والسنة على تحريم قيادة المرأة للسيارة, والكلام المطروح حتى الآن غير مقنع عن هذا الموضوع.
وقد تجرأت أكثر وأكثر, حين كتبت في جريدة المسلمون في عدد هذا الأسبوع عنوان: "حد القذف: هل يشترط التصريح أم يكفي فيه اللتميح؟ " وهذا تدخل في أعمال القضاة, تحدث عن القذف وأنه حرام في الكتاب والسنة, وساق الأدلة على تحريمها، وأنا ألخص لكم الفائدة حتى تنتفعوا بها, ثم ذكر أن ألفاظه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صريح, كناية, وتعريض.
فما بقي لنا -بارك الله فيك وأصلحك الله- إذا وصلت لهذه القضية؟! ما بقي لنا؟! السياسية: لا تتكلموا فيها, والاقتصاد: ليس من شئونكم, والصناعة والصحة والإعلام, والآن جئت في تخصصنا أيضاً، في موضع القذف، وفي قضايا فقهية, تتحدث عن الأدلة، وتنقل وتقول: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وساق خلاف العلماء حول الكنايات والتعريض, كقول القائل لامرأة: يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة! ونقل مذهب الأحناف من كتاب سماه الميسور للسرخسي، هكذا في المطبوع، ويمكن أنه خطأ مطبعي أو أنه ليس من كاتب المقال, ولكن نشرت باسمه, ولا أستطيع أن أتكلم إلا بعد التثبت, قد يحصل شيء أو اعتذار عن هذا, على أي حال لا أعرف كتاباً بهذا الاسم, وكتاب المبسوط للسرخسي هو المقصود على كل حال.
ونقل من كتاب آخر اسمه: الفقه على المذاهب الأربعة، وهذا الكتاب يقول بعض علمائنا المعاصرين: إنه يجب إحراقه؛ لأنه كتاب غير موثق ولا يعتمد, ومع ذلك نقل مذاهب الفقهاء من هذا الكتاب, وعقب بقوله: فأعجب من نفر يدعون الغيرة على الأعراض، وهم يستخدمون ألفاظاً يستحق قائلها الحد أو التعزير، ومعروف من يقصد بذلك, ولا أدري بالضبط هل سمع هو أو سمع غيره شخصاً معيناً يرمي أحداً أو يقذفه بالفاحشة.
أصل القضية أن الكلام في حد القذف يفتقر إلى أن يكون أمامنا شخص قاذف فلان بن فلان قذف, بعد ذلك تبحث هل قذف بعبارة صريحة أم كناية أو تعريض، وهل يستحق الحد أو التعزير، أو هو مخطئ أم مصيب، هذا موضوع آخر, لكن الآن ليس أمامنا شخص(57/14)
الأسئلة(57/15)
التسجيلات الإسلامية والاهتمام بالناشئين
السؤال
من المآخذ على محلات التسجيل عدم الاهتمام بالناشئ لتوفير الشريط الملائم الخالي من الشوائب، والذي ينمي العقيدة في نفوسهم, فجل الأشرطة الموجودة لا تفي بالغرض، لأنها مستوردة من بعض الدول التي لا تراعي لا سلامة العقيدة ولا تراعي عادات هذا البلد؟
الجواب
هذا صحيح, وهي من أهم المطالب التي يطالب بها الإخوة أصحاب التسجيلات, أن يعملوا على إيجاد إصدارات خاصة بالطفل، تراعي السن وتراعي صفاء العقيدة.(57/16)
حكم استخدام الشريط كوسيلة دعوية
السؤال
استعمال الشريط الإسلامي، هناك من يدعي أنه لا يصلح ولا يوجد دليل لذلك؟
الجواب
في الواقع أنه لم يقل أحد من أهل العلم بذلك, بل الأمة كلها مجمعة على جواز استخدامه والانتفاع به، بل هو من أهم الوسائل وأعظم طرق التوثيق؛ فإن الشريط أكثر توثيقاً من الكتاب, من حيث أن الشريط من صوت المتحدث, وقد يختلق كتاب وينسب إلى شخص, لكن الشريط بصوت المتحدث بحيث أنه يسلم من الاختلاق والتزوير.(57/17)
حكم تحويل أشرطة الأغاني إلى مادة إسلامية
السؤال
كثير من الشباب يعودون إلى الله، لكن عندهم أشرطة غناء، فيتحيرون في التصرف فيها, وقد تكون كثيرة تصل إلى المائتين أحياناً, هل ترون مسح الغناء وتبديله بمادة إسلامية؟
الجواب
نعم, وهناك محلات -كما قلت- تقوم مجاناً بهذا.(57/18)
حكم استخدام الأشياء الفنية في الشريط الإسلامي
السؤال
كثير من الناس يرى أن استخدام الأشياء الفنية تلاعب بالشريط الإسلامي, كاستخدام الصدى أو استخدام أصوات مستعارة كأصوات الحروب أو سيارات الإسعاف أو الطيور أو المياه مما يناسب الحدث؟!
الجواب
كل شيء في وقته وفي مناسبته, هو مناسب في مجال، وغير مناسب في مجال آخر, كونك تأتي في درس علمي -مثلاً- أو محاضرة جادة، وتطرح مثل هذا، فهذا لا يناسب, لكن إذا كان موضوع الشريط يناسب، وإن كان الشريط يخص شخصاً معيناً فلا بد من استئذانه في هذا أيضاً.(57/19)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
ما حكم الأناشيد الإسلامية التي تنشر في محلات بيع الأشرطة؟
الجواب
سبق أن بينت رأيي في الأناشيد, وأنها تجوز بثلاثة قيود: 1- أن تكون سالمة من المعاني الرديئة, سواء المعاني الشركية أم غيرها.
2- أن تكون سالمة من الدفوف والطبول ونحوها.
3- ألا تغلب على الإنسان وتكون هي جل همه.(57/20)
حقوق الملكية للأشرطة
السؤال
بعض المحلات تكتب حقوق الطبع محفوظة على الأشرطة؟ فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
أقول في نظري وهو نظر قاصر لا شك: إنه ينبغي التفريق بين نوعين من الأشرطة، فهناك نوع قام المحل بإعداده وإنتاجه، وتعب فيه وضحى فيه بأموال وأوقات، واستقدم -مثلاً- مشايخ ودعاة، وقام بإعداده حيث أصبح إصداراً، فهذا من حقه أن يملك شيئاً يجعله يستمر في هذا الطريق.
وهناك نوع آخر من الأشرطة سجله كما سجله غيره , فهذا ليس من حقه بحال من الأحوال أن يفرض عليه حقوقاً.(57/21)
ما لا يصلح للنشر من الأشرطة
السؤال
ظاهرة وجود أشرطة غير صالحة للنشر؟
الجواب
هذا صحيح، وقد تكلمت عنه, وينبغي أن يعالج على كافة المستويات.(57/22)
كيفية استخدام الشريط في الدعوة
السؤال
كيف أجعل الشريط الإسلامي وسيلة دعوة؟
الجواب
عن طريق الانتقاء والنشر, نحن بحاجة إلى أن نتضافر لنشر الشريط كلنا, كل واحد منا -مثلاً- في حيّه، يتولى الحي بالنيابة عن الجميع يقوم بنشر الشريط في الحي, وآخر في المدرسة يقوم بنشره, وثالث وسط العائلة التي ينتسب إليها, والرابع في مسجده, وخامس وسادس بحيث تتضافر جميعاً في نقل الشريط الإسلامي المفيد النافع حتى يسمعه كل إنسان، ونحن نثق بالناس أنهم يسمعون، فإذا سمعوا شيئاً مفيداً تقبلوه وأخذوه, وإن سمعوا شيئاً فيه خطأ ردوه.(57/23)
حفظ الأشرطة
السؤال
أنا شاب أحفظ الأشرطة التي تعجبني, فما رأيك في فعلي؟
الجواب
إن كنت تقصد بحفظها أنك تحفظها عن ظهر قلب, فهذا شيء جيد، أعطاك الله ذاكرة بهذا الأمر, أما أنك تقصد بحفظها في أدراج ودواليب فهو أيضاً أمر آخر حسن, وحتى الأشرطة كلها ما دامت أشرطة إسلامية فحفظها حسن.(57/24)
توزيع الأشرطة على الشباب
السؤال
بمناسبة قرب عطلة الربيع أرجو حث الإخوة على تكثيف توزيع الأشرطة في البر بين الشباب, خاصة وأن معظمهم لديه فراغ كبير فهو يستمع، وبإذن الله يحد ذلك من خطر زلاتهم؟
الجواب
هذا مطلب جيد, وكان هناك معي رقعة أخرى تطلب نحو ذلك, وينبغي أن يكون هناك حرص على جمع التبرعات أحياناً لشراء كميات كبيرة من الأشرطة وتوزيعها على الشباب وعلى غيرهم, وهذا -كما هو مجرب- من أعظم وسائل الدعوة، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء.(57/25)
حكم صرف الزكاة في نسخ الأشرطة
السؤال
ما رأيكم فيمن يجمع بعض الزكوات وينسخ منها أشرطة؟
الجواب
لا أرى ذلك, لا أرى أن الزكاة تصرف في نسخ الأشرطة وبيعها.(57/26)
مقترحات لاستخدام الشريط كوسيلة دعوية
السؤال
ما هي الأمور التي ينصح الشباب بتنفيذها بشأن الدعوة عن طريق الشريط؟
الجواب
أولاً: اختيار الشريط, لأن كثيراً من الأشرطة تكون مناسبة لفئة معينة أو طبقة معينة, فيحتاج أولا ً: أن يختار الشريط المناسب.
ثانياً: أن ينسخ من هذا الشريط كميات كبيرة.
ثالثاً: أن يتضافر جهد الشباب في هذا المجال, مثل جمع التبرعات من جهة, مثل جمع الأشرطة التي فيها أغانٍ وتحويلها إلى أشرطة مفيدة، واحتساب ذلك عند الله عز وجل.(57/27)
عوائق في طريق الأشرطة الإسلامية
السؤال
هناك نظام أو أنظمة تنص على عدم بيع التسجيلات والأشرطة إلا في محلات معينة، فما هو تعليقكم على ذلك؟
الجواب
هذه فعلاً من المشكلات, الآن نحن ندخل أماكن كثيرة في كثير من البلاد، فنجد أن البقالة تبيع أشرطة الأغاني وتبيع أشرطة الفيديو, ورأيت هذا بنفسي في أماكن كثيرة, فهناك بقالات كثيرة أو ما يسمونه بالسوبر ماركت, وتبيع جرائد ومجلات وبعض الكتيبات, لكن الشريط الإسلامي يلاحظ أن هناك حرباً عليه, حتى إن بعضهم يلاحقون من يبيعه ملاحقة لا هوادة فيها, وكأنهم يلاحقون مجرماً من المجرمين, وقد رأيتهم بعيني في بعض الأماكن بطريقة غير صحيحة, ويمنعون ذلك ويتابعون من يبيع مثل هذه الأشياء.
وفي الواقع إما أن يطبق النظام على الجميع، والمساواة في هذا الأمر على ما فيها عدالة, وإما أن يكون من حق صاحب أي محل أن يبيع الشريط, ما دام الشريط مرخصاً ومأذوناً فيه؛ كما أن الآخر يبيع أغاني, وكما أن الثالث يبيع جرائد ومجلات، والرابع والخامس.
ولا شك أن هذه الأشياء أولى بأن نتحمس ونسعى إلى الترخيص والنشر فيها من غيرها, وينبغي إذا رأينا أو لاحظنا من أحد القائمين على الأمر التقصير أن نكلمه، فإن استجاب وإلا كلمنا من فوقه، ورفعنا الأمر؛ لأن بعض هؤلاء قد يستغلون بعض الفرص للحيلولة دون انتشار الشريط, وقد يحققون أهواء في نفوسهم وأشياء في ضمائرهم وقلوبهم الله تعالى أعلم بها.
ولا شك أن المؤمن الذي يرغب في نشر الخير, يسره انتشار الشريط والله الذي لا إله إلا هو، بغض النظر عنمن يتكلم، وبغض النظر عن الموضوع, مادام الشريط يتكلم في قضية مفيدة للناس فلينتشر, وإن كان فيه خطأ, فالخطأ يعدل ويصحح، والناس على مستوى أن يفهموا ويدركوا ويميزوا، وهذا أمر جربته بنفسي تأتيني من الإخوة رسائل كثيرة تدل على النضج والفهم والوعي والقدرة على الإدراك، وأنهم يستطيعون أن يميزوا بين الخطأ والصواب، وأن يضبطوا العبارة، وأن يستدركوا على المتحدث الذي قد يأخذه الحماس أو الاندفاع أو السرعة في الحديث، فيخفى عليه بعض ذلك.
وفي نهاية هذا اللقاء الطيب المبارك أدعو الله تعالى وأتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا, وهو الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد, وهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم, الذي عودنا كل خير أن يعمنا جميعاً برحمته وتوفيقه وهداه.
اللهم ارحمنا برحمتك وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف الغنى, اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, اللهم اهد ضال المسلمين، وردهم إليك رداً جميلاً يا أرحم الراحمين, اللهم اهدهم أجمعين, اللهم اهدنا ولا تضلنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، ووفقنا لما تحب وترضى من الاعتقاد والقول والعمل يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك أوابين، بك مستعينين، عليك متوكلين يا أرحم الراحمين.
اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم عاف مبتلاهم، اللهم صحح أبدانهم، اللهم نور عقولهم، اللهم أصلح قلوبهم، اللهم كثر أموالهم، اللهم حسن أخلاقهم، اللهم اهدهم لما تحبه وترضى يا رب العالمين.
اللهم وفق شبابنا وفتياتنا إلى ما تحب وترضى، اللهم أنجحهم في دراستهم يا حي يا قيوم, اللهم وفقهم في اختباراتهم وامتحاناتهم, اللهم أعنهم، اللهم أصلحهم، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اجعلهم قرة أعين لآبائهم وأمهاتهم يا حي يا قيوم، واجعلهم قرة عين للإسلام والمسلمين في كل مكان يا حي يا قيوم.
اللهم اهدنا إليك، اللهم لا تفضحنا في الأرض ولا يوم العرض لا إله إلا أنت, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.(57/28)
الأسماء والكنى والألقاب (الكنى)
تكلم الشيخ في هذا الدرس -تكملة للدرس الماضي- عن الكنية وأحكامها، فقد استهل الدرس بتعريف الكنية، مبيناً الكنى المكروهة التي كرهها الشرع، وذكر أسماء من كناهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين حكم التكني بأبي القاسم، وذكر اختلاف العلماء، ثم رجح أن ذلك جائز بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر كنى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ختم الدرس بذكر بعض الأحكام المتعلقة بالكنية.(58/1)
تعليقات على موضوع (الأسماء)
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: هذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة الدروس العلمية العامة، تنعقد في ليلة الإثنين، الثامن من شهر شعبان لعام (1410 هـ) .
وفي بداية هذه الحلقة، أود أن أؤكد على بعض التعليقات التي لها تعلق بموضوع الدرس الماضي، وقد تحدثت في الدرس الماضي عن موضوع الأسماء، وبينت معنى الاسم، وما يحمد من الأسماء وما يذم منها، ثم تكلمت عن بعض أحكامها، وأشير -الآن- إلى بعض التعليقات الخفيفة.(58/2)
أخطاء وبدع في موضوع التسمية
أسردها باختصار: نسبة المجهول إلى من رباه: فمن الأخطاء أن بعض الناس ينسبون المجهول إلى من رباه، فإذا وجدوا رجلاً منبوذاً، أو فتاة منبوذة، أي مجهول الأبوين، ولا يدرى من أهله حيث أنهم وجدوه في مسجد -مثلاً- أو في غيره، أو أخذوه من الجهات الرسمية، فإنهم ينسبونه إليهم، فيكون اسمه ابن فلان، وفلان أبوه وفلانة أمه، وأحياناً يسجل هذا في الأوراق الرسمية، عن طريق الجهل من الأبوين، وخاصة الأب، فتعرف البنت بأنها ابنة فلان، أو يعرف الولد بأنه ولد فلان، وهو ليس أبوه الحقيقي، وإنما هو الذي رباه، وقد يكون أباً له من الرضاعة، وهذا لا يجوز، لأن الله عز وجل يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] فإذا لم نعلم من أبوه، فإننا نسميه باسم عام كعبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الكريم، وما أشبه ذلك، دون أن ينسب إلى شخص معين، لأن هذه النسبة لا تجوز، وهي خلاف ما ذكر الله عز وجل في كتابه، وأمر به: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] أي: فلا تنسبوهم إلى أحد منكم، فهذا من الأخطاء التي تقع كثيراً.
وقد أبطل الإسلام نظام التبني الذي كان موجوداً في الجاهلية، فقد كانوا في الجاهلية إذا وجد رجل رجلاً، فإنه ينسبه إلى نفسه، كما كان زيد بن حارثة يسمى في الجاهلية زيد بن محمد، لأنه أسر في معركة فكان رقيقاً عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه يبحث عنه، ويبكي الليل والنهار على ولده، حتى كان يقول في ضمن كلامه وشعره، كان يقول: بكيت على زيد ولم أدرِ ما فعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري وإني لسائل أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرياح هيَّجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل ثم وجده عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما جاءوا إليه، خيره الرسول عليه الصلاة والسلام، إن شاء جلس عنده، وإن شاء لحق بأبيه وعمه، فقال: ما أنا بالذي يختار عليك أحداً، وهذا قبل النبوة.
وذلك لما رأى من حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرج به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش، وقال: {يا معشر قريش! أشهدكم أن هذا ابني أرثه ويرثني} فكان يسمى في الجاهلية زيد بن محمد، ثم جاء الإسلام: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وأبطل الإسلام نظام التبني وألغاه بالكلية.
ومن الأخطاء التي تقع في التسميات: أن بعضهم ينسبون الولد إلى غير أبيه لسبب أو لآخر، فمن ذلك مثلاً: أن بعضهم قد يخترعون اسماً آخر للولد، فقد يسمي الولد نفسه باسم آخر غير اسمه مع اسمه الأول، فيقول: أنا فلان بن فلان، إضافة إلى اسمه الأصلي، فنسب نفسه إلى غير أبيه، وهذا لا يجوز.
وأحياناً إذا ولد لرجل ولا، سماه باسم مركب كامل، كما يروى في الطرائف والنوادر يقال: إن رجلاً ولد له ولد، فقيل له: ماذا نسميه؟ قال: سموه عمر بن عبد العزيز، فإنه بلغني أنه كان رجلاً صالحاً، وهذا موجود، ويذكر لي أحد الشباب؛ أن رجلاً كان في هذه البلاد، فأحسن إليه رجل له اسم معين، لنفترض أن اسمه عبد الرحمن المحسن ما دام أنه أحسن، فتوفي هذا الرجل، ثم وُلد للآخر ولد، فلا زال يذكر إحسان صاحبه القديم، فلما جاءه ولد سماه عبد الرحمن المحسن، مع أن (أل) هذه عندنا بمعنى (ابن) أو تقوم مقام (آل) فلا ينبغي أن يسمي ولده باسم كامل؛ لأنه يترتب على هذا أن يكون نسبه إلى غير أبيه.
وأحياناً قد يكون الولد قد تربى عند أخواله، إما لأن أمه مطلقة، أو ما أشبه ذلك، فينسب إلى أخواله، وهو ابن ابنتهم، ويشتهر هذا حتى لا يعرف إلا به حتى عند أهله، ولا شك أن ابن البنت ليس ابناً لجده من الأم، كما قال الأول: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فلا يجوز أن ينسب ابن البنت إلى جده من أمه، وإن كان تربى عندهم، أو رضع عندهم، أو ما أشبه ذلك.
وأحياناً الأجانب ينسبون الزوجة إلى زوجها، وهذا تقليد غربي عند الكفار -النصارى- لأنهم كانوا لا يرون للمرأة قيمة، وكانوا يحتقرون المرأة ويزدرونها، ولا يرون لها قيمة ولا شخصية، ولذلك كانوا ينسبونها إلى زوجها، فإذا تزوجت نسبت إلى زوجها أياً كان، وألحقت بالعائلة التي منها الزوج، وهذا تقليد غربي سرى إلى المسلمين، حتى نجد كثيراً من أمصار المسلمين، سواء من علية القوم أم من سَقَطهم، إذا تزوج الرجل امرأة فإنها تنسب إليه، وكثيراً ما تقرءون هذا في الصحف والمجلات وغيرها، فينسبون المرأة لزوجها وهذا لا يجوز؛ لأن الله عز وجل يقول كما سبق: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] .
حذفة كلمة ابن من الاسم: ومن الأخطاء التي تقع في موضوع التسمية: أن بعضهم يحذفون كلمة (ابن) من الاسم، وهذا كثير جداً، فبدلاً من أن يقول: محمد بن عبد الله، يقول: محمد عبد الله، محمد صالح علي إبراهيم، أحمد محمد، وهذه مشكلة من الناحية اللغوية ومن الناحية الشرعية، وأنا لا أستطيع أن أقول: إن هذا العمل محرم، وسبق أن المجامع اللغوية درست هذا الأمر، ولم تخرج فيه بنتيجة واضحة وحاسمة، ولكن ليس هناك شك أن الشرع كان على ما هو دارج ومعروف في لغة العرب وفي القرآن والسنة، كانت تسمى الأسماء بغير هذا، كما في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] وكذلك في مواضع كثيرة، وفي السنة النبوية من ذلك شيء كثير.
فهذا هو الذي كان معروفاً عند العرب، وهو الذي جاءت به السنة، وجاء به القرآن الكريم، وهو أن الإنسان يقال له: ابن فلان، محمد بن علي مثلاً، وليس محمد علي، وحذف (ابن) هنا يُوجد لبساً، لأنه قد يوهم الناس بأن محمداً هو علي، فعندما تقول: محمد علي، فقد يوهم الناس بأن له اسمان مثلاً محمد، وعلي، والواقع أن محمداً اسمه، وعلياً اسم أبيه.
فحذف (ابن) هذه -أيضاً- من العادات الأجنبية، وعادة غربية، كما ذكرت دراسة نشرت في المجلة العربية، ومن قبل نشرت في مجلة العرب، وأذكر أنهم ذكروا أن هذه العادة أو هذه الطريقة في النسب، موجودة عند الغربيين، وسرت إلى المسلمين من أعدائهم، فينبغي التعود والتعويد على أن يذكر (ابن) في الاسم فيقال محمد بن عبد الله، وما أشبه ذلك.
وأيضاً من الأخطاء التي نقع فيها خاصة في هذه البلاد: هي إضافة كلمة (أل) في الإسم فتجد مثلاً: اسم فلان محمد العبد الله أو العبد الرحمن، و (أل) فيما يبدو لي أنها مخففة من (آل) من آل عبد الله، أو آل عبد الرحمن، لكنها أحياناً توقع في لبس شديد، خاصة في هذين الاسمين: عبد الله وعبد الرحمن؛ لأنك إذا قلت: العبد الله أو العبد الرحمن قد يوهم -أيضاً- أن العبد هو الله، أو العبد هو الرحمن، وهذا قطعاً ليس مقصوداً لكنه يوهم، وفيه سوء أدب مع اسم الله تعالى، ولذلك ينبغي اتقاء ذلك، وكثيراً ما نجد في اللوحات واللافتات، التي تعلق على الدكاكين والأسواق وغيرها، بهذه الصورة العبد الله العبد الرحمن، وهذا أيضاً من الأشياء التي ينبغي أن تتقى، فيقال: ابن عبد الله، أو آل عبد الرحمن.
بعض العادات البدعية في التسمية: ومن الطرائف المنكرة في موضوع التسمية؛ أن بعض البلاد وخاصة في مصر في الصعيد -عندهم عادة في التسمية غريبة، وهي أنه إذا ولد الولد عندهم، فإنهم يوقدون سبع شمعات، ويسمون كل شمعة باسم، الشمعة الأولى -مثلاً- اسمها محمد، والثانية علي، والثالثة: صالح، والرابعة: إبراهيم، والخامسة: أحمد، والسادسة: خالد، والسابعة: سليمان -فرضاً- ثم ينتظرون حتى تطفأ جميع الشمعات، فينظرون آخر شمعة انطفأت، فيسمون الولد باسم الشمعة هذه، فإذا كانت آخر شمعة انطفأت هي التي أطلقوا عليها اسم أحمد فإنهم يسموا الولد باسم أحمد، وهم بذلك يتفاءلون بأنه سوف يطول عمره كما طال عمر تلك الشمعة فلم تنطفئ.
وهذه بدعة لا إشكال فيها، وهي من الخرافات التي جاء الدين بالقضاء عليها والنهي عنها.
وكذلك من البدع الموجودة في عدد من الأمصار الإسلامية: أنهم يجعلون للرجل أو للمرأة اسمين، أحدهما ظاهر والآخر خفي، ويعتقدون بذلك معتقدات، فبعضهم يظنون أن هذا ينجيه من المرض، وبعضهم يقول: إنه يقيه من العين، وبعضهم يقول: إنه يقيه من الجن، وكأنهم يعتقدون بوجود لبس عند الجن أو عند العائن فلا يعرف ماذا يعين، والجني لا يعرف ماذا يصيب؛ لأن الرجل له اسمان، اسم ظاهر معلن ينادى به واسم خفي.
وكذلك أحياناً يسمون الذكر باسم الأنثى، فمثلاً بعض الآباء -وهذا موجود عندنا في بعض البيئات، خاصة التي يغلب عليها الجهل- كلما ولد له ولد ذكر مات، فأحياناً يولد له ولد ذكر، فيسميه باسم أنثى، بل يسميه باسم: بنية، فيكون اسمه: بنية هكذا، وهذا الأب يفعل ذلك من أجل أنه لا يموت؛ لأنه تعود أنه كلما جاءه ذكر مات، والإناث يعشن لا يمتن، فسمى الولد باسم أنثى حتى يعيش، وهذه مغالطة صريحة؛ لأن الأمور كلها أقدار بيد الجبار جل وعلا، والاسم لا يقدم ولا يؤخر في الأمر شيئاً، والمقدر سيكون والمكتوب سيجري، سواء سميته أم لم تسمه.
وكذلك بعضهم -وهذه عادة يهودية- لكنها انتشرت عند بعض المسلمين- يغيرون اسم المريض، فإذا كان اسم المريض أحمد ثم مرض، ففي أثناء مرضه يغيرون اسمه إلى صالح أو علي، من أجل أن لا يموت، لأنهم يقولون: قد يكون ملك الموت مكلف بقبض روح أحمد، فإذا غير اسمه لم يقبضه، هذا -ولله الحمد- نحن نضحك منه؛ لأنه أمر بالغ في الجهل مبلغاً عظيماً، لكنه موجود، وهي عادة في الأصل يهودية ثم انتقلت وسرت عدواها إلى بعض البيئات الإسلامية، التي يكون فيها أقليات أو طوائف يهودية، ولا يبعد هذا عن اليهود، بالنسبة لهم فإنه ليس غريباً، لأن اليهود إذا كانوا نسبوا ل(58/3)
أسماء مذمومة تسبق الإشارة إليها
أولاً: هناك نوعان من الأسماء المذمومة، لم تسبق الإشارة إليه فيما مضي، على رغم اشتهارها وانتشارها، وهي: 1- الأسماء الأجنبية: النوع الأول: الأسماء الأجنبية، كأسماء اليهود -مثلاً- أو أسماء النصارى، أو الشيوعيين، أو الكفار على مختلف طوائفهم وأصنافهم، فإن من المعلوم أن لكل طائفة ولكل أمة ولكل ملة أسماء، فاليهود مثلاً يتميزون بأسماء مثل: (ديفيد) و (باروخ) و (إيلي) و (عزرا) و (ناحوم) وما أشبه ذلك من الأسماء اليهودية، وكذلك النصارى لهم أسماء يتميزون بها مثل: (جورج) و (ميشيل) و (بطرس) و (بولس) و (يوحنا) وغيرها من الأسماء النصرانية المعروفة التي انتشرت عند النصارى سواءً من النصارى، العرب أم من النصارى غير العرب، فهذه الأسماء لا يجوز أن يسمى بها أحد من المسلمين قط.
ومثلها الأسماء التي عُرفت بأشخاص من أئمة الكفر كالشيوعيين مثل: (لينين) أو (ماركس) أو (إنجلز) أو غيرها، فهذه الأسماء فضلاً عن أنها أجنبية هي أسماء لأناس من أئمة الكفر، فلا يجوز لمسلم أن يسمي ولده بمثل هذه الأسماء؛ لأن هذا من باب التشبه بالكفار، ومن بابٍ آخر فهو فألٌ سيئ، وشؤمٌ على من تسمى بها، فلا يجوز لأحد أن يسمي بها.
ومما ينتشر في مجتمعنا تسمية البنات بالأسماء الأجنبية، التي لا هي معروفة بلغة العرب، ولا هي أسماء تاريخية ولا شرعية، ولا موجودة أصلاً في مجتمعنا، وإنما استوردت من الكفار معلبة وأطلقت على بعض البريئات فكانت شؤماً عليهن وعلى من سماهن، كما نجد -مثلاً- كثيراً من الناس يسمي ابنته: (يارا) ، فهذا الاسم ليس له معنى في اللغة العربية وهو اسم أجنبي، فلا يجوز تسمية أحد من الذكور ولا من الإناث بمثل هذه الأسماء، ومثله اسم (ريانا) وأحياناً تجد فتاة مسلمة تسمى (فكتوريا) ، وهذه كلها أسماء لنساء من أهل الكتاب، أو أحياناً من الفراعنة، كما نجد بعضهم يسمى (كليوباترا) وفيما أحسب وأعتقد أن هذا اسم فرعوني.
فعلى أية حال، الأسماء الأجنبية سواء كانت من أسماء اليهود، أم من أسماء النصارى، أو الشيوعيين، أو الوثنيين من أعداء الدين، فإنه يحرم التسمي بها لوجوه: أولاً: إن هذا تشبه، والتشبه حرام أو أقل أحواله أنه حرام.
ثانياً: إن هذا فأل سيء فيمن سمى بذلك أو من سمي به.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعجبه الفأل الحسن.(58/4)
التسمي بأسماء آيات القرآن أو سوره
النوع الثاني من الأسماء التي ينهى عن التسمي بها.
أن يتسمى بعض الناس بأسماء آيات أو سور القرآن الكريم، أو بعض الأذكار.
فقد رأيت مرةً رجلاً اسمه: (سبحان الله) ومثل هذا مدعاة إلى أن يهان الذكر بسبب هذا الرجل، فإذا سبه أحد أو شتمه أو تكلم فيه، فإنه يأتي بلفظ: سبحان الله في هذا الموضع، وهذا يتنافى مع الأدب الواجب مع الله تعالى وآياته ورسله وكتابه، ومع الذكر أياً كان الذكر.
فمثلاً: التسمي بسبحان الله، أو بالحمد لله، أو بأمر الله، أو بأسماء سور القرآن، مثل (طسم) أو (يس) أو بعضهم طه، وما أشبه ذلك، وقد ظن بعض العوام أن هذه أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا وإن ذكره بعض المصنفين الذين بالغوا في حشد أسماء للرسول عليه الصلاة والسلام، أوصلها بعضهم إلى مئات، إلا أنه لا دليل عليها، ولهذا قال الإمام ابن القيم: إن هذا لا يعرف بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولا أثر موصول، ولا مقطوع، أن مثل هذه أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: (الم) (وحم) (والر) وما أشبه ذلك، فهي حروف مقطعة في أوائل السور تكلم المفسرون حولها.
المقصود أنها ليست أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، والتسمي بها مدعاة لتعرضها أيضاً للإهانة والسب والشتم وسوء الأدب -كما سلف- فلا ينبغي التسمي بمثل هذه الأسماء، ولذلك ورد عن الإمام مالك رحمه الله نص على كراهية التسمي بـ (يس) ، فهذا هو الأمر الأول، وهو يتعلق بإضافة قسمين من الأسماء المكروهة الممنوعة.(58/5)
مفهوم الكنية وأصل اشتقاقها
أما ما يختص بهذا الدرس فإنه يتعلق بالكنى، والكنى لها شأن عجيب، وهي من الموضوعات الممتعة والطريفة، وفيها أشياء مفيدة.
فالكنية مأخوذة من الكناية، وهي: التعريض بالشيء دون التصريح باسمه، فعادة الناس أنهم قد يعرضون بالشيء، ولا يصرحون بذكر اسمه، فهذا يسمى كناية أو كنية، فالكنية مشتقة من الكناية.
والكنية معروفة عند العرب، حتى كان العرب يكنون الصبي من يوم أن يولد، فيسمونه ويكنونه في نفس الوقت، بخلاف العجم والفرس، فإنهم كانوا لا يستخدمون الكنية بل يستخدمون اللقب، كما سيأتي في موضوع الألقاب.
وكانت العرب تتيمن بتكنية الولد تفاؤلاً بأنه سيطول عمره حتى يتزوج وينجب ويسمي، وهذا فأل حسن، وورد الشرع به، فهو محمود، كما أنهم كانوا يقولون: كنوا أولادكم -أو بادروا أولادكم بالكنى- حتى لا تغلب عليهم الألقاب، لأنهم يرون أن الإنسان إن لم يكنى، فإنه قد يلقب، وهذا موجود الآن في كثير من مجتمعاتنا، لا تكاد تجد صغيراً ولا كبيراً إلا له لقب، واللقب: هو شئ يعتبر به، ويكون غالباً من الألقاب المذمومة غير المحمودة، فالكنية هي البديل الشرعي لهذه الألقاب المكروهة التي يتداولها الناس، خاصة في البيئات والمجتمعات الريفية -في القرى والأرياف والمدن الصغيرة- حيث يكثر التلقيب بالأسماء المكروهة، والكنية هي البديل الشرعي، كأبي فلان أو ما أشبه ذلك.(58/6)
الكنى المكروهة
النقطة الثانية: هي موضوع ذكر الكنى المكروهة، أو التي ورد النهي عنها.(58/7)
التكني بأبي الكلام
وعند الإخوان الهنود من المسلمين كنية غريبة، فهم يقولون: أبو الكلام، وهذه الكنية مشكلة وفي الواقع أنا لم أتثبت منها تماماً، لكنها مشكلة، لأن بعضهم يتسمى بعبد الكلام، ومنهم من يكون أبو الكلام، ومن مشاهيرهم: أبو الكلام آزاد، وهذا معلم ورجل مشهور عندهم، يسمونه أبو الكلام آزاد فإن كانوا يقصدون بالكلام أنه اسم يطلقونه على الله جل وعلا فهذا لا يجوز، لأن الكلام ليس من أسماء الله وصحيح أن الله تعالى من صفته الكلام، لكن ليس اسمه الكلام، فالكلام صفه له جل وعلا، وليست اسماً، فإن كان هذا قصدهم فلا يجوز أن يقال لأحد عندهم: إنه أبو الكلام، وهذا لا يجوز إن كان قصدهم ما ذكرت، فيتثبت من ذلك.
وإنما أوجد اللبس عندي -كما ذكرت- أن بعضهم يسمى بعبد الكلام.(58/8)
الكنى التي فيها تعريض للإهانة
وكذلك من الكنى المكروهة والممنوعة ما كان فيه تعريض للإهانة كما سبق في الأسماء، كأن يسمى باسم سورة من السور، أو باسم ذكر من الأذكار، وفي كتب الأدب والطرائف أشياء من هذا القبيل، أنا أذكرها لأمرين: الأمر الأول: لكي لا يكنى الإنسان بكنية تكون مدعاة إلى إهانة شيء من الذكر.
الأمر الآخر: الإشارة إلى أن من أهل الأدب والطرف، من يكون عندهم شيء من المجانة والاستخفاف، فيتوسعون في رواية الحكايات والقصص والطرائف والنكت المتعلقة بالقرآن الكريم، أو بالسنة النبوية، أو بالله جل وعلا، أو بالرسل، وهذا لا يجوز، لأن القرآن لم ينزل ليكون نكتة يتداولها الأدباء والشعراء، وهذا الموضوع -موضوع النكت والطرائف إن شاء الله- سوف أفرد له جلسة خاصة؛ لأتحدث عن ما يسوغ له وما لا يسوغ، والآداب العامة المتعلقة به، وأذكر أمثلة مما يصلح وما لا يصلح.
فأقول: في بعض كتب الأدب ككتاب نثر الدر والعقد الفريد وغيرها، يقول: إن رجلاً قيل له: ما كنيتك؟ فقال: كنيتي أبو عبد رب السماوات والأرض إن كنتم موقنين.
فقال له رجل: حياك الله يا نصف القرآن.
فهذا فيه: أولاً: هم يسوقون مثل هذه الأشياء للتندر، والتندر بالآيات القرآنية لا يجوز، وربما أن الناس إذا سمعوا نكته تتعلق بآية -أحياناً- أنها تسرع إليهم النكتة أكثر مما يسرع إليهم التأثر بالآية، أو الخشوع عندها، أوتدبر معانيها.
وذكروا من هذا أشياء كثيرة، لا أرى أنه يصلح أو يسوغ أن أستطرد في ذكرها، إنما قصدت مجرد المثال.(58/9)
الكنى المخالفة للشرع وللواقع
ومن الكنى المكروهة أو الممنوعة: الكنى المخالفة للواقع أو المخالفة للشرع، فقد ذكر ابن قتيبة وابن عبد ربه في العقد الفريد وغيرهما: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، سمع رجلاً ينادي رجلاً آخر يقول له: يا أبا العقلين! فقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما، فهذا خلاف الواقع، وخلاف ما دلت عليه نصوص الشريعة، فلا ينبغي أن يكنى أحد باسم مخالف للواقع، أو مخالف للشرع.(58/10)
التكني بأبي عيسى
ومن الكنى التي نقل النهي عنها: كنية: أبو عيسى.
فقد روى أبو داود والبيهقي بسند حسن، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن عمر كان له ابن يكنى بأبي عيسى، فضربه عمر وغير كنيته، وكذلك كان للمغيرة كنيتان: أبو عيسى وأبو عبد الله، فقال له عمر: ألا يكفيك أن تكنى بـ أبي عبد الله؟ قال المغيرة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كناني بـ أبي عيسى، فقال عمر رضي الله عنه: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنا بعدُ في جلحتنا -بفتح الجيم وسكون اللام وفتح الحاء المهملة- والمقصود بالجَلْحَة: الرأس، واحدة الجلاح وهي الرءوس، كأن عمر يقول: نحن في عداد أمثالنا ونظرائنا وأشباهنا، ولا ندري ما يصنع بنا، ونهاه عمر أن يكنى بـ أبي عيسى، فلم يزل يكنى بـ أبي عبد الله حتى مات رضي الله عنه وأرضاه.
لكن العبرة في الواقع بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام كنى المغيرة بـ أبي عيسى، وثبت هذا، فنقول: إن الواقع أن كنية أبي عيسى لا بأس بها، وقد تكنى بها طائفة كثيرة من أهل العلم، من أشهرهم: الإمام أبو عيسى محمد بن سورة الترمذي صاحب السنن، فإنه يكنى بـ أبي عيسى.(58/11)
ذكر من كناهم الرسول صلى الله عليه وسلم
النقطة الثانية في موضوع الكنى: ذكر من كناه الرسول صلى الله عليه وسلم: أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كنى المغيرة بن شعبة بـ أبي عيسى -كما سبق-.
ثانياً: الرسول صلى الله عليه وسلم كنى أبا الحسين علي بن أبي طالب،كناه بـ أبي تراب، كما في صحيح البخاري، ومسلم، عن أبي العباس سهل بن سعد رضي الله عنه: [[أن رجلاً جاءه، فقال: ألا تسمع ماذا يقول أمير المدينة على المنبر في علي بن أبي طالب؟ قال: وماذا يقول؟ قال: يقول: أبو تراب - أي يعير علياً أنه أبو تراب وكان هذا في عهد بني أمية؛ لأنهم كانوا على علي رضي الله عنه، حتى كانوا يسبونه أحياناً على المنابر، ومن ذلك أنهم يلقبونه بـ أبي تراب على سبيل الحط من شأنه، غفر الله لهم ورضي الله عنه -فضحك سهل بن سعد، وقال: والله ما كناه بهذا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان له كنية أحب إليه من أبي تراب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها زوج علي، فقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: يا رسول الله! كان بيني وبينه شيء فغاضبني - غضب منها فخرج، وكان من عادته أن يخرج لئلا يتكلم عليها بسوء رضي الله عنه وأرضاه، لما يعلم من شدة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لها، ومكانتها عنده فذهب ونام في المسجد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وهو نائم في المسجد، وقد انحسر رداؤه عن ظهره، فأصابه التراب، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي- يقعد علياً ويحث التراب عن ظهره، ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب]] فكان علي يفرح بهذه الكنية، ويفتخر بها، وإن لم تكن تدل على مدح وإنما هي كنية من واقع حاله، لكنه كان يفرح بها، لأنها من الكبير للصغير، لأنها من الرسول صلى الله عليه وسلم، والشيء إذا جاءك ممن تحب صار عزيزاً عليك، ولو لم يكن ذا قيمة، فالأمر اعتباري.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كنى علياً بـ أبي تراب فكان علي رضي الله عنه يحب هذه الكنية.
فهذه من الكنى التي أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه، وأما تعيير بني أمية لعلي بهذا، فهذا لا يضره، فهو كما عير أهل الشام عبد الله بن الزبير، حين قالوا له: يا ابن ذات النطاقين، فضحكت أسماء، وقالت له: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: هم يعيرونك بأنك ابن ذات النطاقين، وذات النطاقين هي أسماء وإنما سميت بذلك؛ لأنها في الهجرة شقت نطاقها، وهو الذي تعتجر به المرأة وتتحزم به، فجعلت نصفه لفم القربة، وتحزمت بالنصف الآخر -تمنطقت بالنصف الآخر- فسميت بـ ذات النطاقين، فهذا مفخرة لها ومدح لها ومدح لابنها، وهو أن يقال له: يا ابن ذات النطاقين.
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها فقالت له أمه ذلك، فهذا كتعيير بني أمية لـ علي بن أبي طالب بقولهم: أبا تراب.
ومن الكنى التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أطلق على عائشة أم عبد الله، فقد روى أبو داود بسند صحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت له: {يا رسول الله! كل صواحبي لهن كنى، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تكني بابنك عبد الله بن الزبير} وهو ابن أختها، فصارت تكنى أم عبد الله، وهذه كنية أمنا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أم عبد الله على عبد الله بن الزبير، وذهب بعضهم إلى أنه كان لها سقط سمي عبد الله، وهذا لا يصح، بل الصحيح أنها كنيت بذلك، ذهاباً إلى ابنها عبد الله بن الزبير فهو ابنها باعتباره من المؤمنين، وهو ابن أختها أيضاً.
ومن الكنى التي أطلقها الرسول عليه الصلاة والسلام أبو شريح لـ أبي الحكم، حيث كانت كنيته أبا الحكم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ألك ولد؟ قال: نعم، قال: من أكبرهم؟ فقال: شريح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت أبو شريح} .
ومن الكنى التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم: أبو عبد الرحمن، فإنه كنى ابن مسعود.
بـ أبي عبد الرحمن، كما رواه الطبراني بسند صحيح، عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: {إن النبي صلى الله عليه وسلم كناني بـ أبي عبد الرحمن قبل أن يولد لي} فهذه من الكنى المستحبة، والتي أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود.
ومنها أيضاً إن صحت كنية أبي رقاد -والرقاد هو النوم- فقد ورد عند الواقدي، والواقدي متكلم فيه، بل هو متروك، وإن كان عالماً بحراً في السير خاصة، لكن ذكر الواقدي: أن في غزوة الخندق -الأحزاب- أن زيد بن ثابت كان يحمل التراب، فأصابه نعاس فنام، فجاء رجل من الأنصار اسمه عمارة بن حزم، فأخذ سلاحه على سبيل الممازحة والمداعبة، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: {يا أبا رقاد، نمت فذهب سلاحك} ومن يومئذٍ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الرجل متاع أخيه جاداً ولا هازلاً، فإن ذلك يحزنه.
فلو صحت هذه الرواية لكانت كنية أبي رقاد من الكنى التي أطلقها النبي عليه الصلاة والسلام، على سبيل المداعبة لـ زيد رضي الله عنه وأرضاه، وزيد -كما يقول أهل السير-: كان فكهاً في بيته، وقوراً في مجلسه، فإذا جلس في بيته كان صاحب دعابة ومزاح ومضاحكة لأهله وأولاده وجلسائه، وإذا كان في مجلسه كان وقوراً جليلاً فخماً في عين من حوله.
ومن الكنى التي أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم -إن صح أيضاً- كنية أبي هر ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر} وقد روى البغوي بسند ضعيف، أن أبا هريرة قال: {سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وكناني أبا هريرة} ولكن هذا ضعيف، والأصح ما رواه الترمذي بسند حسن أن أبا هريرة قال: [[إنما سميت أبو هريرة؛ لأني كنت أرعى لأهلي، وكان معي هرة صغيرة، فكنت أضعها في شجرة في الليل، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، وربما وضعتها في كمي فسماني الناس أبا هريرة]] ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا هر، فـ أبو هريرة رضي الله عنه كان يقول -كما روى البغوي أيضاً بسند جيد- كان يقول: [[لا تسموني أبا هريرة لكن سموني: أبا هر، فإن الذكر خير من الأنثى، وليس الذكر كالأنثى، وإن أبا هر هو الاسم الذي ناداني به ودعاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم]] .
فهذه بعض الكنى التي أطلقها الرسول عليه الصلاة والسلام على بعض أصحابه.(58/12)
حكم التكني بأبي القاسم
النقطة الرابعة: كنية أبي قاسم، وهذا كثير اليوم بل إننا نجد عوائل أحياناً اسمهم أبو القاسم، أو بالقاسم، أو ما أشبه ذلك، فما حكم هذه الكنية؟ جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم، عن أنس رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في طريق مع بعض أصحابه، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لست أعنيك، إنما أعني رجلاً آخر، فقال عليه الصلاة والسلام: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} .
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} ومن هناك اختلف الناس في التكني بكنية أبا القاسم هل يجوز أو لا يجوز؟(58/13)
القول الراجح
والذي يظهر أن القول بمنع ذلك وتحريمه فيه بُعدٌ مع ثبوت النصوص بالإذن بذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ثبوته عن جماعة من الصحابة، واشتهاره في علماء الأمصار كما ذكره عياض.(58/14)
المذهب الثاني
ومن أهل العلم من منع الجمع بينهما، أي: لا مانع أن يكون اسمه محمداً، لكن لا تكون كنيتة أبا القاسم.
أو تكون كنيته أبا القاسم، لكن لا يسمى بمحمد، أما الجمع بينهما، بأن يوجد شخص اسمه محمد وكنيته أبو القاسم فهذا يقولون: لا يجوز، وهذا قاله بعض الشافعية كـ الرافعي، قال: هذا يشبه أن يكون هو الأصح، لأن الناس من عهد النبوة إلى اليوم لم يزالوا يستخدمون ذلك بلا نكير، فقال الرافعي وغيره: إنه إنما يمنع من الجمع بينهما.
ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك: ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن، وابن حبان أيضاً وصححه، عن جابر رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من تسم باسمي فلا يتكن بكنيتي، ومن تكن بكنيتي فلا يتسم باسمي} فهذا الحديث الذي حسنه الترمذي وصححه ابن حبان، يدل على النهي عن الجمع بينهما، وأنه لا بأس بأن يكنى أبا القاسم لكن لا يسمى محمداً، أو يسمى محمداً لكن لا يكنى أبا القاسم، وأن النهي منصب على الجمع بينهما، وقد جاء عن أبي هريرة نحو هذا الحديث أيضاً.
ورواه الطبراني من حديث محمد بن فضالة: {أن أمه ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ولادته بأسبوعين، فمسح الرسول صلى الله عليه وسلم على رأسه، وسماه محمداً وقال: لا تكنوه أبا القاسم -أو لا تكنوه بكنيتي-} .(58/15)
المذهب الثالث
وهو مذهب الإمام مالك، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء من السلف والخلف: أن النهي عن التكني بأبي القاسم خاص في حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فإنه لا بأس أن يكنى الإنسان أبا القاسم سواءً كان اسمه محمداً، أو لم يكن اسمه محمداً.
واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة وقوية أيضاً منها: أولاً: السبب السابق في حديث أنس في قصة الأنصاري الذي قال: {يا أبا القاسم، فقال: لا أعنيك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي} فدل على أن هذا لئلا يلتبس الأمر، فيظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه المقصود فيكون في ذلك نوعاً من المشقة عليه.
ثانياً: وكذلك مما استدلوا به ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: {أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني ولدت ولداً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، وبلغني أنك تكره ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما الذي أحل اسمي وحرَّم كنيتي، أو حرم كنيتي وأحل اسمي والحديث فيه ضعف لأن فيه محمد بن عمران الحجبي وهو مجهول؛ لكن له شاهد رواه البخاري في التاريخ الكبير وأبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح، عن علي رضي الله عنه أنه قال: {يا رسول الله! أرأيت إن ولد لي بعدك غلام، هل أسميه محمداً وأكنيه أبا القاسم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم} والحديث صححه الحاكم وابن التركماني والترمذي وغيرهم، وسنده جيد، وهو حجة في هذا الباب.
حيث أن علياً رضي الله عنه قال: {يا رسول الله، أرأيت إن ولد لي بعدك ولد -أي بعد وفاتك -هل أسميه محمداً وأكنيه أبا القاسم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد لـ علي ولد من زوجته التي من بني حنيفة فسماه محمداً} وهو المعروف بـ محمد بن الحنفية، هو محمد بن علي بن أبي طالب، لكن أمه هي الحنفية، وكان يكنى بـ أبي القاسم، فهذا دليل.
والحديث جاء أيضاً له رواية أخرى عن ابن عساكر قال ابن حجر في فتح الباري: سندها قوي، وهي تدل على جواز ذلك بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والإمام مالك كان له ولد اسمه محمد وكنيته أبو القاسم، فقالوا له: يا إمام كيف يكون لك ولد اسمه محمد وكنيته أبو القاسم؟ فقال: ما أنا كنيته لكن أهله كنوه، ولا أرى بذلك بأساً، ولم أسمع في النهي عن ذلك شيئاً، وحمل الإمام مالك النهي عن التكني بأبي القاسم على أن ذلك كان خاصاً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: ومما يدل على قوة هذا القول: أن جماعة كثيرة من الصحابة كان لهم أولاد أسماؤهم محمد وكُناهم أبو القاسم، من ذلك: طلحة بن عبيد الله كان له ولد اسمه محمد بن طلحة، وهو رجل فاضل، وعابد من العباد الزهاد، حتى كان يسمى بالسجاد لكثرة سجوده وعبادته، وقد حفر السجود في جبهته، وأثر فيه، وكان عابداً قتل في المعارك بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، واختلفوا فيمن قتله قيل: قتله رجل من بني أسد، وكان يمدحه فيقول في مدحه: وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما يرى الناس مسلم شككت إليه بالرماح قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يندم يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم رضي الله عن محمد بن طلحة، لما جاء هذا الرجل ليطعنه، لم يرد أن يدافع عن نفسه، ويحتمل أنه كان مع أبيه فلم يرد أن يدافع عن نفسه، واستشار عائشة، فقالت له: كن كخير بني آدم، إن مد إليك ليقتلك فلا تقتله أنت، فسكت محمد بن طلحة ولم يدافع عن نفسه فلما أهوى إليه هذا الرجل بالرمح ذكره بالقرآن، ذكره بـ" حم" وذكره بالله جل وعلا فهذا الرجل أقدم وقتل وقال: يذكرني (حم) والرمح شاجر فهلا تلى (حم) قبل التقدم أي لو أنه فعل ذلك لما قتلته، فـ محمدٌ السجاد رضي الله عنه -وقد ذكر هذه القصة الحاكم في المستدرك- كان يكنى بـ أبي القاسم واسمه محمد، وجماعة آخرون من الصحابة، منهم محمد بن عبد الرحمن بن عوف، ومنهم محمد بن أبي بكر، وكنيته أبو القاسم أيضاً كما هو معروف ومشهور، ومنهم أيضاً محمد بن الأشعث وغيرهم كثير.
فالمهم أن ذلك كان معروفاً في الصحابة، حيث كان يسمي الواحد منهم ولده بمحمد ويكنيه بأبي القاسم.
وكذلك سعد بن أبي وقاص، وجعفر بن أبي طالب، كان لهم أولاد أسماؤهم محمد وكناهم أبو القاسم، وحاطب بن أبي بلتعة وغيرهم، هذا يدل على أن هذا الأمر كان شائعاً عند الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض أهل العلم إلى كراهية ذلك دون تحريمه.(58/16)
المذهب الأول
من أهل العلم من ذهب إلى منع التكني بأبي القاسم مطلقاً، حيث قالوا: لا يجوز أن يكنى أحد بلفظ أبي القاسم مطلقاً، سواءً كان اسمه محمد أو غير محمد، وسواء كان ذلك في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أم بعد وفاته، وهذا مذهب الشافعي والظاهرية، بل بالغ الظاهرية فقالوا: لا يجوز لأحد أن يسمي ولده القاسم خشية أن يكنى أو ينادي به، ومن أدلتهم على ذلك -إضافة لما سبق- هو: ما رواه البخاري ومسلم عن جابر: {أن رجلاً من الأنصار ولد له ولد فسماه القاسم، فقال الصحابة -الأنصار- له: لا نسميك أبا القاسم، ولا نقرك بذلك عيناً -لا نقر عينك بذلك، ولا نفرحك به، ولا نكنيك بكنية الرسول صلى الله عليه وسلم- فذهب ذلك الأنصاري بابنه -يحمله على كتفه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سم ولدك عبد الرحمن} فسماه عبد الرحمن، قالوا: فدل على منع التكني بأبي القاسم مطلقاً، وكذلك كان ابن سيرين يكره ذلك، ونقله البيهقي عن طاووس وغيره.(58/17)
كنى الرسول صلى الله عليه وسلم
النقطة الخامسة: الكنى التي كانت تطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعظم وأشهر وأعرف كنى النبي عليه الصلاة والسلام هي: أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وهذه الكنية المشهورة التي كان يعرف بها حتى كان بعض الصحابة يقول: حدثني أبو القاسم، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: حدثني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، قال: {تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي} وكما قال أبو هريرة للرجل الذي خرج: [[أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم]] ولما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا له: بارك الله عليك يا أبا القاسم.
فهذه هي أشهر كنى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
ومن كناه: أنه كان يكنى بأبي إبراهيم، وكان له ولد يسمى إبراهيم -كما سبق في الدرس الماضي- وقد جاء عند البيهقي وغيره من طرق: {أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم} .
وذكر بعضهم أن من الكنى التي تطلق على النبي صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين، وذلك لأن أُبيَّ بن كعب وابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم، كانوا يقرءون: [[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) [الأحزاب:6] وهو أب لهم]] هكذا كانت القراءة عند من ذكرت، كما ذكرها جماعة من العلماء، كما في الدر المنثور وغيره، (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) وليس المقصود قطعاً أبوة النسب، فهذا منفي بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] وإنما المقصود بالأبوة: أبوة العطف والرحمة والشفقة والفضل له صلى الله عليه وسلم على أمته، وهذه على أية حال لا تصح أن تكون كنية، إنما كنيته المعروفة صلى الله عليه وسلم: أبو القاسم.(58/18)
أحكام تتعلق بالكنية(58/19)
جواز تكنية المشرك
ومن الأحكام المتعلقة بالكنية أيضاً: أنه يجوز تكنية المشرك، كما قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] .
وكما في صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء إلى المدينة، ركب على حماره في ملأ من أصحابه وذهب في شوارع المدينة، فمر بملأ من الأنصار فيهم المؤمنون، كـ عبد الله بن رواحة، وفيهم المشركون والمنافقون، وفيهم اليهود، فلما غشيتهم عجاجة الدابة؛ نزل الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلم عليهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فقام عبد الله بن أبي بن سلول، وقال: يا هذا، ما أحسن ما تقول إن كان حقاً- قبح الله عبد الله بن أبي، يقول: ما أحسن ما تقول إن كان حقاً، وهذا تحصيل حاصل: إن كان حقاً فهو حسن، لكن هو خبيث لا يريد أن يقول إنه حق، أو حسن، لكن يقول: إن كان صحيحاً فهو صحيح- فلا تغشانا في مجالسنا، من أرادك أتاك وأنت في مكانك.
فقال عبد الله بن رواحة: بل اغشنا يا رسول الله، فتنازع القوم واختلفوا حتى كادوا أن يقتتلوا، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وهدأهم وسكن ثائرتهم، ثم ذهب إلى سعد بن عبادة، فقال له: ألم تسمع ما قال أبو حُباب؟ -وهذا هو الشاهد- أي عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، فقال: ماذا قال يا رسول الله؟ فأخبره بالخبر، فقال: ارفق به يا رسول الله، فو الله لقد جاء الله بهذا الخير الذي أنزل عليك، والحق الذي أنزل عليك، وإن أهل هذه المدينة-أي: المدينة قد أطبقوا وأجمعوا على عبد الله بن أبي بن سلول أن يسودوه ونظموا له الخرز ويعصبوه بعصابة -أي يجعلوه ملكاً عليهم- فلما رد الله ذلك بالحق الذي أنزل عليك شرق به} والعياذ بالله.
فانظر كيف الحسد، فهو حسد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصابته غيرة شديدة أنه زال الملك الذي كان يتربص وينتظر ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل هذا الحق، بل سار يظهر الإسلام ويبطن الكفر بعدما أعز الله الإسلام، فرفق النبي صلى الله عليه وسلم به، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كناه بـ أبي الحباب.
وتكنية المشرك تكون في ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا اشتهر وعرف بذلك، كما كنى الله تعالى في القرآن الكريم أبا لهب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] فقيل: سُمي أبا لهب لأنه كان جميل الوجه، يتلهب وجهه حسناً وجمالاً، وتناسب هذا مع قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] .
ومثله أيضاً: أبو طالب فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كناه أبا طالب كما في الحديث المتفق عليه عن العباس قال: {يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويحميك ويدفع عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم هو في ضحضاح من نار -أي شيء قليل من النار وفي رواية-: تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منها دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ولا يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، قال صلى الله عليه وسلم: ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} فكناه أبا طالب لأنه معروف مشهور بذلك.
الحالة الثانية: التي يكنى بها المشرك والكافر: إذا كان في ذلك تأليف لقلبه، أو قلب من حوله، كما كنى الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول بـ أبي الحباب؛ لأن القوم كانوا يحبونه ويعظمونه، ولم يكتشفوا حاله، وربما في أول الإسلام كان له مكانة عندهم قبل أن يسلم أيضاً، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام امتنع من قتله تأليفاً لقلوب المؤمنين، فما بالك بأن يلقبه الرسول عليه الصلاة والسلام أو يكنيه أو ما أشبه ذلك.
الحالة الثالثة: التي يكنى بها الكافر: إذا كانت الكنية كنية ذم وحط من قدره، كما يقال -مثلاً- أبو جهل فإن تكنيته بالجهل ذم وحط من قدره ولا بأس بها.(58/20)
التكني بالبنت
وكذلك من الأحكام المتعلقة بالكنى هو جواز التكني بالبنت، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة وغيره، لأسماء طائفة كثيرةٍ جداً من الصحابة، عرفوا بأسماء بناتهم -كنوا ببناتهم- لعل من أشهرهم: أبو رقية وهو تميم بن أوس الداري وهو أول من قصَّ في عهد عمر، فكان يجلس إلى الناس ويذكر لهم القصص ويعظهم، وكان نصرانياً فأسلم، وله من المناقب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم روى عنه -كما في صحيح مسلم- قصة الجساسة حيث صعد عليه الصلاة والسلام على المنبر وقال: {إن تميماً حدثني وذكر قصة الجساسة} وهي قصة طويلة مشهورة، رواها النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري، ومن فضائل تميم هذا رضي الله عنه: أنه كان عابداً زاهداً طويل القيام بالليل، وقد ذكر مسروق بسند صحيح أنه جاء يوماً إلى مكة -إلى الكعبة- فقال له رجل من أهل مكة: هذا مقام فلان، أي: أن تميم بن أوس الداري كان يقوم في هذا المكان ليلة كاملة بآية من كتاب الله تعالى ويرددها ويبكي، وهي قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] .
فكان يقرأ هذه الآية ويرددها ويبكي حتى الصباح، وله فضائل كثيرة مذكورة في موضعها.
وممن كني بابنته: أبو لبابة، وأبو أروى، وأبو أسماء، وأبو هند، وأبو أمامة، وأبو جميلة، وأبو صفية وهو مهاجري مولى لرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو هند كان حجاماً لبني بياضة، ومثله أبو طيبة وكان حجاماً، حجم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مولى لـ محيصة بن مسعود.
وهذه الأسماء، يحتمل أن تكون أسماء لرجال، فقد يسمى الرجل بأسماء، وقد يسمى الرجل بهند، لكن الغالب عليها أنها أسماء إناث، فدل على أنه لا بأس بأن يكنى الرجل باسم ابنته، أو باسم أنثى على سبيل الإجمال.(58/21)
جواز كون الكنية هي الاسم
وأحياناً قد تكون الكنية هي الاسم، وليس للرجل اسم، من ذلك: أبو عمير في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخٌ اسمه أبو عمير، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا في بيتنا فيضاحكه ويمازحه ويلاعبه، فجاء يوم من الأيام وأبو عمير قد خثرت نفسه وخارت وضعفت، فقال عليه الصلاة والسلام: ما شأن أبي عمير؟ قالت أمه - أم سليم -: يا رسول الله! قد مات النغير -النغر: العصفور الذي كان يلعب به مات- فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وضاحكه وداعبه، وقال له: يا أبا عمير: ما فعل النغير؟ فقال: مات يا رسول الله} وكان حزيناً لموت عصفوره، وهذه القصة طريفة، فيها فوائد وأوابد وعجائب، حتى ذكر فيها ابن القاص الشافعي أكثر من ستين فائدة، فقال: قد يظن البعض أنه ليس لها فائدة، بل لها أكثر من ستين فائدة فقهية وأدبية وغيرها، واستطرد في ذكر الفوائد، ثم قال: ومن لطائف فوائد هذه القصة: أن العلماء يختلفون في استنباط الفوائد والعبر منها كما يقول الله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:4] هكذا يقول ابن القاص أي: هي قصة واحدة، لكن العلماء يتفاوتون في الاستخراج والاستنباط منها.
وقد ذكرها الحافظ ابن حجر، ثم أضاف إليها فوائد أخرى كثيرة، ومن الطرائف المتعلقة بهذه القصة ما رواه الحاكم في علوم الحديث عن أبي حاتم الرازي الإمام المشهور المعروف، أنه قال: جزى الله أخانا صالح بن محمد كل خير -وصالح بن محمد هذا كان يلقب بـ جزرة عند المحدثين، وسيأتي إن شاء الله في الألقاب، وجزرة هذا من الألقاب التي اشتهر بها وعرف بها- فيقول أبو حاتم: جزى الله أخانا صالح بن محمد جزرة كل خير، فإنه لا يزال يباسطنا حاضراً وغائباً.
أي يمازحهم ويضحكهم فيما لا إثم فيه.
يقول: إنه لما مات الذهلي أقاموا شيخاً يحدثهم ويروي لهم الحديث، وكان هذا الشيخ اسمه مَحمِش، بفتح الميم الأولى وكسر الميم الثانية -هكذا ضبطها العلماء كـ ابن حجر وغيره- فيقول: إن هذا الشيخ روى لهم حديث أنس في قصة أبي عمير وأخطأ فيه في عدة مواضع منها أنه كان يقول: فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: {يا أبا عمير ما فعل البعير} فصحف في الموضعين.
الموضوع الأول: الاسم، ففتح العين، بدلاً من عُمير جعلها عَمير، والموضع الثاني: اسم الطائر، فبدلاً من النغير -النغر العصفور المعروف- سماه البعير، وهذا ليس له علاقة بالموضوع من قريب ولا من بعيد.
وهو دليل على جواز تكنية الإنسان قبل أن يولد له، وهو لايزال صبياً -كما سبق- وقد روى الحاكم وغيره بسند صحيح، وأحمد من حديث صهيب أن عمر قال له: [[مالك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا يحيى]] .(58/22)
جواز التكني بأكثر من كنية
النقطة السادسة: هي أحكام تتعلق بالكنية: من الأحكام: أنه يجوز أن يكنى الرجل أو المرأة بأكثر من كنية، فمثلاً علي رضي الله عنه كانت كنيته أبا الحسن وأبا تراب.
يقول الشاعر: وكان لنا أبو حسن علي أباً براً ونحن له بنينا فهذه أيضاً بنوة وليست هي البنوة الحقيقية، إنما هي بنوة التقدير والإجلال له رضي الله عنه.
وكذلك كنيته أبو تراب، كما سبق في حديث سهل بن سعد، ومثله النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم كثير.
فلا مانع من أن يجمع الإنسان بين كنيتين.
وكذلك لا مانع من أن يكنى الإنسان بغير ابنه الأكبر، فيكنى بالأوسط أو الأصغر، إذا لم يكن في ذلك غضاضة، بل لا مانع من أن يكنى الإنسان بغير أبنائه.
فمثلاً أبو موسى الأشعري، أكبر أولاده سماه النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم، كما في الحديث المتفق عليه، ومع ذلك اسمه أبو موسى، وليس أبا إبراهيم، فلا مانع من أن يكنى الإنسان بغير ولده، بل هذا كثيرٌ جداً، وأبو بكر -مثلاً- هل له ولد اسمه بكر؟ كلا، وعمر ما هي كنيته؟ أبو حفص فهل له ولد اسمه حفص؟ كلا، وأبو قحافة والد أبي بكر ليس له ولد اسمه قحافة، أبو ذر ليس له ولد اسمه ذر، وإنما هذه كنى عرفت واشتهرت وتناقلها الناس، ومثله أبو سلمة ليس له ولد اسمه سلمة، وأبو سليمان خالد بن الوليد أيضاً، إنما المقصود بالكنية المدح والتفخيم والإجلال للإنسان، كما يقول الأول: أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب فاللقب فيه سبة وعار وذمة غالباً، أما الكنية فهي مدح وتفخيم، ولذلك تعداد وتكثير الكنى للإنسان أمر محمود وحسن ولا شئ فيه بل هو قد يكون من باب التفخيم للمكنى.(58/23)
أخطاء تقع في الكنى
أخيراً: أخطاء يقع فيها الناس في الكنية: يشتهر عند العامة أنهم يذكرون الله تعالى -أحياناً- فيقولون: أبا الأفراج، فهذا موجود، حتى إن الشاعر المشهور من هذه البلاد العوني، في قصيدته المشهورة استخدم هذه العبارة يقول فيها: وانظر بعينك يا أبا الأفراج حالي فرد غريب والمصافي ذليلة وهذا لا يجوز بلا شك، فلا يجوز -بلا إشكال- وصف الله تعالى بأنه أبو كذا، وإن لم يكن المقصود الأبوة، ولكنه لا يجوز وهو محرم، لسوء الأدب فيه مع الله تعالى، ولأنه لا يجوز أن يوصف الله تعالى أو يسمى إلا بما ثبت في الكتاب والسنة، والعامة أحياناً يقولون مثلاً: فلان ضربته حتى قال يا أبا الأفراج، أو فلان نزل عنده ضيف وأطال عنده حتى قال: يا أبا الأفراج، وهذا بعتبر عندهم نداء، أي أن هذا الإنسان تطاول مكث الضيوف عنده فصار يدعو الله تعالى بالفرج، ويجوز أن يقولوا يا ذا الأفراج بالذال، لأن الله تعالى هو الذي يفرج عن عباده كرباتهم.
وكذلك من الأخطاء: أن بعضهم يكنون بكنى أهل الجاهلية، ولو على سبيل المزاح، فقد بلغني أن بعض الشباب -مثلاً- يسمي أحدهم الآخر أبا جهل على سبيل الممازحة والدعابة والنكتة، فهذا أيضاً لا يجوز، فهو حرام أن يسمى به أو يقبل ذلك، سواء كان هازلاً أم جاداً.
ومن الأخطاء: أن بعضهم يسمون الولد اسماً ممنوعاً أو مكروها، ثم يتكنون به -كما سبق في باب الأسماء الممنوعة والمكروهة- فيقال في الكنية ما يقال في الاسم.
وبذلك نكون قد أتينا على أهم الكلام الذي يمكن أن يقال في موضوع الأسماء والكنى.
ويبقى -إن شاء الله- الدرس الأخير في باب الأسماء والكنى وأخصصه للألقاب، وسيكون -إن شاء الله- درساً فيه فوائد كثيرة حول الألقاب الشائعة عند الناس وفي التاريخ، ألقاب الكبار سواء من العلماء أم الزعماء أم غيرهما، وبيان بعض الطرائف المتعلقة بذلك، وما يحل وما لا يحل من التلقيب.(58/24)
الأسئلة(58/25)
صحة ثبوت تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بهذه الكنية؟
السؤال
قلت عن كنية أبا هر: إن صحت، ثم قلت إنها في صحيح البخاري فهل في صحة ما في البخاري شك؟
الجواب
كلا، ليس فيما في صحيح البخاري شك، لكن الذي شككت فيه أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه أبا هريرة، فإن الأصح في الرواية أن الذي كناه أبو هريرة هم أهله قبل الإسلام، لأنه كان يحمل هرة في كمه أثناء ما كان يرعى الغنم، أما الرسول عليه السلام فإنه قلب الكنية من أبي هريرة إلى أبي هر، وليس قلبها دائماً وإنما سماه في تلك المناسبة.
ولهذا أبو هريرة كان يقول: [[لا تقولوا لي أبا هريرة قولوا لي أبا هر، وليس الذكر بالأنثى وهذه الكنية التي سماني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم]] فهذا ما قصدته بالشك.
أما في صحيح البخاري فكله صحيح.
هذا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.(58/26)
حقيقة طول آدم عليه السلام
السؤال
هل صحيح ما ورد أن أبا البشر آدم عليه السلام، أول ما خلقه الله كان رأسه يعانق السماء الدنيا، وكان يسمع تسبيح الملائكة؟
الجواب
كلا، بل الوارد في الصحيحين أن آدم عليه السلام كان طوله في السماء ستون ذراعاً، هذا هو الثابت في الصحيحين.(58/27)
حكم التسمي باسم دانة
السؤال
ما حكم التسمي بأسماء غريبة مثل دانة؟
الجواب
دانة -فيما أعلم- هذا نوع من الأشياء التي توجد في البحار -معادن توجد في البحار- فلا بأس به.
أما لارا اسم أجنبي وقد سبق الكلام في الأسماء الأجنبية.(58/28)
حكم التسمي بشادي وأنغام
السؤال
ما حكم التسمي بشادي وأنغام؟
الجواب
أقول عن نفسي -لا أقول عن دين الله أو شرع الله -إنني أكرهها، لأنها تتعلق بأمور لها تعلق بالفن والغناء، لأن الشادي هو المغني أوالمتغني، وكذلك الأنغام معروفة، فلذلك ليس من الفأل الحسن أن يسمى الإنسان بنيه بمثل ذلك.(58/29)
لماذا لم يغير الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه إلى عبد الله أو عبد الرحمن؟
السؤال
أضع بين يديك هذين السؤالين وهما عن الدرس السابق: الأول: لاشك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أحرص الأمة على الكمال، فإذا كان اسم عبد الله، وعبد الرحمن أفضل الأسماء عند الله، فلماذا لم يغير اسمه إلى أحدهما، وهو الذي غير أسماء كثير من الصحابة؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه محمد في التوراة والانجيل وعند الأمم السابقة، وبشر به النبيون هكذا، قال الله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] وموجود حتى في بعض نسخ الإنجيل الموجودة اليوم -كإنجيل برنابا - ذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالله تبارك وتعالى لحكمة يعلمها اختار له هذا الاسم وسماه به، ولذلك كان عدد من العرب يسمون أولادهم باسم محمد رجاء أن يكونوا أنبياء، وكذلك أمية بن أبي الصلت سمى نفسه بمحمد رجاء أن يكون هو النبي، فلذلك لم يغير الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه.
وقد يكون هناك أيضاً علل وأسباب أخرى.(58/30)
كثرة من اسمه محمد
الثاني: من يتصفح سير الصحابة يجد قليلين من يتسمون بمحمد؟
الجواب
أما هذه فلا، ولو تصفحت -مثلاً- سير الصحابة وارجع في ذلك إلى كتاب الإصابة لـ ابن حجر، أو أسد الغابة أو الاستيعاب أو غيرها، تجد أن عدداً من اسمهم محمد من الصحابة كثير، ولعلي أشرت إلى بعضهم فيما سبق.(58/31)
حكم التكني بأصغر الأبناء
السؤال
هل يكنى بأصغر الأبناء؟
الجواب
نعم يكنى بأصغر الأبناء.(58/32)
حكم نداء الزوجة بغير اسمها
السؤال
الأخ يقول: حفظكم الله وأحسن لنا ولكم الختام -اللهم آمين، وهذه دعوة حسنة- يقول: ما حكم من سمى زوجته بغير اسمها، مثل قول بعضهم: يا هيه؟
الجواب
هذا ليس اسماً إنما هو نداء مثل يا فلانة أو يا هذه، فلا بأس بذلك.(58/33)
حكم التسمي بصالح وإيمان وصلاح وآية الله
السؤال
يقول ما حكم التسمي بالأسماء التالية: صالح، إيمان، صلاح، آية الله؟
الجواب
أما صالح فحسن، وأما إيمان وصلاح، فأرى فيهما ما سبق.
