ما نقص مال من صدقة
أتريد أن أخبرك، وأنتِ يا أختُ أتريدين أن أخبرك، الله سبحانه وتعال يقول: {يا ابن آدم أنفق، أُنْفِقْ عليك} والله لا يضيع منك قرش ولا ريال إلا ويعوضك من بيده خزائن السماوات والأرض خيراً مما أنفقت في الدنيا وفي الآخرة.
صاحب الحديقة - كما جاء في صحيح مسلم- ملك خاص يبعث إلى السحابة في السماء، ويقول لها: يا سحابة، أمطري على حديقة فلان بن فلان، فإذا توسطت السحابة من هذا البستان؛ أفرغت ما فيها من الماء، والحدائق عن يمينها وشمالها ما أصابتها قطرة، فيأتي رجل إلى فلاح بسيط يسوي الماء بمسحاته، ويقول له: ما اسمك؟ قال: اسمي فلان بالاسم الذي سمعه في السحابة، فيقول: وما شأنك بي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب، يقول: أسق حديقة فلان، فماذا تصنع بمالك؟ هل هو يصنع معجزة؟! لا، الأمر يسير قال: هو ما رأيت، أنا أقسم المال إلى ثلاثة: ثلث أتصدق به، وثلث آكله أنا وأولادي وثلث أعيده في هذه الحديقة، فالأمر يسير، لا تضر بدنياك ولا تضر بآخرتك.(17/10)
الاهتمام بمأساة الأمة أولى من الاهتمام بمأساة فردية
أيتها الأخت المسلمة، نحن نعلم أنه يأتيك في منزلك، أو حتى في المسجد، امرأة تقول: إنها محتاجة، وأم أطفال، وأيتام، ومسكينة، وليس لديها مال، وعليها ديون، وليس في بيتها ما تأكل.
والواقع أن مجتمعنا -بحمد الله- مهما وجد فينا من الفقراء، إلا أنه في الجملة -خاصة في المدن- وضعه جيد، هناك مناطق نائية في غاية الفقر وفي غاية الجوع لا يجدون قوت اليوم، لكن في المدن الكبيرة، وخاصة أولئك الذين يطرقون الأبواب، ويأتون إلى البيوت، ويتعرضون للناس، غالبية هؤلاء في خير.
وعلى فرض أنهم محتاجون؛ أفنقيس المأساة الفردية بمأساة الأمة؟ مصاب هذه المرأة أو ذلك الرجل، مصاب فرد واحد، أو بيت واحد، أو أسرة واحدة، لكنك الآن وأنتِ أيتها المسلمة، أمام مصيبة أمة بأكملها، برجالها وبنسائها وبأطفالها، أمة لا ينقصها إلا المال.(17/11)
الأمة لا ينقصها إلا المال
يوجد في البوسنة، مائة ألف مجند، مستعدون أن يموتوا في سبيل الله، مستعدون أن يقاتلوا حتى آخر قطرة من دمائهم، وهذا العدد الكبير بإمكانه بإذن الله تعالى أن يحرر كل أراضي البوسنة من أيدي أعداء الإسلام، ولكن يمنعهم من ذلك أنهم لا يملكون السلاح، وهذا العدد الكبير -أيضاً- يحتاج -على أقل تقدير- ألف داعية، أي: بمعدل داعية واحد لكل مائة رجل، أو مائة داعية بمعدل داعية واحد لكل ألف رجل، لكن مائة داعية، يتطلبون مرتباً شهرياً قدره -على أقل تقدير- خمسين ألف ريال، فمن هي الجهة وما هي الدولة أو المؤسسة التي تعطيهم السلاح، وتعطيهم الإغاثات الإسلامية وترسل إليهم الدعاة؟!(17/12)
أهل السنة هم أولى بالبذل والعطاء
يؤسفني أن أقول بذلت الشيعة والرافضة في ذلك شيئاً كثيراً، أما أهل السنة فما زالوا مترددين، وما زالوا يقبضون أيديهم، وما زالوا إذا أعطوا اليوم لم يعطوا غداً، ويقولون: طالت المسألة، نعم طالت وستطول، وإذا انتهت مأساة المسلمين في البوسنة ومأساتهم في طاجكستان، ومأساتهم في فلسطين، ومأساتهم في مصر، ومأساتهم في الجزائر، ومأساتهم هنا فسوف تقوم مآسٍ ومآسٍ أخرى للمسلمين، وهذه سنة الله: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول(17/13)
دعوة للإنفاق في سبيل الله
إنها سنة ماضية، وأهل هذا الدين مبتلون ومختبرون، فعلينا -أيها الإخوة وأيتها الإخوات- أن نفزع مع إخواننا المسلمين، وأن نصدق الله تعالى، وألا نمل ولا نكل ولا نحتقر شيئاً مهما قل؛ فإن الصدقة يربيها الله تعالى للإنسان، كما يربي أحدنا فلوه، حتى تكون كالجبل العظيم، أو تحسد نفسك الخير والمعروف والبر والجود؟ والله تعالى يقول: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] .
فيا أيتها الأخوات المؤمنات -وأنا إذ أنادي النساء خاصة فإني أريد أن أثير حمية الرجال أيضاً- يا أيتها الأخوات المؤمنات تصدقن ولو من حليكن، كما قال لكن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الناصح الأمين {تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم} ويا أيها الرجال، إذا بذلت النساء، وتخلت المرأة المسلمة عن ساعتها أو عن قرطها، أو عن شيء من حليها، أفتعجز أنت أن تتخلى عن جزء من مرتبك أو رصيدك، في سبيل الله تعالى.
إن المحروم من حرم هذا الخير، خاصة في هذه الأيام المباركات، والساعات التي يرجى أن تضاعف فيها الحسنات، وتقال فيها العثرات، وتكفر فيها السيئات.
فأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن أسرعوا إلى الخيرات، وسابقوا إليها فكانوا لها سابقين، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(17/14)
أهمية الحديث عن المرأة
حمداً لله تعالى حمداً، وشكراً له شكراً، على ما أنعم ووفق وهدى ويسر، هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
كنت قد وعدتكم أيها الإخوة والأخوات، أن أتحدث إليكم هذه الليلة والليلة القابلة، عن موضوع المرأة، وقد جرت عادة الناس أن يظنوا أن الحديث عن المرأة لا يعدو الحديث عن ثيابها فإن تجاوز ذلك فإلى شعرها، وقد ظن الظانون أن المرأة لا تعدوا أن تكون ديكوراً أو هنداماً يعتني بتزيينه وتحسينه فحسب، ونسوا الجانب الإيماني في المرأة، الجانب التكليفي الجانب الشرعي الذي جعل المرأة مع الرجل على قدم المساواة في أصل التكليف فما كلف به الرجل كلفت به المرأة، وما حرم عليه حرم عليها، هذا هو الأصل إلا ما استثني قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] .(17/15)
اهتمام أعداء الدين بإفساد المرأة
لقد وجد اليوم في مجتمعات المسلمين كلها -وبدون استثناء- جمعيات، ومؤسسات، وشركات، وجامعات، ومدارس، تهتم كيف تُدَرِّب المرأة على الغناء، أو على الرقص، أو على أساليب الإغراء والفتنة والإثارة، وتحويل المرأة إلى مجرد متعة يعبث بها الرجل، ويلهو ويقضي وقت فراغه، أو يزيل السأم والتعب عن نفسه، وبذلك حولوا المرأة إلى دمية ولعبة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] .
ويظنون أنهم بذلك يعملون شيئاً، ويزوقون هذا العمل بألفاظ مثل: تحرير المرأة، وإخراج المرأة من تسلط الرجل، والواقع أنهم أخرجوها من عناية الأب الحنون، أو من غيرة الزوج المشفق، إلى عبث الأجنبي البعيد الغريب، الذي لا يهمه من المرأة إلا أن تكون زهرة تقطف أو تشم، ثم يلقي بها بعيداً عن وجهه.(17/16)
التلفاز والمرأة
أيها الأحبة: نظرة سريعة إلى الإعلام اليوم، وأنا مضطر إلى تجاوز الكثير لضيق الوقت.
لقد كان الإعلام منذ سنوات ليست بالبعيدة، إذا احتاج إلى أن يقدم صورة المرأة على شاشات التلفاز للطبخ -مثلاً- فإنك لا ترى من المرأة إلا كفيها وهي تقوم بعملية الطبخ، كانت هذه هي البداية، لكن ما هي النهاية؟ لا أحد -إلا الله- يدري ما هي النهاية؛ لأن النهاية ما تأت بعد.
ولكننا نستطيع أن نعرف ما هو الواقع الذي نعيشه الآن، البارحة وبالذات ليلة الأربعاء وفي الساعة الواحدة ليلاً وفي القناة الثانية برنامج: الكاميرا الخفية، باللغة الإنجليزية، ماذا يعرض على أولاد وبنات المسلمين؟ شاب إنجليزي وسيم الوجه، يلبس تنورة أسكتلندية واسعة فضفاضة، وليس عليه ملابس داخلية تستر سوأته، وأمامه مجموعة من الفتيات في الثامنة عشرة، وهو يريد أن يعلق إعلاناً على الحائط، فيطلب من هؤلاء البنات أن يمسكن بالسلم حتى يصعد، ويصعد فينظرن إليه من أسفل، ويتضاحكن ويتغامزن، ثم تأتي نساء كبيرات السن، يحركن عيونهن ويرفعن حواجبهن، ويتحركن ويتحادثن بلغة معروفة.
نعم هذا في شهر رمضان المبارك، يا أخي هذا ليس سراً، هذا يعرض على ملايين المشاهدين من المسلمين، وهذه القناة ليست وقفاً على الكفار ولا وقفاً على هؤلاء الغربيين الموجودين في هذه البلاد، ونحن نجد أن أكثر الناس يتابعونها، حتى ولو كانوا لا يجيدون لغتها.
أما الملابس فقد أصبح عادياً أن تظهر المرأة وعليها ثياب إلى ركبتها، بل إلى ما فوق الركبة، وهذه الثياب تنحسر يوماً بعد يوم، وإذا استمر ذلك، ولم تتحرك غيرة الغيورين فما الذي يدريك أن تعرض المرأة على شاشة التلفاز في بلاد الإسلام وهي في ثياب النوم، أو بثياب البحر، أو وهي تراقص الرجال بصورة أو بأخرى.
إن من يرى بداية الطريق يعرف نهايته، إذا لم يتحرك الغيورون، وإذا لم يؤخذ على أيدي القائمين على هذه الأجهزة، ممن لا يراقبون الله تعالى، بل ولا يراعون مشاعر المسلمين.
أما القنوات التي تبث باللغة العربية فقد أصبح معتاداً أن تظهر الفتاة، بل والفتاة من هذه البلاد، وهي تلبس البنطلون، وتجلس أو تقوم مع رجل صور في المسرحية أو التمثيلية على أنه زوجها؛ فهو يحادثها، ويضاحكها، ويدنو منها، ويلمسها، ويتحدث معها حديث الزوج إلى زوجته!! فإذا عرضت مسرحية كويتية بعدما لقي إخواننا في الكويت الآلام والابتلاءات من الله عز وجل، والاختبار وجدنا أن الأمر لم يزدنا إلا إعراضاً، فالفتاة تظهر بأبهى زينتها، بل وقد لبست اللباس الضيق الذي يشرب الجلد شرباًً وهو ما يسمى بالاسترتش وهو عبارة عن ثوب ضيق جداً إذا لبسته الفتاة فإنه يلتصق بجسدها كما يلتصق الشراب بالقدم، ويصفها ويصف حجمها، بل يضاعف من فتنتها وإغرائها، وإلى أمامها شاب في قوة الشباب، وريعان الشباب، وهو يلامسها ويحادثها ويدنو منها ويكاد أن يلتصق جسده بجسدها، ويعرض هذا في شهر رمضان المبارك، بعدما خرج المسلمون من صلاة التراويح، وبعدما بللوا دموعهم بالبكاء، وبعدما سجدوا لله لرب العالمين، وبعدما سمعوا كلام الله تعالى، وإذا بهذه المشاهد والمناظر المؤذية تكدرهم أو تغيرهم، هذا هو ما يقدمه الإعلام للمرأة المسلمة.(17/17)
المرأة والصحافة
أما الصحافة فحدث ولا حرج، فالمرأة إنما هي تلك الفتاة التي نجحت في مسابقات الجمال، أو عارضات الأزياء التي تعطى مبالغ مقابل أن تعرض جمالها، وتبدي زينتها وإغراءها وفتنتها، حتى إنني قرأت في جريدة تصدر في دولة خليجية، وتوزع في العالم العربي والإسلامي كله، والجريدة عندي، وأقول هذا الكلام مع ما فيه من مرارة ولكنه الواقع الذي يجب أن تعرفوه، لأنه ليس سراً، إنه يباع في البقالات، ويعرض في المكتبات، ويقرؤه الفتيات والفتيات، مقابلات مع بعض اللاعبين، فماذا يقول أولئك اللاعبون؟ يقول أحدهم مثلاً: إذا خرجت من المباراة أجد خمسين فتاة في انتظاري وهن مستعدات لتقديم كل شيء، أنت تدري ماذا يعني كل هذا الكلام! وآخر يقول: زوجتي أحبها ولكنها لا تكفيني وحدها، وهم بطبيعة الحال لا يؤمنون بتعدد الزوجات، فهذا الكلام يعني تعدد الخليلات وتعدد العشيقات، أي أنه يخون ويرتكب ما حرم الله عز وجل، ويعلن ذلك وهو كافر، لكن العجب ممن يحمل اسماً إسلامياً، ويتكلم باللغة العربية، بل وفي بلد من بلاد الإسلام ينشر مثل هذا الكلام.
وأعجب من هذا، أن يتداول المسلمون مثل هذا الوباء الفاحش البذيء، ثم لا تسمع صوتاً ينكر، ماذا بقي أكثر من هذا؟! ندع هذا الأمر جانباً!(17/18)
المرأة عندهم تعني المجون والغرام لا غير
إنها الجاهلية التي لا تعرف من المرأة إلا جسدها، ولا تفهم المرأة إلا لغة الغزل، ولغة الحديث الهامش المغري، بل أقول وبلغة صريحة: إن المرأة عندها هي فقط المرأة في غرفة النوم، لا يعرفون من المرأة دينها ولا خلقها ولا حيائها ولا خوفها من ربها، لا يعرفون المرأة الصادقة، المرأة المجاهدة، المرأة المؤمنة، المرأة الغيورة، المرأة المنفقة الباذلة المتصدقة كل ذلك لا يعرفوه.(17/19)
نماذج من المرأة المسلمة(17/20)
المرأة المذكورة في قصة أصحاب الأخدود
ثم تأملي مظهر المؤمنة القوية الصلبة في تلك المرأة التي خبرنا من شأنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4-7] .
تأتي هذه المرأة تحمل صبيها على كتفها لتلقى في النار، فلما قربت من النار تكعكت وتلكأت وأشفقت على طفلها، فأنطقه الله الذي أنطق كل شيء: يا أماه اصبري فإنك على الحق، فتتقدم فتلقي بولدها إلى النار ثم تلقي بنفسها وراءه فيحترقون في نار الدنيا؛ لينتقلوا في لمحة بصر إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(17/21)
مريم عليها السلام
وتأملي في قصة مريم عليها السلام، التي أخبرنا الله تعالى من شأنها، وكيف واجهت مجتمعها؟ بذلك الأمر الغريب أن يأتي لها ولد دون أن يكون لها زوج، قال الله تعالى: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:27-28] إنه موقف صعب عظيم عصيب، ولكن الله تعالى مع المؤمنين، فينطق الله تعالى عيسى عليه السلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] ويعلم هؤلاء براءة مريم، وأنها أطهر من السحابة في سماءها، وأن الله تعالى أجرى على يديها هذه الآية العظيمة فُولِدَ لها عيسى من غير أب: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59-60] وتصبر وتصابر وينالها الأذى من اليهود ومن غيرهم، في نفسها، وفي ولدها، حتى يجعل الله تعالى سيرتها أنموذجاً يحتذى، وخبراً يتلى إلى يوم القيامة.(17/22)
خديجة رضي الله عنها
ثم تأملي في قصة خديجة رضي الله عنها، يأتيها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أفزعه الملك بغار حراء، فيأتي ترعد فرائصه، ويقول: زملوني دثروني، فتقول له: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق} وتظل خديجة إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبته وتصبره، تؤمن به وقد كذَّبه الناس، وتقف معه الناس يوم تخلى عنه الأقربون حتى تموت رضي الله عنها فيجد النبي صلى الله عليه وسلم ألم فقدها عام الحزن فقد كانت نعم الزوج والصاحب له.(17/23)
فاطمة رضي الله عنها
وفي سيرة فاطمة رضي الله عنها، وهي فتاة في مقتبل عمرها، يأتي المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيؤذونه ويلقون عليه التراب، ويصنعون عليه سلى الجزور، ويصيبونه بكل ما يستطيعون، وهي لا تملك أن تدفع عنه إلا أن تأتي إلى والدها عليه الصلاة والسلام، فتزيل ما أصابه، وتغسل رأسه، وتحاول أن تعالج الدم الذي ينزف منه صلى الله عليه وسلم، ثم تُقبل على المشركين فتسبهم وتدعو عليهم.(17/24)
عائشة رضي الله عنها
ثم انظري في سيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له نعم الزوجة، ثم تلقت عنه من العلم ما جعلها معلمة الرجال ومفهمة الأجيال، وما أشكل على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمر إلا وجدوا عند عائشة منه علماً.
هذه الأمثلة الرائعة، والنماذج الحية، من نساء المؤمنين، الصادقات، الصابرات، المجاهدات، العابدات، العالمات، المعلمات، الفقيهات هذا هو تاريخنا، هذه حياتنا هذه سيرتنا هذه نماذجنا التي نقدمها للناس، فليفخر علينا الفاخرون.
أيها الأحبة؛ إن البون شاسع، والخطب عظيم بين هذه الصورة التاريخية الحية للمرأة المسلمة وبين الواقع المر الذي يريد أعداء الإسلام وأعداء المرأة أن يجروها إليهم.(17/25)
امرأة فرعون
أما في الإسلام فشأن المرأة شأن آخر امرأة فرعون التي حكى الله عنها {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] إنها آسيا امرأة فرعون، من النساء الكوامل التي سطَّر الله ذكرها في القرآن الكريم، وذكر خبرها.
لقد تمردت على الدنيا وأعرضت عن قصر الملك وما فيه من الفتنة والمال والترف والنعيم، وقالت: لا أريد قصور الدنيا ولكن قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11] إنها لم تغتر بكونها محظية أو زوجة ملك مصر المتأله الطاغية، ولم تنخدع بزخرف الدنيا، بل تمنت الخلاص لأن قلبها يتحرق بالإيمان {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] .
إنها المرأة المؤمنة التي صبرت، وكان في قلبها من القوة، لا أقول: ما يواجه زوجاً عادياً من بني جنسها أو بني جلدتها، بل ما يتحدى رجلاً طاغية، خضعت له أمم بأكملها، وذلت له رقاب الأكابر من الرجال، وكان يقول على الملأ: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] فلا يقول له أحد كذبت، أما تلك المرأة فقد تمردت عليه، ورفضت فرعنته، وتسلطه، وألوهيته المدعاة، وأعلنت كفرها به، ودعت الله تعالى أن ينجيها من فرعون ومن عمله، وأن ينجيها من القوم الظالمين.
فهي نموذج للمؤمنة الصابرة، المؤمنة القوية، المؤمنة المجاهدة، المؤمنة التي هي تعد بآلاف الرجال: والناس ألف منهم كواحدٍ وواحد كالألف إن أمر عنا ثم تأملي في حال ماشطة بنت فرعون، تلك المرأة التي كانت هي الأخرى بليت بطغيان فرعون، وكانت مؤمنة موحدة ولكنها تكتم إيمانها على خوف من فرعون وملإه أن يفتنها عن دينها، فعلم فرعون أنها مؤمنة تعبد الله تعالى وحده ولا تشرك به شيئاً، فأحضرها وحقق معها، ألك رب غيري؟ قالت: ربي وربك الله رب العالمين، فأحضر قدراً من نحاس وأوقد عليه حتى أصبح أحمر يتلهّب، ثم أحضر أطفالها الصغار وقد أمسكوا بثوبها وأحدهم على كتفها، فأخذهم من بين يديها وألقى بهم في هذا القدر الذي يتلهب حتى رأتهم بعينيها والنار تحرقهم واحترق قلب الأم شفقة على الأولاد، وفي قلب الأم من الرحمة والحنان والعطف على أولادها ما فيه، ولكن الإيمان فيه أغلب وأقوى.
فرأت هذا بعينها فما قالت له انتظر ولا قالت له سأرجع عن ديني، لكنها قالت لي إليك حاجة؟ قال: وما حاجتك؟ قالت: أن تجعل عظامي وعظامهم في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ثم أخذها وألقاها في هذا القدر الذي يتلهب ناراً، فلما عُرِجَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء شم ريحاً طيبة، فقال: يا جبريل! ما هذه الريح الطيبة؟ قال: هذه ريح ماشطة بنت فرعون.(17/26)
صور من مآسي وآلام المرأة المسلمة
ثم إني أنتقل من هذا وذاك إلى بعض الآلام الحية التي تعيشها المرأة المسلمة اليوم، وإنها آلام جديرة أن تستنزف منكم البكاء والدموع، وسأتحدث عنها الآن، وما بقي فسوف أدخره لما بعد صلاة التراويح؛ لأن خطبنا اليوم عظيم، وأمرنا جسيم؛ وهولنا عظيم.(17/27)
آلام المسلمات في البوسنة والهرسك
أيها الإخوة والإخوات: قد وعدت أن أقرأ رسالة من أخواتكم المعذبات في أرض البوسنة والهرسك، وهأنذا آتي اليوم بما وعدتكم به، فهذه رسالة كلها أنين وبكاء من أخوات لنا مستضعفات اعتدى عليهن الصرب، وانتهكوا أعراضهن، الرقم يزيد على مائة وعشرين ألف مسلمة قد اغتصبت بالحرام، وانتهكت أعراضهن، أما الحوامل من هؤلاء، فهن لا يقل عددهن عن ستين ألف امرأة مسلمة، وأنتم تعلمون أن المعتصم سمع صوت امرأة تقول: وامعتصماه في بلاد عمورية، فجهز جيشاً قوامه تسعون ألفاً حتى طرق أسوار هذه المدينة وفتحها، أما اليوم فأكثر من ستين ألف امرأة، قد انتهك عرضها فعلاً، وهي تصيح: وامسلماه فأين السامعون؟ رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم 1- رسالة من البوسنة: تقول هذه الرسالة: الحمد لله والصلاة على رسول الله أما بعد؛ إلى كل مسلم ومسلمة إلى كل مؤمن ومؤمنة إلى كل عالم إلى كل شيخ إلى كل طالب علم إلى كل إنسان هذه صيحات ستين ألف امرأة حامل على أيدي الصرب، هذا نداء الخلاص من الجحيم الذي نعيش فيه، ونقول: يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا من تطلبون صحبته يا من تتمنون لقاء الله يا من تطمعون في الفردوس الأعلى من الجنة، يا أصحاب القلوب الحية، يا أصحاب القلوب العامرة بذكر الله، يا من في قلبه رحمة، يا من في قلبه شفقة، يا من في قلبه غيرة، يا من في قلبه نخوة، نحن نرسل لكم هذه الصرخات وهذه الاستغاثات، فنحن أخواتك، ونحن زوجاتك، ونحن بناتك، ونحن أمهاتك، نرسل لك التهاني، ونقول لك ولمن حولك من المسلمين: أنتم الآن تنتظرون شهر رمضان بهمة ونشاط، وعزم وفرح، وهو المطلوب في ذلك، لكن نحب أن نذكرك فنحن أيضاً ننتظر وضع أولاد الصرب، فالفرق في ذلك أن في انتظاركم فرح وسرور، وفي انتظارنا ألم وحسرة وبكاء ونخشى أن يظل هذا البكاء إلى الأبد، لكننا مع ذلك ما زلنا ننتظركم، وننتظر الفرح معكم، فلا نريد أن يحل علينا عيد الفطر المبارك إلا ونحن معكم في فرح وسرور خاصة إذا علمنا أننا تحررنا من الصليب، لذلك نناشدكم بالله أن تنقذونا مما نحن فيه.
أطاب لكم العيش! أطاب لكم طعام! أطاب لكم نوم! أطاب لكم فرح! أطابت لكم سعادة! أطابت لكم ملذات الحياة الدنيا ونعيمها، وأنتم تعلمون ما نحن فيه؟! نحن نحب أن نطرح عليكم هذه الأسئلة ولا تهمنا الإجابة لنعرفها، فعندنا الإجابة، لكن لتعدوها أنتم لعلها تكون بداية لخلاصنا.
كيف استطاع الصليبيون إخراج رجالهم من الخمّارات وهم سكارى لقتالنا واغتصابنا وهم على باطل؟ وكيف لم نستطع نحن ولم تستطيعوا أنتم إخراج رجالنا من المساجد لإعلاء راية الإسلام والجهاد في سبيل الله؟ ونقول لكم: نحن نطالبكم بالحق الشرعي الإسلامي فقط لا غير، فإذا لم يهز قلبك هذا الخبر، ولم تحرك قلبك هذه الصيحات، فما الذي سيهزك، فلقد هزت وامعتصماه واحدة وليس ستون ألف (وامعتصماه) ، هزت جيوشاً، هزت الجبال والأرض والنفوس، فمتى تصل وامعتصماه إلى قلوبكم؟ إننا ننتظر الموت فلم يعد للحياة طعم بعد الآن.
أخواتكم النساء المسلمات في البوسنة، هذه دمعة حزن تترقرق على خد كل فتاة مسلمة.
2- رسالة أخرى من البوسنة: وفي مقابلها دمعة فرح لا بد أن نأسوا بها جراح القلوب التي أمرتها الجراح، فهذه رسالة بليغة معبرة بعثت بها أخت مؤمنة إلى ولدها المرابط على الثغور، إلى ابنها وفلذة كبدها الذي يحمل السلاح؛ دفاعاً عن أعراض المسلمات في البوسنة والهرسك: إلى ولدي الغالي الحبيب أبي العالية؛ حفظك الله ورعاك، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، ما أجمل اللقاء بعد الانتظار ولو عبر السطور وبين الكلمات، بها يعلو الوجه النظارة ويرفرف القلب ليتابع البسمات، أعيش معك ومعكم جميعاً، ومن بين السطور لنا كلام، مرفوعٌ بيننا الغضب والملام، عتاب المحبة في الأجواء يسري كالهمام.
ولدي الحبيب أخاطبك وأخاطب أبنائي جميعاً، حقاً إن الإخوة في الإسلام والعقيدة، أقوى وأحلى وأحب وأقرب من الإخوة في الدم والنسب، كلنا شوق للقّاء، لكن الجدير بالذكر أين اللقاء؟ في الأرض أم في السماء؟ على أرض من الطين والحصباء، أم على أرض ترابها زعفران وبهاء، في ليلة بعدها ليلة بعدها الفناء أم في زمان في ضحوة ما لها انتهاء، مع صحبة بعدها فراق، أم صحبة خلد وفردوس وبقاء؟ فلنعبر الشوك جميعاً لنلقى الأحباء يقول الله عز وجل: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] .
ولدي الحبيب، كلنا يعد عدته للقائكم فأنتم الأعلون أيها المجاهدون إن أخلصتم النية لله تعالى فأنتم الظاهرون، وعدنا الله بالنصر المؤزر والفتح، فلنحذر أنفسنا التي بين جنبينا.
أبا العالية الأم هي التي تحب ولدها، هي التي تتطلع إلى الغد كي يزهو نجم ولدها، كيف سيظهر ولدها في الآفاق، كيف تعلو درجاته؛ كيف يكون إنساناً ناجحاً، تتطلع إليه العيون بالاحترام والتقدير بما وصل إليه دائماً تتطلع إلى الأمام للغد الذي ينتظر ولدها كيف تفرش له الأرض رياحين، كيف تحل البسمة لا تفارق جبينه، هأنذا أصدقك القول يا أبا العالية أتمنى من الله العلي القدير أن يجعل لك نصيباً في العلو والرفعة عند الله، وأن يجعلك الله من الصديقين الذين صدقوا الوعد وباعوا أموالهم؛ ليشتروا جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
أنا أتطلع إلى الغد المشرق الذي وعدنا بها ربنا جنات عدن لقاء دائم، سعادة أبدية، نشوة روحية، زوجات حسان كأنهن الياقوت والمرجان، تذكر قول الله عز وجل في سورة الرحمن التي تسمى عروس القرآن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:47] {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:49] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:51] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:53] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:55] {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:57] {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:59] {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلَّا الإحسان} [الرحمن:60] اللهم اجعلنا معهم يا رب العالمين، هذا ما أتمناه لك ولجميع أبنائي في الجبهة، هذا هو الأمل المنشود، أتمنى لكم الراحة والطمأنينة والعزة والرفعة والخلود غداً الدائم، كما يقول رب العزة في الحديث القدسي {يا أهل الجنة خلود فلا موت} هذا هو العز الحقيقي هذه هي المكانة.
ولدي الحبيب، أنا لا أريد أن تعود إلى الدار الفانية، ولكن عندكم المعبر للعز والخلود والشرف والرفعة فكيف أسمح لقلبي وعقلي وفكري أن يناديك من الأعلى إلى الأدنى، أنا التي أحاول أن أصعد إلى الدرجات التي وصلتم إليها فشدوا من أزري وادعوا لي جميعاً أن ألحق بكم حتى أناضل إلى جانبكم بقدر ما أعطاني الله تعالى من وسع وقوة.
أبا العالية؛ أناديك وأناشدك الله، أنت وجميع الأبناء الأحبة، أقولها صدقاً وأنت تعلم جيداً أنني لا أتكلم إلا إذا كنت على يقين من كلامي، لقد أحببت الجهاد في سبيل الله، لقد تغير فكري كثيراً، كل كياني ينضب بالجهاد، عيناي لا تتخيل غيركم، فكري لا يحتوي سواكم، فأنا أحبكم جميعاً.
أرجو أن تبلغ جميع من تراهم أني أبلغهم التحية.
ابني الحبيب حفظه الله؛ {أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} من هذا المنطلق العظيم والأجر الوفير الذي ينال المجاهد احتسبتك عند الله تعالى صبرت وسأصبر الكثير والكثير حتى آخر لحظة من عمري، وحتى آخر قطرة من دمي، الفراق صعب والضنى والولد غالي، ولكن الجنة لها ثمن، وهذا أبسط ما نقدمه لله، الشهادة لننال بها رضاء الله تعالى.
والمجرمون الملاحدة الكفار، قد انتهكوا العورات، وهتكوا أعراض المسلمات، واعتدوا على البلاد، وأنتم الأمل المنشود لا بد أن نثابر ونناضل ونجاهد حتى النصر، النصر لدين الإسلام النصر لتكون كلمة الله هي العليا، التضحية من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، بحرية وراحة وطمأنينة، الكثيرون ممن أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأولادهم يدعون الله تعالى لكم بالثبات وبالنصر المؤزر من عنده وهو العلي العظيم.
ولدي عبد العزيز؛ الكل لا ينجو من عذاب القبر، الكل لا يفرمن ضمة القبر، إلا المجاهد في سبيل الله، هو الذي لا يكدر صفوه عند نومه مكدر، ولا أقول موته فإنه حي كما ذكر الله عز وجل {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام يوم وقيامه، وإن مات فيه؛ أجري عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن فيه من الفتنة} .
سبحان الله! هذا كله في انتظاركم؛ إن صدقتم النية مع الله تعالى.
يا ولدي، أنت حملت في اسمك من أسماء الله تعالى العزيز وهو القوي القادر القاهر، فأرجو أن تتمثل فيك عزة الإسلام وأن تكون قوياً على أعداء الله من الكفار والمشركين رحيماً بإخوانك المؤمنين، قال رسول الله صلى ال(17/28)
من مآسي المسلمات
هذه قصاصة تحدثك عن الانتهاكات الجماعية لحرمات المسلمين، وتصويرها بكاميرة الفيديو على يد الهندوس عبدة الأوثان، وإعلامنا في غفلة من هذا، ورجالنا أبعد ما يكونون، ونصيح بهم فلا يعتبرون ولا يتعظون، ونساؤنا أيضاً مشغولات بهموم أخرى.
هذا نشرته وكالات الأنباء في الشهر الماضي، بنت عمرها تسع عشرة سنة، كانت ضحية للاغتصاب الجماعي، يتناوب عليها مجموعة من الرجال بالقوة وهي الآن بين الموت والحياة في أحد المستشفيات الحكومية وهي من المظلومين الذين ذهبوا ضحية، في يوم (10/ديسمبر/1992م) ، في القطار الذي غادر إحدى المدن في بهوسال وأخوها الذي كان يصحبها طعن بالسكاكين، ثم أحرق حياً أمامها.
ثانياً: امرأة أخرى، عمرها عشرون سنة، تزوجت حديثاً من شاب مسلم، وجاءت من ولاية آسام الهندية، وراحت ضحية الاغتصاب الجماعي، أما زوجها فقد ذبح أمامها، وهي الآن بين الموت والحياة في أحد المستشفيات، بعدما صب عليها الحامض الأسيت.
الثالثة: امرأة أخرى في العشرينات من عمرها راحت ضحية لضابط في الشرطة، ولقيت نفس المصير في ليلة السابع من ذلك الشهر في إحدى الشوارع.
الانتهاكات والاغتصابات، التي راحت ضحيتها نساء مسلمات في إحدى المدن الهندية، كانت نتيجة للتطرف الهندوسي، الذي فتح أبواب العذاب على هؤلاء الأبرياء، والأنباء التي لا زالت ترد من مخيمات اللاجئين التي أقيمت لهؤلاء المنكوبين مروعة جداً، وهناك أحياء ومجتمعات استهدفت فيها النساء المسلمات خاصة لهذا العمل البربري الذي هو من أبشع وأظلم الأعمال.
بعض النساء المسلمات، انتزعت ملابسهن بالقوة، ثم طلب منهن الفرار والمغادرة، والواحدة منهن لا تستطيع أن تواري بدنها من الرجال وهن في غاية الخوف والذعر يلتصق بأجسادهن أطفالهن الفزعون المذعورون، هذه المأساة لم تتوقف عند هذا الحد، بل اخترع الإرهابيون الهندوس وسائل شنيعة بإقامة الحواجز حتى تتساقط النساء فرائس سهلة لهؤلاء الإرهابيين.
إن هناك قاعة يقال لها: قاعة مرجان، يلتجئ فيها حالياً أكثر من ألف وخمسمائة لاجئ من الرجال والنساء، وهي تعطي شيئاً مذهلاً عن هذا المنظر الرهيب الرعيب ونجد عند الكثير من هؤلاء قصصاً مخفاة لا يستطيعون أن يبيحوا بها، ولا تكاد أن تصدقها العقول.
إن هؤلاء المجرمون القتلة، يصورون جرائمهم بكاميرات الفيديو، ويصورون مناظر الاغتصاب الجماعي والقتل والإحراق، ولا أحد يعلم بما يفعلون، غير أن من المؤكد أنهم لو خافوا من المسلمين لما فعلوا، ولو خافوا من القوات الدولية، أو الأمم المتحدة، أو منظمات حقوق الإنسان؛ لما تجرءوا على مثل هذا العمل الفاحش المشين.
امرأة أخرى عمرها اثنتان وعشرون سنة، ذبح زوجها بالسكين أمام عينيها كما تذبح الشياه.
الخامسة تحكي قصتها، بأن زوجها خرج ليعيد الأولاد من الخارج إلى داخل المنزل، ولكنه لم يرجع ولم يحدث ذلك، حيث أن الأسرة غادرت المنزل بأكملها، بعدما هاجمها الإرهابيون من الهندوس، وأمسكوا رب الأسرة وقتلوه، وضربوا على رأس بعض الأطفال بالسكاكين والسيوف، حتى جرحوهم وقتلوا منهم من قتلوا.
ضحية أخرى تحكي قصتها بأنها سافرت مع أخيها ومع زوجة أخيها إلى موطنهم بالقطار الذي غادر مدينتهم، وهاجم الإرهابيون ذلك القطار واغتصبوها اغتصاباً جماعياً وضربوها بالعصا، ثم أشعلوا فيها النار وطرحوها خارج القطار، فوجدها اثنان من الشرطة فغطوها وأسرعوا بها إلى المستشفى وقد حُجِزَ بعض هؤلاء الذين قاموا بهذا العمل، وأدخلوا إلى السجن، كما أن أطفالها وبعضهم من الرضع أخذهم الإرهابيون كرهائن، ومن المعلوم أن بنات صغيرات قد اختطفن من المناطق المجاورة ولم يعرف مصيرهن بعد إلى اليوم.
هذا بعض خبر أخواتكم وأخواتكن المسلمات، يلقين ما يلقين على أيدي عبدة البقر، وعلى أيدي عبدة الأوثان، وعلى أيدي المشركين، وهؤلاء -أيها الإخوة- ما حملوا السلاح، ولا قاتلوا، ولا أعلنوا الجهاد، ولا حاربوا، كل ما فعلوه أنهم مسلمون، وهم يترددون على المساجد، ويشهدون أن لا إله إلا الله، ويرفضون أن يتمسحوا بأرواث البقر، ويرفضون أن يعبدوا بوذا هذا كل ما فعلوا قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8-9] .
أيها الإخوة، أما نبأ أخواتكم المسلمات في البوسنة والهرسك فهو خبر آخر، ولا أريد أن أبدأه الآن وسأحدثكم عنه بعد صلاة التراويح وسأتلوا عليكم رسالتين باكيتين في إحداهما دمعة حزن، وفي الأخرى دمعة فرح كلتاهما من أرض البوسنة والهرسك.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحم هؤلاء المسلمين المستضعفين، أسأل الله تعالى أن يرحم هؤلاء المستضعفين، وأسأله جل وعلا أن ينزل بأعدائه عجائب قدرته، وأن يصب عليهم عذابه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا نسألك لهؤلاء المسلمين في هذه البلاد وفي كل البلاد يا أرحم الراحمين، اللهم أغثهم يا مغيث، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم إنا نسألك أن تصغي لهم قلوب إخوانهم المسلمين، وقلوب أخواتهم المسلمات.(17/29)
الجهاد واجب على الجميع
وأنتم أيها الأحبة؛ أنتم أيضاً أيها الأخيار، لكم جهاد، ولكم ثغور، ولكم رباط، فأين أين المجاهدون الصادقون رباطكم في إنكار المنكرات، التي لا أقول أصبحت في الشوارع! ولكنها دخلت إلى بيوتكم وإلى غرفكم الخاصة، وإلى عقولكم وعقول أولادكم وعقول بناتكم.
وجهادكم أن تبذلوا مما أعطاكم الله عز وجل، فقد ناداكم المنادي، وصاح بكم، وأصبح يتسول على أعتابكم، لا ليكسب من ورائكم لقمة العيش فهو عنكم في غنى، ولكن يطالبكم أن تؤدوا بعض ما أوجب الله عليكم، لكم لا لغيركم فأنتم الرابح الأول والأخير، فإن مال أحدكم له ما قدم ومال وارثه ما أخر، وليس أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، جهادكم وجهادكن أيتها الأخوات، أن تربوا أولادكم على معاني الرجولة والبطولة والفداء، وأن تربوهم على دين الله عز وجل، على حفظ كتاب الله، وحفظ حديث رسول الله وعلى طلب العلم النافع وعلى الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى الولاء للإسلام وأهل الإسلام.
فأين المشمرون؟ وأين المجاهدون؟ وأين المرابطون؟ وإذا لم تذهب بنفسك وربما أمامك عقبات وعقبات فلا أقل من دعوة صادقة، وإنني على ثقة بإذن الله تعالى وهذا من حسن الظن به جل وعلا أن ألوفاً من المسلمين قد قضوا فريضة من فرائض الله وهي الصلاة، وانتهوا من صيام يوم من رمضان، ثم تجمعوا في بيت من بيوت الله، وضجوا إلى الله تعالى بالدعاء وارتفعت أصواتهم، وعلا نحيبهم، وصفت قلوبهم، أن الله تعالى لا يرد هذا الدعاء.
وكيف يرده وهو القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وكيف يرده وهو القائل: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] لكن بصدق النية وصدق اللهجة والإخلاص والانقطاع إليه تعالى، وأن نعلم أن كل العرى وكل الحبال قد تقطعت في أيدينا، وكل الأبواب قد أغلقت في وجوهنا وما بقي إلا باب واحد وهو باب الله عز وجل، فلنطرق هذا الباب ولنلح: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجت ومدمن القرع للأبواب أن يلجا أفرأيتم أيها الأحبة هذه الجموع الغفيرة ما فيها واحد لو أقسم على الله لأبره يقول صلى الله عليه وسلم: {إن من عباد الله من أقسم على الله لأبره} لو سأل الله لأعطاه ولو طلب من الله لأجابه الله، وقد يكون ضعيفاً وقد يكون فقيراً وقد يكون مسكيناً وقد يكون مغفلاً، ولكن الله تعالى أعلم بعباده قال الله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فاصدقوا الله تعالى من قلوبكم، وأصلحوا أحوالكم، وتفقدوا بيوتكم، وعليكم جميعاً القيام بدوركم الذي ينتظره منكم إخوانكم المسلمون.
والحمد لله رب العالمين.(17/30)
الأسئلة(17/31)
حال بعض الأحاديث من الصحة والضعف
السؤال
ما هو الحديث الذي يبشر بفتح روما؟ وما صحة حديث: {من صلى أربعين يوماً في جماعة كتب الله له أو كتبت له براءتان} ؟ وحديث: {هل عندك شيء؟ قالت: لا، قال: إني صائم} ؟
الجواب
أما حديث البشرى بفتح روما فهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قول النبي صلى الله عليه وسلم {مدينة هرقل تفتح أولاً} وفي حديث آخر: {وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أم مدينة رومية؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} ومفهوم الحديث أن مدينة روما تفتح ثانياً، والحديث صحيح.
أما حديث: {من صلى أربعين يوماً في جماعة…} عند الترمذي وغيره فهو أيضاً صحيح عند جمع من أهل العلم وهو الراجح: {كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق} .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: {أعندك شيء؟ قالت: لا، قال: فإني إذن صائم} وهو في الصحيح.
أما الفطر في صيام النفل، إذا صام الإنسان نفلاً فهو أمير نفسه، بإمكانه أن يفطر وبإمكانه أن يواصل، أما لو صام فرضاً، كأن يكون صام قضاء رمضان، أو صام نذراً أو صام كفارة؛ فلا يجوز له أن يفطر.(17/32)
نصيحة للمعاكسين والمعاكسات
السؤال
أنا كنت أكلم امرأة في التلفون، وأنا أعلنها توبة إلى الله تعالى، أرجو الله تعالى أن يقبلها مني وأنا أشك أنها حاضرة معنا، هلاّ وجهت إليها كلمة؟
الجواب
لقد تحدثت عن هذا الموضوع في أكثر من مناسبة منها محاضرة (قصة مكالمة هاتفية) ولكني أوجه خطابي للأخوات الكريمات، المرأة ضعيفة القلب، سليمة الفطرة، قريبة التأثر، وكثير من الشباب يخدعون المرأة بمعسول القول، وطيب الكلام، ويغرونها فربما تكون المرأة تجاوبهم من باب حب الاستطلاع، أو من باب التعرف عليهم، أو أحياناً يأتيها الشيطان فيقول: من أجل أن تنصحيهم، أو لتقضي وقت الفراغ، أو لأنها لا تجد في بيتها الحنان الذي تريد، ولكن هذه الأشياء كلها لا يجوز أبداً أن تغفل الفتاة أو تلهيها أو تنسيها أنها هي الخاسر الأكبر، وأنا أعرف حالات طلاق كثيرة، يكون السبب فيها أن الزوج يكتشف أن المرأة كانت تكلم، ولو كان كلاماً لم يصل إلى درجة ارتكاب الحرام أعني الحرام الأكبر الذي هو الفاحشة وإلا فمجرد مغازلة الشباب هو بذاته حرام، والله تعالى نهى عن الزنا فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وكل ما يقرب الزنا من الكلام الهامشي، والأحاديث الطويلة، والضحكات المتواصلة، والإغراءات، والاتصال، والخلوة، والمواعيد، وتبادل الرسائل، وتبادل الصور، كل ذلك داخل في عموم قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن الخروج إلى المسجد وهي متطيبة، فكيف بخروج بعض الفتيات إلى السوق أو حتى لمقابلة رجل يخادعها عبر الهاتف، إنه من أعظم الإثم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي زانية} .
ثم إنك تطيبين كلامك وتلينين قولك، وتحرصين على كسب هذا الرجل، أو كسب إعجابه وربما غرك بوعود الزواج، وأقول: إن كان عاقلاً لن يتقبل مثلك زوجة له، وإن كنت عاقلة فلن تقبليه أيضاً لأن بينكما سر يدل على عدم الأمانة بينكما، فإذا مضت أيام الزواج، ومضى عام أو عامان، قال: تذكرين يوم كذا وكذا، قلتِ له: وتذكر يوم كذا وكذا فاكتشف أنك لست بالأمينة، وصار يشك في اتصالاتك، فإذا دخل البيت ووجد أنك تكلمين أمك أو قريبتك، ثم اختصرت المكالمة شك فيك، وربما ركب على الجهاز تسجيلاً حتى يكتشف حقيقة الأمر.
إذا كان الله تعالى يؤدب أمهات المؤمنين زوجات رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه} [الأحزاب:32-33] فكيف تخالفين ذلك وأنت عرضة للفتنة والإغراء أكثر من غيرك؟ وهذا الرجل لا شك أن في قلبه مرض مرض الشهوة، وربما مرض العشق، وربما مرض الخداع.
فاتقي الله أيتها الفتاة واتق الله أيها الشاب وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
والحمد لله رب العالمين.(17/33)
حكم استعمال البخاخ للصائم
السؤال
ما حكم استعمال البخاخ لمعالجة الربو والإنسان صائم؟
الجواب
إذا كان هذا البخاخ ليس فيه إلا مجرد الهواء الأكسجين فلا حرج فيه، أما إن كان مع الأكسجين مواد أخرى، كالبودرة أو الماء أو ما أشبه ذلك فلا يستخدم حال الصيام.(17/34)
مواضع رفع اليدين في الدعاء
السؤال
متى ترفع اليدين في الدعاء؟
الجواب
ترفع اليدين حال الدعاء، وفي المواضع المشروعة؛ كالدعاء عند القنوت، والدعاء فيما أشبه ذلك من الأحوال، وليس كل دعاء ترفع فيه اليدين، فالدعاء بين السجدتين مجزوم ومقطوع أنه لا ترفع فيه اليدين، ومثله الدعاء في آخر التشهد، ومثله الدعاء عقب صلاة الفريضة، فكل ذلك مما يجزم ويقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يرفعون فيه أيديهم.
ولكن لو هجس بالإنسان هاجس في حالة معينة، أو نزل به ضر، فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا الله تعالى، فهذا أيضاً مشروع.(17/35)
حكم تتبع الزلات
السؤال
نعلم أن هناك بعض الناس الذين يبحثون عن الزلات والهفوات ما حكم ذلك؟
الجواب
على كل حال لا ينبغي للمسلم أن يكون كذلك، فإنه ما من أحد من البشر إلا ويؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالبشر من طبيعتهم الخطأ، ومن شأنهم الزلل، ومن تتبع عورات الناس؛ تتبع الله عورته ففضحه ولو في عقر بيته، والعاقل من لا يحسب أخطاء الناس، بل يحسب صوابهم.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه(17/36)
خطر الدش
السؤال
لي جار يمتلك فوق سطح بيته ما يسمى بالدش، نصحته فقال: إني لا أرى فيه غير الأخبار! فما توجيهكم لهذا؟
الجواب
أولاً: الأخبار التي تأتي عن طريق الدش من الأقمار الصناعية، غالبها بغير اللغة العربية، ومعظم هؤلاء لا يتقنون اللغات الأخرى.
ثانياً: إن مستوى الوعي عند الناس عندنا، لا يزال دون ذلك، فالكثيرون لا يتابعون الأخبار حتى عبر المذياع، فضلاً عن أن يتابعوا الأخبار المصورة التي تبث من الأقمار الصناعية.
ثالثاً: لا شك أن هناك من يتابع الأخبار عن هذا الطريق وعن غيره، ولكنني أقول: ما ذنب النساء والأطفال والشباب المراهقين والبنات المراهقات في بيتك؟ واللاتي قد لا تستطيع أن تحول بينهن وبين ذلك، ثم ما ذنب أولئك الناس، الذين رأوا هذا على سطح بيتك فأساءوا بك الظن، وظنوا بك أموراً ربما لا تكون أنت أهلاً لها؟ بل ما ذنب من رأوك فقلدوك في ذلك واتبعوك، ففتحت باباً ربما كنت من أول من فتحه؟ وسننت سنة سيئة {ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} فننصح هذا الأخ بأن يقلع عن ذلك ويتركه، وإذا كان حريصاً على الأخبار فقنوات الاتصال والتعرف على الأخبار ممكنة كثيرة بغير هذا السبيل.(17/37)
حكم أكل الحبوب المانعة للحمل في رمضان
السؤال
ثمة سؤال ثالث يتكرر من بعض الأخوات، تسأل بعض النساء عن أكل الحبوب المانعة للحمل في رمضان؟
الجواب
أقول: ذلك جائز، إذا كان لا يضر بصحة المرأة، بحيث تصلي المرأة مع المسلمين، وتصوم مع المسلمين، خاصة إذا كان عندها بعض الظروف التي تحوجها إلى ذلك، وإن بقيت المرأة على طبيعتها وخلقتها وتركت الحيضة بعادتها، وأفطرت أيام حيضها، ثم قضتها بعد ذلك، فهذا خير لها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة عن الحيض: {ذلك أمر كتبه الله على بنات آدم} لكن جائز ذلك إذا كان لا يضر بالمرأة.
أيضاً من الأمور التي تحتاج المرأة إلى معرفتها: إن لها أن تتناول هذه الحبوب في رمضان، ثم يتوقف عنها الدم وتصوم، فإنها لا تقضي تلك الأيام التي صامتها؛ فبعض النساء تظن أنها تصوم في رمضان، ثم تقضيها بعد ذلك، وهذا خطأ كبير، بل إذا توقف عنها الدم وصامت في رمضان فليس عليها بعد ذلك قضاء لا لصومها ولا لصلاتها.(17/38)
حكم الشبكة قبل الزواج
السؤال
ما رأيكم فيما يسمونه بالشبكة قبل الزواج؟
الجواب
الشبكة قبل الزواج، هي عبارة عن هدية يعطيها أهل الزوج للفتاة قبل عقد النكاح، والأظهر أن هذا ليس فيه حرج إن شاء الله، وإن كنت أنصح بعدم استعماله؛ لأن البعض يقولون: إنه ليس من عادات المسلمين بل هو من عادات الأمم الأخرى، فإن ترك فهو أفضل، وإن كان تركه يؤدي إلى مفسدة، أو يجعل أهل الزوجة يظنون بأهل الزوج البخل أو ما أشبه ذلك، فلا حرج إن شاء الله تعالى.(17/39)
خبر عن جريدة الندوة
السؤال
سمعنا بأن رئيس تحرير جريدة الندوة قد عاد إلى عمله، فهل هذا صحيح؟
الجواب
وأقول نعم، لقد ظهر اسم رئيس تحرير هذه الجريدة يوسف دمنهوري، ظهر مؤخراً على الجريدة مرة أخرى بعدما كان أقصي بسبب تعرضه للدعاة والعلماء، ونيله من أعراضهم، وكان إبعاده كان لمجرد تهدئة النفوس، ثم عاد مرة أخرى، وقد كتب في أول عودته مقالاً، كأنه يشيد بنفسه من طرف خفي وبموقفه وبثباته، وواجب على أهل الخير والاحتساب، أن يحتسبوا على هذا المنكر الكبير، ويسعوا في إزالته بقدر ما يستطيعون.(17/40)
التفحيط ومفاسده
السؤال
هناك سؤال آخر أيضاً: يتعلق بما كنت ذكرته قبل يومين في موضوع التفحيط والتطعيس، المفترض أن وقائع ذلك الاجتماع قد تمت في صباح هذا اليوم كان موعده يوم الخميس؟
الجواب
لا شك أن مثل هذا العمل فيه مضار كبيرة وعظيمة، أولها: ضياع الوقت والعمر الذي به يحاسب الإنسان، وعلى ضوءه يكون من أهل الجنة أو من أهل النار {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] وإذا مات ابن آدم كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء وابن مسعود وأبي برزة وغيرهم رضي الله عنهم: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، منها عن عمره، ومنها عن شبابه} .
والوقت أثمن ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع المفسدة الثانية: أن فيه ضياع المال، فإن هذه السيارات وما فيها، التي تشترى بأغلى الأثمان ثم يكون مصيرها التلف أو التصادم أو الضياع أو ما أشبه ذلك، إنها أيضاً من المال الذي يضيع بغير طائل.
المفسدة الثالثة: والمشكلة الثالثة هي تعرض الإنسان للأخطار، فإن من الشباب من يموت في مثل هذه الأحداث، ومنهم من يصاب، وقد أخبرني بعض الإخوة العاملين في المستشفى، أن الذي يشاهد أقسام الحوادث في المستشفيات يصاب من ذلك بهم وغم شديد، فإن فلذات الأكباد، وزهرات الشباب، يذهب الكثير منهم بسبب حوادث السيارات، من الاصطدام أو الانقلابات أو ما أشبه ذلك، مع أن هؤلاء كثير منهم يحجمون عن أن سيدفعوا إلى ميادين المعارك، حيث قتيلهم شهيد في سبيل الله تعالى.
ومن أعظم المفاسد المفاسد الأخلاقية، فإن اجتماع الكبار والصغار يترتب عليه علاقات مريبة، وصداقات لا يرتاح الإنسان إليها، وقد يترتب من جراء ذلك وسوسة الشيطان وتلبيسه على هؤلاء وأولئك.
بل إن المتأمل والمشاهد يدرك أن كثيراً من هؤلاء الشباب خاصة الكبار، يصطحبون معهم صغار السن، من أصحاب الوجوه الوسيمة، والطلعات الصبيحة، ويفتخرون بهم ويتنافسون في مثل ذلك فهي مفاسد عظيمة، وحق علينا جميعاً أن نقوم بواجبنا في مقاومة هذا المنكر، فالمسؤولية العظمى تقع على من يستطيعون منع ذلك بالقوة أن يمنعوه كما يمنعوا غيره من التجمعات، التي تكون مباحة أو محمودة أحياناً، كما أنه واجب على أولياء الأمور، من الآباء والكبار والإخوة وغيرهم أن يسعوا إلى منع إخوانهم وأبناءهم ومن لهم سلطة عليهم، من الذهاب إلى تلك التجمعات.
كما أن علينا جميعاً أن نقوم بدورنا كأجهزة الهيئات مثلاً، وكذلك أقول: على الدعاة وطلبة العلم والمخلصين أن يذهبوا إلى هناك، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويوزعوا الكتاب والشريط ويتكلموا، وسيكون لذلك أثر كبير إن شاء الله.(17/41)
القول على الله بغير علم
بدأ الشيخ حفظه الله تعالى المحاضرة بالكلام عن أسباب طرح موضوع (القول على الله بغير علم) .
ثم تكلم عن أهمية الفتوى والكلام في المسائل الشرعية، وذكر بعد ذلك أقوال الأئمة السلف في التحذير من الفتيا معرجاً على ذكر الأمور التي يشملها القول على الله بغير علم، ثم ذكر صوراً للقول على الله بغير علم، منها المسارعة إلى الإفتاء بغير علم، ودعوى الاجتهاد، والخوض في مسائل بحجة أنها سهلة، والاعتقاد بأن الخلاف بحد ذاته حجة، وتتبع الرخص، وذكر آخرها مجاراة الظروف والخضوع لضغوط الواقع.(18/1)
أسباب طرح موضوع (القول على الله بغير علم)
حمداً لله، وصلاةً وسلاماً على رسول الله.
أما بعد: أيها الأحبة: إن مثل هذا الجمع الحاشد مهما بذل الإنسان، فإنه دون ما يجب له وإذا تصورنا أن جلوسنا في هذا الوقت سيكون ساعة من الزمان مثلاً، فإن هذه الساعة بالقياس إلى ألوف أو عشرات الألوف ممن قد يسمعون مباشرة أو بواسطةٍ، أي أن هذا الوقت سيكون زمناً طويلاً جداً وسيكون ثروةً هائلة من عمر الأمة ووقتها وأعتقد أن الاعتذار لا يسعفني ولا يشفع لي في هذا المقام ولكني أقدمه لكم على ذلك.
أيها الأحبة لقد كان هذا العنوان الذي أشار إليه أخي الشيخ عبد الوهاب حفظه الله "القول على الله بغير علم" كان بنظر وقبول من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى وإنه لشرفٌ كبير لي أن أتحدث عن موضوع يقترحه ويحس بأهميته سماحة الشيخ عبد العزيز، فإنه خبير بملابسات الواقع وتحدياته، عارف بحاجات الناس التي تتطلب الشرح والبيان.
أما أسباب طرق هذا الموضوع والحديث عنه، فلعل من أهم أسباب ذلك: هو جراءة كثير من الناس، من غير المختصين، على الخوض في مسائل الشريعة أصولاً وفروعاً، وهجوم كثير من هؤلاء على الخوض في الدقيق والجليل من المسائل دون خجل ولا حياء، فهذا على صعيد المتحدثين والمتكلمين.
أما على صعيد العامة من الناس وجمهور الأمة؛ فقد أصبح كثيرٌ منهم لا يستطيعون التمييز عمن أخذوا، ومن يستحق أن يستمع إليه في الشرعيات، ومن يستحق ألا يؤخذ منه ولا يلتفت إليه، فأصبح في نظر عدد من الناس أن كل من تكلم في الشرع فإنه يستمع إليه، ويردد كلامه ويهتم به، مع أننا نجد أن كثيراً من هؤلاء في مسائلهم الدنيوية يرجعون فيها إلى أهل الاختصاص دون غيرهم، فإذا كان عند أحدهم مريض -مثلاً- فإنه لا يذهب به إلى البقال ليعطيه وصفة العلاج، لأنه يعرف أين مكان استقبال المرضى، وكذلك إذا أراد ترميم منزله فإنه لا يذهب إلى الخياط، بل يسند كل عملٍ إلى من يحسنه ويجيده، ممن كثرت دربته وعظمت خبرته فيه، فهذا في شئون دنيا الناس، لكنهم في شئون دينهم قد أصبح قسم كبيرٌ منهم يستمعون إلى من هب ودب ودرج، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن من يتكلم اليوم في قضايا الإسلام والدين وجد آذاناً تصغي إليه.
فإذا أضفنا إلى هذا أن أسهم الإسلام بحمد الله قد ارتفعت، وراياته قد رفرفت، وشجرته قد بسقت فأصبح يخطب ود الإسلام والمسلمين كل أحد، وأصبحت كثير من القيادات اليسارية والناصرية في الماضي، في عدد من الأقطار الإسلامية، تكتب عن الإسلام وتؤلف فيه، وتتحدث عنه، والأسماء كثيرة جداً، ومن طالع الصحف الكويتية قبل الغزو العراقي للكويت أدرك هذا بجلاء، فقد أصبح الحديث عن الإسلام وقضايا الإسلام شأناً لكثير ممن كنا نعرفهم بالأمس يصرحون أنهم من اليساريين مثلاً، بل بعضهم كانوا من الشيوعيين، سواءً في مصر أو في بعض بلاد المغرب العربي، أو في بلدان الخليج، أو في غيرها.
إذا عرفنا هذا أدركنا أن الكثيرين أصبحوا يتكلمون عن الإسلام ويخطبون ود هذه الجماهير، التي تقبل على الإسلام، وتبحث عن حكم الله تعالى وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام، فلو تصورنا هذا لأدركنا حجم الخطورة التي تقع فيها الأمة، إذا لم تستطع أن تميز، عمن تأخذ ومن هو الذي يستحق أن يتكلم في مسائل الشرع، ومن هو الذي يستحق أن يسكت؟(18/2)
أهمية الفتوى والكلام في المسائل الشرعية
أيها الإخوة: أهمية الفتوى والكلام في المسائل الشرعية مما لا يحتاج إلى بيان، ذلك أن المفتي والمتكلم في أحكام الدين لا يعطينا رأيه الخاص، ولا وجهة نظره الشخصية، ولم نكن نحن نسأله عن مزاجه أو عن هواه، إنما هو يُسْأل عن حكم الله، أو حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الواقعة، أو النازلة، أو المسألة، ولذلك عبر الإمام القرافي -وهو من فقهاء المالكية وأصولييهم- عن المفتي بأنه ترجمانٌ عن الله تعالى، فإنه مترجم للنص الشرعي، وقد كان الإمام ابن القيم رحمه الله أكثر تسديداً منه حينما وسم كتابه الشهير بـ " إعلام الموقعين عن رب العالمين "، فاعتبر أن المفتي أو المتكلم في مسائل الشرع كأنه موقع عن الله تعالى، فهو بمثابة الوزير الذي يجعله الحاكم أو الملك يوقع عنه بعض الرقاع، والأوراق.
فالمفتي موقع عن رب العالمين، ومخبرٌ عما يعتقد في الظاهر أنه حكم الله ورسوله في مسألة معينة، أو في موضوع، أو نازلة ألمت بالناس.
ومن هذا المنطلق قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي ذكرته آنفاً، قال: إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات! أي هو منصب عظيم وكبير، وهو في نفس الوقت شرفٌ لمن يتسلم هذا المنصب، ومسئولية عليه أيضاً، ولذلك كان الله عز وجل في كتابه يتولى الإفتاء بنفسه في بعض المواضع، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:176] فأفتى عز وجل بنفسه ونسب هذا الفعل لذاته المقدسة الشريفة.(18/3)
تحذير السلف من الفتيا
كان السلف يدرءون الفتيا ما استطاعوا ويحاولون أن يتخلصوا منها، ويسندوها إلى غيرهم.
والكلام في نقل أقوال السلف في التحذير من الفتيا بحد ذاته يأتي في مجلدٍ كامل، لكن لو رجعت إلى مصدر واحد فقط للإطلاع، كسنن الدارمي مثلاً باب: من هاب الفتيا، تجده قد نقل في ذلك نصوصاً كثيرة أذكر منها نصين.
الأول: منها عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من التابعين الثقات المعروفين، أنه سُئل فقال: [[لقد أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم رجل يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا]] مائة وعشرون من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كبارهم، وممن طالت أعمارهم فحصلوا علماً كثيراً غزيراً، ومع ذلك كانوا يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ويكفيه الحديث.
النص الثاني: الذي نقله الإمام الدارمي هو أن الشعبي رحمه الله سئل كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم عن فتيا أو مسألة؟ قال: على الخبير سقطت أو وقعت -أنا خبير بهذا- كان السائل يسأل أحدهم في المجلس فيقول لصاحبه: أفته أفته، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول، كأن السائل يأتي في حلقة كبيرة كل واحد منهم يحيله إلى الآخر حتى يعود إلى أول شخص سأله، وغالباً ما يكون هذا المتصدر للحلقة، وما كان ذلك إلا لعلمهم بخطورة القول على الله تعالى بغير علم، وأن ذلك أعظم الذنوب على الإطلاق، كما نص عليه ابن القيم رحمه الله في أكثر من موضع، وقال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فختم هذه المحرمات الخمس التي اتفقت جميع الشرائع السماوية على تحريمها، وهي أعظم المحرمات، وأمهات الذنوب -الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله- بقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .(18/4)
الأمور التي يشملها القول على الله بغير علم
والقول على الله عز وجل بغير علم يشمل أموراً: الأول: تحريم الكلام في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله بلا علم، كما يتكلم كثير من الناس في الألوهية، والربوبية، والغيبيات، والدار الآخرة، والجنة، والنار، والصراط، بدون علم، وبدون هادٍ ولا دليل، والهادي والدليل في هذه المسائل ليس هو العقل، وإنما هو النص الشرعي، لأنها أمورٌ ليس للعقل سبيل إلى إدراكها، فالخوض في هذه المسائل بغير علم ولا دليل هو من القول على الله بغير علم.
الثاني: كما يشمل تحريم الكلام في القدر المكتوب بغير علم، ومن ذلك أن يتكلم الإنسان في أمورٍ مستقبلية إلى غير ذلك.
الثالث: الكلام في الشرع بغير علم، مثل من يتكلم في الحلال والحرام، والأحكام، والواجبات، والمحرمات، بدون أن يكون عنده توكيل من الله عز وجل أو تفويض، والتفويض هو في الأصل نص شرعي من كتاب الله تعالى، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحٌ ثابت، ثم إن المُبَيِّن المُعْرِب عن هذا النص ليس كل أحد، وإنما هو العالم الذي أصبح يملك أداة التعبير عن الشرع، ولذلك قال الله عز وجل في كتابه، كما في الآية السابقة: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] وقال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وقال عن المشركين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] فأنكر عليهم أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فإذا فعلوا شيئاً واستحسنوه واعتادوه ثم نهوا عنه قالوا: الله أمرنا بذلك!! أما القول على الله بغير علم فهو أعظم الذنوب على الإطلاق، لأنه هو السبب حتى في الشرك.
ولذلك كان المسلم حرياً جديراً بأن يحذر كل الحذر من القول على الله تعالى بغير علم.(18/5)
صور من القول على الله بغير علم
وسوف أذكر بعض الصور والألوان التي وقع فيها الناس في هذا الزمان في القول على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بغير علمٍ ولا هدى ولا كتاب منير.(18/6)
اختلاف اجتهاد المجتهد
وهناك شيء آخر يخلط بعض الناس الذين ليس لديهم اختصاص، بينه وبين تغير الفتوى، وهو مسألة اختلاف اجتهاد المجتهد، أي أن عندنا عالماً أفتى بأن هذا الأمر حرام، وغداً بعدما بحث واستقصى غير رأيه، وقال: أنا أرجع عن قولي بالأمس، فالأمر الذي كان بالأمس حراماً، تبين لي الآن أنه حلال.
هل نسمي هذا تغير الفتوى؟ لا يسميه العلماء تغير الفتوى أبداً، وإن كان الذين صنفوا ممن لا علم لهم ظنوا هذا من باب تغير الفتوى.
هذا في الواقع من باب اختلاف اجتهاد المجتهد، والمجتهد قد يبدو له اليوم ما لم يكن بدا له بالأمس، وقد يرى اليوم مباحاً ما كان يراه بالأمس حراماً، وعليه كلما بدا له حكم جديد أن يبين ذلك للناس بالدليل.
والسلف من الصحابة رضي الله عنهم تغيرت فتواهم في مسائل كثيرة جداً، يفتي أحدهم بشيء ويبدو له خلافه ويرجع عنه، بل كان من العلماء من يفتي بمسألة ومن الغد يرجع عنها، فيبعث أحداً يقول في الأسواق: من كنا أفتيناه بكذا وكذا فليأتنا فقد تغير رأينا في هذه المسألة.
فمسألة اختلاف اجتهاد المجتهد تختلف جذريا عن مسألة تغير الفتوى، ومن العجيب أن بعض الناس يخلطون بينهما، فمثلاً من باب تغير الفتوى أن الساعة هذه التي تلبس في اليد، بالأمس كان هناك من يعتقد أنها سحر ويشك في ذلك، واليوم لا يوجد من يعتقد ذلك، هذا المثال أقرب للسخرية منه إلى الكلام العلمي الرصين المحقق، هل وجد من العلماء من قال إن الساعة سحر؟ كون بعض العوام اشتبه عليهم الأمر لأنه أمر جديد فكتب أحد العلماء كتاباً يبين أن الساعة صناعة وليست سحراً، ويزيل اللبس الموجود عندهم هذا شيء، لكن كون أحد من أهل العلم المحققين المعترف بهم قال إن الساعة سحر، هذه في الواقع سخرية بالعلماء.
من أمثلة تغير الفتوى مسألة الرقيق، وأن الرقيق كان بالأمس يسترق وأفتى العلماء بتحريم الرقيق، ونقول: لم يفت أحد من العلماء في الواقع بتحريم الرقيق مطلقاً، لأن الرق حكم شرعي باقي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ظاهرة مؤقتة لكنه ظاهرة مرهونة بأسبابها، فالرق في الإسلام ليس عن طريق سرقة الناس وبيعهم، إنما الرق عن طريق جهاد شرعي يسترق المسلمون فيه الكفار، هذا هو الرق في أصل منشأه الشرعي، وهو باقٍ أمس واليوم وغداً، وكونه اختفى لسبب أو لآخر، أو الناس حرروا أرقاءهم، أو تبنت الدول تحريرهم شيء آخر، ولا يعني أن الحكم الشرعي تغير، فالحكم الشرعي باقٍ، وآيات القرآن محكمة في هذا الأمر وليست منسوخة، ولا أحد يستطيع أن يمسحها من المصحف.
إذاً: مسألة الخضوع لضغوط الواقع هي من أخطر المسائل، التي تجعل الناس يطوعون نصوص الشرع لأمزجة البشر، ونحن نقول: الدين ولله الحمد يسر كله، والرسول عليه الصلاة والسلام بعث بالحنفية السمحة، وبعث ميسراً لا معسراً، والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، والفقهاء يقولون: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وفي ذلك كلام كثير يطول، لكن المقصود أن هذا لا يعني بحال التحلل من قيود الدين وأحكامه بحجة مراعاة الواقع أو ظروف أو ضغوط الواقع أو ما أشبه ذلك، والفتوى تتغير باختلاف عوائد الناس التي تبنى عليها الفتوى، أما حكم الله ورسوله فلا يتغير بحال من الأحوال.
أقول: هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(18/7)
الواقع له سلطان على النفوس
والواقع لا شك أن له سلطاناً على النفوس أيضاً، من جهة أنه تتصور بعض النفوس صعوبة تغيير هذا الواقع، وصعوبة إزالته أو تحويله إلى واقع آخر يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبعضهم قد يدخل هذا في باب الضرورات، ويقول لك: يا أخي هذه ضرورة.
لكن ما حدود الضرورة؟ نحن نقبل بالضرورة، والضرورة لها أحكام، لكن لها ضوابط أيضاً، فليس كل شيء ظن الإنسان أنه يحتاجه أصبح ضرورة، بل للضرورة ضوابط وشروط، لا بد من تحققها فإذا تحققت هذه الضرورة فإنه يعمل بها في إطارها، وتقدر الضرورة بقدرها، دون أن يتعدى بها هذا الإطار إلى الناس كلهم بشكل عام، فالناس قد يقعون في المعصية ولكن مع الوقوع؛ ينبغي أن يكثر الإنسان من الاستغفار، وألا يتحول الأمر إلى أنه يبحث عن أمر يحلل له هذه المعصية، ففرق بين من يعصي ويقول: أستغفر الله والله غفور رحيم، قد يغفر الله تعالى له، لكن أن يقع في المعصية ثم يذهب يبحث في بطون الكتب عن نص يبيح له هذه المعصية فلا.
وهل أنت تتعامل مع الله عز وجل بهذا؟ الله تعالى هل سوف يسألك أنك وجدت في كتاب معين، أو في قول عالم، أو في قول متكلم أو في قول إنسانٍ ما، أن هذا الأمر حلال؟! إن الله عز وجل يحاسبك على حسب ما أوصل إليك من كتاب أو سنة، إما آية محكمة، أو سنة ماضية ثابتة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا هو
السؤال
ماذا أجبتم المرسلين؟ إذا عجزنا عن ترك معصية وقعنا فيها كأفراد لا يبيح لنا أو يسوغ لنا أن نذهب للبحث عن تحليل لهذه المعصية، عَجزنا كأمة أو مجتمع عن تغيير بعض المنكرات الواقعة، من سفور، واختلاط، وربا، لا يجعلنا نذهب نبحث عن تحليل لهذا الأمر، بل نقول للحرام: هذا حرام وهو موجود، ونسأل الله أن يعيننا على إزالته، ونبحث عن الوسائل والأسباب، ولو فُرض أننا عجزنا نقول: يأتي الجيل القادم فيجعل الله تعالى تغيير هذا المنكر على يده، أما أن نتحول من العجز عن التغيير إلى البحث عن مرتبة أقل من ذلك، وهي محاولة إقناع أنفسنا بأن هذا الوضع أو هذا الحكم الذي سرنا فيه أنه مباح، فإن هذا تأخر لا يرضاه المؤمن لنفسه.
أرأيت -مثلاً- لو تصورنا وجود اليهود في إسرائيل جائزاً وهذا مثال بعيد، لكن للتمثيل فقط، قد يكون المسلمون عجزوا في هذا الوقت بسبب أوضاع كثيرة جداً، عن إخراج اليهود من أرض المسلمين، نحن نقول: عجزنا لكن هناك أجيال بعدنا ستأتي وستخرج اليهود حتماً كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما جريمتنا نحن لو أقررنا اليهود على هذا الأمر وأعطيناهم وثيقة أن لهم جزءاً من فلسطين، بحجة أننا عاجزون، فأصبح وجود اليهود وجوداً يعني -كما يعبرون- شرعياً، بمقتضى موافقة المسلمين، معنى ذلك أن هذه خيانة للقضية، فالصحيح أن نقول: نحن عاجزون عن هذا الأمر وإسرائيل واقع، نعم واقع ولا نتجاهله، ولكننا مع ذلك لا نعترف بهذا الواقع أنه واقع صحيح، بل نقول: إن هذا كفعل اللص لو دخل بيتاً واحتله، وعجز صاحب البيت عن إخراجه، فإنه يقول: سيأتيك أولادي بعدي فيخرجونك، أو تأتيك الشرطة فتخرجك، لكن لا يبقى البيت لك، ولا يصبح لك لأنك كنت لصاً قوياً متسلطاً مدعوماً من الشرق أو الغرب، وقد ظن بعض الناس أن هذا الباب -باب تغيير مراعاة الواقع- أنه يدخل في باب تغيير الفتوى، وقد يحتجون بكلام لـ ابن القيم رحمه الله في هذا الباب، والواقع أن هذا في وادٍ وكلامهم في تغيير الفتوى في واد آخر، أي أن هناك شيئاً اسمه تغيير الفتوى هذا موجود تكلم فيه ابن القيم، وما هو تغيير الفتوى؟ كيف يتكلم الناس في الشرعيات وهم لا يعرفون المقصود، حتى المصطلحات غير معروفة لديهم!(18/8)
كراهية تتبع الرخص
وبالجملة كثر تحذير أهل العلم من تتبع الرخص كثرة شديدة، يقول سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله، ويقول ابن عبد البر في تحريم تتبع رخص العلماء: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، وكذلك قال الإمام ابن حزم والباجي وابن الصلاح وغيرهم من العلماء، ونقلوا إجماع العلماء على أنه لا يحل لمسلم أن يكون شأنه تتبع الرخص: قال فلان: هذا يجوز، وقال فلان: هذا مباح، وقال فلان: لا يصل الأمر إلى التحريم، بل أقصى أحواله الكراهة.
قال أهل العلم: تتبع الرخص بهذه الطريقة حرام بإجماع العلماء.
وهذه شهادة من أربعة: ابن عبد البر وابن حزم والباجي وابن الصلاح، وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام، لأن النوادر والشذوذات لا تنتهي بحال من الأحوال، وهي أصلاً ما اجتمعت في واحد من العلماء، بل تجد العالم بحراً زاخراً من الفضائل، لكن عنده زلة واحدة، فأنت أخذت الزلة هذه، والزلة هذه وجمعت الزلات، وصرت تتعامل بهذه الزلات، وتقول هذه أقوال أهل العلم، أي منهج هذا؟! وأي طريقة هذه؟! يقول الأوزاعي إمام أهل الشام: نحن نجتنب من أقوال أهل العراق خمساً، أي خمس مسائل من مسائل فقهاء العراق لا نقبلها، ونتجنب من أقوال أهل مكة خمساً، وذكر مسائل لا نقبلها من فقه هؤلاء، ولا من فقه هؤلاء حتى أن الإمام أحمد رحمه الله يقول: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ -وأهل الكوفة الحنفية يترخصون في النبيذ- وبقول أهل المدينة في السماع -أي في الغناء فبعض المدنيين يترخصون في الغناء دون أن يكون معه دف أو موسيقى- وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً، يقول: لو عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وقول أهل المدينة في السماع، وقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً، مع أنه ما خرج عن أقوال العلماء، ومع ذلك فسقه، أما الأوزاعي فذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول: يكفر ولو لم يخرج بعد من أقوال العلماء.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: وهناك قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصةً في قول كل عالم، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.(18/9)
تغير الفتوى
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن الفتوى تتغير بحسب العوائد والأحوال والأزمنة والأمكنة والنيات، وأضرب على ذلك أمثلة، قد يفتي العالم في بلد بشيء ويفتي في بلد آخر بشيء آخر في نفس الموضوع، لأن عادة أهل البلد تختلف، فمثلاً الدينار في بعض البلاد عندهم ثمانية دراهم، وبلد آخر الدنيا عندهم بعشرة دراهم، وفي بلد ثانٍ الدينار إحدى عشر درهماً، فهل الفتوى إذ قال واحد مثلاً: لله عليَّ أن أخرج عشرين ديناراً، في البلد الذي الدينار فيه صرفه بعشرة دراهم وقال: لم أجد دنانيركم أخرج من الدراهم؟ نقول له اضرب عشرين في عشرة فهذه مائتا درهم، لكن لو فُرض أنه جاءنا نفس السؤال في بلد آخر الدينار فيه يصرف باثني عشر درهم، وقال واحد: لله عليّ أن أخرج عشرة دنانير أو عشرين ديناراً، وقال: لم أجد دنانير في الواقع، ولا يوجد في السوق أبداً، وليس عندي إلا دراهم فكم أخرج؟ نقول له: اضرب عشرين في اثني عشر، فشكل الفتوى تغير باعتبار اختلاف مقدار صرف الدينار بين بلد وآخر.
مثال آخر: قضية عبارات الطلاق، في بعض البيئات إذ قال الرجل لامرأته: سامحتكِ، معناه: طلقتكِ، وإذا قالت: سامحني قال: سامحتكِ هذا عندهم يعتبر طلاقاً، مثل ما عندنا هنا في مجتمع نجد مثلاً خاصةً في الماضي، أكثر منه في الحاضر، إذا قالوا فلان: خلىّ زوجته، خلاها معناه طلقها، هناك لو قالت له زوجته: سامحني وقال: سامحتكِ طلقت منه، وعندنا في نجد لو أن امرأة أخطأت على زوجها وقالت له: سامحني وقال: سامحتك، هل نقول: طلقت منه؟ لا.
لكن في ذلك البلد الآخر، الذين لا يعرفون لفظة خلَّى، لو أن رجلاً أمسك بيد زوجته فقالت له: خلني فأطلق يدها، هل نقول أنها طلقت منه؟ لا.
لم تطلق، لأن الفتوى هنا تغيرت بحسب المعروف عند الناس من معنى هذه الكلمة، فهذا نيته كذا وهذا نيته كذا، والأمثلة على ذلك في موضوع الطلاق والعتاق وغيرها شيء كثير.
وفي بعض البيئات مثلاً عندهم اللبن شيء والحليب شيء آخر، وبعض الناس يسمونه حليباً كله، فلو أن واحداً حلف وقال: والله لا أشرب الحليب، هل يجوز له أن يشرب اللبن؟ لا يجوز، لأن اللبن عندهم والحليب كله اسم واحد، لكن في بيئات أخرى اللبن لبن والحليب حليب، فلو حلف ألا يشرب الحليب جاز له أن يشرب اللبن، أو حلف ألا يشرب اللبن جاز له أن يشرب الحليب، هذه بحسب عادات الناس ونياتهم وبحسب ألفاظهم وأوضاعهم.
فمثلاً كان الإمام أبو حنيفة يفتي لو أن واحداً أراد أن يشتري بيتاً فشاهد غرفة واحدة في المنزل ولم يشاهد الباقي، أن هذا يكفي، لأن البيوت في عهد أبي حنيفة كانت غرفها متساوية ومتماثلة، فإذا شاهد واحدة كانت مثالاً للباقيات، لكن الذين بعده من تلاميذه خالفوه في هذه الفتوى، وقالوا: لا يكفي هذا، لأن عادة الناس في البناء تغيرت، وأصبحت الغرف مختلفة غير متساوية في مساحاتها، إذاً تغيرت الفتوى لأنه تغير الشيء الذي بنيت عليه، وذلك يدخل في أبواب عديدة، وعلى أي حال هذا معنى تغير الفتوى.(18/10)
آثار تتبع الرخص
ومن آثار هذا المسلك الخطير من تتبع الرخص وأخذها الاستهانة بالدين، إذ يصير الدين بهذا الاعتبار كما ذكر الشاطبي في الموافقات، وقد تكلم بكلام جيد في هذا الموضوع، قال: يصير الدين سيالاً لا ينضبط ما دام أنه لم يبق شيء يمكن التحاكم والرجوع إليه، كما أن من آثاره السيئة الإعراض عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة.
ونحن نقول: نطالب الناس بالرجوع إلى الكتاب والسنة، لا إلى قول فلان أو علان لأن المطلوب هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا أمر يجب أن يقبل به كل مسلم قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] .(18/11)
مجاراة الظروف والخضوع لضغوط الواقع
أما الصورة السادسة والأخيرة: فهي مجاراة الظروف والعوائد الواقعة، والأوضاع المستقرة في مجتمعات الناس، وتطويع النصوص والأحكام الشرعية لها، مع مخالفة هذه الأشياء لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن للواقع ضغطاً على كثير من النفوس، فإن الإنسان بطبعه يحب أن يوافق من حوله، ويحب أن يقرهم على ما هم عليه، ويكره أن يواجههم بشيء يكرهونه، فلذلك إذا انتشر عند الناس أمر وشاع وذاع، واستقر في حياتهم، وأصبح جزءاً من واقعهم، قد يصعب على الإنسان أن يقول لهم هذا حرام، أو هذا لا يجوز، وبالتالي يذهب ليبحث عن مسوغ في تحليل هذا الحرام أو تجويزه، حتى يسلم من هذا الحرج الذي يجده في نفسه، أو الذي يظن أنه يحدثه للناس.(18/12)
التيسير في الدين
أحب أن أؤكد على قضية التيسير في الدين والرخصة في الإسلام، وأن الإسلام فيه تيسير عظيم، ومن التيسير أن الله تعالى ما أغلق باباً إلى الحرام إلا وفتح باباً إلى الحلال، وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه إذا سئل عن مسألة يبين الحرام فيها ويبين الحلال أحياناً، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه، لما جاءوا إليه بتمر طيب فقال: {من أين هذا التمر؟ قال الصحابي رضي الله عنه: إنا نشتري الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، -أي أن هذا تمر طيب نأخذ منه صاعاً ونعطيه صاعين أو ثلاثة آصع من تمر رديء، وهذا رباً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عين الربا} ومعنى عين الربا أي: هذا لا يجوز لأن التمر لا بد أن يكون متساوياً، صاعاً بصاع، ولو كان هذا تمر مثلاً سكري أو بلحي، وذاك تمر من نوع آخر رديء، لابد أن يكون متساوياً فقال: وهناك خطر كبير جداً من مثل هذا المسلك الذي يتشبث به البعض وهو يتمثل فيما يأتي: {عين الربا عين الربا لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً} يعني التمر الرديء بعه بالدراهم، ثم هذه الدراهم التي بعت بها، اشتر بها ما تشاء من التمر الطيب، فبين له المخرج أو البديل، كما يقولون بلغة العصر.
ولا شك أننا بحاجة إلى علماء في الاقتصاد، وفي الإدارة، والاجتماع، وفي علم النفس، والسياسة، وإلى علماء في كل مجالات الحياة، يجمعون بين العلم بهذه التخصصات وبين أن يكون عندهم ثراء في العلوم الشرعية، بحيث يستطيعون أن يجعلوا هذه القضايا تحت المجهر الشرعي، ويصلوا فيها إلى نتيجة صحيحة، أو أن العالم الشرعي يستعين بمثل هؤلاء الخبراء في مجال تخصصاتهم، حتى يستطيع أن يتصور الأمور تصوراً صحيحاً، وأن يصل فيها إلى النتائج، وهناك -بحمد الله- مجامع فقهية وعلمية قد قطعت شوطاً لا بأس به في ذلك، مثلاً هيئة كبار العلماء في المملكة، والمجمع الفقهي في مكة وبعض المؤسسات خارج المملكة، قد يكون لها دور في ذلك وهي بداية.
على كل حال نرجو أن تتواصل حتى تحل مشكلات الأمة، على ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ترك الشدة على الناس أن لا نلزمهم أيضاً بمذهب معين، ما دام أن الدليل مع غيره، فلا نقول: اترك المذهب إلى مذهب آخر، لأنه أسهل وأيسر، وجدت مرة مجموعة من الناس عندهم وقف، هذا الوقف عبارة عن نقود، فمثلاً عندهم مائة ألف ريال، فسألتهم وقلت لهم: على أي أساس جعلتم المال وقفاً؟ قالوا: بحثنا فوجدنا في مذهب الإمام أحمد أنه جوَّز إيقاف المال فأوقفناه، فهل بحثتم في الآراء الأخرى، وبحثتم في الأدلة، وتوصلتم إلى قناعة أن هذا هو الحق؟ فلا بأس، أما إذا كان بمجرد ما علمت أنه يوجد عالم أفتى بهذا أخذت به، فهذا لا يصلح أبداً، فالمهم أن الدين فيه تيسير، وسماحة، وفيه فرص عظيمة جداً.
وهذا جانب من الرخص.(18/13)
رخص الفقهاء
وهناك نوع آخر من الرخص وهي رخص الفقهاء، أي لكل مذهب تسهيل في مسائل، فمثلاً تجد في مذهب هذا حلال وهذا حرام، إذاً الحلال يعتبرونه رخصة، لكن في المذهب نفسه ممكن أن يحرم مسألة أخرى يبيحها المذهب الأول، وهكذا تجد بعض الناس يأتي إلى المذهب يأخذ ما فيه من الرخص، فكل ما فيه من تحليل في هذا المذهب يأخذه، وكل ما فيه من تحريم يتركه، ثم يأتي إلى المذهب الآخر فيأخذ كل ما فيه من تحليل، ويترك ما فيه من تحريم، وهذه أيضا مسألة خطيرة، فهي عبارة عن تلفيق مجموعة من الآراء بغير ضابط، إلا بمجرد أنها رخص، ليس فيها مشقة على النفس، ولا تكليف لكنها تناسب المزاج، وخاصة مزاج الكسالى والقاعدين، والذين لا يحبون أن يعملوا، ولا أن يخضعوا حياتهم لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يصل الحال ببعض هؤلاء الذين لا يراقبون الله تعالى ولا يخافونه، أن يصنفوا مصنفات يجمعون فيها رخص بعض العلماء، وأن فلاناً رخص في كذا، وفلاناً رخص في كذا، فيجمعون في هذا كتباً وينشرونها عند العامة، حتى يتساهلوا في هذه الأمور، ويعجبني في هذا القصة التي ذكرها البيهقي وغيره.
قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد وهو من أمراء بني العباس، فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه رخص بعض العلماء من غير تثبت ولا نظر ولا مقارنة ولا ترجيح، قال: فنظرت في هذا الكتاب ثم قلت: مصنف هذا الكتاب زنديق -هكذا يقول للخليفة- فسأله الخليفة لماذا؟ قال له: هذه الأحاديث التي ذكر لم تصح على ما رويت، فمن أفتى مثلاً بالمتعة لم يفت بإباحة الغناء والمسكر، وصاحب الكتاب قال لك: الغناء حلال، وأهل المدينة أباحوه، والمسكر حلال لأن أهل العراق أباحوه، والمتعة حلال لأن أهل مكة أباحوه، المتعة بالنساء وهي معروفة.
وقال له: الذي أباح مثلاً النبيذ ما أباح الغناء، والذي أباح الغناء ما أباح النبيذ، والذي أباح المتعة ما أباح هذين، فكيف يأتي بترخيصات لهؤلاء جميعاً ويجمعها، وبالمناسبة المعتضد أمر بإحراق الكتاب هذا، ما دام أن مؤلفه زنديق، وهذا شأنه يحرق، ويقول بعضهم: ما أحوجنا إلى نار المعتضد لتحرق كتباً من هذا القبيل! وأرى أن هذا ليس بلازم، فحسبنا عقول هذه الأمة وأفهامها ومداركها ووعيها، فإنها هي النار التي سوف تحرق كل باطل ولن يصفو إلا الكلام الصحيح بإذن الله تعالى.(18/14)
تتبع الرخص
صورة خامسة من صور القول على الله بغير علم تتبع الرخص: ولا أعني الرخص الشرعية، مثل الفطر للمسافر أو للمريض، أو القصر وما أشبه ذلك، فهذه يحب الله تعالى أن يأتيها الإنسان، كما في الحديث الصحيح: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} وقال الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يسروا ولا تعسروا} فالدين هو دين اليسر وقال: {بعثت بالحنيفية السمحة} وهذا الدين فيه من الثراء والمرونة ما يجعله ملائماً مناسباً لكل وقت وكل بيئة، وكل وضع، وهذا ليس معناه أنه يخضع لها، لكنه يمكن أن يطبق في كل الظروف والأحوال، وفي الدين من السماحة والتيسير ما يعرفه المختصون، وليس معنى ذلك أنه كلما كان العالم أكثر منعاً وتحريماً كلما كان أوسع علماً، لا؛ بل العكس، فإن العالم الحقيقي أقرب إلى التيسير من غيره.
وكما قال سفيان الثوري رحمه الله يقول: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فبين شيئاً فيه ترخص، وتسامح، وتيسير، وتسهيل على الناس، لكن ليس ذلك عن أي إنسان، إنما عن ثقة، عن إنسان يعرف أين يضع الرخصة وأين يضع العزيمة، وأين يضع اليسر والشدة، قال: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، أما التشديد فيعلمه كل أحد، يقول مثلاً في التشديد: كل شيء هذا حرام هذا حرام هذا لا يجوز، فهذا كل إنسان قد يحسنه.
يقول سفيان: عن العالم أنه الذي يميز ويعرف، خاصة في أشياء كثيرة جديدة جدت في واقع الناس وفي حياتهم، وأصبح كثير من الناس يتساءلون عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ليس الصواب ولا المنهج السليم أنا نأتي ونقول كلما جاء شيء جديد وقفنا ضده، وقلنا: هذا لا يجوز وهذا حرام وهذا كذا وهذا كذا، بل والحمد لله قد وهب الله علماءنا في هذه البلاد قدراً طيباً حتى إن أحدهم لينظر في هذه الأشياء ويميز، ما يقبل منها فيقبله، وما يرد منها فيرده، وفق أصول وضوابط لا تتغير ولا تختلف.
إذاً الدين يسر وتيسير، وسماحة وتسهيل، وهناك من الأشياء في هذا الباب أمر يطول الحديث يطول عنه الآن، وقد سبق أن تحدثت عن هذا في أكثر من محاضرة، أو كتيب متداول في أيدي الناس.(18/15)
خطر اتخاذ الخلاف حجة
وهناك خطر كبير جداً من مثل هذا المسلك الذي يتشبث به البعض وهو يتمثل فيما يأتي: المرحلة الأولى: اتخاذ الخلاف مخرجاً للتحلل من قيود الشريعة، فكلما قلنا شيئاً قالوا: هذا فيه خلاف.
وإذا رجع المرء إلىالكتب القديمة فما من مسألة عالباً إلا وسيجد فيها خلافاً شاذاً، أوخلافاً ضعيفاً، وسيجد فيها أقوالاً مهجورة ولو أردت أن أذكر لكم بعض الأقوال المهجورة، التي ذكرها بعض الفقهاء لتألمتم، حتى إني أذكر على سبيل المثال، أني قرأت يوماً من الأيام أن أحد من المتقدمين يقول: إنه إذا كان على أحد ديون كثيرة لإنسان، وما استطاع أن يسدده، فأراد أن يقدم نفسه عبداً رقيقاً لهذا الدائن مقابل الدين جاز له ذلك، أو كلاماً نحو هذا، وهذا لا يقول به أحد! وليس عليه أثارة من علم أو كتاب أو سنة وهذا معارض للأصول الشرعية، لكن وجد إنسان قال به، أو قد لا يكون قال به حقيقةً، لكنه نسب إليه أو فهم عنه خطأ، فلو ذهبنا نأخذ الأقوال الشاذة والضعيفة والمرجوحة فلن ننتهي أبداً، إذاً تحللنا من أحكام الشريعة كلها، ولم ننته من الخلاف حتى الآن.
هذه المرحلة الأولى، أنه لا يلزمنا إلا المجمع عليه.
وما لم يجمع عليه دعونا نأخذ منه ما نشاء.(18/16)
خطورة قول حتى الإجماع فيه خلاف
المرحلة الثانية: وهي أن هؤلاء الذين كانوا يقولون: لا تحاكمونا إلا إلى المجمع عليه، سينتقلون بنا بعدها ويقولون لنا حتى الإجماع نفسه فيه خلاف، فهناك من العلماء من لا يقبل الإجماع، كما هو مذهب بعض الظاهرية، حتى بعض المتأخرين من الأصوليين قد لا يقولون بالإجماع.
فنحن معذورون أن نأخذ ما نرى، خاصةً إذا تصورنا أن من الناس من لا يفرقون بين عالم قديم وعالم معاصر، فلو جاء عالم معاصر برأي ينقض إجماعاً قديماً، اعتبروا هذا العالم حجة في نقض الإجماع، ولذلك يحتج بعضهم بعلماء متأخرين، كالشيخ محمد رشيد رضا، وهم علماء أفذاذ، ولهم منزلة، ولهم آراء ناضجة، لكن لهم آراء -أيضاً- لا يوافقون عليها.
والمقصود ليس تقييم هؤلاء العلماء، لكن المقصود أن من الناس من لا يفرق بين عالم متقدم في وقت انعقد فيه الإجماع، أو كاد أن ينعقد، وبين عالم متأخر قد يأتي بقول ينقض إجماعاً سبقه، دون أن يكون هذا العالم اطلع على الإجماع، ولعلي أضرب لكم مثلاً، واعتذر عن هذا المثل، لأنه ليس المقصود المثال، لكنه وقع لي فأحببت أن أذكره، لأن قضيتنا أكبر من مجرد قضايا جزئية، كما يشير بعضهم، ويذكرون مثلاً قضية حلق اللحية أو الموسيقى، التصوير، أو وسائل الترفيه، أو غيرها من المسائل.
نقول: هذه كلها ليست هينة، لأن المراد كما قال الإمام مالك: ليس في الإسلام والدين والعلم شيء سهل، أو شيء هين {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وحتى القضايا هذه لا نحكم فيها بالأمزجة أبداً، إنما نحكم فيها بما نعتقد أنه حكم الله ورسوله.
لكن مقصودي بالمثال أن أوضح كيف يفعل بعض هؤلاء في كتاب اسمه فتح المنعم، تكلم فيه عن أشياء في صحيح مسلم وعن موضوع حلق اللحية كمثال، يقول هذا المؤلف وهو معاصر: لما عمت البلوى بحلقها في البلاد الشرقية حتى أن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره، خوفاً من ضحك العامة عليه، لأن العامة في بعض البلاد قد يسخرون منه لأنه ملتحٍ، يقول: لاعتياد العامة على حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصلٍ أخرج عليه جواز حلق اللحية، حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق.
انظر كيف التناقض يقول: حلق اللحية محرم باتفاق العلماء، ومع ذلك يقول: ذهبت أبحث عن أصل أخرج عليه جواز حلقها حتى أعطي الذين استحوا من العامة وحلقوا لحاهم، وثيقة تبيح لهم فعل هذا العمل.
فإذا كانت المسائل التي فيها خلاف، لا ننكر فيها ولا نتكلم عنها، ثم مسائل الإجماع ذاته فيها خلاف، فلا نتكلم فيها، فلم يبق عندنا إلا مسائل العقيدة، وحتى مسائل العقيدة سيستطيع هؤلاء أن يدخلوا فيها الخلاف مع بعض الفرق الضالة، من المرجئة، والجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة وغيرهم، وبذلك يصبح الدين كله شيئاً عائماً سيالاً غير منضبط، لا تستطيع أن تقف منه على شيء، وقد لا يبقى إلا ما يعبر عنه البعض بأنه روح الدين ولب الدين، وما هو روح الدين؟ وأين وجدت هذه الروح واللب؟ وليت المتحدثين عن هذه المسائل من العلماء! وهيهات للعلماء أن يتحدثوا بمثل هذا الكلام، إذاً لهان الخطب، ولكن كما قيل: فلو أني بليت بها شمي خؤولته بنو عبد المدان لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني وما أعجب شأن هؤلاء الناس! حينما يصل الحال ببعضهم إلى حد فقدان المنطق، وفقدان الموضوعية بصورة لا يستحون فيها من الفضيحة، فإذا قيل لهم رَأْينا في المسألة أنها حرام، قالوا: هذا يكفر الناس، سبحان الله! وقالوا: أنت تكفر الناس، أنت تعد هذه من أركان الإسلام، فتعتبر أن من يخالفك قد خرج عن الملة.
أين وجدتم هذا الكلام؟ ألا تخافون الله عز وجل! ألا تتقون وتستحون! ألا تخشون من فضيحتكم أمام الأمة، أن تنسبوا كلاماً غير صحيح، للذي يقول: إن هذا حرام فهو لا يعتبر أن فاعله أحياناً فاسقاً، فضلاً عن كونه كافراً، لأنه قد يكون ارتكب هذا المحرم بتأويل لمقتضى دليل شرعي فيكون الذي فعله غير آثم أصلاً، فضلاً عن أن يكون كافراً، فما معنى أن يقول: هذا حرام، فيقول: هذا يكفر الناس، أو أنت تعد هذا من أركان الإسلام، أو تعتبر من يخالفك في الرأي وخارجاً من الدين، خارجاً من الملة، أين الحوار الموضوعي؟ وأين المجادلة بالتي هي أحسن؟ وأين المنطقية وأسلوب الحديث في الهواء الطلق الذي نتحدث عنه كثيراً؟! فإذا قلت لهؤلاء: قال الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لك: أنت أعلم من فلان ومن فلان حين تخالفهم؟ فإذا قلت: قال أهل العلم.
قالوا: أنت من المقلدين الجامدين، تتمسك بهذه الأقوال الجامدة وتحارب من أجلها.(18/17)
الاعتقاد بأن الخلاف بحد ذاته حجة
الصورة الرابعة: وهي من أخطر الصور وأكثرها انتشاراً في هذا العصر، أن كثيراً من الناس -خاصة غير المتخصصين- يعتقدون أن الاختلاف بحد ذاته حجة، بمعنى أنهم يرون أن مجرد وجود عدة أقوال في مسألة حجة لهم في أنهم يأخذون من هذه المسألة ما شاءوا، فإذا كانت المسألة فيها قولان: قول يقول بالتحريم، وقول يقول بالإباحة، فهموا من ذلك أن المسألة هذه مباحة لأن فيها قولين، فيعتقدون أن الاختلاف ذاته حجة في الشرع.
وقد ابتلي المسلمون بطائفة كثيرة من هؤلاء الذين صوروا أن مجرد الاختلاف في مسألة ما، يبيح للمسلم أن يختار من هذه الأقوال ما يشاء، بالرغبة والمزاج والتشهي، وليس بالدليل الشرعي، فيرون الاختلاف دليلاً على الإباحة، كما ذكر ذلك الخطابي والشاطبي وغيرهم، منكرين على هؤلاء الذين يرون الاختلاف في مسألة دليلاً على الإباحة، ويعتمدون على ذلك في جواز فعل الشيء بأن فيه خلافاً.(18/18)
الاحتجاج بالخلاف من باب الهوى
هؤلاء لا يعتمدون في الخلاف على البحث عن الدليل الشرعي من آية أو حديث، ولا على تقليد عالم اعتمدوا في تقليده، وإلا لقلنا لهم: أهلاً ومرحباً، فلو أن أحداً قال: إن هذه مسألة فيها خلاف، فأنا لن أقبل كلامك، نقول: من ستقبل؟ قال: أنا سوف أذهب وأبحث المسألة وأستقصيها من الكتب، وأصل إلى نتيجة، نقول: هذا مسلك حميد فلتفعل بشرط ألا تأتي بقول لم يُسْبَقْ إليه، وأن يكون مرادك في قلبك هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد التشهي، أو اتباع الهوى، لا بأس بهذا.
وآخر قال: لن أسمع كلام فلان، نقول: من ستسمع؟ قال: أنا واثق بالعالم الفلاني وأقلده في هذه المسألة حتى قبل أن نعرف رأيه، نقول: لا بأس -ما دمت عامياً، لست من أهل البحث ولست طالب علم- أن تقلد عالماً تثق بعلمه وبدينه على أن تقلده في الرخصة والعزيمة، والتيسير والتشديد، فلا حرج في ذلك، لكن كونك تقول: بمجرد أن المسألة فيها أقوال، فأنا مأذون لي شرعاً أنني أختار على مزاجي وحسب رغبتي من هذه الأقوال ما أجد أن نفسي ترتاح إليه؛ فماذا يكون معنى الشرع على هذا الحال بهذه الصورة؟ لأننا نعلم أن الله عز وجل أمرنا عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة، كما قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فإن تنازعتم في شيء يعني من أمور الدين، فردوه إلى الله والرسول، فما كان فيه خلاف فليس الحكم أن آخذ ما أريد، وأنت تأخذ ما تريد، الحكم بيننا هو أن نرد الخلاف إلى الله، أي إلى القرآن، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني الرد إلى شخصه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته.
هذا هو الميزان، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، ومن لم يقبل هذا الميزان فقد بين الله حكمه بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء:59] فهذا هو الميزان، أما من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا يختار ما يشاء.
وفي بعض المواضع نفى الله الإيمان عمن لا يقبلون ذلك، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت} [النساء:60] وقال في آية أخرى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48-49] يعني إذا وجد حكماً شرعياً يعجبه أخذ به، وإذا وجد حكماً لا يعجبه رفضه، وقال لك: إن المسألة فيها خلاف، أنتم تتشددون وتحجرون واسعاً، وتضيقون على عباد الله، هذا لا يصلح، ثم أصبح يتكلم عليك في هذا الباب، نقول: نعم فيها خلاف على العين والرأس، ونحن لا نفرض رأياً معيناً أبداً، لكن الشيء الذي نفرضه هو الضابط الذي ينبغي التحاكم إليه، وهو قول الله عز وجل: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] .
أما التشهي في الشرع فهو لا يجوز، لأن الشرع إنما جاء لإخراج الناس عن شهواتهم النفسية وأمزجتهم الذاتية إلى شريعة الله، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الجاثية:18-19] وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فما أنزل الله شيء وأهواءهم شيء آخر، وأنت مطالب بالحكم بما أنزل الله، وأهواؤهم تدعها عنك جانباً، ولا تلتفت إليها.
فالعامي أو السائل أو المستفتي إذا جاء للعالم يقول: أفتني في المسألة الفلانية، أو ما حكم الله ورسوله في المسألة الفلانية؟ فهو في الحقيقة يقول له: يا عالم أو يا إمام أو يا مفتي أخرجني من هواي، لأن العامي أصلاً يعرف هواه.
فعندما يسأله ما حكم شرب هذا الكأس؟ هو يعرف أن نفسه تشتهي هذا الأمر أو لا تشتهيه، وهو ما جاء يسأل العالم عن شهوته الذاتية أو عن مزاجه الشخصي، بل جاء يسأل العالم عن حكم رب العالمين، أو حكم سيد المرسلين في هذه المسألة.
فمن غير الصحيح أن المفتي أو العالم أو الفقيه سيقول له: المسألة فيها قولان، وأنت اختر من القولين ما شئت، لأن معنى ذلك أنه رده إلى هواه، وهو ما لم يأت ليسألك عن هواه، لأنه يعرف هواه قبل أن يأتيك، إنما يريد حكم الله ورسول.(18/19)
الخوض في مسائل بحجة أنها سهلة
الصورة الثالثة: من صور القول على الله بغير علم: الخوض في مسائل بحجة أنها يسيرة وسهلة، ولا تحتاج إلى أحد، وما أكثر ما يتسرع الناس في ذلك.
يجلس مجموعة قد يكونون أحياناً من العامة، وأحياناً من المثقفين، لكن ثقافتهم ليست قوية بحيث تؤهلهم إلى الكلام في مسائل شرعية، والوصول إلى نتيجة معينة فيها، والقضية ليست مجرد مدارسة ومباحثة، بل أحياناً يتوصلون إلى آراء وإلى نتائج معينة، ويقول لك: يا أخي! الأمر هذا سهل، ويسير.
ولله در الإمام مالك رضي الله عنه عندما سأله رجل عن مسألة فقال: لا أدري قال له السائل: إنها خفيفة ويسير وسهلة، فغضب الإمام مالك وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] فأصل مسألة "حلال وحرام" ليست مسألة سهلة، أنت تعبر عن حكم الشرع، فأنت مترجم لحكم الله ورسوله، وموقع عن رب العالمين، ولست تأتينا بشيء من جيبك الخاص حتى تتساهل في هذا الأمر إلى هذا الحد، أو تفرط فيه بحجة أو بأخرى.(18/20)
حكم من تكلم بغير علم
أما من تكلم بغير علم فهو آثم حتى لو أصاب فإصابته عن طريق الصدفة والموافقة، وليس بمقتضى الطريقة الشرعية، ولذلك فهو آثم في الحالين كما جاء في الحديث: {من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب} فإذا صح هذا الحديث فهو يخدم هذا الموضوع الذي نتكلم عنه، وعلى كل حال فلدينا حديث صحيح رواه ابن ماجة والإمام أحمد وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أُفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه} .
فهذا المفتي الذي تكلم بدون علم ولا تثبت ولا دليل شرعي، يحمل وزره ووزر من أضله بغير علم، يقول الله عز وجل: {فمن أظلم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144] فمن تكلم في شأن دينيٍ بغير علمٍ فهو من أظلم الظالمين، فهو ظالم لنفسه وظالم لغيره، ظالم للأمة، ظالم للمجتمع، وإثمه موقوف عليه، وكذلك إثم من أضلهم بغير علم كما قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.
وقال ابن الجوزي رحمه الله ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم.
يقول: وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ أي هو أولى من الطبيب الذي يتكلف الطب وهو لا يعرف ذلك.
وقد تحدث بعض الفقهاء الحنفية عن مفتٍ يسمونه "المفتي الماجن" وقال الإمام أبو حنيفة: هذا المفتي الماجن يجب الحجر عليه لأنه متلاعب بفتواه، يفتي وليس أهلاً للفتوى.
وبطبيعة الحال كون الإنسان يبحث في مسألة معينة، كطالب علم، أو إنسان عنده قدرة على الرجوع إلى الكتب، وبحث مسألة واستقصى أدلتها، والأقوال الموجودة فيها، ثم وصل إلى نتيجة، هذا ممكن؛ لأن الاجتهاد -كما يقول أهل العلم- يتجزأ، بمعنى أنه يمكن للإنسان أن يكون مجتهداً في مسألة واحدة بعينها، لأن هذا الاجتهاد هو الآخر له طريقه المعروفة.(18/21)
شروط الإفتاء عند الإمام أحمد
ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: لا ينبعي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فمن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
ثانيها: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، بمعنى أن تكون أخلاقيات هذا المفتي أو هذا المتكلم في الشرعيات تجعله في موضع القدوة والأسوة، وتجعله فعلاً موضع الثقة في التعبير عن معاني الشرع وتوصيلها إلى نفوس الناس.
الشرط الثالث: أن يكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته، بمعنى أن يكون عنده تمكن من المسائل الشرعية وقدرة على معرفتها والإحاطة بها.
الشرط الرابع: الكفاية وإلا مضغه الناس، ويقصد بالكفاية أن يكون مستغنياً عما في أيدي الناس.
الشرط الخامس: معرفة الناس، أي: أن يعرف الناس وحيلهم وألاعيبهم، لئلا يغتر بأقوالهم أو مكرهم أو حيلهم ولذلك كان الأئمة يحتاطون في الفتيا لأنفسهم، ويمنعون غيرهم من الإفتاء بغير علم، حتى قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن شيخه يعني ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه قال: كان شديد الإنكار على هؤلاء، أي الناس الذين يتسرعون في الكلام والفتيا بغير علم، قال: فسمعته يقول يوماً من الأيام، قال لي بعض هؤلاء المتسرعين في الفتيا: أجعلت محتسباً على الفتوى؟! أي: هل أنت مكلف من قبل السلطان بالاحتساب على أهل الفتوى؟ لأنه كما هو موجود الآن، كان كل أهل مهنة لديهم مسئول مراقب من قبل الجهات المختصة فيقولون له: هل أنت مراقب من قبل الجهات المختصة على أهل الفتوى؟ فكان يقول لهم رحمه الله: أيكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب! يقرهم على ذلك فيقول: نعم أنا محتسب أمنع من ليس أهلاً من ذلك.
والغريب أن بعض هؤلاء الناس نسبوا لـ ابن تيمية رحمه الله أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي! ابن تيمية الذي كان يلاحق المتسللين الذين يتصدرون للفتوى وليسوا من أهلها، ويمنعهم ويُشَهِّر بهم، ينسب إليه بعضهم أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي، كيف يكون هذا؟! وإذا احتججت أو اعترضت على بعض هؤلاء قال لك: يا أخي! لا تحجر واسعاً، أليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المتفق عليه عن عمرو بن العاص وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فيقول: أنا لا أعدم من إما من أجر واحد أو أجرين، فلماذا أنت منزعج؟ ولماذا أنت منفعل؟ ولماذا تعترض علي في كوني أتكلم وأفتي وأقول بحسب علمي في مسائل الشرع، وأكتب ما تيسر من المباحث المهمة في هذا الباب؟ لماذا تمنعني من ذلك؟! والواقع أن ما في هذا الحديث لن يكون حتى يتوفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون أهلاً للاجتهاد، بعلم غزير، وخبرة وتاريخ، ودراسات كافية.
الشرط الثاني: أن يبذل وسعه في الاجتهاد في المسألة التي تعرض عليه، فلا يكتفي بكونه مشهوراً مثلاً، أو معروفاً، بل يكون إلى ذلك إذا عرضت عليه مسألة، قلَّب فيها وجوه الرأي، ونظر وتأمل، وإن كانت تحتاج إلى بَحْث بَحَث أو تحتاج إلى سؤال سأل، حتى يستقصي الحق ثم يقول به، فإذا فعل هذا فلا إثم عليه، بل هو مأجور في الحالين، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.(18/22)
دعوى الاجتهاد
الصورة الثانية: من صور القول على الله تعالى بغير علم هي دعوى الاجتهاد، وذلك أن الأمر لا يقتصر على مجرد الكلام في الشرعيات، بل يتعدى عند بعض الناس إلى أن يدعي أحدهم لنفسه أنه مجتهد، وأنه يملك حق الاجتهاد، وفي الواقع أننا لسنا ممن يغلق باب الاجتهاد، كما يقال: فلان يغلق باب الاجتهاد، لأن هذا يحجر على عقول الناس، لكننا نقول كما قال بعض الكتاب المعاصرين، قال: إن باب الاجتهاد لم يفتح ولكنه كسر كسراً، أي أنه أصبح مكسوراً يدخل فيه كل إنسان من تأهل للاجتهاد ومن لا يتأهل، وتسلل كثيرون ممن ليسوا أهلاً لهذا الأمر، وادعوا أنهم مجتهدون، وأنهم مأجورون معذورون أخطأوا أم أصابوا، لأنهم مجتهدون.(18/23)
شروط الإفتاء
ولقد اشترط العلماء -رضي الله عنهم- شروطاً للفتوى، فضلاً عن الاجتهاد، لا تتوفر إلا في القليل.
من هذه الشروط مثلاً الإسلام، فالكافر أو المرتد هو فاقد للأهلية، وليس من حقه أن يتكلم في ذلك حتى يسلم إن كان كافراً، أو يعلن توبته إن كان مرتداً على الملأ، فحينئذٍ يسلك الطريق، ويبدأ يتعلم حتى يصبح أهلاً لما وضعه الله تعالى له.
الشرط الثاني: هو التكليف، فإن غير المكلف الذي لم يصل إلى درجة أن يكون مكلفاً شرعياً لا يفتي أيضاً.
الشرط الثالث: هو العدالة، فالفاسق سواء أكان فسقه بقول أم كان فسقه بفعل أم كان فسقه باعتقاد، هذا لا تقبل فتواه، ولا يسمع قوله، وهذه الشروط الثلاثة التي هي الإسلام والتكليف والعدالة مجمعٌ عليها عند العلماء، أنه لا بد من توفرها في المفتي، أو في المتكلم في أمور الشرع.
وهناك شروط أخرى اختلفوا فيها منها الاجتهاد فبعضهم يقول: لا يقبل قول مفتٍ إلا أن يكون مجتهداً، ومعنى كونه مجتهداً أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، عالماً بلغة العرب، عارفاً بأصول الفقه، عارفاً بالإجماع؛ لئلا يأتي بقول يناقض الإجماع وهو لا يدري، وكذلك أن يكون عارفاً باختلاف العلماء، حتى يستطيع أن يميز الاختلاف، ويأخذ بالقول الراجح ويترك القول المرجوح.
كما اشترط آخرون جودة القريحة، واليقظة، وكثرة الإصابة، والذكاء، وهو ما يعبر عنه الإمام الجويني وغيره، بأن يكون المفتي فقيه النفس، أي يكون عنده يقظة وانتباه وذكاء، بحيث يعرف حيل الناس، ويعرف ألاعيبهم ويعرف طرائقهم، ويستطيع أن يتوصل إلى الحق بأسلوب مناسب.(18/24)
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
إن الله تعالى يقول في موضعين من كتابه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وأهل الذكر هم أهل العلم بالشيء، فالشرع يجعل التعرف على المسألة، من قبل أهل الاختصاص فيها، فإن كانت المسألة طبية فتسأل الأطباء فيها، وإن كانت المسألة لغوية تسأل فيها أهل اللغة، وإن كانت المسألة شرعية تسأل فيها أهل الشريعة، فهؤلاء هم أهل الذكر الذين قال الله تعالى عنهم: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43] وليس غيرهم، فلا تسأل الطبيب عن مسألة شرعية، كما لا تسأل الفقيه عن مسألة طبية بحتة، ولا تسأل الأديب أو الشاعر أو الصحفي عن ما ليس من اختصاصه من الشرعيات، مع احترامنا للأديب والشاعر والصحفي، وتقديرنا للدور الذي يؤديه في خدمة المجتمع وحماية الأخلاق وتأديب النفوس، متى كان على مستوى هذه الوظيفة التي يقوم بها والحمد لله والذين هم على مستوى هذه الوظيفة كثير، وفيهم خير كثير.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عاتب أصحابه في حديث صاحب الشجة، وهو رجل من الصحابة ذهب في غزوة فأصيب بشجة في رأسه، فأصابته جنابة، وأراد أن يسأل أصحابه ماذا يفعل، فأمروه بأن يغتسل، كما جاء في حديث من طرق، وقد حسنه بعض أهل العلم، والحديث في أبي داود وغيره، فاغتسل فمات من أثر الجرح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال} فالعاجز العيي الذي ليس عنده علم شفاؤه أن يسأل، فكان حق هؤلاء أن يسألوا إذ لم يعلموا، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى أن يسأل من يعلم، وكذلك في قصة العسيف، الذي كان عنده رجل فزنى بامرأته، وذهب أبو العسيف هذا يسأل الناس، وسأل أهل العلم فأخبروه، وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
فدل على أن الطريق الصحيح لجماهير الناس في معرفة الحلال والحرام هو أن يسألوا أهل العلم، وحين نقول تسأل أهل العلم فلا يعني هذا أنك قد أغمضت عينيك، فتعتقد وأنت أعمى، بل إذا كان عندك إمكانية وكنت إنساناً مثقفاً ولك قراءة، فإذا أفتى لك العالم بشيء، فناقشه فيما أفتاك، واعرض عليه قولا آخر سمعته، واسأله عن الدليل الذي احتج به، فلا مانع من هذا كله، لكن المهم أن تكون الفتيا، والكلام في المسائل الشرعية مضبوطاً محمياً محفوظاً، لا يملك أي إنسان أن يتكلم فيه دون قيد ولا شرط، ودون حسيب ولا رقيب.
فهذه صورة وهي صورة جراءة بعض الناس على الكلام في الشرعيات، من الإفتاء وغيرها، دون أن يتأهلوا لذلك، أو يملكوا العلم الذي يرشحهم لمثل هذا المنصب، والناس لا غنى لهم عن المفتين المتخصصين، الذين طالت دربتهم ومرانهم وممارستهم للكتب وللناس.(18/25)
مثال على الإفتاء بغير علم
ألا نتذكر جميعاً ذلك المسكين، الذي كتب يوماً من الأيام في إحدى المجلات المشهورة، مقالات طويلة عنوانها (ليس كل ما في البخاري صحيح) ونظراً لأنه اكتفى فقط بأقل قدر من المطالعة، فقد جاء يوماً من الأيام إلى حديث رواه البخاري في صحيحه، وهو حديث عائشة رضى الله عنها قالت: {كان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض} يباشرها أي تمس بشرته صلى الله عليه وسلم بشرتها، وقد يستمتع منها بما هو دون الفرج، وهذا معروف، لكن الرجل فهم من المباشرة معنى الجماع، فذهب يضعف هذا الحديث ويقول: إنه غير صحيح، ولو كان موجوداً في صحيح البخاري، قال لأنه يعارض القرآن الكريم: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] .
فالذي يأخذ الأمور ببساطة دون أن يرجع إلى المصادر والشروح والأقوال والكتب المعتمدة، من السهل جداً أن يقع في مثل هذا الخطأ، بل فيما هو أشد منه، والعجب كل العجب من قوم يتسارعون إلى عرض آرائهم في الحديث النبوي مثلاً، تصحيحاً أو تضعيفاً، قبولاً أو رداً، أو عرض آرائهم في المسائل الفقهية تحليلاً أو تحريماً، أو استحباباً أو كراهة أو إباحة، وقد ينكر أحدهم حديثاً أو حكماً شرعياً قبل مراجعة الشروح، وقبل مراجعة أقوال العلماء فيه، في الوقت الذي يسخر هؤلاء فيه مر السخرية من غيرهم، مدعين أن هذا الغير تعلموا بين يوم وليلة وتكلموا! فقد أصبحنا نسمع كثيراً من ينتقد شباباً درسوا العلوم الشرعية في أسبوع أو شهر أو ثلاثة أيام وتكلموا في الشرعيات، يقولون: هؤلاء لا بصر لهم، ثم وجدنا أنهم هم أنفسهم يتكلمون في قضايا جليلة أو خطيرة، دون أن يكلف أحد نفسه ولا حتى ساعة واحدة يراجع فيها ما قاله أهل العلم في هذه المسألة، فضلاً عن يوم وليلة أو أيام أو أسبوع أو شهر!!(18/26)
المسارعة في الافتاء بغير علم
الصورة الأولى: هي تسارع كثيرٍ من الناس، ممن قد يملكون جودة العبارة، ولكنهم لا يملكون العلم الشرعي الصحيح، على الهجوم والخوض في أمور الشريعة، دون تبصرٍ ولا روية، ودون أن يملكوا القدرة الكافية على ذلك، وقد يحتج بعض هؤلاء، بل كثير من الجهلة، يقول لك: يا أخي! الإسلام ليس فيه رجال دين ولا فيه كهنوت، وإنما هذا في النصرانية، فنقول: نعم ليس في الإسلام طبقة معينة اسمها رجال الدين، أو طبقة من الكهنوت، هي التي تملك وحدها حق تفسير الكتاب المقدس.