أما آية الله، فأقول: هذا لا ينبغي، لأن أقل ما يقال فيه: أن فيه مضاهاة للرافضة أعداء الله.(58/34)
حكم التعبيد بأسماء لم تثبت لله
السؤال
ما فيه تعبيد لأسماء لم تثبت لله، مثل عبد الفرد وعبد الساتر؟
الجواب
لا يجوز التعبيد، أو التسمي بأسماء لم تثبت لله جل وعلا فيما أعلم.(58/35)
حكم تغيير الاسم الحسن
السؤال
ما رأيك في تغيير أسماء حسنة مثل: عصام وأمين وأيمن؛ لكنها قليلة الورود في هذا المجتمع خصوصاً إذا تضايق الشخص من اسمه؟
الجواب
الأسماء القليلة تنتشر وتشتهر بعد فترة عند الناس، ولذلك تغيير الاسم فيه مشقة وفيه كلفة وله تكاليف، فما دام الاسم حسناً أرى ألا يغير.(58/36)
حكم تغيير الاسم
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يغير اسمه إلى اسم آخر استقباحاً لاسمه، لأنه قد يستاء عند النطق باسمه، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم يجوز للإنسان أن يغير اسمه إلى اسم آخر، لكن هنا أنبه على ضرورة إرضاء الوالدين في ذلك، وألَّا يفعل الإنسان هذا فيكون فيه مسخطة لوالديه، اللهم إلا أن يكون الاسم قبيحاً، وفي الواقع أنني سمعت أسماءً لبعض الشباب، فيها قبح، فقد يسمون باسم ذئب من الذئاب فيكون اسماً بشعاً، أو يسمونه اسماً منسوباً إلى بعض الملل الضالة والنحل الكافرة، أو ما أشبه ذلك، وربما يكون السبب في ذلك: أنه يأتيهم رجل يكون من أهل تلك النحلة فيكون طبيباً أو غير ذلك، فيعجبهم وهم لا يدرون ما هو، فيسمون الولد باسمه، ويكون اسمه اسماً بشعاً أو محرماً، فإذا كان الاسم محرماً يجب تغييره وإن سخط الوالد.(58/37)
كيف نفسر نسب عيسى إلى أمه
السؤال
يقول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] ويقول: {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] فما الجمع بين ذلك؟
الجواب
عيسى عليه السلام -كما نعلم- ولد من أم بلا أب، إنما قال الله تعالى له: كن فكان، كما ورد في القرآن الكريم من أن أمه حملت به من غير أب، والنصوص في ذلك كثيرة في مواضع منها في سورة آل عمران، ومريم، وغيرها، فلذلك نسب إلى أمه.(58/38)
التكني بأكبر الأبناء
السؤال
هناك أحد طلبة العلم يكنى: بأبي محمد، علماً بأن ابنه الكبير اسمه أحمد، وهذا الشخص إذا نودي بأبي أحمد يغضب، ولو كني بأبي محمد فربما أثر على نفسية ابنه، فما الحكم؟
الجواب
يكنى بالاسم الذي يريد؛ لأن الكنية ملك للأب، فإذا كان يريد أن يكنى بأبي محمد فينبغي أن يكنى بهذا، وإن كان يريد أن يكنى بأبي أحمد فيكنى بهذا.(58/39)
المزاح بالألقاب
السؤال
نحن شباب ملتزم -ولله الحمد- لكن يحصل بيننا أن نطلق على بعضنا ألقاباً مضحكة على سبيل المزح، لكن من تطلق عليه لا يرضى بها لكننا نقولها له، فهل في ذلك حرج مع أنها على سبيل المزاح؟
الجواب
إذا كان لا يرضى بها، فلا يجوز أن تقال له ولو كانت على سبيل المزاح بل يشترط رضاه في ذلك.(58/40)
حكم التكني بأسماء المجاهدين
السؤال
ما حكم التكني بأسماء رجال الجهاد مثل أبو سياف وغيره؟
الجواب
نعم لا بأس بذلك.(58/41)
حديث: {لعن الله من انتسب إلى غير أبيه}
السؤال
ما درجة هذا الحديث: {لعن الله من انتسب إلى غير أبيه} ؟
الجواب
الحديث في الصحيح لكن ليس بهذا اللفظ، والذي أذكر أنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {كفرٌ بالمرء تبرؤه من نسب وإن دق} .(58/42)
التسمي بسور القرآن مثل: محمد
السؤال
ذكرتم أنه لا يجوز تسمية الشخص بأسماء سور القرآن، فما رأيك باسم محمد وصالح ونحو ذلك مما هو متوفر في القرآن الكريم؟
الجواب
هل تعرف من القرآن سورة اسمها سورة صالح؟ كلا، أما محمد فنعم، ولكن سميت سورة محمد بهذا الاسم لذكر اسم الرسول عليه الصلاة والسلام فيها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:2] ولم يسم الرسول عليه الصلاة والسلام باسم السورة، فالاسم قبل نزول السورة، حيث كان اسمه عليه الصلاة والسلام محمد، وكان معروفاً عند العرب في الجاهلية.(58/43)
حكم التكني بأبي لوط
السؤال
ما رأيكم فيمن تكنى بأبي لوط؟
الجواب
لوط كما تعرفون نبي من أنبياء الله، وقد ذكره الله تعالى في كتابه، والتكني بأبي لوط لا بأس بذلك، ووجد في التاريخ من تكنى بذلك، ولا أعلم فيه جرجاً.(58/44)
الأسماء التي غيرها الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
ذكرتم أن الرسول عليه السلام غير بعض الأسماء لأن فيها تزكية، وفي المقابل غير بعض الأسماء الغير حسنة إلى أسماء فيها تزكية، فكيف نجمع بين ذلك؟
الجواب
الأسماء الجديدة التي أحدثها الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيها تزكية دينية بالبر وما أشبه ذلك، وقد يكون فيها تفاؤل ولكن ليس فيها تزكية.(58/45)
حكم التسمي باسم الأب
السؤال
ظاهرة منتشرة خاصة في هذه المنطقة، وهي أن الإنسان لا يسمى باسم أبيه، وخاصة إذا كان الأب حياً، بل إن بعضهم ينكر ذلك ويتكلم فيه؟
الجواب
أسلفت أنه لا بأس أن يسمي الرجل ولده باسمه هو، أو يسميه باسم أبيه، والناس بعضهم يعتبر أن من البر أن تسمي ولدك باسم الأب، وبعضهم يعتبر أنه لا ينبغي أن تسمي الابن باسم أبيه، ويقول: إن هذا مدعاة لأن يموت، وهذا لاشك أنه أيضاً من البدع والخرافات الباطلة.(58/46)
حكم نشر التسمي باسم معاوية
السؤال
يقول ما رأيكم فيمن سن سنةً حسنة بأن سمى ابنه معاوية، حتى يكثر هذا الاسم ويزداد، حيث يكون على النقيض مما تفعلهالشيعة الرافضة، وأنت تعلم أن هذا الاسم مهجور وقليل، فأرجو بيان وجهة نظرك حيال هذا الرأي؟
الجواب
الحقيقة أن معاوية كما تعلمون، هو أمير المؤمنين وسيد من سادات المسلمين، وصحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصاه، وكان يكتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو خال المؤمنين فهو أخو أم حبيبة، وله فضائل عظيمة منها: الحلم، ومنها السؤدد، ومنها توسيع رقعة الإسلام، إلى غير ذلك، ولذلك فإن التسمي باسم معاوية كالتسمي بأسماء بقية الصحابة والصالحين من الأمور الحسنة، ومما يزيده استحباباً -ما أشار إليه الأخ- أن الرافضة يشتمون معاوية رضي الله عنه، ويحطون من قدره، ففي هذا مضادة ومناوأة لهم، وقد كان السلف يستحبون الأمور التي تكون فيها مخالفة لأهل البدعة، كما استحبوا -مثلاً- المسح على الخفين مخالفة للرافضة واستحبوا أشياء كثيرة لمخالفة ومنابذة أهل البدعة.(58/47)
كراهية عمر للتسمي بأسماء الأنبياء
السؤال
ما هو وجه اعتراض عمر رضي الله عنه على التكني بأبي عيسى، وما وجه إنكاره وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
عمر رضي الله عنه، سبق أنه كان يرى منع التسمي بأسماء الأنبياء، ولذلك منع ابنه أن يُسمي محمداً، ومنع هذا أن يُكنى بـ أبي عيسى، وهذا مذهب خاص لـ عمر رضي الله عنه، والجماهير على خلافه، بل التسمي بأسماء الأنبياء مستحب.(58/48)
حكم التسمي بـ (يس) وتغييره
السؤال
في بيتنا اسم: يس، فهل نمنع أهلنا من هذا الاسم أم نغيره أفيدونا؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
في الواقع أنه إذا كان الإنسان يريد أن يبتدئ اسماً فنقول له الأفضل ألَّا تسمي: يس، أو طه، أو حم، أو ما أشبه ذلك، أو سبحان الله، أو تبارك الله كما سلف؛ لكن إذا كان الاسم موجود ومدون في الأوراق الرسمية والدواوين، ففي تغييره صعوبة، فلذلك لا أرى أن يتعجل الإنسان في التغيير؛ لأني لا أستطيع أن أقول: إن هذا الاسم محرم جزماً، فأنا أقول: إنه مكروه وممنوع لما فيه من احتمال التعرض للآيات بالإهانة، لكن إذا كان واقعاً موجوداً فإنه يتريث فيه ويتثبت، وإذا ثبت تحريمه يغير.(58/49)
حكم التكني بأكبر الأولاد
السؤال
حين كنى النبي صلى الله عليه وسلم أبا شريح، فهل هذا يعني أن التسمي بأكبر الأبناء فضيلة، كما هو عند بعض الناس؟
الجواب
لا يلزم ذلك، إنما الرسول صلى الله عليه وسلم سماه بديلاً عن الاسم الذي ذكر، والتسمي بالأكبر هو الأصل المعروف، لأن التسمي بمن دونه قد يكون أحياناً فيه نوع من ضعة قدر الأكبر، أو كان يحدث في نفسه شيئاً: لماذا تتجاوزه، لماذا تتركه إلى غيره، ولذلك نجد بعض الآباء إذا غضب على ابنه الكبير لا يكنى به ويكنى بمن هو دونه.(58/50)
حكم التسمي ببعض كلمات القرآن
السؤال
هناك من الناس من يختار لابنه أو ابنته اسماً من كلمات القرآن الكريم، مثل: أبرار أو أفنان، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا أعلم في هذا حرجاً.(58/51)
حكم تصغير اسم الله
السؤال
ما حكم تصغير اسم الله، مثل عبد العزيز يقال عُزيز، وعبد الرحمن يقال دحيم؟
الجواب
بالمناسبة هناك جماعة من المحدثين عرفوا بهذا الاسم: دحيم وأذكر منهم: عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي أبو زرعة الدمشقي، وهو إمام حافظ مصنف مشهور، فكان يسمى بـ دحيم، وجماعة مثله كان اسمهم عبد الرحمن فكانوا يلقبون بدحيم، والأولى أن يقال عبد الرحمن وعبد العزيز.(58/52)
حكم التسمي بعبد المطلب
السؤال
ماذا نقول في قول النبي عليه السلام: {أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب} مع أنك قلت: لا يجوز اسم عبد المطلب؟
الجواب
اسم عبد المطلب تعبيد لغير الله، ولذلك الظاهر أنه لا يجوز.
أما حكاية ما مضى فلا بأس في ذلك، فأنت لو قلنا لك: ما نسب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ تقول هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فهذا اسمه، فالحكاية لأمر قد مضى لا بأس بها لكن الابتداء هو الذي لا يجوز.(58/53)
حكم التسمي بأسماء جديدة
السؤال
ما حكم تسمية أسماء مستجدة لم تسبق أن سُمي بها، وتكون غير مخالفة للشرع واللغة؟
الجواب
لا بأس بذلك.(58/54)
لا يلزم أن تكون الكنية على أسماء الصحابة والتابعين
السؤال
هل الكنية ملزمة أن تكون على أسماء الصحابة والتابعين؟
الجواب
ليست ملزمة، بل أي كنية تكنى بها الإنسان إذا لم تكن تكون ممنوعة فهي جائزة، وينبغي أن نشيع الكنى بين الناس ونتداولها حتى الصبيان الصغار ينبغي أن يكنوا، وكان هذا معروفاً عند الصحابة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} والمرأة ولدت ولداً فقالت: يا رسول الله، سميته باسمك وكنيته بكنيتك، فكانوا يسمون ويكنون في نفس الوقت.(58/55)
حكم التكني بأسماء الصحابة
السؤال
ما حكم التكني بأسماء بعض الصحابة، مثل أبو ياسر وأبو حذيفة؟
الجواب
هذا حسن جداً.(58/56)
حكم التسمي باسم إيمان وهدى
السؤال
ما رأيك باسم إيمان وهدى ونحوها؟
الجواب
اسم إيمان وهدى ونحوها ليس محرماً، لكن يقال فيه مثل ما يقال في الأسماء التي همَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها؛ لأنه يقال: هل هناك إيمان؟ فيقال: لا، هل هناك هدى؟ فيقال: لا، فهو مكروه لكنه ليس بحرام، ولذلك أقول كما سبق من كان عنده ابنة يريد أن يسميها إيمان أو هدى، نقول له: الأفضل ألا تسميها، لكن إذا كانت ابنه سميت وكتبت هكذا في الأوراق الرسمية كلها، فإن التغيير فيه صعوبة أحياناً.(58/57)
أعذار العلماء
الاختلاف سنة من سنن الله في الناس، فهو لابد واقع، وقد حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم، ثم من بعدهم من العلماء والأئمة.
ورغم أن نصوص الشريعة واضحة في كثير من الأحكام والمسائل، إلا أن العذر حاصل للعلماء فيما اختلفوا فيه، فربما لم يصل لأحدهم حديث وصل للآخر، أو وصل ولم يثبت عنده، أو ثبتت صحته ولم تثبت دلالته، وقد تتدخل عوامل أخرى كالنسيان ودعوى ثبوت النسخ أو عدمه.(59/1)
سبب طرح موضوع: أعذار العلماء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هناك موضوع بل موضوعات مهمة جداً لطالب العلم، فأبدأ -إن شاء الله- من هذه الليلة بالعرض أو التعرض لهذه الموضوعات ولو بشيء من الاختصار، لعل أن يكون فيها فائدة ونفع -إن شاء الله- وهناك موضوعان متقابلان مهمان، سيكون الحديث عنهما بإذنه تعالى لأسابيع عديدة، الأول منهما: أعذار أهل العلم في ترك العمل بسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم -أعذار العلماء في ترك العمل بحديث من الأحاديث أو سنة من السنن- ويدخل فيه الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين أهل العلم، ويقابله موضوع آخر يمكن أن أختار له عنواناً حول مثالب الطلاب، وهو إشارة إلى آفات طالب العلم التي تعترضه ويلزم التنبيه عليها للحذر منها، ومن هذه الليلة إن شاء الله يكون البدء بالموضوع الأول وهو: الأسباب التي تجعل بعض أهل العلم يتركون العمل بحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع ما أراه في واقع كثير من طلبة العلم في هذا العصر من الجرأة على العلماء، ورميهم -أحياناً- بالألفاظ القاسية الشديدة، التي لا تتناسب مع مقدارهم ومكانتهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل.
وعلى سبيل المثال بين يدي الآن كتاب يقول فيه مؤلفه في مقدمته: وإنه من المؤسف المحزن أن من الناس من يدينون بأديان أئمة مذاهبهم، ومشايخ طرقهم، ثم يقول: ألا فليعلموا أنه لا دين إلا دين الكتاب والسنة، وأئمة المذاهب يأخذون من التوراة والإنجيل أو من أين؟! ثم يقول: وأن التقليد الأعمى من غير دليل كفر بالله العظيم، ولقد آن الأوان لكي نحطم هالات التقديس وتيجان الربوبية التي وضعت فوق رءوس أئمة المذاهب ومشايخ الطرق -ومما يلفت النظر أنه جمع بين أئمة المذاهب ومشايخ الطرق وشتان بينهما- ثم يقول في صلب الكتاب وهو يتعقب الشيخ الألباني في أحد المسائل حين تكلم الشيخ عن موضوع الإيمان واختلاف الناس في مسماه قال -تعقيباً على قول الشيخ الألباني: إن العلماء اختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً- قال هذا المتعقب: إن اختلاف الناس في مسألة من المسائل يرجع إلى أنهم لم يدينوا بدين الكتاب والسنة، وإنما دانوا بأديان أئمتهم ومشايخهم، فلا بد من الاختلاف حتماً، أما دين الله -دين الكتاب والسنة- فليس فيه ذرة اختلاف قطعاً ويقيناً، يقول الحق تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ثم يقول: فعلمنا يقيناًَ أن الذي من عند غير الله فيه اختلافاً كثيراً -كذا كتبها ملحونةً فهو لا يفرق بين المبتدأ والخبر، والفاعل والمفعول- وعلمنا يقيناً أن الذي من عند الله وحده ليس فيه ذرة اختلاف، ثم قال: وأهدي إلى القارئ الكريم بحثٌ -الصواب (بحثاً) لأنه مفعول به منصوب، بحثاً- من دين الكتاب والسنة لمسمى الإيمان والإسلام، ثم جاء بما فهمه هو من النصوص واعتبره هو دين الكتاب والسنة.
ومثل هذا كثير في هذا العصر، أصبحت تجد كثيراً من الناس يتجرءون على الأئمة والطعن فيهم، وأنهم لم يختلفوا إلا لأنهم لم يدينوا بدين الكتاب والسنة، وهذا يوجب أن نعرف وخاصة ونحن ندرس -بحمد الله- مسائل على ضوء الكتاب والسنة، ونعرض فيها لأقوال الأئمة المتبوعين وغيرهم، فلا بد أن نعرف ما هي الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف هؤلاء الأئمة أو تركهم لعمل بحديث من الأحاديث.(59/2)
أسباب ترك إمام من الأئمة لحديث من الأحاديث
فهناك أربعة أسباب، لا يخرج عنها حالة واحدة من حالات ترك إمام من الأئمة لحديث من الأحاديث، يعني لا يمكن لإمام من الأئمة المتبوعين الذين أجلتهم الأمة وعرفوا بالذكر الحسن أن يتركوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم إلا لأحد أربعة أسباب فلننتبه لها: السبب الأول: أن لا تبلغه هذه السنة، أي لم تصل إليه، وهذا ما سأتعرض له الآن.
السبب الثاني: أن تبلغه ولا يعتقد أنها تدل على هذا الحكم، أي أن يبلغه الحديث لكن لا يعتقد أنه يدل على الحكم الذي قيل أنه تركه، ويمر علينا من هذا أشياء كثيرة في الدروس، يصل إليه الحديث لكن لا يوافق هذا الإمام على أن هذا الحديث يدل على ما تقولون.
السبب الثالث: أن يبلغه الحديث، ولكنه ينساه، في وقت من الأوقات أو على الدوام، فيفتي بخلافه.
السبب الرابع: أن يبلغه الحديث ويحفظه ولا ينساه ويعتقد دلالته على الحكم المطلوب، لكنه يعتقد أنه منسوخ بدليل آخر، فهذه أربعة أسباب كبرى، كل اختلاف لظواهر القرآن والسنة عند أي إمام من الأئمة المعتبرين لا يخرج عن أحد هذه الأسباب الأربعة البتة، وسنعرض لكل سبب في وقت خاص إن شاء الله.(59/3)
اعتقاد عدم دلالة النص على المقصود
العذر الثالث: أن يبلغه الحديث لكن يعتقد عدم دلالته على المقصود، وهذا أوسع الأبواب وأوسع الأعذار، أن يكون العالم يعتقد عدم دلالة الحديث على المقصود، وأن الشارع لا يريد ما فهمته من هذا النص واحتججت به عليه، وإنما يريد معنى آخر يعينه هذا العالم، وهذا الباب واسع جداً وأكثر كلام أهل العلم واعتذاراتهم تدخل فيه، ولأنه ليس المقصود من هذه الدروس وسوف نتحدث عنه فيما بعد في الكلام على آداب الطلاب ومثالبهم؛ فإنني أختصر الكلام في هذا الأمر، فأقول: إن عدم اعتقاد العالم أن هذا الحديث قصد به كذا وكذا يرجع إلى أحد أمرين: الأمر الأول: يرجع إلى مخالفة هذا العالم في قضية أصولية، ويُفهم هذا المعنى من خلال الأمثلة التالية: فقد يكون العالم يخالف أو له رأي في قضية من القضايا الأصولية، وهذه القضية أثرت في موقفه من هذا النص، فمثلاً العلماء يختلفون كثيراً في مسائل الأصول ومن ذلك اختلافهم في الدلالات، فقد اختلفوا في ما يسمى بمفهوم المخالفة، ودلالة مفهوم المخالفة هل يعمل بها، تصح أم لا، والمقصود بمفهوم المخالفة -كما سبق في مواضع عديدة- هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، يعني إذا نطق الشارع بتحريم أمرٍ وسماه أثبتنا للمسكوت عنه نقيض هذا الحكم، ودلالات مفهوم المخالفة كثيرة عند العلماء من أشهرها عند الأصوليين ما يسمونه بدلالة الحصر، فمثلاً في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد -في قصة طويلة- قال: {إنما التصفيق للنساء} إنما هي أداة حصر، دل هذا الحديث على أن التصفيق للنساء، ودلالته على هذا الحكم، هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ بالمنطوق، لأن نص الحديث إن التصفيق إنما هو للنساء، لكنه يدل بمفهومه على إثبات نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه، فبالنسبة للرجال هل يحسن أو يشرع لهم التصفيق؟ لا، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حصر التصفيق للنساء في الصلاة؛ فدل على أنه يثبت للرجال حكم آخر، أو أن حكم المسكوت عنه وهو التصفيق للرجل له نقيض حكم المنطوق، وعُلِمَ من نصوص أخرى أن الرجل يسبح، بل من نفس الحديث لكن من غير هذا الموضع، فهذه دلالة الحصر، أو مفهوم الحصر.
كذلك من دلالات المفهوم التي يذكرها الأصوليون دلالة الصفة، فمثلاً: إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {في السائمة زكاة} كما في كتاب عمر في الترمذي وعند أبي داود وفي الموطأ؛ أنه في السائمة من الغنم أنه إذا كانت من الأربعين إلى مائة وعشرين شاة، فكونه وصفها بأنها سائمة، هذا وصف دل بمنطوقه على أن السائمة التي ترعى من الغنم إذا بلغت هذا النصاب ففيها زكاة، لكن دل بمفهوم المخالفة لهذه الصفة على أن غير السائمة كالمعلفة ليس فيها زكاة، هذا يسمى مفهوم الصفة، ومن الأمثلة من القرآن الكريم الاستدلال بقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:21] فإن البعض قد يحتج بأن وصفه خمر الجنة بأنه طهور يدل بمفهوم المخالفة على العكس، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون النقيض هو النجاسة قد يكون النقيض هو النجاسة؛ لأنه وقد يكون عدم الطهورية، وقد يكون وصف الخمر في الجنة بأنها شراب طهور أي طيبة مباركة بخلاف خمر الدنيا فهي خبيثة محرمة، على كل حال فإنه يصلح مثالاً لمفهوم الصفة.
ومن دلالات المفهوم عند الأصوليين دلالة اللقب، وذلك كما في حديث عبادة عند مسلم: {الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلى آخر الحديث، فقوله الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلى آخر الأصناف الستة دل عند من يقول بمفهوم اللقب؛ على أن الحكم لا يجري فيما عدا هذه الأصناف، الربا لا يجري فيما عدا هذه الأصناف المنصوص عليها، وهذا مذهب ضعيف، وجمهور العلماء على خلافه كما قد يمر -إن شاء الله- في أيام ودروس مقبلة، ومثل له بعضهم أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الماء من الماء} وهذا الحديث منسوخ، والمقصود أن الإنسان لا يجب عليه الغسل إلا إذا أنزل، فدل هذا الحديث بمفهوم اللقب على أن غير الإنزال لا يوجب الغسل، لكن هذا منسوخ بالحديث المتفق عليه: {إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل} زاد مسلم {وإن لم ينزل} فهذا مفهوم اللقب.
من مفهومات المخالفة عند الأصوليين مفهوم الغاية، وهي أن يقيد الشرع شيئاً بغاية، مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة:187] فأباح الأكل والشرب إلى غاية معينة؛ وهي أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ومثاله من السنة، أيضاً ورد في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المرأة لا تحل لزوجها الأول حتى تذوق العسيل} أي لا يكفي مجرد العقد والدخول -مثلاً- حتى يجامعها، فقيد الحكم بغاية فدل على أنه قبل حصول هذه الغاية لا يوجد الحكم، فلو فرض أن رجلاً عقد على امرأة مطلقة بائنة هل تحل بمجرد هذا العقد لزوجها الأول؟ لا، إذن يثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق، هذا مفهوم الغاية.
من المفاهيم عن الأصوليين مفهوم الشرط وهو أن يعلق الشرع الحكم على شرط، وأمثلته كثيرة جداً منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن ابن عباس: {إذا دبغ الإهاب فقد طهر} فهذا شرط، يعني أنه علق الطهارة على الدبغ، فدل على إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ودل الحديث بنصه (بمنطوقه) أن الإهاب إذا دبغ طهر، لكن بمفهومه على أن ما لم يدبغ فإنه نجس، هذه خمسة أنواع من دلالة المخالفة.
والنوع السادس والأخير هو مفهوم العدد أن ومثال مفهوم العدد حديث ابن عمر: {إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث} الحديث رواه الأربعة عن ابن عمر، فالحديث قيد الماء بالقلتين، فنص الحديث على أن الماء إذا كان قلتين لم يحمل الخبث لكن دل بمفهومه على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، وقد سبق الحديث على هذه المسألة وأن هذا المفهوم عارض بمنطوقه.
وكل ما سبق من الأمثلة المقصود منه بيان معنى هذا المفهوم وهذه الدلالة، إذاً عندنا ستة أنواع تسمى دلالات أو مفهوم المخالفة، قد يكون مفهوم المخالفة مفهوم حصر، وقد يكون مفهوم صفة، وقد يكون مفهوم لقب، وقد يكون مفهوم غاية، وقد يكون مفهوم شرط، وقد يكون مفهوم عدد، وكل هذه الأنواع اختلف فيها أهل العلم، فبعض أهل العلم أبطل دلالة مفهوم المخالفة بالكلية، ككثير من الحنفية والظاهرية ذهبوا إلى أن جميع هذه الدلالات لا يؤخذ بها، وإنما يؤخذ بما نص عليه الشارع، أما ما سكت عنه الشارع فإنه يؤخذ حكمه إما من نصوص أخرى أو يبقى على الأصل فقد يكون الإباحة -مثلاً- أو قد يكون الحل أو ما أشبه ذلك، فمن العلماء -علماء الأصول- من نازع في دلالة المفهوم، ومنهم من نازع في بعض الدلالات، لكن جمهور العلماء على قبول أو الأخذ بدلالة المفهوم.
المقصود من ذلك أن العالم الذي لا يقول بدلالة المفهوم -مثلاً- قد يخالف مفهوم نص من النصوص، فليست مخالفته حينئذ في أنه لا يحترم النص، لكن لأنه لا يرى أن هذا المفهوم لازم له في الشرع، وهذا قد يجعله يترك كثيراً مما تفهمه أنت من النصوص أنه يدل بمفهومه على كذا، هو لا يدل عنده على ما ذكرت، هذا مثال للقضايا الأصولية التي يكون الاختلاف فيها مؤدياً إلى الاختلاف في كثير من المسائل الفقهية.
المثال الثاني: هو اختلاف علماء الأصول في الأمر وماذا يقصد، والأمر عند الأصوليين: هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:77-78] فهذه كلها أوامر: اركعوا واسجدوا، من أعلى إلى أدنى، هذا هو الأمر، اختلف علماء الأصول في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، ماذا يقصد؟ قد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للوجوب، وقد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للاستحباب أو للإباحة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فالصيد ليس واجباً أو مستحباً لكنه مباح، إنما لأنه منع في حال الإحرام؛ بين الله عز وجل أن الإنسان إذا حل من إحرامه حل له أن يصطاد.
إذاً: الأمر المجرد عن القرائن علام يدل؟ اختلف العلماء واختلف الأصوليون، ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الأمر يقتضي الوجوب، الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر ولم يوجد قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب فهو واجب، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] فهدد المخالفين للأمر بالفتنة أو العذب الأليم، ومنها قول موسى عليه السلام لهارون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93] قال الشاعر: أمرتك أمراً جازماً فعصيته ومنها -وهي ومن أقواها- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك} هل السواك مستحب؟ نعم مستحب بإجماع أهل العلم، ومع ذلك هو غير مأمور به بمعنى الإيجاب، بدليل قوله: {لولا أن أشق لأمرت} فدل على أنه ما أمر خشية المشقة، والمقصود أنه لم يأمرهم أمر إيجاب، كما أن قوله: {لولا أن أشق} دليل على أن المقصود أمر الإيجاب لأن المستحب ليس فيه مشقة، بحيث أن الإنسان في سعة في أن يفعله أو أن لا يفعله، هذا من أقوى الأدلة على أن الأمر للوجوب، والأدلة على ذلك كثيرة ولذلك كان القول بأن الأمر للوجوب قولاً قوياً راجحاً.
ومن العلماء والأصوليين من ذهبوا إلى(59/4)
اختلاف العلماء في النسخ
العذر الرابع والأخير والذي نختم به هذا الدرس المتعلق بأعذار أهل العلم في الاختلاف وترك العمل بسنة من السنن، هو أن يعتقد أنه منسوخ، والنسخ كما عرفه الأصوليون: هو نسخ حكم شرعي بحكم آخر متراخٍ عنه، أي متأخر عنه، وعرفه بعضهم بأنه نسخ دليل حكم شرعي أو لفظي، يدخل فيه ما كان منسوخ اللفظ وما كان منسوخ التلاوة، والعلماء مختلفون جداً في النسخ، وإن كان أهل السنة قاطبة يثبتون النسخ إلا من شذ منهم، ولكنهم مختلفون جداً في تطبيقه، فمنهم من يتوسع في النسخ ويقول بنسخ أشياء كثيرة من القرآن والسنة، ومنهم من يضيق دائرة النسخ.
والكلام في النسخ وشروطه يطول؛ ولكن باختصار أقول: من المعلوم أنه لا ينبغي القول بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً؛ لأن النسخ يعني إبطال دليل شرعي ومفهومه، وأن يكون هذا الدليل -آية أو حديثاً في حكم ما- لم يرد في دلالته على هذا الشيء، فلا ينبغي أن يقال بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً، إضافة إلى شروط أخرى مثل أن يعلم المتقدم والمتأخر، وأن لا يمكن الجمع، أو أن يكون النسخ ثبت بالنص كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها} فهذا النسخ ثبت بالنص.
العلماء يختلفون في نسخ بعض النصوص لبعض، ولذلك قد يترتب على ذلك في كثير من الأحيان اختلافهم في حكم شرعي وأضرب لذلك مثلاً واحداً: ورد في حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من مس ذكره فليتوضأ} والحديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري: هو أصح شيء في الباب، وصححه كثير من أهل العلم، والحديث دليل بظاهره على أن من مس ذكره وجب عليه الوضوء، لأن الأمر كما سبق يقتضي الوجوب إذا كان مجرداً عن القرائن فهذا حديث، يقابله حديث آخر وهو حديث طلق بن عدي في قصة الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: {هل يتوضأ من مس الذكر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا.
إنما هو بضعة منك} والحديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان وقال بعض أهل العلم: إنه أحسن من حديث بسرة، فمن العلماء من يقول بأن حديث بسرة الأول ناسخ لحديث طلق بن عدي، لماذا هو ناسخ؟ قالوا: لأنه متأخر، لأن بسرة تأخر إسلامها، بخلاف طلق بن عدي فهو متقدم الإسلام، واحتج بعضهم على تأخر حديث بسرة وأنه ناسخ فعلاً بما ذكره عدد من أهل العلم منهم ابن حزم: أن حديث بسرة ناقل عن الأصل، أما حديث طلق بن عدي فهو مبق عن الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، ومعنى هذا الكلام أنه إذا ورد في المسألة دليلان أحدهما موافق للأصل، لأنه لو لم يرد نص شرعي لمس الذكر، لو لم يرد دليل فما حكم مس الذكر؟ هل ينقض الوضوء؟ لا، لو لم يرد دليل أصلاً لما كان مس الذكر ناقضاً، فالآن عندنا حديثان أحدهما موافق لهذا الأصل وهو حديث طلق بن عدي لأنه قال: {إنما هو بضعة منك} فهذا الحديث مبقٍ لمس الذكر على الأصل أنه لا ينقض الوضوء، وعلله بعلة وهو أنه بضعة منك فهو كيدك أو رجلك أو أي جزء من جسمك.
والحديث الثاني حديث بسرة ناقل عن الأصل قال: {من مس ذكره فليتوضأ} فجاء بحكم جديد ما كان ليفهم إلا من النص الشرعي، وهذا مأخذ قوي فيما يظهر، لأنه يدل على تأخر حديث بسرة، أرأيتم هل يتوقع مثلاً أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مجلس من المجالس: من مس ذكره فليتوضأ، ثم يأتي رجل منهم فيقول يا رسول الله إني مسست ذكري فهل أتوضأ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك، هل يتوقع هذا؟! هذا بعيد، هذا لا يتصور.
لكن العكس ممكن بأن يقول رجل: يا رسول الله، مسست ذكري فهل أتوضأ؟ قال له: لا تتوضأ؛ لأنه بضعة منك، فأجابه وأفتاه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الوضوء بناء على الأصل، ولذلك علل بأنه بضعة منك فالأصل أنه لا يجب على الإنسان الوضوء من مس أي جزء من أجزاء جسمه إلا إذا ورد دليل، ثم تجدد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم حكم وعلم بأن مس الذكر ينقض الوضوء فأخبر به أصحابه بأن من مس ذكره فعليه الوضوء، فهذا دليل على أن حديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن عدي متقدم، ولذلك رجح جمع من أهل العلم وجوب الوضوء من مس الذكر، وليس المجال الآن مجال تفصيل هذه المسألة، إنما هو الإشارة إلى أن النسخ والقول به سبب لاختلاف أهل العلم في كثير من المسائل، فقد تجد إنساناً مثلاً لا يتوضأ من مس الذكر فلا تعيبه حينئذ؛ لأنه اعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وقد تجد آخراً يتوضأ ويقول بوجوب الوضوء، فأيضاً لا تلومه لأنه يعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري إنه أصح حديث في الباب.
وينبغي ويجب أن لا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء، وإن كان لا يمانع أن يكون هناك نقاش أو جدل بالتي هي أحسن ومفاوضة ومدارسة في هذه الأمور، هذا لا بأس به بل هو مطلوب، لأنه يساعد على الوصول إلى الحق، لكن الشيء المعيب هو أن تكون هذه الأشياء مدعاة إلى الخصومة والبغضاء والوقيعة والسب وما أشبه ذلك من الأمور التي حرمها الله ونهى عنها، فلا يجوز أن تقع بسبب هذه الأشياء التي هي معتمد فيها على أصول أو على أدلة شرعية.
نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وبإذنه تعالى نبدأ بالجزء الثاني وهو المهم وهو المقصود أصلاً من هذه الدروس، وهو الكلام عن المثالب والمعايب التي يقع فيها طالب العلم وإنما المقصود بالإشارة إليها التنبيه على وجوب اجتنابها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(59/5)
عدم اعتقاد ثبوت الحديث
هناك جانب آخر نكمله باختصار وهو أن السنة أو الحديث قد يصل إلى هذا العالم، لكن لا يعتقد أنه صحيح، يصل إليه مع اعتقاد ضعفه، بمعنى أنه لا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، إما لأنه لم يسمع به أصلاً أو لأنه سمع به لكن من وجه لا يثبت عنده، ومن المعلوم لديكم أن شروط الحديث الصحيح خمسة: الشرط الأول: عدالة الراوي.
والشرط الثاني: ضبطه.
والشرط الثالث: اتصال الإسناد.
والشرط الرابع: السلامة من الشذوذ.
والشرط الخامس: السلامة من العلة القادحة.
فهذه خمسة شروط يتوقف عليها تصحيح الحديث، بل ومن العلماء من يضيف شروطاً أخرى ككون الراوي فقيهاً وكونه عالماً، وكونه مشهوراً بحمل العلم، وما أشبه ذلك، وكل شرط من هذه الشروط أهل ومحل لأن يختلف فيه أهل العلم، فإن ما يوجد -مثلاً- بين علماء الجرح والتعديل من الاتفاق والاختلاف، مثل ما يوجد بين غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى، فهم يختلفون في توثيق الراوي، ويختلفون في لقائه لشيخه، ويختلفون في العلل، ويختلفون في الاتصال والانقطاع، ويختلفون في الوصل والإرسال، ويختلفون في الشذوذ وعدمه، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصر، ولم أر داعياً لذكر أمثلة لكثرتها أولاً، ولأنه يمر خلال هذه الدروس أمثلة كثيرة جداً، ولو أردنا أن نمثل بأمثلة مما سبق، لوجدنا أن هناك مما اختلف فيه العلماء بسبب اختلافهم في توثيق الراوي أو تضعيفه، وهناك حديث اختلفوا فيه لاختلافهم في اتصال إسناده أو انقطاعه، وهناك ما اختلفوا فيه لاختلافهم في شذوذه أو عدمه، أو اختلافهم في وجود علة فيه من اضطراب، أو إرسال خفي أو نحو ذلك.
فإذا كانت هذه الاختلافات كلها موجودة، ورأيت إماماً ترك العمل بحديث ما، ولو كان صحيحاً في ما اطلعت عليه أنت، فتذكر أن هذا العالم المجتهد قد يرى هذا الحديث ضعيفاً، فحينئذ لا يلزمه أن يقول بموجبه، ولا أن يعمل به، بل يلزمه ألا يعمل به إن وجد أولى منه، من حديث آخر أو ظاهر آية أو قياس جلي أو ما أشبه ذلك مما قد يرجحه بعضهم على الحديث الضعيف، هذا الجانب الأول أو العذر الأول للعلماء في ترك العمل بسنة من السنن، وهو ألا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه السنة أو هذا الحديث، إما لأنه لم يبلغه أصلاً وإما أنه لم يصح عنده من وجه صحيح، والله أعلم.(59/6)
نسيان الإمام للحديث
العذر الثاني: أن يبلغه ولكن ينساه، وهذا ما سأتحدث عنه الآن -إن شاء الله- وبقية الأعذار تأتي إن وفق الله وأعان في الأيام القادمة.
فما يتعلق بالنسيان فهو أمر جبلي طبيعي في البشر، لا ينفك منه إنسان مهما كانت منزلته، ومهما كان علمه وحفظه، والنسيان على نوعين: النوع الأول: نسيان مطلق كامل، بمعنى أن ينسى الإنسان الشيء فيذكر به فلا يذكره، وهذا غير ممكن في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغ عن الله عز وجل فيما يتعلق بالرسالة والتبليغ والوحي، إلا أن يكون في مجال النسخ، أن ينسخ شيء فيحتمل أن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] وكما في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] أما أن ينسى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من أمور التشريع والوحي فيذكر به ولا يذكره، فهذا غير ممكن في شأن النصوص المحكمة، ولكنه ممكن في حق غيره من البشر أياً كانوا من الصحابة فمن دونهم.
أما النوع الثاني: فهو أن ينسى الإنسان شيئاً فإذا ذكر به تذكر، وهذا جائز حتى في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ في المسجد في الليل، فقال: رحم الله فلاناً كم من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دلت رواية البخاري على أن فلاناً هذا هو عباد، يعني عباد بن بشر الصحابي الجليل المشهور، وفي رواية أنه عبد الله بن زيد، وكونه عباد أقوى لأنها في البخاري، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم نسي آية فلما سمع عباداً يقرؤها تذكرها صلى الله عليه وسلم.
ثم من بعده من الصحابة والتابعين وسائر علماء الإسلام يعرض لهم من النسيان من النوع الأول والنوع الثاني، وسأذكر الآن بعض الأمثلة التي فيها ذكر نسيان من بعض الصحابة أو غيرهم، سواء ذُكِّروا فتذكروا أم ذكروا فلم يتذكروا، من غير تمييز بين هذا وذاك.
فمن الروايات الصحيحة المتفق عليها عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر -رجل مسافر تصيبه الجنابة وليس معه ماء كيف يصنع؟! - فقال عمر رضي الله عنه: لا يصلي حتى يغتسل، فقال له عمار بن ياسر رضي الله عنه: أتذكر يا أمير المؤمنين يوم كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا، فأما أنا فتمرغت بالتراب تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فلما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك فقال: إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، وضرب بكفيه الأرض، لوجهه ويديه، فقال عمر: اتق الله يا عمار، قال عمار: إن شئت لم أحدث به يا أمير المؤمنين، قال عمر رضي الله عنه: بل نوليك من ذلك ما توليت، يعني أذن له أن يحدث به ويتحمل مسئولية هذا الخبر الذي نسيه عمر رضي الله عنه ولم يذكره.
وأبلغ من ذلك ما ورد عند أبي يعلى وسعيد بن منصور أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر يوماً فقال: أيها الناس، لا تغالوا في صُدق النساء، فإني لا أعلم رجلاً زاد في الصداق على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددته، وكان مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ثنتي عشرة أوقية ونشاً ونصفاً، فقامت امرأة وقالت: لم يا أمير المؤمنين؟ ثم تلت قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:20] فسكت عمر رضي الله عنه، ورجع إلى قولها، وهذا الإسناد فيه مجانب بن سعيد وفيه لين، ولكن ورد الحديث من طرق عديدة في مصنف عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي، وفي الموفقيات للزبير بن بكار عن عبد الله بن مصعب، وفي غيرها من الكتب، فالظاهر أن الرواية قوية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور وقال: بسند جيد، وفي بعضها أن عمر لما ذكرت المرأة الآية، قال: أخطأ رجل وأصابت امرأة، أو أخطأ عمر وأصابت امرأة، ورجع على نفسه باللوم: أن كل الناس أفقه منك يا عمر، وهذا دأب المؤمن يزدري نفسه ويهضمها ولا يرفعها فوق قدرها، فها أنت ترى أن عمر رضي الله عنه نسي هذه الآية وما تدل عليه من أنه يجوز أن يكون المهر قنطاراً {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] ثم ذكرته هذه المرأة فتذكر.
بل لماذا نذهب بعيداً ونحن نجد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطبقوا على نسيان مفهوم قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] بعد أن دهشوا لموته صلى الله عليه وسلم، حتى قام عمر وهو من أقوى الناس وأثبتهم وأجلدهم، يقول: إن قوماً زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ويصفهم بالنفاق، وأنه سوف يأتي ويقطع رقابهم، فلما صعد أبو بكر وتلى هذه الآية تناقلها الناس حتى كأنهم لم يسمعوها قبل اليوم، وصارت تتلى في كل بيت كأنها نزلت الساعة.
ومما يذكر من نسيان بعض الصحابة ما رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما أن الزبير رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: {هل تحب علياً؟ قال: وما لي لا أحبه يا رسول الله، وهو ابن عمي وابن خالي وأخي في ديني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والله لتقاتلنه وأنت له ظالم} فلما كانت يوم الجمل والتقى الزبير وعلي قال علي للزبير: أما تذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا؟ فقال الزبير: بلى ولكني نسيت، ثم لوى عنق راحلته وشق الصفوف وخرج من المعركة، وذهب حتى نزل في وادٍ يقال له وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له عمر بن جرموز فقتله غيلة، واحتز رأسه -والله حسيبه- ثم جاء برأسه إلى علي بن أبي طالب واستأذن عليه فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {بشر قاتل ابن صفية بالنار} يعني قاتل الزبير، والمقصود برواية البيهقي والحاكم وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم للزبير: {إنك تقاتله وأنت له ظالم} فلما ذكره بها علي ٌ تذكر وعمل بمضمونها، وهكذا من بعد الصحابة من أهل العلم كانوا كثيراً ما يعرض لهم النسيان.
ولذلك صنف أهل العلم كتباً خاصة بهذا الباب، فصنف الإمام الدارقطني كتاباً أو جزءاً فيمن حدث ونسي، ثم تبعه على ذلك الإمام الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المشهور بـ الخطيب البغدادي، فصنف جزءاً فيمن حدث ونسي، وتبعهم السيوطي فلخص كتاب الخطيب البغدادي في جزءٍٍ سماه تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي، وذكر فيه ما يربوا على ثلاثين حالة حدث فيها أهل العلم الثقات بأحاديث ثم نسوها.
ومن الطريف أنهم ينسونها أحياناً، فيقول من روى عنه إنك حدثتني بهذا، فيبدأ الشيخ يروي عن فلان أنني حدثته عن فلان، ومن ذلك ما رواه سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل} والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن الحديث فلم يعرفه.
ومن ذلك أيضاً ما رواه ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} والحديث أيضاً رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال العلماء: فنسي سهيل بن أبي صالح هذا الحديث، فكان يقول: حدثني ربيعة بن عبد الرحمن، -الذي أخذ عنه هذا الحديث- أنني حدثته عن أبي عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} وقد ذهب أكثر أهل العلماء من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين إلى أنه تقبل هذه الرواية وإن نسيها صاحبها ما دام الراوي عنه ثقة، وذهب بعض الأحناف إلى عدم قبولها، ولذلك ضعفوا الحديث الأول وأجازوا أو أجاز كثير منهم أن تنكح المرأة البالغة العاقلة نفسها، ولكن الصحيح أنه يقبل إذا كان الراوي ثقة إذا كان الذي أخذ عن هذا الرجل الذي نسي ثقة.
والمقصود أن النسيان يعرض لابن آدم، وقد يتذكر وقد لا يتذكر، فقد ينسى إمام من الأئمة أو عالم من العلماء آية قرآنية أو حديثاً نبوياً فيقول بخلاف ما يدل عليه، فإن ذكر وكان الحديث ظاهراً أو كان الدليل آية قرآنية تذكر ورجع كما رأيتم، وقد يذكر فلا يتذكر، ويبقى على نسيانه سواء لعلة ظهرت له كما حصل لبعضهم، أو لأنه شرد من ذهنه هذا الحديث ولم يستطع أ(59/7)
عدم بلوغ جميع الأحاديث لأي إنسان
وسنبدأ الآن بالسبب الأول، وهو: ألا يبلغه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكون في المجلس وعنده بعض أصحابه، فيتكلم بالحكم أو الحديث أو تحصل الواقعة، فينقلها هؤلاء الصحابة لغيرهم ولمن بعدهم من التابعين، وينقلها التابعون لتابعيهم حتى تصل إلينا، ثم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس آخر، عنده قوم آخرون من الصحابة ما حضروا المشهد الأول فيتكلم بكلام آخر، وتحصل واقعة أخرى فينقلها هؤلاء الحضور إلى غيرهم وإلى من بعدهم حتى تصل إلى الأمة، فنجزم إجمالاً بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي يحتاجها المسلمون في الشرع والأحكام والحلال والحرام محفوظة مضبوطة بالجملة، لكن لا يلزم أن تكون عند كل واحد من الأئمة، بل من اعتقد أن إماماً من الأئمة قد أحاط بالسنة كلها فقد أخطأ خطأً شنيعاً، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفذ "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": من اعتقد أن إماماً من الأئمة قد أحاط بالسنة كلها فقد أخطأ خطأً شنيعاً؛ لأن دواوين السنة متفرقة، وقلما تجتمع عند شخص بعينه، وحتى لو افترض اجتماعها عنده، لا يعني أنه أحاط بها، بل قد يكون فيها ما لا يعلم هذا الإمام.
ولنلق نظرة سريعة على أعلم الناس وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى أعلم الصحابة وهم الخلفاء الأربعة، فبالنظر سنجد أن هؤلاء الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم قد فاتهم شيء من السنة، كان عند غيرهم ممن هو أقل منهم علماً وأقل ملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الذي كان ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول -كما في الصحيح-: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر فكانا ملازمين له صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، وبالذات أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك جاءت إليه الجدة تسأله نصيبها من الميراث وهي أم الأم وفي رواية أم الأب، فقال لها: مالك في كتاب الله شيء، وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لك شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس.
فصعد أبو بكر رضي الله عنه على المنبر، وسأل الصحابة إن كان أحد منهم يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في ميراث الجدة شيئاً، فقام المغيرة بن شعبة فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك أحد؟ فقام محمد بن مسلمة فشهد على ذلك، فأعطاها أبو بكر السدس، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والإمام أحمد، وهو من رواية قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر رضي الله عنه، وقبيصة من التابعين لم يلق أبا بكر رضي الله عنه، فروايته عنه مرسلة، فالحديث على هذا مرسل ولكنه يعتضد بالإجماع على الأخذ به، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي أن الصحابة والتابعين اتفقوا على أن نصيب الجدة السدس، فهذا أبو بكر رضي الله عنه خفي عليه ميراث الجدة حتى أخبره من هو أقل منه علماً وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ومحمد بن مسلمة، وكذلك وردت هذه السنة عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
ثم انظر إلى الخليفة الثاني وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد طالت مدة خلافته فكثرت فتاواه رضي الله عنه، وهو من فقهاء الصحابة المعدودين ولذلك نقل عنه أشياء كثيرة حفيت عليه فيها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، من أشهرها ما في الصحيحين أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر بن الخطاب في بيته، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فكان عمر مشغولاً ببعض شأنه وربما كان يريد أن يؤدب أبا موسى لأن أبا موسى كان والياً على الكوفة وكان عمر يريد أن يبين له أن حجز الناس في الأبواب وحجبهم أمر ثقيل وشاق على النفوس، فاستأذن أبو موسى مرة ثانية، وقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، فسكت عمر، فاستأذن مرة ثالثة، وقال: السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف، فانتهى شغل عمر وانتبه، وقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ قالوا: بلى، قال: علي به، فنظروا فإذا هو قد ذهب، فجاءوا به إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال: ألم أكن أسمع صوتك تستأذن بالباب؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فقال عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت أو لأودعنك، فـ عمر رضي الله عنه كان يشدد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يتثبت الناس في التنقل والرواية، لذلك ضرب المثل بـ أبي موسى؛ لأنه يعرف أن أبا موسى لا يمكن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أراد أن ينبه الناس إلى أنه هكذا سنفعل، فمن كان غير متثبت فعليه أن لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أبو موسى من عنده مذعوراً فزعاً، فمر على نفر من الأنصار جلوساً، فقال لهم: هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الاستئذان ثلاثاً، فتضاحك القوم، فقال لهم: يأتيكم أخوكم فزعاً مذعوراً فتتضاحكوا، فسألوه ما شأنه فأخبرهم، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فذهب إلى عمر رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وفي صحيح مسلم أن أبياً جلس مع أبي موسى عند المنبر فقال عمر لمن حوله: إن وجد أبو موسى أحداً يشهد له فستجدونه عند المنبر، وإن لم يجد فلن تجدوه، فلما أقبل عمر وجد أبا موسى وأبياً عند المنبر، فقال لـ أبي موسى أوجدت أحداً؟ قال: نعم، هذا أبي بن كعب، فقال: ما تقول يا أبا المنذر؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ثم قال أبي بن كعب: يا ابن الخطاب لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما سمعت أمراً فأردت أن أتثبت.
فهذا عمر رضي الله عنه وهو من هو في سعة علمه، وجلالة قدره، وثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في الأحاديث الصحاح، حتى أنه ذكر في الحديث الصحيح: {أنه رأى الناس وعليهم قمص، منهم من يبلغ الثدي، ومنهم من دون ذلك، وعلى عمر بن الخطاب قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين} وفي الحديث الآخر، قال: {أوتيت بلبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم} فرجل بهذه المنزلة وبهذه المثابة، ومع ذلك يتعلم سنة الاستئذان ثلاثاً ممن هم دونه في العلم، كـ أبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد الخدري، ونحوهم.
وحادثة أخرى لـ عمر رضي الله عنه وهي أنه لما ذهب إلى الشام ونزل بسرف وهي بلدة على أطراف الجزيرة بحدود الشام، سمع بأن الطاعون قد أصاب أهل الشام وانتشر فيهم، فتحير في ذلك رضي الله عنه فجاء بالمهاجرين الأولين فاستشارهم، فأشاروا عليه برأي ولم يذكروا له سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أحضر الأنصار واستشارهم فأشاروا عليه برأي، ثم أحضر مسلمة الفتح واستشارهم فأشاروا عليه برأي وكان عبد الرحمن بن عوف غائباً في بعض شأنه، فلما جاء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: {إذا نزل الطاعون في أرض وأنتم فيها؛ فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به في أرضٍ؛ فلا تقدموا عليه} ففرح بذلك عمر وسر ورجع، فهذه السنة خفيت على عمر رضي الله عنه، بل وعلى جمهور المهاجرين وسائر المسلمين، وحفظها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولـ عمر قصص عديدة غير هذه.
فإذا انتقلت إلى الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وجدت أنه لم يعلم بأن المرأة المتوفى عنها تعتد في بيتها، حتى أخبرته بذلك الفريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد الخدري أخبرته بقصتها وأنه توفى عنها زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
فإذا انتقلت إلى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجدته وابن عباس رضي الله عنهما يقولان: بأن المتوفى عنها وهي حامل تعتد أطول الأجلين من الحمل أو من أربعة أشهر وعشراً، مع أن في الصحيحين وغيرهما من حديث سبيعة الأسلمية حين توفي عنها زوجها سعد بن خولة فوضعت فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها خرجت من عدتها بذلك.
فإذا كان هذا هو الشأن في الصحابة بل في الخلفاء الراشدين؛ فغيرهم من العلماء من باب أولى أنه قد يفوت الواحد منهم شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يشترط أن يكون محيطاً بالسنة كلها، فإن هذا لو قيل لكان معناه أنه لا مجتهد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى من الصحابة، لأن(59/8)
مفهوم التجديد في الإسلام
تحتوي المادة على أهمية الموضوع ومعنى التجديد عند المسلمين والمستغربين، ثم بين من هو المجدد وما هي الشروط التي لا بد أن تتوفر في المجدد.(60/1)
أهمية موضوع التجديد
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا الموضوع هو موضوع مهم وخطير في واقع المسلمين اليوم، ألا وهو: موضوع التجديد، وأهمية هذا الموضوع تأتي من جوانب عديدة.
فأولاً: التجديد هو: القدر الإلهي القادم لا محالة الذي تنتظره وتتطلع إليه نفوس المؤمنين، بعدما أجهدها السير في الطريق.
ثانياً: إن التجديد أصبح ادعاؤه مَزْلقاً، سبَّب لكثيرٍ من الناس ألواناً من الانحراف في فهم الإسلام أو تطبيقه باسم التجديد المزعوم.
إخوتي الكرام: أجزم أن الوقت المخصص لهذه المحاضرة وهو ساعة، إضافة إلى نصف ساعة للأسئلة غير كافٍ نهائياً للحديث عن هذا الموضوع الخطير، ولذلك فإنني منذ البداية سأحرص على التركيز على جوانب أرى أن إبرازها مهم في الموضوع، وربما لا أقف عند أمور مفيدة من الناحية العلمية لكن الأمر بالنسبة لها هين ويسير.
فالتجديد سنة إلهية شرعية في هذا الدين، وهو ملائم جداً ومناسب لما هو معلوم من أن الله تعالى ختم الأنبياء والمرسلين بمحمد صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] فالعلماء الذين يجددون الدين لهذه الأمة هم -إن صح التعبير- نواب وخلفاء وورثة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، يقومون بدعوة الناس إليه وحثهم عليه، ولذلك يقول أحد العلماء المعاصرين المهتدين: إن العلماء في هذه الأمة هم كالأنبياء في بني إسرائيل، وهذا الكلام -في نظري- صحيح، وهو أن العلماء في أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم كبعض أنبياء بني إسرائيل من الذين لم يكونوا رسلاً يأتون برسالات جديدة، وإنما يجددون شريعة النبي السابق لهم، فعوض الله هذه الأمة ببعثة المجددين على رأس كل مائة سنة ليُحْيُوا ما اندرس من أمر هذا الدين.
وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فقال في حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدد لها دينها} .
والحديث أولاً: لا إشكال في تقويته وصحته، وقد صححه العلماء، كـ ابن حجر والسيوطي والسخاوي والمناوي والحاكم، وغيرهم، بل قال السيوطي: اتفق العلماء والحفاظ على تصحيحه، وفعلاً بعد بحثٍ وتَحَرٍّ لم أقف على عالم واحد تكلم في صحة هذا الحديث أو إسناده، بل إن من غرائب الأمور أنه حتى أولئك الذي يرفضون كثيراً من السنة ويشككون في أحاديث الآحاد، ويقفون من الهدي النبوي موقفاً أقرب إلى العداء والرفض، حتى هؤلاء يدندنون بهذا الحديث ويقولون به، وذلك ليس لوجه الله، وإنما لحاجة في نفس يعقوب قضاها، والمهم أن الحديث متفق على صحته على ما ذكره الإمام السيوطي، وكذلك بحثتُ فلم أجد أحداً ضعَّف هذا الحديث في مصادر كثيرة جداً من مصادر السنة النبوية.
ثم أنتقل إلى نقطة ثانية بعد هذا المقدمة والتمهيد المختصر، فأقول: ما هو جوهر التجديد؟ أي بالضبط: ما المقصود بالتجديد؟ وما جوهره؟(60/2)
الجانب الأول من جوانب التجديد
ومن خلال هذا العنوان يبدو أن التجديد المنتظر والمطلوب يتلخص في ثلاثة أمور: الأمر الأول: هو: إحياء الفهم الصحيح للإسلام، ونفي جميع الأشياء التي دخلت على الإسلام من تأثيرات الفلاسفة أو الصوفية أو غيرها، أو من تأثيرات البيئة والواقع الذي يعيشه الناس، فهذا الإحياء للفهم الصحيح للإسلام هو من أهم مهمات المجددين، ونحن نعرف جميعاً أنه قد دخل في فهم - لا أقول في الإسلام -الناس للإسلام تأثيرات غريبة جداً، وأصبحت تقرأ في بعض الكتب أشياء لا تفرق بينها وبين ما عند اليهود والنصارى والبوذيين والمجوس والوثنيين وغيرهم، وهي باسم الإسلام تُرتَكَب.
وأذكر -على سبيل المثال- أنني قرأت في كتاب: الطبقات للشعراني بعض القصص والأخبار في منتهى الغرابة؛ حتى أنهم ذكروا من طرائفها -فنحن إذا كنا نسمع بصكوك الغفران عند النصارى فعند الصوفية ما هو أشنع منها، وإن لم يكن على المستوى العام-: أن النقشبندي شيخ الطريقة الصوفية كان قد أراد أن يشتري من إنسان بستاناً، فاشترط عليه صاحب البستان أن يكون الثمن قصراً في الجنة، -لا يريد ثمناً في الدنيا- فوافق شيخ الطريقة على ذلك، وكتب صكاً أو عقداً -وهو مكتوب معروف-: هذا ما باع فلان بن فلان على الشيخ النقشبندي، باع لي بستانه الواقع في مكان كذا، بقصر أو ببستان في الجنة، يُحد شرقاً: بجنة عدْن، وغرباً: بجنة الفردوس، وشمالاً: بجنة المأوى، وجنوباً: بجنة النعيم، وهذا موجود بهذه الصورة.
ومن الطريف أيضاً أنهم يقولون: لما مات هذا الرجل البائع رآه رجل في المنام وهو يقرأ هذه الآية: {لقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} [الأعراف:44] .
ويذكر عن أحمد البدوي -المسمى بالسيد-: وهم يقولون: أنه خاتم الأولياء، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، هكذا تقول الصوفية- فيذكرون عن البدوي هذا، أن الله تعالى قال له: سلني يا عبدي -حيث جعل الله له ثلاث دعوات مستجابات، كما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم- يقول: سألتُ الله ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة -وهذا تركيب؛ لأن هناك حديث بهذا اللفظ- فأما التي أعطاه الله تعالى هو أنه سأل الله تعالى أن يغفر لكل من كان اسمه أحمد، فأعطاه الله ذلك، وسأله أن يختم به الأولياء؛ فأعطاه ذلك، وسأله أن يدخله النار!! فمنعه ذلك، نعم، منعه ذلك، وقال: لأنه لو دخلها لَتَمَرَّغ فيها ولتحولت إلى حشيش أخضر، أي لو دخل النار لتحولت إلى حشيش أخضر.
وهذا ليس فيه فرق -في اعتقادي- عما هو موجود عند الديانات الوثنية والخرافية والمحرفة، لكن ميزة الإسلام أن هناك مرجعاً يمكن التحاكم إليه ونبذ ما يخالفه، وهو: القرآن والسنة، بخلاف الديانات الأخرى، فقد التبس فيها الحق بالباطل على وجه لا يمكن فيه التمييز.
إضافةً إلى أننا نعلم أن كثيراً من الناس يستقون فهمهم للإسلام من الواقع، ويعتبرون أن الواقع مصدر الإلهام في فهم الإسلام، أيَّاً كان هذا الواقع.
وأتعجب أن الدكتور: حسن حنفي، وهو من أدعياء التجديد، وله كتاب اسمه: التراث والتجديد، يحاول أن يقرر أن الميزان في معرفة الأشياء الصحيحة من الخاطئة هو الواقع، فكل شيء يثبت في الواقع أنه مفيد فهو صحيح، وكل شيء يثبت في الواقع أنه غير مفيد فهو غير صحيح، يعني: ليس مهماً أن يكون الأمر مشروعاً أو غير مشروع، لكن المهم أن يكون الأمر مفيداً في الواقع، فإذا كانت -مثلاً- الاشتراكية أمراً مفيداً في الواقع، أو من خلال تطبيقها تبين أن فيها -مثلاً- تحريك لطبقة معينة من الناس، وتوزيع عادل -على حد زعمه- للثروة فهي تعتبر تجديداً، وأدهى وأمر من ذلك أن هذا الرجل تكلم عن قضية ما يسمى في التاريخ الإسلامي: بوحدة الوجود، وهي فكرة صوفية تدعي أن الخالق والمخلوق شيء واحد.
الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف ومعروفة أبيات ابن الفارض في هذا الباب وغير ابن الفارض.
فوحدة الوجود هذه عقيدة صوفية إلحادية، يقول حسن حنفي: إن هذه العقيدة قد تكون في الماضي غير مناسبة وغير صحيحة لضررها، لكنها في العصر الحاضر هي عين الصواب، وهي التجديد، -لماذا؟ - قال: لأن القول بوحدة الوجود يعطي الإنسان قيمته وماهيته، في الوقت الذي سُحِق الإنسان فيه، وضاعت كرامته، وأُهْدِرت شخصيته، وأصبح مجرد تابع ذليل خانع، فالقول بأن المخلوق والخالق شيء واحد يعيد للإنسان نوعاً من أهميته وشخصيته واستقلاليته! إذاًَ ليس المقياس في رفض فكرة ما أو قبولها أن الشرع يرفضها أو يقبلها عند هؤلاء، بل يقيسون الأمر بمدى نفعها في الواقع، فإذا كان الأمر مفيداً في الواقع فهو من التجديد، وإذا كان الأمر غير مفيد في الواقع -في تقييمهم ونظرهم- فهو ليس من التجديد.
ونعلم أن الخضوع لسياسة الأمر الواقع -على سبيل العموم- اليوم أصبح أمراًَ يهيمن على كثير من مُفَكِّري الإسلام وعلمائه، يعني: الحضارة الغربية اليوم هي الحضارة المسيطرة الغازية، وهي تبسط أجنحتها الغربية والشرقية، وتبسط أجنحتها على الدنيا كلها.
والشعوب الإسلامية تُصَنَّف فيما يُسمى بدول العالم الثالث، أي: العالم المتخلف، الفقير الجاهل المريض، وبالتالي صار كثير من المسلمين ينظرون إلى الكفار نظرة إعجاب وتقدير، بل إن كلمة: الكفار أصبحت ثقيلة على النفوس، وكثير منا يستثقل إطلاق كلمة: كفار عليهم، مع أنها هي الكلمة الواردة في القرآن وفي السنة، وهي أمر طبيعي، لكن كثيراً منا يمكن أن يعبر بأي لفظ، لكن يستحي من أن يطلق عليهم أنهم كفار، أو يحكم عليهم بما حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكثير من هؤلاء المسلمين بل وربما الدعاة أصابتهم هزيمة داخلية، وصاروا يعيشون ما يسمى: بسياسة الأمر الواقع، فهم يقولون: لا معنى أن نظل ومتشبثين ومتمسكين بأمور معينة، على رغم أن الواقع قد رفض هذه الأشياء.
إذاً فالجانب الأول من جوانب التجديد: هو: إحياء الفهم الصحيح للإسلام، بنبذ جميع التأثيرات الصوفية والفلسفية والخرافية والبيئية التي دخلت في الإسلام، وبعدم إخضاع فهم الإسلام للواقع الذي يعيشه الناس ويتغير من بلد إلى آخر ومن وقت إلى آخر.(60/3)
التجديد في العلوم الإسلامية
ويدخل في هذا التجديد أيضاً: التجديد في العلوم الإسلامية.
خذ على سبيل المثال: التجديد في علم التفسير، فما أحوجنا إلى كتاب في التفسير يفسر كلام الله تعالى بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ وكُلِّفَ ببيان القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] وفي الآية الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان، وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول عليه الصلاة والسلام: أولاً: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفاً واحداً؛ حتى الآيات التي نزلت في معاتبة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المواقف، كان يتلوها على الناس عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام الناس ويقول لهم -مثلاً-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] فينقل الآيات التي فيها عتاب له صلى الله عليه وسلم، كما ينقل الآيات التي فيها مديح وثناء عليه، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ؛ لأن مهمته صلى الله عليه وسلم هي البلاغ.
هذا هو معنى قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] .
ثم ننتقل إلى مرحلة أخرى في الآية: {وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2] والتزكية هي: تربيتهم.
إذاًَ لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس هذا حلال وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاءون، لا، بل كانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطبيقاً وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [[هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خُلُقَه القرآن]] وكذلك جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم في حديثه الطويل في الحج، يقول: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو أعلم به منا، فما عمل من شيء عملنا مثله]] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزكي الناس بالقرآن الكريم قولاً وفعلاً: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] .
ثم المرحلة الثالثة: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مرَّ ذكرها: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] .
إذاً تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله، وقد عنِي العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة، بعضها مخطوط، وبعضها مفقود، وبعضها مطبوع، ولو راجعتَ كتاب: الدر المنثور للسيوطي، لوجدته جمع طائفة كبيرة جداً من هذه الأحاديث، ولو راجعت الجزء الثاني من جامع الأصول لوجدتَ معظم الجزء مخصصاً لكتاب التفسير، ونقل التفسير النبوي للقرآن الكريم.
إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور: إننا -الآن- نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام -وليسوا بمسلمين- أصبحوا يرفضون السنة كلها، ففي شبه القارة الهندية جماعات يُسَمَّوْن بالقرآنيين، أو بأهل القرآن، وهذه الجماعات ترفض السنة النبوية كلها، وتعتمد فقط على القرآن الكريم، ومع الأسف قرأتُ قبل أشهر كتاباً اسمه: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بالمملكة، والكتاب قيِّم وأشيد به وأنصح بقراءته للمهتم بهذا الموضوع، لكن مما أحزنني: أن الكاتب ذكر في إحدى الهوامش أن بعض زعماء القرآنيين قد تزوج بالأمريكية المسلمة مريم جميل، وهي امرأة لها تاريخ مشرق، ومن خلال مراسلاتها مع أبي الأعلى المودودي يبدو أن المرأة كانت تحمل هَمَّ الإسلام، وكانت تلتزم بالفهم الصحيح للدين، حتى في بداية التزامها بالإسلام، فإن كان هذا الخبر مؤكداً فهو يستحق الحزن فعلاً، ولعله أن يكون في الأمر ما فيه.
والمهم هو أننا نعلم أن هناك من يؤمن بالقرآن ويرفض السنة، كما أننا نعلم في المقابل أن كثيراً من الذين يؤمنون بالسنة أصبحوا يحاولون أن يرفضوا كثيراً من الأحاديث الواردة مما لا يتفق مع أهوائهم وأمزجتهم.
فنحن بهذا العمل الذي نقوم به -تفسير القرآن بالسنة النبوية- نربط بين المصدرين، نربط القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن؛ بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، على الأقل في أذهان جماهير المسلمين، فنقول لمن يؤمن بالقرآن: لا بد أن تؤمن بالسنة، لأن القرآن أحال إلى السنة، ونقول لمن يؤمن بالقرآن -أيضاً- ويرفض بعض السنة: هذه السنة التي ترفضها هي بيان لهذا القرآن الذي تقبله، ولذلك فإن من المهم جداً أن يتجه بعض طلبة العلم كنوعٍ من أنواع التجديد، إلى مشروعٍ من مشاريع التجديد إلى تفسير القرآن الكريم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لا بد من استبعاد ما لا يتفق مع الأصول الشرعية المقررة، والدلالات اللغوية الصحيحة من التفاسير التي سادت بين الناس، وكثيراً ما تقرأ -وخاصة في هذا العصر- ألواناً من التفسير ليس لها علاقة بالآية، يعني: يُسَرِّح المفسر أو الكاتب طرفَه وفكرَه وخيالَه، ثم يكتب ما شاء له قلمُه أن يكتب، ويسمي هذه الكتابة تفسيراً، ويعتبر أنها شرحٌ للقرآن الكريم، وهذا لا شك أنه مَزَلَّّةُ أقدام.
ومَثَلٌ آخرُ في مجال العلوم الإسلامية، في مجال الحديث والفقه: مسألة التجديد في دراسة أسانيد السنة النبوية، أي: تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وهذه في أمس الحاجة إلى تجديد، وأعلم أن هناك علماء لهم جهود، ولعل من أبرز من نشاهده في هذا المجال: الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، فهو مِن أحسن مَن خدم السنة في هذا العصر، وليس هو الوحيد في هذا الباب، بل يوجد من علماء شبه القارة الهندية، ومن علماء مصر كالشيخ: أحمد محمد شاكر، ومن علماء المملكة كسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز، ومن بعض الشباب الذين يهتمون بالسنة ولهم جهود طيبة، لكن مع ذلك -في اعتقادي- أننا بحاجة إلى التجديد في مجال دراسة أسانيد السنة، فبعض الشباب مثلاً: ظنوا أن دراسة الأسانيد وتصحيح الأحاديث مسألة آلية، يأتي بكتاب: تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر الذي حكم فيه على الرواة إجمالاً، ويأتي بالرجال ويفتح التقريب، ويقول: الرجال ثقات؛ إذاً الإسناد صحيح، أو يعتمد على تصحيح الألباني أو غيره على حديثٍ ما، ويعتبر أنه مُتَعَبَّد بهذا الشيء، وقد ينتقد من يخالفه، وهذه لا شك تحتاج إلى إبعاد هذه المفاهيم عن نفوس الناس.
فنحن إذا كنا لا نقبل من الفرد أن يقلد إماماً قديماً في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ويعرض عما عداه، فكيف بإمام معاصر! هو أولى أن لا يقبل حكمه على غيره، وليس من المقبول ما ذكره أحدهم في ترجمة الشيخ الألباني حفظه الله أنه قال: إن الألباني معاصر واطلع على ما كتبه السابقون، وبذلك عرف أسانيد وطرق لم يعرفها غيره فجاء حكمه شاملاً، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا أحد يمكن أن يدعي أن علم السنة النبوية محفوظ عند شخص واحد أبداً، والألباني في الوقت الذي يتعقب هو غيرَه من العلماء، يتعقبُه غيرُه، فهو بشر كغيره، صحيحٌ أنه أفضل من كثير من معاصريه؛ لكن ليس معنى ذلك أن العلم توقف عند الشيخ الألباني.
إذاً نحن بحاجة إلى عشرات الرجال من أمثال الشيخ الألباني، والشيخ أحمد شاكر وسواهم، يهتمون بدراسة الأسانيد ومعرفتها معرفة صحيحة.
وهناك أمر آخر: وهو مسألة نقد المتون، لأنه أحياناً قد يكون السند ظاهره سليم ليس فيه آفة أو علة توجب ردَّه، لكن المتن فيه علة، وهذه أيضاً مشكلة؛ لأن الكلام هذا هو حقٌّ في ذاته؛ لكن أحياناً يكون حقاً يراد به باطل، ولعلكم تذكرون أن الشيخ الغزالي غفر الله لنا وله يتكئ كثيراً على هذه القضية في رد كثير من الأحاديث، بحجة: أن هذا المتن فيه علة فيرده، وقد أكثر من هذا الأمر، وكانت العلة في الغالب -عنده- هي مجرد أن الحديث لا يقنعه هو، حتى أنني سمعت في شريط ما يناقش طالباً جزائرياً في رسالة ماجستير في حديث أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فقال: أنا أرفض هذا الحديث لأنه يعارض القرآن، وكل حديث يعارض القرآن -يقول بلهجته-: حُطُّهُ تحتَ رجليك!! فهكذا يقول وهي كلمة بلا شك ثقيلة وصعبة، لكن حدثت منه وهي خطأ كبير لا شك.
والمقصود أن الشيخ كان يتكئ على قضية أن الحديث في متنه علة.
ومن الطرائف: أنه بعد فترة من الزوبعة التي أثارتها هذه ا(60/4)
الجانب الثاني من جوانب التجديد: تطبيق الإسلام في الواقع
الجانب الثاني الذي يشمله موضوع التجديد هو: تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وهذا يشمل جوانب عديدة -أيضاً- منها:(60/5)
التجديد في ميدان الدعوة
وهناك جانب آخر من جوانب التجديد في تطبيق الإسلام، وهو: التجديد في ميدان الدعوة إلى الله تعالى، والتجديد في وسائل الدعوة.
والدعوة إلى الله الأصل فيها الإباحة، بمعنى: أن أي وسيلة جديدة يتَفَتَّق عنها العصر الحاضر أو العصور القادمة إذا لم تكن محرمة -لم يقم الدليل على تحريمها- فالأصل جواز استخدامها في الدعوة إلى الله تعالى، ولا يشترط في الوسيلة أن تكون توقيفية، بمعنى: أن تكون منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد استخدم المسلمون في الدعوة وأمور الإسلام وسائل لم تكن موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام: كتدوين الدواوين، وتنظيم الجند، وقضايا بيت المال، وقضايا الكتب، وغيرها من الأمور والوسائل التي جدَّت في عصور متأخرة؛ فأخذها المسلمون عن الأمم الأخرى وانتفعوا بها، فالأصل في الوسائل الإباحة.
ولا شك أن العصر الحاضر تَفَتَّقَ عن وسائل كثيرة للدعوة إلى الله تعالى، ومما يُعاب على الدعاة أنهم ما زالوا جامدين على وسائل قديمة، ولم يفكروا في الاستفادة من الوسائل الجديدة في الدعوة إلى الله، ولعلَّ أبرز مثال هو وسائل الإعلام: فسائل الإعلام أصبحت تصوغ عقول الناس وحياتهم وأفكارهم في كل مكان؛ لكن آخر مَن يهتم بوسائل الإعلام هم الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وإذا اهتموا بها اهتموا بها بطريقة غير صحيحة -في كثير من الأحيان- وغير مجدية، بل ربما يكون ضررها أكثر من نفعها.
وقضية الإدارة -مثلاً-: كثير من أعمالِ المسلمين ومراكزِهم وجهودِهم ومؤسساتِهم مَبْنِيَّة على نوعٍ من الفوضى والارتجال، ولم تستفِد من الطرق والنظريات الجديدة في الإدارة، فهناك طرق تطورت الآن تطوراً مذهلاً وهائلاً، وأصبح بالإمكان الاستفادة من الوقت، وضبط الوقت، وحفظ الوقت، وطرد إدارة أعداد هائلة من الناس بسبب كمية قليلة بطرق معينة.
فنحن نحتاج إلى الاستفادة من هذه الوسائل، وقل مثل ذلك في وسائل كثيرة جداً في هذا العصر.
ومن الأشياء المهمة أيضاً في قضية تجديد الإسلام ووسائل الدعوة، هي: موضوع مخاطبة الجماهير، فقد آن الأوان ألا تكون الدعوة إلى الإسلام وقفاً على دعوة الشباب والطلاب وغيرهم، لا، بل نحتاج الآن إلى مخاطبة جماهير الناس؛ لأن الجماهير اليوم مستهدفون من أعداء الإسلام، ولعلكم جميعاً تسمعون عما يسمى بالبث المباشر، الذي تخطط له الدول الأوروبية والغربية والشرقية عبر الأقمار الصناعية، بحيث تسقط آلاف البرامج على البلاد الإسلامية ليتلقاها الناس في قعر بيوتهم، وهذا غزو خطير: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10] وفعلاً هذا هو الواقع، فأعداء الإسلام يخاطبون جمهور المسلمين اليوم، والضالون والمنحرفون من المسلمين وأصحاب المناهج المنحرفة اليوم يخاطبون جمهور المسلمين.
وأيضاً الدعاة بحاجة إلى أن يخاطبوا جمهور المسلمين، وأن نبسط العلم للناس، ونسهله لهم، وأن نحاول أن نخاطب أكبر طبقة ممكنة من الناس من خلال الوسائل المتاحة.(60/6)
الصدع بالحق
أولاً: قضية الصدع بالحق، فإذا كان بعض العلماء عدّوا أبا بكر رضي الله عنه على رأس وقائمة المجددين، فإنني أعتبر أن من أعظم المهمات والأعمال التجديدية التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه هو موقفه يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر لم يأتِ بشيء من عنده، وكل ما في الأمر أن الناس أمام هذه النازلة الخطيرة، وهي: موت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فزعوا وصدموا بالأمر الذي لم يكونوا يتوقعونه، فصاروا يضربون أخماساً بأسداس، حتى قام عمر وقال: [[إن ناساً يزعمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، لا والله ما مات، وإنما ذهب كما ذهب موسى، وسوف يعود فيقطع رقاب قوم زعموا أنه مات]] فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر ما زاد على أنه صدع بالحق في هذا الموقف، فصعد المنبر، وقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] فيقول: سبحان الله! ما إن سمع الناس هذه الآية حتى كأنهم يسمعونها لأول مرة، فصاروا يتناقلونها ويقرءونها في بيوتهم]] .
فآية طالما قرءوها في القرآن الكريم، وطالما تلوها، وطالما سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لما ساقها أبو بكر رضي الله عنه في موقعها الصحيح، وفي موضعها الطبيعي؛ كانت هي المهمة التجديدية والعمل التجديدي العظيم الذي قام به أبو بكر أول ما قام، فاقتنع الناس بها، وردَّ الناسَ بها إلى جادة الصواب.
إذاً نحن بحاجة إلى موقف كموقف أبي بكر، لسنا بحاجة إلى شخص يخترع من عنده أشياء ويمليها على الناس على أنها دين، فهذا النوع ليس تجديداً، بل هذا مسخ للدين، فنحن بحاجة إلى من يستطيع أن يستخرج من الدين المعاني الصحيحة، ويتلوها على الناس بأدلتها، حتى إذا سمعها الناس، قالوا: سبحان الله! هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشهد لما قال.
إذاً لا بد من أن نطرح الإسلام بقوة -وهذه قضية مهمة أيها الشباب- ولا بد أن نتحدث عن الإسلام بقوة وصراحة، وقضية المجاملة والمناورة والمداورة في أمور الدين يجب أن تكون بعيدة عنا، وكل ما كان حديثنا عن الإسلام صريحاً كان أدعى إلى قبول الناس، يعني: ليس من أسباب قبول الناس للدين أن نحاول أن نلطف لهم الحكم الشرعي بالطريقة التي تتناسب مع واقعهم، أو نختار من الأقوال ما يتناسب مع ظروفهم بحجة أننا نريد أن ننقلهم إلى الإسلام؛ لأننا في النهاية سنجد أننا قلنا لهؤلاء الناس: الإسلام لا يكلفكم شيئاً، والإسلام يتناسب مع أوضاعكم.
وهؤلاء سيقولون: إذاً لسنا بحاجة إلى الإسلام.
فنحن بحاجة إلى أن نقول -مثلاً- للأمريكان والأوروبيين والروس وغيرهم: إن الإسلام شيء آخر مختلف تماماً عما تعرفون وتعيشون، إن الإسلام يرفع أوضاعكم الاجتماعية، وأوضاعكم السياسية، وأوضاعكم الاقتصادية، والإسلام يقوم على هذه الأسس الواضحة الصريحة، وبالتالي: إن قبلوا فهذا دين الله تعالى، وإن رفضوا فنحن لسنا مكلفين بهدايتهم، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] .
أما قضية المجاملة ومحاولة تلطيف الأمور، ومحاولة جمع كلمة الناس بدعوتهم إلى الإسلام بهذه الأساليب؛ فهي تهدم ولا تخدم، وتفسد ولا تصلح، وهذه قضية يجب أن تكون واضحة، وقد جربنا أنه حتى في مجال المسلمين أنفسهم، إذا وجدت إنساناً عاصياً، وقد كنت أعجب من ذلك، فإنه وكان في أذهان كثير منا أن الشاب المنحرف الذي تربى على مشاهدة التلفاز، والكرة، وقراءة القصص الغرامية، وتضييع وقته في أمور لا قيمة لها، أن هذا لا سبيل إلى هدايته إلا بأن ينقل إلى جو قريب من جوه، نثل جو الأناشيد الإسلامية، وجو لعب الكرة، وجو الرحلات، وجو المتعة، وشيئاً فشيئاً يُجَر، وأنا لا أقول في هذا الطريق شيئاً، لكنني أقول: وجدنا بالتجربة أن هناك ناساً كانوا في قمة الانحراف، ثم اطَّلَعوا فجأة على جو متمسك جداً وليس لديه استعداد أن يتنازل لهؤلاء عن أدنى شيء، فسبحان الله! بين عشية وضحاها انقلبوا رأساً على عقب.
فأحياناً المواقف الصارمة القوية الواضحة تدعو الناس إلى القبول أكثر مما تدعوهم قضايا المداهنة والمجاملة، فلا يجوز أن نتدسس بالإسلام، ولا نجامل الناس فيه، وهذا من الاعتزاز بهذا الدين، وهو أن نعرض الإسلام للناس بهذه الطريقة، وأنا لا أقول: أن نكون جفاة غلاظاً، نواجه الناس في وجوههم دائماً بما يكرهون.
لا لكني أقول: أننا حين نتحدث عن الإسلام يجب أن نكون على درجة قوية من الأمانة، ونشعر بأننا نوقع عن رب العالمين، فلا نقول شيئاً من عند أنفسنا، بل نحن نملي على الناس دين الله وشرعه، وليس من حقنا أن نحول دينه أو نزيد أو ننقص.
وإذا وجد في واقعنا أمر استقر الناس عليه، هل يصلح أن نجاملهم في هذا الأمر أيضاً ونحاول أن نبحث عن معاذير؟! -مثلاً- الربا أصبح اليوم وضعاً مستقراً في بلاد المسلمين، وبيوت الربا تناطح السحاب.
أيضاً والغناء، والموسيقى، والتصوير -وهي أشياء لا يحلها الشرع- أصبحت واقعة قائمة في بلاد المسلمين، فهل معنى كون الأمر مستقراً أن نعطيه حكماً شرعياً وأنه حلال؟! أبداً، فنحن يجب أن نقول: هذا حلال إذا كان حلالاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقول: هذا حرام إذا كان حراماً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عجزنا نحن عن التطبيق أو ضعفنا أو ضغطتنا أوضاع معينة، فقد يستطيع الجيل الذي بعدنا، لكن علينا نحن أن نحافظ على قداسة الحكم الشرعي.
ولعلي أضرب لكم مثلاً من الأمثلة السياسية التي يتحدث بها الناس اليوم: إن اليهود احتلوا فلسطين، ويملكون قوة وإمكانية هائلة، فهل يعني هذا أن فلسطين تحولت إلى دولة لليهود؟! وأننا -خضوعاً للأمر الواقع- يجب أن نقول: ليس بالإمكان الرجوع إلىما كان، وهذه بلادهم، وينبغي أن نتركها لهم، ونشتغل بإصلاح بلادنا خضوعاً للأمر الواقع؟ كلا، بل علينا أن نقول: فلسطين بلد إسلامي، واليهود طارئون عليها، وإذا عجزنا نحن -الجيل الحالي- عن إنقاذ فلسطين من أيديهم، فقد يستطيع الجيل الذي يأتي بعدنا، أولادُنا أو مَن بعدَهم، وعلى الأقل مهمتنا نحن أن نحافظ على الحق المجرد ولو بصورة نظرية.
إذاً يجب أن لا نُخضِع الحق للواقع، بل علينا أن نكون واضحين، لا نلف ولا ندور في عرض قضية الإسلام على الناس، سواء كانوا مسلمين عُصاة أم كفاراً.(60/7)
الجانب الثالث في جوانب التجديد: الشمولية والتكامل
الجانب الثالث في التجديد وهو جانب مكمل، هو: جانب الشمولية والتكامل، فمثلاً:(60/8)
في المجال العملي
وكذلك التكامل في المجال العملي: -مثلاً- وأنتم تعرفون أن الخلاف بين الدعاة على أشده، ووعدتكم أنه إذا أتيحت لي فرصة أن أتحدث عن هذا الموضوع، لكن أشير الآن باختصار أن هناك من الدعاة من يهتم بالإصلاح الاجتماعي، مثلاً: إقامة جمعيات خيرية، ومدارس، ورعاية الأيتام، ومساعدة المحتاجين والإحسان إليهم، وما شابه هذا، فهذه لا شك أنها أعمال طيبة وعظيمة وهي من صميم الدين.
وطائفة أخرى من الناس تجدها تهتم بالجانب السياسي -مثلاً- وتتحدث عن قضية تطبيق الإسلام في واقع السياسات، وضرورة فرض الإسلام على الواقع، وفهم الواقع، وضرورة المناورات السياسية، والنزول للميدان، والتركيز على ما يسمى بقضية الحاكمية.
وطائفة ثالثة تجدها تهتم بقضية التعبد، وتطبيق السنة، وكيف يستطيع الإنسان أن يصلي كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي، أو يصوم كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم، وهذه الأمور -مع الأسف الشديد أيها الإخوة- أصبحت الآن كأنها أضداد ينقض بعضُها بعضاً، وكل واحد يعمل عملاً ينتقد الآخرين، فهذا ينتقد هذا بأنه إنسان له أغراض سياسية، ويعتبر هذا مَسَبَّةً له، وهذا ينتقد إنساناً بأنه مشغول بقضايا العبادة، وكيف تركع؟ وكيف تسجد؟ ويترك السياسة للضالين والمنحرفين! وذلك يقول: أنا مشغول مع الفقراء واليتامى والموتى، وتكفين الموت وغسل الموتى؛ ليترك الأحياء، وهكذا كل إنسان أصبح ينتقد العمل الذي يقوم به الآخر، لكن الإسلام أشمل من ذلك كله، وهذه الأعمال كلها يمكن أن تندرج تحت الإسلام؛ بشرط أن تكون أعمالهم يكمل بعضُها بعضاً، ولا ينقض بعضها بعضاً، وليس هذا ينتقد ما قام به هذا، بل على الإنسان أن يفهم أن هذا الدين شامل، يريد من المسلم أن يقوم بهذه الأشياء كلها، وكل إنسان ناجح في تخصصه ومجاله الذي يثمر فيه، وما يتناسب مع طبيعته ومواهبه وإمكانياته وظروفه، وفي كلٍ خير إن شاء الله.
ولكن بشرط أن نعلم أن هناك القضايا العامة التي لا بد من أن تكون موجودة عند الجميع، مثل: قضية العقيدة الصحيحة، فهي لا بد أن تكون قاسماً مشتركاً عند الجميع، والعلم بفرض العين -كيف تصلي؟ كيف تصوم؟ فهذا فرض عين، يجب أن يعلمه الجميع- ثم بعد ذلك أنا أتخصص في دراسة السنة، ومعرفة التفاصيل، ودعوة الناس إليها، وأنت تتخصص في رعاية الأيتام وكفالتهم، وثالث يتخصص في بناء المساجد، ورابع يتخصص في أمور من هذا القبيل، والأمر في ذلك واسع، وقل مثل ذلك في قضية الجهاد، والجهاد اليوم هَمٌّ من أكبر الهموم التي يعانيها المسلمون، فقد تجدُ أن المسألة صارت على طرفي نقيض، إما أن نخرج جميعاً للجهاد، وإما أن نثبط المجاهدين ونحط من عزيمتهم وقدرهم، فالجهاد باب من أبواب الجنة، بل إن فيها مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن أنواع التجديد العملي: التجديد في ميدان الجهاد، ولا شك أن للمجاهدين الأفغان قصب السبق في هذا الميدان، فقد ظل المسلمون فترة منذ سقوط الحكم العثماني وهم لا يسمعون بقضية الجهاد، اللهم إلا أن يكون دفاعاً عن النفس في حدود ضيقة جداً، بل إن قادة الجهاد بحركتهم المباركة رفعت رءوس المسلمين، ونفخت الكرامة والعزة والحماس في الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فأصبحنا نسمع تحركات في فلسطين، وفي اليمن الجنوبي، وفي إريتريا، وفي الفلبين، وفي مناطق كثيرة جداً، حيث انتعش الناس وتحركوا لقضية الجهاد في سبيل الله، فهذه قضية مهمة، ولا يعني ذلك أنه عندما أكون مؤيداً للجهاد أنه من الضروري أن أذهب للجهاد، أو أعتبر أن الجهاد هو المقياس الصحيح وأن كل الناس من الضروري أن تكون مجاهدة، فنحن بحاجة إلى مجاهدين، وهذا صحيح، لكن لا يعني التقليل من جانب المتخصصين في العلم الشرعي، فالعلم الشرعي من أعظم أنواع الجهاد، والدعوة إلى الله تعالى من أعظم أنواع الجهاد، ومقارعة العلمانيين الشيوعيين في بلاد الإسلام من أعظم أنواع الجهاد، فالجهاد ليس ميداناً واحداً فحسب.
وقد ذكرت آنفاً الأمر الثالث: وهو الشمول والتكامل في الجانب العلمي، وأخذ العلوم كلها، وفي الجانب العملي القيام بالأعمال كلها، فليس بالضرورة أن شخصاً واحد يقوم بالأشياء كلها، لكن المهم أن يكون عنده تصور صحيح؛ حتى يعذر الناس فيما يعملون، وتكون هذه قاعدة لتوحيد وجمع كلمة المسلمين.(60/9)
الانحرافات في فهم الشمولية
والجانب الآخر الذي أرى أنه مهم في موضوع الشمولية: هو ضرورة تغيير طريقة التفكير عند كثير من الشباب، فطريقة التفكير عند كثير من الشباب فيها أخطاء كثيرة، ومن هذه الأخطاء والانحرافات في تفكير بعض الشباب: تركيز اهتماماتهم على أمور جزئية حتى تشغل كل أوقاتهم، فكل وقته -مثلاً- أصبح مشغولاً بالحديث في المجالس الخاصة والعامة حول عشر مسائل هي كل ما لديه.
أما القضايا الكبرى الأصولية والمصيرية، وقضايا الأمة قد انشغل عنها الكثير منا بجزئيات وفرعيات لا يجب الاشتغال بها عن غيرها، فهذا من الخطأ في التفكير، والمصيبة أنه ليس خطأً فردياً، بل هو خطأٌ شامل، ومن خلال تطوافي على كثير من الشباب في عدد من البلاد الإسلامية ساءني جداً أن هذا الأمر موجود، وأن الاهتمامات قاصرة ومحصورة في قضايا جزئية تُعد على رءوس الأصابع، وما عدا ذلك ليس له في عقول كثير من الشباب أي موقع، وهذا خطر كبير، حتى قضايا العقيدة، وقضايا الأصول، وقضايا المنهج ليست معروفة.
وانحراف آخر في تفكير بعض الشباب يخل بالنظرة الشمولية التكاملية المعتدلة: وهو أن الشباب لا يعرفون أنصاف الحلول، فإما أن يعطوا الشيء: (100%) أو يعطوه: صِفْر%.
فإذا تكلموا عن شخص، إما أن يرفعوه فوق الثريا، أو يهبطوه تحت الثرى، فهم لا يقفون به عند حده الصحيح المعتدل.
وإذا تكلموا عن عمل من الأعمال، إما أن يكون هذا العمل عملاً كاملاً، أو لا شيء.
وإذا تكلموا عن كتاب من الكتب، إما أن يحولوا هذا الكتاب إلى كتاب شعوذة وخرافة، وإما أن يحولوه إلى كتاب أشبه بالكتاب المقدس، وهذا كله انحراف في التفكير، والغالب أن هذه الأمور التي يختلف فيها الناس أن الحق فيها هو الوسط التفصيل، وأن هذا الشخص الذي يختلف الناس حوله بين مُفْرِط ومُفَرِّط، له فضائل وحسنات، وله عيوب وسيئات، وهذا العمل الذي يختلف الناس فيه، سواءً كان جهاداً أو مشروعاً أو مؤسسة أو دعوة فيه فضائل وحسنات، وله أخطاء وسيئات، وهذا الكتاب الذي يختلفون حوله له إيجابيات، وله أخطاء وسيئات.(60/10)
الشمولية والتكامل في مجال العلم الشرعي
في مجال العلم الشرعي: تجد من الشباب اليوم وفي الماضي مَن يُهدرون الفقه المذهبي -فقه المذاهب- ويرون أن هذا الفقه لا قيمة له ولا ثمرة، وأنه مجرد ترف، فيهدرون هذا الأمر ويهملونه، في حين أنك تجد طوائف من الناس يهدرون ما هو أعظم وأجل وهو السنة النبوية، ويعتبرون أن الاشتغال بهذه السنة لا قيمة له، وأن الأولى بالإنسان أن لا يشتغل بها ما دام ليس عالماً؛ لأن هذه السنة قد تفهمه أشياء غريبة، وربما يأتينا من يقول: لا تشتغل بالقرآن، وأذكر أن أحد الفقهاء -ولا أريد أن أذكره- قال في كتاب مطبوع في تفسير القرآن الكريم -في تفسير سورة الكهف- عند تفسير قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} [الكهف:23] {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:24] قال: إن ظواهر القرآن الكريم تقتضي الكفر المحض!! أي: ظاهر القرآن الكريم كفر! أعوذ بالله من ذلك! إذا كان كلام الله ظاهره كفر، وكلام الرسول ظاهره كفر، إذاً ماذا بقي لنا؟! ومن أين نأخذ ديننا؟ إذاً هناك من يهدر أقوال أهل العلم، وهناك من يهدر ما هو أعظم وأجل منه، وهي السنة النبوية، وقد تجد من يُهدر الأخذ من القرآن الكريم، ويعتبر أن قراءة القرآن الكريم هي لمجرد البركة، ولا شك أن هذا كله خطأ، وأن المطلوب أن نهتم بالقرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارها مصادر للتشريع، ونهتم بأقوال أهل العلم باعتبارهم من السلف -من الصحابة والتابعين والسلف- وباعتبارها مشيرة ومبينة لمعاني كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم إنما يبينون ويشرحون القرآن الكريم.(60/11)
في مجال العلوم المادية
وأيضاً تجد من الشباب من يُهدرون العلوم المادية، والعلوم الإنسانية مثل: علم التربية، والاجتماع، وعلم النفس، والعلوم الطبيعية والبشرية: كالطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها من ألوان العلوم التي يحتاجها المسلمون في حياتهم، ويحتاجونها في نهضتهم، ليس فقط من أجل أن نقول للناس: انظروا من الممكن أن يكون الشخص متخصصاً في الطب وهو متدين، أو متخصصاً في الفيزياء وهو متدين، فهذا أمر مطلوب وليس فيه إشكال لكن نحن الآن نتطلع إلى نهضة إسلامية شاملة في جميع المجالات، ونتطلع إلى بناء حياة إسلامية كاملة، وهذه الحياة -بلا شك- تحتاج بالدرجة الأولى إلى الفقهاء والعلماء الذين يصوغون مناهج الناس على ضوء الكتاب والسنة، وتحتاج أيضاً إلى الطبيب المسلم، بل الفقيه نفسه يحيل إلى الطبيب في كثير من قضاياه، ويأخذ بقوله في كثير من المسائل، ويحيل إلى غيره في التخصصات الأخرى، فنحن بحاجة إلى جميع التخصصات المباحة التي يحتاجها الناس في أمور حياتهم، ولا يكفي الناس شيءٌ من ذلك بل لابد من الشمول والتكامل فيها.(60/12)
حقيقة المجدد وشروطه
من هو المجدد؟ وما هي شروطه؟ وهذه قضية مهمة جداً، يقول السيوطي في ألفيته المشهورة: وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث والجمهور فهو يرجح أن المجدد فرد واحد، ويزعم أن هذا مذهب الجمهور، وأعتقد أن نسبة الأمر إلى الجمهور فيه نظر، فإن أكثر أهل العلم الذين اطلعتُ على أقوالهم: كالحافظ ابن حجر وابن الأثير والذهبي والمناوي وغيرهم، يذكرون أن الأولى هو أن التجديد ليس مهمة فرد بل مهمة طائفة من الأمة، ومما يرجح ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث رواه واحدٌ وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة} فهذه الطائفة المنصورة هي المجددة، وهي التي تقوم بمهمة التجديد، وذَكَرَ المنصورة، بأنهم قائمون بأمر الله، وهذا هو التجديد.
إذاً التجديد مهمة طائفة وليست مهمة فرد، خاصة في هذا العصر؛ لأننا نعرف أن الأمة كثرت وتوزعت من جهة، ومن جهة أخرى: أن المفاسد والانحرافات عمَّت وطمَّت، ومن جهة ثالثة: فإن المجددين نوعيتهم قلَّت، فمن لنا بمثل: الشافعي، أو عمر بن عبد العزيز، أو أحمد بن حنبل، أو ابن تيمية -والله المستعان- فلذلك القول الصحيح -خاصة في العصور المتأخرة-: أن التجديد مهمة طائفة منوعة، وليست مهمة فرد واحد، لكن لا يمنع أن هذه الطائفة لها رموز وقيادات وزعامات بارزة، وهذه الزعامات البارزة توجَد في كل عصر -لا شك- لكن يشترط لها شروط، وهذه الشروط هي:(60/13)
أن يكون المجدد إماماً
ويقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] والإمامة ليست بالأمر الهين، بل هي مهمة المجددين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] .
إذاً لا بد من الصبر حتى ينال الإنسانُ الإمامة: الصبر على طول الطريق، وعلى كثرة المخالف، وعلى المشاكل، وعلى الفتن، وعلى البلوى.
ولا بد من اليقين الراسخ، الذي لا يتزعزع مع وجود المضايقات والمخالفات الكثيرة، ولذلك يقول سفيان: [[بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين]] .
إذاً: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] .
وأخيراً أقول -كما قال الإمام مالك، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهما-: [[لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم]] .
فمن خصائص الأئمة: أن يتجنبوا شذوذات العلماء، يقولون: هذه شذوذات، يُلْتَمَسُ العذرُ لأصحابها، لكن لا يُتابَعون عليها، فالذي يَتْبَع الشذوذات، وينتقي من هنا ومن هنا ومن هنا، ويَختار ما يَتَرَخَّصُ به، هذا لا يمكن أن يكون إماماً في العلم.
وأرجو الله تعالى أن تكونوا قد استفدتم من هذه الكلمات.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.(60/14)
أن يكون المجدد من العلماء
ولذلك يقول السيوطي في: ألفيته: لأنَّهُ في رأسِ كُلِّ مائةِ يَبْعَثُ رَبُّنا لِهَذِي الأُمَّةِ -مَنَّاً عليها عالِمَاً يُجَدِّدُ دِيْنَ الْهُدى؛ لأنهُ مُجْتَهِدُ ثم قال في وقته: يُشارُ بالعلم إلى مَقامِهِ ويَنْشُرُ السُّنَّةَ في كلامِهِ وأن يكون جامعاً لكُلِّ فَن وأن يَعُمَّ عِلْمُه أهلَ الزَّمَن إذاً لا بد أن يكون المجدد عالماً، وليس بالضرورة أن يكون-كما يقول السيوطي -: عالماً بكل فن، فإن هذا أمر قد يكون متعذراً، لكن في نظري أن القضية الأساسية التي نشترطها في الزعماء الذين يقومون بمهمة التجديد: أن يكون عندهم استيعاب للعلوم الشرعية، أي: بمعنى أنه يستوعب ثم يبني على ما استوعب، فيكون عنده فهمٌ، حيث يكون قد دَرَسَ الفقه -مثلاً- ودرس العقيدة الصحيحة، ودرس الحديث النبوي دراسة متأنية بطيئة، ثم بعد ذلك بنى عليها آراءه الجديدة التي تُعْتَبَرُ داخلة في إطار التجديد.
وخذوا على سبيل المثال: الإمام الشافعي، ما هو العمل التجديدي الذي قام به الشافعي حتى اعتُبِرَ أنه من أول المجددين؟ -هو ثاني المجددين عند كثير من العلماء- أعظم عمل قام به الشافعي: هو تصنيفه لكتاب: الرسالة، والرسالة في أصول الفقه: وهو طرائق الاستدلال من الكتاب والسنة.
ميزة الشافعي في هذا الكتاب: أنه هضم العلم السابق، واستقرأ الكتاب والسنة وطرائق العلماء، ثم وضع الأسس والأصول التي يُبنى عليها فهم الكتاب والسنة.
إذاً: الشافعي هضم علم السابقين، أو أسس علم السابقين، ثم بنى عليه عملاً تجديدياً جليلاً وهو: تأليفه لكتاب: الرسالة، الذي يضبط طرق الاستدلال بالكتاب والسنة، فـ الشافعي ما جاء من فراغ، أو درس الفلسفة وقام يُنَزِّلها على الكتاب والسنة، ويحاكم الكتاب والسنة إلى أصولها، بل استقْرَأَ واستوعبَ العلم الشرعي، ثم أفرزَ عملاً تجديدياً.
وخُذ مثالاً آخر: وهو ابن تيمية رحمه الله، وهو من أئمة المجددين، فـ ابن تيمية كانت العلوم كلها كأنها بين يديه، يأخذ منها ما يشاء، ويَدَع ما يشاء، وإذا تكلم ابن تيمية عن أي قضية فقهية فإنه يحكي رأي كل مذهب من المذاهب وكأنه من أصحاب المذهب، فإذا قال: مذهب أبي حنيفة كذا فإنه يتكلم وكأنه حنفي، وإذا قال: مذهب الشافعي كذا فإنه يتكلم وكأنه شافعي، وهكذا، وكل مَن يقرأ كتب ابن تيمية يشهد شهادة حق وصدق بأن الرجل استطاع أن يهضم كثيراً من العلوم الضرورية التي سبقه إليها العلماء من قبله، ثم يبني ويستخرج من خلال هذا الكم الهائل الغزير من العلوم آراء وقواعداً وأسساً تجديدية ربما لم يُسْبَق إليها من قبل، ولذلك كان ابن تيمية معلماً بارزاً في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ العلم الشرعي.
إذاً لا بد أن يتصدى للتجديد من يكون -إن صح التعبير- قد طُبِخَ على نارٍ هادئة، ولا يكون إنساناً حطاباً، ثقافته ثقافة صحفيين، قرأ من هنا كتاباً، ومن هنا فصلاً، وسمع هنا محاضرة، ودرس في المدرسة الفلانية أشياء يسيرة، ثم خُيِّل إليه أنه يستطيع أن يجدد ويأتي بآراء؛ لأنه في هذه الحالة سيفسد أكثر مما يصلح، وسوف يخالف الأصول والقواعد والمنطلقات المتفق عليها، وهو يظن أنه يأتي بعمل لم يُسْبَق إليه، خاصة إذا وجد لديه شيءٌ من الجرأة والشجاعة وعدم التورع الذي يمنعه عن الإقدام في مثل هذه الأمور.(60/15)
أن يكون المجدد من الطائفة المنصورة
وهذا معروف مما سبق؛ لأنه إذا كانت الطائفة المنصورة هي المجددة، فمعنى ذلك أن الزعامة، أي: الذي يكون أبرز من غيره في مهمة التجديد لا بد أن يكون من هذه الطائفة المنصورة، ولذلك فإن الذين يُحْسَبون من أهل البدع لا يمكن أن يقوموا بمهمة التجديد في حالٍ من الأحوال، ويجدر التنبيه إلى أنه في هذا العصر قامت حركات قوية تنادي بتجديد منحرف، وأشرت قبل قليل إلى حسن حنفي، وكتابه: التراث والتجديد، وليست القضية قضية حسن حنفي، بل هي قضية اتجاه شامل واسع، فمثلاً: زكي نجيب محمود، الفيلسوف المصري المعروف، صاحب مجموعة كبيرة من المؤلفات، على رأسها: كتاب: تجديد الفكر العربي، وكذلك عبد الله العروي، وغيرهم يحاولون أن يطرحوا قضية التجديد من منطلقاتهم الخاصة، والتجديد عندهم هو: إخضاع الإسلام للعقل والواقع، وهذا هو معناه عندهم باختصار شديد.
إذاً لا بد أن يكون المجدد من الطائفة المنصورة.(60/16)
الأسئلة(60/17)
حقيقة التعارض بين القرآن والسنة
السؤال
ذكرتم أن قول الغزالي: إذا وجد حديث يُعارض القرآن إلخ، قلتم: أن هذا خطأ كبير، والمطلوب من فضيلتكم: ماذا لو وُجد حديثٌ فعلاً يعارض القرآن؟ هل نأخذ بقول الغزالي؟ أم ماذا نفعل؟
الجواب
السؤال أصلاً: هل يمكن أن يوجد حديث يعارض القرآن؟ بمعنى: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أنه يخالف القرآن؟ لا يمكن، ولذلك من المصائب افتعال الخصومة بين القرآن والسنة، وهذه هي كارثة في العصر الحاضر، ثم هذا الحديث، مِن أي وجه عرفنا أنه يخالف القرآن، إذا قلنا أنه فعلاً يخالف القرآن فنحن نجزم بأنه لم يقله الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه ليس بحديث، وبالتالي: لا كلامَ في هذا، ولا أحد يخالف فيه، لكنه يخالف في فهمه للقرآن، فأنت فهمت القرآن على وجه معين، وفهمت الحديث على وجه معين، ثم افترضت خصومة بينهما، وبالتالي رفضت الحديث -مثلاً- فأنت تنازع: أولاً: في فهمك للقرآن، قد يكون فهمك للآية غلط.
ثانياً: في فهمك للحديث، لأنه قد يكون فهمك للحديث غلط.
ثالثاً: في إيجاد التعارض بينهما.
وخذ مثالاً: حديث أن والد النبي صلى الله عليه وسلم.
في النار، فهذا الحديث في صحيح مسلم، وأنا لا يهمني أن أذكر هذا الحديث في مناسبة أو لا أذكره كمثال لكن الآن أذكره، فقد ردَّه بعضهم بأنه مخالف للقرآن، كيف هو مخالفٌ للقرآن؟ قال: لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] إذاً هذا الحديث يعارض القرآن، فنقول له: هل تعرف أن فيه معارضة؟ لو كان في القرآن نص -ويجب علينا أن نلاحظ حتى لا ننساق أحياناً وراء بعض الشبهات- لو كان في القرآن نص يقول: والد الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم جاء الحديث يقول: والد الرسول في النار، فهذا صحيح أنه يكون معارضاً للقرآن، أمَّا أن نأتي بآية عامة ونعارض بها نصاً خاصاً، فهذا في الواقع ليس معارضة؛ لأن هذا النوع معروف عند، الأصوليين فهناك نص عام وخاص: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] لكن هذا نص خاص، وهو النصَّ على أن والد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على جماعة من أهل الجاهلية أنهم في النار.
ثم قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] من قال لنا: أن والد الرسول عليه السلام لم تبلغه الدعوة؟ أما كان النصارى موجودين؟ أما كان الحنفاء موجودين في مكة نفسها؟ كـ أمية بن أبي الصلت، وكثير من الشعراء الحنفاء، وزيد بن عمر بن نفيل، وغيرهم؟ كانوا موجودين في مكة، ويتحنفون ويدعون الناس، ويتهمون قريشاً بالجاهلية، وكان زيد بن عمر بن نفيل يقف أمام الكعبة، ويقول بأعلى صوته: [[والله يا معشر قريش ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري]] ويقولها بأعلى صوته، وكان يحي الموؤدة، وكان لا يأكل ما ذُبح على النُّصُب، فمن قال: بأنه لم تكن هناك شريعة ولا دين؟ وأنه لم يكن عالماً بذلك؟(60/18)
التجديد عند حسن الترابي والغنوشي
السؤال
ما هو تقييمك لدعوة حسن الترابي لتجديد أصول الفقه، ودعوة الغنوشي للتجديد؟
الجواب
الحقيقة: الحديث في هذا الموضوع يتطلب أمرين: أولاً: الوقت.
ثانياً: يتطلب إلماماً كاملاً، وأنا -حقيقة- قرأت كتاب الترابي حول تجديد أصول الفقه الإسلامي، وقرأت بعض مصنفاته، وكذلك اطلعت على بعض آراء الغنوشي في هذا الباب، وعلى سبيل الإجمال يبدو لي أن الرجلين أقرب إلى أن يُصَنَّفا ضمن المدرسة التجديدية العقلانية، فهذه عبارة على سبيل الإجمال، والتفصيل يحتاج إلى مجال.(60/19)
علاقة السياسة بالدين
السؤال
يقول: ذكرتَ بعض الأفهام الغريبة التي دخلت على المسلمين وهي بحاجة إلى توضيح، أفلا تعتقد أن من بين هذه الأفهام: حصر مفهوم الدين في الشعائر أو الأخلاق، وتفريغ المفهوم السياسي للإسلام من عقول المسلمين؟ فما نصيحتكم في مجال الفهم والعمل السياسي، خاصة في مثل واقعنا المعاصر؟
الجواب
تقريباً أشرتُ إلى النقطة هذه لَمَّا تكلمت عن الجانب الثالث في جوانب التجديد، وهو: الشمولية والتكامل، سواء في فهم الإسلام أم في تطبيقه، ونحن نعيب على بعض الناس الذين يعتبرون الحديث في قضايا أمور السياسة، وواقع الناس، ومشكلات وأعمال الحكام، يعتبرون هذا الأمر أمراً محظوراً، والمتحدث فيه كأنه يتحدث في أشياء محرمة.
فالدين جاء ليحكم الحياة، وتأثير الحكام على واقع الناس كثيرٌ، ولا أحد يجادل فيه، فأنا وأنتَ نؤثر على فرد أو فردين أو ثلاثة، لكن الله يَزَع بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن، والوسائل التي تمتلكها السلطات في هذا العصر وسائل جبارة وكبيرة وتساهم مساهمة كبيرة في صياغة حياة الناس وعقولهم وتفكيرهم، فالحقيقة إهمال هذا الجانب، والغفلة عنه، والاشتغال بغيره يعتبر نقصاً أو تقصيراً، لكن الذين يشتغلون به ينبغي ألا يلوموا أو يعاتبوا مَن يَرونه مشتغلاً بجانب آخر، بل ينبغي أن يكون هناك نوع من التكامل في العمل والدعوة إلى الله تعالى.
هذا، والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(60/20)
بين شيخ الإسلام بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب
السؤال
يقول: نسمع الآن من يدَّعون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجدد، في الوقت الذي يقولون فيه أن شيخ الإسلام المجاهد ابن تيمية لم يكن مجدداً، مع العلم أنه يعتبر البحر الذي تتلمذ على يديه الكثير من العلماء، فنريد توضيحاً لذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا شك أنه قام بعمل تجديدي عظيم، وعمله عملي وعلمي في نفس الوقت، لكن جهوده العملمة أوسع وأكبر، فقد عني بتغيير الواقع على ضوء الإسلام، وحاجتنا في هذا العصر إلى الأمرين معاً، ولكن دائماً الحاجة العلمية العملية كبيرة جداً؛ لأنك قد تجد علماء لكن لا يعملون، فهم يعيشون بعيدين عن الإصلاح، وقد انزوَوا في زوايا معينة وتركوا أمر الناس للناس، فعمل الشيخ محمد بن عبد الوهاب -بلغة العصر- يُعتبَر انقلاباً في تاريخ الجزيرة العربية، فقد نقل عباد القبور والأشجار والأحجار إلى موحدين مؤمنين صالحين مجاهدين، بل إن حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم تقتصر على الجزيرة، بل امتدت آثارها إلى السودان، ونيجيريا، والشام، ومصر، وتركيا، والهند، ولذلك يوجد مجددون آخرون في كثير من هذه البلاد، مثلاً: في الهند: نذير حسين، حيث كان معاصراً للشيخ محمد بن عبد الوهاب -فيما أحسب وأعتقد- وهو من المجددين الذين أحيوا الإسلام والسنة في شبة القارة الهندية، وكذلك جاء بعده علماء آخرون، أذكر منهم: محمد بشير السهسواني، صاحب كتاب: صيانة الإنسان، وفي الشام: جماعة من العلماء، وفي العراق: الآلوسي، وغيره، وفي مصر، وفي جميع البلاد، شخصيات تأثرت إلى حد كبير بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وابن تيمية -رحمه الله- أنا أعتبر أنه من المجددين، بل هو من أكبر المجددين، ومن هو الذي نفى أن يكون شيخ الإسلام ابن تيمية مجدداً؟ نعم، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب استفاد كثيراً من علم شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا ظاهر جداً لمن يقرأ كتبه ومؤلفاته، مثل كتاب: التوحيد، ومسائل الجاهلية، وغيرها من الكتب التي خلفها، رحمة الله عليهم أجمعين.(60/21)
حكم التفسير العلمي للقرآن الكريم
السؤال
إلى أي مدى نستطيع الأخذ بالتفسير العلمي للقرآن الكريم؟ وما هي محاذير الأخذ بهذا النوع من التفسير؟
الجواب
التفسير العلمي -الحقيقة- كنت أود الإشارة إليه، لكن لا أدري هل نسيت؟ أم العجلة أخذتني في ذلك؟ فقضية التفسير العلمي، أو ما يسمى بالإعجاز في القرآن، قضية تحتاج إلى اعتدال؛ لأننا نلحظ من الناس من يرفض هذا الإعجاز، ويقول: هذا تلاعب بالقرآن الكريم، ومن الناس من يقبل على علاته ويتوسع فيه.
وأذكر على سبيل المثال ولعلكم جميعاً تعرفون رشاد خليفة، وهو موجود في هذه البلاد، وأول ما ظهر اسمه كان يتحدث عن قضية الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وأذكر أنه نُشِر في عدد من صحفنا أن هناك معجزة عصرية للقرآن الكريم سوف تُنشَر على كتب وأشرطة، وأن الناس ينبغي أن يساهموا فيها لخدمة القرآن الكريم، وأذكر أن الإعلان هذا مضمونه: إن هذه المعجزة سوف تضطر الناس كلهم إلى الإسلام، يعني: كان فتحاً عظيماً، وكما يقال: تمخض الجبل فولد فأراً، بل ما هو دون الفأر، لأن رشاد خليفة هذا جاءتني رسالة من أحد الشباب قبل زمن فيها مجموعة منشورات، يدَّعي الرجل فيها النبوة، على حسب ما هو موجود في الأوراق، ويقول: إنه نبي، والدليل على أنه نبي: أنه وُلد في: (19/نوفمبر) وحروف بسم الله الرحمن الرحيم (19) حرف، وكذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] .
فقلت لبعض الشباب: لماذا لا يكون هذا دليلاً على أنه من أهل النار؟! لأن الله تعالى يقول: (عليها) يعني: النار، (تسعة عشر) ونحن لا نحكم على الرجل لأنه قد يتوب فيتوب الله عليه، لكن أقول: إن دعواه النبوة بهذا من السخف بمكان، وليس دعوى النبوة بأولى من دعوى بأنه من أهل النار؛ لهذا الدليل نفسه، لكن بالتأكيد ستجد من يتبعه ويطيعه، فهذا لون من دعوى الإعجاز ينبغي نبذه، كذلك بعض الناس يحملون معاني القرآن على نظريات لم تتقرر بعد، وقد يأتون بنظرية لا زالت موضع أخذ ورد بين العلماء، ويُنَزِّلون الآيات القرآنية عليها، فهذا غلط أيضاً؛ لأننا نعرض القرآن بذلك للتناقض أو الرد، وهناك علماء آخرون يحمِّلون الآية أكثر مما تحتمل، ويَلْوُون عنق الآية حتى تنسجم مع اختراع واكتشاف علمي.
وأقول: نحن لسنا بحاجة إلى كل هذا، وصحيح أننا نجزم بأن في القرآن الكريم إعجاز، وأن هذا الإعجاز من حُجَّة الله على عباده في هذا العصر، ولذلك -الحقيقة- أنا أشكر للذين يقومون بجهود في مجال الإعجاز، خاصةً إذا كانوا من المعتدلين، الذين يرجعون إلى كتب التفسير ويطمئنون إلى المعنى الصحيح من الآية، ولا يتكلمون إلا في قضايا علمية مقررة، فأشكر لهم هذا، وأعتبر أن هذا من حجة الله على العباد في هذا العصر؛ لأنه يزيدهم إيماناً، كما أسلم عدد غير قليل من الأطباء وغيرهم في مؤتمرات عُقدت في المملكة وفي غيرها من بلاد العالم.(60/22)
حقيقة المدرسة العقلية
السؤال
إلى أي مدى نستطيع أن نأخذ بالمدرسة العقلية في التفسير؟ وما هي المحاذير الواجب تلافيها في هذا الجانب؟
الجواب
أولاً: بعض الإخوة ينتقدون لماذا يقال: المدرسة العقلية، وأقول لهم: لا مشاحة في الاصطلاح؛ لأننا حين نقول: العقلية لا نقصد أنهم مدرسة عقلية وغيرهم بلا عقول، لا، إنما المدرسة العقلية تقال في مقابل المدرسة العقلية النقلية أو النقلية العقلية، فنحن لا نهدر العقول لكن نقول: لا بد من الأخذ بالمنقول والمعقول، ونجزم بأن صحيح المنقول وصريح المعقول لا يمكن أن يختلفا، كما أننا حين نسمي ناساً بالقرآنيين، لا يعني أن غيرهم لا يؤمن بالقرآن، بل هم القرآنيين فقط، وهم يقابلون الذي يؤمنون بالقرآن والسنة، فلا إشكال في هذا الاصطلاح.
أما فيما يتعلق بالمدرسة العقلية: فإن المدرسة العقلية متأثرة إلى حد بعيد بمدرسة المعتزلة، بل هي امتداد لها في عدد من المسائل، وبعض العقلانيين المعاصرين يصرحون بأنهم معتزلة، وأنهم يؤيدون مذهب المعتزلة، كما يصرح بذلك حسن حنفي -مثلاً- في الكتاب الذي أشرتُ إليه، وكما يصرح به حسني زينة في كتابه: العقل عند المعتزلة، وآخرون لا يستطيعون أن يقولوا هذا بهذه الصراحة؛ لكن بصمات المعتزلة عليهم ظاهرة، حتى الشيخ الغزالي غفر الله لنا وله في مقابلة مع جريدة المساء المصرية قال: أنا تأثرت بكثير من العلماء، وذكر منهم: القاضي عبد الجبار، وهو شيخ من شيوخ المعتزلة مشهور، وذكر غيره من علماء أهل السنة وغيرهم.
فعلى العموم نقول: المدرسة العقلية كمنهج، يجب محاربته؛ لأنه يقوم على أسس غير صحيحة، لكن الحق في الجزئيات يؤخذ ممن جاء به بغض النظر عمن يكون، ففي التفاصيل قد يكون هذا العالم أصاب في مسألة وأخطأ في مسائل، لكن من حيث المنهج يجب محاربته.(60/23)
ضرورة التجديد
السؤال
ألا ترون أن التجديد ضروري في الآونة الأخيرة، خاصة في فقه المعاملات، وأخص بالذكر فقه الزكاة، وفقه الربا؟
الجواب
التجديد اليوم ضروري في كل مجال، وليس فقط في فقه المعاملات، بل التجديد ضروري في حياة المسلمين، وفي واقع المسلمين، لكن التجديد اليوم أعتقد أنه مهمة أعسر من أي وقت مضى؛ لأن المسلمين الآن يستيقظون بعد سبات طويل، ويستيقظون وقد أحاط بهم الأعداء من كل جانب، ويستيقظون وقد غُزوا في عُقر دارهم، فالمسلمون اليوم بحاجة ماسة إلى التجديد في جميع المجالات بدون استثناء، وبحاجة -كما يقول التعبير العصري- إلى كوادر مدربة في جميع المجالات، في العلوم الشرعية، وفي العلوم الدنيوية، وفي العمل، وفي الجهاد، وفي الإدارة، وفي جميع مجالات الحياة بدون استثناء.(60/24)
مفهوم تقنين الشريعة
السؤال
نسمع كثيراً عن النداء إلى تقنين الشريعة، ما المقصود بهذا؟ وما رأي الإسلام فيه؟
الجواب
المقصود بتقنين الشريعة: تحويل الأحكام إلى قوانين، أي: على شكل قوانين ومواد مضبوطة.
وهذا التقنين الذي يبدو لي فيه أن الشريعة لا تتحمل مثل هذا التقنين؛ لأننا نعرف ونعلم أن الأقوال الفقهية تختلف، وسبق ذكر موضوع الخلاف، والأدلة في ذلك، فالتقنين سيكون على أي مذهب؟ وعلى أي اختيار؟ ومن هو الذي يقوم بهذا العمل؟ فالقضية تحف فيها أمور كثيرة جداً، والدعوة هذه ينظر إليها عددٌ من الناس بعين الريبة.(60/25)
طائفة من الحيل النفسية
الإنسان ضعيف، والنفس أمارة بالسوء، والدعوة جهاد وبلاء، وتربية الرجال أثقل من نقل مثاقيل الجبال، وتجاه ذلك تحاول النفس أن تتخلى عن مسئوليتها يساعدها في ذلك الشيطان، وفي هذا الدرس علاج لطائفة من الحيل التي تتذرع بها النفس.(61/1)
الأمة الغائبة والحيل النفسية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحمد الله تعالى أن جمعنا بعد هذا الانقطاع الذي طال بعض الشيء، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشكره على آلائه التي لا تعد ولا تحصى، ونسأله تعالى أن يستعملنا وإياكم في طاعته إنه على كل شيء قدير أما بعد: فهذا الدرس هو الثاني والسبعون، في هذه الليلة ليلة الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، من سنة (1413هـ) ، وعنوان هذا الدرس: (طائفةٌ من الحيل النفسية) وقد سبق أن تحدثت إليكم في هذا الموضع، عن (الأمة الغائبة) وكان خلاصة تلك المحاضرة أن الأمة الإسلامية تعيش حالة غياب.
ولا أعني بالغياب -كما تبادر إلى ذهن بعض الأخوات المتسرعات- أننا نحكم على هذه الأمة بالكفر -مثلاً- معاذ الله من ذلك، فإننا نرجو أن نكون من أبعد الناس عن هذا، والأصل فيمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة أنه مسلم، إلا إذا ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام التي تخرجه عن الملة بيقين لاشك فيه، وإلا فإننا نبقى على استصحاب الأصل في إسلامه، وإنما أردت بمحاضرة (الأمة الغائبة) بوضوحٍ تام، أن نقول: إن الأمة لا تقوم بدورها الواجب في نشر الإسلام، والدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارعة الظلم الذي يقع عليها أو على غيرها، بل إن أغلب هذه الأمة يتذرعون بالحيل المختلفة، ويقعدون عن القيام بما أوجب الله عليهم، فليس مقصدنا بالغياب أنه لا يوجد في الأرض أمةٌ مسلمة.
كيف ونحن نقرأ صباح مساء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} وهذا حديث متواتر.
إذاً مقصدنا بوضوح أن الأمة لا تقوم بدورها كما يجب، وتقع الأحداث الكثيرة دون أن تؤدي الأمة واجبها، بل -أحياناً- دون أن تقوم الأمة بالتعبير عن رأيها ولو بالكلام فحسب، فالأمر كما قيل: ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ وكانت محاضرة (الأمة الغائبة) أشبه ما تكون بالمقدمة لموضوع الحيل النفسية، ثم وفق الله تعالى أن ألقيت محاضرة بمدينة الطائف، كان عنوانها (الحيل النفسية) وعرضت فيها للعديد من تلك الحيل، وسوف أستكملها في هذه الجلسة -إن شاء الله تعالى- بشيءٍ من الاختصار، لأننا بحاجة ماسة الآن إلى الوقت، وسأتحدث إليكم في هذه الكلمة عن أربع نقاط:(61/2)
مقدمة عن دور الفرد في الدعوة
أحبتي! إن مما يشغل البال كثيراً في هذا الزمان ويقلق الإنسان؛ أننا نجد أن هذا العدد الكبير من الأمة يعيش حالة انكماش وانقباض عن أداء الدور المنوط به شرعاً، والكثيرون يعتمدون على غيرهم، ويلقون باللآئمة على سواهم، فبعضهم يحتج بالزمان، وقد رد عليهم الشاعر، فقال: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا ونهجو ذا الزمان بغير جرمٍ ولو نطق الزمانُ بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكلُ بعضنا بعضاً عِيانا وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى يُؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار} وقال أيضاً: {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} أي: أن الدهر مخلوق لله تعالى وهو الذي يدبره ويصرفه كيف يشاء.(61/3)
التقاعس عن الدعوة وتعليقها بأفراد
فالكثيرون يحتجون بالزمان والأوضاع، أو يحتجون بأن فلاناً وفلاناً قاموا بالواجب، ويتعللون بذلك عن القيام بواجبهم هم، ونحن على قناعةٍ تامة، أن أمر الدعوة إلى الله وأمر الدين إذا كان منوطاً بأشخاص يعدون على الأصابع، فإن معنى ذلك أنه عرضةُُ لخطرٍ شديد، فهؤلاء الأشخاص قد يموتون، وقد يعجزون ويهرمون، وقد يحال بينهم وبين ما يريدون القيام به من الكلام أو المحاضرة أو الدرس أو الدعوة، وقد يعرض لهم ما يعرض للبشر من الخطأ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون} فالعالم قد يخطئ، والداعية قد يخطئ أيضاً، والإنسان مهما بلغ من التحري والدقة يظل بشراً، وأبونا آدم عليه الصلاة والسلام ورثنا نحن منه جبلة البشرية، وطبيعة الإنسانية التي هي عرضةٌ للخطأ، قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] .
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ إذاً الإنسانُ يخطئ، فإذا نحن علقنا أمر الإسلام على فلان العالم، أو الداعية، أو المجاهد؛ فمعنى ذلك أننا جعلنا أمرنا مرهوناً بأشخاص يعرض لهم ما يعرض لغيرهم من البشر، وبدون شك فإن السهام إذا تكاثرت على موقع واحد، فإنها تؤثر فيه على المدى الطويل، فهذا سهمٌ يصيب، وهذا سهمٌ يوشك أن يصيب، وهذا سهمٌ يدمي، وهذا سهمٌ قد يصل إلى القلب وإلى السويداء، وبالتالي يتوقف العمل وتتوقف الدعوة إلى الله تعالى.(61/4)
الدعوة واجب الجميع
إذاً يجب أن ندرك -أيها الإخوة- جميعاً أن أمر الدعوة إلى الله، وأمر الإسلام، والعلم الشرعي، والجهاد، وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل أمور الدين، أنها لا تستقر وتستقيم ويضمن لها بإذن الله تعالى الدوام والحفظ ومقارعة كيد الأعداء، إلاَّ إذا كانت هماً لأعداد غفيرة من الأمة، فإن أقوى القُوى وأعتاها وأشدها حينئذٍ تقف عاجزة.
ونحن نجد أنه عبر التاريخ القريب لهذه الأمة، يوم كانت الدعوة هماً لأفراد قلائل، تمكن خصوم الإسلام من إيقافهم، أو مضايقتهم، أو إحراجهم، أو محاصرتهم، أو حتى من اغتيالهم، وبذلك توقفت وتراجعت مسيرة الدعوة الإسلامية سنين إلى الوراء، وربما عشرات السنين؛ لكن لما صار الإسلام هماً لشعبٍ كامل في الجزائر مثلاً، أو في السودان، أو في أفغانستان، أو في بعض البلاد؛ وجدنا أن قوى دولية ضخمة وهائلة، تقف عاجزةً أمامها، فقد وقفت الشيوعية عاجزة أمام أعدادٍ قليلة من المسلمين في أفغانستان لا يملكون -بعد الإيمان بالله تعالى- إلا أسلحةً متواضعة، ثم سقطت الشيوعية وظل الإسلام قائماً في أفغانستان.
واليوم يقف رابع أقوى جيش في العالم في يوغسلافيا عاجزاً عن مزيدٍ من التقدم في بلاد البوسنة والهرسك مع أنهم لا يملكون إلا أسلحة متواضعة، لأن هذا الهم أصبح هماً شعبياً.
إذاً القضية التي تشغل بالي وبال غيري وإخواني من الدعاة إلى الله تعالى، أننا نقول: إلى متى تظلون أو يظل بعض الإخوة متفرجين؟ يروون أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فعل كذا، ويشكرون فلاناً، ويدعون لفلان، وينتقدون فلاناً، ثم يقف دورهم عند هذا الحد، لماذا لا ينزل الجميع إلى الساحة ويشاركون الجميع بإمكانيتهم، كلٌ بحسب ما أعطاه الله تعالى؟! {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .(61/5)
المساهمة بما يستطيع
ولهذا تلاحظون دائماً أننا ندندن حول مسألة المشاركة، لأننا لا يعجبنا أن تكون المشاركة مجرد حضور محاضرات أو دروس، هؤلاء الحضور سرعان ما ينفضون أو ينشغلون بهمومهم، أو تتوقف المحاضرة لإجازةٍ أو لسببٍ آخر فينتهي هؤلاء، لا ثم لا! نحن نريد أن يكون هؤلاء دعاةً إلى الله تعالى كل بحسب إمكانياته، وبحسب ما أعطاه الله عز وجل بحيث لا يتوقفون أبداً.
ولهذا ننادي بالمساهمة والمشاركة ونعرض لها، وندعو إليها، ولعل من آخر المحاضرات التي كنت ألقيتها هنا محاضرة: عنوانها: (تسع وخمسون طريقة لمقاومة التنصير) وقلتُ: إني أبقيت رقماً فارغاً حتى يشارك عدد من الإخوة في مثل هذا العمل، والحمد لله وجدت مشاركة طيبة تبشر بخير، فوجدت أن بعض الإخوة في التسجيلات في الرياض -وأقول: جزاهم الله خيراً- جعلوا هذه الخطط التسع والخمسين في ورقة باختصار، ووضعوا أمامها خانات ليسجل كل إنسان أمام الطريقة التي يستطيع أن يساهم فيها علامة معينة، ووجدتُ أن بعض الإخوة اختصروا هذه الطرق في أوراق مختصرة في نحو عشر صفحات، ونشروها وإن كنت لا أعلم بذلك، لكن وصلني هذا وسرني لأنه نوع من المشاركة.(61/6)
نموذج لمساهمة في الدعوة
وأعرض أيضاً نموذجاً لمجموعة كبيرة من الرسائل والاتصالات وصلتني، وهذا النموذج من إحدى الأخوات في قطر، وقالت: إنني تعجبت أنك لم تذكر نشاط المنصرين في قطر، فهل هذا دليلُُ على أنه لا يوجد لهم نشاط أم هو نشاط سري؟ وأقول: كلا! لهم نشاط، وهو نشاط علني أيضاً، لكن ربما لم يصلني عدد كبير من الوثائق، وربما ضاق الوقت عن ذكر شيء منها.
وذكرت الأخت أنها لما استمعت إلى الأشرطة، قامت بالآتي: أولاً: استمعتُ إلى الأشرطة.
ثانياً: تبنيتُ القضية مناقشةً مع الأخوات، أو توزيع الأشرطة، أو كتابة موضوع عن التنصير في بعض المجلات أو الجرائد.
ثالثاً: لأنني مازلتُ متفرغة نوعاً ما، تعاقدت مع مُدرسةٍ لمعرفة بعض المصطلحات، وبعض الكلمات الإنجليزية التي أحتاجها.
رابعاً: قمتُ بأخذ أرقام البريد لبعض الجهات المهمة كالوزارات، مثل وزارة التربية والتعليم، وزارة النقل والمواصلات، والمستشفيات الحكومية، والفنادق، والجرائد، ثم قمت بتسجيل عشرين نسخة من وسائل المنصرين، وعشرين نسخة من تسع وخمسين طريقة، ووضعتُ كل شريطين في مغلف، مصحوبة برسالة مناصحة ومناشدة، ثم بعثت بها إلى عشرين جهة، ما بين وزارة ومؤسسة وهيئة، وبعثت الأخت بنموذج من الرسالة التي بعثت بها.
خامساً: المراسلة.
سادساً: الدعاء للمسلمين، والدعاء على النصارى.
هذا الأمر هو نموذج للمشاركة، وكل ما نريده وكل ما يهمنا هو أن يكون الجميع مشاركين في قضية الإسلام، وفي الدعوة إلى الله، وتبني مثل هذه القضايا.(61/7)
نظرة حول موضوع: طائفة من الحيل النفسية(61/8)
أمور تعصم من النفس والشيطان
ينبغي أن نعتبر هذه الحيل حيلاً نفسيةً شيطانية، وأن ندرك أن النفس والشيطان والهوى كلها ضد هذا الإنسان، ولا عصمة له من كيد الشيطان ومن وسوسة النفس وقبولها إلا بأمور: الأمر الأول: الإيمان بالله تعالى والاعتصام به والتوكل عليه، فإن العبد يقول دائماً وأبداً: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فلا تحول من المعصية إلى الطاعة، ومن العجز إلى القوة، ومن الضعف والخور إلى القوة في الخير، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الكفر أيضاً إلى الإيمان لا قيام للعبد بذلك كله إلاَّ بعون الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] .
فلابد من الإيمان بالله، والتوكل عليه، وسؤاله والاعتماد عليه، وأن يعرف العبد أنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً بنفسه إلاَّ بقوة الله.
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده الأمر الثاني: الطاعة.
فإن القلب إذا كان مليئاً بالطاعات، سواءً كانت طاعات قلبية، مثل محبة الله والتوكل عليه والإيمان به، ومحبة الخير، وما أشبه ذلك من أعمال القلوب، أو كانت أعمال بدنية، كالقراءة والصلاة والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والبر والإحسان والصدقة والصيام وغير ذلك، إذا كانت حياة الإنسان مليئة بهذه الطاعات، كان الشيطان من الإنسان أبعد، وإذا قلَّت الطاعة وكثرت المعصية، كان هذا مرتعاً خصباً للشيطان.
فالإنسان مثل البيت، إذا دخل الشيطان إلى البيت فوجد ذكر الله، ووجد التسبيح والتحميد وقراءة القرآن، قال لأصحابه: "لا مبيت لكم ولا عشاء" وهرب.
وإذا دخل البيت فوجد فيه المعاصي، ووجد فيه الغناء، والمنكرات، ووجد أنه لا يذكر الله تعالى فيه؛ قال لمن معه من جنوده: "أدركتم المبيت والعشاء" وجلس، فأضل أهل البيت وأغواهم، فينبغي على العبد أن يحصن نفسه بالطاعات الظاهرة والباطنة.
الأمر الثالث -الذي يحول دون التأثر بهذه الحيل النفسية والشيطانية-: اعتدال الإنسان في نظرته، وآرائه، ومزاجه، وعلمه، وعمله.
فإن العبد إذا كان معتدلاً عُصِمَ بإذن الله تعالى، والاعتدال خيرٌ كله، وهو من القصد الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة: {والقصد القصد تبلغوا} .
أما إذا كان الإنسان بعيداً عن العدل والاعتدال، وعنده نوعٌ من الغلو أو الإفراط، أو الشذوذ في أقواله، أو آرائه، أو أعماله، فإن ذلك يغريه -غالباً- بأن يقع ضحية الحيل النفسية، ويجره الشيطان بسببها.
الأمر الرابع: كثرة التجربة في مجال الخير، فإن من جرَّب عرف، وكثير من الناس يتوقفون بأسباب ضعف التجربة، فيظن الأمر صعباً، ولو جرب لأدرك أنه أقل مما كان يخاف، فإذا أُذِنَ للعبدِ بِأن يجرب ويقوم بالأعمال ويؤدي ما يستطيع، فإنه ينتقل -بإذن الله- من نصرٍ إلى نصر، ومن تجربةٍ إلى تجربة أخرى أحسن منها.
الأمر الخامس: السلامة من الآفات والأمراض الظاهرة والباطنة فإن أمراض القلوب من الحقد والحسد والبغضاء والتعاظم والعجب والكبر وسواها؛ تصيب الإنسان كثيراً ببعض الحيل النفسية، وتجعله عرضة لوسوسة الشيطان وكيده، ومثله -أيضاً- الأمراض البدنية، فإنها إذا أبطأت بالإنسان كثيراً ما تؤثر في نفسه، وتسبب اعتلالاً في مزاجه ونقصاً في أحكامه.
فعلى العبدِ أن يدرك ذلك كله، وأن يعتصم بالله، ويكثر من الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم على كل حال.(61/9)
دور الشيطان في الحيل النفسية
النقطة الثانية التي سأقف عندها هي: نظرة في العنوان.
كنت أعلنت عن الدرس يوماً من الأيام بعنوان: (العوائق النفسية) ثم بدلته إلى (الحيل النفسية) والعوائق والحيل قريب من قريب، ثم خطر في بالي خاطر فقال لي: وأين الشيطان الذي ذكر الله تعالى أنه مسلط على ابن آدم، والذي توعد الإنسان فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] وقال {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] وفي آية أخرى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] ؟! فخطر في بالي أن تسميتنا لهذا الأمر بالحيل النفسية أو بالعوائق النفسية أمرٌ يحتاج إلى مراجعة، وكان الأولى أن نسميه الحيل الشيطانية، أو العوائق الشيطانية، لأنه وإن كانت من داخل النفس إلا أن للشيطان فيها نصيباً كبيراً، فإنها غالباً من كيد الشيطان أو وسوسته، والنفس قبلت هذا الكيد وتأثرت به؛ فتحول إلى حيلةٍ يقنع الإنسان بها نفسه، وينبغي أن نجعل للشيطان حينئذٍ دوراً ولا نغفل دور النفس، لأن من الحيل -أيضاً- أن نلقي باللائمة على الشيطان ونتخلى عن أنفسنا في قبول كيد الشيطان والتأثر بوسوسته، مع أن الشيطان نفسه يقول يوم القيامة كما ذكر الله عز وجل {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] .
إذاً الشيطان يقول: (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ونقول النفوس: ملومة، والشيطان ملوم أيضاً، فهو أغوى وكاد ووسوس، والنفوس قبلت هذا الوسواس، لأنها نفوسٌ ضعيفة أمارة بالسوء أو نفوسٌ لوامة.(61/10)
من الحيل: التواضع الوهمي
النقطة الثالثة: عرض سريعٌ لما سبق قد عرضتُ فيما سبق لأربع حيل نفسية أذكرها الآن باختصار: الحيلة الأولى: التواضع الوهمي، أما التواضع الحقيقي فمطلوب، وتسميته تواضعاً تيسيراً وإلاَّ فهو في الواقع ليس تواضعاً، فإن أكبر الناس علماً أو عملاً أو تجارة لو عرف قدر نفسه لاحتقرها وازدراها، لكن ينبغي للإنسان أن يتواضع لله تعالى.(61/11)
التواضع لا يمنع من العمل والأداء
التواضع لا يمنع من العمل والأداء: فهذا التواضع لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجاهد، ويدير الجيوش، ويعلم الناس العلم ويصالح ويحارب ويسالم ويدعو ويخطب ويأمر وينهى، ويقوم بكل الواجبات الشرعية، فأنت تجد مثلاً ابن عباس رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان متواضعاً شديد التواضع، كثير البكاء من خشية الله تعالى، حتى قيل: إنه رضي الله عنه عميت عيناه من كثرة البكاء.
وكان يقول: إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ ومع ذلك كان يقول عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] يقول: [[أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله]] وكذلك عند قوله تعالى في قصة أهل الكهف: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] يقول رضي الله عنه: [[أنا من القليل الذين يعلمونهم]] كما نقل عنه غير واحد من المفسرين.
فهذا التواضع لم يمنعه من أن يعلم الناس ويبين ما يعرف، بل هذا نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو المتواضع العارف بحق الله تعالى ومع ما ذكر الله تعالى عنه وشكره لنعم الله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] .
مع ذلك كان يقول كما ذكر الله تعالى عنه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] .
فأعْرَب وأعلن أنه يستطيعُ أن يقوم بأمر الوزارة في حكومة العزيز، وما ذلك رغبةً منه في المنصب ولا طمعاً في الدنيا، لكن من أجل أن يخدم دينه وعقيدته ورسالته التي بعث بها.
وهكذا عثمان بن أبي العاص قال: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم} .
ومثله ابن تيمية -رحمه الله- كان يقول كلاماً عن نفسه قوياً جزلاً عظيماً، كان يقول: من قام بأمر الإسلام غيري؟! ومن الذي رفع رايته؟ وإنما قال ذلك لما هضم بعض الناس حقه، واتهموه بما هو منه براء، ومن قبل ذكر الله تعالى عن المتقين أنهم كانوا يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .
إذاً نريد منك أولاً ألا يكون تواضعك وهضمك لنفسك، ومعرفتك بقدر نفسك، حائلاً دون قيامك بالواجبات، وأن تقول عند المُلمات: أنا لها أنا لها.
وكما قيل: وتزعم أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ.(61/12)
التواضع مطلوب ولكن في حدوده
التواضع مطلوب ولكن في حدوده: وهذا التواضع لا يجوز أن يؤدي إلى ألا يرى الإنسان نفسه أهلاً لشيء، ولا قادراً على أن يفعل شيئاً من أعمال الخير، وليست المشكلة فقط بمجرد الشعور الموجود عند بعض الناس حين يقول: الله يرحم الحال، والله المستعان، وأنا لستُ أهلاً لشيء، وأنا إنسان ضعيف، هذا كله كلام جميل ولا بأس به، المشكلة أن يتحول هذا إلى مبدأٍ مستقر يحكم تصرفات الإنسان، ويحكم مواقفه، فإذا قلتَ له: يا أخي درِّس قال: الله المستعان أنا لا أصلح للتدريس إذاً علِّم القرآن.
قال: أنا أحتاج إلى من يعلمني.
إذاً اخطُب.
قال: أنا لا أستطيع أن أجمع كلمتين إحداهما إلى الأخرى.
إذاً ماذا تستطيع أن تعمل؟ تحول هذا التواضع إلى غِلٍّ وقيدٍ يقيد الإنسان ويقعده عن الأعمال الصالحة، وهذا نوعٌ من إنكار نعمة الله تعالى قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83] .
فأول مراحل شكر النعمة أن تعرف النعمة فتشكر الله تعالى عليها عارفاً بها، فإن الله تعالى قد أعطاك الكثير، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8-10] فلماذا تجحد نعمة الله تعالى عليك ولا تقوم بشكرها؟.
أنت تجد أن هدي السلف رضي الله عنهم بل الأنبياء كان غير هذا!! فالأنبياء وأتباعهم كانوا لا يرون لأنفسهم فضلاً، وإنما يرون الفضل لله عز وجل، ويزدرون أنفسهم ويتواضعون لله تعالى، بل إن النبي صلى عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً دخلها متواضعاً متذللاً متضرعاً، حتى طأطأ رأسه عليه الصلاة والسلام، مع أن هذا في موقع النصر.
وكذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم السحاب، خرج فزعاً يخشى أن يكون عذاباً، ومثله لما حصل الخسوف والكسوف خاف صلى الله عليه وسلم وخرج يجر إزاره ثم صلى بالناس، وخشي أن يكون عقوبةً تنزل بالمسلمين.(61/13)
من الحيل: الخوف الوهمي
الحيلة الشيطانية الثانية: الخوف الوهمي عند كثير من الناس فقد لعب الخوف بالكثيرين فأصبحت تفرح إذا وجدت رجلاً شجاعاً، لأنك قلَّما تقع عينك إلا على الجبناء الذين يخاف الواحد منهم من ظِله، ويفرق من كل شيء، ويحسب كل صيحة عليه، وهذا والعياذ بالله من علامات ضعف الإيمان، ونبات النفاق في القلب، فإن الله تعالى قال عن المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] .(61/14)
الشجاعة في الحق والتحرر من الأوهام
الشجاعة في الحق والتحرر من الأوهام: على الإنسان أن يكون قوياً شجاعاً في الحق وفي أمر الدين، لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، وقد كان مما بايع عبادة بن الصامت وأصحابه -كما في الصحيحين- رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه: {وأنْ نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله تعالى لومة لائم} .
فالكثيرون يضخمون أعداءهم ويضخمون أجهزة الأمن، وبعض الذين يقرءون الكتب عن المخابرات العالمية الأمريكية وغير الأمريكية، أصبح الواحد منهم يعيش على خوف، وينام عليه ويصحو عليه، الخوف من أجهزة الأمن ومن رجال المباحث والمخابرات وغير ذلك، مع أن هؤلاء بشر يضعفون وينسون، ويقصرون، والكثير من هؤلاء مجرد موظفين لا يعنيهم إلاَّ أمر وظائفهم، وليس أمر هؤلاء بغالب أمر الله تعالى، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] .
فينبغي للمؤمن والداعية خاصة وطالب العلم؛ أن يتحرر من الأوهام والمخاوف، والأشباح التي تلاحقه، وأن يتحرك باعتدالٍ وتعقل.
والكثيرون أيضاً يعيشون عقدة المؤامرة، فكل شئٍ يشاهدونه في حياتهم يعتقدون أن وراءه مؤامرة من أعداء الإسلام أو من خصوم الدين، حتى ولو كان الأمر ليس كذلك، وقد بالغ البعض في هذا، والبعض الآخر بالغوا في التهويل، ونحن دائماً ندعو إلى التوسط، فأعداء الإسلام يحيكون المؤامرات العظام، ويخططون ويكيدون ولا شك في هذا؛ لكن لا يعني هذا أن كل شئ بأيديهم ومن تحت تصرفهم وأنهم يملكون كل شيء.
كُنا نتوقع أن الاتحاد السوفيتي قوةٌ لا تقهر، وأنه باقٍ إلى مئات السنين، فإذا بأمر الله تعالى يطيح به بين عشية وضحاها، فلماذا لا نأخذ العبرة من ذلك؟ واليوم الناس كثيراً ما يتوقعون أن أمريكا قوةٌ ضاربة، والذين يتابعون أخبار الاقتصاد اليوم مثلاً، يدركون أن الاقتصاد في أمريكا -بل في أوروبا كلها- يعيش أزمات متلاحقة، وأن من أقل الأسواق الآن استثماراً وانتفاعاً الأسواق الأمريكية التي كانت محط أنظار المستثمرين بالأمس.
فأمر الله تعالى غالب، وسنة الله تعالى ماضية، وينبغي ألا نقلل ونهون من شأن هؤلاء، وأيضاً ينبغي ألا نضخم أمرهم وأن نعتقد أن وراء كل شيء مؤامرة.(61/15)
تضييع الفرص بسبب الخوف الوهمي
تضييع الفرص بسبب الخوف الوهمي:- الكثيرون لا يستفيدون من بعض الفرص، وبعض الإمكانيات والمكاسب؛ بحجة أننا نخاف أن وراءها مؤامرة، وأن تجر أرجلنا إلى أمرٍ لا نحيط به ولا ندركه.
مثال ذلك: الخوف من الفشل، فلا يفعل الإنسان شيئاً، لا يخطب لأنه يقول: أخاف أن أخطئ ولا يؤم الناس لأنه يقول: أخاف أن أسهو في الصلاة كثيراً، ولا يمارس أو يقوم بأي عمل لأنه يقول: أخاف أن أخطئ فيه.
ثم ماذا إذا فشلت؟ الفشل هو طريق النجاح، والخطأ هو طريق الصواب، والذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل فيخطئ ثم يخطئ ثم يخطئ ولكن صوابه أكثر من خطئه ولذلك الناس يلتمسون العذر لفلان إذا أخطأ لأن حسناته كثيرة، والماء إذا بلغ قلتين لا يحمل الخبث، لكن إن كان فلان لا يعمل شيئاً ثم أخطأ لا يحتملون هذا منه؛ لأنهم يقولون: أين أعماله المقابلة لهذا الخطأ الذي وقع فيه؟ ومثل ذلك: الخوف من النقد والخوف من النصيحة، فتجد الكثير من الناس إذا قدَّمت له نصيحة كأنه ملدوغ.
يكون ماذا يا أخي إذا نصحت؟! أنت بشر، وأنت اليوم حي وغداً ميت، ومن رحمة الله تعالى عليك أن يقيض لك من يقول: يا أخي! جزاك الله خيراً لقد أخطأت، لكن ينبغي أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب المناسب.
أما الخوف من النصيحة والجزع منها، والنقد لمن ينصح أو من يوجه؛ فإن هذا في الواقع دليلٌ على الخذلان على مستوى الأفراد والجماعات، والدول، فإن النصيحة مما يفرح بها.
ولقد شكا الشاعر قديماً فقال: وكم مرةً أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصّحُ وإذا رأيت الأمة تجزع من النصيحة، وتسب الناصحين وتنقدهم وتعيرهم وتشتمهم وتشكك في نواياهم ومقاصدهم وتتهمهم؛ فثق أن هذه الأمة قد تُودع منها؛ لأن الأخطاء سوف تكثر وتتراكم ولا أحد ينصح أو يجرؤ على النصيحة لماذا؟ لأنه بمجرد أن ينصح سوف يشار إليه بالأصابع، ويقال: أنت تريد كذا وقصدك كذا، وغرضك كذا، وفعلت كذا، حتى لا يقوم أحدٌ بأمرٍ بمعروف ولا نهيٍ عن منكر، ونحن على ثقة أن الأمة -بحمد الله- لا تخلو من الناصحين، ولكن يُؤسفنا أن يكون بعض الأفراد أو الأمم أو الجماعات -أحياناً- ممن ينطبق عليهم قول الله عز وجل: {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] .(61/16)
الإيمان بالقدر والشجاعة في الحق
الإيمان بالقدر والشجاعة في الحق:- وما ذلك إلا بسب الخوف الوهمي، وإلاَّ فلو أننا فتحنا النوافذ للنصائح الصادقة المخلصة؛ لكان ذلك تعاوناً على البر والتقوى، كما أمر الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وكان ذلك تآزراً وسبباً لزوال الأخطاء واضمحلالها ووجود الخير، وكون الأمة كلها يداً واحدةً على من ناوأها أو عاداها.
فينبغي أن نُعظِّم أمر الله عز وجل، وأن يعيش الواحد منا لعقيدة ومبدأ ويموت من أجلها، فيكون الله تعالى في قلبه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، ويفقه معنى كونه يقف في الصلاة ويقول: الله أكبر، فإنَّ هذا يعني أن الإنسان يعظم أمر الله ويهون ما سواه.