بل كل إنسان يملك ولكن بعد أن يستوفي الشروط، أي أن الطريق مفتوح، وليس مقصوراً على فئة معينة، لكن ليس معنى كونه مفتوحاً أنه كلأ مباح لكل أحد، ليس في الإسلام رجال دين أو كهنوت، ولكن في الإسلام علماء، يرجع إليهم في معرفة نصوص الكتاب والسنة ودلالاتها ومعانيها، والغريب أن الناس أيضاً يدركون هذا جيداً فيما يتعلق بمجالاتهم الدنيوية، فمثلاً المكتبات الآن تغص بألوان الكتب الطبية، وقد أصبحت الدوريات والنشرات والمجلات الطبية بالآلاف، بل ربما بعشرات الآلاف في أنحاء العالم، وهناك مراكز متخصصة في إعداد البحوث وطباعتها وتوزيعها، بحيث إن الطبيب المهتم يتابع أولاً بأول كل ما جَدَّ في عالم الطب، فهذه الكتب والمجلدات الهائلة، والمزودة بالصور والتقارير والأرقام والإحصائيات، والتي تتجدد يوماً بعد يوم، وتوافي المختصين أولاً بأول، هل أغنت الناس عن الذهاب إلى الأطباء؟ كلا، أم هل أغنت الناس عن فتح المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية والوحدات الطبية ومراكز الأبحاث؟! كلا، بل لا يزال الناس يشعرون يوماً بعد يوم بمسيس الحاجة إلى مثل هذه المراكز والمستشفيات والوحدات؛ لأن هذه الأوراق وحدها لا تكفي ولا يستفيد منها أصلاً إلا الطبيب المختص.
أما عامة الناس ففائدتهم منها محدودة إلى حدٍ بعيد، قد يملكون فيها نوعاً من الثقافة التي تمكنهم من مناقشة الدكتور مثلاً، لكن أن يملكوا قدراً يمكنهم من كتابة الوصفات، ومعالجة الأمراض، فلا يكون هذا أبداً، وإلا لما كنا بحاجة إلى كليات الطب، ودراسات طويلة عريضة، ومراكز متخصصة وجهود ضخمة.
فكيف نتصور مثلاً أن وجود النصوص الشرعية في الكتب، سواء في القرآن أم في السنة، أك في كتب أهل العلم، أنه كافٍ للناس، وأنه من حق أي إنسان مسلم أن يتكلم في أي مسألة تخطر له، بمجرد أن يقف على نص يظن أنه يتعلق بهذه المسألة التي أشكلت عليه.(18/27)
الأسئلة(18/28)
أهمية التخصص في علم الشرع وغيره
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول إن كلامكم حول التخصص هو حجة أيضاً على علماء الشرع عندما يتكلمون في بعض القضايا السياسية والاقتصادية مما لا يدخل في تخصصهم، فكيف تكشف هذه الشبهة؟
الجواب
هذا الكلام جميل، وقد ذكرت خلال حديثي عن الطبيب أن من حقه أن يبحث مسألة فقهية بشرط أن يسلك الطريق الصحيح، فيذهب إلى كتب الفقه، ويجمع الأقوال والأدلة، ويصل فيها إلى نتيجة معينة، وحسن جدا، لو عرض هذه النتيجة على عالم أو متخصص، وهذا الكلام نفسه نقوله عن عالم الشرع: أنه لو أراد أن يبحث قضية اقتصادية أو قضية سياسية هو عن حكم الله ورسوله فيها، فكيف نستطيع أننا نجعله يتصور هذه القضية تصوراً صحيحاً، ويدرك أبعادها الحقيقة، لا شك أن هذا العالم عليه أن يستعين بالمختصين ليطمئن على سلامة النتائج التي توصل إليها.
ثم هناك قضايا كثيرة ليست من باب الاختصاص، نستطيع أن نقول إنها ربما تكون مشاعة لطبقة معينة من المستمعين يتكلم فيها الجميع، ويتحدث فيها الناس في الإذاعات وفي المجالس وفي الأحاديث وفي الصحافة وفي كل ميدان، ففي هذه لا تنظر إلى عالم الشرع باعتبار أنه عالم شرع فقط، هو أصلاً كإنسان له قدرٌ من العلم بهذا الشيء، وكمسلم ومتخصص له قدر وتصور في هذا الأمر وحكم الله ورسوله في ما يئول إليه.(18/29)
هل للمسلم حرية في إظهار دينه في بلاد الغرب
السؤال
تعلمون عداوة الغرب للإسلام وأهله، ولكن يشكل على البعض أن أي مسلم يستطيع إظهار شعائر دينه وبكل حرية، بل يستطيع أن يدعو إليه وذلك في بلد الغرب، فكيف يحل هذا الإشكال الوارد على بعض الناس؟
الجواب
هذه مجرد لمحات وإشارات، ومن جهة عليك أن تلقي نظرة عابرة على جهود المنصرين في أنحاء العالم الإسلامي، وبالذات العالم الأكثر فقراً، انظر إلى جهودهم وقدِّر ما هذه الجهود وما هي دوافعها، ومن جهة أخرى ليس صحيحاً أن كل مسلم يستطيع أن يظهر شعائر دينه، وما قصة الفتيات المغربيات في فرنسا عنا ببعيد، الإسلام ما دام محصوراً في مستوى معين لا يشكل خطراً عليهم فهم يغضون الطرف عنه، لكن حين تزداد أسهم الإسلام ويرتفع قدره في بلادهم، سيكون هناك شأنٌ آخر لهم مع الإسلام، وهذا بدأ يظهر الآن في الغرب، في أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
أمر ثالث أن تلك المجتمعات أصلاً مبنية على الكفر، ولذلك هي في الواقع تحرج المسلم وتفرض عليه المخالفة في قوانين كثيرة يضطر هو أن يسايرها شاء أم أبى، بحكم المجتمع، نعم يستطيع أن يصلي، ويصوم، لكن هناك أشياء أخرى كثيرة، حتى الصلاة قد لا يكون هذا متيسراً في كل حال، قد يكون مربوطاً بعمل وبأمور اعتبارات كثيرة جداً تمنعهم من ذلك.
أمر آخر، أنه قد تجد أحياناً أن جمهور الناس هناك -وأنبه إلى هذا لأهميته- كجمهور المسلمين في كثير من البيئات، صارت صلتهم بالدين ضعيفة جداً لكنها باقية، فمثل هؤلاء قد يتعاملون مع المسلم بصورة عادية، لا يحسون بحساسية شديدة تجاهه، لكن لو صار بينهم وبين المسلمين أخذ وجذب وعداء وحروب، أو صار الإسلام خطراً يهددهم، هنا قام زعماؤهم سواءً الزعماء السياسيون أو الزعماء الدينيون، فأثروا وحركوا حماس وحمية الناس لدينهم فتحركوا.
هذا هو الموجود في بلاد النصارى منذ زمن بعيد، وهو -أيضاً- موجود بصورة عكسية في بلاد المسلمين، بمعنى قد تجد في مجتمع ما من مجتمعات المسلمين أناس لا يصلون وصلته بالدين واهية، ويمكن يسخر من المتدينين، لكن لو جاء قوم من الكفار وأغاروا على هذا الحي أو على هذا البلد المسلم، لربما كان هذا الإنسان الذي لا يصلي من ضمن المدافعين، حمية لإخوانه وبني عمه وللمسلمين معه وللناس الذين عاش معهم، لكن صلته بالدين واهية جداً، أثر بعد عين.(18/30)
الموقف الصحيح من اختلاف أقوال العلماء
السؤال
ما هو الموقف الصحيح من اختلاف أقوال العلماء، هل هو الثقة بالشيخ أم ماذا؟
الجواب
هذا موضوع طويل سبق أن تكلمت عنه في أكثر من محاضرة، لكن باختصار هذا يختلف من إنسان لآخر، فمثلاً طالب العلم الطريقة الصحيحة هي أن ينظر في الأقوال والأدلة والراجح والمرجوح ويصل فيها إلى نتيجة، أما العامي فلا شك أنه لا يتمكن من ذلك ولا يستطيعه، حتى لو كان متخصصاً في فن آخر، لكنه عامي بالنسبة لأمور الشرع وغير قادر على معرفة الأدلة، ولا الوصول إلى مظان البحث في الكتب، فإن هذا ينظر إلى من يثق بعلمه ودينه ويقلده، وينبغي له أن يسأله عن الدليل فيما أفتاه به.(18/31)
كيفية التعامل مع من يطرح قضايا الشرع يريد سوءً
السؤال
تعود البعض وبطريقة استفزازية التحدث في أمور الشرع، وطرح قضايا التكسر العلمي والفكري في مسار الأمة العام عن طريق مقالة صحفية كثيرة ومثيرة، ومن خلال المتابعة أقول: إنها تمثل طعنة في خاصر المستقبل الحضاري للأمة.
سؤالي: كيف يتعامل الشباب مع هذه الجراثيم؟
الجواب
هذه فعلاً طعنة، ولكنا مع ذلك ينبغي أن نثق أن الأمة ماضية في طريقها، وأن هؤلاء لن يضروا إلا أنفسهم، ولن يضروا الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين، وأما الحل فبالنسبة لهذا الأشياء لا بد من مقاومتها، وبيان وجه الحق فيها بأسلوب علمي مترفع عن الإسفاف والتهجم، أو النيل والسب لفلان أو علان، فقضيتنا قضية الحق والباطل، وليست قضية شخص يذهب ويجيء، هذا لابد منه أولاً.
ولابد أن نصبر ونصابر كما صبر أولئك؛ بل أعظم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] ، ولا بد أن تسعى الأمة من خلال المختصين، ومن خلال الجامعات الإسلامية، والكليات الشرعية إلى إيجاد الكوادر الكافية التي تحتاجها الأمة، وتستطيع أن تغطي حاجتها.
لقد أتينا إلى بعض البلاد العظيمة التي يكون عدد المسلمين فيها يزيد على مائة وخمسين مليون، فوجدنا هذا البلد الواسع لا تكاد تجد فيه من العلماء المعروفين إلا من يعدون على أصابع اليد الواحدة.
وهذا نقص خطير جداً؛ لأن كل فرد منا محتاج إلى شريعة الله حتى في ذات نفسه، فما أحوجنا إلى أن يُنتدب وينبرى لطلب العلم الشرعي وتحصيله، وتقديمه للناس -أيضاً- لأن بعض من يملكون شيئاً من ذلك أصابهم قدر كبير من حب العافية وإيثار السلامة، وحب الخمول والبعد عن الأضواء تواضعاً وزهداً، فظلموا أنفسهم وأمتهم {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .(18/32)
خطر الطعن في العلماء
السؤال
هناك من يتحدث عن العلماء، ويتصيد لهم الأخطاء والزلات، فهل من ردٍ شافٍ من فضيلتكم على هذا؟
الجواب
الحديث عن علماء الأمة، هو في الواقع طعن للأمة كلها، وطعن للأمة ذاتها؛ لأن أولئك الذين يتحدثون عن علماء الشريعة إنما يقصدون الحيلولة بين الأمة وبين دينها؛ وذلك لأن الأمة لا تستطيع الوصول إلى حقيقة دينها، إلا من خلال أولئك الهداة المرشدين الذين أقامهم الله تعالى حجة على العالمين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بقائهم إلى يوم يقوم الدين، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} .
فمحاولة النيل من هؤلاء العلماء هي في الواقع محاولة للنيل من الدين، وذلك لأن هناك فئة من الناس إما لجبنها أو خوفاً من الأمة لا تستطيع أن تنال الدين ذاته أو تمسه أو تتكلم فيه، فهي تبجل الدين ظاهراً، وتعظمه وتنطلق منه، ولكنها تنال من حملته، الذين إذا انفصلت الأمة عنهم، فقد انفصلت عن حقيقتها وظلت عن طريقها، وأصبحت ألعوبة في يد كل من هب ودب ودرج؛ ولذلك فإن النيل من العلماء من أخطر الأشياء أياً كان مستوى هذا النيل.
وفي الحقيقة إن الذين ينالون من علماء الأمة ليسوا فئة واحدة، بل هم فئات -مع الأسف- كثيرة، فمنهم من ينال من العالم لعلمه وفقهه، ومنهم من ينال منه لمواقفه، ومنهم من ينال منه لقوته في الحق، وهؤلاء وإن كانوا يصدرون مصادر شتى، إلا أنه يجمعهم هم واحد، وهو محاولة إسقاط مكانة أهل العلم وأهل الفتيا، والمعرفة بدين الله تعالى وشرعه، وهم لا شك كناطح صخرة يوم ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل الناس ينزعجون حينما يرون قالة في عالم أو في علماء، انتشر في بعض الفئات أو في بعض الأوساط، وهذا في الواقع أمرٌ لا يزعج؛ لأن الحق لا بد أن يحصحص يوماً من الأيام، والناس قد يتلقفون قالة تظهر، ويأخذها هذا عن هذا ويتحدثون، لكن دعك من انتشاره في وقت محدد لأنك لو نظرت إلى الأيام والليالي لوجدت أنه على الأيام لا يثبت بإذن الله تعالى في هذا الأمر إلا ما يكون فيه دعم مكانة العلماء وحفظهم وصيانتهم عن كل من أرادهم بسوء {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] .(18/33)
الفرق بين كتمان العلم وإظهار الحق
السؤال
ما هو الضابط بين كتمان العلم والجرأة عليه؟
الجواب
كتمان العلم والجرأة عليه هما أمران متقابلان، فإن الجرأة تعني إظهاره، وكتمانه أي: إخفاؤه، فهما أمران متقابلان، لكن الإنسان على كل حال مطالب بإظهار العلم، كما قال الله عز وجل: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حق للأمة كلها، فمن حق الأمة أن تعرف أحكامها ومعانيها وحلالها وحرامها، لكن قد يحدث أحياناً ظرف ربما يستدعي السكوت عن بعض الحق لمصلحة راجحة، لأن الإنسان قد يرى لو نطق بهذا الحق أنه يترتب عليه مفسدة أعظم من مفسدة السكوت.
فهنا تأتي قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد، فسكوتك عن الحق هو مفسدة، لكنك لو قدرت أن نطقك بالحق قد يترتب عليه مفسدة أعظم من مفسدة السكوت فحينئذ لا شك أن السكوت يكون أولى تحصيلاً للمصلحة.(18/34)
وقفات في شهر رمضان
تحدث الشيخ -حفظه الله- عن بعض الأمور التي يحتاجها الصائم، فوقف ثلاثين وقفة في مطلع شهر رمضان بين فيها فضل هذا الشهر الكريم وأهمية التزود من فضائله ونفحاته، لأن تزكية النفس في شهر رمضان مطلب كل مسلم لا سيما أن للقرآن فيه طعماً خاصاً ولذة قاهرة ومعاني أصلية، ويعيش المرء فيه مع الله.(19/1)
وقفة مع آية الصيام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: هذا هو المجلس السابع في سلسلة الدروس العلمية العامة، وينعقد في ليلة الإثنين، التاسع والعشرين من شهر شعبان لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة، ومن المحتمل أن تكون هذه الليلة هي آخر ليلة في شهر شعبان، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا للصيام والقيام، وأن يوفقنا للتوبة النصوح، وأن يجعل ما نستقبل من أيامنا خيراً مما استدبرنا، إنه على كل شيءٍ قدير.
أيها الإخوة الأكارم: درسنا هذه الليلة درسٌ جديدٌ تحت عنوان: (عشر وقفات في مطلع شهر رمضان) فاعتباراً من هذه الليلة، وعلى مدى شهر رمضان المبارك، فسوف تكون الدروس -إن شاء الله- دروساً أو جلسات رمضانية، نتحدث عن بعض الأمور التي يحتاجها الصائم، وفي هذه الليلة لنا عشر وقفات في مطلع هذا الشهر، وبإذنه تبارك وتعالى في الأسبوع القادم لنا عشر وقفات أخرى، فالوقفات في الأصل عشرون لكن نأخذ منها الليلة عشراً، وسيكون موعد الدرس -إن شاء الله- بعد صلاة التراويح في هذا المسجد في ليلة الإثنين، أي في مثل هذه الليلة من كل أسبوعٍ إن شاء الله تعالى.
الوقفة الأولى -أيها الإخوة- هي وقفة مع النص القرآني.(19/2)
الأصل في وجوب صيام رمضان
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:183-184] فهذه الآية أصل في وجوب صيام رمضان، ولذلك أجمع أهل العلم كافةً على أنه يجب على كل مسلم أن يصوم شهر رمضان، ومن أنكر وجوبه أو جحده فهو كافر مرتد؛ إلا أن يكون جاهلاً حديث عهد بإسلام فيعلَّم، فإن أصر على جحوده فإنه يكون كافراً؛ وذلك لأنه ثابت بنص القرآن {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض وأوجب وألزم عليكم.(19/3)
الصيام فرض على من كان قبلنا
قال الله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] وفي هذا تسلية للمؤمنين، وإشعارٌ لهم بأن الله عز وجل قد فرض هذا الفرض على من كان قبلهم من الأمم الكتابية السابقة، فلكم فيهم أسوةٌ وقدوة، فلستم أول من فرض عليه الصيام، وفي هذا من تخفيف وطأة الصوم ما فيه، فإن الإنسان إذا عرف أن هذا درب سلكه قبله الصالحون من الأنبياء وأتباعهم عبر القرون؛ فإنه يفرح بذلك ولا يستثقله.(19/4)
العلة من الصيام
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183] إشارة إلى العلة والحكمة من مشروعية الصيام، وهي تحقيق التقوى للصائم {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] فهي قليلة بالقياس إلى السنة، فإنها شهر من السنة فهي أياماً معدودة قليلة ليس فيها على الإنسان مشقة ولا ثقل، إلى آخر الآيات.(19/5)
أصناف الناس في رمضان
الوقفة الثانية: أصناف الناس في رمضان.
والناس في استقبالهم لرمضان على صنفين:(19/6)
أناس فرحون
الصنف الأول من الناس: من يفرحون بهذا الشهر، ويسرون بقدومه، وذلك لأسباب: أولاً: لأنهم عودوا أنفسهم على الصيام، ولهذا تجدون في السنة النبوية -مثلاً- استحباب صيام أيامٍ كثيرة، كالإثنين والخميس وأيام البيض ويوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء مع يوم قبله أو يوم بعده، وصيام شعبان، وغير ذلك من الأشياء التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ حتى يعتادوا الصيام ولا يصبح الصيام غريباً عليهم.
ولذلك تجدون أن الذي يصوم النفل، وعلى الأقل يصوم أيام البيض -مثلاً- لا يستثقل صيام رمضان، بل يعتبر صيام رمضان بالنسبة له أمراً طبيعياً لا تكلف فيه ولا ثقل، لكن الإنسان الذي لا يصوم، لا ستاً من شوال ولا الأيام البيض ولا غيرها؛ فإنه يحسب لرمضان حساباً ويجد فيه شيئاً من الثقل والمشقة؛ لأنه لم يعود نفسه على الصيام.
ولذلك ينقل عن السلف رضي الله عنهم من ذلك شيء عجيب.
يروى أن قوماً من السلف باعوا جارية لهم فاشتراها رجل، فلما أقبل رمضان بدأ يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال شهر رمضان -كما يصنع الناس في هذا الزمان- فقالت لهم: لماذا تصنعون هذا؟! قالوا: نصنعه لاستقبال رمضان.
قالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان! والله لقد جئت من عند قومٍ السنة عندهم كأنها رمضان، لا حاجة لي إليكم ردوني إليهم.
فرجعت إلى سيدها الأول.
ويروى أن الحسن بن صالح وكان من الزهاد العباد الورعين الأتقياء، كان يقوم الليل هو وأخوه وأمه أثلاثاً، يقوم ثلثاً ويقوم أخوه ثلثاً آخر وتقوم أمه الثلث الباقي، فلما ماتت أمه تناصف هو وأخوه الليل، فصار يقوم نصفه ويقوم أخوه النصف الآخر، فلما مات أخوه نقل عنه أنه كان يقوم الليل كله.
قيل: إن الحسن بن صالح هذا باع أمةً له، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد، قامت في وسط الدار وصاحت: يا قوم، الصلاة الصلاة، فقاموا فزعين، وقالوا: هل طلع الفجر؟! قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!! فلما أصبحت رجعت إلى سيدها، وقالت: لقد بعتني على قوم سوء، بعتني على قومٍ لا يصلون إلا الفريضة، ولا يصومون إلا الفريضة، لا حاجة لي إليهم ردوني ردوني، فردها.
إذاً: إذا اعتاد الإنسان على الصيام لم يجد في صيام رمضان ثقلاً ولا مشقةً، وهذا من أسباب فرح المؤمنين بشهر الصوم، حيث يصومون فيه شهراً كاملاً، ويوافقهم الناس كلهم على صيام هذا الشهر.
الأمر الثاني من أسباب رغبتهم فيه وفرحهم به: أنهم يعرفون أن الامتناع من اللذات في هذه الدنيا سببٌ لحصولها في الدار الآخرة، فإن امتناع الصائم عن الأكل والشرب والجماع، وسائر المفطرات في نهار رمضان طاعةً لله عز وجل، يكون سبباً في حصوله على ألوان الملذات في الجنة، فلقوة يقينهم بذلك يفرحون بهذا الشهر الكريم، والعكس بالعكس، فإن الإنسان الذي يقبل على الملذات المحرمة في الدنيا يكون هذا سبباً في حرمانه منها يوم القيامة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة} وإنما لم يشرب الخمر في الآخرة -أي وإن دخل الجنة- عقاباً له على تمتعه بخمرة الدنيا، وهي خمرةٌ محرمة حرم الله على عباده المؤمنين أن يتعاطوها، وقد ورد في حديث آخر أيضا: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة} .
السبب الثالث: أنهم يدركون أن هذا الشهر من أعظم مواسم الطاعات والتنافس في القربات: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ويعلمون أن الله عز وجل يجري فيه من الأجور ما لا يجري في غيره من الشهور، ولذلك يفرحون بقدومه فرح الغائب بقدوم غائبه وحبيبه، وهؤلاء لا شك همُ المؤمنون الصادقون، نسأل الله أن يجعلنا منهم.(19/7)
قومٌ كارهون
وفي مقابل ذلك تجد طائفةً أخرى من الناس يستثقلون هذا الشهر الكريم، ويستعظمون نزوله بهم إذا نزل، فهو كالضيف الثقيل، ثم يعدون أيامه وساعاته ولياليه، وهم يعيشون على أعصابهم، ويفرحون بكل يومٍ يمضي وليلة تفوت، حتى إذا قرب العيد بدأت قلوبهم ترفرف فرحاً بقرب خروج هذا الشهر، وذلك لأنهم لم يقدروه حق قدره؛ لأنهم أولاً: اعتادوا على اللذات، والشهوات، من التوسع في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، وغيرها فضلاً عن اللذات المحرمة، فوجدوا في هذا الشهر مانعاً وقيداً يحبسهم ويحول بينهم وبين لذاتهم؛ فاستثقلوه واستطالوا أيامه ولياليه.
ثانياً: لأنهم قومٌ عظم تقصيرهم في الطاعات، حتى إن منهم من لا يؤدي الصلاة، ومنهم من يقصر كثيراً في حقوق الله، فإذا جاء هذا الشهر التزموا ببعض العبادات، فوجدتَ كثيراً من الناكثين القاسطين المقصرين بدءوا يترددون على المساجد، ويشهدون الجمع والجماعات إلى غير ذلك، فيستثقلون هذا الشهر؛ لأنهم يلتزمون فيه ببعض الطاعات التي قصروا فيها في غيره.
لذلك يذكر المؤرخون -كـ ابن رجب وغيره- أن ولداً لـ هارون الرشيد كان غلاماً سفيهاً، فلما أقبل رمضان ضاق به ذرعاً وبدأ يقول: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر فهو يدعو على رمضان ويقول: عسى ألا أصوم شهراً بعده آخر الدهر، ولو كان يمكن أن أستعين بالناس على هذا الشهر لأتغلب عليه لاستعنت بهم، قال: فأصيب بمرض الصرع، فكان يصرع في اليوم عدةَ مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر بعد ما قال ما قال.
وهكذا الذين يستثقلون رمضان لأنهم سيفارقون فيه مألوفهم من الشهوات، ويلتزمون ببعض العبادات، إضافةً إلى ضعف يقينهم بما أعد الله تبارك وتعالى للمؤمنين، فإنهم لا يدركون فضل هذا الشهر ولا يتصورون عظمة الأجر المكتوب لهم، فيه فلا يجدون فيه من اللذة والفرح والسرور ما يجده أصحاب الإيمان.(19/8)
من معاني الصيام
الوقفة الثالثة: من معاني الصيام.
وللصيام -أيها الإخوة- معانٍ ومقاصد عظيمة لو تأملناها لطال عجبنا منها:(19/9)
الاستسلام والاستشعار للعبودية
المعنى الثالث من معاني الصيام: الاستسلام لله تعالى.
وذلك بأن تشعر بأنك عبد فعلاً، والعبودية لله هي كمال الحرية، ولذلك يقول عياض رحمه الله: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فهو يعتبر أن من أعظم الشرف أنه مخاطبٌ بقول الله تعالى: يا عبادي.
ويقول الآخر: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا إذاً: كمال الحرية في كمال العبودية لله جل وعلا، والصوم يربي العبد على العبودية، وانظر كيف، يقول لك الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة:187] فيكون في هذا أمر لك بالأكل، فتجد أن من العبادة أن تأكل، ولذلك يستحب للإنسان أن يأكل -مثلاً- عند السحور وعند الإفطار كما هو معروف، ويكره له الوصال؛ بحيث يواصل الإنسان يوماً أو يومين فلا يفطر بينهما، فتكون العبادة حينئذٍ بأن تأكل وتشبع شهوتك من الأكل والشرب، وفي وقتٍ آخر يأمرك الله عز وجل بضد ذلك فيقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فتمسك من طلوع الفجر إلى الليل، عن الأكل والشرب وسائر المفطرات طاعة لله عز وجل، فتتربى حينئذٍ على العبودية الحقيقية لله، إذا قال لك: كل فإنك تأكل، وإذا قال لك: اشرب فإنك تشرب، وإذا قال لك: صم وأمسك؛ فإنك تصوم وتمسك.
ففي هذا يتربى العبد على أن القضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة يتعاطاها؛ بل هي طاعة لله عز وجل، فإن أمرنا بالأكل أكلنا وإن أمرنا بالإمساك أمسكنا.
ولذلك تجد العبد -مثلاً- في صلاته أحياناً يقف، وأحياناً يركع، وأحياناً يسجد، وأحياناً يقعد، لأن هذا هو الأمر الذي أراده الله، وهذا هو التعليل.
وفي الإحرام مثلاً حين يحرم الإنسان ليس منهياً عن الأكل ولا عن الشرب، ولكنه منهيٌ عن الجماع ودواعيه، ومنهيٌ عن تغطية الرأس، وعن الطيب وعن تقليم الأظافر، وعن قص الشعر، وعن جميع ألوان الترفه، فيمتنع عن جميع هذه الأشياء ما دام محرماً؛ لأن الله تعالى هكذا أراد منا إرادة شرعية، لكن له أن يأكل، ولو امتنع المحرم عن الأكل والشرب لأنه محرم لكان مبتدعاً في ذلك.
فإذا انتهى إحرامه يقال له: مطلوبٌ منك الآن -وجوباً- أن تحلق أو تقصر رأسك، ومطلوبٌ منك أن تقلم أظفارك، وأن تتزين وتتطيب وتغتسل قال الله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] .
فهذه تربيةً على العبودية الحقيقية لله جل وعلا، يأمرك بالشيء فتمتثل ويأمرك بنقيضه فتمتثل أيضاً، وليس من الضروري أن ندرك علة أو حكمةً لهذا الأمر أو لذاك النهي، فالعلة والحكمة تتلخص في أن الله تعالى أمر فأطعنا وامتثلنا، ونهى فانتهينا وامتثلنا، وهذا هو معنى العبودية الحقيقية.(19/10)
تربية المجتمع
المعنى الرابع من معاني الصيام: تربية المجتمع.
ربما يكون الكثير منا -بل لعل الجميع- صام يوماً من الأيام نفلاً، إما أيام البيض أو يوم عاشوراء أو يوم عرفة، أو ما أشبه ذلك.
فما هي المقارنة بين صوم النفل وصوم الفرض؟ صوم النفل يتعب فيه الإنسان بعض الشيء ويجد شيئاً من المشقة، أما صوم الفرض فإن الإنسان يقول فيه: سبحان الله! كيف يسر الله تبارك وتعالى لنا الصوم، والله ما كأننا صائمين.
هكذا لسان الجميع، ما هو السبب؟ لا شك أن الله تعالى يعين العبد في فرض الصيام ونفله، وإن كانت الإعانة في الفرض أكثر، لكن الإعانة موجودة في الجميع، وإنما من أهم الأسباب -في نظري-: أن الله تعالى جعل صوم رمضان فرضاً على الجميع، ولذلك كلما تلفت الإنسان وجد أن المجتمع صائم، فأنت تخرج للسوق فتجد الناس صائمين، وتذهب لسوق الخضار فتجد الناس صائمين، وتدخل البيت فتجد أهل البيت صائمين، وتذهب إلى المدرسة فتجد زملاءك صائمين، وتذهب للعمل فتجدهم صائمين، فالكل صائم.
ولذلك يحس الإنسان بأن الأمر الذي يفعله هو أمر يفعله الجميع، وهذا لا شك مما يجعل الموضوع غير ثقيل على النفس، ولهذا فالإخوة الذين يصومون في مجتمعاتٍ مفطرة، كما يقع لبعض الذين يعيشون في بلاد الغرب، إما لمرض -عافانا الله وإياكم- أو لحاجة أو لضرورة، فإنهم يجدون مشقة عظيمة في صيام رمضان؛ لأن الناس مفطرون هناك، فهو يجد الناس يأكلون في كل مكان، ولا يراعى أن يكون صائماً، فهو مطالب بأن يعمل كما يعمل غيره، ويخرج كما يخرج غيره، ويدخل كما يدخل غيره، من غير مراعاة لكونه صائماً، فيجد في ذلك مشقةً عظيمة، كما حدثنا الإخوة الذين عاشوا هناك في شهر الصيام، لكن في المجتمعات المسلمة الصائمة لا يجد الإنسان هذه المشقة، وفي هذا تربيةٌ للمجتمع.
ولذلك رأينا -أيها الإخوة- بأعيننا أن الإنسان حين يذهب في شهر الصيام حتى للمجتمعات المنهمكة في الفساد، ولكن عليها آثار الإسلام وفيها بقايا الإسلام؛ يجد دخول الشهر الكريم مميز تماماً، فإذا دخل الشهر وجدت آثار رمضان ظاهرة على الجميع، حتى الفساق يظهر عليهم آثار الشهر الكريم، ففي ذلك تربية للمجتمع.
ولهذا تلاحظون دائماً أن الإسلام يُعنى عنايةً كبيرةً بإصلاح المجتمعات من الفساد -مثلاً- كحادثة فردية، فإن هذه الأخطاء الفردية واقعة في كل مجتمع لا بد منها، حتى المجتمع النبوي مجتمع الصحابة، وقع فيه حالات من الانحراف، وجد إنسان زنا وآخر سرق وثالث شرب الخمر مثلاً، لكن المشكلة حين تتحول هذه المنكرات إلى منكرات معلنة موجودة على الملأ، فتتلوث البيئة العامة، ويصبح الإنسان الذي يريد الخير قد لا يهتدي لأن المجتمع يضغط عليه، ولهذا -أيضاً- تلاحظون أن أعداء الإسلام حريصون على إفساد المجتمع وتلويث البيئة.
ولعلكم سمعتم -مثلاً- بما يسمى بالبث المباشر، وكثيراً من تُحدِثَ عن هذا الموضوع، وهو محاولة الدول الغربية أن ترسل بثاً تلفزيونياً إلى البلاد الإسلامية يكون مثل قنوات الراديو -تقريباً- بحيث يكون من الممكن في التلفاز أن يشاهد الإنسان أي محطة، وهذا ليس -كما يتصور البعض- أنه أمر قاب قوسين أو أدنى، لا شك أنه أمر فيه صعوبة وأمامه عقبات، لكنه أمر متوقع، فهم حين يفعلون ذلك وغيره كثير، يحاولون أن يلوثوا البيئة العامة حتى تفسد وتنحرف؛ بحيث أن الذي يريد الصلاح لا يصلح لأن المجتمع يعارضه، فهو إن صلح يصبح ضد التيار كما يقال.
وهذا من أعظم مقاصد الصيام، أن الله عز وجل يربي المجتمع الإسلامي بالصيام، بحيث يتحول إلى مجتمعٍ صائم، ولذلك تجد الصغار عندنا يصومون، وتجد الفساق يستترون، وتجد الكفار لا يستطيعون أن يعلنوا الأكل والشرب في الأسواق وعلى الملأ، لأن المجتمع يفرض عليهم هذا الأمر.(19/11)
التربية على التطلع إلى الدار الآخرة
المعنى الثاني من معاني الصيام: أنه يربى العبد على التطلع إلى الدار الآخرة، وذلك لأن الناس موازينهم دنيوية في الغالب، فإذا أراد الإنسان -مثلاً- أن يشتري صفقة أو يبيع؛ فإنه يجري عملية حسابية لينظر هل هذه الصفقة رابحة أو خاسرة، وبناءً على ذلك يتصرف على حسب ما تصل إليه حساباته، فهم يقيسون بالأمور الدنيوية البحتة؛ لكن المؤمن عنده مقياس آخر وهو أنه يدرك أن هناك داراً آخرة فيها حساب، ولذلك قد يتخلى عن بعض الأشياء الدنيوية تطلعاً إلى ما عند الله.
فمثلاً: بمقياس الماديين فإن الأكل يقوي الجسم، وفيه تحصيل للذة، والشبع، والسعادة، والشرب كذلك، وإتيان النساء كذلك، لكن المؤمن عنده مقياس آخر: أن هذه الأشياء وإن كانت تحقق بعض ما ذكر، إلا أن هناك مقياساً آخر وهو مقياس الآخرة.
فإذاً من الممكن أن يترك المؤمن -مثلاً- الأكل لأنه ينتظر أن يجازى على هذا الترك في الآخرة وليس في الدنيا، ويترك الشرب لذلك ويترك المحرمات لذلك، فيتربى في قلبه الإيمان بالدار الآخرة، التي هي في الحقيقة دار الجزاء والحساب.
أما ما يلقاه المؤمن في هذه الدنيا من النعيم بسبب الطاعة، فإنما هو عربونٌ فقط، فما تجده -مثلاً- من أثر الصوم في الدنيا، من الصحة والسعادة، والفرح، … إلى آخره، إنما هو عربون، والجزاء الحقيقي والثمن الحقيقي لهذا العمل إنما تجده في الدار الآخرة، فيربي الصوم الإنسان على التطلع إلى الدار الآخرة التي فيها الجزاء الحقيقي، وفيها نهاية المطاف، وليست نهاية المطاف في هذه الدار الدنيا.(19/12)
ارتباط الصيام بالإيمان الحق بالله سبحانه
أولاً: من معاني الصيام: أنه مرتبط بالإيمان الحق بالله جل وعلا.
ولذلك جاء أن الصوم عبادة السر، لأن الإنسان بإمكانه ألا يصوم لو شاء، حتى لو لم يأكل ولم يشرب، فمجرد فقد النية يكفي في ألا يصوم الإنسان، فإن من شرط الصوم -خاصةً صوم الفرض كما سيأتي-: النية.
فلو لم ينو الإنسان الصيام حتى لو ظل ممسكاً طيلة نهاره فإنه ليس بصائم، فالصيام قضية قلبية بين العبد وبين ربه، فكون الإنسان يمتنع عن الأكل والشرب وسائر المفطرات، على رغم أنه يستطيع أن يصل إليها في خلوة وبعد عن أعين الناس، دليل على أنه يتعامل مع ربٍ يؤمن به، ويعلم أنه مطلع على سرائره وخفاياه ولذلك يمتنع، ففي هذا تربية لقوة الإيمان بالله جل وعلا.
وقل مثل ذلك في سائر العبادات، انظر -مثلاً- إلى الوضوء أمر إلى الغسل، فكون الإنسان يتعمد أن يتوضأ ويغتسل ليرفع حدثه الأصغر والأكبر، فلولا إيمانه بالله جل وعلا، وأن الله رقيبٌ عليه؛ لما كان يفعل ذلك.
وانظر إلى الصلاة، فكون العبد يقول وهو قائم: " الحمد لله رب العالمين "، أو يقول وهو راكع: سبحان ربي العظيم، أو يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأعلى، أو يقول بين السجدتين: رب اغفر لي، أو يقول في التشهد: التحيات لله، والرجل الذي إلى جواره لا يسمعه، فلو لم يكن مؤمناً بإله يراقبه ويعلم حتى همسات لسانه ووساوس قلبه وخواطره، فلو لم يكن مؤمناً بهذا الرب؛ لما دعا وذكر الله عز وجل سراً، في حين أن جاره في الصلاة قد لا يسمع همساته وكلماته.
إذاً فالصوم من أعظم معانيه: تربية الإيمان بالله العليم الخبير المطلع على العبد في سره ونجواه: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] .(19/13)
فضائل الصيام
الوقفة الرابعة: فضائل الصيام.(19/14)
خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
ومن فضائل الصوم: أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.
وخلوف فم الصائم هي الرائحة التي تخرج من الفم، وهي في الواقع من المعدة، لكن تخرج عن طريق الفم في آخر النهار، بسبب خلو المعدة من الطعام، وهي رائحة مكروهة للخلق؛ لكنها محبوبةٌ للخالق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} وفي صحيح مسلم: {أطيب عند الله تعالى يوم القيامة من ريح المسك} وفي هذا دليل على أنه لا بأس أن يتسوك الإنسان بعد الزوال.
وهذا هو الرأي الراجح والصحيح في المسألة؛ بل يستحب للإنسان أن يستاك بعد الزوال ولو كان صائماً، فيستاك عند الصلاة وعند الوضوء، ويستاك عند دخول المنزل، وعند الاستيقاظ من النوم إلى غير ذلك من المواضع التي يستحب فيها السواك، لأن الخلوف هذا -أولاً- ليس من الفم وإنما هو من المعدة، وثانياً: أنه أطيب عند الله تعالى يوم القيامة من ريح المسك.
وقد ورد في أثر إسرائيلي: إن الله عز وجل لما أمر موسى أن يأتي إليه، أمره أن يصوم ثلاثين يوماً فصام ثلاثين يوماً، فلما انتهى منها وجد رائحة الخلوف في فمه فكأنه أفطر أو استاك، فأمره الله عز وجل أن يصوم عشرة أيام بعدها، وقال له: يا موسى، أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك.
فأتمها الله تعالى عشرة أيام، فتم ميقات ربه أربعين ليلة.
المهم أن من فضائل الصوم: أن خلوف فم الصائم -وهو أمر مكروه للخلق- أطيب عند الله تبارك وتعالى من ريح المسك، وهكذا جاء في الحديث عن دم الشهيد - مع أن الدم بحد ذاته أمر مستقبح مستقذر، بل هو نجس عند أكثر الفقهاء، لكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يدمي، اللون لون الدم والريح ريح المسك} .
ولذلك فإن بكاء المذنبين بين يدي الله عز وجل، هو من أعظم السرور لهم والقربى إلى الله عز وجل، وربما يكون-أحياناً- خيراً من كثير من العبادات والطاعات التي يدل بها العبد ويستعظمها، ويعتبر أنه فعل من جرائها شيئاً عظيماً، بخلاف المنكسرين الباكين بين يدي ربهم، فإن قلوبهم منكسرة، ولذلك ورد في أثرٍ -وإن كان ليس بالقوي- أن الله عز وجل قال لبعض رسله وأنبيائه حين قالوا: أين تكون يارب؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.
ولهذا لا أعظم من الدعاء؛ لأن الدعاء يتحقق فيه انكسار العبد، وافتقاره إلى الله جل وعلا، وخاصةً إذا كان دعاءً عن ضرورةٍ وعن اضطرار: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62] .(19/15)
الصوم كفارةٌ للذنوب
ومن فضائله: أنه كفارةٌ للذنوب ومغفرة.
ولذلك قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فالصوم فيه حسنات كثيرة، والحسنات تذهب السيئات، فكل عمل صالح فهو سببٌ في مغفرة الذنوب وستر العيوب وتجاوز الله تبارك وتعالى عن العبد، ولكن ورد في الصوم خاصةً أحاديث كثيرة: منها: حديث حذيفة المتفق عليه، بل رواه الستة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة} أي: أن ما يحدث منك من أخطاء، سواء أكانت كلمة نابية، أم اعتداءً أم إيذاءً لأهلك أم خطأ عليهم، أم في مالك، أم في جيرانك، أو ما أشبه ذلك من الصغائر، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة.
وفي الحديث المتفق عليه -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} أي: إيماناً بالله عز وجل، واحتساباً لأجر الصوم، ومعرفة بما أعد الله تبارك وتعالى للصائمين، فهو يصوم ويتوقع الأجر الذي سيعطاه على هذا الصيام، غفر له ما تقدم من ذنبه.
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر} .
فالصوم مكفر لما قبله بشرط اجتناب الكبائر، فإن جمهور علماء أهل السنة وجمهور علماء السلف على أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة؛ وإنما الصوم والصلاة وغيرها تكفر صغائر الذنوب، ولذلك قال الله عز وجل (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] .(19/16)
الصوم سبب للسعادة في الدارين
ومن فضائل الصوم: أنه سبب للسعادة في الدارين.
ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره وفرحةٌ عند لقاء ربه} أما فرحة الصائم عند فطره فهي فرحةٌ دنيوية وفرحةٌ عاجلة، وهي سعادة لأن السعادة في الحقيقة هي فرح القلب، فالذين يبحثون عن السعادة لا يجدونها إلا في طاعة الله تعالى وتقواه، وهذا نموذج للسعادة.
فالذي يفطر يفرح عند فطره، وفرحه يكون من وجهين: الأول: فرحه بأن الله تعالى أباح له الأكل والشرب، والنفس مجبولة على حب الأكل والشرب، ولذلك تعبدنا الله تبارك وتعالى بتركهما، كما يترك الإنسان الجماع، مع أنه يرغبه وقد ركب في طبعه وجبلته، فيتركه طاعة لله تعالى، فإذا أذن له في ذلك فرح بأنه سوف يأكل ويشرب.
والأمر الآخر الذي يفرح به، وهذا فرح أعلى وأسمى من الفرح الأول: أنه يفرح لأن الله تعالى وفقه لإتمام صيام ذلك اليوم، فيفرح بإكمال هذه العبادة وإتمامها على الوجه المطلوب، فهو فرح من الوجهين.(19/17)
الصوم سبيل إلى الجنة
الفضيلة الثالثة: إن الصوم سبيل إلى الجنة.
ولذلك روى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، أنه قال: {يا رسول الله دلني على عملٍ يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك بالصوم فإنه لا مثل له} فبين أنه لا شيء يقرب العبد من الجنة ويباعده من النار مثل الصيام.
بل إن في الجنة باباً خاصاً للصائمين، كما في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة باباً يقال له الريان} ولاحظ اسم الباب، فإنه يتناسب مع صفة الصائم، فإن الصائم يصيبه العطش والجوع في سبيل الله؛ فجوزي بأن يدخل من باب الريان، والجزاء من جنس العمل: {إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد غيرهم} فهذا جزاء الصائمين.(19/18)
الصوم شافع مشفع
الفضيلة الرابعة: أن الصوم شافع مشفع في الصائم.
ولذلك روى الإمام أحمد والحاكم بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {القرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: يا رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه.
ويقول القرآن: يا رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال عليه الصلاة والسلام: فيشفعان} .
فالأعمال التي يعملها العبد في هذه الدنيا لا مانع أن تكون يوم القيامة أشياءً حسية تشفع للعبد، وتتكلم وتوزن إلى غير ذلك مما ورد في النصوص الشرعية، وهاهنا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم يكون ذاتاً يوم القيامة يتكلم ويقول: يا رب منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه، فيشفع الصوم في صاحبه، سواء أكان صوم فرضٍ أم كان صوم نفل.(19/19)
الصوم جنةٌ عن الشهوات
ثانياً: الصوم جنة عن الشهوات.
ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب بالزواج، وإذا لم يستطيعوا أرشدهم إلى الصيام، وبين عليه الصلاة والسلام أن الصوم وجاء يمنع الشهوة أن تتحرك وتبلغ مبلغها في الإنسان.
فإلى الشباب الذين يشتكون من الشهوات -وهم كثيرٌ خاصة في هذا العصر المليء بالمغريات، فالشاب -مثلاً- يشتكي أنه إن خرج إلى السوق وجد النساء المتبرجات، وإن دخل البقالة وجد المجلات التي فيها صور النساء الكاسيات العاريات، وإن ركب في السيارة سمع الغناء، وإن ركب الطائرة كذلك، وإن ذهب أو دخل أو خرج وجد الشهوة والفتنة تلاحقه في كل مكان، مع ما جبل عليه وركب من الشهوة الغريزية التي تتحرك في نفس كل إنسان، ومع ضعف الرادع والوازع عند الكثيرين- إلى هؤلاء الشباب نهدي هذه النصيحة النبوية: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} وهذا طب نبوي للذين يشتكون من الشبق وشدة الشهوة، وقد جرب هذا الطب فوجد أنه علاج ناجع ودواءٌ نافع، وهو كافٍ عن غيره من العلاجات والأدوية المادية، إضافة إلى أدوية أخرى شرعية في هذا المجال.(19/20)
الصوم جنةٌ من النار
أولاً: الصيام جنةٌ من النار.
كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الصوم جنة يستجن بها العبد من النار} وفي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} .
إذاً: فالصوم جنة ووقاية من النار، وكلما صام العبد بعد عن النار، فإذا كان من صام يوماً أبعد سبعين خريفاً -أي سبعين عاماً- فما بالك بمن يصوم شهراً، وما بالك بمن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما بالك بمن يصوم أكثر من ذلك! لا شك أنه أبعد ما يكون عن النار.(19/21)
فضائل شهر رمضان
الوقفة الخامسة: فضائل الشهر الكريم، شهر رمضان.
وما سبق إنما هو فضائل الصيام فرضاً أو نفلاً، أما فضائل رمضان فهي:(19/22)
ليلة القدر
ومن فضائل هذا الشهر الكريم: أن فيه ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر قال الله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] وقد حسب بعض أهل العلم ألف شهر، فوجدوها تزيد على ثلاث وثمانين سنة، وقد ورد في موطأ مالك بسند مرسل، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُري أعمار أمته فكأنه تقالها بالنسبة إلى أعمار الأمم الأخرى، فأعطي ليلة القدر، وهي خيرٌ من ألف شهر؛ تعويضاً عن قصر أعمار أمته عليه الصلاة والسلام، فإذا أدرك العبد ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، فمعنى ذلك أنه أدرك فضل ثلاث وثمانين سنة، وهذا فضل عظيم لا يقدر قدره إلا الله جلا وعلا.(19/23)
في رمضان دعاء مستجاب
ومن فضائل شهر رمضان: أن فيه دعاءً مستجاباً.
ولذلك روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه بسند جيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل مسلمٍ دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان} .
وقد ورد في أحاديث عديدة أن هذه الدعوة عند الإفطار، فليحرص العبد عند إفطاره على أن يستجمع جوامع الدعاء ويدعو بها، وسأتحدث -إن شاء الله- عن جوامع الدعاء في الوقفات القادمة بإذنه تعالى.(19/24)
تغلق فيه أبواب النيران
ثالثاً: من فضائل شهر رمضان: أنه تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتصفد فيه الشياطين ومردة الجن، كما جاء في الحديث المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا جاء رمضان غلقت أبواب النيران وفتحت أبواب الجنة وصفدت الشياطين} وفي لفظ: {وسلسلت الشياطين} أي: جعلت في الأصفاد والسلاسل، بحيث لا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غيره.
ولذلك تجدون أن وسوسة الشيطان وكيده وتلبيسه على الناس في رمضان أقل منه في غيره، بل إن الشيطان يخاف من رمضان كما يخاف من الأذان والإقامة فيولي، ولهذا تلاحظون -أيضاً- أنه قبل أن يدخل رمضان يبدأ الناس العصاة يستعدون للتوبة، وكثيراً ما يسأل الناس فيقول أحدهم -مثلاً-: أنا عندي مظلمة وأريد أن أخرج منها، أو عندي مال حرام وأريد أن أتخلص منه، أو عندي أمور لا ترضي الله أريد أن أتوب منها.
يقولون هذا قبل رمضان، ومعنى ذلك أن الشيطان يخاف من قدوم رمضان فيضعف كيده وتأثيره، فما بالك إذا دخل رمضان، وسلسل الشيطان وصفد بالأغلال، فإنه لا يكاد يصل إلى الناس إلا في أقل القليل من الذنوب والآثام.
إلا أن هناك أناسٌ أصبحت نفوسهم شريرةٌ؛ بسبب تقبلها لوسوسة الشيطان، فحتى حين يضعف تأثير الشيطان عليها فإنه يكون فيها شرٌ بذاتها، ولذلك لا تعجب أن تجد والعياذ بالله من الناس من يكون انحرافه في رمضان، فقد وقفت على أقوامٍ كان انحرافهم في رمضان، بل وربما في ليلة القدر ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وربما اجتمع فيها أقوامٌ على لهو وشرب وغناء وزنا -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهذا من مسخ القلوب وانسلاخها.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن(19/25)
رمضان شهر القرآن
أولاً: رمضان شهر القرآن قال الله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] وإنزال القرآن فيه، يحتمل أن يكون المعنى إنزاله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما جاء عن ابن عباس، ويحتمل أن يكون المعنى أنه ابتدأ فيه إنزال القرآن، إذ إن القرآن أول ما أنزل في ليلة تقابل ليلة القدر، وليلة القدر من رمضان، وقيل إن قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] يعني أنزل القرآن في مدحه وفضله والثناء عليه ووجوب صيامه، لكن القول الأول أقوى.(19/26)
رمضان شهر الصبر
ثانياً: رمضان شهر الصبر.
فإن الصوم نصف الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، وكما قال الله عز وجل في القرآن: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فإن الصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم، حيث يحبس الإنسان نفسه عن الأكل والشرب والجماع وغيرها، طيلة هذا الشهر الكريم.(19/27)
من أحكام الصيام
الوقفة السادسة: وقفة سريعة على بعض أحكام الصيام.
ولا شك أن الكلام عن أحكام الصيام يطول بل فيه مصنفاتٌ خاصة، ولذلك سأتحدث باختصارٍ وبسرعةٍ -أيضاً- عن بعض هذه الأحكام.(19/28)
المفطرات
والمفطرات هي: أولاً: الأكل والشرب والجماع.
فإذا تعمد الصائم شيئاً من هذه الأشياء فإنه يفطر بإجماع أهل العلم، وهي مذكورة في القرآن الكريم، ولذلك قال الله عز وجل: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]-أي: النساء بالجماع- {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فأجمع أهل العلم على أن الأكل والشرب والجماع، هي من المفطرات إذا تعمد الإنسان شيئاً منها، من غير إكراهٍ ولا نسيان.
ثانياً: من المفطرات -أيضاً-: القيء عمداً.
إفإذا استقاء الإنسان وتعمد أن يستفرغ ما في بطنه فإنه يفطر بذلك، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: {من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه} والحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب حقيقة الصيام: إنه حديث صحيح.
ومعنى الحديث: أن من تقيأ من غير إرادةٍ فخرج منه القيء من غير قصد فهذا لا قضاء عليه، لكن لو تعمد كأن أدخل أصبعه أو شم شيئاً عن عمدٍ ليتقيأ فإن عليه القضاء، كما أفتى بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.
ثالثاً: ومن المفطرات بالإجماع -أيضاً-: الحيض والنفاس، فإن المرأة إذا حاضت أو نفست فإنه لا يصح منها الصوم، ولذلك جاء في حديث عائشة: {كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة} فدل على أن الحائض لا تصوم ولا يصح منها ذلك.
هذه هي المفطرات المشهورة، ويدخل فيها ما كان في معناها، فمثلاً: يدخل في الأكل الإبر المغذية التي يستغني بها الإنسان عن الأكل والشرب، ويدخل في الجماع -من حيث أنه مفطر- الاستمناء عمداً بأي وسيلةٍ كانت فإنه يفطر ولا شك في هذا، ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف.
ومن أفطر، فإن كان إفطاره بالجماع في نهار رمضان؛ فإن عليه أربعة أمور: الأول: أن يمسك بقية اليوم؛ لأن هذا الفطر غير مشروع، فيمسك بقية اليوم فلا يأكل ولا يشرب شيئاً.
الثاني: التوبة لأن هذا إثمٌ عظيم، فهذا العمل كبيرة من الكبائر يجب التوبة منه.
الثالث: أن يقضي يوماً مكان اليوم الذي أفسده.
الرابع: الكفارة، وهي عتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يجد أطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت عنه الكفارة.
أما إن كان فطره بغير الجماع، بأكلٍ أو شربٍ؛ فإن عليه التوبة والاستغفار، وأن يقضي يوماً مكانه على الراجح من أقوال أهل العلم.(19/29)
الفطور
يستحب للإنسان أن يؤخر السحور ويعجل الفطر، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، الذي جاء من طرق عن العباس وغيره: {لا تزال أمتي بخيرٍ ما عجلوا الفطر وأخروا السحور} ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى يقول: أحب عبادي إلى أعجلهم فطراً} وفي صحيح مسلم [[أن عائشة سئلت عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما يؤخر الفطور ويؤخر الصلاة، والآخر يعجل الفطور ويعجل الصلاة، أيهما أفضل؟ فقالت: الذي يعجل الفطور ويعجل الصلاة أفضل]] .
فيستحب للعبد أن يعجل الإفطار بمجرد ما يتيقن غروب الشمس، ويفطر على رطب، فإن لم يجد أفطر على تمر، فإن لم يجد حسا حسواتٍ من ماء، كما ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه كان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء} والحديث رواه أبو داود، وأحمد، وابن خزيمة، والترمذي، وسنده صحيح.
ويستحب عند الإفطار أن يقول الصائم: الحمد لله، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى.
وهذا هو أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الإفطار، فقد رواه أبو داود والدارقطني، وقال الدارقطني: إسناده حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: {الحمد لله، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى} ولا يثبت في أدعية الإفطار إلا هذا، لكن للإنسان أن يدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة.(19/30)
النية
لا بد من النية في صوم الفرض، ولذلك روى أصحاب السنن، وابن خزيمة بسند صحيح، عن حفصة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل} .
فلا بد أن يبيت الإنسان الصوم من الليل، أي ينوي صوم الفرض من الليل، أما النفل فيجوز بنيةٍ من الليل أو النهار، فلو استيقظت بعد طلوع الشمس -مثلاً- ثم نويت صيام اليوم، فلا بأس بذلك إذا كان نفلاً، لكن الفرض لا بد له من نية من الليل.
وهاهنا أنبه إلى أمور: بعض الناس يوسوسون في النية، والوسواس في النية من أردأ وأحط أنواع الوساوس، فأنت مسلم عرفت أنه دخل رمضان، واستقر عندك نية أنك سوف تصوم جميع رمضان، وهذا يكفي.
التنبيه الآخر: إن قولنا من الليل، يمتد حتى طلوع الفجر، فلو فرض أن الإنسان نام ليلةً من الليالي ولم يعلم أن الليلة من رمضان، ثم استيقظ قبل الفجر بدقائق، وعلم أن الليلة من رمضان فشرب جرعة من ماءٍ ثم صام فإن هذا يكفي، وليس معنى تبييت النية أن ينام وفي نيته أن يصوم كما يتوهمه بعض الجهال.(19/31)
السحور
السحور أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المتفق عليه عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسحروا فإن في السحور بركة} وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر} أي: أن اليهود والنصارى كانوا لا يتسحرون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يتسحروا لمخالفة أهل الكتاب في ذلك.
فينبغي للإنسان أن يتسحر، ولو على شربةٍ من ماء إذا لم يجد غيرها أو لم يتمكن من غيرها.(19/32)
كيف يثبت دخول رمضان
أولاً: لا يثبت رمضان إلا بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، أو برؤية هلال رمضان، كما قال عليه الصلاة والسلام: {إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له} وفي لفظ: {فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً} ولا يتم بغير ذلك، ولهذا لا يعتمد -مثلاً- على الرؤى.
وقد ذكر العراقي في طرح التثريب، أن القاضي حسين وهو من فقهاء الشافعية، جاءه رجل فقال له: يا إمام أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام، فقال لي: إن الليلة من رمضان.
-انظروا تلبيس الشيطان، وانظروا كيف يكون الفقه- فقال له القاضي حسين: الذي تزعم أنك رأيته في المنام، رآه أصحابه في اليقظة وقال لهم: {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} إي: فلا عبرة بهذا الذي رأيته في المنام، ولم يأتك رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لبس عليك.
كذلك لا يجوز للإنسان أن يصوم احتياطاً لرمضان، فمن صام آخر يومٍ من شعبان احتياطاً لرمضان فهذا لا يجوز على الراجح، أما من صامه لأنه وافق يوماً كان يصومه، فلا حرج في ذلك، كما إذا صامه لأنه يوم الإثنين -مثلاً- أو أنه يصوم يوماً ويفطر يوماً فوافق يوم صومه، فلا حرج في هذا.(19/33)
رخص الصوم
الوقفة السابعة: رخص الصوم.
فإن في الصوم رخصٌ عديدة رخص الله تبارك وتعالى فيها لنا، منها:(19/34)
جواز الفطر في السفر
ومن الرخص: أن المسافر له أن يتمتع برخصة الله تعالى له في الفطر، فإن كان الصوم يشق عليه فالفطر أفضل له، حتى ولو كان مسافراً في سيارة مكيفة، أو مسافراً في طائرةٍ -مثلاً- أو غير ذلك، فإنه يجوز له أن يترخص برخص السفر.(19/35)
صحة صيام الجنب
ومن الرخص -أيضاً-: أن من أصبح جنباً فإنه يصوم ولا شيء عليه.
فمن أتى أهله أو احتلم في الليل، ثم طلع عليه الفجر قبل أن يغتسل، فالصحيح في ذلك أنه لا شيء عليه، ويصوم ويغتسل بعد ذلك، وينوي الصيام وهو جنب ولا حرج في هذا؛ خلافاً لما أفتى به أبو هريرة أول الأمر، فإن هذا كان ثم نسخ.(19/36)
السواك بعد الزوال والمضمضة والاستنشاق
من الرخص: السواك بعد الزوال -كما أسلفت- بل هو مستحب في مواضعه، ومن ذلك أيضاً المضمضة، والاستنشاق للصائم، ولكن يستحب ألا يبالغ فيها، لحديث لقيط بن صبرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} وفي بعض الروايات: {وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً} فيتمضمض الصائم ويستنشق للوضوء ولغيره، لكن لا يبالغ فيهما خشية أن يصل شيء من الماء إلى حلقه فيفطر بذلك.(19/37)
الأكل والشرب نسياناً
من أكل أو شرب ناسياً، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: {من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه} والراجح عند جمهور العلماء، أن من أكل أو شرب ناسياً فصومه صحيح ولا قضاء عليه، خلافاً لـ مالك رحمه الله؛ لكن ينبغي أن ينتبه إلى أنه لو فطن وفي فمه شيء فإنه ينبغي أن يلفظه ولا يتمه، فبعض الناس من العوام يتناقلون قصة الرجل الذي كان معه شيء من العنب فأكله وهو صائم ناسياً، فلما بقي له حبة تذكر أنه صائم فقال: إذا لم يفطرَّ هذا الكثير فهذه الحبة الواحدة لن تفطَّر فأكلها.
وهذا المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم قال: أفطر بها، وبعضهم قال: لم يفطر لأنه جاهل.
والصحيح أنه يفطر بذلك، فإذا تذكر وفي فمه شيء وجب أن يلفظه، وكذلك إذا رآه إنسانٌ يجب عليه أن يعلمه؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأيت من يأكل أو يشربُ في نهار رمضان ناسياً، فقل له: أنت صائم أو نحن في رمضان.(19/38)
أخطاء الصائمين
الوقفة الثامنة: أخطاء الصائمين ومثالبهم.
ولا شك أن الصائمين من أفضل العباد، لكن مع ذلك لا بد من التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها الصائمون:(19/39)
سوء الخلق
ومن مثالب الصوام: سوء الخلق.
فإن كثيراً من الصائمين يصبح عنده سوء في خلقه بسبب امتناعه عن الأكل والشرب، فيغلظ على أهله ويقسو عليهم، وكذلك إن كان موظفاً يغلظ ويقسو على من يليه، ويعاملهم بأسلوبٍ فظٍ غليظ، ويستخدم ألفاظاً نابية لا تليق.
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا، كما في الحديث المتفق عليه: {الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم} فأرشدك إذا كنت صائماً إذا سبك أحدٌ أو شتمك ألا ترد عليه، بل تقول له: إني صائم.
فما بال بعض الناس إذا صاموا عكسوا القضية، فربما يكون الواحد منهم في غير الصوم هادئاً وديعاً خلوقاً، لكن إذا صام اشتدت أعصابه وتوترت، وأصبح يرمي بالعبارات النابية الغليظة هنا وهناك، لأهله وأولاده وجيرانه وزملائه إلى غير ذلك.(19/40)
اتخاذ رمضان فرصة للكسل
ومن مثالب الصوام: أن بعضهم يتخذ رمضان فرصةً للكسل والخمول ويحتج بأنه صائم.
ونحن نجد أن المسلمين الأُول كانوا عكس ذلك، فكثير من المعارك الإسلامية الشهيرة كانت في رمضان، ولم يكن الصيام فرصةً للنوم، وبعضهم يحتجون في ذلك بأحاديث ضعيفة مثل: {نوم الصائم عبادة} ولو فرض أنه صحيح فإنه لا يدل على ما ذهبوا إليه، فالحقيقة أن الصائم ينبغي أن يعود نفسه على النشاط والإقدام والقيام بالأعمال الصالحة.(19/41)
المبالغة في تناول الأطعمة
وأخيراً: من مثالب الصائمين: المبالغة في تناول الأطعمة.
فإننا نجد أن كثيراً من الناس يستعدون لاستقبال رمضان بألوان المطعومات والمشروبات، ويعدون لسحورهم وفطورهم وعشائهم، من أطايب الطعام ما لا يعرفه الناس في غير رمضان، وهذا لا شك أنه يتنافى مع الحكمة الأساسية من مشروعية الصيام، ولذلك تعجبني كلمة ذكرها أحد المصنفين وهو يوبخ الناس، فيقول لهم: "إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأسطال، وتنامون بالليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال".
وهذا في الواقع حكاية الحال التي يعيشها كثير من الجهال فالإنسان عليه أن يكون مقتصداً في أكله وشربه في رمضان.(19/42)
الإقبال على العبادة في رمضان وتركها فيما سواه
فمن ذلك أن كثيراً من الناس يقبلون على العبادة في رمضان ويدعونها في غيره، ولذلك تمتلئ المساجد في رمضان، بل من المؤسف جداً أن المساجد تمتلئ في وقت المغرب خاصةً، ثم يقلون حتى إن آخر رمضان يصبح مثل غيره من الشهور تقريباً، وهذا أمر خطير ويجب على الأئمة والدعاة والوعاظ أن ينبهوا الناس إليه، ويستغلوا فرصة خروجهم من بيوتهم ومخابئهم إلى المسجد؛ لينبهوهم إلى خطورة مثل هذا العمل وفداحة أمر التهاون بالصلاة، التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} فمن الأخطاء أن بعض الناس لا يعرفون الله إلا في رمضان، ويهجرون العبادات في غير هذا الشهر الكريم.(19/43)
الصوم عما أحل الله والفطر على ما حرم الله
من الأخطاء: أن بعض الناس يصومون عما أحل الله ويفطرون على ما حرم الله، فيصومون عن الأكل والشرب والجماع، لكنهم يرتكبون أشياء محرمةً، مثل الغيبة والنميمة وشهادة الزور والكذب، والسب والشتم وغيرها من المحرمات، سواء أكانت قوليةً أم فعلية.
وهذا لا شك أنه انتكاس في مفهوم الصيام؛ لأن الصوم تربية، وليس من المعقول أن يربيك الله تعالى على ترك بعض المباح، ثم تذهب لترتكب أشياءً محرمةً في الصوم.
ولذلك ذهب بعضهم إلى أنه يفطر بذلك؛ لكن الصحيح أنه لا يفطر بذلك، والحديث الوارد في هذا ضعيف، وهو قصة المرأتين اللتين غلبهما الصيام فجيء بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: {قيئا فقاءتا قيحاً ودماً عبيطاً، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هاتين أفطرتا على ما حرم الله وصامتا عما أحل الله} هذا الحديث لا يصح، وقد احتج به ابن حزم وغيره على أن الغيبة والنميمة تفطر وهو حديث ضعيف.(19/44)
التركيز على الفوائد الدنيوية
ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس، خاصةً المتحدثين عن الصيام: أنهم يركزون في حديثهم على الفوائد الدنيوية للصوم، فيتكلمون -مثلاً- عن أثر الصوم في حفظ الصحة، ويأتون بالحديث الضعيف: {صوموا تصحوا} أو أثر الصيام في حفظ الجسم وفي الحمية، أو أثر الصيام في تحقيق سعادة دنيوية، وينسون ضرورة تنبيه الناس إلى أثر الصيام في الدار الآخرة، وضرورة أن يعلم الناس أن الصوم عبادة، سواء أكانت تضرك أم تنفعك، فأنت ينبغي أن تصوم حتى لو فرض جدلاً أن الصوم يضرك، فتصوم طاعةً لله جل وعلا.
ولذلك إذا كان الإنسان يخوض المعركة وقد تذهب روحه في سبيل الله تعالى ولا يفطر؛ لأن هذه طاعة وعبادة وقربة، فليس المقصود أن الإنسان يصوم حتى يصح جسمه، أو يسلم من الأمراض والآفات والعاهات، أو يحصل على سعادة عاجلة، وإن كانت هذه الأمور كلها تأتي تبعاً، لكنه يصوم طاعة لله عز وجل.(19/45)
وقفة مع بعض الأحاديث الضعيفة
الوقفة التاسعة: وقفة مع بعض الأحاديث الضعيفة التي يتداولها الناس في رمضان.(19/46)
صوموا تصحوا
ومن الأحاديث الضعيفة حديث {صوموا تصحوا} فإن هذا الحديث -أيضاً- لا يصح، رواه ابن عدي والطبراني في معجمه الأوسط، وهو حديثٌ ضعيف، بل لعله ضعيف جداً.(19/47)
حديث سلمان في استقبال رمضان
ومن أكثر الأحاديث شهرة، وهي أحاديثٌ لا تصح: حديث سلمان الفارسي المشهور، الذي يقرأ به الناس في الدروس والكتب، وهو حديثٌ طويلٌ في استقبال شهر رمضان، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {أتاكم شهر رمضان إلى قوله: قد أظلكم شهر عظيمٌ مبارك، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من أتى فيه بخصلةٍ من الخير كان كمن أدى فريضةً فيما سواه، ومن أدى فريضةً فيه كان كمن أدى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهرٌ أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
إلى آخره} فهذا الحديث -أيضاً- لا يصح، بل هو ضعيف في سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، بل قال أبو حاتم: هذا حديث منكر.
وكذلك نقل غيره تضعيفه عن أئمة آخرين.(19/48)
نوم الصائم عبادة
فمن هذه الأحاديث حديث: {نوم الصائم عبادة} وقد رواه ابن مندة عن ابن عمر، ورواه البيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى، وهو حديث ضعيف ضعفه الحافظ العراقي في تخريج إحياء علوم الدين، فهو حديث لا يصح.(19/49)
من أفطر يوماً من رمضان بغير عذر
ومن الأحاديث الضعيفة -أيضاً- حديث: {من أفطر يوماً من رمضان بغير عذرٍ لم يجزه صيام الدهر كله ولو صامه} وهذا حديث مشهور على الألسنة، رواه البخاري تعليقاً، ورواه الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، من طريق أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة، وهو حديثٌ ضعيف فيه ثلاث علل: الأولى: أبو المطوس مجهول، الثانية: احتمال الانقطاع بينه وبين أبي هريرة، الثالثة: فيه اضطراب.
فالحديث ضعيف.(19/50)
الوقفة العاشرة
وهي أن ثمة موضوعات رمضانية في طائفةٍ أخرى من القضايا، مثل: قيام رمضان، والتراويح، والعمرة، والعشر الأواخر من رمضان، وكذلك العيد، والدعاء في رمضان والنفقة، وما أشبه ذلك، وهذه سوف أفرد لها جلسة في الأسبوع القادم -إن شاء الله- في مثل هذه الليلة بعد صلاة التراويح.
نسأل الله أن يلحقنا وإياكم خيراً.(19/51)
فضل قراءة القرآن
الوقفة الحادية عشرة: هي مع قول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] .
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف} رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران} .
وقد أمر الله عز وجل بتلاوة كتابه، وبين أن هذا دأب الصالحين السابقين، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29-30] .(19/52)
أخطاء الناس في قراءة القرآن
وحول موضوع القرآن ورمضان، أريد أن أشير إلى بعض الملاحظات الجوهرية.
فمن الملاحظات: أن بعض الناس يظنون أن ختم القرآن مقصود لذاته، فيهذ الواحد منهم القرآن هذ الشعر، لا يقف عند معانيه ولا يتدبره ولا يتخشع، ولا يرق قلبه عند معاني القرآن الكريم، إنما يهذه هذاً، وهمه الوصول إلى آخر السورة، أو الوصول إلى آخر الجزء، أو أن ينتهي من قراءة القرآن الكريم، ولا شك أنه ليس لهذا نزل القرآن، فإن الله يقول في القرآن نفسه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه} [ص:29] .
إذاً: المقصود هو التدبر والاتعاظ والاعتبار قال الله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] ويقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] فمن الخطأ الكبير أن بعض الناس يهمه أن يهذَّ القرآن هذاً ويختم، وإذا سمع هذه الآثار عن السلف أنهم ختموا في كل يوم مرةً أو في كل يومين مرة، قال: لا بد أن أقتدي بهم، فأصبح يهذُّ القرآن هذاً، لا يقف عند معانيه ولا يتدبره، ولا يخرج الحروف من مخارجها، ولا يعطي الأحكام التجويدية حقها، وهمه أن يختم القرآن، ولا شك أن ختم القرآن ليس مقصوداً لذاته، ولا شك أن كون الإنسان يقرأ بعض القرآن أو جزءاً أو سورةً منه، بتدبر وتفكر وتمعن خير من أن يقرأ القرآن كله دون أن يفهم منه شيئاً.
وقد ثبت في موطأ مالك -رحمه الله- أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه جلس في تحصيل سورة البقرة عشر سنوات، فلما أتمها، نحر بدنة.
هل ترى أن ابن عمر رضي الله عنه جلس عشر سنوات يتحفظ سورة البقرة؟ كلا! فإن صبيان الكُتَّاب عندنا يحفظون القرآن كله في سنة أو في سنتين، فلم يكن ابن عمر بحاجة إلى أن يجلس عشر سنين يحفظ سورة البقرة.
إنما كان رضي الله عنه عشر سنين يحفظ السورة ويتعلم أحكامها ومعانيها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها، ويقف عندما ورد فيها، وهذا هو الذي جعله يستغرق في ضبطها عشر سنين.
الملاحظة الثانية: أنه في بعض البلاد يوجد عادات شكلية حول قراءة القرآن، ومن ذلك مصر.
فمثلاً: عندهم -خاصةً في الماضي وربما اندرست هذه العادة الآن- عادة يسمونها المساهر، حيث يجلسون في رمضان خاصةً بعد صلاة التراويح إلى السحور، فيأتي ذوو اليسار والغنى الذين أوجد الله عليهم ورزقهم، فيستأجرون قارئاً يقرأ لهم القرآن في بيوتهم، فيجتمع الناس على هذا القارئ، ويرفعون أصواتهم بعد قراءة كل آية بلفظ الجلالة -الله الله- أو الله يكرمك، ربنا يكرمك ويعطونه من هذه الدعوات، ويرفعون أصواتهم بهذه الصيحات، ولا شك أن هذا مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم لعدة أمور: أولاً: قراءة القرآن بالأجر لا أصل لها، وهذا الذي يقرأ بالأجر الدنيوي ليس له أجر عند الله تعالى مادام قصده من القراءة الأجر من الناس.
ثانياً: أن جمع الناس بهذه الطريقة لا تتم به الفائدة، فإن الأصل أن يقرأ الإنسان وحده ليتدبر ويخشع ويتمعن، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم -في السبعة الذين يظلهم الله في ظله- قال: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} .
ثالثاً: أن رفع الأصوات عند قراءة القرآن ليس من عادات المؤمنين، ولا يجوز ولا يسوغ، فإن الله عز وجل قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] صحيح أنهم لا يرفعون أصواتهم عند القراءة، إنما يرفعونها بعد ما يسكت، لكن أيضاً هذا فيه سوء أدب مع القرآن، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يفعلونه، ففي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن مسعود: {اقرأ عليَّ القرآن.
قال: قلت يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
فقرأ عليه سورة النساء حتى وصل إلى قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك الآن، يقول ابن مسعود: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان} صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الخشوع والتأثر بالقرآن، وهذا هو الاعتبار والأدب الواجب مع قراءة القرآن.
ومن الأشياء التي تحتاج إلى وقفة فيما يتعلق بالقرآن الكريم: ما يسمى عند الناس اليوم بالختمة، وقد تحدثت عنها في مناسبات أخرى؛ لكن في هذا المناسبة أذكرها، فإن الناس في هذا -كما يقال- طرفان ووسط، وأعني بالختمة: إتمام قراءة القرآن في صلاة التراويح والقيام، ثم الدعاء المعروف، فمن الناس من يقول: هذه بدعة ولا يفصل، ومن الناس من يقول: الختمة سنة ويعمل بها -أيضاً- دون تفصيل.
والذي أراه صواباً أنه لا بد من التفصيل في ذلك، فأقول: أولاً: إتمام قراءة القرآن الكريم في صلاة التراويح والقيام مشروع، كما سبق.
ثانياً: الدعاء عند ختم القرآن الكريم -أيضاً- مشروع، وقد ثبت من حديث جابر عند أحمد وأبي داود، ومن حديث عمران بن حصين عند الطبراني، وهما حديثان صحيحان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اقرءوا القرآن وادعوا الله به} وفي لفظ: {وسلوا الله به، فإنه يأتي قوم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ القرآن ونسأل وندعو الله به.
إذاً: فالدعاء عند ختم القرآن مستحب، وفي سنن الدارمي بسند جيد أن أنساً رضي الله عنه [[كان إذا ختم القرآن الكريم جمع أهل بيته فدعا بهم]] .
ثالثاً: هذا الدعاء الذي يقال عند ختم القرآن الكريم ينبغي أن يكون في صلاة الوتر، سواء في التراويح أو في القيام، وذلك لأن الوتر هو المكان الذي ثبت شرعاً أنه مكان للدعاء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو، ويقنت في وتره، وعلَّم الحسن كما في سنن الترمذي بسند حسن، أنه صلى الله عليه وسلَّم علمه أن يقول: اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخر الدعاء المعروف.
فالسنة في الدعاء أن يكون في الوتر، قبل الركوع أو بعده، فكلاهما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع.
رابعاً: هذا الدعاء لا مانع من إطالته بمناسبة ختم القرآن، بمعنى أن يضاعف الإنسان الدعاء بمناسبة ختم القرآن، ويضيف أدعية تتعلق بالقرآن الكريم، مثل قول بعضهم: اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن الكريم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل القرآن لنا شفيعاً إلى آخر الأدعية الخاصة بالقرآن، وهذه مناسبة جيدة، أن يختار الإنسان أدعية تتعلق بالقرآن الكريم.
أما الدعاء الشائع عند الناس الذي يبدأ عندهم بقوله: صدق الله العظيم الذي لم يزل عليماً قديراً إلى آخر الأدعية التي تبدأ عندهم بصدق الله العظيم، صدق الله، ومن أصدق من الله قيلاً، أو صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ما قال ربنا من الشاهدين، ولما أوجب وألزم غير جاحدين.
فهذه لا أصل لها، والأولى بالإنسان أن يتجنبها، خاصةً وقد انتشرت عند الناس حتى ظن بعضهم أنها من السنن، فلو تركها أحد لأنكروا عليه وقاموا في وجهه، وقالوا: لقد خالفت السنة!! وليس لها أصل صحيح.
ومما يدخل في المنع: أن بعض الناس يزيد في دعاء ختم القرآن مواعظ وأذكاراً تتعلق بذكر القبر وما يقع فيه من عذاب، وكذلك ذكر الصراط والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار وما يقع فيها، ولا شك أن هذا ليس محله، وهو من الاعتداء المنهي عنه، وربما أوصل بعضهم إلى أن تبطل صلاته، لأن بعضهم يحول الدعاء إلى موعظة ويخاطب المصلين بالخطاب المباشر، وهذا يبطل الصلاة بلا شك.
فينبغي أن يفرق بين هذا وهذا، فمن يقول: إن الختمة بدعة أو الختمة سنة، كلاهما ينبغي أن لا يتسرع في إطلاق هذه الكلمة، بل لا بد أن يفصل ويبين ما يكون سنة وما ليس بسنة، مع أن الأمر لا ينبغي التشديد فيه -فيما يظهر لي- حتى إن الذين يقرءون دعاء الختمة في التراويح، أعني في صلاة ثنائية في غير الوتر، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الفجر، كما ثبت عنه مرات، وثبت عنه القنوت في غير صلاة الفجر، في صلاة الظهر والعصر والعشاء في أحاديث كثيرة، فيقولون هذا من هذا، وإن كان هذا لا يقاس عليه، والعبادات ليس فيها مجال للقياس، ولذلك لا أصل للدعاء في صلاة ثنائية فيما أعلم.(19/53)
أسباب اعتناء الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان بالقرآن
قراءة القرآن الكريم هي التجارة الرابحة التي لا تبور، وهذا في جميع الدهور وعلى مدى الأيام والشهور؛ لكنه في رمضان خاصة له وضع آخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني بالقرآن في رمضان أكثر مما يعتني به في بقية شهور العام، وذلك لأسباب: أولها: أن ابتداء نزول القرآن كان في رمضان، أي أن الليلة التي نزل فيها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم} [العلق:1-4] كانت في رمضان، في الشهر الذي هو في الحقيقة شهر رمضان، وقد جاءت قصة نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد يتحنث -وهو التعبد- قبل أن ينزع إلى أهله، ثم ينزع إلى أهله ويتزود لمثلها، حتى جاءه الملك فقال له: اقرأ.
فقال: ما أنا بقارئ، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغتني أو فغطني -يعني ضغطه- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ، -أي: أنا لا أحسن القراءة، لأنه كان أمياً عليه الصلاة والسلام- ثم فعل به ذلك ثلاثاً، ثم أرسله فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] .
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة ترجف بوادره، يقول: زملوني زملوني، فزملوه وغطوه حتى سكن ما به، ثم أخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي.
فقالت له: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق} .
ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، فهو يقرأ من الإنجيل بالعبرانية، ويكتب ما شاء الله أن يكتب، فأخبره الخبر، فقال: هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
قال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا.
ثم لم يلبث ورقة أن مات، وفتر الوحي فترة} فهذه الحادثة كانت في رمضان على ما ذكره ابن إسحاق، وأبو سليمان الدمشقي، كما نقله ابن الجوزي في كتابه: زاد المسير في علم التفسير.
إذاً: فأول آيات أنزلت من القرآن الكريم كانت في رمضان، وعلى هذا حمل بعض أهل العلم قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] أي: ابتدأ إنزاله، ويحتمل -أيضاً- أن يكون هذا هو معنى قوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] وفي الآية الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان:3] فهي ليلة القدر وهي من رمضان.
السبب الثاني: في أن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان تتضاعف: أن رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وأطبق عليه السلف، أن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في السماء الدنيا في رمضان، وفي ليلة القدر، ثم كان ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً بحسب الوقائع والأحوال والملابسات، كما هو معروف في أسباب النزول، ولذلك جاء عن جابر رضي الله عنه أنه قال: [[إن صحف إبراهيم أنزلت في أول يوم من رمضان، وإن التوراة أنزلت على موسى بعد مضي ستة أيام من رمضان، وإن الزبور أنزل على داود بعد مضي اثني عشر يوماً من رمضان، وإن الإنجيل أنزل على عيسى بعد مضي ثمانية عشر يوماً من رمضان، وإن القرآن أو الفرقان أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد مضي أربعة وعشرين يوماً من رمضان]] وقد نقل هذا المعنى عن جماهة من الصحابة، كـ واثلة بن الأسقع، وعائشة رضي الله عنهما وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً، ونقل أيضاً أن الحسن بن علي رضي الله عنه، لما قتل أبوه رضي الله عنه قال: [[لقد قتلتم رجلاً في ليلة أنزل فيها القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ورفع فيها عيسى إلى السماء، وقتل فيها يوشع بن نون، وتيب فيها على بني إسرائيل]] والآثار في ذلك عن السلف كثيرة جداً، خلاصتها أن القرآن الكريم أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان.
السبب الثالث: -لتضاعف اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان-: أن جبريل كان يأتيه في رمضان فيدارسه القرآن كل ليلة، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يلقاه في كل ليلة، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وفي العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين} فقد خصص جبريل عليه السلام شهر رمضان من الحول؛ لينزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ليلة فيتدارس معه ما أنزل من القرآن، أي من الحول إلى الحول، فكان رمضان فرصةً لمراجعة ما سبق نزوله من رمضان الماضي إلى رمضان الحاضر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن فيقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل يستمع إليه، ويتم من خلال هذه العرضة إثبات ما أمر الله بإثباته، ونسخ ما أمر الله بنسخه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب} [الرعد:39] .
كما أنه قد يكون من ضمن ذلك شرح معاني القرآن ومدارستها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين جبريل، ومن هذا أخذ أهل العلم مشروعية ختم القرآن في رمضان، لأن جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم كانا ينهيان ما سبق نزوله من القرآن الكريم، وفي آخر سنة تم ختم القرآن مرتين من خلال المعارضة والمدارسة بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أنه يستحب للمسلم أن يقرأ القرآن الكريم في رمضان مرةً أو أكثر، بل إن السنة للإنسان أن يختم القرآن في كل شهر مرة، بل إن استطاع في كل أسبوع مرة، بل لو استطاع أن يختم القرآن في كل ثلاث ليال لكان مستحباً له ذلك، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان السلف رضي الله عنهم يخصصون جزءاً كبيراً من رمضان لقراءة القرآن، حتى قال الزهري رحمه الله: إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث، وأقبل على قراءة القرآن الكريم من المصحف.
ونقل عن جماعة من السلف كـ النخعي، والأسود وغيرهم، أنهم كانوا يختمون القرآن في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختموه في كل ليلتين مرة، فإذا كان في العشر الأواخر ختموه في كل ليلة.(19/54)
القيام
الوقفة الثانية عشرة: هي مع القيام.
فكما أن رمضان شهر الصيام فهو شهر القيام، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] ويقول عز وجل في صفة عبادة المحسنين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18] .
ولذلك ثبت في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} وفي سنن الترمذي بسند صحيح، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: {لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سمعت الناس يقولون: جاء محمد جاء محمد، وانجفل الناس إليه -أي هرعوا وركضوا وأسرعوا إليه، وكان عبد الله بن سلام يهودياً لم يسلم بعد- قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنظرت في وجهه، فلما استثبت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب.
قال: فسمعته يقول: يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} .
وفي رمضان خاصة قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة -: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه، كما ثبت ذلك من حديث عائشة في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليلة فصلى رجال بصلاته، فلما كان من الليلة الثانية كثر الناس فصلوا بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الليلة الثالثة أو الرابعة كثر الناس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ثم قال لهم: قد عرفت مكانكم، ولكنني خشيت أن تفرض عليكم، ما منعني من الخروج إليكم إلا أنني خشيت أن تفرض عليكم، فصلوا -أيها الناس- في بيوتكم} فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة القيام في رمضان ليلتين أو ثلاثاً.
وكذلك حديث أبي ذر، الذي رواه أهل السنن وسنده صحيح، قال: {لم يقم بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى بقي سبع ليال، فصلى بنا حتى كان ثلث الليل، فلما كان من الليلة الثانية لم يصل بنا، فلما كان من الليلة الثالثة صلىَّ بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: لو صليت بنا بقية الليلة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
ثم قام بهم بعدها صلى الله عليه وسلم الليل كله، قال: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح} والفلاح هو السحور، يعني صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى خشوا أن يفوتهم السحور.
وهاهنا في موضوع قيام الليل في رمضان خاصة، لنا عدة ملاحظات:(19/55)
عدد صلاة التراويح
الأولى: حول عدد التراويح، فالناس مختلفون اختلافاً كثيراً من إحدى عشرة إلى تسع وأربعين ركعة، وما بين ذلك، اختلافات طويلة عريضة في عددها، ولا يعنينا ذكر هذه الاختلافات، إنما يهمنا أمور: منها: كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أصح ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: {ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة} فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، لكن يطيلها ويحسنها، ويطيل القراءة والركوع والسجود عليه الصلاة والسلام.
ثم ما الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإنه لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ زال الخوف أن تفرض صلاة التراويح والقيام على الناس، فأمر عمر رضي الله عنه المسلمين أن يجتمعوا على الصلاة، حيث دخل المسجد فوجدهم أوزاعاً، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرجل والرجلان والرهط، فرأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد، فأمر أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري أن يصليا بالناس، فصليا بهم، فيا ترى كم صلاة تميم بن أوس وأبي بن كعب؟ ورد في ذلك روايتان كلتاهما صحيحة، وهما من طريق السائب بن يزيد.
الرواية الأولى: أن عمر رضي الله عنه أمرهم أن يصلوا بالناس إحدى عشرة ركعة.
والرواية الثانية: أن تميم بن أوس وأبياً قاما بالناس بإحدى وعشرين ركعة، وفي رواية بثلاث وعشرين ركعة.
ورواية إحدى عشر ركعة في موطأ مالك وسندها صحيح، ورواية إحدى وعشرين في مصنف عبد الرزاق وسندها صحيح، ورواية ثلاث وعشرين في سنن البيهقي وسندها صحيح.
إذاً: ما هو المخرج من ذلك؟ بعض أهل العلم حكموا على رواية إحدى وعشرين وثلاث وعشرين بالشذوذ، لكن لا داعي لهذا؛ لأن الجمع بينها ممكن، فنجمع بين رواية إحدى عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين، بما جمع بينها الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: إنه يحمل على التنوع والتعدد بحسب الأحوال وحاجة الناس، فأحياناً كانوا يصلون إحدى عشرة ركعة، وأحياناً إحدى وعشرين، وأحياناً ثلاثاً وعشرين، بحسب نشاط الناس وقوتهم.
فإن صلوا إحدى عشرة أطالوا حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وإن صلوا ثلاثاً وعشرين خففوها بحيث لا يشق ذلك على الناس، وهذا جمع حسن.
وانقدح في نفسي جمع آخر، لعله أن يكون معقولاً أيضاً وهو أن عمر رضي الله عنه أمرهم أن يصلوا بالناس إحدى عشرة ركعة، وهذا لم تختلف الرواية فيه أن الأمر صدر من عمر بإحدى عشرة، ولكن تميماً وأبياً صليا بالناس إحدى وعشرين، أو ثلاثاً وعشرين.
فالأمر بإحدى عشرة والفعل الذي حدث إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وذلك قد يكون بناءً على أمر عرض لهما، رأيا أن المصلحة أن يصليا إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين؛ لحاجة الناس إلى ذلك، أو أن الناس يستطيلون القيام بإحدى عشرة فرأوا أن تكون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين، ويخففون في القيام والركوع والسجود، ليكون أمكن لهم في العبادة، هذا -أيضاً- ممكن وبه تأتلف النصوص.
على كل حال: سواء صلى الناس إحدى عشرة، أم إحدى وعشرين، أم ثلاثاً وعشرين، إلا أنه ينبغي أن أنبه إلى أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أنه لا تجوز الزيادة في التراويح على إحدى عشرة ركعة، أنه قول ضعيف جداً، وينبغي عدم الالتفات إليه، وذلك لأن الأعرابي الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مثنى مثنى} والحديث في الصحيحين، وهذا الرجل ما كان يعرف صفة صلاة الليل فضلاً عن أن يعرف عددها، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مثنى مثنى} أي تسلم من كل ركعتين، ولم يحدد له في ذلك عدداً محدوداً، بل أطلق الأمر، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن النوافل المطلقة جائزة مطلقاً، ليلاً أو نهاراً، إلا في أوقات النهي، ولم يرد لها حد معلوم، فلو صلى الإنسان قبل الظهر أو بعده، أو بعد العشاء أو في الضحى، ما تيسر له لما كان ملوماً في ذلك ولا معتوباً عليه، فهذه نوافل مطلقة جماهير الأمة، بما في ذلك الأئمة الأربعة وغيرهم، على أنها لا تحد بحد لا يجوز الزيادة عليه، وإن كان منهم من يقول هناك عدد أفضل من عدد.(19/56)
الصلاة إنما شرعت لتهذيب النفوس
الملاحظة الثانية في صلاة التراويح: أن الصلاة عموماً بما في ذلك النافلة، إنما شرعت لتهذيب النفوس، وتصفية القلوب وتطهيرها من الحقد والحسد والبغضاء، وجعل قلوب المؤمنين متحابة متقاربة، وهذا من أعظم مقاصد العبادات، ففيها تهذيب وتطهير وتصحيح للنفوس، وهذا أمر ملحوظ، فإن العبد إذا أقبل على صلاته صفت نفسه ورق قلبه، واستغفر ربه من ذنبه، فكيف يجوز ويسوغ في منطق العقل؛ أن نجعل هذا الأمر الذي شرعه الله تعالى لتصفية القلوب وتطهير النفوس، وتحبيب المؤمنين بعضهم إلى بعض، ميداناً للخصام والتنافر والتباغض والتحاسد فيما بيننا؟! هذا يقع من بعض طلبة العلم؛ حينما يسودون الصفحات الطويلة في الخصام في صلاة التراويح، كم هي، ورد بعضهم على بعض، وهجوم بعضهم على بعض، وتشهير بعضهم ببعض، ويقع هذا عند طلبة العلم، وعند العامة في المساجد، فإذا جاء رمضان بدأ الخصام والشجار في التراويح، فمن قائل: صلِّ عشراً وآخر صلِّ عشرين، واختلفت الجماعة على الإمام، فبعضهم نريد عشراً وبعضهم يقول نريد خمساً، وبعضهم يريد أقل وبعضهم يريد أكثر، وبعضهم يقول: طول وبعضهم يقول: أسرع.
وهكذا تتحول العبادة التي شرعها الله عز وجل لتهذيب النفوس والأفراد والمجتمعات وجمع الكلمة، في نفوس المسلمين المتأخرين المتخلفين في هذا العصر، إلى ميدان للتنافر والتطاحن والتباغض والتباعد، فتنعكس الآية ويضعف تأثير هذه العبادات في نفوس كثير من الناس.(19/57)
أهمية التوسعة في هذه الأمور
الملاحظة الثالثة في موضوع التراويح: أهمية التوسعة في هذه الأمور على الناس.
فإننا نعلم من هدي الإسلام أنه دين اليسر والسماحة، خذ على سبيل المثال: الحديث المتفق عليه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وغيرهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حج حجة الوداع، كان واقفاً للناس في منى لا يسأله أحد عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.
قال قائل: رميت بعد ما أمسيت؟ قال: افعل لا حرج.
حلقت قبل أن أرمي؟ قال: افعل ولا حرج ولم يسأل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر، من أعمال الحج مثل الرمي التي تفعل في يوم العيد، والنحر والحلق والطواف، إلا قال: افعل ولا حرج.
سألوه عمن قدم الطواف؟ فقال: لا حرج، وسألوه عمن قدم الحلق؟ فقال: لا حرج، وسألوه عمن قدم النحر؟ فقال: لا حرج، لم يسأل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: لا حرج.
فكان صلى الله عليه وسلم يحب التوسعة على أمته، وهذا مسلك نجده لعلماء أهل السنة عبر العصور، يكرهون المشقة على الناس، وهكذا يجب علينا في هذا العصر أن نبتعد عن المشقة على الناس في التراويح وغيرها.
ومن الابتعاد عن المشقة أن يراعي الإنسان حال المأمومين، فإن كان يشق عليهم أن يصلي بهم عشر تسليمات، صلى بهم خمساً، وهذا أوفق وأقرب للسنة، وإن كان أكثرهم اعتاد على العشر وهي أخف عليهم، لأنه يشق عليهم طول الوقوف فيصلي بهم، عشر تسليمات ولا حرج في ذلك؛ لأنه ليس في صلاة التراويح حد محدود، المهم أن تكون مثنى مثنى، تسلم من كل ركعتين ولا تقرن أربعاً، ثم صل ما يناسبك، وإن كان الأصل في ذلك أن يكون العامة تبعاً لعلمائهم وأئمتهم وطلاب العلم، فليس الأصل أن العامة هم الذي يفرضون على الناس عدد الصلوات، لكن إن كان في ذلك مشقة أو اختلاف فينبغي تجنب ذلك.(19/58)
رمضان شهر الجهاد
الوقفة الثالثة عشرة: إن رمضان شهر الجهاد.
والجهاد -كما تعلمون- ذروة سنام الإسلام، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله، وأعلى ذلك الفردوس، فإذا سألتم الله؛ فسلوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تتفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن عز وجل} ففي الجنة مائة درجة هي للمجاهدين في سبيل الله عز وجل، ولذلك فإن رمضان ليس شهر النوم والكسل والبطالة، بل هو شهر الجهاد.
خذ على سبيل المثال: حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعظم معركتين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانتا في رمضان، أولاهما: معركة بدر الكبرى، فإنها كانت في شهر رمضان، ومعركة بدر هي الفرقان الذي فرق الله تعالى بها بين عهد الذل والاستضعاف، وبين عهد العزة والتمكين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر يرفع يديه إلى السماء ويبتهل إلى الله عز وجل، حتى سقط رداؤه عن منكبه، وهو يقول: {اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض.
حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه من ورائه فالتزمه، ووضع رداءه على منكبيه، وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدة ربك -أي ارفق بنفسك- فإن الله تعالى منجز لك ما وعد} فنصر الله تعالى رسوله والمؤمنين نصراً مؤزراً تحدثت به الركبان، وكان فرقاناً وفيصلاً بين عهد الذل والاستضعاف، وبين عهد القوة والنصر والتمكين قال الله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] .
المعركة الثانية: هي معركة فتح مكة، وكانت من أخطر وأهم المعارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن مكة كانت مركز الجزيرة العربية، ومكان الحج والعمرة، والناس يأتونها من كل مكان، فكانت الوثنية تسيطر على مكة على مدى ثمان سنوات بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية من دخول مكة وأداء العمرة، فلما ذهب عليه الصلاة والسلام إلى مكة ودخلها فاتحاً؛ دانت له الجزيرة العربية كلها.
وكان فتح مكة في السنة الثامنة، وفي السنة التاسعة جاءت الوفود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أنحاء الجزيرة العربية تبايعه على الإسلام، ولهذا يصح أن نقول: إن فتح مكة هو الوقت الذي زالت فيه غربة الإسلام، وأصبح الإسلام عزيزاً في أنحاء الجزيرة، وسقطت سلطة الوثنية في هذه البلاد.
وكان فتح مكة -أيضاً- في رمضان.
وهناك كثير من الفتوحات والمعارك الفاصلة في الإسلام كانت في رمضان، أذكر منها معركة عين جالوت، المعركة التي نصر الله فيها عباده المؤمنين بقيادة المماليك على التتار، وانكسر مدهم وانهزموا بعد ذلك هزيمةً منكرة لم يقم لهم بعدها قائمة.
فرمضان هو شهر الجهاد، وهذا يذكرنا بأمرين:(19/59)
انعكاس المفاهيم في نفوس المسلمين
أولهما: أن كثيراً من المسلمين اليوم انعكست هذه المفاهيم في نفوسهم، فلم يعد رمضان شهر الجهاد والعمل والتضحية.
بل هو شهر البطالة والكسل والنوم، وهذا خطأ، فإن الجهاد باب واسع، فهناك الجهاد بالكلمة، والجهاد بالعلم، والجهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله عز وجل وبالمال، وكل أنواع الجهاد مشروعة في رمضان وغيره، وهي في رمضان أولى من غيره.(19/60)
وجوب نصرة المجاهدين
الأمر الثاني: أننا نعلم أن كثيراً من المسلمين الآن يحملون السلاح، مدافعين عن الحوزة ومنافحين عن الملة.
يحدث هذا في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي إريتريا، وفي الفلبين، ويحدث -أيضاً- في بلاد إسلامية أخرى، وفي جميع هذه البلاد التي ذكرت، توجد أمم وطوائف من أهل السنة والجماعة، المشهود لهم بالصلاح والورع والتقوى ولزوم الجادة وصلاح المعتقد، وهم يقاتلون عدواً كافراً خاسراً، يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً، وهم بأمس الحاجة إلى أن يكون إخوانهم المسلمون معهم، بالدعاء وبالحماية والنصر، والمال، وبغير ذلك من الوسائل.(19/61)
رمضان شهر الإنفاق
الوقفة الرابعة عشرة: أن رمضان شهر النفقة والإنفاق.
والنفقة عموماً من أعظم أسباب القرب من الله تعالى ودخول الجنة.(19/62)
بعض مصارف الصدقة
وفي موضوع الصدقة أود أن أشير إلى مصارف مهمة: المصرف الأول: مصرف المجاهدين في سبيل الله قال الله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة:60] فالمجاهدون في سبيل الله هم أحد الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة، وقد بينت لكم أن في بلاد الأفغان وفلسطين وإريتريا والفلبين مسلمين ومجاهدين ومرابطين على الثغور، وإذا كنا لم نجاهد معهم، ولم نحمل السلاح معهم، ولم نخلفهم في أولادهم وأزواجهم بخير، فلا أقل من أن نعينهم بما تجود به أيدينا من المال، وهذه أعظم مصارف الزكاة في هذا العصر خاصة، ولذلك ينبغي دعم هؤلاء الإخوة المجاهدين، وبالأسباب والوسائل التي من الممكن أن تصل من خلالها الأموال إليهم بيسر وسهولة.
ومن المصارف التي أود أن أشير إليها: الفقراء والمحتاجين من الشباب وطلاب العلم، فإنني أعلم كثيراً من طلاب العلم -وقد يكون بعضهم من بينكم، من بين المستمعين- من هم بحاجة إلى مساعدة إخوانهم، من لعوز، أو فقر أو حاجة أو إعسار، أو لأنهم يريدون أن يتزوجوا ولا يجدون ما يكمل لهم مهر الزواج وموؤنته، وفي ذلك إعفاف لهم وتحصين لفروجهم وإكمال لنصف دينهم، وفيه من المصالح مالا يخفى، كما أنه يعين على طلب العلم وتحصيله.
وأود أن أشير إلى أن من الجهات التي تتقبل الصدقات والنفقات هي: الجمعيات الخيرية، فإذا وجدت جمعيات خيرية موثوقة، فلا بأس أن يعطيها الإنسان، لأن هذه الجمعيات تتحرى، وعندها ملفات خاصة بالأسر المحتاجة، وتعطيهم رواتب شهرية وتنفق عليهم، وفي هذا البلد أعلم أن القائمين على جمعية البر الخيرية من الناس الموثوقين المعروفين بالخير والاستقامة، والحرص على تحري وضع المال في موضعه الصحيح الشرعي، فينبغي للإنسان الذي يجد المال وربما لا يعرف مصارفه الصحيحة، أن يوكلهم في صرف هذا المال إلى مستحقيه.(19/63)
جود النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
وفي رمضان خاصة ينبغي الإكثار من الجود اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما سبق في حديث ابن عباس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان} وإنما كان جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان خاصةً أكثر لثلاثة أسباب: السبب الأول: لمناسبة رمضان، فإنَّ رمضان شهر تضاعف فيه الحسنات، وترفع فيه الدرجات، فيتقرب فيه العبيد إلى مولاهم بكثرة الأعمال الصالحات.
السبب الثاني: كثرة قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان، والقرآن فيه آيات كثيرة في الحث على الإنفاق في سبيل الله، والتقلل من الدنيا والزهد فيها والإقبال على الآخرة، فيكون في ذلك تحريك لقلب الإنسان لأن ينفق في سبيل الله، وحري بكل من يقرأ القرآن أن يكثر من الصدقة في سبيل الله.
السبب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى جبريل -كما سبق- في كل ليلة، ولقاؤه لجبريل من باب مجالسة الصالحين، ومجالسة الصالحين تزيد في الإيمان وتحث على الطاعة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الصدقة في رمضان.
وأنواع جوده صلى الله عليه وسلم لا تنحصر، والكلام في جوده يبدأ ولا ينتهي، فهو أجود الناس على الإطلاق، يتفنن صلى الله عليه وسلم في أنواع الجود، ويعطي كل من سأله، لا يرد سائلاً إلا أن لا يجد، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قد يسأله رجل ثوباً عليه فيدخل بيته ويخرج وقد خلع ثوبه وأعطاه إياه، وحتى إنه صلى الله عليه وسلم يعطي غنما بين جبلين، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وربما اشترى الشيء فأعطى ثمنه ورده على بائعه، وربما اشترى وأعطى الثمن وزاده، وربما استسلف شيئاً فرده بأكثر وأطيب وأكبر منه، وربما أهدى وتصدق، وأعطى، وربما قبل الهدية وأثاب عليها أكثر منها وأعظم وأوفر، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأن يعطي أكثر مما يفرح الآخذ بما يأخذ، ففرحه صلى الله عليه وسلم بالعطاء أعظم من فرح الآخذ بالأخذ، حتى إنه ليصدق عليه وحده عليه الصلاة والسلام قول القائل: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله وكان يجود صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، ويصفح عمن ظلمه ويعطي من حرمه، ويعفو عمن أساء إليه، وله في ذلك شيء كثير يطول ذكره عليه الصلاة والسلام.(19/64)
الصدقة برهان الإيمان
والصدقة دليل على صدق إيمان صاحبها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، في حديث أبي مالك الأشعري، في صحيح مسلم: {والصدقة برهان} لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تخلص الإنسان من الشح وحب المال وأخرج المال، دل على أنه يقدم مرضات الله تعالى ومحبوب الله تعالى على محبوب نفسه، ويتخلص من شح نفسه قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] والأحاديث الواردة في الصدقة كثيرة جداً؛ لكن ينبغي أن يحرص الإنسان على أن يستتر بصدقته.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الطبراني بسند حسن -كما يقول الدمياطي في المتجر الرابح- عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر} فليحرص الإنسان على الاستكثار من هذه الأشياء، وعلى أن تكون صدقته سراً.
ومن الخطأ أن يتصدق الإنسان بمائة ألف ريال أو بخمسمائة ألف ريال من أجل أن يكتب اسمه في الجريدة، أو يكتب اسمه في دفتر التبرعات، أو يذكر عنه أنه المحسن الفلاني، اللهم إلا أن يكون قصده أن يكون في ذلك حثاً وتشجيعاً للناس على الصدقة، وإثارة المنافسة بينهم في العمل الصالح فهذا جيد، أما إن كان القصد الرياء والقيل والقال؛ فهذا -والعياذ بالله! - خسارة الصحابة في الدنيا ووبال عليه في الآخرة.(19/65)
الإنفاق زيادة لا نقصان
يكفي أن تعلم أن هذا الإنفاق الذي ينفقه الإنسان لا ينقص من ماله بل تزيده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه} فأثبت عليه الصلاة والسلام أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وهذه الصدقة التي لا تنقص مالك هي تزيد في أعمالك وقربك من الله عز وجل.(19/66)
الصدقة من أعظم أسباب دخول الجنة
وهي من أعظم أسباب دخول الجنة، واسمع بعض هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو كبشة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقصت صدقة من مال، ولا فتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله تعالى عليه باب فقر، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه -ثم قال-: وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعه نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو ينفق ماله في علمه، ويتصدق، ويصل رحمه، وينفق في سبيل الله؛ فهو أفضلهم، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل.
فهما في الأجر سواء.
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمه فهو يخبط فيه ولا يتقي الله عز وجل، ولا يصل به رحمه ولا يعطي منه المسكين، فهو أخبثهم منزلةً.
ورجل لم يؤته الله تعالى مالاً ولا علماً، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل.
فهما في الوزر سواء} .
والحديث رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذلك يدل على أن نية المؤمن الصادقة على الإنفاق في سبيل الله وغير ذلك من أبواب الخير، أنها تبلغه منازل العاملين، متى كانت نيةً صادقة من أعماق قلبه، وليست مجرد أمنية، ففرق بين النية والأمنية، لأن بعض الناس يقول: لو عندي، لكن لو أعطاه الله عز وجل لكفر: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:75-77] ففرق بين الأمنية وبين النية الصادقة المبيتة الجازمة، أنه لو أعطاك الله مالاً لفعلت مثل فلان، أو لو رزقك الله علماً لفعلت به مثل فلان.
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة: {أن رجلاً من بني إسرائيل سمع صوتاً في السحاب يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان.
فلما توسطت السحاب المزرعة أمطرت ما فيها، فذهب الرجل فإذا فلاح يحول الماء بمسحاته، فاستوعبت الشريجة ذلك الماء كله، فقال له الرجل: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: اسمي فلان -بالاسم الذي سمعه في السحابة- فقال: وماذا تصنع؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت صوتاً في السماء يقول: أسق حديقة فلان أسق حديقة فلان، فلما توسطت السحاب مزرعتك أمطرت.
فقال: أما إن قلت ذاك، فإنني إذا أخذت ثمرة هذه الحديقة تصدقت بثلثها، وجعلت ثلثها فيها، -أي رده في بذرها وإصلاحها- وأكلت أنا وأولادي ثلثها} .
فمن أجل ذلك وسع الله على هذا الرجل، وبارك له في رزقه وفيما أعطاه، حتى إن ملكاً موكلاً بالسحاب، يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان، يخصه دون غيره من الناس، ولذلك لا تعجب إذا رأيت الناس الذين أصيبوا بالكوارث والمصائب والنكبات، إنما أتوا من قبل أنفسهم.
يقول لي أحد الإخوة القضاة: إنه جاءه رجل يشتكي إليه أن صاعقةً نزلت على غنمه فأتلفت منها مئاتاً -أكثر من سبعمائة رأس- فهو يأتي للمحكمة حتى تسجل له ويعوض عنها، يقول: فقلت له ذات مرة: ما سبب هذه المصيبة التي نزلت بك؟ لعلك لا تخرج الزكاة؛ قال: فرأيت الرجل تأثر ثم خرج من عندي ولم يعد بعد ذلك، وكأن هذه الكلمة وقعت من الرجل موقعاً، وعرف أن ما أصابه بسبب ذنوبه، فلم يرد أن يأخذ تعويضاً أو مقابلاً لذلك، ولعله تاب إلى الله عز وجل، ولذلك ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على أن نتقي النار بالزكاة والصدقات والنفقات.
وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} وفي الحديث الآخر المتفق عليه -أيضاً-: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى النساء وعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار} فبين عليه الصلاة والسلام أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار، ولو من الحلي، ولو بشق تمرة، فيجود الإنسان بقدر ما أعطاه الله عز وجل.(19/67)
رمضان شهر التوبة
الوقفة الخاسة عشرة: رمضان شهر التوبة، وفيه يرجع العباد إلى ربهم.(19/68)
أسباب كون رمضان شهر التوبة
وإنما كان رمضان شهر التوبة لأسباب: أولها: جود الله تبارك وتعالى وصفحه عن عباده في هذا الشهر، حتى إنه صح أنه لله تعالى في كل ليلة عتقاء من النار.
ثانيها: أن الشياطين تصفد وتسلسل، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين} وفي لفظ: {وسلسلت الشياطين} فالعباد يقتربون إلى الله في هذا الشهر، فهو فرصة ذهبية ليتوب التائبون من ذنوبهم.
أيها الأخ إذا لم تتب في رمضان فمتى تتوب؟! وإذا لم تنب في مثل هذه الساعات فمتى تنيب؟! وإذا مضت أيام عمرك ولياليك ضياعاً فلا يجوز أن يضيع منك شهر رمضان.(19/69)
شروط التوبة
إخواني الكرام: للتوبة شروط ستة لا بد من توفرها، أسردها سرداً: أولها: الإخلاص لله عز وجل، وأن تكون توبة العبد صالحة خالصة لا يشوبها مقصد دنيوي.
ثانيها: أن تكون في زمن الإمكان، أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم وتغرغر، فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
ثالثها: أن تكون مصحوبةً بالإقلاع عن الذنب، فلا يصح أن يدعي الإنسان التوبة وهو مقيم على المعصية.
رابعها: أن يندم الإنسان على ما مضى، فإن التائب نادم، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الندم توبة} فالندم يأكل قلب التائب أكلاً.
خامسها: العزم على أن لا يعود إلى الذنب مرةً أخرى، وهذه هي حقيقة التوبة.
سادسها: إن كان الذنب يتعلق بحقوق المخلوقين رده إليهم، من مال أو عرض أو أي شيء.(19/70)
رمضان شهر الدعاء
الوقفة السادسة عشرة: رمضان شهر الدعاء.
والله تعالى يجيب عباده في كل وقت، وخاصةً في رمضان، فقد سبق أن الله تعالى يجيب دعاء الصائم، وللصائم عند فطره دعوة لا ترد.
وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء: السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء.
السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها.
السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] .
مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها.
فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري.
فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه.
فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن.
السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي.
وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت: فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا.
وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي.
فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا.
ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه.
السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له.
وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء.(19/71)
من أسباب إجابة الدعاء
وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء: السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء.
السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها.
السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] .
مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها.
فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري.
فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه.
فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن.
السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي.
وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت: فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا.
وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي.
فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا.
ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه.
السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له.
وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء.
وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء: السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء.
السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها.
السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] .
مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها.
فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري.
فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه.
فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن.
السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي.
وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت: فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا.
وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي.
فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا.
ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه.
السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له.
وكذلك من أعظم موانع استجا(19/72)
مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
الوقفة السابعة عشرة: مع الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان:(19/73)
صيام النبي صلى الله عليه وسلم لعاشوراء
وذلك {حين قدم المدينة فوجدهم يصومون عاشوراء، فسأل عن سبب صيامه فقيل: يوم نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه} .
حتى قال جماعة من أهل العلم: إنه كان واجباً، وثبت في صحيح مسلم من حديث الربيّع أنها قالت: {كنا نصوم عاشوراء ونُصَوِّم صبياننا، حتى يبكي أحدهم على الطعام فنعطيه اللعبةً من العهن يلعب بها حتى يكون عند الإفطار، وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرى التي حول المدينة: من أصبح صائماً فليصم، ومن أصبح مفطراً فليتم بقية يومه فلما فرض رمضان كان يوم عاشوراء سنة من شاء صامه ومن شاء لم يصمه} .
وأول ما فرض رمضان كان على التخيير، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم ألزم الناس بالصيام قال الله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] وصار الإطعام للشيخ الكبير والمريض، والمرضع والحامل إذا خافتا ومن في حكمهما، لكن كان الإنسان إذا أفطر في المغرب ثم نام العشاء -مثلاً- لا يجوز له أن يأكل، وفي صحيح البخاري أن رجلاً من الأنصار كان يعمل طيلة النهار في مزرعته، فلما جاء الليل قال لزوجته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، لكن أذهب أبحث لك، فذهبت تبحث له عن طعام فلما جاءت وجدته نائماً، فقالت له: ياخيبةً لك! لأنه نام ومعنى ذلك أنه لا يجوز له بعد نومه أن يأكل شيئاً، وكان متعباً، فلما كان في النهار أغمي على هذا الرجل لشدة الجوع والتعب والإعياء، فنزلت الرخصة، وأذن الله تعالى للمسلمين أن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستقرت الشريعة على ذلك.
وكانت فريضة رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات، وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من العبادة في رمضان، حتى إنه ربما واصل اليومين والثلاثة لا يأكل خلالهما تفرغاً للعبادة، فلما واصل أصحابه قال: {إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقين} وقد تكلم الإمام ابن القيم في زاد المعاد في أول الجزء الثاني عن هذا الحديث، وفصل وبين ما معنى قوله: "يطعمني ويسقيني" بما لا داعي لذكره هاهنا لضيق الوقت، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان ليتفرغ لعبادة ربه، وكان يكثر من قراءة القرآن، كما سبق أنه كان مع جبريل يدارسه القرآن.(19/74)
من أحواله صلى الله عليه وسلم في رمضان
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يفطر يعجل في الإفطار، فيفطر قبل صلاة المغرب ثم يصلي، وكان يؤخر السحور أيضاً، فيتسحر ثم لا يكون بين سحوره وصلاة الفجر إلا وقت يسير.
وسافر النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان أسفاراً، منها سفر لغزوة بدر، ومنها سفر لفتح مكة وغيرها، فربما صام وربما أفطر في سفره عليه الصلاة والسلام، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: {كنا في سفر، في يوم شديد الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة} وفي السنن عن ابن عباس بسند صحيح، أنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع صيام أيام البيض في حضر ولا سفر} وربما أفطر صلى الله عليه وسلم في سفره، فكان يفعل هذا تارةً وهذا تارة، وأمر أصحابه مرة بالفطر، ولما أصر بعضهم على الصيام قال: {أولئك العصاة أولئك العصاة} كما في صحيح مسلم.
ومما حدث له عليه الصلاة والسلام في رمضان أنه كان يزداد جوده، كما ثبت في حديث ابن عباس كما سبق، ومن الأحكام التي بينها صلى الله عليه وسلم بفعله: أنه كان يدركه الفجر وهو جنب ثم يغتسل ويصوم كما ذكرت عائشة.(19/75)
السواك وأحكامه
الوقفة الثامنة عشرة: تتعلق بالسواك.
والسواك مشروع في كل وقت، خاصة في المواضع التي ورد النص عليها، وهي ستة مواضع.(19/76)
مواضع السواك
أولاً: عند الصلاة.
ثانياً: عند الوضوء.
ثالثاً: عند دخول المنزل.
رابعاً: عند الاستيقاظ من النوم.
خامساً: عند قراءة القرآن.
سادساً: عند تغير رائحة الفم.(19/77)
مشروعية السواك وأدلته
وأدلة ذلك كثيرة ثابتة في السنة، منها: حديث أبي هريرة في الصحيحين {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي لفظ: {عند كل وضوء} .
ومنها: قول عائشة وقد سئلت: {بأي شيءٍ كان يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك} .
ومنها: قول حذيفة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام من الليل كان يشوص فاه بالسواك} .
ومنها: قوله عليه صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم مرضاة للرب} إلى غير ذلك من الأدلة.
فينبغي للمسلم أن يتعاهد السواك في كل وقت، خاصةً في هذه الأوقات، قبل الزوال وبعده، فإن القول الصحيح أن السواك مشروع للصائم قبل الزوال وبعده، عند الوضوء والصلاة، وعند دخول المنزل، وعند قراءة القرآن، وما أشبه ذلك، هذا هو القول الراجح، لأن قوله عند كل صلاة وعند كل وضوء؛ يشمل ما قبل الزوال وما بعده.
أما الأحاديث الواردة في المنع كحديث علي: {استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي} فهو ضعيف، بل هو ضعيف جداً، ومثله: {رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى يستاك وهو صائم} فهو ضعيف أيضاً؛ لكن الصحيح أن السواك مشروع للصائم كما هو مشروع لغير الصائم، قبل الزوال وبعد الزوال.(19/78)
وقت المسلم في رمضان
الوقفة التاسعة عشر: وقت المسلم في رمضان.
ووقت المسلم عموماً ثمين، وفي رمضان خاصةً أثمن وأعظم، ولذلك فإنني أنبه على بعض النقاط المتعلقة بأوقاتنا في رمضان.(19/79)
سهر الليل
بعض الناس يسهرون الليل كله وهذا خطأ، ولابد أن يجعل الإنسان له جزءً من الليل ينام فيه، لأن نوم الليل لا يقابله شيء من نوم النهار، وساعة أو ساعتين ينامها الإنسان في الليل يعوضان البدن خيراً كثيراً، هذه ملاحظة.(19/80)
استغلال الوقت في قراءة القرآن
الملاحظة الثانية: ينبغي لكل إنسان أن يستغل وقته في قراءة القرآن.
فإن كان جالساً وقرأ من المصحف فهذا حسن، وإلا قرأ من حفظه وهو ذاهب آيب، في السيارة أو مكان العمل، أو في أي مكان يكون فيه، فينبغي أن يغتنم الإنسان هذه الفرصة ويكثر من تلاوة القرآن وترديده، ويحرص على أن يختمه -إن أمكن- كل أسبوع، أو كل ثلاثة أيام، أو كل عشرة أيام، وأضعف الإيمان -وأنا أعتبر أن هذا من التفريط- أن لا يختم الإنسان في رمضان إلا مرة واحدة.(19/81)
ضرورة تجنب مجالس اللغو
الملاحظة الثالثة: تجنب مجالس اللغو.
فبعض الشباب بعد التراويح، بل ربما لا يصلون التراويح، يخرجون في دورات أو في سهرات، أو يجلسون عند بعضهم، ويتبادلون أطراف الحديث، وربما يكثر عندهم الهرج والمرج، والقيل والقال، وتبادل النكت والضحك، ويبالغون في ذلك، وقد يقعون في الغيبة والنميمة وقول الزور وما أشبه ذلك، وهذا لا يليق بالمسلم عموماً خاصةً في هذا الشهر الكريم، وما بال الإنسان يحصل على شيء من الحسنات ثم يتفرغ بعد ذلك لإتلافها بالمعاصي والموبقات!(19/82)
رمضان ليس فرصة للعب
ومن الملاحظات: أن بعض الشباب -بل كثير منهم- يعتبرون رمضان فرصةً للهو واللعب، فتجدهم بعد صلاة الفريضة أو بعد صلاة التراويح، يذهبون في مجموعات ليلعبوا الكرة، ويجلسون على ذلك إلى وقت السحور، ويعتبرون أن رمضان إنما يفرح به لهذا، وتجدهم مستعدين بالأنوار الكاشفة وغير ذلك.
وأنا لا أمنع من ذلك إذا كان بالقدر المعقول المعتدل، أما أن يكون ليل الإنسان كله في ذلك، فلا شك أن هذا من الإهمال وتضييع الوقت في أمور لا فائدة منها، ولا شك أن نوم الإنسان أفضل بكثير من ذلك، فضلاً عن أولئك الشباب الذين يسهرون لمشاهدة التلفاز، وقد يكون فيه الغناء والموسيقى، وقد يكون فيه المسلسلات الهادمة للدين والأخلاق، والتي ينبغي للشباب تجنبها.(19/83)
نوم النهار
من الملاحظات: أن كثيراً من الشباب يقضون سحابة نهارهم في النوم، فإذا كان يسهر في الليل فبعد صلاة الفجر يذهبون للتفحيط بالسيارات، وقد وجدتهم، فبدلاً من أن يجلسوا مع المسلمين في مساجدهم حتى ترتفع الشمس، ثم يصلون ركعتين، فينالون الأجر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة حيث يقول: {من صلى الفجر ثم جلس حتى تطلع الشمس وصلى ركعتين كان كأجر حجة وعمرة تامةً تامةً تامة} يذهبون فيقضون ما بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس في التفحيط والضحك واللعب، ثم إذا ارتفعت الشمس ناموا، حتى يأتي وقت العمل أو وقت الدراسة، فيذهبون مضطرين، ثم يعودون لمواصلة النوم إلى وقت الغروب.
وهذه مشكلة كبيرة ينبغي تلافيها، فإن الإنسان إذا كان مضطراً إلى أن يقضي جزءاً من نهاره في الدوام، معنى ذلك أنه لابد أن يخصص جزءاً طيباً من الليل للنوم، حتى يكون نهاره معتدلاً، فيستطيع أن يجلس ويصلي الصلوات مع الجماعة، ويبكر إلى المسجد، ويجلس بعض الوقت في النهار ليقرأ القرآن وما أشبه ذلك.