وينبغي أن يؤمن الإنسان بالقضاء والقدر، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فكل ما سوف يجري عليك هو مكتوب، ولن يخطئ الإنسان ما كتب له.
قال الشاعر: اعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا وقال آخر: فليس لأمرٍ قدر الله جمعه مشتٌّ ولا ما فرق الله جامعُ وبناءً عليه ينبغي أن تتحرر من المخاوف والأوهام.
أصحاب المخاوف والأوهام -أحياناً- لا يكتفون بمجرد القعود عن العمل خوفاً وجبناً وهلعاً، بل هم قاعدون -أحياناً- للتشفي والنكاية فيمن اجتهدوا فعملوا، أخطئوا أم أصابوا، فلان لو فعل كذا لكان كذا، ولو لم يفعل لكان كذا، ومن قبل ذكر الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] وقال: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] .
وعلمنا المصطفي صلى الله عليه وسلم ألا يقول أحدنا: {لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} وهكذا فإنها حيلٌ نفسية، وشيطانية، لو لو الكثيرون قعدوا عن الدعوة، والعمل، والجهاد وطلب العلم النافع، لماذا؟ لأن كلمة "لو" أحبطتهم وثبطتهم، لأنه ما من إنسان إلا ويجتهد فيخطئ تارة ويصيب تارة.(61/17)
من الحيل: الكمال الوهمي
الحيلة الثالثة: تطلب الكمال المطلق مع عدم السعي في تحصيله.
وهو الكمال الوهمي، لأن الإنسان -فرداً أو جماعة أو دولة- لا يخلو من أخطاء مهما بالغ في تحصيل الكمال، فالذين يريدون -مثلاً- أن تكون هناك دعوة إسلامية ناضجة سليمة (100%) هؤلاء يطلبون أمراً قد يكون تحقيقه صعباً ويتطلب جهوداً كبيرة، فلماذا أقعد وأنتظر دعوة كاملة؟! أو يطلبون -مثلاً- علماً غزيراً كبيراً حتى يقوموا بالدعوة إلى الله، هؤلاء يتطلبون كمالاً لا يحصلون عليه، أو إنسان -مثلاً- لا يقوم بالدرس أو بالمحاضرة، لماذا؟ لأنه يتطلب جمهوراً غفيراً يحضر له! هذا ليس بصحيح؛ لأنه كما يقول المثل الصيني: (رحلة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة) .
فالدعوة الناضجة، أو الدولة الكاملة، أو الحضور الكبير، أو العلم الغزير أو غيره، كل ذلك يتطلب أن تبدأ أنت بذاتك، وأقصدك بعينك، أن تبدأ أنت بالخطوة الأولى إلى مجلس علم، أو دعوة، أو جهاد، أو إصلاح، أو نفقة في سبيل الله، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة التي هي في متناول يدك.
وأحياناً يقعد الانتقاد بمثل هؤلاء عن العمل بحجة أن هذا العمل فيه نقص، وذاك العمل فيه نقص، وذاك فيه نقص.
ونحن نقول: النقد بذاته إيجابية، فمن الأعمال التي نُطالبك بالمشاركة فيها أن تنتقد نقداً حراً بناءً، وينبغي -أيضاً- مع النقد أن تعلم أن وجود العيب والخطأ لا يمنعك من المشاركة أبداً، وأنا أقول لك عن نفسي: أنا أشارك في أعمال أعلم أنها ليست على الكمال، فيما أرى، ولكن الكمال عزيز ونادر، ولو أن الإنسان لا يشارك في عمل ولا في خير إلا بعد أن يقتنع تماماً أنه ناضج (100%) وصالح (100%) ؛ لما عمل الإنسان خيراً قط، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في نصيحته العظيمة الغالية، التي رواها لنا البخاري عن أبي هريرة {سددوا وقاربوا وأبشروا} فينبغي أن تقبل المكاسب الجزئية، وتؤمن بأن الإنسان يعمل بحسب ما يستطيع، ويتعامل مع الواقع الذي يعيش فيه.(61/19)
من الحيل: القناعة الوهمية
الحيلة الرابعة: القناعة الوهمية، وإحساس البعض بأنه قد أدَّى ما عليه، وأنه لا مجال لطلب الزيادة أو تغيير الأحوال أو ما أشبه ذلك، فأنت تجد الكثيرين من أصحاب ثلاثين سنة وما فوق -ولعل أكثركم وأكثر المستمعين من هذه الطبقة- استقرت أحوالهم على أمور معينة، فإن جئته من الناحية الوظيفية وجدته قانعاً بوظيفته لا يطلب تغييراً جوهرياً فيها، وإن جئت من الناحية العائلية وجدته قد استقر أمره ولا يطلب أي تغيير، وإن جئت من الناحية التجارية وجدت أنه قد استقرت أموره المادية على مستوى معين لا يطلب فيه تغييراً، وهذا كله لا يعنينا، لأننا لا ندعوكم إلى التزود من الدنيا، وإنما ندعوكم إلى التزود من الآخرة، وإذا كانت الدنيا سبيلاً وذريعة إلى الآخرة، فتزود من الدنيا لأنها سبيل إلى الآخرة.
الذي ندعوك إليه هو أن تكون دائماً وأبداً متطلعاً في المجالات الشرعية العلمية والدعوية والجهادية وغيرها، وأن تكون متطلعاً نحو الكمال وألَّا ترضى بالواقع الذي تعيشه، ولا يكفينا أن تقول: أنا غير راضٍ بهذا الواقع.
بل نريد منك أن تسعى خطوة تدل على أنك تسعى في تغيير هذا الواقع.
هذا على المستوى الفردي، لكن على المستوى الاجتماعي أيضاً، لا أعتقد أن واحداً منكم اليوم إلا وقد سمع تلك الكلمة التي كثيراً ما تردد تزكية لمجتمعنا، الكثيرون يقولون: الحمد لله؛ مجتمعنا اليوم أفضل من المجتمعات الأخرى.
ويقصدون أن المجتمع في هذه البلاد أفضل من المجتمعات الأخرى، ولو نظرنا إلى الدول المجاورة، ولو نظرنا ولو نظرنا هذه التزكية لأفرادنا ولجماعاتنا ولمجتمعاتنا هي نوعٌ من الرضا بالواقع وتسويغ القعود، والواقع أننا ينبغي أن نقف بعض الشيء عند هذه التزكية.(61/20)
معيار الحكم على المجتمعات ومشكلة التغير
ما هو المعيار في الحكم على المجتمعات؟ هل هو الدول المجاورة أو القريبة أو البعيدة، أم هو الكتاب والسنة؟ لا شك أنه الكتاب والسنة، إذاً علينا أن نقيس أمر مجتمعنا على ما هو واجب في شريعة الله تعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنعرف كم نحن بعيدون عما هو واجب شرعاً؛ لنسعى ونبذل جهدنا في الوصول إلى ما هو واجب شرعاً، فإن أبيت هذا المقياس ولا أظنك تأبى وأنت إن شاء الله وقَّافٌ عند حدود الله؛ لكن إن أبيت قلنا لك: إذاً بدلاً من أن نقيس بغيرنا، لماذا لا نقيس المجتمع بما كان عليه المجتمع نفسه قبل عشر سنوات أو عشرين سنة؟ لندرك كم من رياح الفساد والانحلال والتغيير الخطير، هبت على هذا المجتمع وغيرته، وكم دخل هذا المجتمع من ألوان الانحراف التي لم يكن للناس بها عهد، وأصبحوا اليوم يألفونها ويستسيغونها، وقد كانت بالأمس منكرةً أشد الإنكار، ولا أريد أن أضرب الأمثلة، لأن هناك بعض الأمثلة قد تكون مثار عجب ودهشة عند الكثيرين، حتى في أشياء صغيرة جداً.
فالتدخين كمنكر محرم، قبل سنوات كان وجود إنسان يدخن في الأسواق أمراً مذهلاً مدهشاً، أما اليوم فقد أصبحت ترى الإنسان يدخن وربما لا تنكر عليه؛ لأنك تقول: انتشر هذا المنكر بصورة جعلتني لا أستطيع أن أنكر على كل من رأيت، ولو أردت أن أنكر لم أستطع أن أقوم بعمل من الأعمال الدنيوية ولا الشرعية؛ لأن هذا الأمر أصبح فاشياً منتشراً مشتهراً.
هذا مثل واحد قليل من عشرات بل مئات بل آلاف الأمثلة التي تدل على أن المجتمع أصبح يتغير، وأنا أقول لكم -أيها الإخوة- كلمة مختصرة: ليست المشكلة عندي في تغير المجتمع هي فقط مشكلة أن المجتمع أصبح مجتمعاً مدخناً في قاعدة عريضة من رجاله! ليست هذه هي المشكلة فقط، بل هناك ما هو أخطر من التدخين وهي المخدرات بأنواعها، وليست المشكلة عندي هي المخدرات فقط! وليست المشكلة هي كون الكثير من الناس أصبحوا يقضون أوقاتاً طويلة أمام التلفاز أو أمام أشرطة الفيديو.
هذه كلها مشكلات، لكن المشكلة الأكبر عندي أن عقليات هذا المجتمع قد تغيرت كثيراً، وأن قلوب الكثيرين قد تغيرت، وربما كانت أجهزة الإعلام من إذاعة وتلفزة وفيديو وصحافة ومقالات وكتب وغيرها، ربما كانت هي أحد الروافد التي ساهمت في تغيير عقول وقلوب أبناء هذا المجتمع!! وهذا التغير خطيرٌ جداً، والكثيرون لا يدركونه، فمثلاً: أي جهة قامت برصد تأثير أجهزة الإعلام على بناتنا؟! أعلم يقيناً أنه ليست هناك جهة قامت بهذا مطلقاً، لكن أنت -مثلاً- عندما تقرأ مقالاً لبنت في جريدة، أو تشاهد ظاهرة شاذة في مجتمعنا، في الشارع، أو في الطائرة، أو في متجر، أو في أي مكان، أو تسمع ظواهر في المدارس، أو في الأسواق، أو ترى أو تقرأ لبعض الكاتبات، أو تشاهد كما سوف أشير إلى قطرة من بحر في آخر هذه الكلمة، فإنك تندهش وتقول: من أين جاء هذا؟ أنا أقول لك: إن هناك جهاتٍ تسعى إلى أن يغير المجتمع من الداخل، أن تتغير العقول والقلوب والأخلاقيات؛ بحيث يصبح الفرد في المجتمع متذمراً من هذه القيود -التي يسميها قيوداً وهي أوامر شرعية- متبرماً منها مستثقلاً لها، وهناك جهات كثيرة تسعى إلى أن تكون البنت متضايقة من الحجاب الشرعي بكامل الزي متبرمةً منه، وهي تلبسه لأنه قانون، لكنها تتطلع إلى أن يأتي اليوم الذي يسمح القانون والنظام بإزالته لتقوم بإزالته! وهذا أمرٌ في غاية الخطورة، إذا كانت عقول الناس وقلوبهم ضد ما هو مستقر ومألوف ومعروف في المجتمع من دين الله تعالى وشرعه.
ومثل ذلك الشاب الذي تغير قلبه، وأصبح يتطلع إلى أن يأتي اليوم الذي يرى فيه ألوان الانحراف موجودة بمتناول يده وقال: لقد سئم الهوى في البيد قيس وملَّ من الشكايةِ والعذابِ يُحاول أن يُباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجابِ فحينئذٍ ستجد مجتمعاً يتطلع إلى تغيير الأنظمة والقوانين التي تحكمه، وما أسهل أن تتغير إذا كانت إرادة الناس ورغبة جمهورهم بهذا الاتجاه! وهذا هو الأمر الخطير الذي يسعى إليه الكثيرون.
فينبغي أن ندرك أن هذه التزكية لمجتمعنا تحتاج إلى أن نعيد النظر فيها، وأن ندرس حال مجتمعنا اليوم، مقارنة بما كان عليه مجتمعنا قبل عشر سنوات أو عشرين سنة.
والذي يشاهد الأوضاع التي نعيشها الآن، يعلم أنه إذا دام هذا ولم يحدث له تغيير؛ فإن الأمور قد تكون أسوأ بكثير مما عليه مجتمعات أخرى كثيرة.
فإننا نعلم -مثلاً- أن تيار الانحلال في مصر أو في بلاد الشام أو غيرها، لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه اليوم بين يوم وليلة، بل قطع شوطاً خلال عشرين أو ثلاثين سنة، ولكنه بدأ بداية مبكرة، أما في بعض المواقع والمظاهر والأمور، فإن الإنسان يخاف ويخشى -إذا رأى سرعة التغيير- يخشى أن نختصر نحن المسافات، فما قطعه غيرنا في عشرين سنة ربما نحاول نحن أن نقطعه في خمس أو أربع سنوات.
قال الشاعر: هذا الزمان الذي كنا نُحدثه في قول عمرو وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غيرٌ لم يُبك ميتٌ ولم يُفرح بمولودِ أما ما سوف أقوله لكم اليوم، وهو نصيب هذه الليلة، فإنني أسوقه لكم أيضاً باختصار:(61/21)
من الحيل: الإلقاء بالمسئولية على الآخرين
فأحياناً نحن نلقي بالمسئولية على الشيطان ونتبرأ من معاصينا، والشيطان لاشك له دورٌ في إضلال الإنسان، ولكن كما قال الله تعالىحاكياً عن إبليس عندما يتكلم في الآخرة: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] فينبغي أن ندرك أن كيد الشيطان ما كان ليبلغ مداه وتأثيره لولا أنه وجد قلوباً أصغت إليه واستجابت له، ونفوساً قابلةً لأن تزرع فيها جراثيم الغواية والفساد، وهذا الشيطان نفسه وجد أقواماً عصوه وخالفوا أمره، فتحرروا من كيده وتلبيسه، حتى وصل الحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له في شأن شيطانه قال: {إن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير} .
أسلوب التلاوم: من تحميل المسئولية للآخرين: أسلوب التلاوم.
وكون بعضنا يلوم بعضاً مبناه سوء الظن بالناس، لماذا ألومك؟ ألومك لأنني أعتقد أنك ما صنعت شيئاً، وأنت لماذا تلومني؟ تلومني لأنك تعتقد أنني مقصر! إذاً التلاوم هو نوع من تحميل المسئولية للآخرين، والفرار بالنفس، وأنت تجد أحياناً أن القائد يلوم الناس، فيتغنى ويقول: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقتُ ولكن الرماح أجرتِ ويقول: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثَغْرِ أما المقود فإنه يتغنىَّ ويقول: تاه الدليلُ فلا تعجب إذا تاهوا أو ضيع الرَّكب أشباحٌ وأشباهُ تاه الدليلُ فلا تعجب إذا انحرفوا عن الصراطِ لِذات الشرك عُزَّاهُ تاه الدليلُ فلا تعجب إذا تركوا قصد السبيلِ وحادوا عن سجاياهُ والواقع أنه ينبغي أن يكون كل فرد منا قائداً قوياً عزيزاً منيعاً، يملك من الثقة بالله تعالى ثم الثقة بمواهبه وإمكانياته وطاقاته، وما أعطاه الله عز وجل ما يجعله يقول: أنا لها.
ويتصدى للمهمات والملمات، خاصةً أننا في أزمنة قد اختلط الأمر فيها.
فأنت تعرف -إن كنت من قراء السيرة- أن المسلمين خاضوا معركة مؤتة، وكانوا قليلاً بالقياس إلى جيش الروم الذي يقدر بمئات الألوف، والمسلمون كان عددهم آلافاً معدودةً محدودة، وفي بلاد غريبة، فواجه المسلمون معركة شرسة، واختلط الأمر وقتل القادة الثلاثة واحداً بعد الآخر، فاضطرب أمر المسلمين، ولم يكن لهم قائد، وكاد المسلمون أن يمنوا بهزيمة تأتي عليهم من آخرهم، مثل هذا الموقف يتطلب مبادرة شخصية، يتطلب واحداً يتخلص من كل الظروف النفسية، وكل المخاوف والأوهام ويتقدم، وفعلاً قام رجل من أهل بدر مجاهد -جزاه الله خيراً ورضي الله عنه- اسمه ثابت بن أقرم العجلاني، فتصدى للراية وحملها وقال: أيها المسلمون إليَّ إليَّ.
فاجتمع المسلمون حوله والتفوا وتوحدوا، فقال: اختاروا من بينكم قائداً.
قالوا: أنت لنا قائد.
قال: لا، أنا لست لها، أنا لا أستحق هذا، إنما أخذت الراية حتى تجتمعوا على رجلٍ واحد، فتشاور المسلمون واتفقوا على خالد بن الوليد، فحينئذٍ استطاع خالد أن يحول نصر الروم -بإذن الله تعالى- إلى هزيمة، وأن يحول هزيمة المسلمين إلى انتصار، كما حقق ذلك الأستاذ محمد الصادق عرجون في كتابه القيم خالد بن الوليد.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: {أخذ الراية سيف من سيوف الله تعالى ففتح له} المهم أن ثابت بن أقرم أخذ زمام المبادرة، هو لا يرى نفسه كفئاً للقيادة -أيضاً- وهو متواضع، لكن هذا التواضع لم يمنعه أن يمسك بالقيادة ويمسك بالراية، ولما اجتمع المسلمون وأنقذ الموقف قال: اختاروا من بينكم واحداً، فلما اختاروا خالداً سلم الراية إليه، ونحن اليوم أشبه ما نكون بحال المسلمين في معركة مؤتة، نحتاج إلى أن يكون كل فردٍ منا ثابتاً كـ ثابت بن أقرم العجلاني رضي الله عنه.(61/22)
الاحتجاج بكثرة الدعاة وبالعجز
والبعض يعتقدون أن الساحة مليئة، وأن غيرهم قد قام بالواجب فيقول: الفقهاء والعلماء -بحمد الله- والدعاة كثير، وفيهم الكفاية وليس لنا مجال.
وأقول: أخشى أن مثل هذا الإنسان يأتي يوم القيامة مقبلاً ليدخل الجنة، فإذا رآها خيل إليه أنها ملأى فرجع وقال: رب وجدتها ملأى، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد الناس يفعل ذلك يوم القيامة {فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك الدنيا وعشرة أمثال الدنيا} فالمقصود أنه لا ينبغي لك أن تعتقد أن الساحة ملأى، بل الساحة فارغة تصفق، وهي أحوج ما تكون إليك، وأرجو أن تكون أنت الفارس القادم الذي يملأ فراغ هذه الساحة.
أمرٌ آخر: أنت مطالب -حتى ولو كانت الساحة ملأى- بأن تقوم بواجبك، فالله تعالى يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] .
فما أعطاك الله ابتلاء واختبار، أتقوم به وتشكر أم تكون الأخرى؟ وكذلك قال الله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته} والحديث في الصحيحين، وفي الحديث الآخر عند الترمذي وسنده حسن إن شاء الله: {لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع} الحديث.
عليك أن تعتمد -إذاً- على إمكانياتك، وطاقاتك، وعلى ما أعطاك الله، وأن تقدم للناس نموذجاً عملياً بدلاً من أن تتكلم بلسانك، ولا يكلفك الله تعالى إلا ما أعطاك، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .
والعجيب أيها الإخوة أن الكثيرين يحتجون بهذه الآية لأنفسهم ولا يحتجون بها على أنفسهم! فإذا قلت لفلان: يا فلان! ارفع هذا الكوب، قال لك: أنا لا أستطيع، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ونسي أنه يستطيع أن يقول: نعم أستطيع أن أرفعه، وهذا في وسعي والله تعالى كلفني وسعي.
فنحن لأننا لا نحب العمل -بل نحب القعود- نحتج بهذه الآية على ترك العمل ونقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وننسى أن هذه الآية من أعظم الآيات في تكليف الإنسان؛ لأن الآية نصها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن مفهومها: أن الله تعالى يكلف الإنسان كل وسعه وكل طاقته وكل جهده الذي يستطيع، فما بالك تأخذ بها في الترك ولا تأخذ بها في الفعل؟! لماذا تكون ورعاً -أيضاً- في ترك الأشياء ولا تكون ورعاً في فعل الأشياء؟! مثلاً: شك الإنسان في هذا الماء أنه قد يكون مكروهاً، فقال: أتركه على سبيل الورع، فهذا جيد، لكن إنسان آخر شك في أن هذا العمل قد يكون واجباً عليه، ربما تكون الإمامة -مثلاً- في حقك واجبة، أو الخطابة، أو التعليم، أو الدعوة، أو الأمر، أو النهي، أو النفقة، قد تكون واجبة، فلماذا لا تقول: من باب الورع أن أفعل هذه الأشياء خشية أن تكون واجبةً عليك؟! أو خشية أن تكون مستحبة في حقك؟!(61/23)
الاحتجاج بالقدر
الكثيرون يحتجون بالقضاء والقدر، وكأنهم يتصورون -والعياذ بالله وأستغفر الله- أن القدر أمرٌ اعتباطي، وينسون أن الله تعالى أحكم الحاكمين فهو الحكيمُ في فعله سبحانه، فإذا ضل فلان فما ضل إلا لأنه أهلٌ للضلال، وإذا اهتدى فلان فبرحمة الله تعالى وفضله، والله تعالى لا يظلم أحداً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] والإنسان له يدٌ فيما يعمل، وأنت ترى أنه يريد الشيء فيعمله فله إرادة، والله تعالى يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] .
فالإنسان له إرادة ومشيئة، وإن كانت داخلةٌ ضمن إرادة الله تعالى ومشيئته فلا يفعل الإنسان شيئاً خلاف مشيئة الله تعالى، ولكننا نجدُ بضرورة الواقع أن الإنسان يختار الشيء من أمر دينه فيفعله، ويختار الشيء من أمر دنياه فيفعله، ويترك ذاك بمحض رغبته، وأنه ليس هناك قوةٌ تفرض عليه بالقهر والجبر ما يفعل أو ما يقول أو ما يترك.(61/24)
الاحتجاج بالعدو
وأحياناً نحتج بالعدو، فنقول الاستعمار، والصهيونية والصليبية واليهود والنصارى والمنافقون هم الذين فعلوا وفعلوا وفعلوا، ونسى قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] .
لقد استطاع ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً أن ينتصروا على قوى الأرض كلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة الفاصلة بين التوحيد والشرك معركة بدر، ويستطيع مثل هذا العدد أو أقل منه أو أكثر -بإذن الله تعالى- أن يسجلوا أروع الملاحم للإسلام، في الأقوال والأعمال والدعوة والجهاد، متى أخلصوا لله تعالى، والله تعالى يقول: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] .
وقد كنا نتوقع أن قوة أعداء الإسلام شيءٌ عظيم وكبير، وأن المسلمين بعيدون كل البعد عن مواجهة تلك القوة، وعن الانتصار عليها، أما اليوم فإنني أقول أيضاً: أصبحنا ندرك أن الأمر أهون مما كنا نتصور، وأن تلك القوى الكافرة يصيبها الله بالداء والبلاء من داخلها، ويسلط عليها جراثيم الفساد من ذاتها، وربما لا تحتاج إلى كبير جهد من المسلمين لو أنهم صدقوا الله تعالى ووضعوا أقدامهم في الطريق الصحيح وجدّوا واجتهدوا، ومع ذلك قوة العدو لا يستهان بها.(61/25)
إلقاء المسئولية على الحكام والعلماء
أحياناً نضع المسئولية على الحكام، أو على العلماء والدعاة، أو طبقة معينة من المجتمع، وأنا أقول مسئولية الحكام ليست كمسئولية آحاد الناس، ومسئولية العلماء ليست كمسئولية العامة، ومسئولية الدعاة ليست كمسئولية غيرهم، ولكن ينبغي -مع ذلك- أن نُدرك أن مسئولية الفرد العادي كبيرة، وأنه يستطيع أن يفعل الكثير، سواءً في تعزيز من يريد الإصلاح، فيقف إلى جانب العالم والداعية يؤازره ويشد على يده، ويقويه ويساعده في تحقيق مهمته، أو يقف ضد من يريد الإفساد، ونحن نعلم أن كثيراً من الخُطط تنهار بسبب أن الشعوب لا تقبل بها؛ فتضمحل وتزول، وأن كثيراً من الخطط تنجح بسبب تقبل الناس لها ودعوتهم إليها وقناعتهم بها.
إذاً قبول الناس بشيء أو رفضهم له من أعظم أسباب نجاحه أو فشله، فلا ينبغي أن نلقي باللائمة على جهة معينة أو فرد معين، لاحاكماً ولا عالماً ولا داعية، وإن كنا لا نبرئ هؤلاء أبداً من المسئولية، بل نقول: إن مسئوليتهم أكبر وأعظم من مسئولية أفراد الناس، لكن هذا لا يعني أنهم هم المسئولون فقط، وأن بقية الناس لا شأن لهم، بل هم -كما يُقال- أصفار على الشمال.
كلا وألف كلا! كل واحدٍ منا هو -على الأقل- واحد صحيح، وأنت تعرف لو لم يوجد الناس ماذا يصنع العالم؟ من يُعلِّمُ إذا لم يجد تلاميذ يأخذون عنه؟ والداعية إذا لم يجد المدعوين من يدعو؟ ومن يخاطب؟ وهكذا الحاكم إذا لم توجد الرعية من يحكم؟ ولهذا يذكر في القصص -كما سبق أن ذكرنا- أنه لما أراد العز بن عبد السلام أن يخرج من مصر مغضباً ومغاضباً، لما خرج على حماره المتواضع ومعه زوجته وأثاثه البسيط، خرج شعب مصر كلهم وراءه، فذهب من ذهب إلى السلطان المملوكي، وقال له: لقد انجفل الناس، وخرجوا وراء العز بن عبد السلام.
فدعوه واسترضوه حتى أقنعوه بالبقاء وحققوا له ما يريد.
أنت تجد في كتب الأدب النقد للناس، وبعضهم يقول: ذهب الناس وبقي النسناس، وفي كتاب الإمام الخطابي العزلة، وفي كتاب العقد الفريد وفي غيرها، تجد كلاماً كثيراً في ذم الناس، ونقدهم وعيبهم وشتمهم وسبهم، لكن من هم الناس؟ هذا المؤلف للكتاب أليس هو من الناس؟ هو واحد منهم، فالمبالغة في ذم الناس وعيبهم أمرٌ لا يسوغ، خاصةً وأن الإنسان إذا تكلم فيهم بهذه الطريقة كأنه يُخرج نفسه من بينهم، ولماذا لا تتصور نفسك واحداً منهم؟ أم أن الأمر في حقنا أننا أصبحنا الآن كل همنا أن نتخلص من المسئولية، حتى شاع في المثل أن بعضنا يقول: المشاكل التي نعيشها اليوم، هي من صنع الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل القادم، أما نحن فمجرد متفرجين.
أيضاً هناك بعض الإخوة ينتظرون مفاجآت قدرية، أو مفاجآت يصنعها الآخرون لنا، فالبعض لا يصنع شيئاً، ولا يظن أن تتغير أوضاع المسلمين لماذا؟ قال: لا تتغير هذه الأوضاع إلاَّ أن يأتي الله تعالى بعيسى أو بالمهدي عليهما السلام.
ونحن نؤمن عقيدةً بأن المهدي سوف يخرج في آخر الزمان، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة تزيد على الثلاثين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الأحاديث الواردة في أمر المهدي بلغت مبلغ التواتر، كما ذكر ذلك غير واحد.
كذلك نؤمن بأن عيسى عليه الصلاة والسلام سوف ينزل في آخر الزمان، ويصلي مع المسلمين، ويشاركهم في حروبهم ومعاركهم، وهذا أمرٌ أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، بل جاء به القرآن الكريم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] وقال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159] .
وأخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة، ساق طائفة منها الحافظ ابن كثير في تفسيره، فنحن نؤمن بهذا ونؤمن بذاك، لكننا نؤمن -أيضاً- وندين الله بأن الله تعالى لم يتعبدنا أبداً أن نقعد ونترك العمل والجهاد في انتظار مجيء المهدي أو مجيء عيسى، ولو أن المهدي أو عيسى جاء إلى أمة محطمة مهزومة ما استطاع أن يصنع شيئاً، ولكن إرادة الله تعالى وحكمته أن يأتي المهدي ويأتي عيسى إلى أمةٍ قد تخلصت من العجز، والضعف، والهوان، والجبن، وجاهدت في سبيل الله وحققت بعض الانتصارات، فيقودونها في معركتها إلى مزيد من العز ومزيد من النصر ومزيدٍ من التمكين.
ولو أن قائداً عظيماً ولد اليوم بيننا، أظن أنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً بمثل هذه الرمم الهامدة الجامدة، التي أصبحت عاجزةً عن أن تصنع شيئاً لنفسها أو دينها أو كرامتها أو أعراضها.
والبعض ينتظر أن أمم الكفر تعلنها حرباً ضروساً ضاريةً ضد المسلمين لتستثير مشاعر المسلمين العادية، ونحن نقول: نعم، الحروب التي توجه اليوم ضد الإسلام والمسلمين سوف تُساهم في تعميق الوعي، وتعميق الانتماء لهذا الدين، وجمع كلمة المسلمين على أمر سواء، ولا شك في ذلك، لكن لا أعتقد أنه يجوز أو يسوغ لنا شرعاً أن ننتظر أن يهجم علينا العدو حتى نوحد صفنا، وحتى نقوم بواجبنا، كلاَّ! فإن العدو استطاع أن يبلغ منا مبلغاً عظيماً اليوم؛ لأننا لسنا على مستوى المواجهة، فعلينا أن نتقي الله تعالى، وأن ندرك أنه يكفينا ما نواجهه الآن من التحديات على كافة المستويات، لنقوم بإعداد أنفسنا إعداداً جيداً لمواجهة الواقع.(61/26)
من الحيل:التسويف
الحيلة السادسة: التسويف قال بعض السلف: أنذرتكم سوف.
وقال الله تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:14] وقال سبحانه: {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14] .
ولو أن الإنسان تصور أنه يموت غداً، وأرجو أن تضع في اعتبارك هذه النقطة، تصور أنك ستموت غداً، ستجد أن تفكيرك تغير وقناعتك تغيرت، وأن هناك أعمالاً كثيرة تعملها الآن ستشعر أنه لا وقت لها ولا مجال لها، وأن هناك أعمالاً كثيرة لا تعملها سوف تبادر إلى فعلها.
ومن التسويف أيضاً: الاعتماد على العائق الوحيد، فتجد الإنسان يؤجل العمل، فمثلاً يقول: لن أعمل هذا الشيء حتى أتخرج من المدرسة، فإذا تخرج من المدرسة قال: سأعمله بعد أن أتزوج، فإذا تزوج قال: بعد أن أبني بيتاً، فإذا بنى البيت قال: بعد أن أقيم المؤسسة، فإذا أقام المؤسسة قال: بعد أن يأتيني الأولاد.
وهكذا، والله سبحانه وتعالى نهى عن التسويف، وبيَّن عاقبته، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون:10] وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] .(61/27)
من الحيل: اليأس
الحيلة السابعة: اليأس.
اليأس من إصلاح الناس، أو من تمكين هذا الدين، أو من قبول التوبة بالنسبة لإنسان واقع في ذنب، أو غير ذلك، وهذا اليأس غالباً ما يكون سببه أن الإنسان يتطلب الكمال المطلق، ولا يقدر المكاسب الجزئية، فيقع نتيجةً لذلك في القنوط ويستيئس ويدع العمل، واليأس موتٌ لا عمل معه، وإنما يكون العمل مع الأمل، ولذلك يقول الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل من أسباب اليأس: سوء فهم الأدلة الشرعية، فبعضهم يطبقون الأدلة الشرعية الواردة تطبيقاً غير صحيح، فمثلاً الأدلة الواردة في فساد الزمان، يطبقونها على حالهم، ويستنتجون أن المؤدى أنه لن يتغير هذا الواقع، ولو أنهم نظروا للأدلة الأخرى التي تدل على أن التمكين للإسلام يكون في آخر الزمان، وقد ذكرتها تفصيلاً في درس المستقبل للإسلام بما لا يدعو لإعادتها الآن؛ لأدركوا أنه لا مجال لليأس لا من الناحية الشرعية ولا غير ذلك.
وكذلك قد يفهم النصوص الواردة في ذم بعض المعاصي أنها تسبب له اليأس من قبول التوبة، وينسى النصوص الأخرى الواردة في قبول التوبة، حتى ممن فعل المعاصي والجرائم والموبقات، حتى الشرك بالله تعالى إذا تاب العبد منه تاب الله تعالى عليه.
من أسباب اليأس: سوء فهم الواقع أحياناً، فإن البعض إذا رأى هذا الواقع وتمكين الشرك وأهله والكفر واليهود والنصارى، أصابه من جراء ذلك قنوطٌ، والواقع مليء بالمبشرات التي تدل أيضاً على أن نصر الله تعالى قريبٌ كما وعد الله تعالى، قال الشاعر: أشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلجِ قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] فينبغي أن ندرك أن وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر والتمكين حاصلٌ لا محالة، وأن المبشرات بحمد الله تعالى كثيرة لمن تأمل الواقع العالمي اليوم.
واليأس داءٌ قاتل بلا شك؛ قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] .(61/28)
من الحيل: التهويل والتهوين
الحيلة الثامنة: هي تعظيم الأمر أو تهوينه.
بمعنى أن الإنسان -أحياناً- يبالغ في تضخيم المشكلة حتى كأنه لا حل لها، وبناءً عليه لا داعي أن نعمل لأن هذه المشكلة فوق الحل، أو يبالغ في تهوينها حتى كأنها لا تحتاج إلى حل ولا إلى علاج لأنها هينةٌ سهلة، وهذا نتيجة لعدم استقرار الجانب النفسي عند الإنسان، وعدم توازنه أو اعتداله في الحكم على الأشياء.
فمثلاً: إنسان يتشاءم من الواقع تشاؤماً كبيراً، ويركز دائماً على الجانب السلبي، ويبالغ دائماً وأبداً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم-: {من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم} أي: أن الإنسان الذي لا ينظر إلاَّ إلى الجانب السلبي المظلم المعتم في حياة الناس يتشاءم من الواقع، وبناءً عليه يرى أنه لا يستطع أن يعمل شيئاً، ولا أن يصلح.
أو على النقيض من ذلك؛ يبالغ في تزكية الواقع، وأن الأمر كله خير، والناس مقبلون على خير، والحمد لله لا يوجد منكرات، فهو لا يريد أن يعمل، فإما أن يكون الواقع أسود بحيث لا أستطيع أن أصلحه، وإما أن يكون الواقع مشرفاً بحيث لا يحتاج مني إلى جهد، والمقصود أنني أتهرب من الإصلاح.
أحياناً يتصور الإنسان أنه ليس أمامه أي عقبة، ولهذا يتحرك ببساطة وعفوية، ولا يقدر حجم مؤامرات الأعداء، وهذا لاشك نقص وتسهيل وتهوين للأمر.
أو يضخم هذه العقبات ويبالغ فيها، حتى يتصور أنه لا يستطيع أن يقتحمها ولا أن يتجاوزها، ولا أن يعمل في ظل وجودها.
فهناك عقبات كبرى وحواجز ضخمة، حواجز رسمية، وحواجز اجتماعية، ونفسية، وتجارية، المال لا يتوفر مثلاً، والرخصة لا تتوفر، والمجتمع لا يتقبل هذا الشيء، إلى غير ذلك من الأمور التي يتوهمها الإنسان قبل أن يعمل، ولو أنه بدأ العمل لتبخرت هذه الحواجز واحداً بعد الآخر، أنت تقول لإنسان أحياناً: يا أخي! قل كلمة الحق.
يقول لك: الله المستعان! نحن لا نملك إلا الكلام، الكلام لا يغير من واقع الأمر شيئاً، ولا ينفع، لماذا يكون الكلام بيدي والمدفع بيد عدوي؟ وبذلك يهون من شأن الكلمة، وهذا خطأ، فربما تناقشه وتتحدث معه؛ وبعد قليل يتحول هذا الإنسان حتى تصبح الكلمة عنده هي كل شئ، ويصبح لا يملك شيئاً آخر غير الكلمة، فهو ينتقل من طرف إلى طرف ومن نقيض إلى نقيض.
وبعض الناس يقول: العمل الذي يتم فيه التغيير لا أملكه أنا، أما ما أملكه فهو لا يفيد شيئاً، إذاً هذا العمل يساوي أنني سوف أقعد وأستيئس وأدع العمل.
وهذا يشبه ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى، فإن ابن عبد ياليل لما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف ودعاه إلى الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لي أن أكلمك، إن كنت رسول الله حقاً فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت تكذب على الله تعالى فلا ينبغي أن أكلم من يكذب على الله تعالى.
ابن عبد ياليل مريض، بل قلبه ميت لأنه كافر، ولا يريد أن يسمع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع لنفسه معادلة، أنك أحد رجلين: إما أن تكون رسولاً حقاً فأنت حينئذٍ أعظم من أن أخاطبك، وإما أن تكون تكذب على الله فلا ينبغي لي أن أكلمك.
إذاً هو أنجى نفسه من مهمة سماع الدعوة وسماع الخير، وما نفعه ذلك فهو في نار جهنم يتجلجل فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، وما نفعه هذا العذر الواهي الكاذب الذي يخادع به نفسه.
وينبغي للمؤمن ألا ينجر إلى مثل ذلك، فليس هناك مشكلة إلاَّ ولها حلٌ بإذن الله تعالى، لكن علينا أن نبحث عن المفاتيح ونتدرج ونعمل الأسباب ونبذل المستطاع، ونستعين بالله تعالى، والله تعالى يقول: {لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128](61/29)
الأسئلة(61/30)
أخبار عن المرأة في الصحافة
هاهنا مجموعة من الأوراق في الواقع مُؤسفة ومؤذية وصلتني حول أوضاع المرأة في بلادنا، أحدها: ورقة نشرت في جريدة عكاظ في 20/53 عنوانها أدب المرأة أو أنوثة الذاكرة.
وهذه المقالة تتكلم عن ازدراء المرأة، وأن النظرة التي يرى البعض من خلالها أدب المرأة نظرة تنقص وازدراء، ويقول: إن المتابع والقارئ لنتاج المرأة سوف يلحظ أن أدب العاطفة هو الأدب المهيمن على جُل ما تكتبه، وفي سياق ما تكتسبه المرأة في بلادنا، كان اسماً يمكن اعتباره اسماً أدبياً رفيعاً على مستوى الإبداع، وربما كان على أصابع اليد أو أقل؛ إنه كلام العطف والأكثر عطفاً على أدب العاطفة، إنه الانحياز لقلم الزوج، لا الانحياز لقلم الذي يكتب، إنه الإنحياز للسطح، لا الانحياز للعمق، لا أقوال المغلفة، لا الكلام والدلالة والرمز، إنه انحياز لا يرتقي إلى الإبداع، ولكنه يحاول الانهيار بما ينتمي إلى هذا الإبداع، وما يشبه حجاب المعرفة الحقيقية والنقد الصادق على أدب هو نفسه حجاب على العقل وعلى الوجدان، إنها أنوثة الذاكرة، هذا هو أدب المرأة في بلادنا.
إذاً هناك محاولة لإخراج المرأة.
على نطاقٍ آخر، مجلة الوسط التي اُفتتح لها مركز في جدة نشرت في العدد 35 مقالاً عنوانه: المرأة السعودية تدخل عالم الرياضة "البولينج" وقالت: في خطوة هي الأولى من نوعها بالنسبة إلى المرأة والطفل السعوديين، جرى أخيراً افتتاح قسم خاص لرياضة البولينج، في مركز بولينج جدة، حيث بدأ المركز بإقامة دورات نسائية خاصة تشترك فيها السيدات، وهو ينوي إقامة دورات خاصة للأطفال، ورصدت جوائز قيمة، وقد تولت الشركات الأجنبية العاملة في مدينة جدة إقامة دوري خاص بزوجات العاملين في هذه الشركة وأطفالهم كخطوة أولى، وتؤكد الشركة على إدارة المركز خلال الفترة التي خصصت للنشاطات النسائية، إلى آخر ما في هذا المقال.
ولا شك أن هذه خطوة يعني إعلانها أمراً خطيراً، وإلا فقد رأيت بعيني مجموعة من النوادي موجودة في جدة وفي الرياض وفي غيرها مخصصة للنساء.
وعلى صعيدٍ آخر نشرت جريدة عرب نيوز وهي جريدة سعودية، هذا الإعلان في عددها (306) يوم الاثنين الماضي الموافق 2/4: مطلوب ناطقة باللغة العربية، مُساعدة مشرف مدير، مطلوبة لمرقص فخم (قاعة باليه) مخصصة للرقص، بالإنجليزي بالي روم، أي قاعة باليه مخصصة للرقص، والباليه نوع من الرقص معروف، وفيه نوع من اللباس الضيق الذي يلتصق بالجسم، ويصف الأعضاء بدقة، وهذا المرقص موجود في جدة، والمتقدمة يجب أن تكون ذات شخصية مرحة وذكية، ولديها القدرة على إدارة الموظفين، ومتمكنة في حقل العلاقات العامة، وفرصة التدريب متاحة للشخص المناسب، وهناك شروط وظيفية الرجاء الاتصال بالهاتف، وجميع المكالمات ستعامل بكامل الثقة.
فمن المؤسف جداً أن تُعلن مثل هذه الأشياء.
أيها الإخوة: إنها ليست أسراراً نبوح بها، إنما هي أمورٌ علنية تنشر في الصحف ويبث لها دعاية، وهذا أيضاً في جريدة الرياض في عدد الجمعة الماضي: وظائف شاغرة للسعوديات فقط، شركة وطنية تعلن عن حاجتها للوظائف التالية: أولاً مدرسة علوم.
ثانياً: سكرتيرة، يشترط توفر دبلوم سكرتارية، خبرة ثلاث سنوات، لغة إنجليزية كتابة وتحدث، خبرة في مجال الحاسب الآلي.
ثالثاً: مُساعدة مديرة مؤهل ثانوي، سبق أن عملت في مدارس ثانوية أو مراكز تدريب، الراتب مغري وهناك امتيازات أخرى، فمن تجد في نفسها الكفاءة فعليها تقديم الطلبات التالية، هذه شركة المناهل في شارع العليا ?الرياض.
أخيراً هذه مجلة عالم الرياضة، في مقال مؤذٍ عنوانه أنثى لو سمحتم.
نشرته بنت البلد، وإن كانت بنت البلد، فهي بنت البلد في لغتها ولسانها، ولكنها ممسوخة الظاهر والباطن بالتأكيد، لأن هذا المقال مقال رديء جداً، ولو قرأته لكم لخرجتم بصورة غير التي دخلتم بها، ولكني أترك كثيراً مما قالت، كل المقال دعوة للفتاة إلى المشاركة في الرياضة، وسخرية بالذين يرون أن المرأة ينبغي ألا تشارك في المجالات الرياضية، وتقول: فرحت عندما شاهدت أنثى تكتب عن الرياضة، قلت: إنها قوية وقادمة من المطبخ بقوة، إلا أنها انتكست وأصابها الصمت، فمنار الرياض النصراوية الزرقاء غابت من وراء غياب أنثى النصر، تعلق وتقول: أكاد أجزم أنها "انتحرت" بفعل قلم رجالي، أصابها في الدماغ.
أنا يؤذيني أخلاقياً أن أشرح لكم كلامها، لكني سأعيده وأعطيك فرصة تفكر فيه، ماذا تقصد بلفظ "انتحرت" بفعل قلم رجالي أصابها في الدماغ؟ ماذا يعني الانتحار؟ المنتحر دائماً تنزف منه الدماء.
علقت على مجموعة من القضايا تقول: عقدة البنت داهمت أكثر من صحفي حال نزول مقاله الثاني، سألوا رئيس التحرير هل بالفعل أنا بنت البلد؟ وأنكروا أن أكون أنثى، وانقسموا نصفين، بعضهم يقول: أنثى وبعضهم يقول ذكر.
وعلقت أيضاً تقول: عنادٌُ أنثوي.
يقولون: إن الأديبات نوع غريب من العشب ترفضه البادية وأن التي تكتب الشِّعر ليست سوى غانية وأضحك عن كل ما قيل عني.
وأرفض أفكار عصر التنك.
ومنطق عصر التنك وأبقى أغنى على قمةٍ عالية وأعرف أن الرعود ستمضي وأن الزوابع تمضي وأن الخفافيش تمضي وأعرف أنهمُ زائلون وأني أنا الباقية! لكي لا تعتقدوا أني أنا الفانية.
هذا مقطع من شعر أنثى اسمها: سعاد الصباح.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(61/31)
خبر من الصومال
هذا خبر جاءنا من الصومال، من مُدير مكتب الهيئة في الصومال وجيبوتي يقول: لقد تابعنا بقلق ما يمكن وصفه بتغلغل إعلامي إسرائيلي وصهيوني، والسيطرة على وسائل الإعلام في الصومال من قبل جهات معادية للأمة العربية والإسلامية، وإليك بعض الشواهد: أولاً: تقوم بعض الجرائد المحلية في الصومال بحملة مكثفة ومتعمدة للإساءة إلى الدول العربية والإسلامية، واتهامها بإهمال الصومال، والذي تربطه مع المسلمين أواصر العقيدة والأخوة، في مقال نشرته جريدة الاتحاد في مقديشو، نقلاً عن جريدة إسرائيلية اسمها شمعون جازيت تقول: إن الشعوب العربية تُهمل وتبغض الشعب الصومالي وتحتقره، وإلا ما تركته على هذا الوضع المحزن والمأساوي، فأين الأخوة الإسلامية التي يدَّعيها ويتشدق بها هؤلاء العرب؟ ثانياً: لقد نادى الغرب بضرورة الوقوف بجانب الصومال، وإرسال آلاف الأطنان من الأغذية والأدوية، مما سوف يزيد من صحة ما يقال عن إهمال المسلمين لإخوانهم الصوماليين.
ثالثاً: إن هذا الإعلام المعادي للإسلام يهدف إلى خلق جوٍ من البغض والشحناء والكراهية عند الشعب الصومالي لكل ما هو عربي أو إسلامي، وربط هذه الكراهية بالدين الإسلامي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويبدو أن هناك مخططاً لعزل الصومال عن العالم العربي والإسلامي.
أقول -أيها الإخوة- تعليقاً على ذلك: إن ما يقوله الأخ عبد الرحمن القائدي عن هذا هو بعض الحقيقة، وأما الحقيقة كاملةً فإن الصومال يُستهدف الآن بحملة تنصيرية لتحويلها من دولة إسلامية إلى دولة نصرانية، والإغاثة جزء من ذلك، ونقل أطفال المسلمين واستقبالهم في بلاد الغرب جزءٌ آخر من ذلك، بل إنه يؤسفني أن أقول: إن بعض إعانات المسلمين التي جمعت في هذا البلد قد دفعت إلى الأمم المتحدة، وإلى وكالة غوث اللاجئين، ويقوم بتوزيع تلك الإعانات -أحياناً- أُناس من النصارى، ومن جمعيات إنجيلية نصرانية معروفة، وهذا أمرٌ محزن، فحتى إعانات المسلمين لا تصل إليهم على أنها إعانات المسلمين، بل تصل إليهم أحياناً كثيرة على أنها من الأمم المتحدة.(61/32)
أخبار مشجعة تبعث الأمل
وحتى لا نعيش في ظلمات اليأس، فإني أذكر لكم هذه المجموعة السريعة من الأخبار المشجعة: في مدينة برتشكو حطم اللواء المسلم رقم 108 كتيبة كاملة من الصرب في قرية بوكفيك بعد أن هاجمت المليشيات الصربية هذه المدينة وضواحيها، هذا ما صرح به قائد اللواء البطل واسمه فريد، واستعانت القوات الصربية بالطائرات التي ألقت قنابل الدمار التي راح ضحيتها حوالي مائتين وخمسين شخصاً بين جريح وقتيل، وما زال العدو مستمراً بالهجوم في محاولة فاشلة منه، لفتح الطريق إلى صربيا.
ومن ناحيةٍ أخرى قامت القوات المسلحة البوسنية بهجوم قوي واسع النطاق على قرية بوكفيك معقل القوات المعادية، وتمكنوا من تحرير القرية وتدمير كتيبة كاملة مجموع أفرادها من الصرب حوالي خمسمائة جندي، فذهبوا بين قتيل وجريح، وتم أسر باقي أفراد الكتيبة، واستولت القوات المسلمة على كمية كبيرة من الأسلحة ومدافع الهاون، ومضادات الطائرات، بفضل الله تعالى.
وفي بيهاتش أيضاً انهزم العدو هزيمة ساحقة، حيث تصدت القوات البوسنية لجميع محاولاته التي استهدفت اقتحام خط الدفاع، وفي هجوم مضاد استطاعت القوات البوسنية حماية القرية، وتقدمت حوالي اثنين كيلومتر، ومن ناحية أخرى تخوض القوات البوسنية معارك ضارية بالموشات والمدفعية مع المليشيات الصربية التي تكبدت خسائر مادية كبيرة، قتل أكثر من مائة جندي صربي، وتم الاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة، وعلى إثر هذه الهزيمة قامت الطائرات الصربية بقصف مواقع القوات البوسنية والأحياء المدنية، وأسفر القصف عن قتل خمسة مقاتلين وجرح خمس وستين آخرين.
وهناك مجموعة أخبار أخرى مشجعة، إلا أن الوضع في العاصمة سراييفو وضعٌ صعب، حيث تواجه حملةً شديدة في الأيام الأخيرة، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين.(61/33)
أخبار عن البوسنة والهرسك
هاهنا مجموعة من الأخبار المتعلقة بإخواننا في البوسنة والهرسك، ولا شك أن الكثيرين يتطلعون إلى معرفة ذلك: أولاً: هذا تقرير مرعب عن مسألة اغتصاب الفتيات المسلمات هناك، وقد كتبت صحيفة نيوز بي في عددها الصادر في 23 أغسطس، الموافق 24 صفر تقريباً من هذا العام، كتبت تقريراً عن خطة مرعبة ومحزنة لاغتصاب الفتيات المسلمات في البوسنة، وهذه ترجمة لبعض محتويات هذا التقرير: فتاة عمرها 23 سنة هي واحدة من عشرين فتاة تم اغتصابهن واستجوبتهن الصحيفة تقول: إن الشاب الذي اغتصبها قال: لدينا أوامر بأن نغتصب الفتيات، وقال إنه يخجل أن يكون صربياً، وأضاف إن كل ما يجري هو جرائم حرب.
فتاة أخرى اسمها حافظة عمرها 23 سنة تقول: حاولت كف الجندي الذي اغتصبها، وكانت تبكي له وترجوه وتتوسل إليه، وقالت له: إن لك أماً ولك أختاً وأنثى في أسرتك، ولكنه لزم الصمت ولم يشأ أن ينطق، ثم قال لها: يجب عليَّ أن أفعل، ولكنها لم تستطع منعه، هذا الحادث شمل أربعين فتاة من بريزوفو وهي مدينة صغيرة على نهر سافا اقتحمها الصرب، وقبضوا على جميع المدنيين وأرسلوهم إلى الموت بعد أن قسموهم وفقاً للسن والجنس.
سينادا عمرها 17 سنة، تريد أن يعرف العالم حقيقة ما يجري لكل الأمهات ولكل النساء، وقد كتبت تصريحاً بخط يدها وسلمته لرئيس أطباء النساء، ورجت أن يسلمه وقالت: لا أريد أن يتعرض لهذه المحنة أحد، فهي أسوأ عقوبة في العالم.
إن حادث هذه المدينة، ليس إلاَّ واحداً من عدد من المؤشرات، التي تثبت حملة اغتصاب منظمة، ارتكبت أثناء غزو الصرب للمسلمين في البوسنة، ففي مقابلات منفصلة قالت أربع من النساء الشابات من قرية "لبلجي" القريبة من "زفونيك: إن أسراهم من الصرب اعتقلوهن في وكر دعارة، حيث تناوب ثلاثة رجال أو أكثر على اغتصابهن كل ليلة لمدة عشر ليالٍ.
وتقول جمعية للنساء البوسنيات: إن أكثر من عشرة آلاف فتاة بوسنية، هن رهن الاعتقال في معسكرات الصرب، يتكرر اغتصابهن على أيدي جنود الصرب.
وهناك أسلوب آخر وهو: اغتصاب النساء الحوامل ومتوسطات العمر، تقول الدكتورة مالكة رئيسة فريق طبيبات النساء: إنهن فحصن 25 من 40 ضحية في "بريزوفو، وأنها على قناعةٍ هي وزميلاتها بأن الهدف من الاغتصاب هو إذلال المرأة المسلمة، والإساءة إليها، وتحطيم شخصيتها، والتسبب في إحداث صدمةٍ لها، وتضيف قائلةً: إن هؤلاء النسوة تم اغتصابهن ليس استجابة لغريزة انجذاب الذكر نحو المرأة، ولكن الهدف الحرب، وقالت: أعتقد أن هناك أوامر للجنود بهذه الاعتداءات ضد الفتيات، وضربت لذلك مثلاً بأن بعض الفتيات أخذن إلى أحد المنازل ولم يعتد عليهن أحد، وإنما أمرن أن يقلن للآخرين بأنهن اغتصبن.
لقد بدأت حملة الاغتصاب الجماعي كما تقول الضحايا في يوم 17 يونيو الماضي، حيث تجمع الجنود الصرب وهم يرتدون ملابس الجيش وطوقوا المسلمين للقيام بما يسمونه التطهير، فحملوا الرجال بين 16 وستين سنة في باصات وأرسلوا بهم إلى التحقيق في معسكر لوجا للاعتقال، حيث تم ذبح (90%) منهم حسب ما أفاد أحد الناجين لمحرر هذه الصحيفة، ثم حملوا قرابة ألف امرأة وطفل وعجوز في ثمان باصات، وطافوا بهم في الأرياف لمدة يومين، وكانوا يهددون النساء بالسلاح لمدة أربعة أيام بلا طعام ولا ماء، وكان الجنود الصرب الناجون العائدون من المعارك يهاجمون الباصات كل ليلة، ويصطحبون الفتيات والنساء إلى مواقع مجهولة، وهم يهددونهن بالخناجر، وفي صباح اليوم التالي يقذفون بهن، وقد تمزقت ثيابهن، وغطاهن الدم.
وأخيراً وصلت مجموعة إلى مدينة كابار، حيث قام خمسون من الصرب المجندين أتباع أحد مجرمي الحرب هناك فسرقوا ما لدى الأمهات وفصلوهن عن البنات بالقوة، وحملت الأمهات بالباصات وألقين في منطقة حربية، بينما أودعت الفتيات في مخزن للأثاث، وهناك قام الرجال وأكثرهم قد أعفوا لحاهم على طريقة الفرقة الصربية الإرهابية في الحرب العالمية الثانية المعروفة باسم: ستليك، فاختاروا بعض الفتيات، واعتدوا عليهن في مجموعات تتألف كل منها من عشر فتيات، تقول خيرية وعمرها 21 سنة: إنها سألت المغتصب: لماذا تفعلون ذلك؟ فقال: لأنكن فتيات مسلمات وغير ذلك.
وعندما وصلت الأمهات إلى تولزا، وقد روعهن فقد بناتهن، وأعيتهن الرحلة المضنية التي شملت رحلة على الأقدام بطول اثنى عشر ميلاً، وسط منطقة حربية على طريق تحفه جثث الموتى، ثم وصلت البنات بعد ذلك بأربعة أيام، بعد أن اضطررن للسير وسط طريق مزروع بالألغام، وسقط ضحيته عدد من كبار السن، وكانت الفتيات في حالة إعياء شديد، وصدمة كما يذكر الأطباء.
ومعظمهن -على حد قول بعض الأطباء اللواتي قمن بفحصهن- يعانين من إصابات معدية في أعضائهن التناسلية، وذلك من جراء تعرضهن للاغتصاب المتواصل، وجميع النساء التي قامت هذه الصحيفة باستجوابهن وعددهن عشرين، أفدنَ أن مغتصبيهن من الصرب كانوا يغتصبونهن بطريقة بشعة.
إن صحة أولئك الفتيات لا تشكل إلا جزءاً من مأساة كل واحدة منهن، لأن كل فتاة منهن قد فقدت أباها وأخاها، وبعضهن ليس لها مكان تأوي إليه، والاغتصاب زعزع الثقة بالنفس، وكانت كل واحدةٍ منهن تجهش بالبكاء وهي تتحدث إلى محرر هذه الصحيفة.
وتقول إحدى الدكتورات: إن مأساة هؤلاء لم تنته، لأن كثيراً منهن يُحتمل أنها حامل، وسيتقدم لهن المستشفى بعقاقير لإحداث الإجهاض، إلاَّ أن أعظم الضرر يتمثل في الإحساس بالعار، فهؤلاء الفتيات من الأرياف التي تحظر فيها العلاقات الجنسية، وكانت الفتيات جميعاً عذارى أبكاراً، ومن ثم يعتقد معظمهن أن حياتها قد دمرت، تقول ميرة: وعمرها 25 سنة: إننا نشعر جميعاً أننا فقدنا بالاغتصاب كل شئ.
وهذه صادقة عمرها 20 سنة تقول: إنها احتقرت الرجل الذي اغتصبها لأنه لم يشعر بما تحس به، إنها وحشية وهمجية، فقد أحست بالعار لأنها فتاة شريفة عذراء، وتقول ميرة: وعمرها 17 سنة: إن مغتصبها هددها بقنبلة يدوية، وضعها في يده وقال: إن جميع الصرب طيبون، وإنه هو صربيٌ طيب، قال لها: إذا لم توافقي فسوف يقتلنا بالقنبلة، وقد اغتصبها، ولم يعتذر بل قال: إنه يجب عليه أن يفعل ذلك، وأضاف بأن هذا خيرٌ لها من أن يعتدي عليها أتباع مجرم الحرب سيسلي، حيث يقوم عشرة رجال باغتصاب امرأة واحدة.
كما أن مجموعة كبيرة من الحوامل اللواتي اغتصبن أحسسن بالضياع وطلبنَ أن يتم الإجهاض، تقول الدكتورة إكريت مارت: إن إحدى الممرضات من مدينة بريزوفو فقدت أمها وأباها وزوجها وطفلها البالغ من العمر أربع سنوات أمام عينيها، وقالت إن الجنود الصرب، قرروا عدم قتلها، بل أحضروها إلى مستشفاهم العسكري، حيث خدمتهم يومياً بالنهار، وبالليل جرى اغتصابها؛ لقد أصبحت مريضةً يائسة، وقالت: إنها حامل من شهرين، ولكن ذلك لم يمنع هؤلاء من الاعتداء عليها.
وبالنسبة لشابات مدينة بريزوفو، فإنه يتناوبهن شعورٌ بالعار والغضب، وتعتبر حملة الاغتصاب هذه أول حملة من نوعها في تاريخ البوسنة، وتتمنى ضحايا الاغتصاب أن يغادرن البوسنة إلى أي مكان آخر، وحين يغادرنها فإنهن لا يردن العودة إليها مرةً أخرى.
يا راكبين عتاق الخيل ضامرةً كأنها في مجال السبق عقبانُ وحاملين سيوف الهند مرهفةً كأنها في ظلام النقع نيرانُ وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عزٌ وسلطانُ أعندكم نبأٌ من أهل بوسنة فقد جرى بحديث القومِ ركبانُ كم يستغيثُ بنا المستضعفون وهم أسرى وجرحى فما يهتزُ إنسانُ ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ وأنتمُ يا عباد اللهِ إخوانُ ألا نفوسٌ أبياتٌ لها هممٌ أما على الخير أنصارٌ وأعوانُ يا من لذلة قومٍ بعد عِزتهمُ أحال حالهمُ كفرٌ وطُغيانُ بالأمسِ كانوا ملوكاً في منازلهم اليوم هم في بلاد الكفر عبدانُ فلو تراهم حيارى لا دليل لهم ليهمُ من ثياب الذُلِّ ألوانُ ولو رأيت بكاهم في قيودِهمُ هالك الأمر واستهوتك أحزانُ يا رب أمٍ وطفلٍ حيل بينهما ما تفرق أرواحٌ وأبدانُ وَطَفْلَةٍ ما رأتها الشمس إذ برزت أنما هي ياقوتٌ ومرجانُ يقودها العِلج للمكروه باكيةً العين دامعةٌ والقلبُ حيرانُ لمثل هذا يذوبُ القلب من كمدٍ إن كان في القلبِِ إسلامٌ وإيمانُ هل للجهاد بها من طالبٍ فلقد تزخرفت جنة المأوى لها شانُ وأشرف الحور والولدان من غُرفٍ فازت لعمري بهذا الخيرِ شجعانُ(61/34)
الوثائق المزورة
السؤال
أحببت إخباركم أنه سوف يصل عبر الفاكس بعض المعلومات والوثائق المزورة، آمل الانتباه لها؟
الجواب
وأنا أشكر هذا الأخ على هذه النصيحة، ولكنني أتعجب لماذا لم يكتب الأخ اسمه؟! حتى أستطيع أن أتثبت من صحة هذا الكلام الذي قاله، ربما كان الأخ محتسباً، يظن أن كل ورقةٍ تأتيني أنني أعتبرها وأعدها وثيقةً مهمة وأقدمها للناس، والواقع أن الأمر بخلاف ذلك، وأن هناك وثائق كثيرة تأتيني -لا أقول: إنها مزورة- ولكن لا أملك دليلاً على صدقها فأتوقف فيها، وهناك وثائق أخرى منذ فترة تصل، ويشك الإنسان فيها ويبحث ويتحرى، فيجد -بحمد الله- أنها غير صحيحة، فينبغي للأخ ولغيره ألا يظن أننا ممن يقبل كل ما جاء من الغث والسمين بل نحن نُميز، وقد يأتينا -أحياناً- وثيقة مترجمة، فلا نعتمد على الترجمة حتى نبعثها إلى من نثق به نحن ليترجمها، إذا تأكد من صحتها وصدقها وصوابها، وأحياناً تأتي وثيقة منسوبة إلى جهة معينة مع أن الوثيقة صحيحة، لكننا لم نتأكد أنها منسوبة إلى تلك الجهة، فلا نتسرع في ذلك كله.
وبناءً عليه أقول لكم: لقد سبق أن ذكرت لكم وثائق كثيرة مما يتعلق بالتنصير وغيره، فليطمئن الإخوة إلى أنني لم أذكر أي وثيقة إلاَّ وأنا على أتم الاستعداد لتثبيتها، والتحقق منها بصورة قاطعة، ليس عليَّ فيها أدنى تقصيرٍ أو مسئولية، ولو أردتم أن أذكر لكم كل الوثائق التي جاءتني لكان الأمر أهول وأعظم مما تتصورون.(61/35)
صناعة الموت
إن الموت والحياة متلازمان، فإذا وجد أحدهما وجد الآخر، ومن المعلوم أن لكل منهما عشاقاً وطلاباً، فللحياة عشاقها الذين يخلدون إليها وإلى زخرفها، وكذلك للموت عشاق يطلبونه بل ويسعون إليه بكل ما يستطيعون، فالكافر يخاف الموت ويرهبه، والمؤمن يحب الموت في سبيل الله تعالى، فعشاق الموت هم المؤمنون الصادقون الموقنون بما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين في الجنة، لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن صناعة الموت وأن هناك رجالاً يصنعون الموت بأيديهم صنعهم الإسلام، ثم ذكر لماذا العداوة ضد الإسلام والمسلمين؟ ثم تكلم عن كتاب يسمى (يوم الله) وذكر طرفاً من معركة هرمجدون مع اليهود، وأنه لا سبيل إلى الصلح معهم، ثم ذكر نماذج من صناع الموت، وختم الدرس برسائل إلى صناع الموت.(62/1)
الموت والحياة صنوان متلازمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
رقم هذا الدرس حسب عهدة الإخوة الحاضرين "95" من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تنعقد في هذا المسجد، جامع الذياب ببريدة، وهو ينعقد في هذه الليلة، ليلة الثامن والعشرين من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر من الهجرة، وفي ليلة الإثنين كما هو المعتاد، عنوان هذا الدرس: صناعة الموت.
واعجباً لك يا سلمان! لقد حدثتنا قبل عن صناعة الحياة، وفقهنا وفهمنا أن صناعة الحياة تعني أن يشارك الإنسان في كل مجالٍ من مجالاتها، بصناعتها وإقامتها على شريعة الله جل وعلا، فما بال صناعة الموت إذاً؟! لقد حدثتنا قبل أسبوعٍ أيضاً، عن عشاق الحياة، عشاق زينتها وبهرجها وجمالها الزاخر المليء الأخاذ، أفترى للموت عشاقاً أيضاً يجب أن يتحدث عنهم؟! أيها الإخوة الأحبة الكرام! وأيها الأخوات الكريماتُ الحبيبات إلى آبائهن وأمهاتهن وأزواجهن، الكافات العافات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإن الموت والحياة أخوان صنوان نظيران متشابهان قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] ولا يتقن صناعة أحدهما إلا من يتقن صناعة الآخر، فالذي يصنع الحياة الكريمة هو الذي يختار الميتة الشريفة، وما أذل الناس وخفض رقابهم إلا حب الحياة والرغبة فيها دون قيدٍ أو شرط، قال الله تعالى عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] حياة هكذا!! أياً كانت، حتى ولو كانت حياة الذل، والفقر، والهوان، والضعف، والخمول!! المهم عندهم أن يظلوا أحياءً {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] والتنكير هاهنا في كلمة "حياة" هو للتحقير.
ومن الطرائف التي تساق في هذا المجال: أنني سمعتُ زعيماً لمنظمةٍ يعدونها منظمة للتحرير، تحرير الأرض، وتحرير الإنسان، سمعته يقول في إذاعة كبرى، في يوم من الأيام، وهو يمدح المؤمنين والمجاهدين، والصابرين، وأنهم يحبون الموت كما تحبون الحياة، فيقول: قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] يظن أن هذه الآية مدح، ولم يدرِ أنها ذم، ويظنها في المؤمنين، وما درى أنها في بني إسرائيل اليهود!!(62/2)
الموت في نظر المسلم له معنى آخر
أما حين تنظر إلى المسلمين، فإنك تجد فيهم عرفاً متوارثاً منذ عصر الرسالة، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو إن المسلم يعلم أن الحياة ليست هي كل شيء؛ حتى ذلك المسلم العادي، غير المتعلم، ولا الداعية، ولا المجاهد، هو يعرف أن ثمة حياة آخرة يؤمن بها، ويعتقد أنه سينتقل إليها، ويؤمل في ربٍ رحيم، ولهذا فالموت عنده له معنىً آخر، مختلف عن الموت في نظر الكفار الذين يرون الموت فناءً محققاً، وعدماً محضاً، ونهايةً لا حياة بعدها ولا وجود.
أما المسلم المجاهد الباحث عن الموت، فهو لونٌ آخر، يرى أن الموت هو الحياة، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] .
لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا وإن نصب المنايا حولنا أسوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدر الأقدارا ورءوسنا يا رب فوق أكُفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا كم زلزل الصخر الأشم وما وهى من بأسنا عزمٌ ولا إيمانُ لو أن آساد العرين تفزعت لم يلقَ غير ثباتنا الميدانُ توحيدك الأعلى جعلنا نقشه نوراً تضيء بصبحه الأزمانُ إنك تتعجب أشد العجب من أعدادٍ من المسلمين الموجودين اليوم، على سبيل المثال في الصومال جياع، عراة، عطاش، فقراء، محرومون من أبسط معاني الحياة الكريمة السعيدة، فيقومون في الشوارع، يرفعون الأوراق واللافتات، ويتجمهرون، ويقولون للغربي الكافر القادم إلى بلادهم: ارحلوا عن بلادنا، لا نريدكم، فيمطرونهم بالنيران والرصاص، ويسقطون منهم أكثر من عشرين قتيلاً في تجمهرٍ واحد، دون أن يكون المسلمون يحملون ولا حتى العصي أو العيدان، ثم تظن أن ذلك سوف يجعلهم يأوون إلى بيوتهم، ويختفون في أماكنهم ومعاقلهم وغرفهم، فإذا بهم يكررون العملية كل يوم، ويتزايد عددهم، ويرتفع صوتهم، وإذا بوسائل الإعلام العالمية تنقل هذه الرسالة إلى العالم الغربي، الذي ما زال يصم أذنيه عن صراخ المسلمين وصياحهم، وندائهم، واحتجاجهم!! إن العالم اليوم بهذه الطرق يضطر المسلمين اضطراراً إلى البحث عن الشيء الذي كان يجب أن يختاروه اختيارياً، إنه يضطرهم إلى صناعة الموت، ويجعل منهم مقاتلين أشداء أشاوس.
نعم! هذا الدين أثبت خلوده وتاريخيته وبقاءه، غزته أممٌ كثيرة، فذهبت وبقي الإسلام، فقد جاء التتار بجيوشهم المتوحشة، وسمع صوت صياحهم من آفاقٍ بعيدة، فإذا بهم يجتاحون بلاد الإسلام، وإذا بالأنهار تجري أحياناً حمراء من دماء المسلمين، وأحياناً أخرى زرقاء من كتبهم التي أغرقوها في الأنهار، ثم ينتصر الإسلام، ويتحول التتار إلى مسلمين، وإذا بك اليوم تسمع جمهوريةً من بقايا الاتحاد السوفيتي، يسمونها تتارستان، وقد قرأت مقابلةً مع بعض شخصياتها، فإذا بهم يعلنون أنهم لا يعتزون إلا بالإسلام، هذه تتارستان هي منطلق التتار الذين وطئوا بغداد وبلاد الإسلام والشام، وفعلوا الأفاعيل وسفكوا دماء المسلمين، هاهي اليوم لا تفتخر إلا بالإسلام، ولا تعتز إلا به.
بغت أممُ التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأمانِ إنه الدين الخالد، الذي يملك عناصر البقاء، فإذا قاومه قوم انهزموا، وبقي الإسلام.(62/3)
خوف الكافر من الموت
الكافر يخاف الموت ويرهبه، ولهذا يفشل الكافر في صناعة الحياة الحقيقية، ترى اليوم اليهود، كيف يذعرون لما يحدث لعددٍ بسيطٍ من جنودهم وأفرادهم على أيدي شباب المسلمين ربما كانوا صغاراً دون الخامسة عشرة، فيجن جنونهم، ويمطروا بلاد الإسلام بوابل النيران أياماً متتالية، خوفاً على حفنةٍ قليلة من جنودهم، لأن قتل واحد يرهب منهم ألوفاً بل عشرات الألوف، لماذا؟ لأنهم كما وصفهم ربهم العليم بهم فقال: {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] .
وترى أيضاً، كيف أن الأمريكان والأوروبيين والكفار بصفةٍ عامة يعتبرون قتل واحد منهم، أو سجن أعدادٍ قليلة، قضية كبرى!! ويثيرون من أجلها أعظم المعارك؛ المعارك السياسية والإعلامية، ويتدخلون، وتؤثر في قراراتهم الكبرى، من أجل حفنة من جنودهم يحاصرون في الصومال، أو يقتلون في البوسنة، أو يتعرض لهم هنا أو هناك.
هذا أمرٌ لا يلامون عليه، نعم إنه دليلُ من جهة -ولا ننكر هذا- دليلٌ على أن للفرد عندهم قيمةً ومعنىً، وأن حكوماتهم تظهر من خلال ذلك، وفاءها والتزامها بالعقد والعهد والميثاق والبيعة التي عقدتها بينها وبين رعيتها، فتقول لشعوبها: نحن نهتم بكم، ونحرص على حياتكم، ونضحي من أجل أفرادٍ قلائل منكم، حرصاً على حياتهم، أو حريتهم، أو سعادتهم، أو رفاهيتهم، فلا يلامون على ذلك، ولا يعاتبون عليه، بل هم من خلاله يظهرون الالتزام بذلك العقد بين حكوماتهم وبين شعوبهم، لكن هناك في المقابل الرعب، والتعلق بالحياة، الذي حصرهم بين أربعة جدران.
من بين الملايين، بل من بين مئات الملايين، الذين يعيشون في تلك البلاد لا يبعد أن تجد أفراداً يعدون على الأصابع مغامرين، فهم يشقون عنان الفضاء في رحلة ما يسمونها بغزو الكواكب.
غزو الكواكب كشف العلم ظاهره والله يعلم ما أخفوا وما كتموا أو قد تجد من بين هؤلاء: المغامر الذي يمخر عباب الماء، أو يغوص فيه، طمعاً في مغنم، أو طمعاً في شهرة، أو طمعاً في خلودٍ دنيوي عابر، أن يتكلم عنه الإعلام، أو يخلد ذكره التاريخ، أو ينصبوا له نصباً أو تذكاراً أو تمثالاً في ساحة أو ميدانٍ عام، يوجد آحاد وأفراد من هؤلاء، أما هذه الملايين، ومئات الملايين من أفرادهم، فكلهم يركضون وراء الحياة، وراء الحطام، كلهم حريصون عليها.
إن الرجل الغربي اليوم يرى الدنيا ويرى فيها كل شيء، فإذا فقدها، فقد ينتحر، لماذا؟ إذا خسر صفقة تجارية، أو خانته عشيقته، أو فقد أملاً من آماله، فإن أقرب حل لديه هو الانتحار، والانتحار نفسه دليل الفشل، ودليل على عدم القدرة على مواجهة المشكلات، وعدم القدرة على عدم التكيف مع الحياة وظروفها المتجددة، وإلا فكيف يفسر أنه اليوم يتم علاج عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان من جراء معارك، كمعارك الخليج، ما خاضوا فيه حرباً حقيقية؟! ولا لاقوا مقاتلين ولا جنداً؟! وإنما كانوا يقاتلون من وراء جدر، ويقاتلون من خلال التقنية، ومن خلال الآلية العسكرية الضخمة التي جلبوها وتترسوا وراءها، فيكف كان الحال لو واجهوا حرباً؟! أم كيف تكون الحال لو واجهوا قوماً مؤمنين مسلمين يبحثون عن الموت كما يبحث أولئك عن الحياة؟! إنهم تعبوا على حياتهم، وتأنقوا فيها، فلا يحبون مغادرتها وتركها، ولهذا يسارعون في التمتع واللذة، حتى منذ طفولتهم.
تحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- كيف أنه رأى صبيةً في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت أمها تدربها على فنون اللذة الجسدية، فنون الجنس والغرام والحب، وكان هناك رجل يسألها، ويقول: ألا ترين أن هذه الطفلة ما زالت صغيرةً غريرة؟ فقالت له: إن الحياة قصيرة، وليس هناك وقتٌ ولا متسع لنصرف شيئاً في الطفولة، وشيئاً في الشيخوخة والهرم، فلا بد أن نستثمر الحياة ونتمتع بها.
كيف يستثمرونها؟ في اللذات العابرة، والشهوات الجسمانية الحيوانية، حتى الأطفال يُربَّون على ممارسة الجنس والشراب وألوان النعيم المغرق؛ لأن الدنيا غاية همهم، ومنتهى آمالهم، وآخر طموحهم.(62/4)
الأحداث تصنع الأمم
ما هو الشيء الذي يمكن في نظرك أن يخرج هذه الأمة التي تملك هذا الكنز الثمين، وهذا الدين العظيم الذي يمكن أن يخرجها من جهلها إلى نور العلم والمعرفة الشرعية؟ قد تقول: الدروس والمحاضرات وأقول: نعم، لكنها لا تكفي.