وبعض الإخوة ينامون حتى في الدوام، إن كان طالباً فهو ينام في الفصل، وإن كان موظفاً فهو ينام في وقت الدوام، ولا شك أن الراتب الذي أعطي له ليس مقابل نومه على مكتبه؛ وإنما أعطي مرتبه ليخدم المراجعين، ويقوم في مصالح المسلمين، فلا يجوز للإنسان أن يقضي وقت دوامه في النوم.(19/84)
المرأة في رمضان
الوقفة العشرون: المرأة في رمضان.
المرأة كالرجل في رمضان فهن شقائق الرجال، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما يقال في الرجل يقال في المرأة، وهي مطالبة كالرجل بقراءة القرآن والصيام والقيام، والنفقة في سبيل الله والدعاء، إلى غير ذلك من الطاعات والقربات، لكن أشير إلى بعض النقاط الخاصة بالمرأة:(19/85)
عدم الغفلة عن الصبيان
وينبغي عدم الغفلة عن الصبيان، فإن المرأة إذا ذهبت تصلي قد تغفل عن أطفالها، فقد تصيبهم آفة دنيوية من خطف لا قدر الله أو غير ذلك، وقد يضرونه، فربما يكون لعب الأطفال بعضهم مع بعض، وبينهم ناس كبار في سن الخامسة أو السادسة عشرة، وربما العشرين أحياناً، وهذه قد تكون فرصةً لبعض الخبثاء، فيروجون المخدرات ويدربون هؤلاء عليها، أو على التدخين، أو على بعض العادات السيئة، أو على اللواط أو غير ذلك، فمن الخطأ أن تشتغل المرأة أو الرجل بنافلة، ويغفلون عن فريضة وواجب في رعاية أطفالهم.(19/86)
الغيبة والحذر منها
من الأخطاء التي ينبغي أن تحذر المرأة منها عموماً وفي رمضان خصوصاً: الغيبة، فإن الغيبة ذنب عظيم، بل ذكر القرطبي أن الإجماع قائم على أنها من كبائر الذنوب، قال الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] .(19/87)
ضوابط خروج النساء إلى المساجد
وكثير من النساء يرتدن المساجد لصلاة التراويح والقيام، وهذا أمر لا بأس به -وإن كانت صلاتها في بيتها أفضل- لكن إذا جاءت إلى المسجد لأنها تنشط، أو لأنها لا تقرأ القرآن جيداً، أو لأنها تستعين بالجماعة على القيام فلا بأس بذلك، ولكن يجب أن تأتي بالصفة الشرعية، فلا يجوز أن تخرج المرأة متعطرة متطيبة متزينة، ولا أن تخضع بالقول أو ترفع صوتها، أو تؤذي الناس بشيء من ذلك، وبعض النساء تتبخر في بعض المساجد، وهذا من الطيب الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما أن رفع النساء لأصواتهن في المساجد أمر مذموم، وقد يتأذى به الرجال ويسمعونه في كثير من المساجد.
وفرصة وجود المرأة في المسجد فرصة نادرة، ينبغي أن يستثمرها الأئمة والمحدثون في الكلام عن موضوعات تخص المرأة، في أحكام، وآداب، وتوجيه، وترغيب، وترهيب، فإن النساء قل ما تصل إليهن الموعظة، وخروجهن في رمضان أمر معروف مستقر، فينبغي استثماره بالحديث في موضوعات تخص المرأة وتتعلق بها، وأن يوجه الحديث إلى النساء على الأقل في بعض الأيام.(19/88)
الحائض والنفساء في رمضان
فمن ذلك أن الحائض والنفساء لا تصلي ولا تصم، ولكنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، كما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها.
ومما يخفى على بعض النساء أن إحداهن قد تستخدم حبوب منع العادة، أو منع الحمل، وهذه -وإن كنت لا أنصح باستخدامها- في كثير من الحالات تكون ضارةً بالمرأة، إلا أن بعض النساء تستخدمها رغبةً في الصلاة مع المسلمين والصيام معهم، أو لأنها تريد أن تعتمر، أو لأن عادتها تختلف وتضطرب في رمضان، فتأتي يوماً وتذهب يوماً، فتستخدم هذه الحبوب حتى تنتظم العادة وتسلم من الحرج، وربما تظن بعض النساء أنها إذا توقفت عنها العادة بسبب هذه الحبوب فإنها تقضي هذه الأيام فيما بعد، مع أنه لا قضاء عليها، فمادامت قد طهرت ثم صلت وصامت، فإنه لا قضاء عليها.(19/89)
العمرة في رمضان
الوقفة الحادية والعشرون: العمرة وفضلها.(19/90)
ملاحظات في موضوع العمرة في رمضان
يلاحظ على سلوك الناس في موضوع العمرة في رمضان ملاحظ عديدة، منها: الأولى: أن بعض الناس -خاصة من الموظفين- يأخذون ما يسمى بالإجازة الاضطرارية للذهاب إلى مكة، وهذا لا يجوز، فإن الإجازة الاضطرارية -في حسب أنظمة الموظفين- إنما تمنح للموظف في حالة اضطرار، مثل حالة وفاة لقريب، أو ما أشبه ذلك، أما أن يأخذها في أمر ليس بضرورة، مثل أن يأخذها ليعتمر فهذا ظاهره أنه محرم.
الملاحظة الثانية: أن كثيراً من الناس يسافرون بنساء دون محارم، فقد تسافر المرأة مع غير ذي محرم، ومما عمت به البلوى في هذا الزمن خاصة: أن كثيراً من الأسر يسافرون بخادمات عندهم وهن بدون محرم، فالخادمة جاءت من بلدها من أقصى الدنيا بدون محرم، وتسافر -أيضاً- إلى بيت الله الحرام، بدون محرم وهذا لا يجوز.
ولذلك قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب حج النساء ثم ساق فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها أحد إلا ومعها ذو محرم} .
فكل شيء يسمى سفر لا يجوز للمرأة أن تركبه إلا مع ذي محرم، هذا في الحالات العادية.
وقال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن امرأتي انطلقت حاجةً، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا -أي سفَّر زوجته للحج بدون محرم وذهب للجهاد- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {انطلق فحج مع امرأتك} اترك الجهاد، واذهب لتصحب امرأتك في حجها.
ثم ساق البخاري رحمه الله -أيضاً- حديث أبي سعيد الخدري، وهو في مسلم -أيضاً- أنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع كلمات فأعجبنني وآنقنني: الأولى: {لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع ذي محرم} .
والثانية: {لا صوم في يومين يوم الفطر ويوم الأضحى} .
والثالثة: {لا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس} .
والرابعة: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى} .
والشاهد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع ذي محرم} وجاء التقييد بيومين.
وفي حديث ابن عباس جاء مطلقاً: {لا تسافر المرأة} فكل ما سمي سفراً، ورخص للإنسان فيه برخصة السفر من القصر والفطر وغيرهما، فإنه لا يجوز للمرأة أن تركبه إلا ومعها ذو محرم.
ولذلك فإن من الخطأ أن يسافر الإنسان بأجنبية عنه، سواء أكانت بنت عم له أم من الجيران أم كانت خادمةً عنده في بيته.
الملاحظة الثالثة: من الأخطاء التي يقع فيها الناس في موضوع العمرة: إهمالهم لأهليهم.
فبعض الناس يسافرون ويتركون أولادهم؛ فقد يسافر الأب والأم، والأولاد بحكم أنهم يدرسون في المدرسة لا يذهبون، فيبقون نصف رمضان أو أكثر من ذلك في بلدهم، بدون رقابة عليهم، وقد يكونون من صغار السن، أو المراهقين، وممن يُخشى أن تحدث منهم الحوادث، وهذا من الخطأ يقول النبي: {كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول} فتذهب وتبتغي ما عند الله، وتضيع من ولاك الله أمرهم من الصبية ذكوراً وإناثاً، أو من الشباب المراهقين الذين لا تؤمن غوائلهم وأخطاؤهم، وقد يستفزهم الشيطان، وقد يستجرهم قرناء السوء إلى ما لا تحمد عقباه.
ويحدث الخطأ بصورة أخرى، وهي أن الكثير يسافرون بأهليهم إلى مكة، ثم يعتكف الأب في الحرم، أو يقضي غالب وقته في الحرم، ما بين قيام وصلاة ونوم، ويترك الحبل على الغارب لأولاده وبناته، ولذلك رأينا ورأى غيرنا في البيت العتيق، وفي المسجد الحرام، وفي أطهر بقعة على وجه الأرض، من مظاهر التبرج والتفسخ وتضييع البنات الشيء الذي يندى له الجبين وهي أمور محزنة.
والواقع أنني قد نبهت على هذا في أكثر من مناسبة؛ لكنني أرى ضرورة التركيز على هذا الأمر، لأنه قد عمت به البلوى في كثير من الأسر المعروفة، التي فيها دين وحياء ومراقبة، ومع ذلك تجدهم يسافرون ببناتهم ثم يتركونهن هناك بلا مراقبة.
والذي يجب على الأب والأم -إذا ذهبوا بأولادهم وبناتهم- أن يراقبوهم جيداً ويتابعوهم، فإذا كانون عاجزين عن ذلك فلا معنى لذهابهم بهم إلى الحرم، حيث يكون هناك مجالات كثيرة لاختلاط الرجال بالنساء، وخروج المرأة بكافة الحجج، فتخرج بحجة الذهاب للحرم، وتخرج للسوق أو لتأتي بالطعام، أو إلى الشقة، وتخرج إلى مناسبات عديدة.
فإذا كان الأب رجلاً يستطيع أن يحافظ على أولاده وبناته فحبذا، ولا شك أن في الذهاب بهم إلى هناك فائدة وتربية وخير، فهو بلد طيب مبارك ووقت طيب مبارك، تضاعف فيه الحسنات، فهذا أمر محمود، لكن إن كان عاجزاً عن رعايتهم وحياطتهم ومراقبتهم وضبط تصرفاتهم، فليبق حيث هو في بلده ولا داعي لأن يتسبب لنفسه ولغيره بالضرر العظيم.
الملاحظة الرابعة: من الملاحظات التي تلحظ في موضوع العمرة: أن كثيراً من الناس خاصة الأئمة، ومن يكونون مرابطين على الثغور في الأمر والنهي والتوجيه والإصلاح والإمامة والحديث؛ يتركون أعمالهم ويذهبون إلى هناك، حيث يعتمرون ويقيمون في العشر الأواخر.
ولا شك أن من كان مرتبطاً بإمامة أو حديث أو وعظ، أو وظيفة يحتاج إليها المسلمون؛ فإن الأولى في حقه -بل الأوجب عليه- أن يبقى حيث هو وفي ذلك من الخير ما فيه، فإن احتاج ذهب إلى العمرة على السيارة أو الطائرة يوماً أو يومين، ثم يعتمر ويدعو ثم يعود إلى محله الذي هو فيه.
فإنه من غير المناسب أن تخلو المساجد أو المرافق من الوعاظ والمرشدين والمحدثين والأئمة، وهذا يحدث في أفضل الأوقات وهى أوقات العشر، فإذا أحب الإنسان أن يعتمر ويدرك الفضيلة؛ فبإمكانه أن يذهب يوماً أو يومين فيعتمر ويعود إلى عملة، الذي كان فيه.(19/91)
العمرة كفارة
والعمرة كفارة، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} .
فنص عليه الصلاة والسلام على أن العمرة كفارة لما قبلها من الذنوب، حتى العمرة الأخرى التي تليها، وهذا عام في كل عمرة سواء أكانت في رمضان أم في غيره.(19/92)
العمرة في رمضان
أما العمرة في رمضان فلها شأن آخر، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سنان -وهي امرأة من الأنصار لقيها النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع- فقال لها: {يا أم سنان، ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: يا رسول الله! أبو سنان -زوجها- له ناضحان -بعيران- حج على أحدهما والآخر نستقي عليه.
-فاعتذرت من عدم حجها مع النبي صلى الله عليه وسلم، بعدم وجود الراحلة التي تقلها إلى بيت الله الحرام- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة.
أو قال حجةً معي} .
وفي هذا من الفضل ما فيه، فإن ظاهر النص يدل على أن من اعتمر في رمضان يبتغي ما عند الله، كأنما حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف معه بعرفة، وبات معه بمزدلفة، وأفاض معه إلى منى، وطاف وسعى معه، وهذا فضل عظيم لا يقدر قدره إلا الله جل وعلا.(19/93)
وقفة مع الاعتكاف
الوقفة الثانية والعشرون حول الاعتكاف.
والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية مخصوصة لطاعة الله تعالى، وهو مشروع مستحب مسنون باتفاق أهل العلم.(19/94)
مكان الاعتكاف
ومما يتعلق بموضوع الاعتكاف أن بعض الباحثين ذهبوا إلى أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؛ المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
والصواب أن الاعتكاف جائز في كل مسجد يصلى فيه، ويستحب أن يكون في المسجد الجامع؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة.
فإن اعتكف في مسجد غير جامع فإنه يخرج ليصلي الجمعة ثم يعود؛ وذلك لقول الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فدل ذلك على أن الاعتكاف في كل مسجد جائز، إذا كان مسجداً تصلى فيه الفروض الخمسة، فإن كان جامعاً فهو أفضل.
أما حديث {لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة} فعلى القول بصحته فإنه مؤول على أن أكمل ما يكون الاعتكاف وأفضل وأوفى ما يكون في هذه المساجد، هذا ما قاله أهل العلم.
وقد انقدح في ذهني تأويل آخر للحديث -وهو في ظني حسن- وهو أن معنى الحديث، أن من نذر أن يعتكف في مسجد يسافر إليه فإنه لا يسافر، إلا أن يكون نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة، فإن الإنسان إذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام -مثلاً- وجب عليه الوفاء باعتكافه، فيعتكف في المسجد الحرام.
ولكن لو نذر مثلاً أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز له أن يعتكف في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل ومن باب الأولى، ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى -فك الله أسره وطهره من رجس اليهود الغادرين الخائنين- جاز له أن يسافر إلى المسجد الأقصى ليعتكف فيه، وجاز له أن يسافر إلى مسجد المدينة، وإلى مسجد مكة، ليعتكف فيهما، لأنهما أفضل من المسجد الأقصى.
لكن لو فرض -مثلاً- أنه نذر أن يعتكف في مسجد جواثا، وهو أول مسجد صليت فيه الجمعة خارج المدينة وهو بالبحرين بالأحساء والمسجد معروف الآن، فهل يجوز أن يسافر إلى مسجد جواثا ليعتكف فيه؟ لا يجوز أن يسافر ويشد الرحل إليه، لكن يجوز له أن يعوض عن ذلك بأن يعتكف في مسجد من مساجد بلده، أو يسافر إلى أحد المساجد الثلاثة.
فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: {لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة} أي: لا اعتكاف ينذر ويسافر إليه؛ ولذلك فإن الأئمة مجمعون خاصةً الأئمة الأربعة، على أنه يعتكف في أي مسجد من المساجد الجوامع، ولا يلزم الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة.
ولم يقل أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين، لا الأربعة، ولا العشرة، ولا غيرهم، إنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله عنه، وواحد أو اثنين من السلف.
ومن الملاحظات: في موضوع الاعتكاف، أن بعض الناس يعتبرون الاعتكاف فرصةً للخلوة ببعض أصاحبهم وأحبابهم، وتبادل أطراف الحديث، وكون مجموعة يعتكفون في مسجد، هذا لا حرج فيه؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف، واعتكف معه أزواجه، حتى إن إحدى أمهات المؤمنين اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مستحاضة؛ حتى كانت ترى الدم وهي في المسجد.
إذاً: فلا حرج أن يعتكف الإنسان مع صاحبه، أو قريبه أو حبيبه أو صديقه؛ لكن الحرج أن يكون الاعتكاف فرصةً للأحاديث، والسمر، والسهر، والقيل والقال وما أشبه ذلك.
ولهذا قال الإمام ابن القيم بعدما تكلم عن الاعتكاف وما يفعله بعض الناس، وما يتوسعون فيه من الكلام وغيره قال: فهذا لون، واعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لون آخر، -أي: مختلف تماماً عن اعتكاف هؤلاء-.
ومن الملاحظات: أن بعض الناس يعتكفون ويتركون أعمالهم وواجباتهم، وبعضهم قد يترك عمله الوظيفي الذي كلف به وألزم به، ويذهب ليعتكف.
وليس من العدل أن يترك الإنسان واجباً ليفعل السنة، ولذلك يقال لمن اعتكف وترك عمله الوظيفي، إنه يجب عليه أن يقطع الاعتكاف، ويعود إلى عمله الذي ترك.(19/95)
إطلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف؛ ولذلك يجدر بنا أن نطل إطلالة سريعة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان يلتمس ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان، فلما خرج الناس من معتكفهم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب بهم، وقال: {إني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر، وإني أريت صبيحتها كأني أسجد على ماء وطين، فمن كان معتكفاً معي فليرجع إلى معتكفه} .
والحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري، فرجع الناس إلى معتكفهم -أي: اعتكفوا عشرة أيام أخرى، وهي العشر الأواخر من رمضان-.
قال أبو سعيد: وما نرى في السماء من قزعة حتى كان تلك الليلة، فجاءت سحابة فأمطرت، وكان سقف المسجد من جريد النخل، فسال سقف المسجد، قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد على ماء وطين، والتفت إلينا وإن أثر الطين على جبهته وأنفه -عليه الصلاة والسلام- فتحققت نبوءته صلى الله عليه وسلم بذلك، وتبين أن تلك الليلة كانت ليلة القدر، وكانت ليلة إحدى وعشرين، فاعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان، ثم حافظ بعد ذلك على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده} .
وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف -أيضاً- عشرين يوماً، أي: اعتكف العشر الأوسط مع العشر الأواخر، وذلك لأسباب: منها -والله تعالى أعلم-: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين -كما سبق- فناسب أن يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً حتى يتمكن من معارضة جبريل بالقرآن كله مرتين.
ومنها: أن في ذلك مضاعفة العمل الصالح؛ حينما أحس عليه الصلاة والسلام بقرب أجله ودنو وفاته؛ ولهذا قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار في آخر عمره.
وهكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم، يكثر من أن يقول في ركوعه، وسجوده: {سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي} يتأول القرآن عليه الصلاة والسلام، فاعتكف عشرين يوماً في السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم، لمناسبة قرب وفاته ليضاعف العمل الصالح.
وقد يكون من أسرار مضاعفة اعتكافه: أن يكون ذلك شكراً لله عز وجل على ما أنعم به عليه من هذه الأعمال الصالحة؛ من الجهاد والتعليم، والصيام والقيام وإنزال القرآن، وغير ذلك من الأعمال التي امتن الله تبارك وتعالى بها عليه.
وكان عليه الصلاة والسلام يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الأيام التي يريد أن يعتكفها، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواسط -مثلاً- دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر، وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين.
وذلك لأن العشر الأواخر تبدأ من غروب شمس يوم عشرين، أما ما ثبت عنه في الصحيح: {أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه} فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد حيث كان يعتكف في غرفة، كما ورد أنه اعتكف في مكان خاص، -في قبة تركية كما جاء في بعض الروايات- فكان يدخل هذا المكان الخاص، وإلا فقد كان في المسجد منذ غروب الشمس.
ومن طريف ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المعتكف ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إليها وهي في المسجد، وهو في الغرفة فترجله، وتسرحه، وتغسله، وهو معتكف صلى الله عليه وسلم} وهي كانت حائضاً.
فكان صلى الله عليه وسلم يتكئ كما في مسند أحمد على باب غرفتها، ثم يخرج رأسه إليها فترجله، وهذا دليل على أن إخراج المعتكف بعض جسده لا يضر، وليس كإخراج الكل، فلو أن إنساناً حلف أنه لا يخرج من هذا المسجد فأخرج يده، أو رأسه، أو رجله فإنه لا يعد خارجاً.
ومثله المعتكف، لو أخرج يده أو رجله أو رأسه، فإن هذا لا يضر، وكذلك الحائض لو أدخلت يدها أو رجلها أو رأسها في المسجد لم يكن ذلك ممنوعاً ولا حرج عليها في ذلك؛ لأن هذا لا يعد دخولاً ولا خروجاً.
ومن فوائد هذا الحديث أن المعتكف لا حرج عليه من أن يتنظف، ويتطيب، ويغسل رأسه، ويسرحه، وينظفه، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا ينافي الاعتكاف.
ومن طريف ما وقع له صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه، {أنه خرج يوماً ليعتكف كما في صحيح البخاري فلما أن أراد أن يعتكف رأى صلى الله عليه وسلم الخيام منصوبةً في المسجد -أخبية منصوبة- هذا خباء حفصة، وهذا خباء عائشة، وهذا خباء زينب، فتعجب صلى الله عليه وسلم وترك الاعتكاف، وقال لأصحابه: آلبر أردْن بهذا؟! أي: هل تظنون أن ذلك من أجل البر، -لا- إنما فعلنه من أجل الغيرة وحرصاً على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم} .
وذلك لأن عائشة استأذنت -أولاً- فأذن لها، ثم استأذنت حفصة فأذن لها، ثم فعلت زينب فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى هذه الأخبية منصوبة، وفيها ما فيها من تضييق المسجد، وفيها ما فيها من المنافسة، كره ذلك صلى الله عليه وسلم وأمر بهذه الأخبية فقوضت ثم ترك الاعتكاف صلى الله عليه وسلم، فلم يعتكف تلك السنة، فلما كان في شوال اعتكف عشرة أيام، والأظهر والله أعلم أنه اعتكف عشرة أيام من بعد يوم العيد أي: تبدأ من الثاني من شوال.
هذا هو الأقرب، ويحتمل أنه اعتكف من يوم العيد، وإذا صح أنه اعتكف من يوم العيد فهذا دليل على أن الاعتكاف لا يشترط معه الصيام؛ لأن يوم العيد لا يصام؛ لكن لا يلزم أن يكون يوم العيد من ضمن أيام الاعتكاف.
ومن طرائف ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ما رواه الشيخان عن صفية {أنها جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ليلةً فجلست تتحدث معه ساعةً، ثم قامت تنقلب إلى بيتها، فقام معها صلى الله عليه وسلم ليقلبها -أي: ربما يؤنسها، أو يزيل وحشتها في الطريق- حتى إذا وكان عند باب المسجد أي عند باب أم سلمة، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا.
فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أو على هنتكما، أرفقا إنها صفية.
فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، وكبر ذلك عليهما، وفي رواية أنهما قالا: أو فيك نظن يا رسول الله، أو فيك يشك يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، -يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم يعني في عروق الإنسان إلى القلب كالدم- إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً} قال مسلم: شراً.
فمن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على صدق إيمان هذين الصحابيين الأنصاريين، وخشيته أن يزيغا بأن يلقي الشيطان في قلوبهما شراً، فيشكا فيكون ذلك كفراً، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا حاجة لذلك أصلاً، وأنه لا مانع من كشف الموضوع، فقال لهما: إنها صفية بنت حيي، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث من الدروس الشيء الكثير؛ لكن لا أود أن أقف عندها؛ لأنها دروس خارج موضوع الاعتكاف، وخارج موضوع الصيام.(19/96)
سر الاعتكاف
والاعتكاف فيه سر عظيم من أسرار العبادة، وذلك لأن المدار في حياة الإنسان وأعماله على القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} .
وأكثر ما يفسد القلب هي الشواغل والملهيات التي تلهيه عن الإقبال على الله عز وجل؛ كالاشتغال بالطعام والشراب والشهوات، وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة، وغير ذلك من الأمور الضارة التي تصرف القلب عن الإقبال على الله عز وجل، وتفرقه وتشتته حتى لا يكاد يلتم ويجتمع على عبادة أو طاعة.(19/97)
سر الربط بين الصيام والاعتكاف
وشرع الله تعالى الصيام حتى يتخلص القلب ويتخفف من فضول الطعام والشراب والشهوة؛ لأن الإنسان في نهار رمضان يمتنع عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس، وهذا امتناع معتدل ليس فيه ما في الأديان الأخرى والمذاهب الأرضية الباطلة من الغلو، كما يفعل بعضهم فيصومون شهراً كاملاً، وبعضهم يجورون على الجسد فيمنعونه الأكل والشراب والنوم والطعام على مدى أيام وربما شهور، وبعضهم قد يدفنونه في الأرض فيجورون على أجسادهم، فليس هذا في الإسلام بل فيه حِمية معتدلة، هذا بالنسبة للصيام.
ثم شرع الله تعالى الاعتكاف؛ حتى يتخلص الجسد والقلب من فضول صحبة الناس التي لا خير فيها، والتي قد تزيد فتصبح مثل ما إذا أصيب الإنسان بالتخمة من كثرة الطعام والشراب، ولذلك قال الشاعر: عدوك في صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب فكما أن الإنسان إذا أكثر من الطعام والشراب أصيب بالتخمة، كذلك إذا أكثر من الصحبة والمجالسة والاختلاط بالناس أصيب بالتخمة من جراء ذلك، فمرض القلب واعتل، فكان الاعتكاف حِمية للقلب من كثرة الصحبة والاختلاط بالناس.
ثم فيه حِمية -أيضاً- من كثرة الكلام، لأن الإنسان غالباً ما يعتكف بمفرده، فيقبل على الله تعالى بالصيام والقيام وقراءة القرآن وما أشبه ذلك.
وكذلك فيه حِمية من كثرة النوم، فإن الإنسان إنما اعتكف ليعبد الله تعالى، ولم يعتكف حتى ينام في المسجد، فيكون في ذلك من الإقبال واجتماع القلب على الله تعالى ما ليس في غيره.
ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال ابن القيم رحمه الله: إن جمهور السلف على أنه لا اعتكاف إلا بصوم.
بل صح هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[لا اعتكاف إلا بصوم]] فرأوا أن الاعتكاف لا يصح إلا بالصيام، وهذا مذهب جماعة من الأئمة؛ وذلك حتى يجمع للإنسان بين الصيام وبين الاعتكاف فيحصل فضائل هذا وفضائل ذاك.
وقال الإمام ابن القيم: إنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف إلا وهو صائم.
وهذا الذي قاله رحمه الله فيه بعض النظر كما سيأتي.
فقد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال، ولم يثبت أنه كان صائماً في هذه الأيام التي اعتكفها، ولا أنه غير صائم، فالأمر على ذلك غير ظاهر.
ولكن الأصح أن يقال: يستحب للإنسان ألا يعتكف إلا بصيام.
هذه إشارة إلى بعض حكمة مشروعية الاعتكاف وجمع الصيام معه، كما هو مذهب جماهير السلف كما نقله ابن القيم، وثبت عن عمر وابن عباس وعائشة رضى الله عنهم، وبه قال مالك والأوزاعي والإمام أبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن الإمام أحمد والشافعي.(19/98)
حكم الاعتكاف وإهمال الناس له
قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود: لا أعلم أحداً من العلماء إلا قال إنه مسنون.
يعني الاعتكاف.
وقد نقل عن الإمام مالك أنه قال: تأملت أمر الاعتكاف وما ورد فيه، وكيف أن المسلمين تركوه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتركه، فرأيت أنهم إنما تركوه لمشقة ذلك عليهم -أي أن فيه مشقة- قال مالك: ولم أعلم عن أحداً من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن.
وما قاله الإمام مالك متعقب؛ فإنه نقل عن جماعات من السلف أنهم كانوا يعتكفون، ومن ذلك أمهات المؤمنين كما سوف يأتي.
ولذلك قال الزهري رحمه الله: عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.(19/99)
العشر الأواخر من رمضان
الوقفة الثالثة والعشرون: مع العشر الأواخر.
وبادرنا بهذه الوقفة لأن هذا هو الدرس الأخير ضمن هذه الدروس في هذا الشهر -إن شاء الله-.(19/100)
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر
كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر مالا يجتهد في غيره من العبادة، ومن ذلك أنه كان يعتكف فيها -كما سبق- وكان عليه الصلاة والسلام يتحرى فيها ليلة القدر، ولذلك جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله} وزاد مسلم: {كان إذا دخل العشر جدَّ وشدَّ المئزر} .
فقولها: "شد المئزر" قيل: هو كناية عن التشمير للعبادة، وقيل: كناية عن اعتزال النساء، وهذا هو الأقرب أن معنى قولها: شد المئزر، كنايةً عن أنه لا يجامع النساء في العشر الأواخر من رمضان، بل يعتزل أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وهذه كناية معروفة عند العرب قال الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار فمعنى شد المئزر أنه لا يحل إزاره لجماع نسائه، وذلك لأنه كان يعتكف في العشر كما هو معروف.
وكان يجتهد في العبادة، ولذلك قالت عائشة: {شد المئزر وأحيا ليله} وهذا أيضاً كناية عن طول القيام والعبادة بالليل، وأنه كان يقوم الليل كله صلى الله عليه وسلم.
فإما أن يكون المعنى أنه كان يقوم الليل كله من أوله إلى آخره، وإما أن يكون المعنى أنه يقوم معظم الليل.
ولذلك جاء في حديثها الآخر في الصحيح: {ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهراً كاملاً غير رمضان، ولا قام ليلةً كاملة حتى الصباح} فيحمل قولها: {وأحيا ليله} على أنه يقوم أغلب الليل، ومن المعروف أنه يتخلل ذلك العشاء، والسحور، ويتخلل ذلك أشياء مما اعتيد أنه كان يفعلها صلى الله عليه وسلم، فيكون قولها أحيا ليله، أي أغلب ليله.(19/101)
نصيحته لأهل بيته صلى الله عليه وسلم
{وأيقظ أهله} أي: يوقظ أزواجه عليه الصلاة والسلام للقيام، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة؛ لكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل.
ولهذا جاء كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً، فصلى ثم قال: {من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسيةٍ في الدنيا عارية يوم القيامة} .
وكذلك {كان يوقظ عائشة إذا أراد أن يوتر عليه الصلاة والسلام} لكن في العشر الأواخر كان يوقظهم أكثر وأطول مما كان يوقظهم في بقية الشهور والليالي.(19/102)
وقفة مع ليلة القدر
الوقفة الرابعة والعشرون: ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر!(19/103)
ليلة القدر ليست خاصة بهذه الأمة
وفيما يتعلق بليلة القدر، فإنني أختم موضوعها ببيان أن هذه الليلة ليست خاصةً لهذه الأمة على الراجح، بل هي عامةً لهذه الأمة وللأمم السابقة، لما رواه النسائي عن أبي ذر أنه قال: {يا رسول الله! هل تكون ليلة القدر مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال عليه الصلاة والسلام: كلا، بل هي باقية} وهذا أصح من الحديث الذي ذكرته في الجلسة الماضية عن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار أمته فكأنه تقالها، فأعطي ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر.
وعلى فرض صحة حديث مالك، فهو قابل للتأويل، وحديث أبي ذر صريح في أن ليلة القدر تكون مع الأنبياء، ومما يقوي ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] في ليلة مباركة، الذي أنزل فيه القرآن، ومن المعلوم أن القرآن يوم أنزل أنزل بالنبوة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبله لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم نبياً حتى تكون ليلة القدر بالنسبة له.(19/104)
علامات ليلة القدر
ما هي العلامات التي تعرف بها ليلة القدر؟ العلامة الأولى: ثبتت في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن من علامتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، وهذا ثابت.
العلامة الثانية: ثبتت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة، ورواه الطيالسي -أيضاً- في مسنده، وهو حديث سنده صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليلة القدر ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة} .
فذكر علامات إضافية، منها: أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، وأن الشمس فيها حمراء ضعيفة.
ومن علاماتها -أيضاً-: ما ثبت عند الطبراني بسند حسن، من حديث واثلة بن الأسقع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنها ليلة بلجة -أي: منيرة- مضيئة، لا حارة ولا باردة، لا يرمى فيها بنجم} أي: لا ترى فيها الشهب التي ترسل على الشياطين.
هذه ثلاثة أحاديث صحيحة، وهناك حديث رواه أحمد في مسنده، عن عبادة بن الصامت، وسنده صحيح إلا ما يخشى من انقطاعه، لكن يشهد له ما سبق، وهو حديث طويل وعجيب في ذكر بعض خصائص ليلة القدر.
قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، وهي ليلة ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد، ولا يحل لكوكب أن يرمى فيها، والشمس تطلع صبيحتها مستويةً لا شعاع لها مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ} لأن عادة الشيطان أن يخرج مع الشمس كما في الحديث الصحيح: {تطلع الشمس بين قرني الشيطان} .
أما في ليلة القدر فإنه لا يحل للشيطان أن يطلع مع الشمس، أو يجعل قرنيه باتجاه الشمس بحيث تطلع بين قرنيه، والحديث -كما ذكرت- لا بأس بإسناده في الشواهد؛ إلا أنه يخشى من انقطاعه، فإنه من رواية خالد بن معدان عن عبادة، ولم يثبت له منه سماع.
وذكر بعض أهل العلم علامات أخرى لا أصل لها وليست صحيحة، إنما أذكرها لبيان أنها لا تصح، كما ذكر الطبري عن قوم أنهم قالوا: من علامات ليلة القدر أن الأشجار تسقط حتى تصل إلى الأرض، ثم تعود إلى أوضاعها، وهذا لا يصح.
وكذلك ذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح حلوةً في ليلة القدر، وهذا أيضاً لا يصح.
وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها، وهذا لا يصح.
وذكر بعضهم أن الأنوار تكون في كل مكان حتى في الأماكن المظلمة، وهذا لا يصح.
وأن الناس يسمعون التسليم في كل مكان، وهذا لا يصح.
إلا أن يكون المقصود بذلك أنه لفئة خاصة ممن اختارهم الله تعالى وأكرمهم، فيرون الأنوار في كل مكان، ويسمعون تسليم الملائكة، فهذا لا يبعد أن يكون كرامةً لمن اختارهم الله تعالى واصطفاهم في هذه الليلة المباركة، التي هي خير من ألف شهر.
أما أن يكون هذا عاماً فهو باطل، وهو معارض لدلالة الحس المؤكدة الثابتة ومشاهدة العيان.
وينبغي أن يعلم أنه ليس من الضروري لمن أدرك ليلة القدر أن يعلم أنها ليلة القدر، بل قد يكون ممن لم يكن له منها إلا القيام والعبادة والخشوع والبكاء والدعاء، من هم أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة.
فالعبرة هي بالاستقامة ولزوم الجادة، والتعبد لله عز وجل والإخلاص، كما ذكره طائفة من أهل العلم.(19/105)
ليلة مباركة
فهي الليلة المباركة المذكورة في كتاب الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:2-6] .
فسماها الله عز وجل الليلة المباركة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] وفيها أنزل القرآن، وقد صح هذا المعنى عن جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم من علماء السلف ومفسريهم، قالوا إن الليلة المباركة هي ليلة القدر.(19/106)
(فيها يفرق كل أمر حكيم)
قال الله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] أي أنه تقدر في ليلة القدر مقادير الخلائق على مدى العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والحاج والداج، والعزيز والذليل، ويكتب فيها الجدب والقحط وكل ما أراده الله تبارك وتعالى في تلك السنة، والظاهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه ينقل ذلك في ليلة القدر من اللوح المحفوظ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [[إن الرجل يُرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وإنه لفي الأموات]] أي: أنه كتب في ليلة القدر من الأموات.
ففيها يفرق كل أمر حكيم، أي يكتب ويفصل، وقيل: إن المعنى أنه يبين في هذه الليلة للملائكة.(19/107)
لم سميت بليلة القدر
وقال الله عز وجل عنها في السورة الخاصة بها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1-5] .
فسماها الله تبارك وتعالى ليلة القدر، وذلك لعظيم قدرها، وجلالة مكانتها عند الله عز وجل، وكثرة مغفرة الذنوب، وستر العيوب في هذه الليلة المباركة.
وقيل سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها وتكتب فيها المقادير.
وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت ليلة القدر، لأن الأرض تضيق بكثرة الملائكة، من القدر وهو التضييق قال الله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ} [الفجر:16] أي: ضيق.
وقال الله عز وجل تنويهاً بشأنها وعظمتها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] ثم أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر، أي: ثلاثة وثمانين سنة {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:4-5] .(19/108)
تحديد ليلة القدر
وفي ليلة القدر وقفات وعبر، منها: أنها ليلة المغفرة.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} .
ويستحب تحريها في رمضان وفي العشر الأواخر منه خاصة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {التمسوها في العشر الأواخر} متفق عليه.
وثبت هذا من حديث عبد الله بن عمر وأبي سعيد وبالذات في أوتار العشر الأواخر، وهي ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، كما ثبت في المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {التمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها} .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه -وهو في الصحيح أيضاً- قال: {في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى} فبين عليه الصلاة والسلام أنها أرجى ما تكون في الأوتار من العشر الأواخر.
وكذلك جاء في البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر أصحابه بليلة القدر فقال لهم: {إني خرجت لأخبركم ليلة القدر فتلاحا رجلان فأنسيتها} -أي: تخاصم رجلان، وهذا يدل على شؤم الخصومة في غير حق، خاصة الخصومة في الدين، وعظيم ضررها، وأنها السبب في غياب الحق وخفائه علىالناس- فقال عليه الصلاة والسلام: وعسى أن يكون خيراً، ثم أمر أن يلتمسوها في ليلة تسع وعشرين، وسبع وعشرين، وخمس وعشرين} .
وأرجى ما تكون أيضاً في السبع البواقي، ولذلك جاء في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن جماعةً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في السبع الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر} .
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: {أرى رؤياكم قد تواطأت} أي اتفقت، فكأنهم قد رأوها في المنام إما جاءهم أحد وقال لهم: إنها في السبع الأواخر، أو رأوا في المنام أن ليلة القدر تكون في السبع الأواخر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريها في هذه السبع الأواخر، وبالذات في ليلة سبع وعشرين، فإنها أرجى ما تكون.
بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عمر عند أحمد، ومن حديث معاوية عند أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليلة القدر ليلة سبع وعشرين} .
وليلة القدر أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين للحديثين السابقين؛ ولأن هذا مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء، حتى إن أبي بن كعب رضي الله عنه، كان يحلف على ذلك كما في صحيح مسلم: [[يحلف أنها ليلة سبع وعشرين]] وكذلك ابن عباس رضي الله عنه قال: [[إنها ليلة سبع وعشرين]] واستنبط ذلك من استنباطات عجيبة، منها: أن كلمة (فيها) من السورة {تَنزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] هي الكلمة السابعة والعشرين.
ومنها: ما ورد أن عمر رضي الله عنه، لما جمع الصحابة وجمع ابن عباس معهم، فقالوا: لـ عمر رضي الله عنه هذا كأحد أبنائنا فلماذا تجعله معنا؟ فقال: إنه فتى له قلب عقول ولسان سؤول، وأثنى عليه ثم سأل الصحابة عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر، فقال ابن عباس: [[إني لأعلم أين هي إنها ليلة سبع وعشرين.
فقال عمر: وما أدراك؟ قال: إن الله تعالى خلق السموات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وجعل الأيام سبعة، وخلق الإنسان من سبع، وجعل الطواف سبعاً والسعي سبعاً ورمي الجمار سبعاً]] .
ولذلك رأى ابن عباس أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، وكأن هذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
وبعض العلماء قالوا: ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، لأن كلمة ليلة القدر تسعة حروف، وقد ذكرت في السورة ثلاث مرات، والنتيجة ثلاثة في تسعة بسبعة وعشرين، ولم يرد دليل شرعي على أن مثل هذه الحسابات يمكن أن يعرف بها ليلة القدر.
وهذا يذكرني بما يتحدث به بعض المعاصرين، هما يسمونه بالإعجاز العددي.
وخلاصة القول أن نقول: ليلة القدر هي في العشر الأواخر وفي أوتارها وفي السبع البواقي، وأرجى ما تكون في ليلة سبع وعشرين، دون حاجة إلى مثل هذه الحسابات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ومما يرجح أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين: أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أريها في تلك الليلة، وأري صبيحتها أنه يسجد على ماء وطين، وليلة القدر والله تعالى أعلم تتنقل من ليلة إلى أخرى، فغالباً ما تكون ليلة سبع وعشرين لكن قد تكون ليلة إحدى وعشرين -أحياناً- كما في حديث أبي سعيد السابق، وهو متفق عليه، أنه في صبيحة إحدى وعشرين سجد على ماء وطين.
ومما يتعلق بليلة القدر: أنه يستحب فيها الإكثار من الدعاء خاصةً الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها حين قالت: {إن أريت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} والحديث رواه الترمذي وابن ماجة وسنده صحيح.(19/109)
وقفات مع العيد
الوقفة الخامسة والعشرون: مع العيد.
والعيد اسم لكل ما يعتاد، وهي شعارات موجودة عند كل الأمم، فكل أمة على الأرض من الأمم الكتابية، كاليهود والنصارى، أو غيرها، من الأمم الوثنية لها أعياد؛ وذلك لأن العيد يعود إلى فطرة وطبيعة وجبلة ركبت الغرائز والفطر، عليها من أن الناس يحبون أشياءً يتذكرون فيها بعض ما مضى.
ولكن الأمم الكافرة أعيادهم ترتبط بأمور دنيوية، مثل قيام دولة، أو سقوط دولة، أو قيام حاكم أو سقوط حاكم أو زواجه أو تتويجه أو ما أشبه ذلك.
وقد يحتفلون بمناسبة أخرى كربيع أو غيره، ولليهود أعياد وللنصارى أعياد، كما هو معروف، فعندهم عيد في يو الخميس، يزعمون أنه أنزلت فيه المائدة على عيسى عليه الصلاة والسلام.
وكذلك النصارى لهم أعياد أخرى، مثل عيد ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام، ومثل عيد رأس السنة الذي يسمونه الآن بعيد الكريسمس، ومثل عيد الشكر أو عيد العطاء، ويحتفلون به الآن في جميع البلاد الغربية كأمريكا وبريطانيا، وغيرها من البلاد التي ورثت النصرانية وإن لم تكن نصرانية حقيقية.
وكذلك المجوس والفرس لهم أعياد، مثل عيد المهرجان، وعيد النيروز وغيرها.
والرافضة أيضاً لهم أعياد، كعيد الغدير الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع فيه علياً على الخلافة، وبايع فيه الأئمة الإثني عشر من بعده، ولهم فيه مصنفات، حتى إن هناك كتاباً اسمه يوم الغدير يبلغ عشرات المجلدات.
ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى} كما جاء في سنن أبي داود، وسنن النسائي عن أنس بسند صحيح.
ولذلك فليس للمسلمين إلا عيد الفطر وعيد الأضحى.
قال الشاعر: عيدان عند أولي النهى لا ثالثٌ لهما لمن يبغي السلامة في غدِ الفطر والأضحى وكل زيادة فيها خروجٌ عن سبيل محمدِ قال ذلك رداً على الشاعر الذي يقول: المسلمون ثلاثة أعيادهم الفطر والأضحى وعيد المولد فإذا انتهت أعيادهم فسرورهم لا ينتهي أبداً بحب محمدِ فهذا أضاف عيداً ثالثاً، وهو عيد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، فرد شاعرنا بقوله السابق: ولذلك ينبغي إحياء هذه الأعياد واستشعارها وإدراك معناها؛ لأنها شعائر إسلامية ينبغي أن يعلم الجميع أن المسلمين في يوم عيد.(19/110)
تنبيهات مهمة حول العيد
ومما ينبغي التنبيه عليه في موضوع العيد أمور: أولاً: بعض الناس يعتقدون مشروعيه إحياء ليلة العيد، ويتناقلون حديثاً ورد من طريقين {أن من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب} وهذا الحديث لا يصح، بل جاء من طريقين أحدهما ضعيف والآخر ضعيف جداً، فلا يشرع تخصيص ليلة العيد بحكم عن غيرها من الليالي، بل من كان يقوم بقية الليالي قام في ليلة العيد كما يقوم في غيرها، أما تخصيصها فلا يشرع.
ثانياً: مما ينكر في العيد اختلاط الرجال بالنساء، في المصليات والشوارع والأماكن، ومع الأسف الشديد أن هذا الاختلاط يقع في أقدس البقاع وأفضلها، في المساجد بل وفى المسجد الحرام، ويقع فيه من مظاهر التبرج والسفور ما يحزن كل قلب غيور، وما يجعل الفتنة قاب قوسين أو أدنى، فإن كثيراً من النساء -هداهن الله- يخرجن بأبهى زينة، سافرات كاشفات متبرجات متزينات متعطرات، مع ما في المسجد من شدة الزحام، وفي ذلك من الفتنة والضرر العظيم ما فيه.
ولذلك أنصح الشباب إذا صلوا صلاة الفجر يوم العيد، أن لا يخرجوا من المسجد، بل يبقوا حتى يصلوا العيد، ثم يجلسوا حتى يتفرق الناس بعداً عن الفتن العظيمة التي قد تعرض لهم.
ثالثاً: مما يحدث في ليلة العيد، أن بعض الناس يجتمعون على الغناء واللهو والعبث، وهذا لا يجوز.
ومن المفاسد التي تقع: أن بعض الناس يفرحون لأنهم قد تركوا رمضان وانتهوا من الصيام وهذا خطأ؛ فإن العيد إنما يفرح به لأن الله تعالى قد وفقنا لإكمال عدة الشهر والصيام، وليس الفرح لأننا قد انتهينا من الصيام، وتركنا هذا الأمر الذي يعتقد البعض أنه كان ثقيلاً عليهم.(19/111)
آداب العيد
للعيد آداب ينبغي التحلي بها: أولاً: الاغتسال قبل الخروج إلى العيد، وقد صح هذا في موطأ مالك وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه، [[أنه كان يغتسل قبل خروجه]] وكذا صح عن السائب بن يزيد وصح عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: [[سنة العيد ثلاث: المشي -يعني يمشي للعيد ماشياً- والاغتسال، والأكل قبل الخروج]] ولعله أخذ ذلك عن بعض الصحابة.
وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على أنه يستحب الاغتسال لصلاة العيد، والمعنى موجود، فإن المعنى الذي يستحب له الغسل للجمعة وغيرها من الاجتماعات العامة، متحقق في العيد بل هو أكثر ذلك.
ثانياً: من آداب صلاة العيد: ألا يخرج في عيد الفطر حتى يأكل تمرات، لما رواه البخاري عن أنس {أن النبي صلى الله علية وسلم: كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات} بخلاف الأضحى، فإنه يستحب ألا يأكل إلا بعد العيد، من أضحيته.
وإنما استحب أكل التمرات في عيد الفطر؛ مبالغةً في النهي عن الصوم في ذلك اليوم، لأن الإنسان يفطر قبل أن يذهب إلى العيد.
ثالثاً: من آداب يوم العيد: التكبير، كما قال الله عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] فأشار إلى مشروعية التكبير في العيد.
والتكبير في العيد نقل عن ابن عمر رضي الله عنه، من طرق وبأسانيد صحيحة، عند البيهقي وابن أبي شيبة [[أنه كان يكبر إذا خرج من بيته إلى أن يأتي إلى المصلى]] وكان التكبير منذ الخروج من البيت إلى المصلى وإلى دخول الإمام، مشهوراً جداً عند السلف، وقد نقله جماعة من المصنفين كـ ابن أبي شيبة وعبد الرازق والفريابي في كتابه أحكام العيدين عن جماعة منهم، حتى إن نافع بن جبير رضي الله عنه، [[كبر ثم تعجب من عدم تكبير الناس، وقال لهم: ألا تكبرون ألا تكبرون؟!]] وكذلك محمد بن شهاب الزهري يقول: [[كان الناس يكبرون من حين خروجهم من بيوتهم حتى يدخل الإمام]] فيشرع للإنسان أن يكبر من حين أن يخرج من منزله إلى أن يدخل الإمام في يوم العيد للصلاة ثم الخطبة.
رابعاً: من آداب العيد: التهنئة التي يتبادلها الناس فيما بينهم أياً كان لفظها، كقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم، أو ما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المشروعة المباحة التي يتبادلونها.
والتهنئة أمر كان معروفاً عند الصحابة، ورخص فيه أهل العلم كالإمام أحمد وغيره، وقد ورد ما يدل على مشروعيه التهنئة في المناسبات، وتهنئة الصحابة بعضهم بعضاً فيما إذا حصل لهم أمر يسر، كما هنوا من تاب الله عليهم، إلى غير ذلك، ولا حرج في هذه التهنئة.
بل ورد في ذلك أثار عديدة صحيحة عن الصحابة؛ يحتج بها على أنه لا بأس أن يهنئ الناس يعضهم بعضاً بالعيد، وهذا من مكارم الأخلاق التي لا بد أن يحافظ الناس عليها، ولا حرج فيها، وأقل ما يقال فيها: إن هنأك أحد فهنئه وإن سكت فاسكت.
قال الإمام أحمد رحمه الله: إن هنأني أحد أجبته وإلا لم أبتدئه.
خامساً: من آداب العيد: التجمل بأحسن الملابس؛ لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر [[أن عمر رضي الله عنه خرج إلى السوق فوجد حلةً من إستبرق تباع، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول! ابتع هذه تتجمل بها للعيد والوفود]] .
فدل على أن التجمل للعيد والوفود كان معروفاً، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على التجمل؛ لكنه أنكر عليه شراء هذه الحلة التي هي من حرير، وقال: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له} .
وعن جابر رضي الله عنه قال: {كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها للعيد والجمعة} والحديث رواه ابن خزيمة، وعن ابن عمر -أيضاً- عند البيهقي بسند صحيح، [[أن ابن عمر كان يلبس للعيد أجمل ثيابه]] .
فينبغي أن يلبس الإنسان أحسن ما عنده من الثياب.
أما بالنسبة للنساء -إن خرجن- فينبغي أن يبتعدن عن الزينة؛ لأنهن منهيات عن إظهار زينتهن للرجال الأجانب.(19/112)
أحكام العيد
وفيما يتعلق بالعيد لدينا مجموعة من الأحكام أسردها باختصار: أولاً: يحرم صوم يومي العيدين، لحديث أبي سعيد الخدري السابق.
ثانياً: يستحب الخروج للصلاة للرجال والنساء، لقول أم عطية رضي الله عنها -كما في الصحيح-: {أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور -أي: البنات الغير متزوجات: الأبكار- وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى؛ ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ويكبرن بتكبير الناس} .
فإذا أمرت الحيض، والعواتق، وذوات الخدور، فمن باب أولى أن يؤمر الرجال والشباب بالخروج إلى العيد.
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الخروج لصلاة العيد لهذا الحديث ولغيره من الأدلة، كما في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] .
قال بعضهم: المقصود صلاة العيد.
ثالثاً: من أحكام صلاة العيد: أن الصلاة فيه قبل الخطبة، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي سعيد وابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الخطبة} .
رابعاً: من أحكامه: أن الإمام يستحب له أن يكبر في الصلاة سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، كما ثبت هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين، كـ عمر، وعثمان، وعلي، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد ورد في ذلك أحاديث عدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن طريق كثير بن عبد الله المزني عن عمرو بن عوف، لكن -الأحاديث المرفوعة- كلها لا تصح لكن ثبت ذلك في أحاديث وآثار موقوفة.
وكذلك يجوز أن يكبر أربعاً في الأولى وأربعاً في الثانية، فقد ثبت هذا عن جماعة من السلف منهم ابن مسعود رضي الله عنه، كما رواه عنه الفريابي وغيره، وهو مذهب الأحناف.
خامساً: من أحكام العيد: أنه يستحب أن يقرأ في صلاة العيد بسورة (ق) ، واقتربت الساعة، كما في صحيح مسلم، أن عمر رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي فقال له: ماذا كان يقرأ النبي عليه الصلاة والسلام في العيد؟ فذكر له ذلك.
وأكثر ما ورد أنه كان يقرأ بسبح والغاشية، كما يقرؤهما في صلاة الجمعة.
سادساً: من أحكام العيد: أنه لا نافلة قبلها ولا بعدها، كما روى الستة عن ابن عباس رضي الله عنه، {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى العيد فلم يصلِّ قبلها ولا بعدها} إلا إذا صلى الناس العيد في المسجد، فإنه يصلى ركعتين تحية المسجد.(19/113)
صدقة الفطر
الوقفة السادسة والعشرون: مع صدقة الفطر.
وصدقة الفطر فرض على الذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، كما جاء في حديث ابن عمر وابن عباس المتفق عليه.(19/114)
الأصناف التي تخرج منها صدقة الفطر
فيما يتعلق بصدقة الفطر، فإنما تخرج من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد أنه قال: {كنا نخرجها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب} وزاد ابن عمر كما في صحيح ابن خزيمة: {أو صاعاً من سلت} والسلت هو: نوع جيد من الشعير ليس فيه قشر.
وفى رواية أخرى عن ابن عباس عند ابن خزيمة، أنه قال: [[من أدى سلتاً قُبل منه، ومن أدى دقيقاً قُبل منه، ومن أدى سويقاً قُبل منه]] ولذلك بوب ابن خزيمة رحمه الله: باب إخراج صدقة الفطر من جميع الأطعمة.
ولذلك فالصحيح أن صدقة الفطر تخرج صاعاً من طعام البلد أياً كان طعام البلد.(19/115)
الأصناف الذين يستحقون صدقة الفطر
وصدقة الفطر إنما هي للمساكين خاصة، وليست لأصناف أهل الزكاة الثمانية، بل هي للمساكين خاصة، لما جاء في حديث ابن عباس في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {طهرة للصائم من اللغو، والرفث، وطعمة للمساكين} وهذا الذي رجحه جماعة من أهل العلم، كـ ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
وتؤدى هذه الزكاة قبل الخروج إلى الصلاة، ومن أداها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج، ولا يجوز تأخيرها عن الصلاة، فإن أخرها بعد فإنما هي صدقة من الصدقات.(19/116)
أحكام القضاء
الوقفة السابعة والعشرون: أحكام القضاء.
وفى هذه الوقفة أشير إلى أنواع من الناس:(19/117)
أنواع الناس في القضاء
النوع الأول: الحائض والنفساء، والمسافر، فهؤلاء يفطرون ويقضون.
النوع الثاني: الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فإنهما تفطران، والراجح أنهما تفطران وتقضيان فحسب، لما جاء في قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
- والحامل والمرضع تلحق بالمريض، لما في السنن من حديث أنس بن مالك الكعب، وسنده صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: {هلم إلى الطعام.
فقال: إني صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أخبرك إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، ووضع عن المرضع والحبلى الصوم} فالحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فالراجح أن عليهما الفطر والقضاء.
وقال بعض أهل العلم: عليهما الفطر والقضاء والإطعام، وقال آخرون: عليهما الإطعام فقط.
والخلاف فيما إذا خافت على ولدها.
النوع الثالث: المريض، والمريض قسمان: الأول: المريض الذي يرجى برؤه، كمن يكون فيه حمى، فإن هذا المريض لا شيء عليه؛ لكن إذا شفي فعليه القضاء، فإن مات قبل أن يشفى فلا شيء على ورثته، أما إن تمكن من القضاء ثم فرط فعليهم أن يطعموا أو يصوموا عنه.
- أما المريض الذي لا يرجى برؤه، بأن يكون مصاباً بالأمراض التي لا ترجى، وهى كثيرة -شفانا الله وعافانا وإياكم منها- فإن هذا المريض يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً.
النوع الرابع: الكبير الهرم الذي أصابه الخرف وزال عقله وسقط تمييزه، فإن هذا لا صوم عليه ولا قضاء ولا إطعام.(19/118)
أمور تتعلق بالقضاء
فيما يتعلق بالقضاء أشير إلى ثلاث نقاط: الأولى: أن بعض الناس يؤخرون القضاء إلى ما بعد رمضان الآخر، وهذا لا يجوز، لقول عائشة كما في صحيح البخاري: [[كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان، للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم]] ولأنه يترتب على ذلك تراكم الصيام على الإنسان، ولأن الصيام عبادة موقوتة بالسنة، فلم يجز أن يؤخر إلى السنة التي بعدها.
والثانية: أنه لا يشترط التتابع في الصيام، فبعض الناس يعتقدون أن قضاء رمضان يشترط فيه التتابع، وهذا غير صحيح، بل له أن يصوم يوماً ويفطر ثم يصوم وهكذا.
والثالثة: أنه يستحب الإسراع في القضاء، لأنه أسرع في إبراء الذمة، وأبعد عن تعرض الإنسان للموت والفوت.(19/119)
صيام الست من شوال
الوقفة الثامنة والعشرون: صيام الست من شوال، وهو مشروع.(19/120)
أدلة مشروعية صيام الست من شوال
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر} وهذا المعنى جاء عند الدارمي وابن ماجة من حديث ثوبان، وجاء عند أحمد من حديث جابر، وجاء عند البزار من حديث أبي هريرة، كل هذه الأحاديث تدل على مشروعية صيام الست من شوال، وهو الصحيح من مذهب الجماهير خلافاً لـ مالك.
وإنما كان صيام الست مع رمضان صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان عن عشرة أشهر، والست من شوال عن ستين يوماً فهي أي: شهرين، فصارت العشر أشهر مع شهرين الحول كله.(19/121)
المبادرة بصيام الست
ويستحب المبادرة بصيام الست من شوال، بحيث يبدأ بها من اليوم الثاني استحباباً، ولو أخر إلى آخر الشهر فلا حرج عليه في ذلك، ولا يصومها من كان عليه قضاء من رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال} فالست من شوال تكون بعد قضاء رمضان، وبعض الناس يسمون اليوم الثامن من شوال عيد الأبرار، وهذه بدعة باطلة منكرة، فالأعياد اثنان -كما سلف- لا ثالث لهما.(19/122)
صيام النفل
الوقفة التاسعة والعشرون: مع صيام النفل.
{كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم} ولم يعلم عنه أنه صام شهراً كاملاً غير رمضان، إلا شعبان فإنه كان يصوم أكثره.
وكان عليه الصلاة والسلام يتعاهد صيام يوم الإثنين والخميس، ويتعاهد صيام أيام البيض، بل جاء عنه في حديث -وإن كان فيه ضعف- {أنه كان لا يترك صيامها في حضر ولا سفر} .
وكان يأمر بصيام أيام البيض أيضاً، فقد أمر بذلك أبا هريرة، وأبا ذر، أمرهم بثلاث: منها: أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر.
وكان عليه الصلاة والسلام قد أذن ل عبد الله بن عمرو بن العاص أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ونهى عن صيام الدهر فقال: {لا صام ولا أفطر -وقال:- لا صام من صام الأبد} وقال عليه الصلاة والسلام: {من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم} .
وكان يأمر بصيام يوم عرفة لغير الحاج، فأما الحاج فيكره له أن يصوم فيه، وقال عليه الصلاة والسلام: {احتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الباقية} .
وكذلك صام عليه الصلاة والسلام عاشوراء، وقال: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} وصيامه عليه الصلاة والسلام النفل كثير.
الوقفة الأخيرة: هي الخاتمة -نسأل الله تعالى لنا ولكم حسن الخاتمة- نحن -الآن- مقبلون على النصف الثاني من رمضان، فقد مضى نصفه وبقي نصفه الآخر، وكأنكم به وقد آذن بالرحيل، فالعاقل كل العاقل، والحازم كل الحازم هو من اغتنم ساعاته وأيامه ولياليه، فمن يدري ربما تكونون ممن كتبوا في سجل الأموات في هذا العام، فالبدار البدار، والإسراع الإسراع، والحذر الحذر من التفويت والتفريط ما دمت في زمن الإمكان.(19/123)
الأسئلة(19/124)
مسجد العيد
السؤال
هل يعتبر مسجد العيد مسجداً؟
الجواب
لا يعتبر مسجداً إنما هو مصلى.(19/125)
الإجازة الاضطرارية
السؤال
الإجازة الاضطرارية، هل تجزم بتحريم أخذها من أجل العمرة علماً بأنه يجب التأكد من تفسيرها من الديوان؟
الجواب
في الواقع أنني سألت بعض المسئولين في الديوان وأكثر من مسئول، وقالوا إنها تؤخذ في حالة الضرورة، مثل حالة وفاة وما أشبه ذلك، وهذا هو الظاهر.
ولا شك أن القول بتحريمها مبني على معرفة الحالات التي يجوز فيها أخذ الإجازة الاضطرارية، لكن إن كانت على ظاهره أنها لا تؤخذ إلا للضرورة، فلا يجوز أخذها من أجل أداء العمرة.
هذا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(19/126)
التقبيل والمصافحة
السؤال
حكم التقبيل في يوم العيد؟
الجواب
أولاً: بالنسبة للمصافحة يوم العيد، يقول الفقهاء: لا حرج في المصافحة إذا اتحد الجنس، بأن كان المتصافحان ذكراً مع ذكر، أما مصافحة الأنثى فلا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له} .
أما التقبيل، فإن كان له مناسبة مثل أنك لم تره منذ زمن فلا حرج فيه.(19/127)
النية مع الإمام للوتر
السؤال
سمعنا أنه يلزم أن ينوى المصلى للتراويح بعد نهايتها نية جديدة للوتر، فإذا كان هذا صحيحاً فما الحكم فيمن صلى خلف الإمام عشر ركعات، ثم أوتر بواحدة، وكان من عادته أن يوتر بثلاث؟
الجواب
الذي يظهر لي -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه من دخل مع الإمام بنية أنه سوف يستمر معه إلى نهاية الوتر أن هذا يكفي في النية، والله تبارك وتعالى أعلم.(19/128)
التنويع لبيان الجواز
السؤال
بعض الأئمة ينوعون، بحيث يصلون أحياناً إحدى عشر وأحياناً ثلاثة عشر، وأحياناً يقرنون الشفع والوتر، وأحياناً يقنتون وأحياناً لا يقنتون، فما رأيك؟
الجواب
بالنسبة للقنوت لا بأس بالمحافظة عليه، إلا أن يخشى أن يعتقد الناس وجوبه.
وبالنسبة للصلاة إذا كان في التنويع مصلحة للبيان للناس فلا حرج، أما كثرة التنويع فليست حسنة، بل ينبغي أن لا يكثر الإنسان من التنويع، فيكون له عادة ولا مانع أن يترك هذه العادة أحياناً.(19/129)
ترك العمل خشية الرياء
السؤال
يقول: أنا إمام المسجد في التراويح، وبيتنا قريب من المسجد، وأريد الاعتكاف وأخشى الرياء، أرجو إرشادي ماذا أفعل، وما هي الحالات التي تتيح لي الخروج من المسجد؟
الجواب
لا تبالي بهذا الأمر الذي خطر لك من خشية الرياء، فلا يجوز ترك العمل خشية الرياء، بل ينبغي أن تعتكف وتتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أما الحالات التي تخرج فيها من المسجد فتخرج لحاجتك، كما قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: {وكان لا يخرج إلى البيت إلا لحاجة الإنسان} حاجتك من قضاء الحاجة، أو من الأكل والشرب وما أشبه ذلك.(19/130)
عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا عمرته التي كانت مع حجته، منها: عمرة الجعرانة، وعمرة القضاء، وعمرة الحديبية، والعمرة الرابعة كانت مع حجته صلى الله عليه وسلم.(19/131)
العمرة لإمام المسجد
السؤال
أنا مؤذن في أحد المساجد وأريد أن أعتمر، وقد طلبت من الوزارة إجازة لمدة أسبوعين ولم تمانع الوزارة؛ لكن لم أجد أحد يقوم مقامي؟
الجواب
إذا وجد من يقوم مقامك ووافقت الجهة المختصة فلا حرج في ذلك.(19/132)
شد الرحال من أجل طلب العلم
السؤال
بمناسبة ذكر شد الرحال، أشكل على كثير منا أن بعض الشباب ينتقلون من بلدهم إلى بلد آخر من أجل صلاة التراويح في رمضان مع الأئمة، فهل يعتبر هذا من شد الرحال، مع العلم أنهم أتوا من أجل الإمام؟
الجواب
لا حرج في ذلك، لا حرج في شد الرحال من أجل طلب العلم، أو من أجل الصلاة خلف إمام معين، أو من أجل السلام على رجل، أو من أجل زيارة مريض، أو من أجل زيارة أخ في الله، أو من أجل تجارة، لأن شد الرحل حينئذ ليس من أجل البقعة وإنما من أجل أمر آخر، والمنهي عنه هو شد الرحال من أجل البقعة باعتقاد فضلها عن غيرها.(19/133)
القضاء لمن شرب بعد الأذان
السؤال
يقول: في هذا اليوم لم أقم إلا الساعة الخامسة إلا ربع، والأذان في الساعة الرابعة والنصف، وكان ذلك في أثناء إقامة الصلاة فشربت ماءً هل علي قضاء؟
الجواب
نعم عليك القضاء.(19/134)
صيام أيام البيض وثلاثة أيام من شوال
السؤال
إذا صمت الأيام البيض وثلاثة أيام أخرى، فهل يكتب لي أجر صيام الست من شوال؟
الجواب
نعم يكتب لك ذلك، إذا صمت أيام البيض من شوال وصمت منها ثلاثة أيام أخرى، يكتب لك أجر صيام الست من شوال.(19/135)
الإحرام بالنسبة للحائض
السؤال
حجزت في الطائرة للذهاب للعمرة يوم الثلاثاء بعد غد على أساس أن زوجتي قد تكون طهرت من الحيض، ولكن إلى الآن لم تطهر، فما الحكم في الإحرام للمرأة الحائض، وما هو العمل عند الوصول إلى المحرم؟
الجواب
إذا وصلت إلى المحرم فتحرم زوجتك كغيرها وإن كانت حائضاً، فتغتسل وتلبس ثياب الإحرام وتلبي بالعمرة، لكنها لا تقضي مناسك العمرة حتى تطهر، فتعتمر أنت وتطوف وتسعى وتقصر، ثم تنتظر زوجتك حتى تطهر فإذا طهرت اعتمرت.(19/136)
النية في الصوم
السؤال
ما حكم من لم ينتبه من النوم إلا بعد الساعة التاسعة تقريباً من النهار، هل عليه قضاء هذا اليوم؟
الجواب
ما دام نوى الصيام في تلك الليلة فلا قضاء عليه.(19/137)
الأكل في حال الشك
السؤال
ما حكم من أكل شاكاً في طلوع الفجر؟
الجواب
صومه صحيح.(19/138)
الطهارة لمس المصحف
السؤال
هل يجوز مس مصحف على غير طهارة؟
الجواب
الصحيح الذي عليه جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم؛ أنه لا يجوز مس المصحف مباشرة إلا للمتوضئ.(19/139)
المضمضة المتكررة
السؤال
هل عليَّ حرج إن تمضمضت؛ وذلك لأنني مدرس أحتاج أن أتمضمض بعد كل درس؟
الجواب
لا حرج عليك.(19/140)
تكرار العمرة
السؤال
ذكرت في الدرس الماضي أن بعض أهل العلم كره الإكثار من العمرة، فما مدى صحة ذلك؟ وما هو متوسط العمرة في السنة؟
الجواب
قال بعضهم: كل عشرة أيام، وقال بعضهم: أكثر من ذلك، وقال بعضهم: أقل من ذلك، والصحيح أنه لا يتحدد ذلك، بل لا مانع أن يعتمر الإنسان متى شاء، لكن المنهي عنه أن يكرر الإنسان العمرة من مكة أي أن الإنسان يكون في مكة، وكل يوم وهو في عمرة، هذا لم يعهد عن السلف، أما كونه اعتمر ثم رجع، ثم ذهب مرة أخرى لأنه وجد رفقة أو ما أشبه ذلك فلا حرج.(19/141)
الاغتسال من المذي
السؤال
في صبيحة أحد أيام رمضان احتلمت ولم أر منياً وإنما رأيت مذياً، هل أغتسل من ذلك؟
الجواب
لا تغتسل، ما دام لم يخرج منك مني فلا غسل عليك، فالمذي لا يوجب الغسل وإنما يوجب غسل الذكر والأنثيين.(19/142)
الاعتكاف مع الجماعة
السؤال
ما رأيك في الاعتكاف في جماعة يتساعدون، ويأسرون أنفسهم الأمارة بالسوء، علماً بأنه يتخلل لعتكافهم بعض الكلام الدنيوي؟
الجواب
لا حرج في إعتكاف جماعة، وإن تخلل كلامهم كلاماً مباحاً، كما تكلمت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تكلم الرسول عليه الصلاة والسلام مع بعض أزواجه.(19/143)
صلاة التهجد
السؤال
ما رأيكم في صلاة التهجد التي تقام في العشر الأواخر من ناحية عددها ووقتها وصفتها، وما تعليقكم على واقع الناس في التخلف عن هذه الصلاة؟
الجواب
صلاة التهجد هي من ضمن صلاة القيام التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها، حيث قام ليلةً بأصحابه حتى خشوا أن يفوتهم السحور، وكما سمعتم أنه كان إذا دخل العشر جدَّ وشدَّ المئزر وأحيا ليله، فينبغي على العاقل الرشيد الناصح لنفسه، أن يحرص على تعهد صلاة التراويح والقيام مع المسلمين.(19/144)
الاعتكاف في الحرم المكي
السؤال
أيهما أفضل لمن لا عمل له في هذه العشر وليس هناك شيء يربطه من إمامة وغيرها، هل يقضيها في مكة والرحاب الطاهرة، أم في بلده مع أقرانه؟
الجواب
الأفضل له أن يقضيها في مكة ويعتكف في الحرم -أيضاً- إذا لم يكن في ذلك مشقة عليه.(19/145)
صلاة الليل مثنى مثنى
السؤال
ما حكم من صلى أربع ركعات في تسليمة واحدة؟
الجواب
هذا لا ينبغي، فجماهير أهل العلم على منع ذلك وتحريمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {صلاة الليل مثنى مثنى} أي: تسلم من كل ركعتين.(19/146)
الاعتكاف ساعة
السؤال
هل يجوز أن يعتكف المسلم ولو ساعة واحدة؟
الجواب
لم ينقل هذا عن السلف، وعلى القول بأنه لا بد من الصيام في الاعتكاف، فلا إشكال أن أقل الاعتكاف يوم، لكن عند الحنابلة وبعض الشافعية أنه يجوز أن يعتكف ولو ساعة، قال الشافعية ولو لحظة، لكن هذا لم ينقل عن السلف، ولذلك الظاهر -والله تعالى أعلم- أنه لا ينبغي أن ينوي الإنسان نية الاعتكاف إذا أراد أن يدخل للصلاة وما أشبه ذلك.(19/147)
الصلاة عند طلوع الشمس في صبح ليلة القدر
السؤال
إذا كان في الأيام العادية، فإن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، ولا يجوز الصلاة عند ذلك، فأما في صبيحة ليلة القدر فلا تخرج الشمس بين قرني الشيطان، فهل يجوز أن نصلي في تلك الصبيحة؟
الجواب
السؤال هذا -سبحان الله! - انقدح في ذهني أنه سوف يأتي إلى وأنا أقرأ الحديث في مسند الإمام أحمد، لكن أقول: إن صح الحديث فيقال: إن صبيحة تلك الليلة لا يكون وقت طلوع الشمس فيها وقت نهي، لكن الحديث فيه ضعف، فهذا الأمر الذي انفرد به لا يبنى عليه حكم، وبناءً عليه أقول: صبيحة ليلة القدر كغيرها، وقت طلوع الشمس فيها وقت نهي.(19/148)
ليلة القدر علمها عند ربي
السؤال
هل تحسب ليلة القدر إذا تقدم الشهر أو تأخر؟
الجواب
ليلة القدر علمها عند ربي، إنما على العبد أن يتحراها ويحرص على الإخلاص وكثرة العبادة فيها.(19/149)
اعتزال النساء في العشر الأواخر للمعتكف
السؤال
هل اعتزال النساء في العشر الأواخر من تطبيق السنة؟
الجواب
نعم، لمن كان يريد أن يعتكف.(19/150)
الخروج من المعتكف للحاجة
السؤال
ما حكم من يخرج من المسجد الحرام لتناول الطعام وقضاء الحاجة؟
الجواب
لا بأس أن يخرج المعتكف، لأكل الطعام وقضاء الحاجة، ولا يلزمه أن يذهب إلى بيت صديقه القريب، لكن لا بأس أن يذهب إلى شقة -مثلاً- إن استأجرها أو ما أشبه ذلك.(19/151)
الدعوة هي السبيل
السؤال
يتكاثر الشباب على الأرصفة على أمور لا خير فيها، فما هو السبيل لعلاج هذه الظاهرة؟
الجواب
السبيل هو أن يقوم الشباب المهتدي بحملة في الدعوة إلى الله عز وجل، وصحبة هؤلاء، ونشر العلم النافع بينهم، بواسطة الشريط والكتاب والصحبة والكلمة الطيبة، وغير ذلك من الوسائل.(19/152)
أصح ما يقال بعد الإفطار
السؤال
ما أصح ما يقال بعد الإفطار؟
الجواب
الحمد لله، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى، ثم يدعو بما أحب.(19/153)
الموقف من المنكرات
السؤال
يزداد الإيمان في هذا الشهر عند بعض الشباب، فنجد الشاب يقول: ما هو موقفي أمام ما أرى من المنكرات؟
الجواب
موقفه أن يعمل على تغييرها ما استطاع: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} .(19/154)
الحكمة من العيد بعد الصيام
السؤال
ما الحكمة من جعل العيد بعد الانتهاء من صيام شهر رمضان؟
الجواب
لشكر الله تعالى على إكمال عدة الشهر، كما قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] .(19/155)
اقتناء الخادمة بغير محرم
السؤال
أهلي سوف يسافرون إلى العمرة وعندنا خادمة، وذهابها معهم أصلح من مكوثها في هذا البلد؟
الجواب
يعني هما أمران أحلاهما مر، لكن عليك أن تبين لأهلك أن اقتناءهم لهذه الخادمة وهي بدون محرم أمر خطير ينبغي أن يصحح.(19/156)
أصح الأذكار بعد الوتر
السؤال
ما هو أصح حديث يقال بعد نهاية صلاة الوتر؟
الجواب
أصح الأذكار التي وردت بعد الوتر، ما ثبت في سنن أبي داود، وسنن النسائي، ومسند الإمام أحمد وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الوتر قال: {سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس يمد بالثالثة صوته} .(19/157)
الفطر يوم يفطر الناس
السؤال: إنه بدأ الصيام هنا في السعودية، ويريد أن يذهب إلى مصر ليقضي إجازته هناك، وكان شهر رمضان في مصر ثلاثون يوماً لأنهم أتموا شعبان ثلاثين يوماً، فهل يصوم مع أهل مصر؟ مع العلم أنه سوف يصوم واحداً وثلاثين يوماً؟
الجواب
أرى أن يصوم معهم- فيما يظهر لي- لموافقة الناس في ذلك، كما ورد في الحديث: {الفطر يوم يفطر الناس، والصوم يوم يصومون} .(19/158)
ضعف حديث نية المؤمن خير من عمله
السؤال
ما صحة حديث: {نية المؤمن خير من عمله} ؟
الجواب
لا يصح هذا الحديث.(19/159)
الصفرة لها حكم الدم
السؤال
امرأة رأت بعد الظهر صفرةً، ولكن لم يخرج منها الدم إلا بعد الإفطار بزمن يسير بحيث خرج منها الدم بصورته الطبيعية، فهل تقضي هذا اليوم أم لا؟ علماً بأن هذه أول مرة يحصل لها مثل هذه الحالة.
الجواب
إذا كانت الصفرة متصلة بالدم فأرى أن حكمها حكمه، وأرى أن هذه المرأة تقضي ذلك اليوم.(19/160)
الاغتسال للمعتكف
السؤال
هل يجوز للمعتكف أن يخرج كل يوم للاغتسال والتنظف والتطيب، أم لابد أن يكون الاغتسال موجباً للخروج؟
الجواب
لا يجوز له أن يخرج كل يوم للتنظف والتطيب؛ لكن يغتسل للغسل الواجب ويخرج له إذا احتاج إلى الخروج، وأما غسل التطيب فلا أعلم أنه يجوز أن يخرج له.(19/161)
العمرة بعد ليلة السابع والعشرين
السؤال
أنا إمام مسجد أريد أن أختم القرآن في صلاة التراويح في المسجد في ليلة السابع والعشرين، وبعد ذلك أعتمر، علماً بأنه لا يوجد في المسجد من يسد محلي فما رأيك في ذلك؟
الجواب
لا حرج في ذلك؛ لأنك إذا خرجت بعد ليلة السابع والعشرين فلا أظن أنك تعتمر وتعود بعد ذلك.(19/162)
اعتكاف يوم
السؤال
رجل أراد أن يعتكف يوماً واحداً فهل هذا صحيح، علماً بأنه يدخل قبل أذان الفجر ثم يخرج من معتكفه بعد المغرب، فهل هذا يكون يوماً؟
الجواب
بالنسبة لمن أراد أن يعتكف يوماً فلا حرج في ذلك، كما في الصحيح أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف يوماً وليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أوف بنذرك} وإذا أراد أن يعتكف يوماً وليلة فيدخل المعتكف من حين الوقت الذي نوى فيه، فإن نوى ليلة دخل قبل الغروب، وإن نوى يوماً دخل قبل الفجر، وإن نوى يوماً وليلة دخل قبل الغروب أيضاً.(19/163)
إمام المسجد والعمرة في رمضان
السؤال
أنا إمام مسجد من قبل الأوقاف هل يجوز لي أن أذهب إلى الحرم لقضاء العشر الأواخر وأداء العمرة، علماً بأني قد أخذت موافقة الإخوة في المسجد؟
الجواب
إذا وافقت جماعة المسجد على ذلك، وكان هناك من ينوب عنك في الإمامة، فلا أعلم في ذلك حرجاً، وإن كنت أرى أن الأفضل أن يقوم الإنسان بعمله وبواجبه ويصلي بجماعته، ولا مانع أن يذهب يوماً أو يومين يؤدي العمرة ثم يعود.(19/164)
الوتر وصلاة الليل
السؤال
إذا كنت إماماً وأنا مضطر أن أوتر بهم في صلاة التراويح، وأريد أن أوتر آخر الليل، هل يجوز لي ذلك؟
الجواب
يجوز أن تصلي بهم وتوتر بهم، ثم تصلي آخر الليل ما قسم الله لك، وإن كان الأفضل مادمت صليت معهم وكانت هذه عادة مستمرة أن تكتفي بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} ثم تقرأ القرآن وتسبح الله عز وجل.(19/165)
شر صفوف النساء أولها
السؤال
بعض النساء تدخل المسجد المخصص، ثم تصلي في آخر الصفوف القريبة من الباب؛ بحجة حديث: {شر صفوف النساء أولها} ؟
الجواب
الأظهر -والله أعلم- أن شر صفوف النساء أولها إذا كان بقرب الرجال، أما مع وجود عازل وفاصل فلا يكون الأمر كذلك، والله تعالى أعلم.(19/166)
المداومة على الدعاء في الوتر
السؤال
هل المداومة على الدعاء في الوتر سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم، لا بأس أن يداوم الإنسان على الدعاء في الوتر، وإن تركه أحياناً ليبين أنه ليس بواجب فلا حرج في ذلك أيضاً.(19/167)
قراءة القرآن في التراويح
السؤال
هل أقرأ على الجماعة في التراويح القرآن وأكمله في البيت وحدي وأكون خاتماً للقرآن، أم تحق لهم الختمة؟
الجواب
الأولى أن تقرأ لهم القرآن في صلاة التراويح ليسمعوا.(19/168)
أيهما أفضل قراءة القرآن في رمضان أم حفظه؟
السؤال
يقول: هل ختم القرآن عدة مرات أفضل أو حفظه؟
الجواب
الجمع بينهما جيد، فيحرص الإنسان على أن يزيد من حفظه في رمضان، وأن يكثر من قراءة القرآن.(19/169)
صلة الرحم تزيد في العمر
السؤال
قلت: إن صلة الرحم تزيد في العمر، ونعلم أن الإنسان يكتب رزقه وعمله وأجله، أرجو توضيح هذا؟
الجواب
لست أنا الذي قلته، وإنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأسباب، حيث علم الله أن فلاناً يصل رحمه فزاد في عمره، وقال بعضهم: إن الزيادة في العمر تعني البركة.(19/170)
رفع الصوت بالقرآن
السؤال
بعض الناس يرفعون أصواتهم في قراءة القرآن، بحيث يحدثون تشويشاً على الآخرين، فهل ينكر على مثل هؤلاء؟
الجواب
إن كان يبالغ في رفع الصوت بحيث يؤذي الناس، فينكر عليه ذلك ويبين له أنه لا يرفع صوته، أما إن كان يقرأ والأصوات متقاربة فتحدث دوياً، وليس بعضها أرفع من بعض، ولا يؤذي بعضها بعضاً، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه جاء في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنني أعرف أماكن الأشعريين إذا نزلوا بالليل وإن لم أكن رأيت منازلهم بالنهار من أصواتهم بالقرآن} فدل على أنه إذا كان الجماعة كلهم يقرءون بصوت متقارب لا يؤذي بعضهم بعضاً، فلا حرج في ذلك؛ لكن إن كان واحد يرفع والبقية يخفضون أصواتهم، فهذا يبين له أن لا يرفع صوته.(19/171)
تغيير مكان السنة بعد الفريضة
السؤال
هل لتغيير مكان السنة بعد صلاة الفريضة فضل؟ لأننا نرى كثيراً من الناس يبادرون إلى تغييره.
الجواب
لا أعلم في ذلك حديثاً يصح إلا في الجمعة، وأنه لا توصل بصلاة حتى يتكلم أو ينتقل إلى مكان آخر، وبعض السلف كانوا يفعلون ذلك، واحتج بعضهم بقول الله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان:29] قالوا: إن المؤمن يبكي عليه مصعد عمله من السماء، وموضع عمله في الأرض، وكموضع سجوده في الأرض، فالأمر في ذلك واسع.(19/172)
التبرع بالدم وأخذ الحقن في أثناء الصيام
السؤال
هل التبرع بالدم وأخذ الحقن تفطر أم لا؟
الجواب
سبق أن ذكرت الحقن.
أما موضوع الدم، فإنه السائل يقصد إخراج الدم، فنقول: مسألة الحجامة فيها خلاف، فمنهم من يقول إنها تفطر، لحديث: {أفطر الحاجم والمحجوم} ومنهم من يقول: إنها لا تفطر لحديث {أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم} والذي يترجح عندي أن الحجامة لا تفطر، وأن القول بتفطيرها منسوخ.(19/173)
ختم القرآن
السؤال
الناس يهتمون بالختمة، فنرجو أن تقول ما يفيد عفا الله عنا وعنكم جميعاً؟
الجواب
إن اعتقاد بعض الناس أن الختمة سنة لدرجة أن بعض الناس في المسجد يدعون في الليلة الواحدة مرتين، فيختم في الركعة الأخيرة من التراويح ويدعو، ثم يقوم ويشفع ويوتر ثم يدعو في الوتر، فلا شك أن هذا مخالف للسنة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف.
أما كون بعض الناس يدعو عند انتهائه من قراءة القرآن، ويطيل في الدعاء في الوتر كما يقع الآن في الحرم، سواءً قبل الركوع أو بعده، فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كما في الترمذي: {اقرءوا القرآن وادعوا الله به} وقد ورد عن أنس [[أنه كان يجمع أهله ويختم بهم]] ولكن لم يكن هذا في الصلاة، بل يجمعهم في المنزل.
فنقول: الختمة فيها تفصيل؛ فإذا كان الإمام يختم في الوتر أي: يطيل الدعاء، فلا داعي -مثلاً- لأن يقرأ هذه الختمات الموجودة، التي تتحول إلى نصيحة وموعظة، والتي لا تجوز، بل قد تبطل الصلاة أحياناً، مثل بعض العبارات التي يكون فيها خطاب للمصلين، ويطول فيها بذكر الآخرة والجنة والنار والقبر ومنكر ونكير، فالختمة ليست موعظة، وإنما هي دعاء، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء.(19/174)
صوم المسافر
السؤال
نريد الذهاب إلى العمرة في رمضان -إن شاء الله تعالى- ونستطيع الصيام، وليس هناك مشقة أو عناء في السفر أو جوع أو عطش، فهل نصوم أو نفطر؟
الجواب
بالنسبة لصوم المسافر وفطره، المسألة فيها كلام، ولكن الأقوى من الأقوال: أنه إن كان الصوم يضر المسافر فإنه يحرم عليه الصيام، وإن كان يشق عليه ولا يضره، فإن الأفضل في حقه أن يفطر ويجوز له الصوم، وإن لم يكن ليس عليه مشقة ولا ضرر، فالأفضل في حقه أن يصوم؛ إدراكاً لفضيلة الشهر وموافقةً للناس وتعجلاً في إبراء الذمة.(19/175)
النية في صيام رمضان
السؤال
ذكرت في مسألة النية أنه يكفي نيةً واحدة للشهر، وقد سمعت أن أحد المشايخ يقول أنه يجب النية لكل يومٍ من رمضان، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
صحيح أنه لا بد من النية لكل يوم، لكن قصدي أن مجرد كونك علمت أن الشهر دخل فنويت صيام هذا الشهر كله فهذا يكفي، فكل ليلةٍ أنت تنوي أن تصوم غداً، ولا يحتاج أن تجدد النية أو تستحضر شيئاً في قلبك، فالنية موجودة أصلاً، إلا إذا قطعها الإنسان لأي سبب، كأن قطع نية الصيام ونوى ألا يصوم, فنقول: لا بد له إن أمسك ذلك اليوم أن يجدد نية له ولما بعده.(19/176)
الدخول على الخادمة في المنزل
السؤال
ما هو الموقف العادل النافع الذي توجهونه لمن في بيت أبيه خادمة، ما حكم دخوله البيت وهي فيه وبياته في البيت وهي فيه، وهو ليس محصناً متزوجاً؟
الجواب
على الولد أن ينصح والده، ويبين الأضرار المترتبة على وجود هذه المرأة الأجنبية في بيته، وهي امرأةٌ تأتي بدون محرم من مسافاتٍ بعيدة، وربما تكون فتاةً في قلبها من الشهوة مثل ما في قلب غيرها، وخاصةً مع وجود شباب في البيت، ولا شك أن هذا خطرٌ عظيم، وهو كمن يوقد النار ويجعل البنزين قريباً منها، وعلى الشاب: أولاً: أن يناصح والديه.
وثانياً: أن يبتعد عن هذه المرأة ويحرص على أن لا يراها ولا يقترب منها، فضلاً عن أن يخلو بها فهذا لا يجوز.
وثالثاً: عليه إذا شعر بالخطر أن يسعى في إنقاذ نفسه ونجاتها، ولو ترتب على الأمر أن يبتعد عن البيت.(19/177)
رؤية الرسول في المنام
السؤال
ذكرت في بداية هذه الدروس من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه حقاً، ثم ذكرت قصة الرجل الذي رأى الرسول وكذبه القاضي، فما الجمع بينهما؟
الجواب
الجمع أن هذا خيل إليه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالواقع أن الشخص الذي رآه ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم.(19/178)
الكتب التي تقرأ في رمضان
السؤال
ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها على جماعة المسجد بعد صلاة العصر، وقبل صلاة العشاء في رمضان؟
الجواب
في الواقع هناك كتب عديدة منها: كتاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين مجالس شهر رمضان، وهو كتابٌ مفيد في النواحي الفقهية، ومنها كتاب لـ ابن رجب الحنبلي، وعنوانه: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف فيه حوالي ثلاثة فصول، أو أربعة عن رمضان، وهو مفيدٌ وإن كان فيه أشياء ينبغي حذفها، ومنها كتب للشيخ عبد العزيز السلمان مفيدة، ومنها كتاب للشيخ عائض القرني عنوانه: ثلاثون درساً للصائمين وهناك كتاب يسعى الإخوة القائمون على الإفتاء في هذا البلد إلى طباعته -إن شاء الله- وهو كتاب جيد، إذا خرج سوف يسد فراغاً، لكن -إن شاء الله- لعله لا يتأخر عن العام القادم، أما هذه السنة فلا أظن أنه يمكن الاستفادة منه.(19/179)
الجماع في نهار رمضان
السؤال
هذا يسأل عن قضية حصلت له مع زوجته في نهار رمضان وهو جاهل؟
الجواب
أرى أن مثل هذه الحالات ينبغي أن يسأل عنها بذاته، لأنه لابد أن نعرف ما الذي حدث وما هي الظروف، وبعض الناس يكون جاهلاً، فيقول: أنا جامعت في رمضان وأنا جاهل فنقول: هناك فرق بين من يقول: إنني جاهل في أن عليَّ أن عليه كفارة.
وإن كنت أعلم أنه لا يجوز.
فنقول لهذا: لا ينفعك أن كنت جاهلاً بالكفارة بل يجب عليك التزام الكفارة وإن لم تدر بها، المهم أنك تعلم أن الجماع يفطر، فتجب عليك الكفارة حينئذٍ.
ففرق بين هذا وبين إنسان يقول: إنه جاهل لا يعلم أن الجماع يفطر.
ولكن هل يمكن أن يوجد إنسان لا يدري أن الجماع يفطر؟ يمكن أن يوجد إنسان مسلم حديث عهد بإسلام، أو إنسان في بادية بعيدة لم يعلم أن الجماع يفطر , فهذا له حكمة الخاص.
أما الناس في مثل البيئات والمدن، فلا أعتقد أن منهم من يجهل أن جماع الرجل زوجته في نهار رمضان من المفطرات، بنص القرآن الكريم وبإجماع أهل العلم -كما أسلفت- وعلى كل حال فالحالات الخاصة يسأل عنها بصفة خاصة، حتى يستوضح ما الذي جرى.
السؤال: مثل الذي يقول أنا جامعت في رمضان وأنا جاهل؟ الجواب: فنقول أنه يوجد فرق.
بين أحد يقول: إنني جاهل أن عليه كفارة، فيقول أنا عارف أنه لا يجوز، لكن ما كنت أعرف أنه عليه كفارة، وهي إعتاق رقبه، أو صيام شهرين فهذا لا يضر، وإن كان جاهلاً نقول: يجب عليك، أي لا ينفعك جهلك، وإن كنت جاهلاً بالكفارة يجب عليك التزام الكفارة وإن لم تدر بها، المهم أنك عارف أن الجماع يفطر، فتجب عليك الكفارة حينئذٍ، وبين إنسان يقول أنه جاهل لا يعلم أن الجماع يفطر.
السؤال: هل ممكن أن يوجد إنسان لا يدري أن الجماع يفطر؟ الجواب: ما أعتقد ذلك، يمكن أن يوجد إنسان مسلم حديث عهد بإسلام، أو إنسان في بادية بعيدة ما علم أن الجماع يفطر , هذا له حكمة، الخاص، أما الناس في مثل البيئات والمدن، فلا أعتقد أن منهم من يجهل أن جماع الرجل زوجته في نهار رمضان من المفطرات بنص القرآن الكريم، وبإجماع أهل العلم -كما أسلفت- على كل حال الحالات الخاصة يسأل عنها بصفة خاصة، حتى يستوضح ما الذي جرى.(19/180)
نوم الصائم في طاعة الله عبادة
السؤال
ما رأيك فيمن ينام عن الصلاة ويقول: {نوم الصائم عبادة} ؟
الجواب
نقول: إذا كان نومه عن الصلاة فهو إثم ومعصية وطاعة للشيطان، وليس نوم الصائم إذا نام عن الصلاة عبادة، أما إذا نام نوماً طبيعياً يستعين به على طاعة الله فهو عبادة، كما أن نوم من ينام في القيلولة ليستعين بها على قيام الليل عبادة أيضاً.
السؤال: من احتلم في نهار رمضان وأخر الغسل ساعتين أو ثلاثاً بحجة أنه نائم؟ الجواب: لا حرج عليه في ذلك، المهم أن لا يؤخر الغسل عن الصلاة.(19/181)
الانتقال من مسجد إلى آخر بحثاً عن الخشوع
السؤال
عند قدوم رمضان يبحث الناس عن أئمة ليصلوا خلفهم، بحجة طلب الخشوع، إلى غير ذلك، مع ارتكابهم مفاسد بهجران مساجدهم،،إلى غير ذلك؟
الجواب
لا أرى حرجاً ولا بأساً بأن يبحث الإنسان عن إمام حس الصوت ويصلي خلفه، ما لم يكن في ذلك ضرر، مثل كونك تترك مسجدك وهو يحتاجك -مثلاً- لأن تصلي فيه، أو أن تفتح على الإمام إذا نسي أو تحدَّث، أو أن يكون الجماعة يستوحشون من ذهابك، كأن تكون طالب علم مرموقاً في مسجدك، فإذا ذهبت تساءلوا أين ذهب فلان، فهنا لا تذهب، أما فيما سوى ذلك فلا حرج أن يذهب الإنسان إلى إمام يرتاح إليه، ويجد لذة ويخشع من قراءته.(19/182)
نوم النهار والعمل في الليل
السؤال
عملي يكون في ليالي رمضان، فأنا أعمل في الليل وأنام بعد طلوع الشمس حتى صلاة الظهر، وأنام بعد الظهر حتى العصر، فهل أنا آثم؟
الجواب
ما دمت محتاج إلى ذلك فلا حرج عليك إن شاء الله.(19/183)
المعلقات في البخاري
السؤال
قلت في حديث: {من أفطر يوماً في رمضان} حديث ضعيف رواه البخاري، فهل هناك حديث ضعيف في البخاري؟
الجواب
أنا ما قلت رواه البخاري، وإنما قلت: رواه البخاري تعليقاً، والمعلقات في صحيح البخاري ليست أحاديث على شرط البخاري، ولم يروها البخاري بالإسناد، أي قد يقول البخاري: يروى عن رسول الله، مشيراً بصيغة التمريض، فهذه تسمى معلقات، فإذا قيل: رواه البخاري تعليقاً، فهذا يحتمل أن يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، أما إذا قلت: رواه البخاري وسكت، فمعناه أنه في الصحيح والصحيح لا كلام فيه.(19/184)
صيام يوم قبل رمضان
السؤال
ورد في مجمل حديثكم أنه يجوز صيام اليوم الذي قبل رمضان إذا كان يوافق عادة للمرء، إلا أن من المفهوم أنه لا يجوز وصل شعبان برمضان؟
الجواب
لا يجوز وصل شعبان برمضان على سبيل الاحتياط والتقديم بين يدي الشهر، أما إذا كان كما جاء في الحديث الصحيح: {إلا رجل كان يصوم صومه فليصمه} وفي لفظ: {إلا أن يوافق يوماً كان يصومه أحدكم} فلا بأس.(19/185)
النوم في نهار رمضان
السؤال
إن من الشائع لدى بعض الشباب المتوسم فيه الخير، السهر طول الليل مع اللعب والمرح، ويزعمون أن نوم بعض الليل صعب وثقيل، أرجو بيان وجه الحق في هذه القضية؟
الجواب
لا شك أن ما يقع فيه اليوم كثير من الناس ويتحول ليلهم في رمضان إلى نهار، ويتحول نهارهم إلى ليل، حتى إن منهم من ينام النهار كله وربما نام عن الصلوات، لا شك أن هذا فيه من فوات المصالح الشيء الكثير، أما من يفوت الصلاة فهذا أمره آخر، لكن حتى الذي يصلي مع الجماعة ثم ينام، فهذا ما تحقق في حقه المقصود من الصيام، من استشعار الجوع والعطش، بل الأولى إذا كانت ظروف الإنسان مواتية أن ينام من الليل ولو بعضه، وينام من النهار ولو بعضه، ويحرص على أن يكون معتدلاً في ذلك.(19/186)
الإفطار على الجماع
السؤال
يقول: إذا راقب رجلٌ الشمس، فلما غربت أراد أن يفطر وليس عنده شيءٌ يفطر عليه، فهل له أن يفطر على جماع أهله؟
الجواب
لا حرج في هذا ما دام أنه أمر أباحه الله.(19/187)
كيفية قضاء رمضان
السؤال
امرأةٌ أدركها النفاس في جميع رمضان؟ هل يلزمها قضاؤه متتابعاً أم لا؟
الجواب
لا يلزم القضاء متتابعاً، لأن قضاء رمضان يجوز فيه التتابع ويجوز فيه الإفراد، فلها أن تصوم يوماً وتفطر، ثم تصوم وتفطر كما تشاء، المهم أن لا يأتيها رمضان الآخر إلا وقد قضت ما عليها.(19/188)
نوابٌ الشيطان!
السؤال
ورد في الحديث أن مردة الشياطين في رمضان تصفد، ولكن العجيب أن هناك مجموعةً من الناس يكثر فسادهم في رمضان؟
الجواب
لأن هؤلاء الذين تسأل عنهم هم نواب عن الشيطان، وهم يقومون بالمهمة عنه في حال غيابه.(19/189)
الصراع بين الحق والباطل
السؤال
يقول: مثل ما ينشط الصائمون في رمضان، ينشط أعداء الدين لإفساد الصيام على المسلمين، عن طريق الوسائل المتنوعة التي أصبح -للأسف- زمامها في أيديهم، فما هو العمل تجاه هذه القضية؟
الجواب
الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:312] فالصراع لا ينتهي، والحرب لا تنتهي؛ ولكن على أهل الخير أن يضاعفوا جهودهم، ويعملوا على الاستفادة من وجود الناس في رمضان، خاصةً وقت تجمعهم في المساجد رجالاً ونساءً في صلاة التراويح والقيام.(19/190)
الوتر مع الإمام في التراويح
السؤال
أيهما أفضل الوتر مع الإمام في التراويح أم آخر الليل؟
الجواب
الذي أرى أن يوتر مع الإمام في التراويح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أهل السنن عن أبي ذر: {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} .(19/191)
النوم بعد صلاة التراويح
السؤال
أيهما أفضل أن ينام الشخص في الليل بعد التراويح، أو ينام بعد الفجر إلى الساعة التاسعة -مثلاً- إذا كان طالب علم يدرس؟
الجواب
هذا حسب الظرف الذي يعيشه الطالب، ولا شك أن الأفضل أن ينام الإنسان بعد صلاة التراويح، لكن إذا كان عنده ظرفٌ مثل أن يكون محتاجاً للتأخر في الليل، فهذا يقدر بقدره، وقد سبق الكلام عن السهر وحكمه في دروس بلوغ المرام، فالسهر في العلم والعبادة والذكر ومسامرة الضيف والأهل والمصلحة لا حرج فيه.(19/192)
استعمال حبوب منع الحمل لأجل الصيام والقيام
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تستعمل الحبوب إذا كان مقصدها صلاة التراويح؟
الجواب
حبوب منع الحمل فيها ضرر على المرأة في غالب الأحيان، ولذلك إن ثبت أن في استخدام الحبوب ضرر على المرأة، فلا يجوز أن تستخدمها لا في رمضان ولا في غيره.
لكن إذا ثبت أنه ليس هناك ضرر عليها بعد استشارة طبيب مثلاً، فهل يجوز لها أن تستخدمها في رمضان حتى تصوم وتصلي مع الناس؟ الذي يظهر لي أنه يجوز، لكن الأولى أن لا تفعله، فإن هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم ولا حرج عليها، إذا جاءت العادة أن تفطر ثم تقضي فيما بعد.
ولكن إذا ثبت أنه ليس هناك ضرر عليها بعد استشارة طبيب مثلاً، فهل يجوز لها أن تستخدمها في رمضان مثلاً، حتى تصوم مع الناس وتصلي مع الناس؟ الجواب: الذي يظهر لي أنه يجوز، لكن الأولى أن لا تفعله، بل هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم ولا حرج عليها، وإذا جاءت العادة أفطرت ثم تقضي فيما بعد.(19/193)
تقبيل المرأة ونزول المذي
السؤال
هذا يسأل عن نزول المذي هل يفطر أم لا؟ وكذلك يسأل عن تقبيل المرأة؟
الجواب
بالنسبة لنزول المذي عند الجمهور أنه لا يفطر وهو الراجح.
أما بالنسبة للتقبيل، فقد ورد في حديثٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لأربه، أي: لحاجته، فهو يملك نفسه، فإذا كان الإنسان يملك نفسه، كالشيخ الكبير أو الشاب الذي يملك نفسه؛ فلا حرج عليه في ذلك، أما إن كان لا يملك نفسه أو يعلم أن الأمر قد يتمادى به إلى ما هو أشد من ذلك، فإنه يمنع منه من باب سد الذريعة.(19/194)
وقت الدعاء في الصيام
السؤال
هل الدعاء قبل الإفطار أم بعده؟
الجواب
الدعاء عند الإفطار.(19/195)
معجون الأسنان أثناء الصوم
السؤال
هل يجوز استخدام معجون الأسنان، لأن رائحة الفم كريهة؟ أو ما أشبه ذلك؟
الجواب
لا شك أن الشيء الذي يفطر هو الذي يصل إلى الجوف، ولذلك المضمضة لا تفطر، فمعجون الأسنان إذا كان لمجرد غسل الأسنان به، ثم أخرجه ولم يصل إلى جوفه فلا شك أنه لا يفطر، أما إن وصل إلى جوفه شيءٌ منه أو من غيره فهذا هو الذي يفطر.(19/196)
قدوم المسافر قبل الغروب
السؤال
إذا قدم المسافر قبل الغروب فهل يبقى على فطره؟
الجواب
هذا اليوم ليس محسوباً له ولا بد أن يقضيه، لكن لا يفطر علناً؛ لأن الناس قد يجهلون سبب فطره، وبعض العلماء يأمره بالإمساك لأن سبب الفطر قد زال.(19/197)
العلم بدخول الشهر قبل الغروب
السؤال
من لم يعلم بدخول الشهر إلا قبل الغروب فهل يمسك؟
الجواب
لو لم يعلم بدخول الشهر إلا قبل الغروب فيمسك.(19/198)
الإفطار بالنية
السؤال
إذا حان وقت آذان المغرب وأنا في سيارتي ومن المحتمل أن أصل بعد خمس دقائق، فهل يجوز الإفطار بالنية فقط؟
الجواب
ينوي الإفطار لكن إذا كان لديه شيءٌ يفطر عليه أفطر، وإلا فخمس دقائق لا تضر ما دام أنه سوف يفطر قبل صلاة المغرب.(19/199)
الأمور تقدر بقدرها
السؤال
كثيراً ما نسمع بعض الدعاة يقولون: خذوا من العلماء وناصحوهم وزوروهم، ومع ذلك نسمع بعضهم يضرب الأمثال على أن العالم لا يقدر أن يعطيك موعداً إلا بعد أشهر، وقال أحدهم بعد سنة فما رأيك؟
الجواب
لعل الأخ يقصدني، والواقع أن ما قاله صحيح لأن الله عز وجل قال في آخر سورة البقرة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] والكثير من المشايخ، خاصةً المشايخ الكبار المشهورين، عندهم أعمال أمثال الجبال، وربما الواحد منهم لا يجد وقتاً ليأكل أو يشرب أو يجلس مع أهله وأطفاله، فالواقع أنهم معذورون في ذلك، لكن الأمور تقدر بقدرها.(19/200)
خلل في التفكير
تحدث الشيخ عن مقتل الشيخ جميل الرحمن أمير جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، وذكر أحوال المجاهدين في أفغانستان، كما أنه يحتوي على ذكر صور من الخلل في التفكير، مع بيان حَلِّها وأسباب علاجها.(20/1)
أفغانستان تودع الشيخ جميل الرحمن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أحبتي الكرام: سيكون حديثي إليكم بعنوان: (خللٌ في التفكير) .
ولعل الذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع، هو ما سمعته من كثير من الإخوان والشباب وغيرهم، تعليقاً على الأحوال والأوضاع التي استجدت في أرض أفغانستان المسلمة، ولا شك أننا جميعاً سمعنا تلك الأخبار المزعجة، التي يأتي في طليعتها اغتيال الشيخ جميل الرحمن رحمه الله تعالى فقد اعتدت عليه يدٌ آثمة، في يومٍ مبارك من أيام الله تعالى، في يوم الجمعة، بالغدر والخيانة، وسددت إلى رأسه رصاصاتٍ أردته قتيلاً، وكان ذلك على يد أحد الشباب العرب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(20/2)
واجبنا نحو أفغانستان
أحبتي الكرام: أسئلة كثيرة وكثيرة تدور حول قضية أفغانستان، وما موقفنا؟ وماذا نصنع؟ وما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ تساؤلات لا يأتي عليها الحصر، وأصدقكم القول منذ البداية أنه لن يكون موضوع حديثي هو الكلام عن قضية أفغانستان، وإن كانت هذه القضية تحتاج ليس إلى درس أو محاضرة أو جلسة فقط وقد سبق أن أشرت في أكثر من مناسبة، إلى أن قضية أفغانستان قضية كبرى في واقع المسلمين، وإذا عددت القضايا الكبرى التي شغلت المسلمين عبر سنين طويلة، فإن قضية أفغانستان تأتي في مقدمتها، مع مجموعة من القضايا الأخرى، كقضية فلسطين أو غيرها من القضايا المهمة.
ومن حق هذه القضية الكبيرة علينا؛ أن نعطيها بعض وقتنا وبعض جهدنا، وتفكيرنا، وأن تنعقد المؤتمرات والجلسات والندوات لمعالجة هذه القضية، والبحث في كل ما يتعلق بها من قريبٍ أو بعيد، ألا تعتقدون -أيها الأحبة- أن قضية بُذِلَ في سبيلها ما يزيد على مليون وخمسمائة ألف ممن نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، ألا تستحق منا أن ندرسها؟! قضية بذل في سبيلها مليارات الأموال، التي تعادل ميزانيات دول بأكملها! ألا تستحق أن ندرسها، ونستفيد منها العبر والدروس، ونعتبرها معلماً في تاريخ الدعوة وفي تاريخ الجهاد؟ أقل حق لهؤلاء القتلى الذين نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء، ولهذه الأموال الهائلة، الطائلة، ولهذه الجهود والدموع والدماء والعرق والسهر، والزمن الطويل الذي بذلناه، والتشريد والتطريد والهجرة، أقل حق لهذه التضحيات الجسيمة التي بذلناه نحن المسلمين؛ هو أن نعقد جلسات ودروس ومحاضرات، بل ومؤتمرات وحلقات للنقاش؛ لنأخذ الدروس والعبر، ونستفيد ونستلهم من هذه المواقف الكبيرة لحاضرنا ومستقبلنا هذا أقل حقٍ لهذه الجهود الكبيرة علينا، أما إذا تجاهلنا ذلك وتعامينا عنه، فمعناه أننا لم نقدر هذه القضية حق قدرها.(20/3)
كيفية التعامل مع القضايا الإسلامية
إنني لن أعالج هذا الموضوع في هذه الجلسة أبداً، ولكن الشيء الذي سأعالجه هو: طريقة تعاملنا نحن المسلمين، الذين نعتبر متعاطفين مع القضايا الإسلامية، نعتبر متعاطفين مع قضية أفغانستان، ومع قضية فلسطين، ومع قضية المسلمين في الفلبين، أو قضية المسلمين في أي بلدٍ إسلامي ترفع للإسلام فيه راية، ويقام للإسلام فيه دعوة، ويواجه المسلمون فيه عدواً، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو شيوعياً، أو علمانياً، أو أي لونٍ كان.
طريقة معالجتنا نحن المتعاطفين مع قضايا المسلمين، تحتاج إلى معالجة إلى مراجعة، لدينا في الواقع خلل كبير، يتطلب النظر والمراجعة، كيف نستطيع خدمة قضايانا الإسلامية؟ أفغانستان وغير أفغانستان، كيف نستطيع أن نخدمها بالطريقة الصحيحة التي تجعلنا نكسب ثقة الناس الذين نتحدث معهم ونخاطبهم، وتجعلنا نستطيع أن نربط الناس بهذه القضايا الإسلامية ربطاً صحيحاً؟ ليس ربطاً مؤقتاً أو عارضاً أو عاطفياً سرعان ما ينفك وينتهي، من أدنى خبر يمكن أن ينتشر أو ينتقل أو يشاع، وإنما هو ربطٌ صحيح دقيق معتدل منصف، لا تؤثر فيه العوادي والمؤثرات القريبة والبعيدة، ولا يستطيع أحد أن يقسم عرى هذا الترابط.
ولا شك -أيها الأحبة- أنه من السهل على أي إنسان أن يتكلم عن قضية أفغانستان أو عن غير قضية أفغانستان، يتكلم -كما يقال- كثيرٌ من الناس عن قضية أفغانستان من خلال بروج عاجية، ومن وراء مكاتب فخمة -هكذا يحدث- يتكلمون تحت المكيفات، وفي الأجواء الآمنة، والأمر كما كان يقول المتنبي: وسير الروم خلف ظهرك رومٌ فانظر على أي جانبيك تميلُ ما الذي حوله تدار المنايا فالذي حوله تدار الشمولُ أمامك عدو وخلفك عدو، وعن يمينك عدو، وعن يسارك عدو، هذا وضع إخواننا المجاهدين، لا أقول في أفغانستان، بل في كل مكان، وسواء كان جهادهم بالسيف والسنان، أو كان جهادهم بالقلم والبيان، أو كان جهادهم بأي وسيلة من وسائل الجهاد، وليس الذي يواجه العدو ويكون في نحره وفي مواجهته في الميدان، كالذي ينام ملء جفنيه، ويكبر الوسادة، ويبدأ ينتقد ويقول: وهذا صواب وهذا خطأ.
وإنني لأعلم ناساً من الناس، وأرجو الله تعالى أن لا نكون منهم، هم على الآرائك متكئون، وللشاي والقهوة يشربون، ولأخطاء إخوانهم المسلمين يتسقطون، وعن زلاتهم يبحثون، ولعيوبهم يتصيدون، فإذا وقعوا عليها فإنهم يسرون بها ويفرحون، ويغدون بها ويروحون، ويشيرون بها ويلوحون، وكأنما عثروا على كنزٍ ثمين، أو على نصرٍ مبين!! فهذه مصيبة كبرى، أن ينفصل المسلم القاعد عن المسلم المجاهد، ولكن هذا لا يمنعني أبداً -أيها الإخوة- أن أؤكد على قضية مقابل هذا، وهي أن الإنسان البعيد، متى ما كان معك بعواطفه وقبله وعقله وإخلاصه وصدقه، فهو -في كثير من الأحيان- قد يكون أقدر ممن يواجه المشكلة على النظر الصحيح، والتفكير المعتدل المتزن البعيد عن العواطف، فإن زمام العواطف إذا انفلت -أحياناً- عطل العقل وأبطل مفعوله، فأصبح الإنسان يتحرك بعاطفة وانفعال وجو مشحون متوتر لا يمكنه من التفكير الهادئ، لأنه يخضع لردود فعل وأوضاع وأحوال ومشكلات، ومصائب يواجهها أولاً بأول، لكن الإنسان البعيد الذي لا يوجد هذا التأثر في نفسه، يستطيع أن يستخدم عقله -في كثير من الأحيان- بصورة أصح وأجدر وأجدى.
ولذلك أقول: لا مانع أبداً أن يكون من المسلمين من يقاتل، ومنهم من يفكر لهؤلاء المقاتلين، ولا أقول: يفكر بالنيابة عنهم! لا، ولكنهم يفكرون معاً، بمعنى: أنه إذا لم تستطع أن تكون مقاتلاً بسيفك، أو بقلمك، أو بلسانك، أو بمالك، فلا أقل من أن تكون مقاتلاً بعقلك وفكرك، فترسم الطريق للناس، وتبين الوجهة السليمة، وتبين الصواب، وتحاول أن تصحح، تحاول أن توجه، تبذل ما تستطيع ولو بمشاركتك الذهنية والفكرية، وهذه القضية ليست سهلة، فأعتقد أن الذي يستطيع أن يخطط للمسلمين، لا يقل أهمية عمن يستطيع أن ينفذ، بل إن الذين يستطيعون أن ينفذوا كثيرون جداً، ولكن الذين يستطيعون أن يرسموا الطريق ويرسموا الخطة، هم أقل من القليل.(20/4)
تعريف بالشيخ جميل الرحمن وجماعته
الشيخ جميل الرحمن رحمه الله هو زعيم جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة في أفغانستان، وهي إحدى الجماعات المجاهدة في تلك البلاد، والتي تلتزم بالمنهج السلفي الأصيل، في الأصول والفروع، ولهذه الجماعة نشاطٌ طيب في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وتصحيح مفاهيم الناس، ودعوتهم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن لها جهداً طيباً مبروراً إن شاء الله في مجال المشاركة في الجهاد، ومقارعة الظالمين، وكانت ولاية كونر، إحدى الولايات الأفغانية تحت حكم هذه الجماعة، وقد أبلت فيها بلاءً طيباً، في نشر العقيدة الصحيحة، ومقاومة البدعة والخرافة، وإزالة آثار المنكرات من الخمور والمخدرات، وقطع الطرق وغيرها، واستتباب الأمن.
وإن فقد رجلٍ في منزلة الشيخ جميل الرحمن، مما يؤسف كل مسلم عرفه وجلس إليه، وعرف قدر الرجل، فنقول تعليقاً على ذلك، بقلوب نرجو الله تعالى أن تكون قلوباً مؤمنةً صابرةً محتسبة، نقول لكل مجروح: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى.
ونقول وفاءً ببعض حق هذا الرجل: اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين.
اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه، اللهم اقبله في الشهداء يا حي يا قيوم، اللهم اخلف للمسلمين خيراً منه، اللهم اجعله في جناتٍ ونهر في مقعد صدقٍ عند ملكٍ مقتدر.
أما ذلك القاتل فإنه باء بشر وخيبة، فإنه بعد أن أجهز على الشيخ هم بالهرب، فحين رأى أنه مأخوذٌُ رجع إلى نفسه فقتلها، نسأل الله حسن الخاتمة، والسلامة والمعافاة من أسباب سخطه وعقابه، وإنه لأمرٌ يؤرق الضمير ويقلق القلب ويحز في النفس، ويثير الأحزان والأشجان والمشاعر، أن يحدث أمرٌ كهذا.
ولستُ بقاتلٍ رجلاً يُصلي على سلطان آخر من قريشٍ أأقتل مُسلماً في غير جرمٍ فليس بنافعي ما عشتُ عيشي له سلطانه وعليَّ إثمي معاذ الله من سفهٍ وَطيشِ إن هذا الحدث يؤكد أنه يأتي في فترة حرجة من تاريخ الجهاد الأفغاني، خاصةً أنه كان هذا الحدث في فترة كاد أن ينفذ فيها صبر الكثيرين، وهم يتطلعون إلى الأخبار في إسقاط كابول، والمدن الكبرى التي لا زالت تحت هيمنة الكفر الشيوعي في أفغانستان.
كما أنه يأتي في ظل صراعٍ عسكريٍ دامي حول ولاية كونر، نقلته وكالات الأنباء والصحافة، شرقيها وغربيها، عربيها وأعجميها، وذهب ضحية ذلك الصراع عشرات وربما مئات النفوس، فإنا لله وإنا إليه راجعوان.(20/5)
خاتمة حسنة
إنني إذ أبشر محبي الشيخ رحمه الله بهذه الخاتمة الحسنة، وهي أننا نرجو الله تعالى له أن يكون شهيداً في سبيله، وقد مات في يوم الجمعة، وقد جاءت بعض الآثار في فضل الموت في ليلة الجمعة ويومها، في مقابل النهاية اليائسة لذلك القاتل، وقد جاء في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {كان فيمن كان قبلكم رجلٌ كان به جرحٌ فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فلم يرقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة} وأما لسان حاله، وهو يسدد تلك الضربات إلى رأس الشيخ، فهو كذلك الذي قتل رجلاً من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو محمد بن طلحة، الذي كان يسمى بـ السجاد، فلما ذكره بالله عز وجل، سدد إليه السهم وقتله وهو يقول: وأشعث قوامٍ بآيات ربه قليل الأذى فيما يرى الناس مُسلمِ شككت إليه بالسهام قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً فلاناً ومن لا يتبع الحق يندمِ يذكرني "حم" والرمح شاجرٌ فهّلا تلا "حم" قبل التقدمِ إنني مع ذلك كله -أيها الأحبة- ومع هذه الأخبار المؤلمة التي أرقت قلوب المؤمنين، وجعلتهم لا يهنئون بعيشهم إلا أننا -مع ذلك كله- نبقى متفائلين بحمد الله، واثقين بنصره، مدركين حسن العاقبة للمؤمنين المجاهدين، طال الزمن أم قصر، فإننا على يقينٍ من ربنا عز وجل لا شك عندنا فيه.
ومما يؤكد هذا التفاؤل أن وفوداً كثيرةً من الإخوان العرب ومن غيرهم، قد سعت للصلح بين الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، والذي يحاصر كونر ويحتل أكثرها، وبين جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة التي كان يتزعمها الشيخ جميل الرحمن، رحمه الله تعالى.
وهذه الوفود قبل بها كل الأطراف، وبدأت تمارس مهماتها، وانتهت إلى توقف إطلاق النار نهائياً أو بشكل تقريبي، وكذلك اتفقت على حل المشكلات والقضايا المتنازع عليها، عن طريق الحوار والمفاوضة والمجالس المشتركة، وهذا هو الأصل، فإنني أعتقد أنه ليس من مصلحة المسلمين أن يتعاملوا مع من يخالفهم من خلال السلاح والقوة، وليس من المصلحة -في كل حال وفي هذه الظروف بشكلٍ خاص- أن تعود سهام المسلمين إلى صدورهم، كما أنه ليس من الاحترام أن تتعامل مع من تخالفه بالتهم التي تلصقها به، كما نجد الكثيرين ممن يقولون: هؤلاء عملاء لهذه الجهة أو لتلك الجهة، أو أنه بثهم الاستعمار أو بثهم الشرق أو الغرب.
فليس من المصلحة أن نتعامل بأساليب الاتهامات المتبادلة، ولا أن يتم التعامل عن طريق استخدام القوة في حل المشكلات، فأمام المسلمين آفاق واسعة للحوار والأخذ والعطاء، والاتفاق على القضايا المختلف فيها، كما أن أمام المسلمين ميادين واسعة لقتال عدوهم، ويكفي أن المسلمين محاصرون في كل بلادٍ يرفعون فيها راية القتال والجهاد، وأن عدوهم أقوى منهم وأكثر عدداً وعدة، وأنه مدعومٌ من قوى شرقية وغربية، فجديرٌ بالمسلمين أن يتناسوا كل ما يمكن تناسيه من الخلافات، أو يؤجلوا ما يمكن تأجيله، وعلى أقل تقدير -إن لم يكن بينهم تناصرٌ وتعاملٌ- فلا أقل من أن يكون بينهم تنسيقٌ يحقن الدماء، ويوجه أفواه البندقيات والمدافع إلى صدور الأعداء.(20/6)
الترهيب من قتل المؤمن
إنها مأساة، نسأل الله تعالى أن يكفي المسلم شرها ويطفئها، وإن العدو ليفرح بمثل هذه الأخبار التي ينزعج لها كل مسلم ومسلمة، وإنني أُحَذِّر نفسي وإخواني في كل مكان، من التهاون بالدماء -دماء المسلمين- فإن الله عز وجل يقول في محكم تنزيله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] وهذا وعيدٌ شديد، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء} .
وفي حديث أبي بكرة المتفق عليه -أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {أيها الناس! أي شهرٍ هذا؟ أي يومٍ هذا؟ أي بلدٍ هذا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن دماءكم، وأعراضكم وأموالكم، عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ فلا ترجعوا بعدي ضلالاً -وفي رواية: كفاراً- يضرب بعضكم رقاب بعض} .
وفي الصحيح -أيضاً- من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية إلى الحرقات من جهينة، فكان رجلٌ يقتل في المسلمين ويضرب، ولا يدع شاذه ولا فاذة إلا عرض لها، فلما رفع عليه أحد المسلمين السيف لاذ بشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرفع عليه أسامة السيف فقتله، فلما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخبروه، فدعاه وقال له: {يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً.
خوفاً من السيف، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! قال: استغفر لي يا رسول الله، قال: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! فما زال يكررها، يقول أسامة: حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ} .
دم المسلم غالي عند الله عز وجل، وإنها لكارثة كبرى أن يتهاون الناس في دماء المسلمين، على سبيل التأويل، وعلى سبيل التمحل، وعلى سبيل الإغراق في بعض الأفكار وبعض التصورات، ونحن نعلم أن دماء المسلمين استحلت في أماكن كثيرة، وفي بلادٍ كثيرة، وعبر قرون من التاريخ.