ما هو الشيء الذي يمكن أن يخرج الأمة من تخلفها السياسي وتبعيتها الاقتصادية، وهوانها العسكري إلى المسابقة والمنافسة في ميدان الحياة العامر الكبير؟ قد تقول: اجتلاب التصنيع والتقنية وتخريج الخبراء والمختصين، أقول لك: نعم، لكن هذا لا يكفي.
ما هو الشيء الذي يمكن أن يوحد الأمة، ويجمع شملها بعد الشتات والفرقة وانفصام بعضها من بعض، فيمكن أن يوحدها إلى أمةٍ واحدة، يشعر بعضها بهموم بعض وآلام بعض، وإذا حاربت حاربت جميعاً، وإذا سالمت سالمت جميعاً؟ أعتقد أن الخطب والمحاضرات والدروس يمكن أن تساهم، لكنها لا تصنع ذلك، بل حتى جهود الدعاة منفردة، مهما عظمت وكبرت وتوسعت، لا يمكن أن تؤثر إلا في رقعة محدودة من الأمة.
إذاً ما الذي يمكن أن يحدث ويغير؟ لابد من الأحداث، الأحداث التي قد يصنعها العدو، ولكنها تصهر الأمة، وتذيب خبثها، وتكشف طيبها، وتعرفها عدوها من صديقها، وتجمع شمل المخلصين الغيورين المنافحين عن حوزة الإسلام، وبلاده، وبيضته وأهله.
إن العالم الإسلامي اليوم -أقولها لك بصراحة ولكل صديقٍ أو عدو- العالم الإسلامي اليوم يتحول إلى معمل زاخر لإعداد المقاتلين، من لم يقاتل عقيدةً وحماساً وفي سبيل الله، فإنك تجد أنه يقاتل أحياناً اضطراراً؛ لأنه ليس أمامه إلا هذا السبيل، وهو يقول: وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تموت جباناً أو يقول: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركبوها(62/5)
البوسنة أقرب مثال
مثلاً: ماذا كان لدى المسلمين في البوسنة من الإسلام؟! هل كانوا عارفين بدينهم؟! هل كانوا متحمسين له؟! هل كانوا فقهاء فيه فضلاً عن أن يكونوا متطرفين كما يقال؟! كلا، بل كان مجتمعهم يقوم على أساسٍ علماني، وكان الاختلاط شائعاً، وكان ترك الصلاة معروفاً، وكان شرب الخمر متوارثاً، وكان المسلمون يعيشون في ظل تجهيل طويل، حينما سيطرت عليهم الشيوعية، حتى لا يعرفون، ولا يعرفهم إخوانهم، وأكثرهم لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا أن آباءهم وأجدادهم كانوا مسلمين، وأنهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذه المساجد والمنائر والمنابر والمكتبات تراثٌ إسلامي ينتسبون له، ويتعصبون إليه تعصباً غامضاً غير معروف، هذا كل ما بقي من أثر الإسلام في البوسنة والهرسك، فهل شفع لهم هذا؟ لم يشفع لهم، بل هم اليوم أكثر الشعوب تعرضاً للسحق والإبادة، بل ولم يشفع لهم أن يكونوا قطعة من أوروبا، المزهوة بحضارتها، المتبجحة بحقوق الإنسان كما يزعمون هذا حدث، فماذا كانت النتيجة؟ هذا الحدث العظيم وهذا التحدي الكبير للمسلمين في البوسنة والهرسك دعاهم إلى أن يبحثوا عن أصولهم وعن جذورهم، وأن يرجعوا إلى دينهم، فولد هذا رواد المساجد، وفتيات الحجاب، وأطفال تحفيظ القرآن، وشباب المعسكرات، وسوف يحدث على المدى البعيد آثاراً عميقةً لدى المسلمين، وسوف يعطيهم من المفاهيم والقناعات والأصول الصحيحة ما لا يمكن أن يحصلوا عليه، إلا بمثل هذا الطريق.(62/6)
لماذا الإسلام هو المحارب
سؤالٌ ثانٍ: ماذا يملك المسلمون اليوم من الإمكانيات التي ترشحهم ليكونوا هم العدو المنصب لأمريكا وأوروبا والغرب بصفةٍ عامة، بل والشرق أيضاً؟ حتى غدت الحرب على الإسلام قاسماً مشتركاً لدى كل أمم الأرض وحكوماتها ودولها، ماذا يملك المسلمون؟ هل يملكون القوة؟ هل يملكون السلاح؟ هل يملكون الوحدة؟ هل يملكون الاقتصاد؟ هل يملكون المواقف السياسية؟ هل يملكون المؤسسات؟ كلا.
إذاً لماذا الغرب يتحول من عداوة الشيوعية إلى عداوة الإسلام؟ أو من العداوة اللاسامية وحربها، إلى العداوة للإسلامية؟! وأعني بذلك ألوان الحروب، سواء كانت الحروب المكشوفة المعلنة، كما في يوغسلافيا، وكشمير والفلبين والهند، وطاجكستان، وفلسطين، وجميع البلاد التي تعاني من حربٍ ضارية مباشرة شرسة على المسلمين، أم تلك الحروب التي تتولاها بالوكالة عن القوى الأممية حكوماتٌ محلية كما في عدد من الدول العربية والإسلامية، ماذا يملك المسلمون حتى يواجهوا مثل هذه الحرب الضروس الشرسة؟!(62/7)
العجب من ضرب دول إسلامية لا تحكم بالإسلام
نحن نعتقد أن كثيراً من الدول التي تعرضت للضربات من الغرب هي دولٌ لم تكن تحكم بالإسلام يقيناً، سواء هناك في ذلك الصومال، أو ليبيا، أو العراق، أو غيرها من الدول التي طالتها يد الغرب، وأن العلمانيين كانوا هم المسيطرين فيها، إذاً لماذا يضربهم الغرب؟ أقول وأعتقد: أن الغرب لا يثق بمن ينتسب إلى هذه البلاد وإلى هذه الأمة وإلى أبوين مسلمين، حتى ولو كان علمانياً، حتى ولو قدم لهم فروض الولاء والطاعة، حتى ولو كان شديد الولاء لهم، حتى ولو كان خادماً لمصالحهم، إلا أنهم يستخدمونه ولا يثقون به طرفة عين، وعلى أقل تقدير، فهم يعتقدون أنه على المدى البعيد من الممكن أن يكون المستقبل للإسلام، وأن هؤلاء قومٌ تخطتهم الأحداث، وتعداهم التاريخ، إنهم يرون أنه يجب أن تظل البلاد الإسلامية محرومة، متخلفة، حتى لو سيطر عليها العلمانيون.
ما الذي يبيح لدولةٍ كدولة اليهود المسماة بإسرائيل امتلاك السلاح النووي؟ حتى لا يجرؤ مدير الطاقة النووية على مجرد الحديث عن هذا الموضوع، وقد قرأت مقابلةً معه، فتكلم عن دول كثيرة ولما سئل عن دولة ما يسمى بإسرائيل، اعتذر عن الجواب، في حين يحرم المسلمون من ذلك كله، بل يحرمون من امتلاك التقنية العادية أو تصنيع السلاح التقليدي.
نعم نحن لا نلقي بأخطائنا على عدونا، ولا ننتظر من عدونا أن ينسى تاريخه وخلفيته الدينية والعقائدية، وندري أن المسلمين لو صدقوا الله تعالى وأخلصوا، لاستطاعوا أن يصنعوا كل ما يحتاجونه، وأن يطوعوا ناصية التقنية لهم، وأن يستوردوا كافة السلاح، خاصة في ظل عالمٍ يبحث اليوم عن النفط وعن المال وعن الاقتصاد بكل وسيلة، ويخطط لامتلاك موطئ قدمٍ في البلاد الثرية الغنية، لكننا لا نشك أيضاً، أن الغرب يحاول أن يجعل من هذه المهمة مهمةً صعبةً للغاية.(62/8)
لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين غير المسلمين
ثم لنفترض أن كل ما يقال عن المتطرفين -كما زعموا- صحيح، وأنا أستعمل عباراتهم، وأن المتطرفين أخطئوا، وأنهم فعلوا، وأنهم وراء أحداث نيويورك وغيرها، وأحداث لندن وسواها، بل وأنهم كما قال أحد الشعراء: والله لولا خشية العذالِ لقلت أنتم سبب الزلزالِ لنفترض أن ما تقوله أجهزة الإعلام العربية وتروجه -ومن ورائها الإعلام العالمي- عن المسلمين وعن الأصوليين وعن المتطرفين -كما يعبرون- لنفرض أنه صحيح، لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين الصرب الذين أحرقوا دولةً بأكملها، وهجروا وقتلوا أكثر من مليوني مسلم، واغتصبوا النساء؟! ولماذا يتكلم العالم بلسانهم؟ فمرة يعتبر هؤلاء مجرمي حرب، ويطالب بمحاكمتهم أمام محكمة دولية، وإذا به يستقبلهم بالأحضان في جنيف، ويعقد معهم المؤتمرات، من أجل إيقاف الحرب وتسوية الأمر سلمياً بينهم وبين المسلمين؟! لماذا يتفاوض العالم مع من يعتبر أنهم مجرمو حرب.
قد قتلوا شعباً بأكمله، وفعلوا الأفاعيل التي يراها العالم كله، ويشاهدها ويتفرج عليها، لكنه لا يحرك ساكناً.
ثم لماذا تسكت الشعوب؟! إننا نعلم أنه لو قتل عشرون أمريكياً في الصومال، لقامت المظاهرات في طول أمريكا وعرضها ضد هذا العمل، فلماذا يسكت ذلك الشعب أمام قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وأمام تلك المجازر الوحشية التي يراها صباح مساء في وسائل الإعلام التي تفننت في نقل الصورة؟! ومع ذلك يبدو أن الرأي العام العالمي يمارس صمتاً رهيباً، ولا يقوم بأي دور، وأنه يشارك في الجريمة، لأنه ألقي في روعة أن هؤلاء مسلمون، وأن قتلهم لا يغير في واقع الحال شيئاً.
لماذا يغض العالم الطرف عن متطرفي الهندوس وجرائمهم البشعة.
وجرائم الهند في كشمير، بل ويطالب العالم باكستان بأن تتخلى عن دعم المسلمين المستضعفين في كشمير المحتلة؟! حتى العالم العربي والإسلامي يستقبل الهندوس ويوظفهم، ويمنحهم الأعطيات والعلاوات والمرتبات، ويمكنهم من تنظيم خلاياهم السرية وجمع أموالهم الطائلة، لدعم إخوانهم الكفار هناك وقتل المسلمين عياناً في وضح النهار.
سؤال رابع وخامس وسادس ما الذي يجعل التنفيذ دائماً يسبق التهديد إذا كانت القضية تتعلق بمسلمين، سواء في الصومال أو في ليبيا أو في غيرها؟! وإذا تعلقت القضية بالصرب مثلاً، أصبحت -كما يقول المثل العربي- تسمع جعجةً ولا ترى طحناً! فهناك التهديد والوعيد من الأمم المتحدة ثم من أمينها، ثم من هذا الحلف ثم من ذاك، ثم من هذه الدولة الكبرى ثم من تلك، وأخيراً تمخض الجمل فلم يلد شيئاً، وأصبحوا يعربون أن هناك بوادر انفراج وتجاوباً مع المطالب الدولية، وأنه على فرض أن هناك تدخلاً فسوف يكون بطيئاً ومدروساً، ويضع كل الاحتمالات في الاعتبار، لضمان أمن وسلامة جنود الأمم المتحدة وغيرها، فهناك اللهجة ترتفع وتنخفض، والتهديد بعد التهديد، وأخيراً: تهدأ الأمور ويستقر الحال!!(62/9)
الحرب ضد من يسمونهم بالمتطرفين المسلمين
سؤال ثالث: ما الذي جعل العالم كله بحكوماته وأجهزته الأممية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ووسائل إعلامه، يشن حرباً على من يسميهم بالمتطرفين الإسلاميين، ويصورهم وراء كل حدث، وكل جريمة، وكل تفجير، وكل اغتيال، وكل انفجار، وينسج خيوط الأوهام حول هؤلاء، حتى إنك ترى شيخاً ضريراً كبيراً مريضاً، كالشيخ عمر عبد الرحمن، يقدمه الإعلام العالمي على أنه كالأخطبوط، أصابعه تمتد وراء كل حدث، وكل تفجير، وكل جماعة تجاهد أو تقاتل، وكل فئة، وكل تحرك إسلامي.
العالم بالأمس كان يسخر منا معشر المسلمين، ويقول: أنتم مصابون بعقدة المؤامرة، فتتصورون أن وراء كل حدث مؤامرة، وأن وراء كل شيء مؤامرة، وأن مؤامرات العدو تلاحقكم في كل مكان، وكانوا يقولون لنا: هذه أوهام تعشعش في عقولكم وقلوبكم، ولا رصيد لها من الواقع، فما بالهم اليوم أصيبوا بعقدة المؤامرة، حتى أصبحوا يرون مؤامرة متطرفة أصولية إسلامية وراء كل حدث؟! فإذا لم يجدوا حدثاً اختلقوه، فقد وجدوا مجموعة من الشباب يتدربون على كيفية القتال من أجل أن يذهبوا إلى البوسنة والهرسك في نيويورك، وكانوا يصورون أعمالهم على أشرطة الفيديو، لأنهم يقومون بعمل غير مخالف للقانون، وإذا بهم تحفهم أجهزة الأمن وتعتقلهم، وتقدمهم في وسائل الإعلام كبش فداء، وتصورهم للشعوب الغربية والشرقية على أنهم حلقة أخرى من سلسلة المتطرفين الذين يوشكون أن يفجروا العالم بأكمله كما يزعمون.(62/10)
كتاب يوم الله
يوم الله هذا عنوان كتاب يتحدث عن الحركات الأصولية المعاصرة، سواء الحركات الإسلامية أو اليهودية أو النصرانية، مؤلف الكتاب اسمه جيل كيفي، ومترجمه اسمه: نصير مروة، وهو واحد من عشرات الكتب، التي ترصد ما يسمى بالحركات الأصولية الدينية، وعنوان الكتاب: يوم الله يومئ ويشير إلى فكرة مشتركة موجودة عند كل أمم الأرض الكتابية، المسلمين واليهود والنصارى، وهي أن العالم اليوم يستقطب ويتجمع، ويتمحور حول مسألة الدين.
الأحزاب الدينية المسيحية مثلاً في ألمانيا، أو في فرنسا، أو في بريطانيا، بدأت تكسب أصواتاً جديدة من الناخبين يوماً بعد يوم، وبدأت تكسب مواقع ومساحات جديدة على حساب الأحزاب الاشتراكية والعلمانية والتوجهات القومية الدينية في روسيا تتزايد وتتنامى باطراد، وتكسب الشارع يوماً فيوماً، والأحزاب اليهودية المتطرفة دخلت ما يسمى بالكنيست اليهودي، وشاركت في الحكومة، ولها مواقفها القوية الصلبة الواضحة المنسجمة مع عقائدها ودينها، والشعوب الإسلامية أيضاً بدأت تصحو، تصحو على ضربات الغزاة ومطارقهم.(62/11)
المعركة الفاصلة هرمجدون
ربما يقول البعض: -وهو مما أقوله أيضاً- إن معظم المعارك التي نسمعها اليوم في العالم كله هي ذات طابعٍ ديني قومي.
نحن نعلم أنه ليس لدى المتقاتلين -سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم- ليس لديهم الوعي الحقيقي بدينهم، لكنهم يدافعون من منطق الحمية، أو العصبية، أو القومية.
وبإمكانك أن تسمع أية نشرة للأنباء في أية إذاعة عالمية، ثم احسب كم عدد الأخبار المتعلقة بالمسلمين، أو المتعلقة بحروب إسلامية، أو المتعلقة بمشكلات في بلاد الإسلام.
إن ذلك كله لا يعدو أن يكون تحضيراً وتمهيداً للمعركة الكبرى الفاصلة التي يسميها اليهود والنصارى معركة هرمجدون.
اليهود والنصارى تعمل هذه المعركة في عقولهم، وفي سياستهم، وفي قراراتهم، وتؤثر فيهم سواء بصفة مباشرة شعورية أم لا شعورية، إنها المعركة بين قوى الخير وقوى الشر، هكذا يعبر اليهود والنصارى، وأين؟ في فلسطين وبين من ومن؟ بين المسلمين من جهة، وبين اليهود والنصارى من جهةٍ أخرى.
قوى الخير في نظرهم اليهود والنصارى، وقوى الشر المسلمون، والغلبة عندهم لقوى الخير، أي: لهم.
ونحن نقول: نعم الغلبة لقوى الخير، ولكن قوى الخير هي القوى الإسلامية التي تملك الرصيد الرباني، تملك كتاب الله تعالى المنزل المحكم، وتملك الحق الذي جاء به النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام.
إذاً هذا المعنى: المعركة الفاصلة -معركة هرمجدون- هذا المعنى مشترك بين الأمم الثلاث كلها، والنصر فيها هو للمسلمين دون شك، على أعدائهم من اليهود والنصارى، حتى عملية السلام التي يتحدثون عنها اليوم هي جزء من تلك الحرب.(62/12)
الحرب ليست في ميدان القتال فحسب
إن الحرب ذات أبعاد مختلفة، ليست حرباً في ميدان القتال والمعركة وكما يتصور البعض، كما كانت الحرب في الماضي، فالحرب في كل ميدان ولها صور عديدة.(62/13)
الحرب الإعلامية
من صور الحرب أيضاً الحرب الإعلامية التي تستهدف تغيير عقول الناس وقلوبهم، ومحو الكراهية لليهود من قلوب المسلمين، ليصوروا لهم أنهم جميعاً يمكن أن يتحالفوا على عملٍ واحدٍ مشترك، أو محاولة تحييد الشعوب الإسلامية وعزلها عن دينها، وعن تاريخها، وعن لغتها، وعن قرآنها، حتى يتمكنوا من الهيمنة عليها وقيادتها كما تقاد الخراف.
وهي أيضاً حرب مياه تستهدف تحويل مجاري الأنهار المهمة في بلاد الشام وغيرها لصالح اليهود، وجعل المسلمين في قبضتهم وتحت تصرفهم.(62/14)
الحرب الاقتصادية
ومن صورها الحرب الاقتصادية التي يحاول اليهود من خلالها الهيمنة على اقتصاد المسلمين، وفتح المجالات للأموال الإسلامية حتى تصب في بنوك اليهود وجيوبهم، ولهذا هم يطرحون الثلاثية المعروفة: أموال الخليج، وأيدي مصر، وخبرة اليهود، تتظافر من أجل إيجاد اقتصاد شرق أوسطي موحد ومتكامل، هم لا ينظرون إلى إسلام وكفر، يريدون أن يمحوا طابع الإسلام حتى يخلو لهم المجال ليستثمروا هذا العالم، ويحلبوا لبنه وعسله.
وبداية الاستثمار قد وقعت فعلاً، فقد أعلن تجار العرب عن مشروع استثماري سياحي، عبارة عن فنادق وغيرها فيما يسمى بدولة إسرائيل.
ومن ذلك أيضاً الدعوة إلى رفع المقاطعة عن الشركات اليهودية، أو الشركات التي تتعامل مع اليهود، ليست دولة إسرائيل هي التي تطالب بذلك فحسب، بل العالم الغربي كله ورعاة السلام يطالبون بهذا الأمر، ويضغطون على الدول العربية والإسلامية والخليجية من أجله، لأن المصلحة الغربية واليهودية مصلحة مشتركة، وهم يريدون أن يصب الاقتصاد العربي أيضاً في مصلحة اليهود.(62/15)
الصلح مع اليهود
بعض الصلحاء يفتون بأن الصلح جائز مع إسرائيل، لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام عقد مصالحة مع اليهود ومع غيرهم، سبحان الله! الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، هل القضية الآن عبارة عن قضية صلح حقيقي، وأننا كنا في حالة حربٍ معهم، ثم وضعت الحرب أوزارها، واتفقنا على أن نكتب كتاباً بيننا وبينهم ألا يقاتل بعضنا بعضاً لمدة خمس سنين أو عشر أو عشرين سنة؟ هل الأمر كذلك؟! هل هذا هو التكييف أو التوصيف الفقهي للقضية؟ كلا! المسألة مسألة تطبيع للعلاقة مع اليهود في المجالات العقائدية أولاً، وأول ذلك إلغاء الجهاد في سبيل الله تعالى ورفضه، وعدم الإيمان به، وكتابة عهود ومواثيق تقتضي من المسلمين أنهم لا يؤمنون بالجهاد، وأنهم لن يقوموا بالجهاد يوماً من الأيام ضد اليهود، وكذلك لا يحاربون اليهود، ولا يعتبرونهم مغتصبين لهذه البلاد، فضلاًُ عن أنها تنتقل من ذلك إلى تغيير العقليات الإسلامية، وإلى تغيير الإعلام، وإلى الغزو الثقافي والعلمي والأمني والعسكري والمادي وغير ذلك، فكيف نتصور أن هذا صلحٌ مع اليهود؟! إنها عملية تطويع كاملة للشرق الإسلامي، ليكون ألعوبة في يد هذه الدولة الأممية التي من ورائها تتحرك وتكيد أمريكا وغيرها من دول الغرب.
وآخر مثال على ذلك: خبرٌ سمعناه البارحة، يقول لك: سوريا وإسرائيل على وشك توقيع اتفاقية نهائية للسلام المطلق، تقتضي هذه الاتفاقية، أن تتخلى دولة إسرائيل عن هضبة الجولان بالكامل، في مقابل أن توقع معها سوريا اتفاقية سلام مطلقة شاملة، تمتد بين سنتين إلى خمس عشرة سنة، أي يتم تنفيذها خلال مدة أقصاها خمس عشرة سنة، وخلال هذه المدة تكون العلاقات كلها قد تطبعت بين البلدين إذا تم ذلك بشكل كامل، سواء العلاقات السياسية والاقتصادية أو العسكرية والأمنية أو غير ذلك، إذاً فالقضية ليست صلحاً كما يتصور بعض البسطاء، أو بعض الصالحين، إنما هي قضية تطبيعٍ كامل.(62/16)
غداً ينطق الحجر
أمام هذا الوضع الذي هو عملية السلام، ندرك أن اليهود يخططون لمعركة هرمجدون، وأن النصارى يتحالفون معهم بمقتضى المعركة، والمسلمون كذلك، وعند المسلمين نص يؤكد لهم حتى قبل أن يجئ اليهود إلى فلسطين بمئات السنين، أن اليهود سوف يأتون إلى فلسطين، وسوف يحتلونها، وسوف يقاتلهم المسلمون فيها حتى ينطق الشجر والحجر.
لقد بدأ الحجر الآن! الحجر الآن هو عبارة عن مقلاع في يد الطفل الفلسطيني، يشج به رأس اليهودي، أو يقتله، أو يؤذيه، أو يخيفه، وقد أثرت الانتفاضة على الميزانية اليهودية تأثيراً عظيماً، وعلى العقلية، وأربكت كثيراً من خططهم، وهذه بدايةٌ لتحرك الحجر، اليوم الحجر في يد المسلم، وغداً الحجر ينطق للمسلم ويقول: يا عبد الله يا مسلم، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.(62/17)
قتال اليهود لابد منه
وعند المسلمين نص أيضاً يقول لهم: {سوف تقاتلون اليهود على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} والراوي كان يقول: والله ما كنتُ أدري ما هو نهر الأردن يومئذٍ بالذات، وهو حديث رواه البزار وغيره، وحسن إسناده جماعة من أهل العلم، كـ الهيثمي والغماري وغيرهما.
إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن غيب أطلعه الله عليه.
وبناءً عليه نعلم أن كل الخطط والمؤامرات سوف تتوقف، وأن المسلمين سيقاتلون اليهود، ولن تتوسع دولتهم المسماه بإسرائيل أكثر مما هي عليه الآن بشكلٍ كبير.(62/18)
الفرص أمام المسلمين للتعبئة والاستعداد
يظن البعض من المسلمين اليوم أن المسلمين دخلوا نفقاً مظلماً، وأن النجاة يمكن أن تتم، ولكن بواسطةٍ قدرٍ إلهيٍ محض، لا يد للبشر فيه بحال من الأحوال، وهذا خطأ، فكل مشكلة تحمل في طياتها بذور الحل، والعالم اليوم يتمخض عن فرص عظيمة للمسلمين، يمكن استثمارها كأحسن ما يكون الاستثمار.(62/19)
إشاعة روح الجهاد
مثلاً: أمام المسلمين إشاعة روح الجهاد والتعبئة العامة للأمة، ورفع معنويات الشباب في هذا الميدان، الجهاد بكل معانيه وكل ميادينه، الجهاد السياسي، الجهاد الاقتصادي، الجهاد العسكري، الجهاد العلمي، الجهاد التصنيعي، كل هذه الميادين ميادين جهاد، ينبغي أن تدرب الأمة عليها، وأن تبعد الأمة عن روح الترف والخمول والقعود، الذي خدر مشاعرها، ودمر طاقاتهات.(62/20)
مقاطعة العدو
أمام المسلمين اليوم إمكانية مقاطعة العدو، مقاطعةً سياسية، أو اقتصادية، والإضراب عن بضائعه ومقتنيايته وتصنيعه، والحرص على الضغط عليهم بكل وسيلة، وهم يملكون من ذلك الكثير.(62/21)
البناء الحضاري والاقتصادي
أمام المسلمين البناء الحضاري والاقتصادي، وما ماليزيا كدولة إسلامية، إلا نموذج لدولة آلت على نفسها أنها عام 2020م سوف تكون دولةً صناعيةً عظمى، ووضعت خطةً طموحةً لذلك، سوف أتحدث عنها في إحدى المناسبات.(62/22)
استثمار التناقضات بين الخصوم
أمام المسلمين استثمار التناقضات الموجودة في معسكر الخصوم، وهناك تناقضات صارخة بين الصين وأمريكا، بين أوروبا وأمريكا، بين الشرق والغرب، بين بعض هذه الدول وبعض، يمكن أن يستثمرها المسلمون لصالحهم.(62/23)
الجهاد في سبيل الله
إن الجهاد في سبيل الله هو الحتم المقدور على هذه الأمة وإلا فهو الهلاك، فإذا تخلت الأمة عن الجهاد، وقعدت عنه، ضربها الله تعالى بالذل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا تركتم الجهاد، ورضيتم بالزرع، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} أي حتى تعلنوا الجهاد في سبيل الله تعالى، وتتمسكوا بشريعة نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
حمل رجلٌ من المجاهدين بالقسطنطينية على صف العدو، حتى خرق العدو بقوة، وكان معهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال أناسٌ من الناس: ما لهذا الرجل ألقى بيده إلى التهلكة، فسمعهم أبو أيوب، فقال لهم: [[كلا والله، نحن أعلم بهذه الآية، قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] لقد نزلت فينا معشر الأنصار، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار، فقال بعضنا لبعضٍ: إن الله تعالى أكرمنا بصحبة نبيه ونصرة دينه، فلما فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على أموالنا وأهلينا وزروعنا وأولادنا، لو رجعنا -بعد ما وضعت الحرب أوزارها- إلى أهلينا وأموالنا، فأصلحنا ذلك، وأقمنا فيه، وتركنا الجهاد، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]] ] .
إذاً الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد، سواء كان جهاداً بالمال أم بالنفس أم باللسان أم بكل وسيلة ممكنة، فالتهلكة هي في الإقامة بالأهل والأولاد والمال، وترك الجهاد، والحديث رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم، والذهبي، وغيرهما.(62/24)
الشهادة في سبيل الله أمنية
ما هي الحيلة في قومٍ يرون أن أقسى عقابٍ تخافونه، هو أقصى أملٍ ينتظرونه؟ الناس يخوفون بالموت، يقال: إن لم تفعل تقتل، أما هؤلاء فغاية ما يتمنونه أن يقتلوا، إن الشهادة في سبيل الله أمنية، ليست هروباً من التكاليف، ولا فراراً من الحياة، ولا تخلصاً من المشكلات، ولكن الشهادة التزام بأقصى درجات التتكاليف الشرعية، وهو الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.
إن الشهيد يسقي شجرة الحياة بالدماء، الدماء التي تشخب من جرحه، وتخرج من أوداجه، فتزهر شجرة الحياة بإذن الله وتثمر وتنمو.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجومِ مناراً كنا جِبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بِحَارا بمعابد الإفرنجِ كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولها الأزهارا(62/25)
دار الشهداء
في صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي إلى شجرة، وأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، ولم أرَ داراً قط أحسن منها، فقلت ما هذه الدار؟ قالا: أما هذه الدار، فدار الشهداء} .
{للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له مع أول قطرة من دمه} أي شهيدٍ هذا؟ هل هو شهيد الحب؟! شهيد التراب والوطن؟! شهيد زيتون يافا وبرتقال حيفا؟! شهيد الكرسي؟! شهيد الشهرة الجندي المجهول؟! كلا! إنه الشهيد الذي يقاتل في سبيل الله، كما نطق الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} .
{يغفر له مع أول قطرة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين} اذهبوا يا أهل الماديات، اذهبوا يا أهل الشهوات، تمتعوا بدنياكم ونسائكم، تمتعوا بلحظاتكم العابرة، أما الشهداء الحقيقيون، فينتظرهم اثنتان وسبعون امرأة من الحور العين، يرى مخ ساق إحداهن من وراء اللحم!! {ويأمن من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، ويوضع على رأسه تاج الوقار} ليس تاجاً دنيوياً ولا مادياً، ولا صولجاناً ولا طيلساناً، إنما هو تاج الوقار في الدار الآخرة: {الياقوتة الواحدة فيه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين من أهل بيته} .
سبعون ممن ربوه على الجهاد والشهادة، وعلموه أناشيدها، وقرءوا عليه آياتها وأحاديثها، وربوه على معاني الفداء والبطولة، ثم صبروا عليه وصابروا، وخلفوه في أهله بخير.
هذا حديثٌ رواه الترمذي، وقال: حسنٌ صحيح غريب، ورواه ابن ماجة وأحمد من حديث المقدام بن معد يكرب، وله شاهدٍ من حديثٍ قيس الجذامي، وإسناده صحيح، فالشهادة هدفٌ عظيم، كلمة تملأ الفم.
حممة الدوسي رحمه الله غزا مع أبي موسى الأشعري إلى أصبهان، فقام في الليل وصاح: [[اللهم إن حممة يحب لقاءك، اللهم إن كان صادقاً في ذلك، فاعزم له بصدقه واقتله، وإن كاذباً فاحمله على ذلك، وإن كان كارهاً له، اللهم لا ترجعني من سفري]] قال: فأخذه شيء في بطنه فمات! بأصبهان، فقام قائد الجيش أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول للجنود: [[يا أيها الناس إنه والله ما سمعنا من نبيكم، ولا بلغ علمنا إلا أن حممة شهيدٌ في سبيل الله تعالى]] .
بات عتبة بن أبان البصري، عند رباح القيسي، قال: فسمعته في الليل ساجداً يبكي ويقول: اللهم احشر عتبة من حواصل الطير وبطون السباع.
ولكن قبري بطن نسرٍ مقيله بجو السماء في نسورٍ عواكف خرج ابن المبارك إلى الشام غازياً في سبيل الله تعالى، فلما رأى ما فيه القوم من التعبد والغزو والجهاد وارتفاع المعنويات والإيمان، وكل يوم بعث أو سرية أو قتال، التفت إلى من حوله، وقد أخذته نشوة ووجد وعجب، ودهشة لهذا الحال الجديد، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، على أعمارٍ أفنيناها وأيامٍ قطعناها في علم الخلية والبرية، وتركنا أبواب الجنة مفتوحة هاهنا.
يقول: ضيعت كثيراً من عمري في بعض مسائل الفقه، وطولت فيها، وتركت الجهاد في سبيل الله تعالى.
وهذا لا يعني التهوين من أمر العلم الشرعي، بل هو لونٌ من الجهاد، ولكنها -كما ذكرت- نشوة أخذت هذا الإمام المجاهد، وقد رأى هذا الباب العظيم من أبواب الجنة، وقد كتب بعد ذلك إلى الفضيل بن عياض المتعبد في الحرم، يعاتبه ويقول: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعبُ من كان يخضب خده بدموعهِ فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ أو كان يُتعِبُ خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ ريح العبير لكم ونحن عبيرُنا رهج السنابك والغبار الأطيبُ ولقد أتانا من مقال نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئٍ ودخان نارٍ تَلْهَبُ(62/26)
موت الشهيد حياة للأمة
وكما أن موت الشهيد حياةٌ له، كما نطق القرآن قال تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] فكذلك موت الشهيد حياةٌٌ للأمة من بعده، فأولئك الأبطال العظماء الذين استرخصوا الحياة واستهانوها في سبيل الله تعالى، هم الذين بنوا الأمجاد، وسطروا صفحات التاريخ، قال أبو بكر رضي الله عنه لجنود المؤمنين: [[اطلبوا الموت توهب لكم الحياة]] وقال لـ مسيلمة ومن معه: [[لأحاربنكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة]] وإذا انكفأ الدنيويون والماديون اليوم على اللذة والشهوة والجنس والكرسي، تسامى هؤلاء إلى العلا، واستنشقوا عبير الجنة، كما قال أنس بن النضر: [[الجنة ورب أنس بن النضر، إني لأجد ريحها من دون أحد]] ثم صاح صائحهم: فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكُن على شرجعٍ يُعلى بخُضرِ المطارفِ ولكن أحن يومي سعيداً بعصبةٍ يصابون في فجٍ من الأرض خائفِ عصائب من شيبان ألَّف بينهم تُقى الله نزالون عند التزاحفِ إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا الأذى وصاروا إلى موعودِ ما في المصاحفِ(62/27)
فرق بين هذه الشهادة وبين شهادة الماديين والشهوانيين
فأين هذا من أوضار الماديين والشهوانيين الذين يعتبرون أن الشهادة في سبيل المادة أو الشهوة هي كل شيء؟! حتى يقول قائلهم، وهو من يسمى بـ العندليب الأسمر يقول: يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب وقد قرأتُ قبل أيام قصيدةً لشاعرٍ من شعراء الشهوة واللذة شهير معروف، هو نزار قباني، في قصيدته "الأندلسي الأخير" يقول: أتخبط على رمال حبكِ كثورٍ أسبانيٍ يعرف سلفاً أنه مقتول كما يعرف أن جسده سوف يلف بالعلم الوطني ويحمل على عربة مدفع ويدفن في مقابر الشهداء -إنهم شهداء، لكن في سبيل ماذا؟ - يقول: أتخبط تحت شمس عينيك نازفاً من كل أطرافي عارياً إلا من قميص كبريائي الاستشهاد بين ذراعي امرأةٍ جميلة هو ذروة الشهادة أدخل الملعب وأنا أعرف أنني لن أخرج منها إلا مضرجاً بالكحل والأساور وحرير مراوح الأندلسيات الشهادة في سبيل الشعر والنساء لا تقلقني فهناك دائماً ثمنٌ لكل شيء ثمنٌ للمرأة التي نحبها ثمنٌ للقصيدة التي نكتبها ثمنٌ للعطر الذي نتوضأ به أنا وحدي تحت سماء عينيك الصافيتين كسماء البحر الأبيض المتوسط أواجه وجهك الجميل وموت الجميل فرحٌ لا ضفاف له وأتلقى مبتسماً طعنات أنوثك القادمة من الجهات الأربع.
أنا نزار قباني البدوي والحضاري اليميني والماركسي الواقعي والصوفي الجنسي والعذري الأصولي والانقلابي العربي واللاعربي!! إذا كان هؤلاء يموتون في سبيل الشهوة، في سبيل اللذة، في أحضان امرأة، من أجل مادة، من أجل لحظة عابرة، من أجل قرش أو ريال، من أجل كرسي، من أجل مغنم، فلماذا لا يموت المؤمنون في سبيل مثلٍ أعلى يؤمنون به ويعتقدونه، ويرون أنه سبيلهم إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض؟! كما قال ذلك الأول المجاهد: {قوموا إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض} .(62/28)
عدم الإيمان بالجهاد ردة عن الدين
إن إلغاء الجهاد في سبيل الله تعالى ورفضه رفضاً اعتقادياً وعدم الإيمان به ردة عن الدين، وخروج من الملة، لأن الله تعالى فرض الجهاد بآيات محكمات صريحات، وأحاديث متواترات، وأعلنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقوم للدين قائمة إلا بالجهاد في سبيل الله، وهذا الشرط هو من شروط التطبيع مع اليهود -كما أسلفت- وإلاَّ فأي معنى للاعتراف، وتبادل السفراء والمصالح، وتوقيع المعاهدات على عدم الاعتداء توقيعاً مطلقاً، لا يلتزم بوقتٍ أو زمن، ولا بظرفٍ أو حال، وما ذلك إلا لأنهم يعلمون أنه لا خطر عليهم من الذين يناضلون من وراء المكاتب الفخمة والكراسي الوثيرة، وإنما الخطر عليهم من أولئك الذين يبحثون عن الموت، ويطلبون القتل والشهادة بكل سبيل.(62/29)
السيف هو الحل
إن أبشع لقب يمكن أن يطلق على المسلم اليوم أنه إرهابي، أو أنه ممن يستخدمون العنف أو التحريض، وهذه الألفاظ كلها ألفاظٌ شرعية قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ترهبون! وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73] وقال سبحانه لنبيه: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] وقال: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65] ولن يغسل العار عن المسلمين إلا القوة التي تخيف العدو وترهبه، كما قال الأول: سأغسل عني العار بالسيفِ جالباً عليَّ قضاء الله ما كان جالبا وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي -وتنسب هذه القصيدة أيضاً للسموأل بن عاديا - قال: تُعيرنا أنَّا قليلٌ عديدنا فقُلتُ لها إنَّ الكِرام قليلُ وما ضرنا أنَّا قليلٌ وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليلُ وما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا بابٌ تسامى للعُلا وكهولُ وإنا لقومٌ لا نرى القتل سبةً إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ يقرب حُب الموت آجالنا لنا كرهه آجالُهم فتطولُ وما مات منَّا ميتٌ حتف أنفِه ولا طل منَّا حيثُ كان قتيلُ تسيل على حدِّ الظباة نُفُوسَنا وليست على غير الظباة تسيلٌ إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قئولٌ لِما قالَ الكرامُ فعولُ وأسيافُنا في كل شرقٍ ومغربٍ لها مِن قِراع الدارعينَ فلول(62/30)
الصبر عند الصدمة الأولى
روى أنس في المتفق عليه أن الصادق المصدوق -بأبي هو وبأمي- صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الصبر عند الصدمة الأولى} كل المصائب انتظارها أشد من وقوعها، فإذا نزلت نزل معها التخفيف والصبر والتثبيت لمن عرف الله تعالى وآمن به، وأشد المصائب الموت، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجد الشهيد من ألم الموت، إلا كما يجد أحدكم من القرصة} أما الآخرون فيعانون ويتألمون ويتحشرجون ويطيلون، أما الشهيد فيموت في لحظة، ولا يجد من ألم الموت إلا كما يجد أحدكم من القرصة.
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعن الموت في أمرٍ حقيرٍ كطعن الموت في أمرٍ عظيم(62/31)
ضعف الإيمان بالقضاء والقدر
إن ضعف الإيمان بالقضاء والقدر جعل المؤمنين يقعون نهباً للأسباب والمخاوف والأوهام التي تسيطر على نفوسهم، حتى تشبه بعضهم بالمنافقين الذين يحسبون كل صيحةٍ عليهم، فتجد المؤمن يمشي مشيةً غير عادية، لأنه يتلفت دائماً إلى الوراء، يخاف ويرهب، يخاف من عدوه، ولذلك يكون سيره غير معتدلٍ ولا سليم.
وكذلك ضعف الاحتساب والثقة فيما عند الله تعالى، جعل أحدهم لا يتحمل أي شيء، حتى الشوكة يشاكها أو الكلمة الخشنة، أو ما فوق ذلك لا يتحمله، مع أن الأذاياء والبلايا أمرٌ لا بد منه، قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة:214] إلى نصوصٍ أخرى كثيرة، ليس هذا الموضع موضع بسطها.(62/32)
الألم يزول بالتكرار والممارسة
أيها الأحبة: إن كل الأذاياء والبلايا تزول بالتكرار والممارسة، فإذا كان الشهيد -كما ذكرت لكم قبل قليل- لا يجد من ألم الموت إلا كما يجد من ألم القرصة، فما بالك بما دونه.
خذ على سبيل المثال: الوالد الذي تعود أن يضرب ولده، أول مرة قد يؤثر الضرب، لكنه مع الوقت يتحول هذا الأمر إلى شيء لا يؤثر في الولد ولا يخيفه، لأنه اعتاد عليه، فلم يعد يفعل فيه فعلاً، ووجد أن الضرب ليس كما كان يخافه، لكن لو كان الأب يستخدم التهديد بالضرب فقط، لربما أصاب الولد رعب شديد من هذا الضرب الذي يسمعه، ويهدد به دون أن يذوقه أو يجد ألمه.
ومثل ذلك أيضاً: الكلام فإن بعض الناس يظن أن أية كلمة توجه إليه أو طعن أو سب أو اتهام، أنه سوف يقلقله ويسهره ويظنيه ويخيفه ويحزنه، ويمنعه من التمتع بحياته، أو القيام بأعماله، لكنه إذا وجد ذلك ثم وجد، ثم تكسرت النصال على النصال، أصبح الإنسان يمتلك قوةً وصبراً غريباً، فلا يؤثر فيه الكلام، ويستوي عنده أن تمدحه أو تذمه، المهم أن تقول كلاماً صحيحاً مفيداً، أما مسألة الجوانب الشخصية، فإنها تنمحي وتزول بالممارسة، وكثرة المعايشة والإحساس بهذه الأشياء.
السجن.
أول مرة يسجن الإنسان أو يهدد بالسجن، قد يخيفه ذلك، حتى إن بعض أهل التقصير، أو بعض الشباب المفرطين، لو أنهم سجنوا لربما وجدوا أن السجن لا يستدعي أن يتركوا أقل الأشياء، حتى التفحيط أو التطعيس، لا يستدعي أن يترك من أجل السجن، لأنهم جربوا أن السجن ليس بالأمر الذي كانوا يرهبونه ويخافونه، لكن لو كان الأمر يقتصر على مجرد التهديد والتخويف، لربما كان وقعه في النفس أعظم.
المقصود من هذا الكلام أن هناك جانباً نفسياً، وهو أن الإنسان قد يخاف الشيء إذا سمع به، لكنه لو عاناه وعايشه ووجده، لأحس أن الأمر أقل مما كان يخاف ويتوقع، والأمور يهون بعضها بعضاً.
أخي: كم رأيت ممن لاقى في سبيل المخدرات مثلاً، أو الفجور أو السرقة من الضرب والسجن والتشهير والتعذيب، بل ومن القتل، ومع ذلك فهم لا يزدادون إلا كثرةً وتوسعاً وتنامياً، فكيف تظن أن حملة الشريعة، وحماة العقيدة، وأهل الدين والتوحيد، والذين يطمحون إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، أن تخيفهم مثل هذه الأساليب، أو تحد من عزمهم، أو تقلل من عزتهم.
دخل الإمام أحمد رضي الله عنه السجن فضرب، فجاءه رجلٌ كان في السجن، وكان لصاً سارقاً، فقال له: يا أحمد، أنا والله ضربت في السرقة أكثر من أربعمائة سوط، وأنت تُضربُ في سبيل الله، وإنما هو السوط الأول والثاني ثم لا تحس بشيءٍ بعد ذلك، قال الإمام أحمد رحمه الله: فقوى هذا الرجل قلبي.(62/33)
كل شيء بقضاء وقدر
لقد تمنى الرسول -وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- الشهادة في سبيل الله، فقال وقد غادر أصحابه صرعى مجندلين يوم أحد تحت الجبل، قال عليه الصلاة والسلام: {والله لوددتُ أني غودرتُ مع أصحابي بحصن الجبل} وفي الصحيحين {لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} إنه لا يموت أحدٌ قبل أجله قط، فالأجل جنة حصينة للإنسان، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] {وسألت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله، وأبي أبي سفيان، وأخي معاوية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله تعالى لآجالٍ مضروبة} وقال علي رضي الله عنه، وهو يخوض المعركة أي يومٍ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر يقول: أنا بين خيارين، إما أن يكون أجلي قد حضر فلا ينفع الحذر، وإنما يكون أجلي لم يحضر فلا تضرني الشجاعة.
وهذا قطري بن الفجاءة، يوقفك على هذا المعنى العظيم بأبياتٍ شهيرة مؤثرة، يخاطب نفسه: أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تُراعي فإنك لو سألت بقاء يومٍ على الأجل الذي لكِ لم تطاعي فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاعِ وما ثوب البقاء بثوبِ عزٍ ويطوى عن أخي الخنع اليراعِ ومن لا يغتبط يسأم ويهرم وتسلمه المنون إلى انقطاعِ وما للمرء خيرٌ في حياةٍ إذا ما عد من سقط المتاعِ إذا كانت حياة ذل وهوان وتأخر وجهل وضعة فليس للمرء فيها خيرٌ.
جاءت امرأةٌ للحجاج فقال لها: لأذبحن ابنك، وظن أنه بذلك يهددها، قالت له بلهجة المؤمن الواثق: إن لم تذبحه مات.
وجاء رجلٌ آخر، فقال له الحجاج: والله لأحصدنكم حصداً، قال الرجل للحجاج: أتحداك، أنت تحصد والله تعالى يزرع، ماذا تفعل يد الحجاج، إذا كان رب العالمين هو الزارع.
إن الإيمان بالقضاء والقدر، ومعرفة أن كل شيء مكتوب عند الله تعالى في لوحٍ محفوظ، لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص، إنه يمنح المؤمن ثقةً وصبراً وثباتاً واستقراراً في قلبه، فلا تخيفه الأشياء، والزعازع، والعواصف، والأحداث، والنكبات، والمصائب، كلا! لأنه يعلم أن كل شيءٍ مقدورٌ مكتوب، طعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال: [[وكان أمر الله قدراً مقدوراً]] .(62/34)
صناع الموت
لقد كان المسلمون هم صناع الموت عبر العصور وهذه نماذج من بطولاتهم:(62/35)
عز الدين القسام
هذا الرجل المجاهد في فلسطين، والذي ما زال المجاهدون في فلسطين يفتخرون باسمه، وينتسبون إليه، وكتائب عز الدين القسام، هي الجناح العسكري لحركة حماس، تذيق اليهود ألوان الذل والنكال، وتشرد بهم من خلفهم.(62/36)
الحركات الجهادية في أفغانستان
الحركات الجهادية في أفغانستان وفي غيرها، ألقت في قلوب الأعداء الرعب، حتى إن رئيس وزراء بريطانيا في رسالته الشهيرة التي تسربت ونشرت في الصحف العربية والدولية، يقول: لا نريد أن نعطي المسلمين السلاح في البوسنة والهرسك، لماذا؟ قال: حتى لا تتكرر تجربة أفغانستان.(62/37)
أبو محمد البطال
كانت نساء الروم إذا صاح ولدها، تقول له: اسكت، وإلا أتيتك بـ البطال يأخذك، لأن البطال كان شبحاً مخيفاً، خرج -كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية في سرية، فقال لهم لما دخلوا القرية: انتظروا عند مدخل القرية حتى أذهب بنفسي، فذهب في الليل، وتسلل في شوارع القرية، فرأى نوراً فأنصت، فإذا طفلٌ يصيح، وإذا أمه تقوله له: اسكت، وإلا دفعتك للبطال، فلم يسكت الطفل، فقالت الأم: خذه يا بطال، فدخل البطال وأخذ الصبي!(62/38)
ابن قادوس
أبو عبد الله يقال له: ابن قادوس، هذا الرجل كان رمزاً للبطولة والشجاعة، مخيفاً لأعداء الإسلام، فكان من شجاعته وحسن بلائه أن النصراني إذا سقى فرسه الماء، فأبت أن تشرب، يقول للفرس: مالك؟! هل رأيت ابن قادوس في الماء؟! لأنه حتى خيولهم وفرسانهم تخافه وترهبه.(62/39)
خالد بن الوليد
خالد بن الوليد رضي الله عنه كان خالد نموذجاً في الشجاعة والصبر يقول: ما ليلةٌ تهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، بأحب إليَّ من ليلةٍ شديدة البرد أصبح فيها العدو في سريةٍ من المهاجرين.(62/40)
عمر المختار
عمر المختار المجاهد في بلاد ليبيا ضد إيطاليا والمستعمرين النصارى الكافرين، ثم ظفروا به دون أن يشعروا، فلما طلبوا منه التحقيق، قال لهم: نعم، كل ذلك فعلته، قاتلتكم وضاربتكم وقتلت منكم، وكان يتكلم بشجاعة وبأسٍ وقوة، ثم قتلوه وعلقوه على مشنقة، فرثاه الشاعر وقال: نصبوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء يا ويلهم نصبوا مناراً من دمٍ يوحي إلى جيل الغدِ البغضاء ما ضر لو جعلوا العلاقة في غدٍ بين الشعوب مودةً وإخاء الله المستعان! يجعلون العلاقة بين الشعوب مودةً وإخاءً هيهات! العلاقة علاقة تنافر وصراع محتدم في كل الميادين، بين كل هذه الفئات، وهذا هو التاريخ يشهد بذلك.
كان يقول رحمه الله: لن يستريح الإيطاليون حتى يواروا لحيتي في التراب.(62/41)
البراء بن مالك
وأعظم من ذلك ما فعله البراء بن مالك رضي الله عنه يوم اليمامة، فإنه احتمل في ترسٍ على الرماح، وألقوه على العدو في حديقتهم حديقة الموت، فقاتل وحده، وقتل منهم عشرة، وفتح الباب، وجرح يومئذٍ بضعاً وثمانين جرحاً، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة، بل رأوا هذه مغامرة محمودة في سبيل الله تعالى.(62/42)
طارق بن زياد
ذكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك، والقرطبي في التاريخ أن طارق بن زياد، رحمه الله دخل الأندلس في ألفٍ وسبعمائة رجل، وكان ملك تلك البلاد غائباً عن لوذريق، فقاتلهم ثلاثة أيام، ثم كتب إلى رئيسه: أن قوماً وصلوا إليا، ما أعلم أمن الأرض هم أم من السماء؟! وقد قاتلناهم ولا طاقة لنا بهم، فأدركنا بنفسك، فبعث إليه تسعين ألف فارس، وهم ألفٌ وسبعمائة في الأصل، فقاتلوهم ثلاثة أيام، واشتد بالمسلمين البلاء.
فقال طارق رحمه الله ورضي الله عنه: إنه لا ملجأ لكم غير سيوفكم، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم، والبحر من ورائكم محيط بكم؟ وأنا فاعل شيئاً، إما النصر أو الموت! قالوا: فما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم ورئيسهم، فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك، فقتل اللوذريق وجمعٌ كبيرٌ من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام، يقتلونهم قتلاً ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير.
وبعث طارق رضي الله عنه، برأس اللوذريق إلى موسى بن نصير، في أفريقيا، فبعث بها موسى إلى الوليد بن عبد الملك، بدمشق، ثم سار طارق إلى طليطلة، وسار مغيث الرومي مولى الوليد إلى قرطبة، ففتحوهما، ووجدوا ذخائر وأموالاً عظيمةً لا تحصى.(62/43)
ألب أرسلان
ومن العجيب أيضاً والطريف: أن ألب أرسلان، واسمه محمد بن داود، وقد قتل سنة خمس وستين وثلاثمائة من الهجرة، أنه فعل كما فعل طارق، على ما ذكره الطرطوشي والقرطبي، أنه خرج ملك الروم من القسطنطينية في نحو ستمائة ألف من المتطوعين الروم وغيرهم، فكانوا لا يدركهم الطرف، ولا يحصيهم العد، بل كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، وكراديس يتلو بعضها بعضاً، كالجبال الشوامخ، لا يراهم أحدٌ إلا أصيب بالرعب والفزع، وقد قسموا البلاد بينهم، هذا له هذه الدولة وذلك له ذلك القطر وهكذا، فأخلّوا بالبلاد، ودخلوها من كل وادِ.
وكان الملك ألب أرسلان التركي، كان سلطان العراق والعجم يومئذٍ، وقد جمع وجوه مملكته، وقال لهم: قد علمتم ما نزل بالمسلمين، فما رأيكم؟ قالوا: رأينا لرأيك تبعٌ، وهذه الجموع لا قبل لأحد بها، قال: فأين المفر؟ لم يبقَ إلا الموت، فموتوا كراماً، قالوا: أما إذا سمحت نفسك بذلك، فنفوسنا لك الفداء، وقال لهم: نلقاهم في أول البلاد، فخرج في عشرين ألفاً من الشجعان المنتخبين المختارين، الذين يمكن أن نعبر عنهم أنهم يشبهون ما يسمى: بقوات الكومندوز الآن، فلما سار مرحلة، عرض العسكر فوجدهم خمسة عشر ألفاً، ورجع خمسة آلاف، ثم سار مرحلة ثانية، فلما عرض العسكر، إذا هم اثنا عشر ألفاً، قد تسرب منهم ثلاثة آلاف -كما في قصة طالوت وجالوت.
فلما واجههم عند الصباح، رأى ما أذهل العقول وحير الألباب، وكان المسلمون كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وقال: إني هممت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال، قالوا: ولمَ؟ قال: لأن هذه الساعة لا يبقى على وجه الأرض مسلم إلا دعا لنا بالنصر، وكان ذلك يوم الجمعة، قالوا: افعل رحمك الله، فلما زالت الشمس صلى، وقال: ليودع كل واحدٍ منكم صاحبه، وليكتب وصيته، ففعلوا ذلك، فقال: إني عازم على أن أحمل، فاحملوا معي، وافعلوا كما أفعل فاصطف المشركون عشرين صفاً، كل صفٍ لا يرى طرفه، ثم قال ألب أرسلان: بسم الله، وعلى بركة الله، احملوا معي، ولا يضرب أحدٌ منكم بسيفه حتى أفعل، فحمل وحملوا معه مرةً واحدة، فخرقوا صفوف المشركين، وكسروا صفوفهم، وأحاطوا بملكهم، وانتهوا إلى سرادقه، وهو لا يدري ولا يظن أن أحداً يصل إليه، فما شعر حتى قبضوا عليه.
لقد حددوا الهدف، وتحملوا في سبيل ذلك التضحية، فأمسكوا بالملك وقبضوا عليه، ثم قتلوا رجلاً منهم، وعلقوا رأسه على الرمح، وصاحوا قتل الملك، فلما رأى الروم ذلك، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وحكم المسلمون فيهم السيف أياماً، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ولم ينج منهم إلا شريدٌ أو طريدٌ أو أسير، وجلس ألب أرسلان على كرسي الملك، في مضربه وفي سرادقه وعلى فراشه، وأكل من طعامه ولبس من ثيابه، ثم أحضر له الملك بين يديه، وفي عنقه حبل يجر به، قال: ما كنت صانعاً لو ظفرت بي؟ قال: أو تشك أني كنتُ قاتلك حينئذٍ؟ قال له ألب أرسلان: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه، لأنه كان أسيراً، فطافوا به على جميع العسكر، والحبل في عنقه، وينادى عليه: من يشتري؟ فلا أحد يسومه، ولا ينادى عليه بالدرهم ولا بالفلس، ولا يشتريه أحد، حتى انتهوا إلى آخر العسكر، فإذا رجلٌ معه كلب، فقال: إن بعتموني بهذا الكلب اشتريته فأخذوه وأخذوا الكلب، وأتوا بها إلى ألب أرسلان، وأخبروه بما صنع، فقال: الكلب خيرٌ منه، لأنه ينفع وهذا لا ينفع، خذوا الكلب وادفعوا له هذا الكلب، ثم بعد ذلك أمر بإطلاقه، وأن يجعل الكلب قرينه.
قد يقول البعض لم هذا؟ فأقول: ما رأيك لو ظفر المسلمون بـ رادوفان كرادينش، أو أمثاله ممن فعلوا الأفاعيل بالمسلمين، هل يصلح لهم إلا مثل هذه المعاملة، وأن يهانوا ويذلوا ويذاقوا ألوان الهوان، على أذيتهم للمسلمين.(62/44)
أنس بن النضر
قال أنس بن النضر: وقد ذكرت خبره قبل قليل -[[الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد]] قال سعد ٌ: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدناه قد قتل، ووجدنا به بضعةً وثمانين ضربةً بسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد مُثِّل به، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه، قال أنس: فكنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] .(62/45)
بسر بن أرطأة
روى أبو الحجاج المزي الحافظ الشهير وغيره، بأسانيد عن إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن العلاء بن سفيان، قال: غزا بسر بن أرطأه الروم، فجعلت ساقته لا تزال تصاب، كلما بعث أحداً أصيب، فيكمن لهم الكمين فيصاب، فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم، فإذا براذين مربوطة، نحو ثلاثين برذوناً، وإذا الكنيسة في جانبهم، فيها فرسان تلك البراذين قد تخفوا، وكانوا يعقبونه في ساقته، فنزل عن فرسه فربطه، ثم دخل الكنيسة، فأغلق الباب على نفسه وعليهم، ثم جعلت الروم تتعجب من هذا الفعل، فما استقلوا إلى رماحهم ووصلوا إليها، حتى كان قد قتل منهم ثلاثة، ففقده أصحابه، فطلبوه وبحثوا عنه، فأتوا فعرفوا فرسه، ثم سمعوا الجلبة في الكنيسة، فإذا بابها مغلق، فقلعوا بعض السقف ونزلوا عليهم، وإذا بسر رضي الله عنه ممسكٌ بطائفة من أمعائه في يده، حيث طعنوه في بطنه، وإذا السيف باليد الأخرى، فلما تمكن أصحابه من الكنيسة سقط مغشياً عليه، فأقبلوا عليهم، فأسروا منهم من أسروا، وقتلوا من قتلوا، فأقبلت عليهم النصارى، فقالت: ننشدكم الله، من هذا الرجل؟ قالوا: هذا بسر بن أرطأة قالوا: والله ما ولدت النساء مثله، فعمدوا إلى أمعائه، فردوها في جوفه، لم ينخرط منها شيء، ثم عصبوه وحملوه وعالجوه حتى عوفي.(62/46)
رسائل إلى صناع الموت(62/47)
ثالثاً: التحرر من سيطرة الحرب النفسية
لابد من التحرر من سيطرة الحرب النفسية التي يشنها أعداء الإسلام، ليصوروا لك أن الطرق كلها مسدودة، وأن الأبواب كلها مغلقة، وأنه لم يعد أمام المسلمين إلا الاستسلام، كلا! والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] .
المقاييس المادية وحدها لا تكفي، يقول أحد الإخوة في سؤال بعث به إليَّ: كيف يمكن أن يقاتل المسلمون وهم قلة وعدوهم كثير؟ يا أخي: لو أردنا أن نجعل المقاييس المادية دائماً هي الفيصل لنا، لم نصنع شيئاً قط، حتى الدعوة، لو نظرنا في مجال الدعوة، لوجدنا إن إمكانيات المسلمين قليلة، وفي مجال الاقتصاد، وفي المجالات العسكرية أيضاً.
إنه يجب أن نعلم أن المسلمين يقاتلون بقوة الله سبحانه وتعالى، الذي يمدهم بالنصر، وينزل عليهم الملائكة، ويمنحهم الصبر متى صدقوا وأخلصوا وجاهدوا في سبيله، ثم إن عليهم مع ذلك أن يبذلوا وسعهم، ويتخذوا كافة الأسباب، ويعدوا العدة، كما أمر الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] قد يقول البعض: أقل عدة نستطيعها تكفي،
الجواب
لا.
يجب أن نعد العدة التي تصدق قول ربنا تبارك وتعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] لا بد أن يعد المسلمون العدة التي ترهب عدوهم وتخيفهم، حتى من وراء البحار والأمصار والأقطار.
نعم الرسول يقول: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} العدو الآن يرهب المسلمين ويخافهم ويقلق منهم، وينصبهم عدواً مختاراً مستقبلياً، والمسلمون أهلٌ لهذه المواقف، وأهلٌ لهذه العداوة، لكن عليهم أن يجمعوا أمرهم، وأن يوحدوا صفهم، ويتحرروا من سيطرة الحرب النفسية، ويدركوا أنهم يستطيعون أن يعملوا حتى من حيث العدد.
يا أخي! الآن الإحصائية تقول: المسلمون مليار إنسان، لو فرضنا أنه صح وصفا لنا من هذا الرقم (10%) أو حتى (1%) يكفينا من المسلمين الصادقين.(62/48)
رابعاً: ضرورة استنفار الطاقات البشرية
هذا العدد الكبير الذي يشكل خمس الكرة الأرضية من المسلمين يجب أن يحرر، يجب ألا نسمح لمسلم أن يظل حيادياً في المعركة الكبرى مع الكفر، المعركة الفاصلة بين الإسلام وخصومه من اليهود والنصارى ومن يقف في صفهم؛ يجب ألا نسمح لمسلم أن يظل محايداً، أو معتزلاً، أو بعيداً، أو منفصلاً، يجب أن نجر المسلمين بكافة الطرق والأسباب إلى أن يعوا دينهم، ويتحمسوا له، ويدركوا خطط الأعداء، ويشاركوا في معركة الإسلام الكبرى.
استنفار الطاقات البشرية بالدعم المادي، وبالتبرع، وبالدعاء، وبتبني القضايا إعلامياً، وبالنزول للميدان، وبالمشاركة، وبالدعوة، وبأي سبيل يمكن أن يساهم فيه الإنسان.(62/49)
خامساً: ضرورة التعبئة العامة للمسلمين
إن هناك قنواتٍ كثيرة تساهم في تخدير المسلمين وشغلهم عن معاركهم الحقيقية، فالكرة تساهم في ذلك، والتلفاز يساهم في ذلك، والإعلام يحاول أن يشغل الناس عن معركتهم الحقيقية، فيجب أن يكون في المقابل تعبئة عامة، يتولاها رجال الإسلام ودعاته، وخطباء المساجد، وأهل العلم، وأهل الدعوة، وأهل الإصلاح من خلال المنابر، ومن خلال الصحف والمجلات، والكتب، والأشرطة، والدروس والمجالس، أن يتولوا تدريس الناس كتاب الجهاد، وآيات الجهاد، وأحاديث الجهاد، وأحكام الجهاد، وآداب الجهاد، وأن ينفخوا في نفوسهم روح الشجاعة والكرامة، والجهاد ليس معناه الجهاد بالسيف فحسب، الجهاد يكون بالقرآن، الجهاد بالعلم، الجهاد بالدعوة، الجهاد بالأمر بالمعروف، والجهاد بالسيف هو ذروة سنام الإسلام.(62/50)
سادساً: ضرورة الترفع عن الأحقاد والمصالح الشخصية والضغائن الذاتية
فالجهاد كله ثأر، ولكن لله تعالى، وغضب ولكن لدينه.
سأثأر لكن لربٍ ودين وأمضي على سنتي في يقين فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين فلا يجوز أبداً، أن يتلطخ بشيء من أوضار الدنيا، أو مقاصدها، أو حظوظها، فإن ذلك مما يقلل شأنه ويذهب ثمرته.(62/51)
سابعاً: ضرورة اليقظة
إنكم صناع الموت، فلا يجوز أن يتحول الموت إلى نومٍ عميق.
جاء معاوية بن خديج رضي الله عنه، يبشر عمر بفتح بلاد الإسكندرية، في وقت القيلولة، فهم أن يطرق الباب، ثم تركه وذهب إلى المسجد، فعلم عمر رضي الله عنه فقال أين معاوية؟ ألم أسمع أنه قدم؟ قالوا: بلى هو في المسجد قال: علي به مالك يـ ابن خديج؟ قال: يا أمير المؤمنين، ظننت أنك قائل أي ظننت أنك نائم، فضحك عمر وقال: هيهات! إن نمت بالنهار ضيعت رعيتي، وإن نمتُ في الليل ضيعت نفسي.
لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه هم يكاد حشاه يحطم الضلعا إن النوم أخو الموت، فعليك يا صانع الموت أن تتحلى باليقظة، حتى تكون صانعاً حقيقياً، عليك أن تتحلى باليقظة، فتدري ماذا يخطط لك أعداؤك، وماذا يريدون، إنهم كما -كان يقول عز الدين القسام رحمه الله تعالى في خطبته الشهيرة-: "يريدون أن يأخذوا منك دينك ومالك وعرضك وبلدك ويجعلوك بلا شيء، أسيراً بين أيديهم، خادماً ذليلاً مطيعاً لهم، فعليك أن تغضب لربك ودينك، فإن لم تفعل فعليك أن تغضب لأمتك ولنفسك ولمستقبلك، ولتاريخك.(62/52)
أولاً: نزع فتيل الخوف
قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] انزع فتيل الوهم من عقلك وقلبك، انزل للميدان لتكتشف الحقيقة، أنك تستطيع أن تصنع الكثير، وأن الخوف سترٌ رقيق، إذا خرقه الإنسان لم يعد يخافُ إلا الله جل وعلا، وما أذل الناس ومنعهم من العمل الجاد والدعوة والجهاد والصبر إلا الخوف.(62/53)
ثانياً: وحدة الصف
قال الله جل وتعالى للمقاتلين: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] فلا يغوينكم الشيطان، فيشعركم بأن التفرق لا بد منه، وأن الاجتماع مستحيل، وأن الآراء شتى، إنه يجرح القلب كثيراً أن تسمع -مثلاً- أن المسلمين في كشمير، يقاتلون تحت أكثر من أربعين حزباً إسلامياً، بلدٌ إسلاميٌ قليل صغير محدود، يواجه دولة كبرى كالهند، سكانها بمئات الملايين، تملك السلاح النووي، وتملك الدعم الدولي، ومع ذلك لم يفلح المسلمون أن يوحدوا صفهم وكلمتهم على قيادةٍ واحدةٍ راشدة، تقودهم إلى بر الأمان والنجاح والنصر.(62/54)
قضية الاختلاط
هاهنا قضية، حدثني عنها كثير من الإخوة خلال هذه الأسبوع والذي قبله، وهي قضية محلية، لكن لا بأس أن نشير إليها، وهي قضية تواجد أعداد كبيرة من النساء والأسر والعوائل على الخط الدائري الشرقي تحت الأضواء والأنوار، وبصورة متزاحمة، بعضهم قريبٌ من بعض، ويوجد كثير من الشباب والفتيات، وقد يحصل ألوان من الاختلاط والمخالفات التي تحتاج إلى تنبيه وإلى تحرك.
هذا الأمر أتاني من عدد من الإخوة الذين رأوه عياناً وشاهدوه، بل ذهبتُ بنفسي، وشاهدتُ جزءاً من ذلك كما ذكروا ووصفوا، يتطلب منا تحركاً سريعاً على كافة المستويات: أولاً: أدعو الإخوة الشباب إلى أن يذهبوا إلى ذلك المكان مجموعات، اثنين وثلاثة، ويمروا على الناس، فيسلموا عليهم، ويوزعوا عليهم الكتب والأشرطة، أحياناً لا يحتاج الأمر إلى كلام، ذلك الإنسان الذي قد حرك الجهاز على أغنية لا يحتاج إلى أن تقول له: وقف الأغنية، بمجرد أن تسلم عليه وتعطيه شريطاً أو كتاباً سوف يعرف الرسالة ويدرك ويستحي ويقدر، وثق ثقة تامة أنه سوف يستبدل شريط الغناء بالشريط الذي أعطيته ووضعته في يده، وقد لا يحتاج الأمر إلى أكثر من ذلك، ثم إن وجود هذا العنصر من الشباب المتدين سوف يكون ضمانة وحماية من أن يتطور الأمر إلى صورة أشد مما هو عليه في واقع الحال الآن ثم القيام بإنكار المنكرات التي يظهر للإنسان أنها، لا تزال مع محاولة استخدام الأساليب الهادئة والبعيدة عن الإثارة، فإذا تكرر المنكر، فيمكن أن يسعى الإنسان في إزالته بقدر المستطاع.
ثانياً: على الإخوة القائمين في الهيئات، أن يكون لهم وجود ولو رمزياً في هذه المواقع، حتى يُطمأن، إلى أنه لا توجد منكرات علانية، ولا يلزم أن يباشروا مع الشباب بصورة دائمة.
ثالثاً: على أولياء الأمور الذين يذهبون إلى هناك أن يختاروا لأهلهم المكان المناسب، ليس ضرورياً أن يذهب الإنسان إلى مكان مزدحم فيه الشباب المراهقون، وفيه الأصوات، وفيه العلاقات، وقد يذهب الأب وينشغل، أو يكون بعيداً، وتبقى البنات، ويحدث من جراء ذلك اختلاط وعلاقات وتبادل أوراق ورسائل وغير ذلك، وربما يكون همسٌ وكلامٌ وحديث وأمور يجر إليها الشيطان، ومع ثقتنا بالشباب، فإننا لا نثق بالشيطان الذي يؤزهم ويحرضهم.
رابعاً: على الدعاة والخطباء معالجة هذا الأمر وغيره، مثلما يجري في الحديقة المجاورة للمركز الحضاري، حيث يوجد لون من الاختلاط، يحتاج إلى عناية وإلى أن يذهب الشباب، حتى لو ذهب الشاب بزوجته محجبة ومصونة، ومعها بعض الأشرطة وبعض الكتيبات، فوزعت ودعت وأمرت ونهت؛ لأننا جربنا أن الشكوى لا تفيد ولا تجدي في كثير من الأحيان، وربما تبوء بالفشل، وربما يكون هناك اعتبارات كثيرة.
إذاً ينبغي أن ننزل إلى الميدان كما ذكرنا، ونساهم في إنكار المنكر، وبصورة مباشرة، وبطريقة لبقة تجعلنا نكسب أمرين معاً، نكسب الناس بحسن ظنهم وحسن تصورهم، ونكسب إزالة المنكر، وأعتقد أن بعض هذه الأشياء تنفع حتى في إزالة المنكرات العامة والقضاء عليها.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(62/55)
حديث الهجرة
تحدث الشيخ عن قصة الهجرة (الحدث الكبير) مبتدئاً بهجرته عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر الصديق، وتحول دار الهجرة إلى المدينة بدلاً عن الحبشة، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم لأرضه ووطنه مكرها، ثم تعرض لانتصار الدعوة وطول عمرها وقوتها على مر الزمن، وأن الإسلام يصلح للناس كافة وله مستقبل زاهر، ثم تكلم عن قصة ذات النطاقين، والزواج بعائشة، وحرص الصديق على بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم حياً، وامتلاك الدعاة للعمال، ودور المرأة في الدعوة، ثم تحدث عن الدين والأرض وأن الوطنية تكون للأرض التي يسود فيها الإسلام، وتعرض لأهمية السياحة للدعوة، ثم تطرق إلى دليل الهجرة وأهمية اختيار الأقل عداوة عند الضرورة، وتعليم المسلمين حتى يكون منهم خبراء في كل المجالات، ثم تكلم عن الجنة وازدراء كل شيء من أجلها، ثم نبه على أهمية النية الصالحة، وتوجيه الدعوة إلى كل الناس، وشمولية الإسلام.
وختم بذكر التاريخ الهجري.(63/1)
الشوق إلى التذاكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الأحبة الكرام: هذه الكلمة، تنعقد في الجامع الكبير بينبع في هذه الليلة -ليلة الثلاثاء- الثالث والعشرين من شهر الله المحرم من سنة 1414هـ وهي بعنوان حديث الهجرة.
أيها الإخوة: جئت إليكم تحفزني الأشواق إلى اللقاء بكم واللقاء بأهل هذا البلد الكريم شيوخاً، وشباباً، والتمتع برؤيتهم، ومجالستهم، ومؤانستهم، والحديث إليهم، لم آتكم متحدثاً أيها الأحبة، ولا لأقول لكم كلاماً تسمعونه لأول مرة، فإن ما عندي بضاعة مزجاة، ولكنني أتيت معبراً عن أطيب المشاعر تجاهكم.
إنها ليلة من الأنس فاضت بمعاني الإخاء بين القلوب والتقت أعين على غير ميعاد كلقيا الحبيب وجه الحبيب فلكم أجمل التحية مني وسلام لكل عبد منيب ينبع المجد من عيون تروي ظمأ الأرض بالندى والطيوب إن حديثي إليكم ينتظم عدة موضوعات.(63/2)
جلالة الهجرة النبوية
ثانياً: الحدث الكبير: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40] .
هذا الموكب المتواضع، الذي لا يزيد على ثلاثة أفراد، أحدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والثاني صاحبه في الغار، الذي خلد الله ذكره، ورفع قدره، فأشار إليه في القرآن {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} [التوبة:40] .
والثالث: دليلهم عبد الله بن أريقط، هذا الموكب المتواضع، قد وقف التاريخ كله مشدوهاً، متجهاً، قبالة هذا الموكب، يرقبه، وينظره، ويسجل أحداثه لحظة فلحظة، وساعة فساعة، إنه موكب كبير مهيب، لقد نسي الناس كل الأحداث الكبرى، والمعاصرة لذلك الحدث، فنسوا المعارك الطاحنة، ونسوا الدول الكبيرة، ونسوا التغيرات الجذرية التي طرأت على أمم الأرض، وحضارتها، ليرقبوا ويدوّنوا ويسجّلوا في ذاكرتهم هذا الحدث، وهذا الخبر، خبر ذلك الشريد الطريد الذي غادر مكة فغير التاريخ بإذن الله العزيز الحكيم.
يا طريداً ملأ الدنيا اسمه وغدا لحناً على كل الشفاه وغدت سيرته أنشودة يتلقاها رواة عن رواه ليت شعري هل درى من طاردوا عابدو اللات وأتباع مناه هل درت من طاردته أنها أمة معبودها شاهت وشاه طاردت في الغار من بوأها سؤدداً لا يبلغ النجم مداه طاردت في البيد من شاد لها دينه في الأرض جاهاً أي جاه سؤدد عالي الذرا ما ساده قيصر يوماً ولا كسرى بناه إن حديث القرآن عن الهجرة، جاء على لب القصة وأصلها، واستوعب أحداثها بهذه الكلمات اليسيرة، وهذه الآية التي ذكرت خبره صلى الله عليه وسلم منذ أن آذن الله تعالى بنصره، فأخرجه الذين كفروا، نعم أخرجوه لينصره الله عز وجل إلى أن أوى إلى الذين آووه ونصروه، فقالوا: تعال يا رسول الله إلى حيث العزة والمنعة.(63/3)
رواية الإمام البخاري لحادث الهجرة
وكل روايات السيرة النبوية، وأحداثها، وقصصها، لا تعدو أن تكون تفصيلاً لما أجمل في القرآن الكريم، ولهذا فلا حرج علي وأنا أحدثكم اليوم خبر ذلك الموكب الكريم العظيم، لنقف ملياً عند دروسه، وعبره، وأحداثه، فلنستمع إلى رواية واحدة فقط -رواية الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه لهذا الحدث: {عن عائشة رضي الله عنها قالت أم المؤمنين: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة، وعشياً فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، فلقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في أرض الله، وأعبد ربي عز وجل، قال له ابن الدغنة: يا أبا بكر إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق -رجل بهذه الصفات لا يخرج من بلده، ولا ينبغي أن يخرج، وأمة تلفظ أمثال هؤلاء الكبراء، الفضلاء، أهل التقوى، والعلم، والمجد، والإيثار، أمة قد تودِّع منها، ولهذا أدرك هذا الجاهلي بحسه أن مثل ذلك غلط، لا يجوز أن يكون، فمثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج- ارجع واعبد ربك ببلدك، وأنا لك جار، أحميك ممن أراد بك سوءاً، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف في أشراف قريش وفي نواديهم يقول لهم: إن أبا بكر لا يخرج! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! أنا له جار، فلم تكذب قريش بجواره، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره -فليصل في بيته- ويقرأ ما شاء من القرآن، ولكن لا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا} .
لقد رجعت قريش خطوة واحدة إلى الوراء، وقالوا: نقبل الآن مضطرين أن يسلم أبو بكر، وأن يظل مقيماً في قريش، ولكننا لا نريده أن يدعو إلى دينه، ولا أن يستعلن به، والخوف ما هو؟ الفتنة (نخشى أن يفتن نساءنا، وأبناءنا) فقال ذلك ابن الدغنة لـ أبي بكر رضى الله عنه {فلبث أبو بكر مستخفياً يعبد ربه عز وجل في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير بيته، ثم بدا لـ أبي بكر فابتنى مسجداً في فناء الدار بالساحة المحيطة بمنزله، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن ويجهر به، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاءً لا يملك عينه إذا قرأ القرآن} كأنما كانت قريش تقرأ الذي سيقع ويحدث فعلاً، كان الناس ينقذفون إلى أبي بكر، لأن لهذا القرآن سلطاناً على القلوب، ولأن لدعوة الحق سلطاناً على النفوس، والفطرة تستجيب لها، وتتجاوب معها، فحصل ما خافوا وخشوا، ولذلك أفزعهم هذا: {فذهبوا إلى ابن الدغنة، وقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد تجاوز ذلك، وابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا على نسائنا وأبنائنا فانهه عن ذلك، فإن أحب أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فاسأله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: لقد علمت الذي عاقدت لك عليه -أنت تعرف يا أبا بكر ما هو العقد والعهد الذي بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فقال له: أبو بكر -رضى الله عنه-: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار ربي عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ كان مقيماً بمكة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لأصحابه: إني رأيت دار هجرتكم -وقد يكون رآها في المنام، عليه الصلاة والسلام، أو في غير ذلك -هي أرض ذات نخل بين لا بتين} أي: حرتين وهي الحجارة السود التي تحيط بالمدينة فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة الصحابة الذين كانوا هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- للرحيل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {على رسلك -انتظر- فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: نعم.
قال: فحبس أبو بكر نفسه على ذلك، حتى يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- وهو علف معروف للمواشي، أربعة أشهر وهو يعلفها} .
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: {فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، -إذاً في الأمر جديد- فقال أبو بكر: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ -أي: ما جاء بك إلا أمر- قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: أخرج مَن عندك -مَن عنده من زوجته وبناته وأولاده- فقال له: إنما هم أهلك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله -أتأذن لي أن أصحبك، وأرافقك في هذا المسير قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم} .
وهنا يقول ابن إسحاق: قالت عائشة رضي الله عنها: {فوالله ما علمت أن أحداً كان يبكي من غلبة الفرح إلا يومئذٍ} فإن أبا بكر رضي الله عنه بكى من غلبة الفرح عليه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح لأنه سوف يصحبه في رحلة المخاطر حيث العالم كله يحاربهم، ويرميهم عن قوس واحدة، وحيث تضع قريش جائزة ضخمة لمن يأتي برءوسهم، أو يأتي بهم أحياءً أو أمواتاً.
{الصحبة يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! هذه إحدى راحلتي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
آخذها بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن جهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بـ ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكانوا فيه ثلاثة أيام يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي: ذكي حاذق فطن- فيدلج من عندهما بالليل في السحر آخر الليل، فيصبح مع قريش بمكة، كما لو كان قد بات بمكة ليلته كلها، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا رجع وأخبرهما به، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر غنمهما، ثم يريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو اللبن- ويخبرهما عبد الله بن أبي بكر بالخبر، وتمشي الغنم على جرته فتمحوها، ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط وكان هادياً، خريتاً -أي: بصيراً بالطريق- وقد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وكان على دين كفار قريش، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد أمناه، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فلما أصبحوا الليلة الثالثة، انطلق معهما عامر هو والدليل فأخذ بهم طريق الساحل} حتى وصلوا إلى المدينة.(63/4)
النقلة البعيدة
لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة البلد التي نشأ فيها، وأحبها، وعرف فضلها، ولذلك خرج عليه الصلاة والسلام وقلبه يلتفت إلى تلك البقاع الطيبة الطاهرة، فلما غادرها وقف بالحزورة، وهو مكان قريب من البيت العتيق، ثم التفت إلى مكة، وقال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عدي بن الحمراء، وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيطيب الرب عز وجل قلبه، ويدله على أنه خرج من مكة اليوم شريداً طريداً، وسوف يعود إليها غداً فاتحاً منصوراً مظفراً: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] قال المفسرون: في هذه الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف يعود إلى مكة قاهراً لأعدائه، منتصراً عليهم، وهذا قول الأكثرين كما قال القرطبي: وهو مذهب جابر، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وغيرهم من المفسرين {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: مرجعك إلى مكة مرة أخرى، كما خرجت منها، وقيل المعنى: لرادك إلى الجنة، وقيل المعنى: لمتوفيك بعدما تستوفي عمرك في هذه الدنيا.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مكرهاً، بسبب الحصار على دعوته، وبسبب المضايقة لأصحابه، وعاد إليها بعد ثمان سنوات فحسب، عاد إليها في كتيبة خضراء من المهاجرين والأنصار، لا يرى منهم إلا حدق العيون، يُفَدُّون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، وآبائهم، وأمهاتهم: كذبتم وبيت الله نُبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل نعم جاء نصر الله والفتح، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، كما وعد ربه عز وجل وفي هذا وقفة:(63/5)
بشائر النصر تبرق يوم الأحزاب
ومثل هذا تماماً ما حدث يوم الأحزاب، حين جاءت الأحزاب من كل مكان، وتحالفت كل القوى العظمى في ذلك الوقت على المسلمين.
والمسلمون كانوا قلة في المدينة، وحوصروا حصاراً اقتصادياً وعسكرياً، وظن الناس بالله الظنون، وارتاب المنافقون، حتى قال قائلهم: الواحد منا لا يستطيع أن يذهب في قضاء حاجته، ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر.
وهنا تأتي البشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الصخرة، وبرقت قال: أضيئت لي قصور بصرى، وقصور صنعاء، فأخبر أصحابه أن آية النصر تتجلى في هذا الموقف الذي تحالف الناس فيه ضد الدعوة، إنهم لم يتحالفوا ضدها إلا لأنها تملك القوة، وتملك التهديد، وتملك المستقبل، ثم جاء الوعد من الرب عز وجل: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] .
إن الحاجة ماسة في أوقات الضعف -ضعف المسلمين- وتكالب أعدائهم عليهم، ووجود ألوان مما يظنه الناس هزائم تعانيها الأمة الإسلامية في أكثر من موقع، إنهم أحوج ما يكونون إلى تأكيد ثقتهم بوعد ربهم، ويكفي أن تتلى عليهم آيات الله عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] .(63/6)
عمر الإسلام
أما هذا الدين فقد مضى عليه اليوم ألف وأربعمائة سنة، وعدد المتحمسين لهذا الدين في ازدياد، انظر إلى عدد رواد المساجد، تجد أن العدد يزداد يوماً بعد يوم، بل انظر إلى عدد الذين يدخلون في الدين، تجد قبائل بأكملها من الوثنيين، أو النصارى، في أفريقيا، وإندونيسيا، أو غيرها من بلاد الله تدخل في دين الله عز وجل ليس فقط أولئك الذين لا يملكون العلم هم الذين يدخلون في الدين، بل حتى في أرقى مراكز العلم، في أوروبا، وفي أمريكا، أطباء، وعلماء، وخبراء، وساسة، على أعلى المستويات، يعلنون دخولهم في الدين.
وسفير ألمانيا في بلاد المغرب، خير مثال على ذلك (هوفمان) الذي أخرج كتابه الجديد الشهير: الإسلام هو البديل، والذي تكلم فيه عن انهيار الحضارة الغربية، وقدم فيها النموذج الإسلامي، كبديل عن تلك الحضارة الزائلة الآيلة للانهيار.
ومثله عدد من سفراء الدول الغربية، وعدد من رجالتها، وساستها، وعلمائها، وخبرائها، يعلنون دخولهم في هذا الدين، إذ أن هذا الدين هو دين الله عز وجل وهذا سر المعجزة، فهو يصلح للأعرابي في صحرائه، كما يصلح للطبيب في مختبره أو عيادته، كما يصلح للسياسي في أروقته، كما يصلح للرجل في معمله، كما يصلح للمرأة في عقر دارها، إنه الدين الذي يلائم عقول الجميع ونظراتهم، ويلبي كل مطالبهم الفطرية الجبلية.
إن أولئك الفتية الذين تخرجوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من صحرائهم لأول مرة، لا يزالون معلماً تتخرج على ضوئه الأجيال بعد الأجيال، لقد جعل منهم الوحي رجالاً خير من عرف الناس، ومشى الدين فيهم مشي العافية في المريض المضنى المقعد، وفي لمحة بصر تحولوا من رعاة الشاء والغنم، إلى قادة العصور وسادة الأمم، تحولوا إلى فرسان النهار رهبان الليل، تسمع بالليل بكاءهم بالقرآن كدوي النحل، وتسمع بالنهار صليل سيوفهم، كما قال الشاعر: مشى الوحي فيهم مشية البرء في الضنى فأي فتى من سحره غير طافح فطاروا إلى الدنيا بدين محمد وقد فتحوا الدنيا كلمحة لامح كأن الرياح الذاريات مطيهم يلفون وجه الأرض لف الوشائح تجوز بهم رمضاء كل تنوفة سوابح خيل تهتدي بسوابح ففي كل بر منهم زحفُ زاحفِ وفي كل يمٍّ منهم سبحُ سابح كأن دوي النحل مثل دويهم إذا ارتفعت أصواتهم بالفواتح يجول بهم إسلامهم كل جولة ويلقي بهم إيمانهم في الطوائح فما الموت في الإيمان مرٌ مذاقه ولا الحتف في الإسلام صعب الجوائح فقادوا على أرماحهم كل مصعب وراضوا على أسيافهم كل جامح فلا قيصر يزهو على الشام تاجه ولا تاج كسرى كالنجوم اللوامح تناثرت التيجان تحت خيولهم وأهوى على أقدامهم كل طامع فأين عيون الحق تشهد أمة تئن أنين الطير من كل ذابح تعالت فطاحت فاستكانت فأصبحت لإذلالها يلهو بها كل مازح فلا ملكها في الأرض مشتبك العرى ولا عيشها في الناس عيش الصحائح على مثلها من ذلة بعد عزة تفيض جفون بالدموع السوافح فهل صيحة في العرب تبعث ملكهم ألا ربما هبوا لصيحة صائح إن هذه المسافة التاريخية الهائلة التي قطعها الإسلام وهو يكتسب في كل يوم مواقع جديدة، وانتصارات جديدة، على رغم الضعف الذي ألم بأهله، وحملته، إن ذلك كفيل بأن يطمئن القلوب، ويهدئ النفوس، ويقطع للناس جميعاً أن المستقبل لهذا الدين اليوم، كما كان له المستقبل بالأمس، وأن كلمة الله تعالى ماضية على الناس في هذا الزمان، كما هي ماضية في كل زمان، وأن الله تعالى قال في محكم التنزيل: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] .(63/7)
قصة سراقة بن مالك في الهجرة ودلالتها
إن مما يجدر ذكره ما رواه سفيان عن أبي موسى عن الحسن، وهو حديث مرسل، وقد ذكره الحافظ ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما من أهل السير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لحقه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، يبحث عن أعطية قريش وهديتها لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخت قوائم فرسه في الأرض، فبعد ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد طلب كتاب الأمان: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟! فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟! قال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم كسرى بن هرمز -وحدث هذا فعلاً- فجاءت التيجان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أين سراقة؟ فجيء به، فأخذ التاج بيده، وألبسه سراقة، وقال: الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز، وألبسها أعرابياً من بني مدلج} إنها أحلام الأمس، ولكنها حقائق اليوم وقد جاءت القصة في الأصل في صحيح البخاري: {أن سراقة طلب من النبي صلى الله عليه وسلم كتاب أمان فكتبه له} .
إنها الثقة بالله عز وجل ووعده بمستقبل هذا الدين في غمرة الأحداث، وفي أشد الأوقات، وأعظم الأزمات، فقد كان الناس يعتقدون أنه ربما يقبض على هذا النبي الكريم في أي مكان، وينتهي تاريخ الدين، ولكن الأمر عند الله تعالى كان على غير ذلك.(63/8)
صمود الإسلام أمام المحن
إن دعوة الإسلام دعوة تاريخية، عمرها طويل، ولم يكن انتصارها ذلك الانتصار الموقوت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل انتصار الأبد وانتصار الدهر، وعلى رغم مضي ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة على دعوة الإسلام، على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنها تظل طيلة هذه السنين قائمة، قوية، تصارع العوادي، وتقاوم الأحداث.
وهاهو الإسلام اليوم في قلب أوروبا، يقض مضاجع الغربيين، فيتواطئون ضد حفنة من أبناء الإسلام في أرض البوسنة، ويسلمونهم إلى عدوهم بلا سلاح، على رغم أن وسائل الإعلام الغربية كلها: مسموعها، ومرئيها، تعرض صباح مساء، لتلك الجرائم البشعة، وهذه المآسي المفجعة، وهذه الوجوه التي قد أمضتها الجراح والآلام، مآسي الكبار، مآسي العجزة، والشيوخ، والنساء، والأطفال، مآسي الجوع، والفقر، والمرض، ومع ذلك كله يتواطأ هؤلاء ضد حفنة من أبناء الإسلام، وأوليائه، لماذ1؟! إنهم لا يتآمرون ويتحالفون إلا على الأقوياء، أما الضعاف فيمكن هزيمتهم بأقل من ذلك، نعم يكفي قوة للإسلام أن بلداً نائياً كذلك البلد، لم يكن جمهور الناس يعرفون أن فيها مسلمين أصلاً، ولا يدرون أن فيها مساجد تاريخية أعمارها أحياناً تزيد على ستمائة أو سبعمائة سنة، وأن فيها ملايين من أهل لا إله إلا الله، وإن كان حيل بينهم وبين معرفة حقيقتها في كثير من الوقت.
يكفي في قوة الإسلام أن قوماً كهؤلاء عزلاً من كل سلاح، يظلون على ما يزيد على عشرين شهراً يقاومون رابع جيش في العالم، مدججاً بأقوى الأسلحة، وهم يواجهون الرصاص بصدور عارية، ويصبرون على رغم اللأواء التي لم يكن أحد يتوقع أن يصبروا عليها شهراً، أو بضعة أسابيع.(63/9)
الإسلام في الجمهوريات السوفيتية
وها هو الإسلام في جمهوريات آسيا الوسطى اليوم ينبعث من وسط الركام، بعد أن ظن الظانون أنه قد انطمس وانتهى، وإذا المسلمون في طاجكستان، أو أوزبكستان، أو سمرقند، أو بخارا، أو وادي أفرغانة، وفي تلك المدن التي عرفها التاريخ، وخرجت أكابر العلماء، في الحديث والتفسير، والفقه، واللغة، والبلاغة، وغيرها، إذا بتلك البلاد التي تحن من جديد إلى دينها، وترجع إلى أصولها، وإذا بالمآذن ترتفع في سمائها، وإذا بصوت التكبير يعلو في أجوائها، وإذا بالحجرات السرية تستطيع بضعفها أن تقاوم كيد الشيوعية الذي استمر أكثر من سبعين سنة.
نعم.
لقد حفظت تلك الحجرات للشباب إيمانهم، وعقيدتهم، بل ولغتهم، والبارحة كان معي أحد الشباب من مدينة سمرقند، فإذا به يتكلم العربية بطلاقة، وهو حديث عهد بهذه البلاد، فسألته كيف عرفت اللغة العربية؟ قال: تعرفتها وتعلمتها من شيخي الذي كان يدرسني في الحجرات، وكم لبثت في الحجرات؟ قال: أكثر من ثلاث سنوات.
نعم.
لقد درس العقيدة الصحيحة، من كتب السلف، ودرس الفقه، ودرس اللغة العربية، ودرس أصول الإسلام، في الحجرات، التي ربما يظل الطالب فيها ثلاث سنوات، دون انقطاع وسط ركام من المخاوف، من أجهزة المخابرات الـ K.
G.
B التي تملك أكثر من ثلاثة ملايين عنصر من أولئك الرجال، الذين دربوا على أنه لا كرامة لأحد، وأنهم مستعدون أن يبطشوا بأقرب قريب، ومع ذلك ظل الإسلام يتأبى على محاولات الصهر والإزالة والسحق، فإذا أتيحت له أية فرصة ظهر من جديد أقوى ما كان.(63/10)
عمر الدعوات الباطلة
إن أعمار الحركات الأيدلوجية البشرية الأرضية، أو الدعوات العلمانية، التي يختلقها الناس، مهما طالت فهي قصيرة، فالشيوعية -مثلاً- لم تزد في عمرها على سبعين سنة، ولم يشفع لها أن تكون تملك ما يزيد على ثلاثمائة ألف رأس نووي، أو ثلاثة ملايين عنصر أمني، أو أكثر من هذا العدد من رجال الجيش، أو تملك الأجهزة المتطورة في مجال التسليح وغيره، لم يشفع لها ذلك كله، لأنها، كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.
أما الرأسمالية وريثة الشيوعية، والتي أخذت تركتها من بعدها، والتي تهيمن على العالم الغربي، فهي تعاني اليوم من الأزمات والأعراض نفسها، أزمات الاقتصاد التي سقطت بسببها الشيوعية، تنتقل اليوم إلى الغرب، في أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والصين، واليابان، وغيرها، فهي تعاني من أعراض الكساد، والتضخم، والبطالة، وغير ذلك من الأمراض التي تفتك بها، وتوشك أن تكشف عوارها.
فكل الدعوات البشرية العلمانية، والشيوعية، والرأسمالية، والقومية، والاشتراكية، كلها دعوات بشرية لا تملك أنبياء، ولا تملك أولياء، ولا تملك عمراً، تقاتل عشر سنوات، أو عشرين، أو أقل من مائة سنة، ولكنها بعد ذلك تنتهي، وتنمحي، وتنقل إلى مزبلة التاريخ.(63/11)
دور الصدِّّيق وأهل بيته في الهجرة
بيت الصديق: إنه بيت أبي بكر رضي الله عنه فهو، وزوجه، وولده، ذكورهم وإناثهم، كلهم مجاهدون في الدعوة، مستميتون في حماية النبي عليه صلوات الله تعالى وتسليمه.
روى أحمد والحاكم وابن إسحاق بسند جيد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: {لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله، وكان ماله ستة آلاف دينار، فأخذه أبو بكر رضي الله عنه كله، فدخل عليهم أبو قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه وكان شيخاً كبيراً فقد بصره من العمى فدخل عليهم، وقال لهم: والله إني لأرى أبا بكر قد فجعكم بماله، كما فجعكم بنفسه -فذهب بنفسه وذهب بما يملك من المال، وهو يتوجع ويتألم من هذه الحال- فقالت له أسماء: كلا يا أبت! لقد ترك لنا أبو بكر خيراً كثيراً، فقال: أريني، فأخذت أحجاراً ووضعتها في الكوة، ووضعت عليها ثوباً، وأمسكت بيده وقالت: انظر، فلما لمس هذه الحجارة ظنها ذهباً وفضة قد تركها أبو بكر لأولاده، فقال: لئن كان ترك لكم ذلك فقد ترك لكم خيراً كثيراً} نعم هذه الروح التضامنية من أسماء رضي الله عنها تريد أن تطيب خاطر جدها، وتقنعه بأن والدها ترك خيراً كثيراً، فتلجأ إلى هذه الحيلة، وهذه التورية، التي ظن بها أنه قد ترك لهم ذهباً وفضة وإنما ترك لهم الله ورسوله.
أسماء نفسها كانت تسمى ذات النطاقين، وقد عُير بها عبد الله بن الزبير فقال: وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها كيف تعير بأنك ابن ذات النطاقين؟ أتدري لم سميت بهذا الاسم؟ لأنها لم تجد شيئاً تشد به سفرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا نطاقها التي تتحزم به، فشقته إلى نصفين، تمنطقت بأحدهما وشدت السفرة بالآخر فسميت بهذا الاسم.(63/12)
إخلاص النية
ثامناً: الهجرة والنية: ربطت السنة النبوية بين النية والهجرة: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الخ} وهو متفق عليه من حديث عمر، وكذلك الحديث الآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} ذهبت الهجرة، وبقيت النية، وبقى الجهاد، وهذا دليل على أهمية النية فيما يعمل وفيما يترك.
أما فيما يعمل فإن الإنسان بحاجة إلى أن يصحح نيته وقصده في عبادته، وفي دعوته، وفي جهاده، وفي هجرته، وفي كل عمل، فإنما الأعمال بالنيات، ومن هاجر للدنيا، أو للمرأة، أو للمغنم، أو للوظيفة، أو للشهرة، فليس له من ذلك كله إلا ما نال من حطام الدنيا وعاجلها.
أهمية النية فيما عجز عنه الإنسان، فإذا عجزت عن شيء فليعلم الله تعالى من قبلك أنك تنوي القيام به متى قدرت على ذلك، وأنك تشتاق إليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من لم يغز أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق} إذا لم تستطع أن تجاهد، فليمر الجهاد على قلبك أو خاطرك وضميرك، ولتشتق إلى الجهاد، وتتطلع إليه، ولتنوِ أن تقوم به يوماً من الدهر إذا تيسرت الأسباب وفتحت الأبواب: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راحا إن العبد قد يبلغ بنيته وقصده وسلامة قلبه درجة الصائم القائم، والهجرة أيضاً باقية إلى قيام الساعة، وإنما الهجرة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مضت، هي تلك الهجرة الفاضلة التي يسمي بها أصحابها فيقال: المهاجرون والأنصار، أما الهجرة فإنها لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو، ما دام العدو يقاتل، ما قوتل الكفار، كما جاء في أحاديث عدة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(63/13)
المدينة تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
تاسعاً: مشهد من المدينة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وفرح الناس به رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، وطفقوا يتحدثون في البيوت وفي الشوارع: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء من فالمدينة كل شيء، ولما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظلم من المدينة كل شيء.
نعم قدم النبي صلى الله عليه وسلم فتسامع الناس به، وخرج عبد الله بن سلام وكان يهودياً فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمن الناس فقال: {فلما استثبت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: يا أيها الناس! أطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} .
هاهنا عبر، أولاً: (عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب) ما أحوجنا إلى الداعية الذي يتفق ظاهره وباطنه، وسره وعلانيته، ويصدق الله تعالى في قوله وفعله، فإذا رآه الناس أشاروا بأيديهم، وعرفوا وقرءوا بعيونهم أن وجه هذا الإنسان ليس بوجه كذاب، ليس من أهل الدنيا، وليس من أهل العاجل، وليس من المزورين وليس من الممثلين، وإنما هو صاحب كلمة وصاحب دعوة يتحرك بها قلبه فيفيض بها لسانه، وها هنا تكون الاستجابة ويكون القبول.
ثانياً: الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس كلهم، المدينة فيها اليهود ثلاث قبائل، ولابد من دعوتهم، فيدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستجيب منهم من يستجيب ويرفض أكثرهم، ولكن كان عبد الله بن سلام ممن أسلم، وذكره الله تعالى في كتابه أنه الرجل من بني إسرائيل الذي آمن وشهد على مثله، كما في بعض الروايات وأقوال كثيرٍ من المفسرين، وأسلم غيره من اليهود أيضاً، وكفر أكثرهم، لكن منهم من أسلم.
فنأخذ من ذلك أن المجموعات التي توجد في أوساط المسلمين، يجب توجيه الدعوة إليهم، يوجد النصارى، ويوجد الهندوس، ويوجد اليهود، ويوجد أصناف الكفار، هذا من جهة؛ كما أنه يوجد من بين المسلمين أنفسهم أهل البدع، يوجد الشيعة الرافضة، ويوجد الإسماعيلية، ويوجد الصوفية، وتوجد طوائف كثيرة، ومن المؤسف جداً أنه يشيع في بعض الأوساط أنه لا فائدة في هؤلاء، لا يسلمون فيدخلوا في الدين، وكذلك أهل البدع لا يعودون إلى السنة.
وهذه في الواقع إشاعة خطيرة، لأنها تخدم أولئك القوم أكثر مما تخدم مذهب الحق، بل يجب أن يكون عند صاحب مذهب الحق ثقة بما يحمل، وما يدعو إليه، وأنه لا أحد يجوز أن تحجب عنه الدعوة، بل يجب أن يدعى كل أحد بقدر المستطاع، فإن استجاب فالحمد لله، وإن لم يستجب فقد قامت الحجة عليه.
يجب أن تدعوا هؤلاء جميعاً خاصة أولئك الذين يملكون اللغة، ويستطيعون أن يخاطبوهم، وخاصة أيضاً أولئك الذين يعايشونهم في أعمالهم، ومقار وظائفهم، وصناعتهم، وأسواقهم، وغير ذلك، وأيضاً تلك المراكز والمكاتب التي تحمل على عاتقها دعوة الجاليات إلى الإسلام.
أما أهل البدع بين المسلمين، فيجب أيضاً توجيه الدعوة إليهم، ويجب أن تكون دعوة بصبر، وسعة بال، وطول نفس، وهدوء في الكلمة، وصبر عليهم، لأن هؤلاء القوم قد يكونون تشبعوا من معلومات خاطئة عن الإسلام والمسلمين، وامتلأت عقولهم بمفاهيم مضللة، وسلطت عليهم أجهزة إعلامية كثيرة، فأنت بحاجة إلى أن تنقض هذا شيئاً فشيئاً، ولو أنك اتخذت موقفاً صارماً من البداية، لكنت بذلك تصدق ما قاله عنك الأعداء، وتؤكد لهؤلاء أن من الضروري أن يبتعدوا عن الإسلام، وألا يقبلوه بحال، إذاً فليكن تسللك إلى قلوبهم بصبر ولطف، وأدب، وتواضع، وطول نفس، ومالا يتم اليوم يمكن أن يتم غداً، وإذا لم تستطع أن تنقلهم من دينهم إلى الإسلام، فلا أقل من أن تشككهم في دينهم، وقد يأتي يومٌ لداعية آخر فيحقق ما عجزت عنه أنت، وإذا لم يكن هذا فلا أقل من أن تقلل حماسهم فيضعف ويفتر، ويتحولوا من دعاة متحمسين إلى أفراد عاديين، وهذا أيضاً هو مكسب نسبي ينبغي أن تراعيه.
إنه ليس هناك خدمة لأهل تلك الأديان أعظم من أن يشيع بين المسلمين وطلبة العلم والدعاة أن هذه الفئة من الكفار، أو أن هذه الفئة من المبتدعة، لا يقبلون الحق، ولا يذعنون له، إذاً لا أمل في دعوتهم.
وقفة ثالثة مع حديث عبد الله بن سلام، وهي أن مبادئ الإسلام العظيمة هي مبادئ شمولية، وكما هي شمولية في المدعويين هي أيضاً شمولية في حقيقة الدعوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هاجر ليقيم دولة، وهاجر ليرفع راية الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهاجر ليجمع كلمة المسلمين على الحق، وجعل المدينة منطلقاً وعاصمة للإسلام، وفي الوقت نفسه هذا لم يلهه أو ينسه صلى الله عليه وسلم وحاشاه في أول كلمة أو خطبة عن أن يأمر الناس بإطعام الطعام، والإحسان إلى الآخرين، وصلة الأرحام، والقيام بحقوق الأقارب والجيران، وغيرهم والصلاة بالليل والناس نيام؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وبين الله جل وتعالى.
فينبغي أن نقدم للناس دعوة الإسلام بشمولها، بكمالها، ومن الخطورة بمكان أن نقدم للناس جزءاً من الدين على أنه هو الدين كله، فنقدم لهم مثلاً برنامجاً سياسياً وإسلامياً على أن هذا هو الإسلام كله، وهذا خطأ، أو نقدم لهم برنامجاً أخلاقياً فنحدثهم عن صلة الرحم، أو حقوق الجار، أو بر الوالدين، ونصور لهم أن هذا هو الدين كله، ونسلخ من الإسلام تلك المعاني العظيمة الكلية الشمولية، لسبب أو لآخر.
إن دين الله عز وجل كل لا يتجزأ، ولا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه، فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يقدموا الدين للناس كاملاً غير منقوص، وهذا لا يمنع بحال أن تتخصص فئة منهم في شيء، ويتخصص غيرهم في غيره.(63/14)
سلعة الله غالية
سابعاً سلعة الله غالية: لقد عرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك: إن كنت تريد ملكا ملكناك، ولكنه صلى الله عليه وسلم رفض؛ لأنه لم يكن طالب ملك، وإلا لقبل عرض قريش، واستطاع بحنكته، وحكمته، وأخلاقه عليه الصلاة والسلام توجيه قبائل العرب، وتوحيدها تحت لوائه، لكنه لم يكن مصلحاً قومياً، ولا زعيماً دنيوياً، ولا حاكماً وطنياً، وإنما كان رسول رب العالمين.
إن أصحاب العقائد، وأهل المثل، ورجال القيم، ورجال الدعوة، يزدرون حطام الدنيا، ومتاعها، وينظرون نظرة شفقة ورثاء، لأولئك الذين يلهثون ورائها، نعم هم جبلوا كغيرهم على ما زين للناس: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] ولكنهم يأسرهم هذا بهذا الحب، بل آثروا الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، وهذا واحد منهم يهم بالجهاد فتمسك به زوجه: إلى من تتركنا؟ أين تذهب وتدعنا؟ فيقول: يا بنت عمي كتاب الله أخرجني كرهاً وهل أمنعن الله ما فعلا فإن رجعت فرب الكون يرجعني وإن لحقت بربي فابتغي بدلا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني أو ضارعاً من ضنى لم يستطع حولاً أنا لست بأعرج ولا أعمى ولا مريض حتى أعذر بل أنا قادر، فلابد أن أخرج، فإن ذهبت فابتغي بدلاً عني، وإن بقيت فهذا من الله عز وجل، نعم! إن أهل الدين وأهل الدعوة لا ينظرون إلى الدنيا إلا كما ينظرون إلى الفراش الذي يجلسون عليه أو كما ينظرون إلى الدآبة التي يركبونها، فهم يستخدمونها ولا يخدمونها، أصغر ما يكون في عيونهم المال، والجاه، والشهرة، والسلطة، والمنصب، والكرسي، كلها لا تعد بالنظر إليهم شيئاً.
وقف الإمام ابن تيمية -رحمه الله- أمام حاكم من الحكام، وشي به إليه وقيل له: إن ابن تيمية ينافسك على الملك، وإنه يخطط لقلب نظام الحكم، فقال له ابن تيمية: أنا أريد ملكك، والله إن ملكك وملك التتر لا يساوي عندي فلساً، أنا رجل ملة ولست رجل دولة! نعم! العالم والداعية متوج بتاج لا يقبل العزل أبداً، ولايته ربانية لا تقبل العزل، فهو مبلغ وموقع عن رب العالمين، كما ذكر الإمام ابن القيم، ومترجم عن الله تعالى كما ذكر القرافي وغيره، ومفتٍ يتكلم بالكتاب والسنة، والناس يطيعونه من هذا المنطلق، فولايته ولاية شرعية لا تقبل العزل، ولا الإقصاء، ولا الإبعاد، ولا التغيير، ولا التبديل، وهو يرضى بهذا، فلا ينظر إلى متاع الدنيا إلا نظرة ازدراء واحتقار.
أما مرضى القلوب الذين تعلقوا بالدنيا، واتخذوا من الدين أو من الدعوة، أو من التمسح بالإسلام، ذريعة إلى مثل هذا، فهم لا شك فئة لا يخلو منها زمان ولا مكان، ولكن الحق أبلج، والباطل لجلج، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأمر الله تعالى غالب، فإن الله تعالى لا يكتب البقاء والاستمرار والفضل، إلا لمن يعلم أنهم لذلك أهل، أما الذين يريدون الدنيا فقد يعطيهم الله تعالى بعض ما يريدون في الدنيا، ثم يكون مصيرهم النار: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18-19] .
لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وحيداً شريداً، لأنه يعرض عقيدة التوحيد: {يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} لم يكن بينه وبينهم إلا هذا الأمر، ما قال لهم يوماً من الأيام: إني أريد دنياكم، أو أريد أموالكم، أو أريد شيئاً من هذا، إنما دعاهم إلى كلمة واحدة، وإنما هم لفوا وداروا وأجرموا، وقالوا: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] محمد يقول شيئاً ويريد غيره، يريد السلطة، ويريد الملك: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] وكما قال فرعون من قبل عن موسى وهارون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] إنما رفع النبي صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة، كلمة التوحيد، وكان يبحث عمن يقبلها، وحتى أولئك الذين عرضها عليهم ما عرضها ملفوفة بطابع الدنيا، ما قال لهم: اقبلوا الدين وسوف تنصرون وتصبحون سادة وملوكاًً وأعزة! لا، وإنما قال لهم: اقبلوا الدين ولكم الجنة، بايعهم على هذا فقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.
وإنما جاء الوعد وعداً عاماً لا يخص أولئك الأفراد الذين بايعوا، ولا يخص تلك الطائفة بعينها وذاتها، وقد مات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مات، ولم يأخذ من أجره شيئاً كما مات مصعب بن عمير لم يأخذ من أجره شيئاً، حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه، إلا قميصاً إذا وضعوه على رأسه ظهرت رجلاه، وإذا وضعوه على رجليه ظهر رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه وأن يضعوا على رجليه من الإذخر!(63/15)
تأهيل الخبرات الإسلامية والاستعانة بالكفار بشروط
سادساً: من هو الدليل؟ نعم: إن دليل الهجرة هو عبد الله بن أريقط كما أسلفت، وكان على دين أهل الجاهلية، ولا أشك أنه لو كان ثمة مسلم عارف بالطريق، بصيرٌ به، ملائم للمهمة، لاختاره النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اختاره لأنه كما ذكرت الرواية (خريت) بصيرٌ بالطريق، ومع ذلك كان رجلاً مأموناً أمنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن خبرة ودراية وممارسة، وعرف أنه لا يفشي سراً، ولا يخضع للترهيب والترغيب، ولا يستجيب لتلك الأعطيات التي وضعتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دلالات لابد من مراعاتها: أولها: أن الكفار وإن كانوا في الجملة أعداء لنا كما ذكر الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إلا أنهم مع ذلك يتفاوتون في حجم عداوتهم، وقد يوجد من بينهم أفراد، أو جماعات قليلة، أو جمعيات، أو فئات خاصة، لا تحمل في ذاتها حقداً معيناً على الإسلام والمسلمين، بل قد تكون متعاطفة مع الإسلام، أو مستعدة لسماع الدعوة أو قبول كلمة الحق، ومن هؤلاء من يسلم بعد حين كما نعرفه في أعداد غفيرة ممن أسلموا ونشرت قصصهم في كتب عدة منها كتاب: رجال ونساء أسلموا، وكتاب: لماذا أسلمنا، وكتاب لماذا أسلم هؤلاء؟ ومنها مجموعة من الرسائل المختلفة في هذا الجانب.
نعم يوجد من الكفار من لا يحمل حقداً على الإسلام، ومن يكون لديه استعداد لقبول الدعوة، ولهذا يجب أن نختار عند الضرورة من بين الكفار، فنختار إذا اضطررنا للتعامل معهم، أخفهم عداوة، وأقلهم شراً، وأبعدهم عن التعصب لدينه أو الحقد والعداوة على الإسلام والمسلمين.
إنني أعلم أن من بين المسلمين من رؤساء الشركات وغيرها، من يأتون بهندوس متعصبين معروفين في البلاد التي جاءوا منها بالحقد على المسلمين، أو إقامة المعابد والكنائس لأهل دينهم، أو جمع التبرعات أو تنظيم صفوف الهندوس، ومع ذلك يؤتى بهم إلى بلاد المسلمين، ويمكنون من أموال المسلمين، وقد يوضع تحت أحدهم عدد كبير من العاملين يكونون تحت سيطرته وتصرفه.
إنه لابد عند الضرورة القصوى، حينما نجد أننا أمام أحوال لابد منها، في حاجة إلى خبرات غير المسلمين، أن نختار الأقل عداوة، وأن نعمل أيضاً في المقابل على أن نستغل التناقضات الموجودة بين الكفار، وأن نضرب بعضهم ببعض، وأن نقيم سوق المنافسة فيما بينهم على أسواقنا، ومصانعنا، وبضائعنا، وفرصنا، سواء كانت فرصاً اقتصادية، أم خبرات، أم غير ذلك من ألوان الأعمال والمجالات التي نقول أحياناً: إننا محتاجون فيها إلى هؤلاء.
ثم إنه لا بأس أن نستفيد من بعضهم في هذه الحدود فيما لا يمكن أن نجده عند غيرهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر: فإن هذا يؤكد على أهمية تحصيل الخبرة عند المسلمين، فما الذي أحوجنا إلى الخبير الكافر أياً كانت خبراته، زراعية اقتصادية سياسية إدارية اجتماعية علمية في أي مجال من المجالات؟ إن الذي أحوجنا إلى خبرته هو فقد الخبرة عند المسلمين، ولذلك لابد من بناء الخبرة الإسلامية، لابد من العمل على إيجاد تصنيع إسلامي يخرج من بلاد المسلمين، ينبت في بلاد المسلمين، لا يحتاجون فيه إلى أعدائهم، ومن الخطورة بمكان، أن ننقل الخبراء فنظل جهالاً محتاجين إليهم، بل أخطر من ذلك، أن ننقل المصانع بأكملها، وبعمالها، وموظفيها، وخبرائها، وإداريها، فلا نكون إلا كأننا استأجرناها لتكون فقط في بلاد المسلمين، فلابد من بناء التصنيع المسلم، ولابد أن يحمل أهل الخبرة على عواتقهم السعي إلى كسب هذه العلوم، ونقلها إلى بلاد المسلمين وتطويرها، ومثل ذلك يقال في كل مجالات الحياة.
وهذا يتطلب أمرين: الأول: الدراسة لو احتجنا إلى دراستها في بعض مراكز علمهم أو جامعاتهم.
الأمر الثاني: هو الخبرة العملية، فإن هناك ألواناً من أمور الحياة لا يمكن أن تنفع فيها الخبرة النظرية، بل لابد من الخبرة العملية، وكيف يمكن تحصيل هذه الخبرة؟ لا يمكن تحصيلها إلا من خلال التجارب الواقعية.
فالمسلمون محتاجون يقيناً إلى أن ينزلوا للميدان، فيتعلموا فن الإدارة عملياً، وفن الاقتصاد عملياً، والتصنيع عملياً، وفن إدارة الأفراد عملياً، ويتعلموا طريقة كل عمل من الأعمال التي يحتاجها الناس بصورة عملية.
إننا كثيراً ما نطرح أن الإسلام هو الحل، وهذا صحيح، فالإسلام هو الحل، لكننا نعلم أن هذا الإسلام هو حل بواسطة أوليائه الذين يقدمونه للناس، ولو شاء الله تعالى لأنزل ملائكة، ولكنه أراد بحكمته عز وجل أن يقوم البشر بهذه المهمة.
إذاً فالإسلام هو الحل من خلال الخبرة العملية وإنني لأعجب أشد العجب من مسلمين يحولون بين من يريد أن يكسب الخبرة وبين مواقعه العملية التي من خلالها يكتسب الخبرة، ولو ظل الإنسان مائة سنة يدرب على طرق الإدارة نظرياً فقط ما استطاع أن ينجح فيها عملياً، فلابد أن ينزل لميدان العمل حتى يكسب الخبرة.
ومع الأسف أقول: يوجد في بعض بلاد الإسلام، حفنة قليلة من البعثيين، ومع ذلك يستطيعون أن يديروا دولة بأكملها لو أتيحت لهم الفرصة، فإذا دخلوا ميدان الانتخابات كما يقال، فازوا بأربعة مقاعد أو خمسة، وبالمقابل قد يوجد أعداد غفيرة من المسلمين والمتعاطفين مع الإسلام يعدون بالملايين؛ وإذا خاضوا الانتخابات ربما ظفروا بمقاعد كثيرة، وأنتم تعلمون سلفاً أن جبهة كجبهة الإنقاذ فازت بأكثر من ثمانين بالمائة من الأصوات، ومع ذلك يأتي السؤال إلى أي مدى يملك أولياء الإسلام الخبرة العملية التي تضمن بإذن الله تعالى نجاحهم في محك الاختبار؟! إنه من الخطورة بمكان أن يجرب الناس أولياء الإسلام في ميدان من الميادين، فيدركوا أنهم فشلوا، فشلوا في إنعاش الاقتصاد مثلاً، أو فشلوا في القضاء على البطالة، أو فشلوا في تطوير التعليم، أو فشلوا في أي جانب من الجوانب التي تتعلق بواقع الناس وحياتهم، وحينئذٍ ستكون فرصة لأعداء هذا الدين ليقولوا للناس: إن هؤلاء القوم لا يملكون إلا الشعارات والألفاظ، أما الواقع العملي فليسوا منه في شيء.(63/16)
تعلق الداعية بدينه وأرضه
خامساً: الدين والأرض: إن الهجرة هي مهاجرة الأرض التي أقام فيها الإنسان، ونشأ فيها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة: {إنك لخير البلاد وأحب البلاد إلى الله} فإن من طبيعة الإنسان أن يحب بلده ووطنه ويرتبط به، فذكريات الطفولة، والصبا، والأقارب، والعلاقات، والتاريخ، كله في هذا البلد الذي عاش فيه الإنسان، ولذلك هو نقطة ضعف يأتي منها الشيطان إلى الإنسان، وطالما تحدث أولئك الأدباء والشعراء عن ارتباطهم بوطنهم ارتباطاً قد يصل أحياناً إلى درجة العبودية: وحبب أوطان الشباب إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ عهود الصبا فيها فحنو لذلكا بل يقول شاعر مسلم: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا نعم هذا الشاعر اسمه أحمد، وهو يعلن محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمتدح المسلمين، ولكن يصل به التقليد الجاهلي إلى حد أن يخاطب وطنه أنه يدير وجهه إليه قبل أن يديره إلى البيت العتيق، نعم إن محبة الوطن نقطة ضعف أحياناً يستغلها الشيطان، فهو يأتي إلى الإنسان بعدما أسلم وهم بالهجرة، كما في حديث صبرة بن الفاكة، وهو عند النسائي وأحمد وسنده صحيح: {يأتيه الشيطان فهو يقول له: تهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس تقيده بالحبل} يقول: المهاجر مأسور لا أقارب له، ولا علاقات، ولا صداقات، ولا مبني ولا سكن، ولا وظيفة، ولا مرتب، ولا تاريخ، فهو منبت الجذور منقطع، لا علاقة بذلك البلد الذي هاجر إليه، فكيف تهاجر لتكون مثل الفرس المربوط بحبل لا يستطيع أن ينفلت منه؟! {أما المؤمن فيعصي الشيطان ويهاجر إلى الله عز وجل، فإذا هاجر ومات في الطريق، كان حقاً على الله عز وجل أن يرضيه} قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:58-59] .
لقد أراد رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر، فمنعه أهله، وحبسوه، فمرض واشتد به المرض، فأشفق عليه أهله، وقالوا له: ماذا تريد؟ تريد طعاماً، شراباً، طبيباً؟ ولكنه لا يستطيع الكلام ولكنه يشير بيده صوب المدينة وهو بمكة، أو يشير برأسه صوب المدينة، يقول: لا أريد شيئاً، كل مطلبي أن تأذنوا لي أن أخرج للوجه الذي أردت، فقد اختصرت الهموم عنده كلها في هم واحد، وهو الدعوة إلى الله وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله تعالى، فأشفق عليه أهله فأخرجوه من مكة، فلما كان بعد مكة على مسافة بضعة أمتار، قبضت روحه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية الكريمة.
نعم إن النعرة الجاهلية قد تسمي التعلق بالوطن وطنية، وهو شعار خادع طالما رفعه كثير من العلمانيين ليخدعوا به الناس، ويصوروا لهم أنهم هم أولياء الوطن، وهم المدافعون عن حقوق الوطن، وهم الحريصون على مستقبل الوطن، وهم الذين يعملون على وحدة الصف، واستقرار الاقتصاد، وعلى حفظ كل مكتسبات بلادهم، يصورون هذا الأمر خلال قصائدهم، وكتبهم، وشعاراتهم البراقة التي يرفعونها بمناسبة وبغير مناسبة.
أما المفهوم الشرعي الصحيح للوطنية، فهو أن الإنسان لا يلام على محبة بلده، فهذه أمور فطرية طبيعية، لا تحمد ولا تذم بذاتها، وحديث: "حب الوطن من الإيمان" الذي يردده البعض هو ليس بحديث في الحقيقة، وإنما يظنه البعض حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والواقع أنه لا أصل له، أما الوطن فيحبه الإنسان لهذا الاعتبار، ولكن وطن المسلم الحقيقي هو الذي يهيمن عليه الإسلام، ولو حالت الحدود الجغرافية، أو السياسية، أو الطبيعية، إذ لا يعتبر الإنسان وطنه الذي ولد فيه، أو عاش فيه، وإن كان محارباً للدين، أو بعيداً عن الشريعة، ولهذا يهاجر المسلمون حتى من مكة نفسها إلى الحبشة، إلى الطائف، إلى المدينة، إلى كل بلد في الدنيا، يهاجرون ويبحثون عن النصرة والإيواء، ويبحثون عن مكسب لهذه الدعوة ولهذا الدين.
الجهاد الذي يرفع، ليس ذوداً عن تراب الوطن، فإن تراب الوطن لا يجوز أن يتخذ وثناً يتعبد ويمسح كما قال قائلهم: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا كلا! إنه قد يكون الوطن وثناً يعبد من دون الله عز وجل أحياناً، حينما يختصر الإنسان أهدافه بالدنيا في هذا الوطن، لا يهمه أن تكون راية هذا الوطن علمانية، أو قومية، أو اشتراكية، أو بعثية، المهم عنده هو التراب، ماذا صنع الذين يقاتلون من أجل زيتون يافا، وماذا صنع أولئك الذين يقاتلون من أجل تراب صحرائهم؟! وماذا صنع أولئك الذين يمتدحون بتاريخ جاهلي في عهد الإغريق، أو الآشوريين، أو الفينيقيين، أو الرومان، أو غيرهم؟! إنهم لم يصنعوا لأوطانهم أي مكسب حقيقي، الجهاد إنما يكون في سبيل الله عز وجل، والوطن الذي يقاتل دونه المسلم ويحرص عليه هو الوطن الذي تقام فيه شريعة الله، ويرفع فيه نداء الأذان، وتقام فيه المساجد، ويتواصى الناس فيه بالحق، وبالصبر، وتقوم فيه الدعوة إلى الله عز وجل، وتقوم العلاقة بين أفراده على أساس الدين الذي وحد أهله وجمع كلمتهم.
إن الارتباط بالأرض والتعلق بها، لا يبيح للإنسان أبداً أن يترك السياحة في سبيل الله، السياحة للجهاد: {سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله} السياحة للدعوة.
أيها الأحبة: نعلم جميعاً أن هناك من يجلس في بلد غربي، كأمريكا، أو بريطانيا -مثلاً- أكثر من اثنى عشرة سنة، حتى يحصل على شهادة الماجستير، ثم الدكتوراه، في أي تخصص، وهذا قد يكون حاجة للمسلمين في بلادهم في أي بلد كان، وقد يكون ضرورة لا مخلص منها بسبب تفريط المسلمين في تحصيل العلوم، وإقامة المراكز العلمية، والجامعات التي تستقبل المواهب والطلاب وتخرجهم، ونعلم أنه قد يوجد في تلك البلاد وغيرها من استقر استقراراً أبدياً بقصد التجارة؛ لأن فرص التجارة أعظم وأوسع من فرص التجارة في بلاده الأصلية، ونعلم أن هناك من يجثو عشر سنوات أو أكثر في تلك البلاد لأنه يقتعد وظيفةً تقتضي بقاءه هناك، كل هذا يُفعل، فهل تعلمون أن هناك من جلس مثل هذه السنوات أو أقل منها أو أكثر في بلد حتى ولو كان بلداً إسلامياً، ولكن غير البلد الذي نشأ فيه، وقامت فيه علاقاته وارتباطاته هل تعلمون من جلس مثل هذه المدة بهدف الدعوة إلى الله عز وجل؟! بل أقول أهون من ذلك: كم عدد الذين يبدون استعدادهم لقضاء عشرة أيام فقط في الإجازة في أي بلد إسلامي من أجل الدعوة إلى الله؟ أو من أجل التطبيب والعلاج؟ أو من أجل الإغاثة الإنسانية؟ أو من أجل لون من ألوان المساعدة المادية أو المعنوية للمسلمين المنكوبين في أي بلد كان فوق أي أرض وتحت أي سماء؟ بل أتنازل أكثر من ذلك وأسأل: كم عدد الذين يبدون استعدادهم لقضاء عشرة أيام في جولة وعظية داخل بلدهم؟ يخرجون فيها عن حدود إقليمهم، أو منطقتهم، ليقوموا بالدعوة ويزوروا طلبة العلم، ويجلسوا إلى القضاة، ويرتادوا المساجد والمراكز، وحلق العلم، ويجلسوا إلى أهل الخير، وينشروا الكتاب، ويوزعوا الشريط، ويقولوا كلمة الحق، ويأمروا الناس بالمعروف وينهوا الناس عن المنكر؟ كم عدد المستعدين لأن يقوموا بجهد كهذا عشرة أيام فقط خلال إجازة طويلة؟ إننا نستقبل اليوم هذه الإجازة، وأنا أقرأ اليوم وأتصفح الجرائد، فإذا بنا نقرأ إعلانات كثيرة عن فرص تعلنها مدن ترفيهية، أو شركات، أو وكالات سفر، أو غيرها تعلنها لإتاحة الفرصة لسفر الصغار، والكبار، والأطفال، والأسر والعوائل، إلى مركز الترفيه في فرنسا، أو غيرها من بلاد الغرب، أو حتى من بلاد العرب والمسلمين، وأن هناك كافة التسهيلات لمثل هذا العمل، حتى إنه يوجد فنادق في بريطانيا وغيرها مخصصة لاستقبال الأطفال، حتى يتمكن أهلهم من وضعهم في تلك الفنادق، ثم ينطلقون على راحتهم حيث شاءوا بعيداً عن صخب الأطفال وضجيجهم، ثم يستقبل هؤلاء الأطفال منصرون يعلمونهم اللغة، ويربونهم على غير دين الإسلام.
نعلم أن هناك تسهيلات كثيرة لمثل هذا العمل، ونعلم يقيناً أن هناك من أبناء المسلمين من ينخدع بهذه الدعايات، أو يستجيبون لها فهل يستجيب الخيرون والصلحاء للدعوات إلى القيام بجهد مقابل هدفه الدعوة إلى الله، هدفه الإصلاح، هدفه محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أبناء المجتمع؟!(63/17)
رابطة الصحبة في طريق الدعوة
إنها دلالة كبيرة على أهمية العاطفة القلبية في الدعوة إلى الله عز وجل؛ فالدعوة، والعلاقة بين الدعاة والمدعوين، بل بين الدعاة بعضهم بعضاً، ليست علاقة رسمية وظيفية، بل هي علاقة ود وحب متبادل، علاقة قلوب يهفو بعضها إلى بعض، ويحن بعضها إلى بعض، ويرتبط بعضها ببعض، بأوثق الروابط، وأعظم العلائق، إنها علاقة الحب في الله عز وجل ورابطة الصحبة في طريق الدعوة إليه، ولهذا بكى أبو بكر رضي الله عنه في مواقع عدة، منها بكاؤه لما علم أنه سيظفر بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق الخطر.
وظل أبو بكر طيلة عمره وفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحب له، حتى أحبه أكثر من نفسه، وأهله، وولده، ووالده، والناس أجمعين، ولقد جاء أبو بكر بعدما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصيب أعظم مصابه، فرفع الثوب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قبله بين عينيه وبكى، وقال: (طبت حياً وميتاً بأبي أنت وأمي يا رسول الله) صلى الله عليه وسلم.
لقد تحدث القرآن الكريم عن شعور أبي بكر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] إذاً ما هو الشعور الذي كان يصاحب أبا بكر، ويُحتاج إلى دفعه؟ إنه ليس شعوراً بالخوف على نفسه، أو أن يقع في أيدي الطلب، كلا! إنما هو شعور الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدعوة التي يحملها، ولهذا طمأنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فدين الله تعالى منصور، ودعوته قائمة، والمستقبل بإذنه تعالى مضمون، ولهذا يا أبا بكر، ويا كل داعية إلى دين الله عز وجل بصدق! لا تحزن، فالدين دين الله عز وجل والدعوة دعوته، وهو المتكفل بها سبحانه، وما علي وعليك إلا أن نبذل من جهدنا، وعرقنا، ووقتنا، وسهرنا، وما لنا، وكل ما نملك لهذا الدين، حتى نكون من جند الله المخلصين.
ولقد توج أبو بكر رضي الله عنه هذه العلاقة العاطفية الحميمة العميقة، توجها بتزويج عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد خطبها إليه النبي صلى الله عليه وسلم فتعجب أبو بكر وقال: إنما أنا أخوك} كما في صحيح البخاري، وكأني بـ أبي بكر رضي الله عنه يرى أن علاقة الود، والمحبة، وعمق الصلة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى من كل روابط الدنيا، ومن كل العلاقات التي يعرفها الناس من القرابة، أو النسب، أو الزواج، أو الصهر، أو نحو ذلك، فيقول له: {إنما أنا أخوك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في دين الله تعالى وكتابه، وهي لي حلال، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم} هذه واحدة.(63/18)
أهمية تأمين الداعية لبيته
إن ذلك دليل على أهمية تأمين البيت في الدعوة، بالقيام على الأهل، والأقارب، كما أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] إن هذا القيام حتى على الوالد، على الزوج، على الأخ، على الأخت، على الابن، على القريب، على كل ذي نسب، أو سبب، أو قرب، أو جوار، هذا القيام ليس بممارسة التسلط بغير حق، كلا! بل بالصبر عليهم، والجهد لهم، وأداء الحقوق الشرعية الواجبة لهم، من بر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى الزوج، والعطف على الصغير، والرحمة له، والإحسان إلى الكبير، والعناية بالأولاد، بتربيتهم ورعايتهم وتوجيههم، وبذل المعروف لهم، وبذلك يستطيع الإنسان أن يقوم بواجبه لدعوتهم.
أما أن يكون علقم مع أقاربه فهو لا يصبر على والديه، بل يتذمر منهما، ويرفع صوته عليهما، أو لا يصبر على زوجته، بل قد يثور عليها لسبب أو لغير سبب، ويزمجر، وقد يغضب عليها، أو يهجرها، وربما ألقى عليها يمين الطلاق بمثل تلك الأسباب، وربما اعتدى على أولاده، فهو يعاملهم بقسوة ويغلظ لهم في القول والفعل، ولا يصبر على أي خطأ يبدر منهم، لا شك أن هؤلاء ليسوا من الأخيار، لأن الأقربين أولى بالمعروف، وإذا كنت تملك خلقاً جميلاً مع البعيد، فأولى أن تتحلى بهذا الخلق مع القريب، وليست القضية قضية مجاملة، أو تزين وتصنع للناس، بقدر ما هو أدب شرعي ربانا الله تعالى عليه، وأوجب علينا أن نحرص على أداء الحق لكل ذي حق، ولا شك أن حق القريب أباً، أو أخاً، أو زوجةً، أو أختاً، أو ابناً، أنه أعظم وأشمل من حق البعيد.(63/19)
أهمية المال للدعوة
ثالثاً: دليل على أهمية جمع المال، وتثميره، وإنفاقه أو إنفاق بعضه في سبيل الله عز وجل إنه ليس ضربة لازب أن يكون أولياء الدعوة وأهل الخير والصلاح ورواد المساجد وعمار حلق الذكر، أن يكونوا دائماً من الفقراء المحاويج، ولو أن المسلمين في أي مكان من الأرض، الذين يجاهدون في إقامة دينهم، وإحياء شريعة ربهم، ومنازلة عدوهم، لو أنهم كانوا يمسكون بأزمة الاقتصاد، أو يملكون الشركات الكبرى، أو حتى بعضها، أو يستحوذون على رؤوس الأموال، لما استطاع أحد أن يقف في طريقهم، لأنه لا أحد يقبل أن يهاجر التجار، أو تهاجر رؤوس الأموال، أو تقوض الشركات التي منها يأكل الناس، ومنها يلبسون، ومنها يركبون، وهي قوام حياتهم وعيشهم، إذاً لو أن المسلمين أمسكوا بأزمة الاقتصاد في بلادهم، لما استطاع أحد أياً كان، أن يقف في وجوههم، فهل نعي ذلك جيداً؟! إن ذلك يبدو من الموقف الذي وقفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقد كان غنياً، ثرياً، تاجراً شهيراً في قريش، كما يبدو من وجه آخر من تلك الأعطية القرشية الجزلة التي وضعتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أدركوا فعلاً أهمية المال أيضاً في شراء الضمائر، وتغيير العقول والقلوب، ومحاولة صد الناس عن الإسلام.
وقد قال المنافقون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] .
إن المنافق فاسد الطبع، خرب الضمير، ضيق الأفق، فهو ينظر إلى الدنيا كلها بل إلى الحياة من منظار المادة والدرهم والدينار، فيظن أن الشح على المؤمنين، أو أن ترك الإنفاق عليهم، أو أن حرمانهم من الطعام والشراب والكساء، يعني أن ينفضوا عن دعوتهم، أو يتخلوا عنها، لأن المنافق ينظر إلى الحياة بعين طبعه، فالمال عنده كل شيء، وهو سر الوجود، وسر العظمة، وسر القوة، وهو يعتقد أن الناس يجتمعون على الريال، وينصرفون من أجله.(63/20)
دور المرأة في الدعوة
رابعاً: دليل على عظم دور المرأة في الدعوة، إن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ذات النطاقين، هي نموذج للفتاة الملتزمة، التي تسارع إلى الإيمان، حتى يستقر الإيمان في قلبها، ثم لا ترضى أن تقعد في بيتها بعيداً عن المشاركة في الدعوة، والقيام بالتكاليف الشرعية التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله، ويقتضيها العمل لهذا الدين، بل تنطلق لتقوم بتلك المهمة التي لا يستطيع أن يقوم بها الرجال، إما لأنها مهمة نسائية، وإما لأن المرأة أقدر على القيام بها، وإما لغير ذلك من الأسباب، وكم قامت امرأة بأعمال جليلة لا يطيقها أشداء الرجال! إننا اليوم -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- أمام أعداد متزايدة من الفتيات المتدينات الصالحات، تسمع بأخبارهن المشجعة المفرحة في المدارس، أو تسمع بها في البيوت، أو تسمع بها في الوظائف، أو تسمع بها في قطاع من القطاعات الاجتماعية، وأنت تجد على هذه الفتاه سيما الالتزام، فهي محجبة أفضل ما يكون الحجاب، بعيدة عن مزاحمة الرجال ومخالطتهم، تغض بصرها، وتخفض صوتها، وتبتعد عن الخضوع بالقول، أو عما حرم الله عز وجل وتجانب السوء.
ولكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا بجد، وينبغي أن تطرحه الأخوات على أنفسهن: هو إلى أي مدى تقوم هذه الفتاة بدورها المنشود في نشر الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ في التعاطي مع قضايا الجهاد في سبيل الله؟ ومع قضايا العلم الشرعي؟ ومع قضايا المعرفة الدينية؟ ومع النشاط الإسلامي بكل صوره وأشكاله؟ إلى أي مدى استطاعت الفتاة أن تصل إلى مجتمعها، وتحدث بنات جنسها بهمومها الشرعية؟ إلى أي مدى استطاعت أن تساهم بمالها، وهي التي تملك المال، والمرتب الذي لا تطالب شرعاً بإنفاق أي قدر منه مهما قل؟ إلى أي حد استطاعت أن تساهم بجهدها، أو كلمتها، أو حتى بقلمها، في الكتابة، والتعليم، والمراسلة، والنصح على أي مستوى كان، أو بعلمها، وعقلها، وخبرتها، وما تملك، أو بمالها في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل؟ إن ذلك جزء من التكليف الشرعي الذي لابد للأخوات المؤمنات أن يقمن به، لأن هذا الدين يقوم على أكتاف الجميع.
ولقد خلق الله تعالى الناس من ذكر وأنثى، وكانت الدعوة تقوم على الرجل والمرأة، فإذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أحد قط أن ينسى دور خديجة وهي أول بشر يلقاه بعدما نزل عليه الوحي، فتثبت قلبه وتقول: [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق]] ثم تذهب به إلى ورقة بن نوفل.
ولا أحد يذكر الهجرة إلا ويذكر أسماء بنت أبي بكر، ولا أحد يتحدث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخه، وسيرته، إلا ويذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي ارتبطت برسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الارتباط، وصحبته في حله وترحاله.
إنها دعوة إلى فتيات الإسلام والمسلمين، دعوة إلى المتدينات، دعوة إلى الصالحات، أن يقمن بالدور المنشود المنتظر في نشر الدعوة إلى الله تعالى، وفي إحياء العلم الشرعي بين النساء، وفي المشاركة في قضايا الجهاد بكافة المستويات، الجهاد باللسان، الجهاد بالقلم، الجهاد بالكلمة، الجهاد بالمال، الجهاد حتى بالنفس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أنس وهو صحيح: {جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم} .(63/21)
مسألة التاريخ الهجري
وهي قضية ضاق عنها الوقت، نعم اتفق المسلمون على التاريخ اعتباراً من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد جدال بينهم، وكان إجماع الرأي عليه طيلة عصور التاريخ، فما عرف المسلمون إلا التاريخ الهجري، الذي يبدأ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد هاجر عليه الصلاة والسلام في اليوم الأول من ربيع الأول، ووصل المدينة في اليوم الثاني عشر كما هو معروف عند جمهور أهل السير، ولكن المسلمين بدءوا العام من شهر المحرم لأنه أول السنة.
واليوم نجد أن هناك محاولات كثيرة لتقويض هذا الاتفاق والإجماع، وتحويل المسلمين في معظم بلادهم إلى التاريخ الميلادي، حتى أصبح بعضهم لا يعرفون الشهور الهجرية القمرية، ولا يعرفون التاريخ الهجري، وهذا خطر عظيم، لأنه يفصل المسلمين عن تاريخهم وأحداثهم، ويحول بينهم وبين معرفة الأحكام الشرعية المبنية على هذا التاريخ الإسلامي العريق.
إنه تاريخ له جذوره، يربط المسلمين بحدث عظيم مهم، واستبداله بذلك التاريخ الميلادي هو اتباع لآثار أهل الكتاب من النصارى، مع أنه من المستحيل أن يستطيعوا أن يثبتوا ذلك التاريخ الميلادي، ونحن نعلم أن النصارى يحتفلون بميلادهم، ويقيمون له الأعياد في كل مكان، واعتماد المسلمين لهذا التاريخ قد يقتضي أن يدخلوا جحر الضب وراء النصارى، ويحتفلوا بعيد الميلاد كما احتفل أولئك، ويتقمصوا آثارهم.
ولا شك أن هذه القضية قد تبدو في نظر البعض قضية شكلية أو مظهرية، ولكن هذه الأشياء المظهرية تؤثر حتى في القلب، فالملابس التي يلبسها الإنسان، والزي الذي يعتمده، والشكل الذي يكون عليه، واللغة التي يتكلمها، لا شك تؤثر في عقله، ووجدانه، وضميره، وهذه قضية معروفة نفسياً، واجتماعياً والحمد لله رب العالمين.(63/22)
الأسماء والكنى والألقاب (الأسماء)
إن الاسم من ضروريات الحياة، بل لا أحد على وجه الأرض إلا وله اسم حتى غير الكائنات الحية، إذاً فهو أمر ضروري لابد منه، وما دام الاسم بهذه الأهمية فإننا نجد ديننا الإسلامي قد أهتم به وبأحكامه، وهذا ما سنجده جلياً في هذا الدرس، حيث بين الشيخ حفظه الله تعالى أهمية الاسم ومنزلته، وذكر كذلك أحكامه من حيث تنوعه الى أسماء محمودة وأسماء مذمومة، وذكر القبيح، وأن الاسم حق للأبوين، ووقت التسمية وغير ذلك.(64/1)
مراجع في باب الأسماء والكنى والألقاب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون.
أما بعد… ففي هذا اليوم الأحد، ليلة الإثنين، الأول من شهر شعبان لعام 1410هـ، ينعقد هذا المجلس وهو الثالث ضمن مجالس الدروس العامة، التي بدأت قبل أسبوعين أو ثلاثة وقد تحدثت في الأسبوعين الماضيين عن موضوع: "الرؤيا والأحلام" وما يتعلق بهما من الأحكام.
فإن موضوع هذه الليلة -أيها الأحبة- هو موضوع جديد ولعله لا يخلو من بعض الطرافة، وهو موضوع: الأسماء والكنى والألقاب، وسأبدأ به هذه الليلة، وأتمه بما يأتي إن شاء الله تعالى.
فبناءً على الطلب السابق، في ذكر مراجع البحث والكتب التي تعين الباحث فيه، أذكر بعض هذه المراجع وإن كانت مراجعه كثيرة، لكن منها كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم، في أول الجزء الثاني، ومنها: كتاب إعلام الموقعين له، في الجزء الثالث، ومنها كتاب: تحفة المودود في أحكام المولود لـ ابن القيم أيضاً، ومنها كتاب اسمه الجوائز والصلات لـ نور الدين بن الشيخ صديق حسن خان العالم الهندي الشهير.
ومنها كتاب امتاع الأسماع للمقريزي، حيث ذكر فيها الأسماء المتعلقة بالرسول عليه الصلاة والسلام، ذكر أسماءه وأسماء أولاده، وأسماء ما له من الإبل والخيل وغيرها، ومثله كتاب تخريج الدلالات السمعية للخزاعي، وكتاب التراتيب الإدارية للكتاني، كلها اعتنت بذكر الأسماء المتعلقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك كتاب تهذيب الأسماء واللغات للنووي، وهو في أجزاء وخاصة الجزء الأول والثاني منه فهو يتعلق بالأسماء.
ومنها كتاب أدب الكاتب للإمام محمد بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ومنها كتاب جامع الأصول في الجزء الأول، حيث عقد فصلاً عن الأسماء والكنى، ونقل فيما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام في الكتب الستة، ومنها كتاب الأدب المفرد للبخاري، وكذلك كتاب الأدب في صحيح البخاري، وشرحه في فتح الباري، وهو يقع في الجزء العاشر من الطبعة السلفية.
ومنها كتاب معاصر اسمه أسماء الناس لـ عباس كاظم مراد، وهو كاتب أو باحث عراقي.
وهناك كتب أخرى كثيرة جداً في الأدب واللغة وغيرها لا أطيل بذكرها.(64/2)
تعريف الاسم وأصل اشتقاقه
انتقل إلى المسألة الأخرى وهي: الدخول في الموضوع، فأقول الاسم: هو لفظ موضوع لتعيين المسمى وتمييزه عن غيره، أياً كان ذلك المسمى، وأهل النحو يقولون في تعريف الاسم: هو ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان، لا بماضٍ، ولا بمضارع، ولا بمستقبل، أي هو مادل على معنى في نفسه غير مقترن بغيره.
وقد اختلف النحاة اختلافات كثيرة في أصل اشتقاق الاسم، من أين اشتق؟ وهذا اختلاف لا يعنينا كثيراً، فمنهم من يقول: إنه مشتق من الوسم لأنه علامة على صاحبه يميزه عن غيره، وإلى هذا ذهب الكوفيون، في حين يذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو والعلو والارتفاع، ولعل الأول أقرب، على كل حال هذا الموضوع لا يعنينا كثيراً، لكن الذي يعنينا هو: ما هو الفرق بين الاسم، واللقب، والكنية.(64/3)
الفرق بين الاسم واللقب والكنية
فالاسم الذي يطلق على الإنسان أحياناً قد يدل على مدح أو ذم له، مثل أن تقول: الطويل، أو القصير، أو ما أشبه ذلك، فإن دل على مدح أو ذم فهذا هو اللقب، وأحياناً لا يدل على مدح ولا على ذم في أصل وضعه، وإذا لم يكن كذلك فإما أن يكون مصدراً بأب أو ابن أو أم أو نحوها، مثل أبو فلان، أو ابن فلان، أو أم فلان، ونحوها مثل كلمة ذو فلان أو صاحب، فهذا يكون كنية، وإلا فهو الاسم، فالاسم مثل محمد وعلي وصالح وأحمد فهذه الأعلام كلها عموماً تدخل في الأسماء على سبيل الإجمال.(64/4)
أهمية موضوع الأسماء والكنى والألقاب
أما بالنسبة فيما فيما يتعلق بأهمية الاسم، أو أهمية طرق هذا الموضوع، فلا شك أنه مهم من نواحٍ عديدة: أولاً: هو أمر يحتاجه إليه الجميع فما من إنسان إلا وله اسم، بل يتعدى الأمر إلى جميع الأشياء، فجميع الأشياء لها اسم، حتى البقاع والحيوانات وغيرها، لها أسماء تميزها عن غيرها، ولا يغني عن هذا الاسم شيء آخر، لا يغني عنه وصف، ولا يغني عنه رقم، ولا شيء من ذلك.
وهذا من حكمة الله تعالى، فإنك فمثلاً إذا كنت تعرف شخصاً اسمه صالح، فقلت مثلاً: من فعل لك هذا؟ قال لك رجل: فعله صالح، بمجرد أن تسمع هذا اللفظ صالح، يقفز إلى ذهنك وفهمك شخص متكامل، فتتذكر صفة هذا الشخص وعمله وأخلاقه ومكانه، وغير ذلك من الأشياء.
فالاسم إذاً أمر ضروري لكل أحد ولا يغني عنه شيء، ولهذا كل شيء له اسم.
ثانياً: كثرة الأخطاء الشائعة عند الناس في موضوع التسمية، سواءً الأخطاء الشرعية، مثل تسمية أولادهم وبناتهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، أسماء محرمة، أو على الأقل مكروهة، وأحياناً أخطاء اجتماعية تضر بالولد، وأحياناً أخطاء لغوية لا تتناسب مع أصل الوضع اللغوي، ومع اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.(64/5)
لكل إنسان نصيب من اسمه
والأسماء مؤثرة على أصحابها، فالاسم يؤثر على المسمى، والشخص إذا سمي باسم، أو لقب بلقب، فإن هذا الاسم أو اللقب غالباً ما يكون لصاحبه منه نصيب، ولذلك قال الشاعر: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه لو فكرت في لقبه وبعضهم يروي البيت: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه في اسم منه أو لقب كل شخص له اسم أو لقب يكون غالباً له من اسمه نصيب، وقد أطال ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا في مواضع، منها ما أشرت إليه في زاد المعاد، ومنها في تحفة المودود وغيرها من الكتب، فأشار إلى ارتباط الاسم بالمسمى، وأن له به علاقة كبيرة.
وخاصة إذا عقل هذا الإنسان ووعى، وعرف دلالة الاسم، وأيضاً بصفة خاصة: إذا كان الناس يعلقون على هذا الإنسان من خلال اسمه.
وأضرب لكم -أيها الإخوة- قصة واقعية، رأيتها بعيني: في إحدى المناسبات كنا مع مجموعة من الطلاب، وكان فيهم طالب كثير المزاح، وكأن في عقله شيء من الخفة والطيش، فسألت عنه، فقال لي أحد الأساتذة الذين يعرفونه: إن هذا الرجل كان رجلاً شاباً عاقلاً، لا يؤخذ عليه شيء، ليس عليه مغمز ولا مطعن في عقله، ولا فهمه، ولا ذكائه، لكنه في إحدى المرات قام بتمثيل دور في مسرحية من التمثيليات التي تقوم أحياناً في المدارس، فكان هذا الدور الذي قام بتمثيله دوراً هازلاً، دور إنسان مضحك، أو منكت، أو ما أشبه ذلك.
فلما انتهى، وكان نجح في أداء هذا الدور، بدأ الطلاب، وزملاؤه وأصدقاؤه لا يسمونه إلا بالاسم الذي تسمى به في المسرحية، وتركوا اسمه الصحيح، حتى تقمص شخصية هذا الدور الذي قام به، وأصبح كأنه دائماً في حالة تمثيل، فهذا يدلك على ارتباط الاسم بالمسمى، وتأثيره فيه، وأهمية العناية بموضوع الأسماء.(64/6)
الأسماء دليل على مستوى كل مجتمع
كذلك فإن هذه الأسماء التي يطلقها الناس، غالباً ما تدل على المستوى الذي يعيشه المجتمع، فكل مرحلة من مراحل التاريخ لها أسماء، وكل حالة من الأحوال لها أسماء، أحياناً تأتي في بعض المجتمعات -مثلاً- فتجد أنه انتشر عندهم أسماء شرعية، مثل عبد الله، أو عبد الرحمن، أو أسماء الأنبياء، وغير ذلك، فهذه دليل على مستوى الوعي.
والفهم عند الناس، وقوة التزامهم بالدين وحرصهم عليه.
وأحياناً تأتي إلى مجتمع، فتجد أنه تشيع فيه أسماء أجنبية وأسماء غربية مستوردة، سواء أسماء الرجال أو النساء، فهذا دليل على أن هذا المجتمع مجتمعٌ ضعيفٌ، مقلد، فقد هويته وشخصيته، وأصبح يأخذ حتى الأسماء من غيره.
أحياناً تجد مجتمعاً شاعت فيه الأسماء الفنية، مثل أسماء المغنين والمغنيات، كما حدث في بلاد الأندلس سابقاً، وكما يحدث في كثير من بلاد العالم الإسلامي اليوم، هذا يدل على أن ذلك المجتمع مجتمع هازل غير جاد، وأن الأشخاص المعظمين في المجتمع هم أهل الطرب والغناء والعبث واللهو.
تنتقل إلى مجتمع رابع، فتجد أن الأسماء التي فيه أسماء عسكرية، أو أسماء سياسية، أو غير ذلك، فالأسماء التي تنتشر في مجتمع من المجتمعات -غالباً- تدل على مستوى ذلك المجتمع.(64/7)
الاسم ضرورة لابد منه
وأخيراً فإن الإنسان، والفرد، والجماعة، يعتزون بالاسم الذي يلقبون به، ولو كان هذا الاسم غير جيد، أو غير حسن.