استحلت عن طريق التأويل، أي أن يقتله وهو يعتقد أنه بذلك يخدم الإسلام، وأنه يزيل عقبة من طريق الدعوة إلى الله، ومن طريق انتصار المسلمين وتغلبهم على عدوهم، لكن ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه برادع الخوف والوجل من الله عز وجل، أن يوقف بين يدي الله تعالى موقفاً صعباً، فيسأل فيه عن محجمة دم أراقها بغير حق، فلا يكون عنده جوابٌ حينئذٍ.(20/7)
قضية غياب العقلية الموضوعية التحليلية المعتدلة
من أهم مشكلاتنا -أيها الأحبة- أستطيع أن أضعها تحت عنوانٍ كبير: إن أهم مشكلة أستطيع أن أقول: إن معظم الكلام الذي سيدور حولها الآن -على الأقل في هذا الدرس- من أهم المشكلات عند المسلمين: غياب العقلية الموضوعية التحليلية المعتدلة.
وأضرب لك نماذج مبسطة تدل على ما أقصده بالضبط.
في موضوع غياب العقلية الموضوعية.(20/8)
قضية أفغانستان بين الغلو والتفريط
على سبيل المثال: القضية التي نعالجها نحن قضية أفغانستان.
جاء يوم من الأيام بعض الإخوة المتحمسين والغيورين، الذين بذلوا وضحوا وجاهدوا، وكانوا يتكلمون على قضية أفغانستان، وقالوا: هي فرض عينٍ على كسل مسلم أن يذهب إلى أفغانستان، ليقاتل هناك، فرض عين، صراحةً هناك صعوبة، أن أقول: إن الجهاد فرض عين، وحتى إن هؤلاء الإخوة كانوا يقولون: سئلتُ في عدد من المحاضرات وكنت أقول: إن هذا الأمر أعتبره أن فيه شيئاً من التسرع، وعدم الدقة في الحكم.
كيف يكون فرض عين على كل إنسان أن يخرج إلى أفغانستان؟! هذا غير صحيح، هناك فرق بين أن تحرض للذهاب إلى الجهاد، وتُحرض الناس على ذلك، وتدعوهم لأن يذهبوا ولو لبعض الوقت، وأن يحيوا في نفوسهم القوة والشجاعة والحماس، وأن يتخلصوا من حب الدنيا، ومن أسر الهوى، ومن الخوف، ومن معاني الذل.
وبين أن تصدر حكماً شرعياً أن كل مسلم لم يذهب إلى أفغانستان فهو آمن.
هذا صعب جداً؛ أن تلزم الناس شرعاً بأن يهاجروا إلى أفغانستان، ما معنى ذلك؟ دعك من الحكم الشرعي، وقضية فرض عين، معناه: أننا اختزلنا كل قضايا الأمة، ومشاكلها ومصائبها، والصعوبات التي تواجهها، فاختزلناها في قضية واحدة هي قضية أفغانستان، وفي مشكلة واحدة هي مشكلة أفغانستان.
مع أن الواقع يشهد بأن الأمة تعيش من الهموم والمشاكل والصعوبات وأنواع التخلف العلمي والاقتصادي والتقني، بل وقبل ذلك كله، التخلف العقدي والشرعي والسلوكي والأخلاقي، فهي تعاني من ألوان التخلف، شيئاً كثيراً جداً، يتطلب جهوداً جبارة لنقل الأمة عنه وإخراجها منه، فليس صحيحاً أنك تختصر قضايا الأمة كلها في قضية واحدة.
هذه القضية يجب أن تعطيها حقها، وهي -كما قلت في البداية- من أبرز القضايا، ومن يؤرخ لتاريخ المسلمين المعاصر، لو تجاهل قضية أفغانستان يعتبر خاطئاً، لكن هناك فرق بين كونها قضية كبرى وبين كونها هي القضية الوحيدة، هي قضية كبرى ولكنها ليست هي القضية الوحيدة، بل ثم عشرات القضايا يجب أن تكون في أذهاننا ونحن نتعامل مع قضية أفغانستان، أو قضية فلسطين، أو قضية أرتيريا، أو قضية الفلبين أو غيرها.
إذاً: ليس صحيحاً أن نصادر كل القضايا، ونقول: بقي شيء واحد هو أفغانستان، نبدأ منها، وننتهي عندها، لا، لأنه ليس صحيحاً أن نجعل كل مكاسبنا في أفغانستان، كما يقال في المثل: "أن تجعل البيض كله في سلة واحدة"، هب أن العدو -وهو عدو كاسر شرس متآمر، يملك من القوة ما يملك- هب أن العدو أدرك أن قضية أفغانستان قضية حساسة، وأن المسلمين مستميتون في الانتصار لها، فحشد قواه الشرقية والغربية، وأجلب بخيله ورجله، وقاوم المسلمين، وأبطأ النصر عليهم في بلدٍ معين كأفغانستان.
هل صحيح أن نجعل الأمور كلها مربوطة بهذه القضية؟ أم أننا يجب أن نجاهد في كافة الميادين وعلى كافة الأصعدة، ونعتبر أن قضية أفغانستان هي إحدى القضايا، وإحدى المكاسب، لكن لدينا قضايا أخرى ومكاسب أخرى، وينبغي أن نحافظ على الجميع جنباً إلى جنب.
أما في مقابل هذا الأمر الذي يقول: فرض عين.
قد تجد الطرف الآخر الذي يعتبر قضية أفغانستان، ليست في عداد القضايا المهمة عنده، فمن الناس -أصلاً- من لم يلقِ لها بالاً، وعلى مدى اثنتي عشرة سنة، كان المسلمون يسهرون الليالي، ويبذلون الدماء والدموع والأموال، ويبذلون فلذات أكبادهم على ميادين الجهاد، ومع ذلك وُجِدَ -ولا زال من المسلمين- من لا تعنيه هذه القضية في قليل ولا كثير، وكأنه ليس منها في قبيلٍ ولا كثير، وهذا أمر يصعب فهمه وتصديقه.(20/9)
حقيقة القضية الأفغانية
أنا قد أقدر إنساناً يهتم بهذه القضية، ولكنه يُفكر فيها بطريقة مختلفة، ليس شرطاً أن يوافقني على تفكيري وأسلوبي، لكن المهم هو أن يهتم بالقضية، أما كونه ينام ملء جفنيه وكأن الأمر لا يعنيه، هذا ليس بصحيح.
إذا لم تعنيك أمور المسلمين، فأنت لم تحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح: {مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد} وقال: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً} فنحن لم نحقق هذه المفاهيم النبوية الصحيحة، إذا لم نهتم بهذه القضية.
والنظرة المعتدلة، هي أن ننظر إلى أصل القضية الأفغانية، على أنها قضية شعب مؤمن، يثور في وجه الشيوعية التي تسلطت عليه، وابتزت أرضه وماله ودينه وعرضه بالحديد والنار، وتسلطت على رقاب المسلمين وأموالهم، ومزقتهم شر ممزق، وكانت -بلا شك- تريد مسخ أفغانستان، وإخراجها من عالم الإسلام إلى غير رجعة، وجعلها جزءاً من الدول الشيوعية الكافرة، فقام الشعب الأفغاني في وجه هذه المؤامرة، الشيوعية الماركسية، وضحى وصمم وبذل، وتميز عن كثير من الشعوب الإسلامية، التي أسلمت قيادتها طواعية ومن غير مقاومة.
فإننا نجد كثيراً من بلاد الإسلام قد مسخت فعلاً، فلا تجد فيها من آثار الإسلام إلا رسوماً دارسة ضعيفة، ومسخ فيها الإسلام في الواقع -وقد رأينا هذا- مسخت حتى آثار الإسلام الظاهرة، ولم يبقَ إلا صوت الأذان وهو صوتٌ خافت، أو آثار تجدها هنا أو هناك، وهي آثار تظهر على استحياء في كثير من البلدان الإسلامية، ومع ذلك لم يظهر أهل تلك البلاد أي مقاومة لعدوهم، بل سلموا له واستسلموا، وخسروا الكثير دون أن يحتفظوا بكرامتهم، فقد سيموا بألوان الخف والهوان، ولم يحتفظوا حتى بكرامتهم وإنسانيتهم، فضلاً عن تدينهم وصلاحهم وثباتهم وشجاعتهم وإسلامهم.
كانت الشيوعية يوم هيمنت على أفغانستان، لا زالت تحتفظ بقوتها، فرفع المسلمون هناك راية الجهاد، وأحيوا هذه الشعيرة العظيمة، التي أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها: {لا تزال قائمة إلى قيام الساعة} وأن الراية لا تسقط أبداً، كما قال عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقودُ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} قال الإمام أحمد: فقه هذا الحديث: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.
إذاً: الخيل المقصود به آلة الجهاد، فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقودُ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} وأحاديث أخرى كثيرة تثبت دوام الجهاد وبقاءه، منها الإشارة إلى الطائفة المنصورة، التي أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تزال باقية إلى قيام الساعة، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.
إن الغريب في الأمر -أيها الإخوة- أن كثيراً من الدول التي كانت تحت القبضة الشيوعية -القبضة الحديدية- انعتق كثيرٌ منها، وتحررت بثورات شعبية -كما هو معروف- إلا أفغانستان، فإنها لا تزال تئن تحت مطارق الشيوعيين، سواء كان الروس خرجوا من أفغانستان وبقي دعمهم المادي، أو كان الروس لم يخرجوا، ولكنهم استخفوا، وصاروا يديرون الأمور من وراء الكواليس، وهذا يؤكد قضية وهي: قضية التواطؤ العالمي ضد الإسلام، وهو تواطؤ يزداد يوماً بعد يوم، خاصة في ظل الظروف الحاضرة، التي أصبح الغرب والشرق يتخوفون فيها من بروز القوة الأصولية الإسلامية، كما سوف أشير إلى بعض التقارير المهمة في هذا بعد قليل.
إذاً: النقطة الأولى -أيها الأحبة- أنه يجب أن نحرص على أن نكون معتدلين في أحكامنا، لا يوجد داعي لأن نقول: إن القضية فرض عين، ويجب أن نصادر كل القضايا ونبقي هذه القضية الواحدة، ولا أن نقول: إنها لا شيء، وإن المسلمين يجب أن ينسوا هذه القضية ويسقطوها من حسابهم.
بل ينبغي أن توضع القضية في إطارها الصحيح، وتقدر بقدرها، وأن تذكر الإيجابيات الكبيرة التي من أهمها: إحياء شعائر الجهاد، وتحريض المسلمين على القوة، وإدراك أن المسلمين باستطاعتهم أن يتغلبوا على عدوهم، حتى ولو كان قوة عظمى من القوى الدولية كروسيا الشيوعية، التي كانت قوية في ذلك الوقت، وقبل أن يصيبها داء التفكك والانهيار، وفضلاً عن أن الله تعالى اتخذ من المؤمنين شهداء، وتربى المسلمون.
وتلقوا دروساً كبيرة في هذا المجال، والأمر -كما ذكرت قبل قليل- يحتاج إلى مؤتمرات ومجالس ودراسات، سواء كانت مكتوبة أم مقروءة.(20/10)
فقدان التوسط والاعتدال
إن كثيراً من المسلمين لا يعرفون التوسط والقسط في الأمور، ليس عندهم أنصاف الحلول -كما يقال- عندهم إما أبيض وإما أسود، إما صح وإما خطأ، فإذا أعجبوا بشيء أعطوه (100%) ، وإذا عزفوا عنه أعطوه صفراً.
لو فرضنا -مثلاً- أن واحداً قرأ كتاباً فأعجبه هذا الكتاب، وصار يتكلم عنه في كل مجال وفي كل ميدان، ويقول: هذا الكتاب الذي ما أُلّف قبله ولا بعده مثله، هذا الكتاب فيه وفيه، هذا الكتاب الفتح المبين، هذا الذي يجب أن لا يخلو منه بيت.
ثم أصبح يضفي على هذا الكتاب من الألقاب والأوصاف والمدائح مالا يجدر بكتابٍ من وضع البشر مهما كان، وحين يقرؤه غيره قد يجد في الكتاب نواحي إيجابية، ولكن يجد فيه نواحي سلبية، أو -على أقل تقدير- قد يخرج بانطباع أن ذلك بالغ في الثناء على هذا الكتاب، وأعطاه أكبر مما يستحق.
ثم تأتي لآخر ربما في نفس الكتاب أو في غيره، يقرأ الكتاب فيأتي ويقول: هذا الكتاب لا يساوي شروة نقير، ولا يستحق أن يُشترى ولو بفلسٍ واحد، هذا الكتاب لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب فيه، ولا قيمة الطباعة، ولا قيمة الورق.
ثم يهون من شأن هذا الكتاب، حتى يُنفِّر الناس عنه! فليس عندنا وسط، لأن نقول: هذا الكتاب جيد ومفيد، وفيه جوانب طيبة، وهي كذا وكذا وبالمقابل فيه جوانب سلبية وهي كذا وكذا ويمكن للمسلم أن يقرأ الكتاب، فيستفيد من الجوانب الإيجابية ويحذر الجوانب السلبية.
هذا الأمر قليل عند المسلمين، بل الكثير إما أن يثني فيبالغ، أو أن يحطم هذا الجهد فيبالغ.
وهذا الكلام الذي أقوله في كتاب يمكن أن تقوله في شخص، فمن الناس من يُعِّظم شخصاً حتى يعتبره مجدد القرن، وحجة الزمان، وفريد العصر، ووحيد الدهر، وحجة الله على عباده، وأنه الذي لا يأتي الزمان بمثله أبداً، ويبدأ يضفي على هذا ما لا يحق له أن يقوله فيه.
وقد يأتي إنسان آخر لنفس الشخص، فيضع من قدره، حتى تشك هل بقي أصل التوحيد عند هذا الإنسان؟ هل هو من أهل القبلة والملة؟! لأنه أفرط في ذمه والقدح فيه وتقبيحه والوقيعة فيه.
فليس عندنا إنصاف حلول، ولا يمكن أن نقول: فلان رجل فاضل، وفيه خير وصلاح، واستقامة، وهو مجتهد، ولكن أخطأ في مسائل اجتهد فيها وما حالفه الصواب، أو أنه عليه نقائص وهي كذا وكذا.
ما أقل ما نعرف هذا! تجد أننا إما أن نرفع الشخص فوق قدره، أو أن ننزله دون قدره ومنزلته.
وما يقال في كتابٍ معين أو في شخصٍ معين؛ يمكن أن يقال في أي شيءٍ آخر، في شريط مثلاً، أو في نشاط إسلامي معين، أياً كان هذا النشاط، سواء كان دعوياً أو علمياً، أو جهادياً، أو في أي منهج من مناهج الدعوة، وفي جماعة من الجماعات، فتجد أن كثيراً من الناس إما أن يغلو أو يُفرط، ويضع من صفات المدح ما لا يليق، أو يُفرط ويسرف، فيضع من النقائص والعيوب ما لا يليق أيضاً.
وما أحوج المسلمين إلى النظرة المعتدلة، التي يأمر الله تعالى بها! فالله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان، قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] والله عز وجل لما ذكر الخمر قال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] والأمر هذا واضح، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر ملك الحبشة لأصحابه، وهو ملك كافر آنذاك، قال:: {اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد} لم يمنعه كون هذا الملك ملك الحبشة كافراً آنذاك، وأسلم بعد، أن يذكر أن هذا الرجل عنده عدل وإنصاف، ويحمي المظلومين، ولا يسمح بإيصال الظلم إليهم.
فهذه هي السنة الشرعية الواجبة، أن تعدل في حق الشخص، والجماعة، والكتاب، والشريط، والنشاط الدعوي، والقريب والبعيد، وتحرص قدر المستطاع، ألا تأخذك العزة بالإثم، وألا تحب فتسرف في المدح، أو تبغض فتسرف في القبح والذم، بل أن تكون وسطاً معتدلاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] اجعل قلبك يا حبيبي متألهاً للحق، تعشق الحق حيثما كان، ولا تتعصب لغيره، وتقبل على كل شيء شاهداً من كتاب الله تعالى أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب الناس إليك لا مانع أن تقول: فيه عيب وهو كذلك، وأبغض الناس إليك لا مانع أن تقول: عنده حسنة وهو كذلك.
إذاً: المسلمون -في كثير من الأحيان- ما عندهم توسط أو تفصيل، ما عندهم إلا أبيض أو أسود صح أو خطأ، ليل أو نهار، (100%) أو صفر، أما التوسط فهو قليل، فإذا أقبلوا على شيء أقبلوا عليه بكليتهم، وإذا أعرضوا عنه أعرضوا عنه بكليتهم، فتعاملهم مع الأشياء نستطيع أن نصفه -في بعض الأحيان- بأنه تعامل عاطفي، ليس تعاملاً بالشرع وبالعقل، وبالحكمة، بل هو تعامل بالعاطفة، وحتى من الناحية العاطفية هو تعامل غير سليم، فأنت تجد -مثلاً- الإنسان الذي يبالغ في الحب، غالباً ما ينتقض الأمر إلى أن يبالغ في البغض، وفي حديث علي رضي الله عنه، الذي جاء مرفوعاً وموقوفاً، عند الترمذي، أنه رضي الله عنه كان يقول: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] وهذه حكمة أمسك عليها، الحكم إذا كان معتدلاً -موجود ولكنه باعتدال، وبدون إسراف- فإنه يستمر ويدوم ويثمر، لكن إذا كان حباً جارفاً مسرفاً فإنه يتحول إلى بغضاء، وهذا معروف فإنك تجد العاطفة -كما يقال- متقلبة، فإذا كان الإنسان ممن إذا أحب أسرف، تجد أنه ممن إذا أبغض أسرف، وتجد أن هذا الحب قد يتحول في كثير من الأحيان إلى بغضاء.(20/11)
التنصل من المسئولية
هناك جانب آخر من الخلل في التفكير عند المسلمين وهو: قضية التنصل من المسئولية وإلقاء التبعة على الآخرين، فالمسلم في هذا الوقت كسول، يحب ألا يتنصل من المسئوليات، ويلقي بالتبعية على غيره، وقد ذكرت في بعض المناسبات مثلاً صينياً يقول: -والواقع أن هذا المثل يجب أن يكون عربياً في الظرف الحاضر-: (المشكلات التي نعانيها الآن من صنع الأجيال السابقة، وسوف تحل بواسطة الأجيال اللاحقة) .
أما نحن فصرنا خارج الأقواس، ليس لنا دور في صناعة هذه المشكلات، ولن يكون لنا دور في حلها، وهذا هروب غريب من مواجهة المشكلات التي نعانيها، فنتنصل كثيراً من المسئولية، ونلقي بالتبعة على الآخرين.
فتجد أي فرد منا لا شعورياً، لو يرى منكراً في الشارع، ما يخاطب نفسه ويقول: كيف أزيل هذا المنكر؟ مجرد أن يرى المنكر ينطلق بصورة عفوية ويقول: أين فلان؟ أين جهاز الهيئات؟ أين المشايخ؟ أين العلماء والدعاة؟ وأنت ما هو دورك؟ هل الإسلام نزل لغيرك!! أنت واحد من المسلمين، وكان يجب أن تشعر أنك مسئول مثلما غيرك مسئول، وبدلاً من أن تقول: أين فلان وعلان؟ وما دور الجهة الفلانية؟ وما دور العالم الفلاني؟ ينبغي أن توجه السؤال إلى نفسك: ما دوري أنا؟ وماذا فعلت أنا؟ لا بد أن يكون تفكيرك تفكيراً علمياً عملياً، تفكيراً إيجابياً، وليس سلبياً همك أن تخرج من المسئولية، وتلقي بالتبعة على غيرك.
الدين يا أخي! ليس لفئة معينة، الدين للجميع، والقرآن نزل للجميع، وخاطب الناس كلهم قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] بل قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] فأنت من الناس وأنت -إن شاء الله- من الذين آمنوا، ويجب أن تقوم بدورك.(20/12)
الاحتجاج بأن الابتلاء سنة ماضية
من صور التنصل: إننا كثيراً ما نتعلق بقضية المحنة، كم أصيب المسلمون! كم شردوا!! كم قتلوا!! كم سجنوا!! كم عانوا من الآلام والمصائب والنكبات، ما الله به عليم!! ونحن دائماً وأبداً نضرب على وتر واحد، وتقول: إن الابتلاء والامتحان سنة الله في خلقه.
نعم هذا صحيح، لكن لماذا لا نتصور أنه كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في معركة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] .
المحنة أحياناً قد تكون قضاءً وقدراً لرفع الدرجات، وقد تكون -أحياناً- بسبب فعلنا نحن المسلمين، ومهما كان المسلمون من الصلاح والاستقامة والتجرد، والقوة والدين، والعلم، والوعي، لن يكونوا في درجة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبقيادة محمد نفسه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قيل لهم في محكم التنزيل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] .
هذا درس لكل مسلم، أنه لا يجوز أبداً أن تقول: القضية قضية ابتلاء وامتحان، وتغفل عن التفكير في دورك أنت في هذا الابتلاء والامتحان، وأنه قد يكون بسبب أخطاء، أو زلات، أو سقطات، أو تسرع، أو تعجل، أو عدم دراسة للأمور، أو عدم تقدير للمواقف، جرَّت إلى مثل هذا الأمر، ومع ذلك إذا وقعت ونزلت فلا داعي لأن يتشفى بعضنا ببعض، ونقول: هذا يستحق ما نزل به كذا.
وكأن الواحد يتشفى بإخوانه، بل لا بد أن يحزن لحزنهم، ويألم للمصيبة التي نزلت بهم، ويسعى لإخراجهم وإنقاذهم مما نزل بهم من مصيبة، أياً كانت هذه المصيبة، بغض النظر عن ما هي المصيبة، وفي نفس الوقت يأخذ من ذلك الدرس والعبرة.
نحن نؤمن به كقضاء وقدر وقع لا محالة، والاحتجاج بالقضاء والقدر بعد وقوع الشيء لا مانع منه، لكن ما يمنع -أبداً- أن الإنسان يأخذ درساً وعبرة من هذا الأمر الذي وقع، وهذا نفس الكلام فيما ذكره أهل العلم في الاحتجاج بالقضاء والقدر على المصائب.
فلو أن إنساناً وقع في معصية، سواء زنى أو سرق أو قتل، كونه يقول: هذا قضاء وقدر.
بعد ما وقعت المعصية، نقول: هذا صحيح أنه قضاء وقدر، لكن كونه قضاء وقدر لا يمنع من أنه إذا وقع هذا الإنسان في معصية تتطلب تبعات أن يتحمل هذه التبعات، مثل كونه قتل فيقتص منه، أو كونه سرق فيقام عليه الحد، أو كونه ظلم أحداً، فيعيد المظلمة لصاحبها، هذا لا يمنع وإن كان وقع الأمر -أصلاً- بقضاء الله وقدره، كما أن وقوع الأمر بقضاء الله وقدره، لا يمنع من أن الإنسان يتوب إلى الله تعالى من الذنب الذي فعله، ويستغفر الله ويراجع نفسه ويصحح سيرته، ولو كان ذلك كله بقضاء الله تعالى وقدره.
إذاً: لا يجوز أن نقول: القضية ابتلاء وامتحان ونصبر، مع أنه يجب أن نقول: هذا امتحان ونصبر إلا أنه ينبغي أن ندرك، ما هو دورنا في المحنة.
والمحنة قد تكون أمراً إلهياً محضاً لا يد لنا فيه، فنقول: سلمنا وقد تكون بسبب فعلٍ منا، فنراجع فعلنا هل فيه خطأ أو ليس فيه خطأ.(20/13)
الاحتجاج بأن الأخطاء طبيعية
ومن صور التنصل من المسئولية ومن الأخطاء أننا دائماً نقول: الأخطاء طبيعية، وليس هناك أحد معصوم.
وهذه ليست هي المشكلة، نحن الآن لا نتناقش في العصمة، نحن متفقون على أنه ليس هناك أحد معصوم، ومتفقون على أن الأخطاء طبيعية، والأمم كلها -أصلاً- فيها سلبيات، فنحن ندرك سلبيات إخواننا المسلمين، لكن الأمم الأخرى فيها من السلبيات ما الله به عليم، وكم من أمم تحملت من السلبيات شيئاً كثيراً! ولو قرأت تاريخ أي أمة كالنصارى، أو اليهود، أو الشيوعيين، أو أي أمة بدون استثناء، سواء كانت أمة من الأمم الدينية، أو من الأمم العرقية؛ تجد فيها سلبيات وأخطاء ومشاكل وأمور صعبة.
ولا شك أنه لا يقارن بها ما يقع في تاريخ المسلمين وواقعهم، هذا صحيح، ونحن لا نشك فيه، وليس معنى وجود السلبيات، أنه يجب أن نتوقف، أبداً، لكن معناه: أننا ينبغي ألا نتوقف عند مجرد قضية أن الأخطاء طبيعية.
لابد أن نحدد ما هي الأخطاء، وكيف حصلت، ومن المسؤول عنها، وما سبيل الخروج منها، وما سبيل العلاج، وما أشبه ذلك، ويكون ذلك كله برفق ورويّة وحكمة، وإنصاف الباحث عن الحقيقة، وليس المتشفي الذي يبحث عن الخطأ والزلة حتى يتعلق بها لحاجة في نفسه أو في قلبه والعياذ بالله، فهناك فرق بين المشفق الذي يبحث الباحث عن الخطأ ليعالجه، فهو كالطبيب الذي يبحث عن المرض والألم، وبين الإنسان المغرض الذي هو كالعدو، يبحث عن الخطأ حتى يتشفى ويتهم، ويسب، وحتى يجد فرصته في التعليق والقيل والقال والكلام الذي لا طائل تحته.(20/14)
التهرب من القيام ببعض الأعمال
من صور التنصل أيضاً: التهرب عن بعض الأعمال التي ربما ادعاها الإنسان في وقتٍ من الأوقات أي: أن الإنسان قد يدَّعي شيئاً ما ثم يتنصل منه، مثل ما يذكر في الطرائف والنكت: أنّ أحد الخلفاء جيء له بشيء فأعجبه هذا الشيء، فقال: من الذي فعل هذا؟ فسكتوا، فقام الخليفة وقال: إني سوف أعطيه جائزة.
فقام إنسان وقال: أنا الذي فعلتها.
فقال: اجلدوه مائة جلدة.
فقاموا وجلدوا هذا الإنسان مائة جلدة، فلما انتهوا قال: اجلدوا فلاناً لأنه هو الذي فعلها على سبيل الحقيقة.
فلما كان يتصور أن هناك جائزة قام يدعي، لكن لما عرف أنه لا توجد جائزة إلا العقوبة، قال: على الأقل أشركوا معي الفاعل الحقيقي لهذا الأمر فهذه مشكلة.
وقد تجد كتاباً من الكتب، يؤلف الكتاب ولا يذكر عليه اسم المؤلف، إنما يذكر اسم رمزي، لأنه خائف أصلاً -وهذا حصل أكثر من مرة- ما استطاع أن ينشر الكتاب باسمه الصحيح، لأنه خائف أن تقدم على هذا الكتاب، حمله شرسة، وهجوم كاسح، وقد يعاقب صاحبه، إذا انتشر الكتاب ولم يذكر اسمه، فلما رأى الكتاب راج وانتشر، وطبعت منه مئات الآلوف من النسخ، وكتبت عنه الصحف وأشادوا به، قام وادعاه وقال: أنا الذي ألفت الكتاب.
فهذا نوع من التهرب والتنصل من مسئولية عمل قام به الإنسان، يدل على ضعف الشجاعة.
أذكر أنه في بعض البلاد الإسلامية، كان هناك نوع من مقاومة الأعداء في ذلك البلد، فلما كانت القضية أن توقع الانتصار بين عشية وضحاها، كان هناك أطراف عديدة كل واحد يقول: أنا الذي بدأت أنا الذي بدأت.
فلما رأو أن الأمر آل إلى عاقبة غير محمودة ولا مرضية، أصبح كل إنسان يلقي بالتبعة والمسئولية على الأطراف الأخرى، ويحاول أن يتخلص هو أو يتنصل منها، ويقول: الذي بدأ أو الذي جر إلى هذا الأمر هو فلان أو علان.
على سبيل المثال: هذا المثال الذي ضربته: إعلان الجهاد في بلد معين, وإعلان الجهاد أنا أعتبره قراراً تاريخياً ليس بالأمر السهل، إذاً: كيف يتم هذا الأمر؟ من هو الذي بدأ هذه القضية، حتى تتحدد المسئوليات بشكل واضح؟ هذه القضية تحتاج إلى نظر وتأمل، بمعنى أنه ينبغي على المسلمين أن يدرسوا أمورهم، ولا يتخذوا قرارتهم إلا بدقة متناهية، وبصورة جماعية مدروسة، لئلا تؤول القضية إلى تبرم وتنصل من المسئولية، كما ذكرت لكم في بلد ما، لما كان الجهاد في أوله، وكانوا يتوقعون نصراً سريعاً صار كل إنسان يدعي، فلما رأوا أن الأمور انتهت، أصبح كل إنسان يتنصل ويلقي بالمسئولية على غيره، هذا ليس بجيد.(20/15)
إلقاء المسئولية على الحكام
أحياناً نلقي بالمسئولية على الحكام، ولا شك أن الحكام يتحملون مسئولية، وليست كمسئولية الأفراد العاديين أو مسئولية الشعوب، وكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر المتفق عليه: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} .
ودور الحاكم الذي الأمة كلها معلقة في رقبته، ليس كدور الفرد العادي، هذا مما لا يشك فيه أحد ولا يختلف، لكن ننسى -أيضاً- أن الأفراد يتحملون دوراً كبيراً، حتى فيما يفعله العالم.
أو الحاكم، ولما ذكر الله تعالى قصة فرعون وطغيانه، واستبداده قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:54-55] .
إذاً: القضية أتت من قِبل الفرد أصلاً، زالت إنسانيته وكرامته وقوته ورجولته فاستخفه فرعون وأطاعه لأنه كان من الفاسقين.
ويقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] أي: نجعل بعضهم على بعض أولياء بسبب أعمالهم، وليس من العدل أن يتصور مسلم أن الله تعالى يُسلط على أمة صالحة مستقيمة مجاهدة, آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، يسلط عليها ظالماً يسومها سوء العذاب، كما أنه لا يتصور أن يأتي حاكم كـ عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز لأمة فيها من المشاكل والعيوب والمآخذ ما فيها، ولو جاءها ربما كانت هي أول من يقوم ضده ويقتله، كما قال أحد الشعراء: قم يا صلاح الدين قم كم مرةٍ في العام تندبونه! حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة وإنه لو قام حقاً بينكم فسوف تقتلونه فينبغي أن ندرك الترابط بين جميع طبقات الأمة، حاكمها وعالمها وداعيتها وفردها والرجل والمرأة، والمتعلم والمعلم، فالجميع مترابطون، ومن الصعب أن تتصور أن هناك في فئةً صالحةً والباقي فاسدة أو العكس، بل إن الأمر مرتبط بعضه ببعض.(20/16)
الإلقاء بالمسئولية على العدو
وأحياناً يبلغ بنا حد التنصل من المسئولية -وهذا أمر مضحك- إلى أن نلقي بالمسئولية على عدونا!!! ألا نضحك لو قيل لنا: شخص خرج من المعركة مهزوماً فقيل له: لماذا انهزمت؟ قال: كنتُ أتصور أن العدو ما يملك هذه القوة، ففوجئت أنه يملك قوة، ولم يراع ظروفي ولا راعى إمكانياتي الضعيفة، فهجم عليَّ هجمة شرسة، وكانت النتيجة أني انهزمت!! أو كما كان أحدهم يقول: كنا نتصور أن العدو يأتينا من الشمال، فجاءنا من الجنوب، فسخر منه بعض الشعراء، وقال له: كان على عدوك لو درى أدب القتالِ أن يستشيركَ في العبور من اليمينِ أو الشمالِ المفروض على العدو أن يستشيرك، ما يقطع أمراً دونك! عدوك ماذا تنتظر منه يا أخي؟! هو -أصلاً- عدو وأنت تقاومه، فماذا تنتظر من عدوك، إلا أنه سوف يستفرغ كل ما في وسعه في مقاومتك.
فهمٌ غير صحيح أننا نلقي مسئوليتنا على عدونا، عدونا شرس وقوي، وعدونا -مع ذلك- بعيد النظر قوي التخطيط، ومع أنه قوي وبعيد النظر، وقوي التخطيط، مع هذا كله فإنه موحد الصف مجموع الكلمة، وأنا أقرأ عليكم الآن تقريراً نشر بعنوان: المسلمون قادمون؛ حتى تدركوا حجم العدو.(20/17)
تقرير إخباري تحت عنوان: المسلمون قادمون
هذا التقرير نشر في مجلة أمريكية اسمها "ناشيونال بريفيو وأنا أقرأ عليكم الآن من ترجمة المقال، وهو مقال فيه جوانب تسر المسلم بلا شك، ولكن فيه جوانب تكشف عن حجم العداوة، التي واجهها المسلمون في كل مكان، في أفغانستان، وفي كل بلاد الإسلام: يقول: كاتب المقال واسمه دانيال بايبس: إن الغربيين يعتقدون الآن أن الإسلام اليوم يهددهم أكثر من أي شيء آخر، ولذلك بدءوا يرددون اليوم شعار: "المسلمون قادمون"، بدل شعارهم القديم: "السوفيت قادمون"، وأخذوا يوجهون أعداءهم نحو العالم الإسلامي والشرق الأوسط حيث يتركز المسلمون.
ويعود بايبس بالذاكرة إلى حوالي ستمائة وخمسين سنة مضت، وبالذات إلى عام (1354م) ، عندما عبر الجيش العثماني لأول مرة مضيق الجردينل، إلى القارة الأوروبية، فيقول: منذ ذلك التاريخ، وحتى إيقاف تقدم الجيش العثماني على أبواب فيينا عاصمة النمسا الفترة التي استغرقت ثلاثمائة وخمسة وعشرين سنة، انصبت جميع المحاولات الغربية على السبل الكفيلة بإيقاف تقدم المسلمين نحو أوروبا.
لأن أوروبا نفسها كانت مهددة تحت جحافل الجيوش الإسلامية الجرارة.
يقول: إن خطر الإسلام الكبير على الغرب كان يتمثل حتى الأمس بالتهديدات العسكرية، أما اليوم فإن القوة الإسلامية تحولت إلى حركة فكرية وثقافية، تهدد أسس وقواعد الفكر والعقيدة الغربية.
إذاً: الإسلام يخيفهم حتى حين يكون عقيدة فقط، أو كما يقول: حركة فكرية وثقافية.
ثم يشير إلى زوال الصراع مع المعسكر الشرقي، الذي هو المعسكر الشيوعي -والمقال هذا كتب قبل تهاوي، وتساقط الجمهوريات السوفيتية- يشير إلى تقاسم النفوذ في العالم، ويقول: لم يعد قائماً الآن تهديد وخطر المعسكر الشرقي بالنسبة للغرب، لقد زال هذا الخطر، واليوم تعتبر الأصولية الإسلامية خطراً على الغرب، وهي في نموٍ وتصاعدٍ يوماً بعد يوم، وتشكل خطراً يهدد الغرب بشكل أكثر تعقيداً من خطر الحرب الباردة بين القوتين.
ثم يدعو إلى التصدي للإسلام قائلاً: إن الغرب الذي أزال خطر الشيوعية وخطر الاتحاد السوفيتي، لا بد أن يُفِّكر بجدية في هذا الخطر الجديد، ويجب عليه أن يعتبر الاتحاد السوفيتي أكبر حليفٍ له ومتعاون معه، في مواجهة الأصولية الإسلامية.
إذاً: حلف عالمي دولي، مع أنَّ كل قوة في ذاتها تملك من الإمكانيات ما تملك، لكن مع ذلك يقول: يجب أن يعتبر الاتحاد السوفيتي أكبر حليفٍ له ومتعاونٍ معه، في مواجهة الأصولية الإسلامية.
ثم تكلم بعد ذلك عن إمكانية احتواء المسلمين من الناحية الفكرية، إمكانية صهر المسلمين في الحضارة الغربية، فيقول: إن المسلمين يقاومون بشدة أي محاولة لصهرهم في أي شيءٍ آخر غير الإسلام، فالباكستانيون -مثلاً- في بريطانيا، والجزائريون في فرنسا، والأتراك في ألمانيا، يحاولون تبديل تلك المجتمعات إلى دول إسلامية، في الوقت الذي كان ينتظر أن يذوب هؤلاء في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها.
وفعلاً هناك فرى بأكملها تحولت إلى قرى إسلامية.
وقد حدثني أحد الإخوة وهو ثقة، عن قرية بأكملها في ألمانيا تحولت إلى قرية إسلامية، حتى يقول: إنها قرية على منهج الكتاب والسنة، إلى حد أنه يقول: جاءت امرأة مرة بعد صلاة الجمعة إلى الإمام، أو الداعية الخطيب، فقالت له: إنها مسلمة وزجها كافر ورفض الإسلام، فقال: لا بد أن تفارقه، فقالت: هناك صعوبات وعندي أطفال.
وقال: لا، وتكلم بقوة.
فيقول بعد ذلك قلتُ له: لماذا لم تتلطف معها، وتأتيها بهدوء؟ قال لي: نحن لا نريد المسلم الضعيف، لا نريد إلا المسلم القوي الذي لديه الاستعداد للتضحية في سبيل دينه بكل شيء.
ثم يشير الكاتب في مقاله إلى مسألة التوازن غير المتكافئ بين المسلمين والنصارى، فيقول: العائلة الواحدة في العالم الإسلامي لديها ستة أطفال، بينما العائلة الغربية لديها طفلان فقط، وهذه مسألة تشكل في المستقبل تهديداً آخر للغرب.
ويقول أيضاً: إن الألف سنة الأخيرة مضت في حروب مختلفة بين النصرانية والإسلام، ويعتقد هو أن القرن الحادي والعشرين ميلادي، سميضي بهذا الشكل أيضاً، ثم يضيف: إن الغرب سيزول حتماً بهتافاتٍ تأتي من مهود أطفال المسلمين.
ونحن نقول: قال الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] يقول: إن الغرب سيزول حتماً بهتافاتٍ تأتي من مهود أطفال المسلمين.
ثم يختم المقال: إن عالم الغرب، وإن كان يتمتع اليوم بقدرة مادية لا نظير لها، إلا أن هذه القدرة لا تستيطع أن تحفظ الغرب في مواجهة الآهات المظلومة للمسلمين، إن الغرب يائس إلى آخر المقال.
المقصود من هذا المقال: الإشارة إلى أن القوى العالمية كلها، شرقيها وغربيها، تتحالف ضد الإسلام، وتعتبر أن أخطر شيء يواجهها الآن هو ما يسمى بالأصولية الإسلامية، ولذلك نحن نواجه عدواً شرساً قوياً موحد الصف، وهذا لا شك فيه ولا غرابة في ذلك، إنما ينبغي أن ندرك نحن حجم هذا العدو، وأن نواجهه بالوسائل المكافئة وما نواجهه من عدونا ليس مستغرباً، وينبغي ألا نحمل عدونا مسئولية ما ينزل بنا، لا يمكن أن نقول: ما نزل بنا من مصيبة مسئوليته تقع على عدونا.
لماذا ما تحقق لك ما تريد؟ قال: العدو هو السبب.
هذا أمر طبيعي، أتريد من العدو أن يسلمك الحصون؟ فينبغي أن ندرك.
ومن المسلم به أن هذا يجعل الإنسان يكون بعيد النظرة، ولا ينتظر نصراً يقطفه بين يومٍ وليلة، أو في أسبوعٍ أو شهر، وأن القضية تحتاج إلى طول نفس، لكن ينبغي أن تقدر قوة العدو، وأن لا تحمل مسئولية ما أصابك عدوك.
ناحية أخرى: حتى ونحن نتكلم عن عدونا وإمكانيات عدونا.
وتحالف عدونا، هناك سؤال لا بد أن نطرحه على أنفسنا: نحن ما درونا في التأثر بعدونا؟ ما دورنا في التأثر بالأقوال التي يقولها، والأفعال التي يفعلها عدونا؟ بل وتسهيل مهمة هذا العدو أحياناً، وأحياناً قد نكفي عدونا بعضنا البعض، وقد لا يحتاج عدونا إلى سلاح في بعض الأحيان، فبعضنا يؤذي بعضاً، ويعارض بعضنا بعضاً، ويسقط بعضنا بعضاً، ويقتل بعضنا بعضاً، فماذا يصنع عدونا أكثر من هذا أحياناً؟! فالعدو غاية ما يريد أن يقتل المسلم، والمسلم قد يقتل أخاه أحياناً! غاية ما يريد العدو أن يحطم الرموز الإسلامية، والمسلم قد يُحطِّم رمزاً إسلامياً أيضاً! والخلافات قد تستشري وتتحول إلى نوع من الهم الذي يغرق الإنسان فلا هم له إلا فلان، ومحاولة إسقاطه بكل وسيلة، وبذلك نكفي عدونا أنفسنا، ولا يحتاج إلى أن يبذل الجهد لأننا بتناقضنا نحن، وبالمشاكل الموجودة فيما بيننا، أصبحنا كما تقول القاعدة: تعارضا فتساقطا.
أسقط بعضنا بعضاً، وعدونا أصبح مشغولاً بالحصول على المزيد من المكاسب، والمزيد من التقدم، والمزيد من الأمور التي لم يكن ليحصل عليها لو كان يواجه قوة صحيحة.(20/18)
صور من الخلل في التفكير
أنا حين أتكلم عن هذا الخلل في التفكير، صراحة أقول: إن الخلل في التفكير عندنا من القمة إلى القاعدة، على كافة المستويات، تجده في كل فرد، سواءً كان فرداً ذا مسئولية خاصة، علمية أو رسمية، أو مسئولية دعوية، أو حتى تأتي إلى المدرس في الفصل، أو إلى الأب في البيت، تجد الأخطاء نفسها موجودة، فنحن نتربى على هذه الأخطاء، ونتعامل معها بصورة عفوية، ولذلك لعل طرق هذا الموضوع يساهم في تصحيح التفكير عندنا.(20/19)
العفوية والبساطة
من عيوبنا أيضاً في التفكير: العفوية والبساطة أحياناً، وأخذ الأمور -كما يقال- بالبركة.
مثلاً: عدم تقدير المواقف السياسية الدولية.
هذا كثير ما يصاب به المسلمون، ويكون نتيجة لذلك أخطاء في مواقفهم وفي تصرفاتهم، وفي أعمالهم، أياً كانت هذه الأعمال، بسبب عدم قدرتهم على إدراك حساسية المواقف ودراستها بشكلٍ جيد، والمفروض أن الإنسان يعرف الجو الذي يتحرك فيه.
وأيضاً: عدم تقدير قوة العدو، حتى أني أسمع من بعض الشباب.
من يقول: المسلم إذا وجد أي قوة يقاتل بها عدوه؛ لأن الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فإذا أعددنا ما استطعنا الباقي على رب العالمين.
إذاً: لماذا عقد الفقهاء باب الصلح وباب الهدنة مع العدو؟ وتكلموا في هذا، وأنه قد يعقد الصلح مع العدو لأسبابٍ معينة، بسبب عجز المسلم عن قتاله، صلح لفترة محدودة أو في ظرف محدود، فلماذا تكلم الفقهاء في هذا؟ أما كونك تقول: كل إنسان ملك أدنى قدرٍ من القوة كان بإمكانه أن يواجه عدوه.
هذا ليس بصحيح، بل ينبغي أن تقدر قوة عدوك، وقد تصل إلى نتيجة أنه لا يمكن مواجهة العدو، والمسلمون بـ مكة قد قيل لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] .
وفي أفغانستان قد نستطيع أن نقول: لنا قوة تواجه قوة عدونا وتكافئ قوة العدو، أو تقرب منها بحيث نستطيع أن نقاومه.
لكن قد يكون في بلادٍ أخرى لا يملك المسلمون هذه القوة، فهل يمكن أن يقوموا بقرارٍ كذلك القرار بدون دراسة؟ هذا ليس بصحيح.
أيضاً من العفوية والبساطة: عدم تقدير قوة العدو.
قد تجد أن العدو يملك قوى لا تستطيع أن تواجهها أو تكافئها، ودراسة هذه الأمور ووضعها في موضعها لابد منه، فنحن أيضاً -وهذا ضمن عفويتنا وبساطتنا- مسرفون في كثير من الأحيان في تقدير قيمة القوة البدنية والعسكرية، وشدة الاعتقاد بما يسميه المعاصرون الحل العسكري، نتصور أن الكلاشينكوف -كما يقال- تحل جميع المشكلات، وهذه مشكلة وخطأ كبير، وخلل كبير في التفكير.(20/20)
حاجتنا إلى الإمكانيات
الساحة الإسلامية اليوم تكاد أن تخلو من الإمكانيات العلمية والعملية والدعوية، والمسلمون أمامهم مضمار طويل جداً، يحتاجون إلى أن يجندوا فيه من الإمكانيات والأعداد والكوادر الهائلة في كل مجال؛ حتى يصلوا إلى المستوى الذي يكونون جديرين فيه بنصر الله عز وجل لهم، وأقول: المسلمون الآن غير مؤهلين في الواقع لأن يقوموا بحضارة على مستوى العالم، لأنهم لا يزالون دون هذا المستوى في وضعهم الحاضر، فهم بحاجة إلى وقت وإلى جهود جبارة في كافة المجالات، يحتاجون إلى التربية الإيمانية الصادقة، وإلى تصحيح العقيدة وتصفيتها وترسيخها في النفوس، ويحتاجون إلى بناء العقليات الناضجة المتعقلة، البعيدة عن الاندفاع والهيجان والتقلب والاضطراب، ويحتاجون إلى الاندفاع في كل مجال للبناء والإصلاح والتعمير، يحتاج المسلمون في كل مجال من مجالات الحياة المباحة إلى أعداد كبيرة غفيرة، تجند وتجيش لخدمة الإسلام والمسلمين.
في المجال الطبي -مثلاً- وفي مجال التقنية والتصنيع، والاقتصاد، وفي مجال الاجتماع، ومن ذلك أيضاً في مجال الإعداد المادي، والقوة المادية، وقبل ذلك كله في المجال الشرعي، وتصحيح عقائد الناس، وتصحيح أخلاقهم وعباداتهم، ودعوتهم إلى الالتزام بالكتاب والسنة، وتصحيح مفاهيمهم بحيث يكون هذا هو الإطار العام، الذي ينطلق منه المسلمون إلى كل مكان.
فالقضية ليست بالبساطة، وأنك تتصور أنه كما يقول أحدهم: أصدقاء الحروف لا تعذلوني إن تفجرتُ أيها الاصدقاءُ كُل أحبابي القدامى نسوني لا نوار تجيبُ أو عفراءُ عندما تبدأ القنابل بالعزفِ تموتُ القصائدُ العصماءُ صحيحٌ أن القصائد العصماء تموت إذا بدأت القنابل، لا نريد من القصيدة العصماء أن تلقيها والناس يتقاتلون، لكن نحتاج إلى الإيمان الصادق، ونحتاج إلى الخبرة، والدراية، ونحتاج إلى ألوانٍ كثيرة من شئون الحياة، ومن العلوم التي يفتقر إليها المسلمون في واقعهم، وينبغي أن ندرك العلل في جسم الإسلام حتى نعرف كيف نخرج، وإلا فسوف نظل ندور في حلقة مفرغة ولا نخرج منها.
فلابد ألا نسرفإذاً- في تقدير قيمة القوة العسكرية والحل العسكري، وأن نضعه في موضعه الطبيعي، هي جزء من القوة، لكن هناك قوى أخرى كثيرة قبلها ومعها وبعدها نحتاج إليها، هذا الإسراف في تقدير القوة العسكرية مخالف للسنن الإلهية.
ولا داعي لأن يتعجل الناس، الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قال الله لهم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] وفي الآية الأخرى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40] والرسول عليه الصلاة والسلام حينما كان يربي أصحابه، ما رباهم على أن قال لهم: إنكم ستملكون فارس والروم وغيرها، خاصةً في مكة، بل رباهم على أن قال لهم: {تبايعونني على الموت ولكم الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل، ولا نستقيل} .
هذه هي القضية، إذاً القضية مربوطة بالدار الآخرة، وأن هناك جنةً عرضها السموات والأرض لمن جاهدوا في سبيل الله، وصبروا وقاتلوا وقتلوا، أما قضية أنه في الدنيا يحصل شيئاً أو ما يحصل، أو ينتصر أو ما ينتصر، أو يغلب أو ما يغلب، هذا أمر مرده إلى الله عز وجل، قد يعطى لهذا الجيل أو للجيل الذي بعده، هذا الأمر غيبٌ عند الله عز وجل.
عود على بدء؛ فإن إيجابيات الجهاد الأفغاني كثيرة، ومع ذلك لا يعني أننا ننكر أن الجهاد الأفغاني -كأي عملٍ إنساني وكأي عمل إسلامي- لا يخلو من سلبيات هنا أو هناك، وينبغي أن تكون الصورة معتدلة في أذهان الناس، حتى لا يقاجئوا بأي وضع جديد يحدث، فيحصل عندهم صدمة، فبدلاً من الحماس الذي كان يقول: يجب ويجب، تحول إلى حماسٍ مضاد، يقول: يحرم ويحرم! فينبغي ألا نعيش ردود فعل دائماً وأبداً ننتقل من النقيض إلى النقيض، هذا سيفقد الناس الثقة بنا، كدعاةٍ للإسلام، وطلبة علم، وسيفقد الناس -أيضاً- الثقة بالجهاد ليس في أفغانستان فقط، بل في كل مكان، وهذا لاشك ليس من مصلحة الجهاد ولا المجاهدين، ولا من مصلحة الإسلام والمسلمين.(20/21)
الخوف من النقد والتصحيح
من مشاكلنا في التفكير وأخطائنا: الخوف من النقد والتصحيح.
وهذا إن شاء الله سوف أخصص له درساً، لأنه موضوع مهم جداً.
فنحن -في كثير من الأحيان- نعتبر أن الذي ينتقدنا أو يصحح لنا، أنه قد خذلنا أو تحامل علينا، قد يكون أخطأ في أسلوب النقد، أو في أسلوب التصحيح والتوجيه، لكن لا بأس أن يتحمل الأنسان مرارة الدواء.
وإن أمكن أن يكون التصحيح بأسلوبٍ حسن حكيم ولطيف؛ فهذا ما نتمناه، وإذا ما أمكن فلا بد يأتي إنسان يقومني بأسلوبٍ جاف، أحب إليَّ من إنسان يسكت على أخطائي، ويتلطف معي، ويمدحني ويثني عليَّ بما ليس فيّ، فإن صديقك من صدقك.
والحقيقة أن الذين يخذلون الأمة ويخذلونك، هم الذين يرونك على خطأ فيقرونك عليه ويسكتون، أو يؤيدونك، ويعتبرونه صواباً.
ومع الأسف الشديد أن في عقول كثير منا -كما قلت قبل قليل- أننا نتنصل من الأخطاء، انظروا: هل أنتم تعرفون أني أقصد نفسي وأقصدكم أنتم؟ أم تتصورون أنني أتكلم عن أناس خارج الإطار؟ إذاً: تصورتم أنني أتكلم عن أناس خارج الإطار، معناه أن عندنا تنصلاً، حتى هذه الأشياء ما نشعر أننا نحن المخاطبون بها، نشعر أن المخاطب بها غيرنا، لأننا نلقي باللآئمة على الآخرين، فنحن -أحياناً- علامة الصداقة عندنا أن الإنسان كلما فعلنا شيئاً، قال: أحسنت أحسنت بارك الله فيك، هذا هو الصديق.
وعلامة العداوة لنا؛ أن إنساناً إذا فعلنا بعض شيئاً، أو قلنا كلاماً قال لنا: أخطأتم أخطأتم.
فإننا نقول: هذا عدولنا، هذا ليس صحيحاً، قد يقول لك الصديق الحميم المحب: أخطأت؛ لأنه يخاف عليك، وقد يقول لك العدو الشرس، الكاشر، على عداوته: أصبت.
لأنه يريدك أن تمعن في الخطأ ولا يريد أن تتفطن له وأن تتجاوزه، قد يصدق كلام العدو، وقد يكذب كلام الصديق!(20/22)
سرعة التعلق بالشائعات
من أخطائنا في التفكير: سرعة التعلق بالشائعات -في التفكير والعمل- وعدم التثبت من الأخبار والحقائق والأحوال.
لماذا لا نتثبت في الأخبار وفي الحقائق وفي كل الأمور؟ القضية دائماً يكون لها أطراف، والله تعالى يأمر بالعدل، وأنت مسئول بين يدي رب العالمين، لا تقل كلمة إلا وقد وزنتها، خاصة وأنك أشبه ما تكون بالحكم بين أطراف، فحاول ألاّ تظلم أحداً، ولو لم تكن تحبه أو ترتاح إليه، لكن حاول ألا تظلم أحداً، فإن الظلم مذموم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} .
لماذا تنتشر الشائعات ونتعلق بها؟! لأسباب: أحياناً بسبب عدم التجرد، بل بتأثر الإنسان بظروفه وعلاقاته وصداقاته، وما أشبه ذلك، بل ربما بتأثر الإنسان بنظراته العقلية والنفسية، وقد يتحدث الإنسان -أحياناً- بصدق وحراراة وانفعال، لا تشك في أنه يتكلم من قلبٍ صادق، ومع ذلك قد لا يقول الحقيقة كاملة، لأنه يتكلم من طرف واحد أو ينظر من زاوية واحدة.
والإنسان ينبغي أن يحرص -قدر المستطاع- على أن يزن بالقسطاس المستقيم، هذا الذي أمرنا الله تعالى به.
وأحياناً تنتج الشائعات بسبب عدم التفريق بين الأماني والتطلعات، وبين الواقع الذي نعيشه.
فهناك شيء تتمناه أنت وهناك شيء هو الواقع، فلا تخلط بين ما تتمنى أن يكون، وبين ما هو كائن فعلاً.
مثلاً: في تحليل الأحداث؛ تجد كثيراً منا متفائلين دائماً وأبداً، كلما حللنا حدثاً نغرق في التفاؤل، فلماذا نغرق في التفائل؟ ينبغي أن نكون متفائلين لكن بدرجة معتدلة.
ودائماً أسمع هذه الكلمة: الأمور على ما يرام الأوضاع تبشر بالخير! لا يوجد داعي للمبالغة -أيها الأحبة- ينبغي أن نكون معتدلين في تحليل الأحداث، أو حتى في رسم المستقبل، فلا نبالغ في التفاؤل بشكل يجعل الأمور فيما بعد تنتكس، ويقول الناس: إنّ هؤلاء أعطونا وعوداً ما لها رصيد، هؤلاء كانوا يبيعون ويذرعون في الهوى، ويبنون قصور، الآمال على أكوام من الرمال.
فالأمنيات لا ينبغي أن تتحول إلى وعود، وحقائق، وأخبار، ولا ينبغي أن نعد الناس بشيء، ونحن غير واثقين من إنجازه تحقيقه.(20/23)
تضخيم الإنجازات
من الخلل في التفكير: أننا أحياناً نبالغ في تضخيم الإنجازات، ونبالغ في تهوين الأخطاء، أحياناً الأخطاء نهونها ونقول: هذه أشياء عادية، وأمور بسيطة تم تعليقها، وانتهى الموضوع، محاولة أن أنهى الخطأ بأي شكل.
أما الإنجازات فنعظمها وننفخ فيها، حتى نعطيها أكبر من الحجم الطبيعي.
يقول: يا أخي! حتى لا نزعزع ثقة الناس بهذا العمل الذي قمنا به.
أو يقول: حتى لا نعطي العدو فرصة، لأن ينفذ من خلال هذا العمل أو ذاك.
وعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالجوانب الرسمية؛ إن كان يسوغ ذكر، مثال لها: العرب في عام (73) فيما يسمى حرب رمضان، حققوا نصراً جزئياً، هذا النصر بالغوا في وصفه وتضخيمه، حتى اعتبر كأنه فتح الفتوح والنصر المبين، الذي أشبع كل رغبة الشعوب وحقق إراداتها، وجعلها تصل إلى ما كانت تصبو إليه، فنحن بالغنا في هذا النصر الجزئي وفي تضخيمه، وأعطيناه أكبر من حجمه، هو قد يكون نصراً، لكنه نصر جزئي.
وفي المقابل الحروب السابقة، كحرب (67) و (56) و (48) هذه الأشياء تمر مرور الكرام، ونحاول ألا نقول: إنها هزائم، بل بالعكس -أحياناً- قد تتحول إلى انتصارات ولو كانت هزائم، ولو قتل منا اثنا عشر ألفاً أو عشرون ألفاً، ولو تحطمت الطائرات، المهم أنه انتصار، لماذا؟ لأن بقاء الحزب -كما يقال في بعض البلاد- بقاء الحزب الحاكم نفسه يعتبر نصراً، لأنه هو الحزب التقدمي الذي كانت إسرائيل تسعى للإطاحة به مثلاً، فهذا نصر بحد ذاته.
فنحاول أن نصور للناس دائماً على أن الهزائم انتصارات، أو يخفف من وقع هذه الهزائم على النفوس، والواقع أننا ينبغي أن نضع الأخطاء، ونضع الإنجازات في وضعها الطبيعي.
وليست القضية أننا نبالغ في الإنجازات وتضخيمها، وتهوين الأخطاء، بل قد نفتعل ونختلق إنجازات ليس لها وجود أصلاً -كما ذكرت قبل قليل- ونعتبرها نوعاً من النصر المبين.
مثال آخر: القضية الأفغانية فنحن دائماً نتكلم عن المكاسب.
وينبغي أن نتحدث عنها، وهذا لا شك فيه، ومنها: انتصارات، وتحرير جزء كبير من أراضي أفغانستان، واستمرار الجهاد على مدى هذه المدة الطويلة، يقاوم قوة من القوى العظمى لفترة من الفترات، ثم يقاوم إحدى الحكومات المدعومة في فترة أخرى، وأيضاً اتخذ الله منا شهداء، نرجو الله تعالى أن يتقبلهم، وأن يغفر لنا ولهم، ويثبت من بعدهم ومن وراءهم، واستفاد المسلمون دروساً كثيرة.
هذه المكاسب للجهاد الأفغاني، لكن ينبغي أن تكون المكاسب معقولة، فلا يأتي واحد ويقول: الصحوة الإسلامية كلها من مكاسب الجهاد الأفغاني.
لا، بل أنا أستطيع أن أقول العكس: إن الجهاد الأفغاني هو أثر من آثار الصحوة الإسلامية وجزءُ منها، والصحوة أكبر من بلد معين وأكبر من حركة جهادية، الصحوة صحوة علمية، وشرعية، وسلوكية وأخلاقية، واقتصادية، وفي كافة المجالات، وفي كل البلاد، ولذلك فإنها أوسع من ذلك.
هناك حركة جهادية أخرى في غير أفغانستان، قد يكون بعضها قبل أفغانستان، كالجهاد في الفلبين مثلاً، وبعضها معه، وبعضها بعده أيضاً، والحركات الجهادية التي جاءت بعد أفغانستان، من المتوقع بل ربما من المؤكد أن للجهاد في أفغانستان دور في تحريك الجهاد في تلك البلاد ودعمه، هذا لا شك فيه.
قضية سقوط الشيوعية -مثلاً- سقوط الشيوعية أكبر من أن نقول: إن سبب سقوط الشيوعية هو الجهاد في أفغانستان.
صحيح أن أفغانستان من الأسباب، ويكفي أن الروس أدانوا التدخل في أفغانستان، وتلقوا في ذلك درساً ليس بالبسيط، وكان تدخلهم مسماراً في سقوط نفس الشيوعية، لكن سقوط الشيوعية أمر قبل الجهاد الأفغاني وبعده، بمعنى: أن سقوط الشيوعية أمر محتمُ، لأنها مخالفة للسنن الكونية وللنواميس، ومخالفة للفطرة وللحق، ولذلك كان لابد أن تسقط بهذا السبب أو بغيره من أسباب أخرى كثيرة، وقد سقطت الشيوعية في أنحاء كثيرة من العالم بسبب الكساد الاقتصادي، والإفلاس العقائدي، وبسبب عجزها عن صهر القوميات، وعن تلبية نداء الفطرة، وبسبب المشاكل التي واجهتها والتي كانت قضيةأفغانستان أحدها.
ففرق بين أن أقول: إنّ الجهاد في أفغانستان سبب من أسباب سقوط الشيوعية، وبين أن أعزو سقوط الشيوعية -كما سمعتُ هذا بنفسي عن مسئول كبير جداً في دولة أفغانستان المؤقتة- أن سقوط الشيوعية كان سببه الجهاد في أفغانستان.
كذلك الحركات الإسلامية والشعبية، وحركات الإنقاذ والدعوة في كل البلاد، لأفغانستان دورُ عليها، ولها هي دورٌ في أفغانستان أيضاً، فالمسألة مسألة تأثير متبادل بين هذه الحركات الجهادية والحركات الدعوية في أنحاء العالم الإسلامي، وإن كنتُ أعتقد أن أفغانستان بجهادها المستمر المستميت؛ سببٌ أصيل في كثيرٍ من هذه الحركات، وتحصيل هذه النتائج وإنجاز بعضها، ولكن ثمة أسباب أخرى كثيرة، وثمة قوى أخرى متظافرة.(20/24)
ادعاء حصول الكرامات
مثلٌ آخر في قضية الانجازات وتضخيمها، أو ادعاء إنجازات معينة؛ كان كثير من الإخوان يبالغون في الكلام عن كرامات الجهاد الأفغاني، فلا تجلس مجلساً إلا وتسمع رائحة المسك، والذي تبسم بعد ما قتل، وشيء من هذا القبيل، حتى ألفت في ذلك مؤلفات خاصة.
من جهة نحن نؤمن بالكرامات ونعتقد بحصولها، وأن الله على كل شيء قدير، فهو يجري الآيات والمعجزات للأنبياء، ويجري الكرامات لأتباعهم، وأعتقد أن من الممكن أن تحصل كرامات للإخوة في أفغانستان؛ لأن منهم عدداً غير قليل يقاتلون في سبيل الله، نحسبهم كذلك والله حسيبهم.
ولا نزكي على الله أحداً، وهم يواجهون عدواً طاغياً، ويحتاجون إلى تأييد من رب العالمين جلا وعلا، ولهذا فلا غرابة أن تحصل الكرامات، لكن كون الكرامات صارت قضية نبدأ بها ونعيد، ونتكلم عنها صباح مساء، ما الذي حصل؟ الذي حصل أننا بهذا العمل أوجدنا في نفوس كثير من الشباب، أن الذين يقاتلون في أفغانستان هم ملائكة، أو -على الأقل- بمنزلة الصحابة، فأعطيناهم صورة خيالية مثالية عن الواقع، فصار الشاب يذهب إلى هناك، وهو مشحون، يتوقع أنه سوف يلقى أبا بكر وعمر، فلما يذهب يجد السلبيات؛ وذلك لأن الجهاد الأفغاني جهاد شعب بأكمله، وبكل ما فيه من متناقضات موجودة في كل الشعوب الإسلامية بلا استثناء، فالشعب الأفغاني كله يجاهد، ولذلك من الطبيعي جداً أن فيه عيوباً على كافة الأصعدة، على الصعيد العقائدي، والتعبدي والعلمي والعملي، على الصعيد الفكري إلخ.
هذا طبيعي؛ لأن الشعب الأفغاني بكل فئاته وقبائله وأطرافه دخلوا في الجهاد، وما أتصور أنه عندما يدخل الجهاد بقدرة قادر تتحول سلبياته إلى إيجابيات، ونقائصه إلى كمالات، هذا مخالف للفطرة والسنن الكونية، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم كل هذا فضلاً عن غيرهم، ولذلك عندما يذهب الشاب بعقلية مملوءة بالكرامات والكلام حولها، ما إن يذهب حتى يجد بعض السلبيات، -أحياناً- يرجع منتكساً بزاوية قدرها مائة وثمانون درجة، بدلاً ما كان بالأمس الجهاد قد ملأ قلبه وعقله وحياته، أصبح بعضهم ربما يرجع بصورة عكسية تماماً، حتى أن منهم من يرجع يتهجم على الجهاد، ويتكلم عليه ويسقطه من حسابه.
هذه ردة فعل، وهي نتيجة خطأٍ سابق، والخطأ السابق هو أننا أعطينا الأمر أكبر من حجمه، وبالغنا في تصوير الواقع، وفي سرد الإيجابيات والإنجازات وغيرها؛ فارتسمت ونقشت في عقل هذا الشاب، خاصةً وأن الشباب دائماً يفكرون تفكيراً مثالياً عاطفياً -كما أسلفت- فلما يأتي إلى الواقع يصطدم بأقل سلبية ولو كانت سلبية قابلة للاحتمال كالمعاصي مثلاً، فكم الطبيعي أن توجد المعاصي، لكن لو رأى معصية كأن يرى إنساناً مسبلاً أو حالق لحيته؛ رجع بصورة منتكسة، وقال: هذا كذا وهذا كذا، وسمعنا كذا ورأينا كذا.
وقد سمعت من الشباب من يستنكر ويهول في استنكار قضايا هنا ما تصل إلى حدٍ أن تكون معصية أصلاً، فضلاً عن أن تكون أكثر من ذلك.
إذاً: من أخطائنا نحن في التفكير: أننا نبالغ في تضخيم الإنجازات وتهوين الأخطاء، وهذا يأتي بنتيجة عكسية أحياناً، فبعد حين نجد أن هناك ردة فعل، لا توجد إنجازات، وتتحول القضية -في نظر البعض ممن يعيشون ردود فعل خاطئة- تتحول القضية في نظرهم إلى مجموعة من الأخطاء المتراكمة.(20/25)
حجب الحقائق عن الأمة
من عيوبنا في التفكير: حجب الحقائق عن الأمة بشتى الحجب حقيقة نحن غير واثقين بالأمة التي نحن جزءٌ منها، أنا أقول: هذا على كافة الأصعدة، الحقائق محجوبة عن الأمة، حقائق الأمور الرسمية ولأمور العلمية ولأمور الدعوية والجهادية، في كثير من الأمو تحجب عن الأمة، لماذا؟! كأن الأمة ليست على مستوى إدراك الأوضاع والحقائق، والمشاركة في التفكير، فهناك من يفكر بالنيابة عنك، وهناك من يتصرف بالنيابة عنك، وهناك من يوقع بالنيابة عنك، وهناك من يعمل كل شيء، ما بقي إلا من يأكل ويشرب بالنيابة عنك.
صودرت الأمة صراحةً، لماذا صودرت؟ لأنها حُجبت عنها كثير من الحقائق، حتى من طلبة العلم -أحياناً- من يحجب الحقائق عن الأمة.
ومع الأسف، كان يمكن هذا في بعض الأحيان، إذا كان من المصلحة أن بعض الأمور تحجب، لكن المشكلة اليوم أن أجهزة الإعلام العالمية أصبحت تدخل كل بيت وكل عقل، فما تحجبه أنت يوصله غيرك، فأصبحت لم تفلح في حجب هذه الحقائق عن الأمة، ولكنه لم تتكلم أنت في حين تكلم غيرك، تكلم الخصوم والأعداء والمتسرعون، ولكنك أنت لم تتكلم لأنك ترى أنه لا يوجد داعي للحديث عن هذه الأمور، وينبغي ألا يتحدث بها الناس مثلاً، سواءً كانت قضايا علمية أو عملية أو دعوية أو غير ذلك.
وبالتالي أصبحت الأمة تفاجأ -في كثير من الأحيان- أنها تكتشف بنفسها هذه الأخطاء، وهذه الحقائق، ويصبح تغييبها وسترها أمراً ليس في الإمكان، لأنه سيكون هنا إحباط معين، وتزعزع ثقة الأمة بدعاة الإسلام ورجال الإسلام؛ لأنها شعرت أنهم غير صادقين فيما كانوا يقولون، أو أنهم كتموا عنها الحقائق وحجبوها، وغيبوا الأمة فترة من الفترات، والواقع أننا ينبغي أن نخاطب الأمة.
أنا أقول: إلى متى سنظل نخاف على هذه الأمة؟ إذا صدر -مثلاً- كتاب، ناقش في قضية من القضايا، قلنا: لا يوجد لهذا داعي لأن هذا يفتح أبواباً على الناس إذا تكلم شخص، قلنا: لا يوجد داعي هذا يفتح أبواباً على الناس.
إلى متى تظل الأبواب مغلقة؟ وإلى متى نظل نحجر على هذه الأمة؟ لا نريدها أن تعلم بشيء ولا أن تطلع على شيء، مع أنها تتعلم وتطلع، أقل الناس اليوم من يقرأ في جريدة، ويسمع في الإذاعات، ويسمع في المجالس، ويطلع على أشياء كثيرة.
بقي فقط دعاة الإسلام، وعلماؤه، والمخلصون، هم الذين -في كثير من الأحيان- يؤثرون عدم الحديث، ولذلك لم يظهر لهم صوتٌ وصورة صحيحة.
إذاً لا داعي لأن نحجر على هذه الأمة ونفقد الثقة بها، فالأمة -إن شاء الله- ستنضج متى ما أعطيناها الثقة، عندك كتاب ترى نشرة للأمة، وفيه خير، انشر هذا الكتاب، وأنا عندي رد على هذا الكتاب ليس هناك مانع، أن أنشر الرد، ودع الأمة تقرأ الكتاب وتقرأ الرد على هذا الكتاب، وتحكم وتصل إلى الحقائق، وإذا أخطأ واحد ما أخطأ عشرة، ولا يصح إلا الصحيح، ويحق الله الحق، ويبطل الباطل.
فلا يوجد داعي أننا نظل دائماً وأبداً في خوفٍ شديد، وفي رعبٍ على هذه الأمة، لا ينبغي هذا، بل ينبغي أن نعطي الأمة بعض الثقة، ونحاول أن نجر الأمة إلى المشاركة في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وأهل التفكير يشاركون معنا، حتى يكونوا في الصورة، إن حصل خطأ أدركوه وإن حصل صواب أيضاً أدركوه، أما كونهم يفاجئون بالخطأ وهم ما علموا به، ما الذي سوف يحصل؟ يحصل أنهم سوف يلقون بالأئمة، ويقولون: أنتم قلتم، وأنتم فعلتم، وأنتم إلخ.
لماذا؟ لأنه لم يكن عندهم خبر سابق، لكن عندما يكونو مشاركين معك في التفكير، يكونون -كما يقال- في الصورة معك، وبالتالي لا يفاجئون بشيء.(20/26)
تحية شعرية للمجاهدين في أفغانستان
أختم بهذه الأبيات التي أحيي، ويحيي فيها الشاعر، الجهاد والمجاهدين في أفغانستان: لن يطول الظلام يا كابول الطواغيت كلها ستزولُ أنتِ بنتُ الإسلام والشامة الزهـ ـراء في خده وأنت القبيل أنتِ بنتُ الإسلام والمجرم الـ وغد سرابٌ على ثراك دخيل راية الله في سمائك كالنسر وفرسانه لديك تصولُ إنها غضبة العقيدة فالـ أرض حنين والمسلمون سيولُ لكأني أرى هنالك عمراً يتهاوى أمامه أرطبيل ُ وأرى خالداً يهز سراياه تميلُ الحتوفُ حيث يميلُ وجنود الرحمن من كل صوبٍ فالميادين كلها تهليلُ والخيول التي أغارت ببدر هي في حومة الصراع الخيولُ أطلقيها الله أكبرُحتى يسقط الرأس منهم والذيولُ أطلقيها فإنهم حطب النارِ وأنت الذراع والإزميلُ لا تراعي فإن قدرة ربي فوق ما يرسم الغواة المغولُ كم ذليلٍ طغى وظن أن الريـ ح تجري كما يشاء الذليلُ هؤلاء البغاة سوف يعـ ودون خزايا وعصفهم مأكولُ زبد البحر لن يدوم وإن عانيت يا أختُ منهم ما يهولُ هذه سنة الحياة جراحٌ فكتويها وقاتلٌ وقتيلُ هكذا قدر الإله بأن النـ صر من عمقِ جرحنا مسلولُ يؤلم الجرح إنما نشوة النـ صر قريباً هي الشفاء العليلُ وقبل أن أقرأ الأسئلة، أقول كما قال نبي الله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] يعلم الله أنني لم أرد بهذه الكلمات إلا تصحيح الصورة عند المسلمين وتعديلها، والوصول إلى الحق الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، والخروج بالمسلمين من بعض مشكلات وأزمات يواجهونها، ودعوتهم إلى تصحيح فكرهم وتصحيح مسارهم، وهو اجتهاد من نفسي بذلته، فإن كان ما قتله حقاً قُبِل، وإن كان خطأ رُدَّ، وإن كان منه حق ومنه خطأ، يقبل الحق ويرد الخطأ، وكل ما قلته -كما ذكرت- ليس إلا اجتهاداً، لم يكن دافعه إلا الأسى والحزن، حينما أرى الأسى والحزن في نفوس الشباب وغيرهم، وهم يسمعون بعض الأخبار التي تتناقلها أجهزة الإعلام، فيتجاوبون مع هذه الأخبار -أحياناً- بصورة غير صحيحة، لماذا؟ لأنها كانت مفاجئة، وكان المفروض -مع أن المسلم يحزن لها ولا يحبها ولا يتوقعها- لكن يجب ألاَّ تكون مفاجئة، بمعنى أن يكون عندنا صورة معتدلة، طبيعية وواقعية، بحيث أنه إذا حصل شيء يكون مربوطاً بتلك الصورة، فيضعه الإنسان في موضعه الطبيعي، فأن كان خطأ أو أمراً سلبياً، فيجب المسارعة بعلاجه، لكن -أيضاً- لا يتعدى الأمر ذلك.(20/27)
الأسئلة(20/28)
إعطاء الصورة الصحيحة للأمور من البداية
السؤال
إن هذا الشقاق الذي حصل بين المجاهدين قد يستغله ضعاف النفوس لضرب أي جهادٍ يكون في أي مكان من البلاد في العالم، كفقولهم: انظروا لقد ساعدنا الأفغان، وماذا آل إليه أمرهم، أرجو التنبيه على ذلك.
الجواب
هو هذا الذي كنت أخشاه؛ أن يقول قائلٌ مثل هذا الكلام، لكن إذا كنا نعطي الناس من البداية الصورة الصحيحة، لأي أمرٍ يقوم، ليست القضية فقط قضية جهاد، أي عمل خيري يراد أن يقام به يعطى الناس الصورة الصحيحة، لا يوجد داعي أن نجعل الدنيا -كما يقال- ورق بلا شوك أمام الناس، ونعطيهم صورة مثالية، فإذا رأى الناس الواقع وجدوا خلاف ما قلنا، فظنوا بنا الظنون، وأساءوا ظنهم بنا، ولم يتجاوبوا معنا مرةً أخرى في نشاطٍ أو جهادٍ ندعو إليه أو نقوم به، إما تبرعات أو أعمال خيرية أو غيرها.(20/29)
الحاجة إلى مضاعفة الجهود للقيام بالجهاد والدعوة
السؤال
اتجاه كثير من الناس إلى الجهاد الأفغاني، وفي المقابل هناك مسلمون يقتلون في أنحاء العالم، ويسجنون ويعذبون، مثل الفلبين وألبانيا وغيرها، فما يقدم لهم شيء، ما هو تعليقكم؟
الجواب
ينبغي أن يقدم للمسلمين في كل مكان، وينبغي -أيضاً- أن نقوم بجهد كبير في الدعوة، أقول -أيها الأحبة- بوضوحٍ تام: الأموال التي بذلت للإخوة في أفغانستان، ينبغي أن يبذل أضعافها للدعوة إلى الله تعالى في كل مكان، وأن يملك المسلمون جهاز دعوة ضخماً مزوداً بإمكانيات هائلة، بمراكز إسلامية، ومساجد ومدارس ومكتبات ودور نشر وكتب وصحف ومجلات، وسائل إعلام، كلها مجندة للدعوة إلى الله تعالى، سواءً دعوة المسلمين إلى مراجعة دينهم وتصحيح عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم وتفكيرهم، أو إلى دعوة غير المسلمين إلى الدخول في الإسلام، ولو ملكنا ذلك لاستطعنا -بإذن الله- أن نحول جزءاً كبيراً من العالم إلى أناس يدينون بالإسلام، مع أن الأمر الآن يمكن، وكثير من الناس يتطلعون، لكن لا يجدون الأيدي التي تأخذ بهم وتوجههم، وكثير منهم قد لا يجد كتاباً واحداً عن الإسلام إلا كتب مشوهة، والناس الذين قتلوا بأفغانستان، ويقدرون بما يزيد على مليون ونصف، ونرجو الله تعالى أن يتقبلهم شهداء، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يعوض المسلمين عنهم؛ ينبغي أن نجند أضعاف أضعاف هؤلاء، بل أضعاف من يكونون مقاتلين أيضاً، في أفغانستان وفي غير أفغانستان، نجندهم للدعوة إلى الله تعالى وتصحيح المفاهيم، سواءً في عالم المسلمين، أو في عالم الكفر بدعوته إلى الله عز وجل، ينبغي أن ندرك هذه القضية حق إدراكها.(20/30)
مقتل الشيخ جميل الرحمن دوافعه وآثاره
السؤال
ذكرتم مقتل الشيخ جميل الرحمن رحمه الله، وكتبه الله تعالى من الشهداء، ما هي الدوافع لمقتل الشيخ؟ وهل ترون أن لمقتله آثاراً سلبية على الجهاد هناك؟ وإذا كانت عندك بعض التفاصيل عن الحادث.
الجواب
عندي بعض التفاصيل عن الحادث، أما الدوافع فالذي قتله شخص عربي، يكنى بـ أبي عبد الله الرومي، وكان مراسلاً لبعض المجلات هناك، ويقول من يعرفونه: إنه يكره الدعوة السلفية وأهلها وأصحابها، وربما كان هذا هو الدافع لقتل الشيخ.
أما الأطراف الأخرى، فلا ينبغي أن نتهم أحداً إلاَّ ببينة، وقد قرأتُ بالأمس خبراً عن حكمتيار الذي هو يمثل الحزب الإسلامي، الذي هجم على كونر، يدين فيه مقتل الشيخ جميل الرحمن، ويعتبر أن مثل هذا العمل، يعتبر إساءة للجهاد، خاصة في مثل هذه الظروف التي يمر بها، وخاصة أن قتل الشيخ كان بعدما تم توقيع بعض اتفاقيات الصلح بين الطرفين، بواسطة اللجان التي تدخلت للمصالحة.
أما بالنسبة للذي حصل بالضبط، أنّ هذا الشاب جاء وقد كان أخفى المسدس، فسأل عن الشيخ فخرج الشيخ، حيث كان في إحدى جلسات المصالحة، فجاء ليعانق هذا الرجل، فأخرج المسدس، وضربه ضربةً في جبينه، وأخرى على جانب رأسه، فأرداه قتيلاً، ثم حاول الفرار، لكن الحراس لما سمعوا إطلاق النار جاءوا فأطلق على بعضهم، ولما رأى أنه مأخوذٌ أطلق النار على نفسه.
نسأل الله تعالى السلامة والعافية، وأن يعافينا من سوء الخاتمة، ويختم لنا ولكم بخير، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما الآثار السلبية، فلا شك أن لمقتل الشيخ آثاراً سلبية، سواءً على الولاية التي كان يقوم عليها، والجماعة التي كان يرأسها، أو على الجهاد بشكل عام، وسيكون لذلك مضاعفات ليست محمودة، وتأويلات وتفسيرات، وكل ما أتمناه أن يكون الحادث فردياً -كما ذكر- وقد قرأت اليوم خبراً في جريدة عكاظ سرني، وأرجو أن يكون الخبر صحيحاً، يقول: أفادت مصادر مطلعة في الحزب الإسلامي، حكمتيار، وفي جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، التي كان يرأسها الشيخ/ جميل الرحمن -رحمه الله- وقد عين بدله سميع الله أمس، أن مصادر في الطرفين قالوا: إن الحادث فردي، ولا علاقة لأحد من الأطراف به.
كما قرأت مقالاً لـ سياف، بعث به بخط يده، وذلك قبل مقتل الشيخ جميل الرحمن، ويقول: إنه ليس له علاقة بالهجوم على كونر.
وأرجو أن يكون هذا الخبر صحيحاً، وأن يجمع الله تعالى شمل المؤمنين المجاهدين، وأن يوحد صفهم وكلمتهم، وأن يكتب لهم النصر المبين.
نسأل الله تعالى أن يجمعهم على كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفقهم لتدارك أخطائهم وتصحيحها، وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم، وتوجيه سهامهم وبنادقهم وقواتهم ومدافعهم إلى عدوهم.
اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(20/31)
خصائص هذه الأمة
إن تأخر المسلمين اليوم عن الحضارة المادية أورث يأساً في قلوب بعض المسلمين، وزعزعزة في ثقة بعضهم بالإسلام، وبالمقابل إعجاباً ودهشة بمغريات الحضارات الغربية، وهذا الدرس تذكير ما لهذه الأمة من خصائص اختصها الله بها على سائر الأمم تؤهلها لقيادة الأمة، كما أن فيه بعثاً للأمل في الأمة وأن الركود في الأمة سنة من سنن الله وبالعمل والإخلاص تنقشع هذه الظلمات.(21/1)
الدافع للحديث عن خصائص الأمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي جعل نبينا خير الأنبياء، وجعل أمتنا خير الأمم، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس.
فإن هذه الأمة قد اختارها الله عز وجل واصطفاها وأخرجها للناس، لا لنفسها فحسب بل للبشرية كلها، لتخرج هذه الأمة الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربها إلى صراط العزيز الحميد.
والدافع للحديث في هذا الموضوع أن هذه الأمة في هذا العصر بل ومنذ قرون قد أصبحت في ذيل القائمة، باعتبار وجودها وقوتها وعزتها وتمكينها في الأرض، وذلك بسبب ضعف تمسكها بهذا الدين، وضعف التزامها به، فتقدمتها أمم أخرى كانت تعيش على فتات موائدها، وكما قيل: تقدمتني أناسا كان أكثر شوطهم وراء خطوي إذا أمشي على مهل وبذلك أصبح كثير من أبناء هذه الأمة، ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة إكبار وإعجاب وتقدير بل وتقديس أحياناً، وكيف لا يكون ذلك في زعمهم ونظرهم وهم يعتبرون أن هذه الأمم -الأمم الكافرة من الرومان والأمريكان والروس وغيرهم- قد تقدمت في مضمار الحضارة والعلم المادي وسبقت الأمة الإسلامية سبقاً بعيداً، في الوقت نفسه الذي أصبحت هذه الأمة ليس لها وجود يذكر في واقع الحياة، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الدنيوية العلمية والعملية.
فلا هي الأمة التي تهدي الناس بهدي الله جل وعلا، وتنير لهم طريق الحياة، وتصدر لهم الخلق الفاضل والسعادة القلبية -تخلت هذه الأمة بطبيعة الحال مؤقتاً- ولا هي بالأمة المتقدمة علمياً وحضارياً ومادياً أيضاً.
وهكذا ترتب على هذا الوضع انسلاخ كثير من شباب هذه الأمة عن هويتهم الإسلامية، وأصبح كثير منهم يتحدثون عن الآخرين حديث المعجب الذي ملأ الإعجاب عليه جوانحه وعقله، فأصبح يُكِنُّ للأمم الأخرى كل تقدير وإعجاب، وينظر إلى الأمة التي ينتسب إليها نظرة ازدراء، حتى إنك تقرأ في ملامح بعضهم، وتحس في أحاديثهم، وكتاباتهم، وقصائدهم أن كثيراً منهم يشعرون بالخجل من انتسابهم لهذه الأمة، وكأن الواحد منهم ينتسب إلى أب لا يحب أن ينتسب إليه، فيتحسس من هذه النسبة ويستحي منها.
نعم، في المسلمين اليوم من يخجل أن يجاهر بأنه مسلم، خاصة في بعض المواقع وفي بعض المجالس وفي بعض المواقف، فقد يقول أنا عربي على استحياء أيضاً، ولكن الشيء الكبير الذي يهمه هو أن يظهر أمام الآخرين بأنه إنسان مثقف ومتحضر، وأنه يتابع أحدث أخبار الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي والمادي، وأنه قد ضرب بسهم في العلوم الدنيوية، وأنه إنسان عاش في أوروبا كذا سنة، وعاش في أمريكا كذا سنة ودرس في الجامعة الفلانية، وصديقه هو الدكتور فلان وفلان من الشخصيات الغربية.(21/2)
بعض الأحاديث في خصائص الأمة
الحديث عن خصائص هذه الأمة مهماً؛ لنعيد الثقة لأنفسنا بأنفسنا، ولنعيد الثقة لشبابنا بهذه الأمة التي ينتسبون إليها، ولنبين للجميع أن هذه الأمة أمه مختارة فعلاً، وأن الله عز وجل قد ميزها بخصائص وسمات ليست لغيرها، وهذه الخصائص والسمات لها شأن كبير.
وسأقف معكم وقفات مهمة في شأن هذه الخصائص لكنني أشير قبل ذلك إلى بعض الأحاديث الواردة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بعض ما ميز الله به هذه الأمة، أو ميز بها نبيها صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم وعلى سائر الأنبياء.
فمن ذلك -مثلاً- ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي} والمعنى خمس خصائص: {نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة} فذكر عليه الصلاة والسلام هذه الخصائص الخمس، وهذا الحديث لا يعني بحال أن الخصائص التي لهذه لأمة ولنبيها المختار عليه الصلاة والسلام خمس فقط، بل هذا العدد كما يقول الأصوليون ليس له مفهوم.
ولذلك جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فضلت على الأنبياء بست -وذكر أربعاً من هذه الخصائص- ثم ذكر أنه ختم به النبيون عليه وعليهم الصلاة والسلام، وأنه أوتي جوامع الكلم} وكذلك في حديث حذيفة في صحيح مسلم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضل على الأنبياء بثلاث وذكر اثنتين، وقال: {وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة} فهذه ثمان خصال الآن.
وكذلك في حديث حذيفة عند النسائي وابن خزيمة بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من خصائصه: أنه أعطي هذه الآيات من أواخر سورة البقرة، وهي قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] أو قول الله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:284] إلى آخر السورة.
وكذلك في حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت أربعاً وذكر منها: أنه سُمي أحمد، وأعطي مفاتيح الأرض، وجعلت أمته خير الأمم} وليس هذا فحسب، بل ورد خصائص أخرى كثيرة منها: مغفرة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومنها: أن الله تعالى جعل بيده لواء الحمد يوم القيامة يحشر تحته آدم فمن دونه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومنها أن الله تبارك وتعالى أعان النبي صلى الله عليه وسلم على شيطانه فأسلم، وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام: {ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير} ومن ذلك الكوثر: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] وقد صح في الحديث أنه نهر في الجنة، وعلى كل حال الكوثر هو الخير الكثير، ومن الكوثر ذلك النهر ومنه غيره من الخصائص والفضائل التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حوضه عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من الخصائص والفضائل والمميزات، حتى إن أبا سعيد السمعاني صنف كتاباً سماه: شرف المصطفى، جمع فيه ستين خصيصة لهذا النبي المختار عليه الصلاة والسلام، وكذلك صنف الحافظ الضياء المقدسي كتاباً في ذلك، وهو لا يزال مخطوطاً في المكتبة الظاهرية بدمشق.
وينبغي أن نفرق بين خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته على الأنبياء والأمم الأخرى، وبين خصائص النبي على أمته، بمعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام وأمته لهم خصائص على غيرهم من الناس، وهي ما تحدثت عنه، وهناك خصائص للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، مثل كونه صلى الله عيه وسلم يحق له أن يتزوج بأكثر من أربع -مثلاً- ومثل كون نسائه لا يجوز أن يتزوجن بعده: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب:53] إلى غير ذلك من الخصائص الكثيرة والكثيرة جداً.
وقد صنف فيها العلماء، حتى إن الحافظ أبا عبد الرحمن السيوطي صنف فيها كتاباً اسمه الخصائص جمع فيه ألف خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وهذه الخصائص ليست كلها مُسلَّمة، فبعضها مما يدعي بعض العلماء فيه الخصوصية والواقع أنه ليس خاصاً به عليه الصلاة والسلام، كما ادعى بعضهم خصائص للنبي عليه السلام لم تثبت له بل هي عامة له ولأمته؛ لأن القول بالخصوصية لا يثبت إلا بدليل كما هو معروف، وبعض العلماء إذا تعارض عندهم حديثان؛ قالوا: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال بعضهم -مثلاً- في الركعتين بعد الوتر أن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام، وكما قال بعضهم في الركعتين بعد العصر التي كان يحافظ عليها صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: هذه خاصة به، وعلى كل حال فالقول بالخصوصية لا يثبت إلا بدليل.(21/3)
وقفات مع خصائص الأمة
والمقصود من هذا الإشارة إلى أن هناك خصائص تميز بها النبي صلى الله علية وسلم عن أمته، وصنف فيها العلماء كـ السيوطي والبلقيني ومغلطاي والعراقي والوادياسي وابن الجوزي وابن حجر العسقلاني وغيرهم من العلماء والحفاظ والمصنفين، حتى إن المصنفات قد تزيد على ثلاثين كتاباً في هذا الباب.
والمقصود ليست خصائص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، بل المقصود خصائص النبي عليه الصلاة والسلام وخصائص هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم الأخرى.
ولذلك فإن لي وقفات وإشارات في هذا المجلس مع هذه الخصائص، لا تخلو -إن شاء الله- من فائدة.(21/4)
الأدلة على أن الانتصار بالرعب عام للأمة
لو فرض أن الرعب خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام لكان لأمته من ذلك الرعب نصيب، ومن ذلك أن غالب الخصائص التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم -وقد ذكرت منها حوالي ست عشرة خصلة في مطلع الحديث- ليس خاصاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل هو له ولأمته، وإلحاق مسألة الرعب بالأغلب الأكثر أولى من إلحاقها بالأقل بلا شك.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً الأحاديث الواردة في شأن الطائفة المنصورة والتي منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ظاهرين على الناس لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} والطائفة المنصورة بلا شك تمثل واجهة تجاهد عن هذه الأمة، وقد وصفهم عليه الصلاة والسلام بأنهم ظاهرون منصورون لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ إلا ما يصيبهم من اللأواء يعني: الجهد والتعب.
ومن ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض الأحاديث -لما ذكر تأخر هذه الأمة وأنه سوف يصيبها الوهن-: {ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن} فدل على أن المهابة موجودة أصلاً في صدور الأعداء من المسلمين، ولكن لما ضعف المسلمون وتأخروا وأولعوا بحب الدنيا وكراهية الموت؛ نزعت المهابة من صدور عدوهم وألقي في قلوب المؤمنين الوهن، وهو حب الدنيا وكراهية الموت؛ وهذا في حديث ثوبان وهو عند أبي داود وأحمد وغيرهما وهو حديث صحيح.
ومن ذلك أيضاً أن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران:151] فدل على أن الرعب قد أُلقي في قلوب المشركين؛ لكن متى؟ حين يواجهون هذه الأمة الذين يحملون لا إله إلا الله، أما حين يواجهون من يصرخون ويقولون نحن نتحدى القدر، أو يقول قائلهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني فحينئذٍ يستأسد حتى من هم إخوان القردة والخنازير، كما صنع اليهود حين واجهوا من يتسمَّون باسم العروبة في عدة حروب، فحين يواجه الأعداء المسلمين يُلقي الله عز وجل في قلوبهم الرعب.
ومن ذلك أيضاً الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري} فدل ذلك على أن كل من يخالف أمر النبي عليه الصلاة والسلام ضربت عليه الذلة والصغار، سواء كان كافراً أو كان مخالفاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمر دون بعض.
ولذلك حتى عصاة المسلمين وفساقهم لهم ذل وصغار بحسب فسقهم، يقول الحسن البصري عن بعض أهل المعاصي: [[إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]] .(21/5)
من خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم
الوقفة الأولى: إن هذه الخصائص التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم منها ما هو خاص به عليه الصلاة والسلام، ومنها من هو عام له ولأمته، فمن الأشياء الخاصة به صلى الله عليه وسلم -مثلاً- بعض أنواع الشفاعة، فالشفاعة لفصل القضاء خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الشفاعة لبعض أهل النار أن يخفف عنهم العذاب كما سيأتي الإشارة إليه، فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهناك خصائص أخرى عامة له ولأمته، وهذا هو الكثير، ومن ذلك -مثلاً- قوله صلى الله عليه وسلم: {جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى حيث كان} ومنه قوله: {جعلت أمتي خير الأمم} إلى غير ذلك مما سيأتي.
فمعظم الخصائص هي عامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته وليست خاصة له، ولكن حتى الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن للأمة منها حظ كبير ونصيب وافر، فحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: {أوتيت جوامع الكلم} وهذا لا يعني أن هذا الأمر ليس لأمته منه شيء، وكذلك حين يقول: {سميت أحمد} لا يعني أنه ليس للأمة حظ، حين يقول: {ختم بي النبيون} لا يعني أنه ليس للأمة حظ من هذه الخصيصة، بل للأمة حظ يقل أو يكثر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يكون لها حظ وهي خصائص لنبيها صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من حظها من هذه الخصائص إلا أنها خصائص للرجل الذي رضيت به رسولاً ونبياً وإماماً وهادياً لكفى ذلك، فهذا مَعْلَم لابد من الوقوف عنده.(21/6)
حرص النبي على بيان هذه الخصائص
الوقفة الثانية: النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على تأكيد هذه الخصائص، وبيانها وإشهارها وإظهارها في نفوس أصحابه، ويبرز هذا الاهتمام والحرص في عدة أمور: أولاً: نجد أن هذه الخصائص رواها لنا جماعة من الصحابة، فرواها لنا جابر كما في الحديث المتفق عليه -وقد ذكرته قبل قليل- وليس هذا فقط بل إن هذا المعنى جاء عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر الغفاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأحاديث هؤلاء الصحابة رواها الإمام أحمد في مسنده بأسانيد حسان كما يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وكذلك جاءت هذه الخصائص عن أبي هريرة وغيرهم كما سيأتي الإشارة إلى طرف منها.
فكون هذه الخصائص تروى عن ستة أو سبعة أو ثمانية من الصحابة، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلهج بها بين الحين والحين، ويكثر من ذكرها حتى حفظها عنه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
وهذا يثير سؤالاً لماذا كان النبي صلى الله ذعليه وسلم معنياً بذكر هذه الخصائص؟ لكن قبل الإجابة على هذا السؤال أشير إلى أمر آخر يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بإبراز هذه الخصائص، وهو: في حديث عمرو بن شعيب الذي رواه أحمد بسند حسن أنَّ ذِكرَ النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الخصائص كان في غزوة تبوك.
وغزوة تبوك من أواخر الغزوات إن لم تكن آخر الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يوحي بأنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على ألا تنسى، ولذلك فإن من الأشياء التى حرص عليها النبي صلى الله عيه وسلم أمور كان يقولها حتى وهو في مرض الموت، وكأنه يقول: أوصيكم بهذه الأشياء في اللحظات الأخيرة، ولماذا كان عليه السلام حريصاً على ذكر هذه الخصائص؟ ولا شك أنه يريد بهذا من أمته ألا تنسى دورها القيادي الذي كلفها الله تبارك وتعالى به في قيادة البشرية، وتصدر موكب الإنسانية.
إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ لهذه الأمة أن تكون في ذيل القافلة، تلتقط فتات موائد الأمم الأخرى، وتكون في فكرها وخُلقها وعلمها، بل وحضارتها تابعة لغيرها من الأمم، بل هذه الأمة أراد الله تبارك وتعالى لها أن تكون في الصدر، وكما قال أبو فراس الحمداني: وإنا لقوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على أن لا تنسى هذه الأمة دورها القيادي في قيادة البشرية وتصدر موكبها، وفي المقابل كان صلى الله عليه وسلم يدرك بما أخبره الله تعالى من علم الغيب وأطلعه عليه، أن هذه الأمة ستمر بها فترات تنسى فيها مهمتها، وتضعف فيها وتتأخر عن موقعها، وبالتالي سوف تصبح هذه الأمة تابعاً لغيرها من الأمم، وسوف تصبح مقلدة لغيرها من الأمم، ومتشبهة بالأمم الأخرى، فتدخل وراء الأمم الأخرى جحر الضب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟} أي: نعم، هم اليهود والنصارى.
فأشار عليه الصلاة والسلام إلى أنه ستمر بهذه الأمة حالات ضعف وفترات ركود وتخلف وتأخر، فتتقهقر فيها هذه الأمة، ويتصدر ركب البشرية أمم أخرى، وهذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم.
فلذلك بيّن صلى الله علية وسلم هذه الميزة؛ حتى تظل الأمة مدركة أن الوضع الراكد المتخلف الذي تعيش فيه ليس هو الوضع الذي خلقها الله له، ورضيه لها، بل هو استثناء تسعى الأمة للخروج منه والوصول إلى الموقع الذي وصلت إليه، أرأيت الأستاذ حين يكون عنده طالب في الفصل، وجرت العادة أن هذا الطالب دائماً في المقدمة بتقدير ممتاز، ويأخذ العلامة (100%) في كل مادة، حتى عرف هذا الطالب في المدرسة بين أقرانه وبين أساتذته، فحين يخفق هذا الطالب يوماً من الأيام في مادة من المواد، أو حتى يخفق في سنة من السنوات لظروف ألمت به -ظروف أو صحية، أو أي سبب آخر- وقد كان أساتذته قبل ذلك ينفخون في همة هذا الطالب وعزيمته، حرصاً منهم على أن يظل هذا الطالب محتفظاً بموقعة، وحين يقع من الطالب هذا التأخر لظرف من الظروف أو سبب من الأسباب، فإن المدرس لا يفقد ثقته بهذا الطالب بل يعمل على أن يأخذ بيده لينهض من كبوته، ويلتمس له العذر فيما وقع فيه، ويبين له أن بإمكانه أن يستعيد موقعه السابق، وهذا هو الدور الذي تؤديه هذه الأحاديث للأمة في مثل هذا الوقت، في تقول للأمة: أنتم ممن كتب لهم هذه الخصائص، ممن كُتب أن تكونوا خير الأمم، فما بالكم أصبحتم في آخر الركب وفي ذيل القائمة؟! إن هذه الكبوة وهذه العثرة التي وقعتم فيها لا تعفيكم من محاولة النهوض مرة أخرى، ولذلك فإننا نجد -مثلاً- أن مسألة التقليد والتشبه بالأمم الأخرى التي ابتليت لها الأمة الإسلامية اليوم، فأصبحت تقلد الغرب في كل شيء: في الشكل والمظهر وميزات الشخصية والأسماء واللغة، فضلاً عن العلوم والنظريات العلمية، وأشياء أخرى كثيرة جداً أصبحت الأمة الإسلامية عالة فيها على غيرها، وأصبحت تقلد ليس فيما يُحسن، فالأمور الجيدة الحسنة لا تعد تقليداً، ولو أخذت من الأمم الأخرى فلا حرج في ذلك ولا ضير، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأمور الحسنة عن غيرهم، كما في شأن حفر الخندق، وكما في مسألة اللباس الذي كانوا يلبسونه مما نسجه فارس والروم وغيرهم، وكما في مسألة تدوين الدواوين، وغير ذلك من الأشياء المفيدة النافعة التي تُعلَّم المسلمين أن الخير هم أحق به من غيرهم، فكل خير يوجد عند أمة من الأمم الأخرى فالمسلمون أجدر به وأحرى، وإنما المصيبة أن المسلمين أصبحوا يأخذون عن الأمم الأخرى ما يدل على ضياع هويتهم وشخصيتهم.
وإلا فما معنى كون المسلم -مثلاً- يقلد غيره في شكل شخصيته: في هندامه ومظهره وثيابه وصفَّة شعر الرأس؟ إن أعفوا شعر الرأس أعفينا، وإن حلقوا شعر الوجه حلقنا، وإن لبسوا الملابس بصفة لبسنا، وإن تكلموا بطريقة تكلمنا، حتى الأسماء والعادات، والتقاليد، وطريقة الأكل، والشرب، والتعامل، وعبارات الشكر والثناء، حتى العبارات فأصبحنا نقتبس من اللغات الأخرى كلمات، وكم منا من يفخر بأنه يجيد ويتقن كلمات يعبر فيها بلغة أخرى، ويشعر بنشوة حين يتحدث بهذه الطريقة.
وهنا يأتي دور إحياء الثقة في المسلم بدينه وأمته، وأنه لا يجوز له أن يكون هكذا وينبغي أن يذكر أن له خصائص تمنعه من ذلك، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على ذكر هذه الخصائص وتكرارها وإشهارها حتى في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم.(21/7)
هذه الخصائص ليست ميراثاً يورث
الوقفة الثالثة: من معالم هذه الخصائص والمميزات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، هي: أن هذه الخصائص ليست ميراثاً يورث، وإنما هي عمل صالح يكتسب، ولذلك فإن الله عز وجل حين يذكر في كتابه الكريم الأنبياء وهم أفضل البشرية على الإطلاق، يبين أن هؤلاء الأنبياء لو لم يستقيموا على منهج الله وشرعه لما كان لهم مكان، وهم أنبياء معصومون لكن ليعتبر غيرهم، يقول الله عز وجل بعد ما ذكر قصص الأنبياء {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وهكذا أيضاً يخاطب الأنبياء عليهم الصلاة والإسلام، إذاً: غيرهم من باب الأولى، فالقضية ليست إرثاً يُورث، بل القضية عمل يُكتسب، ومن استقام على هذا المنهج تميز بهذه الخصائص، ومن انحرف فليس له عند الله من خلاق.
ولذلك اليهود -بنو إسرائيل- كانوا يفتخرون ويعتبرون أنفسهم شعب الله المختار كما هو معروف، لكن هذا الفخر مرفوض؛ لأنهم اعتبروا أنفسهم شعب الله المختار؛ بسبب أنهم بنو إسرائيل، وهذه ليس لها عند الله قيمة ولا وزن، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وليس بين الناس تفاضل عند الله جل وعلا بنسب، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لقرشي على غير قرشي إلا بالتقوى، وهذا لا يمنع أن هناك فضائل خصَّ الله بها أمماً أمم وقبائل كقريش وغيرها، لكن لا يعني كونه قريشاً -مثلاً- ألا يطيع الله عز وجل، وأن يعصيه، وأن يتمرد على تعاليم الإسلام! كلا، فمن عصى وانحرف فليس له موقع حتى ولو كان ابن نبي، وهذا ابن نوح ذكر الله تبارك وتعالى عنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فيكون مصيره في الدنيا إلى الغرق ومصيره في الآخرة إلى الحرق، فلم ينفعه أن يكون أبوه نبياً، وهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، أبو لهب وأبو طالب مأواهم في النار، ولذلك يقول القائل: كن ابن من شئت أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي ويقول آخر: لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب إذاً: كون الإنسان من قبيلة كذا، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان عربياً، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان يعيش في الجزيرة العربية التي لها من الخصائص كيت وكيت وكيت -وهذا موضوع آخر يطول الحديث فيه- ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة.
وإنما هذه الخصائص عمل وإخلاص واستقامة وصدق وجد.
ولذلك من اعتمد على مواريث أنه فلان بن فلان، وأنه عربي، وأنه يعيش في الجزيرة العربية، وأنه ربما يتكل على هذه الأشياء ويكسل حتى يتأخر، وآخر ليس له من المواريث ما يجعله يفتخر، فيجد ويكدح ويعمل حتى يستطيع أن يثبت نفسه في الواقع، وينفع نفسه، وينفع غيره ويكون أعلى للناس، ولذلك ذكر بعض المؤرخين أنه في كثير من العصور كان كثير من العلماء، والفقهاء، والقضاة، والمفتين الذين هم مرجع الناس ومفزعهم في أمور دينهم وعقيدتهم وأحكامهم وشرعهم من الموالي الذين ليس لهم نسب عربي يفتخرون به، لكن هؤلاء الناس عرفوا أن موقعهم هو بتقواهم لله عز وجل، فلم يعتمدوا على أمر من الأمور الموروثة، بخلاف آخرين ربما اتكئوا على أشياء ورثوها واعتمدوا عليها وتركوا الجدَّ والاجتهاد والعمل فاستأخروا وسبقهم غيرهم.(21/8)
دلالة هذه الخصائص على المركز القيادي للأمة
الوقفة الرابعة في هذه الخصائص -وهي مهمة-: أن هذه الخصائص تؤكد على المركز القيادي الذي بوأه الله تعالى لهذه الأمة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وبعثت إلى الناس كافة -أو إلى الناس عامة-} فهذه إشارة إلى أن هذه الأمة لا يمكن أن تتقوقع على نفسها أو ترضى بأن تعيش في صحرائها وجزيرتها أو بلادها، فرسالة هذه الأمة رسالة عالمية، ولذلك كان في الآيات المكية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] حتى يوم كان الإسلام محصوراً في أفراد معدودين في مكة، كان الوحي يتنزل: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] فمهما كان الواقع الذي تعيشونه الآن لكن لا بد أن تفهموا أن مهمتكم مهمة عالمية، ورسالتكم للبشرية كلها وللإنسانية كلها، وهي ليست محصورة في بلد معين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {وبعثت إلى الناس عامة} وبالمقابل يقول صلى الله عليه وسلم: {ختم بي النبيون} فهذا إشارة إلى أنه ليس هناك أمة من أمم النبوات، ومن أمم الهدايات ستتصدر البشرية على الإطلاق، فبنو إسرائيل قد تصدروا البشرية وقتاً من الأوقات.
ولذلك قال الله عز وجل: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] أي: على عالم زمانهم، فكانت الهداية فيهم وقتاً من الأوقات، فقادوا البشرية فيها، وبغض النظر عن فشلهم في هذه القيادة والأخطاء التي ارتكبوها، فالمهم أنها نزعت منهم القيادة وسلمت إلى الحنفاء من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنزع منهم هذه القيادة الربانية.
وقد ترتفع أمة من الأمم بحضارتها الدنيوية وبعلمها المادي، فهذا قد يحدث كما هو واقع الآن، لكن هاتوا لنا أمة هدت البشرية بعد الأمة المحمدية.
ولذلك لما تأخر المسلمون عن دورهم القيادي صارت البشرية تتخبط في دياجير الظلمات، ففقدت السعادة، وفقدت الخلق، وفقدت الدين، ولذلك وصلت في هذا العصر من الانهيار والفساد والتخبط إلى مستوى أصبحوا هم يتبرمون ويتضجرون منه، وهناك كتب عديدة -مطروحة اليوم في الساحة- كتبها علماء غربيون مختصون تصرخ بأقوالهم: إن حضارتكم إلى انهيار وإلى زوال، وحتى بعض المفكرين المسلمين الذين كانوا مخدوعين بهذه الحضارة، اقتنعوا بهذه الحقيقة وأصبحوا يؤكدون عليها، كما فعل المفكر الجزائري مالك بن نبي وغيره.
والحضارة الغربية حضارة تنظر بعين واحدة، فهي حضارة المادة لكن الروح في خواء، لماذا؟ لأنه ليس هناك أمة هداية ربانية تقود البشرية، ولذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم وآخر الأمم، وهو صلى الله عليه وسلم ختم به النبيون، كما ختمت الأمم بأمته، ويستحيل أن توجد أمة تهدي البشرية غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يحصل أن يهدي البشرية -مثلاً- الهنود؛ لكن متى؟ حين يحملون الإسلام.
وبذلك يكونون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يهدي البشرية أيُّ أمة من الأمم -أعني: عرقاً من العروق، أو جنسية من الجنسيات- متى ما حملوا الإسلام، ولكن الأدلة مع ذلك تؤكد على أن الأمة العربية أيضاً سوف تضطلع بدور كبير في مسألة هداية البشرية في المستقبل كما فعل أسلافهم في الماضي، والحديث في هذه القضية أيضاً خارج عن موضوعنا إنما هو مجرد إشارة.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {أعطيت مفاتيح الأرض} وهذا إشارة إلى أن هذه الأمة سوف تعطي من النصر والتمكين ما يجعل الدنيا ملكاً لها، وفي حديث آخر في صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: {بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح الأرض -أو مفاتيح خزائن الأرض- حتى وضعت في يدي} وفي حديث ثوبان في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها} وفعلاً انتشرت الفتوح الإسلامية في المشرق وفي المغرب أكثر مما انتشرت في الشمال والجنوب.
وعلى كل حال الحديث يوحي بأن الأمة الإسلامية سوف تهيمن على البشرية كلها أو جلها، وهذا حدث مرة واستمر ردحاً طويلاً من الزمن، ولا يعني أنها انتهت هذه البشائر النبوية؛ لأن هذه الوعود التي وعدها النبي صلى الله عليه وسلم ليست متوقفة عند وقت معين، بل نصوص القرآن والسنة تعمل في كل وقت، وليست منسوخة.(21/9)
الماضي لا ننساه ولا نكتفي بالتغني به
إن هذا المركز القيادي الذي تبوأته هذه الأمة كما أسلفت لا يكون بالكسل، ولا يكون بالنظر إلى الماضي، فنحن كثيراً ما نتكئ على ماضينا، ونهرب من الواقع إلى الماضي، ولذلك شعراؤنا وخطباؤنا ومتحدثينا ووعاظنا وكبيرنا وصغيرنا؛ كثيراً ما تجدهم يتكئون على الماضي، فالأب حين يريد أن يربي أطفاله ماذا يقول لهم؟ فهو لا يجد في الواقع من القصص ما يقوله لأولاده، ولا يجد من البطولات والفضائل والنماذج الحية ما يقوله لمن يربيهم، والأستاذ والخطيب والشاعر كذلك، فنحس بأن الواقع مر، ولذلك ليس في الواقع ما نتغنى به أو نمدحه، فنلجأ إلى أن نلتفت إلى الماضي، ولا أقول: إن الالتفات إلى الماضي خطأ، بالعكس نحن أمة لو نسينا ماضينا فلا وجود لنا، وكما يقول الشاعر أحمد شوقي: مثلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيَّ في الناس انتسابا ويقول الآخر: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره فكيف ننسى ماضينا وفيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم! وهو الذي جاءتنا هداية السماء بواسطته، وفيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا أمنة لمن بعدهم فإذا ذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى أمته ما يوعدون -كما صح بذلك الحديث- وكيف ننسي ماضينا وفيه القرون المفضلة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها وخيريتها! ولا أقول إننا ننسى ماضينا، لكنني أقول: إن الاعتماد على الماضي والتغني به لا يكفي، فلا يكفي أن يقول الإنسان: أبي كان وكان وكان فحينئذٍ نقول له: أنت أصبحت "كنتياً" والناس يقولون فلان كنتيٌ إذا ترك العمل الصالح وصار يقول: كنت وكنت وكنت، وهذا أيضاً ما يحدث للإنسان الكبير، فعندما يكبر سنه لم يعد يستطيع أن يعمل شيئاً فيكتفي حينئذٍ أن يتحدث عن مآثره وفضائله السابقة فعلت وفعلت وكنت وكنت فهذا يسميه العرب كنتياً، فلا يكفي أن يكون الإنسان كنتياً، بل لابد مع النظر إلى الماضي والاستفادة منه أن ننظر إلى الحاضر وأن نعد لذلك، فهذا المركز الذي تبوأته هذه الأمة في الماضي لم تنله إلا بالجهاد الصادق، ولهذا كان من شرائع الإٍسلام الجهاد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم إنه: {ذروة سنام الإسلام} .
وفي الحديث الآخر: {إن في الجنة مائة درجه أعدها الله للمجاهدين في سبيله} وعندما تقرأ الأحاديث الواردة في الجهاد وفي الاستشهاد -اقرأ مثلاً في أقرب كتاب وهو رياض الصالحين ما ورد في الجهاد وفي الشهادة- تتعجب من عظمة هذه النصوص، وقبل ذلك اقرأ الآيات الواردة في الجهاد في القرآن الكريم وتفسيرها، تجد أمراً غريباً، فما هو السر في تعظيم هذه الشعيرة؟ لأن هذه الشعيرة روح يسري في الأمة، فإذا فقدت الأمة هذه الروح فلا حياة لها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} والرعب إنما يكون للمجاهدين الذين يحملون سيوفهم على عواتقهم ويقول قائلهم: نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبراً محمود مثل إياز قام كلاهما لك في الوجود مصلياً مستغفراً العبد والمولى على قدم التقى سجداً لوجهك خاشعين على الثرى فهؤلاء يحملون سيوفهم على عواتقهم مجاهدين في سبيل الله جل وعلا، فهم الذين نصروا بالرعب، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامه وهو في المسند: {ونصرت بالرعب يقذف في قلوب أعدائي} وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو في المسند يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ونصرت بالرعب على أعدائي ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر} .(21/10)
حقيقة الانتصار بالرعب
فهل هذا الرعب كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ أي: هل الجيش الذي كان فيه النبي عليه الصلاة والسلام هو فقط الذي ينصر بالرعب، والجيوش التي خرجت بدون النبي عليه الصلاة والسلام -كالسرايا أو من بعده- لا تنصر، أم أنها تنصر أيضاً؟ الذي قد يبدو للإنسان لأول وهلة أن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن الذي أعتقده أن هذا عام له ولأمته، وأمامي مجموعة من الأدلة تؤكد أن الرعب -وكلمة الرعب في حد ذاتها مرعبة- ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل هو عام له ولأمته، وأعرض على أسماعكم وعلى أنظاركم بعض هذه الأدلة التي تؤكد أن الرعب عام لكل مجاهدي هذه الأمة، فمن ذلك -كما أسلفت قبل قليل- أنه حتى الخصائص التي تخص النبي عليه الصلاة والسلام لأمته منها نصيب.(21/11)
حقيقة الجهاد في الإسلام
الرعب أمر عام لهذه الأمة متى حملت راية لا إله إلا الله، وجاهدت في سبيل الله، واعتصمت بالله جل وعلا، فإنها حينئذٍ تنصر بالرعب ولو كان بينها وبين أعدائها مسيرة شهر، ولذلك فإن هذا هو سر شرعية الجهاد لنشر الإسلام وتحقيق المركز القيادي لهذه الأمة.
أما قضية هل الجهاد هجومي أو دفاعي؟ فهذه مسألة لا تعنينا الآن؛ لكن ليس صحيحاً أن المسلمين يقيمون في بلادهم فإذا هاجمهم عدو دافعوا عن أنفسهم، فالقطَّة إذا هوجمت في بيتها دافعت عن نفسها، وكل أمة من الأمم تدافع عن نفسها، لكن الأمة الإسلامية تتميز بأنها ترفع راية الجهاد ليس من أجل إكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام، لكن من أجل حمل الإسلام إلى الناس، ورفع الفتنة عن الناس، وإتاحة الفرصة لمن أراد أن يسلم أن يسلم، ولمن أسلم ألا يضايق ويضطهد حتى يضطر إلى الرجوع عن دينه، كما هو واقع اليوم حتى في بعض بلاد المسلمين، ففي بعض البلاد الإسلامية المحافظة يُسلم إنسان فلبيني أو كوري أو من أي جنسية أخرى ويكون مدير الشركة -أو رئيسها- نصرانياً فيظل يضطهد هؤلاء المسلمين، ويضايقهم ويجعلهم يعملون في رمضان في الشمس، ويمنعهم من أداء فريضة الحج، ويعمل كافة الوسائل حتى يضغط عليهم للرجوع عن دينهم.
فالإسلام شرع الجهاد حتى يزيل كل عقبة يمكن أن تحول بين إنسان وبين أي الإسلام، وحتى تخضع الدنيا كلها لحكم الإسلام، فإما أن يسلموا وإما أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا فالسيف هو الحكم بيننا وبينهم.(21/12)
السر في إباحة الغنائم للمسلمين
إن الإسلام لما شرع الجهاد أباح للمسلمين أخذ هذه الغنائم، وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: {وأحلت لي الغنائم} وذلك لأن الله عز وجل لما شرع للمسلمين الجهاد أمرهم بأن ينشغلوا به، وهذا الانشغال يمكن أن يُلهي المسلمين عن الزرع -مثلاً- وعن التجارة وعن بعض الأمور الدنيوية، فشرع للمسلمين الغنائم لتقسم بينهم، وجعلها لهم حلالاً ليعوضهم عن انشغالهم، وهذا أمر طبيعي.
فهل من المعقول أن نقول للإنسان الذي يشتغل فرضاً في تعليم الناس الطب: هذا راتبك، ونقول للذي يشتغل في تعليم الناس الهندسة: هذا راتبك، ونقول للذي يشتغل في تعليم الناس الطباعة: هذا راتبك، ثم نترك الذي يشتغل بتعليم الناس العلوم الشرعية من الكتاب والسنة والهدايات التي هي سر تميزنا واختصاصنا، ونقول له: لا يمكن! أن نعطيك أجراً على عملك، هذا لا يمكن، فنحن عندما فرغناه لهذا العمل لابد أن نعطيه مقابل ذلك، وهذا مثلٌ أقصد به أن أبين أن هذه الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة؛ ليس معناها أن الجهاد شُرِعَ من أجل الغنائم، فالجهاد إنما شرع للهدف الذي ذكرته، لكن لأن المسلمين سوف ينشغلون بالجهاد أحلت لهم الغنائم، أما الأمم السابقة فكانت الغنائم عليهم حراماً.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {غزا نبي من الأنبياء فلما خرج بقومه قال لهم: اسمعوا! لا يتبعني رجل بنى بامرأة وهو يريد أن يدخل بها ولم يدخل بها} فرجل قد عقد على امرأة وما دخل عليها مشغول البال معها، فهذا ليس لنا فيه حاجة: {ولا رجل بنى داراً ولما يبني سقفها} أي: يشتغل بعمارة بناء، فالخاطر مشغول مع البناء، والمهندس وعمال البناء وكذا وكذا، فهذا لا حاجة لنا به: {ولا رجل اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر نتاجها} فمن عنده غنم وإبل حوامل وهو ينتظر ولادتها فلا يتبعني: {فرجع من كان كذلك وما بقي مع هذا النبي إلا الصفوة} ولذلك لما اقترب هذا النبي من هذه القرية خاف من غروب الشمس، فخاطب الشمس وقال لها: {أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا -ونحن المؤمنين نصدق بهذا لأننا ندرك أن الذي سير الشمس قادر على إيقافها- فتوقفت الشمس، فهجم هذا النبي على أعدائه وانتصر عليهم، فجمعت الغنائم -وكان الأولون من بني إسرائيل وغيرهم، منهم من لم يشرع له الجهاد أصلاً، ومنهم من شرع له الجهاد ولكن لاحظ لهم في الغنيمة، فكانوا إذا غنموا شيئاً جمعوه فأتت نار من السماء فأحرقته- فجمعوا الغنائم فعلا وأتت النار من السماء لتأكل هذه الغنائم فلم تأكلها، فقال هذا النبي عليه الصلاة والسلام: فيكم غلول -أي: إن أناساً أخذوا من الغنائم شيئاً سراً- ليبايعني من كل قبيلة رجل -فأمر كل قبيلة أن يبايعه منها ممثل- فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يد رجل بيد النبي، فقال: فيكم الغلول، لتبايعني هذه القبيلة رجلاً رجلاً، فلصقت بيده يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول أنتم غللتم، فأخرجوا لهذا النبي بذرة من الذهب بقدر رأس بقرة، فوضعها مع الغنائم فأتت النار فأحرقتها، ثم أحلها الله تبارك وتعالى لنا؛ لأن الله تبارك وتعالى علم ضعفنا وعجزنا وحاجتنا فطيبها لنا} .
فهكذا يقول صلى الله عليه وسلم، فأحلت هذه الغنائم لهذه الأمة لأنها جزء لا يتجزأ من مهمة الجهاد الشرعي الذي وضعه الله تبارك وتعالى وشرعه لهذه الأمة.(21/13)
الأدلة من التأريخ على عموم الانتصار بالرعب للأمة
ومن الأدلة على أن الرعب عام لهذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هو: تاريخ المسلمين الحافل بصور الرعب التي كان الله تعالى يلقيها في صدور أعدائهم، وغزوات المسلمين سواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في عهد الصديق وعمر حين كانوا عدداً قليلاً ألفين أو ثلاثة آلاف، يواجهون جيشاً عرمرماً مكوناً من مائة ألف أحياناً، أو مائتي ألف ومع ذلك كانت تدور الدائرة عليهم، وحين كان المسلمون يغيّرون مواقعهم فتصبح الساقة مقدمة، والميمنة ميسرة كان الأعداء يصابون بالذعر ويقولون: قد جاء المسلمين مدد، وكان الواحد من المسلمين -كـ القعقاع وغيره- يعد بألف رجل وأكثر من ذلك.(21/14)
الأدلة من الواقع على عموم الانتصار بالرعب للأمة
ونحن نذهب بعيداً وهذا الواقع الآن يؤكد على أن الرعب قد أصبح يسري في قلوب الكافرين، فظاهر هذا الرعب في واقع اليوم كثيرة.