ولهذا يذكر الجاحظ في كتاب الحيوان، يقول: "كان عندي حارس اسمه أبو خزيمة، وكان أعجمياً، وفيه لكنة لا يتكلم العربية إلا بصعوبة، فيقول: كان اسمه أبو خزيمة، وهذا اسم حسن، فكنت طالما أتعجب من أين جاءه هذا الاسم؟! جاء أبو خزيمة، راح أبو خزيمة، قال: فيوماً من الأيام، طرأ في بالي أن أسأله عن ذلك، فقلت له: هل لك أبٌ أوجدٌّ يسمى خزيمة؟ قال: لا، قلت له: هل لك قريب يسمى خزيمة؟ قال: لا، قلت: ألك ولد يسمى خزيمة؟ قال: لا، قلت: أفي القرية رجل صالح اسمه خزيمة، قال: لا، قلت: فمن أين أخذت هذا الاسم؟ قال: هكذا جاءني، أنا لا أدري من أين جاءني الاسم، لكنني تسميت به.
فقال له الجاحظ على سبيل الاختبار: فخذ هذا الدينار ودع عنك هذه الكنية، فقال: لا والله ولا بالدنيا وما فيها، لا أترك هذا الكنية ولو أعطيتني الدنيا وما فيها".
هذا الرجل ما اشترى الكنية بثمن، لكنه عُرف بها، وأصبحت تدل عليه، وتسمى بها، فكانت عنده غالية وثمينة.
فعلى كل حال فإن الاسم ضرورة لا بد منه، ولذلك عند علماء الحديث إذا لم يكن الراوي مسمى فهو مجهول، فإذا جاء في إسناد الحديث: حدثنا رجلٌ، أو حدثنا فلان عن رجلٍ، فإنهم يسمونه: مبهم، وهذا في الأصل إذا لم يعرف ولم يحدد فهو مجهول، وحتى لو قالوا محمد، ولم يعرف أي محمد هذا، فهذا يسمى: مهمل، ولا بد من تحديده وتمييزه ليعرف أثقة هو أم غير ثقة.
يذكر عن أبي عبيد، الإمام اللغوي رحمه الله، أنه كان في مجلس، فسأله رجل: أتعرف اسم فلان؟ قال: لا، فقام أحد الجالسين، فقال: بلى والله، أنا أعلم الناس به، قيل: فما اسمه؟ قال: اسمه خداش، أو خراش، أو شيء آخر، لا يعرف اسمه بالضبط، فقال له أبو عبيد رحمه الله: نعم والله ما عرفت عن هذا الرجل، ما دام لا تعرف الاسم، إما خداش أو خراش أو شيء آخر، فكأنك لم تعرفه إذاً.(64/8)
الأسماء المحمودة
أنتقل -أيها الإخوة- إلى النقطة الثانية: وهي من النقاط المهمة في البحث، وهي: الحديث عن الأسماء المحمودة، فهناك أسماء محمودة، وهناك أسماء مذمومة فسأتحدث عنهما معاً.(64/9)
أفضل الأسماء
أكثر أهل العلم -الجمهور- على أن التسمي بعبد الله وعبد الرحمن أفضل، وبذلك نطق الحديث الصحيح في مسلم: {أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن} وقد ذهب بعض أهل العلم، إلى أن التسمي بأسماء الأنبياء أفضل، وممن ذهب إلى ذلك -كما سلف قبل قليل- سعيد بن المسيب فإنه كان أحب الأسماء إليه: أسماء الأنبياء، ونقل عن بعضهم كراهية التسمي بأسماء الأنبياء، صح هذا عن عمر رضي الله عنه، أنه أرسل ينهاهم أن يسموا بأسماء الأنبياء، وذلك لأن عمر رضي الله عنه قال: [[تسمونهم بأسماء الأنبياء ثم تلعنونهم!]] وفى رواية أن عمر كان له ولد اسمه (محمد) فسمع رجلاً يسبه ويشتمه فغير اسمه، وقال: [[يسب بك رسول الله صلى الله عليه وسلم!]] .
بل جاء هذا في حديث مرفوع، رواه البزار وأبو يعلى، لكن سنده لين ولا يصح، أن النبي عليه الصلاة السلام قال: {تسمونهم بأسماء الأنبياء أو تسمونهم محمداً ثم تلعنونهم!} فذهب بعض أهل العلم إلى كراهية التسمي بأسماء الأنبياء صيانة لأسماء الأنبياء عن أن يقع لعن أو شتم عليها، لكن هذا قول مرجوح، والصحيح ما سبق من أنه يشرع التسمي بأسماء الأنبياء.
وقد ورد أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه -الصحابي الجليل المبشر بالجنة- كان له عشرة من الولد كل واحد منهم اسمه اسم نبي، في حين أن الزبير رضي الله عنه كان له عشرة كل واحد منهم اسمه اسم شهيد، فقال طلحة للزبير: [[قد سبقتك، أسماء أولادي أسماء الأنبياء، قال الزبير: بل أنا سبقتك، قال: كيف؟! قال: لأنني سميت أولادي بأسماء الشهداء؛ فأنا أطمع أن يكونوا شهداء، أما أنت فلا تطمع أن يكون بنوك أنبياء، فسكت طلحة رضي الله عنه]] .(64/10)
هل الفضيلة تشمل غيرهما من الأسماء المعبدة
وفي صحيح مسلم {أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن} .
إذاً من الأسماء الفاضلة عبد الله -كما سبق- وعبد الرحمن، فهل يشمل هذا الحكم غيرهما من الأسماء المعبدة، مثل عبد الكريم، عبد العزيز، عبد الجليل، عبد القوي، عبد المتين، أم لا يشمل؟ القرطبي رحمه الله، صاحب المفهم في شرح صحيح مسلم، ذكر أنه يشمل غيرهما، فكل ما عبد فإنه فاضل، وقال ذلك لأن في عبد الله -مثلاً- أو عبد الرحمن، أو حتى عبد الكريم، وعبد العزيز، أولاً: فيها تسمية الله عز وجل، بأسمائه الحسنى، مثل الكريم، العزيز، الجليل، الغفور، الرحيم.
وثانياً: أن في كلمة (عبد) : فيها وصف العبد المخلوق بما هو له أهل، من الذل والعبودية، وإضافة العبد إلى الله إضافة حقيقية، فهي قضية صادقة من جميع وجوهها.
ولهذا ذهب القرطبي إلى أن من الأسماء الفاضلة -أيضاً- كل اسم مبدوء بـ (عبد) مثل: عبد العزيز وعبد الكريم، وما شابهها.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يكون غيرهما في الفضل بمنزلتهما، وذلك لأن اسم (الله) واسم (الرحمن) لهما ميزات، ومن ميزاتهما: أنه لم يرد في القرآن إضافة (عبد) إلى غيرهما، فقد ورد في القرآن إضافة (عبد) إلى الله كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] .
كذلك ورد إضافة (عبد) إلى (الرحمن) وفي أي موضع؟ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] وكذلك قال الله عز وجل -وهذا يؤيد ما سبق-: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] فذكر لفظ (الله) أو (الرحمن) ، وكذلك ذكر بعض أهل العلم أنه لم يتسم أحد بهذين الإسمين الشريفين العظيمين من المخلوقين، فلم يتسم أحد باسم (الله) ، ولا باسم (الرحمن) ، بخلاف بقية الأسماء فهناك من تسمى به، فمثلاً (الرحيم) ، هناك من تسمى بـ (الملك الرحيم) ، وكذلك (القاهر) ، وغيرها من أسماء الله تسمى بها بعض الملوك، وبعض السلاطين، وبعض الحكام بل وغيرهم.
أما (الله (و (الرحمن) ، فلم يتسم بهما أحد، إلا أن مسيلمة كان يسمي نفسه في الجاهلية (رحمان اليمامة) ، لكن هذه نسبة إضافية، فهو اسم مضاف، فهو ادعى لنفسه أنه رحمان لليمامة وليس الرحمن بإطلاق، وكذلك أحد الشعراء مدح رجلاً بقوله: وأنت غيث الورى لا زلت رحمان قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وهذا غلو في الكفر حيث وصفه بأنه رحمان"، ثم إن الرجل هذا لم يسم نفسه بهذا الاسم، بل وصفه هذا الشاعر الملحد فلا عبرة في ذلك.
ويبقى الكلام الذي ذكره أهل العلم أنه لم يتسم أحد باسم (الله) ولا باسم (الرحمن) كلام صحيح، فـ (الله) و (الرحمن) ، لم يتسم بهما أحد من بني الإنسان، ولذلك فليس غيرهما بمنزلتهما، وإن كان ورد في ذلك أحاديث في أن كل ما عبد فهو فاضل لكن لا يصح من ذلك شيء، أما حديث {خير الأسماء ما حمد وعبد} فهذا الحديث لا أصل له كما ذكر ذلك جماعة من أهل الحديث، وإن كان شائعاً على الألسنة، فهو حديث موضوع، لا أصل له.
لكن روى الطبراني في معجمه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن أبي زهير الثقفي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا سميتم فعبدوا} أي: اجعلوا الاسم مبدوءاً بعبد الله، وكذلك اللفظ الآخر لفظ ابن مسعود: {خير الأسماء ما تعبد به} وفي سند هذا الحديث محمد بن محصن، وهو ضعيف جداً بل متروك، فالحديث أيضاً شبه موضوع، وإن كان الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ذكر الحديثين، وقال: وفي سندهما ضعف.
والواقع أن الحديثين سندهما إن لم يكن ضعيفاً جداً فهو شبه موضوع، فلا حجة بهما، فلا يصح في التعبيد مطلقاً حديث، لكن لا شك أن الأسماء المبدوءة بـ (عبد) ، كعبد الله، عبد الرحمن والتي فيها تعبيد لله تعالى أنها أسماء معانيها حسنة وصحيحة، فهي فاضلة بهذا الاعتبار، أما من خصوص ورود شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا يصح شيء من ذلك.
النوع الثاني من الأسماء الفاضلة: أسماء الأنبياء: وقد روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة، في تفسير قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وكانوا يسموا بأسماء أنبيائهم} أي أن بني إسرائيل يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم.
وكذلك روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب، أنه كان أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء، ولعل المقصود بأحب الأسماء إليه يعني إلى سعيد بن المسيب، وليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ورد الأمر بهذا -الأمر بالتسمي بأسماء الأنبياء- من حديث وهب الجشمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا بأسماء الأنبياء} والحديث رواه أبو داود والنسائي وفيه عقيل بن شبيب وهو مجهول؛ فالحديث ضعيف، لكن يشهد له ما سبق: حديث المغيرة وما سيأتي.
فالخلاصة: أن التسمي بأسماء الأنبياء فاضل، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الصحابة بأسماء الأنبياء، هذه بعض أسمائهم: فممن سماهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى إبراهيم، كما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري أنه قال: {ولد لي غلام، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له، وحنكه، وسماه: إبراهيم p} .
وقد جاء أيضاً أن إبراهيم هذا كان من أكثر أبي موسى براً بأبيه.
وكذلك في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أنس: {ولد لي الليلة غلامٌ فسميته باسم أبي إبراهيم} أي ابنه صلى الله عليه وسلم إبراهيم، وكان من مارية القبطية، وقد فرح به النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاه أبا سيف القين الحداد، رجل حداد كانت عنده امرأة، كانت حاضنة لـ إبراهيم عليه السلام، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشتكي وجعاً، ذهب إلى بيت أبي سيف القين، ودخل وكان بيته مملوءاً بالدخان حتى أخذ -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- أخذ ابنه إبراهيم وهو في النزع، فضمه صلى الله عليه وسلم إلى صدره وبكى، فقال له بعض أصحابه: هذا وأنت رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: {إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} .
فحزن صلى الله عليه وسلم لموته حزناً شديداً، وقال: {إن له ضئراً تكمل رضاعه في الجنة} وقد ورد في فضل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جداً، حتى ورد في آثار عديدة أنه لو عاش لكان نبياً، وهذا المعنى أنكره ابن عبد البر، ثم النووي إنكاراً شديداً وقالوا: هذا هجوم على الغيب بما لا علم به، ودعوى باطلة جائرة، حتى قال ابن عبد البر: لو كان كل ابن نبي يكون نبياً لكان الناس كلهم أنبياء؛ لأنهم أبناء لآدم عليه الصلاة والسلام.
لكن رد هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال: "إنه ليس بلازم، لكن هذا خبر عن إبراهيم بالذات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خبر معلق بأنه لو عاش، وقد قضى الله تعالى وقدر ألا يعيش إبراهيم، بل مات وهو في الثدي وهو لا يزال غلاماً رضيعاً.
كذلك من الأسماء التي سمى بها الرسول، أو أمر بها اسم (محمد) ، وهو اسم نبينا وسيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي} .
وكذلك روى الشيخان عن أنس بن مالك نحوه، أنه قال عليه الصلاة والسلام: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} .
وسيأتي الكلام إن شاء الله في الدرس القادم عن موضوع الكنية، كنية (أبى القاسم) ، وهل تجوز أم لا تجوز، ولكن المقصود من هذا الحديث التسمي باسم (محمد) ، وأنه من الأسماء المشروعة، المستحبة، المستحسنة حيث أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {تسموا باسمي} وهذا أمر يدل على الفضل وقطعاً لا يدل على الوجوب.
وهنا أشير إلى حديث موضوع وهو ما رواه أبو نعيم في الحلية، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال -عن الله جل وعلا- أن الله تبارك وتعالى قال: وعزتي وجلالي -مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم- لا أعذب أحداً تسمى باسمك بالنار.
وهذا الحديث موضوع لعنة الله على واضعه ومختلقه، فإنه مفترٍ أفاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان اسمه (محمد) ، وكان عدواً للإسلام والمسلمين! من الذين طغوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، فهذا افتراء ليس على الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل على رب العالمين، فعلى واضعه ومختلقه من الله ما يستحق.
ويستغرب من بعض أهل العلم -غفر الله لنا ولهم- أن يسوقوا هذا الحديث دون أن يعقبوا عليه ببيان أنه حديث مختلق موضوع، كما فعل جماعة من المصنفين المشهورين.
من الأسماء التي سمى بها الرسول صلى الله عليه وسلم (يوسف) ، على النبي يوسف عليه الصلاة والسلام، فقد روى يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله عنهما كما في كتاب الأدب(64/11)
استحباب التسمي بـ (عبد الله وعبد الرحمن)
من الأسماء التي يشرع التسمي بها: عبد الله، وعبد الرحمن، فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر: أن رجلاً من الأنصار سمى ابنه القاسم، فقال له الأنصار: والله لا نسميك يا (أبا القاسم) ولا نُقِرك عيناً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اسم ابنك عبد الرحمن} فسمى ابن هذا الأنصاري عبد الرحمن.
وكذلك جاء في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [[أول مولود ولد في المدينة عبد الله بن الزبير، وفرح به المسلمون فرحاً شديداً، لأن اليهود أشاعوا أن المسلمين لا يولد لهم، وأنهم قد سحروا، فلما قدمت أسماء المدينة وكانت متماً - يعني في آخر مدة حملها- فولدت عبد الله بن الزبير، ففرحوا به فرحاً شديداً وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحنكه -يعني مضغ التمر ووضعه فوق حنكه- ودعا له وسماه عبد الله]] .
وكذلك جاء في الصحيحين، من حديث أنس في القصة المشهورة: {أن أبا طلحة كان له ولد يشتكي -مريض- ثم إنه توفي فلما جاء أبو طلحة إلى أم سليم، قال لها: كيف الصبي؟ قالت: هو أسكن ما كان، -أي هادئ وساكن الآن- فقربت له عشاءً فأكل، ثم تزينت له أحسن ما كانت تتزين، فأصاب منها -جامعها في تلك الليلة- فلما فرغ قالت له: واروا الصبي، وفي رواية عند مسلم أنها قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو أنك استعرت من جيرانك متاعاً فأخذوه، هل تجد في نفسك شيئاً؟ قال: لا، فقالت له: إن ابنك قد قبض، فقال: بعدما تلطخت أخبرتيني! فأخذوا الصبي وواروه، أي: غسلوه، وصلوا عليه ثم دفنوه.
فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أصبت منها الليلة شيئاً، أو أعرستم الليلة؟ فقال: نعم، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، فحملت، ثم ولدت غلاماً، فلما ولدته قالت: لا تصنعوا به شيئاً حتى تذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمله أنس ومعه شيء من تمر، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عند مسلم: أنه عليه الصلاة السلام كان قادم من سفر، فدخل المدينة قبل أبي طلحة وأم سليم، فدخلوا بهذا الصبي إليه، فقال: أمعه شيء؟ قال: نعم، شيء من تمر، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه التمرات ومضغها، ثم وضعها في فم الصبي، فبدأ الصبي يتلمض لما وجد التمر كما في رواية مسلم - فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: حب الأنصار للتمر -لأن هذا الغلام أنصاري رضي الله عنه- وفي رواية: حب الأنصار التمر -وحبهم يعني حبيبهم، فيكون مبتدأ خبره التمر، أي التمر حبيب الأنصار- ثم سماه عليه الصلاة والسلام عبد الله، فكان أكثر أولاد أبي طلحة براً بأبيه، وكان حافظاً للقرآن فقيهاً} فتسميته عليه السلام له كما سمى من قبله؛ دليل على فضيلة هذا الاسم.(64/12)
اختيار الاسم الحسن
فبما يتعلق بالأسماء المحمودة: لا شك أنه ينبغي اختيار الاسم الحسن، الذي له دلالة محمودة ومستحسنة وفيه خير، وفيه تفاؤل، وفيه إفراح للمنادى به، خلافاً لما يفعله كثير من الناس، قد يسمون أبناءهم مثلاً باسم أبيه، أو جده، أو عائلته، ولو كان اسماً غير جيد، وبعضهم يسمي ابنه باسم المكان الذي ولد فيه مثلاً، أو يسمي باسم حيوان، أو وحش، أو سبع، وهذه كلها أشياء غير مستحسنة، فينبغي اختيار الاسم الحسن.
ولذلك روى أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فاحسنوا أسماءكم} والحديث صححه ابن حبان، وقال الإمام ابن القيم في تحفة المودود: سنده جيد، وقال مرة أخرى في موضوع ثانٍ: سنده حسن وقال ابن حجر في فتح الباري: رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً، فإن عبد الله بن أبي زكريا الراوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه لم يدرك أبا الدرداء، فالحديث في سنده ضعف، لكن معناه صحيح.
أما الأمر بإحسان الأسماء فسيأتي مزيد بسطٍ لذلك.
أما قضية أن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم فهذا هو الصحيح أيضاً، ولهذا جاء في صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ينصب لكل غادر لواءٌ عند استه يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان} .
فدل على أن الإنسان يوم القيامة ينادى باسمه واسم أبيه.
وقد عقد الإمام البخاري لهذا الحديث عنواناً أو ترجمةً عنونها بباب: أن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، خلافاً لما رواه الطبراني، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا دفنتم الرجل في قبره، فليقم أحدكم على رأسه وليقل: يا فلان ابن فلانة، وليسمه باسم أمه، فليقل ذلك ثلاثاً، فإنه يقول: أرشدني رحمك الله، وإن الناس يوم القيامة يدعون بأسمائهم وأسماء أمهاتهم} فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال فيه الإمام ابن القيم في تحفة المودود قال: إنه ضعيف باتفاق أهل العلم، فكونه يدعى باسمه واسم أمه هذا لا يصح، والصواب ما في الصحيحين أنه يدعى باسمه واسم أبيه.
فقوله عليه السلام: {إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم} هذا صحيح لا إشكال فيه وإن كان الحديث فيه ضعف، وكذلك قوله: {احسنوا أسماءكم} صحيح وله شواهد كثيرة.(64/13)
الأسماء المذمومة
القسم الثالث: هو الأسماء المذمومة:- ولا شك أن اختيار الأسماء -كما سلف- أمر مطلوب، والبعد عن الأسماء المذمومة كذلك، بل إذا ورد اسم مذموم فإنه يشرع قلبه وتغييره إلى اسم حسن محمود، ولذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الأسماء القبيحة} والحديث رواه الترمذي وفيه عمر بن علي المقدمي، وهو مدلس وقد عنعن في هذا الحديث، فهو حديث ضعيف، لكن معناه صحيح ويشهد له واقع الحال، فإنه ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير أسماء جماعة من الناس، وسأذكر أسماء بعض هؤلاء الذين غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم بعد قليل.(64/14)
أسماء الله تعالى
السابع مما يحرم التسمي به: أسماء الله تعالى المحضة.
كما سلف فيما يتعلق بالله أو الرحمن، ومثله لا يجوز التسمي بـ (الأحد) ، أو (الصمد) ، أو (الخالق) ، أو (الرازق) ، فإن هذه أسماء الله تبارك وتعالى، لا يجوز لأحد أن ينتحلها، أو يدعي شيئاً منها لا يجوز ذلك بلا إشكال، وأما الأسماء غير المختصة بالله تعالى فإنه لا بأس بالوصف بها، كأن تقول فلان (سميع) ، أو مررت بفلان (السميع) ، وتعني أنه يسمع، أو رأيت فلاناً (البصير) وتعني أنه يبصر.
فإن كانت بدون (أل) ، فلا أرى حرجاً في التسمي بها، كأن يسمى الولد -مثلاً- (سميع) ، أو (بصير) ، أو (حكيم) مثلا، لا أرى ما يدل على المنع من ذلك؛ لأنه هنا يكون وصفاً له أو يكون اسماً، لكنه ليس بـ (أل) التي تدل على استغراق جميع المحامد والصفة، فإذا كان الاسم على اسم من أسماء الله؛ فإنه لا يجوز.
ولذلك جاء في الحديث الصحيح: {أن رجلاً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان قومه يسمونه بـ أبي الحكم، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي هانئ، قال له: كم لك من الولد؟ قال: لي فلان، ومسلم، وشريح، قال: من أكبرهم؟ قال: أكبرهم شريح، قال: أنت أبو شريح -وفيه أنه سأله النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا يسمونك بـ أبي الحكم وليس من ولدك أحد اسمه الحكم؟ قال: لأنهم كانوا إذا اختلفوا في أمرا أتوا إلي فأحكم بينهم؛ فيرضون بحكومتي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أحسن هذا} يعني هذا الفعل، لكن غير اسمه إلى أبي شريح والحديث جاء عن شريح بن هانيء ابن هذا الرجل، في أبي داود والنسائي، وهو بسند صحيح.(64/15)
أسماء الملائكة
القسم الثامن: مما يكره التسمي به: أسماء الملائكة، وقد جاء عن الإمام مالك رحمه الله، أنه يكره التسمي بأسماء الملائكة مطلقاً، وجاء عن غيره الإذن والترخيص بذلك، ولكن مما لاشك فيه أن تسمية النساء بأسماء الملائكة حرام أما يوجد الآن في بعض المسلمين من اسمه (جبريل) مثلاً هذا لا نستطيع أن نقول: إنه ممنوع؛ لأنه لا يصح دليل على منعه، وإن نقل عن مالك رحمه الله كراهية ذلك، لكن لا يصح دليل على منعه أو كراهيته فيما أعلم.
أما تسمية النساء بأسماء الملائكة فهو محرم؛ لأن في ذلك مضاهاة للمشركين الذين يعدون الملائكة إناثاً، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف:19] .
وأذكر أن بعض الناس يسمي بنته (ملاك) -بفتح الميم أو كسرها- والذي أعلم أن كلمة (مَلاك) أو (مِلاك) تطلق على (الملك) ، فمعنى - (مَلاك) أو (مِلاك) - معناها ملك، وإذا صح هذا فإن تسمية الأنثى بهذا الاسم لا يجوز لأنه مضاهاة لاعتقاد المشركين، وقد روي في ذلك حديث رواه البخاري في تاريخه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة} وقال البخاري: في إسناده نظر، وهذه الكلمة في إسناده نظر لا يستخدمها البخاري إلا في الحديث الذي يكون ضعيفاً جداً، فالحديث لا يصح.(64/16)
أسماء الشياطين
القسم الخامس الذي لا يجوز التسمي به: أسماء الشياطين وذلك كـ (الأجدع) ، فقد ورد أن مسروقاً لما قدم على عمر قال له: ما اسمك؟ قال: مسروق، قال: ابن من؟ قال: ابن الأجدع؛ قال له عمر: (الأجدع) شيطان، وكذلك (خنزب) هذا اسم شيطان، و (الولهان) اسم شيطان، فلا يجوز التسمي بأسماء الشياطين.(64/17)
أسماء الفراعنة
الفراعنة مثل: فرعون وهامان وقارون، فإنه لا يجوز التسمي بها، ولا شك أنكم تعلمون أن في المسلمين من يتسمى بفرعون فهذا لا يجوز وهو محرم، وأما الوليد فقد وردت أحاديث كثيرة، ذكر بعضها في مسند الإمام أحمد، وبعضها عند الطبراني وغيره، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {اتخذتم الوليد حناناً} أي: تسمون به، ونهى أن يسمى الوليد وقال: {سيظهر في أمتي رجلٌ يقال له: الوليد هو أشر على أمتي من فرعون على قومه} أو ما أشبه ذلك، والأحاديث في هذا الباب كلها معلولة لا يصح منها شيء، وقد تكلم عنها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وفي كتابه القول المسدد في الذب عن المسند وحاول تقويتها لكنها ضعيفة.
ولذلك الإمام البخاري رحمه الله، لقوة فقهه وسعة علمه، عقد في صحيحه باباً فقال: باب تسمية الوليد، وذكر فيه حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في صلاته بعد ما يرفع رأسه من الركوع، ويقول: {اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن الربيعة، وعياش بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف} فأخذ البخاري من كون اسمه الوليد بن الوليد، ومع ذلك لم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم اسمه، بل دعا له بقوله اللهم انج الوليد بن الوليد، وقد هاجر الوليد هذا إلى المدينة، ولم يغير عليه الصلاة السلام اسمه، ولما قتل كان اسمه الوليد، ولذلك كانت أم سلمة تبكيه، وتقول: يا عين فابكي للوليد بن الوليد بن المغيرة كان الوليد بن الوليد أبا الوليد فتى العشيرة فأيضاً كان يكنى بـ أبي الوليد، واسمه الوليد وأبوه الوليد، فلو ولد له ولد لكان ولده الوليد بن الوليد بن الوليد، فدل على أن الصحيح أنه لا بأس بتسمية (الوليد) أو (وليد) بدون أل أيضاً.(64/18)
الاسم الذي فيه تعبيد لغير الله
القسم الرابع: مما يمنع من تسميته: الأسماء التي فيها تعبيد لغير الله، وقد نقل الإمام ابن حزم اتفاق العلماء على منع وتحريم تسمية أحد بـ (عبد) لغير الله تعالى، أما مثل (عبد العزى) ، و (عبد هبل) ، فهذا لا إشكال فيه لأنها أصنام، لكن أيضاً لو كانت أسماء تعبيد لأشخاص مثل (عبد عمرو) -مثلاً- فهذا لا يجوز، أو (عبد الكعبة) وهذا موجود مع الأسف في المسلمين من يسمون (عبد الكعبة) ، وبعضهم يسمي (عبد الرسول) ، و (عبد الرسول) هذا مشتهر جداً عند أهل السنة.
أما عند الشيعة الرافضة، فإنهم يسمون بـ (عبد الحسين) ، و (عبد علي) ، و (عبد الرضا) ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي فيها تعبيد لغير الله، ولكن لا يستغرب من الشيعة؛ فإنهم يعبدون غير الله فعلاً، وهم يطوفون حول القبور والمزارات، في حين أن المساجد عندهم مهجورة، لكن الذي يستغرب من أهل السنة؛ أن يسمي أحد منهم ابنه بـ (عبد الكعبة) ، أو (عبد الرسول) أو ما أشبه ذلك، فإن التعبيد لغير الله لا يجوز اتفاقاً، وكذلك (عبد المطلب) أيضاً موجود عند المسلمين فـ (المطلب) اسم رجل، فالأصح أنه لا يجوز التسمي بـ (عبد المطلب) ؛ لأنه تعبيد لغير الله تعالى.(64/19)
التسمية بالاسم المشئوم والكاذب
هناك بعض الأسماء التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسمي بها، منها: اسم أفلح، ويسار، وصدقه، ونجيح، ونافع، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لقد هممت أن أنهى أن يسمى أفلح، ويسار، ونجيح، ونافع، فإنه يقال: أثم هو؟ فيقول: لا} أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن ينهى عن هذه الأسماء، لأن الإنسان إذا سأل هل يوجد أفلح؟ هل يوجد ناجح أو نجيح أو نافع؟ فيقال: لا، فيكون في الجواب على ذلك بشاعة، وربما يؤدي إلى تشاؤم بعض الناس من هذا الجواب وتطيرهم، والطيرة كانت موجودة في العرب ومشهورة.
وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى -في حديث جابر قال: {هممت أن أنهي} - لكن في حديث سمرة أنه نهى وهو أيضاً في صحيح مسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تسمِّ غلامك رباحاً، ولا يساراً، ولا نجيحاً} وعلل عليه الصلاة والسلام بالعلة السابقة، فدل على أنه نهى عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
والصحيح في هذا الأمر أنه نهى عليه الصلاة والسلام لكن الأمر الذي قال: {هممت أن أنهى} أي: هممت أن أنهى نهي تحريم، فإن أهل العلم يقولون: إن النهي في هذه الأسماء ليس للتحريم بل هو للكراهة فحسب، وهم عليه الصلاة السلام أن يحرم هذه الأسماء، ثم لم يفعل كما ذكر ذلك جابر أنه مات وهو قد سكت عنها، فلم ينه عنها، كما في صحيح مسلم.
وقد قال الإمام ابن القيم في تحفة المودود، قال: إنه يدخل في معنى هذه الأسماء ما كان مثلها، مثل: (مبارك) -مثلاً- و (خير) ، وما أشبهها، فإنه يقال هل يوجد مبارك؟ فيقال: لا، هل يوجد خير؟ فيقال: لا، لا يوجد خير! فيكون في الجواب بشاعة، وربما تطير منه بعض الناس، لكن النهي -كما أسلفت- نهي كراهة، وإلا فكثير من أسماء الناس الموجودة اليوم يوجد فيها هذا المعنى، بل الأسماء الموجودة حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كثير منها فيه هذا المعنى، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أن النهي للكراهة.
إذاً النوع الأول من الذي ينهى عن التسمي به: الاسم الذي يكون فيه تطير أو تشاؤم إذا أجيب به.(64/20)
الاسم الذي يكون فيه تزكية لصاحبه
النوع الثاني: هو الاسم الذي يكون فيه تزكية لصاحبه، فقد ثبت في صحيح البخاري وصحيح مسلم، عن أبي هريرة أن زينب بنت أبي سلمة كان اسمها (برة) أي من البر، فقال الناس: تزكي نفسها! فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها، وسماها زينب، وكذلك جاء في صحيح مسلم، عن زينب نفسها، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، أي نهى أن تسمى امرأة (ببرة) ؛ لئلا يقال: إنها تزكي نفسها.
وعن ابن عباس كما في صحيح مسلم أن جويرية بنت الحارث كان أسمها أيضاً (برة) فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها إلى جويرية، وهناك نساء أخريات كان اسم كل واحدة منهن (برة) ، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى اسم آخر، إما زينب، أو جويرية أو ما أشبه ذلك.
فالأسماء التي فيها تزكية -أيضاً- مكروهة، وهذه الأسماء كثيرة مثل (ناسكة) مثلاً، أو (عابدة) ، أو (زاهدة) ، أو (جاهدة) ، أو ما أشبه ذلك من الأسماء، وهي موجودة في أحوال الناس، فنقول هذه الأسماء مكروهة، لكنها لا شك ليست محرمة؛ لأنه لم يرد دليل صريح على تحريمها.(64/21)
ما فيه معنى مكروه
النوع الثالث: من الأسماء المنهي عنها، هي: الأسماء التي يكون فيها معنى مكروه، وذلك مثل الأسماء القبيحة، وقد جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن أخدري، أن رجلاً قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عبد له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعبد -المولى-: ما اسمك؟ قال: اسمي أصرم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {لا، بل أنت زرعة} والحديث رواه أبو داود وسنده صحيح، وذلك لأن أصرم مشتق من الصرم وهو القطع، فهو معنى رديء يوحي بانقطاع هذا الإنسان وعدم وجود نسل له وما أشبه ذلك، فغير اسمه إلى اسم حسن جميل، وهو زرعة، مشتق من الزراعة والحرث وما أشبه ذلك.
وكذلك في صحيح مسلم عن ابن عمر، أن بنتاً لـ عمر كان اسمها عاصية، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها جميلة، وذلك لأن اسم عاصية فيه قبح وكراهة، فغير النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم.
وقد غير عليه الصلاة والسلام أسماء جماعة من الصحابة كان اسمهم (العاصي) منهم عبد الله بن عمر كان اسمه العاصي، وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك عبد الله بن الحارث كان اسمه (العاصي) ، فغير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم إلى (عبد الله) .
وكذلك رجل آخر كان اسمه العاصي بن الأسود، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه إلى مطيع بن الأسود وهو والد عبد الله بن مطيع القائد المعروف، فغير النبي عليه الصلاة والسلام اسم (عاصي) أو (عاص) إلى (مطيع) ، أو إلى (عبد الله) تغييراً للاسم القبيح إلى ضده، إلى اسم حسن، كما غير عليه السلام أسماء كثيرة جداً كما ذكر ذلك أبو داود.
قال أبو داود في سننه: {وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة، كـ (العاصي) و (عزيز) و (غراب) و (شهاب) و (حباب) و (الحكم) و (حرب) و (المضطجع) و (عفرة) وسماه بأسماء حسنة جميلة} فمثلاً اسم أبي الحكم غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه من أبي الحكم إلى أبي شريح، كما في الحديث الصحيح الآتي.
(المضطجع) غير اسمه إلى (المنبعث) ، عفرة هذا اسم أرض، غير اسمه النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك (شعب) وكان اسمه (شعب الضلالة) ، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه سماه (شعب الهدى) ، أو (شعب الهدي) أو ما أشبه ذلك.
بل كان جماعة من الناس يسمون بنو الزينة، أي: أن هذا الاسم يدل على أنهم من زنى، فغير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم، وسماهم (بنو الرشدة) ، يعني أنهم من نكاح صحيح لا من سفاح حرام، إلى غير ذلك من الأشياء التي غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم.
وهذا يدل على أن الاسم القبيح الذي يدل على معنى رديء؛ ينبغي أن يغير، وبعض العوام يعتقدون أن التغيير لا يكون إلا بأن يذبح الإنسان شيئاً إذا غير اسمه، وهذا مجرد إشاعة انتشرت عند العامة، لا أعلم لها أصلاً في الشرع، ولا أعلم أحداً قال بها من أهل العلم، فيغير الاسم القبيح إلى اسم حسن، دون أن يترتب على ذلك طلب فدية، ولا كفارة ولا شيء من ذلك، ولم يرد في شيء من النصوص السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.
هذه الأسماء التي غيرها النبي عليه الصلاة والسلام، إنما غيرها فراراً وكراهيةً من معانيها الرديئة؛ لما سبق من ارتباط الاسم بالمسمى، ولذلك جاء في الحديث الصحيح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: -كما في صحيح البخاري وصحيح مسلم: {أسلم سالمها الله، هذه قبيلة أسلم، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله} فانظر كيف ناسب صلى الله عليه وسلم بين أسماء هذه القبائل وبين أحوالها، فأسلم قد أسلم كثير منهم، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمسالمة، وكذلك غفار دعا لها بالمغفرة، أما عصية فهم الذين غدروا بأصحابه وقتلوا منهم؛ فدعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {عصت الله ورسوله} .
ومن طريف ما يحكى في التفاؤل بالأسماء الحسنة، وكان عليه السلام يعجبه ذلك، وفي ذلك قصص كثيرة، لم أشأ أن أستدل بأشياء من القصص المروية عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنني أود أن أقتصر فيما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام على ما صح وثبت بسند صحيح، لكن أذكر بعض الروايات المتعلقة بغيره باختصار: فمما يحكى من ذلك أن حليمة السعدية؛ التي أرضعت الرسول صلى الله عليه وسلم، جاءت إلى مكة لطلب الرضاعة، فلما وقفت على عبد المطلب قالوا: من أنتِ؟ قالت: أنا حليمة، قالوا: ممن أنت؟ قالت: من بني سعد، فقال عبد المطلب: حلم وسعد ما أحسن هذان! في هذين غناء الدهر، ودفع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يحكى أن الحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب إلى كربلاء، ونزل بها سأل عن اسمها، فقيل له: هذه كربلاء، فقال: فيها كرب وفيها بلاء، وفيها حصل فعلاً المقتلة العظيمة، حيث قتل رضي الله عنه وطائفة كبيرة من جنده الذين كانوا معه، فهذا أيضاً يدل على ضرورة تغيير الأسماء السيئة إلى أسماء حسنة تدل على معانٍ جملية.(64/22)
الأحكام المتعلقة بالتسمية
النقطة الرابعة والأخيرة في هذا الموضوع هي: الأحكام المتعلقة بالتسمية.(64/23)
ضرورة تغيير الاسم القبيح
فأول حكم من الأحكام -وقد أسلفته- وهو ضرورة تغيير الاسم القبيح، وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة من الصحابة ومما غيره كما ذكر ابن المنذر أن علياً رضي الله عنه أتاه بابنه الحسن فقال له: هذا اسمه (حرب) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلا بل اسمه الحسن} فلما ولد الحسين سماه علي رضي الله عنه (حرباً) ، فلما جيء به قال النبي صلى الله عليه وسلم ما اسم ابني هذا؟ قالوا: اسمه (حرب) ، قال: {كلا هو الحسين} ثم أتاه بابنه الثالث فقال ما اسمه؟ قال: (حرب) ، قال: {كلا بل هو محسن} وقد غير النبي أسماء كثيرة كما أسلف.
وأيضاً غير أسماء المواقع، ولعل من أشهر ما غيره المدينة، فإنها كانت تعرف في الجاهلية بيثرب فسماها النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولذلك روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي حميد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من تبوك قال: {هذه المدينة وهم يقولون يثرب} وكذلك روى النسائي بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الرجال أو تنفي خبث الرجال كما ينفى الكير خبث الحديد} ولم يحك الله تعالى لفظ يثرب إلا عن المنافقين: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] ولذلك فإن تسمية المدينة بيثرب هو مكروه كراهية شديدة، على ما هو الراجح.(64/24)
الاسم للأبوين
الأمر الثاني المتعلق بالأحكام: أن الاسم حقٌ للأبوين: الأب والأم، وإذا تشاحا فيه واختلفا، فإن المقدم في ذلك الأب لأن النسب إليه، فهو يقال فيه فلان ابن فلان، كما أن الأحاديث السابقة كلها كان الذي يتولى التسمية فيها هو الأب -كما سلف- لكن إن أمكن التفاهم بين الزوجين فهو الأفضل، فبعض الزوجين يتواضعون على أن الرجل يسمي الأولاد الذكور، والأم تسمي البنات، فهذا حسن إذا اتفق، أو يكون بينهما مفاهمة ومناقشة، حتى يتفقا على الاسم المناسب للجميع.(64/25)
جواز التسمي بأكثر من اسم
النقطة الثالثة في الأحكام: أنه يجوز للإنسان أن يسمي نفسه بأكثر من اسم، وإن كان هذا خلاف الأولى، ولذلك جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن جبير بن مطعم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لي خمسة أسماء، أنا أحمد، ومحمد، والحاشر، والعاقب، والماحي والحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر} .
وقد ذكر ابن فارس رحمه الله، أن للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين اسماً، فالتسمي بأكثر من اسم لا بأس به، وإن كان خلاف الأولى.
لكن أريد أن أنبه إلى نقطة: وهي أن بعض الشباب -خاصة الذين يذهبون للجهاد في بعض المواقع الإسلامية- أخبروني أنهم يسمون أنفسهم بأسماء أخرى منتحلة كاملة، مثل: أحدهم سمى نفسه: مصعب بن عمير، وهو في الواقع اسمه (محمد بن علي) مثلاً، أو صالح بن إبراهيم، فهذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] .
فكون الإنسان يسمي نفسه (ابن كذا) ، ويذكر اسماً ليس لأبيه هذا حرام، اللهم إلا أن ينتسب إلى جده مثلاً، أو إلى أحد أجداده، أو إلى قبيلته فهذا لا بأس، أما أن ينتحل لنفسه اسماً ولأبيه اسماً، فيسمى نفسه مثلاً أسامة بن زيد، أو مصعب بن عمير، أو عمر بن الخطاب، وليس اسمه كذلك، فإن هذا حرام لا يجوز؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] .(64/26)
وقت التسمية
النقطة الرابعة والأخيرة في موضوع الأحكام: متى تكون التسمية؟ أو في أي يوم؟ قيل: إنه يستحب التسمية في اليوم السابع، وقد جاء في هذا ثلاثة أحاديث أو أكثر، أحدها: حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى} والحديث رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة وسنده جيد لأن الحسن البصري صرح بسماعه لهذا الحديث من سمرة بن جندب فأمن انقطاعه، وقد ذكر أهل العلم: النسائي وغيره أن الحسن سمع من سمرة بن جندب ثلاثة أحاديث هذا أحدها.
الثاني حديث عبد الله بن عمر {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه} والحديث رواه الترمذي وسنده ضعيف، والثالث حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأظنه عند ابن المنذر قال: {أمرنا بتسمية المولود يوم سابعه} .
هذا هو القول الأول.
وقال آخرون: بل يسمى في اليوم الثالث، وجاء هذا عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه يسمى في اليوم الثالث.
والقول الثالث: أنه يسمى من حين يولد، قال البيهقي رحمه الله: وهذا أصح، أنه يسمى من حين يولد، وذلك لأن جميع القصص السابقة -وهي كثيرة- وردت فيها التسمية حين ولادته، مثل ابن الرسول عليه الصلاة والسلام إبراهيم، سماه حين ولد، وإبراهيم بن أبي يوسف، سماه لما جاء به ليحكنه، والتحنيك يكون بعد ولادته مباشرة، وقبل أن يدخل جوفه شيء أبداً، لا لبن ولا غيره، وكذلك عبد الله بن الزبير سماه عليه الصلاة والسلام، وابن الأنصاري، وغيرهم كثير ممن سماهم النبي صلى الله عليه وسلم.
أولاده أيضاً، الحسن، والحسين، ومحسن -إذا صحت- سماهم عليه الصلاة والسلام حين ولادتهم، فأكثر ما ورد من النصوص أن التسمية كانت حين الولادة، ولذلك فإن الأقرب -والله أعلم- ما قاله ابن القيم رحمه الله حين قال: والأمر في ذلك كله واسع، فإن سمى في اليوم الأول أو الثالث أو السابع.
وكأن الأحاديث التي فيها التسمية بالسابع تحتمل في نظري على أنه ينبغي أن لا يتعدى بالتسمية اليوم السابع.
أي: يسميه حين يولد، فإن لم يفعل سماه إلى اليوم الثالث، فإن لم يفعل سماه إلى اليوم السابع، ولا ينبغي أن يتعدى به اليوم السابع، هذا استحباباً، ولو تعدى لم يكن في ذلك حرجٌ.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(64/27)
حقيقة التطرف
تحتوي هذه المادة على المعنى اللغوي والاصطلاحي للغلو، وكيف سخرته دول الغرب في هدم الدين، ثم بين حقيقة التطرف، والأسباب التي تمنع المسلمين من الغلو.(65/1)
قصيدة في مدح الشيخ: سلمان
قصيدة في مدح الشيخ سلمان: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: يا قائد الركب لي في ركبكم أمل أنزل بربك من في القلب قد نزلوا انزل بربك من في القلب مسكنهم وبالفؤاد لهم في ساحه نزل أنزل بربك من دموا مدامعنا شوقاً إليهمفما جفّت لنا مقل أنزل بربك من أبقوا لنا طللاً نشكو إليه النوى حتى اشتكى الطلل أنخ بربك ركباً كنت آمله عودي علينا فديت النفس يا إبل رحماك يا ركب بي فإنني رجل لم يشجه قط ذكر الدار والغزل ولست صباً يذيب الهجر أضلعه أو أنني من كئوس الوصل أنثمل وما سبتني دنيا لا بقاء لها أو دل غانية أو أعين نجل كلا! فديتك إن القلب يسكنه أهل الفضيلة إن قالوا وإن فعلوا فمنهم شيخنا سلمان من فخرت به الشباب وخافت رأيه الدول ومن أقر له بالفضل معترفاً رجال أمته شاب ومكتمل قد أنحلت جسمه بالهمّ أمته فعاد كالسيف يحدو عزمه الأمل في أن يعيد إلى الإسلام عزته ما زاره كلل أو شابه ملل تبدو على وجهه آثار فكرته هم على ظهره من فوقه ثقل فلم ير الشيخ ضحاكاً ولا هزلاً كيف السرور وقلب الشيخ يشتعل وهمه الدين والإسلام دعوته عدوه الكفر والخذلان والكسل بيضٌ فعائله جدٌ عزائمه كثرٌ فضائله لم تحصها جمل أخلاقه كرم أفعاله ورع حياته عمل في إثره عمل نهاره دعوة وعظ وتبصرة وليله دمعة لله تنهمل إنا رجالك يا سلمان فامض بنا أنى أردت فأنت القدوة المثل إنا رجالك مهما قال حاسدكم إنا رجالك لو سبوا ولو عذلوا إنا رجالك لو قالوا زبانية أو ذاك منحرف أو ذاك معتدل هذي مجالسهم غرقى بخمرهم هذي سجونهم قد عمها الوجل هذي صحائفهم ملأى بوحلهم هذي منابرهم فليعتل السفل إنا لنا خطنا نمشي عليه كما للكافرين صنوف الزيغ والسبل متطرفون نعم لله خالقنا وكذا أصولية بالله تتصل إنا اهتدينا بنور الله خالقنا فكيف يصرفنا عن نوره هبل عذراً فديتك إني قد مدحتكم حقاً وصدقاً وإني منكم خجل فخذ بفضلك ترباً واحث في وجهي فالترب من يدكم يا شيخنا حلل(65/2)
سبب اختيار موضوع حقيقة التطرف
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أيها الإخوة مضى ذلك اليوم يوم عاشوراء, المبارك الذي كان يوماً من أيام الله تعالى, حيث نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن صامه وتقبل منه صيامه, إنه على كل شيء قدير.
في هذه الليلة -ليلة الحادي عشر من شهر الله المحرم من سنة (1413هـ) - ينعقد هذا المجلس المبارك في هذا المسجد في حي الإسكان بمدينة جدة, وقد طلب إليّ المقدم -غفر الله له- بعدما قرأ قصيدته أن أحثو في وجهه التراب, من قبِلَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ولكن عذري أنه لا يوجد هاهنا تراب, والواجب يسقط مع العجز, ولكنني أحثو في وجهه وفي وجوهكم دعوات أسأل الله تعالى ألا يحجبها.
فأقول: اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من ناوءنا, ووفقنا لما يرضيك عنا, اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا, وظاهرنا وباطننا, اللهم تولَّ أمرنا, اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور, اللهم إنا نسألك إيماناً صادقاً وعلماً نافعاً, وعملاً صالحاً متقبلاً, ورزقاً حلالاً واسعاً.
ثم أقول: كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اجعلني خيراًَ مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]] فإنني لا أقر ما ذكره المقدم ولا أوافق عليه, وقد طلبت منه وهمست إليه حذف بعض الأبيات على الأقل, لكنه اعتذر وأصر، فإنه مسئول عما قال, وأقول: هذا وإن كنت أعلم أن مدحه ومدح غيره لا ينفعني شيئاً ولا يضرني شيئاً أيضاً, فأما إنه لا ينفعني فإنما الإنسان بعمله, وأما إنه لا يضرني -إن شاء الله- فإنني أعلم في نفسي من الجهل والنقص والظلم ما جعلني لا ألتفت إلى ما يقوله عني الآخرون, -ولله الحمد- فلا أخشى على نفسي من شيء، وأنا أعلم أن فيها من المعايب ما لا تعلمون وما لا يعلمون, ويكفيني أني أعلم أن الذي مدحني لو علم من نفسي ما أعلم منها لما قال الذي قال, ولكنه قال ما قال أخذاً بالظاهر, والله تعالى يغفر لي وله.
أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة هو: حقيقة التطرف، ولقد عولج هذا الموضوع كثيراً بأسماء شتى، سواء في محاضرات أم دروس, أم في كتب قديمة أو جديدة, ولعلي أذكر من الكتب القديمة التي عالجت جانباً من هذا الموضوع, كتاب الإمام الشيخ ابن تيمية رحمه الله: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فقد عالج فصولاً من ذلك في غلو اليهود والنصارى وغلو هذه الأمة.
أما من المعاصرين فإنني أشيد بكتاب ضخم صدر أخيراً بعنوان: الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، للأستاذ عبد الرحمن اللويحق , وهذا الكتاب هو بحق من أنفس وأحسن وأجمع ما كتب في موضوع الغلو, وسأتحدث في هذا الموضوع في نحو ست نقاط.
لماذا نناقش هذا الموضوع؟ وما مناسبة طرحه في هذه الظروف بالذات؟(65/3)
تجدد حدوثه
ثالثاً: أن هذا الموضوع يتجدد عرضه مع كل حدث, فمثلاً عند مقتل الرئيس المصري السابق طرحت قضية ما يسمى بالتطرف على أوسع نطاق, ثم سكتت قليلاً, ثم في أحداث أفغانستان طرحت, في سقوط الاتحاد السوفيتي طرحت, في أحداث الخليج طرحت, في قيام الانقلاب لثورة الانقاذ في السودان طرحت, في أحداث الجزائر وهكذا أصبحت تطرح بكل مناسبة, ويتسامع الناس بهذا, وربما يكون الكثير من عامة الناس يأخذون معلوماتهم عن هذا الموضوع من خلال أجهزة الإعلام.(65/4)
الخوض فيه بغير علم
ثانياً: هذا الموضوع تناوله الكثير, تحدث عنه الغرب الكافر، وأطلق مصطلح: الأصولية، وتحدث عنه العلمانيون عبر أجهزة الإعلام من صحافة وغيرها, وأطلقوا مصطلح: التطرف, وتحدث عنه غير المتخصصين سواء كانوا في المراكز العلمية أم في أجهزة الإعلام أم في غيرها, فوجب على حملة العلم الشرعي أن يتناولوا هذا الموضوع أيضاً.
ولعلي أذكر لكم نموذجاً واحداً فقط ممن يتحدثون في مثل هذه الأمور, قبل يومين قرأت في جريدة الحياة, مقابلة مع إحدى المغنيات الشهيرات وهي في فرنسا, تتجول في مسارحها ونواديها للتحكيم في بعض المسابقات الفنية, فسألوها أخيراً عن أنه هناك بعض الفنانات والممثلات يعتزلن الغناء والتمثيل والفن باعتقاد أنه محرم؟ فقالت هي: أبداً الفن ليس بحرام، وعمره ما كان حراماً! فهذه فتوى نشرت بالخط العريض، تدل على أنه تكلم في مثل هذه الأمور كل واحد, وحق على أهل الإسلام وحملة الدعوة أن يتكلموا عنه.
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس(65/5)
الغلو واقع لا شك فيه
فأقول: أولاً: لأن الغلو أو ما يسمونه بالتطرف أحياناً هو واقع لا شك فيه, ولا يمكن تجاهله، وليس يجوز أن يكون انزعاجنا هو من الحديث عن الأخطاء أو المشاكل بل يجب أن يكون انزعاجنا من وجود الأخطاء, أو من وجود المشاكل في المجتمع المسلم, ولهذا لست أرى حرجاً قط في نقد مظاهر الانحراف في المجتمع الإسلامي, بل وفي نقدها علانية وأمام المسلمين خاصتهم وعامتهم, وفي الحديث الذي رواه مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة} والنصيحة تقتضي أن يصارح بعضنا بعضاً بأخطائنا وعيوبنا, سواء كانت أخطاء الخاصة أم أخطاء العامة, اللهم إلا أن تكون تلك الأخطاء أخطاء شخصية فحينئذٍ ينبغي أن تكون النصيحة فيها بينك ويبن الشخص الذي صدر منه الخطأ.(65/6)
الحديث عن مصطلح التطرف
مصطلح, التطرف: كلمة وردت في العنوان, وهذا في الواقع مصطلح صحفي, وإن كان صحيحاً من حيث اللغة, وهو يعني أخذ الشيء بالطرف, لكنه ليس من الألفاظ الشرعية, فهو لم يرد في القرآن ولا في السنة النبوية, وإنما هو مصطلح صحفي، أكثر من يستخدمه العلمانيون غالباً, دون أن يلتزموا بالموضوعية في هذا المصطلح, فهم لم يحددوا أولاً ما هو التطرف؟ وما معنى التطرف؟! بل ولا يريدون أن يحددوا له معنىً, ويريدون أن يبقى لفظ التطرف لفظاً غامضاً سيالاً فضفاضاً، يحاولون إلصاقه في خصومهم، سواء كانت خصومة سياسية، أو فكرية، أو شرعية، أو دينية، أو حتى خصومة شخصية أحياناً, وهم أيضاً لا يريدون أن يكون لهذا المصطلح معنىً خاص حتى يسهل عليهم تقليبه كيف شاءوا.
فهم اليوم يَصِفُون به هذه الجهة, وغداً يَصِفُون به تلك الجهة, واليوم يصفون هؤلاء بالتطرف وغداً يبعدونه عنهم ويصفونهم بالاعتدال, لماذا؟! لأن لفظ التطرف لفظ غامض فضفاض في استخدامه.(65/7)
أصل مصطلح الأصولية
أما الغرب فإنه يستخدم بدلاً من لفظ التطرف لفظ الأصولية, وهو في الأصل مصطلح نصراني يطلق على أحد المجموعات النصرانية, التي تلتزم بحرفية الكتاب المقدس عندهم التزاماً صارماً, وقد نشأت في ظروف وأوضاع خاصة, وقد حاول هؤلاء أن يبحثوا عن أوجه شبه بين هذه الفئة من النصارى وبين دعاة الإسلام أو بعضهم, ومن ثم نقلوا المصطلح إلى الشرق, وهو مصطلح غربي له ظروفه وملابساته الخاصة, وإن كانت الصحف العلمانية لا تتورع عن شيء في بث أحقادها, فإنها تستخدم كل مصطلح وتعده وسيلة أو سلاحاً ضد دعاة الإسلام.
وقد أصدر سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بياناً منذ زمن نشر في الصحف, يحذر فيه من هذا المصطلح، ويبين ما يقصد به, ويدعو إلى تجنبه وإلى العدل في الأقوال والأفعال.
إذاً قد يطلق لفظ التطرف وقد يطلق لفظ الأصولية وكلها كلمات باطلة أريد بها باطل.(65/8)
توظيف مصطلح التطرف
ففي نظر هؤلاء -مثلاً- يمكن يوظف مصطلح التطرف أحياناً في مواجهة المواقف السياسية, فالذين ينتقدون الصلح مع إسرائيل هم متطرفون, ولذلك وجدنا مجلة الوطن العربي تنبز منظمة حماس الإسلامية الفلسطينية، تنبزها بأنها منظمة متطرفة, لماذا؟! لأن موقفها من قضية السلام موقف واضح وصريح، فهي ترفضه وتعتبر أن المشاركة في مؤتمر السلام خيانة لقضية الأمة الإسلامية.
وبالأمس القريب كانت منظمة حماس عند هؤلاء وغيرهم رمزاً من رموز المقاومة الوطنية الناضجة, التي تقاوم الاحتلال الصهيوني الغاشم, هكذا كانت عباراتهم, فبين عشية وضحاها تحولت من منظمة وطنية ومنظمة مقاومة تحولت إلى منظمة متطرفة.
وهكذا يبرز جانب التحالف الجديد بين العلمانيين الذين كانوا بالأمس في موقف المعارضة في الغالب فتحولوا اليوم أمام خطر ما يسمونه هم وغيرهم بالتطرف الديني, تحولوا إلى موقف التحالف مع القوى الأخرى, مع السلطات ومع الغرب ومع غيرهم, وسأزيد هذه النقطة وضوحاً في النقطة التي بعدها.
ً فقد يوظف التطرف أحياناً أو ما يسمى بذلك في مواجهة بعض المواقف السياسية.
وأحياناً يوظف في مواجهة بعض المواقف السلوكية, ففي نظر العلمانيين مثلاً من الصحفيين وغيرهم, الذي يلتزم بالسنة في صلاته وفي لباسه، في تجنبه للمحرمات وفي حجاب زوجته، في سواكه، في تجنبه للربا، في تجنبه للفحش، في تجنبه للغناء هذا يعتبر عندهم محسوباً على المتطرفين, وكثيراًَ ما ترسم الكاركاتيرات في الصحف السافرة عن أصحاب اللحى الطويلة وأصحاب الثياب القصيرة, فكأن هذا عندهم هو رمز التطرف, فمثلاً في جريدة صوت الكويت, لا حياها الله, رسمت في أحد أعدادها رجلاً له لحية كبيرة، وكأنها كيس كبير يحمله, وهذه اللحية مرسومة على شكل مسدسات, إشارة إلى أنه إنسان إرهابي, وفي يده جريدة تعلن اغتيال رئيس المجلس الأعلى في الجزائر بوضياف، وهذا الرجل يقول: اللهم احمنا من الإرهاب، فهذه سخرية؛ وفي عدد آخر من الجريدة نفسها صورت إنساناً كثيف الحاجبين جداً, وشاربه محلوق, ولحيته ضخمة طويلة تصل إلى نصف الساق تقريباً, وثوبه قصير, وفي يده مسبحة, وهذه المسبحة عبارة عن عقود من القنابل, تصوّر! فترتسم في ذهن السذج والبسطاء والمغفلين هذه الصورة بالإرهاب والتطرف والعنف وبرفض الحوار, دون أن يتحدثوا، ودون أن يستخدموا أسلوب النقاش الهادئ العلمي الموضوعي الذي يتحدثون عنه, لكن من خلال صورة بذيئة, غير مؤدبة، وهذا غريب! وبطبيعة الحال فإن الموسومين بما يسمونه بالتطرف لا شك أن منهم من يلتزم بالمظاهر الإسلامية, فيعفي لحيته أو يقصر ثوبه لكننا نعرف الخلفية التي يستخدمها أولئك الصحفيون وهم يتحدثون أو يرسمون, ونحن لا نعرفها من باب الرجم بالغيب فالغيب لله, ولكن نعرفها من مواقف أخرى واتجاهات ومناهج يحاولون أن يجروا كل دعاة الإسلام لتصنيفهم تحت عنوان التطرف! ومن ثم يحذرون المجتمعات من خطورتهم, فمثلاً جريدة الشرق الأوسط ومع الأسف أنها محسوبة على هذه البلاد, تعتبر الجبهة الإسلامية في الجزائر أصوليين متطرفين, وأهل السودان أصوليين متطرفين, وأهل اليمن أصوليين متطرفين, وأهل الأردن أصوليين متطرفين, بل وكثيراً من أهل هذا البلد أصوليين متطرفين, وحزب النهضة في تونس أصوليين متطرفين, في نظر جريدة الشرق الأوسط, ولهذا قال أحد الكاتبين في جريدة المدينة: إن الشرق الأوسط صورت ما يسمى بالجماعات الإسلامية كلها, وكأننا نعيش في غابة من الوحوش! لا هم لها إلا القتل والتفجير والحرب والتدمير وغير ذلك.
وأقول: هذا الوصف الذي أطلقته خضراء الدمن على الجماعات الإسلامية وعلى دعاة الإسلام لم تظفر به كل المجتمعات البشرية, حتى اليهود لم تصف مجتمعاتهم بذلك, بل وصفت مجتمعات اليهود بأن فيها صقوراً وحمائم, وأن فيها معتدلين, وأن فيها منادين للسلام, ولم تصف الصرب الذين دمروا المسلمين في البوسنة والهرسك، لم تصفهم بهذا الوصف قط, ولم تصف الصليبيين في العالم بذلك, ولا الشيعة ولا حزب البعث ولا غيرها.
وقد حشرت في هذا تناقضات تمتد ما بين النواب الأردنيين الذين دخلوا البرلمان الحكومي, والجبهة القومية في السودان, التي يقول " مورفي " وهو مراسل إحدى الصحف الأمريكية في الشرق الأوسط عن أحد زعماء الجبهة في السودان: إنه منظر إسلامي فذ, لكنه أصولي يعرف جيداً كيف يستغل الظروف ويستخدمها لصالحه، وهو قادر على التأقلم مع الواقع, ويرضى بمهادنة الأنظمة بدون أن يتخلى عن مطالبه، ولاحظوا الألفاظ, ثم يقول: إن الترابي -وهو المقصود بالحديث السابق- بدأ يعلم تلاميذه شكلاً آخر من أصولية الإسلام, يمكنهم من التعايش مع الآخرين والتأقلم مع المتغيرات, والتطورات, ويجنبهم العزلة في الوقت الذي يلتزمون بالخطوط العريضة في أفكارهم.
أولاً: لا أحد يستطيع أن يمدح الترابي ولا غيره بأفضل من هذا الكلام, بأنه محافظ على أصوله ومبادئه، ومع ذلك عنده قدرة على التأقلم مع الظروف والمتغيرات ومع الآخرين, وأسلوب الحوار والنقاش الهادف, هذا أولاً.
ثانياً: هذه شهادة من رجل نصراني غربي يحمل في الغالب عداوة النصارى للمسلمين, ومع ذلك وصف الرجل أنه يتأقلم مع الظروف, وأنه يحسن معايشة الأوضاع، فكيف تأتي صحف كالشرق الأوسط أو غيرها, لتصفهم بالتطرف والأصولية.
كما حشرت الشرق التجمع اليمني بقيادة الشيخ عبد المجيد الزنداني ضمن المتطرفين, واعتبرت أن التجمعات والمخيمات التربوية العلمية التي تقام في اليمن مراكز لتخريج المتطرفين, وتدريب الإرهابيين, دون أن تقدم على ذلك دليلاً واحداً, ونسيت هذه الجريدة أنها تتكلم عن واقع لا يبعد عنا سوى كيلوا مترات قليلة، وأن التحقق من هذه الأقوال والأخبار أمر ميسور, لكن في حمى العداوة الشخصية والسياسية نسيت كل شيء وأصبحت تتكلم في مثل هذا الأسلوب.
كما شمل هذا اللفظ حزب النهضة التونسي, وهو من أكثر الاتجاهات الإسلامية تسامحاً, بل ورخاوة في أفكاره ومصطلحاته وفي علاقاته.
أما الجماعات الإسلامية في مصر, فحدث ولا حرج, بل حتى المجاهدين الأفغان صنفوا الآن ضمن المتطرفين, وخرجت علينا مطبوعات عدة تحذر منهم, ومن الشباب العربي المسلم العائد من هناك, أصوات تحذر من هؤلاء، لم نسمعها يوماً من الأيام تحذر من الشباب العائد من بانكوك ومن يحمل جرثومة الإيدز, في صحف محلية في هذا البلد, ومع الأسف أن يتورط في هذا الأمر مطبوعات وصحف محلية كان يجب عليها على الأقل أن تجامل العلم وأهل العلم في هذه البلاد التي هي محط أنظار المسلمين في كل مكان.
فمقصودي من هذا الاسترسال أن أقول: إن هذه الصحف وهذه الوجوه لا تتحدث عن فئة بعينها, لا, ولكنها تتذرع بالحديث عن التطرف لشفاء غليلها، والتنفيس عن أحقادها وعداوتها من حملة رسالة الإسلام, حتى ولو كانوا معتدلين، بل حتى لو كانوا مفرطين متساهلين.
وقد يوظف لفظ التطرف أحياناً في مواجهة مواقف سياسية أو سلوكية، وقد يوظف أحياناً في مواقف عقائدية مبدئية, فمثلاً الذي يطلق على النصارى لفظ كفار يعتبر عند بعضهم متطرفاً, والذي يتحدث عن الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية يعتبر متطرفاً, لماذا؟! لأن هؤلاء يقولون الإسلام لم يطبق أبداً, حتى في عهد الخلفاء الراشدين, وهذا كلام فرج فودة , في كتابه: الحقيقة الغائبة، الذي دفع حياته ثمناً لهذا الكتاب, يقول ما معناه: إن الإسلام حلم وخيال, ولم يطبق على محك الواقع يوماً من الدهر, وذلك فالذين ينادون بالحكم الإسلامي, وتطبيق الشريعة الإسلامية هم من المتطرفين, والذي يدعو إلى مخالفة المشركين في هديهم وسلوكهم وأعمالهم وأعيادهم هو من المتطرفين, والذي ينادي بتصحيح عقائد المسلمين وأحوالهم وأخلاقهم على ضوء الكتاب والسنة هو من المتطرفين, وهو من الذين يدعون إلى الحجر على العقول وتعطيلها.
إحدى الصحف -مثلاً- نشرت أيضاً كاركاتيراً هو عبارة عن صورة لرجل ملتحٍ وضع خده على يده يفكر, فبصر به أحد أقاربه ممن يسمونه بالمتطرفين, فجاء إلى أمير الجماعة -كما يقولون- يقول له: إن فلاناً قد وضع خده على يده -بمعنى أنه قد بدأ يفكر- ومن فكر كفر، فأنا أقترح تصفيته جسدياً -يعني قتله- وهم بذلك يريدون أن يرسلوا إلى القارئ والمشاهد رسالة وهي أن هؤلاء لا يفكرون ويحجرون على العقول, وأنهم يتعاملون دائماً وأبداً مع خصومهم بأسلوب القتل والإرهاب والتصفية الجسدية.(65/9)
المعنى الشرعي للتطرف
المعنى الشرعي في مقابل هذا وذاك, هو لفظ: الغلو، وقد جاء هذا اللفظ في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171] , وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] كما جاء هذا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً, ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنه لما جمع للنبي صلى الله عليه وسلم جمرات, أمره أن يلقط له حصىً صغاراً وقال: {بمثل هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين} , والحديث رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة وابن تيمية والنووي والألباني وغيرهم.
ولذلك فالواجب والأفضل استخدام المصطلحات الشرعية, وتجنب المصطلحات الغربية أو المصطلحات العلمانية المحدثة, التي أصبح لها جرس ورنين في آذان مستمعيها, وأصبح لها انطباع في عقولهم يصعب التخلص منه, ومع ذلك فإنه ليس لها معنىً خاصاً يمكن فهمه ومعرفته.
وهذا لا يعني -أيضاً- أن استخدام المصطلح الشرعي ينهي المشكلة, فنحن نجد أن هناك من يرمي بالغلو أقواماً ما جاوزوا الحد ولا تعدوا الحق, بمجرد مخالفته لهم في المنهج أو في الطريقة, أو جهلاً منه بما هم عليه, أو حسداً من عند نفسه, أو لأي سبب آخر, ومن أمثلة ذلك مثلاً ما نعلمه جميعاً عن خصوم الدعوة الإسلامية السلفية في هذه البلاد حيث يطلقون عليها لفظ الأصولية ولفظ التطرف وغير ذلك من الألفاظ, وهم ما فتئوا ينبزونها بالألقاب بدون علم ولا هدىً ولا كتاب منير.(65/10)
أنواع الغلو
والغلو نوعان: 1- غلو اعتقادي: كغلو النصارى بعيسى عليه السلام, أو غلو الرافضة في علي والأئمة الاثني عشر, أو غلو الخوارج في تكفير أهل الإسلام بالمعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها, ومن الغلو أيضاً في الاعتقاد ما أشار إليه الشاطبي وهو الغلو في بعض الفروع في تنزيلها منزلة الأصول.
إذ أن المعارضة الحاصلة بذلك للشرع مماثلة للمعارضة الحاصلة للشرع بأمر كلي.
2- الغلو العملي: وهو المتعلق بالأمور العملية التفصيلية من قول اللسان أو عمل الجوارح, مما لا يكون فرعاً عن عقيدة فاسدة, ومن أصح الأمثلة على ذلك رمي الجمار بالحصى الكبيرة مثلاً, فإن النبي صلى الله عليه وسلم عدّه غلواً كما في حديث ابن عباس السابق, فهذا غلو عملي لا يترتب عليه اعتقاد, ومثله المبالغة في العبادة كما يحدث عند بعض الفرق مثل الصوفية التي تبالغ في العبادة، وتزيد فيها عما شرع الله عز وجل، كوصال الصوم أبداً، وقيام الليل كله وما أشبه ذلك.
ولا شك أن الغلو الاعتقادي هو الأخطر, لأنه هو النقطة التي تشعبت عندها الفرق المختلفة في الإسلام وبزغت عندها الأهواء، واختلفت عندها العقول والقلوب, ثم سلت السيوف ثم سالت الدماء.(65/11)
معنى الغلو
ومعنى الغلو: هو مجاوزة الحد.
والحد: هو النص الشرعي من كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم, والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند حدود الله تعالى كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وإذا بحث المسلم مسألة وجب عليه أن يجمع النصوص القرآنية والنصوص النبوية فيها, ويؤلف بينها على وجه لا يضرب بعضها ببعض, ولا يأخذ نصاً ويهمل آخر, أما الغلاة فيضربون بعض النصوص ببعض, أو يقتطعون نصاً يلائم غلوهم ويسكتون عما عداه.(65/12)
أسباب الغلو
وهذا موضوع مهم جداً, وهذه ظاهرة ليست جديدة بل هي موجودة منذ ما يزيد على ألف وثلاثمائة سنة, فلنبحث ما هي أسباب هذا الغلو أو التطرف كما يسمونه:(65/13)
من أسباب الغلو: أحوال المجمتع
أحوال المجتمع فمن الخطأ الكبير أن نعتقد أن المتطرف شجرة نبتت في الصحراء, وهذا خطأ, بل هو فرع عن شجرة وهو جزء من مجتمع عاش فيه, ولهذا المجتمع في نفسه وتفكيره وعقله أعظم الأثر, فمثلاً التطرف في الانحراف يؤدي إلى تطرف مقابل سواء الانحراف الفكري أو الانحراف العملي, ولذلك فالذين يجرون المجتمعات الإسلامية إلى الفساد والانحلال الخلقي هم في الحقيقة من المتسببين لحصول الغلو, وإن أعلنوا الحرب عليه وعلى ما يسمونه بالتطرف, إلا أنهم من أول المتسببين فيه.
فمظاهر الرذيلة في المدرسة والجامعة والشارع والشاطئ والمتجر والحديقة والشاشة والإذاعة وغير ذلك, إذا أقرها المجتمع وسكت عنها، فإنه يجب عليه أن يستعد للتعامل مع أنماط كثيرة من الغلو, هذا إذا كان دور المجتمع هو فقط السكوت عنها, فما بالك إذا كان دور المجتمع بكليته هو تشجيع مظاهر الانحراف ودعمها, وحمايتها, وحراستها, وتبنيها, سيكون الأمر ولا شك أخطر.
وقل مثل ذلك في الأوضاع الثقافية والإعلامية كمحاصرة فكرة من الأفكار, أو إغلاق منافذ التعبير والكلام أمامها، سواء الصحيفة أو الإذاعة أو التلفاز أو غير ذلك, فهذا سبب لأن تتبلور لدى هذه المجموعة فكرة الغلو أحياناً أو على الأقل فكرة المواجهة والسعي لإثبات الذات.
ومن الغريب جداً أن الإعلام العربي خاصة, يتهم من يسميهم بالمتطرفين بأنهم لا يتسامحون مع غيرهم, أو أنهم يسعون لإسكات الأصوات الأخرى التي تخالفهم, مع أننا نعلم أن هؤلاء الناس لا يملكون شيئاً أصلاً, لا يملكون أجهزة الإعلام، ولا يملكون الصحافة، ولا يملكون المنابر، بل الكثير منهم لا يملك حق الاجتماع بعشرة أو أقل من هذا العدد, فكيف يقال: إنهم يغلقون منافذ التعبير عند غيرهم, والواقع أن هذا الإعلام المهيمن هو الذي أصبح حكراً باتجاه معين أو مذهب خاص, أو طائفة محدودة وأصبح يبخل على الآخرين ببضعة أسطر أو ببضع دقائق فضلاً عن أن يساويهم بغيرهم في كافة الأجهزة الإعلامية.
لقد صودرت الآراء النزيهة المعتدلة, فضلاً عن الآراء الغالية أو المتطرفة، ومثل هذا الوضع لابد أن يولد آلافاً من الأمراض في المجتمعات.
أحد الدعاة المعروفين اعتذرت صحف دولة بأكملها عن نشر بعض مقالات له, مهما كان مضمون هذه المقالات بسيطاً وعادياً وبعيداً عن الإثارة, المهم ما دامت المقالات باسم فلان فإن نشرها متعذر, وهذا إن كان سياسة عامة فهو مشكلة كبيرة, وإن كان اتفاقاً أو أمراً حصل بالاتفاق وبالصدفة فهو مشكلة أكبر إذْ أنه يدل على أن المتنفذين في الصحافة وأجهزة الإعلام العربية هم نسخة مكررة عن بعضهم.
وقل مثل ذلك بالنسبة للأوضاع السياسية، فإن الكبت والتسلط والقهر لا يمكن أن يؤدي إلى قتل إنسانية الشعوب, والقضاء على كرامتها، لا, ولكنه يؤدي مع الزمن إلى أن تفقد الثقة بقياداتها, ثم تعمل في الاتجاه المضاد, وتعتبر هذه القيادات ضد مصالح الأمة, وأنها عقبة في سبيل الإنجاز لا بد من تجاوزها, ومن تناقضات الإعلام هنا أيضاً أن يستنكر الإعلام عمليات الاغتيال, التي تمارسها بعض الجماعات الإسلامية أو تنسب إليها أحياناً, ويعتبر أن هذه العمليات جرائم نكراء على حين أنه لا يستنكر الاغتيالات العلنية التي تمارسها الكثير من الأنظمة ضد أفراد بل ضد جماعات بل ضد شعوب بأكملها, هذه تونس كنموذج يوجد في سجونها ما يزيد على ثلاثين ألفاً يعانون ألواناً من مصادرة الإنسانية، جعلت منظمة حقوق الإنسان وهي منظمة دولية غربية ليست إسلامية, بل نصرانية, جعلت هذه المنظمة تصدر تقريراً مزعجاً مخيفاً عن حقوق الإنسان المسلم في سجون تونس, الرجال والنساء, ليس هذا فحسب, بل أصبح الإنسان العادي في الشارع مُصادر الكرامة, مناهج التعليم يُبعد منها كل ما يتعلق بالإسلام, الإعلام يحارب الإسلام صباح مساء, حتى أنه لأول مرة تخرج مسرحيات محلية في هذا البلد المنكوب فيها لقطات عارية, متكررة, تتاجر بالجنس وإثارة الغرائز، والبلد بلد الزيتونة وبلد الجهاد والمجاهدين أصبح يقدم نفسه للعالم الغربي والعالم الإسلامي بهذه الصورة, ولم نجد من تلك الصحف استهجاناً لهذا العمل الذي هو اغتيال لشعب بأكمله, أو اغتيال مجموعات كبيرة من الناس, فضلاً عن اغتيال جماعات أو أفراد.