وعلى سبيل المثال: الجهاد الأفغاني الذي أعاد للمسلمين ثقتهم بأنفسهم وبدينهم، فهذا الجهاد مهما يكن ومهما تكلم حوله الناس يكفي أن ندرك أن دولة من الدول التي تسمى الدول الكبرى، وهى إما أول أو ثاني دولة في العالم تضطر إلى الهزيمة والفرار أمام قوم عزل لا حول لهم ولا قوة إلا بالله جل وعلا، وأمام قوم لا يصنعون السلاح وما تدربوا في بلاد الغرب، وما تخرجوا من جامعاتها، وكانوا ببنادقهم وأسلحتهم القديمة، ووسائلهم المتواضعة، وإيمانهم القوي يُقلقون مضاجع هؤلاء الكفار حتى أجلوهم واضطروهم إلى الفرار، وإلى إراقة ماء وجوههم أمام البشرية كلها، وغادروا بلاد الأفغان.
وفي مطارق المجاهدين ما يدل على الرعب والذعر الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم، وقصص المجاهدين أثناء الجهاد قصص كثيرة جداً، وهي تؤكد فعلاً أن المؤمنين والمجاهدين كانوا ينصرون بالذعر والرعب الذي يلقى في قلوب أعدائهم، أكثر مما ينصرون بأسلحتهم وقوتهم.
مثل آخر: إن مراكز الدراسات والرصد في بلاد الغرب حالياً أصبحت تعد وتصدر دراسات رهيبة عما يسمونه بالصحوة الإسلامية، وهي دراسات يظهر فيها الرعب، فهم حين يتحدثون عن الصحوة يتحدثون حديث الإنسان الذي يحس بأن الخطر محدق به، فهو يتكلم بلا عقل ولا وعي، ويطلق عبارات غريبة، وهذا التخوف من هذه الصحوة ليس لقوة الصحوة، فنحن المسلمين أصحاب الصحوة لا شك أن فينا ضعف ونقص وفينا أشياء كثيرة تحتاج إلى إصلاح؛ لكننا بدأنا، ولذلك يعجبني قول أحد الشعراء: بدأنا نمزق ثوب العدا ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم وفينا الكرامة مهجورة كمحصّنة لوثتها التهم وفينا وفينا إلى آخر القصيدة، ففينا عيوب كثيرة، ولا يعني وجود التوجه الإسلامي والصلاح أننا وصلنا إلى النهاية، لكن يعني أننا بدأنا، والواقع أنه لم يكن أحد يتصور أن هذه البداية الإسلامية كان يمكن أن تقض مضاجع المراقبين الغربيين إلى هذا الحد، لكنه الذعر والرعب الذي قذفه الله عز وجل في قلوب الأعداء، وهذه مجرد أمثلة.(21/15)
الأدلة على أن المستقبل للإسلام
إن هذه الأحاديث دليل على أن المستقبل للإسلام، وذلك لأن هذه النصوص كما أسلفت، نصوص عامة في الخصائص، ويعضدها أحاديث وآيات كثيرة، حيث يقول الله عز وجل في أكثر من موضع: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] وهذا الإظهار لا نستطيع أن نقول: إنه محصور في وقت من الأوقات، أو إنه حدث وانتهى، لأن الأمة الموجودة اليوم على ظهر الأرض من المسلمين هي ممن يشمله قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] وكذلك قول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] .
فالمؤمن الموجود اليوم على ظهر الأرض يقرأ هذه الآية ويعلم أنه مخاطب بها، فإذا كان هو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فإن الله تعالى قد وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يمكن لهم في الأرض كما مكن للذين من قبلهم، وأن يُبدلهم من بعد خوفهم أمناً حتى يعبدوه لا يشركون به شيئاً، وهذا الوعد قطعاً سيتحقق لأن وعد الله لا يتخلف.
وأريد أن أشير إلى معنى مهم جداً في نظري، وهو يعصم كثيراً من الناس من وجود نوع من الشك أو التردد، فقد يقول قائل: يا أخي المسلمون جاهدوا في فلسطين، وبلاد الشام، وفي الفلبين، وأفغانستان، وإرتيريا، وفي بلاد كثيرة، ومع ذلك ما حدث لهم هذا الوعد، فما هو السر؟ فأقول: إن السر قد بينه الله تعالى أكمل بيان في كتابه العزيز، واسمع لقول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40] فهذه هي الآيات التي شرع فيها الجهاد: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] (فوعد) قاعدة وضعها الله رب العالمين لا يمكن أن يرتاب فيها مسلم مطلقاً، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] ثم قال -وهنا السر-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] .
إذاً: حين تجد أن هناك حركة جهادية في الماضي، أو في الحاضر، أو في المستقبل جاهدت ومع ذلك لم تمكن ولم تنصر فارجع إلى هذه الآية، واعلم أن الله ينصر من إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأنت ما يدريك بأن هؤلاء الذين يجاهدون باسم الإسلام في الماضي، أو في المستقبل، أو حتى في الحاضر؛ أنهم فعلاً لو مكنوا لفعلوا، فهذا أمر غيبي عند الله لا أحد يستطيع أن يجزم به، ومهما أحسنا الظن، ومهما رأينا من علامات الخير، تظل قضية كون الإنسان يستخق على النصر أمر عند الله، وربما لو انتصرت بعض الحركات الجهادية لتمزقنا، أو لتأخر وفاؤها بما جاهدت من أجله، أو لحدث مالا تحمد عقباه، فالأمر لله، وهو سبحانه وتعالى يعلم المستقبل.
ولذلك ينصر من يعلم أنهم إذا انتصروا جاهدوا، وصبروا، وأمروا، ونهوا، وصلوا، وأقاموا شرع الله عز وجل، فهذا هو السر: {} [الحج:40] ثم وصف هؤلاء بأنهم {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] فلا تكن في مرية من هذا الأمر.(21/16)
تحديد مستقبل الإسلام
مسألة مستقبل الإسلام تقررها نصوص كثيرة بالإضافة إلى نصوص خصائص هذه الأمة، ومثل ذلك ما ورد من أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأذكر منها على سبيل المثال قول النبي عليه السلام كما في صحيح مسلم: {تقاتلون يهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله} وفي رواية: {إلا شجر الغرقد فإنه من شجر يهود} والآن اليهود في إسرائيل يغرسون شجر الغرقد ويكثرون منه، وهذا سر من أسرار حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الغرقد يتستر على بني إسرائيل، ولا يخبر المسلمين المجاهدين عنهم، ومن ذلك الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص وقد سُئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فأخرج كتاباً وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذا السؤال فقال: عليه الصلاة والسلام: {مدينة هرقل تفتح أولاً} ومدينة هرقل القسطنطينية، وهكذا حدث الوعد الأول، والآن عندنا وعدان في الحديث، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {مدينة هرقل تفتح أولاً} .
فيدل على أمرين: الأمر الأول: وهو نص أن مدينة هرقل تفتح في المرحلة الأولى.
الأمر الثاني: وهو مفهوم أن مدينة روما تفتح ثانياً بعد ذلك، فهذا معنى قوله أولاً، وإلا فلا معنى أن تقول أولاً وتسكت ألا وعندك ثانياً، فمدينه هرقل متى فتحت؟ فتحت في القرن التاسع على يدي محمد الفاتح، فتحقق الوعد الأول بعد حوالي تسعة قرون، والغريب في الأمر أن المسلمين قبل ذلك بقرون لما فتحوا الأندلس قاربوا أن يفتتحوا مدينة روما وكانوا قاب قوسين أو أدنى منها، وكانوا من القوة بدرجة كبيرة، فلحكمة يعلمها الله خاض المسلمون معركة مشهورة يسمونها معركة (توربواتيه) ويسميها المؤرخون المسلمون معركة (بلاط الشهداء) فهزموا في هذه المعركة، وكان من نتيجة هذه المعركة أن تأخر المد الإسلامي وانتشر المد الروماني، واكتسح هؤلاء البلاد الإسلامية، فتأخر المسلمون بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من مدينة روما وروما لم يدخلها فتح إسلامي إلى اليوم، وهذا يؤكد أن للإسلام جولة قادمة منتصرة يصل فيها المسلمون في الفتوحات إلى بلاد لم يصلوا إليها في الماضي.
وأقول: الدلائل والعلامات على ذلك كثيرة: الأمر الأول: تخبط البشرية الذي أشرت إلى طرف منه، وهو موضوع خطير مهم، وقد أصبح الآن قضية علمية وليس مجرد كلام إنشائي خطابي يحتاج إلى حديث خاص.
الأمر الثاني: هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها المسلمون.
وأقول لمن يستبعدون هذا الأمر: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121-123] .(21/17)
دلالة الأحاديث على رفع الله للآصار والأغلال عن هذه الأمة
إن تلك الآصار والأغلال التي كانت على الذين من قبلهم، وقد ذكر الله عز وجل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وعلَّمنا في الدعاء أن نقول: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} وهذا مجرد مثال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بهذا المثال إلى أن الله عز وجل وضع عنا الآصار والأغلال، ويسر لنا الدين.
ولذلك جاء في الحديث الآخر -حديث حذيفة - أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ من ضمن الخصائص التي مُيِّز بها: {أنه أوتي الآيات الأواخر من سورة البقرة} وهذه الآيات فيها قول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] ففيها إشارة إلى رفع الآصار والأغلال عن هذه الأمة، فقوله عليه الصلاة والسلام: {جعلت لي الأرض مسجدا} أي: مكاناً يُصلى فيه؛ ولذلك جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم} .
وفي حديث ابن عباس عند البزار قال: {وكان النبي لا يصلي حتى يبلغ محرابه} أما النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، فإن الواحد منهم إذا أدركته الصلاة صلى حيث كان، فعنده مسجده وعنده طهوره، وكذلك قوله عليه السلام: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} فالمقصود بالطهور: أن التراب مطهر، وهذا يشمل عدة أمور: منها: التيمم؛ وذلك أن الإنسان إذا لم يجد الماء أو خاف الضرر باستعماله جاز له أن يعدل عن الماء في الوضوء أو الغسل إلى التيمم، فيضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ويمسح بها وجهه وكفيه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة وعمار وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهي أحاديث كثيرة جداً، وأجمع العلماء على مضمون هذا الحكم من حيث الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل، فالمهم أن هذا هو معنى قوله: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} لكن حتى غير هذا من الأشياء التي يسِّر فيها الشرع في مسألة الطهور.
فمثلاً: أن الإنسان لو وطئ بنعله أذى أو نجاسة ثم مشى بها على الأرض طهرت بالتراب بدون حاجه أن يغسلها، ولذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد ومالك وغيرهم بسند صحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه يوماً ثم خلع نعاله فخلع الصحابة نعالهم فلما سلم قال: مالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن جبريل أتاني آنفا فأخبرني أن بهما أذى -أو قذراً- فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه؛ فإن وجد فيهما أذى فليمسحها وليصلِّ فيها} ولم يأمر عليه السلام بغسلها بل اكتفى بمسحها.
في حديث أم سلمة وفي حديث امرأة من بني عبد الأشهل عند أبي داود بسند حسن: {أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لنا إلى طريق المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه} فما يصيب الثوب من الأرض المنتنة إذا مر على الأرض الطيبة زال ما فيه، وكذلك أم سلمة قالت: {سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إني أطيل ذيلي -أي: ثوبي- وأمشي في المكان القذر؟ فقال: عليه الصلاة والسلام يطهره ما بعده} .
وروى أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور} إذاً صور التطهير بالتراب ليست خاصة بالتيمم فقط بل التيمم وغيره، وهذه تشير إلى موضوع التيسير كما ذكرت.
والتيسير له أمثلة ونماذج كثيرة جداً؛ بل إن العلماء رحمهم الله وضعوا قواعد، منها: قول الفقهاء والأصوليين مثلاً: (المشقة تجلب التيسير) وقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، بمعنى: أن الدين ليس فيه عسر ولا حرج ولا شدة، فإنسان لم يجد الماء فالعودة إلى التراب.
مثلاً: إنسان لبس الخفين يمكن أن يمسح عليهما بدلاً من غسل القدمين، وإذا لبس العمامة بشروطها يمكن أن يمسح عليها بدلاً من مسح الرأس، وكذلك إنسان لا يستطيع أن يصلي قائماً صلى قاعداً، وإذا لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنب، وإذا لا يستطيع أومأ إيماء، وهكذا، جميع التكاليف الشرعية والأوامر والنواهي محددة ومربوطة بقدرة الإنسان واستطاعته، وليس فيها عسر ولا حرج ولا مشقة على الناس، وهذا أمر شامل في جوانب العبادات والمعاملات وغيرها، والحديث فيها يحتاج إلى بسط.
وبعض الناس يتوسع في هذا الأمر ويحلل ما حرّم الله بحجة أن الدين يسر، فيقول: الغناء حلال؛ لأن الدين يسر، ومسألة تطويل الثوب لا شيء فيها؛ لأن الدين يسر، وهذه أمور مشهورة، ومنهم من يقول لك: أخذ الفائدة الربوية أمر عادي، والدين يسر فلا داعي إلى أن نشدد في الأمر، ومسألة الأمور المحرمة التي فيها نصوص صريحة ليس لنا دخل فيها، فنقول له: أنتلقى عنك أم نتلقى عن الله والرسول عليه الصلاة والسلام؛ إننا لا نشرع من عند أنفسنا، واليسر إنما هو في أمور معينة نص عليها الشارع، أو في قضايا كلية تعم بها المشقة والبلوى، أما مثل هذه القضايا التي هي مخالفات صريحة لأوامر الله ورسوله فلا كلام فيها لأحد بعد قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمِنٌ في دينه كمخاطر وهذه القواعد والأصول مستنبطة من مثل هذا الحديث، ومن قول الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله جل وعلا: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وغير ذلك من النصوص.(21/18)
وقفات حول حديث أوتيت جوامع الكلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وأوتيت جوامع الكلم} وقد يبدو بادي الرأي أنها من الخصائص المختصة بالرسول عليه الصلاة والسلام وحده، لكنني ألمس في هذه الخصيصة أمراً وهو أن هذه الأمة العربية -أصلاً- قد أوتيت زمام الفصاحة والبلاغة، فالعرب كانوا فرسان الفصاحة والبلاغة، وكانوا يعقدون في جاهليتهم الأسواق للمناظرات وتناشد الأشعار والخطابة وغيرها، والله عز وجل قد امتن على الإنسان بقوله: {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] .
ولذلك فإن الأمة الإسلامية من وراء نبيها عليه الصلاة والسلام الذي أوتي جوامع الكلم، أوتيت زمام الفصاحة، والبلاغة، والأدب، والشعر، وأنواع فنون القول.
ولذلك فإننا نعتقد أن الواجب على حملة رسالة الإسلام، ودعاته، وعلمائه أن يكون لهم من الفصاحة والبلاغة، وحسن القول، وجمال العبارة، ورشاقة الأسلوب ما ليس لغيرهم، وأعني بذلك أن يكون هناك أدباء مسلمون، وشعراء مسلمون، يحسنون فن الكلام، والحديث، والأدب، والشعر، ويستطيعون أن يدعو الناس إلى الإسلام ويربوهم على أخلاقيات الإسلام من خلال منابر الخطابة والأدب والشعر، ومع الأسف الشديد قد تأخر المسلمون عن هذا الميدان وأصبح كثير ممن ينتمون إلى الأدب والشعر في هذه الأمة يأخذون من أدب الغرب، فالواحد منهم لا يعتبر أديباً ولا شاعراً ولا قاصاً إذا لم يقرأ للقصاص الغربيين والفرنسيين، وتجد الواحد منهم يقول: أنا قرأت لفلان، وهو مستعد أن يذكر لك القاص الأمريكي فلاناً، والقاص الفرنسي فلاناً، والقاص البريطاني فلاناً، وأنه قرأ له كذا من كتبه المترجمة، وربما يعرف من قصصهم وأدبهم الشيء الكثير، وينسج على منوالهم.
بل أصبحنا نجد كثيراً يلجئون إلى أسلوب الغموض والرمز في التعبير عن معانيهم لأنهم يحملون معاني غير إسلامية، وتأخر الأديب المسلم عن الساحة، ولله در ذلك الشاعر الذي يقول منتقداً من يلجئون إلى الرمز والغموض في الشعر: الشعر ما لم تلح في التيه جذوته نوراً مبيناً فلا كانت عطاياه إن ضمه الحرف حيناً في توهجه أو ضمه الرمز حيناً في حناياه فالشعر ما زال يذكي وهج شعلته وقع الصراع فيؤتي بعض نجواه فهذا يؤكد أن الأديب المسلم يجب أن يبرز ويوجد، شاعراً، وأديباً، وكاتباً، ومتحدثاً، وخطيباً، وناقداً، وأن يُوصل إلى الناس تعاليم الإسلام وأخلاقيات الإسلام من خلال هذه الوسائل المباحة، والتي تؤثر في لفيف من القراء.(21/19)
إشارات في رحمة الله لهذه الأمة
الوقفة الخامسة: وهي إشارة إلى رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة، وهذه الرحمة ظاهرة جداً؛ من خلال أحاديث كثيرة وآيات؛ وأكتفي منها بالحديث الذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: {سجد وبكى فأرسل الله عز وجل جبريل يقول له: وهو سبحانه وتعالى أعلم سله ما يبكيك، فقال: ما يبكيك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي، فذهب جبريل إلى رب العزة جل وعلا، وأخبره -وهو تبارك وتعالى أعلم- فقال الله جل وعلا: قل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك} .
ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث إلى بعض الخصائص، ِمنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس وهو في الصحيح: {أن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبت عليه سيئة واحدة} والمقصود من تركها لوجه الله وليس من تركها عجزاً، فهذا تكتب عليه سيئة لو تركها عجزاً، وكذلك أخبر الله عز وجل أن الحسنة بعشر أمثالها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أشار إلى أنه أعطي الشفاعة، والشفاعة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ستة أنواع: أولها: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف في فصل القضاء، حين يأتون إلى الأنبياء آدم ومن دونه فيعتذرون ويردونهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيلبي، ويقول: أنا لها، أنا لها، فيشفع للخلق في فصل القضاء، فيفصل الله جل وعلا بين عباده، وهذه عامة لجميع الأمم.
ثانيها: الشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة.
ثالثها: الشفاعة في قوم من أمته استحقوا النار ألا يدخلوها، بل يغفر الله عز وجل لهم ويدخلهم الجنة رأساً.
رابعها: الشفاعة في قوم من أهل الجنة أن ترفع منازلهم في الجنة.
خامسها: الشفاعة في قوم دخلوا النار أن يخرجوا من النار ويُدخَلوا الجنة، وهؤلاء كثير؛ ولذلك صح في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً} ولذلك فإن شرط الحصول على شفاعة المصطفي صلى الله عليه وسلم، -وبأبي هو وأمي- أن يموت الإنسان موحداً لا يشرك بالله شيئاً، فكل من وقع في شرك فإنه محروم من شفاعته صلى الله عليه وسلم، ومسألة عدم الشرك بالله مسألة خطيرة وكبيرة، وقد سبق أن تحدثت عندكم عن هذه النقطة بالذات، والمهم أن شفاعته عليه الصلاة والسلام نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئاً حتى وإن عذبوا، وهذبوا، ونقوا، فإنهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة.
سادسها: هو نوع خاص به، وخاص -أيضاً- برجل واحد وهو: شفاعته عليه الصلاة والسلام في بعض أقاربه أن يخفف عنهم العذاب، وتلك شفاعته صلى الله عليه وسلم في أبي طالب كما ثبتت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه في ضحضاح من نار} وفي لفظ: {تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، وما يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} فخُفف العذاب عن أبي طالب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نظراً لأنه كان يرعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحوطه ويحميه، وقد يقول قائل: لماذا خص أبو طالب؟ فأقول: من الطبيعي أن يخص أبو طالب لأنه ليس هناك رجل آخر عمل مع النبي صلى الله عليه وسلم مثلما عمل أبو طالب، فهو رجل كافر ومع ذلك فعل من الحماية والحيطة وتمكين الرسول صلى الله عليه وسلم من القيام بدعوته في وقت الاستضعاف ما لم يفعله غيره.
ولذلك لما مات كان خليفته وهو أبو لهب يقف ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهر به، ويقول: صابئ كذاب، لا تطيعوه، إنه يريد منكم أن تتركوا كذا وتتركوا كذا، فلم يكن هناك رجل مشرك وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم مثلما وقف أبو طالب طيلة حياته مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك خص بهذه الشفاعة.
فهذه بعض الوقفات والمعالم التي أحببت أن أبسطها بين أيديكم حول هذه الأحاديث التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بعض خصائصه وخصائص أمته.
نسأل الله جل وعلا أن يعز هذه الأمة وأن يعيد لها مكانتها وعزتها ومجدها، وأن يكتب لها العز والنصر والتمكين إنه على كل شئ قدير: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] والله تبارك وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(21/20)
الأسئلة(21/21)
حكم صدقة المرأة من مال زوجها
السؤال
ما حكم من أخرجت شيئاً من البيت وتصدقت به وزوجها لا يعلم؟
الجواب
إن كان لا يرضى بذلك فلا يجوز، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه} أما إن كانت تعلم رضاه فلا بأس بهذا.(21/22)
حكم الأضحية عن الميت
السؤال
هل يصح أن نضحي عن جدي، بحيث يصل إليه ثواب الأضحية علماً أن أبناءه لا يتصدقون؟
الجواب
لا بأس أن تضحي عنه أو عن غيره من الأحياء أو الأموات.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(21/23)
حكم قص شعر المرأة
السؤال
ما حكم قص مقدمة الرأس للمرأة؟ وما حكم قص الشعر للمرأة؟ وهل الحديث الذي يقول: إن عائشة قصت شعرها إلى ما تحت الأذن صحيح؟
الجواب
الحديث الذي في صحيح مسلم هو أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة، وبناء عليه نقول: إن قص المرأة لشعر رأسها جائز، بشروط: الأول: ألا يكون على صفة التشبه بنساء الكفار كما أسلفت.
الثانية: ألا يكون على صفة التشبه بالرجال، مثل بعض الأخوات -هداهن الله- التي تبالغ وتنهك شعر رأسها حتى يصبح كأنه شعر رجل، وهذا من الانتكاس في الفطرة، وأصبح الشاب يطيل شعر رأسه ويتشبه بالمرأة، وبالمقابل المرأة تقص شعرها حتى كأنها رجل، وهذا لا يجوز وخاصة إن كانت المرأة ذات بعل.(21/24)
دليل تحريم النظر إلى الحرام في التلفاز
السؤال
مشاهدة ما يوجد في التلفاز من مسلسلات وأفلام وأغاني تخل بديننا الحنيف، وكلما حذرنا الناس من ذلك احتجوا بأنه لا يوجد حديث يدل على أن التلفاز حرام إلخ؟
الجواب
نحن نعرف أن الإسلام حرّم على الرجل النظر إلى المرأة وإلى زينتها، وإذا كان الرجل يشاهد في الشارع -مثلاً- وجه المرأة أحياناً فقط، ويشاهد امرأة مغطاة بالكامل، فهو في التلفاز أو الفيديو يشاهد من المرأة شيئاً كثيراً يثير من الفتنة والشهوة في قلبه مالا يثيره رؤية المرأة المحجبة التي في الشارع في حالات غير قليلة، وكذلك التلفاز والفيديو يعلم الشاب والفتاة أن هذه امرأة في التلفاز تركب مع رجل لا تعرفه، وأنها تعتقد صداقةً مع صديق، وأنها تهرب من أهلها، وتخون زوجها، ويقبلها بحجة أنه زوجها ولا تعرفه ولا يعرفها، وكل إنسان يعرفون ذلك، وأيضاً مشاكل أخرى كثيرة جداً.
فتتربى الأجيال على أن هذه الأمور كلها لا بأس بها، وبالمقابل التلفاز يربي الناس على أن ما أحل الله لهم هو أمر سيء ويجب الفرار منه، فيتربى الناس مثلاً على أن طاعة الوالدين أمر غير محبب، والوالد يريد منك كذا والوالدة تريد منك كذا، وعلى أن تعدد الزوجات جريمة ونهايته إلى الفشل، فهذه هي الأشياء التي تربي أجهزة الإعلام الناس عليها، وأعتقد أن هذه الأمور لم تعد تخفى على أحد، لكن الإنسان أحياناً يلتمس في نفسه المبررات والمسوغات لارتكاب الحرام.(21/25)
حكم الجهاد بالمال
السؤال
ما حكم من يجاهد بالمال؟
الجواب
هذا حسن، والجهاد بالمال قدمه الله في القرآن حتى على الجهاد بالنفس، قال تعالى: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95] .(21/26)
أحكام لباس الخادمة في البيت
السؤال
ما هو حكم من عنده خادمة ولا تلبس الخمار الكامل؛ بحيث تلبس الحجاب فقط على الرأس، أما الوجه فيكون ظاهراً، وما هو حكم أن يراها زوجي أو يطلب منها أي شيء؟
الجواب
لا يجوز للرجل أن ينظر إلى وجه امرأة أجنبية عمداً، ولا يجوز لها أن تظهر أمامه وهي غير محجبة، وأعني بالحجاب تغطية الشعر وتغطية الوجه أيضاً، والأدلة على ذلك كثيرة تربو على خمسة عشر أو عشرين دليلاً ذكرت شيئاً منها في الكتاب الذي هو حوار هادئ مع الغزالي ونقلت بطبيعة الحال عن العلماء الذي كتبوا في هذا الباب وأشرت إليهم.(21/27)
حكم الصلاة بالقفازين
السؤال
ما حكم صلاة المرأة بالقفازين، وما حكم ظهور اليدين، وما هو حد ظهور الوجه في الصلاة؟
الجواب
الصلاة بالقفازين لا بأس بها، وستر اليدين في الصلاة مطلوب، ومن العلماء من قال بوجوبه، ومنهم من قال بأنه غير واجب، فإذا سترت يديها بالقفازين فهذا حسن، وإذا لم تسترها بالقفازين تسترها بثوبها الذي تلبسه للصلاة، وكذلك ما يتعلق بستر القدمين: فمن العلماء من قال بالوجوب، ومنهم من قال بأنه مستحب -أي في الصلاة- وليس بواجب، وأما الوجه فنص الفقهاء بأنه يكره ستره في الصلاة إذا لم يكن عندها رجال أجانب ولم تخش من مرورهم بها.(21/28)
حكم إهداء أجر القراءة للميت
السؤال
هل تجوز قراءة الختمة بنية إهداء ثوابها للميت، وكذلك التسبيح والاستغفار؟
الجواب
من العلماء من قال: إن قراءة القرآن للميت تصل، ومنهم من قال: لا تصل، لكنهم متفقون على أن الدعاء والاستغفار له مشروع؛ ولذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوصل خيراً إلى ميت أن يكثر من الدعاء له، وكذلك الصدقة فإنه ليس فيها اختلاف كما قاله بعض أهل العلم، والواقع أن فيه اختلافاً لكن الجماهير على أن الصدقة تصل إلى الميت إذا تصدقت عنه بشيء.(21/29)
حكم صيام النصف من شعبان
السؤال
هل يجوز الصيام في ليلة النصف من شعبان والقيام فيها؟
الجواب
تخصيص ليلة النصف من شعبان بالصيام والقيام لا يثبت فيه شيء، لكن على العموم يشرع للإنسان أن يصوم الأيام البيض من كل شهر وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بما في ذلك شهر شعبان.
أما تخصيص النصف من شعبان بشيء، فلا يكاد يصح فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء.(21/30)
الأيام التي يشرع فيها الصوم في محرم
السؤال
ما هي الأيام التي يشرع فيها الصيام في شهر محرم؟
الجواب
من الأيام التي يشرع فيها الصيام في محرم: اليوم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، وكذلك أيام البيض كما أسلفت، والإثنين والخميس، ولو صام المحرم كله فحسن.(21/31)
حكم لبس الشورت تحت العباءة
السؤال
ما حكم ما انتشر بين بنات أمتنا من لبس القصير المعروف بالشانية-كما يتبجحون به- ويتعذرون بأنهم لا يراهم الرجال، وإنما تكون وراءهم العباءة، مع العلم بأنه لو ارتفعت لظهر ما خفي، فأرجو من فضيلتكم أن توضح الخطأ من الصواب، لكي نسير ويسير عليه بناتنا وأخواتنا؟
الجواب
مشكلتنا أننا -كما ذكرت إشارة في المحاضرة- أصبحنا متطفلين على موائد الآخرين، فملابسنا تصنع في الغرب؛ ولذلك الإنسان أحياناً يريد أن يشتري لابنه الصغير لابنته الصغيرة ثوباً يكون مناسباً، فربما يمر بالسوق فلا يكاد يجد ثوباً بالشكل الذي يرضيه، فهم في الواقع يفرضون علينا أمزجتهم وتقاليدهم وعاداتهم، ونحن مهمتنا أن نستورد وننفذ، ولا أكثر من انتشار هذه العادات والتقاليد خاصة بين أخواتنا من النساء فيما يتعلق بالملابس والتسريحات وغيرها.
ولذلك فإن لبس هذا القصير في نظري أنه من أكبر المخاطر التي تهدد فتياتنا في هذه الجزيرة، ولو كان من ورائه عباءة؛ لأن العباءة: يمكن أن يحركها الهواء أو ترتفع المرأة؛ أو تصعد، أو تنزل، أو تركب السيارة، أو تصعد على الرصيف -مثلاً- أو ما أشبه ذلك، فيظهر منها شيء، وهذا أمر ملحوظ وكلنا نشاهد ونلحظ.
وهناك أمر آخر: وهو أنه إذا كان وراءه العباءة فما الفائدة من لبسه؟ لكن المسألة أصبحت تدرجاً، ولذلك حتى العباءة هي الأخرى بدأت ترتفع ولا ندري متى يستقر بها القرار، وغطاء الوجه يوماً من الأيام كانت المرأة تلبس غطاء ساتراً فضفاضاً طويلاً، وأصبح الغطاء يرتفع قليلاً قليلاً حتى أصبح تحت الذقن وأصبح أعلى الرأس يبين، وأسفل اللحية يبين، والمرأة أحياناً قد تكون فتاة محافظة ومتدينة، ولا ترغب أن يظهر منها شيء؛ فتجد أنها بكل صعوبة تلتفت يمنة ويسرة، لأنها لو التفتت لظهر شيء من رقبتها، أو ظهر شيء من ذقنها، أو ظهر شيء من شعرها، فلماذا نلزم أنفسنا بهذه الأمور؟ ولماذا تكون أمورنا مستوردة عن الآخرين؟ أليس عندنا من الثقة بعاداتنا؛ بل بالشرائع التي تلقيناها عن ديننا ما يجعلنا نكتفي بها عن غيرها.
وبالمقابل أقول: هذه البدع وهذه التقاليد المنحلة مهما كانت موجودة، ولكنني أنصح الأخوات المتدينات أن يكون لديهن من الاعتزاز بالزي الإسلامي وبالشرائع الإسلامية ما يمكن أن يوجد تياراً مضاداً، فمثلاً كثير من الفتيات الآن أصبحت تلبس القفازين -غطاء اليدين- وأصبح هذا أمراً مألوفاً ومعروفاً نشاهده في كل مكان، وهذه ظاهرة طيبة بدأتها فتيات مؤمنات وانتشرت حتى عند غيرهن من سائر النساء غير المتدينات، فهي عادة طيبة، ونقول للأخت الطيبة: عليها ألا تكتفي أن تعمل هي بشرائع الإسلام بل عليها أن تنشر هذه الأشياء بين الناس.(21/32)
كيف يكون الجهاد
السؤال
إن الجهاد في سبيل الله كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مهم جداً، والأمة لا يرجع عزها إلا بالجهاد، ولا تبلغ الدعوة في كل بلد يحارب إلا بالجهاد، والجهاد في أفغانستان يعد أهم حدث العالم اليوم، حتى إن أعداء هذا الدين يجدون حظاً من ثمرات هذا الجهاد المبارك، وللأسف نجد الهروب من كثير من المسلمين؟
الجواب
لعلي أجبت على شيء من ذلك، وأقول: المجاهدون الأفغان بحاجة إلى دعمهم سواء بالمال والدعاء، وتبني قضيتهم إعلامياً -كما ذكرت- وهذا لا يقل عن مسألة الرجل، وقد سمعت بأذني من " عبد رب الرسول سياف أحد قادة المجاهدين، يقول: نحن بحاجة إلى المال، ولسنا بحاجة إلى الرجال، وغيره من قادة المجاهدين قالوا ذلك أيضاً، فالحقيقة دعم الجهاد الأفغاني واجب على المسلمين جميعاً، والتخلي عنه يعتبر نكوصاً وفراراً من المعركة، لكن كيفية الدعم؟ الدعم له ألف كيفية، وليس فقط كما يتصور بعض الإخوة الشباب من أنه لا يكون إلا بالخروج للجهاد، ووالله إذا وجد قائد محنك، ووجد عسكري قدير، ووجد أناس لهم كفاءة في هذا المجال، فسنقول لهم: اخرجوا لأن ميدانكم لا يسده غيركم، وإذا كان هناك أطباء يمكن أن يساعدوا في العلاج والتمريض؛ فينبغي أن يخرجوا وينظموا الخروج، وإذا كان هناك أناس يمكن أن يكون لهم مهمات تفتقر إليهم؛ فهؤلاء ينبغي أن يسارعوا في الخروج، ومن قعد هاهنا فعليه أن يدعم إخوانه بمجالات أخرى عديدة.(21/33)
القرآن لب العلوم
السؤال
من الملاحظ أن بعض الشباب يقرءون الكتب الكثيرة، ولديهم ثقافة كثيرة في شتى العلوم؛ لكنه لا يحفظ إلا قليلاً من القرآن؟
الجواب
هذا خطأ فالقرآن هو لب العلوم وأساسها، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ولذلك على الشاب أن يأخذ من القرآن بنصيب حسن، فإن أمكن أن يحفظ القرآن فحسن، وإلا فعلى الأقل أن يحفظ شيئاً من القرآن الكريم.(21/34)
حكم صبغ الشعر
السؤال
هل يجوز صبغ الشعر؟
الجواب
صبغ الشعر بالسواد لا يجوز، لأنه ورد نص في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وجنبوه السواد} أما صبغه بغير ذلك فلا بأس به؛ شريطة ألا يكون على غرار ما تفعله النساء الكافرات، وبعض النساء يذكرن أن بعض الأخوات -هداهن الله- شعرها كأنه أصبح لوحة رسام، وقد يكون فيه اثنا عشر لوناً أحياناً، أي: أن هذه الأمر أصبح ألعوبة، فينبغي للمرأة المسلمة أن يكون لها استقلال وهو تميزها.(21/35)
حكم تسريحات الشعر
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تعمل التسريحات في شعرها كما شاءت؟
الجواب
نعم، بشرط ألا تكون هذه الأشياء مأخوذة عن الكافرات أيضاً، لأن التشبه بالكفار حرام كما في حديث ابن عمر {من تشبه بقوم فهو منهم} فكون: المرأة اليوم تسرح تسريحة فرنسية، وغداً قصة الأسد، وبعد الغد القصة الولاَّدية وهكذا، وكلما ظهرت ممثلة أو مغنية على شاشة التلفاز، أو على أشرطة الفيديو التي فتنت كثيراً من المسلمين اليوم بقصَّة تسارعت نساء المسلمين إليها، فلا شك أنها محرمة، أما كون المرأة تسرح شعرها بطريقة تعجبها وتعجب زوجها فلا شيء في ذلك إذا سلم من المحذور السابق، على أنه لا ينبغي أن يكون هذا شغلها الشاغل.(21/36)
حكم التجمل في نهار رمضان
السؤال
هل يجوز قص الأظافر والتطيب ووضع المكياج في نهار رمضان؟
الجواب
قص الأظافر يجوز، بل هو مشروع إذا طالت، والتطيب شريطة ألا يكون بخوراً، لأن البخور قد يصل إلى أنف الإنسان، فلا ينبغي أن يستنشقه وهو صائم، وكذلك وضع المكياج لا بأس به في رمضان، وحكمه في رمضان مثل حكمه في غير ذلك، فتقام فيه المحاذير الأخرى.
ووضع المكياج أثبت الأطباء أن المبالغة فيه تضر ببشرة المرأة، وكذلك بعض النساء -كما أسلفت- أحياناً تبالغ في رسم وجهها حتى كأنه لوحة رسام، وتجلس ساعات أمام المرآة، وهذا لا ينبغي، والجمال في الحقيقة جمال الخلق، والجمال الفطري لا يعدله شيء، والاعتدال في هذه الأمور مطلوب.(21/37)
حكم صلاة الفريضة في البيت
السؤال
هل صلاة الرجل للفروض في بيته باطلة، وهل الصلاة في المسجد واجبة؟
الجواب
أما صلاة الجماعة في المسجد فهي واجبة، أما إذا صلى الفريضة في البيت فليست باطلة، بل هي صحيحة لكنه آثم في هذا العمل، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم.(21/38)
الجهاد في سبيل الله بين الإفراط والتفريط
السؤال
لا شك أن الجهاد في سبيل الله أبرز خصائص هذه الأمة، ومما يُؤسف له أن هناك مجموعة من خطباء المساجد والمشايخ يتصدى لمن يذهب إلى الجهاد، فهل هناك من نصيحة في هذا المجال؟
الجواب
أقول فيما يتعلق بالجهاد: لا يختلف اثنان من المسلمين في أن الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام، ومن أنكره فهو مرتد عن الدين، لكن بطبيعة الحال قد يختلف المسلمون، في تقدير المصالح، وحتى الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قد يختلفون، وقد يقول شخص: أنا أرى أن نبدأ بالجهاد، ويقول آخر: أنا أرى ألا نبدأ اليوم، ويرى آخر أن نأتي من جهة اليمين، وآخر من جهة الشمال، ويرى ثالث أن نرتب الجيش بطريقة، وابع أن نرتب بطريقة أخرى، وليس هذا في مسألة الجهاد في أفغانستان فقط، بل في الجهاد في كل مكان، في أفغانستان، وإرتيريا، وفلسطين، ومناطق عديدة.
والجهاد أنواع: منها: الجهاد عبر ميادين الفكر والعلم وهذا من الجهاد العظيم اليوم لأننا نجد أن المسلمين يغزون في عقر دارهم بالأفكار الباطلة، والجهاد في واقع المجتمعات لأننا نجد كثيراً من المجتمعات الإسلامية أصبحت ضحية سيطرة العلمانيين والمنحرفين وغيرهم ممن يبرزون على أنهم شخصيات بارزة ومهمة، ويقودون الناس ويوجهونهم إلى وجهة غير إسلامية، فلا بد من مزاحمة هؤلاء، ولا أرى ترك المجتمعات الإسلامية لهؤلاء والخروج مع النفير العام إلى الجهاد، لكن من يخرج إلى الجهاد الأفغاني.
ويقول: أنا ليس لي دور في المجتمع، وأنا لم أخلق لطلب العلم، ولا أحس بأني من أهل هذا الشأن، وأحب أن أذهب لأقوي إيماني هناك ولأستفيد وأعيش معهم وقتاً معيناً؛ فهذا -إن شاء الله- إلى خير، وإن قتل فإنا نرجو له الشهادة، ويكفي الإنسان أن يقرأ -كما أسلفت- من الأحاديث الواردة في فضل من يستشهد في سبيل الله تعالى، لكني أعتب على بعض الشباب -في المقابل- الذين يغلون في هذا، فبعض الشباب يقوم ويكتب الآيات الواردة في الجهاد والأحاديث، ويعتبر أن كل شخص لم يذهب إلى أفغانستان منافق، وفي قلبه ضعف، وأنه جبان، وهذا أيضاً تصور غير صحيح والاعتدال مطلوب في كل شيء.(21/39)
حقيقة قصة الغرانيق
السؤال
ما حقيقة قصة الغرانيق؟
الجواب
قصة الغرانيق هي: أنه بعض الناس يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن عند الكعبة، فقرأ قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19-20] فألقى الشيطان على لسانه أو في مسامع المشركين: (وإنها لهي الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) وهذه القصة مكذوبة لا أصل لها، ولا يليق بمقام النبوة وحفظ الله تعالى لدينه وشرعه، وتبليغ هذا الدين للناس دون أن يتلبس به شيء، أن يحدث ذلك.(21/40)
حكم العمل في بنك ربوي
السؤال
أعمل في بنك ربوي ولا أجد غير هذه الوظيفة؟
الجواب
هذا لا يجوز، الوظائف -إن شاء الله- كثيرة، والله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، وأبواب الرزق مفتوحة، وعليك أن تبحث عن المجال الصحيح الذي تشبع فيه نفسك وولدك وزوجك، وتسقيهم وتكسوهم بالمال الحلال: {فأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به} كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم.(21/41)
واجب المسلمين تجاه إخوانهم في فلسطين
السؤال
ما هو واجب المسلمين نحو إخوانهم الذين يقاتلون في فلسطين تحت الانتفاضة الفلسطينية؟ وما هو واجبنا من أجل تحرير فلسطين من أيدي اليهود؟ وكيف نقوم بهذا الواجب بإذن الله تعالى؟
الجواب
أحياناً نحن قد نتعجل الخطوات، فقد يتخيل الإنسان أن الطرق مسدودة فيقول كيف نستطيع؟ وهذه الأمور لا تأتي في يوم وليلة، بل الأمور تبدأ صغيرة ثم تكبر، وخذ على سبيل المثال قبل سنتين أو ثلاث سنوات من كان يتصور هذه الانتفاضة التي حصلت؟ كلنا بل حتى المحللون والخبراء والعلماء والسياسيون لم يكن أحد منهم يتوقع هذا الأمر، ثم أحدثه الله بإذنه تبارك وتعالى على يدي شباب صالحين ونساء متدينات.
فالله عز وجل يخلق ما يشاء ويصنع ما يشاء، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، وإذا أراد أمراً يسّر أسبابه، ولكن علينا ألا نتعجل الخطوات.
فالأمة التي عاشت قروناً مهزومة لا يمكن أن تنتقل من هذه الهزيمة في يوم وليلة، بل تحتاج إلى وقت حتى تصل إلى المستوى اللائق بها.
أما واجبنا نحو الانتفاضة فيتلخص في أمور منها: أولاً: أن نحمل همَّ هؤلاء الإخوة، وأن نتابع أخبارهم بلهف، ونحرص عليهم، ونفرح بما يصيبهم من خير ونحزن بما يصيبهم من شر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المؤمنين كالجسد الواحد.
ثانياً: تبني قضية فلسطين إعلامياً، بحيث نعلم الناس بأن الإسلام هو الذي يحرك هذه الصحوة وليست النصرانية ولا الشيوعية ولا العلمانية وإنما الإسلام، ونؤكد هذا بالأدلة الصحيحة.
ثالثاً: أن ندعمهم بما نستطيع من المال وغيره، وكذلك لا بد من الدعاء لهم.(21/42)
الاستفادة من التقدم في خدمة الإسلام
السؤال
ذكرتم أن هناك علماء -أو أنا فهمت ذلك- أن بقوا متأخرين، ولم يتقدموا مع تقدم الحضارة، حتى يقدموا الإسلام للناس بأسلوب حسن ومحبب، وهناك علماء تقدموا في مجال تقديم الإسلام للناس، وأنا أعتقد أن من بين العلماء المتقدمين هو الغزالي غير أنكم تعرضتم له؟
الجواب
الواقع أنا لا أقول الكلام الذي ذكره الأخ هكذا، فإن كان يقصد الأخ كلامي الأخير في ضرورة الاستفادة من الأساليب والوسائل، أو من الأساليب اللغوية فهذا كلام آخر.
أما مسألة الاستفادة من العلم الموجود فهذا أمر متفق عليه عند المسلمين، من أن ما عند الآخرين من علم لا ضرر فيه فإن المسلمين أجدر به وأولى، وكان المفروض أن يسبقوا غيرهم إليه، أما إشارة الأخ فالواقع أننا لا نعتقد أن الإسلام بحاجة إلى أن نطوعه لظروف العصر.
فمثلاً ما معنى كوني أقول: لا داعي أن أمنع المرأة من قيادة السيارة ويجوز لها أن تقود السيارة، فيأتيني واحد ويقول يا أخي، لماذا؟ فأقول: الدليل أن امرأة ذهبت في رحلة فضائية من روسيا -مثلاً- أو يقول إنسان: يجب الإذن للنساء بالخروج إلى المساجد، وحثهن على الخروج وهذه سنة، فأقول له يا أخي، لماذا؟ فيقول: والله لأنه يوجد امرأة هندية أخذت جائزة نوبل لأنها نصرانية مبشرة، وامرأة فعلت، وامرأة فعلت.
وأقول مثلاً: يأتي إنسان ويقول: يمكن للمرأة أن تصبح رئيسة للدولة، فيأتي إنسان آخر ويقول: يا أخي، ما هو الدليل من الكتاب أو من السنة؟ فيستدل مثلاً بملكة بريطانيا فهذا غير صحيح أن نطوع تعاليم الإسلام وأحكامه لضغوط الواقع عليه، فنحن نريد أن نصوغ الواقع على ضوء الإسلام، لا أن نراجع تعاليم الإسلام لنصوغه على ضوء الواقع، ونتخلص من أشياء نعتقد أن فيها غضاضة علينا إن قدمناها للناس، فهذا نوع من الهزيمة الفكرية في الواقع.(21/43)
حكم الإسبال بغير عمد
السؤال
ما حكم لبس الثوب الطويل بدون تعمد؟
الجواب
لا يجوز، {ما أسفل من الكعبين في النار} كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان بخيلاء أو بغير خيلاء، أو لم يكن يعلم أنه طويل؛ وهذا لا يتصور، لأن الإنسان يحس، ولا يمكن أن يلبس ثوباً دون علمه، إنما هذا عذر يحتج به بعض الناس المقصرين.(21/44)
النصر بالرعب مسيرة شهر غير خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
لقد ذكرت في كلامك أن خاصية الرعب مشتركة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته، وذكرت الأمثلة والأدلة، لكن دار في ذهني أن هذا الخوف والرعب ليس متشابهاً كونه من النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مسيرة شهر} فهل كان الأعداء يخافون من الصحابة مسيرة شهر؟ أفيدونا.
الجواب
ما دام أن النصر بالرعب تبين أنه ليس خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا القيد وهو مسيرة شهر يتجه أن يكون كذلك أيضاً ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم.(21/45)
التفرق سبب التأخر
السؤال
هل تفرق المسلمين إلى جماعات سبب في تأخر المسلمين، وما هو العلاج؟
الجواب
التفرق أنواع: فإن كان التفرق من باب اختلاف التنوع -كما يقول علماؤنا- أي أن الناس منهم من يتخصص في شيء ومنهم من يتخصص في شيء آخر، فهذا لا ضير فيه، فالمسلمون لا بأس أن يوجد من بينهم من يتفرغ مثلاً لبناء المساجد وعمارتها والقيام بالمشاريع الخيرية، وآخر يقوم بشئون الدعوة، وثالث يقوم بالتعليم، وآخر يقوم بالكتابة والتعليم وهكذا، فهذا من باب اختلاف التنوع ولا بأس به.
أما اختلاف التضاد وهو تفرق المسلمين إلى جماعات وأحزاب، وكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبره وكل إنسان يلقي باللائمة على غيره ويعتقد أن الحق معه وأن غيره باطل، وينظر إلى غيره نظرة ازدراء ودونية، وحسناته عنده سيئات، وسيئات أصحابه عنده حسنات، فهذا لا شك أنه من العوج، وهو أعظم أسباب تأخر الأمم وتخلفهم.(21/46)
كتاب حوار هادئ مع الغزالي
السؤال
الكتاب الذي صدر أخيراً، وهو كتاب حوار هادئ مع الغزالي، نود أن تشرح لنا مضمون هذا الحوار الذي جرى مع الشيخ الغزالي.
الجواب
هذا عبارة عن مجموعة خمس محاضرات سجلت في أشرطة مناقشة لآراء وأفكار الشيخ الغزالي في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ثم في سائر كتبه ومؤلفاته الأخرى القديمة والحديثة، وقد كتبت هذا الحوار وعدلته، وأضفت إليه وهذبته، وطبع في كتاب ويتلخص في ستة فصول تقريباً.
الفصل الأول: عبارة عن تصنيف الشيخ الغزالي وإلى أي مدرسة ينتسب، وقد تبين من الدراسة أن الغزالي أقرب ما يكون إلى المدرسة العقلية، وإن لم يكن صورة طبق الأصل.
الفصل الثاني: عن موقف الغزالي من أحاديث الآحاد، وقد تبين أنه لا يأخذ بها في العقيدة، وأنه يردها أحياناً لأسباب غير وجيهه ومن منطلق عقلاني يمكن أن يرد عليه بالحجة العقلانية نفسها.
الفصل الثالث: موقفه من قضية القضاء والقدر، وقد تبين أن موقف الغزالي غير واضح أو غير مضطرد، فهو قد يفسر القدر أحياناً بالعلم، وقد يفسر القدر أحياناً بالنواميس الكونية التي وضعها الله تبارك وتعالى في الأشياء.
الفصل الرابع: هو عن موقف الغزالي في قضية الشيعة، وقد تبين أن موقفه مضطرب في هذه المسألة؛ حيث إنه لا يدري حقيقة الخلاف بيننا وبينهم، ويقول: إن الخلاف بيننا وبينهم بسيط، بل يقول: نحن متفقون معهم في الأصول والفروع، وقد نقلت بالنصوص الموثقة من كتب القوم ما يؤكد حقيقة الهوة، والخلاف الجوهري القائم بيننا وبينهم في الأصول والفروع.
الفصل الخامس: وهو موقف الغزالي من قضية المرأة وهو فصل طويل تحدثت فيه عن مجموعة من المواقف والآراء الغريبة التي قال بها الغزالي في عدد من كتبه، وبعضها لم يسبق إليه على مدى التاريخ الإسلامي.
الفصل السادس: وهو بعنوان: الأدب العلمي عند الغزالي بين النظرية والتطبيق، وقد تحدثت فيه عن كلام الغزالي النظري في وجوب التحلي بمكارم الأخلاق والأدب في الحوار والهدوء في المناقشة، ثم أتبعته بنصوص وعبارات قالها الغزالي في من ينتقدهم، حيث بدأ بالصحابة ومروراً بالتابعين وانتهاء بالعلماء المعاصرين وشباب الصحوة الإسلامية.
والفصل السابع: بعنوان نظرات في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث وهو أطول هذه الفصول، وهو عبارة عن نقد للكتاب في وقفات محددة.(21/47)
السهو والنسيان من طبيعة البشرية كلها
السؤال
هل السهو والنسيان من خصائص هذه الأمة؟
الجواب
السهو والنسيان من طبيعة هذه الأمة لكنه ليس خاصاً بها، بل جميع البشر يقع منهم السهو والنسيان، لكن فيما يتعلق بالرسل والأنبياء فإنهم معصومون عن ذلك فيما يبلغون عن الله تبارك وتعالى.(21/48)
الاستعداد بالعلم قبل الدعوة
السؤال
يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] إلى آخر الآية، ولا شك أن الدعوة إلى الله أمر طيب، فهل الخروج مع جماعة التبليغ دون علم يجوز، أم يقوم الإنسان بطلب العلم مقدماً ثم الخروج، حيث إنهم يخرجون في جماعات وإلى بلدان غير إسلامية؟
الجواب
الذي أرى أن الخروج إلى بلدان غير إسلامية، أو الخروج للدعوة، وتفريغ الإنسان نفسه للدعوة، يحتاج لأن يكون الإنسان على مستوى من العلم، أما مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} فصحيح، أي: أن الإنسان إذا علم شيئاً يجب أن يبلغه ولو كان قليلاً، فإذا رأيت أحداً على خطأ وأنت تعرف أنه خطأ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتقول له: هذا خطأ، لكن كونك تجلس في المسجد كي تدرس الناس وأنت لا تعرف إلا شيئاً يسيراً فتفتي بغير علم، وتقول مالا تعرف، فهذا لا يجوز.
زكذلك كونك تخرج للدعوة وأنت في نفسك بحاجة إلى أن تكون نفسك؛ لأنك ستدعو الناس إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما إذا لم تكن محصناً بعلم صحيح من الكتاب والسنة أنك تقع في الخطأ، وربما تعمل ببدعة وأنت تظن أنها سنة، وربما تستشهد بحديث موضوع وأنت تحسب أنه في صحيح البخاري وربما تقرأ آية غلطاً أحياناً، وربما تأتي بأمثلة تضربها للناس وتعتقد أنها تكفي في الإقناع، وفي الواقع أنها لا تكفي لأنه لا بد من ربط الناس بالكتاب والسنة، فالإنسان أرى أنه لا بد أن يعد نفسه إعداداً جيداً قبل أن يخرج، خاصة إذا كان سيذهب إلى بلاد الكفار ليدعو الناس، وهناك مشكلات ومغريات، وشبهات وشهوات قد يتضرر منها الإنسان.(21/49)
ضرورة الصحوة الصناعية
السؤال
يعيش العالم الإسلامي فترة من التقاعس، لدرجة أننا نعتمد على البلاد الكافرة في جلب غذائنا ومعظم ما نحتاجه، والصحوة التي نعيشها غير مصحوبة بصحوة فكرية صناعية، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
هذا صحيح، ولذلك قلت في حديثي: إننا في البداية ولسنا في النهاية، ونحن نعتقد أننا وضعنا أقدامنا -إن شاء الله- على الطريق، لكن المسلمون بحاجة إلى أن يستكملوا الجوانب الأخرى، حتى في مجال التمسك بالإسلام، فلا نقول: إن المسلمين قد وصلوا إلى ما يجب أن يكون، فهناك حاجة شديدة إلى العلم الشرعي، وإلى الالتزام بالكتاب والسنة، وتصحيح المفاهيم والعقائد، وتوحيد الصفوف، وإلى تجنب الأخطاء، وإلى أشياء كثيرة، ثم في المجالات الأخرى في المجالات الأدبية، والفكرية، والعلمية، والصناعية المسلمون بحاجة إليها أيضاً.
ومما يحمد أننا نجد كثيراً من الشباب المسلم أصبحوا يتخصصون في مجالات علمية وصناعية تحتاجها الأمة الإسلامية، ولا شك أن هذه من المجالات التي هي فرض كفاية، فما دامت الأمة الإسلامية بحاجة إلى طبيب إلى مهندس وإلى خبير في كافة المجالات، فإن التقصير في هذا يعتبر ذنباً تأثم به الأمة كلها حتى تقوم بهذا الواجب الكفائي.(21/50)
كتب تتحدث عن خصائص هذه الأمة
السؤال
ما هي الكتب الموثوقة التي تتحدث عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وعن خصائص أمته أن بعضاً الموجودة في المكتبات؟
الجواب
في الواقع لا يحضرني كتب تنطبق عليها الشروط التي ذكرت، إلا أنني أشرت خلال حديثي إلى بعض الكتب المطبوعة التي يمكن أن يستفاد منها، وإن لم تكن كتب موثقة بمعنى أن كل ما فيها صحيح، وبعض الكتب المؤلفة في السيرة النبوية قد تذكر شيئاً من ذلك.(21/51)
الاعتماد على شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقط
السؤال
بعض الناس يعصي الله تبارك وتعالى فإذا قيل له اتق الله، قال: إن أمة محمد على خير ولهذه الأمة خصائص، منها شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيعمل أعمالاً توجب دخول النار اعتماداً على عفو الله، وأنه من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فنرجو إصدار نصيحة لمثل هؤلاء؟
الجواب
هؤلاء كما قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169] ويقول الله عز وجل معاتباً لهؤلاء: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] فالاعتماد على عفو الله فقط ليس مسلكاً صحيحاً؛ لأن عفو الله إنما ينال بسبب وهو عملك الصالح، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] لكن لمن؟ {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف:156-157] إلى آخر الآيات.
فرحمة الله إنما تُنال بسبب أعمال الإنسان الصالحة، ورحمة الله هي السبب لدخول الإنسان الجنة، فبرحمة الله أدخلهم الجنة، وإنما استحقوا رحمته بأعمالهم الصالحة، أما الإنسان الذي يعتمد على هذا فقط فهو كمن يقرأ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ويسكت، يقول الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] ولذلك لا يأتي في القرآن موضع تذكر فيه الجنة إلا ويذكر فيها النار، وتذكر فيه الرحمة إلا ولا يأتي موضع تذكر فيه العذاب، حتى يكون قلب المؤمن بين الخوف والرجاء.(21/52)
مجالات الرعب
السؤال
هل يقصد بالرعب في مجال القتال الحربي دون المجال العلمي في باب المناظرة العلمية، بارك الله لأمة الإسلام في الدعاة والمخلصين؟
الجواب
أما النصر فهو بالدرجة الأولى في مجال القتال الحربي، وهكذا النصوص جاءت؛ ولذلك قال: {ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر} ولكن هذا لا يمنع أيضاً الرعب في غيره من المجالات، ولذلك ذكرت مثلاً رعب أعداء الإسلام من الصحوة الإسلامية، وهذا الرعب ليس في مجال الحرب، لأنه ليس ثمة حرب بين الإسلام وخصومه على المستوى العام، فلا مانع أن يكون الرعب موجوداً حتى في مجالات أخرى كمجال المناظرة العلمية وغيرها.(21/53)
أسباب الضعف والوهن
السؤال
ما رأيكم فيما أصاب الأمة الإسلامية من ضعف ووهن، حتى إننا نرى قلة من اليهود يقتلون المسلمين، ويعبثون بكتاب الله، ويلعبون بمقدسات المسلمين، والمسلمون لا يملكون إلا الاستنكار باللسان، نرجو توضيح الأسباب التي أدت إلى ذلك؟
الجواب
الأسباب كثيرة جداً؛ لكن الشيء الذي لا يجب أن يذهب عن البال، أن هذه سنة الله تعالى في الأمم، لأنه ما من أمة عبر التاريخ ظلت دائماً في القمة، فهذه سنة إلهية، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُسَاء ويوم نسر ولذلك ليس بغريب أن يحصل لأمة من الأمم ضعف، ودعونا ننظر إلى الأمم المسيطرة اليوم، فالأمم الغربية كانت في أوقات وقرون وأحقاب متطاولة أمة لا يعلم بها التاريخ ولا قيمة لها، وفي وقت من الأوقات كان الأوروبيون يأخذون بعض القبسات من النور والعلم عن طريق المسلمين في الأندلس وكانوا يفتخرون بأنهم يجيدون اللغة العربية، وعندما تدخل كنائسهم تجد فيها لوحات مكتوبة باللغة العربية، وفيها آيات قرآنية أحياناً.
واليهود -مثلاً- مرت بهم قرون متطاولة وهم أمة مستضعفة منهكة ذليلة، لكن كتب الله عز وجل لهم الآن بحبل من الناس وتأييد منهم بعض التمكين، فعلى الإنسان ألا يكون دائماً أسير اللحظة والحاضر، فلا تنظر لليلة أو اليوم أو لو سنة أو عشر سنوات، فإن أعمار الأمم لا تقاس بهذه الأشياء.(21/54)
مطارق السنن الإلهية
لله تعالى في خلقه شئون، وفي الكون سنن إلهية لا تتبدل، ولا تتغير، وهي عامة شاملة لكل البشر إذا تحققت أسبابها تتحقق نتائجها، ومن ذلك التقدم والتطور والقوة والقهر، والمسلم ربما غاب عن ذهنه بعض ذلك، فأثر على إيمانه.
وهذا من جهة، ومن جهة أخرى غاب عنها التفاعل والتسخير لهذه السنن، وهذا الدرس محاولة لوضع المسلم في طريق التفكير السنني ومعالجة السطحية والغفلة عند التعامل مع الوقائع والأحداث.(22/1)
الدنيا دار ابتلاء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
هذا الدرس التاسع والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثالث من شهر جمادى الثانية لعام ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وعنوانه -كما أعلنت في المجلس السابق- (مطارق السنن الإلهية) .
ومن الواضح جداً أن هذا العنوان يتحدث عن سنن التدمير لمن عصوا الله سبحانه وتعالى وخالفوا أمره، خلق الله تعالى الحياة للابتلاء فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فالإنسان -جنس الإنسان- مبتلى، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] المؤمن مبتلى بإيمانه، قال الله عز وجل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] والكافر أيضاً: هو الآخر مبتلى، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] وهذه الحياة قُلبٌ لا تدوم على حال، ولا تبقى لأحد، كما قال فيها القائل: حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبرا حتى يرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فإذا أردت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمة المقدار فاقضوا مآربكم عجالى إنما عماركم سفر من الأسفار وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عواري إن الحياة كاسمها حركة لا تتوقف، وتغير لا ينتهي، وأحوال شتى يخلف بعضها بعضاً، ويخطئ كثير من الناس حين يعتقدون أن التاريخ يتوقف عند شخص معين، أو بلد، أو حاكم، أو دوله، أو أمة أبداً، ما زالت الدنيا تزول وتتغير، ولو بقيت لبقيت لرسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولو بقيت لبقيت للذين حكموا بشريعة الله تعالى، وقاتلوا دون كلمة التوحيد، وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله تعالى: تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمورُ وتجري الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغورُ وتطمع أن يبقى السرور لأهله وهذا محال أن يدوم سرورُ ويقول آخر: يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا هذه الحركة في الحياة، ليست عبثاً ولا ارتجالاً، بل هي مربوطة بسنة وناموس تحكمها بإذن ربها، وهذه السنن والنواميس كثيرة جداً ومتنوعة، وما سوف يتناوله هذا الدرس -بإذن الله تعالى- هو جزء من هذه النواميس فحسب، يتعلق بسنن التدمير، تدمير الله تعالى للكافرين والفاسقين والظالمين، ويتعلق بالعقوبات الإلهية التي تحكم حركة الأمم حينما تضل عن الصراط المستقيم وتخالف أمر الله عز وجل، يتعلق بالسنة التي تحكم حركة الأمم في صعودها وهبوطها وشدتها ورخائها ونصرها وهزيمتها.(22/2)
لماذا الحديث عن السنن الإلهية
وهاهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا نتحدث عن هذا الموضوع؟(22/3)
تعظيماً لله تعالى
أولاً: نتحدث عن هذا الموضوع من باب تعظيم الله عز وجل، ومزيد الإيمان به، وذلك بالاطلاع على شيء من بديع حكمته وعظيم صنعته؛ إذ يعرف الإنسان الذي اطلع على سنن الله تعالى في الكون والحياة، أنه لا مكان في الحياة للصدفة العمياء -كما يقال- لا مكان في الحياة للفوضى والارتجال، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: {كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء} فكتب الله تعالى كل ما هو كائن في هذه الدنيا، سواء على مستوى الفرد، أم الجماعة، أم الأمة، أم الدولة، أم على مستوى البشرية كلها، وهكذا جاء عند أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة بنحوه بسند صحيح.
إن الطبيب حين يطلع على شيء من خلق الله الخفي في الإنسان؛ يندهش ويصيح (لا إله إلا الله) ، والعالم حين يرصد في منظاره نظام الأفلاك البديع الدقيق العظيم، ويرى عظيم ما أودع الله تبارك وتعالى فيها من جميل الصنعة وجليلها؛ يرتعش مسبحاً للخالق المبدع الكبير سبحانه وتعالى، بل الفلاَّح الذي يضع الحبة في التربة، ثم يسقيها بالماء فيراها تنشق عن شجيرة، ثم تصبح شجرة مثمرة مونعة مورقة، يشاهد فيها نفس الحياة ونماءها وجمالها فيسجد لله تعالى شكراً، فتجد أن الذين يرون صنعة الله تعالى، هم أقرب الناس إلى الله تعالى، وأولى الناس بالإيمان، ولعل مقارنة سريعة -مثلاً- بين الفلاح وبين الصانع تبرز ذلك، فالفلاح يتعامل مع صنعة الله تعالى، ومع خلق الله، ومع الأرض، ومع النبتة، مع الزهرة، ومع المطر؛ فيرى صنع الله تعالى فيكون أقرب إلى الإيمان، ولهذا جاءت نصوص كثيرة في الحث على الزراعة والفلاحة وبيان فضيلتها، لكن الصانع في أحيان كثيرة يتعامل مع ما عملته أيدي الناس، ويتعامل مع الآلة، لهذا يقسو قلبه، وتجمد نفسه، وتجف عينه؛ إلا من رحم الله تعالى لأن بينه وبين التعامل مع خلق الله تعالى، حاجزاً من صناعة الإنسان نفسه.
إذاً معرفة هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم والجماعات والأفراد؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته، فإذا اطلع المؤرخ -مثلاً- أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالاً وتوقيراً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف قائلا كما قال الله عز وجل وأمر: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27] سبحانه! {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] من شأنه أن يعز أفراداً ويذل آخرين، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، يغني هذا ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك: لك في البرية حكمة ومشيئة أعيت مذاهبها أولي الألباب إن شئت أجريت الصحاري أنهراً أو شئت فالأمواج فيض سراب ماذا دهى الإسلام في أبنائه حتى انطووا في محنة وعذاب فغناهُمُ فقر ودولة مجدهم في الأرض نهب ثعالب وذئاب(22/4)
الاطمئنان إلى وعد الله بالنصر
أما ثانياً: فإن النظر إلى هذه السنن يهب المؤمن الاطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر المؤمنين والمسلمين والصادقين، وبالتدمير على الكافرين والفاسقين والمعاندين، فلا ييأس المؤمن؛ لأن عنده رسوخاً في إيمانه بأن المستقبل لهذا الدين.
إذاً معرفة هذه السنن تجعل المؤمن يرى حركة هذه السنن في الأمم الكافرة الممكنة وهي تتهاوى دولة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، وتحق عليها السنن في فساد اقتصادها، وفي فساد صناعتها، وفي فساد صحتها، في فساد اجتماعها، وفي المشاكل التي تواجهها، وفي التناقضات التي تعيشها، فيؤمن بأن الله تعالى الذي يحرك حياة الناس، ينتقل بهذه الأمم الكافرة من حضيض إلى آخر، وربما انتقل بالأمم الممكنة إلى درجات بعدها دركات، فيطمئن المؤمن إلى مصير هؤلاء الكافرين، وكذلك يرى المؤمن صنيع الله تعالى لعباده المؤمنين، وهو يجمعهم بعد تفرق، ويقويهم بعد ضعف، ويوحدهم بعد شتات، ويعلمهم بعد جهل، ويقيمهم بعد انحراف واعوجاج؛ فيطمئن، أما بالنسبة للكافرين فكما قيل: إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم وأما بالنسبة للمؤمنين: وإذا رأيت من الهلال بدوه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا(22/5)
مجاراة المؤمن لهذه السنن والانتفاع بها
وثالثاً: معرفة هذه السنن الإلهية، تجعل المؤمن يجاري هذه السنن، وينتفع بها ويستفيد منها، فإن موافقة السنن الإلهية سبب للنجاح والفلاح، وإهمال هذه السنن أو الجهل بها سبب للدمار والبوار.
وقد قص الله علينا في كتابه أخبار أمم كثيرة، ممن استفادوا من هذه السنن، آمنوا بها وعرفوها وراقبوها ورصدوها، واغتنموا الانتفاع بها، فوهبهم الله تعالى النصر، والتمكين، والقوة، والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، كما قص علينا قصص أمم أخرى جهلت هذه السنن، أو عرفتها ولكنها لم تعمل بموجبها، فحقت عليها كلمة العذاب، فلم ينقذهم بعد ذلك ما كانوا فيه من قوة ونصر حينما بدأت عوامل الانحراف وعوامل الضعف تعمل فيهم عملها.(22/6)
القدرة على تفسير الأحداث
رابعاً: إن معرفة الإنسان بالسنن الكونية تمنحه بإذن الله تعالى قدرة على تفسير الأحداث -خاصة الكبرى- تفسيراً شرعياً سليماً.
كثير من الناس ينطلقون من منطلقات صغيرة، ومنطلقات آنية ووقتية، ولا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وقد يبهرهم الواقع الماثل المشهود، فيغفلون بمشاهدته والنظر إليه عن رؤية الماضي العريق أو عن رؤية المستقبل المنشود.
أحد الدكاترة يقول: كنت مع صديق لي في قاعدة في بلاد الغرب، وهي التي أطلقوا منها ما يسمى بالمكوك الفضائي (تشالنجر) فيقول: كان زميلي إلى جواري ونحن نترقب إطلاق هذا القمر، فكان يتحدث بإفاضة واسترسال عن التقدم الغربي والتكنولوجيا الغربية، وما وصلوا إليه من تقنية، وهذا التقدم المذهل الذي حصل، ويتكلم عن ذلك حديث المعجب المبهور، يقول: فما هي إلا ثوانٍ حتى أطلقوا هذا الصاروخ، فانفجر بعد ثوانٍ من إطلاقه، فانقلب زميلي في لحظة واحدة، واعتبر أن هذا الذي حصل من انفجار الصاروخ في ثوانٍ، قال: هذه ضربة إلهية قاصمة، موجهة لغطرسة أمريكا التي ما فتئت تعتدي على الشعوب الضعيفة المضطهدة والتي والتي والتي، فانقلب رأساً على عقب خلال ثوانٍ بدلاً من أنه كان يطري الحضارة الغربية، وتقدمها المذهل، انقلب ليتكلم عن هذه الضربة الإلهية الموجهة إلى غطرسة أمريكا وكبريائها، وهذا يدل بكل تأكيد أنه لم يكن يملك معرفة صحيحة بالسنن الكونية، لا أولاً ولا ثانياً، أما أولاً فإن هذه الغطرسة، وهذه القوة، وهذه التقنية التي يملكها الغرب تمت لهم وفق سنة إلهية مدروسة معروفة، ويمكن أن تواجهها وتقضي عليها سنة إلهية أخرى أيضاً، كما أن هذا الانفجار نفسه، لا يعني أن الإنسان يتجاهل كل ما سبق وكل ما مضى، لأنه ما مر زمان طويل إلا واستطاعوا أن يتلافوا بعض الأخطاء، وبعض الأمور التي جعلتهم يحاولون هذا الأمر مرة أخرى، وثانية، وثالثة، ورابعة.
إذاً: هم يحاولون أن يستفيدوا من السنن، ولا ييأسون ويعملون بالأسباب، أما المسلم فإنه في كثير من الأحيان يجهل هذه السنن، فضلاً عن أن يعرفها أو أن يفيد منها.
إذاً من يملك المعرفة بالسنن الإلهية؛ فإنه يعرف التاريخ، ويعرف الواقع، ويعرف -بإذن الله تعالى- بشائر المستقبل، وفي كثير من الأمثال يقولون: التاريخ يعيد نفسه.
صحيح أن السنن الإلهية التي حكمت في القرون الغابرة، هي التي حكمت الناس اليوم، وهي التي تحكمهم غداً -بإذن الله تعالى- إن للحياة البشرية سنناً كحياة الإنسان فكما أن لحياة الإنسان سنناً، وكما أن للوجود وللكون أيضاً سنناً، فكذلك الحياة البشرية.
وأضرب لك مثلاً: الإنسان يمر بحالة الطفولة، أول ما يولد من ضعف كما قال الله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] ثم ينتقل إلى مرحلة الشباب، وفيها الفتوة والقوة، ثم يصل إلى درجة الكمال البشري المقدر له، وهو بكل حال ضعف، ليس كمالا مطلقا، لكنه أقوى، وآخر ما يصل إليه الإنسان حينما يبلغ الأشد، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] بعد ما يبلغ الإنسان القمة، يبدأ في النقص، فالهرم ثم الموت، إذاً هي حركة بإذن الله تعالى تبدأ من الضعف وتنتهي إلى الضعف، ثم الموت، هذا بالنسبة للإنسان.
اننتقل إلى الكون، انظر إلى الشمس -مثلاً- تجد أن الشمس تطلع كل يوم في كل صباح، وأول ما تطلع الشمس تكون أشعتها باهته باردة، بل تطلع وبعضها صفراء ليس فيها ذاك التوقد، ولا تلك الحرارة، ولا ذلك الإشراق القوي، فهي بداية كأية بداية، وما تزال الشمس ترتقي في كبد السماء وتشتد أشعتها وتتوهج أكثر وأكثر، حتى إذا توسطت كبد السماء في وقت الزوال كانت في قمة حرارتها، وقمة توهجها، بعد ذلك مباشرةً يبدأ نقصها، فتنتقل إلى جهة الغروب، وتبدأ تفقد حرارتها وقوتها وإشراقها وبياضها وصفاءها، وهكذا حتى تغرب في آخر النهار.
وإذا كان هذا الكلام بالنسبة للإنسان، وهذا الكلام بالنسبة للشمس، فالكلام بالنسبة للأمم، أو للدول، أو للحضارات، هو كذلك فمثلاً الحضارة تبدأ ببذرة بسيطة، همة عالية في نفس إنسان، أو طموح وتوقد، ويرتقي في مدارج الكمال شيئاً فشيئاً، ثم يصل إلى القمة في النبوغ والعلو، وبعد ما يصل الإنسان إلى غايته وقمته تصل الأمم إلى غاية كمالها، ثم تبدأ عوامل النقص وعوامل الاسترخاء والدمار تنخر فيها شيئاً فشيئاً، ويبدأ -كما يقولون- العد التنازلي الذي لا يحول دون تحققه أن يتيقظ له بعض العقلاء، فينتبهون إلى أن الأمة بدأت تسقط، بدأت تنهار، وبدأت تضعف، لكن كما يقول المثل: (العين بصيرة واليد قصيرة) لا يملكون دفع هذه السنن الإلهية، لأنها سنة جارية عليهم بلا ريب، وهذه السنة هي الناموس الدائم الذي وضعه الله تعالى للكون والإنسان، أو كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله قال: " هي عادة الله تعالى المعلومة في أوليائه وأعدائه".(22/7)
سبب جهل الناس بالسنن الإلهية
وهاهنا سؤال أيضاً، سؤال آخر يطرح نفسه، لماذا يجهل الناس هذه السنن والنواميس الإلهية؟(22/8)
العمى والغفلة
أولاً: يجهلونها بسبب العمى الذي يجعل الإنسان يغفل عن هذه السنة، بل إن من الناس من يعتبر الحديث عن السنن نوعاً من التهويل والمبالغة، ويقول: أنتم أحياناً تستخدمون هذه السنن لمجرد التسلية، فأنتم تنظرون إلى الأمم الغربية الكافرة وهي ممكنة، وتنظرون إلى الأمم المسلمة وهي ضعيفة مغلوبة على أمرها، فتحاولون أن تتسلوا، أو تغرُّوا أنفسكم بالحديث عن المستقبل أو الحديث عن السنن، هكذا لأنهم أصيبوا بالعمى، فأصبح الواحد منهم غير قادر على النظر إلى الماضي، ولا إلى المستقبل، بل وليس قادراً على النظر إلى الواقع نظرة عميقة تتجاوز السطح إلى الأعماق.(22/9)
الفارق الطويل بين السبب والنتيجة
والسبب الثاني الذي يجعل كثيراً من الناس يجهلون هذه السنن، هو أن السنة أثرها بعيد، والفارق والفاصل بين السبب والنتيجة طويل قد لا يدركه الإنسان في عمره المحدود، إنما يدركه الذين ينظرون إلى مساحة واسعة، وربما امتدت المسافة بين السبب وبين النتيجة -مثلاً- بين الظلم الذي يقع وبين عقوبته، وربما امتدت المسافة إلى عمر جيل بأكمله، فربما حصد جيل ثمرة لم يكن هو الذي غرسها، وربما غرس جيل آخر شجرة، يقطف ثمرتها غيره.
مثال: الظلم يقع اليوم وتظل الجهة التي قامت بالظلم، ومارست الظلم، وتسلطت على البلاد والعباد، وظلمت الناس في أنفسهم، وفي أرزاقهم، وفي حقوقهم وفي أعراضهم، تظل هذه الجهة الظالمة لفترة ما، ممكنة في الأرض، منهمكة في قهرها، وتسلطها وطغيانها، فحينئذ يشك بعض الناس- أصحاب النظر القصير- يشكون في هذه السنن ويقولون: أين السنة الإلهية من هذا الظلم الفادح الواقع الذي لم تأت عقوبته؟ ثم تقع نتيجة هذا الظلم بعد زمان يطول أو يقصر، الله تعالى أعلم به، فهو مقدر الأقدار سبحانه، تقع نتيجة هذا الظلم -مثلاً- بعد عشرات السنين، فبعض الناس يعون ويدركون، ويقولون: هذه العقوبة نتيجة ظلم قديم يتذكرونه، أما آخرون، فإنهم يصرون على تجاهل السنة، محتجين بواقع آخر ظالمٍ لم تجر عليه السنة، فإذا قلت لهم اليوم مثلاً: إن ما حصل بهذه الجهة أو تلك سبب للظلم الذي حصل قبل عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة، قالوا: لا يا أخي، لو كان هذا كذلك، فلماذا تجد المكان الآخر فيه ظلم ومع ذلك لم تحق عليه السنة الإلهية، ولم يؤاخذه الله تعالى بظلمه؟(22/10)
مثال لجهل الناس بالفارق
فمثلاً: تسلط شاه إيران زمانا على بلاده، وسام الناس سوء العذاب، واستخدم كل ما وهبه الله تعالى وكل ما مكنه منه من القوة والبطش والإرهاب والمال والتخطيط والخبراء والأجهزة الأمنية الضخمة التي كان على رأسها جهاز السافاك المشهور، استخدمها في التسلط والقوة، والبطش والقضاء على إنسانية الناس، على أنفسهم، وعلى أرواحهم، وتدمير المعنى الحقيقي لوجود الإنسان، واستخدم من وراء ذلك الدعم الغربي الذي كان يملكه، لأنه كان يقوم بالدور المشبوه، كشرطي في المنطقة يعمل لخدمة المصالح الغربية.
وظل على هذا زماناً طويلاً، وبالمقابل أيضاً كان هذا الرجل فاسداً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فاسداً في أخلاقه، لا يعرف إلا في الليالي الحمراء الداعرة التي كان يقيمها في كل مكان، وما زالت الوثائق تحتفظ بتاريخه الأسود في مثل تلك الليالي الحمراء السوداء، ظل على هذا زماناً طويلاً، ثم حقت عليه سنة الله تعالى فسقط.
فالذين يدركون حقيقة السنن الإلهية، نظروا واعتبروا، وقالوا: لقد حقت السنة على هذا الظالم الآثم الفاجر اليوم، وتحق السنة غداً على إخوانه ونظرائه ممن فعلوا مثل فعله، وسلكوا مثل طريقه، لكن آخرين ممن يجهلون السنن الإلهية، ولا يعرفون ربط الأسباب بالنتائج، يقولون: لا، لا يمكن أن يكون هذا نتيجة انطباق سنة على هذا الظالم الآثم الباغي، بدليل أن هناك ظالمين آثمين باغين طغاة آخرين، لم تجر عليهم هذه السنة، ولا زالوا يتمتعون بمثل ما كان يتمتع به في الأمس، فيجهلون لذلك السنة، وينسون أن هؤلاء لم يأت عليهم الدور بعد، وسنة الله تعالى ماضية في الأولين، كما هي ماضية في الآخرين.
مثل آخر: سقوط الشيوعية -مثلا- لمخالفتها للسنة، ومخالفتها للشرع، ومخالفتها للفطرة، هذا السقوط يمكن أن يفسره إنسان على أنه سنة إلهية حقت على هذه الأمة الكافرة الظالمة الملحدة، لكن تجد آخر يقول لك: لا، يا أخي، لو كان ذلك كذلك، فلماذا نجد أن الغرب الآن ممكَّن، يملك القوة، ويملك البطش، ويملك الإرهاب، ويملك كل وسائل التمكين في الأرض، فلو كانت السنة حقت على الشرق الكافر الملحد، لماذا لم تحق السنة على الغرب العلماني أيضاً؟ وأقول: إن السنة التي حقت على الشرق، ستحق على الغرب، والسنة التي حقت على شاه إيران، ومن قبله من الطغاة، كـ النمرود، وفرعون، وهامان، وقارون، وأبي جهل، وأبي بن خلف، وغيرهم، سوف تحق على إخوانهم شاءوا أم أبوا، عرفوا أم جهلوا، أدركوا أم لم يدركوا، فسنة الله تعالى لا تحابي أحداً، ولا تجامل أحداً، وهي ماضية على هؤلاء كما مضت على أولئك، لكن لا يلزم أبداً أن تكون الصورة واحدة، فمثلاً سقوط الغرب، لا يلزم أن يكون بنفس الصورة التي سقط بها الشرق.
الشيوعية -مثلاً- كانت تسلك أسلوب القوة، وأسلوب الاستبداد والقهر والدكتاتورية، الحكم بالبطش والحديد والنار، وهذا يستفز مشاعر الناس، يهيجهم، ويحركهم، ويبعث فيهم التحدي والمواجهة والمقاومة، ولذلك فإن الشيوعية تهاوت بسرعة، لأن الناس كانوا مليئين بالأحقاد والضغائن والكراهية، عليها فما أن أتيحت لهم أول فرصة مما يسميه جورباتشوف بالبروسترويكا، أي الإصلاح والتغيير، أو إعادة البناء، إلا وبدأ الناس يتذمرون ويعربون عن مشاعرهم، حتى وصلت الشيوعية لا أقول وصلت، لأنها لم تصل بعد إلى الحضيض، لكنها بدأت تتهاوى، وبدأ الغرب يتخوف من النتائج الأليمة، التي سوف تتبع ذلك، فقبل أيام كنت أقرأ تقاريراً، تتوقع احتمال حصول حروب أهلية نووية مدمرة بين الجمهوريات السوفيتية، ويتكلمون عن أن أكبر خطأ في تقديرهم هم، في تقدير مخابراتهم الغربية أكبر خطأ، وقعوا فيه، هو أنهم لم يسارعوا إلى إسعاف الاقتصاد الروسي، في فترة مضت، تأخروا وتباطئوا في ذلك مما ترتب عليه وصول الجمهوريات السوفيتية إلى درجة لا يمكن تداركها أو تلافيها.
أما الغرب فلا شك أن النظام الذي يحكمه ليس نظاما استبدادياً، ولكن نظام ديمقراطي، ولذلك سوف تكون الطريقة التي ينهار بها الغرب، مختلفة -والله تعالى أعلم- عن الطريقة التي انهار بها الشرق، فإذا كان انهيار الشرق انهياراً سريعا عارماً في لحظة، فانهيار الغرب لا يمنع أن يكون بطيئا تدريجياً، قد لا يحس به الكثيرون، إلا الذين يرقبون الأحداث بدقة وبصيرة.(22/11)
القرآن الكريم والسنن الإلهية
لقد عنى القرآن الكريم بذكر هذه السنن بطرائق مختلفة، فأحياناً بذكر نصوص تتعلق بهذه السنن، كما في قوله تعالى في تأديب وتعليم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عندما أصابتهم الهزيمة في أحد: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] إذاً هذه سنة تجري عليكم كما تجري على غيركم.
ومثله قول الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:76] {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] لو أنهم أخرجوك من هذه القرية، واستفزوك أخرجوك وحاربوك وقاتلوك، لحقت عليهم كلمة الله تعالى بالعذاب، كما حقت على من كان قبلهم ممن أخرجوا رسلهم وأنبياءهم، وقاتلوهم أو قتلوهم.
ويقول الله عز وجل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} [الكهف:55] فذكر الله عز وجل أن الناس امتنعوا وتوقفوا عن الإيمان، ينتظرون أن تأتيهم سنة الأولين، ينتظرون العذاب، وإذا جاء العذاب ونزل بهم لم يكن ينفعهم إيمانهم: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:85] ويقول الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109] ويقول سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] ويقول تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:22-23] .
إذاً لو التقى الحق الصراح البواح الواضح النقي مع الكفر المدجج بالسلاح؛ لكانت سنة الله تعالى أن يولي الذين كفروا الأدبار: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الفتح:22] فأحياناً يذكر الله تعالى السنة ذكراً صريحاً مباشراً، وأحياناً يذكر الله تعالى آثار هذه السنن على الأمم السابقة، كما في قوله -وهذا كثير جداً أكتفي بضرب مثلاً أو مثلين- في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] وكما في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6] فيذكر عز وجل عقوبة الكافرين، كما يذكر نجاه المؤمنين وفلاحهم وحمايتهم بقصص من قصصهم فيقول: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84] إلى غير ذلك من الآيات.
فيربط الله تعالى تراوح الأمم بين النصر والهزيمة، والقوة والضعف والهدى والضلال، والاجتماع والفرقة، يربط ذلك كله بالسنن الإلهية التي لا تختلف ولا تتغير ولا تتبدل أبداً، وأحياناً يذكر الله هذه السنن بغرض دعوة الناس إلى النظر، والتأمل، واستخراج السنة من الأرض والتاريخ، فيقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] أي: سيروا في الأرض، انظروا مصارع الغابرين، مصارع الكافرين، فهذه آثارهم وهي بقايا، هذه بقية من منازلهم ومعالمهم، وبقايا حضارتهم تدل عليهم وعلى ما صاروا إليه، وما حدث لهم بعد ذلك.(22/12)
تطابق الواقع مع ما قرره القرآن من سنن كونية
ولا زالت سنة الله تعالى ماضية، فنحن نجد ونشاهد آثار قرى ثمود، وكيف أهلكهم الله تعالى، وبقيت معالمهم ومصانعهم عبرة حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم غشيانها وإتيانها أصحابه، إلا أن يكونوا باكين معتبرين، يعرفون ما هذه السنة التي جرت على هؤلاء فيتجنبونها.
كذلك نجد أن الله تعالى برحمته يبقي آثار بعض الكافرين والفاسقين والمعاندين يعتبر بها من بعدهم، فنحن نرى -مثلاً- آثار بعض البراكين، وبعض الزلازل، وبعض الأمور التي حصلت لأمم سابقة، ونجد آثار الفساد الذي ارتكبوه، وقد ذكر عدد من المؤلفين مدينة في إيطاليا، اسمها فيزوف، فقالوا: إن هذه المدينة أصابها بركان عظيم ضربها زلزال دمر أولها وآخرها، وبقيت الآثار التي تدل على سبب هذه العقوبة، بقيت الرسومات والصور، صور العرايا من النساء المومسات البغايا موجودة ماثلة ما مسها شيء، تقول للناس: ما أصاب هذه المدنية، إنما هو بسبب ما ارتكبوه من الفواحش والإثم والبغي والعدوان، ومخالفة أمر الله عز وجل ويقول تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] فيبين الله تعالى أو يأمر الناس، بأن يذهبوا ويتأملوا ما جرى للأمم، وما في الأرض حتى يعتبروا ويعرفوا هذه السنن، والنواميس التي تحكم الحياة بإذن ربها.(22/13)
السنن الإلهية في كتب المسلمين
ومع أن هذه السنن ظاهرة في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن كثيراً من المسلمين قد غفلوا عنها، فقلما تجد كتاباً يتكلم عنها أو درساً أو محاضرة! وقد كان للإمام ابن خلدون رحمه الله تعالى جهد في ذلك من خلال مقدمته الشهيرة كتاب بمقدمة ابن خلدون، وبعد ذلك نجد زماناً طويلاً، أنه قل من العلماء من أن كتب أو تكلم عن هذه السنن، اللهم هناك لمحات ولفتات جيدة جميلة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وفي كلام الإمام ابن القيم رحمه الله، وكذلك نجد في كتابة بعض العلماء والكتاب المعاصرين، فمثلاً هناك رسالة دكتوراة في هذا الموضوع، عنوانها: السنن الإلهية في الحياة الإنسانية للدكتور شريف الخطيب، وهناك بحث للأستاذ حسن الحميد وهو أيضاً بحث دكتوراة، وهناك كتاب اسمه أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله تعالى في الخلق للدكتور أحمد محمد كنعان وهو كتاب جيد، وهناك كتاب اسمه حول التفسير الإسلامي للتاريخ للأستاذ محمد قطب، عموماً الكتب التي تكلمت عن تفسير التاريخ، تعرضت كلها تقريباً للكلام عن السنن الإلهية.(22/14)
خصائص السنن(22/15)
التعامل مع الإنسان في الغرب وفي بلاد الإسلام
هذا كله يقع مع الأسف الشديد، بل إنني أقول: إن كثيراً من تلك الأمم، وتلك الدول الكافرة المحاربة، كثيرٌ منها تتعامل مع المسلمين أحسن مما تتعامل أنظمة إسلامية مع المسلمين أنفسهم، ولذلك في مرة من المرات التقيت ببعض المسلمين هناك، وكنت أتكلم عن قضية الإقامة بين أظهر المشركين، وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين، وأذكر الآيات والنصوص الواردة في ذلك، واستطردت فيه واستفضت، فلما انتهيت قاموا عليّ، وأحرجوني أيما إحراج، قالوا: بالله عليك انقلنا إلى أي مكان تريد في بلاد الإسلام، إذا كنا هنا نعمل برواتب ضخمة وبأعمال كبيرة، فنحن نقبل وعلى يدك أو يد أمثالك أو يد غيرك من الناس، ومن الدعاة وممن يأتوننا، فيعاتبوننا ويوبخوننا، نقبل أن نعمل ولو كنا في كنس الشوارع في بلاد الإسلام، لكن أين هذا؟ وكيف يكون هذا؟ نحن نحترق شوقاً إلى بلاد الإسلام، نتحرق شوقاً إلى الأذان يجلجل في سمائها، نتحرق شوقاً إلى المساجد والمقدسات، يقول قائلهم: كم ذا أحن إلى أهلي إلى ولدي إلى صحابي وعهد الجد واللعبِ إلى المنازل من دين ومن خلق إلى المناهل من علم ومن أدبِ إلى المساجد قد هام الفؤاد بها إلى الأذان كلحن الخلد في صببِ الله أكبر هل أحيا لأسمعها إن كان ذلك يا فوزي ويا طربيِ إني غريب! غريب الروح منفرد إني غريب! غريب الدار والنسبِ ألقى الشدائد ليلي كله سهر وما نهاري سوى ليلي بلا شهبِ أكابد السقم في جسمي وفي ولدي وفي رفيقة درب هدها خببي هذا لسان حال أكثرهم، ولكنهم لا يجدون مفراً من ذلك.
ومثلٌ آخر أقرب: دولة إسرائيل التي تحارب الإسلام والمسلمين اليوم، وهي تمثل التحدي المباشر لنا جميعاً، هذه الدولة بماذا تفتخر؟ بماذا استطاعت إسرائيل أن تكون دولة نموذجية في نظر العالم؟ لأنها أولاً دولة القوة، فهي لا تتعامل بالألاعيب والضحك على الذقون والخداع للشعب، تتعامل بالوضوح والنقاء، وتعد شعوبها فتفي بما وعدت، وعدتهم بأن تؤمنهم ففعلت، وضمنت لهم قدراً من القوة لا تملكه كثير من الدول العربية، بل أكثرها، بل كلها، وهي أيضاً دولة تفتخر بأنها دولة قد أرست دعائم الحكم الذي تسميه -ويسمونه- هم بالحكم الديمقراطي، فكل واحد من زعمائها يراعي حال الناس، يراعي أمورهم، ويسعى إلى كسب رضاهم، لأنه يدري أنهم إذا لم يرضوا عنه فإنهم لن يرشحوه، ولن ينتخبوه مرة أخرى، ولذلك كانوا مخلصين أمناء على مصالح شعوبهم.
أما حين تنتقل إلى الصورة المقابلة صورة الدول العربية والإسلامية، فماذا ترى؟ ترى أولاً تحطيم إنسانية الإنسان، ونحن لن نخاطب هؤلاء من منطلق الدين والإسلام، لأن كثيراً منهم ممن تربوا في أحضان الغرب، وهم من العلمانيين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فإذا حادثتهم وخاطبتهم من منطلق أنهم اعتدوا على الدين، وحطموه، قالوا لك: هذا مقتضى الوحدة الوطنية، وقد رأينا الوحدة الوطنية في عدد من البلاد الإسلامية، الوحدة الوطنية أن مائة وخمسين مليون مسلم في بلد عطلتهم يوم الأحد، هذه هي الوحدة الوطنية، الوحدة الوطنية أن مائة وخمسين مليون مسلم لا يقام لهم مسجد إلا ويقام بجواره كنيسة، ويقام بجواره معبد للبوذيين أو الهندوس، الوحدة الوطنية إنه إذا قُدم للمسلمين برنامج في الإذاعة أو التلفاز في يوم الأحد أو الاثنين، قُدم للنصارى في يوم الثلاثاء، وقدم للبوذيين في يوم الأربعاء.
هذه هي الوحدة الوطنية عندهم!! أقول: حين تنظر إلى البلاد الإسلامية، تجد التخلف العلمي والتقني، والابتزاز الاقتصادي، وإهدار إنسانية وكرامته، وكأن الواحد منهم ينهب نهبا بسرعة، لأنه يقول: لا أدري قد لا أُمكَّن إلى الغد، فهو يحاول أن يغتنم كل دقيقة وساعة لينهب ما استطاع، من أموال الناس وأعراضهم، وخيراتهم وكل هم أولئك الزعماء هو أن يضمنوا لأنفسهم مستقبلاً زاهراً إذا ما طردوا من كراسيهم ومناصبهم، ولذلك ينتقل المسلمون من استبداد إلى استبداد، ومن بطش إلى بطش، يفرحون بحاكم جديد، فإذا به أشر وأشدّ سوءاً من الأول وهكذا.
ومع ذلك أقول: إن هذه الأشياء لا يجوز ولا يمكن أن يحابي فيها أحد، لأن سنة الله تعالى كما حقت على الغرب، وحقت على اليهود، وحقت على النصارى، وحقت على الشيوعيين، كذلك تحق على المسلمين، فهؤلاء المسلمون المستضعفون، لم يكونوا مظلومين: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] .
من هؤلاء الساكتون؟ أفهؤلاء المسلمون أبداً تكذبني وترجمني الحوادث والظنون {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] إذاً سنة الله تعالى شاملة للجميع بدون استثناء خصائص السنة الإلهية أيضاً أنها سنن واقعية: أي أنها تتحقق من خلال تسخير الله تعالى الناس، فمثلاً الظالم حينما يعاقب، على أيدي بشر آخرين، يسلطهم الله تعالى عليه ممن هم أقوى منه يداً، وأشد منه بطشاً، فينتقم الله تعالى من الظالم بظالم مثله، وكذلك الكفار يعاقبهم الله تعالى بالمؤمنين كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] يعذبهم الله تعالى بالمؤمنين: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] .
إذاً هذه السنن تتحقق من خلال عمل الناس وسعيهم، فهي إذاً حادٍ للعمل، وداعٍ للفاعلية والإيجابية والمشاركة، وليست مجالاً للقعود، لأن بعض الناس يقول: ما دام الأمر سنناً إلهية، فلماذا نعمل؟ لماذا لا نترك السنن الإلهية تعمل؟ أقول: لا! السنن الإلهية تعمل من خلال عمل البشر أنفسهم، يسخر الله تعالى الناس لتحقيق هذه السنن والسعي في طريقها أو اتجاهها الصحيح.
إذاً ليس في إقرار السنن دعوة للمظلوم أن يرضى بالظلم، بأن يقول هذه سنة، لا! ولا دعوة بأن يرضى بمصادرة حرياته وحقوقه أو تقبيل اليد التي تغتاله، لا، إنما هي دعوة إلى أن يقاوم هذا الظلم، وأن يعرف أنه ما حاق عليه الظلم إلا بسببه هو، وقد قال الله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] إذاً السنن الإلهية سنن فعالة، من خلال عمل الناس أنفسهم، وهذا في الإسلام ظاهر كما أسلفت، قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:14] ويقول عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة:52] عذاب سماوي {أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] إذاً قد يكون العذاب على أيدي البشر أنفسهم.
أما الشعوب الأخرى، فكثيراً ما تجهل هذه السنن، أو يتجاهلونها ويعتقدون أن هناك شيئاً سماوياً ينزل عليهم دون أن يكون لهم فيه جهد يحسب.(22/16)
أمثلة على ثبات السنن الإلهية
مثال آخر في واقع الأمم الغربية: وهي أمم كافرة -كما ذكرنا- ولكنها سعت إلى إرساء دعائم العدالة بين أفرادها، وهذا أمر ليس بدعاً من القول، يقول لي بعض الناس: كيف تتكلمون عن الغرب؟ وكيف تثنون على بعض الجوانب المشرقة فيه؟ فأقول: يا سبحان الله! الأمة التي ائتمنها الله تعالى، وجعلها قيمة، وأمرها بالعدل تمتنع عن أن تشهد لقوم بحق موجود فيهم، أين نحن من قول عمرو بن العاص رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم: {لما ذكر المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو بن العاص انظر ماذا تقول؟! قال: إني لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمرو بن العاص: أما لئن قلت ذاك إن فيهم لأربع خصال} لاحظ! عمرو بن العاص صحابي جليل يتكلم في تقويم الواقع الاجتماعي والسياسي للروم، ولا شك أن الغرب هم امتداد للأمم الرومانية، فـ عمرو بن العاص يقيم الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للروم أو الغرب فيقول: [[إن فيهم أربع خصال هم أحلم الناس عن الفتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم]] أي أن من مزاياهم التضامن التكافل الاجتماعي، وعندهم محاولة التفكير واستخدام العقول، وعندهم سرعة الإفاقة بعد المصيبة، وخذ مثالاً ما ذكرناه قبل قليل، لما تحطم الأتوبيس الفضائي، ما قالوا: انتهينا، ونلغي المحاولات، بعد أسابيع كرروا المحاولة ونجحت، ثم قال عمرو رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[وخامسة حسنة جميلة]] أفردها عمرو بن العاص لأهميتها في نظره، وفي نظر كل إنسان، وقال: [[وأمنعهم من ظلم الملوك]] إذاً هم فيهم قوة، وامتناع، وليس من السهل السيطرة عليهم، وليس من السهل ابتزازهم، وليس من السهل أن تقوم وتنشأ وتستقر عندهم النظم الاستبدادية المتسلطة التي تحكم الناس بالقهر والقسر وقوة الحديد والنار.
فنحن لا يمكن أن نقول في الغرب الآن أكثر مما قاله عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في أمم الرومان، الأمم الغربية الآن تقيم أنظمة يسمونها ديمقراطية، ونحن نقول: هذه الأنظمة الديمقراطية هي أنظمة ديمقراطية في الظاهر، ولكنها في الحقيقة ديكتاتورية، كيف؟ صحيح أنهم لا يفرضون على الناس شيء بالقوة، ولكنهم من خلال وسائل الإعلام ذات التأثير البليغ على كل مواطن عندهم؛ يوصلون إلى عقول الناس ما يريدون.
فإذا أرادوا من الناس التصويت لصالح أمر من الأمور سلطوا وسائل الإعلام على التصويت لهذا الأمر، وفي النهاية يحصل الأمر الذي يريدونه برضا الناس وطواعيتهم وقناعتهم وليس بالضغط أو الإكراه، ولكن هذا كله لا ينفي صبغة الديمقراطية عنهم، ولذلك تجد أن الأمم الغربية أمماً مستقرة، ليس فيها قلاقل وزلازل وزعازع واضطرابات أمنية، وبالتالي أصبحت مكاناً للاستثمار الاقتصادي، بل تؤوي حتى المضطهدين -مع الأسف الشديد- من بلاد الإسلام، وقد رأيت بعيني المطرودين من ظلم وبطش الأنظمة المستبدة في العالم الإسلامي، والله رأيتهم في بلاد الغرب، وأعدادهم أحياناً تصل إلى عشرات الألوف، بل مئات الألوف، ربما أحياناً تقول: أمم بأكملها، ودول بأكملها لم يبق منها في البلاد إلا من يجيد فن النفاق، أما الذي لا يستطيع أن يعيش في جو النفاق الموبوء، فإنه اضطر إلى أن يهرب بدينه.(22/17)
الثبات من خصائص السنن الإلهية
فهي ثابتة ومطردة إلا أن يشاء الله، لا يعارض ذلك وجود الخوارق والمعجزات والكرامات، فإن الخوارق والمعجزات والكرامات هي نفسها سنة إلهية أخرى، فمثلاً قبل قليل قرأت عليكم قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:23] .
إذاً من سنة الله تعالى أنْه إذا التقى المسلمون مع الكافرين، وبذل المسلمون وسعهم وطاقتهم، ومع ذلك بقى هناك نقص، فإن الله تعالى يسدد نقصهم برحمة من عنده، ويعينهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فيسلط على عدوهم الريح، أو الخسف، أو الزلزال، أو الطوفان، أو الفيضان، أو الغرق، أو المرض، أو أية آفة من الآفات، حتى تضعف قوته، وطالما أثر ما يسمونه بالكوارث الطبيعية المفاجئة في نتائج الحروب.
فالجليد -مثلاً- قد يغير نتيجة معركة، والخيانات في أوساط الكفار قد تغير نتائج المعركة، وهناك أمور كثيرة جداً ليس هذا مجال الحديث عنها، المهم أنه حتى المعجزات والخوارق والكرامات، أو ما يمكن أن يعبر عنها بالتعبير الشرعي: وهو الآيات، حتى هذه لها سنة إلهية بإذن ربها وهي مربوطة بها، فالسنة ثابتة، ويقابلها سنة أخرى وأحياناً تتقدم عليها.
الخاصية الثانية من خصائص السنن الإلهية: الشمول؛ أي أن هذه السنن شاملة لجميع الأمم بدون استثناء، فكوننا نسمى المسلمين، أو نعيش في رقعة إسلامية، أو لنا تاريخ معين أو انتماء معين، لا يغير من واقع السنن الإلهية شيئا قط، كلا يقول الله عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فليست القضية مجرد تمنيات، أو أحلام، أو أقوال، أو ادعاءات، بل القضية قضية عمل وجزاء، من يعمل سوءاً يجز به، في الدنيا ويجز به في الآخرة، أما جزاء الدنيا فإن الإنسان إذا جد واجتهد حصل على النتيجة التي يعملها، وأما في الآخرة فكما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19] .
بل حتى الرسل! يقول الله تعالى لنبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66] فحتى الرسل تحق عليهم هذه السنة.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الحسبة: " إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة أو يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، أو مؤمنة، فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك لأن العدل هو نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها عند الله تعالى من خلاق"، وهذا الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله كلام مشرق نظيف يدل عليه التاريخ، كما يدل عليه الواقع.
فمثلاً: اليوم نحن نرى الأمم الغربية وهي أمم كافرة بجميع المقاييس، -وهذا أمر معروف- لكن هذه الأمم الغربية سعت فحصلت ما سعت إليه.
فمثلاً: سعت إلى التقدم التكنولوجي والصناعي، فاستطاعت أن تصل من ذلك إلى شيء لا يزال المسلمون عاجزين عن فهم بعضه، فضلاً عن مجاراته أو الوصول إليه في كثير من الأحوال، وهذا بكد يمينهم، فإن الله تعالى جعل في المادة أيضاً نواميس من استطاع أن يكتشفها سخر الله له هذا الكون كما هو معروف: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] حتى وصلوا إلى مسألة تفجير الذرة، وإلى أشياء وأمور، واكتشافات ما كان الناس يتوقعونها خلال قرون طويلة، فضلاً عن عشرات السنين، ومن عرف -مثلاً- الاكتشافات العلمية، أو الطبية، أو الصناعية؛ فإنه يصاب بذهول عجيب، فهذا سبب وصلوا من خلاله إلى نتيجة.(22/18)
خصائص المؤمنين الصادقين
وهذا لا يعني أنني أقول: وليس للمسلمين خاصية، فالمسلمون الصادقون لهم خصائص، وليسوا هم المسلمين الذين ورثوا الإسلام عن أب وجد، لا! فهذه مُسوخ، كما قال أحدهم: أتقول المسلمون انهزموا أمة المختار في حرز الصمد إنما تلك مُسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجد فإذا ذلت لباغٍ فكما يعبث الفأر بتمثال الأسد المسلمون الصادقون، الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، هؤلاء خصهم الله تعالى بخصائص وميزات في ضمن هذه السنن.(22/19)
عصمتهم إذا اجتمعوا
أيضاً من الخصائص التي خص الله وميز بها المؤمنين: أنهم: لا ينساقون وراء الضلال أجمعهم، فقد ينساق بعضهم، وقد يضل بعضهم، وقد ينحرف بعضهم، لكنهم لا يجتمعون على ضلالة قط، لأن اجتماعهم معصوم، فاجتماعهم حق لا شك فيه، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فدل على أنه إن لم تتنازع الأمة، فعدم تنازعها دليل على أنها أصابت الحق، وكذلك أمر الله تعالى المؤمنين باتباع سبيل المؤمنين، وحذرهم من ضد ذلك فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] .
إذاً هذه الأمة اجتماعها معصوم عن أن تجتمع على ضلالة أو فساد.(22/20)
تمكين الرضا وطمأنينة القلب والبركة
الأمر الثالث: أن الله تعالى إذا مكن هذه الأمة في الأرض، فان تمكينه لها تمكين رضا أما تمكينه الكافرين فهو تمكين إملاء، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] .
الأمر الرابع: أن الله تعالى يختص المؤمنين إذا أعطاهم ومكنهم بخاصيتين مهمتين: الأولى: خاصية البركة: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] .
الثانية: خاصية الطمأنينة في قلوبهم وأرواحهم، هذا مع خاصية الجزاء في الدار الآخرة.
أيها الأحبة، يقول بعض الناس في كثير من الأحيان -وهذه كلمة دارجة- يقول: اعمل ولا تنتظر النتيجة، وهذا دليل على أننا نجهل هذه السنن، أو نعتقد أننا نحن المسلمين لسنا بمنجاة، أو أننا بمنجاة منها ولسنا واقعين تحت طائلتها، وهذا في الواقع يوحي بفصل النتيجة عن السبب، وكثيراً ما يعزل المسلم نفسه عن الآخرين، فتجد المسلم يتبرأ من الأخطاء أو يعجز عن معالجة الأخطاء الموجودة في نفسه، ولكننا كثيراً ما نكون شجعاناً في الحكم على الآخرين، جبناء في الحكم على أنفسنا، كثيراً ما نزكي واقعنا العقائدي والسلوكي، ونتهم واقع الآخرين.
مثلاً تقع مصيبة في أي بلد، فتجدنا نسارع إلى أن نقول: هذا بما كسبت أيديهم، هذا بذنوبهم لكننا ننسى أننا نحن الآخرين، معرضون للمصائب والمشكلات بسبب ما كسبت أيدينا، وبسبب ذنوبنا، وأن المصائب الكبرى الموجودة هنا وهناك هي موجودة عندنا أيضاً، كما قيل: إن بني عمك فيهم رماح.
وفي كل واد بنو سعد! فالكوارث الموجودة في بلاد الإسلام موجودة في كل بلد، ولا يجوز بحال من الأحوال أن نزكي أنفسنا، أو نزكي واقعنا، فتجد الإنسان يقول: الحمد لله، نحن بخير، ونحن ونحن، فإذا قلت: يا أخي! ألا ترى المنكرات؟ ألا ترى بيوت الربا التي تحارب الله ورسوله؟! ألا ترى أجهزة الإعلام وكيف تمسح عقول الناس؟! ألا ترى مصادرة حرية الدعاة إلى الله تعالى وطلبة العلم؟! ألا ترى؟ ألا ترى؟ قال لك: يا أخي نعم، ولكننا بحمد الله نمتلك العقيدة الصحيحة، وعندنا التوحيد، وعندنا، وعندنا…! وينسى أن كثيراً من الناس انسلخت قلوبهم حتى عن العقيدة الصحيحة، فأصبح عندهم عبادة للمادة، وعبادة للدرهم والدينار، وتوكل على الأسباب، وغفلة عن الله عز وجل، وأصبح عند كثير منهم تضييع لحدود الله تعالى، وجهل وتفريط وانحراف ونحن ما زلنا نتغنى بأمجاد سابقة، وأمور كان أجدادنا يتكلمون عنها في الماضي، وننسى الانحراف الموجود عندنا الآن، ونزين واقعنا ببعض الطلاء الحسن اللَّماع، الذي يعفينا من تغيير هذا الواقع والمجاهدة في إصلاحه نحو الأفضل ونحو الأحسن.(22/21)
لا يفنيهم عدوهم
من هذه المميزات: أن الله تعالى إذا سلط عليهم عدوهم، فليس تسليط إفناء تامٍ واستئصالٍ عام، كلا! فإن الأمة الإسلامية تمرض ولكنها لا تموت، خذ هذه القاعدة: الأمة الإسلامية تمرض، ولكنها لا تموت بإذن الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {سأل ربه ثلاثاً منها ألا يهلك أمته بسنة بعامة فأعطاه الله تعالى ذلك، ومنها ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم} فلا يسلط الله تعالى على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي ويهلك بعضاً.(22/22)
النموذج الأول من السنن الإلهية: سنة التغيير
وأذكرها على شكل آيات لأن هذا أجود وأقوى، أولاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] .
إذاً التغيير من الأمن إلى الخوف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الوحدة إلى الشتات، ومن القوة إلى الضعف، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن حال إلى حاله، هو بإذن الله تعالى، بسبب سنة حقت على هؤلاء القوم، فهم غيرَّوا فغيرَّ الله تعالى ما بهم، كما قال الشاعر: لو أَنصفوا أُنصفوا؛ لكن بغوا فبغى عليهم الدهر بالأرزاء والنوب(22/23)
القصص القرآنية وسنة التغيير
وقد ذكر الله تعالى عدداً من القصص منها قصة سبأ -مثلاً- وذكر ما كانوا فيه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17] إذاً حقت عليهم سنة من سنن الله تعالى كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قصة الثلاثة الأبرص والأقرع والأعمى، وكيف تغيرت أحوالهم، من حسن إلى قبيح، ومن قبيح إلى حسن بسبب أعمالهم وهذه القصة باختصار وهي في الصحيحين: {أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن ثلاثة من بني إسرائيل أو أراد الله تعالى كما في الرواية الأخرى في الصحيح أن يبتليهم، فجاء مَلَكٌ في صورة إنسان إلى الرجل الأول، وقال له: أي شيء أحب إليك؟ وكان أقرع، فقال: أن يذهب عني هذا الذي قدرني الناس به ويعود إليَّ شعر حسن، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر، وأتى إلى الأبرص، وقال: يذهب عني هذا الذي قذرني الناس به، ويعود لي جلد حسن، وسأله أي المال احب إليك؟ قال: الإبل أو البقر، والثالث أعمى قال: أن يرد الله عليَّ بصري قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم -فذهب عنهم ما فيهم من الآفات وأعطاهم الله تعالى من المال ما أعطاهم، إذاً هذا التغيير حكمة لله تعالى- وبعد ذلك جاء هذا الملك في نفس الصورة إلى الأول، وذكَّره بحاله، وقال: أريد شيئا أتبلغ به، قال: إنما ورثت هذا كابراً عن كابر، والحقوق كثيرة، قال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت! وجاء للثاني فرد عليه نفس الأول كذلك، وجاء للأعمى فقال: نعم! قد كنت أعمى فرد الله عليَّ بصري، وقد كنت فقيراً فأغناني الله، فخذ ما شئت ودع ما شئت، والله لا أرزؤك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل، فقال: أمسك عليك مالك، فإنما أراد الله تعالى أن يبتليكم، وقد رضي الله تعالى عنك، وسخط على صاحبيك} .(22/24)
جرائم خطيرة مؤذنة بفساد الأحوال
إذاً: هذه أيضاً من السنن الإلهية، فالتغيير -مثلاً- من العدل إلى الظلم، سواء ظلم النفس أم ظلم الرعية، حتى أهل الذمة ممن لا يجوز ظلمهم، فكيف بالمسلمين الذين قد يُظلمون وتضرب أبشارهم وجلودهم؟! وتؤخذ أموالهم أو يمنعون من الجهر بكلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحال بينهم وبينها؟! هذا الظلم هو من التغيير الذي يعاقب الله تبارك وتعالى عليه، ولهذا قال الإمام أحمد في مسنده: {عن أبي قذم قال: [[وجد رجل في زمن ابن أبي زياد صرة من حب -من البُر- أمثال النوى -أي كبيرة جداً- مكتوب فيها، هذا نَبت في زمن كان يُعمل فيه بالعدل} .
إذاً: حتى ما يجده الناس من النقص هو بسبب الظلم.
كذلك التغيير من الإيمان إلى الكفر، وواقع الدولة الإسلامية كله شاهد على ذلك، وقد ذكر الله تعالى في كتابه قصة هذه القرية: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] (فكفرت) وهذا هو الشاهد {بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] .
والاتجاه المعاكس -أيها الإخوة- فالتغيير من الخير والسعة والسعادة والغنى والقوة إلى ضد ذلك هو بسبب أعمال الناس، كذلك العكس التغيير من الضعف إلى القوة، ومن الهزيمة إلى النصر هو بتوفيق الله تعالى بسبب عمل الناس.(22/25)
كيف يتم التغيير؟
يبدأ الاتجاه من النفس، وأول ما يبدأ التغيير نحو الأحسن من قناعتك أنت بفساد الحال، ولهذا يتساءل الكثيرون: لماذا الكلام عن فساد الواقع؟ فنقول: لأنه لا يمكن إصلاح الواقع- أي واقع كان- إلا بعد الاقتناع بأن الواقع فيه جوانب من الفساد لابد من إصلاحها، فأول خطوة: هي الاقتناع بفساد الحال.
وثاني خطوة: هي الاقتناع بإمكانية التغيير، أن يمكن تغيير هذا الواقع نحو الأحسن.
وثالث خطوة: هي القناعة بإمكانية أن تكون أنت، شخصياً، شريكاً في هذا التغيير، وليس غيرك، لا نريد إنساناً يقول: أنا لا حيلة لي، أو لا أستطيع، لا، نقول حاول جرب.
ورابع خطوة: هي أن تقتنع بأن الإصلاح لا يمكن أن يتم إلا وفق المنهج الشرعي.
وخامساً وأخيراً: أن تبدأ بالإصلاح ولو بخطوة واحدة، بإصلاح نفسك أو أهل بيتك أو من حولك.(22/26)
المعيشة الضنك لمن أعرض عن الله
السنة الثانية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] المعيشة الضنك هي الفساد في البر والبحر، كما قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] الفساد في البر، كقلة الأمطار -مثلاً- وجدب الأرض والقحط الذي يصيب الناس والزروع والثمار والدواب وغيرها، ولذلك تجد أن الناس في كثير من الأحيان يستسقون فلا يسقون، ويستمطرون فلا يمطرون، ويعودون إلى أنفسهم وربما شكك بعضهم في أهمية الاستسقاء، أو سؤال الله تعالى، ونقول: هذه سنة من سنن الله تعالى، لأن توقف الأمطار في كثير من الأحيان له سبب، فإذا أزال الناس الأسباب التي بها حرموا الغيث بإذن الله تعالى سقوا، وقد كان العلماء السابقون إذا طُلب منهم أن يذهبوا للاستسقاء يطلبون من الناس إصلاح الأوضاع، بدءاً من الحاكم ومروراً بكل أفراد المجتمع، ولعلكم تعرفون قصة الإمام المنذر بن سعيد البلوطي رحمه الله، وهو عالم من علماء الأندلس، لما أرسل إليه الحاكم يطلب منه أن يخرج إلى صلاة الاستسقاء، قال للذي جاءه، (للرسول) اذهب فانظر ماذا يصنع الحاكم، هل هو منكفئ على شرب الخمور، وعلى سماع غناء المغنيات، وعلى اللعب بالأحجار وغيرها وعلى الفساد؟ فلا داعي أن نستسقى، أما إذا كان بخلاف ذلك فتعال وأخبرني، فلما ذهب الرسول إلى الحاكم وجد أنه ساجد يبكي، يدعو الله، وقد بلل لحيته بالدموع، وهو يقول: يا رب! هاأنا عبدك منطرح بين يديك، لماذا تؤاخذ العباد كلهم بسبب جرمي أنا؟ فهذا أكبر شخص يشعر أنه هو المخطئ الأكبر والمسئول الأول، وأنه ربما عوقب الناس بسببه، فرجع وقال للشيخ المنذر بن سعيد: وجدت الحاكم يفعل كذا وكذا وكذا، فقام المنذر بن سعيد لتوه وقال: يا غلام، احمل الممطرة، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء.(22/27)
الفساد في البحر
أما الفساد في البحر، فعلى سبيل المثال: التلوث، والزلازل في البحار وما تسببه من فيضانات، والفيضانات نفسها، وموت الحيوانات، ولعل أقرب مثال يمكن أن نلفت إليه الأنظار بقعة الزيت العائمة التي تكلم عنها الإعلام كثيراً، وربما بالغ الإعلام الغربي في تهويلها والكلام عن آثارها على الحيوانات، وعلى صعوبة الاستفادة من ماء البحار في الشرب وغيره، هذا نموذج أيضاً من الفساد في البحر، هذا وذاك فساد دنيوي.(22/28)
الفساد الديني
أما الفساد الديني في البر والبحر -كما فسره بعض العلماء- فحدث ولا حرج، فأما الفساد الديني في البر فألوان المعاصي والموبقات التي ترتكب، وأما الفساد في البحر فحدث أيضاً ولا حرج عن العرى، وعن الأماكن التي تقام في البحار والقصور الفارهة الفخمة القائمة على الفساد وعلى المعصية، وعلى مخالفة أمر الله عز وجل، وعلى الخلوة بالمنكرات، وعلى الظلم، وعلى الكفر والإلحاد، ولعله سبق في هذا المكان الكلام عن قصر الرئيس السوفيتي، ووصفه وما فيه من أعاجيب الصنعة التي هي من أموال الكادحين، ومن عَرَقِ العمال المساكين.(22/29)
إذا لم تقم الحدود الشرعية تحولت إلى عقوبات كونية
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] هذا كله جزء فقط من المعيشة الضنك، التي توعد الله تبارك وتعالى بها من أعرضوا عن ذكر الله عز وجل، ولعل من طريف ما يمكن أن يقال فيما يتعلق بالمعيشة الضنك: أن الله تعالى أمرنا نحن المسلمين أن نقيم الحدود على أصحاب المعاصي، فإذا تخلينا عن إقامة الحدود فإن هذه العقوبة الشرعية التي كان من المفروض أن نقوم بها نحن، تتحول بإذن الله تعالى إلى عقوبة كونية عامة، وإذا كان الحد الشرعي إنما يتناول العاصي فقط، فإن العقوبة الكونية العامة قد تشمل المباشر للجريمة وغير المباشر، ولهذا جاء في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كلم في المخزومية التي كانت تسرق، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} وحاشاها رضي الله عنها من ذلك، لكن هذا مثال في العدالة، حتى على بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس في المجتمع الإسلامي من يجري في عروقه دم مقدس، فهو فوق النظام والعدالة أو -كما يقال- فوق القانون، إنما يخضع الجميع لشريعة الله عز وجل، الكبير والصغير أمام شريعة الله تعالى سواء، وقد جاء عمر رضي الله عنه بـ ابن عمرو بن العاص، وطلب من القبطي الأجنبي البعيد بل والكافر أن يأخذ الدرة ويضعها على رأسه ويضربه ويقول: اضرب ابن الأكرمين، خذ حقك، انتصر من ابن الأكرمين، وفي بلاط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي اشتهر عنه قوله: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً]] .
إذاً: عقوبة الحد -مثلاً- على السارق بالقطع، أو عقوبة رجم الزاني المحصن، أو عقوبة جلد غير المحصن، أو أي حد شرعي أمر الله تعالى به، إذا فعله الناس أمنوا واطمأنوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأرغد عليهم الله تعالى بالعيش، فإذا قصروا ولم يقوموا بالحدود، فإن هذه العقوبة الشرعية تتحول إلى عقوبة كونية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {إنما أهلك الذين من قبلكم} أهلكوا لماذا؟ لأنهم عطلوا الحدود؛ لم يقيموا الحدود الشرعية، فنزلت عليهم العقوبات الكونية القدرية التي لا يدلهم في دفعها، وهي عقوبات عامة تشمل الجميع، ثم يبعثون على نياتهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.(22/30)
كيف نجت الأمم الغربية من السنن الكونية
حين نتكلم عن المعيشة الضنك والعقوبات الإلهية، ونضرب لكم مثلاً بمرض الإيدز كما قلت قبل قليل، يبرز سؤال يطرحه كثير من الناس ويقولون: كيف نجت الحضارة الغربية القائمة اليوم من طائلة السنة الكونية؟ وأقول: إن الحضارة الغربية حضارة منحرفة في عقيدتها، قد كفرت بالله تعالى وتنكرت له، فهي منحرفة في تصورها عن الإنسان وقيمة الإنسان، منحرفة في تصورها عن الحياة وهدفها وسر وجودها، منحرفة في سلوكها، وفي نواحي الحياة كلها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والفنية، فهي انحراف علمي وعملي شامل لكل شيء، إنها حضارة مشركة كافرة، والإنسان فيها جعل من نفسه إلهاً من دون الله عز وجل، وجعل المال إلهاً، من دون الله، وجعل الهوى إلهاً يعبد من دون الله، وجعل المادة إلها وجعل الآلة إلهاً، وجعل الإنتاج إلهاً، بل جعل الجنس إلهاً، فقد كفروا بالله تعالى وعبدوا كل شيء، ولهذا من كفر بالله عبد غير الله، فالإنسان لا بد له من عبودية قال تعالى: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] فإذا ترك الإنسان عبادة الله تعالى، سلط الله عليه أن يعبد غير الله، حتى قد يعبد الإنسان نفسه، وقد يعبد الجنس، وقد يعبد الحيوان، كل ذلك منهم هروب من عبادة الله تعالى وطاعته، فلا بد أن تحل عليهم عقوبة الله تعالى، ولا بد أن تنتفض وتنتصر الفطرة الحقة التي فطر الله الناس عليها، ولا بد أن يؤدي الغرب ضريبة انحرافه العميق البعيد، وسوف تكون بالتأكيد هذه الضريبة ضريبة فادحة قاصمة مدمرة! وإذا كان الإنسان الغربي -مثلاً- قد أدى جزءاً من هذه الضريبة من أعصابه وبدنه، من عافيته وصحته، من سعادته وطمأنينته وسرور قلبه، من مواهبه وخصائصه وعقله، ومن دنياه وآخرته، إذا كان أداها نقصاً في المال، ونقصاً في النسل يهدد بالانقراض، ونقصاً في الاهتمامات والطموحات، فإنه بالتأكيد سوف يؤديها على مستوى الحضارة كلها انهياراً متسارعاً لا يقف في طريقه شيء.
ولكن هذا الانهيار لا يجب أن يكون بالضرورة كانهيار الأنظمة الشرقية في لحظة واحدة.
إننا نجد أن أجداد هؤلاء ومن ورثوا عنهم الحضارة من اليونان والرومان، مروا بالتجربة نفسها.
فمثلاً كانت العاهرات والفاجرات في حضارة اليونان تتبوءان مكانة عالية رفيعة، وقد وصل حب الجمال عندهم إلى درجة كبيرة، حتى جعل في نفوسهم اضطراباً واضطراماً وشهوة لا تتوقف عند حد، فصاروا مثل الذي يشرب من البحر لا يمكن أن يروى أبداً، حتى صنعوا التماثيل العارية يتفننون في صنعها، وينظرون إليها ويتلذذون بها.
ثم تبدلت مقاييس الأخلاق عندهم، فصاروا لا يرون في الفواحش غضاضة يلام المرء عليها أو يعاب بها، بل إنهم حرفوا دينهم وغيروه وبدلوه حتى يتوافق مع هذا الانحراف الخطير الذي بلوا وافتتنوا به، ثم ظهرت الغريزة البهيمية عندهم بانتشار سوءة قوم لوط انتشاراً كاد يأتي على الأخضر واليابس، ورحبت بذلك أديانهم وأخلاقهم أيضاً فحرفوا الأخلاق والأديان حتى تتوافق مع هذا.
وهذا كله نجد اليوم حرفاً بحرف يقع في بلاد الغرب، فقد وجدت عندهم أنظمة وقوانين تبيح كل ألوان الفساد الجنسي والإباحة الجنسية، ثم سقطت دولهم وتهاوت حضارتهم.
وبعد هذا فالتاريخ اليوم شاهد بأن اليونان لم يكن لهم من المجد والرقي نصيب بعد ذلك أبداً إلى يوم الناس هذا، ثم جاءت الحضارة الرومانية، وكانت تهزأ بالدين في المسرح على حين تمارسه في المعبد، ففي الوقت الذي تعبد الله تعالى في معابدها فيما تزعم وتدعي، كانت تقيم التمثيليات والمسرحيات التي تهزأ بالدين وتهزأ بالله تعالى والرسل والأنبياء، ومع الأسف هذا هو الأمر يمارس اليوم في طول بلاد الإسلام وعرضها، سواء من خلال المسرحيات والتمثيليات التي جُلبت من بلاد الكفر، أم التي مارسها وقام بها أناس كانوا مسلمين يوماً من الأيام، ولكنهم انسلخوا عن هذا الدين وصاروا يهزءون ويسخرون به وبأهله.
المهم الحضارة الرومانية كانت تهزأ بالدين في المسرح في حين أنها تمارسه في المعبد، وقد وصلت من غلوها في القوة وتسلطها إلى شيء كبير، واستغلت الأمم كلها لمصلحة وطنها القومي فقط، وضخمت اللذات الحسية وسعت وراءها، ثم صار ما صار من انهيار هذه الأمم.
الأمة الغربية والحضارة الغربية اليوم، هي -أيضاً- آيلة إلى الزوال والفناء إن عاجلاً أو أجلاً، ومعالم الزوال والفناء بدأت تبرز ملامحها عندهم، ويكفي أن أقول لكم: إنه وقع في يدي أمس كتاب اسمه المسلمون قادمون، ألفه روائي بريطاني اسمه انطوني برجس، وبرجس هذا يتكلم في هذا الكتاب عن الخوف من الإسلام، من خلال مسرحية يصور فيها الإسلام وقد اكتسح بلاد الغرب وبريطانيا وغيرها، وطبعاً لا يصور الإسلام الحق، لكنه ويصور الإسلام الموجود اليوم، ويصور الانحراف الموجود عند المسلمين اليوم، وقد امتد إلى بلاد الغرب، وانتصر المسلمون واكتسحوا ذلك العالم.
إذاً: الخوف من الإسلام لم يعد هاجساً في التقارير السرية الأمنية التي تتناقلها أجهزة الاستخبارات الغربية، بل تعدى ذلك إلى أن أصبح مادة يتناولها الأدباء والشعراء والكتاب والروائيون وغيرهم، فهم يدركون فعلاً أن حضارتهم إلى زوال وإلى فناء، وأن الإسلام هو البديل، ونحن نقول هذا سيكون بإذن الله تعالى، وعندنا من الأدلة على ذلك الشرعية، والواقعية، والتاريخية الشيء الكثير.(22/31)
قلة البركة
من فساد البر، قلة البركة وإذا وجد المطر، ولم توجد البركة، فلا نفع فيه حينئذ، وقد يستفيد منه أفراد معدودون يختزلونه لأنفسهم، ويدخرونه، أو يحوطونه ويمنعون الناس من الانتفاع به، أو رعيه، أو الاستفادة منه بأي وجه من الوجوه، فيوجد ولكن لا توجد البركة في الانتفاع به والاستفادة منه، فكأنه لم يوجد حينئذ.
ومن صوره: قلة الربح في التجارة، وقلة الريع في الزراعة، وقلة الدر والنسل في الحيوانات، وكثرة الأمراض والأوبئة، وكثرة الحرائق إلى غير ذلك، فهذا كله من فساد البر، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] والمصيبة أننا في كثير من الأحيان قد نعزوا الأمر إلى سببه المباشر، فنقول: هذا بسبب التماس كهربائي، أو بسبب سوء الطريق، نذكر السبب المباشر وننسى السبب الذي هو وراء الأسباب كلها، وهو أن هذا جزء من الفساد الذي ظهر بما كسبت أيدي الناس، ولعل من حكمة الله تعالى أن الله تعالى قد يسلط بعض هذه الأمور على أماكن الفساد، حتى تكون عبرة للمعتبرين.(22/32)
اختلال الأمن وقلة المنافع
من الفساد في البر اختلال الأمن، وقلة المنافع، ومحق البركات، والخذلان في كل ما يتوجه إليه الإنسان.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده خذ على سبيل المثال: ما يتكلم عنه الإعلام الآن، وهو مرض الإيدز، قبل خمسمائة سنة، كان هناك مرض الزهري الذي يسميه الناس عندنا وفي أماكن أخرى يسمونه بمرض الإفرنج، لأن الناس هنا لم يعرفوا هذا المرض إلا من خلال الإفرنج الذين قدموا إلى البلاد، وكانوا مصابين بمرض الزهري: وهو مرض جنس بسبب العلاقات الجنسية المحرمة، ولهذا كان الناس هنا يسمونه الإفرنج، هذا المرض نشره ملك فرنسا الذي يسمى شارل الثامن، لما غزا إيطاليا وكان معه جيش ضخم وجعل في هذا الجيش خمسة آلاف أو قريباً من هذا العدد من البغايا المومسات من أجل الفساد والإفساد، فانتقل بفساده إلى أوروبا ونقل لها هذا المرض الخبيث، وهو مرض الزهري، ثم التقى بطائش آخر مثله، وهو البابا إسكندر السادس، ففعلوا معه الأفاعيل من الجرائم والموبقات، وكان ذلك كله قبل أن يكتشف البنسلين، الذي هو -بإذن الله تعالى- يقتل جرثومة هذا المرض.
بعد ذلك نجد أن الله تعالى سلط على أصحاب المعاصي وعلى أصحاب الشذوذ، وعلى أصحاب المخدرات مرض الإيدز، الذي هو مرض فقدان المناعة المكتسب -كما يسمى- والعدد الفعلي لحالات الإصابة بهذا المرض تقدر بمليون ونصف مليون، ثلثهم تقريباً من الأطفال، وتذكر بعض المعلومات أن ما بين تسعة إلى أحد عشر مليوناً مصابون بالفيروس الذي يسبب مرض الإيدز، بل تقول بعض الدراسات: إنه يتوقع -والعلم عند الله تعالى- أنه بحلول عام ألفين سوف يدخل هذا الفيروس أجسام أربعين مليون شخص، وهذه عقوبة إلهية عاجلة لمن خالفوا أمر الله تعالى وارتكبوا نهيه، وهو نموذج من الفساد في البر.(22/33)
سنة المداولة
ومن السنن أيضاً: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] سنة المداولة مع أن العاقبة للتقوى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] فكل هيمنة للشرك والكفر تتلوها بإذن الله تعالى جولة ظافرة للإسلام وللمتقين، ولهذا قال الله تعالى في نفس الآية: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] .
إذاً، الكافرين، صار لهم دولة ونصر في تلك المعركة، ولكن هذا لا يعني أن لهم استمراراً، كلا! بل إن الله تعالى أعطاهم ما أعطاهم حتى يمحص المؤمنين ويجعل العاقبة لهم، ويمحق الكافرين ويقضي عليهم ويزيلهم ويبيدهم، فأشار إلى أن العاقبة هي محق الكافرين، ويكفي أن تعلم أنه كما أن أول من كان في الدنيا وهو آدم عليه السلام وكان على الدين الحق وعلى الحنيفية هو وأولاده، علمهم الإسلام فكانوا طائعين مؤمنين.
كذلك آخر ما يكون في هذه الدنيا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من نزول عيسى عليه السلام، وخروج المهدي، حيث تخرج الأرض بركاتها وخيراتها وكنوزها، حتى أن الجماعة أو الفئة من الناس يأكلون الرمان ويستظلون بقحفها، وحتى تملأ الأرض عدلا وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، وحتى لا يوجد بين الناس حقد، أو حسد أو بغضاء إلى آخر ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يبعث الله تعالى الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين، ولا يبقى إلا شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، فالمداولة إذاً نهايتها ونتيجتها للمؤمنين.(22/34)
نماذج المداولة من الكتاب العزيز
وهذه نماذج ذكرها الله تعالى في كتابه أسردها سرداً، والله تعالى ذكر -مثلا- من الأمم الصالحة الممكَّنة التي أدال الله تعالى لها، داود وسليمان وذو القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف:85] وذكر من الأمم التي فسدت وكفرت وطغت؛ فعاقبها الله تعالى وحقت عليها سنته، سبأ وفرعون وثمود وعاد، ونحن نجد من الأمم القريبة والبعيدة من ذلك شيئا كثيراً.(22/35)
حكم وأسرار المداولة
وللمداولة حكم وأسرار منها: أولاً: تحقيق عدل الله تعالى بين الأطراف، فالمقصر ينال جزاءه أياً كان.
ثانياً: تمحيص الله تعالى للمؤمنين، سواء تمحيصهم بإزالة العيوب والأمراض الموجودة فيهم أم تمحيصهم بتكفير السيئات عنهم، أم تمحيصهم بإزالة المنافقين من بين الصف المسلم.
ثالثاً: أن يتخذ الله تعالى ويصطفي ويجتبي من المؤمنين شهداء، كما قال: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] يختارهم إلى جواره ويرفعهم إلى أعلى المنازل، ولهذا قال هرقل لـ أبي سفيان: "هل قاتلكم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال؛ ينال منا وننال منه، أو يدال منا وندال منه، فقال له هرقل: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة".
إذاً المداولة توحي بالحركة الدائمة والتجدد والأمل، وأن الأيام ليست ملكاً لأحد من الناس، إنما هي ملك لله تعالى، ولهذا قال الله تعالى: {وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار} فالأيام ليست ملكاً لأحد من البشر، ولا داعي لليأس والهزيمة، فمن هم الآن في القمة وسوف تنتهي بهم السنن الكونية إلى الحضيض، ومن هم في القاع سوف تصعد بهم أعمالهم الصالحة وفق السنن الإلهية الكونية بإذنه تعالى إلى القمة وإلى القوة.(22/36)
سنة المدافعة والصراع
من السنن الكونية أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] هذه سنة الصراع، -كما يسميها بعضهم- أو سنة المدافعة، أو سنة الخصومة، وهي سنة جارية في الكون بين المؤمنين والكافرين، بل بين الناس بعضهم بعضاً، يقول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً} [الكهف:56] .(22/37)
مظاهر الصراع
إذاً: الصراع يكون أولاً: بالجدال بين الحق والباطل، أي: والصراع بالكلمة، والصراع بالفكرة، الصراع ومن خلال الكتاب والدرس والمحاضرة، ومن خلال المناظرة، ومن خلال الدعوة، فهذا هو صراع، ولذلك الله تعالى ذكر في الآية: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الكهف:56] إشارة إلى أنه جدال مستمر، فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار والدوام، فدائماً الكفار يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويستهزئون بالآيات وبالنذُر، فهذا جزء من الصراع بين الحق والباطل، لكن هذه المجادلة نتيجتها أيضاً مقررة في القرآن فلا داعي إلى أن تتعب ذهنك وعقلك في معرفة النتيجة، لكن تعب ذهنك وعقلك أو في مجادلة أهل الباطل، وفي الدعوة إلى الحق، لكن نتيجة لا تتعب وراءها، لأنها مقررة: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف:56] النتيجة هي قال الله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] .
فالنتيجة هي أخذ الله تعالى للمجادلين بالباطل، فلا تغتر بكثرتهم، ولا تغتر بهيلمانهم، ولا تغتر بالمقالات الطويلة العريضة، والكتب الضخمة، والأجهزة المسخرة للباطل، فلا تغتر بها، لأن في انتظارها جميعاً: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] وقد ضرب الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة في كتابه فذكر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] فهي تدل على الخضرة، الظل، الثبات، البقاء، العمق، الارتفاع، والخير، هذه هي الكلمة الطيبة، فهي مثل للحق والكلمة الخبيثة: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] فهي غير نافعة ولا خضراء ولا مثمرة ولا طويلة ولا عميقة ولا ممتدة مالها من قرار، ولذلك قبل دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
إذاً: الخصومة أولاً تكون بالكلمة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مجالات وميادين أخرى قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] لا حيلة يا أخي! لا تتصور أن البشرية كلها سوف تسلك الطريق، إنما لابد من الخصومة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإسلام والكفر.
والخصومة بكل صورها تبدأ من الكلمة، وتنتهي بالمدفعية والدبابة والطائرة والصاروخ، الخصومة لابد منها، فالحرب نموذج من الخصومة، وهي أرقى وأعلى وآخر صور المدافعة بين الحق والباطل، ولهذا الله تعالى ربط قضية الحرب بين المؤمنين والكفار بالمدافعة، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] إذاً أذن لهم بالقتال وبالجهاد لأنه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] .
إذاً تبدأ بالمدافعة الفكرية والدعوية والعقدية، وتمر بمراحل كالمدافعة الاقتصادية -مثلاً- والمدافعة الاجتماعية للهيمنة على مؤسسات المجتمع، ومدارسه، وأجهزته، وأجهزة إعلامه، القوة الموجودة فيه، والتأثير في الناس، وتنتهي بالصراع في ميادين الحرب والقتال بين المؤمنين والكفار.
ويقول ابن خلدون رحمه الله عن الحرب كنتيجة أخيرة من نتائج الصراع الفكري -إن صح التعبير- يقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ أن برأها الله تعالى، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، يتعصب كل منهم لأهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان، إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع؛ كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة وإما منافسة، أو عدوان، وإما غضب لله تعالى ولدينه، وإما غضب للمُلْك وسعي في تمهيده " انتهى كلام ابن خلدون.
فالحرب جزء من الحياة البشرية لا تنفك عنها بحال، ومغرقون في السطحية أولئك الذين يتصورون أو يعتقدون أن بالإمكان الاقتصار على الحوار، والحديث الهادئ، والمجادلة بالحجة، وأنه لا حاجة إلى القتال، وأننا يمكن أن نحول العالم إلى عالم مسلم من خلال الكلمة الهادفة.
سطحية مفرطة، وجهل بالدين -أيضاً- هل تتوقعون أن طبيعة الإنسان تتغير؟ كلا! هل حقائق التاريخ تتغير؟ كلا، هل طبيعة الكفر تتغير؟ الله تعالى يقول: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فالكفر قرين الظلم دائماً وأبداً، هل تتغير طبيعة الكفر والظلم؟ الكلام في هذا يعني أختصره، وقد سبق أن ذكرت طرفاً منه في محاضرة (حي على الجهاد) وربما أطنبت في هذه النقطة بالذات، وعلى كل حال فإن الله تعالى قرر هذا وبينَّه أتمَّ بيان بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] .
فالقتال والجهاد والحرب بين الإسلام والكفر قائم ولابد، وقادم أيضاً.(22/38)
كل ما ارتفع في الدنيا سيوضع
من سنن الله تعالى -وأختم بها- قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان {حقٌ على الله تعالى ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه} وقد قال عليه الصلاة والسلام هذا بمناسبة أن ناقته العضباء كانت لا تسبق، ثم جاء أعرابي على قعود له فسبقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وهذه سنة عامة في كل الأمم، حتى أمم الدعوة إذا قامت لها حكومات وقامت لها دول، تبدأ فيها عوامل الضعف تدب شيئاً فشيئاً حتى تضعف، ثم تنحرف عن دعوتها وعقيدتها وما قامت من أجله، فتحق عليها السنة، وهي في مجال الخير، فمن باب أولى ما كان في مجال الشر، ونحن الآن نجد أن الأمم الغربية قد ارتفعت وبلغت أوجها، فالآن العالم يتكلم عن أمريكا على أنها هي القطب الأحادي الذي يدير العالم -كما يزعمون ويتصورون- وأنها أعظم الأمم، وأكبر القوى إلى غير ذلك من الهالات التي أطلقوها عليها ووصموها بها، وفعلاً قد أصابها من غطرسة الكبرياء، والقوة، والتسلط، والانفراد خاصة بعد انهيار النظام الشيوعي؛ أصابها من جراء ذلك شيئاً كبيراً، ولذلك فإن من حكمة الله تعالى {حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه} فأقول: إن هذه القوة الكافرة المتنفذة اليوم، قد بلغت أوجها ونحن بمقتضى هذا الوعد النبوي نقول: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه الله تعالى.
إذاً: سوف تتضع هذه القوى وتنهار، ويبدأ عدها التنازلي بمقتضى هذه السنة التي حددها وقررها وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يتوقع البعض أن وجود الروس والجمهوريات الاشتراكية في الماضي كان يحفظ التوازن بين الشرق والغرب، وهذا الكلام يحتاج إلى إعادة نظر، فأي توازن حفظه، ربما نقول إن وجود الشرق الشيوعي الملحد كقوة منافسة للغرب في الماضي جعل كثيراً من القوى التي تخاف من الشيوعية ترتمي في أحضان أمريكا وترتبط معها بالعهود والمواثيق الطويلة، وتقبل أن تكون أراضيها ميداناً لقوتها ولنشر صواريخها، أما بعد ما أنهار النظام الشيوعي الشرقي الكافر، فربما يزول ذلك الخوف، الذي جعل كثيراً من الدول تمد حبالها إلى أمريكا، إضافة إلى أنه سوف يجعل تلك الدول تشعر بخطورة أمريكا عليها، فتقوم بعمل وحدة فيما بينها، أو تحالفات لمواجهة الغطرسة الأمريكية والتسلط الغربي، وهذا ما نجد بشائره فيما يسمونه الآن بأوروبا الموحدة التي يتوقعون أن تظهر تقريباً عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين تقريباً، والتي بدءوا يوجدون لها المؤسسات والأجهزة التكاملية، وهذه أصبحت أمريكا تنظر إليها على أنها موجهة إليها، وأنها هي المستهدفة من ورائها.
إذاً: {حقٌ على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} وربما يهلك الله تعالى بعض هؤلاء ببعض كما سبق ذكره في سنة أخرى، فطبيعة الحياة لا بقاء ولا قرار لها، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل لابد أن تفعل فعلها بإذن الله تعالى، وعلى المؤمنين أن يعقلوا ويعرفوا هذه السنن الكونية، ليكون في قلوبهم أمل دائم بانتصار الإسلام، ولئلا تكبر في قلوبهم قوى الغرب الكافر، أو تعظم في نفوسهم فيظنوا أنه لا زوال لها، كما كان يتوقع بعض المفكرين في زمن مضى.
وفي الأسبوع القادم إن شاء الله سوف يكون عنوان الدرس (مجرد إشاعة) .
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(22/39)
ونيسرك لليسرى
دين الإسلام يسر، وشريعته هي الحنيفية السمحة، وبعض الناس يتشدد غيرةً للإسلام يتشدد، والبعض الآخر قد يرتكب المعاصي ويقول: الدين يسر، وفي هذا الدرس بيان لحقيقة اليسر مدعماً بنماذج من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(23/1)
اليسر بين الإفراط والتفريط
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:- فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
إنني لأشعر بسعادة غامرة وأنا أجلس بين ظهرانيكم في هذا البلد الكريم، الذي طالما تشوقت إلى لقاء أهله، وإلى لقاء إخواني في الله تعالى في هذا البلد، فالحمد لله الذي يسَّر هذا، في هذه الليلة المباركة ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر ذي القعدة لعام (1412هـ) وعنوان هذه المحاضرة -أيها الأحبة- هو آية من كتاب الله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] .
وإنما رغبت في الحديث عن هذا الموضوع، موضوع أن الدين كله موصوف بأنه يسر، لأن هذه الكلمة أصبحت في نظر كثيرين كلمة مطاطة، فأصبح الواحد منهم من الممكن أن يصنع كل شيء، ويرتكب كل مخالفة، فإذا وجد من يمنعه أو يردعه أو ينكر عليه قال له: يا أخي! ما بك؟ قال: الدين يسر.
فاتخذوا من هذه الكلمة ذريعة إلى ارتكاب حرمات الله تعالى، وتعدي حدوده، بحجة أن الدين يسر.
وفي المقابل نجد أن آخرين -وهذا واقع أيضاً- يقولون فعلاً: الدين يسر، ولكن هذه الكلمة تحولت عندهم إلى مجرد شعار غير قابل للتطبيق، فهو يوافق نظرياً على أن الدين يسر، لكن عندما تأتي إلى سلوكه العملي في حياته الشخصية، وفي معاملته لأهله، وفي عمله وفي دعوته وفي تعليمه وفي فتواه وفي أي عمل من الأعمال أو أمر من الأمور؛ لا تجد هذا اليسر الذي وصف به الدين، فهو يصف الدين باليسر إجمالاً، ولكنه لا يدخل هذا اليسر في التفصيلات، ولذلك ينال الناس من هذا حرجٌ شديد.
فأحببت أن أحاول من خلال النص القرآني والنص النبوي، أن أمسك العصا من الوسط -كما يقال- وأن أجعل القرآن والحديث هادياً لنا في هذا الطريق، حتى نعرف كيف كان الدين يسراً، وما هي مجالات اليسر لهذا الدين.(23/2)
اليسر في حياة المؤمن
ويقرأ المسلم -أيضاً- قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف:88] فاليسر مصاحب للإيمان وللعمل الصالح، ولهذا تجد حياة المؤمن تيسيراً كلها، كلما طرق باباً فٌتِحَ له، لأنه يطرق الباب بقوة الله عز وجل، ويطرق الباب متوكلاً على الله، وهو يعلم أن الأمور كلها بيد الله، فيطرقه برفق وبهون، فحيثما توجه تجد أنه يتوجه بيسر، وإذا أراد أن يبحث عن وظيفة، أو عن عمل، أو عن دراسة، أو عن زوجة، تجد أنه يسير بهدوء ويفعل الأسباب، ولكن قلبه مستقر في صدره.
لأنه يعلم أن الأمور كلها بيد الله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن القضاء والقدر نافذٌ لا محالة، ولكنه متعبد بفعل السبب، فيفعل السبب وكله ثقة بالله، فإن أجرى الله هذا الأمر فرح به وسُر، وقال: شكراً لك يا رب.
وإن امتنع رضي أيضاً، وقال: شكراً لك يا رب.
فربما كان الخير فيما منعه الله تعالى منه قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وقال أيضاً: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216](23/3)
المسلم والمشقة
وقد يواجه المسلم في حياته بعض المشقة، فالمسلم لم يوعد بالجنة على ظهر هذه الأرض، إنما وعد بالجنة في الدار الآخرة، ولهذا قد يصيب المسلم المرض، وقد يفتقر، وقد يُؤذى، ويُسجن، ويُعذَّب، وقد تلصق به التهم الباطلة، وقد تؤذيه زوجته، وقد يؤذيه ولده، والله تعالى خاطب المؤمنين الأولين بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] وقال: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28] .
فإذا أصابه شيء من ذلك لم تضق الدنيا في عينه، ولم تظلم في وجهه، لأنه يتذكر الآية القرآنية التي يقول فيها ربنا عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] فيدرك أن هذه الدنيا يصحب العسر فيها للمؤمن خاصة يسر بل يسران {ولن يغلب عسر يسرين} فحيثما اشتد الأمر شعر المسلم بأن هذا مؤذن بقرب الفرج: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج فيؤمن بأن هذا العسر يتبعه يسر.(23/4)
معاني آيات اليسر
الكثيرون يقرءون القرآن ويرددون آياته، ويسمعون -مثلاً- قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] والآية نص صريح في أن شريعة الله تعالى يسر لا عسر فيها بوجه من الوجوه، ولهذا ذكر أهل العلم أن كل أمر أدَّى إلى العسر والمشقة فهو مرفوع عن الأمة، وكل ما فيه حرج فهو مرفوع عنهم، فإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير.
ويقرأ المسلمون -أيضاً- قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] واليسرى هي الشريعة الميسرة، التي ليس فيها حرج ولا عنت ولا شدة، واليسرى هي الحياة الهنيئة السعيدة، التي ليس فيها قلق ولا ضيق ولا ضنك.
إنها حياة المؤمنين الأتقياء الذين كتب الله لهم في هذه الدنيا السعادة بطاعته وعبادته، واليسرى هي كلمة التوحيد، بما فيها من وضوح ونقاء وسلامة وملاءمة للفطرة، واليسرى هي الجنة نهاية المؤمنين المتقين، الذين جعل الله لهم السعادة في الدنيا عربوناً للسعادة التي تنتظرهم في دار القرار.
ويقرأ المسلم -أيضاً- قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فيفهم من هذا بفطرته السليمة، أن القرآن كتاب ميسر، ليس فيه مشقة ولا حرج ولا عنت، يقرؤه الشيخ الكبير، ويقرؤه الأعجمي والطفل الصغير، حتى إنك تجد -أحياناً- طفلاً صغيراً ربما لم يجاوز السابعة أو الثامنة أو العاشرة من عمره، وهو يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وقد رأيت بأم عيني أطفالاً يؤمون الناس في أوزاعٍ في المسجد الحرام يقرأ الواحد منهم القرآن عن ظهر قلب، وربما كان دون العاشرة من عمره، وهذا من تيسير القرآن في لفظه، وتيسيره في معناه، وتيسيره في فهمه، وتيسيره في قراءته، فهو ميسر، وتيسيره -أيضاً- في فهمه والاتعاظ به، ولهذا قال: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15] .(23/5)
قواعد عامة في الدين(23/6)
آثار الغفلة والذكاء على اليسر
لقد ارتبط في أذهان الكثير من الناس؛ أن اليسر يصحبه شيء من الغفلة والبساطة والوضوح، وأن العالم اليوم يتطلب الذكاء والنبوغ، وبعد النظر وبُعد التخطيط، وغير ذلك من الأشياء التي ربما كانت من أهم الأسباب في تعقيد الأمور، وفقدان الثقة بين الأطراف، فأصبحت أنا أعتقد أنك تخطط ضدي، وأنك تريد أن تمكر بي، وأنك تتآمر علي، ولذلك أتعامل معك بحذر ويقظة، وأفتح أعيني وآذاني، وأحاول أن أعمل ذهني، ماذا أراد بهذه الكلمة؟! وماذا أراد بهذه الخطة؟! وماذا أراد بهذا العمل؟! فلا أكاد أقبل منك شيئاً، إلا وفق معيار دقيق شديد يفتش في الأمور كلها، وأنت -أيضاً- تعاملني بهذه الطريقة، فتظن أن كل ما أقوله لك، أو أنصحك به، أو أقترحه عليك، أو أقدمه لك من المرئيات والخطط والاجتهادات، أنها أمور وراءها ما وراءها، ولهذا تتقبلها أنت بتحفظ وتقول: ربما يكون وراء الأكمة ما وراءها، ولابد من دراسة ولابد من خبراء.
فهناك فقدان الثقة في العالم كله، فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجته، وبين المدير أو الرئيس وبين من تحت يده، وبين المدرس والطالب، وبين الدولة والأخرى، وعموماً فقدان الثقة هو من أهم أسباب تعقيد الأمور، فلو أن أمورنا كلها حُلَّت عن طريق اليسر والتيسير والمسامحة، لربما زال من ذلك شيء كثير.(23/7)
اليسر طابع لشخصية الرسول
روى محجن بن الأذرع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة وخير دينكم اليسرة} فاليسر خيرٌ كله في كل شيء، فاحرص على أن يكون اليسر طابعاً لشخصيتك، وستعلم بعد قليل أن هذا اليسر من طابع شخصية النبي المختار صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوصي معاذ وأبا موسى الأشعري حينما بعثهما إلى اليمن: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا} والحديث في صحيح البخاري وغيره.
إذاً اليسر طابع عام للإسلام، وطابع لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، في كل أموره وفي كل أعماله، بل هو صفة للدين، في العقيدة، وفي الشرائع، وفي الأحكام، وفي المعاملات، وفي البيوع، والدعوة، والتعليم، والجهاد، وفي كل شيء.
وإليك نماذج من اليسر في الدين، وما يقابلها من اليسر في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه أحد كتاب الغرب وأدبائهم، ويقال له برناردشو يقول: لو كان محمد -ونقول: صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: حياً لحل مشاكل العالم ريثما يشرب فنجاناً من القهوة.
إذاً مشاكل العالم كلها، اقتصاديها وسياسيها واجتماعيها وإداريها، يمكن أن تحل، لكن ليس بالتعقيد وليس بالتشديد وإنما باليسر.(23/8)
أخذ الدين باعتدال ويسر
وهكذا دين الله تعالى، الطريق إلى جنة الله وإلى رضوانه، فلو أن إنساناً -مثلاً- كان قارب المعاصي والموبقات، وركب ما ركب من الذنوب، ثم بعد ذلك اهتدى وأقبل إلى الله تعالى، فقال: لقد مضى من عمري أربعون سنة، ولابد أن أستدرك، ولذلك أريد أن أضاعف أعمالي وأكثف عباداتي، وأريد أن أزيد، فتجد أنه أصبح يقوم من الليل كثيراً، ويصوم من النهار كثيراً، ويقرأ أجزاءً من القرآن، ويحرص على حفظ القرآن، ويحضر دروس العلم، ويقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح يضرب في كل ميدان بسهم، فإذا سمع بعد ذلك بخبر الجهاد في أفغانستان وفي غير أفغانستان، وخبر الشهادة في سبيل الله، قال: أظن أنه لا يكفر عني سيئاتي إلا الموت في سبيل الله، فترك هذه الأعمال كلها وذهب إلى هناك.
بعد فترة وجد أنه لم يجد المجال الذي ينتظره، فذهب إلى ميدان ثالث، فأصبح هذا الإنسان مشتتاً لا يستقر على حال من القلق، لكن لو أنه مشى رويداً، وبدأ يحافظ على الفرائض ويبكر إليها، ويحافظ على وضوئها وركوعها وسجودها، ويقرأ ما تيسر من القرآن كما أمر الله عز وجل، ويصلي من الليل ما كتب له، ويصوم الاثنين والخميس، وأيام البيض، وأيام الست من شوال، وما أشبه ذلك، ويأمر بالمعروف، ويقول كلمة الحق، ومع ذلك فإنه يستمتع بما أحل الله تعالى له من أكل وشرب ونوم وغير ذلك، ويصل رحمه، ويحسن إلى جيرانه، ويقوم بتجارته ودراسته وأعماله وغير ذلك، فإن هذا الإنسان غالباً يستقر على تلك الحال، ولا يكون عرضة للتقلب والتلون.(23/9)
حث النبي ومدحه لليسر
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد وسنده حسن في الشواهد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة} يعني: أحبُّ الأديان إلى الله تعالى هذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دين أبينا إبراهيم وملته الحنيفية، المائلة عن الشرك إلى التوحيد، السمحة التي ليس فيها عسر ولا شدة بوجه من الوجوه.
وعن أعرابي لم يُسم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {خير دينكم أيسره} والحديث رواه أحمد وسنده صحيح، وكذلك قال عروة الفقيمي فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إن دين الله تعالى يسر} وسنده أيضا حسن، وكذلك حديث بريدة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عليكم هدياً قاصداً} قاصداً: معتدلاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، قال صلى الله عليه وسلم: {فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه الدين} .(23/10)
كل ما فيه حرج فليس من الدين
القاعدة الثانية: وهي أنَّ كل أمر فيه حرج حقيقي فليس من الدين بوجه من الوجوه، ولو كان مأموراً به -أصلاً- ثم ترتب عليه حرج، فإن الله تعالى يرفع الحرج عن هذه الأمة، ولهذا قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] ليس عليهم حرج -مثلاً- في الجهاد والقتال؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، وفي هذا العمل من المشقة عليهم ما فيه، إذ أنهم عاجزون عن مقاومة عدوهم ومواجهته، فرفع الله تعالى عنهم الحرج في هذا، وفي غيره فيما هو مجال للرخصة والتيسير.
وهكذا جاءت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مرادفةً للقرآن، ومؤكدة على هذا المعنى، أن الدين ليس فيه حرج بوجه من الوجوه، فمثلاً في حديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا} فوصف الدين بأنه يسر كله، فقوله: {ولن يشاد الدين أحد} أي يأخذه بالشدة والقوة {إلا غلبه} أي: غلبه الدين، ولذلك تجد أن الذين يفرطون في أمور الدين يؤول بهم الأمر إما إلى مشقة شديدة على أنفسهم، وإما إلى إفراط وتضييع والعياذ بالله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فسددوا} أي: احرصوا على أن يكون رميكم صواباً، وأن يكون اتجاهكم سليماً ووسطاً قصداً، بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والجفاء.
وإذا أعوزكم التسديد، وحصل عند الإنسان شيء من التقصير فليقارب، أي يحرص على أن يكون قريباً من الصواب وأبشروا، واستعينوا على طريقكم إلى الله -تعالى وطريقكم إلى الجنة {بالغدوة، والروحة} بالسفر أول النهار، حيث النشاط والقوة والروحة وهي: السير بعد الزوال حينما تهدأ الشمس وتبرد، {وبشيء من الدلجة} يعني: مسير الليل أيضاً.
{والقصد القصد تبلغوا} يعني اعتدلوا.
فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم، شبه المسلم والعالم وطالب العلم والداعية بإنسان يريد أن يسافر، فلو فرض أن هذا المسافر قال: الطريق طويل، وأمامي مواعيد وارتباطات، ولابد من السرعة، فجار على راحلته -سواءً كانت بعيراً أو غيره، كما كانت وسيلة النقل في الماضي، أو حتى لو كانت سيارة، كما هي وسيلة النقل اليوم- فتجد أنه يجور عليها ولا يتوقف، فيركب هذه السيارة ولا يتوقف لملاحظة عيارات السيارة مثلاً، ولا لغير ذلك، ولا يقف ليبرد الجو، وإنما وضع رجله، وسار مسرعاً يقطع الفيافي والقفار، وينهب المسافات نهباً، وبعد ذلك ربما تعرض للسيارة عطل، وترتب عليه تأخير طويل، وربما أصبحت السيارة غير قابلة للمشي، فتأخر كثيراً أو ترك المسير، فترتب على ذلك أنه ضيع هذه الدابة أو السيارة وأتلفها، وكذلك لم يحصل على ما يريد من السفر.
ولهذا جاء في الحديث الآخر: {إن المُنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى} فلا هو قطع المسافة ولا هو احتفظ بالظهر أي: (الدابة) التي كان يركبها، ولهذا قال: {القصد القصد تبلغوا} لكن الذي يسير بهدوء واعتدال، ويعطي السيارة حقها، فإنه يصل -بإذن الله تعالى- في وقت مقارب، وهو -أصلاً- إذا كان عَّود نفسه على الاعتدال، فإنه يحتاط لسيره احتياطاً مناسباً، فتجد أنه لا يصيبه من لأواء السفر ووعثائه إلا الشيء اليسير.(23/11)
لا حرج في الدين بوجه من الوجوه
وعلى كل حال، فالشريعة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم تتلخص في آية واحدة، هي قول الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وبذلك نعلم أولاً: أن كل أمر أمر الله به أو الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يكون فيه حرج بوجه من الوجوه، حتى ولو سالت من ورائه الدماء، ولو تقطعت الرقاب، ولو تدهدهت الرءوس، ولو فارق الإنسان أهله، وخلانه، وبلدانه، وأوطانه، يعلم أنه ليس في ذلك حرج، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] مثلاً: الجهاد شريعة إسلامية، هل فيها حرج؟ لا، لأنه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فيعلم المسلم وهو يجاهد، ويخوض المنايا، ويصارع الموت وينازله في المعارك، ويرى إخوانه وأحبابه تتساقط رؤوسهم أمامه، ويعقر جواده، ويهراق دمه، ويقسم ماله، وتتزوج زوجته من بعده، يرى أن هذا كله ليس فيه حرج بوجه من الوجوه، لأن الله تعالى نفى عنه الحرج، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] .
إذاً القاعدة الأولى: أن كل أمر من الدين لا يمكن أن يكون فيه حرج.(23/12)
نماذج من اليسر في الدين وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم
مثلاً: اليسر في الدعوة.
تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعا، قال لقريش: {يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} ما قال: هؤلاء القوم مشركون ووثنيون، وقديمو عهد بكفر، ولذلك لابد أن نقدم لهم برنامجاً متكاملاً من الألف إلى الياء، يشمل أمور الدعوة كلها، ويحدثهم في الكبير والصغير والجليل والحقير، لا، إنما دعاهم إلى كلمة واحدة واضحة، ليس فيها تعقيد ولا غموض.
الأعرابي كان يعرف معنى: (لا إله إلا الله) فكان يناديهم: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فجعل الهم كله هماً واحداً، ودعاهم إلى كلمة واحدة وقضية واحدة، ولم يشعبهم في الأموركلها، لماذا؟ لأن هذه الكلمة هي المفتاح، فإذا قبلوا هذه الكلمة انتهى كل شيء، وزالت الحرب، وانتهت الخصومة، وأصبح هؤلاء القوم مسلمين، وبدأوا بعد ذلك يتقبلون كل شيء أتاهم عن الله عز وجل.
فهكذا كانت سيرته، وديدنُه صلى الله عليه وسلم، ينزل في القبائل قبيلة قبيلة، وفي المواسم في الحج، وفي الأسواق وفي نوادي قريش، وفي المسجد الحرام، وكل ما يقوله صلى الله عليه وسلم يثير معركة واحدة فقط، هي معركة الألوهية، معركة التوحيد: {يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} .
وقد أجَّل صلى الله عليه وسلم كل شيء آخر غير هذه الكلمة وغير هذه الخصومة، لأن هذه الكلمة من شأنها أن تنهي جميع الخصومات التي يمكن أن تقوم.
كان الرجل من الناس يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قضى خمسة وعشرين سنة في الجاهلية، وقضى خمسة وثلاثين سنة وهو يسجد للآت والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فيجلس إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دقائق، أو ربع ساعة على أكثر، فيعلمه الدين والإسلام، ويخرج هذا الرجل -لا أقول مسلماً- بل يخرج مسلماً مؤمناً داعيةً إلى الله عز وجل.(23/13)
نموذج آخر ليسر النبي
وهاهنا نموذج من نماذج اليسر: الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي إلى أحد الناس حتى يصلي في بيته، لم يقل صلى الله عليه وسلم: من أنت حتى آتيك؟ أو أنا مشغول وما عندي وقت لمثل هذه الأمور.
بل واعده ثم أتاه صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال: {أين تريد أن أصلي؟ قال: صلّ في مكان كذا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى، بعد ذلك جلسوا يتحدثون، قال: حبسناه على خزيرة صنعناها له} لون من الطعام المتواضع آنذاك، انتظره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جلسوا يتحدثون: أين فلان؟ أين فلان؟ فذكروا رجلاً اسمه مالك بن جشعم أين هو؟ فقال واحد من الحضور: {دعوه، هذا رجل لا يحب الله ورسوله، فاستعظم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة وقال: أليس يقول: لا إله إلا الله؟ قال: بلى يقولها، ولكننا نرى أن قلبه وذيله ورأيه مع المنافقين، ولا تنفعه لا إله إلا الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس يقول: لا إله إلا الله؟ قال: بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله -وفي رواية أنه قال-: أولئك الذين نهيت عنهم} دع باطنهم طالما أن ظاهرهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي الصلوات الخمس مع المسلمين، فخذ الظاهر ودع الباطن لله عز وجل، فإن ظهر لك شيء فخذ به,(23/14)
على الداعية تجنب التعقيد
إن الدين واضح ليس فيه غموض ولا حواجز تحول بينه وبين الناس، كأي عِلمٍ آخر حينما يقدم للناس سهلاً بسيطاً، بعيداً عن التعقيد والإطالة وغير ذلك، وأن يُحشى بأمور ليس لها علاقة بالدين، فالعقيدة واضحة سهلة والدعوة كذلك، وعموماً لاشك أن هذا الأمر الذي كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ما دُعِيَ أحد إليه إلا قبله.
ولكن كثيراً من الناس وضعوا أثقالاً وأغلالاً بين الناس وبين الدين، فأصبح الكثيرون يعتقدون أن هناك صعوبة في تدين الإنسان والتزامه واستقامته، لماذا؟ لأننا بمحض إرادتنا واختيارنا -وأحياناً باجتهادنا- نضع عقبات أمام الناس، تحول بينهم وبين الالتزام، وأضرب لذلك مثلاً: الصوفي -مثلاً- الذي يقول لمن يريد الإسلام: لا يمكن أن تكون مؤمناً حقاً حتى تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومع ذلك لا بد أن تتبع شيخنا، وتكون مريداً له، وتتابعه فيما يريد، وتصدقه فيما يقول، وتحضر درسه مثلاً، هذا أضاف إلى الدين تعقيداً ليس من أصل الدين حال بين الناس وبين الدين.
كذلك المتعصب لمذهب من المذاهب الفقهية، والذي يقول لأي مسلم جديد: لا يمكن أن تكون مسلماً حقاً إلا إذا آمنت بالله ورسوله، وأيضاً اعتقدت بأن مذهب الشافعي -رحمه الله- هو الحق، واتبعته في الفروع كلها، أو مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- أو مالك -رحمه الله- أو غيرهم، فأضفنا شيئاً جديداً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما أمر به، ولا ألزم به أحداً من الناس، وكان يمكن أن نقول لأي مسلم جديد: لا نحتاج إلى أحد من الناس، يكفيك أن تكون تابعاً لإمام الأئمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكفيك القرآن، والحديث، فتقرؤه وتعمل بما فيه، فقد نزل للفيلسوف في صومعته، ونزل للعالم في مختبره، ونزل للذكي شديد الذكاء، والعبقري، كما نزل للغبي الذي ربما لا يفهم من الأمور إلا القليل، ونزل للعربي كما نزل للعجمي.(23/15)
سهولة الدخول في الدين
لهذا من الأهمية بمكان أن نُسهِّل الأمر للناس، ونبين لهم أن الدين يمكن فهمه بسهولة، ويستطيع أي عالم بل استطاع كثير من العلماء أن يُلخِّص الدين في عشر ورقات، بل أقل من ذلك، يقرؤها الإنسان في نصف ساعة، ويمكن أن تترجم لغير العربي في نصف ساعة أيضاً، فيفهم من خلالها أصول الدين ومبادئه العظام، التي بها -بإذن الله تعالى- النجاة من النار ودخول الجنة، وأنت تجد مثلاً كتاب الأصول الثلاثة في أصول الدين لا يتعدى بضع ورقات، وما زاد عن ذلك فإنه من الخير والبر الذي يمكن أن يستفيد منه الإنسان ويتزود، ولكنه مما لا يلزم الإنسان أن يتعرف عليه، إلا أن يكون من العلوم الضرورية، كتعلم الطهارة -مثلاً- إذا جاء وقتها، والصلاة والحج إذا أراد وهكذا.
فالطريق إلى الإسلام مفتوحة، وهذا من التيسير في الدعوة، فمثلاً الأمم السابقة كان يقال لهم: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54] فكانت توبتهم أن يقتلوا أنفسهم حتى قتل بعضهم بعضاً، قيل: قتل منهم في ليلة واحدة أكثر من سبعين ألفاً من بني إسرائيل، فهذه كانت توبتهم (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) .
النصارى اليوم، لا يستطيع الواحد منهم أن يتوب هكذا ببساطة، حتى يأتي إلى القسيس، ويقوم بعملية الاعتراف أمامه، فيعترف أمامه بذنوبه، وبناءً على هذا يكون هذا القسيس وسيطاً وشفيعاً بينه وبين الله عز وجل، لكن في الإسلام كل هذه الطقوس لا مكان لها، كل ما في الأمر أن المذنب ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، ولو أتى من الجرائم بكل ما يخطر على بال؛ من الزنا والفجور والقتل وسفك الدم الحرام ونهب المال وغير ذلك، كل ما يتطلبه الأمر أن يرفع يده إلى السماء ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه.
ويواطئ قلبه لسانه على ذلك، فإن كان في ذلك حقوقاً للمخلوقين ردها إليهم، ولا يحتاج إلى شفيع ولا إلى وسيط في هذه الدنيا لقبول توبته، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح من حديث صفوان بن عسال: {إن للتوبة باب قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها}(23/16)
عمرو بن عبسة
مثال آخر: عمرو بن عبسة رضي الله عنه، كان في الجاهلية يعرف أن الناس ليسوا على شيء، ويكره الأصنام، فسمع ببعثة رجل في مكة يقال له: (محمد) صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه يتصنت الأخبار ويتسمعها، وقد ورد هذا الحديث في البخاري ومسلم {فلما لقيه قال: ما أنت؟ قال: أنا نبي.
قال: وما نبي؟ قال له: أرسلني الله.
قال: آلله أرسلك؟ قال: نعم.
قال: بماذا بعثك؟ قال: بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وتُهجر اللات والعزى، وتُكسر الأصنام، وتُوصل الأرحام} فهذه خمس كلمات يمكن أن يحفظها أصغر الناس وأقل الناس ذكاءً، يحفظها العجمي ولو كان لا يحفظ اللغة العربية، فخرج من عنده داعية، قال: {إني أريد أن أعلن الإسلام، قال: لا.
لا تستطيع ذلك يومك هذا -لأنه -عليه السلام- كان مستخفياً بمكة، وقومه عليه جرآء- قال: ولكن اذهب إلى قومك، فإذا سمعت أني قد ظهرت فأتني} .
فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلي المدينة، جاءه عمرو بن عبسة بعد زمان طويل ربما عشر سنوات أو أكثر، فلما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الذي أتيتني بمكة، قال: نعم} فهذه البساطة - إن صح التعبير - والبعد عن التعقيد في تعليم الدين.
بُعِثَ بالعبودية لله وحده لا شريك له، وأن تهجر الأوثان، لا لات ولا عزى ولا مناة ولا هبل، وأن يُوحَّد الله، وأن تُوصل الأرحام، وتُكرم الضيوف، ويُحسن إلى الفقير والمسكين وابن السبيل، فهذه هي الصورة الواضحة النقية لدعوة التوحيد التي كان يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم.(23/17)
الجن
خذ نموذجاً من الجن مما ذكره الله تعالى بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] صرفهم الله تعالى إلى الرسول، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الفجر في بطن نخلة، بين مكة والطائف، فسمعوا شيئاً من القرآن قدر60 أو 80 آية أو 100 آية، كان يقرأ في صلاة الفجر كما في الصحيح ما بين الستين إلى المائة، فلنفرض أنهم سمعوا مائة آية، وربما أنهم جاءوا الصلاة في منتصفها -مثلاً- المهم أنهم سمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا.
كل واحد يشير للآخر ويقول: اسكت، لا يريدون أن يفوتهم شيء، آذانهم مفتوحة، ولا يوجد حواجز بينهم وبين القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] لم يقل: مسلمين، ولا مؤمنين! وإنما قال: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) !.
إذاً تجاوزوا مرحلة الإسلام، وتجاوزوا مرحلة الإيمان أيضاً، وتعدوه إلى مرحلة الإنذار، إنهم منذرون، أي: صاروا دعاة بمجرد حضورهم صلاة واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذرون من طراز فريد، يقف الواحد منهم خطيباً أمام قومه، وهو يقول: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:30-32] .
فهؤلاء القوم هزوا قلوب الجن بالإنذار والتحذير، وقالوا لهم: بعث نبي جديد من بعد موسى يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وفي الآية الأخرى قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1-2] كلام طويل يعبر عن لهفتهم وتأثرهم وانفعالهم بهذا الذكر وهذا الوحي، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] .(23/18)
الطفيل بن عمرو الدوسي
وخذ على ذلك بعض الأمثلة اليسيرة السريعة: مثل: الطفيل بن عمرو الدوسي، والقصة طويلة لكني أختصرها وأصل قصته في صحيح مسلم: {يأتي إلى قريش فما يزالون به حتى يضع في أذنيه القطن، لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه أبى الله إلا أن يسمعه شيئاً، فقال: أنا والله رجل لبيب أعرف الشعر، وأعرف ألوانه وهزجه وقصيده ورجزه ومقبوضه، ومبسوطه، فأسمع من الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإن رأيت حقاً قبلته وإن رأيت باطلاً رددته، ولا يمكن أن أجبر بعقل غيري، فيقوم وينزع القطن، ويسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، فسمع كلاماً جزلاً فخما قوياً عظيماً، وهو القرآن، فآمن وأسلم.
وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إلامَ تدعو؟ فعلمه الإسلام، فقام هذا الرجل من عند الرسول صلى الله عليه وسلم -لا أقول مسلماً فقط- بل قام مسلماً مؤمناً داعية، وذهب إلى قومه، فتأتيه زوجته لتسلِّم عليه، فقال: إليك عني، فلستُ منكِ ولستِ مني، قالت: ولم فداك أبي وأمي؟ قال: إني قد أسلمت وتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم.
قالت: ديني دينك.
فقال: اذهبي واغتسلي.
فذهبت واغتسلت ثم شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله} .
يأتيه أبوه وأمه فيقول لهم نفس الكلام, ويأتيه قومه وقبيلته فيقول لهم كذلك، فيسلمون كلهم عن آخرهم على يد رجل لم يمكث في مدرسة إلا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، تلَّقى فيها درساً أو محاضرة كانت مدتها خمسة عشر دقيقة أو قريباً من ذلك.(23/19)
يُسر النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الأخطاء
الأخطاء موجودة في كل مجتمع، حتى المجتمع النبوي وجد فيه أخطاء كثيرة، فقد زنا ماعز وزنت الغامدية، فكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخطأ؟ يأتي ماعز، والغامدية، فيقول: لعلك قبَّلت، لعلك غمزت، لعلك لعلك حتى يعترف الرجل ويُصرّ على اعترافه، فيقيم عليه الحد.
وكذلك الغامدية قال لها: لعلِّكِ لعلَّك تقول: {تريد أن تردني كما رددت ماعزاً يا رسول الله! والله إني لحبلى من الزنا} فيقيم عليها الحد بعدما ولدت، وفطمت، فلما نال منها رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له} وفي رواية: {لقد تابت توبة لو وزعت بين سبعين من أهل المدينة لغفر لهم} .
فأصل الاعتقاد في التجاوز عن الأخطاء؛ أن الإنسان يعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد يغفر لكل إنسان إلا الشرك، لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقد يغفر الله تعالى للعبد كل ذنب إلا الشرك، فلا تحكم على أحد بخطأ أن الله تعالى سوف يعذبه أو يعاقبه، فإن الله تعالى بكرمه ينجز الوعد، ولكنه قد يعفو عن الوعيد، وكما قيل: ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أنثني عن سطوة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(23/20)
قصة معاوية بن الحكم
قصة معاوية بن الحكم، سبقت معنا قبل قليل، كيف خاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف علمه كذلك قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، ولمَّا نهره الصحابة أو هموا به، أمرهم فتركوه، ثم دعاه وعلَّمه أن هذه المساجد لم تُبْنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله تعالى وقراءة القرآن.
فهذا الرجل تعجب من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً.
فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم: {لقد تحجرت واسعاً}(23/21)
تعامله صلى الله عليه وسلم مع المجامع في رمضان
{جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هلكت، قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالكفارة على ما هو معروف.
لكنه لا يجد شيئاً، لا يستطيع أن يعتق رقبة، ولا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين أو أن يطعم ستين مسكيناً، فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه بعد قليل شيء من التمر، فقال: خذ هذا فتصدق به.
فقال: يا رسول الله! أتصدق به على أفقر منا، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا.
فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: خذ هذا فأطعمه أهلك} فقد جاء الرجل خائفاً وجلا مذعوراً يخشى من أشد العقوبات؛ لأنه وقع في هذا الذنب العظيم، بل هو كبيرة لأنه لم يجعل عليه كفارة إلا وهو من كبائر الذنوب، وذهب الرجل مبتسماً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطاه هذا التمر الذي جاء به إلى أهله، فرجع إلى قومه يقول: وجدت عندكم الضيق والعسر والشدة، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة واليسر.(23/22)
يُسر معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة
يسر النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته مع أصحابه أمر عجيب! كان معهم طيلة الوقت أو أكثر الوقت، في السفر، والإقامة، في الحرب والسلم، في الحج والعمرة والجهاد والغزو وفي المسجد بل في البيت، ولذلك قالت عائشة: [[كانت معظم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره قاعداً بعدما حطمه الناس]] هذا داخل وهذا خارج، وهذا في شفاعة وهذا في قضية.(23/23)
تواضع الرسول في حجة الوداع
حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ومعه أكثر من مائة وعشرة آلاف، إحصائية الحجيج عام حجة الوداع مائة وعشرة آلاف أو يزيدون والناس كثير، فلم يكن أحد يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غمار الناس لا يقال: إليك إليك، وليس هناك حراس، ولا حجاب، ولا جنود، ولا شُرَط، ولا سياط، ولا أعوان، ولا بنادق، ولا عصي، إنما كان في غمار الناس يمشي صلى الله عليه وسلم يقول: {أيها الناس، السكينة السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع} فينصحهم بالهدوء، يأتون إليه وهو يرمي الجمار على ناقته صلى الله عليه وسلم، ويطوف ويسعى، كل ما في الأمر أنه من أحب أن يسأله عن شيء سأله، ويحيطون به ويسألونه، وهو قائم أو قاعد أو ماشٍ صلى الله عليه وسلم.(23/24)
الرسول وعتبان بن مالك
عندما دعاه عتبان -كما ذكرت لكم- وحبسه على خزيرة، وهذا ليس إنسانا عادياً، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هم الملوك؟! ومن هم الرؤساء؟! ومن هم الأمراء؟! ومن هم السادة؟! ومن هم العباقرة؟! ومن هم القواد؟! ومن هم الأثرياء بالقياس إلى شخصية النبي صلى الله عليه آله وسلم؟! لا شيء، هم أقزام صغيرة ونقط ضعيفة، ومع ذلك هذا السيد صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عتبان بن مالك فيحبسونه على خزيرة صنعوها له، ويقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذراع أو كراع لقبلت} تواضع لله، ويسر في الشخصية، وبُعدٌ عن التكلف، وكان عليه الصلاة والسلام يزور أصحابه، ويجالسهم ويضاحكهم، ولم يكن عنده شيء من التكلف في لباسه أو فراشه، فيلبس ما تيسر ويفترش ما تيسر بعيداً عن الأبهة والكبر.(23/25)
الرسول والجارية
كانت الجارية تأخذ بنبي الله صلى الله عليه وسلم، فتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، أو تواعده في أي مكان، فيأتي إليها ويصغ أذنه لها، ماذا تتوقع أن تقول الجارية؟ أمة في أحد البيوت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من سيدها، أو من أهل البيت، أو من شدة العمل أو من غير ذلك، وربما تذكر تفاصيل وأموراً لا حاجة بها، ولو أن هذه الجارية جاءت إلى واحد منا الآن -وأنا على يقين- وحدثته بمثل هذه الأمور لقال لها: لست بفارغ لهذه التفاصيل، وهذا الكلام الذي ليس لنا به حاجة، وليس عندي وقت لمثل هذه الأشياء، اذهبي وابحثي عن غيري.
مع أن الواحد منا قد لا يكون عنده عمل يذكر.
ولكن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ورسول الله وخاتم النبيين كانت تواعده في أي مكان من سكك المدينة، فيصغي أذنه لها، فتتكلم وتتكلم حتى ينتهي ما عندها، ولا ينتهي الأمر، بل يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ليشفع لها، أو يتدخل عند أوليائها وعند سادتها إلى غير ذلك من الأمور.(23/26)
شفاعة الرسول لمغيث
كان هناك شيخ كبير في السن اسمه مغيث، كان له زوجة اسمها بريرة، وكانا مملوكين ولما أعتقت قالت: لا أريد هذا الرجل.
فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له عند هذه المرأة التي يحبها حتى تقبل به، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعاها وقال لها: {ما لك عن مغيثp أي: لماذا لا تقبلين به؟ قالت: تأمرني يا رسول الله.
قال: لا، إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي به} .
فكان العباس رضي الله عنه يقول: [[كنا نراه في أسواق المدينة يمشي ودموعه تقاطر على لحيته]] حباً في هذه المرأة التي لم تُرِدْه بعدما أعتقت.
المهم حتى أدق الأمور يأتون بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان معهم أكثر وقته، ومع ذلك لم يكن ليتكلم على هذا ويوبخ هذا ويعاتب هذا، بل بالهشاشة والبشاشة والبسمة ولين الجانب والسماحة.(23/27)
الرسول وعمرو بن العاص
عمرو بن العاص رضي الله عنه -وهو ليس من متقدمي الإسلام- لما أسلم عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم على سرية ذات السلاسل أميراً عليهم، وكان فيهم أبو بكر وعمر.
فتوقع p=1000174عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه أحب الناس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لما يرى من حسن خلقه معه ومعاملته ولطفه وبشاشته في وجهه، فقال كما في صحيح البخاري: {يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها} ثم عد أناساً، فسكت عمرو قال: من أجل ألا أكون في آخرهم، فلم يواصل السؤال.
المهم لماذا توقع وطمع أن يكون من أحب الناس؟ لما رأى من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم معه ولطفه ولين جانبه.
ما لعن أحداً ولا سب ولا شتم، وقلَّ أن يرى الغضب في وجهه إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى، فإنه حينئذٍ لا يقوم لغضبه شيء.(23/28)
يُسر النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته مع أزواجه(23/29)
نحن والرسول
انظر إلى التيسير في الأمور، وفي معالجة الأخطاء، والتيسير في مواجهة المرأة، وكيفية علاج الغيرة، وكيفية المعاملة.
كم مرة هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه؟ المعروف أنه هجرهن مرة واحدة، شهراً كاملاً من الهلال إلى الهلال، هذا المعروف المذكور.
لكن كثيراً من الرجال تجد أن حياتهم مع زوجاتهم تقوم على أساس الهجر، فهو يغضب من أجل الطعام، ويغضب لأن الثوب غير مكوي اليوم، ويغضب لأن الأطفال ليسوا نظيفين بما فيه الكفاية، ويغضب لأن البيت لم يكنس، ويغضب لأسباب كثيرة جداً، وربما تكون علاقة الزوجين تقوم غالباً على أساس الهجر والترك، وأول وآخر علاج يعالج به زوجته هو أن يهجرها، إما بترك الكلام أو يهجرها في المضجع أو غير ذلك.(23/30)
غيرة عائشة رضي الله عنها
ثارت غيرة عائشة يوماً على خديجة من كثرة ما يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: [[يا رسول الله! ما تذكر من عجوز شمطاء هلكت في الدهر الأول، أبدلك الله تعالى خيراً منها]] أي: تذكرها دائماً كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة.
فقال لها: النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تبسم وتحمل غيرتها: {إنها كانت، وكانت، وكانت، وكان لي منها ولد} فرجع -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم يذكر محاسن خديجة مرة أخرى، وهذا يغير أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
مرة من المرات كسرت عائشة رضي الله عنها الصحفة من الغيرة أيضاً، جاءت زوجة أخرى فقدمت طعاماً، وهو يوم عائشة، فضربت الصحفة فكسرتها وانتثر الطعام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {طعام بطعام وصحفة بصحفة} وأمر أن الصحفة السليمة ترسل إلى تلك المرأة، وأن الصحفة المكسورة ترد إلى عائشة، ويؤكل الطعام بها.
أخطأت عائشة رضي الله عنها يوماً، فوضعت قراماً فيه صور أو تماثيل في سهوة لها، أشبه بالنافذة للغرفة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم استعظم ذلك، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال: {إن هؤلاء المصورون يعذبون يوم القيامة الخ} .
المهم أمرها أن تهتك هذا الستر، فهتكته وجعلته وسائد.(23/31)
تيسيره لأمر الزواج
جاءته المرأة فلما قال الرجل: يا رسول الله! زوجنيها.
قال: {التمس ولو خاتماً من حديد.
فلم يجد، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن} هذا جانب من التيسير في أمر الزواج.(23/32)
وضوح المشاعر
من معاملته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه: وضوح المشاعر: {سئل: من أحب الناس إليك قال: عائشة} .
كثيرون اليوم يستحي الواحد منهم أن يعبر عن شعوره تجاه زوجته مثلاً، ويستحي الواحد منهم، بل يستعيب أن يذكر أو أن يعرف الناس اسم زوجته، ويعتبر هذا عاراً، وأنه منافٍ للمروءة والرجولة، لكن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم يُسأل: من أحب الناس إليك؟ فيقول: عائشة.
فذكر اسم زوجته وأيضاً أنها أحب الناس إليه.
وكان عليه السلام يقف لـ عائشة وهي تنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون في المسجد حتى تمل، فإذا ملت وسئمت انصرفت وانصرف صلى الله عليه وسلم.(23/33)
قصة زواج عائشة
وعلى سبيل المثال: عائشة في قصة زواجها، لما دخل بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كانت تلعب مع البنات، فدعتها أمها أم رومان إلى نسوة من الأنصار، فأصلحن من شأنها وغسلن رأسها، ثم قلن لها: على اليُمن والبركة وعلى خير طائر.
وأدخلنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [[فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنني إليه وذلك ضحى]] بدون تكلف ولا مبالغات، في الالتزامات والمواعيد والمناسبات والتكاليف، وغير ذلك من الأشياء التي حوَّلت الزواج إلى مشكلة صعبة ربما لا يستطيع الكثيرون أن يجتازوها أو يقتحموها.(23/34)
يُسر النبي النبي صلى الله عليه وسلم مع خصومه
كيف كان عليه السلام يتعامل مع خصومه؟ وكيف كان تيسيره في ذلك؟(23/35)
المنافقون والمشركون
كيف عامل المنافقين؟ أخذهم بالظاهر، لم يقتل أحداً منهم، بل إنه لما طلب إليه ذلك، قال -كما في صحيح البخاري عن جابر -: {فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} فما دام يعلن الإسلام فإني آخذه بالظاهر وأدع سريرته إلى الله عز وجل.
المشركون كيف عاملهم؟ عاش في مكة ثلاث عشرة سنة بين أظهر المشركين والوثنيين، فكان يعاملهم ويبيع منهم ويشترى، ويدعوهم ويتحدث معهم، وغير ذلك من ألوان المعاملات التي تجري عادة بين هؤلاء الناس، ومما يقطع به قطعاً لا شك فيه: أن النبي عليه السلام لم يكن يهجرهم أبداًً، بل كان يعاملهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، ويبيع منهم ويشتري، ويدعوهم إلى الله عز وجل، ويحضر مجالسهم ويحادثهم، وربما كنى بعضهم إلى غير ذلك.
نموذجان من معاملاته بصفة خاصة لبعض المشركين: الأول: قصة غورث بن الحارث، وهي في صحيح مسلم: {لما نزلوا في منزل، وكانوا يتركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مكان تحت شجرة، فنام تحته صلى الله عليه وسلم، وتفرق أصحابه في الأشجار، فجاءه رجل مشرك فأخذ السيف وسله على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد! من يمنعك مني؟ فقال: الله.
فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: من يمنعك مني؟ فقال: لا أحد، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
قال: لا} انظر كيف الوضوح عند هذا الرجل وإن كان مشركاً لكن ليس عنده نفاق، ما آمن ولذلك قال: لا، والسيف على رقبته قال: {ولكني أعاهدك ألا أحاربك، ولا أكون مع قوم يحاربونك} فجاء الصحابة فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم خبر هذا الرجل.
القصة الثانية: قصة ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، لما أخذه المسلمون وكان يريد أن يعتمر، فقبضوا عليه وأودعوه في المسجد، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير.
إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه النبي عليه السلام، وفي اليوم الثاني تكرر نفس الكلام، وفي اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة فأطلقوه، فخرج الرجل وذهب إلى ماء قريب من المدينة - نخل - فاغتسل، ثم جاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله يا محمد ما كان على وجه الأرض أرض أبغض إلي من أرضك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، والله يا محمد، ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله يا محمد ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان كلها إلي} ففرح النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذهب هذا الرجل إلى قريش فقال لهم: والله لقد أسلمت، ولا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فرض عليهم الحصار الاقتصادي إلا بإذن الرسول عليه الصلاة والسلام.(23/36)
تعامله مع اليهودي
مات الرسول صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودي، معناه أنه كان يبيع ويشتري منهم.
دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة كما في الصحيح، فأجابه وأكل منها صلى الله عليه وآله وسلم.
دعته امرأة بخيبر - زينب كما هو معروف- هو وجماعة من أصحابه، دعتهم إلى طعام، فأكل صلى الله عليه وسلم وأكلوا، ونهس نهسة وكان فيها سم، فألقاها عليه الصلاة والسلام وقال: {إن هذا الذراع يخبر أنه مسموم} والقصة معروفة وهي في الصحيح.
{جاءه اليهود وقالوا: السام عليك يا رسول الله! فغضبت عائشة وقالت: عليكم السام واللعنة.
-والسام هو الموت والهلاك- فنهاها الرسول علية الصلاة والسلام وقال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، قالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله! كأنها ظنت أنه ما اطلع وما علم، أو أن الأمر فاته، قال: أولم تسمعي ما قلت؟ قلت: وعليكم} أي الموت حتم للجميع، لا أحد يموت دون أحد.
وكان في جيرانه غلام يهودي، فكان يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما حضرته الوفاة جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {يا غلام! قل لا إله إلا الله.
فنظر إلى أبيه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يرفع يديه إلى السماء ويقول: الحمد الله الذي أنقذه من النار} وأسلم هذا الغلام ومات على الإسلام، والحديث في صحيح البخاري(23/37)
هديه وتيسيره في العبادات(23/38)
الطهارة
توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وكان وضوؤه يسيراًً بعيداً عن التكلف وما ابتلي به الموسوسون وغيرهم، يتوضأ بكل ما لم يعلم فيه نجاسة، فالأصل في الماء أنه طهور، ولما سُئِلَ عن الماء الذي ترده السباع والدواب والكلاب وغيرها، قال: {إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث} وكان يتوضأ بمد ويغتسل بصاع، ويقول: {أما أنا -أي في الغسل- فأفيض الماء عل رأسي، ثم على جسدي فإذا أنا قد طهرت} وإذا لم يجد الماء، أو تضرر باستعماله، لجأ صلى الله عليه وسلم إلى التيمم.(23/39)
الصوم والذكر
أما في الصوم، ورخصه للمريض والمسافر والحامل وغيرهم، أو الحج، ورخصه للمرأة والضعيف والصبي والرعاة.
كذلك الذكر وقراءة القرآن -مثلاً- من جواز القراءة عن ظهر قلب حتى لغير المتوضئ ما لم يكن جنباً، لكن لا يمس القرآن إلا طاهر، وكذلك يذكر الله تعالى وسبحه ويهلله، ولو كان جنباً، وهذا بالإجماع، لكن لا يقرأ القرآن حتى يغتسل.(23/40)
الصلاة
الصلوات خمس وهي خمسون في الأجر، كما في صحيح البخاري، وفي حديث عبادة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أصحاب السنن وسنده صحيح: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من حافظ عليهن بركوعهن وخضوعهن وسجودهن وطهورهن، كان له عهد الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له} .
جاءه أعرابي فسأله عن الإسلام، فذكر له الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق} بل في رواية: {من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} .
ليس هناك أحد من الصحابة ذكر في سيرته أنه صلى لله في ليلة ألف ركعة، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يصلي إحدى عشرة ركعة من الليل، وفي بعض الأحيان ثلاث عشرة ركعة، كان يصلي من الليل وينام كما قال الله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:2-5] .
كيف كان صلى الله عليه وسلم يُعِّلم الناس الصلاة؟ {جاءه رجل فصلَّى ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ارجع فصلّ فإنك لم تصل ثلاث مرات وهو المسيء في صلاته، والحديث في الصحيحين- قال له: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني.
قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تعتدل جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها} .
هذه هي الصلاة في أوضح وأبسط وأجلى صورها، علمها النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل، بل إنه عليه الصلاة والسلام ذكر أنه من لم يحسن قراءة الفاتحة فليذكر الله تعالى ويقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلابالله.
وذلك إذا كان لا يستطيع أن يقرأ الفاتحة ولا يحسنها ولا يتعلمها.
وأذن للإنسان أن يصلي في كل مكان، فقال عليه الصلاة والسلام: {جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى حيث كان} وكان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً، مبنياً بناءً بسيطاً بعيداً عن التكلف، وعن التشييد، وكانت أبوابه مشرعة -مفتوحة- حتى قال ابن عمر كما في صحيح البخاري: [[كانت الكلاب تقبل وتدبر]] وفي رواية: [[وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما كانوا يرشون شيئاً من ذلك]] لأنه إما أن الشمس تزيل هذا، أو لأنه لا يظهر أثر البول على مكان معين.
وقال صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعاجز، كما في حديث عمران بن حصين وهو في الصحيح: {صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب} قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] .(23/41)
حال الموسوسين في العبادات
ولو قارنت ذلك بحال كثير من الموسوسين الآن لرأيت العجب العجاب.
هذا سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وهذا تيسيره في أمر العبادة، في أمر الطهارة والصلاة والحج والزكاة والصوم وغيرها، وبعده عن ألون التكلف في ذلك.
أو تقارنه بحال الغلاة من المتصوفة وغيرهم، وما يذكر عنهم من طول التعبد فيما يزعمون، وما هي بعبادة، أو ما يذكر عنهم من الأحوال وغيرها.
أو تقارنه بحال الخوارج، الذين هم كما قال عنهم عليه الصلاة والسلام: {يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقد آل بهم الأمر إلى تكفير المؤمنين، بل تكفير بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن هؤلاء القوم غلوا في العبادة، ولم يفهموا معنى التيسير في الإسلام، فكانت عندهم جرثومة تعظيم ورؤية النفس والاغترار بالعمل.
أما صاحب المعصية -مثلاً- فعلى رغم معصيته هو خير منهم، لأن صاحب المعصية لا يقوم في نفسه دافع الغضب من المعصية والمقت لأهلها، ولا يقتنص النصوص من أجل أن يكفر فلاناً وفلاناً، بل تجده متواضعاً لله عز وجل، ولهذا ربما يكون الإنسان الذي عنده قدر من العبادة خيراً من الإنسان الذي بالغ في التعبد إذا صاحب تعبده اغترار، أو إعجاب، أو رؤية النفس، أو يظن أنه بذلك استحق الجنة، كلا! بل عبادة قاصدة معتدلة، مع تواضع لله عز وجل واعتراف بأن النعمة منه، وأن العبد لو قضى حياته كلها في سجدة واحدة ما أدى شكر نعمة الله عز وجل، بل العبادة من نعمه، والإيمان من نعمه، والشكر من نعمه، وكما قيل: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر عدم السؤال الافتراضي؛ لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمح بأن يفترض الناس أسئلة خيالية، ثم يسألون عنها، وكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها كما في صحيح مسلم.
فالأصل في الأشياء الطهارة، في المياه والبقاع والثياب وجميع الأشياء، ولذلك كان يلبس الثياب التي نسجها المشركون، ولا يلزم أن يغسلها، بل أجمع المسلمون عل جواز لبسها دون أن تغسل، وكان أصحابه يلبسون من الثياب الرومية وغيرها، ولا يقال عن شيء إنه نجس إلا بدليلٍ ظاهرٍ قاطع على نجاسته.
ولهذا استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم آنية المشركين، وأكل فيها وشرب منها، كما في الحالات التي دعوه فيها إلى بيوتهم، وكما إذا سيطر المسلمون على أرض، أو غنموا شيئاً من الغنائم من المشركين، كالملابس أو الأواني أو غيرها، كانوا يستعملونها دون غسل، بل توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة، كما في حديث عمران وأصله في صحيح البخاري، إلى غير ذلك.
عدم السؤال الافتراضي: لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمح بأن يفترض الناس أسئلة خيالية، ثم يسألون عنها، وكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها كما في صحيح مسلم.(23/42)
الأصل في الأشياء الإباحة
كذلك من التيسير في أمر الأحكام: اعتبار أن الأصل في الأعيان الإباحة، ولا يحتاج إلى دليل في الإباحة، لكن الذي يقول بالتحريم هو الذي يحتاج إلى دليل، فالأصل في الأشياء أنها مباحة، كما قال الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13](23/43)
جواز المحرم للحاجة وللمصلحة الراجحة
ومن التيسير -أيضاً- في الأحكام: أن المحرمات -تحريم الوسائل- تجوز للضرورة وللحاجة، وتجوز للمصلحة الراجحة أيضاً، كما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- النظر إلى المرأة المخطوبة، وإن كان النظر أصله حرام؛ لكن أجاز ذلك للمصلحة، وكذلك إذا سام أو استام أمة، وأراد أن يشتريها ينظر إليها.
ومثله إذا كان يعاملها ويحتاج إلى أن يعرفها لغرض في أمر البيع، ويمكن أن يلحق بذلك -أيضاً- على سبيل المثال: موضوع التصويرعند من يقول بتحريمه، فإنهم يرون تحريمه تحريم الوسائل، فيكون جائزاً للضرورة وللحاجة وللمصلحة الراجحة أيضاً.
ولهذا كان من قواعد أهل العلم: المشقة تجلب التيسير، ويقول بعض الأصوليين: إذا ضاق الأمر اتسع وما ذلك إلا جانب من تيسير النبي صلى الله عليه وسلم في هديه، ودعوته، وعقيدته، وتعليمه، وأحكامه، وعبادته، ومعاملاته، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله تعالى عن أصحابه الكرام، الذين تلقوا عنه هذا اللون من العلم ومن الدعوة ونقلوه إلى من بعدهم.(23/44)
إجراء عقود المشركين ومناكحاتهم
ومثله -أيضاً- من التيسير في الأحكام: إجراء أنكحة المشركين وعقودهم على ما كانت عليه قبل الإسلام، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس متزوجون وعندهم عبيد، وعندهم بيوع، أشياء باعوها وأشياء اشتروها وأشياء رهنوها إلى غير ذلك، فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله على ما كان عليه من قبل.
ومثله -أيضاً- ما يتعلق بأسمائهم وملابسهم وعوائدهم التي لا تعارض الشرع، فإن النبي عليه السلام لم يغيرها، ولم يكن يشترط في كل من أسلم أن يغير اسمه ما دام أن الاسم ليس فيه تعبيد لغير الله مثلاً، ولا أن يغير ملابسهم بل كانت الملابس التي يلبسونها هي ملابس العرب التي كانت في الجاهلية، إلا ما كان منها معارضاً للشرع، مثل أن يكون حريراً محرماً أو مسروقاً أو مغصوباً أو مصبوغاً بمحرم أو نجساً، فهذا أمر آخر.(23/45)
الأسئلة(23/46)
اختلاط الأقارب من غير المحارم
السؤال
كثير من الناس يقولون: الدين يسر ويفهمون فهماً خاطئاً، ومن الأفهام لهذه المسألة الاختلاط بين الأقارب الذي يعتبر من الأخطاء الشائعة في كثير من الأماكن، وإذا ما نصحته ووجهته إلى أن هذا لا يجوز، قال: إن الدين يسر، ولم يحرم دخول الأقارب بعضهم على بعض، فبماذا تنصح؟
الجواب
الجواب هو أن تذكر له النص، من اليسر ألاّ تعقّد له المسألة، بل توضحها له، عندك نص من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، يقول: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فخلوة الرجل بامرأة غير محرم لها حرام، هذا من اليسر في التعليم، كذلك أن تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق قال: {إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو -وهو أخو الزوج وقريبه- قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} وكلا الحديثين في الصحيح.(23/47)
تدريس البنات من قبل الرجال
السؤال يقول: تقيم وزارة الصحة بجيزان دورة للممرضات، والذين يدرسون هؤلاء الممرضات رجال، فما رأيكم في هذا المنكر؟ وما الدور للمشايخ والعلماء، وطلبة العلم من شباب الصحوة؟
الجواب
الحمد لله الخير الآن كثير، والعلماء والمسئولون عن الدعوة والقضاة والأخيار موجودون في هذا البلد وفي غيره، فما عليك إلا أن تبلغ هؤلاء بأي وثيقة تدل على أن هذا المنكر قائم فعلاً، وثق ثقة تامة أن هؤلاء العلماء لا يمكن أن يتخلوا عن دورهم في إنكار هذا المنكر، بزيارة المسئولين عن الشئون الصحية، ومطالبتهم بتغيير هذا المنكر وإزالته، وتطمئن قلوب الناس لذلك.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألَّا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(23/48)
التعامل مع اليهود والنصارى
السؤال
هل معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى تصلح لمعاملتهم في هذا الزمان؟ والله يقول: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد:35] .
الجواب
اليهود الآن في حالة حرب معنا، خاصة اليهود في إسرائيل، وكذلك النصارى في عدد من البلاد، هم في حالة حرب مع المسلمين، والمحاربون لهم أحكام خاصة في المعاملات، ولكن إذا كان المسلمون في حالة استضعاف، فإنهم يسلكون المعاملة التي سبق، فإذا كانوا في حالة قوة فإنهم يسلكون معاملة أنهم يدعون الناس إلى الإسلام، فإن أبوا استعانوا بالله وقاتلوهم.(23/49)
طلب حث على الجهاد بالمال
السؤال يقول: نرجو حث الإخوان على التبرع لإخوانهم في جمهورية البوسنة والهرسك، الذين يتعرضون للذبح والتعذيب والاضطهاد من الصرب الصليبيين؟
الجواب
تحدثنا البارحة في أمسية أو ندوة بعنوان: مشاهدات من يوغسلافيا، عن مشاهدات مؤسفة، ومؤذية جداً، عما يلقاه المسلمون هناك من مصائب ونكبات على أيدي الصرب النصارى، الذين يذبحونهم ذبح الخراف، وهناك أشياء يندى لها الجبين لا يتسع المجال لها، لذلك أحيلكم على الشريط الذي ذكرت وعلى غيره، وأدعو الإخوان إلى أن يبذلوا لله تعالى ويساعدوا إخوانهم بما تجود به نفوسهم.
بل يجب أن يكون هناك بذل حقيقي وصادق لهؤلاء الإخوة؛ لأنهم الآن يدافعون عن أنفسهم، وقد ترى منهم شاباً شجاعاً جلداً قوياً تنهمر الدموع من عينه، لأنه يقول: لا أملك السلاح الذي أدافع به عن نفسي، وهو شجاع، ولو طلبت منه أن يهد معسكرات فيها (300) ألف إنسان لفعل.
ولا يوجد من الحليب الذي يتغذى به أطفالهم إلا نحو خمسين أو أربعين كرتوناً مثلاً.
من لهؤلاء المسلمين؟! من للجياع وللأراملة وللأطفال وللنساء؟! من للشباب الشجعان الذين يقولون: نريد السلاح؟! أنت لهم يا أخي، وهم يستغيثون بالله ثم بك، ولا يجوز لك أن تخذلهم، والله العظيم إن خذلتهم فسيخذلك الله عز وجل في موقف تحب فيه نصرتك، فأدعوكم ثم أدعوكم إلى أن تسارعوا بالبذل لإخوانكم.
ولا نسامح واحداً منكم -يستطيع- أن يخرج من هذا المسجد إلا ويبذل ما يسر الله تعالى له، من لم يجد المال فليتبرع بما يستطيع، حتى لو أن تتخلى عن ساعتك التي في يدك في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل:20] ومن لم يجد اليوم، فمن الممكن أن يأتي في الغد أو بعد الغد بما يستطيع، وندعو النساء، وندعو الإخوة إلى أن يوجهوا هذه الدعوة -أيضاً- إلى كل الناس، وينقلوا لهم هذا الكلام، ويرسلوا إليهم بعض الأشرطة التي تتكلم عن هذا الموضوع، يجب أن تكونوا كلكم رسلاً لدعوة الناس إلى التبرع لإخواننا المسلمين في يوغسلافيا.(23/50)
الحب في الله والحب الطبيعي
السؤال
شخصان متحابان في الله إلى درجة كبيرة، حتى أصبح أحدهما لا يأمر الثاني بالمعروف ولا ينهاه عن المنكر؟
الجواب
هذا ليس حباً في الله، لأن الحب في الله كلما زاد كان سبباً في التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، ولكن هذا الحب قد يكون حباً طبيعياً أو حب ألفة، أو قد يكون غير ذلك أيضاً، فينبغي أن يعرف أن الحب في الله كلما زاد، كان سبباً في أن يزيد أحدهما لصاحبه دعوة إلى الله ونصيحة له، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، فالحب يعرف بثمراته.(23/51)
واجب الإنسان تجاه تارك الصلاة
السؤال يقول: بماذا تنصح من له زوجة لا تصلي، وتسمع الغناء وتشاهد التمثيليات والأغاني في التليفزيون؟ أو امرأة لها زوج به هذه الصفة؟
الجواب
يجب أن يأمر الرجل زوجته بالصلاة، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] فيأمرها بذلك، بل أن يحملها على الصلاة حملاً، فإذا أصرت على ترك الصلاة، فإنه ينبغي له أن يتركها ولا خير له فيها؛ بعد أن يستفرغ الوسع في دعوتها، وكذلك المرأة ينبغي لها أن تأمر زوجها بالصلاة، وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وتلح عليه في ذلك، وتكثر وتبذل الوسائل والأسباب، وتعطيه الكتب والأشرطة، وتوصي به الجيران، وتوصي به إمام المسجد، وتوصي به من تعرف من الأخيار، فإذا أيست من صلاحه ورأت أنه مصر على ترك الصلاة بالكلية؛ فينبغي لها أن تفارقه ولا خير لها فيه.(23/52)
غشيان المعصية بذريعة التيسير
السؤال
بعض الناس يتركون كثيراً من الفرائض ويرتكبون بعض المعاصي، ويقولون: الدين يسر.
الجواب
نقول لهم: هذه كلمة حق عندكم أريد بها باطل، الدين يسر ولكن ليس من اليسر أن تعصي الله تعالى؛ لأن المعصية عسر على العبد، والله تعالى قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فالدين يسر، وكل ما أمر به الدين فهو يسر، وكل ما نهى عنه الدين فهو عسر.(23/53)
حكم صلاة الجمعة للعسكريين في خارج المدينة
السؤال
نحن أفراد عسكريون لا يتجاوز عددنا خمسة عشر، ونعمل في مركز يبعد عن المدينة كثيراً، وحيث أننا نمكث أكثر من شهر في المركز، وصلاة الجمعة تفوتنا وقد قيل إنها لا تقام إلا بأربعين، أفيدونا؟
الجواب
إذا كنتم تقيمون دائماً في هذا المكان، فإنه يمكن أن تستأذنوا في إقامة صلاة الجمعة، لأن الجمعة على الصحيح لا يشترط لها أربعون، بل يمكن أن تقام الجمعة بثلاثة، وليس للجمعة عدد يشترط له، وما ورد في ذلك من الأحاديث ليس بصحيح، إنما إذا كانوا جماعة مقيمين مستقرين، فإنه يمكن أن يقيموا الجمعة فيها، ويستأذنوا في ذلك من جهات الأوقاف، أو من الإفتاء أو من غيرها.(23/54)
الجهاد والخلاف بين المجاهدين في أفغانستان
السؤال يقول: يرغب السامعون في معرفة آخر تطورات الجهاد في أفغانستان وما هي حقيقة الخلاف الذي تثيره وسائل الإعلام؟
الجواب
أولاً: وسائل الإعلام إذا أثارت الخلاف، فهي تذكر بعض الحقيقة، ولكنها تتعمد تضخيم هذه الحقيقة لحاجة في نفسها، فالصحيفة التي تتمنى أن تقوم حرب أهلية في أفغانستان، تجد أنها تكتب بالخط العريض: الحرب الأهلية تدق طبولها في أفغانستان، لأن هذا ما يتمنون، قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] فالخلاف قائم ولا شك، بل منذ أن قام الجهاد والخلاف قائم وموجود، ولكن الواقع أن الأمور الآن - في اعتقادي تسير نحو صورة قد تكون أفضل مما يتوقع الكثيرون، صحيح أنها ليست الصورة التي نتمناها.
وفي أوضاع الجهاد سلبيات ربما تحدثت عن بعضها فيما مضى، ولا داعي للحديث عنها الآن.
ولكن من آخر الأخبار التي وصلتني هذا اليومك أن الجناحين الذين بينهما اختلاف، الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، وجناح أحمد شاه مسعود، أن هناك لقاءً بينهما، وأن هناك اتفاقاً على أن تكون هناك قوات محايدة يقودها جلال الدين حقاني، وهو من جناح يونس خالص، تقوم بحراسة كابول وحمايتها، وتحول بين الطرفين، وأن هذا الاتفاق يمكن أن يحظى بالقبول من الطرفين، وربما يكون كل من الطرفين يشعر بالحاجة إلى الوحدة، وإلى عدم نزف الدماء، وأن وجود خلاف بين المجاهدين قد يكون سبباً في تدخل أطراف خارجية، هذا آخر الأخبار وهو خبر -إن شاء الله- مشجع.
الأمر الذي أحزنني كثيراً، وأحزن المسلمين أيضاً، هو وجود مجددي على رأس وسدة الحكم هناك، ولا أدري كيف تسلل هذا الرجل؟! مع أنه يرأس حزب من أصغر الأحزاب، ومع أنه رجل صوفي، وغير مرضي في مسلكه ولا في اعتقاده، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومما يؤسفني أن هذا الرجل وضع شهرين، ولكنه يقول: إن الشعب الأفغاني يحبني وأنا لا يكفيني شهران، بل أحب أن أحكم سنتين أو أطول من ذلك، ولكنني أقول: ينبغي أن يقول المسلمون كلمتهم، وأن يضغطوا على المجاهدين في منع هذا الرجل من مثل هذه الأشياء وإيقافه عند حده.(23/55)
أسهم المزاد في البنوك
السؤال
ما حكم شراء الأسهم المطروحة في مزاد البنوك الربوية؟
الجواب
لا شك أن هذا لا يجوز، لأن البنوك الربوية قامت على أساس محاربة الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278-279] فالربا من أكبر الكبائر، ولا يجوز تعاطيه ولا التعامل مع أهله بحال من الأحوال، ولا يجوز تأجيرهم محلات، ولا العمل عندهم في وظائف ولا غيرها، ويجب أن تعلم أن الرزاق هو الله.
حدثني أمس أحد الإخوان يقول: كنت أعرف موظفاً في أحد البنوك، وكان راتبه في البنك عشرة آلاف، فتركه لله، وتوظف بـ (2800) ريال، يقول لي: والله قلت له بالأمس: أريد أن أسألك سؤالاً.
فقال: لا تسألني أنا أعرف ما ستسألني.
ستقول لي: كيف استطعت أن تتعايش مع الوضع الجديد 2800 فقط؟ فقلت له: نعم.
قال: والله إن بقية الراتب لا زالت في جيبي إلى الآن ونحن في نهاية الشهر، وقبل وعندما كان عندي عشرة آلاف لم يكن فيها بركة، كانت تنتهي قبل ذلك وكنت أستدين، أما الآن فيقول: والله أحتفظ ببعض المال وبعض الراتب، ويقول: والله وجدت في نفسي كرماً ما عهدته من قبل.
فالمسألة مسألة بركة، وإذا بارك الله فلا حد لبركته، وإذا محق الله البركة فلا ينفعك أن يكون عندك الملايين من الأموال.
فأنصح الإخوة الذين يتعاملون مع البنوك شراءً للأسهم، أو عملاً فيها أو إيداعاً أو تأجيراً لها، أو تعاملاً بأي لون من الألوان، أن يتوبوا إلى الله تعالى من ذلك، وأن يقاطعوا هذه البؤر التي يُحاربُ فيها الله تعالى ورسوله.(23/56)
نصيحة للمدرسين
السؤال يقول: ما هي نصيحتكم للمدرسين وخاصة من يشرف منهم على النشاط؟
الجواب
هذا التدريس الآن نموذج للتيسير، هذا مدرس يتمثل التيسير في تعليمه، فتجد أنه ميسر في معاملته للطلاب، يعطف عليهم، ويتجاوز عن أخطائهم، ويلطف بهم، إن أراد وضع الأسئلة يسر فيها، ليس بمعنى أنه ضيع المنهج، لكنه يكون معتدلاً، فيضع أسئلة تدل على مستوى الطالب تماماً، ليس فيها مبالغة في التشديد، وليس فيها أيضاً مبالغة في التسهيل وتضييع المنهج.
عندما يأتي إلى دور التصحيح مثلاً، تجد أنه يعطي الطالب الدرجة التي يعتقد أنها مناسبة له، فبعض الناس يقف طويلاً عند الدرجة، وينقر فيعطي ربع درجة، وثلث درجة، ونصف درجة، وهناك أشياء من الممكن التسامح فيها، لأنه ليست القضية رياضيات 1 + 1 =2، وإنما فيها مجال للأخذ والرد.
فتجد معلماً -مثلاً- يتسامح مع طلابه، وييسر في معاملاته، ويعطف عليهم، ومع ذلك يضبط الدرس، ويضبط المادة، وينهي المنهج، وجاد في تدريسه ومحبوب عند الآخرين، فهذا نموذج للتيسير في هذا الموضوع.(23/57)
صيدلي نصراني ينصر
السؤال
هناك صيدلي نصراني، إذا جئته هش في وجهك ويقول: نحن نحب المسلم.
لكنه يحاول إغواء الشباب ببث أفكار نصرانية؟
الجواب
أولاً: نتساءل لماذا يوجد هذا النصراني؟ خاصة أنه يبدو أنه عربي، وليس هناك أخبث من النصارى العرب، ولا أكثر حقداً منهم على الإسلام والمسلمين، فأقول: يجب أن نبذل النصيحة لمن أحضره إلى هذه البلاد، أن يبعده ويستبدله بحنيف مسلم، خاصة ونحن الآن على حالة حرب مع النصارى في كثير من البلاد، بل في كل الدنيا، حرب بين الإسلام والنصرانية، أو كما يقول بعضهم حرب بين الهلال والصليب، لكن هذا لا نرتضيه شعاراً، بل بين الإسلام وبين النصرانية، حرب قائمة لا يهدأ أوارها ولن يهدأ حتى قيام الساعة، فينبغي أن يكون جزءاً من مقاومتنا لهؤلاء الذين يذبحون إخواننا في يوغسلافيا، ويذبحون إخواننا في بلاد العرب، ويتآمرون على مكتسبات المسلمين في الجزائر، وفي تونس، وفي مصر وفي كل مكان، ويؤيدون كل عدو ضد الإسلام.
ينبغي أن يكون أقل ما نفعله أن نبعدهم عن بلادنا، ولا نتعامل معهم، لا في صيدليات، ولا في ورش، ولا في مصانع، ولا في تعليم، ولا في تدريس، ولا في استشارات، ولا في غير ذلك.
ثم ينبغي إذا ظل هذا الرجل قائماً أن نكون يقظين له، ونتتبع كل ما يقوم به من أعمال، وإذا ثبت لدينا أنه يبشر أو ينصر، أو يدعو إلى ديانته، أن يضبط ذلك عنه ويبلغ لمن يستطيع أن يبعده.(23/58)
هموم فتاة ملتزمة
في هذه الأوضاع التي كثرت فيها وسائل الفساد أصبحت الفتاة الملتزمة تواجه هموماً ومصاعب كثيرة، تحتاج إلى من يضع لها الحل المناسب، الذي يتناسب مع طبيعة المرأة والعصر.
وقد قام الشيخ سلمان العودة -حفظه الله- بجمع ما يصل إليه من الرسائل التي تحكي كثيراً من مشاكل المرأة الدعوية والزوجية والعائلية، وعرضها في هذا الدرس بأسلوب شيق ممتع، مع وضع الحلول المناسبة لها.(24/1)
معنى الالتزام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
هذا الدرس الثامن والأربعون من" الدروس العلمية العامة" في ليلة الإثنين 26/جمادى الأولى/ 1412للهجرة.
والعنوان" هموم ملتزمة".
من نعني بكلمة ملتزمة.
إننا نعني بها تلك الفتاة التي آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم نبياً ورسولاً، ورضيت بمنهج الله تعالى وشريعته ديناً ودرباً وطريقاً، فلم ترض بقوانين الشرق والغرب ولا تقاليدها، وإنما رضيت أن تكون أسوتها وقدوتها هن النسوة المؤمنات الصالحات من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة والتابعين.
فليست هي تلك الفتاة التي أخذت الدين تقليداً عن آبائها وأجدادها، وهي تشعر أنه عبءٌ ثقيل تتمنى أن تلقيه عن كاهلها صباحاً أو مساءً، ولا تلك الفتاة التي أخذت من دينها بظاهره، وغفلت عن باطنه وحقيقته، فإن الدين كلٌ، مظهر ومخبر، سلوك وعقيدة، ولا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يفرط ببعض الكتاب: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85] .
وهذه قصيدة للشاعر العشماوي في وصف بعض التناقض الموجود عند بعض البنات والنسوة، يقول: هذي العيونُ وذلك القدُّ والشيحُ والريحانُ والنَّدُّ من أين جئتِ؟ أَأَنْجَبَتْكِ رؤىً بيضٌ فأنتِ الزهرُ والوردُ قالت وفي أجفانِها كَحَلٌ يُغري وفي كلماتها جِدُّ عربيةٌ حُريتي جَعَلَتْ مني فتاةً مالها ندُّ أغشى بقاعَ الأرضِ ما سَنَحَتْ لي فرصَةٌ بالنفس أعتدُّ عربيةٌ فسألتُ: مسلمةٌ؟ قالت: نعم، ولخالقي الحمدُ! فسألتها والحزن يَعْصِف بي والنارُ في قلبي لها وقْدُ من أين هذا الزِّيُّ ما عَرَفَتْ أرضُ الحجازِ ولا رأت نَجْد?! هذا التبذُّل يا محدّثتي سهمٌ من الإلحاد مرتَدُّ! فتنمَّرَتْ ثم انْثَنَتْ صَلَفًا ولسانُها لسِبابها عَبْدُ قالت: أنا بالنفسِ واثقةٌ حريَّتي دون الهوى سدُّ فأجبتُها والنارُ تَلْفَحُني: أخشى بأن يتناثَرَ العِقدُ! ضِدَّانِ يا أُختاه ما اجتمعا: دينُ الهدى، والكفرُ والصَدُّ والله ما أزْرى بأمتِنا إلا ازدواجٌ ما له حدٌّ!(24/2)
مصادر موضوع هموم فتاة ملتزمة
وبين يدي الحديث يتساءل البعض من الإخوة عن مصادر هذه المادة التي سأقدمها لكم الآن، فأقول: بعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذين بهما نسترشد ونستهدي في كل طرق الحياة، فمعظم هذه المادة من رسائل الأخوات، واستفساراتهن، وكتاباتهن إليًَّ، فلهن مني التحية والسلام والدعاء، فبدءًا من العنوان وهو (هموم ملتزمة) هو اقتراحٌ من إحدى الأخوات، ومرورًا بالموضوعات، وانتهاءً ببعض الأسئلة التي أحضرتها معي، وأرجو أن يكون ثمة وقت للإجابة عليها أو على بعضها، وقد حرصت أن يكون كل ذلك مما عملته أيديهن.
تقول إحداهن في مطلع اقتراحها للموضوع: إن الملتزمة بحاجةٍ ماسة إلى من يأخذ بيدها، ويطور لها التزامها، وبالذات مع شعورنا بأن هناك من الواعين من يعتقد أن تحجُّب الفتاة وتركها لمشاهدة التلفاز هو النقطة الأخيرة التي تقف عندها وليتهم يعلمون أن معظم الملتزمات يملكن كل شيءٍ إلا الفكر والفهم السليم! فهكذا تقول الأخت.
وإذا كنا نوافق أن كثيرًا من الناس يظنون أن الالتزام ينتهي عند حد الحجاب وترك مشاهدة التلفاز، مع أن الواقع أن المسلم أو المسلمة لايزالان في جهاد وترقٍّ إلى الموت، تصديقًا لقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .
فالالتزام ليس مرحلة يتجاوزها الإنسان إلى غيرها كلا! وليس قضيةً ينتهي عندها المرء! بل إن الالتزام هو محاولة مستمرة تظل مع الفتى ومع الفتاة إلى الممات، حتى في ساعة الموت يجاهد الإنسان نفسه ويعبد ربه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .
ومادام أن الروح في الجسد، ومادام أن النَّفس يتردد؛ فأمام الإنسان ألوان وألوان من المجاهدات والمصابرات والمدافعات؛ يحتاج الرجل إليها، وتحتاج المرأة إليها.
ولكننا لا نوافق تلك الأخت، على أن معظم الملتزمات يملكن كل شيءٍ إلا الفكر والفهم السليم، فإن كثيرًا من الأخوات الملتزمات يملكن-بحمد الله- قدرًا جيدًا من الفهم السليم، ويملكن عقولاً ناضجة، ويملكن مواهب قوية، نسأل الله لنا ولهن جميعًا الثبات.
أما العناوين فهي كالتالي: أولاً: المرأة والالتزام.
ثانياً: من صفات الداعية.
ثالثاً: من مشكلات الدعوة النسائية.
رابعاً: عقبات في الطريق.
خامساً: موضوعات وكتب.(24/3)
المرأة والالتزام
إن المرأة بطبيعتها أكثر تأثرًا بالخير والشر، وبما يحيط بها من الرجل؛ ولذلك نعرف خطر استغلال تلك الأجهزة العامة -أجهزة الزور المسماة بأجهزة الإعلام- في التخريب، وتأثير تلك الأجهزة في عقلية المرأة خاصة مع بقاء المرأة في المنزل، ووجود الفراغ الذي تعيشه جزءاً من الوقت، فكثيرٌ من النساء تعتكف عند هذا الجهاز، ومنه تتناول ثقافتها وعلمها، بل وحتى معلوماتها عن دينها، فهي إنما تتلقاها بواسطة هذا الجهاز من خلال بعض الأقوال، وبعض الآراء، وبعض الأطروحات، وبعض الأمور التي تقدم لها.
إن من الواجب: أن تُستخدم الوسائل العلنية العامة في مخاطبة النساء كالشريط، والكتاب، والمحاضرة المتخصصة بل والمدرسة والجامعة، حتى أقول: والسوق، وكلَّ وسيلة متاحة مباحة، فإنه ينبغي أن يستخدمها الدعاة إلى الله تعالى في الوصول إلى عقول النساء، وقلوبهن، ومخاطبتهن بآيات الله تعالى والحكمة.(24/4)
أهمية تعليم الفتاة الملتزمة
وبعض الإِخوة يَعتبون عليَّ، ويقولون: لماذا تحرض النساء على الاستمرار في الدراسة-مثلاً- أو على مواصلة العمل، وخاصة من المتدينات؟
و
الجواب
أقول لإخوتي وأخواتي: إننا في مجتمعٍ لا ننفرد نحن بصياغته وصناعته؛ بل هو مجتمعٌ فيه صناع كثيرون، ذوو عقول شتى، ومذاهب مختلفة، وآراءٍ متباينة؛ بل ونظرياتٍ واتجاهاتٍ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- كما يقال- فإذا توقفت الملتزمة عند حدٍ معينٍ فغيرها لا يتوقف.
ومعنى ذلك أننا حين ننصح المتدينات بترك الدراسة -مثلاً- أو ترك مجالات العمل والتأثير؛ فإننا سمحنا لكل الفئات، وكل الطبقات، وكل الاتجاهات التي لا تسمع لنا أصلاً- لها بأن تنمو وتتوغل وتتغلغل في المجتمع، ووضعنا سدًّا منيعًا أمام العنصر الوحيد الذي يمكن أن يساهم بشكلٍ جيدٍ في ضبط المسيرة، أو يساهم في تحجيم الشر والفساد، ولا أعتقد أن ثمة خدمةً يمكن أن نقدمها للعلمانيين بالمجان أكثر من هذه الخدمة، ولا توجد خدمة يمكن أن نقدمها لأصحاب النوايا السيئة وصرعى الشهوات أعظم من هذه الخدمة، وليس هناك أعظم من أن تصبح التجمعات النسائية بجامعاتها وبكلياتها ودراساتها ومعاهدها وندواتها وأعمالها خالية من الفتاة الملتزمة، التي ترفع راية الدين، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
وأقل ما يمكن أن تقوم به تلك الملتزمة هو: أن تشعر المجتمع بما يجري داخل تلك المجتمعات النسائية، وما يكون وراء الكواليس، ووراء الستار.
إنَّ العلماء والدعاة-بل والعامَّة- أحوج ما يكونون إلى من يقول لهم: إنه يجري في أوساط النساء كيت، وكيت، وكيت، فأين دوركم؟ وما مجالكم؟ وأين هي أصواتكم؟ فإخبارهم بما يحصل ويحدث داخل تلك الأسوار هو أقل ما يجب.
ومع ذلك أقول أيها الإخوة وأيتها الأخوات: إنني أعتقد أن زمن الشكوى المجردة قد انتهى، أو كاد أن ينتهي، وأعني بذلك أن دور الخيرين والخيرات لا يجوز أبداً أن يتوقف عند مجرد رفع الشكاوى للجهات المختصة: حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وأقول: إن هذا الدور الذي يقف عند مجرد الشكوى فقط قد انتهى، أو كاد أن ينتهي لأسبابٍ أهمها: أولاً: إنه لو كان هناك إصرار من القمم على منع رياح التغيير والفساد لأحكموا غلق النوافذ، والمسئولون الصغار دائماً وأبداً يتلمسون مواقف الكبار، وردود فعلهم، ومدى حزمهم، أو تساهلهم، ولذلك يقال في النكت والطرائف: إذا أردت أن تعرف مدى قوة المسئول في بلدٍ؛ فانظر في سلوكِ البقال، فإذا صار بينك وبين البقال مشاجرة، فقلت له: إن فعلت وإلا رفعتك إلى مدير الشرطة، أو إلى المحافظ، أو إلى الأمير، فإن وجدته اضطرب وارتبك وخاف فاعرف أن هذا دليل القوة والعدل، وأن سيف الحق صارم، أما إن قال لك: ارفع وافعل ما شئت، وأمامك هيئة الأمم المتحدة، وأمامك وأمامك فاعلم أن الأمر دليلٌ على التراخي.
ثانياً: ضغوط الناس لا يمكن إهمالها بحالٍ من الأحوال، فنحن -الآن- في عصرٍ صار للجماهير فيه تأثيرٌ كبير، فأسقطوا زعماء كباراً، وهزوا عروشاً، وحطموا أسواراً وحواجز، وما زالت صورة العُزَّل الذين يواجهون الدبابات بصدورهم في الاتحاد السوفيتي، بعدما قام الإنقلاب الشيوعي الأخير الذي فشل، ما زالت صور أولئك العزل يتدافعون في وجوه الدبابات بالآلاف، بل بعشرات الآلاف حتى استطاعوا، وهم لا يملكون ولا رصاصة واحدة أن يقفوا في وجه ذلك الانقلاب ويفشلوه، ما زالت هذه الصورة ماثلة للأذهان، وقد رآها العالم كله حيةً في شرقه وغربه.
فإذا كان المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعاً منقسماً، وهذه حقيقة: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] والإنقسام إلى حق وباطل، ومهتدٍ وضال، ومؤمنٍ وفاجر، هذا أمر لا خيار فيه، ولا حل له، ولا يعني أن هناك سعياً إلى تمزيق المجتمع، بل هو سعي إلى تسمية الأمور بأسمائها الحقيقة، ووضع الأمر في نصابه.
فإذا كان المجتمع منقسماً -وهذه حقيقة- فيجب أن يمارس الخيرون كافة الوسائل لتحقيق قناعاتهم الشرعية.
والشكوى وسيلة لا يمكن أن نهون منها أو من شأنها، ولكنها من أضعف الوسائل خاصةً إذا لم يكن معها غيرها.
لكن يستطيع الأخيار أن يمارسوا دورهم كغيرهم.
فكما أن تلك الفتاة المنحرفة المشبعة بأفكار الغرب واتجاهاته، استطاعت أن تصل إلى موقع التأثير والمسئولية، وغيرت عقول بعض بناتنا وفتياتنا، وأثرت عليهن، فكذلك تستطيع الفتاة الطيبة الصالحة المهتدية أن تكون في الموقع نفسه، وليس هناك حواجز -بحمد الله- كبيرة تقفُ في وجهها، وإن وجدت حواجز فالتغلب عليها ممكنٌ، والحاجة أم الاختراع، والمؤمن الصادق لا يعدم حيلةً توصله -بإذن الله تعالى- إلى ما يريد.
الأمر الثالث الذي يجعلني أقول: إن مجرد الشكوى لا يكفي: هو أن من غير الممكن اليوم أن نقول للناس: أغلقوا الجامعات، والمستشفيات، والمؤسسات النسائية، فإن هذا أمرٌ غير ممكن، وهو أيضاً غير مطلوب، فلا بد للناس من كل هذه الأمور، وهي مؤسساتٍ ارتبطت بحياة الناس -الآن- بدون شك، فلم يبق إلا أن يرسم لهذه المؤسسات والمدارس والمستشفيات الإطار الشرعي الصحيح، والشرعُ جاء ليضبطِ كل شيء، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الاسراء:12] ولم يبق إلا أن تشجع الفاضلات على إدارتها، أو على الأقل على المساهمة فيها، ومزاحمة الاتجاهات الأخرى غير المهتدية.(24/5)
أساليب المستغربات
أيها الأحبة أيتها الأخوات كانت رموز الوطنية والتحرر والثقافة- زعموا- في معظم البلاد العربية، أمثال: هدى شعراوي، وأمينة السعيد، ونوال السعداوي والقائمة المعروفة، رموزاً في نظرهم يطبل لها الإعلام، وتتكلم عنها الصحافة، ويعتبرن رائدات في مجالهن.
أما في بلاد الجزيرة بالذات، فلا تزال المستغربات في العقل والشعور موضع ازدراء وسخرية من المجتمع- بحمد الله تعالى- فهن يكتبن في صحافتنا بكل تأكيد، ولكن على استحياء، وبشيء من الغموض! فإذا أرادت إحداهنَّ نقد الدين؛ عبرت بالطقوس، والتقاليد البالية، والسراب، ومخلفات القرون السابقة، ولكنها لا تستطيع أن تتكلَّم عن الدين هكذا صراحًا بواحًا.
وإذا أرادت نقد العلماء والدعاة؛ عبّرت عنهم بالمتطرفين والأصوليين، وأصحاب العنف وضيق الأفق أو أبعدت النجعة؛ فعبَّرت بالكهانة والكهنة!! وهنا يبرز مسئولية القادرات من أخواتنا وبناتنا، في وجوب وجود قيادات نسائية معروفة على كافة المستويات.
فلابد أن يوجد في المدرسة قيادات، وفي نطاق التعليم قيادات، وعلى مستوى البلد قيادات؛ بل وعلى مستوى الإقليم قيادات.
وهذا وإن كان واجبًا في كل بلاد الإسلام، إلا أنه في هذه البلاد أيسر وأسهل، فلا يزال الميدان مكشوفًا مفتوحًا لمن أراد.(24/6)
من صفات المرأة الداعية
إذا كنّا نتحدث عن الفتاة الملتزمة، فإنني أكاد لا أتصور أن امرأةً، أو رجلاً ملتزمًا، يمكن أن يكون غير داعية- في مثل هذه الظروف الواقعة الآن- لأن من الالتزام أن يدعو الإنسان.
ومعنى كون المرأة ملتزمة: أنها مطيعة لربها، يقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] إذاً فأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ هو جزءٌ من التزامها، وقيامها بالدعوة إلى الله تعالى هو جزءٌ من التزامها، لأن الله تعالى يقول: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110] : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] إذاً فقيامها بواجبها، وقيامها بالدعوة إلى الله، وقيامها بالإصلاح، وقيامها بالأمر والنهي هو جزءٌ من التزامها.
وقد أثبتت الأحداث والتجارب الكثيرة، أن هذه الأمة -رجالاً ونساء- لديها قدرة على قبول الحق؛ بل لديها رغبة في سماع الحق والتزامه إذاً لا عذر لرجل منا -أو امرأةٍ- أن يقول: أنا ملتزمٌ ولكني غير داعية أبداً! وهذا الكلام يجب أن ينتهي؛ لأن كل ملتزمٍ هو داعيةٌ بالفطرة، لأن التزامه يعني أنه مطيع، والذي أمره بالصلاة هو الذي أمره بالدعوة، وهو الذي أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكن أن نفرق بين هذا وذاك بحالٍ من الأحوال، ولذلك ستجدون -وستجدن أيتها الأخوات- أن حديثي ينصب علىالملتزمة الواعية الداعية، باعتبار أنها هي المخاطبة أصالةً بهذا الموضوع، ولا شك أن كل صفةٍ نتصورها في الرجل الداعي هي أيضاً مطلوبة في المرأة.(24/7)
الصفة الخامسة: الاعتدال
ومن الأخلاق والصفات التي ينبغي أن تهتم بها الداعية: الاعتدال في كل شيء، ومن الاعتدال: الاعتدال في مشاعرها بين الإفراط والتفريط.
فنحن نجد من بعض الأخوات من تكون جافة في عواطفها ومشاعرها، فلا تتجاوب مع الأخريات، ولا تبادلهن شعورًا بشعور، وودًّا بود، ومحبةً بمحبة، أو تبتسم في وجوههنَّ، وترى أن جديَّة الدين وجدية الدعوة تتطلب قدرًا من الصرامة والوضوح والقسمات الحادة، وهذا أمر-بلا شك- غير مقبول: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول للمرأة أيضاً: وتبسُّمُكِ في وجه أختكِ صدقة أيضاً؛ فالحكم عام.
وبالمقابل هناك من النساء ومن الأخوات من تبالغ في المشاعر، وتبالغ في إغراق الأخريات بمشاعر قد تصل أحيانًا إلى حد الإفراط، فتجدين أن من الأخوات من لا تصبر عن فلانةٍ ساعةً من نهار، فإذا ذهبت إلى بيتها بدأت تتصل بها بالهاتف، وتكلمها الساعات الطوال، وربما خلت بها أوقاتًا طويلة، تبث إحداهنَّ إلى الأخرى مشاعرها وهمومها وشجونها؛ بل ربما تغار إذا رأت أخرى تجالسها أو تحادثها تغار منها لأنها تريدها لنفسها فقط!!.
وهذا نوع مما يسمى بالإعجاب في أوساط البنات، فضلاً عن قضية المحاكاة والتقليد، أي أنها تقلدها في كل شيء: في حركاتها وسكناتها، وفي طريقة كلامها، وفي لباسها، وفي حذائها، وفي حركة يدها… في كل شيء تقلدها.
ولاشك أن ذوبان شخصية البنت في أخرى-ولو كانت داعيةً- ضياع؛ لأن الله عز وجل خاطب كل إنسان بمفرده: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93-95] وقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] .
فينبغي أن تشعر المسلمة باستقلاليتها، وأنها لا يجوز أن تذوب في شخصيةٍ أخرى، فإن لها استقلاليتها، ولها مسئوليتها، فهي موقوفة بين يدي الله تعالى يوم القيامة بذاتها وبمفردها.(24/8)
الصفة الرابعة: الاهتمام بالمظهر
ومن الصفات التي ينبغي أن تتحلَّى بها الأخت الداعية أيضًا- وأقوله تعقيباً وعطفاً على ما سبق- هو أن يكون عندها قدرٌ من اهتمامها بمظهرها.
وأقول هذا؛ لأنه قد يظن بعض الناس أنني أدعو المرأة المتدينة الداعية إلى أن تكون متبذلة، بعيدةً عن الاهتمام بمظهرها كلا! فالمظهر هو البوابة الرئيسة التي لابد من عبورها إلى قلوبِ الأخريات.
ومن الطَبَعي أن تتحلى المرأة، أو تبحث عن الثوب الجميل، وقد قال الله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فكون الفتاةِ تنشأُ منذ طفولتها في الحليةِ هذا أمرٌ طبعيٌ لا تلام عليه.
ومن الطبعي: أن تهتم المرأة بتسريح شعرها مثلاً، وأن تعتني بمظهرها، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى الرجل بذلك، ولما جاءه رجل أشعث الرأس أمره بأن يسرح شعره ويدهنه، ولما جاء بعد ذلك قال: {هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} فالمرأة مع بنات جنسها من باب أولى.
ونحن بطبيعة الحال لا نقبل أبدًا أن تتبرج المرأة المسلمة بزينة، ولا أن تتطيب لخروجها من بيتها، لكن هذا لا يعني بحالٍ التبذل، أو أن تذهب إلى المجتمعات النسائية في أثواب مهنتها، خاصة حين تكون داعية يشار إليها بالبنان.
وإنني أقول لكم أيها الإخوة ولكنَّ أيتها الأخوات عن تجربةٍ وصلت إلي من عددٍ من الأطراف: كثيرٌ من الفتيات اليوم يعرضن عن الدعوة، لأنهن يتصورن أن معنى الالتزام وحضور الحلقة في المسجد -مسجد المدرسة- أو سماع الشريط يعني أن الفتاة سوف تتخلى عن كل مظهرٍ من مظاهر اهتمامها بنفسها، وهي لا تريد ذلك، فتقول: كل شيء إلا اهتمامي بمظهري فمن الذي قال: إنّ الإسلام يحول بينها وبين ذلك في حدود ما أباحه الله تعالى، وفي حدودِ ما ليس بحرام؟! فالمظهر مباح إذا كان ثوباً ليس زينة في نفسه وغير متطيبة فيه ولا تظهر به أمام الرجال.(24/9)
الصفة الثالثة: حسن الخلق
ومن الصفات التي ينبغي أن تلتزم بها الفتاة الداعية: حسن الخلق، والتواضع، ولين الجانب، مما يحبب إليها الأخريات، ولعل غرس المحبة في نفوس المدعوات هو أولُ سببٍ لقبول الدعوة، فالدعوة إلى الله تعالى هي حبٌ، والأسلوبُ شديد التأثير في قبول الدعوة أو ردها، ولا يجوز لنا أبدًا أن نتجنى على الحق الذي نحمله حين نقدمه للناس بالأسلوب الغليظ الجاف؛ بل يجب أن نعطف على الآخرين، ونحتوي مشاعرهم، ونتلمس همومهم، ونشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، ولانستعلي عليهم أو نستكبر؛ فما تواضع أحدٌ لله تعالى إلا رفعه.(24/10)
الصفة الأولى: العلم بما تدعو إليه
فمثلاً: العلم بما تدعو إليه، وهذا يعتبر من الواجبات، فلا يمكن أن تدعو إلى شيءٍ وهي لا تعلم: هل هو من الشرع، أم ليس من الشرع، وهل هو من العادات أم من العبادات؟ وهل هو من الأمور الدينية أو من التقاليد الاجتماعية الموروثة مثلاً.
والشرع واضحٌ بحمد الله، إما آية محكمة، أو سنة ماضية، أو إجماعٌ قائم، أو قولُ معروف مبني على اجتهاد صحيح واضح كالشمس، فلا بد أن تعرف المرأة المسلمة الأمر الذي تدعو إليه بدليله، بحيث إذا قال لها أحد: ما الدليل؟ أو لماذا؟ استطاعت أن تجيب على ذلك.(24/11)
الصفة الثانية: القدوة الحسنة
ثم يأتي دور القدوة ومن قبل قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتنْدَلِقُ أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى.
كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه} .
إذاً من الخطورة بمكان أن يتكلم الإنسان بلسانه، ثم يكذب ذلك بأفعاله.
يا واعظَ الناس قد أصبحتَ متَّهمًا إذ عِبْتَ منهم أمورًا أنت تأتيها أصبحتَ تنصحهم بالوعظ مجتهدًا والموبقات- لَعَمري- أنت جانيها والرجل والمرأة في هذا الحديث سواء، وإنما ذكر الرجل على سبيل التغليب، وإلا فالحكم واحد، والطبيعة واحدة، وما ثبت في حق الرجل ثبت في حق المرأة إلا بدليلٍ يخرجها منه.
يا أيها الرجلُ المعلمُ غيرَه هلَّا لنفسِك كان ذا التعليمُ تصفُ الدواءَ لذي السقام وذي الضَّنى كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يُقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تَنْهَ عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ فالتربية والدعوة بالسلوك -أحياناً- أحسن من ألف محاضرة، وسلوك امرأةٍ بين زميلاتها في حسن خلقها وأدبها، ومظهرها ومخبرها، وطيب حديثها، والتزامها بشريعة ربها، وصلاحها؛ أعتقد أنه أفضل من كثيرٍ من الكلمات والمحاضرات التي نبدئ فيها ونعيد، ونردد الكلام، وقد لا يسمعه الكثيرون.