إنني أقول: أحكام الإعدام التي تسمعون ونسمع عنها نوعان: 1- حكم بالإعدام يتخذ القرار فيه من المسجد, وينفذ بطريقة سرية, وهذا لا شك يستهدف بعض الرموز المنحرفة فكرياً, كما حصل لـ فرج فودة مثلاً، أو بعض الشخصيات السياسية أو غيرها كما تعرفون في مصر والجزائر وسواها, هذا سواء كان الذين اتخذوه من أفراد الجماعات الإسلامية أو غيرهم, إلا أنه يمثل جانباً, كان على تلك الصحف وهي تعرضه أن تعرض النوع الثاني من أحكام الإعدام, وهو: 2- أحكام الإعدام التي تتخذ قراراتها في محاكم صورية -مدنية أو عسكرية- وتنفذ بطريقة علنية, والعجيب أنه يستنكر الأول ولا يستنكر الثاني, وكلهم بشر، تعجب مثلاً عندما قتل ضابط أمن في مصر، فكتبت الصحف المصرية كثيراً عن هذا الضابط، وتكلمت عن زوجته التي كانت تنتظره بفارغ الصبر, وتكلمت عن أطفاله الذين يقلبون عيونهم ببراءة ويقولون: أين بابا؟ متى يأتي بابا؟! فتذرف عيون أمهم دمعات حارة ساخنة, ترحمت الصحف على هذا الضابط، وتكلمت عنه وحركت المشاعر في اتجاهه, وأنا أقول: حسناً هذا الذي قلتم وهذا الذي فعلتم، ولكن أولئك الذين قتلهم هذا الضابط أو غيره، أو سجنهم وأهدر إنسانيتهم وكرامتهم في السجون والمعتقلات, أليسوا بشراً؟ أليس لهم زوجات ينتظرنهم وراء الأبواب؟ ألم تُسكب دموع كثيرة في انتظار مجيئهم الذي لم يحدث؟ أليس لهم أطفال في عيونهم براءة يتلفتون يمنة ويسرة ويقولون أين بابا؟ متى يأتي بابا؟! أليس وراءهم قلوب تحن إليهم وتشتاق للقياهم وتحزن لفقدهم, ما بال هؤلاء يكيلون بمكيالين؟! هل يعتبرون هؤلاء من غير المجتمع من غير الأمة أليسوا بشراً؟ على الأقل يعترفون لهم بالإنسانية والبشرية.
إننا لو أجزنا للصحافة أن تستنكر الاغتيالات التي تتخذ قراراتها أحياناً في المساجد, فإننا نوجب عليها أيضاً أن تستنكر الاغتيالات التي تتخذ قراراتها محاكم أو مجالس نيابية أو وزارية أو سواها.
إذاً فالأوضاع السياسية من أسباب الغلو.
وقل مثل ذلك في الأوضاع الاقتصادية, كالاستئثار بالثروات والمؤسسات والشركات, ووجود طبقات محرومة من الناس تعيش دون مستوى الفقر, إلى مستوى الإعدام, لا تجد لقمة العيش ولا تملك شيئاً قط مع أن مصدر الثراء لأولئك الأثرياء ليس هو الكسب الحلال المشروع, وليس هو العمل المنتج، بل هي الطرق غير المشروعة، كالرشوة أو المحسوبية، أو استغلال النفوذ، أو غير ذلك, أما سوى هؤلاء فلا يمكن أن يحصل على المال إلا عن طريق التسول وإراقة ماء الوجه وإهدار إنسانيته وكرامته, ولا حاجة لأن أضرب مثلاً بعيداً فأنتم الآن تسمعون أخبار الفضائح في الجزائر -إذا تخاصم اللصان ظهر المسروق- وأصبح كل طرف يلقي باللائمة على الآخر, ويقول: فلان سرق كذا، وفلان سرق كذا , وأصبحت الأرقام تقدر بمئات الملايين من الدولارات في بلد فقير, يعيش العشرة منهم أحياناً في غرفة واحدة, يسكنون فيها ولا يجدون غيرها, وعشرات الآلاف من الشباب يتسكعون في الشوارع بلا عمل, حتى الإعانات التي ذهبت إليهم هناك من دول عديدة غربية وشرقية, لا يزال الشك يساور الكثيرين كيف صرفت تلك الإعانات، وما هو مصيرها.
هذه الأحوال كلها فضلاً عن غياب دور العلماء, وتردي الأمة في التبعية الفكرية والسياسية والعسكرية للغرب, وتسخير أجهزة الإعلام لتغيير هوية الأمة ومسخ عقولها وتبديل دينها, بما في ذلك السخرية بالدين والسخرية بالمتدينين, وتقديم النماذج المنحرفة من الفنانين وغيرهم، على أنهم هم المثل العليا التي يجب على الجيل أن يقلدها ويترسم خطاها, كل هذه الأحوال والأوضاع هي البيئة المناسبة لنمو الغلو، أو ما يسمى بالأصولية أو بالتطرف، أو سمّه ما شئت.(65/14)
من أسباب الغلو: الهوى
الهوى المؤدي إلى تعسف التأويل ورد النصوص, وقد يكون الهوى لغرض دنيوي من طلب الرياسة -مثلاً- أو الشهرة أو نحوه, وقد يكون الهوى لأن البدعة والانحراف والباطل سبق إلى قلب الإنسان وإلى عقله واستقر فيه, وتعمقت جذوره ورسخت, وكما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فيعز على الإنسان حينئذٍ أن يتخلى عنه، ويقر على نفسه أنه كان متحمساً للباطل مناوئاً للحق, فيتشبث بخطئه ويلتمس له الأدلة من هنا وهناك, وقد يكون الهوى لأن هذا الإنسان الغالي ذو نفسية مريضة معتلة منحرفة، فتميل إلى الحدة والعنف والعسف في مواقفها وآرائها، وتنظر دائماً للجانب السلبي والجانب المظلم في الآخرين, وقد يشعر صاحبها بالعلو والفوقية وغير ذلك, دون أن يدرك ذلك من نفسه أو يقر أو يعترف به، وقد يحس بأنه أتيح له في وقت يسير وفي وقت مبكر من العلم والفهم والإدراك ما لم يتح لغيره في أزمنة طويلة, ومن هنا تتبخر الثقة في العلماء المعروفين، والدعاة المشهورين، ويستقل الإنسان بنفسه وبرأيه، فينتج عن ذلك الشذوذ والمواقف والتصورات والتصرفات.(65/15)
من أسباب الغلو: الجهل
الجهل بعدم معرفة حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يندفع الإنسان وراء عاطفته وقد يكون هذا الإنسان غيوراً وقد يكون معظماً للحرمات، وقد يكون شديد الخوف من الله عز وجل, فإذا رأى إنساناً يعمل معصية ولو كانت معصية صغيرة, لم يطق أولم يتصور أن يكون هذا الإنسان مسلماً أو مغفوراً له أو من أهل الجنة, لشدة غيرته فأداه ذلك إلى لون من ألوان الغلو.
أو يكون عنده محبة لرجل صالح مثلاً, وأصل هذه المحبة مشروعة ولكنَّ هذه المحبة بسبب الجهل زادت وطغت حتى وصلت إلى درجة الغلو في هذا الإنسان ورفعه فوق منزلته.
والجهل يزول بالعلم, ولهذا كان كثير من الخوارج الأُول يرجعون عن بدعتهم بالمناظرة, بل رجع منهم على يد عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما أرسله علي بن أبي طالب للمناقشة والمناظرة، رجع منهم في مجلس واحد أكثر من أربعة آلاف إنسان, وهكذا في عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رضي الله عنه, نوقشوا فرجع منهم ما يزيد على ألفي إنسان في مجلس واحد, ولهذا الجهل في الواقع من أسهل الأسباب؛ لأنه سرعان ما يزول بالعلم والتعليم, وقد يكون الجهل جهلاً بالدليل لعدم الاطلاع عليه, أو عدم معرفته له، أو أنه لم يطلع على هذه الآية أو هذا الحديث, وقد يكون جهلاً بطرق الاستنباط, أو جهلاً باللغة العربية مثلاً، أو جهلاً بطرق استنباط الحكم من هذا الدليل آية كانت أو حديثاً نبوياً.(65/16)
كيف يمكن القضاء على الغلو؟(65/17)
التطرف الحقيقي
إن التطرف الحقيقي هو تطرف الأحزاب العلمانية, والحكومات التي جعلت كل إمكانيات الأمة وممتلكاتها رهن إشارتها, وذريعة لتحقيق مصالحها الخاصة، وحاربت كل من لا يذعن لها, أو يسير في ركابها, خاصة ونحن نعلم أن الأمة تملك الكثير من الإمكانيات التي كانت تستطيع أن تكون بها كما أراد الله عز وجل: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] .(65/18)
القضاء على الدين مستحيل
وهاهنا أسئلة يجب أن نجيب عليها: أولاً: هل يمكن القضاء على الغلو أو حتى على الجماعات الإسلامية وعلى الدعوة الإسلامية, الغلاة فيها والمعتدلين وغيرهم, هل يمكن القضاء عليهم بالسجن وبالرصاص والمقاصل والمجازر؟
الجواب
كلا, فهذا في النهاية اعتقاد وفكر, وعلى قاعدة الإعلام نفسه فالفكر إنما يحارب بالفكر, لا يحارب بالرصاصة وإنما يحارب بالحجة, والحجة تقاد بالحجة.
هذا أولاً.
ثانياً: إننا سبق أن قلنا: إن الغلو هو نتاج الضغط والإرهاب والتعسف, إذاً فالضغط والإرهاب والتعسف لا يزيده إلا مضاءً وقوة وإصراراً، وهذا التعسف هو المسوغ الذي يحرق حجج المعتدلين, فالمعتدل يوماً بعد يوم يفقد مواقعه, لأنه يجد من شراسة الخصومة من قبل المتنفذين والقسوة وإغلاق المنافذ في وجه الدعوة, ما يكون مسوغاً وحجةً في رصيد أولئك الغلاة.
فلماذا تصر كثير من الحكومات على مواجهة ما تسميه بالتطرف، بل على مواجهة الإسلام والدعوة الإسلامية الصحيحة النظيفة بالإرهاب والمداهمة والسجون والمعتقلات؟ لماذا كان جزاء صاحب كتاب معالم في الطريق وفي ظلال القرآن هو السجن ثم الإعدام؟! هل أن كتاب معالم في الطريق يعلم القارئ كيفية صناعة القنبلة اليدوية؟ كلا, هل هو يعلم الإنسان كيف ينظم مسيرة في الشارع؟ كلا, هل هو يدرب الناس على حرب الشوارع؟ كلا, بل هو يرسم منهجاً للدعوة وما فيه إلا الحجة, فلماذا يكون جزاء هذا الكتاب الإعدام؟ وأين الذين يدافعون عن فرج فودة , صاحب كتاب الحقيقة الغائبة؟ لماذا لم يدافعوا عن سيد قطب -رحمه الله- حينما أعدم؟ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] .
أين حقوق الإنسان؟ من ثلاثين ألف سجين في الجزائر, وثلاثين ألف سجين في تونس, ومثله في مصر, يعيشون أوضاع مأساوية, حتى بلغ الحال أن بعضهم في مصر يحقنون بجرثومة الإيدز, بعض المعتقلين والعياذ بالله إن المسلم في نظر هؤلاء ليس إنساناً؟ أقول لكم أيها الإخوة: إنه طريق فاشل, وهاهي الأنظمة على مدى خمسين عاماً أو أكثر تحارب الدعوة الإسلامية بالقوة والتعسف, فهل كانت الدعوة فيما تعرفون أنتم وتحسبون أقوى وأشد وأنضج منها اليوم؟ كلا, إن الذي يقرأ عن المعتقلات التي عملها جمال عبد الناصر في مصر, وزج فيها بعشرات الآلاف في السجون الحربية وغيرها, وفي أوضاع سيئة للغاية, ثم علق على المشانق أعداداً كبيرة منهم, الذي يقرأ تلك الأخبار خاصة في ذلك الوقت يخيل إليه أنه لن تقوم للإسلام في مصر قائمة, وهاهي مصر بذاتها اليوم تستعيد عافيتها بإذن الله, ويملأ شبابها المتدين وفتياتها المتدينات يملئون جامعاتها ومدارسها ومعاهدها ومساجدها وأحيائها ومؤسساتها, بل وسجونها, وهاهي أجهزة الأمن لا تجد نفسها في وضع أسوأ مما تجده عليه الآن, ليس في صعيد مصر فحسب, ولا في القاهرة بل في كل مكان, إن ضحايا أسلوب التصعيد والمواجهة القاسية الضارية, هم رجال السلطة أكثر مما هم دعاة الإسلام, أو حتى الغلاة من دعاة الإسلام.
ولقد استطاعت اليد الخفية أن تغتال السادات , وتغتال بو ضياف، وتغتال أعداداً غفيرة من الضباط وكبار المسئولين، ولا يدري إلا الله ماذا تكون عليه الأوضاع غداً وبعد غد, فهل يقبل ناصح لهذه الأمة أن تستمر هذه الطريقة للمواجهة مع رجال الإسلام ودعاته؟ بل حتى مع الغلاة من الدعاة؟ إننا نعلم أن في إسرائيل أحزاباً أصولية متطرفة متشددة, فماذا فعلت إسرائيل تجاه هذه الأحزاب؟ هاأنتم تسمعون أنها الآن تشارك في الحكم في ائتلافها مع حزب العمل الجديد الذي فاز في الانتخابات, وتصل إلى الحكومة, فلماذا لا يقتدون بهم في هذا؟ كنا نقرأ -ونحن صغار- أن القتل والتضييق والسجن والمداهمة لا يقضي على الدعوة بل يقويها ويرسخ جذورها, ويؤلب حولها الأنصار ويكثر حولها الأتباع.
وأصدقكم القول -أيها الإخوة- كنت آنذاك وأنا صغير أشعر في دخيلة نفسي -أحياناً- أن هذا الكلام ترضية للنفس, أو خداع للذات، أو التسلية الوهمية, أما الآن فنحن نرى ما نرى في المغرب ومصر والشام بل والعراق وقد جاءت أخبار تدل على أن الصحوة حتى في العراق على قدم وساق، وإن لم تكن ظاهرة للعيان بسبب التعسف والكبت, ولكنها قوية جداً {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:122] وبمجرد أن تنقشع هذه السحابة، وتعطى الدعوة الإسلامية نفساً ولو يسيراً حيث تتنفس الصعداء وتظهر على السطح ويبين للناس كم كان عمقها ورسوخها وامتدادها ومقاومتها لرياح الحرب والقتل والتغيير والتدمير والمداهمة.
أما الآن ونحن نرى ما نرى، فقد آمنَّا فعلاً أن هذا الكلام حق, وأن العقائد لا يمكن أن تحارب بالقتل, ولا بالسجن ولا بالمصادرة ولا بكبت الحريات ولا بتكميم الأفواه, وقد رأينا الشباب وهم في السجون يرددون آيات القرآن الكريم, ويهتفون وينادون ويتمنون الشهادة في سبيل الله عز وجل, ويرددون أبياتاً من الشعر الحماسي المؤثر الذي يشتاقون فيه للموت في سبيل الله, أي حيلة في إنسان أغلى شيء هو أن يموت في سبيل الله, فأنت حين تقتله تهدي إليه هدية كبيرة.
فلماذا تظل هذه الأجهزة الأمنية والسياسية في العالم العربي والإسلامي مصرة على هذا الخطأ الكبير في مواجهتها مع الإسلام كله المعتدلين من الدعاة وغير المعتدلين, ومع ذلك فإن هذا الأمر، وهو أمر بقاء الحق ورسوخه واستقراره أمر ثابت في القرآن الكريم وهو ديدن المؤمنين كلما ازدادت المحن، أو ادلهمت الخطوب، قال الله عز وجل: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] وأصحاب الأخدود حُرِّقوا في النار، ومع ذلك صبروا وهم يرون إخوانهم يشوون وتحرق أجسادهم بالنار فصبروا في سبيل الله عز وجل، حتى أنزل الله تعالى فيهم هذه السورة العظيمة؛ ليكونوا عبرة للمؤمنين عبر العصور.(65/19)
لا بد من التفريق بين التطرف في الدين والتطرف الغربي
الأمر الأول: ينبغي أن يكون واضحاً لديكم الآن، وهو أننا نفرق بين أمرين: الغلو الذي هو غلو فعلاً في الدين ومجاوزة للحد وانحراف عن سواء السبيل, كغلو جماعة التكفير والهجرة الموجودة في مصر على قلة في الجزائر وبعض البلاد الأخرى, فهذا لا شك أنه غلو وانحراف.
الأمر الثاني: ما تسميه أجهزة الإعلام غربيها وشرقيها, غلواً أو تطرفاً أو أصولية أو غير ذلك, وهو في الواقع ليس شيئاً من ذلك, وإنما هو دعوة إلى الله وإلى دينه وإلى تحكيم شريعته وإلى العمل بالكتاب والسنة, فنحن نفرق بين هذا وذاك.
ونقول: إن الغلو موجود في كل زمان وفي كل الأديان, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخوارج لا ينقطعون، بل كلما انقرض منهم قرن ظهر قرن آخر إلى آخر الزمان.(65/20)
وسائل محاربة الغلو
سؤال آخر: هل يحارب الغلو بالتجاهل؟
الجواب
أيضاً كلا, لقد سبق أن بينت أن للغلو أسبابه التي لا بد من إزالتها , ولذلك فلا بد من:(65/21)
مناقشة الأفكار والحجج والشبهات
فهذه الأسباب الخمسة لا بد منها في مقاومة ما يسمى بالغلو.
ثم يأتي بعد ذلك السبب السادس والأخير وهو أنه لا مانع من مناقشة الأفكار والحجج والشبهات التي يتذرع بها هؤلاء، وتفنيدها والرد عليها، وتطعيم الناس ضدها, لئلا يغتروا بها، فنحن نقول: فعلاً إن الغلو هو الآخر خطر على الإسلام, كما أن التفريط خطر.
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم(65/22)
العدل
ضرورة العدل, وإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم, سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً مالية أو كانت شخصية أو سياسية أو غير ذلك, فإن المجتمعات لا يمكن أن تقوم على الظلم أبداً, والله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة, ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة, ومن الظلم سرقة أقوات الناس وأموالهم, ومن الظلم بل من أبشع الظلم أخذ الناس بما لم يفعلوا, ومن الظلم حبس الناس بالتهمة والظنة, ومن الظلم سرقة نتائج الانتخابات في البلاد الإسلامية, كما حصل في الجزائر, ثم يقولون: حصل التطرف، وحصل العنف، وحصلت الاغتيالات, في حين يسكتون عن إهدار رأي ثمانين بالمائة من الشعب الجزائري المسلم, وأخشى أن يكرروا هذه العملية نفسها في بلاد أخرى كاليمن التي هي مقبلة على انتخابات بعد فترة قليلة, ونسأل الله تعالى أن لا يكون ذلك, وأن يكون أشغل هؤلاء بأنفسهم, فمصر التي دعمت الجزائر برجال الأمن والشرطة, هي الآن مشغولة بمشاكلها الداخلية وقلاقلها عن غيرها أو علها كذلك.
ومن الظلم -أيضاً- التفاوت الشديد بين الناس في كل شيء, في أرزاقهم وأموالهم ومرافدهم وغير ذلك, فالله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, وإذا أردنا للمجتمعات الإسلامية أن تكون مجتمعات مستقرة منتجة متآلفة فعلينا أن نقيمها على أساس العدل.(65/23)
حماية الآداب والأخلاق
ضرورة إصلاح الأوضاع الشرعية والأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، وحمايتها من الانحلال الخلقي، وإيجاد ودعم المؤسسات الإصلاحية القائمة على حماية الآداب والأخلاق, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إنه كما يوجد جهاز مختص لمكافحة المخدرات, يجب أن توجد أجهزة قوية وممكنة وذات صلاحية واسعة في مكافحة ألوان الجرائم التي لا يقرها الشرع, وأول ما يجب أن يساند هذه الجهات هو القانون نفسه أو النظام، فلا معنى لوجود جهاز لمكافحة الرذيلة والبغاء في بلد يسمح قانونه بالزنا ويسكت عنه وهكذا.(65/24)
ربط مناهج التعليم بالدين
ضرورة ضبط مناهج التعليم، وربطها بدين هذه الأمة وتاريخها وحاضرها ومستقبلها, حتى يتخرج جيل مؤمن يعرف دينه, تقول التقارير الأمنية: إن تكثيف المواد الدينية هو الذي يولد المتطرفين, وتدريس التاريخ الإسلامي والجهاد يولد روح الفداء في نفوس الشباب, والواقع أن تكثيف المواد الشرعية والإسلامية هو ينتج العلم الصحيح, الواقي من الانحراف , أما أولئك الذين يظنون أنهم سيحولون بين الأمة ودينها وبين الأمة ولغتها, وبين الأمة وتاريخها, فهم مغرقون في الوهم, فالإسلام قادم لا محالة, وإذا كانوا يحاربون الإسلام فليبشروا بالخيبة والهزيمة.(65/25)
تمكين العلماء
تمكين العلماء الربانيين من القيام بواجبهم, وفتح الآفاق لكلمتهم, والسماح بمرورها إعلامياً، وتسخير إمكانيات الأمة كلها لهذا الغرض, إن العالم الشرعي يجب أن يشكل مرجعية حقيقية للجميع, الحاكم والمحكوم على حد سواء, ولا يجوز أن تكون المنابر الدينية حكراً على فئة من الهتافين المصفقين من أمثال بعض المفتين الرسميين, سئل مفتي مصر في جريدة صوت الكويت قبل أيام عن التطرف والنصارى، وكان من ضمن ما قال بالحرف الواحد: أما كون بعض الكتب السماوية حرفت أو بدلت أو غيرت فتلك قضية يسأل عنها أصحابها, وجميع الأديان تتفق في الأصول, سبحان الله!! أولاً: عندما يقول: "إن الأديان تتفق في الأصول" هل هو يقصد الأصول التي عليها أهل الأديان اليوم، أم الأصول المنزلة؟ فالأصول المنزلة هي التوحيد, لكن أهل الأديان اليوم من اليهود والنصارى وغيرهم أهل شرك ووثنية, فكيف يقول: إن الأصول متفقة هكذا على الإجمال؟! ثانياً: حينما يقول في الجواب على تحريف الكتب السماوية: "هذه قضية يسأل عنها أصحابها" يعني: يريدنا أن نذهب إلى البابا شنودة , ونسأله: هل الكتاب المقدس عندكم محرف أم لا؟! ونذهب إلى رابين أو غيره ونسأله: هل الكتاب المقدس عندكم محرف أم لا؟ كيف يقول هذا؟!! ألا يوجد عندنا دين وجواب للمسلمين؟ ألا يوجد عندنا نحن المسلمين الجواب لهذه المسألة؟ مفتي أكبر بلد إسلامي يهرب من الإجابة بمثل هذه الطريقة الملبسة!!! في روز اليوسف -أيضاً- تجري حوارات مع من تسميهم بمفكرات الإسلام, مرة -وهذا مثال- أجرت حواراً مع عميدة كلية التربية بجامعة الأزهر, فتقول هذه العميدة في حوار طويل: حتى في عصر النبوة كانت هناك سلبيات, في المجتمعات المغلقة وجد اللقطاء أمام المسافر, هذا كلام يقال في سبيل تبرير وتسويغ الفساد الموجود, هذا مثل إنسان يأتي لشخص غارق في الرذيلة، ماله من الربا، فاجر لا يصلي، عاق لوالديه، عاصٍ، مؤذٍ لجيرانه، شارب للخمر، مدمن للمخدرات, فتأتيه وتقول له: يا أخي أنت عليك أخطاء، وعليك ملاحظات, تب إلى الله عز وجل, يقول لك: يا أخي كل إنسان فيه عيوب والكمال لله عز وجل.
تقول أيضاً: الجماعات الإسلامية ابتلاء من الله, لم أجد في المنقبات من تحفظ القرآن الكريم, ثم هجوماً ساخراً على الإمام ابن تيمية أنه حاد ومتشدد وإلى غير ذلك.
فنقول: يجب أن يمكن العلماء الربانيين من القيام بواجبهم ودورهم بفتح الآفاق أمام كلمتهم, ومع ذلك فإنه يجب أن يقال للعلماء والدعاة أيضاً: قوموا أنتم بواجبكم وخاطبوا جمهور الأمة, وأدوا دوركم دون أن تنتظروا من أحد أن يأذن لكم بذلك أو يأمركم به.
إن المناصب الرسمية الدينية أصبحت وقفاً في أكثر من بلد إسلامي على فئات معلومة ممن يجيدون فن المداهنة والتلبيس, وأصبح هؤلاء في زعم الأنظمة هم الناطقين الرسميين للإسلام والمسلمين, مع أنه لا دور لهم إلا مسألتان: الأولى: إعلان دخول رمضان وخروجه.
الثانية: الهجوم على من يسمونهم بالمتطرفين.(65/26)
العمل على إيجاد القنوات الإسلامية
ثانياً: لابد من إيجاد القنوات العلمية والدعوية والإعلامية التي يمكن للدعاة إلى الله عز وجل من خلالها عرض الصورة الصحيحة للإسلام, وتنقيته من الدخائل عليه, وتعريف الناس بدينهم الحق, وإثبات أن هذه الدولة أو تلك ليست ضد الإسلام ولا ضد الدعوة, أما مجرد الخطب الرنانة التي ينقضها الواقع فإنها لن تغير شيئاً, حتى الاتجاهات التي يصاحبها نوع من الحدة أو الشدة, يجب أن تحاور وتناقش في الهواء الطلق، وليس من وراء القضبان, وإذا لم تعرف الدعوة الإسلامية الصحيحة الناضجة من الكتاب والسنة فإن البديل عن ذلك أمران: أولاً- شيوع المنكر الفكري والخلقي بلا نكير, وهذا يؤدي إلى التطرف كما سبق.
ثانياً- الدعوات المنحرفة التي ستجد آذاناً صاغية, فإن الناس إذا لم يعرفوا الحق تشاغلوا بالباطل.(65/27)
تنقية أجهزة الإعلام
لا بد من تنقية أجهزة الإعلام من كل ما يخالف الإسلام, عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً, ولا بد من منع ضحايا الفكر المنحرف من التسلل للإعلام, ومنع المساس بالدين وأهله في تلك الأجهزة.
إن مما يؤسف له أن الإعلام العربي يتحدث عن الدعوة الإسلامية باسم التطرف أو الأصولية, فيتخلى عن الموضوعية تماماً, ويتناقض وينحاز, فلا يعرض إلا رأياً واحداًَ, ولا يعرض إلا جانباً من الحقيقة, مثلاً مقتل فرج فودة يسمونه مصادرة للفكر, وجريمة, مع أنني أقول: أي فكر يحمله فرج فودة؟ وماذا يقول؟ يقول: أفتخر بأنني أول إنسان عارض تطبيق الشريعة الإسلامية يوم لم يكن يعارض ذلك أحد, ويقول: سبق أنني قلت لك يا وزير الصحة، عليك أن تعالج الوضع عن طريق الزيادة في المهدئات الجنسية, يعني: ما يسميهم بالمتطرفين أو الشباب المتدين هم ضحايا الكبت الجنسي, هل هذا حوار؟ هل هذه حجة؟ هل هذا تعقل؟ ثم جاء إلى تاريخ الإسلام من عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم, وبالساطور يضربه يمنة ويسرة, حتى لم يبق فيه لبنة على أخرى, أو عضواً على آخر, هل هذا فكر؟! لكن مع ذلك قاموا وقعدوا لماذا يقتل فرج فودة؟ ونحن نقول: حسناً، نردد لماذا يقتل فرج فودة؟ لكن لماذا يقتل ألوف من المسلمين والدعاة وطلبة العلم؟ هل صار الأمر عندكم كما قيل: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر لماذا تكيلون بمكيالين؟ الإعلام العربي كله صحافته وإذاعاته وتلفزته, هل رأيتموه عرض يوماً من الأيام وجهة نظر جماعة من الجماعات الإسلامية؟! كلا, إنما الإعلام العربي كله دائماً وأبداً في حالة حماس لحملات إعلامية, اليوم نحن ضدكم وغداً أنتم ضدنا, وبعد غد نحن وأنتم ضد فلان وهكذا , عمل كعمل الأطفال سواء بسواء.
يؤسفني أن أقول: إن هيئة الإذاعة البريطانية وهي الأخرى أيضاً ليست موضوعية أو منصفة إلى ذاك الحد، ولكنها بلا شك أفضل كثيراً من الإعلام العربي, هيئة الإذاعة البريطانية أجرت مقابلة مع أحد زعماء الجماعة الإسلامية في مصر, وسجلت أجوبتهم وآراءهم وبثتها للناس, ثم بعد ذلك بفترة أجرت مقابلة سمعتها مع زعيم الأقباط البابا شنودة , حول التطرف وقضايا أخرى, أما الإعلام العربي فهو لا يجرؤ على ذلك, ولا يملك عرض وجهة النظر بحال من الأحوال, إنه لا يعرض إلا وجهة نظر واحدة وضعيفة أيضاً, وأما وجهات النظر الأخرى فهو لا يجرؤ على عرضها أبداً.
فلا بد من تنقية أجهزة الإعلام، وصياغتها إسلامياً؛ لتكون رافداً من روافد الدعوة.(65/28)
الأسئلة(65/29)
وسائل الإعلام وجرأتها على الإسلام
السؤال يقول: نعاني نحن شباب هذا البلد الكثير من وسائل الإعلام، وخاصة الصحف والمجلات، وهي تصور المسلمين في كل مكان بالتطرف، بل إنها تدعي أن المسلمين هم وراء كل مصيبة، فأنا أرى أن التطرف بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ينطبق على كل من يستهزئ بالشباب المسلم، وخاصة كما سبق أن ذكرت من جرائد ومجلات، أرجو توجيه كلمة بهذا الشأن؟
الجواب
هذا الأمر ليس خاصاً بهذا البلد بل هو عام، الأمر الذي يخص هذا البلد بالذات، هو البث التلفزيوني، والذي أعلم أن هذا البلد يستقبل القناة المصرية الفضائية، وقناة MBC تلفزيون الشرق الأوسط فضلاً عن أننا رأينا في كثير من المحلات والمباني أقراصاً ضخمة لاستقبال قنوات أخرى غير هذه القنوات، كقنوات فرنسية أو روسية أو أمريكية وغير ذلك.
وهذا خطر داهم جداً في هذا البلد، لا شك أنه سيساهم في تحلل الأخلاق، وتغير المفاهيم وتبدلها، ولذلك يجب أن يقوم الأخيار بحملة توعية جادة وقوية في هذا الباب، ويتصلوا بمن وجدوا عليه مثل هذا، وينصحوه ويبذلوا جهدهم في هذا السبيل.
كما إن علينا دائماً وأبداً أن نضاعف الدعوة، ففي النهاية قد لا نفلح في منع هذا المنكر مثلاً، ولكن قيامنا بجهد كبير في الدعوة إلى الله وتكثيف الدروس والمحاضرات والكتب والأشرطة وغزو الناس في بيوتهم ومجالسهم ومنتدياتهم وأماكنهم وكورنيشاتهم وغيرها.
ومحاولة توظيف كل شاب في الدعوة إلى الله عز وجل بقدر ما يستطيع، وبقدر ما يطيق هذا أمر واجب، {تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة} .(65/30)
لحوم العلماء مسمومة
السؤال
هناك من الشباب من يحتقر العلماء في هذه البلاد، ويعتبرهم مداهنين وأصحاب مناصب فقط، وليس عندهم غيرة على هذا الدين، حتى أن منهم من يلمز الشيخ ابن باز بأنه يركب سيارة فيها هاتف، فما نصيحتك لهم؟
الجواب
والله هؤلاء -بصراحة- فارغون، وأنا والله أحلف ولا أستثني في هذه الساعة المباركة أن ابن باز من أولياء الله، رجل والرجال قليل، جيل، أمة في رجل، لو تحدثت عن فضائل هذا الرجل الإمام لطال المقام.
ولكنى أعد بأنني سوف اخصص محاضرة عنه، وليس تخصيص المحاضرة فقط لأن أذكر ترجمته، لكن من خلال معايشتي للشيخ ومجالستي له وقربي منه وصحبتي له في زيارات كثيرة له جداً في الرياض ومكة والطائف لمست أشياء ينبغي أن تقال للناس.
في سلوك الشيخ، في خلقه، في أدبه، في فقهه، في علمه، في دعوته، وأرى ديناً أن الشيخ قدوة يحتذى به في أخلاقه، وفى علمه، وفي عمله، وفى سلوكه، وفي فقهه، نسأل الله تعالى أن يمد في عمره على عمل صالح.
ومثله في علماء هذا البلد ودعاتها والحمد لله تعالى كثير.(65/31)
مراكز النساء الخيرية ودعوى الفساد
السؤال
أمر جديد وهو وجود مراكز للنساء، وقد كثر الكلام عليها، وقال بعض الإخوة: إن هذا سبب لوقوع الفساد، فما هو رأيك في هذه المراكز، وهل ندخل أخواتنا في هذه المراكز مع العلم أن جمعية القرآن الكريم هي القائمة عليها وتوجد فيها بعض المواد العلمية فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
يا أخي على الأقل في بلد مثل بلدكم أنا أرى أنه لا بأس في وجودها، وأنها تُدعم وتُشجع ويحرص على ضبطها والاستفادة منها، وتغليب جانب المخاوف دائماً، واحتمالات السلبيات؛ لن يجعلنا نقوم بأي عمل من الأعمال الخيرية.(65/32)
نصيحة عن المراكز الصيفية
السؤال
هل تنصحون الشباب بالالتحاق في المراكز التي تقام في صيف كل عام؟ وما رأيكم في بعض الشباب الملتزمين الذين يحاولون صرف الشباب عن المراكز بشتى الطرق، ومنها تمزيق الإعلانات التي توزع وتدعو الشباب إلى الالتحاق بالمراكز؟
الجواب
المراكز الصيفية هي أحد أوجه النشاط الخيري، وفيها خير، والكمال ليس موجوداً في المراكز الصيفية، فأنا أنصح الشباب أن يشتركوا في أعمال الخير، من كان منهم يستفيد من المراكز الصيفية أنصحه أن يشترك في المراكز، سواء مشرفاً أو طالباً أو مشاركاً أو رائداً أو إنساناً عادياً، يجد أنه يستفيد منها وهي التي تناسبه، ومن رأى أنه يستطيع أن يستفيد أكثر من المراكز من حلقات العلم ودروس العلماء ودورات تقام للدعاة وغير ذلك أو جولات وعظية أو ما أشبه ذلك، مما يرى أنه أجدى وأنفع له، فلا حرج ولا داعي أن تكون هذه الأعمال يهدم بعضها بعضاً، وأعتقد أن الساحة تتسع للجميع، وتحتاج للجميع أيضاً.(65/33)
مع بداية الالتزام
السؤال
أنا شاب التزمت قريباً بالدين، وأصبحت أطبق السنة، ولا أشاهد التلفاز، ولا أجلس مع أهلي إذا كانوا يشاهدونه، وأبي دائماً يرميني بالتطرف والتزمَّت والتشدد، فأنا أعيش في حيرة كيف أعالج ذلك؟
الجواب
لا بد من الاتكاء على الجانب الأخلاقي، عليك أن تكون شديد التمسك بالأخلاق مع أهلك ابتسامة وحلم وسعة صدر، وتحمل منهم ما يقولون، وعاملهم بالتي هي أحسن، وقم بحقوقهم هذا أولاً.
ثانياً: احرص على أن تقوم في البيت بدورك خير قيام، إذا احتاجوا شراء شيء للمنزل، حاجيات مناسبة من المناسبات أو أي أمر من الأمور، لا تكن آخر من يشارك، كن في المقدمة وفي الطليعة، وستجد أنهم يخجلون وتموت الكلمات في أفواههم ولا يستطيعون أن يتكلموا فيك وأنت بهذه المكانة.(65/34)
حكم مشاهدة التلفاز
السؤال
هل مشاهدة التلفزيون والمسلسلات حرام، وإذا كان خروجه من البيت يغضب الأولاد فهل أرضي الأولاد؟
الجواب
أنا أقول إذا أمكن إخراج التلفاز من البيت فينبغي أن تخرجه، خاصة ونحن الآن أصبحنا نتكلم عن البث المباشر على أنه حقيقة على الأبواب.
فإذا لم يمكن إخراجه فعليك أن تشغل الأهل عنه بقدر ما تستطيع، بحيث لا يكون لديهم وقت لمشاهدة التلفاز، أو يكون عندهم قناعة قلبية وعقلية بأن التلفاز خطر وضرر ينبغى ألا يلتفت إليه أو يستمع إليه.(65/35)
حكم مس عورة الطفل
السؤال يقول: هل مس عورة الطفل ينقض الوضوء، فأنا أتحرج كثيراً حينما أحمل إخوتي الصغار، وأنا على وضوء، فنرجو الإفادة؟
الجواب
في الأصل أن مسألة مس الفرج قبلاً أو دبراً، فرج الإنسان أو غيره، فيها قولان لأهل العلم، أرجحهما عندي أنه ناقض للوضوء؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من مس ذكره فليتوضأ} وهذا مذهب كثير من أهل العلم.
وقد بسطت هذا في شرح بلوغ المرام.
ولكن بالنسبة للطفل الصغير الذي تغسله أمه، وتحتاج إلى مس عورته باستمرار، فهذا أميل إلى أنه لا ينقض الوضوء لسببين: أولاً: كونه صغيراً، وكثير من الفقهاء يرون أن الصغير ليست له عورة.
وثانياً: لشدة الحاجة إلى ذلك، وعموم البلوى به، وقد أفتى بهذا جماعة من العلماء.(65/36)
حكم الزيادة في العمولة
السؤال
يوجد عند بعض الناس سلع معينة يتاجرون فيها، وقيمة الواحدة خمسة آلاف ريال، وأنا أذهب لمن يحتاجون، وأقول لهم: هذه السلعة عندي بعشرة آلاف ريال فآخذها منهم وأعطيها لأصحاب السلعة وآخذ السلعة لهم وآخذ الزيادة؟
الجواب
أولاً: هذا ليس من النصيحة.
ثانيا: كونك تأخذ خمسة آلاف ريال لمجرد كونك وسيطاً هذا فيه إجحاف كبير، في حين أن صاحب السلعة نفسه يأخذ خمسة آلاف ريال، والعادة أن قيمة السمسرة أو العمالة أو ما يسمى بالسعي تكون نسبة محدودة جداً ومتراضى عليها بين الأفراد.(65/37)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إفلح وأبيه إن صدق)
السؤال
معلوم أن الحلف بغير الله تعالى شرك أصغر، ولكن ماذا قصد النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {أفلح وأبيه وإن صدق} ؟
الجواب
هذا الحديث في صحيح مسلم، وقد تكلم العلماء فيه كثيراً، منهم من قال: إنه قبل النهي وهو منسوخ، ومنهم من قال: إن الحديث تحرف، ومنهم من حكم على هذا اللفظ بالشذوذ إلى أقوال أخرى تبحث في مظانها.(65/38)
مشكلة خاصة
السؤال يقول: أنا شاب ملتزم ولا أزكي نفسي، وكنت من المجاهدين في أفغانستان، وعدت من هناك وأنا أعيش في فراغ، بحثت عن عمل في البلاد العربية ولم أجد، وأنا في ضيق لأني من إحدى الدول المجاورة، وبسبب تصرفات البعض فقد دفعنا الثمن لموقف بلدي، والآن عرض على أن أذهب إلى أمريكا عند إحدى قريباتي من المحرمات علي، وهى بدون محرم للوقوف بجانبها لإكمال دراستها وأخرج مما أنا فيه، فما رأي الشرع في السفر إلى الدول الكافرة في ظل وضعي هذا؟
الجواب
هذا وضعك وضع شخصي، ولذلك أقترح أن تتصل مباشرة لشرح ظروفك، ومعرفة الجواب على مثل هذا السؤال.
والحمد لله رب العالمين.(65/39)
مقترح لإصدار مجلة إسلامية
السؤال
لماذا لا تفكرون مع غيركم من العلماء الأفاضل وهم نخبة بحمد لله بإصدار جريدة أو مجلة تعنى بالأخبار الإسلامية وتحليل الأحداث، والرد والدفاع عن قضايا المسلمين؟ أرجو دراسة هذا في هذه الأيام، حيث قد لا يجد المسلم مصدراً سليماً واضحاً للأخبار والإعلام؛ فتختلط علينا الأمور وترسخ في أذهاننا مفاهيم وأحداث غير صحيحة؟
الجواب
هذا الاقتراح يتكرر، وأعد الأخ أن يكون هذا الموضوع محل دراسة من قبل العلماء والدعاة إن شاء الله.(65/40)
أخبار الانتخابات في اليمن
السؤال
ما هي أخبار الانتخابات في اليمن؟
الجواب
كما أسلفت هي على الأبواب، ولا شك أنه إذا جرت الانتخابات بصورة طبيعية فالنصر لحملة رسالة الإسلام ودعاته.
ولكن يخشى أن يوجد عراقيل وعقبات، فالغرب ليس من السهل عليه أن يقبل بوجود تواجد إسلامي في مثل هذا البلد العريق، وهو يشكل عمقاً ليس بالبسيط في هذه الجزيرة، وطبعاً الغرب لا يقبل وجود الإسلام في أي مكان آخر لا في الجزيرة ولا في غيرها.(65/41)
تصحيح مفهوم التطرف
السؤال يقول: الالتزام بالسنة الظاهرة خاصة اللحية، والثياب إلى نصف الساق، والسواك والعمامة، يطلق عليها تطرف نرجو تصحيح هذا المفهوم؟
الجواب
أولاً العمامة ليست من السنة، والعمامة من العادات وهذا هو أرجح أقوال أهل العلم، ولا يصح في العمامة حديث، ولكن ما يتعلق في اللحية والثياب وتقصيرها، وكذلك السواك، فهذا كله من السنة، وكون بعض الناس يعتبر هذا من التطرف هذا -مما أسلفته- من المفاهيم الخاطئة التي يستغلها البعض إما جهلاً منهم وإما هوى.
والمفروض أن نعلمهم هذه السنن ونخبرهم وندعوهم إليها بأقوالنا وأعمالنا.(65/42)
حكم النقاب
السؤال يقول: أرجو توجيه كلمة إلى أخواتنا النساء الملتزمات، خصوصاً وأن هناك تجاوزات نلاحظها عليهن من انتشار النقاب الذي بدأ يكبر تدريجياً، وأيضاً ظهور القدمين واليدين بدون ساتر، والحجة أحياناً تكون: أنه بسبب الحر!
الجواب
بالنسبة للنقاب -تغطية الوجه وإظهار العينين- النبي صلى الله علية وسلم قال: {لا تنقب المحرمة ولا تلبس القفازين} فدل على أن لبس النقاب في غير وقت الإحرام جائز.
لكن -أرجو أن لا يغفل عن ما بعد لكن- المقصود بالنقاب: هو فتحة تبصر المرآة من خلالها الطريق، فتفتح لعينها بقدر ما ترى الطريق أمامها.
أما ما نراه الآن في كثير من النساء، فإننا نجد أن الحجاب قد أصبح زينة في نفسه، وأصبح هو الآخر وسيلة للإغراء، فتفتح المرأة عينيها وما جاورهما وما فوقهما وجزء من خديها، حتى يصبح الحجاب شكلاً مثيراً أكثر مما هو ساتر لها، والله عز وجل أمر المؤمنات بقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] فلتضرب المرأة المسلمة بخمارها من رأسها على جيبها وعلى صدرها.
فإن كانت مكتفية مستغنية عن النقاب فهو أولى، ولا تخرج شيئاً من وجهها قط، فإن احتاجت لضعف بصرها أو لظروف خاصة مثلاً أن تفتح لإحدى عينيها أو لعينيها فلتفتح بقدر ما تحتاج، ولا ينبغى أن يكون هذا مجالاً للحيلة، فالحيلة غير واردة في الدين.(65/43)
حكم قيام الليل كله
السؤال
لقد قلت إن قيام الليل كله من الغلو، وقد كان من الصالحين من يقوم الليل كله، وكان الإمام أحمد رحمة الله يصلى ثلاثمائة ركعة في الليلة، أرجو أن توضح ذلك؟
الجواب
هذا فيه نظر، كون الإمام أحمد يصلى ثلاثمائة ركعة، تصحيح هذا عن الإمام أحمد فيه نظر، ولا أظنه صح عنه، فالإمام أحمد من أكثر الناس اتباعاً للرسول صلى الله علية وسلم، الذي لم يكن يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، ومن البعيد أن يصلي الإمام أحمد أو غيره ثلاثمائة ركعة.
أما من الصالحين من يقوم الليل كله، فقد يقوم الليل أحياناً كله، أما قيام بعض الليل فمشروع لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:1-4] .
لكن قيام الليل كله من أوله إلى آخره لم يكن يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وهو ليس من السنة، بل السنة أن ينام الإنسان من الليل سدسه أو ثلثه أو نحو ذلك، فمن حافظ على قيام الليل كله، وحافظ على الصيام في النهار مع الوصال أحياناً، فهذا لا شك أن فيه نوعاً من الغلو.
وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن خزيمة وغيره أن النبي صلى الله علية قال: {من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم} وهكذا، والحديث فيه كلام طويل، ولكن إن صح فهو دليل على النهى عن صيام الدهر كله، فما بالك بالوصال، وهو أن يصوم الإنسان الليل أيضاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.(65/44)
طرق تعين على ترك التلفاز
السؤال يقول: أريد أن ترشدني إلى طريقة أستطيع أن أُشغل بها إخوتي عن التلفاز، حيث أن الله تعالى قد امتن عليهم بتركه والله يسر ذلك بمنه وكرمه، لكنهم يعودون إليه في الإجازة؟
الجواب
يا أخي أشغلهم بأمور، اجعل لهم درساً في البيت، أخرج بهم معك بالسيارة في بعض النزهات والزيارات، اجعل لهم مسابقات ثقافية، وأعطهم بعض الكتيبات والكتب والقصص، وأعطهم بعض الأشرطة، حفظهم بعض الآيات من القرآن، والأحاديث وبعض الأشعار، دربهم على العبادات.
اعمل لهم برامج مفيدة حتى في داخل المنزل، ولا بأس أن تحضر بعض الألعاب المباحة لهم يقضون بها بعض الوقت ويزيلون بها الملل.
ومن ذلك بعض برامج الكمبيوتر المفيدة التي تنمي عقولهم وأذهانهم وقرائحهم، كبرامج شرعية أو لغوية ورياضية أو غير ذلك.(65/45)
مشكلة الاختبارات في أوقات الصلوات
السؤال
لدينا مشكلة نحن طلبة الجامعة وفي أن الامتحانات تبدأ من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الواحدة، ولذلك يؤذن بدخول صلاة الظهر وتقام الصلاة ولا زال الطلبة في صالة الامتحانات، فما رأى الشرع في هذه؟ وما الحل؟
الجواب
على كل حال من المعلوم أن وقت الظهر يمتد من دخول وقت الزوال إلى وقت صلاة العصر.
ولكن ينبغي على من يكون في داخل البلد أن يصلي مع الجماعة، فإذا أمكن أن تغير برنامج وأنظمة الجامعة فهذا هو المتعين ليصلي الطلاب مع غيرهم من المسلمين في الوقت نفسه.
فإذا تعذر ذلك لظروف خاصة، أو لم تستجب لهم الجامعة لسبب أو لآخر، فإنني أرى أنهم يسعهم إذا خرجوا أن يصلوا جماعة أو بعضهم.(65/46)
طلب نصيحة
السؤال
أرجو تقديم نصيحة إلى بعض إخواننا الشباب في جدة، وإننا نريد ونحب لهم الخير، ونحب أن نراهم كسائر الشباب المتمسك بدينه في أنحاء المملكة، خاصة ونحن نرى بعضهم قد انغمس في الملذات؟
الجواب
في الواقع هذا موضوع يدعوني إلى أن أوجه نصيحة لكم أنتم أيها الإخوة الحضور.
الآن على بعد كيلو مترات منا حيث الكورنيش مثلاً، أو في بعض الأماكن، خاصة في هذه الليلة يوجد أعداد غفيرة من الشباب والأسر والعوائل والرجال والنساء.
أقول: من يأتي إلى مثل هذا المسجد يخيل إليه أن البلد كلهم على هذه الشاكلة، وأن الناس كلهم أخيار، لكن من يذهب إلى هناك تنعكس الصورة في عينيه تماماً، وفى رأسه تماماً.
والسؤال: أين نحن من هؤلاء؟ وأين نحن من المجتمع؟ ولماذا نترك المجتمع للتلفاز والأغنية والمجلة والعنصر الغريب ووسائل الفساد والشيطان والنفس الأمارة بالسوء؟ أدعو الإخوة إلى الدخول مع هؤلاء الشباب والتأثير عليهم، وتوزيع الكتب والأشرطة وتوزيع الابتسامات، جلسة خمس دقائق أو نصيحة وأنت ماشٍ لا يضر، خالطوهم بأجسامكم وعاملوهم بالخلق الفاضل، وادعوهم إلى الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} .(65/47)
مشروع تزويج الشاب
السؤال
نرجوا أن تنوه بالمشروع الخيري لتزويج الشباب؟
الجواب
هذه ورقة تتعلق بالمشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج، ولا شك أن هذا المشروع هو أحد الوسائل لإعفاف الشباب.
فلا شك أن الكثيرين من الشباب إذا وجدوا طريق الحلال فلن يتجهوا إلى الحرام، ولكن أيضاً هناك عقبات كثيرة أمامهم أولها وأهمها: المال، ووجود مجموعة من الإخوة لمسنا جهدهم ونحن هناك في الواقع من كثرة من يأتيني من الشباب قد قدم جهداً كبيراً جداً ومشكوراً، ويستحقون أن نقول لهم جميعاً: جزاكم الله خيراً، وليس هذا فقط، بل وأن نساعدهم.
أناس بذلوا أوقاتهم وأبدوا استعدادهم لأن يقدموا على هذا المشروع، ويتصلوا بالشباب ويساعدوهم، وينظموا مثل هذا العمل ويرتبوه، ولم يبق لنا دور إلا أن ندعو الله عز وجل لهم بالتوفيق على ما فعلوا وقدموا للمجتمع ونساعدهم بما نستطيع من المال، فأنا أدعو الإخوة لذلك.
وكذلك مشروع مكافحة التدخين الذي يتكلم عن أضرار التدخين وهو أيضاً مشروع طيب، وقد وصلتنا بعض نشراته هناك.
وأرسل لي بعض الشباب أوراقاً تخصهم وتتعلق بنشاطهم، وهو نشاط قيم أدعو الإخوة إلى دعم هذا المشروع ومساعدته.(65/48)
ظاهرة الإطالة في الحديث عبر الهاتف
السؤال يقول: هناك ظاهرة فشت في صفوف الملتزمات وهى قضاء ساعات طويلة في التحدث في الهاتف مع المعارف والأخوات سواء للدعوة أو لغيرها يومياً فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب
الحديث في الهاتف مثل الحديث في غير الهاتف، والإطالة في الحديث من غير فائدة ضرر، وكل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ذكر الله وما والاه، أو تسبيح، أو تحميد، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر أو ما أشبه ذلك.
وعلى كل حال لا بأس أن يتكلم الإنسان مع أقربائه ويتبسط معهم، أو معارفه، أو جيرانه فيما يخصه.
لكن الاسترسال والإطالة يورث ترهل الأعصاب، وضياع الوقت، وأنا أستغرب من بعض الإخوة أو بعض الأخوات يقولون: أصبحت المكالمات المحلية مجاناً فلا ضرر من أن نتكلم.
لا بأس، لكن هل الوقت أصبح مجاناً، ثم أمر آخر وهو أن الملك يكتب، إذا كان موظف الهاتف لا يكتب والكمبيوتر لا يكتب، فالملك يكتب عليك {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18](65/49)
حكم التعامل مع الجرائد الهابطة
السؤال
ما رأيكم فيمن يتعامل مع تلك الجرائد والصحف التي ذكرتموها؛ بشرائها؟
الجواب
أرى خاصة مثل الصحف التي ذكرت كالصحف الكويتية مثل: جريدة صوت الكويت بالذات، وكذلك جريدة الشرق الأوسط، وبعض الصحف التي تعلن حربها على الإسلام وتجاهر بذلك، لا شك بعض الشر أهون من بعض.
أرى أن تقاطع ولا تباع ولا تطبع ولا تشترى ولا تروج، وأن نقوم جميعاً بالدعوة إلى مشاركتنا في هذا العمل.(65/50)
حكم الجهاد بدون إذن الوالدين
السؤال
إني أريد أن أجاهد في سبيل الله، ولكن لي والدة ووالد يرفضان أن أجاهد، فما العمل مع العلم بأنني أريد الجهاد؟
الجواب
هل لك والدان؟ تقول: نعم.
ففيهما فجاهد، كما قال الرسول صلى الله علية وسلم، وعليك مع ذلك أن تسعى إلى طلب العلم الشرعي وتحصيله والقيام بالجهاد والدعوة.(65/51)
أخبار المجاهدين الأفغان عند دخولهم كابول
السؤال يقول: كنا ننتظر أشرطتك، ودروس الشيخ الحوالي بفارغ الصبر؛ لنسمع الحقائق عند دخول المجاهدين إلى كابول، وكم كان لمحاضرة الشيخ ناصر العمر في الدرس الأخير من صدىً عند الناس، وعندما سمعوا تلك الحقائق عن المجاهدين الذين سمعوا عنهم في الإعلام قاطبة، ولكن بشكل مخالف تماماً لما بينه الشيخ!!
الجواب
على كل حال أنا تكلمت عن المجاهدين الأفغان في شريط قديماً بعنوان: الله أكبر سقطت كابول، وكذلك تحدثت عن هذا الموضوع عبر خمسة دروس تقريباً متواصلة من الدروس العلمية، أخصص في بداية كل درس دقائق للحديث عن المستجدات والتطورات عن الوضع في كابول.(65/52)
اقتراح لإنشاء إذاعة إسلامية
السؤال يقول: ألا يمكن أن تتحول هذه الجهود إلى إذاعة إسلامية حتى يسمع المسلمون أخبارهم وأخبار إخوانهم والعالم من حولهم بدون تزييف أو مجادلة أو مجاملة؟
الجواب
في الواقع أتمنى أن المسلمين يملكون صحفاً، الآن هل يوجد جريدة؟ دعك من الإذاعة، فكِّر في جريدة، هل يوجد جريدة على مستوى العالم مستقلة تعرض أخبار المسلمين وأحوالهم بموضوعية، دون أن تمارس عليها أي جهة أي نوع من الضغط؟! أقول بكل تأكيد لا يوجد.
صحيح أنه يوجد مجلات إسلامية، ويوجد جرائد ذات طابع إسلامي هذا لا إشكال فيه.
لكن جريدة إسلامية تكتب بدون أن يوجد عليها ضغط من أحد، هذا لا يوجد، فأتمنى أن ينبري بعض الدعاة في إعداد هذه الجريدة ولو في أي بلد من العالم.
ليس المقصود أن تكون هذه الجريدة ضد فلان أو ضد فلان، المقصود أن تكون هذه الجريدة تكتب بوضوح ويطمئن الناس إليها أنها لا تكتب إلا الحق، ما يوافق الكتاب والسنة، ولا تجامل أحداً، وتنصر المظلوم في كل مكان، وأنها تنشر العلم الشرعي الصحيح، وتنقل الأخبار الأمينة الدقيقة، ولو وجد هذا فسوف تصبح ظاهرة عالمية ليست بالبسيطة؛ لأنه الآن ملاحظ أن الصحف إذا تخلَّى الأخيار عن شراء صحيفة ما فإنها تسقط.
ولذلك شكرنا الأخيار قبل أشهر لما سقطت جريدة الصباحية، لأنهم كانوا سبباً في ذلك لمقاطعتها، ودعوناهم إلى مقاطعة أختها خضراء الدمن -الشرق الأوسط- لأنها من أسوأ الصحف، وأشدها على الإسلام والمسلمين والدعاة.
وأنا أكرر هذا الطلب الآن، وهذا الطلب قيل بحضرة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، والمرجو من سماحته أنه سيكتب إن شاء الله دعوة للمسلمين في هذا الصدد، لتجنب مثل هذه الجريدة وغيرها، ما دامت على مثل هذا المنهج وبمثل هذه الطريقة.
فأنا أدعوكم -أيها الإخوة- إلى مقاطعة جريدة الشرق الأوسط، خاصة وأن هذه الجريدة من الناحية الفنية والإخبارية ليست لها قيمة تذكر.
فأي جريدة أخرى تقوم مقامها، وتغني عنها، بل وأفضل منها، في حين أنها هي تخلط بين الخصومات السياسية والدينية وبين المعلومات والأخبار.(65/53)
استعداد للمشاركة
السؤال يقول: إذا كان الأمر سببه الناحية المادية، فلك علينا عهد أن نقطع لك من رواتبنا المبلغ الذي يكفى لوجود مثل هذه الإذاعة؟
الجواب
على كل حال أشكرك على هذا الاقتراح، وأدعو الإخوة إلى أن يستخدموا عقولهم وتفكيرهم في مثل هذه المشاريع والأعمال لعل الله تعالى أن يجعل لهم خيراً وينفع بها.(65/54)
حكم السفر إلى بلاد الكفر لزيارة الأهل
السؤال يقول: ما حكم من يسافر إلى الخارج بقصد زيارة الأهل في بلد غير إسلامي؟ ولا يوجد فيها الحجاب، مع أننا نعرف الحجاب، ولكننا لا نقدر أن نستعمله هناك؟
الجواب
ليس هناك بلد فيما أعلم لا يستطيع الإنسان فيه أن يستخدم الحجاب، رأينا المسلمات محجبات في أمريكا وفى فرنسا وفى بريطانيا وفى تركيا بل محجبات موجودات في إسرائيل، وفى كل بلد عربي وغير عربي.
فبإمكان المرأة المسلمة أن تتحجب في كل مكان، ولا يضرها أن ينظر الناس إليها، ولا يضرها أن ترمقها الأعين لتكن عزيزة بدينها.(65/55)
مأساة البوسنة والهرسك
السؤال
ما هو تصوركم لأبعاد المأساة الأليمة والفجيعة العظيمة التي حلت وألمت بإخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك, على ضوء آخر التطورات والأحداث, فماذا يعني تدخل الدول الأوروبية رغم كفرها وإلحادها لحل المشكلة كما يزعمون؟ والله أسأل أن يوفقكم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل.
الجواب
الحقيقة أن قضية البوسنة والهرسك من القضايا الخطيرة والكبيرة, وتحدثنا فيها في مناسبات خاصة، وقد أقمت ندوة فيها مع أحد الدكاترة الذين ذهبوا إلى هناك من أصحابنا ورجع وعرض بعض المشاهدات والمرئيات بعنوان: " مشاهدات في يوغسلافيا، وهي فيما أعلم أن هذه الندوة موجودة في الأسواق.
ولكنني أقول على أي حال قضية البوسنة قضية خطيرة للغرب وللشرق.
أما بالنسبة للغرب: فهو ينظر إلى أنها في قلب أوروبا، وتعتبر أكبر تجمع إسلامي في أوروبا -ستة ملايين- وكانوا ضعف هذا العدد إبان الحرب العالمية، ولكن أبيد منهم عدد كبير أثناء الحرب، ولم يعلم بهم أحد أما اليوم فهم يقتلون فعلاً ولكن على مرأى ومسمع من العالم كله.
وفي هذا الحدث أمور غريبة وهي: أولاً: منذ شهور طويلة والدبابات والطائرات تقصف مدينة سراييفو التاريخية الجميلة حتى حولت مساجدها ومآذنها وبيوتها ومصانعها إلى حرائق.
ويقول لي أحد الإخوة: لا تجد بناية واحدة سليمة، بل كثير من البيوت أصبحت غير قابلة للترميم أصلاً، وثلاثة شهور والناس يعيشون في المخابئ حتى نفدت كل المؤن والذخائر، وكل الأطعمة، وأصبح الناس مهددين بالموت جوعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً ومع ذلك القصف متواصل، ممن؟ هو من الصرب.
هل صحيح أن العالم يرفض؟ أمريكا تدخلت في ساعات في بعض المواقع، وقالت كلمات واضحة، ونحن نجد أنها لم تستخدم أسلوب التهديد بشكل صريح افعل وإلا.
فلماذا لم تسلك الأسلوب نفسه مع الصرب، لو كانوا صادقين في مقاومة هذا الذي يحصل؟ ولكنهم يعطون الصرب الآن فرصة، ويقولون لهم: عجلوا وأسرعوا في القضاء على المسلمين في البوسنة والهرسك، أسرعوا بتدمير هذه الدولة، وفعلاً فإن كل الحديث الغربي منصب على شيء واحد فقط وهو الإعانات الإنسانية، فرنسا -مثلاً- أكثر المتحمسين لهذا الموضوع، إلى الآن كل نشاطاتها وتصريحاتها مقصورة على الجانب الإنساني، جانب الإغاثة، وهكذا ألمانيا.
أمر آخر هناك، الآن بوادر مخيفة، الكروات هم الآخرون نصارى، الآن أعلنوا عن دولة مستقلة لهم داخل البوسنة والهرسك، يعني اقتطعوا جزءاً من الأرض التي يملكها ويحكمها المسلمون الآن، اقتطعوها واستقلوا بها في دولة كرواتية بوسنوية نصرانية.
ويقول كثير من المراقبين: إذا قامت هذه الدولة فعلاً واستقرت، فإنها تهدد وجود البوسنة والهرسك -الدولة الإسلامية- تهديداً مباشراً ويصعب تصور وجود دولة البوسنة والهرسك المستقلة في ظل مثل هذا الوضع.
خاصة وأن هناك أخباراً قديمة عن وجود نوع من التحالف بين الكروات والصرب ضد المسلمين، ولو تحالف الكروات والصرب وأعلنوا ذلك ضد المسلمين لكانت كارثة كبيرة.
فالآن أكبر إيجابية في الواقع هي أن الكروات يساعدون المسلمين، وعن طريقهم تنتقل الأسلحة، وينتقل الذين يزورون تلك المناطق إلى غير ذلك.
والغرب يخاف من شيء كبير في يوغسلافيا -في البوسنة والهرسك- وفي غيرها، يخاف من قضية ظهور الجهاد الإسلامي، ولذلك هناك خبر صغير نشر وأُثير وهو وجود شاب عربي قتل هناك، هذا الخبر على رغم من أنه فردي ومحدود إلا أن له تأثيراً كبيراً في الأوساط الغربية، فضلاً عن أنني سمعت أن هناك مراكز للشباب العرب لمشاركة إخوانهم في الدفاع عن أنفسهم، لماذا؟ هم ليسوا بحاجة إلى الرجال ولكن من الناحية المعنوية، لرفع معنوياتهم، فالغرب يخشى أن تتحول البوسنة والهرسك إلى أفغانستان أخرى.
وهنا تكمن الخطورة لأنها بلد جبلي فعلاً وصالحة لمثل هذا الشيء.
الأمر الثاني: أنها في قلب أوروبا، وقد تكون هذه شرارة لحروب صليبية متواصلة، كما يوجد في الجمهوريات التي خرجت عن الاتحاد السوفيتي الآن احتكاكات كثيرة وفي بلاد شتى.
فالغرب يتخوف الآن من ظهور قضية الجهاد في سبيل الله، ومما أبشركم به أن المسلمين هناك في البوسنة والهرسك على الرغم من أنهم كانوا مجهولين وبيننا وبينهم -نحن المسلمين في المشرق والمغرب هنا في البلاد العربية والإسلامية- مسافات بعيدة، حتى أن أكثرنا لم يكن يعرف هؤلاء المسلمين ولا يدري بوجودهم قط، إلا بعد الأحداث بزمان طويل، ومع ذلك الآن بدءوا يعودون إلى دينهم وبدءوا يصححون أوضاعهم، حتى يقول لي كثير من الإخوان الذين ذهبوا إلى هناك والتقينا بهم، يقول: الآن بدءوا يتكلمون عن قضية الجهاد، ويستشعرون معنى الشهادة في سبيل الله، وظهرت في قلوبهم قضية الحماس للدين، وبدأت مسألة العداوة للنصارى.
وظهرت أيضاً الأخلاقيات الإسلامية مثل الالتزام بالحجاب، ومثل ترك التدخين، ومثل المحافظة على الصلوات إلى غير ذلك.(65/56)
حكم المشاركة في الصحف
السؤال
رجل يكتب في صفحة الشعر الشعبي في إحدى الصحف، ويأخذ على ذلك راتباً شهرياً, وقد حاول أن يغير بعض أغراض الشعر إلى ما يخدم الدعوة إلى الله تلميحاً، ويستشهد برأي أحد الدعاة في الشعر, فشطب رئيس التحرير المقال, فهل يستمر في هذه الصحيفة بنية محاولة نشر الخير ولو بعد حين أو يتركها؟
الجواب
شطب هذا المقال يذكرني بخبر نشر في إحدى الصحف المحلية, وقرأته, وقد ذكر اسم أحد الدعاة ضمن الخبر, أن فلاناً قام وألقى كلمة في حفل من الاحتفالات فنشر الخبر بكامله إلا الكلام المتعلق بذلك الداعية فقد حذف!! أما محاولة نشر الخير فلا شك أنه من استطاع أن ينشر الخير بأي أسلوب أو أي طريقة فلا بأس بذلك, إلا إن كان يرى أن هذه الجريدة بابها مغلق أمام الخير، فعليه أن يتركها إلى غيرها وإلى أسلوب آخر.(65/57)
حكم المشاركة في النوادي الرياضية
السؤال
هل يحق لي المساهمة في إنشاء نادي رياضي, علماً بأن نشاطه هو كرة القدم وبعض النشاطات الثقافية المحدودة, حيث يحتج القائمون عليه, بأنه يمنع الشباب مما هو أسوأ من الرياضة, ويلحون على ذلك, وإلا اعتبرت بخيلاً؟
الجواب
إذا كان هذا النادي فيه خير، والقائمون عليه أخيار، ولهم نشاطات طيبة وما أشبه ذلك فلا حرج من المساهمة.(65/58)
طلب مقدم للشيخ
طلب: أرجو أن تسمح لي يا شيخ بهذه الكلمة، وهي أننا نشكو إلى الله من قلة زيارتكم لنا، فنحن في هذه الليلة نطلب منكم أن تتكرموا بزيارة كل شهر أو شهرين, هذا مطلب أرجوه ويرجوه جميع من في المسجد إن شاء الله؟ الرد: قبل قليل كنت أتكلم عن قضية الديكتاتورية والتسلط, وأنا اعتقد يا أخي أنك تمارس الآن -مع المعذرة- نوعاً من ذلك, فكونك ترجو فهذا صحيح, ولكن جميع من في المسجد لا يمكن الجزم بذلك، إلا إذا كنت قد وزعت ورقة عليهم, ثم جمعت الاستبيانات, ثم خرجت فيها بنتيجة أن الحضور (100%) يطالبون بحضوري دائماًَ, حينئذٍ كنت أقبل منك, على كل حال أنا لا أدخل في هل النتيجة صحيحة أو خطأ, الطريقة خطأ وليست سليمة, يعني قولك: جميع من في المسجد، هذا شيء لا نعلمه، وأمره إلى الله, لكن لو قلت: جل من في المسجد لكان أجود، وعلى كل حال أنا أقدر لكم جميعاً حفاوتكم وأعلم فرحكم بهذا اللقاء الذي أرجو أن يكون مباركاً, والشهود على ذلك عندي وفي صدري.
وأسأل الله أن يجمعني وإياكم في الجنة, كما إنني أعدكم إن شاء الله بتكرار هذه الزيارة.(65/59)
كيفية قضاء الإجازة الصيفية
السؤال
يقول: إن الإجازة الصيفية جاءت، وهناك شباب هداهم الله إلى طاعته وأصلحهم, فما رأيك في الإجازة وما يمكن أن نفعل فيها؟
الجواب
أذكر أنه سبق لي أن ألقيت درساً بعنوان: حول الإجازة، فمن الممكن مراجعة ذلك, لكن ينبغي أن تُستفاد في القراءة, والرحلات المفيدة, وحضور مجالس العلم, وحفظ كتاب الله تعالى إن أمكن, والمشاركة في النشاطات الخيرية كالمراكز الصيفية مثلاً, أو الرحلات المفيدة، أو الجولات الوعظية التي تنظمها مراكز الدعوة, أو غير ذلك من الأعمال النافعة.(65/60)
تصحيح لفهم مسألة الاغتيالات
السؤال
هل نفهم من كلامك أنك تؤيد ما يفعله المسلمون في معركة المواجهة؟ أم أن الأمر غير ذلك؟
الجواب
إذا كان الأخ يقصد أنني أؤيد مسألة الاغتيال, فلا، لم أقل هذا لا نصاً ولا ضمناً, وليس في كلامي أنني أؤيد الاغتيالات؛ لأنني أرى أن هذا الأمر ليس مناسباً, ولا يخدم قضية الدعوة في الواقع، خاصة في مثل هذه الأوضاع التي تعيشها مصر, ولكنني قصدت أمراً واحداً فقط، وهو أني أقول: إن الإعلام الذي يستنكر الاغتيالات التي يقوم بها أفراد من الجماعات الإسلامية, لم يقم بالدور نفسه في استنكار الاغتيالات التي توجه لأفراد الجماعات الإسلامية.(65/61)
نصيحة لشباب المراكز
السؤال
نطلب نصيحة لشباب المراكز ومن يقوم عليها؟
الجواب
أنصحهم بتقوى الله في هؤلاء الشباب الذين استرعاهم الله عليهم, وأن يبذلوا جهداً في تربيتهم, وإعدادهم وإصلاحهم, وأن يحرصوا على حمايتهم من الأفكار المنحرفة, والأخلاق المنحرفة, وبنائهم بناءً قوياً ليصبحوا رجالاً أقوياء, ويحرصوا على تزويدهم بالعلم الشرعي الصحيح, وتربيتهم تربية إسلامية سليمة.(65/62)
أيتها المرأة احفظي قلبك وجوارحك
تحدث الشيخ -حفظه الله تعالى- في هذه المحاضرة عن وجوب تعلق قلب الإنسان بالله وحده، وخص النساء بهذا الموضوع ذاكراً لهن أوجهاً من تعلق بعض النساء بغير الله مثل اللباس والموضة والزينة، ومثل تعلق المرأة بامرأة مثلها أو برجل سواء كان زوجها بدرجة لا يقبلها الشرع، أو برجل أجنبي كما قد يحصل لبعض ضعيفات الدين، وذكر أيضاً التعلق بالوظيفة والمال، ثم ذكر الآثار التي ترى في المرأة التي يكون قلبها متعلقاً بالله عز وجل، ثم أجاب على طائفة من أسئلة النساء.(66/1)
وجوب تعلق القلب بالله وحده
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فلما هممت بإلقاء هذه الكلمة وإعدادها تحيرت في الموضوع الذي يناسبها، لأنها لا تتكرر إلا بين الحين والحين، والموضوعات التي تحتاج إلى إيضاح وبيان كثيرة، ثم رأيت أن أجعل مدار هذه الكلمة على موضوع واحد تتفرع عنه جميع الموضوعات الأخرى؛ ألا وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} والحديث متفق عليه.
أيتها الأخوات: إن هذه المضغة، القطعة من اللحم المسماة بالقلب عليها مدار كل شيء، فهي بالنسبة للجسد ملكه، وما الأعضاء والجوارح من السمع، والبصر، والأيدي، والأرجل، واللسان، وغيرها؛ إلا جنود تحت خدمة هذا السيد المطاع الذي هو القلب، فإذا كان القلب صالحاً فإنه يأمر جنوده بكل أمر صالح، فلا ينظر الإنسان إلا إلى حلال، ولا يسمع إلا الخير، ولا يمشي إلا إلى خير، ولا يأخذ إلا خيراً، وإذا كان هذا السيد المطاع الذي هو القلب فاسداً فإنه يأمر جنوده التي هي الأعضاء بالشر والفساد، فلا يرتاح الإنسان إلا إلى النظر للحرام، وسماع المحرم، والمشي إلى الحرام، وأخذ الحرام، وإعطاء الحرام، فالقلب يملي على جوارح الإنسان جميع الأعمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن هذه المضغة: {إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} .
أيتها الأخوات: أحياناً يكون مظهر الإنسان مظهراً غير إسلامي -مثلاً- تكون المرأة قد لبست ثياباً ضيقة، أو غير ساترة، أو ثياباً فيها تشبه بلباس الكافرات، أو ثياباً محرم لبسها، أو استعطرت في حضرة رجال أجانب، أو تسمع الغناء المحرم، أو تغتاب الناس وتنتهك أعراضهم، فإذا وجدت من يلومها ويعاتبها ويقول اتركي هذه الأشياء، قالت: التقوى هاهنا -وتشير إلى صدرها- وتنسى أن التقوى لو كانت فعلاً هاهنا لظهرت آثارها على الجوارح، لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله.
إذاً: فإننا حين نرى مظهر الإنسان مظهراً سيئاً منحرفاً نستنتج من ذلك أن القلب إما ميت، أو مريض، والعكس بالعكس إذا كان مظهر الإنسان مظهراً حسناً فإننا نستنتج من ذلك أن القلب فيه حياة وفيه نور.
القلب لا بد له من تعلق لأن الله تبارك وتعالى حين خلق القلب جعله مستودعاً للمشاعر من الحب، والبغض، والرحمة، والحسد، والحقد، وغيرها من المشاعر الطيبة أو المشاعر الخبيثة.
فلا بد أن يكون هذا القلب مملوءاً بشيء، إما بخير، أو بشر، لا بد أن يتعلق القلب بشيء ولننظر الآن في أنواع الأشياء التي يمكن أن يتعلق بها القلب ونطبقها على واقع حياتنا التي نعيشها في هذا العصر.
قد يتعلق قلب الإنسان رجلاً كان أو امرأة بالدنيا وزخارفها، ويمتلئ بمحبة هذه الدار والحرص على الاستمتاع الكامل بها، وهذه ليست من صفات المؤمنين، يقول الله عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:15-16] ويقول جل وعلا: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الذين يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] فاستحباب الحياة الدنيا، وإيثارها على الآخرة ليست من صفات المؤمنين، ويقول سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] .
وفيما يتعلق بالمرأة خاصة فقد حدث أن كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه يطالبنه بالنفقة على رغم قلة ذات اليد وشظف العيش في ذلك العصر، حتى ضاق من ذلك صدر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل قول الله تعالى مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:28] فالمرأة التي غاية تعلقها هي الحياة الدنيا وزينتها لا تصلح أن تكون زوجاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عقب على ذلك بقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] وهكذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً ممن أرادن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الدنيا وما فيها.(66/2)