فكثيرٌ من الأخوات وكثير من البنات تقول: أنا ليس عندي رغبة في سماع الأشرطة الدينية؛ وهذا كثيراً ما يقع، لكن لو وجدت أمامها نموذجًا حيًّا، وصورةً حيةً من فتاةٍ ملتزمةٍ متدينةٍ، فأعجبتها؛ أعتقد أنها هنا لاتحتاج إلى أن تسمع شريطًا أو لا تسمع؛ فالحق واضحٌ، ولا يحتاج إلى صعوباتٍ في من يريده.
فلابدّ من القدوة الحسنة، وأن تكون الأخت الداعية قدوةً حسنةً في عبادتها، وسلوكها، ومخبرها، وقلبها، وعقيدتها، وأخلاقها، وطيبتها، ومظهرها أيضًا: في شكلها وثيابها وفي شعرها وثيابها ومشيتها، وفي حركاتها، في أعمالها وأقوالها، وكل شيء، وأضرب لكَ ولكِ مثلاً على ذلك: المرأة الداعية القدوة، التي تظهرٍ بمظهر لا يليق بمثلها؛ كأن تلبس مثلاً عباءةً لامعةً مطرزة، أو تلبس كابًا مطرزًا هو زينة بنفسه، أو تضعه على كتفها، أو تظهر زينتها للأجانب، أو تكون مولعة بمتابعة الموضات والتسريحات أولاً بأول.
إن هذا المظهر حين تتحدث وتدعو -لا نقول: إنه يجب عليها أن تسكت إذا كانت هكذا، لا! فهي مطالبة بالدعوة كما قلنا منذ قليل- فإنها تكون بهذا العمل الذي عملته قد سنت للأخريات سنةً يقلدنها فيها، إما عن حسن ظن بأن هذا العمل الذي فعلته لا شيء فيه، والدليل أن فلانةً فعلته، أو سيقولون: إن هذه المرأة لا تستحق أن يسمع لها، لأنها تناقض قولها بفعلها، بل أقول: لا بأس أن تتجنب الأخت الداعية هذا، بل ينبغي أن تتجنب بعض الأمور المشتبهة حمايةً لعرضها، وحمايةً لدعوتها.(24/12)
من مشكلات الدعوة النسائية
وهناك مشكلاتٌ كثيرةٌ في مجال دعوة النساء، أشير إلى شيءٍ منها، فمن هذه المشكلات:(24/13)
صعوبة التأثير على كبار السن
المشكلة الثالثة: صعوبة التأثير على كبار السن، فكثيرًا ما تشتكي الفتيات من امرأة كبيرة السن، وقد تكون أمها أو أم زوجها أو خالتها أو قريبتها، وأن هؤلاء النسوة لا يقبلن التوجيه، وإذا قيل لهن شيء؛ قالت: أنتم كل شيء عندكم حرام! أنتم دينكم جديد! أنتم كذا، أنتم كذا… وتشتكي كثيرٌ من النساء من مثل هذا.
فأقول: ينبغي أن يراعى هذا بالنسبة للنِّساء الكبيرات في السن بأمور: منها أن تتلطف المرأة في الدعوة؛ ومنها أنها إذا رأتهن على منكر فمن الممكن أن تصرفهن عنه أولاً، فإذا رأت غيبة فتحاول أن تطرح موضوعاً آخر بعيداً عنه، فإذا انشغلت النساء بهذا الموضوع الجديد عن موضوع الغيبة، بحثت الفتاة يوماً من الأيام عن كتاب يكون فيه كلمة لأحد العلماء المعروفين-كسماحة الشيخ ابن باز مثلاً أو غيره- فيه تحذير من الغيبة، أو من النميمة، أو بيان الحكم الشرعي الذي أخطأت فيه المرأة، ثم تأتي المرأة وتقول: أريد أن أقرأ عليكن فتوى للشيخ ابن باز يقول: بسم الله الرحمن الرحمن، وتقرأ، فحينئذ لا تملك المرأة -الأم الكبيرة- أن تقول: هذا دينٌ جديد، أو أنتم كل شيءٍ غيرتموه؛ بل تقول: سبحان الله! سبحان الله! العلم بحر! وتقبل هذا الكلام؛ لأنها عرفت أن هذا الرجل له ثقله، وله قدره، وله وزنه.
ومن الحلول: مراعاة الحاجة إلى أسلوب ملائم في الدعوة يتميز بالمرح والمؤانسة وتطييب قلوب وخواطر الآخرين وتقديم النصيحة لهم في قالبٍ من الود والمحبة، ويمكن أن يأتي هنا دور الهدية؛ فإنها تَسُلُّ السخيمة كما جاء في حديث، وإن كان لا يصح.(24/14)
صعوبة التوفيق بين الدعوة والمنزل
المشكلة الثانية في مجتمعات الدعوة النسائية هي: صعوبة التوفيق بين العمل والدعوة والشئون المنزلية؛ فأمام المرأةِ -مثلاً- العمل: دراسةُ أو تدريس أو أيّ عمل آخر، وأمامها الدعوة، وأمامها -أيضاً- بعض الأمور المنزلية: البيت، والزوج، والأولاد… إلى غير ذلك، وهذه بلا شك معضلة حقيقية، ولا أتجاوز الحقيقية إذا قلت: إنها أكبر مشكلةٍ تواجه الداعيات، وعلى عتبتها تتحطم الكثير من الآمال والطموحات؛ فكم من فتاةٍ تشتعل في قلبها جذوة الحماس للدعوة إلى الله تعالى، وتعيش في مخيلتها الكثير من الأحلام والآمال والطموحات، فإذا تزوجت وواجهت الحياة العملية، تبخَّرت تلك الآمال، وذابت تلك المشاعر، ولم تعد تملك منها إلا الحسرات والأنَّات والآهات والزفرات والذكريات والله المستعان! وكثيراً ما تقول الفتيات: كنت وكنت وأصبح كثير من الأخوات كنتياً! فهي تستطيع أن تقول: كنتُ وكنتُ، لكن لا تستطيع أن تقول: أنا الآن أفعل كذا إلا في القليل، ولا أزعم أيضاً أنني أملك حلاً لهذه المعضلة، ولكنني أحاول المشاركة في بعض الحلول: فأول إضاءة في هذا الطريق هي في ظل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2-3] ويقول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] ويقول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] .
فالتقوى هي أول حل: أن يتقي العبد ربه، وتتقي الأمة ربها جل وعلا في نفسها، ووقتها، وزوجها، وعملها، ومسئولياتها.
والتقوى ليست معنىً غامضًا كما يتصور البعض؛ نحن من الممكن أن نحدد التقوى في بعض النقاط والأمثلة التالية: من التقوى: أن تختصر الفتاة ثلاث ساعات تجلسها أمام المرآة، وهي تعبث بالأصباغ وترسم وتمسح، وتزين شعرها؛ لتصبح هذه الثلاث الساعات نصف ساعة-مثلاً- أو ثلث ساعة، دون تفريطٍ في العناية بجمالها لزوجها، الذي هو جزءٌ من شخصيتها وجزء من فطرتها.
ومن التقوى: أن تختصر الفتاة مكالمةً هاتفية تقضي فيها ساعتين مع زميلتها، في أحاديث لا جدوى من ورائها؛ لتكون هذه المكالمة ربع ساعة، أو عشر دقائق في السؤال عن الحال والحلال والعيال وغير ذلك.
ومن التقوى: أن تختصر الفتاة الوقت المخصص لصناعة الحلوى-مثلاً- من ساعةٍ ونصف إلى صناعةٍ جيدةٍ جاهزةٍ، لا يستغرق تحضيرها -أحيانًا- نصف ساعة.
ومن التقوى: أن تقتصد المؤمنة في نومها، فالنوم من صلاة الفجر -مثلاً- إلى الساعة العاشرة ضحى، وبعد الظهر، وقسطًا كافيًا من الليل هذا من عادات الجاهلية، وامرؤ القيس لما كان يمدح معشوقته، كان يقول: نئوم الضحى، فيمدحها بكثرةِ نومها، لكن في الإسلام مضى عهد النوم وانتهى، وأصبح المؤمن مطالبًا بأن يكون قسطه من النوم مجردَ استعدادٍ لاستئناف حياةٍ من البذل والجهاد.
فنومها إلى الساعة العاشرة ضحىً، ثم بعد صلاة الظهر، وقسطًا كافيًا من الليل هذا الأمر لا يسوغ، والرجل مثلها، ولذلك في قصة أم زرع وهي في صحيحي البخاري ومسلم: {اثنتي عشرة امرأة اجتمعن وتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، فكل واحدةٍ قالت: زوجي كذا… زوجي العشنق، إن أنطق أطلَّق، وإن أسكت أعلَّق} إلى آخر القصة الطويلة التي لا شأن لنا بها الآن، لكن الخامسة منهن قالت: {زوجي إن دخل فَهِد، وإن خرج أَسِد، ولا يَسْأل عما عَهدْ} فما معنى فهد؟ يقول ابن الأنباري: إن معنى قولها: (إن دخل فهد) .
هو أنه صار كالفهد، وهو حيوان كثير النوم، فهي تقول: إنه إذا دخل التف بفراشه وغفل عنها، ونام نومًا طويلاً، أما إذا خرج فهو كالأسد الهصور على الناس، (ولا يسأل عما عهد) أي: أنه رجلٌ فيه كرمٌ وفيه إعراض، فهو لا يدقق في كل شيء، ولا يسأل عن كل شيء، وقد كان العرب يمدحون الإنسان بمثل هذا الشيء.
ومازال العرب-أيضًا- يمدحون الإنسان بقلة نومه واقتصاده في ذلك، وأراكم تذكرون قول الهُذلي الذي يقول مادحاً رجلاً: فأتت به حُوشَ الفؤاد مُبَطَّناً سُهُدًا إذا ما نام ليلُ الهَوْجَلِ.
فكون الإنسان قليل النوم ذلك مما يمدح به الرجل والمرأة، والاقتصاد في ذلك ممكنٌ، فالعلماء في السابق كانوا يقولون: إن القدر المعتدل من النوم ما بين ست إلى ثمان ساعات يومياً، وهذا الكلام ذكر جماعةٌ من السابقين إجماع الأطباء عليه.
أما الآن فقد ظهر أطباء معاصرون يقولون: لا.
بل الأمر الغالب أن النوم الطبيعي من ست إلى ثمان ساعات؛ لكن قد يكتفي الجسم بدون ذلك، كثلاث أو أربع ساعات أحيانًا، وقد يحتاج إلى أكثر من ثمان ساعاتٍ أحيانًا، وهذا وذاك قليل، لكنه موجود.
الإضاءة الثانية: هي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90] وقول النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه الشيخان- لـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً} وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً} .
والزَوْر يحتمل أن يكون المقصود به: الجوف، أي: أن نفسك لها عليك حق، فينبغي أن تأكل بقدر ما تحتاج مثلاً، وقيل: إن المقصود بالزور: الزوَّار، فلهم حقٌ عليك أيضًا، وحقُّ الأضياف ألا تهملهم وتهجرهم وتخسرهم، وتعرض عنهم: {فآت كل ذى حقٍ حقه} ولذلك سوء التوزيع يكون سببًا في ضياع الثروة.
وإذا كانت أغلى ثروة نملكها هي الوقت؛ فإن سوء توزيع الوقت من أسباب الضياع، ولو أن الرجل والمرأة أفلحا في ضبطه وتوزيعه بطريقة معتدلة؛ لكسبا شيئاً كثيراً.
فبعض الزوجات الداعيات-مثلاً- تشتكي أن زوجها الملتزم لا يعطيها من الوقت ما يكفيها، وهذه جاءت لي فيها شكاوى كثيرة، وأقول- ولعلي لا أكون من هؤلاء-: ليس أولئك بخياركم! فمن يقصرون في حقوق بيوتهم ليسوا من الخيار.
فكثير من النساء تشتكي أن زوجها لا يعطيها من الوقت ما يكفيها، وقد لا يأوي إلى البيت إلا متأخراً، وربما يأوي وهو متعب قلق أو متضايق، فهو لا يريد أن ينظر إلى زوجته، ولا أن يجلس معها، وإنما يريد أن يأوي إلى الفراش، أو ينام أو يخلو بهمومه، أفليس من المناسب إذن- إذا كان الأمر كذلك- أن تكون المرأة منشغلةً بعض الوقت بشئون بيتها، أو شئون دعوتها، أو شئون أولادها في ظل غياب زوجها؟! خاصةً ونحن نعلم أن المرأة إذا كانت جالسةً في البيت تنتظر الزوج، فهي تعدُّ الساعات والدقائق عدًّا، فإذا جاء زوجها كانت قد استطالت غيبته، واستبطأت مجيئه، لكن إذا كانت المرأة هي الأخرى مشغولة في أمورٍ مفيدةٍ نافعة في دينها أو دنياها؛ فإن الوقت يمر عليها بغير ذلك.
ومن العدل ترتيب الأولويات والمهمات، فالفرض-مثلاً- يقدم على النفل، وربنا تعالى يقول في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه…} إذًا أولاً الفرائض ثم النوافل؛ لأنّ الله تعالى لا يقبل نافلةً حتى تؤدَّى الفريضة، كما قال أبو بكر رضي الله عنه في وصيته.
فالفرض يقدم على النفل، والضرورات تقدم على الحاجات، والحاجات تقدم على الأمور التكميلية التحسينية، هذا إذا كان هناك تعارض.
فليس من العدل أن تهمل المرأة زوجها وبيتها وأولادها؛ بحجة أنها -مثلاً- مشغولة بالدعوة، كما أنه ليس من العدل أن يهمل الرجل بيته وزوجه وأولاده؛ بحجة أنه مشغول بالدعوة، وليس من العدل أن تغفل المرأة الداعية عن عملها الوظيفي الذي تتقاضى عليه مرتبًا من الأمة، أو تغفل عن عملها الدعوي الذي هي فيه على ثغرة من ثغور الإسلام، ويُخشى أن يؤتى الإسلام من قبلها، فبإمكانها أن تسند بعض المهمات إلى آخرين، وهذا من الحلول، فيتحملون معها المسئولية، وهي تقوم بدور التوجيه والإشراف، فإذا كثرت عليها الأعمال استطاعت توزيع المهمات مثلاً، فيمكن أن يساعدها أحدٌ في القيام على شئون الأطفال، خاصةٍ ممن يوثق بعلمها ودينها وخلقها، ويمكن أن يساعدها أحدٌ في ترتيب بيتها، ويمكن أن يساعدها أحدٌ في مهماتها الدعوية - كما أسلفت قبل قليل- ويساعدها أخرياتٌ يتدربن على هذه الأعمال شيئاً فشيئاً، ويقمن بهذه المهمة، ويساعدن عليها.
أما الإضاءة الثالثة فهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام:161-162] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن جابر، ومسلم عن حذيفة رضي الله عنهما: {كلُّ معروف صدقة} و (كل) : من ألفاظ العموم: {كل معروف صقة} .
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي، والحاكم عن جابر رضي الله عنه: {وإن من المعروف أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وأن تفرغ من دلوك في إناء جارك} ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطيالسي، وأحمد، والنسائي عن عمرو بن أمية الضمري {كل ما صنعت لأهلك فهو صدقة عليهم} والكلام للرجل والمرأة-أيضًا- على حدٍ سواء؛ بل في الحديث المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلمعن أحمد عن أبي(24/15)
قلة عدد النساء الداعيات
وهذه القلة يعاني منها الكثيرون؛ ولذلك نجدُ أن هناك جهلاً كبيرًا في أوساط الفتيات، حتى في عالم المدن، فضلاً عن القرى والأرياف والمناطق النائية.
والحلُّ أمام هذه المشكلة يتمثل في عدةِ أمورٍ أعرضها باختصار وبسرعة؛ رغبةً في استكمال الموضوع: فمن الحلول: طلب المشاركة من الجميع، بمعنى أن تحرص الأخت المسلمة على أن تشارك كل النساء في الدعوة إلى الله تعالى، وأن تشارك كل الغيورات، حتى مع وجود شيءٍ من التقصير، وينبغي أن نضع في أذهان النساء والرجال أيضاً: أنه لا يشترط للدعوة أن تكون كاملاً، فالدعوة ليست نادياً للكَمَلَة، والكمالُ في البشر عزيز، وما من إنسانٍ إلا وفيه نقص؛ لكن هذا النقص لا يمكن أن يحول بين الإنسان وبين قيامه بواجب الدعوة إلى الله تعالى، فأنت تدعو -مثلاً- إلى ما عملت، بل حتى ما لم تعمله يمكن أن تدعو إليه بطريقتك الخاصة.
فمثلاً: الإنسان المقصر -رجلاً كان أو امرأة- يمكن أن يقول للناس: أيها الناس إن الأمر الذي إن وقعت فيه، وهو كيت وكيت وكيت، أعرف أنه خطأ، وأستغفر الله تعالى منه، وأتوب إليه، وقد يكون فيكم من هو أقوى عزيمةً مني، أو أصلب إرادةً، أو أصدق إيماناً، أو أخلص لله عز وجل، فيستطيع أن ينجح هو فيما فشلت فيه أنا، فتكون دللت على الخير، ولك مثل أجر فاعله، ولو كنت مقصراً فيه: ولو لم يعظ في الناسِ من هو مذنبٌ فمن يعظُ العاصين بعد محمدِولذلك قال الأصوليون: حق على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضًا! وعلى هذا فوقوع الإنسان في المعصية لا يسوِّغ له ترك النهي عنها أبدًا؛ بل ينهى عن المعصية ولو كان واقعًا فيها، ويأمر بالمعروف ولو كان تاركًا له، وإن كان الأكمل والأفضل والأدعى للقبول هو سيرةُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] .
إذًا حتى مع التقصير يجب أن تجر الأخت الداعية الأخريات إلى المشاركة، فمثلاً بعض الطالبات في المدارس يمكن أن تشارك إحداهن في كلمة، أو في توجيه، أو في إعداد بحث مصغر في أمور معينة، تُحدّث بها بنات جنسها، من خلال حلقةِ المسجد، أو من خلال الدرس، أو من خلال أيه مناسبة أخرى مع مراعاةِ تعهد هؤلاء النساء بالتوجيه؛ فكونها قامت، وتكلمت، أو ألقت محاضرة أو كلمة أو بحثًا؛ لا يعني ذلك أنها قد جاوزت القنطرة، وأصبحت داعيةً، يطلب منها ولا يوجه إليها؛ يطلب منها أن تأمر الناس ولا تُؤمر هي، كلا! بل هو مطلوبٌ أن تُتَعاهد، ويُحرص عليها، وتُنصح، وتُقرأ مشاعرها، وتوضع في موضعها الطبعي، فلا يبالغ في الثقةِ بها وإطلاقِ العنان لها بما قد يضر بها.
وقد سمعت واطلعت على كثيرٍ من الحالات، منها أن الفتاة عندما تكون في المرحلة الثانوية -مثلاً- ثم يسند إليها أمرُ الدعوة كله في المدرسة؛ فتكون هي الداعية، وهي المعلمة والمتكلمة والواعظة والمتحدثة وتصبح الأنظار تتجه إليها، والأصابع تشير إليها، والأخريات ينظرن إليها نظرةً معينة أن هذا يفقدها -أحيانًا- نوعاً من القدرة على ضبط نفسها، وعلى اتزانها، ويكونُ له تأثيرٌ سلبيّ على نفسيتها، وعلى اهتماماتها التربوية الأخرى، فربما تنسى نفسها أحيانًا، وربما تبالغ في بعض الأمور، وربما تجتهد فلا تصيب؛ لأن الفترة والسن التي تعيش فيها لا تجعلها قادرةً على الاجتهاد في كل المسائل؛ بل ربما يشعر أهلها بشيءٍ من التقصير، وقد اطلعت على حالاتٍ وصلت إلى حد أزمة نفسيةٍ بسبب هذا الأمر.
إذاً يجب أن نفرق بين كوننا نقول: لا تتدخل الفتاة وهي في هذا السن في الدعوة، وهذا لا يصلح، وبين كوننا نضع في يدها الأمر كله من الألف إلى الياء، ونجعلها هي القائمة بالأمر قياماً كاملاً، فهذا أيضاً لا يصلح، بل ينبغي أن تكون في مجال التدريب والمساهمة والمشاركة مع أخريات، وأن نتعاهدها بالتوجيه والنصح، ونقول: هنا أصبت، وهنا كنت تحتاجين إلى احتياط في الأمر أكثر، وهذا خطأ ينبغي تجنبه وهكذا.
الحل الثاني: الاتجاه نحو الجهود العامة: فمثلاً: مجموعة من الجلسات قد لا تشمل سوى عشرين أو ثلاثين امرأة، أي: قد تجعل المرأة في بيتها جلسةً خاصةً لخمسٍ من جيرانها -خمسُ نساءٍ فقط- لكن لو أنها أقامت محاضرة أو درسًا عامًّا أو أمسية؛ لكان من الممكن أن تشمل مئات النساء، فيكون هذا الجهد المحدود الذي صرفته إلى خمس، كان من الممكن أن تصرفه إلى خمسين، أو إلى خمسمائة امرأة.
وبطبيعة الحال نحن لا نقلل من أهميّة الدروس والجلسات الخاصة؛ فهذه الدروس والجلسات الخاصة لها أهميتها، فهي: أولاً: أنها تخاطب فئة من المجتمع.
ثانيًا: أنها ربما قد توجد امرأة تقدر على أن تقيم جلسةً خاصة لخمس؛ لكنها لا تستطيع أن تقيم محاضرةً أو درسًا عامًّا.
ثالثًا: أن الجلسة الخاصة -خمس نساء أو عشر- يمكن التحكم في وقتها وفي مكانها، وهذا كله يسهل إمكانية أن تُقام، لكن درساً أو محاضرة قد يصعب قيامه.
لكن متى أمكن أن تقوم المرأة بنشاط عام: كمحاضرةٍ أو درسٍ عام أو ندوة؛ فإن هذا يكون أبلغ في التأثير، وأوسع في المنطقة التي تخاطبها.
الحل الثالث: ضرورة التركيز من الجميع -رجالاً ونساءً- على إعدادِ جيلٍ من الداعيات الواعيات ممن يحملن هم الإسلام، وتنمية هذه المعاني -معاني الدعوة- لديهن.
فقد تكون زوجتك-مثلاً- ممن تصلح لهذا، فلا يجوز أن يكون زواجها نهاية المطاف، أو أختك، أو قريبتك، أو بنت أختك، أو محرمك؛ فينبغي أن تحرص على أن تعدها داعيةً إلى الله تعالى، وكذلك النساء الداعيات من المدرسات ينبغي أن يعتنين بإعداد نوعياتٍ من الفتيات وتهيئتهن وتأهيلهن للقيام بهذه المهمة الصعبة؛ لأن واحدةً من النساء يمكن أن تقوم عن عشرٍ، وكما يقال: والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ وواحدٌ كالألفِ إن أمرٌ عَنَا ولا نحتاج إلى تحريف في هذا البيت، فقد حرفه قبلنا: أبو عبد الرحمن بن عقيل، فقال: والناس ألفٌ منهمُ كواحدة وواحدة كالألفِ إن أمرٌ عَنَا وهذا صحيح، فربما امرأة غلبت آلاف الرجال، ومن يستطيعُ أن يأتي في عيار أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أو خديجة، أو حفصة، أو زينب، أو أم سلمة رضي الله عنهن، أو غيرهنَّ من المؤمنات الأُول؟ حتى كبار الرجال تتقاصر هممهم دونهن، وما زال في هذه الأمة خيرٌ، رجالاً ونساءً.
الحل الرابع: الاستفادة من النشاطات الرجالية: فلماذا نتصور أن نشاط المرأة ينبغي أن يكون محصورًا؟ فالنشاطات الرجالية: كالدروس-مثلاً- والمحاضرات، والندوات، ومعظم الكلام الذي يقال فيها يصلح للرجال ويصلح للنساء، وكما أسلفت أن الشرع جاء للرجل والمرأة، وخاطب الجنسين معًا، وما ثبت للرجل ثبت للمرأة إلا بدليل.
وليس يلزم أن تكون المرأة مجتمعًا مستقلاًّ متكاملاً، فقيهتها منها، وداعيتها منها، ومفتيتها منها أن هذا ليس بلازم، والرسل عليهم الصلاة السلام كانوا رجالاً فقط، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] إذًا فالرسل كانوا رجالاً، ولا أرى أن أدخل في جدلٍ عقيمٍ حول: هل بعث من النساء أحد؟ فإن ابن حزم له رأيٌ، وبعض الفقهاء لهم رأىً آخر، ولكن الجمهور- كما ذكر القرطبي وغيره -على أن الرسل كلهم كانوا من الرجال، ولم يبعث الله نبية قط.
فلا أريد أن أدخل في الجدل العقيم، فنقف عند الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] وهؤلاء الرجال كانوا يخاطبون الرجال، ويخاطبون النساء؛ ويدعون الجميع على حدٍ سواء.
إذًا لا مانع- حفظًا للجهود- أن تنضم النساء إلى مواكبِ المستمعين إلى الدروس والمحاضرات والمجهودات الرجالية بطبيعة الحال على انفرادٍ، ومع التزامهنَّ بأوامر الشرع: في عدم التطيب إذا أرادت الخروج، وعدم لبس الثوب الذي يكون زينةً في نفسه، وستر نفسها، وعدم الجهر بالقول والاختلاط بالرجال… إلى غير ذلك؛ لكنها -أيضاً- تستفيد في مجالاتها الخاصة المنعزلة.
وهنا يأتي دوركم أنتم يا أولياء الأمور: دور الأب، ودور الزوج، دور الأخ، في تسهيل المهمة وإعانة المرأة على بلوغ محلها الذي تريد.(24/16)
عقبات في طريق الدعوة
هناك عقباتٌ كثيرة تعترض الداعية، كما يعترض الرجل الداعية عقبات أخرى كثيرة أيضاً، فمن العقبات:(24/17)
عدم تجاوب بعض النساء مع الدعوة
ومن العقبات التي تواجهها المجتمعات الدعوية النسائية: عدم التجاوب من الأخريات -من النساء- ورد بعضهن للدعوة.
وبدءًا أقول: هذه الأمة أمة مجربة، فلست أنت أول من دعا؛ وإنما دعا قبلك كثيرون وكثيرات، وكان التجاوب كثيرًا وكبيرًا، والكفار الآن يدخلون في دين الله أفواجًا، فمن باب أولى أن المسلمين يستجيبون لله وللرسول إذا دعوا إلى ما يحييهم، وإذا أمروا ونهوا.
فأما أسباب عدم التجاوب فإنها ترجع إلى بعض الأمور التالية: أولاً: منها ما يتعلق بالمدعوة نفسها: فقد يكون السبب فعلاً من المدعوة، وذلك كأن تكون شديدة الانحراف، أو طال مكثها في الشر، وأصبح خروجها منه ليس بالأمر السهل، وأصبحت جذورها ضاربة في تربة الشر والفساد، أو صعوبة طبعها وعدم ليونتها، كون عندها شيء من العناد والصعوبة في المراس، أو فساد البيئة التي ترجع إليها، ووجود قرينات سوء يدعونها إلى الشر والفساد وهذا كله يمكن أن يعالج بالصبر وطول النَّفَس، والأناة، وتكثيف الجهود، وربط هذه الفتاة ببيئة إسلامية جيدة جديدة تكون بديلاًَ عن البيئة الفاسدة التي تعيش فيها.
وقد يكون عدم قبولها للدعوة بسبب كبر سنها -كما أسلفت قبل قليل- فيعالج بالوسائل المناسبة.
ومن هذه الأسباب التي تعوق قبول الدعوة ما يتعلق بالداعية نفسها -المرأة التي تدعو- وذلك كعدم استخدامها الأسلوب المناسب، أو عدم قدرتها على الوصول إلى قلوب الأخريات، أوقسوتها، أو شدة تركيزها على أخطاء الآخرين، وهذه مشكلة وهي كون الدعوة تركيزاً على الأخطاء، أو شعور الأخريات بأن الداعية تمارس نوعًا من الأستاذية أو التسلط، مما يحرضهن على مخالفتها ومعاندتها؛ لأنهن يعتبرن عملها هذا مسّاً للكرامة، أو جرحًا للكبرياء، والشيطان حاضر، فيؤجج في الفتاة مشاعر الكبرياء والعزة، فترفض الدعوة ولا تُقبل عليها.
والعلاج: أن تحرص الفتاة الداعية على استخدام أسلوب الالتماس، والعرض، والتلميح، دون المواجهة والضرب في الوجه كلما أمكن ذلك، وألا تُشعر الأخريات بأنها مستعلية عليهن، أو أنها فوقهن، أو أنها تشعر بالأستاذية، أو التسلط عليهن.
ومن العلاج: العناية بشخصية المرأة: عقيدةً، وثقافةً، وسلوكًا، ومظهرًا، ومخبرًا، دون إهمال الأمور المعنوية المهمة والأساسية، بسبب الاشتغال بالقضايا المظهرية فحسب.
أقول: إن (90%) من الأسئلة التي تصل إلي -أيها الإخوة- لا تكاد تتجاوز شعر الرأس إلا إلى أكمام اليدين، أو حذاء القدمين!! إذاً فأين عقيدة المرأة؟! وأين أخلاقها؟! وأين خوفها من ربها؟! وأين معرفتها بأحكام دينها؟! وأين معرفتها بعباداتها؟! وأين معرفتها بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج؟! وأين معرفتها بحقوق الآخرين عليها؟! أين أين؟ كل هذه الأمور لا تكاد تجد عنها أسئلةً! إنما تجد الأسئلة محصورة في موضوعات محدودة جدّاً، وقد قلت ذلك من خلال استقراء لعدد كبير من الأسئلة التي وصلت إلي، ونحن لا نهوّن من أمر شيء من الدين، فالدين كله مهم، ولما قيل للإمام مالك في مسألةٍ ما: هذا أمرٌ صغير، قال: ليس في الدين شيء صغير، والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] .
فالدين كله كذلك، لكن أيضًا رحم الله امرءًا وضع الشيء في موضعه، فمن الحكمة أن يضع الإنسان الشيء في موضعه، فمثلاً: لماذا نهوّن من أمور العقيدة وأمور القلب؟! القلب الذي يقول فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} لماذا لا نعتني بالقلب وصلاحه صلاحاً للظاهر أيضًا؟! ومن العلاج أيضاً: عدم تتبع الزلات والعثرات، فما من إنسان إلا وعليه مآخذ وله زلات، وليس من الأسلوب التربوي أبداً التركيز على ملاحظة الزلات، بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني أحيانًا، ويمدح الإنسان الذي يستحق المدح بخصال الخير الموجودة فيه، وكتب المناقب في البخاري، ومسلم، وكل كتب السنة مليئة بمثل ذلك، فيثني على الإنسان بالخير الموجود فيه؛ حتى ينمو هذا الخير ويكبر، وحتى يقتدي به الآخرون في ذلك، لأن مدح الإنسان بالخير الموجود فيه يدعو إلى مزيد منه، وليس شرطاً أن تمدح الشخص، بل تمدح الفئة، أو الأمة، أو الطائفة بالخير الموجود فيهم، فإن هذا يدعوهم إلى مزيد من الخير، وإلى التغلب على خصال النقص الموجودة لديهم، ولا يمنع هذا أن يُلاحظ على الفتاة أحيانًا شيء من النقص، فتُنصح مباشرة في رسالة، أو حديثٍ أخوي مباشر، أو مكالمةٍ هاتفية… أو غير ذلك؛ لكن لا يكون هذا هو الأصل؛ بل يكون طارئاً، بمناسبة وجود غلطٍ معين.
ومن العلاج: عدم محاصرة المرأة المخطئة أو المقصرة، أو المسارعة في اتهامها، فنحن لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، ولا أن نشق عن بطونهم، ومالنا إلا الظاهر، ولسنا مغفلين بكل تأكيد، لكننا لا نطلق لخيالنا العنان في تصور فساد مستور، أمره إلى الله تعالى، إن شاء عذَّب، وإن شاء غفر، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: {ورحمتي سبقت غضبي} وأحيانًا يتصور الإنسان فساداً، ويغلب على ظنه أنه واقع، لكن ليس هناك داعٍ مادام الأمر مستوراً، أو لم يظهر لك، ولا عندك أدلة عليه، فدع أمر الناس للناس، وقد يتبين لك أن ما كنت تظنه خطأً، وسوء الظن مشكلة تعذب قلب الإنسان نفسه، وقد تسبب أذىً للآخرين، وقد تحول بينه وبينهم في دعوتهم إلى الله تعالى.
فالأمور المستورة دعها إلى الله، ومن أظهر شيئاً أخذناه به، أما المستور فأمره إلى الله تعالى.
وبين اليقظة وسوء الظن خيطٌ رفيع، فبعض الناس عنده تغفيل، والتغفيل مذموم، فقد يرى الفساد ويتجاهله أو يتغافله؛ وهذا لا يصلح، فينبغي أن يكون الإنسان يقظًا واعيًا مدركًا، وفي نفس الوقت سوء الظن يبعده جانباً.(24/18)
عقبات من البيئة
فساد البيئة: التي تعمل فيها المرأة مثلاً، سواء كانت هذه البيئة: مدرسة، أو مؤسسة، أو مستشفى، أو معهدًا أو غير ذلك، فإن البيئة إذا كانت بيئة فاسدة فإنها تؤثر في نفسية المرأة، وتضغط عليها ضغطاً شديدًا.
وأضرب لذلك مثلاً، وهي رسالة جاءتني من إحدى الأخوات، تتكلم عن هذا الصرح العلماني المعروف معهد الإدارة العامة، تقول: العاملات فيه من الفلبينيات غير المسلمات غالبًا -أقسم بالله لك- أن بعض الطالبات يجدن متعةً في الحديث معهن بكل صراحة، حتى إنها تعمل لها ما يسمى بالحلاوة وقص الشعر وكتابة الأشعار الغزلية وترجمتها، والمسجد عبارة عن مترين في مترين، مَمَر تقطعه ستارة بسيطة، جلستُ مرةً أنصح - ولا يزال الكلام للأخت- بعض طالبات التمريض، فكادوا يكونون عليَّ لبدًا، يقلن: لا يدخلك الدين شوي شوي، وهذا هو الكلام الذي يقولونه لها.
فهذا مثال، وهو مثال صغيرٌ محدود، والمستشفيات مثلاً، مضايقات بعض الأطباء والمراجعين والممرضين، الجامعات وما فيها من اختلاط، وحفلات مختلطة، ورجال يدرسون البنات مباشرة بدون حجاب، وليس عن طريق الدائرة التليفزيونية المغلقة، وقد تكون الدائرة التليفزيونية المغلقة موجودة، وتترك ليتكلم الرجل مع النساء مباشرة، ويأخذ توقيعاتهن بالموافقة على أن يدخل عليهن كفاحًا ووجهًا لوجه!!.
دكتور يشرف على رسالة طالبة، وقد يلتقي بها على انفراد في غرفته الخاصة إلى آخر تلك المهازل التي ليس لها آخر!! وقبل أيام أثيرت قضية قريباً منا جداً، هنا فيالكويت، وقد تكلمت عنها الصحف بشكل مزعج للغاية، وهي أن الدكاترة في كلية الطب هناك يمنعون الطالبات المنتقبات من دخول الفصول، سبحان الله!! لماذا تمنعونهن من دخول الفصول؟! قالوا لك: إذا كانت الفتاة منتقبة -قد لبست النقاب على وجهها- معنى ذلك أن المريض قد يخاف، ولا يكون مرتاحاً نفسياً، ولا يساعد ذلك على العلاج!! فانظر كيف يأتون بالحجج الواهية وإلى هذا الحد بلغت عنايتهم بالمرضى!! وآخر يقول: أنا أقرأ التعبيرات والتأثر على وجوه الطلبة، ومن خلال رؤيتي لوجه الطالب، أعرف إن كان الطالب فهم أو لم يفهم، قبل أو لم يقبل، أُعجب أو لم يُعجب، فكيف أقرأ هذا في وجه الطالبة وهي منتقبة؟! فانظر كيف الحيل، وهي حيلٌ أوهى من بيت العنكبوت، وأتفه من عقولهم! وهذا الكلام السخيف الذي لا ينطلي على أحد، ثم يكتب في الصحف ويقال، وثارت قضية كبرى.
وأنا أقول: يا إخوة! إنما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض، فإذا كان هذا في جامعات الكويت، وهي منا قاب قوسين أو أدنى، فما الذي يأؤمنك أن يكون الدور عليك؟! ولذلك أقول: إنما أُكِلتُ يوم أُكل الثور الأبيض.
فيجب على أصحاب الغيرة أن يتحركوا الآن في هذه القضية وفي غيرها، ويكون لهم مساهمة، وأقل ما نستطيع أن نفعله هو مخاطبة المسئولين وولاة الأمر ومكاتبتهم.
أمر آخر: تلك الصحف الكويتية التي تنشر هذه المهاترات وما هو أحطُّ منها، وقد رمت سهامها، وأصلتت سيوفها على رقاب الخيرين، فما تركت لفظًا من ألفاظ السباب والشتائم في قاموس اللغة، بل وما ليس في قاموس اللغة، إلا وألصقته بهؤلاء الأخيار، وتكلمت فيهم وسبتهم، وشتمتهم وعيرتهم، وقالت الكلام البذيء المفجع المفظع، الذي لا يجوز أن يقال في مثل هذا الكلام، فوالله قصاصاتٌ -أحلف لكم بالله- لو جلست إلى الفجر أقرأها ما انتهت، كلها هجاء للأخيار، وليكن الأخيار فيهم أخطاء، ونحن لا نقول: إنهم ملائكة، لكن إلى هذا الحد، ويهجوهم أناسٌ لهم تاريخٌ معين، فكثير ممن يهجوهم لهم تاريخ معين، إلى يومك هذا.
فأقول: ما هو دورنا؟ أقل ما نستطيع أن نفعله هو أن نمنع دخول هذه الجرائد إلى بلادنا؛ لأنها إنما تُشْتَرى في أسواقنا هنا أكثر مما تُشْتَرى في مكان آخر، ولو أنها أوقفت أو طولبت بأن تكف عن أعراض الأخيار، وأن تتكلم بعقل واعتدالٍ ومنطق، ونحن لا نقول: لا تنتقد الأخيار، بل انتقد من شئت، لكن بالحجة، والبرهان، وبالموضوعية، وبالتعقل، وبالمنطق، وبالكلام، وبالدليل، أما كونك تأتي بألفاظ السباب والتجريح، والتجديف دون دليلٍ ولا حجة؛ وإنما هو مجرد بذاءة وقلة أدب، فقلة الأدب لا يجوز أن نشتريها بأموالنا.
وأقول: أين الرجال؟.
أقل دورٍ يمكن أن نقوم به هو: منع دخول هذه الجرائد والمجلات إلى بلادنا، ومنع بيعها في بقالاتنا، وإذا لم نفلح، فأقل ما نستطيع هو أن نتنادى نحن الأخيار والغيورين، وأن نكلم كل أفراد المجتمع بوجوب مقاطعة هذه الصحف والمجلات، ومحاربتها، وشنَّ حملةٍ لا تتوقف عليها، حتى تتوقف هي عن النيل من ديننا، ومن كرامتنا، ومن مقدساتنا، ومن أخلاقنا، ومن الرجال الصالحين حلول لفساد البيئة: ولعلي شطحت بعيداً في الكلام عن بعض المشكلات التي تتعلق بالأسرة أو بالبيئة التي تعيش فيها المرأة، ومن الحلول في ذلك: مواصلة العلماء وطلاب العلم والدعاة الغيورين بكل ما يحدث داخل تلك المجتمعات إنها ليست أسرارًا ولاخفايا، كيف وهي تنشر في بعض الصحف العالمية؟! أعني بعض ما يجري في مجتمعات النساء هنا، فإذا تحدثت طالبةٌ -مثلاً- أو راسلت أحد الدعاة، حُقق معها بحجة أنها نشرت أسرار الجامعة، أو نشرت أسرار المستشفى، كيف يحدث هذا؟! إننا يجب أن نطمئن جميعًا على الجو الذي تتعلم فيه بناتنا، وتتعلم فيه أخواتنا، ومن حقنا جميعًا أن نعرف عنهن الكثير، مثلاً قبل أيام: نُشر من إحدى الجمعيات النسائية إعلان عن حفل غنائي سوف تحييه المغنية من جدة المدعوة بـ: ديسكفري، وسوف يقام على شرف زوجة فلان، والتذاكر بمائتين وخمسين إلى مائة ريال، والمكان هو المكان الفلاني، والزمان هو الزمان الفلاني، وهذا إعلان يباع في كل مكان، ويوزع في البقالات، فهل هذا من الأسرار حين يتنادى الغيورون لمقاومة مثل هذا الفساد؟! إن هذا ليس سراً، وأقول من باب وضع الحق في نصابه: قد وصل إليّ ما وصل إلى غيري من اعتذار تلك الجمعية عن هذا الحفل، وأنه لن يقام، لكن ينبغي أن يعرف ماذا وراء هذا؟ هل فعلاً سيتوقف الحفل، أم أنه سوف يقام سراً بطريقة معينة؟! ومن الذي كان وراء مثل ذلك الإعلان في جمعية نسائية خيرية في مكان ما؟! ومن الحلول: النزول للميدان مهما كانت التضحيات، فالهروب من هذه المجالات عبارة عن هدية ثمينة -كما أسلفت- نقدمها بالمجان للعلمانيين والمفسدين في الأرض، وأرى-اجتهادًا- ضرورة خوض هذه الميادين، وتحمل الفتاة ما تلقاه في ذات الله عز وجل إلا إن خشيت على نفسها الفتنة، ورأت أنها تسير إليها فعلاً؛ لضعف إيمانها، أو قوة الدوافع الغريزية لديها، أو ما شابه ذلك، فحينئذٍ فالسلامة لا يعدلها شيء.
ويجب أن تظل الدعوة هاجسًا قويًا للأخت مع كل الأطراف، فلا تعين الشيطان على أخواتها الأخريات، فحتى تلك التي يبدو فيها شيء من الجفوة في حقها، أو الصدود عنها، أو سوء الأدب معها، يجب أن تتحمل منها، وتتلطف معها، وتضع في الاعتبار أنه من الممكن أن تهتدي، والله تعالى على كل شيء قدير: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص:56] .
ويجب على الدعاة والتجار والمخلصين أن يسعوا جاهدين إلى إقامة مؤسسات إسلامية أهلية نظيفة مستقلة.
فلم يعد مستحيلاً إيجاد مستشفى نسائي خاص، ولم يعد مستحيلاً إقامة أسواق نسائية خاصة؛ بل هي موجودة بالفعل، ولم يعد مستحيلاً إقامة مدارس نسائية خاصة، بل وليس من المستحيل إقامة جامعات، أو جامعة على الأقل خاصة بالنساء، في هذا البلد وفي كل بلد.
وأعتقد أن الظروف الاقتصادية والظروف العلمية والظروف الإسلامية مواتية -الآن- لمثل هذه الأعمال، فقد طال تململ الناس من تلك الأوضاع الفاسدة في عددٍ من المؤسسات الصحية والتعليمية والإدارية دون أن يطرأ عليها أي تغيير، ولم يجعلنا الله بمنه وكرمه بدار هوانٍ ولا مضيعة، وهاهي أمم الكفر الآن قد سعت في هذا المضمار.
وقد رأيت بعيني جامعات تضم ألوف الطالبات في قلب أمريكا ليس فيها طالب واحد على الإطلاق، مع أن دينهم ليس هو الذي أملى عليهم ذلك -فهم غير متدينين حقيقة- ولكنهم رأوا في ذلك مصلحة ما.
أفليس هذا جديراً بنا؟! كما قرأت في عدد من الأخبار أن هناك فنادق في ألمانيا وغيرها مخصصة للنساء، كما أننا نجد في بعض البلاد العربية والإسلامية بدايات لذلك، فمثلاً سمعت أن في سوريا مستشفيات مخصصة للنساء.
وهنا لابد أن نشير إلى بعض البوادر: إنّ هناك بعض الجمعيات الخيرية وبعض الجهود الفردية كانت وراء إقامة مستشفيات ومستوصفات مخصصة للنساء، تحمي المرأة المسلمة من المشاكل والصعوبات والقضايا الصعبة التي تواجهها المرأة، حينما تذهب للتطبيب في المستشفيات العامة.
بل هي تحل مشكلة كبيرة، فنحن نجد أن هناك جهوداً غير عادية لمحاولة إثارة قضيّة التمريض في أوساط البنات، ودعوتهن إليه بكل وسيلة، وتمنيات كبيرة من قبل المسئولين في الاكتفاء بالممرضات السعوديات كما يقولون.
وأقول: هذا لن يكون أبداً، إلا إذا أوجدنا البيئة الصالحة، التي تستطيع الفتاة أن تجد فيها الحفاظ على دينها وأخلاقها، وهي تقوم بتمريض النساء من بنات جنسها، بعيدًا عن ارتكاب الحرام، وبعيدًا عن الاختلاط بالرجال.
فإذا كنتم تريدون فعلاً من بناتنا وبنات المسلمين أن يدخلن معاهد التمريض والمعاهد الصحية، فيجب عليكم أولاً أن توجدوا البيئة الصالحة التي تُطمئن الفتاة وتُطمئن أهلها، إلى أنها سوف تكون بهذا المكان المأمون المضمون البعيد عما حرَّم الله.
وحينئذٍ نعم، أما أن يزجُّ الرجل ببنته في مثل هذه البيئات التي لا يأمن الإنسان على بنته فيها، والتي يرى فيها من المنكرات الشيء العظيم، فلا أعتقد أن هذا ممكنٌ أبدًا بحال من الأحوال، حتى غير المتدين لا يتقبل هذا؛ لأن الفتاة التي صارت في مثل هذه الأوضاع فإن الرجل إذا أراد أن يتزوجها، فإنه يعزف عنها، فحتى من الناحية المصلحية ومن الناحية الدنيوية، فإنهن سوف يكن بعيدات عن مثل هذه الأمور.(24/19)
الشعور بالتقصير
كثير من الأخوات الداعيات تشعر بأنها ليست على مستوى المسئولية، وهذه في الواقع أنها مكرمة وليست عقبة.
والمشكلة هو أن تشعر الفتاة بكمالها أو أهليتها التامة، ومعنى ذلك أنها لن تسعى إلى تكميل نفسها أو تلافي عيبها، ولن تقبل النصيحة من الآخرين؛ لأنها ترى في نفسها الكفاية، أما شعورها بالنقص والتقصير، فهو مدعاة إلى أن تستفيد مما عند الآخرين، وأن تقبل النصيحة، وينبغي أن تعلم الأخت الداعية أنه ما من إنسان صادق إلا ويشعر بهذا الشعور0 ويقول لي الكثيرون من الإخوة الشباب: لو تعرف حقيقة ما نحن عليه؛ لعذرتنا وغيرت رأيك، ونحن لا نقول هذا على سبيل التواضع، أو هضم النفس، ولا نعتقد أن النقص الذي عندنا هو كالنقص الذي عندك أو عند الآخرين؛ كلا! بل نحن مقصرون إلى درجةٍ لا تحتمل والغريب أن هذا الكلام يقوله كلُّ إنسانٍ عن نفسه، فوالله أيها الإخوة، لو نطق أفضل الناس في هذا العصر، لقال هذا الكلام بعينه، ولكنه يدور في قلبه وفي نفسه، ويؤثر ألا يقوله؛ لئلا يفجع الآخرين أو يثبط عزائمهم أو يفتر هممهم، وهذه طبيعة الإنسان، أنه كلما ازداد صلاحه، زاد شعوره بالتقصير، وكلما علم وعرف علمًا جديدًا، ازداد معرفةً بأنه جاهل، كما قال الشاعر: وكلما ازددت علمًا ازددتُ علمًا بجهلي فكلما زاد فضل الإنسان زاد شعوره بالنقص، وكلما زاد جهله وبعده زاد شعوره بالكمال.
وباختصار فإنه ما دامت الروح في الجسد، فلن يكمل الإنسان، وكلما شعر بالتقصير وهضم النفس، كان أقرب إلى الله تعالى وأبعد عن الكبر والغرور.
وقد يبتلي الله تعالى العبد أو الأمَة بنوع تقصير خفي لا يعلمه الناس، يحميه الله تعالى به من داء العجب، ويجعله به دائم الذل لله، ودائم الانكسار والانطراح بين يديه عز وجل، فلا يمنعنَّكِ الشعور بالتقصير من الدعوة إلى الله؛ فإنها من أعظم العبادات التي يكمل الإنسان بها نفسه، وهي من أفضل القربات، ونفعها يتعدى إلى الأخريات، وهي أفضل من نوافل الصوم، وأفضل من نوافل الصلاة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] .
ومن عقبات النفس أيضاً: التخوف والإحجام والتهيب من الدعوة والكلام أمام الأخريات، وهذا لا يمكن أن يزول إلا بالتجربة والممارسة، ففي البداية: يمكن أن تتعلم الفتاة وسطَ مجموعةٍ قليلة، فتلقي كلمة ولو كان مكتوبةً في ورقة، ثم مع مجموعةٍ أكثر، ثم تشارك في المسجد والدروس التي تقام في المدرسة، ثم تبدأ بعد ذلك في إعداد بعض العناصر، وتُلقي ما سوى ذلك من نفسها، وبطريقة الارتجال، ولابد من التدرب، وإلا ستظل المرأة، وسيظل الرجل يقول: لا أستطيع! ولو ظل إنسانٌ يتلقى طُرقَ السباحة -مثلاً- عشرسنوات نظرياً، ما استطاع أن يسبح؛ لكن لو نزل خمس دقائقَ في الماء، وحاول أن يعوم، وخشي من الغرق، ولكنه تغلب، وهناك من يرشده ويؤيده ويساعده ويسدده، فإنه يتعلم في خمس دقائق أو أقل من ذلك.(24/20)
موضوعات وكتب
كثيرًا ما يأتيني أسئلة من الإخوة والأخوات عن موضوعات أوكتب مقترحة، وقد رأيت أن أسرد في هذه المناسبة طائفة من الموضوعات، وطائفة من الكتب، تكون نافعة -إن شاء الله- لمن يسمعها.(24/21)
موضوعات تناسب المرأة عموماً
أولاً: من الموضوعات التي أرى أنه من المناسب أن تطرح في مجال النساء ودروسهن عمومًا ما يلي: الطهارة.
التوبة.
محبة الله تعالى.
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثقافة الفتاة.
اللباس والزي الشرعي، وشروطه.
نصائح للفتاة قبل الزواج.
الأُخُوّة في الله، ومعناها، وفضلها، وبيان متى تكون الأُخُوّة دينية، ومتى تكون الأُخُوّة عواطف مذمومة.
آثار المعصية على الفرد، وآثار المعصية على المجتمع.
التواضع وفضله.
الأمانة.
إصلاح القلوب.
أنواع القلوب.
أسباب صلاح القلب وأسباب فساده.
أثر الإيمان باليوم الآخر على الفتاة.
عذاب القبر ونعيمه، ووسائل النجاة من عذاب القبر.
أثر الإيمان بالقدر في حياة الإنسان، وفي حياة المرأة.
الأمانة.
دور الفتاة في إصلاح المجتمع.
دور الفتاة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصفات الآمر والناهي.
صفات الداعية.
الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين.
واقع المرأة الغربية وأسبابه.
أسباب السعادة الزوجية.
طرق تربية الأبناء، ودور الأم في ذلك.
سير ونماذج من حياة الصحابيات، وهذا عدة موضوعات.
أثر المسلسلات والأفلام على الفتاة.
وسائل أعداء الإسلام لإفساد المرأة.
حقوق الآخرين.
حقوق الوالدين.
حقوق الزوج.
حقوق الإخوة.
حقوق الأبناء.
حقوق الأصدقاء.
حقوق الجيران.
أثر الجليس على الإنسان.
موضوع قراءة القرآن، وفضله، وآدابه.
موضوعات للمناسبات، مثل: الحج.
الصيام.
الإجازات الصيفية.
الأحداث المتجددة القريبة والبعيدة.
الأذكار والأدعية الشرعية.(24/22)
كتب تناسب المرأة الداعية والفتاة عموماً
أما فيما يتعلق بالكتب التي يمكن أن تعرض في بعض المناسبات، ويمكن أن توضع في المكتبة المنزلية، ويمكن أن تقرأها الفتاة، فأذكر منها بعض ما تيسر، فمن الكتب مثلاً: تفسير ابن كثير.
العقيدة الواسطية.
كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
زاد المعاد.
فتاوى النساء لـ ابن تيمية.
التحفة العراقية لـ ابن تيمية في أعمال القلوب.
إغاثة اللهفان لـ ابن القيم.
رياض الصالحين للنووي.
تهذيب سيرة ابن هشام.
قبسات من الرسول.
الشمائل المحمدية للترمذي ومختصره للشيخ الألباني.
الفوائد لـ ابن القيم.
صيد الخاطر لـ ابن الجوزي على ثغرات فيه.
تلبيس إبليس لـ ابن الجوزي.
حقوق النساء في الإسلام لـ رشيد رضا.
معركة التقاليد لـ محمد قطب.
عودة الحجاب لـ محمد أحمد المقدم.
المرأة المسلمة المعاصرة للدكتور/ أحمد محمد بابطين.
كيف تخشعين في الصلاة؟ لـ رقية المحارب.
الموضة في التصوير الإسلامي لـ فاطمة بنت عبد الله.
عمل المرأة في الميزان للدكتور البار.
النساء الداعيات لـ توفيق الواعي.
رسائل إلى حواء لـ محمد رشيد العويد.
كلمات إلى حواء لطائفة من الكتاب.
دليل الطائفة المؤمنة لـ محمد الخلف سري وللنساء فقط للقطان.
أفراح الروح لـ سيد قطب.
مواقف نسائية مشرفة لـ نجيب العامر.(24/23)
الأسئلة(24/24)
صورة غير واقعية للمرأة
السؤال
بعض المقالات الصحفية النسائية قدمت صورة غير واقعية عن نسائنا، بل هو تهافتٌ نادر تقوم به طائفة منحرفة، أو رجال على لسان المرأة، فما هو تعليقكم؟
الجواب
هذا صحيح، كثيراً مما ينشر باسم النساء هو من كتابة الرجال، وإذا وجد الفساد في مجتمعنا -ونحن نقول أنه موجود- فهو قليل في الرجل والمرأة أيضاً، فإذا وجد في المجتمع عشر نساء منحرفات، فهذا المجتمع والحمد لله فيه مئات من النساء المهتديات الصالحات، لكن ربما لا يكتبن في الصحف، ولو كتبن إلى الصحف فربما كان كثير من ذلك لا ينشر.(24/25)
كيفية دعوة النساء الكبيرات
السؤال
كيف توجهنا لدعوة النساء الكبيرات لترك بعض البدع، علماً أن الجواب منهن: (عناقٌ تعود أمها الرضاعة) ؟
الجواب
نعم.
يمكن -كما قلت سابقاً- أن تقرئي عليهن كتاباً لسماحة الشيخ/ ابن باز، أو ابن تيمية، أو لـ ابن القيم، أو لبعض علمائنا المعاصرين، وتقولي: هذا كلام العلماء، ليس كلامي.(24/26)
حكم خروج المرأة متعطرة
السؤال
لاحظت خروج بعض النساء الأقارب متطيبات، وحين أنهاهن عن ذلك، يقلن: نحن خارجات إلى مجتمعٍ نسائي لا اختلاط فيه مع الرجال؟
الجواب
المشكلة أنها وإن كانت خارجةً إلى مجتمعٍ نسائي، إلا أنها في كثيرٍ من الأحيان تمر بالرجال، فإذا كانت -مثلاً- ذاهبةً للمدرسة، فسائق الأوتوبيس، وبواب المدرسة، وإذا خرجت فالرجال الواقفون على جانب الطريق ينتظرون بناتهم، كل هؤلاء من الرجال الذين لا يجوز لهم أن يجدوا ريحها.(24/27)
كثرة وتنوع أساليب الفساد
السؤال
أرجو الاطلاع على اللقاء الذي أجري هذا اليوم مع إحدى المذيعات السعوديات في جريدة عكاظ؟
الجواب
الله المستعان! تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد(24/28)
كيفية الرد على دعاة الفساد
السؤال
إذا حصل أن قام أحد الأشخاص السيئين، وتحدث عما يريد أمام جمعٍ من الناس، فما هو الأسلوب الأمثل لرد سمومه؟ وهل من المناسب قيام الجمهور بالرد عليه، مع العلم أنه سيستغل ذلك ضد الصحوة ومنسوبيها؟
الجواب
لا.
بل ينبغي أن يقوم إنسان عنده القدرة على الرد بمنطقٍ قوي، ويتكلم بكلامٍ حكيم هادئ، ويظل ينقض ما قاله وفتله ذلك الإنسان شيئاً فشيئاً، حتى ينتهي منه، ولا أعتقد أن من المصلحة أبداً أن يخرج الناس على شكل مجموعات، سواء في محاضرةٍ أو أمسيةٍ أو غيرها، فإن هذه الصورة صورةٌ غير لائقة، وتدل على نوع من التسرع والطيش وعدم الانضباط، وخاصةً بعض المحاضرات وبعض الأمسيات أمسياتٌ طيبة، ويقوم عليها رجالٌ فضلاء ودعاةٌ نبلاء، فينبغي أن نكون جميعاً ساعين على إنجاحها وانضباطها، وتسامع الناس عنها بصورةٍ جيدة على عكس ما يحصل، لأنه قد يحصل أمرٌ غير ما تريد، فالناس حين يتكلمون عن أن هناك محاضرة أو أمسية حصل فيها هرجٌ ومرجٌ، وكلامٌ وقيل وقال، قد يتصور بعض الناس أن هذا دليل على عدم نجاح الأمسية، ولو كانت الأمسية في الحقيقة ناجحة، والجمهور غفير.
ولكن مع الأسف مثل هذه التصرفات غير المدروسة تفسد أكثر مما تصلح، فألفِتُ إلى ذلك الأنظار، والإنسان ينبغي أن يكون منضبطاً في تصرفاته، كما أن الاعتداء على الآخرين أحياناً بالضرب أوغيره بغير بينةٍ لا يجوز، وقد بلغني أنه في مناسبات عديدة اعتدي على أشخاصٍ بسوء الظن، فقد يظن ببعضهم جاءوا لأغراضٍ سيئة، أو أنهم ينقلون الكلام، أو يتجسسون، أو ما أشبه ذلك، فيظهر أن هذا غير صحيح، فقد يكون الإنسان أحياناً له ظروف نفسية، أو أمور خاصة، أو أشياء جعلت الناس يظنون به ظناً معيناً، ولا يجوز أن يؤخذ الناس بغير علم، بل ينبغي للعبد أن يتقي ربه، ويدرك أنه محاسبٌ على تصرفاته، وأن تصرفاته لا تحسب عليه هوفقط، بل تحسب أحياناً على قطاعٍ عريضٍ من الناس.(24/29)
حقيقة الالتزام
السؤال
كثير من الملتزمات لا يعرفن معنى الالتزام، حيث إن الالتزام في نظرهنَّ هو عدم الضحك والابتسام، وعدم الكلام وغير ذلك، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
الالتزام مظهر ومخبر كما أشرت، والعناية بالقلب، وتصحيح الاعتقاد، وتصحيح المشاعر، وتصحيح السلوك أمر أساسي، والمظهر جزءٌ من الدين أيضاً، والذي أمر الرجل مثلاً بإعفاء اللحية وأخذ الزينة عند الصلاة هو الذي أمر الرجل بأن يصلح قلبه، وأن يتقي ربه وأن يخاف الله عز وجل، والذي أمر المرأة مثلاً بأن تتحجب هو الذي أمر المرأة بأن تخاف ربها، وتطيع زوجها، وتؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر، فلا يجوز أن نفرق بين هذا وذاك.(24/30)
تراجع عن إعلان حفل
السؤال يقول: يقال أنه سيغني في حفلة من الحفلات امرأة سعودية؟
الجواب
ذكرت أنه قد جاء -إن شاء الله- نفي لهذا الخبر، وأرجو أن يكون النفي لا يحتاج إلى نفي أيضاً.(24/31)
من مفاسد تدريس الرجال في مدارس النساء
السؤال
هذا السؤال من بعض الأخوات عن بعض المدرسين الرجال الموجودين في مدارس البنات، وما هو الحل؟
الجواب
الحل في الحقيقة هو أن يُسعى إلى تحويل هؤلاء الرجال إلى مدارس الأولاد، وألا يدرس النساء إلا نساء مثلهن، فإن دخول الرجل على المرأة -إضافة إلى أنه يحرجه هو ويضايقه- لا شك أن فيه مفاسد كثيرة جداً من سماع أصوات النساء، خاصة وهي تقرأ القرآن، وربما تعتقد أنها سوف تحسن صوتها في القرآن، فيكون صوتها فيه ليونة، وتأثير، ونعومة، وأشياء كثيرة من هذا القبيل.(24/32)
سبب قلة النساء المتفقهات في الدين
السؤال
ما هو السبب في قلة المتفقهات في الدين من النساء؟ هل هو راجع لطبيعة المرأة، أم لأن المرأة ليست كالرجل حيث يتوفر له التلقي المباشر من العلماء؟ وما هي الطريقة الأفضل لطلب العلم بالنسبة للمرأة مع إيضاح أيسر الكتب في إيصال المعنى، حيث أنه يتعذر علي فهم كثير من الأمور في المراجع التي ينصح العلماء بدراستها خاصة في العقيدة والفقة؟
الجواب
لقد ذكرت بعض هذه الكتب، وبعض الأسباب والوسائل التي من شأنها أن تجعل المرأة تحصل على بعض العلم وتصل إلى شيء.
أما سبب قلة المتفقهات في الدين، فأقول: أنه ليس بلازم أن نقارن دائماً بين الرجل والمرأة، فليس من الضروري أن يوجد متفقهات في الدين في أوساط النساء كالرجال، بل لن يوجد هذا أصلاً، وعبر التاريخ حين تقرأ كتب التراجم -مثلاً- تجد تراجم الرجال بالألوف، لكن حين تأتي إلى تراجم النساء تجدها أقل، وتجد في الغالب أن النساء المترجم لهن يغلب على أحوالهن الجهالة وأنهن غير معروفات، وهذا دليل على أنه فعلاً المرأة المسلمة ظلت تعيش في مجتمعها الخاص طيلة القرون في العالم الإسلامي، فهو مجتمع متكامل المرأة معزولة فيه عن الرجل، وهذا الذي يحاول أعداء الإسلام خرقه الآن بكافة الوسائل، لكن هذا لا يمنع النساء من أن يتفقهن في الدين، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: [[رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين]] وكثير من النساء كانت تأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وتسأله في أمور دينها أسئلة، وتقدم قولها: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فالتفقه في الدين مطلوب، وينبغي لمن تأنس من نفسها قوة أن تتفقه لنفسها ولغيرها، لتعلم من حولها من النساء.(24/33)
حكم النذر
السؤال
ما حكم أن ينذر الشخص نذراً معيناً، ثم يتراجع عنه؟
الجواب
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل} والنذر يجب الوفاء به، فإذا نذر الإنسان وألزم نفسه بشيء وجب عليه الوفاء به، ولكن ينبغي ألا يعود الإنسان نفسه أن ينذر شيئاً؛ لأن هذا النذر لا يقدم ولا يؤخر، ولا يرد من قدر الله تعالى شيئاً.(24/34)
من أساليب التورية
السؤال
عند الكلام أحياناً -وخاصة عند النساء- يجري الحديث في أمور، وتتم الأسئلة على نحو تخاف المرأة منه من العين أو الحسد، وتضطر إلى التحايل في الإجابة، فما حكم ذلك؟ وما حكم الأمور التي بين المرأة وزوجها مما لا تود المرأة أن يطلع عليه الجميع، فتعمد إلى تغطية بعض الأمور؟
الجواب
يمكن أن تغطي ذلك دون الحاجة إلى الكذب، فمثلاً: إذا قيل لها: كيف حالك مع زوجك؟ بدلاً من أن تقول: أمورنا طيبة ولله الحمد، وكما يقال في المثل: سمن على عسل، وكل شيء على ما يرام، وتبدأ تذكر محاسنه، فبدلاً من ذلك إذا كانت تخاف ممن حولها، فإنها تستطيع أن تقول: الله المستعان، الله يصلح الأمور، الله يصلح الأحوال، البيوت لا تخلو من مشكلات، الحياة ليس عليها أحد مرتاح، وما أشبه ذلك من الكلام العام الذي ليس فيه تصريح بحقيقة الحال التي تعيشها مع زوجها، وفي نفس الوقت ليس فيه كذب تؤاخذ به.(24/35)
نصيحة موجهة للطالبات والمعلمات
السؤال
أرجو نصيحة بعض الطالبات لما يفعلنه بالمعلمات.
الجواب
كثير من الطالبات ربما يتناولن المعلمات والعكس، فتقول بعض المعلمات: إنهن إذا التقين فإن الحديث بينهن غالباً ما يكون عن بعض الطالبات، فلانة فيها، وفلانة فيها، وفلانة مقصرة، وأحياناً لا تكون المسألة مجرد تقويم للطالبة ومستواها الدراسي، وما أشبه ذلك، بل تتعدى إلى الكلام عن شخصيتها، وتصرفاتها، وطبيعتها، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تحتاج إلى بيان، وهذا لا شك من الغيبة، والعكس صحيح أيضاً.
فكون الطالبات إذا اجتمعن تكلمن في المدرسات، وجعلن لكل واحدة منهن لقباً يعيرنها به، ويتكلمن: هذه فيها، وهذه فيها، وهذه فإن هذا أيضاً من الغيببة التي لا تجوز، وقد قال الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] .
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(24/36)
مشكلة جهل الفتيات بطريقة الطبخ
السؤال
هناك مشكلة ظاهرة بين البنات، وهي أن بعضهن لا تعرف أن تشتغل، أو تساعد أمها، أو أخواتها بحجة الدراسة، أو غير ذلك، فنرجو منكم أن تكشفوا هذه المشكلة الخطرة.
الجواب
هذه فعلاً مشكلة، وعندي فيها عدة أمور، حتى أنَّ واحداً يقول: أعرف بيتاً فيه ثلاث أخوات ملتزمات، وفيه أربع خادمات، ففي هذا البيت فيه ثلاث بنات غير متزوجات، وأربع خادمات، حتى أن بعض الفتيات أحياناً طبخ الشاي لم تتعود عليه، لأنها ألفت أن تسند هذه الأمور إلى غيرها، إما إلى الأم، وإما إلى الخادمة، والأم كثيراً ما ترأف بالبنت، فتقول: إنها متعبة، أو اتركوها تدرس، أو ما أشبه ذلك، وتنسى أن هذه البنت ستواجه مشكلة كبيرة بعد الزواج، فبعدما تتزوج سوف تكون في بيت مستقل، زوجها يطلب منها كل شيء، وعليها أن تقوم بكل شيء، فكيف تعمل؟ وكيف تصنع؟ إذا وجدت صعوبة، فستكون كارثة.
وفي مرة من المرات اتصلت امرأة على بيت لا تعرفه، تقول: الله يعافيكم، الله يجزيكم خيراً، بينوا لي كيفية طريقة طبخ الماكرونة بالطريقة الجديدة، قالوا لها: لا نعرف، قالت: زوجي عنده ضيوف، وقال: اطبخيها بالطريقة الجديدة، وأنا زوجة جديدة، فقلت له: إن شاء الله، لأنني لا أستطيع أن أقول له: لا أعرف، فهذه المرأة إذا تعلمت الوصفة والطبخة عن طريق الهاتف، فستغلط فيها مائة مرة، وأنا -والله- لما سمعت الخبر، يعلم الله أني رثيت لحال هذه الفتاة، وتصورت موقفها الصعب مع زوجها، فمن المسئول؟ المسئول أمها، وقبل أمها هي المسئولة فعلاً، لأنها امرأة عاقلة رشيدة، والمفروض أن تدرك أنه ينبغي أن تعد نفسها للحياة الزوجية إعداداً كاملاً، وألا تستهين بشيء، فتعلمها كيف تعد نفسها، وكيف تعد بيتها، وكيف تنظف بيتها؟ وكيف تعد مطبخها، وكيف تعد الطعام، وبعض الأمثال يقول: أقرب طريق إلى قلب الزوج هو بطنه، أي: أن توفر له الطعام الطيب، وبغض النظر عن كون هذا الكلام صحيحاً، أو خطأً، لكن بلا شك أن الرجل لما يجد أن المرأة أخفقت في صناعة الشاي والقهوة، وفي إعداد الطعام للضيوف، وفي أمورٍ كثيرة، فسيبدأ ينتقد مرة، ومرة، ومرة، وفي النهاية قد تحصل مشكلة، بل قد يحصل طلاق، بل حصل هذا في مرات عديدة، فينبغي للفتاة أن تدرك أن معرفة مثل هذه الأمور هو جزء من شخصيتها وكمالها.(24/37)
المنهج في تعليم الزوجة
السؤال
ما هو المنهج الكامل الذي يسير عليه الرجل تجاه زوجته، وذلك بكيفية تعليمها لدينها وأخلاقها والدعوة إلى الله، حتى يكون قد تمكن من رعايتها، ولا يصبح مهملاً لها، ولا يكونُ خاسراً لزوجته، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
كثيراً ما تشغل الرجل علاقاته بزوجته -العلاقات الطبيعية الفطرية الغريزية- عن أن يقوم بحقوقها في تعليمها، كأن يجعل لها درساً في كل يومين، أو في كل ثلاثة أيام، أو في الأسبوع، ويعطيها بعض الكتب لتقرأها، وبعض الأشرطة لتسمعها، ويخصص لها من وقته حتى أقول: لو خصص ثلاث ساعات في الأسبوع للزوجة، يسألها عما قرأت؟ وهل في هذا الكتاب مشكلة؟ وسألها وأجابها وحل بعض الأمور وساعدها، لكان ذلك كافياً، ووزع هذه الثلاث الساعات على ثلاث فترات، هذا يكفي، وبقية وقت المرأة تخلو بنفسها، فتقرأ كتاباً، أو تستمع إلى شريط، ثم تقوم بحقوقها الشرعية الأخرى بلا شك.(24/38)
أسلوب من أساليب الدعوة
السؤال
إذا حاولت دعوة أهلي لترك التلفاز، قالوا: ماذا نعمل؟ أنت تذهب مع إخوتك وأصدقائك، بمعنى لو جلست في البيت لشاهدت التلفاز، ما هو الحل، أفيدونا؟
الجواب
ينبغي أن يكون لك جهود أكبر من ذلك، فينبغي أن تقنع إخوتك الصغار بترك التلفاز، وأن تجعل لهم جلسةً خاصة كما ذكرت، وتجعل في البيت أشرطةً، وكتباً مفيدة، وتحدث والديك عن خطر التلفاز، وضرره على الأولاد والبنات، وتحدثهم عن البث المباشر القادم وخطورته، حتى يقتنعوا بضرورة إخراجه، وتظل تصر وتضرب هذا الباب حتى تنجح، وكما قيل: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا(24/39)
وسائل المنصرين
التنصير العالمي الخبيث أصبح أخطر غزو يشتغل في العالم وهذا الغزو الخبيث لبلدان العالم، تنظم له القدرات الجبارة والإمكانيات الهائلة التي يمكن أن تحقق أكبر قدر ممكن من أهدافه، ويستغل النصارى كل فرصة وكل ضعف في العالم، كما يفرحون بالحروب والكوارث التي تصيب العالم لنشر النصرانية عن طريق الإغاثة كما يوظفون الإعلام والعلم والتعارف والمناسبات لذلك.(25/1)
معنى التنصير
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] .
{من محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)) [آل عمران:64] } رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في "كتاب الجهاد" من صحيحه.
طالما دمغ أهل الكتاب أهل الإسلام بكل نقيصة، ورموهم بكل عظيمة، وما تركوا عيباً ولا عاراً إلاََََََََََََََّ وألصقوه بهم، وأخرجوا أنفسهم منه أبرياء، وهم الذئاب في جلود الضأن، وهذا واحد من بني جلدتهم، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء.
رشيد سليم الخوري -الشاعر القروي اللبناني- يقول في "ديوانه" وهو يتكلم عن بني قومه من النصارى-: وكيف ألومُ في وطني الزمانا ومنا ذله لا من سوانا ألسنا قد أهناه فهانا وقلنا: كن فرنسياً فكانا إذاً فليهننا ليل المراد رضينا للتعصب أن نهونا فأغمضنا على الضيم الجفونا نقول: المسلمون المسلمونا فنلعنهم ونحن الخائنونا نبيع بدرهم مجد البلاد بربك قل متى لبنان ثارا ليدرك من علوج الروم ثارا متى ابتدرت إلى السيف النصارى لتغسل بالدم المسفوح عارا وتدرك مرة شرف الجهاد هذا هو الدرس الخامس والستون، وهذه هي ليلة الإثنين: الخامس من شهر صفر/ من سنة (1413هـ) وبالمناسبة فعنوان هذا الدرس هو: وسائل المنصرين.
* مصطلح التنصير يقصد به: ذلك الجهد الكنسي الذي يقوم به الدعاة من النصارى في الدعوة والعمل، والذي يهدفون من خلاله إلى إدخال الشعوب في الديانة النصرانية؛ سواء الشعوب المسلمة، أو الشعوب الوثنية، أو غيرها.
أو يهدفون إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، أو إلى تثبيت النصارى على ملتهم، ودعوتهم إلى مزيد من التدين.
- إذاً- فالتنصير، مأخوذ من النصرانية، -أي: الدعوة إلى النصرانية-.
* والنصرانية: هي الاسم الشرعي للديانة التي جاء بها عيسى عليه السلام، أو هو الاسم الذي سمي به أتباع عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:14] .
وإن لم يكن هذا الاسم أتى أصلاً إلا من قولهم هم، فالمهم أنه عرف بهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون يستخدمونه في حقهم.
وهو أولى من استخدام لفظ المسيحية والذي كثيراً ما يطلق على النصارى؛ وذلك لأن المسيحية هي نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وهو منهم بريء؛ إذ قد خالفوا أمره، وغيروا منهجه، وتركوا هديه ودينه وسنته، قال الله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:68] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم} كما في البخاري.(25/2)
تنصير لا تبشير
الأولى بكل الأنبياء هم الذين اتبعوهم، وأحيوا سنتهم، وكان دينهم جميعاً التوحيد.
ومن الخطأ استخدام لفظة (تبشير) الذي كثيراً ما يقال عن التنصير؛ وذلك لأن لفظة (تبشير) فيه دلالة على أن هؤلاء القوم يدعون إلى البشارة وإلى الخير، ويبشرون الناس بالسلام، وبالرحمة، وبالبر، وبالجود، وبالسعادة، وهم ليسوا كذلك، والأولى بلفظة (التبشير) هو المسلم؛ فهو المبشر حقاً؛ ذلك أن لفظة (تبشير) من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الفتح:8] .
وهكذا من سار على دينه فهو المبشر حقاً، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى إلى اليمن كما في "الصحيحين" قال: {بشرا ولا تنفرا} .
فالتبشير: هو اسم على دعوة المسلم الحق، وليس على دعوة النصراني بحال.
وقد استخدم لفظة (تبشير) جماعة كثيرون من الكتاب المسلمين، وقصدوا به النشاط النصراني في الدعوة إلى النصرانية، مثل ما كتب: عمر فروخ وخالدي في كتابهما المشهور الكبير المفيد "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، ومثلهم أيضاً: إبراهيم الجبهان "ما يجب أن يعرفه المسلم عن النصرانية والتبشير"، ومثله: مصطفى غزال، إلى غيرهم من الكتاب الذين يجري على ألسنتهم لفظ التبشير، والأولى أن يقال: التنصير لا التبشير.
* ولماذا اختار النصارى لدعوتهم لفظ التبشير؟ أولاً: لأنهم متفنون في التضليل الإعلامي، كما سيتضح لكم جلياً الآن أو بعد فترة.
وثانياً: لأنهم أخذوا هذا من كلمة يزعمون أنها جاءت في الكتاب -في الإنجيل- يقول الرب: -زعموا- "أجمل الذين يبشرون بالخيرات، ويبشرون بالسلام "(25/3)
التبشير النصراني اسم يخالف الواقع
الذين يبشرون بالخيرات، ويبشرون بالسلام هم حملة الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:10] .
يزعمون أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لهم وعلمهم: "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ منك الرداء فأعطه القميص".
ولكن رأينا أن هؤلاء الذين يتشبثون بعيسى ابن مريم يمارسون ألوان الوحشية باسم السلام، ويمارسون ألوان الحرب باسم التبشير، ورأيناهم ينشرون السلام كما ينشر المطر بإذن ربه الخضرة والنماء، رأيناهم ينشرون السلام في فيتنام حيث الجثث والجماجم والأشلاء، ورأيناهم ينشرون السلام في حربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن أتت على الأخضر واليابس، والحرث والنسل، ولا زالت آثارها إلى اليوم ماثلة للعيان، ورأيناهم ينشرون السلام خلال تينك الحربين في اليابان في هيروشيما وناجازاكي، ورأيناهم ينشرون السلام في لبنان الذي لم يكد يبقى فيه حجر على حجر.
ورأيناهم ينشرون السلام اليوم في يوغسلافيا؛ حيث العبرات تقطع قلوب الأطفال والشيوخ والنساء والأرامل، وحيث ألوان الاعتداءات الوحشية التي يعجب الإنسان كيف استطاع بشر أن يجرؤ عليها!، وكيف يتحملها ضمير إلا أن يكون ضمير الشيطان وأوليائه، ورأيناهم ينشرون السلام قريباً منا هنا في العراق؛ فلم يرحموا أنات الثكالى، واليتامى، والفقراء، والجياع، والعطاش، وتحالفوا مع الشيطان الآخر حزب البعث العلماني في إحكام القبضة على هذا الشعب المسلم؛ فلا ماء، ولا قوت، ولا طعام، ولا إغاثة، ولا غذاء، ولا علاج، باسم الحصار الاقتصادي.
هذا هو السلام الذي ينادون به.
هذا السلام الذي نادت معابدكم أم تلك مجزرة يخزى لها البشر(25/4)
لماذا نعالج موضوع التنصير
نعالج هذا الموضوع لخمسة أسباب: أولاً: لأن التنصير خطر يهدد المسلمين منذ زمن بعيد، وهو اليوم يمد يديه، ويكشر عن أنيابه، ويفتل سواعده لحرب ضروس مع العقيدة الإسلامية، فكان لا بد من أن تدق طبول الخطر ليسمع من لم يسمع، ويعرف من لم يعرف؛ خاصة إذا علمنا أن التنصير اليوم يتلصص بأساليب ووسائل ماكرة خبيثة، هي أحياناً أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، ويرضى ولو باليسير من العمل، فإذا لم يستطع أن ينصر المسلم رضي بدون ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
ثانياً: لأنه لا بد أن يقاوم المسلمون هذا الخطر، ويكثفوا الجهود لحربه في كل مكان.
ثالثاً: من أجل مزيد من الجهاد الذي تبذلونه، ويبذله المسلمون في الدعوة إلى الله عزوجل.
إيه! هذا صنيع أهل الباطل على باطلهم، فكيف يكون صنيعكم أنتم على حقكم؟!! {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] .
ولا يوجد وسيلة في الدفاع أحسن من الهجوم، إذاً فينبغي أن نرفع شعار الدعوة إلى الله تعالى في أوساط النصارى، ولنعتبر هذا على الأقل من الوسائل لإيقاف المد التنصيري أو تهدئته.
رابعاً: أن طرق مثل هذا الموضوع حرصاً على تعديل الصورة في نفوس المسلمين.
وليس التنصير هو الخطر الوحيد الذي يهددنا، فثمة أخطار كثيرة من داخلنا ومن خارجنا، والتنصير ذاته لن يبلغ فينا مبلغه إلا إذا وجد فينا تربة خصبة تنبت فيها جراثيمه وبذرته، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] .
ولكن التنصير خطر على كل حال، ونحن حين نتحدث عنه نأمل ونطمع أن يكون هذا الحديث مساهماً في تعديل الصورة في نفوس المسلمين العاديين، والمثقفين، وطلبة العلم، بل والعلماء، أي: أن يدرج في قائمة اهتماماتهم خطراً جديداً اسمه: (التنصير) وأنه خطر مدجج يستهدف أصول العقيدة الإسلامية لدى مسلمين في مناطق نائية وبعيدة، وأطفال، وصغار، ونساء؛ بل ولدى المسلمين في العواصم والمدن الكبرى، وفي حوزات الإسلام، وعواصمه العظام.
إن من السذاجة أن تتصور أن الناس يملكون مناعة ضد التنصير، قد تكون أنت تملك بعض المناعة، لكن من السذاجة أن تتصور أن 1000 مليون مسلم حسب الإحصائية، أو أن (40%) أو (30%) من هذا الرقم يملكون مناعة ضد هذا الخطر، وسوف يتبين لك إن كنت ممن يظن هذا الظن أنه ظن في غير محله.
فهناك مسلمون يتنصرون، وتقام احتفالات أحياناً بتنصر 800 مسلم في يوم واحد، وهناك من لا يتنصرون فعلاً ويغيرون أسماءهم من عبد الله إلى جورج أو جوزف، ولكنهم يتأثرون فيصبح التنصر منهم قاب قوسين أو أدنى، ليسوا أعداء للنصارى، ولا يكرهون النصرانية، ولا يعتقدون أنها باطل، ولا يرون أن النصراني من أهل النار، وهؤلاء قد لا يكونوا أصبحوا نصارى بالمقياس النصراني ذاته ولكنهم حملوا الجرثومة، فإذا تنصر ولده أو تنصرت بنته، قال: هذه حرية شخصية، وما دام والمسألة قابلة للأخذ والرد فلماذا أنا أضغط على ولدي، أو أضغط على بنتي، أو أقف في وجهه!! والنصارى أطول منك نفساً، وأبعد منك نظراً في بعض الأحيان.
وقد لا يوجد هذا ولا ذاك، ويبقى المسلم مسلماً مؤمناً بأصول الدين، مكفراً للنصارى، معتبراً أنهم من أهل النار، ولكن هذا الجهد التنصيري المكثف الموجه إليه هو شخصياً ولَّد عنده فتوراً في الحماس.
ولا شك أن هذا مشاهد، فالذين يعايشون النصارى من غير المتحمسين للإسلام؛ بل من المسلمين العاديين كثرت الطرق عليهم مما يولد عندهم فتوراً تجاه الدعوة، وعدم حماس لحمل رسالة الإسلام.
فلابد أن ندرج في قائمة اهتمامات أهل الإسلام خطراً جديداً اسمه: التنصير.
نوجه هذا الكلام لمن يشتغلون بالمعارك الصغيرة، معركة على قضية سهلة لا تقدم ولا تأخر، ولا يترتب عليها هدى أو ضلال، أو حق أو باطل، وإنما فيها راجح ومرجوح.
خامساً: أن هذا هو دعوة للتائهين من المسلمين، إلى الشباب الذي يلهث وراء الكرة، ووراء الفن، ووراء الفيلم، ووراء المسلسل، ووراء الأغنية، ووراء المرأة، نقول لهؤلاء: هذا جهد عدوكم، فأفيقوا قبل أن يغرقكم الطوفان ويبتلعكم الموج وأنتم لا تشعرون.(25/5)
مصادر معلومات وسائل المنصرين
من أين استقيتُ هذه المعلومات التي سوف أقدمها لكم -الآن- وعبر أسابيع تالية -أيضاً-؟ هناك عشرات الكتب -على كل حال- تتكلم عن هذا الموضوع، ولكني وجدت نفسي منهمكاً في مطالعة ما يزيد على (1500) وثيقة تنصيرية وصلتني، ولم أنته بعد إلا من شيء منها، وأنا على يقين أن هذه الوثائق التي أملكها هي مجرد نماذج قليلة وناقصة لبعض جوانب الموضوع؛ إذ أنه لم يكن هناك جهد لاستكمال الموضوع واستجماعه، إنما هي النماذج والوسائل والوثائق التي وصلتني من الإخوة بجهودهم الشخصية.
ولا يفوتني أن أشكر من ساعدوني من الإخوة الشباب في توفير الوثائق حول هذا الموضوع بجهودهم الذاتية، سواء عن طريق المراسلة أو عن طريق الفاكس، أو بواسطة الزيارة وإرسال بعض المظاريف، والأوراق، والمجلات، والأشرطة وغيرها، فأقول لهم: جزيتم خيراً، وقد قمتم ببعض واجبكم تجاه دينكم وتجاه فضح هذا المخطط.
كما أشكر مجموعة من المؤسسات والهيئات الإسلامية، وعلى رأسها الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكذلك لجنة مسلمي أفريقيا، فقد واصلوني وراسلوني بمجموعة كبيرة من الأوراق، والوثائق، والمنشورات، والحقائق التي أشكرهم عليها شكراً كثيراً، ولهم مني الدعاء في ظهر الغيب، وليعذرني هؤلاء وأولئك على أني أقتصر في شكرهم على هذه الكلمات التي قد يسمعونها، وربما لا يسعفني الوقت أن أكتب لهم شكراً خطياً وأبعث به إليهم، فليعذروني على ذلك، جزاكم وجزاهم الله خير الجزاء، وبارك الله تعالى في جهودكم وجهودهم.
وقد انتابتني حيرة شديدة وأنا أطالع هذه الأوراق فما أدري ما آخذ منها وما أدع!، ولذلك رأيت أن من المناسب، خاصة وأن هناك طلباً من عدد من الإخوة أن يجّزأ الموضوع على فترات، فرأيت أن من المناسب أن يخصص أكثر من موضوع، فسأتحدث إليكم في الأسبوع القادم وأقول لكم: التنصير يجتاح العالم الإسلامي، هذا في الأسبوع القادم، وفي أسبوع آخر سوف أتحدث عن التنصير في منطقة الخليج العربي بالذات؛ لخطورة الأمر وما فيه من الوثائق والحقائق المذهلة التي قد لا تتصورونها.
ومع ذلك فالموضوع أكبر من محاضرة أو محاضرتين أو ثلاث؛ ولهذا أجد أن سرد بعض المصادر -الآن- قد يفيد في تغطية الموضوع في جوانب قد لا نملك -نحن- أن نتكلم عنها في كثير ولا في قليل، وأيضاً أذكر هذه المصادر حتى يعلم الجميع أن الحديث إنما هو من وثائق، وحقائق، ومعلومات هي في الغالب مستقاة من مصادر رسمية، أو مصادر تنصيرية محايدة، أو أنها متعاطفة مع النصارى.(25/6)
تقارير صحفية عن نشاط المنصرين
من المصادر: تقارير صحفية وإعلامية من جهات مختلفة تنصيرية، أو إسلامية عن نشاط المنصرين، أو تقارير شخصية موثقة تصل بشكل يمكن الاعتماد عليه.(25/7)
وثائق حول النشاط التنصيري
ومن المصادر -أيضاً- وثائق رسمية لمؤسسات، أو شركات، أو دول تشير إلى جوانب من هذا النشاط التنصيري، وسأتحدث عنها بوضوح وبالأرقام في حينه، لأن هذا حق لا بد من بيانه، ولا يجوز أن يسكت عن الحق الذي يهدد المسلمين في عقيدتهم بدعوتهم إلى دين آخر غير دين الإسلام.
هذه بعض المصادر وغيرها كثير.(25/8)
الكتيبان والمطويات والنشرات وغيرها
من المصادر أيضاً: الكتب والكتيبات والمطويات والنشرات والدوريات والأشرطة التي وصلتني من جهات شتى، وهي كتب ووثائق تنصيرية هي جزء من عمل المنصرين، والكثير من هذه الأشياء مخصص للمسلمين، ومكتوب للمسلمين وبلغتهم وبأسلوبهم، حتى أنك تجده يسوق الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، بل أحياناً بأسانيدها وهذا من أعجب ما رأيت، فيقول: حدثنا محمد حدثنا المثنى يسوق الحديث أحياناً بإسناده من أجل أن يأنس قلب المسلم، ويستخدم العبارات الإسلامية، وقد تجد في بداية الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) وتجد أن الكتاب من أوله إلى آخره ليس فيه هجوم على الإسلام ولا على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل فيه اعتراف بنبوته أحياناً، لكنه يدخل بطريقة ذكية إلى قلوب السذج والمغفلين من المسلمين.
فتجده إذا ذكر اسم الله يقول: الله عزوجل، الله جل جلاله، الله سبحانه وتعالى، مع أن هذه الكلمات ليست معروفة عند النصارى، لكن أخذوها من المسلمين.
وإذا ذكر عيسى فالنصارى يقولون: يسوع، لكنهم في كتبهم يقولون: عيسى إذا كان الكتاب مخصصاً للمسلمين، من أجل أن تأنس القلوب بذلك وترتاح له.
بل تجد في هذه الكتب على الغلاف صورة لعربي، أو خليجي بالشماغ والعقال وثيابه المعروفة، وربما تجد صورة بلباس الأمراء لطفل صغير يحمل الصليب، أو يحمل الإنجيل في يده على غلاف الكتاب.
وشأن هذه الأشياء غريب جداً، فهناك كميات بمئات الألوف في هذه البلاد فضلاً عن غيرها من البلاد النائية، أو البلاد التي يستهدفها التنصير مباشرة.
وقبل قليل أخبرني الشيخ سعيد بن زعير؛ الأستاذ في كلية الدعوة، أنه وصله ألف نسخة من كتيب بحجم أصابع اليد في البريد من أجل أن يقوم جزاه الله خيراً بتوزيعه على الناس، من كتب النصارى، حتى المشايخ يرسلون إليهم كتب ورسائل وطرود من المصادر، وسأتحدث على كل حال عن هذه النقطة مستقبلاً بتفصيل أكثر.(25/9)
الكتب التي تناقش النصارى
أولاً: الكتب التي تناقش دين النصارى، وهذه مصادر عامة: من خلال الكتاب والسنة والرد عليهم، وتثليب ماهم فيه، وبيان مذاهبهم وأقسامهم إلى غير ذلك، ومن أشهرها كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لـ ابن تيمية رحمه الله، وكذلك كتاب هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى للإمام ابن القيم رحمه الله، ومن الكتب المعاصرة كتاب محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة، وكتاب "أضواء على المسيحية" لـ شلبي، فضلاً عن كتب "الملل والنحل" وهي كثيرة، فضلاً عن كتب التفسير التي تتكلم عن النصارى من خلال تناول الآيات القرآنية في سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها.(25/10)
الكتب المعاصرة عن نشاط المنصرين
ومن المصادر: الكتب التي تتحدث عن نشاط المنصرين، والجمعيات التنصيرية، وأساليب دعاة النصرانية، سواء على سبيل الإجمال، أو على سبيل التفصيل في بلد معين، أو في بلدان، أو قارات بأكملها.
من تلك الكتب على سبيل المثال، وإلا فهي تعد بالمئات: من أخطرها كتاب الزحف إلى مكة للدكتور خالد نعيم؛ وهو أستاذ في جامعة الأزهر فيما أذكر، وهذا الكتاب مطبوع وقد نشر على حلقات في مجلة المجتمع الكويتية، وهو كتاب وثائقي مهم، ومنها كتاب حقائق ووثائق عن التنصير في العالم الإسلامي للدكتور عبد الودود شلبي، وله كتاب آخر أيضاً اسمه أيها المسلمون أفيقوا قبل أن تدفعوا الجزية، ومنها: كتاب "التنصير في القرن الأفريقي ومقاومته" للسيد أحمد يحي، وهناك كتب غيرها كثيرة.(25/11)
كتب تعالج الجانب العسكري والسياسي
من المصادر: الكتب التي تعالج الجانب السياسي، أو العسكري للتنصير، وهي كثيرة جداً، وزادت أضعافاً مضاعفة في حرب الخليج التي ينظر إليه كثير من المنصرين، ومن النصارى ولو لم يكونوا دعاة على أنها ترسيخ للنصرانية وفتح أبواب وآفاق جديدة لها في العالم الإسلامي، وفي منطقة الخليج والعراق خاصة، ومن هذه الكتب مثلاً، وهي -أيضاً- كثيرة بالمئات، بعضها موجود يباع وبعضها لا يباع، كتاب المسيحية والحرب للدكتور رفيق حبيب، ومثل: كتاب "النبوءة والسياسة"، "الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى حرب نووية"، "التبشير الإستعمار في البلاد العربية" وهو: كتاب لـ عمر فروخ خالدي قديم لكن فيه معلومات مفيدة.(25/12)
الكتب التي تدون محاضر المؤتمرات
من المصادر: الكتب التي تدون محاضر المؤتمرات النصرانية، أو التنصيرية، التي تقام في بلاد الغرب، أو الشرق، وهذه كتب كثيرة ومن أشهرها كتاب الغارة على العالم الإسلامي الذي ترجمه محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، ذكروا فيه وثائق المؤتمر التنصيري، أو أكثر من مؤتمر تنصيري على الأصح وهي وثائق قديمة ولكنها مهمة ومفيدة وهي تتجدد، ومنها كتاب مهم -أيضاً- طبع في أكثر من (1000) صفحة لا يباع ولكن حصلت عليه بطريقة خاصة اسمه التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي وهذا الكتاب بينت فيه وثائق مؤتمر عقد في أمريكا في كلورادو عام (1978م) -وأيضاً- أعتذر إليكم أن التواريخ ستكون جلها أو كلها بالميلادي، ولقد حصلت على أوراق التحويل، وعلى آلة، ولكن لم أجد الوقت الذي يمكنني من تحويل التاريخ فالمعذرة، واستغفر الله من ذلك.
المهم, هذا المؤتمر الذي عقد عام (1978) في كلورادو، وحضره أكثر من (150) منصر من أنحاء العالم، واستمر أياماً، وقدم فيه أكثر من (40) دراسة ميدانية وثائقية مقارنة من أخطر ما يكون، وخرجوا بتوصيات علمية غريبة، نشر على رغم التحفظ عليه في أكثر من (1000) صفحة في أمريكا، ومهمة هذا المؤتمر كانت هي: التخطيط لتنصير المسلمين جميعاً، وكان عددهم آنذاك -فيما أذكر- أكثر من (720) مليون حسب الإحصائيات الرسمية.
فكان المؤتمر يهدف إلى تحويلهم إلى نصارى، ومن أجل ذلك عقد المؤتمر، وقد قام الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، بدراسة هذه الوثائق دراسة جيدة، وطبعت هذه الدراسة -أيضاً- في كتاب اسمه تنصير المسلمين، وهو بحث في أخطر استراتيجية طرحها مؤتمر كلورادو، ونشر هذا الكتاب -أيضاً- على حلقات في مجلة المجتمع الكويتية، وطبع في الرياض في أحد دور النشر.
من الكتب -أيضاً- التي تفضح بعض خطط المنصرين في مؤتمراتهم كتاب اسمه سبعمائة خطة لتنصير العالم وهذا الكتاب رشح على أنه أهم وأخطر كتاب نصراني لعام 1988م قبل نحو أربع سنوات، تكلم عن (700) خطة لتنصير العالم، ودرسها خطة خطة، وإيجابياتها وسلبياتها، وخلص على أن ما يزيد على (400) خطة منها فاشلة، و (300) خطة منها قابلة للنجاح مع بعض التعديلات، وصفا له نحو (120) خطة رأى ضرورة التركيز عليها والعناية بها(25/13)
أهداف المنصرين
ما هي أهداف المنصرين في دعوتهم؟(25/14)
الهيمنة العالمية للكنيسة
لعل الهدف الأكبر الذي يسعون إليه: هو بسط هيمنة الكنيسة النصرانية، سياسياً، واقتصادياً، وعلمياً، ودينياً على العالم كله، فباختصار هم يدورون حول هذا الهدف الكبير، ويسعون إلى تنصير العالم، يحدوهم في ذلك نبوءة تقول لهم: " إذا نزل عيسى سيتنصر اليهود، وسوف تخضعون أنتم وهم لمعركة فاصلة في هرمجدون في فلسطين ضد قوى الشر -أي: ضد المسلمين- وتنتصرون عليهم، وتقوم مملكة الرب في أرضهم "(25/15)
التنصير أو ترك المسلم بلا دين
أما أهدافهم التفصيلية فكثيرة: منها مثلاً: إدخال غير النصارى في النصرانية سواء كانوا من المسلمين وهم الهدف الأول لحملات النصارى أو حتى البوذيين، أو الوثنيين، أو غيرهم.
ومنها: -وهذا يحدث عند العجز- أنهم يكتفون بإخراج المسلم من دينه وإبقائه بلا دين، وهذا الهدف الذي تكلم عليه زويمر في مؤتمر المنصرين حينما، خطب فيهم وسط أجواء من التشاؤم، حيث كانوا يقولون: عجزنا عن تنصير المسلمين، فخطب فيهم يقول لهم: " اعلموا أننا لا نريد أن نخرج المسلم من دينه لندخله في النصرانية، فهذا شرف لا يستحقه، وإنما نريد أن نخرج المسلم من إسلامه حتى يبقى بلا دين، ثم دعا وقال: باركتكم عناية الرب.
وأقول: هو كذوب فيما قال: أولاً: لأن هذا الكلام على قاعدة الثعالب، يروى أن الثعلب حاول أن يصل إلى العنب فعجز، فقال: الحمد لله الذي أنجاني من الحرام، وفي لفظ أنه قال: هذا عنب حامض ولو صعدت إليه لوجدته غير ناضج، فتركه -زعم- لعدم صلاحيته، فهكذا زويمر ومن معه لما عجزوا في فترة من الفترات في الحصول على أعداد كافية من المسلمين المتنصرين، طمأن قومه بأنه ليس المقصود تنصيرهم وإنما المقصود إخراجهم من دينهم.
ولا شك أن هذا هو بعض أهدافهم.(25/16)
التشكيك في بعض أحكام الإسلام
ومن أهدافهم -أيضاً- التشكيك في بعض أحكام الإسلام؛ وهذا يعملونه على نطاق واسع -خاصة لدى القراء من المثقفين، وأنصاف وأرباع المثقفين- ومن أبرز القضايا التي يتكلمون عنها: قضية الرق، وقضية الجهاد، وقضية تعدد الزوجات، فهذا الثلاثي لا تجد منصراً في الدنيا يتكلم على الإسلام إلا يبرز هذه الأمور الثلاثة، ويحاول أن يشكك المسلمين في دينهم من خلالها.(25/17)
الهيمنة على البلاد الموجودين فيها
ومن أهدافهم: الهيمنة على البلاد التي يكون لهم فيها وجود يذكر؛ بحيث يحاولون أن يرفعوا النصارى، أو المتنصرين، أو المتعاطفين معهم أيضاً إلى مواقع حساسة، سواء كان في الجيش، والعسكر، أو في الإعلام، أو في التعليم، أو في المناصب السياسية، أو غيرها، وليس سراً أن عدداً من البلاد الإسلامية أصبحت في قبضة النصارى بسبب وصول بعض عملائهم إلى السلطة.
ولعلي أسبق الأحداث وأذكر لكم هذه القضية، وإن كانت ضمن درس الأسبوع القادم، أن أكبر بلد إسلامي في العالم إندونيسيا (190) مليون أكثر من (90%) منهم في الأصل مسلمين، هذا البلد يتعرض اليوم لحملة تنصيرية بلغ من وقاحتها، وضراوتها أنهم يعدون رجلاً مسئولاً -الآن- عن العسكر وعن الأمن، يعدونه ليدخل في معركة الرئاسة -رئاسة الدولة- أي: أن من الممكن أن يتولى رئاسة هذه الدولة رجل نصراني، وسأذكر لكم اسمه، لا تستغربوا ففي هذا البلد بذاته (190) مليون عطلتهم يوم الأحد، ولا أحد يعترض هناك.(25/18)
وسائل التنصير
كل وسيلة شريفة أو دنيئة فهي مباحة عندهم، فالغاية تبرر الوسيلة، ومتى كان للنصارى عهد أو عقد أو ميثاق خاصة بعدما كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتركوا دينه، وأصروا على الكفر.(25/19)
المؤتمرات العلمية
الحادي عشر: المؤتمرات العلمية تعقد حتى في البلاد العربية، ففي مصر عقد مؤتمر من أخطر مؤتمرات المنصرين، وخرج بتوصيات خطيرة، ثم في كلورادو -كما أسلفت- مؤتمر عام (1978م) ، وتوصياته طبعت في كتاب في أكثر من (1000) صفحة، وقبل شهور عقد المؤتمر السابع لمجلس الكنائس العالمي، وحضره مندوبون عن المنصرين في أنحاء العالم، والغريب أن هذا المؤتمر خرج بتوصيات من أخطرها: تعيين البابا شنودة -زعيم الأقباط المصريين النصارى- مسؤولاً عن الإرساليات التنصيرية، أو مسؤولاً عن مجلس الكنائس العالمي في الشرق الأوسط، وإعطاؤه صلاحيات كبيرة، وهذا يدل على الأهمية الكبيرة التي يمنحها المنصرون في منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية والإسلامية، ويمتلكون الدراسات، والبحوث، والمؤتمرات.
أما المسلمون -مع الأسف الشديد- لا يكادون يملكون شيئاً من ذلك.
وبشكل عام؛ فالحضارة بأيديهم، والدولة اليوم في العالم لهم، وليس سراً أن أمريكا هي امبراطوية الصليب، ومثلها بريطانيا وفرنسا، فجميع التيسيرات الحضارية، والخدمات العلمية هي تحت تصرف الكنيسة، ورهن إشارة بابا الفاتيكان؛ فضلاً عن القوة السياسية والعسكرية التي تمنح النصراني مزيداً من الثقة، ومزيداً من القوة، وقد تصيب المسلم أحياناً بشيء من الضعف، أو الإحباط، وتسبب له مزيداً من الضغوط على الدول لتسهيل مهمة النصارى في بلادهم، ودعمهم، وقمع الحركات الإسلامية المعارضة لهم باسم الدعوة إلى السلام، أو إقرار الديمقراطية، أو الأخوة الإنسانية، أو حرية الأديان.
يقول منصر كويتي: الصليب الوحيد المرفوع في الكويت هو الصليب الأحمر -صليب الإغاثة- ولكن المسيحيين الكويتيين قد اكتسبوا ثقة جديدة من الدور الذي لعبته القوات الغربية في حرب الخليج، أي: رفعت رؤوسهم.
وقد سمعنا -جميعاً- الكلام المنهزم الذي تفوه به الكثير من رؤوس الفكر، والثقافة، والصحافة، والإعلام هنا، فضلاً عن غيرهم من عامة الناس، والسذج، والبسطاء.
ومع ذلك فالكنيسة غير راضية عن أساليبها، ووسائلها؛ بل هي تسعى في تطويرها، ومراجعتها يوماً بعد يوم.
وهناك منظمة اسمها: التنصير عام 2000م، أنشأت بطلب من البابا ذاته، ولها مكتب في سنغافورة وفي أكثر من بلد، ومهمتها محاولة تطوير أساليب التنصير في العقد القادم، فهم يقولون: العقد القادم عام 2000م هو عقد النصرانية.
وفي مقابلة أجرتها جريدة تنصيرية مع الدكتور أكبر عبد الحق وهو منصر، قال: سألوه عن عدم الاستجابة واليأس الذي خالط بعض المنصرين، فقال: الذين يعملون بجهد وإخلاص وإيمان من المنصرين، فهم كمن يغرس البذرة بالتربة في الصحراء وقد تنبت يوماً من الأيام، أما الخاملون واليائسون فنحن نضعهم جانباً ولا نلتفت إليهم، ثم سألته عن سر تنصر 2000 مسلم في الهند تحت رعايته هو، فأعاد ذلك إلى أسباب منها: كثرة الإرساليات إلى الهند، ومنها: أن كثيرين منهم درسوا الإنجيل عبر المراسلة، وهذا يدل على خطورة هذه الوسيلة، وقال: لقد سلطنا عليهم النشرات المسيحية.
وعموماً، فالمنصرون يقسمون الدول إلى قسمين: القسم الأول: دول يسمونها مفتوحة، وهي التي يتمكنون فيها من طباعة كتبهم، ومنشوراتهم، وإنشاء الجمعيات الخاصة بهم، والدعوة علانية إلى مذهبهم.
القسم الثاني: يسمونها دول مغلقة وعلى رأسها السعودية، ومجموعة كبيرة من الدول وهم لا يقصدون أنها مغلقة بمعنى: أنه لا يمكن الوصول إلى قلوب الناس فيها، حتى لبنان عدّوها من الدول، المغلقة، وبعض الدول الأخرى، يبدو أنهم يطمعون في أكثر وأكثر مما هم عليه الآن!! فبالنسبة للدول المغلقة فلا شك أنهم يسعون إلى أهداف التنصير السابقة التي هي: إخراج الناس من دينهم، ولكنهم يركزون على ما دونها من الأحكام، مثل: تحسين تصور الناس عن النصرانية، ونشر الأفكار العلمانية، ونشر الفساد والإباحية، وتكثيف النصارى، والتأكيد على ضرورة حرية الأديان، ومن أعظم مطالبهم: استحداث قوانين في تلك الدول تسمح للإنسان أن يتدين بما شاء، فلا تقيم عليه حد الردة إذا كفر؛ لإنه يقول بحرية الدين، فيتدين بما شاء، فهي تسعى إلى تدعيم دعوتها من خلال استحداث قوانين تسمح بذلك، ولو على الأقل بإيجاد مواطنين يستقرون من دول أخرى بغير الدين الذي منه تلك الدولة، حتى يقطعوا ويزيلوا أن تكون الدولة من دين واحد.
فالصومال -مثلاً- البلد الأفريقي الوحيد الذي لا توجد فيه أقلية، فكل سكانه مسلمون، مع ذلك أقامت فيه النصرانية أربع كنائس في العاصمة ذاتها، وسعت إلى تغيير القانون؛ بحيث يتيح للإنسان أن يتنصر، فهم يسعون إلى عمل ذلك في العالم كله دون استثناء.
-إذاً- الأهداف تختلف من بلد إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، ولكن الوسائل واحدة: تنوعت الأسباب والموت واحد(25/20)
العناية بالناشئة من الجنسين
الوسيلة التاسعة: العناية بالنشء من الشباب والفتيات الصغار، -والحصول عليهم بأي وسيلة.
ومن ذلك: مجلات مخصصة للأطفال، ومصورة وجميلة، وفيها حوار، إثارة، جاذبية، وقد اطلعت على مجلة اسمها الأشبال، مجلة كل الأولاد العرب، وكل البنات العرب- وهي مجلة مصرية والله ما أكتمكم -أيها الإخوة- أنني لما قرأتها قلت: ربما أنني وضعت هذه المجلة خطأ مع ملفات التنصير لأنه ليس فيها تنصير، ففي أولها بسم الله، وفي الصفحة الثانية أحدهم كتب مقالاً اسمه صالح طفل صغير، قلت: هذه -أكيد- مجلة إسلامية، وفي آخرها دعاء، فأنا أقرأ الدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم َ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَليهم} [الفاتحة:5-6] وبعد قليل وجدت: "اللهم اهدنا بقلوب لا تعمى عن رؤية نعمتك العظمى، نعمة تضحيتك بعيسى فداء قدسياً لنا" فلاحظ في آخر صفحة!! وفي آخر سطر!! أجنحة النسور، مجلة مصرية للأطفال -أيضاً- وفيها قصص للأطفال مثل: جنة الأحزاب، وهي سلسلة قصص مأخوذة من الكتاب المقدس؛ الذي زعموا أنه مقدس، وكتبت على شكل حوار شيق للأطفال، وحوارات كثيرة على مستوى الصغار، وبرامج للصغار في التلفاز، وفي الكمبيوتر، وفي الإذاعات.
عدد المدارس المخصصة للشباب التي يشرف عليها منصرون لتعليم أبناء المسلمين وصلت في العام الماضي إلى ما يزيد على (99.
000) مدرسة ومعهد، وهذه مخصصة لأولاد وبنات المسلمين؛ بل وصل الأمر إلى خطفهم لأولاد المسلمين في غينيا من أجل تربيتهم على النصرانية، وأخذوهم فجاء بعض الإخوة الطيبين وقالوا للآباء: هؤلاء كفار -نصارى- وسوف يخرجون أولادكم من الإسلام ويدخلونهم في النصرانية، فذهب الآباء للمنصرين وقالوا: تراجعنا نريد أولادنا، قالوا لهم: لا هيهات، لا يمكن أن نعيد لأحد منكم ولده إلا بعد ما يدفع فدية مقدارها (360.
00) فرنك غيني، هذا في غينيا، مقدارها أظن (50) دولاراً أمريكياً.
ومن الذي يملك هناك (50) دولاراً أمريكياً، فهم لا يملكون لقمة العيش، وبناء عليه ظل الأولاد مع النصارى، وقالوا لآبائهم: سوف يمكثون معنا فقط (25) سنة، ومسألة الصغار من الجنسين هي أخطر ورقة في يد المنصرين، حيث يغفل الأهل كثيراً، ويصبح الولد في يد الممرضة، أو الخادمة، أو المدرسة زماناً طويلاً، وقبل قليل ذكرنا قضية الخادمات والممرضات المبعوثات من الإرسالية التنصيرية الشرقية إلى المسلمين.
وهناك معلومات مؤكدة عندي عن أناس من هذه البلاد خرجوا من الإسلام ودخلوا في النصرانية للسبب ذاته.
ولو لم يظفر المنصرون بهذا لظفروا بما دونه من التأثير؛ ولذلك نشرت جريدة المدينة -هذا مثال- عنواناً: (حرب قذرة ضد مدارسنا) وذكرت في ذلك المقال والتحقيق خبراً، وعندي -أيضاً- أمور أخرى تتعلق به (مساطر، وأقلام، وأدوات مدرسية) وأشياء تحمل أفكار نصرانية، وتحرض على الإباحية، والعنف، والفساد، وفيها صور لقسس، ورهبان، وصلبان، وغير ذلك، -وأحياناً- صور إباحية منشورة وموجودة؛ بل بعض هذه الأشياء يباع في المكتبات؛ فضلاً عن مسابقات ثقافية وصلت إلى بعض الطلاب في المدارس، وتجد هذه المسابقة عن بابا نويل وماذا قال: بابا نويل؟ وهذا لأطفالنا، وله قصة لعله يأتي لها ذكر إن شاء الله.(25/21)
إقامة المدارس والمنح المجانية
الوسيلة العاشرة: العناية بالطلاب والشباب من خلال إقامة المدارس لهم، وسبق ذكر رقمها، أو المنح الدراسية المجانية التي تقدمها الكنيسة لمن يحتاجون من أولاد المسلمين، وينتخبون منهم الأذكياء ويقيمونهم في بلادهم؛ بل حتى في بلاد المسلمين.
وأذكر لكم نكتة، أو طرفة، في شركة كبرى تنقب عن الزيت في بلد ما، كانت هذه الشركة تحتوي الشباب وتدربهم، ثم ينتخب المنصرون -الذين كانوا يأتون باسم خبراء- بعض هؤلاء الشباب لتدريبهم على النصرانية، أو التأثير عليهم، فإذا أعجبوا بالشاب كانوا في وقت الظهيرة يحضرون له الماء البارد ويقولون له: اشرب، ثم إذا شرب سكبوا بقية الماء على الأرض وزملاؤه ينظرون ويتمنون أن يشربوا، ولكن هيهات؛ لأن هذه خصيصة لهذا الشاب حتى يشعر بأنه مختص، أما أولئك المسخرون والعملة فإنه يوضع على ظهورهم أوراق ملصقة يكتب عليها المدير التعليمات، ويقول له: اذهب إلى فلان، فيذهب إلى فلان فيلقيه ظهره فيقرأ المعلومات ثم يمسحها، ويكتب الجواب على هذه التعليمات ليذهب إلى الأول وهكذا وهذا كان موجوداً.
-إذاً- هم يهتمون بالأذكياء، وينتقونهم، ويختارونهم، ويخصونهم؛ ولذلك يواجه الطلاب المسلمون في الغرب قصص كثيرة من الدعوة إلى النصرانية، سواء عبر الهاتف، أو المراسلة، أو الصداقة، أو حتى بمجرد المقابلة، وعندي قصص كتبوها لي في أوراق من هذا الجنس يتعجب الإنسان منه.
هم يصطادون -أيضاً- السواح من المسلمين، وفي عدد قديم من جريدة المسلمون، تحقيق يقول: إن عشرات المنصرين في حديقة الهيدبرك في لندن يدعون العرب خصيصاً إلى النصرانية، وصوروا واحداً منهم وصدره مكتوب عليه (المسيح ابن الله) {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:43] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4](25/22)
الرياضة
سادساً: من الوسائل الرياضة.
قبل سنوات نشرت صحفٌ سعودية منها: جريدة اليوم كلاماً يدل على اكتشاف خطة تنصيرية لاستغلال مبارات كأس العالم لبث التنصير، ونشر وتوزيع الأشرطة والكتب والنشرات، يقوم وراءها الفاتيكان، هذا أقيمت في السعودية، فكيف إذا كانت في بلد آخر من البلاد التي تعتبر مفتوحة للدعوة النصرانية، ومثله كل الدورات والألعاب الأولمبية التي تقام في العالم تستخدم للتنصير، ومن آخرها ما يسمى بدورة برشلونا، والشباب يتابعونه، لكن الكثير منكم يمكن لأول مرة يسمع هذا الكلام، وكذلك معرض أشبيليا، وهذه الدولة وهذا المعرض عندي وثائق على أن هناك خطة أن يتولى النصارى العرب الاتصال والتنصير فردياً هناك، وتوزيع النشرات والأفلام وعنوانين المؤسسات التنصيرية في العالم على الحضور وعلى المسافرين إليها.(25/23)
العمل الاجتماعي في مجال المرأة والمجتمع
الوسيلة السابعة: العمل الاجتماعي في مجال المرأة، وفي مجال المجتمع، وفي مجال حل المشكلات: ومن ذلك: أن هناك منظمة فلبينية تنصيرية اسمها منظمة شادي، وكلمة شادي عندهم في لغتهم معناها الرب، هذه المنظمة تهتم بشكل خاص بالمرضى، والمعوقين، وأصحاب المشكلات النفسية، والذين يواجهون صعوبات في حياتهم، والغريب في الأمر أن هذه المنظمة معها نشرة اسمها: شادي، وعندي أعداد من هذه النشرة، ونشرت في أحد الأعداد عناوين لمندوبي هذه المنظمة، نشرت فيه أربعة عناوين بغير العربية، ووجدنا أن عنوانين منها في داخل المملكة وأحدها في بريدة على مسافة كيلو مترات منكم؛ في المدينة الصناعية، وفي الأخير كتب اسمه دوان طبال مندوب لهذه المنظمة، ثم كتب صندوق البريد.
ويدخل في العمل الاجتماعي -الذي يهدف إلى نشر النصرانية- العمل على تحديد النسل، فهم يحاولون تنصير النسل، لكن بودهم -أيضاً- أن لا يوجد مسلم على وجه الأرض يحتاج إلى تنصير، وقد دفعوا معونات -وهذه معلومات مؤكدة- فأمريكا دفعت لمصر معونات ضخمة مخصصة، بشرط أن تستخدم في تحديد النسل، فضلاً عن هبات، ومعونات، ومعدات، وأجهزة أرسلت إلى كليات الطب في مصر، وحتى إلى كلية الطب في الأزهر ذاته والتي تتعلق بموضوع الإجهاض، وإمكانية إسقاط الأطفال من أرحام الحوامل، وهذه الأخبار نشرتها عدة صحف منها: جريدة المسلمون عدة "275" -تقريباً-.
ومن ذلك أن مجلس الكنائس العالمي وهو ربما أعلى سلطة مسؤولة عن التنصير، حشد آلاف من المربيات كما يقول رئيس إرسالية التنصير في الشرق الأوسط، يقول: " إن مجلس الكنائس العالمي حشد آلاف من المربيات، -ووضع خطوطاً تحت هذا الكلام- آلاف من المربيات، والخادمات، والممرضات، والأطباء، والمهندسين، لدعم خطة لتنصير المسلمين عام (2000م) "، فهم مصرون على أن يتحول المسلمون عام (2000م) إلى نصارى، ومن ذلك استخدموا حتى المربيات، والخادمات، والممرضات، والأطباء، والمهندسين.
ويقول هذا المسؤول -وهو رئيس إرسالية التنصير في الشرق الأوسط-: إن هؤلاء -الذين أرسلوا- قد اتخذوا الوسائل والأسباب التي تمهد لهم التوغل في جزيرة العرب.(25/24)
المراسلات
ثامنا: ً من الوسائل: المراسلات.
وهي من أخطر وأنجح الوسائل؛ لسهولتها، ووصولها في الغالب، وإمكانية تداولها.
وأنا أعجب من البريد في العالم العربي الذي يلاحق رسائل الخير والدعوة إلى الإسلام، والرسائل الموجهة إلى العلماء والدعاة، ويصادرها أحياناً، ويكشفها أحياناً أخرى، وتفوت منه القليل، أما رسائل النصارى فتأتي ليست على استحياء، رأيت بعيني طرداً بريدياً ضخماً في داخله نسخ من الإنجيل، وأوراق ومجلات وأشياء كثيرة مبعوثة من النصارى إلى مواطن عربي في بلد ما.
الإذاعات التنصيرية لها برامج للتعليم بالمراسلات، وهي برامج مجانية، وهي تعقد الصداقات، وتوصل الكتب والمجلات والأشرطة مجاناً إلى من يريد، وكل ما يهمهم هو الحصول على عنوانك، ثم بعد ذلك نم فسوف يأتيك كل شيء.
مثال: جمعية طريقة الحياة في لبنان، وهي جمعية للتنصير بالمراسلة، وترسل كتباً وكتيباتٍ، وأشرطة وغير ذلك؛ بل وتمنح شهادات للخريجين، وعندي نماذج من الأسئلة، ونماذج من الاختبار، ونماذج من هذه الشهادات؛ بل حتى ترسل لمن لم يطلب بمجرد التعرف على عنوانه، وقد اكتشفت أن مجلة الوطن العربي، وهي وكر من أوكار النصارى في فرنسا، ومع الأسف أنها عميلة لبعض الأنظمة العربية -أيضاً-، واتخذت هذا ذريعة لضرب الإسلام والمسلمين، والنيل من الدعاة بطريقة مهينة، لكن هذه المجلة تنصيرية، وعندها ركن للتعارف، ويبدو أن هناك تعاوناً بينها وبين المنظمات التنصيرية، فهي ترسل ركن تعارف إلى تلك المنظمات؛ وتقوم بمراسلة الشباب والفتيات الذين يعلنون وينشرون أسماءهم وعناوينهم هناك.
كذلك هناك المسابقات الثقافية التي تعد على كتب، أو من خلال الإذاعة، أو من خلال بعض البرامج، ويؤخذ لها جوائز ضخمة، وتكون وسيلة للاتصال بين المؤسسات التنصيرية وبين القراء.
وكذلك بعض السفارات تقوم بالعمل نفسه، وعندي نماذج من طرود تبعث بها السفارات، وترسلها إلى مواطنين في كل مكان بحجة الدعوة إلى الترفيه، أو السياحة، أو التعريف ببلد ما، وهي تحمل في داخلها دعوة إلى التنصير.
بعض المنصرين يكتب لك ويقول: إذا لم يصلك خلال عشرين يوماً فأرجو إشعارنا لنقوم ببعث طرد آخر؛ علماً أننا سوف نرد حالاً على جميع رسائلك.
في أحد المرات طلب منهم أحد المسلمين كتاب الإنجيل، -أو ما يسمى بالإنجيل وليس هو الكتاب الذي أنزله الله على نبيه عيسى، وهذا أمر معروف لدى كل مسلم- فقالوا: أما بالنسبة لهذا الكتاب فسوف نرسله لك من داخل بلدك لنضمن وصوله؛ لأنه بلد محافظ، وبلد مغلق، ويخشون أن يكتشفه رقيب البريد، فقالوا: سوف نرسل لك الإنجيل من داخل البلد حتى نضمن وصوله إليك.(25/25)
المجلات والصحف والدوريات
من الوسائل: المجلات، والدوريات، والصحف: وعدد المجلات التي تخدم التنصير، -أي: المخصصة لهذا الغرض- (24.
900) مجلة ودورية في العالم، هذه إحصائية العام الماضي، ويطبع من العدد الواحد -أحياناً- ملايين، ويوزع مجاناً، ويرسل بالبريد لمن يريد.(25/26)
الإعلام بشتى أشكاله
من وسائلهم: الإعلام المرئي، والمقروء، والمسموع.
أشرطة الكاسيت: فالإنجيل -كله- فرغوه على أشرطة كاسيت -أشرطة وعظية فيها وعظ، وكلمات من الإنجيل، وموسيقى دينية كما يقولون، وترانيم دينية، وابتهالات، - وسوف أذكر لكم نماذج لأنني استمعت إلى بعض هذه الأشرطة، ونقلت بعض ما فيها من الكلام، بعضها معدة خصيصاً للمسلمين، فتجد فيها كلمات، ودعاء، وابتهال، ربما يسمعها المسلم من أولها إلى آخرها -أحياناً- لا يكتشف أنها تنصيرية؛ لأنها تقوم للتمهيد لدعوة التنصير.
هناك منظمة في أفريقيا اسمها منظمة (بي.
آر.
إم) قامت بتحويل خمسين من الإنجيل إلى الأشرطة، أي: خمسين إصداراً كما يقال.
وتقول هذه المنظمة: يجب أن تتوفر جميع الترجمات بكل اللغات للإنجيل بصورة أشرطة صوتية في نهاية عام (2000م) -أي: بعد نحو ثمان سنوات، يجب أن تكون الأناجيل بلغات العالم كله مفرغة في أشرطة- والعجب أن هذه الأشرطة تصل حتى إلى الفقراء الذين لا يجدون لقمة العيش في المخيمات.
حدثني طبيب سعودي ثقة من الإخوة الطيبين، يقول: " رأيناهم في بعض المخيمات إذا كان هناك كهرباء أهدوا للمسلم جهاز تسجيل على كهرباء، وإذا لم يوجد أعطوه جهاز التسجيل ومعه البطاريات -الحجر- فإذا لم يتمكن من هذا ولا ذاك، أعطوه جهاز تسجيل يشتغل بالهمبل حتى يستمع إلى مضمون هذه الأشرطة.
أين الذين يحاربون الشريط الإسلامي، وكأن خصمهم الوحيد هو الشريط الإسلامي؟! ومثل الأشرطة: الإذاعات، وسأذكر إحصائية الإذاعات بعد قليل، لكن من أشهر الإذاعات وخاصة التي تتكلم بالعربية: صوت الغفران، وحول العالم، ونداء الرجاء، وهذه كلها تذاع من ألمانيا، ومثل: دار الهداية من سويسرا، وصوت الحق من لبنان، وكلستار وهذه من زائير، وزيول من إندونيسيا، وكلمة الحق من أسبانيا، ونور على نور من مرسيليا، لاحظ الأسماء تجد أن المسلم العادي لا ينتبه لها، وأحياناً يضعون برنامجاً في الإذاعة اسمه: الله أكبر، يقدمه الشيخ عبد الله.
المسلم في أدغال أفريقيا ما يدريه أن هذا برنامج تنصيري؟ والبث في هذه الإذاعات متبادل على مدى 20 ساعة، أي: منسق بين جميع هذه الإذاعات بحيث أنها لا تبث في وقت واحد؛ بل تتوقف هذه لتبث تلك مما يدل على التنسيق، وتبث بأكثر من 80 لغة، ولها صناديق بريد في العواصم العربية وغيرها، وتستخدم المراسلة، والمطبوعات، وغيرها للتواصل مع مستمعيها، بل هناك برامج مخصصة للمستمعين، ورسائلهم، وبريد لهم يذاع باستمرار، ثم من الإذاعة يراسلونهم، وينقلون أسماء الذين يتصلون بالإذاعة إلى محطات التنصير في العالم لتتم مراسلتهم من تلك المراكز.
ومن ذلك -أيضاً-: أشرطة الفيديو، والتلفزة، وقد أغرقوا الأسواق بالأفلام التنصيرية المحضة في مصر وغيرها، فضلاً عن أن معظم الأفلام التي تصدر من عندهم فيها لوثات تنصيرية، حتى لو كانت بعيدة عن التنصير تجد أن فكرة الصلب، أو فكرة الفداء، أو الكلمات النصرانية تأتي على كلمات ابطال تلك المسرحيات وغيرها.
ومن الطرائف والعجائب: وكم بمصر من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء، وهو أن مصر وصلها أشرطة عديدة تنصيرية منها شريط يتناول سورة البقرة، وفي مطلع هذا الشريط صوت خوار كخوار البقرة، ومغلف بآيات من سورة البقرة، وفي أثنائه كلام لا يمت إلى الدين بصلة، فليس فيه إلا السخرية، والبذاءة، والاستهزاء بالقرآن وبسورة البقرة، وطبعاً- صودر هذا الشريط.
ولكن في عام 1989م تم تنسيق بين تلفزيون مصر وبين الفاتيكان من أجل إعداد وإخراج معاني القرآن الكريم من خلال ما يسمى بالرسوم المتحركة التي تخاطب الأطفال غالباً، -رسوم متحركة يعدها الفاتيكان- إن هذا ليس بالأغاليط، بل هذه حقائق، وقد نشر هذا الخبر في عدد من الصحف منها جريدة المسلمون بقلم أحد الكتاب المصريين، فرسوم متحركة يعدها الفاتيكان لتفسير القرآن وتقدم لمصر، لا تقدم للعالم الإسلامي من خلال البث الفضائي المصري الموجه للعالم الإسلامي، والذي يلتقط في هذه البلاد -كما هو معلوم.
وهذا تمهيد للبث التلفازي التنصيري الذي سوف يتم عبر الأقمار الصناعية، وهذه الخطة أعدها الفاتيكان لعام (2000م) ويأمل أنه خلال ذلك العام يكون قد غطى العالم كله ببث تنصيري من خلال الأقمار الصناعية، وليس سراً أن بابا الفاتيكان ألقى خطاباً قبل أشهر بسبعين لغة، منها اللغة العربية، والتقط هذا الخطاب في أنحاء العالم، ولا أُذيعُ سراً لو قلت لكم هذا الخطاب الذي ألقاه بابا الفاتيكان التقط هنا على مسافة لا أقول كيلو مترات بل أقول أمتار منكم حيث كان جهاز الاستقبال في المستشفى التخصصي ينقل محطة روسيا وCNN آنذاك، ونقل بعض البرامج التنصيرية، ونقل خطاب البابا إلى العالم.
هناك مؤسسة اسمها: إعلام الشرق الأوسط، وهذه المؤسسة تقوم بالتعاون مع ست هيئات نصرانية؛ تقوم بإنتاج برامج مشتركة، وتقول هذه المؤسسة في أحد منشوراتها، اسمعوا الكلام، تقول: "بالرغم من عدم سيطرة المسيحيين على برامج التلفزيون في الشرق الأوسط إلا أن الأمور تسير بسرعة! -أي: أن الأمور على ما يرام، ولو لم نسيطر؛ فإن الأمور بأيدينا- ثم تقول: إن البث المباشر عن طريق الأقمار الصناعية يتدفق تدفقاً، ويلاحظ أن أعداداً كبيرة قد اشترت -فعلاً- الأجهزة الخاصة بالتقاط برامج البث المباشر بالرغم من فقر الكثيرين منهم.(25/27)
توزيع الكتب
الوسيلة الثالثة: توزيع الكتب والكتيبات بشتى اللغات، وبشتى الأساليب، وبشتى الموضوعات مع تعمد الدس، والتشويه، والكذب في مثل هذه الدراسات، والكتب، والمقالات.
وعندي من ذلك مئات، أرجو أن أذكر منها شيئاً في المستقبل، لكن يكفي أن تعلم أنهم طبعوا في العام المنصرم، (88.
600) كتاب، وأنا متأكد أن أكثركم فوجيء وقال: رقم قليل (88.
600) كتاب بسيط.
فنقول (88.
600) عنوان كتب جديدة؛ لكن من كل كتاب منها يطبع مئات الألوف من النسخ، فـ (88000) اضربها في (100.
000) -أيضاً-؛ لأن كل واحد من هذه الـ (880.
00) عنوان يطبع منه -أحياناً- مئات الآلاف من النسخ، وتوزع بالمجان.
هذا فضلاً عن أنه طبع في العام الماضي فقط (53.
000.
000) نسخة من الإنجيل، وغالبها يوزع على المسلمين؛ بل قبل سنتين وأثناء أزمة الخليج، طبعت مؤسسة فرانكين من الإنجيل أكثر من (700.
000) نسخة مخصصة للخليج العربي ووزعت في الخليج العربي، وقد وصلني منها نصيب لا بأس به، هذا فضلاً عن الكتب والكتيبات، والنشرات والمطويات الصغيرة التي تتعجب منها بكل الأحجام التي تتصورها، وكل المقاسات، فضلاً عن التقاويم.
وفي كل يوم تجد التقويم مرصع بآية من الكتاب -من الإنجيل-، مكتوبة بخط جميل، وملونة، وزهور، وأشياء تلفت الانتباه، وتشد الذهن، ويتعجب منها الإنسان، وملصقات يمكن أن تلصق على السيارة، أو على الباب، أو على المدخل، أو في البيت، أو في المكتب.
وكروت التهاني بالأعياد، -أعياد الميلاد، وأعياد النصارى، أعياد الكرسمس مثلاً، وعيد رأس السنة، وعيد القيامة، إلى غير ذلك من أعيادهم، وبخطوط جميلة، وألوان، وصور عارية -أحياناً-، وصور يزعمون أنها لمريم عليها السلام، أو لعيسى، أو فيها شيء من الآيات الإنجيل، إلى غير ذلك.
فضلاً عن نشر الصلبان في كل مكان، وفي كل ميدان، والثياب، والملابس، والسيارات، والأواني، والذهب، وفي كل شيء، ولو تأملت تكاد تجد صليباً موضعاً على عمد، دعك من المبالغات، ودعك من الوسوسات، ودعك من التخيلات والأوهام، إنما حقائق الصلبان التي تلوح وتلمع ولا يمكن تجاهلها، لا تكاد تجد شيئاً صدر منهم إلا وفيه صليباً ظاهراً، أو خفياً، أو صورة عارية، أو صورة للعذارء -كما يزعمون- أو صورة لعيسى، أو صورة للإنجيل، أو غير ذلك.
بل إن منشوراتهم ومطوياتهم وصلت إلى المساجد، البيوت، المدارس، ولعل من الطريف أنه أرسل لي أحد الإخوة -جزاه الله تعالى كل خير- أرسل لي من ينبع أوراقاً جاءت من الإنجيل تصوروا كيف جاءت هذه الأوراق!؟ جاءت مع الفواكه التي تباع، الشمام، التفاح، البرتقال، فتجد أن فوقها وتحتها وعن يمينها ويسارها أوراق من الإنجيل يقصدون بها أن تصل إلى المسلمين، والكل يتذكرون تلك المطويات التي وصلت إلى معظم البيوت، مثل: مطوية شهادة القرآن التي أجزم أنه وزع منها -هنا ملايين- وهي عندي من أخطر ما يكون؛ لأنها تشكك المسلم المغفل أو البسيط أو ضعيف الثقافة، بأن القرآن يعترف بأن الإنجيل غير محرف، وهذه هي خلاصة المطوية أو النشرة شهادة القرآن.
ومثلها: نشرة أخرى عندما تقابل الله، نشرت في كل مكان، والثالثة: صلاة الأسرار المقدسة وهي -أيضاً- نشرت على نطاق واسع.(25/28)
التخريب الأخلاقي
الوسيلة الثانية: وسيلة التخريب الأخلاقي.
فالكنيسة تدار فيها الخمور، وتقام فيها علب الليل، وحفلات الرقص الماجن للمراهقين والمراهقات.
من أجل استهواء الشباب وجلبهم إلى النصرانية خاصة إن كانوا من شباب المسلمين.
ومن الطريف: ذكرت لجنة مسلمي أفريقيا: أن منصراً بني في النيجر مسجداً، يقولون: ذهبنا ورأيناه بعيوننا فتعجبنا! فوجدنا أنه أقام بجوار المسجد مرقصاً وملهى؛ فصار يأتي إلى الشباب الذين هم يصلون أصلاً، فإذا اجتمعوا تحدث إليهم وأخذهم إلى المرقص والملهى، ويسر لهم أسباب الفساد، يقولون: حاولنا أن نقف دونه، لكن عبثاً أن نحاول؛ لأن قوانين البلد تسمح بإقامة المراقص والملاهي ولو بجوار المساجد.
فالله المستعان!! وآخر: منصر فرنسي، أقام في بلد مجاور مسجداً، يقول: تعجبنا وذهبنا ورأيناه، فقال المسلمون: بنى لنا هذا المسجد القس فلان.
فقلنا: عجيب قس يبني مسجداً.
قالوا: وأكثر من ذلك، وبنى لأطفالنا مدرسة بجوار المسجد، يدرس فيها أولادنا، يقولون: فذهبنا إلى المدرسة فوجدنا الأطفال، ولم نجد القس، ومن معه ممن يدرسون الأطفال.
فسألنا الأطفال سؤالاً: من ربك؟ وطلبنا أن يقوموا على السبورة ليكتبوا.
يقول: فقام أحدهم، وقال: الله هو المسيح، السيد المسيح، وهذا من أولاد المسلمين.
-إذاً- النصارى يحملون معهم جراثيم الانحلال حيث حلوا، وحيث رحلوا، وما أخبار البيئات التي يكثرون فيها -في هذه البلاد- عنا ببعيد، فما نسمعه وتسمعونه من أخبار أرامكوا -مثلاً- حيث الاحتفالات الراقصة، وحيث الاختلاط، وحيث الزينة، وحيث التبرج، وحيث قيادة النساء للسيارة، وحيث الفساد، وحيث ألوان المخالفات الشرعية، إلاَّ نموذج لذلك.
ومثلها -أيضاً- الهيئة الملكية بينبع، صور وأخبار يتعجب الإنسان هل هو في يقظة أو في حلم! أن توجد في بلاد الإسلام، وعلى مرأى ومسمع من أهل العلم، والعلماء، وطلبة العلم، والدعاة، وقد لا يكون بين هذا البلد وبين أقرب بلد آخر يسكنه الناس إلا بضع كيلو مترات، أو أقل من ذلك، وتقام الاحتفالات الراقصة، وتقام أعياد الميلاد، وتجعل النساء سكرتيرات للرجال بأبهى زينة، ويحدث أمور يندى له الجبين؛ بل وأكثر من ذلك مما لا أرى مراعاة لمشاعركم، ومحافظة على عواطفكم لا أرى -الآن- أن أتحدث عنها، ومثله: بعض القطاعات في وزارات الدفاع التي يكثر فيها أمثال هؤلاء، ويعملون على جلب من كان من بني جنسهم وجلدتهم من النصارى على إبعاد المسلم حتى ولو كان مسلماً بالهوية فحسب، المهم من اسمه محمد وعلي وصالح فهذا غير جيد ولو كان يشتغل الليل والنهار، ويرسل له إنذار: بعد إنذار، ويقال له: لا بد أن تحسن الأداء وإلا سوف نقوم بفصلك، وبعد إنذارين أو ثلاثة يتم فصله ليأتي بعده جورج وجوزيف ومشيل وأمثالهم.(25/29)
الخدمات الإنسانية
من وسائلهم: أولاً: الخدمات الإنسانية.
هم يقولون: التبشير والسلام، والديمقراطية، والإنسانية.
فالخدمات الإنسانية مثل: الإغاثة، والطب، والمساعدات: من أهم ما يتوسلون ويتوصلون به، فهم يحملون الإنجيل بيد والعلاج باليد الأخرى؛ بل إن الكوارث التي تحصل في البلاد الإسلامية هي فرصتهم السانحة، يفرحون بها لأنهم من خلالها يلتقطون ما يريدون، ويضعون الحب ليصطادوا به.
مثلاً: منظمة الصليب الأحمر الدولية منظمة إغاثية عالمية كبرى، حتى بعض إغاثات المسلمين التي تؤخذ من جيوبهم بالقرش والريال؛ تقوم -أحياناً- منظمة الصليب الأحمر الدولي بتوزيعها على مسلمين آخرين في بلادهم.
ففي بنجلادش -مثلاً- قامت منظمة الصليب الأحمر بتوزيع بعض الإعانات التي دفعتها دول إسلامية، فتوزعها على المسلمين هناك ليتنصروا بها.
وهذه وصمة عار تلحق المسلمين؛ ووصمة عار -أيضاً- تلحق النصارى؛ أنهم يستغلون ضعف الإنسان، وحاجة الإنسان، وفقر الإنسان، من أجل الضغط عليه بتغيير دينه.
وقد دافع أحد المنصرين -وهو الدكتور بيتر ماكوليا - عن ردة الفعل التي توجد لدى المسلمين -يسميهم الجيران المسلمين- من الاستغلال النصراني في الكوارث من أجل ذبح نصارى جدد، وقال لهم: أبداً، نحن أولاً: دوافعنا للمساعدة دوافع إنسانية، فنحن نلبي نداء المسيح الذي أمرنا أن نمسح على جراح المجروحين.
ثانياً قال: نحن نعالج الحاجات كلها -الحاجات الظاهرة والباطنة- فنعالج الفقير بالطعام، والمريض بالغذاء، والعاري بالكسى، -وأيضاً- نعالج الضال بالهداية التي نعطيها له من الكتاب المقدس، أي: الإنجيل، -وقال الشفاء نوعان: شفاء طبيعي، وشفاء فوق الطبيعي، فنحن نقدم بيدٍ الشفاء الطبيعي في القارورة، ونقدم لهم بيدٍ الشفاء فوق الطبيعي؛ وهو الدعوة إلى النصرانية.
وليس خافياً عليكم أن الأمم المتحدة بمنظماتها، والبنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر، واليونسكو وغيرها هي: وسائل بيد مجلس الكنائس العالمي، وعملائه المغروسين في أنحاء الأرض.(25/30)
إحصائيات ميزانية التنصير
اسمع يا أخي فإني أخاطب عقلك، وأخاطب قلبك، وأخاطب تجار المسلمين، وأخاطب الدعاة، وأخاطب الشباب، وأخاطب المسلم العادي، فهذه إحصائيات دقيقة.
في عام (1990م) -قبل سنتين- كانت ميزانية التنصير (157) مليار دولار، وفي العالم (21.
000) منظمة.
وفي العام الذي بعده، -أي: قبل سنة فقط- وهو عام (1991م) ارتفعت الميزانية إلى (181) مليار دولار، وبلغت المؤسسات والوكالات حوالي (121.
000) منظمة؛ أي: من (21000) إلى (121000) منظمة ووكالة ومؤسسه دولية للدعوة إلى التنصير؛ إضافة إلى (82) مليون جهاز كمبيوتر مخصص لأغراض تنصيرية.
ويوجد في العالم عام (1990م) : (99200) معهد، و (4) ملايين منصر، وتحولوا بعد سنة واحدة؛ -أي: عام (1991م) - من (4) ملايين إلى (17) مليون منصر، جيش بأكمله، منهم (112000) في أفريقيا فقط، القارة التي يصرون أن تتحول إلى نصرانية عام (2000م) ، وسيأتيك الخبر اليقين في الجلسة القادمة إن شاء الله.
هذا العدد (17) مليون منصر؛ والذين يبتعثون غير المقيمين في بلادهم، فإذا كان أفريقي منصراً فلا يعد ضمن الإحصائية.
وطبع عام (1990م) (65600) كتاب جديد -كما ذكرت لكم سابقاً- يطبع من الكتاب الواحد مئات الآلاف من النسخ، فتحول هذا الرقم بعد سنة واحدة إلى (88600) كتاب.
وطبعت (24000) مجلة دورية، وزادت إلى (24900) بعد سنة واحدة.
وطبعت (51) مليون نسخة من الإنجيل عام (1990م) وزودت عام (1991م) إلى (53) مليون نسخة.
ويمتلك النصارى (2160) محطة تلفزة وإذاعة، منها 50في أفريقيا، وتحولت بعد سنة -عام (1991م) - إلى (2340) محطة تلفزة وإذاعة.(25/31)
قصيدة شعرية للشنقيطي
ونختم بهذه القصيدة، التي تستثير مشاعر المسلمين للشيخ محمد بن الشيخ الشنقيطي من شعراء القرن الثاني عشر الهجري، وهو زعيم الدعوة إلى الجهاد، وقد أطلق صيحته هذه قبل دخول النصارى إلى الشواطئ الموريتانية.
أسارى لوعة وأسى ننادي وما يغني البكاء عن الأسارى ولو في المسلمين اليوم حر يفك الأسر أو يحمي الذمارا لفكوا دينهم وحموه لما أراد الكافرون له الصغارا حماة الدين، إن الدين صارا أسيراً للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه وإن لا يسبق السيف البدارا بأن تستنصروا مولىً نصيراً لمن والى ومن طلب انتصارا وروم عاينوا في الدين ضعفاً تراموا كلما راموا اختبارا فإن أنتم سعيتم وابتدرتم برغم منهم ازدجروا ازدجارا وإن أنتم تكاسلتم وخبتم برغم منكم ابتدروا ابتدارا فألفوكم كما يبغون فوضى حيارى لا انتداب ولا ائتمارا فيا للمسلمين لما دهاكم إلى كم لا تردون الحوارا أجيبوا داعي المولى تعالى أو اعتذروا ولن تجدوا اعتذارا أجيبوه بدنياكم تعزوا وتدخروا من الأجر ادخارا وهذا ما أشرت به عليكم وإن لم تجعلوني مستشارا فإن أنتم توليتم فحسبي وجاري الله نعم الله جارا ومن يك جاره المولى تعالى كفاه فلن يضام ولن يضارا وربي شاهد وكفى شهيداً به إني دعوتكم جهارا وكم من ناصح قبلي دعاكم جهاراً بعدما يدعو سرارا وفي كل حين يدعو لم يزدكم دوام دعائه إلا فرارا(25/32)
كلمة الشيخ سعيد بن زعير
أيها الإخوة وقتنا انتهى أو كاد، ولكن بين أيدينا ضيف عزيز، وداعية كبير، وأخ كريم، نحمل له جميعاً الود، وتتلهف آذاننا إلى سماع كلماته النيرة.
فأدفع المنبر لفضيلة الدكتور سعيد بن مبارك آل زعير، ليشنف أسماعنا بما يفتح الله تعالى عليه، على أن موعدنا معه غداً، وهو موعدٌ إن شاء الله تعالى قريب.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فنحمد الله الذي هدانا للإسلام، ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلى أن يثبتنا عليه، وأن يرد كيد الكائدين للإسلام وأهله في نحورهم.
أما ما طلب فضيلة الشيخ سلمان، فهو أمر أستجيب له، وإن كان الموضوع -موضوع التنصير- كما أشار موضوعاً طويلاً، ووعد باستكماله في الأسابيع القادمة، ولكن مشاركة أذكر نقطاً قليلة لما مر: أولاً: ينبغي أن نعلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب} ولا شك أن النصارى من أهل العبادات التي صاحبها هو الشيطان، وهذا اليقين أن الشيطان لن يعبد لا يعني أن نتكئ وننام، إن التحريش الذي ورد في نفس الحديث يفرح به النصارى اليوم، والتحريش قد يكون بين شخص وشخص، وقد يصل إلى حرب ضروس -كما مر معكم في العامين الماضيين- وهذا من كيد الشيطان الذي يرضيه.
ونعلم أن النصارى نجحوا في تنصيرهم لأعداد من المسلمين، ولا أقول: أعداد من العوام والجهلة، ومن يدخلون في النصرانية طمعاً في الخبز، أو في الدواء، ولكن أضرب مثالاً: في عام (1386هـ) بعد أن أقام اليهود دولتهم في فلسطين انتقل عدد كبير من المسلمين في تلك البلاد؛ وانتقلوا في بقاع الدنيا، وهربوا من ضغط اليهود ومن تخاذل المسلمين، ووصلت جاليتهم إلى مختلف بقاع الأرض، منهم في أمريكا الشمالية، ومنهم في أمريكا الجنوبية، ومنهم في أوروبا.
وأذكر أنني رأيت مركزاً إسلامياً أنشأ في تلك السنة في واشنطن، أنشأه جماعة من المسلمين من أبرزهم رجل من أهل فلسطين مهندس انتقل إلى ذلك البلد، أنشأ المركز الإسلامي للدعوة إلى الله، وهو من الدعاة، ومن الحريصين على دينه، وبعد سنوات ليست طويلة انتقل أولاد هذا الداعية إلى النصرانية، فهذا داعية وصاحب مركز إسلامي ومسجد، واستطاع النصارى أن يحولوا أبناءه!! ورأيت مدير المركز الإسلامي في واشنطن وقال لي: من المضحكات المبكيات أن بعض أبناء صاحب هذا المركز النصارى يأتون إلينا يدفعون تبرعات للمركز الإسلامي، ويقولون: لأنه مركز أنشأه والدنا، نصارى تحولوا عن الدين ولم يبق معهم إلا العرقية لأبيهم.
وأيضاً- رجل ممن انتقلوا إلى تلك البلاد من الدعاة، اجتهد النصارى حتى حولوا أولاده إلى النصرانية، لا أقول: إلى التسيب، وإنما إلى النصرانية، وانتقلوا إلى عدد من الكنائس المختلفة ولم ينتقلوا إلى كنيسة واحدة، وعندما توفي ذلك الداعية وقعت بين أبنائه فتنة، -أبناؤه النصارى أصابتهم فتنة- أتدرون ما هي؟ خلاف حول طريقة دفن والدهم، فكل منهم يقول: ادفنوه على طريقة الكنيسة التي اتبعوها، داعية مسلم يختلف فيه النصارى في طريقة دفنه.
وثالث: في تلك البلاد كتب في وصيته، وقد خلف بنيات، قال: أوصي أن تدفن بناتي على الطريقة الإسلامية، يوصي أن تدفن بناته على الطريقة الإسلامية، أما قبل ذاك فليس لهن من الإسلام شيء.
هذا هو مكر النصارى الذي تحقق، ولكن عندما قلنا: إن جزيرة العرب لن يعبد فيها الشيطان، هل النصارى تركوا جزيرة العرب؟! في الحقيقة لا.
إن في جزيرة العرب -اليوم- نصارى، لا أقول: قدموا للعمل، وإنما نصارى يحملون الجنسية العربية في جزيرة العرب، ففي الكويت نصارى لهم كنائسهم.
وقد ذكر الشيخ قبل قليل في تقرير أحد النصارى أنه لا يرفع في الكويت إلا الصليب الأحمر، -الصليب الأحمر مرفوع في الكويت- وفي غير الكويت من كل بلادنا، ولكن في الكويت صلبان لمستشفيات، ولمدارس، ولإرساليات، وصلبان بيضاء، وصلبان زرقاء، ومن الألوان الأخرى؛ بل وفي معظم دول الخليج كنائس، وأفرادها من أبناء الجزيرة.
ورأيت بعيني في دولة من دول الخليج، وفي أحد فنادقها الدليل السياحي يذكر أن من معالم المدينة بإمكانك أن تزور كذا وكذا وكذا، وفيها من المعالم الكنيسة الفلانية، والكنيسة الفلانية، والكنيسة الفلانية في الجزيرة العربية.
وكما مر في كلام الشيخ أن جزيرة العرب من البلاد المغلقة، أو بالأحرى المملكة العربية السعودية مغلقة، أي: ليس هناك سهولة في النشاط التنصيري بها، فهي مغلقة بألا يسمح بإقامة الكنائس، ولكن هل النصارى ينشطون؟ نعم، ولهم نشاط متعدد وخطير، ومنه أنواع شتى أذكر منها: السفارات -سفارات النصارى-: توزع الدعوات إلى أبناء المسلمين، ولا تذهب إلى الفقراء والمساكين؛ بل تذهب إلى أساتذة الجامعات وإلى علية القوم يدعون للزيارة، وَنَفَسُ النصارى الطويل لا يدعو إلى النصرانية في أول يوم(25/33)
ماذا في الإجازة
الإجازة وقت فراغ يمكن استغلاله بالخير، ويمكن العبث فيه بالشر، والوقت كالإناء الفارغ يصلح لشرب الخمر كما يصلح لشرب العسل، وقد أصيب الشباب المسلم بمرض الانبهار بمنجزات الغرب، وفي هذا الدرس توجيه طيب وتحذير شديد متعلقان باستغلال الإجازة.(26/1)
أهمية الوقت واستغلاله
الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراًً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: أيها الإخوة، أيها الوجوه الطيبة: نحييكم في بيت من بيوت الله، نتلو فيه كتاب الله، ونتدارسه فيما بيننا، ونستمع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما تعلمون فالناس في هذه البلاد يستقبلون أيام العطلة الصيفية، هذه الأشهر، وهذه الأيام، وهذه الساعات، التي هي من أعمارنا، تحسب علينا وتسجل، ويوم القيامة تنشر الدواوين.
من الناس من يجعل هذه الأيام من عمره فرصة يعتبرها من حقيقة عمره، فيستغلها في طاعة الله، ويستغلها فيما يقرب إلى الله عز وجل، ومن الناس من يعتبرها من الوقت الضائع، فلا يهتم بها، ولا ينظر إليها، بل يعتبر الوقت وقت رفاهية ونزهة، والذهاب يمنة ويسرة حتى يمضي العمر سبهللاًً، وتمضي الأيام حتى يقال فلان مات.
إخوتي الأكارم: أسأل الله تعالى أن يوفقني لأن أتكلم في هذه الجلسة بكلام مفيد، وأن يجعلكم ممن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وحقيقة فقد عقد الشيخ لساني عن الكلام بارك الله فيه بهذا الثناء الذي أشهد لله أنني لا أستحق بعضه، فأقول كما قال الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]] .
ماذا في الإجازة؟ الناس أيها الإخوة: وخاصة الشباب والطلاب يستقبلون الإجازة الصيفية بعدما ودعوا أيام الامتحانات، بما فيها من سهر وتعب ودراسة وعناء واجتهاد، ولذلك فإن الإجازة هي للشباب ذكوراً وإناثاً أكثر من غيرهم، فإن الفلاح مثلاً طيلة عمره في عمل وجهد، وكذلك التاجر والموظف وغيره، فإن الإجازة هي للشباب أكثر من غيرهم، والجميع يستقبلون الإجازة ويخططون لاستقبالها بالطريقة التي تناسبهم.
أيها الإخوة: المطلوب أننا طيلة العام نُعد الشباب لأن يكونوا على مستوى استغلال واستثمار هذه الفرص، وهذه الإجازات بالشكل الذي يفيد؛ بحيث نربي أولادنا وبناتنا على تحمل المسئولية، فإن قضية الإجازة مثل بقية العام يتوقف استثمارها على عقلية الشاب، وعلى تربيته، ومستواه.
فمثلاً: إذا وجد شاب على مستوى من الفهم والعلم والإدراك والشعور بالمسئولية؛ فإنه يستثمر أيام العام الدراسي في غير وجه، ويستثمر الإجازة، ويستثمر شهر رمضان، ويستثمر مناسبة الحج وغيرها من المناسبات بالصورة المناسبة الجيدة التي تتناسب مع مستواه، مع تربيته، وفهمه ومع عقله.
ولذلك حتى حين يكون مشغولاً؛ يكون مشغولاً فيما يفيد، ويحرص على أن يختلس من وقته ولو شيئاً يسيراً يستفيد منه، وعلى العكس من ذلك الشاب الضائع الذي لم يترب التربية الحسنة، ربما لو كان وقته فارغاً من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فإنه لا يستثمر الوقت بالطريقة المناسبة، ليس لديه أهداف معينة يسعى إلى تحقيقها.(26/2)
من قصص السلف
فالأصل أن كل هذه الوسائل يجب أن تصب في بناء وإعداد الشباب والفتيات الذين يحملون أهدافاً صحيحة، ويسعون إلى استثمار أوقاتهم فيما يفيد، ويكون هدفهم الأعلى إعادة سيرة الشباب السابقين من أجدادهم وزعماء هذه الأمة الكبار.
عبد الله بن عباس: يعيدون لنا سيرة عبد الله بن عباس رضي الله عنه -مثلاً- الذي مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لما يبلغ الاحتلام، في أول سن الاحتلام والبلوغ، ومع ذلك كان من أحبار هذه الأمة، وكان يحمل من علم الرسول صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، حتى أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بسلوكه وسيرته وحسن أدبه فقال {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} .
ذات مرة وضع ماء للوضوء يتوضأ به، وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مبيته عند خالته ميمونة، وحمل من العلم الشيء الكثير؛ حتى كان هذا الشاب الثقف العالم الجليل يجلس عند باب الرجل من الأنصار بعد صلاة الظهر ليأخذ عنه العلم، فيجد هذا الرجل نائماً، فيتوسد رداءه، فتأتي الريح فتسفي عليه التراب، فإذا قام الأنصاري لصلاة العصر وجد ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً عند بابه، فيقول ابن عباس! فيقول: نعم، فيقول: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فيقول: نعم، ما الذي جاء بك؟! قال: جئت أسألك عن حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: لو أرسلت إلي فأتيتك، أي: آتي إليك، قال: لا، العلم أحق أن يؤتى إليه.
وكان ابن عباس يأخذ بركاب زيد بن ثابت، ويخدمه ويسوق به الراحلة، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا.
عبد الله بن عمر: يجددون لنا سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنه، الذي يقول: عرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبلغ، وعرض عليه في الخندق وهو ابن خمس عشرة فقبله، فلما سمع عمر بن عبد العزيز هذه القصة؛ قال: إن هذا يصلح حداً للفصل بين الكبير والصغير، أن يبلغ خمس عشرة سنة، وهذا فيمن تتوفر له وسائل البلوغ الأخرى.
المهم أن ابن أربع عشرة سنة كانت طموحاته واهتماماته تتعلق بالقتال والجهاد، حتى قبل أن يبلغ يأتي لعله أن يقبل، فإذا رده الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد، عرض نفسه مرة أخرى في الخندق، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وخاض المعركة وعمره خمس عشرة سنة.
عمير بن أبي وقاص: يجددون لنا سيرة عمير بن أبي وقاص، لما أرادوا الخروج إلى المعركة وكان طفلاً صغيراً فرده الرسول عليه السلام، فعبر عن حزنه كما يعبر الصبية الصغار عن حزنهم، ذهب إلى أمه يبكي في حجرها، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخبره أجازه وقبله، فجاء أخوه سعد بن أبي وقاص يُعِدّ له سيفه ونصله ورمحه، فكان السيف يخط في الأرض من قصره وصغره، ومع ذلك خاض المعركة وقتل فيها شهيداً.
رضي الله عنهم وأرضاهم.
مصعب بن عمير: يعيدون لنا سيرة مصعب بن عمير، الذي كان شاباً من أعطر وأجمل وأترف فتيان مكة، حتى إنه كان إذا مشى في طرف الشارع؛ شمت الفتيات في البيوت رائحة طيبه في طرف الشارع الآخر، كانت كل فتاة تنظر إليه ترجو أن يكون هو فارس أحلامها، وفتاها وشريك حياتها.
فلما دخل الإسلام، قَلَبه رأساً على عقب، وغير مجرى حياته، حتى إنه أقبل يوماً من الأيام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب لا يكاد يستره من العري والفقر الذي أصابه بسبب إيمانه، فطأطأ الرسول صلى الله عليه وسلم وبكى وقال: والله لقد رأيتك بمكة وما فيها فتىً أحسن جمة منك، ثم أنت أشعث الرأس في بردة، ولما مات رضي الله عنه لم يجدوا ما يكفنونه به -كما في صحيح البخاري- إلا بردة لا تستره، إذا غطوا بها رأسه بدت رجليه، وإذا غطوا بها رجلاه بدت رأسه.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، وهو نبت معروف في الحجاز.
سفيان بن عيينة: يجددون لنا سيرة علماء الحديث الذين كان الواحد منهم يحضر مجلس التعليم والفقه وهو ابن عشر سنوات وإحدى عشرة سنة، واثنتي عشرة سنة، حتى إن سفيان بن عيينة يقول: كنت أختلف إلى الزهري وأنا صبي صغير، حتى إن له جعابتين تجدل رأسه كما يفعل الصبيان الصغار.
قال: فاختلفوا يوماً عند الزهري في حديث، قال بعضهم عن سعيد، وقال بعضهم عن أبي سلمة، قال: فقال الزهري: ما تقول يا صبي فيما اختلف فيه هؤلاء الرجال الكبار، هل الحديث عن سعيد أم عن أبي سلمة؟ قال فقلت له: (عن كُلاهما) بضم الكاف، قال: فضحك مني، عجب من قوة حفظي، وضحك من لحني لأني أخطأت في اللغة العربية لكنه ضبط الحديث.
وكذلك الرجل الآخر الذي يقول: كنت أغدو على مجلس علماء الحديث ووجهي كالدينار، وطولي سبعة أشبار، وفي أذني أقراط كآذان الفأر، فإذا رأوني وفي يدي المحبرة والكتاب، قالوا: أفسحوا للشيخ الصغير، فكان هؤلاء يتربون في أتون المعارك، أو في مجالس العلم، أو المساجد، أو أماكن العبادة والتقوى حتى إن الواحد منهم كان يتعلم التعبد والخشوع والورع والدين قبل أن يتلقى الحديث وغيره.
الاستفادة من جميع المؤثرات: فنحن بحاجة إلى أن تتوفر جميع الأجهزة الموجودة في المجتمع، أولاً: المسجد، ثم البيت، ثم المدرسة، ثم الشارع، ثم الأجهزة الأخرى المؤثرة، مثل أجهزة الإعلام، والأجهزة التابعة لرعاية الشباب وغيرها، الأصل أن هذه الأشياء كلها تتوفر لبناء الشاب الذي يعرف كيف يستثمر وقته في ما يفيد، والذي يصدق عليه وصف الشاعر الذي يقول: غلام من سراة بني لؤي كلابي الأبوة والجدود جدير عن تكامل خمس عشر بإنجاز المواعد والوعيد غلام من سراة بني لؤي منابي الأبوة والجدود، يعني ينتسب فيها بني لؤي إلى بني عبد مناف، تلقى علم الرجولة والشهامة والتقوى والأريحية جدير عند تكامل خمس عشرة سنة بإنجاز المواعد والمواعيد، عمره خمس عشرة سنة، لكن مع ذلك يستطيع أن ينجز ما وعد أصدقاءه، أو ما توعد أعداءه، فإذا توعد أعداءه بشيء أنجز.
، وإذا وعد أصدقاءه بشيء أنجز.
أما نحن اليوم؛ فنحن لا ننجز وعداً ولا وعيداً، نعد الناس بأشياء كثيرة أننا سوف نفعل ونفعل ولا ننجز، ونتوعد أعداءنا بأننا سنلقي بهم في البحر، ونقتلهم قتل عاد، ونفعل بهم، ونشجب ونستنكر، ولكننا لا نفعل شيئاً من ذلك.
ولذلك حق علينا قول الشاعر: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع لا يرغب فينا صديق، ولا يرهب منا عدو، هذا كبيرنا فضلاً عن صغيرنا.
نحن بحاجة إلى من يجدد لنا سيرة محمد بن القاسم الذي يقود الجيوش وعمره خمس عشرة سنة.
إن الشجاعة والسماحة والندى لـ محمد بن القاسم بن محمد قاد الجيوش لخمس عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدد من مولد قاد الجيوش لخمس عشرة حجة ولهاته عن ذاته أشغال زملاؤه يلعبون في الشوارع لا زالوا أطفالاً وصبياناً، وهو يقود الجيوش والمعارك.
نحن بحاجة إلى من يجدد لنا سيرة ابن تيمية رحمه الله، جلس للتعليم وعمره (19) سنة ولما أكمل (20) سنة كانت حلقته حلقة هائلة لا يدرك مداها، وكان الشيوخ الذين قد شابت لحاهم في الإسلام يحملون الدفاتر والمحابر ويكتبون ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(26/3)
تحديد الهدف عامل مهم لحفظ الوقت
فالمصيبة كل المصيبة -أيها الإخوة- في أن شبابنا يفقدون الهدف الذي يسعون من أجله، تسأل الشاب: لماذا يعمل؟ لماذا يعيش؟ ما هو الهدف الذي يسعى من أجله؟ تجد أهداف بعض الشباب محدودة جداً.
أما أن يخطط الشاب إلى أهداف ولو أهداف قريبة يسعى إلى تحقيقها والوصول إليها، فهذا غائب لدى كثير من الشباب.
إذاً: حين يوجد الشاب الذي يحمل الأهداف الصحيحة، ويفكر التفكير الصحيح، حتى لو كان هذا الشاب مريضاً يتقلب على فراش المرض، فإنه يستفيد من وقته، وقد زرت أحد الشباب الذين تعرضوا لأحداث وحوادث، وأصبحوا مُقعَدين فوجدت هذا الشاب يستثمر كل دقيقة من وقته، في حفظ كتاب الله، في قراءته، في دراسة العلم، في مجالسة الصالحين، حتى أنه لا يستقبل الضيوف والزوار إلا في أوقات معلومة، مع أنه أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن نفسه ويسلي نفسه باستقبال هؤلاء وتوديع أولئك، وتبادل الحديث معهم، لكنه رأى أن في ذلك مضيعة لوقته، فأصبح وهو على سرير المرض مقعداً لا يتحرك، لا يمشي ولا يقوم يستثمر وقته بصورة صحيحة جيدة.
وزرت آخرين وهم في السجون ممن من الله عليهم بالهداية في داخل السجون، فوجدت أن هؤلاء الذين لا يتحركون إلا داخل أربعة جدران، وجدتهم يستثمرون أوقاتهم بصورة صحيحة وجيدة، وفي مقابل ذلك أرى وترون أن كثيراً من الناس الذين أعطوا المال، والصحة، والسلامة، والحرية، والوقت، مع ذلك تجد هؤلاء الناس يضيعون أوقاتهم دون حساب.
لماذا؟ لأنهم لم يوفقوا للتربية السليمة، ولم يحملوا أهدافاً صحيحة يعملون من أجلها، غابت عنهم الأهداف؛ فأصبحت أوقاتهم تضيع سدى.(26/4)
تكافل مؤسسات المجتمع للإعداد السليم للفرد
الأصل -أيها الإخوة- أننا نعمل طيلة العام على إعداد الشاب، لا بد أن يعرف كيف يستثمر أوقاته، أوقات الإجازة وغيرها، والأصل أيضاً أن جميع المؤسسات الموجودة في المجتمع تعمل لهذا الهدف.
مثلاً: المسجد؛ يعمل على إعداد الشباب من خلال: الصلوات، الجمعة، الجماعة، الدروس، المكتبات، الأشرطة، المحاضرات.
المدرسة بما فيها من المدرسين، والنشاطات، والمناهج الدراسية وغيرها، تسعى إلى الهدف نفسه.
البيت يسعى إلى الهدف نفسه من خلال جهود الآباء في تربية الأبناء، من خلال الإصلاح، من خلال القنوات التي يستفيدون منها في تربية أولادهم، حتى الشارع، الأصل أن الشارع يساعد في تربية الولد، وهكذا قل مثل ذلك في أجهزة الإعلام، المفروض والأصل أنها تساعد في بناء الشباب بناءً تربوياً صحيحاً إلى غير ذلك من الوسائل.(26/5)
مرارة الواقع
هذا هو الواجب، أما الواقع الذي نعاني منه أيها الإخوة فهو واقع مرير من عدة نواحٍ:(26/6)
مثال لضحية من ضحايا الهدم
وكذلك أذكر لكم مشهداً أو نموذجاً يعتبر نتيجة لمثل هذا، ولا أقول: إن هذا النموذج غالب وأعممه، لكنني أقول: إنه نموذج لشباب لم يتربوا التربية الصحيحة فصاروا ضحية هذا التناقض: خلال فترة الامتحان الماضية كنت أتجول بين الطلبة، فلفت نظري ماسة من ماسات الطلاب كالعادة طلابنا يملون ماساتهم بالكتابات، كتابات غير هادفة؛ لكنها في كثير من الأحيان كتابات ساذجة عادية، ليس فيها شيء، لكن هناك ماسة أصبحت مثل السبورة، فيها ألوان وأشكال وصور ورسوم، فلفتت نظري، وقلت: أريد أن أعرف عقلية هذا الشاب الذي يجلس على هذه الماسة من خلال ما يكتب.
هذه الكتابات التي أمامي في اعتقادي أنها تمثل عقله، وتربيته ومستواه الخلقي والفكري والتربوي، فماذا وجدت في هذه الماسة؟! وماذا كتب هذا الطالب؟! طالب في كلية شرعية -مع الأسف- تجد في أعلى الماسة رسم هذا الشاب قلباً قد طعنه سهم، وهذا تعبير عن أن هذا الشاب يتكلم في قضايا الحب والغرام والغزل التي يتحدث عنها السفهاء وشباب الشوارع، فهو قد رسم قلباً قد طعنه سهم الحب، تحت هذا القلب كلمة: "الحب عذاب"، وهذه أيضاً من كلمات الشوارع التي لا تستغرب أن تجدها مكتوبة في شارع، أو في مكان سيئ، لكن أن توجد في مستوى كهذا، فهذا مؤشر خطير! وتحت هذه الكلمة تجد شعارات رياضية: يعيش فريق كذا، ويسقط فريق كذا، وفريق كذا بطل العالم، وفريق كذا بطل الشرق الأوسط، وفريق كذا، وهلم جراً، وفي زاوية أخرى تجد مقطعاً من أغنية يقول: يا حبيبي سلطة العاشق كبيرة.
أنا في الواقع لم أسمع هذا البيت إلا من خلال قراءتي في هذه الماسة! يا حبيبي سلطة العاشق كبيرة.
إذاً: هذه عقلية طالب في مستوى كلية شرعية، فما بالك في طالب ثانوية أو في متوسط! هذه ثمرة وهذا نموذج وعينة من ثمرة الشباب الذين لم يوفقوا في أن يتربوا في مسجد، أو في حلقة العلم، أو في درس القرآن، أو في مركز صيفي، على يد أستاذ، أو شيخ أو معلم ناضح أو في بيت سليم، إنما وقعوا ضحية نوادي الكرة، وأجهزة الإعلام، وأصدقاء السوء، فكانت النهاية هي هذا، عقليات محدودة، واهتمامات متخلفة.(26/7)
أجهزة الهدم
أما أجهزتنا التي يفترض فيها أن تقوم بدور مضاد، فإن الواقع أن أحسن ما يقال فيها: إنها تتناقض، ففي الوقت الذي تجد أن المسجد يبني ولا يهدم -ورواد المساجد هم خير الناس وبحمد الله، على ما هم عليه- فالذين يترددون على المسجد، ويصلون الجمعة والجماعة، ويحضرون الدروس والمحاضرات، ويشاركون في حلقات العلم، ودروس القرآن الكريم، والمكتبات الخيرية هم بلا شك خير الناس، إجمالاً هم خير الناس.
لكن هذا الجهد الذي يبذل في المساجد توجد وسيلة أخرى تعمل على هدمه، فإن الشاب إذا بنى المجدد لحلقة من إيمانه، أو سلسلة من يقينه في المسجد، فإن ذلك تهدمه الأغنية الخليعة، والمشهد الفاجر، والصورة العارية، وتهدمه أجهزة الرياضة، وقد تهدمه المدرسة أحياناً إذا وجد في المدرسة من لا يحسن تربية الشباب، ومع الأسف قد يهدمه البيت.
فكم من شاب يشتكي بيته، يشتكي من أبويه، حيث إن كثيراً من الآباء الذين لم يكتب لهم الاستقامة في شبابهم، أصبحوا يغارون أن يصبح أولادهم خيراً وأصلح منهم، فأصبح الأب، أو أصبحت الأم يضعون العراقيل في وجوه أبنائهم، فالأب يتحدى ولده، كيف أنت تذهب إلى المسجد قبلي؟ كيف أنت تحارب التلفاز الموجود في البيت ونحن تربينا عليه منذ نعومة أظفارنا، ومنذ طفولتنا؟! كيف تمتنع عن أكل المال الحرام الذي آتي به من البنك؟ تتحداني! وأصبحت الأم هي الأخرى تحارب بناتها أحياناً؛ ولا أقول: إن هذا هو الوضع الغالب، لكنه موجود، فأصبحت الأم تنتقد بناتها على إعراضهن عن سماع الغناء، أو مشاهدة التلفاز، أو امتناعهن من الخروج، أو من الوقوع في الغيبة والنميمة، أو من الأكل الحرام، أو من الوقيعة في أعراض الناس، أو من غير ذلك من المحرمات التي ربما تكون بعض الأمهات قد اعتادت عليها.
إذاً: هناك وسائل كثيرة تهدم ما يبنيه المسجد، أو ما تبنيه وسائل التربية الأخرى، المدرسة قد تبني، والبيت قد يبني؛ لكن على أي حال نحن موافقون ومتفقون على أن هنالك أجهزة تهدم ما تبنيه تلك الوسائل الصالحة.
ولذلك كانت المحصلة النهائية هي أننا وجدنا كثيراً من شباب الأمة يعيشون حالة من التناقض والتذبذب، تجد له وجهين: فيه خير وفيه شر، فيه إيمان وفيه نفاق، فيه تقوى وفيه فجور، فيه حب للخير ولكن فيه ميل إلى الهوى والشر!(26/8)
مخططات النصارى
فمن جهة: فإن الأعداء يخططون ليس للإجازات فقط، بل يخططون لإتلاف وتدمير شبابنا، ومن ضمن تخطيطهم استغلال الإجازات في مزيد من التدمير للعنصر الشبابي في هذه الأمة.
فمثلاً: نجد أنهم يخططون للحفلات التي يستقبلون فيها الشباب، لتدمير أخلاقهم ودينهم، ونشر المخدرات والفساد فيما بينهم، وقد تجد من صحفنا ومجلاتنا ونشراتنا من يساعدهم في ذلك، وقد اطلعت على إحدى صحفنا المحلية وقد نشرت إعلاناً بالخط العريض عن حفلة سوف تقام في إحدى الدول المجاورة، وأن الحفلة حفلة مختلطة بين قوسين: للعائلات، يعني يدخلها الشباب والفتيات، الرجال والنساء على حد سواء.
وكلكم يعرف أنه ليس هناك شيء يعرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تلك البلاد، لتنظم الأمر، أو تمنع أو تعزل، فالقضية مفتوحة على مصراعيها، فإذا كانت حفلة للعائلات لكل واحد منا أن يتصور ماذا سيجري؟ هم يخططون ويسهلون، وما عليك سوى أن تتصل بالهاتف، لتحجز وأن تسافر مع تخفيض للتذاكر، ومع خدمات متوفرة في أماكن مختلفة.
يخططون لإقامة المخيمات التي تستقبل شبابنا، بحجة أنها تدرب الشباب، تدربهم على العمالة، والمهارات، واللغة الإنجليزية، ودروس التقوية، تستقبل الطلاب الراسبين بصور شتى، وحقيقتها أنها تريد أن تستغل هذا الشاب لتوفر له جواً من الفساد والانحلال بعيداً عن رقابة الأبوين، بعيداً عن رقابة المجتمع، بعيداً عن المؤثرات الطيبة الموجودة في المجتمع.
المجتمع هنا مهما كان فإنها توجد فيه مؤثرات طيبة، وإذا وجد جهاز يدمر فإن هناك أجهزة أخرى تبني، لكن هناك يتفردون بالشاب حتى يستطيعوا أن يحشوا وقته وعقله وفكره ولبه بأشياء سيئة، ولا يوجد ما ينافسهم في ذلك.
فهم يستغلون الإجازات في برامج التلبية والتخدير، التي تدمر عقول الشباب، وتهمش اهتماماتهم، أي أنها تجعل اهتماماتهم هامشية لا تتعدى الكرة، وأي فريق يفوز، وحضور المباريات، والمنافسة فيها، ولا تكاد تجاوز ذلك إلا شيئاً قليلاً.
الأعداء يخططون حتى إن أجهزة التنصير التي تدعو إلى الديانة النصرانية وتقوم عليها الفاتيكان، وهي أغنى دولة في العالم، وتبذل الآن أموال طائلة لإدخال نصارى جدد من أولاد المسلمين، يستغلون حتى المباريات الرياضية لنشر الدعايات، ونشر الوسائل المختلفة التي تدعو إلى الديانة النصرانية، أو على الأقل تربط الشباب بمؤسسات تنصيرية، حتى المباريات الرياضية يستغلون هذا الجمع الغفير بالدعوة إلى الديانة النصرانية، ونشر بعض الأوراق والكتب والنشرات والبرامج التي تدعو إلى دينهم.
بل أدهى من ذلك وأمر أنهم يستغلون صناديق البريد لمراسلة الشباب، وقد رأيت صوراً مما يبعثون به إلى بعض الشباب، حيث يدعونهم إلى ممارسة الحرية، والاشتراك في الأندية، ومؤسسات وأجهزة موجودة في بلادهم، تمنح الشاب حق الفساد والانحلال وتوصل إليه الصور الخليعة، والأفلام المنحلة، والأشرطة السيئة، وتمكنه من ممارسة الرذيلة بكل وسيلة.
فضلاً عن تلك المجلات التي تخصص زوايا وصفحات خاصة لما يسمونه بالتعارف، وضمن التعارف، تنشر صور فتيات، وأسماء فتيات في أنحاء بلاد العالم الإسلامي، وتجد كثيراً من الشباب -مع الأسف- بسذاجة وبلاهة يراسلون ويكتبون ويقيمون علاقات، وقد يكون كثير من هذه البؤر وهذه الفتيات وهذه المؤسسات هي مصايد لاصطياد الشباب وتجنيدهم ليكونوا جواسيس، أو إيقاعهم في شباك المخدرات، أو استغلالهم ليسيئوا إلى بلادهم وأوطانهم قبل أن يسيئوا إلى دينهم وأنفسهم.
لكن كثيراً من شبابنا فيهم بلاهة وسذاجة وغفلة، ويظنون القضية مجرد ترفيه، كأس، وخمرة، وامرأة وأغنية وسيجارة، ويظنون أن الأمر يتوقف عند هذا الحد، ولا يدركون ماذا وراء الأكمة؟!(26/9)
الفرق بين شعوب العالم والمسلمين
العالم -أيها الإخوة- يعد أجياله للسباق، حتى إنهم في دولة إسرائيل يدربون حتى الفتيات، لماذا يدربونهن؟ لأنهم يعدون أجيالهم وشعوبهم لليوم القادم، فاليهود يخططون للهيمنة على البلاد الإسلامية والعربية، ولهم فيها مطامع، ثم يخططون بعد ذلك لإقامة دولة أو ما يسمى بحلم إسرائيل الكبرى.
والروس واليابانيون والأمريكان وجميع أمم العالم أصبحت تخطط، وتعد أجيالها من الأولاد والبنات وتربيهم تربية تتناسب مع الأهداف التي يخططون لها من أجل السباق الدولي، كل دولة تنافس الدولة الأخرى، سباق علمي، سباق حضاري، وسباق عسكري، فالعالم اليوم مجموعة من الذئاب يعتدي بعضها على بعض، والقوة والنصر فيه للغالب، والبقاء فيه للغالب.
ليس في العالم اليوم قيم ولا معايير ولا أخلاق ولا رحمة بالفقير والمسكين، وكل ما تسمعونه إنما هو كلام فارغ يضيعون به الأوقات، ويخادعون به الناس، إنما الكلمة الوحيدة التي تحكم اليوم دول العالم كلها هي كلمة القوة، فالدول كلها تتسابق للقوة، في المجال العلمي، والجسمي، والعملي، والاقتصادي.
والشعوب الضعيفة سوف تبقى مسحوقة لا قيمة لها، ولا وزن، ولا رأي، ولا كلمة، فهل كتب على الأمة الإسلامية أن تبقى أمة ضعيفة؟! وأن يبقى اهتمام شبابنا محصوراً في الأغنية والكرة والصورة الخليعة، وتبقى الأمم الكافرة تجند وتدرب شبابها لتربيتهم على القوة والنضج وتدربهم على السلاح، وكأنهم يعدون لليوم الذي سيفتكون بنا، فهل كتب علينا أننا نبقى أذلة؟! لا شك أننا ننتظر مستقبل الإسلام المُشرِق، لكن هذا المستقبل لن يأتي إلا حينما نشعر بالواقع المرير الذي نعيش فيه، ونبدأ في التخلص والخروج من هذا الواقع.
إخوتي الكرام: الإجازة هي جزء من العمر، ومسئولية الإنسان عن عمره لا تنتهي إلا بالموت وباليقين، المسلم والكافر في ذلك سواء، فهي بالنسبة للمسلم كما يقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] إذاً أنت مطالب بالعبادة سواء كنت في إجازة، في عمل أم في غير عمل، في ليل أم في نهار، في شباب أم هرم أم شيخوخة.
الكفار وهم في النار يقولون: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43-47] إذاً: الكافر عاكف على معاصيه، وعلى أعماله السيئة حتى الموت، والمؤمن عاكف على عبادة ربه حتى الموت، سواء في ذلك الإجازة وغيرها.
لكن الإجازة تتميز بأمور، وأهم ميزة في الإجازة بالنسبة للطالب أنه يستطيع أن يستغل وقته كما يريد هو لا كما يقال له.
فمثلاً: الطالب في الدراسة قد يدخل عليه الأستاذ يدرسه مادة لا يرغبها، وبعض الطلاب -مثلاً- قد يكرهون مادة الجغرافيا، أو مادة اللغة الإنجليزية، أو مادة الرياضيات يكرهها، ولذلك إذا دخل المدرس ربما يتشاغل عنه بأي أمر من الأمور، قد يتشاغل بقراءة جريدة، وقد ينام، وقد يقرأ كتاباً، وقد يلهو مع زميله؛ لأنه لا يرتاح لهذه المادة ولا يحبها، فهي مفروضة عليه، وإن درسها فإنما يدرسها من أجل أن ينجح، إذاً في الدراسة توجد أشياء يقضي الإنسان فيها وقته كما يراد له لا كما يريد هو.
لكن في الإجازة لا يكون هذا، الوقت تستطيع أن تقضيه أنت كما تريد لا كما يراد لك، الوقت رهن يديك، رهن إشارتك، افعل فيه ما تريد، ومن هنا تتعارظم المسئولية.
من جهة أخرى فإن كثيراً من الأسر والعوائل خلال الدراسة مرتبطون بأولادهم في المدارس، فلا يذهبون ولا يجيئون ولا يسافرون لأن أولادهم في المدرسة، لكن إذا انحل رباط الأولاد من المدرسة أصبحت الأسرة تستطيع أن تسافر إلى أي جهة شاءت.(26/10)
كيفية قضاء الإجازة عند الناس
كيف كيف الناس في قضاء الإجازة؟ لا شك أن تفكير البعض ينصرف إلى أمور معينة، أمور تتناسب مع الوضع الذي ذكرته قبل قليل.(26/11)
متابعة الرياضة
فئة أخرى من هذا الشباب؛ قد لا تفكر بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، لكنها تعنى بجانب من جوانب الحياة واحد، وكثير من الشباب قد أصبحت الرياضة هي همه الأول والأخير، وهو من خلال الإجازة يفكر في لعب منتظم في الجري، أو السباحة، أو كرة القدم، أو الطائرة، أو السلة، أو التنس إلى غيرها، ويتابعون مثل هذه الدورات، ومثل هذه المناسبات والبرامج والجداول التي تقام، ويعتبرون أن هذا أثمن ما يضيعون فيه أوقاتهم، حتى إننا أصبحنا إذا سمعنا كلمة رعاية الشباب لا نفهم إلا الكرة.
أما أن نفهم أن رعاية الشباب تعني تربية أخلاق الشباب على معالي الأمور، لا نعرف ذلك!! أما أن نعلم أن كلمة رعاية الشباب تربية دين وعقائد الشباب، وتقوية إيمانهم بالله واليوم الآخر فإن كثيراً منا لا يعرف ذلك! إذا قيل رعاية الشباب انصرف الذهن إلى ملعب، ونادٍ، وكرة، ومدرجات، وهلم جراً! يا ليت هذه الجموع التي تجري وتلهث خلف الكرة، يا ليتها تلعب فعلاً، فربما قال قائل يربون أجسامهم، وإن كانت الأمة ليست بحاجة إلى عجول آدمية، ومهما بلغت قوة الإنسان لن يكون أقوى من الفيل، ومهما بلغ جماله لن يكون أجمل من الطاووس، لكن جسم البغال وأحلام العصافير، هذا لا يصح، ولا نريده! نريد أجساماً قوية، ونريد معها عقولاً قوية، نريد إيماناً قوياً نريد ثقافة واسعة، ونريد مستوى عاماً عالياً هذا كله نريده ويا حبذا! أما أن يكون هَمُّ الشاب أن ينصرف فقط إلى تربية جسمه فهذا لا يصلح، لكن حتى تربية الجسم لا تتحقق، فإن (99%) من الشباب الذين يركضون خلف الكرة إنما هم مشجعون فقط، قد تَلِفت أقدامهم من الجلوس في المدرجات، وتدمرت أعينهم، وتسمرت أعصابهم من النظر إلى لعب الكرة، سواء في الملاعب، أم عبر الشاشات.
أما هم لا يلعبون، هم فقط مشاهدون، يؤيدون هذا ويعارضون ذاك، ويصرخون بأصواتهم بهذا أو ذاك، ويفرحون لدخول هدف على فريق أو يحزنون بذلك! أما أن يلعبوا وتقوى أجسامهم فحتى هذا مع أنه ليس هدفاً بذاته لكنه غير موجود! ولذلك ندري وندرك أن هذه الجهود الطائلة -جهود بمعنى الكلمة جهود وكفى- هذه الجهود الطائلة لا يستفيد منها ولا يستثمرها إلا أعداد محدودة يعدون على أصابع اليد الواحدة في كل بلد ممن يلعبون فعلاً، أما بقية الجماهير فهم مشاهدون فحسب.
إذاً: مجرد العناية بجانب واحد في الرياضة لا تصلح، وأقول: لست ضد الكرة في حد ذاتها؛ إذا التزم الإنسان فيها بالأخلاق الإسلامية من التستر والبعد عن السب والشتم واللعن، والحقد والحسد والبغضاء، والتطاول والتطاحن، وكانت في حدود المعقول، فلم يضيع وقته كله في لعب الكرة ومشاهدتها، لست ضد الكرة إذا كانت بهذا الحدود، وبهذا الإطار، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى للحقيقة، وحتى يكون كلامي كلاماً يفهم بصورته الصحيحة أنه يوجد في الأندية -بحمد الله- في كل بلد نخبة من النوعية الطيبة الذين اتجهوا إلى الله تعالى، واستقاموا على الطريقة، وصلحوا وعملوا على إصلاح الأندية، وجلب المشايخ والعلماء إليها، وتحريك النشاطات الإسلامية، هذا كله صحيح وموجود وهذه جهود مشكورة، لكن يبقى الواقع الذي ذكرته يبقى هو الغالب منذ زمن، ولا يزال هو الغالب إلى الآن.(26/12)
السفر إلى الخارج
كثيرون يفكرون -مثلاً- في الإجازة بالسفر إلى الخارج، وبالذات كثير من الشباب يخططون لقضاء إجازتهم في بؤر الفساد والرذيلة، في بلاد قريبة يستطيعون أن يصلوها عن طريق سياراتهم وخلال مدة وجيزة، أو في بلاد بعيدة لم يكونوا بالغيها إلا بالطائرات.
ولا حاجة إلى ذكر الأسماء، وهناك يقع كثير من الشباب في الفساد الأخلاقي، في بؤر الرذيلة، والانحلال، ومعاقرة الداعرات، والعاهرات، والفاجرات، حيث الهربز والإيدز والأمراض الجديدة التي لم تسمعوا بها بعد، حيث الخمور والمخدرات التي تفتك بهم، ويقعون ضحاياها، حتى أنه حدثني أحد الشباب أن هناك عصابات في تلك البلاد يضعون في أجهزة التكييف مادة معينة إذا استنشقها الشاب أصبح مدمناً وأصبح يبحث عن المخدر في كل مكان.
حتى لو كان تاجراً، أو لم يكن في نيته أن يتعاطى المخدر، فإنه مع كثرة استنشاق الهواء الذي وضع في هذه المواد، يصبح مدمناً يبحث عن المخدر في كل مكان.
وقد حدثني بعض الشباب الذين يعيشون هناك عن ضحايا كثيرة، وأمور محزنة، حدثوني عن شيخ قد جاوز عمره الستين سنة، وقد جاء من هذه البلاد إلى هناك ليتعاطى الخمور ويقع في أحضان المومسات، -عافاني الله وإياكم- قال: فشرب في اليوم الأول ست زجاجات من الخمر، وشرب في اليوم الثاني أكثر من ذلك، وشرب في اليوم الثالث اثنتي عشرة زجاجة، فشعر بثقل وذهب ليتقيأ في دورة المياه فسقط ومات هناك، وبعد طول وقت وجدوه ميتاً، ورأسه في دورة المياه -عافاني الله وإياكم من ذلك.
نهاية بئيسة! والويل كل الويل للذين يتسببون في إلقاء كبار السن في ذلك فضلاً عن الشباب، إذا كانت الدعاية ووسائل الهدم والتخريب، وأساليب الإثارة والجاذبية قد أثرت حتى في كبار السن، فما بالكم بالشاب الذي يشتعل جسمه قوة وحيوية وشباباً؟! إنهم يذهبون بحجة السياحة، ويقعون في مثل هذه الأشياء، ووراء ذلك كله أعيد ما ذكرته لكم قبل قليل؛ إن هناك أجهزة المخابرات العالمية تخطط لاقتناص كثير من الشباب، وتجندهم ليكونوا مخبرين وعملاء لها، خاصة في ظل الحاجة المادية؛ لأن كثيراً من الشباب يعانون من الحاجة المادية، يعانون من قلة ما في اليد، وهو مواجهة الشاب بلا وظيفة فترة طويلة، وربما لم يستطع أن يستمر على تلك الأسفار التي أدمنها واعتاد عليها، وحينئذ ما أسهل أن يصطاد هذا الشاب، ويجند ليكون وسيلة هدم، ليكون معول هدم لدينه وأمته وبلده وأسرته ونفسه.
ولذلك فإن المسئولية علينا -أيها الإخوة- جميعاً أفراداً ومؤسسات وأجهزة وحكومات أن نقف ضد هذا العبث الذي يدمر شبابنا، أما إني لا أقول: إن كل من يسافر يسافر لهذا الغرض، الواقع أن هناك من يسافر لأغراض أخرى صحيحة، وهم كثير وسأتحدث عن ذلك بعد قليل، لكنني الآن أتحدث عن عيّنة أو نموذج من الشباب، وكيف يفكرون في قضاء الإجازة.(26/13)
الاستغلال الصحيح للإجازة
أما الأسلوب الأمثل لاستغلال والاستفادة من الإجازة فإنني ألخصه في عدد من المشاريع التي يمكن أن يفكر الشاب أيها يصلح له.(26/14)
نشاطات متنوعة
أخيراً؛ بقيت قضية النشاطات المتنوعة من المشاريع المهمة، المراكز الصيفية هي من المجالات المهمة التي يمكن أن يستفيد منها الشباب، وأنصح الإخوة أن يُوجِدوا في المراكز عناصر قوية، لأن المراكز يقبل إليها شباب مبتدئون بسطاء عاديون بحاجة إلى التربية، فإذا لم يوجد في المركز نوعيات ممتازة تربيهم وتوجههم وتأخذ بأيديهم فقد لا يكون المركز على المستوى المطلوب.
من النشاطات المتنوعة: النشاط في الدعوة إلى الله، ونشر الكتب المفيدة، ونشر الأشرطة الإسلامية إلى غير ذلك.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم للاستفادة من أوقاتنا فيما يقربنا إليه، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(26/15)
مشاريع اجتماعية
مشروع الزواج: النوع الرابع من المشاريع: مشاريع اجتماعية، ولعلنا نبدأ بالزواج، على رأس المشاريع الاجتماعية الزواج، والزواج -أقول للإخوة والأخوات-: ينبغي أن يكون من أكبر الهموم، بالنسبة للشباب ينبغي أن يفكر الشاب بجدية في الزواج، حتى لو كان في ثالث ثانوي أو في أولى كلية، ينبغي أن يفكر في كيفية الزواج، ويعمل على تذليل العقبات، وتهيئة الأسباب.
أحد الصحابة رضوان الله عليهم لما أراد أن يتزوج قال: {ليس عندي شيء يا رسول الله، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: التمس وابحث، ذهب وهو يقول: ليس عندي إلا إزاري هذا -أي أنه مستعد أن يخلع ثوبه من أجل أن يتزوج به- قال: إن أعطيتها إزارك بقيت ولا إزار لك، التمس ولو خاتماً من حديد، لكنه ما وجد شيئاً، فقال له: زوجتكها بما معك من القرآن} زوجها على أن يعلمها سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا! فانظر كيف أن الصحابي يحس بأهمية الزواج، يخلع نعليه من أجل أن يتزوج بهما؟! إذاً: يا إخوة، يا شباب! لا نقول: والله الظروف لا تسمح.
الظروف نحن الذين نصنعها بإذن الله تعالى.
بالنسبة للأخوات -أيضاً- بعثت إلي بعض الأخوات رسالة تعتب فيها على العلماء والمشايخ والمتحدثين تقول: أنتم دائماً تلقون اللوم على الفتيات في تأخير الزواج، مع أن الفتيات ليس لديهن مانع من الزواج متى وجد الكفء، لكن أن تتزوج الفتاة المتدينة بإنسان منحرف، أو مدخن أو فاسق هذا لا يكون.
أقول: صحيح؛ هذه بادرة طيبة، وما أنكم دام تسمعون هذا الكلام أيها الشباب على لسان مجموعة من أخواتكم أن كل فتاة متدينة مستعدة من الزواج، حتى لو اضطرت أن تترك الدراسة من أجل الزواج لا مانع لا من ذلك متى وجد ذلك، متى وجد الكفء، إذاً هلموا إلى هذا الأمر، وإن كان هذا لا يعفيني أن أقول: هناك نوعية قد لا تكون كثيرة، من الفتيات ربما تؤجل الزواج بغرض مواصلة الدراسة أو غيره، وهذا خطأ يجب أن ينتهي.
فمن المشاريع الاجتماعية التي نفكر فيها في الإجازة مشروع الزواج.
العمل مع الأهل: ومن المشاريع الاجتماعية العمل مع الأهل: أبوك مزارع -مثلاً- فلا مانع في أن تستغل الإجازة في خدمة الوالد في أعمال زراعية، أو كان تاجراً اشتغل مع الوالد في أعمال تجارية، أي عمل يريده الوالد أعمل معه فيه، أو كان الوالد مسافراً في إجازة فأقوم بالنيابة عنه بالأعمال التي يقوم بها، هذه كلها تربي الرجولة التي نحتاجها في نفوس شبابنا، ومن شأنها أن تعد لنا رجالاً يمكن أن تعتمد عليهم الأمة.
زيارة الأقارب وإقامة المخيمات: الأقارب والأسرة: زيارة الأقارب سواء كانوا قريبين أو بعيدين، إقامة مخيمات للعائلة، بعض العائلات أصبحت تقيم مخيماً، مخيم تجمع فيه أفراد العائلة في المنطقة، قد يجتمع ثلاثمائة أو أربعمائة فرد، وهذه بادرة طيبة ويجب تشجيعها ونشرها، كل عائلة معروفة منتشرة يجمعون أفراد العائلة يتعارفون ويتناصحون فيما بينهم، يقيمون أياماً في البر، ثم يعودون.
كذلك الرحلات الشبابية؛ مجموعة من الشباب الصالحين يخرجون في رحلات سواء للحج أو للعمرة، أو رحلات إلى مناطق سياحية إلى داخل المملكة أو أماكن معينة، أو رحلات في الوعظ والإرشاد إلى مناطق في الجنوب أو في الشمال، أو في البادية، المهم أنهم يحققون فيها الصحبة الصالحة والمتعة، وقضاء الوقت فيما يفيد والترويح وفي نفس الوقت يقومون بجزء من الواجب في تعليم الناس الخير والصلاة والعبادة والوضوء، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الناس في بعض القرى النائية يجهلون حتى أبسط الأمور، والله يا إخوة هناك من يجهلون حتى القراءة للصلاة، حتى قرآن الصلاة لا يجيدونه، الوضوء لا يعرفونه، الصلاة لا يعرفونها، فما الذي يمنع أن مجموعة من الشباب يخرجون هنا أو هناك يعلمون الناس.(26/16)
مشاريع جهادية
النوع الثالث من المشاريع التي يمكن أن تستثمر في الإجازة: مشاريع جهادية، ولعل أبرز ما يذكر إذا ذكر الجهاد فحي هلا بأفغانستان، وكثير من الشباب -وهذا بادرة في الجملة طيبة- يفكرون كثيراً أن يذهبوا إلى بلاد الأفغان ليتدربوا على السلاح هناك، وليشاركوا في بعض المعارك، ولا شك أن هذا الأمر بغض النظر عن سلبياته، والتي ربما ذكرتها في مناسبات أخرى، إلا أن هذا الأمر له إيجابية لا يمكن إغفالها، وهو أنه يربي في شبابنا روح القوة والفتوة والفروسية والبطولة والرجولة، ونحن أحوج ما نكون إلى شباب من هذا النوع، لسنا بحاجة إلى شاب تربى كما تتربى الشجرة في الظل، إذا حركتها الريح كادت أن تسقط، نحن بحاجة إلى شباب يتربون تحت أزيز المدافع والرصاص، وتحت مخاوف الهجوم صباحاً أو مساء، نحن بحاجة إلى شباب تربوا على شعث الجبال، وفي الخيام، وحمل المدافع، وحمل الرشاشات، وحمل البنادق، وسهر الليالي في التربص والانتظار، نحن بحاجة إلى شباب كهؤلاء.
هؤلاء هم الذين تعتز بهم الأمة، هم الذين تنتصر بهم الأمة، هم الذين تنتظرهم الأمة بفارغ الصبر لينقذوها من الذل والهوان الذي غطى عليها، ولا شك أنه فيما يتعلق بقضية الذهاب إلى أفغانستان لست ممن يقول للشباب هاجروا إلى هناك؛ لكن أقول: الذين يذهبون فمسعاهم حميد، وليس صحيحاً أن نترك الشباب يذهبون إلى بانكوك، أو كازابلانكا، ونبارك خطواتهم في الوقت الذي ننتقد الذين يذهبون إلى جلال أباد وقندهار وكابل، هذا ليس صحيحاً.
وإن كان الشاب يجب أن يفكر تفكيراً عقلياً صحيحاً قبل أن يذهب، ويجب أن يعرف هل ظروفه تناسب أم لا تناسب، هل يسمح والداه بذلك أم لا يسمحا، ولماذا يذهب؟ هل من المصلحة أن يذهب أم لا؟ هذا كله يجب أن يكون.
فأرجو ألا يفهم كلامي على أنني أعطي الشباب الضوء الأخضر وأقول: هاجروا إلى أفغانستان كلا! في الواقع أقول: إن ذهاب الشاب أنا أعتبر أن هذا أمر يستحق الإكبار، لكن التشجيع على الذهاب هذا يحتاج إلى معرفة ظروف كل شاب.
كذلك ما يتعلق بالمشاريع الجهادية التعرف على أحوال المسلمين وخاصة اللاجئين المهاجرين في بلاد كثيرة: ففي باكستان ملايين المهاجرين من الأفغان يعيشون حالة من الفقر والجوع والتشريد يرثى لها، وتنتشر بينهم المؤسسات التنصيرية، لا حرج على الشاب أن يذهب ليلقي نظرة على إخوانه، على الأقل يحزن لهم إذا لم يستطع أن ينفعهم، على الأقل يحزن لحزنهم، أو ينظر إلى أحوال اللاجئين الإريتريين مثلاً في السودان، أو المسلمين المشردين في أي مكان، يلقي نظرة على تلك الأحوال، يعرف جانباً من آلام الأمة الإسلامية وأحزانها، هذه مشاريع جيدة يمكن أن يفكر فيها الشاب إذا كان عازماً ولا بد على أن يسافر إلى بلد ما، فالبديل عن الأسفار المحرمة هي تلك الأسفار التي ينتفع فيها، ويستفيد خيراً منها.(26/17)
مشاريع التعبد
هناك مشاريع نستطيع أن نطلق عليها أنها مشاريع علاجية، وهي مشاريع تعبد، خاصة ونحن الآن مقبلون على الحج، والحج هو أحد أركان الإسلام كما تعلمون، وفيه من الفضل الشيء العظيم، حتى إن الله عز وجل قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] .
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وفي فضل الحج أحاديث كثيرة، ليس هذا المجال مجال ذكرها، لكن الحج هو أحد المشاريع التي ينبغي أن يفكر الشاب في قضاء جزء من إجازته فيها، خاصة إذا كان لم يؤد فريضته، فإن كثيراً من أهل العلم يرجحون ويصححون أن من بلغ ذكراً كان أو أنثى فإنه يجب عليه أن يحج، ولا يجوز له أن يؤخر الحج لغير عذر، فمن بلغ من ذكر أو أنثى وهو يجد المال ويستطيع أن يحج؛ فإنه يجب عليه الحج، صح هذا عن جماعة من أهل العلم، ولا يحق لوالديه منعه، وكذلك الزوجة لا يحق لزوجها أن يمنعها، بعض الزوجات تقول: أنا لم أؤد الفريضة، وظروفي مناسبة، وزوجي يمنعني من الحج، لا يجوز له أن يمنعها خاصة إذا وجدت من سيحج بها من أب أو أخ أو محرم.
فالحج هو أحد المشاريع، ومثله العمرة، ومثلهما حفظ القرآن الكريم، فالإجازة فرصة لأن يرتب الشاب وقته أن يحفظ القرآن، أو يحفظ جزءاً من القرآن الكريم، ولو فكر الشاب أنه يحفظ في كل يوم صفحة من القرآن الكريم لحفظ في الأسبوع سبع صفحات، ويحفظ في الشهر ثلاثين صفحة، يحفظ في الإجازة نحو مائة صفحة، معنى ذلك أنه صار يحفظ خمسة أجزاء من القرآن الكريم خلال الإجازة الصيفية.
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها} معنى ذلك أنك خلال ست إجازات ستكون قد حفظت القرآن الكريم كله، وهذا لو لم تستثمر بقية العام، أما لو استفدت من العام كله فخلال سنتين تحفظ القرآن الكريم كاملاً.(26/18)
مشاريع علمية
1- لزوم حلقات المشايخ: النوع الثاني: ما يمكن أن نطلق عليه مشاريع علمية، وهي كثيرة جداً، من المشاريع العلمية لزوم حلقات المشايخ، فإن حلقات العلماء من أقوى وأحسن المشاريع التي يستثمر فيها الشاب وقته، وينبغي أن تعلموا -أيها الإخوة وأيها الشباب خاصة- أن هذه الحلقات العلمية الموجودة في هذه الجزيرة اليوم تكاد أن تنعدم في الدنيا كلها، لا تكاد تجد حلقات علمية مثلما تجد في المملكة، اللهم إلا حلقات يسيرة موجودة في بعض بلاد الشام، وبعض بلاد الهند.
أما في كثير من بلاد العالم الإسلامي قد أقفرت تلك الحلقات، وقد زرنا بلاداً عديدة منها لا يوجد للحلقات العلمية فيها ذكر، الحلقات في المساجد التي تخرج منها العلماء، وتخرجت منها الأجيال عدمت أو كادت في كثير من البلاد الإسلامية، إذاً ينبغي أن نفرح بأن هذه الحلقات ما زالت موجودة، بل أصبحت تنمو وتتكاثر بحمد الله، وأن نعمل على أن ينضوي الواحد منا تحت حلقة من هذه الحلقات.
يحفظ فيها متناً من المتون، أو يستمع فيها إلى شرح، أو يتابع علماً من العلوم أياً كان هذا العلم النحو، العقيدة، الفقه، الأصول، الفرائض إلى غير ذلك، فهذه من المشاريع العلمية التي يستطيع أن يستثمر فيها وقته، كذلك المحاضرات والدروس التي تقام، وهي كثيرة وفي الإجازة تتضاعف حيث تقوم الجهات الخيرية وخاصة الإفتاء بتنظيم محاضرات ودروس منوعة في المراكز الصيفية وفي المساجد وفي غيرها، فمن الممكن للشاب أن يحرص على متابعة هذه الدروس والحلقات وتسجيلها أو تلخيصها وكتابة بعض العناصر المهمة فيها، والانتفاع بما يقال ويلقى فيها.
2- القيام ببحوث علمية: ومن ذلك البحوث العلمية: فإن البحث -أيها الإخوة- من الوسائل التي لا يغني عنها غيرها، وقد جربت ذلك وجربها غيري، ربما يجلس الإنسان وقتاً كثيراً فلا يستفيد مثلما إذا أحذ بحثاً، خاصة لو كان البحث تحت إشراف شيخ أو معلم أو أستاذ أو أخ يكبره، اختر موضوعاً من الموضوعات التي تتناسب مع مستواك وحاول أن تبحث عن عناصر هذا الموضوع ومراجعه، وتوفرها، أو تذهب إليها في المكتبة وتعد هذا البحث وتعرضه على أحد العلماء أو المشايخ أو طلاب العلم.
لكن أُحذّر أن يكون البحث فوق مستواك، مثل أن يقوم طالب في الثانوي بإعداد بحث مثلاً في قضية عقدية عويصة هذا لا يصلح؛ لأن هذه القضية تحتاج إلى عالم فحل يبحث فيها.
أو يأتي إلى قضية مشكلة لا زالت مشكلة عند العلماء فيعد بحثاً، هذا لا يصلح.
أو أن يقوم طالب في الثانوية مثلاً بإعداد بحث في طفل الأنابيب، وما حكمه في الشريعة؟ نقول له: لا، ابتعد عن هذا، هذا أمر لا يصلح لك، أو يقول: أريد أن أعد بحثاً في القراءات السبع والأحرف السبعة في القرآن؟ نقول: لا، هذه القضية أعجزت كثيراً من أهل العلم، والخبرة والتعمق، فما بالك بمثلي ومثلك من المبتدئين، هذا لا يصلح لك، فإن الإنسان لو كان عنده مصباح كهربائي (110) وشبكه على خط كهرباء (220) أو (380) فما الذي يحدث، يحدث أنه يحترق! وهكذا أنت إذا بدأت بإعداد بحثاً لا يتناسب مع مستواك؛ ربما تصل إلى نتيجة سيئة خاطئة في هذا البحث، أو تعجز ومن ثم تقرر مقاطعة العلم وعدم الاستمرار في مثل هذه البحوث.
3- الدوارت الصيفية: ومن الوسائل العلمية أو من المشاريع العلمية: الدراسات والدورات الصيفية: هناك دراسات صيفية في الجامعة، من الجيد أن الشاب يلتحق بدراسة صيفية، المهم أنه يستثمر إجازته في أمر مفيد، أو دورة أياً كانت هذه الدورة.
أقول أيها الإخوة: افترض أنها دورة لإحدى الجمعيات الخيرية، دورة مثلاً في الكهرباء، دورة في الآلة الكاتبة، دورة في الكمبيوتر، دورة في أي أمر مفيد للإنسان في دينه ودنياه، ما الذي يمنع الإنسان أن يستفيد من وقته في مثل هذه الدورات التي تعلم وتقام في أماكن عديدة؟ هذا أمر طيب.
4- القراءة المفيدة: ومن المهم أن الشاب ينمو ويتقوى في جوانب عديدة، ولا بد أن أشير إلى قضية مهمة ربما كان المهم أن تأتي في الدرجة الأولى وهي قضية القراءة، أذكر -أيها الإخوة- أنني حين كنت في السنة الثالثة المتوسطة وفقت بأحد الشباب الذين نصحوني بالقراءة وأرشدوني إليها ووفروا بين يدي بعض الكتب، فبدأت أقرأ في تلك الإجازة مع أنني كنت أذهب مع والدي -رحمه الله- إلى الدكان، فكنت أضع الكتاب في وسط دفتر البيع، وأقرأ حتى استطعت أن أقرأ في تلك الإجازة أكثر من ستين كتاباً، فلما سألني ذلك الأخ الذي وجهني ماذا قرأت؟ استحييت أن أقول له ستين كتاباً، لأني قلت سيكذبني فذكرت له بعض هذا الرقم، والواقع أنني لا زلت حتى الآن أعيش بعض ثمرات تلك القراءة التي قرأتها في بعض السنوات؛ بسبب التوجيه السليم من بعض الإخوة، فأنصح الإخوة أن يرتبوا لأنفسهم برنامجاً لقراءة مجموعة كبيرة من الكتب المفيدة.
اقرأ وانصح الشاب لكي يستمر في القراءة أن ينوع، لأنه لو أراد الشاب أن يقرأ كتباً علمية بحتة ربما يمل، لو قال أقرأ كتباً في الفقه، فقرأ المغني ربما قرأ فيه مجلداً ثم يمل وينقطع، لكن أقول: اقرأ في كتب منوعة، وأنصح بأن يقرأ الإنسان كتب التاريخ، والتراجم، والسير، لأن فيها تقوية للعزيمة، وفيها شد وفيها بناء، وفيها تربية، فضلاً عن قراءة الإنسان ما يهمه من الكتب في العقيدة، وكتب في الحديث، وكتب في التفسير، المهم القراءة القراءة القراءة يا شباب! ينبغي أن نكون مدمني قراءة، وأعجب -أيها الإخوة- كل العجب أن نجد من بعض العمال الذين أتوا إلى بلادنا من بلاد أخرى، وإن كان لا ينبغي ضرب المثل بهم، لكن هذا واقع نشاهده جميعاً، تجد العامل يسوق (الدركتل) والله رأيت هذا بعيني، والكتاب في حجره، كتاب يحوي أكثر من سبعمائة صفحة؛ قد يكون قصة، لكن في حجره يقود السيارة والكتاب بجواره، فإذا وقف عند الإشارة فتح يقرأ! في الطائرة تجد أننا نائمون أو نفتش في الصحف، بينما كل واحد منهم في يده كتاب يقرأ! لقد تربوا على القراءة أما نحن فتربينا على إهدار الأوقات بلا طائل، وتجد الشاب إذا قرأ خمس صفحات قال: مللت! لماذا لا نربي أنفسنا على القراءة، حتى تكون القراءة دأباً لنا وديدناً، والله إن الإنسان إذا ربى نفسه على القراءة واختار الكتاب المناسب أنه بعد فترة تصبح القراءة لذة، يتلذذ بالقراءة فضلاً عن الفائدة، ولا يحتاج إلى من يحثه على ذلك أو يشجعه عليها.(26/19)
الأسئلة(26/20)
طلب النصيحة
السؤال
إنني كلما قرأت آخر سورة الفرقان في صفات عباد الرحمن، تقطع قلبي ألماً وحسرة.
كيف أكون منهم، فما هو الطريق الأسلم الذي أسلكه لكي أصل إلى منزلتهم؟
الجواب
أولاً هنيئاً لك هذا الشعور الحي فإن هذا علامة الإيمان، أن الإنسان إذا سمع صفات المتقين حزن ألا يكون منهم، وإن سمع الجنة طار شوقاً إليها، وإذا سمع النار طار خوفاً منها أو فزعاً، فهذا لا شك يدل على أن في قلبك حياة، لكن عليك أن تشكر نعمة الله، وشكر نعمة الله التي هي عندك الآن هي أن تضع قدمك على الطريق، والطريق يتلخص في كلمة واحدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] .
إذاً أقول: جاهد في الله بالعبادة وطلب العلم والتقوى، بإصلاح نفسك وغيرك، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (والذين جاهدوا) لم يبين فيما جاهدوا؛ المهم جاهدوا في الله، في أي مجال.(26/21)
الملتزمون ومشاكل في البيت
السؤال
يوجد في بيتنا تلفزيون، هذا الجهاز المدمر لا أملك سلطة على تغييره لصغر سني، ارسم لي طريقة مثلى لحل هذه المشكلة، كما أن أخي لا يصلي في المسجد، وهو يجافيني ولا يكلمني لالتزامي، فما الحل؟
الجواب
بالنسبة للتلفاز، أقول: إنك لا تملك سلطة، وأنا قد ذكرت لك قبل قليل الشاب الذي كتب على ماسته يقول: (سلطة العاشق كبيرة) فيجب أن تكون عاشقاً.
فأقول: يجب أن يكون الفرد منا عاشقاً للإصلاح، مستميتاً في سبيله، وألا يظن أن الأمور تأتي بسهولة، فبعض الشباب -مثلاً- بمجرد أن يهديه الله تعالى ويفتح عينيه ويدرك أن هذه الأشياء يجب أن تزول؛ يتصور أنها يجب أن تزول فعلاً، وينسى قضية المجاهدة، وأنه لا بد فيها من طول النفس والصبر والأناة، ولذلك فإنني أنصح الأخ: أولاً: بأن يكون ذا مكانة في البيت، فمن الخطأ أن يكون بعض الشباب الصالحين في بيوتهم ليس لهم أي دور، قد يوجد في البيت شاب منحرف، يكون هو الذي يخدم والديه، وهو الذي يقوم بشئون البيت، ويتحرك بالمناسبات، ويصل الرحم ويزور الأقارب.
أما هذا الشاب فهو كبعض الشباب الصالح ينام حتى الضحى، ثم يستيقظ للذهاب عند زملائه، فلا يجدونه إلا عند الغداء أو العشاء أو النوم، فيقولون ماذا انتفعنا بالشاب الصالح؟ ينبغي أن يكون الشاب الصالح في منزله أنموذجاً في القيام بالأعمال التي يحتاجها أهل البيت، يكون لهم شخصية حتى يكون الحاكم فيه.
الأمر الثاني أن يحرص على الإصلاح في أهل البيت، إصلاح قلوبهم، هل وضع درساً في المنزل، ضع درساً في البيت، هذا مشروع من المشاريع الطيبة، اجمع إخوانك وأخواتك الكبار والصغار والوالدين على درس من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو من قصص الصالحين، أحي قلوبهم وحرك قلوبهم بقدر ما تستطيع، أوجد حركة التوعية في المنزل.
ثالثاً: أن توجد البدائل المناسبة، كتب طيبة، قصص، رسائل صغيرة، أشرطة مفيدة، أجهزة نافعة، الآن يوجد أجهزة للصغار لأن غالب الناس يحتجون بالأطفال، الآن يمكن أن يشتري الإنسان جهازاً يسمى بالكمبيوتر للأطفال، وتوجد فيه برامج للصغار يعلمهم القرآن، والسنة، واللغة العربية، وأشياء مفيدة وهي أمور مباحة لا حرج فيها، وتوجد ألعاب مباحة للصغار، قصص لهو وتسلية في حدود المباح، وكذلك الكبار أوجد لهم ما يناسبهم مما هو في حدود المباح، بعد ذلك ابدأ حملة منظمة لإخراج الجهاز من المنزل، إذا كان في البيت خمسة أجهزة ابدأ من الجهاز الذي في الصالة، هذا ما له حاجة أخرجه، بعد ذلك تدرج للذي في المجلس، وهكذا حتى تخرج جميع الأجهزة التي في البيت، لكن هذا يحتاج إلى الصبر، ولا تأتي الأمور عفواً.
أما بالنسبة لأخيك الذي تقول إنه منحرف ولا يصلي، فعليك أن تنصحه فإن لم يستجب فعليك أن تنصحه، فإن لم يستجب فعليك أن تنصحه، فإذا أعيتك الحيلة وأيست منه، وكلمت أهلك في شأنه، حاول أن تسلط عليه إمام المسجد، وزميله في العمل، وصديقه وجيرانه، فإذا أيست حين ذلك عليك أن تدعو له حتى يتوب الله تعالى عليه.(26/22)
المؤامرات على العلماء
السؤال
الكثير منا يعلم ما تخططه المخابرات العالمية لضرب علماء الإسلام بولاتهم وحكامهم، وقد سمعنا أخيراً أن هناك مخططاً للتشكيك في الدعاة، وانتهاك أعراضهم وقذفهم وسجنهم، وذلك لكي يندفع الناس عنهم ويبتعدوا عنهم، فإذا كان ذلك واقعاً فمن وراء ذلك، وما هي الجهود المبذولة لمواجهة هذه المهمة الخطيرة، وفقكم الله؟
الجواب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] .
هذا والله تبارك تعالى أعلم.(26/23)
معاناة من تكرار المعاصي
السؤال
إنني شاب أعاني من سعة الوقت، فهو طويل عليَّ، وخصوصاً إذا كنت لوحدي، فإن الشيطان يكون معي فأعمل المعاصي، ثم أتوب، وأعمل المعاصي ثم أتوب، وهكذا، أرجو نصيحتي والرد على سؤالي، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
عليك أن تحرص على ألا تكون لوحدك إلا بقدر الحاجة، بل اجعل نفسك في وسط قوم صالحين، أو مع أهلك أو في عملك، واحذر من الفراغ؛ لأن الشيطان يتسلل على الشاب في الفراغ خاصة في فتن الشهوات، فإذا جلس الشاب فارغاً لا شغل له؛ عرض له صوراً جميلة، وأشكالاً حسنة تثير غريزته وشهوته، ثم مناه ثم حركه، ثم دفعه، وهكذا ربما وقع الشاب في معصية أو شهوة فيندم حال وقوعها ويتوب، ثم إذا خلا مرة أخرى وقع وهكذا.
فليحرص الإنسان على ألا يخلو بنفسه، وإن خلا بنفسه ثم وجد أن الشيطان بدأ يتسلل إليه فعليه أن يقوم، ولا يجلس، ويذهب في زيارة صديق، أو القيام بعمل طيب، أو للمشاركة في أمور خيرة: زيارة مكتبة، أو في أمور مباحة حتى لو ذهب للرياضة أو ما أشبه ذلك من الأمور المباحة خير له من أن يجلس على انفراد؛ إذا شعر بأن الشيطان يتسلل إليه، هذا مع أن الإنسان بقدر الإمكان يحرص على أن يحصن قلبه من الشيطان، فإن أخطر ما يكون الشيطان إذا تسلل إلى قلبك، يبدأ بك أولاً بشهوة يحركها، وبعد فترة تصبح هذه الشهوة إذا ما ثارت يسعى الإنسان بنفسه لإثارتها وتحصيلها، ثم يسعى للحصول عليها، ولو كلفه ذلك جهداً كبيراً.
فالأمور كلها والعياذ بالله كما قال بعض السلف: سلسلة العيوب، كل عيب يجر إلى ما وراءه، حتى يقع الإنسان ضحية كيد الشيطان وهو لا يدري، ثم إن على الشاب أن يحرص على تحصين نفسه بالزواج، فهو البديل الشرعي، فإن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(26/24)
خطر المبالغة في تصوير قوة الأعداء
السؤال
ذكرت حفظك الله عن تخطيط الأعداء واهتمامهم بتربية شبابهم بأهداف مرسومة، ولكن ألا ترى أن المبالغة في تصوير هذا الأمر قد يؤدي إلى تعظيم صورة الكفار في أنظار الناس المسلمين، وبالتالي الإعجاب بشكل غير مباشر بهم، وهذا يؤدي إلى اليأس من مجابهتهم، والانهزام الداخلي في نفوس الشباب الملتزم، أرجو سماع رأيكم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا شك أن المبالغة -كما ذكر السائل- في تصوير قوة الأعداء وتخطيطهم ربما تؤدي إلى الإعجاب بهم، لكن ذكرها كما ذكرتها خلال المحاضرة عرضاً ليس فيه مبالغة، بل بالعكس فيه تقليل من الواقع الذي يعيشونه، فإنهم قد بلغوا من التخطيط والقوة والدقة مستوى لا أستطيع أن أتحدث عنه، ولكن المبالغة في ذلك لا ينبغي أن تكون، يعني لا ينبغي للمتحدث أن يبالغ في عرض قوة الأعداء وإمكانياتهم، إلا أن يذكرها بقدر ما يكون هناك من حفز لهمم المؤمنين للمنافسة، وهذا موجود، حتى عند السابقين، فإن الإنسان إذا رأى ما عند أعدائه من القوة والتخطيط والكيد والمكر يغار ويغضب ويصبح عنده همة وقوة يعجزهم فيه ويسبقهم، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:10] مع أن المؤمن يجب أن لا يهن ولا يحزن، وأن يعرف ويدرك أن المستقبل لهذا الدين، وأن الكلمة الأخيرة هي للإسلام مهما خططوا ودبروا وحاولوا، فإننا نعلم ونقطع كما أن دون غد الليلة أن المستقبل لهذا الدين، وأن للإسلام جولة قادمة منتصرة.
لكن هذه الجولة يجب أن تكون على أيدينا، أو على أيدي من نربيهم نحن بحيث يستخدمون الإمكانيات المتاحة لهم، ويعدون القوة فيغلبون الأعداء بإيمانهم وبقوتهم.(26/25)
المحبة في الله والتأثر الوقتي بالمحاضرات
السؤال
إني أحبك في الله، وغالب الأسئلة كلها تنبئ عن محبة الإخوة لك في الله، ولذلك نكتفي بهذا، ونقول إن جميع الإخوة الحضور ما جاءوا إلا لمحبة الشيخ في الله، ونسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياهم وفضيلة الشيخ وجميع إخواننا المسلمين في ظل رحمته.
يقول: وأريد نصيحة لي، حيث إنني أجد تفاعلاً بعد كل محاضرة، وأمني نفسي بالعمل بما فيها، ولكن ماذا بعد المحاضرة، فإني أنسى كل شيء، وأصبح كما كنت، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أحبك الله وسائر الإخوة على مشاعرهم الفياضة، وأنصحك أخي الحبيب بأمور: أولها: أن تكثر من سماع المواعظ، فإن المواعظ سياط تلهب القلوب، فأكثر من سماع المحاضرات والخطب والدروس المفيدة.
ثانيها: أن تكثر من صحبة الأخيار، فإنهم يذكرونك ويقوون من عزيمتك، قد تكون صاحب عزيمة ضعيفة، وهمة ضعيفة، فإذا صحبت الأخيار جروك بالقوة إلى الأمور الطيبة التي هم عليها.
الثالث: أن تحدد لنفسك أهدافاً معينة، وأعني بالأهداف أهدافاً قريبة، فمثلاً الآن الإجازة بدأت، خلال هذا الأسبوع حدد لنفسك هدفاً، وليكن هدفك -مثلاً- أن تختم القرآن مرة في هذا الأسبوع هذا هدف يعتبر.
فإذا أتيت السبت القادم ووجدت أنك ختمت القرآن الكريم، سوف تشعر براحة غامرة؛ لأنك فعلاً حددت لنفسك هدفاً فوصلت إليه، في الأسبوع الثاني حدد لنفسك هدفاً -مثلاً- أن تقرأ رياض الصالحين مثلا للإمام النووي، أو خلال شهر تقرأ هذا الكتاب، وكتاب ثالث وهكذا تحدد لنفسك أهدافاً معينة، كلما انتهيت من هدف انتقلت إلى الهدف الذي بعده.
رابعاً: أن تجعل لنفسك شخصاً تعمل على أن تكون مثله من الأحياء الذين تعيش إلى جوارهم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لكل مؤمن قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] لكن النفوس مجبولة على محاباة وتقليد الأحياء: (والحي قد يغلب ألف ميت) وربما لو كان لك شيخ حي أقنعك بشيء، لكن قد يكون الواقع خلاف ما أقنعك به، لكن لأنه حي وشخصيته مؤثرة فيك أقنعك في هذا الأمر، مسألة شخصية أو غيرها.
ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها} السنة الحسنة هي أن تجد إنساناً عمل خيراً فتقلده وتحاكيه في هذا الخير، وهذا يرجع إلى قضية صحبة الأخيار والبحث عن الأستاذ والمربي الناصح الناجح.(26/26)
كتب عليكم الصيام
إن شهر رمضان هو أفضل الشهور على الإطلاق، ذلك لأن الله تعالى اختصه بفضائل كثيرة، منها أنه أنزل فيه القرآن وأنه شهر الصيام، إلى غير ذلك من الفضائل، فحري بشهر هذه فضائله أن يُعتنى فيه بطاعة الله تعالى وعبادته، من الصلا ة والصيام والعبادة والذكر وقراءة القرآن وغيرها.
لذلك نجد أن الشيخ حفظه الله في هذا الدرس قد بين أهمية رمضان والحكمة من فرض الصيام فيه، ثم حث على تقوى الله تعالى وعبادته، وعلى الإنفاق في سبيل الله في رمضان وخاصة وأن هناك إخواناً لنا فقراء لا يجدون ما يسدون به رمقهم، وأن هذا هو دأب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.(27/1)
قوله عز وجل: (كتب عليكم الصيام)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، هو مستحقُّ الحمدِ وأهلُه، وهو أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة، فالحمد لله الذي بارك لنا في رجب وشعبان، وبلَّغَنَا رمضان، والصلاة والسلام على رسوله وخليله ومجتباه محمد صلى الله عليه وسلم سيدِ ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا مصابيح الدجى، ونجوم الهدى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فها نحن قد تجاوزنا في هذه الليلة وخلفنا وراء ظهورنا اليوم الأول من شهر رمضان من هذا العام، عام 1413 للهجرة.
أيها الأحبة: يقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أياماً معدودات} [البقرة:183-184] إن لنا مع هذه الآية الكريمة -التي هي الأصل في وجوب الصيام على المسلمين جميعاً- وقفات: أولاها: قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فإنه دليل على وجوبه على المسلم البالغ العاقل القادر في هذا الشهر الكريم، فإن الكتابة تعني: الإيجاب، والفرض، والإلزام، والذي كَتَب علينا الصيام بهذه الآية الكريمة، هو الذي كَتَب علينا الصلاة، وهو الذي كتب علينا الحج وهو الذي كَتَب علينا الزكاة، وهو الذي كَتَب علينا الجهاد، وهو الذي كَتَب علينا سائر الأحكام، فحقٌ بمن امتثل أمر الله تعالى في الصيام أن يمتثل أمر الله تعالى في غيره، وألاَّ يفرق بين ما جمع الله تعالى، ولا يجمع بين ما فرَّق الله عزَّ وجلَّ.(27/2)
المفطرات
فهذه أصول المفطرات الثلاثة: الجماع، والطعام، والشراب، ولهذا قال الله تعالى في القرآن الكريم: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] أي: النساء في ليل رمضان {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة:187] الصيام عن المباشرة، وعن الأكل، وعن الشرب {إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فهذه أصولُ المفطرات المُجْمَعُ عليها عند فقهاء الإسلام، فهذا المقصود بالصيام في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] وهو إحدى الشعائر العظيمة، وأحد أركان الإسلام التي بني عليها، كما في الحديث المتفَق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامٍ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضانِ، والحجِّ} وفي رواية: {والحجِّ، وصومِ رمضان} فهو أحد أركان الإسلام ومَبانِيْهِ العِظام التي أجمع المسلمون على وجوبها وفرضيتها، حتى إن من جحد فرضية الصيام فإنه يكفر، ولو صام أمسك؛ لأنه جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، ومُجْمَعاً على وجوبه عند علماء المسلمين.(27/3)
تعريف الصيام
والصيام: هو الإمساك، كما قال الشاعر: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ تحت العجاج وأخرى تعلكُ اللجما وقال الله تعالى في قصة مريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] كان صومها عن الكلام قال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] والصيام في شريعة المسلمين هو: الإمساك عن المُفَطِّرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد لله عزَّ وجلَّ، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي عن الصائم: {يَدَع شهوته، وطعامه، وشرابه مِن أجلي} فالمقصود بالشهوة: الجماع، أو ما يماثله في تخلص الإنسان من الشهوة، فهذا كله محرم في نهار رمضان، وهو من المفطرات، ومثله أيضاً: كل الأشياء التي يُخرِج الإنسانُ بها شهوتَه، ولهذا قال الله تعالى: {يدع شهوته، وطعامه، وشرابه} وكذلك الطعام فهو من المفطرات والمحرمات في نهار رمضان، ومثله: الشراب.(27/4)
قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
فإن الله تعالى بين أن الصيام قد كُتِبَ وأُوجِبَ على من كان قبلنا من الأمم السابقة، من بني إسرائيل وغيرهم من أتباع الأنبياء والمرسلين، وليس بحتم أن يكون الصوم عندهم كالصوم عندنا بكل حال، وأن تكون الأحكام له هناك كما هي الأحكام له هنا، ولكن أصل الصوم مشروع في حق الأمم السابقة، كما هو مشروع في حق هذه الأمة، ومفروض عليهم كما هو مفروض علينا، وفي ذلك تعزيةٌ وتسليةٌ للمسلمين، وتصبير لهم على ما يَجِدونه من مشقة الصيام، وألم الجوع والعطش، وقد يصوم الإنسان في يوم شديد الحر، طويل ما بين الطرفين، فيصبر ويصابر ويكابد ألم الجوع والعطش صابراً لله تعالى، فيقال له: اصبر، فلستَ أنتَ أول مَن سلكَ هذا السبيل، ولا أول مَن صام، بل أنتَ من الأمة المختارة المصطفاة المجتباة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم والتي هي أفضل الأمم، وآخر الأمم وجوداً، وأول الأمم دخولاًَ الجنة، فحقيقٌ بك أن تصبر، وأن تلتزم، وأن تطيع الله تعالى، وأن تنفذ أمره، كما نفَّذ الذين من قبلك من الأمم الذين كانوا أقل منك شأناً، وأبعد منك رتبة، ولكنهم فعلوا ما أمرهم الله تعالى به.
ولهذا لما أمر الله تعالى يحي بن زكريا -كما في: السنن، وهو حديث صحيح أمره أن يأمر بني إسرائيل كلمات، فتأخر فيها، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى أمرك أن تأمر بني إسرائيل بهذه الكلمات، فإما أن تقوم بها أنتَ، وإما أن أقوم بها أنا فقال له يحي: إنكَ إن قمتَ بها دوني خشيتُ أن يصيبني من الله تعالى عذاب، فقام يحي، فنادى في بني إسرائيل، فجمعهم في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد بهم، ووقفوا على الشرفات، فقال: إن الله تعالى يأمركم بكلمات ثم ذكرها، وكان منها: إن الله تعالى يأمركم بالصيام، وإنما مَثَل الصائم كمَثَلِ قوم معهم صرة فيها مسك، وإن خلوفَ فمِ الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} فهو أمر وُجِبَ على من كان قبلنا، وأُوْجِبَ علينا في شريعة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وحقيقٌ بنا أن نكون أقوى امتثالاً، وأصبر وأصدق في امتثال أمر الله -عزَّ وجلَّ- لأننا من هذه الأمة المختارة.
ثم قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] هو: ترسيخ لقلب الإنسان، وتدعيم له وتثبيت، وإشعار له بمعنى التعبد لله تعالى، ولهذا جاء في حديث رواه ابن أبي الدنيا، وهو حديث حسن، عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان مع قومه في سرية، فسمع هاتفاً يهتف: من صام لله تعالى في يوم شديد الحر، كان حقاً على الله -عزَّ وجلَّ- أن يُرويَه يوم القيامة، قال أبو بُردة: [[فكان أبو موسى -رضي الله عنه وأرضاه- يتحرى اليوم الشديد الحر، الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان من الحر، فيصومه لله تعالى]] {صوموا يوماً شديد الحر لحر يوم النشور} والجزاء من جنس العمل.(27/5)
الإسلام رباط يربط الماضين باللاحقين
أنتَ لستَ غريباً، هؤلاء هم سلفك، ومن يأتون من الأجيال القادمة هم خلفُك، والإسلام رباط يربط الماضين باللاحقين، ويربط الغابرين بالآتين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مالك وغيره، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {وَددْنا أنَّا رأينا إخواننا قالوا: أوَلَسْنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين يأتون بعدُ} فالمسلمون الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بالغيب، ما اكتحلت عيونهم برؤيته، ولا تلذذت آذانهم بسماع لذيذ كلامه، ولا تنعموا بالصلاة خلفه، هؤلاء المسلمون الذين آمنوا به -عليه الصلاة والسلام- واتبعوا النور الذي أنزل معه، وتمنى أحدهم أن يكون رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله ونفسه، هؤلاء المؤمنون الذين جلُّ همِّ أحدِهم أن يحشره الله تعالى مع محمد صلى الله عليه وسلم وأن يُوْرِدَه الله تعالى حوضه، وأن يجعله يوم القيامة معه في الجنة، حتى يتمنوا رؤيته -عليه الصلاة والسلام- بما ملكت أيديهم، وربما تحقق لهم ذلك، فأراهم الله تعالى شخصَه الكريم في المنام، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: {من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي} أي: مَن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصه وصفته التي نقلها عنه المؤرخون، فإنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة؛ لأن الشيطان لا يتمثل برسول الله عليه الصلاة والسلام.
فهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وَددْنا أنَّا رأينا إخواننا} ويحق لنا أن نتطلع إلى رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تتشوق قلوبنا للقائه، والاجتماع معه، وسماع كلامه، كيف لا، وهو صلى الله عليه وسلم تمنى أن يرانا، ويلقانا -عليه الصلاة والسلام-، فهؤلاء هم السابقون، يتمنون أن يروا اللاحقين، أما اللاحقون فهم يدعون الله تعالى للسابقين قال الله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فيَدْعُون لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، ويدعون الله تعالى لهم بالمغفرة، فهذه رابطة الإيمان، ورابطة التقوى.
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] إنها شريعة واحدة، وشعيرة واحدة، يأخذها اللاحق عن السابق، وتتوارثها الأمم والأجيال، جيلاً فجيلاً، ورعيلاً فرعيلاً.(27/6)
هذه الأمة في موكب الأمم السابقة
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] إذاً أنتم أمة من ضمن أمم كثيرة تعبدها الله تعالى، فسمعت وأطاعت وذلت وخضعت لأمره، كلهم كانوا مسلمين، وكانوا مؤمنين، وكانوا مطيعين، وكانوا من أتباع الأنبياء، وهذه الآية الكريمة تربطك بهم، فلا تظن أنك فرد وحيد معزول في زمن الغربة واستحكام العزلة على أهل الإسلام، وفي زمن انتشار المنكرات، وقلة الطاعات، وكثرة المخالف، وقلة الموافق، لا.
فأنتَ فرد من أمة طويلة عريضة، لها أول وليس لها آخر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أمة في قادتها: آدم -عليه الصلاة والسلام- الذي كان نبياً مكلماً، وفي قادتها: نوح -عليه الصلاة والسلام- الذي بسبب دعوته جعل الله تعالى السماء تنزل الماء والأرض تتفجر به، حتى التقى الماء على أمر قد قُدر، وغرق أهل الأرض، ونجا نوحٌ ومن معه وفي قادتها: موسى -عليه الصلاة والسلام- الذي جعل الله تعالى البحرَ له يَبَساً، لا يخاف دَرَكاً ولا يخشى، وفي قادتها: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- الذي قال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وفي قادتها: محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يقول الخُزَّانُ في الجنة: {بكَ أُمِرْتُ أن لا أفتح لأحد قبلك} .
فهي أمة ممتدة في شعاب الزمان، ضاربة في جذور التاريخ، وهي أمة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي الصحيح: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} أمةٌ قاتل أولُها مع نوح، ومع موسى، ومع سائر الأنبياء، ويقاتل آخرُها المسيحَ الدجال مع عيسى -عليه الصلاة والسلام- ومع المهدي محمد بن عبد الله رضي الله عنه الذي يبعثه الله تعالى قائداً ومعلماً للمسلمين، فهي أمة عريقة عميقة، كثيرة العدد، عظيمة الوجود، ممتدةٌ في شعاب التاريخ.
فأنت إذاً تنتسب إلى هذه الأمة، وهذه أعظم نسبة، وأوثق رباط، إنه رباط المحبة في الله، ورباط الأخوة، ورباط الدين.
وهذه الآية تذكرك كلما هلَّ هلال رمضان، وكلما سمعتَ صوتَ المنادي، وكلما وقفتَ بين يدَي الله، أنك تسلك طريقاً لستَ فيه بالأول، ولستَ بالوحيد، وإن كنتَ غريباً في بيتك، أو في بلدك، أو غريباً في وطنك، أو حتى غريباً في عالمك، فأنتَ لستَ غريباً على الوجود، فإن الوجود يعْرِفُكَ.
فهذه الشمس التي تشرق عليك وتغرب، ألم تعلم أنها أُمِرَت بالوقوف عن الجريان من أجل يوشع بن نون -عليه الصلاة والسلام- لما غزا قوماً فأدركتهم، فقال للشمس: {أنتِ مأمورة، وأنا مأمور -لئلا تغيب- اللهم احبسها عليَّ شيئاً، فحبست الشمس، حتى فتح الله له} .
قفي يا أخت يوشع خبرينا أحاديث القرون الأولينا يعرفكَ هذا البحر الذي تجمد لموسى عليه الصلاة والسلام، تعرفكَ هذه الأرض التي تشهد بما عُمِل عليها من خير أو شر، كما ذكر الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1-5] .(27/7)
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
لماذا نؤمر بالصوم؟ ولماذا نؤمر بالصدقة؟ ولماذا نؤمر بالصلاة؟ ولماذا نؤمر بسائر العبادات؟(27/8)
الصيام فرصة لتحقيق التقوى
إن الصيام فرصة لتحقيق التقوى، وللتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وللإقلاع عن سائر الذنوب والمعاصي، ومن لم يفلح في تغيير عاداته السيئة في رمضان، فهو في غير رمضان أولى بالبُعد.
هذا على نطاق الفرد، خاصة وأنه يجد المجتمعَ كلَّه يساعده، فأنت إذا ذهبت للمدرسة وجدت الناسَ صائمين، وفي السوق صائمين، وفي الشارع أيضاً تجدهم صائمين، فالمجتمع كله يقوي عزيمتك، ويشد أزرك، ولهذا لا يجد الصائم في رمضان ألم الصيام، ولكنه حين يصوم النفل يجد تعباً ومشقة في ذلك الصيام؛ لأنه يصوم والناس مفطرون، وكذلك لو أفطر الإنسان في رمضان لعذر، أو لمعصية، لم يجد للطعام في حلقه طعماً، ولم يجد للماء مساغاً؛ -هذا إن كان مؤمناً - لأن نفسه وروحه تكره ذلك، وتمقته وتبغضه، فيتحول الحلوُ إلى مُرٍّ علقمٍ.
ثم تقوى المجتمعات كلها، لعلكم تتقون في مجتمعاتكم أيضاً، ولهذا كان رمضان شهراً ذا شخصية مميزة في واقع المسلمين كلهم، فالغريب إذا دخل مجتمعات المسلمين في شهر رمضان، يشعر أن هناك أمراً غير عادي، حتى أهلُ المعاصي والفجور، يغلقون حاناتهم ومواخيرهم، وأماكن فجورهم وفسادهم، ويتجهون إلى المساجد طاعة لله عزَّ وجلَّ، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {إذا دخل رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار، وصُفِّدَتِ الشياطينُ} وفي رواية: {وسُلْسِلَتِ الشياطينُ} أي: وُضِعَتْ في السلاسل والأصفاد؛ فلا يَخْلُصون إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه قَبْل من الوسوسة للناس، وإغرائهم بالمعصية، ودعوتهم إلى الفجور.(27/9)
الصائم متلبس بالعبادة طوال نهاره
إنكَ وأنتَ صائم في نهار رمضان تشعر بأنك متلبس بعبادة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأنتَ نائم فأنت في عبادة، وحين تنشغل فأنت في عبادة، وحين تبيع فأنت في عبادة، وهذا من أسرارِ الصيام وخواصِّه، فالمصلي -مثلاً- هو في عبادة أثناء الصلاة، لا يشتغل بغيرها، ثم يُقْبل على ما سواها، أما الصائم فهو في عبادة في كل أحواله، يتقلب على فراشه وهو صائم، يشتغل بدنياه وهو صائم، يدرِّس وهو صائم، يعمل في وظيفته وهو صائم، يعمل في حقله وهو صائم، يكتب وهو صائم، يقرأ وهو صائم، فعبادة الصيام لا تنفك عنه ولا ينفك عنها، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
أفَيَجْدُر بشخص متلبس بعبادة أن يعصي الله -عزَّ وجلَّ- وهو في حال العبادة، فيقولَ زوراً، أو يَشهدَ زوراً، أو يَكذب، أو يَغِش، أو يَحلفَ يميناً كاذبة، أو يَحقد، أو يَحسد، أو يَظلم، أو يفتري، أو يترك ما أوجب الله، أو يفعل ما حرَّم الله، إن ذلك لَعَيْبٌ، وإذا فعل هذا وهو صائم فأولى به أن يفعله في حال الفطر، ولذلك كان الصيام فرصة لتصحيح الأحوال، والتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وذلك لأنه يغير حياة الإنسان، ويقلب الروتين المألوف عنده، فهو فرصة لإعادة ترتيب الأوضاع، والتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه ابن خزيمة، وابن حبان في: صحيحهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال: آمين آمين آمين، قالوا: يا رسول الله، قلت: آمين ثلاثاً، قال: نعم، إن جبريل أتاني آنفاً فقال: مَن أدْرَكَ رمضان، فلم يُغْفَر له؛ فأبعده الله، قل: آمين.
قلتُ: آمين.
قال: مَن أدْرَك أبَوَيه أو أحدهما عند الكِبَر، فلم يَدْخَل الجنة؛ فأبعده الله.
قل: آمين.
قلت: آمين.
قال: مَن ذُكِرتَ عنده، فلم يصلِّ عليك؛ فأبعده الله، قل: آمين، قلتُ: آمين} ما بالك بدعوة، إمام الدعوة فيها جبريل، والمؤَمِّن محمد -عليه الصلاة والسلام- أفَيَسُرُّك أن تكون ممن دعا عليهم جبريل، وأمَّن عليهم محمد صلى الله عليه وسلم، بأن يبعدك الله تعالى؟ من أبعده الله، فمن ذا يقربه؟ لا ينفعه أن يقربه المخلوقون، أو يرفعوا شأنه، أو يقيموا له وزناً، إذا أبعده الله عزَّ وجلَّ، من وجد اللهَ تعالى فماذا فقَد؟ ومن أبعده الله فلا ينفعه أن يقربه العالمَون كلهم.(27/10)
غنى الله عن عباده
إن الله تعالى غني عنا، كما قال -عزَّ وجلَّ-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] وقال سبحانه: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر:15] وقال: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم:19] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20] فالله تعالى هو الغني.
وفي الحديث القدسي: {يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نَقَص ذلك من مُلكي شيئاً} فالله تعالى لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي.
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فالله تعالى بيده مقاليد السماوات والأرض قال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:255] {إِنما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
وهو الغني، فأنتَ إن عصيت الله، لا تضره، والملائكة في السماوات -كما في: الصحيح: {أَطَّتِ السماء، وحق لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلاَّ وفيها ملَكٌ واضع جبهته لله -عزَّ وجلَّ- أو راكع، أو ساجد} {أهل السماء الدنيا يقولون: سبحان ذي المُلْك والملكوت، وأهل السماء الثانية يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت} كم عدد الملائكة في السماء؟ إذا كان البيت المعمور في السماء السابعة، يدخله كلَّ يومٍ سبعون ألف مَلَك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة، فكم يدخله في الأسبوع؟ وفي الشهر؟ وفي السنة؟ وفي مائة سنة؟ وفي ألف سنة؟ وفي ما يعلم الله عزَّ وجلَّ كل هؤلاء لا هَمَّ لهم إلاَّ عبادة الله عزَّ وجلَّ {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26-28] فالله تعالى عنده من يعبده، وإنما خلقَكَ ليبتليَك، ولهذا قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] وفي الحديث في: الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مَن لَمْ يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجةً في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه} والمعنى -والله أعلم-: إن الله تعالى ليس به حاجةٌ لهذا ولا لغيره، فالله غني عن كل العباد، وإنما شُرِع الصيام؛ لأن يمنع الإنسانَ عن قول الزور وشهادة الزور وعن الإثم، والمعصية، والجرائم، فإذ الم يمتنع الإنسانُ بالصيام عن ذلك كله، فماذا فعل الصيام فيه إذاً؟ ولماذا صام إذاً؟ هل صام لله تعالى؟! هل صام من أجل الله؟! هل صام لينفع الله؟! الله تعالى ليس به حاجةٌ إليه، ولا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي.
إنما الصيام لك؛ ليحقق التقوى فيك، ولهذا قال -عزَّ وجلَّ-: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] .(27/11)
عظمة التشريع الإسلامي في الشعائر الظاهرة
إنكَ تقف مندهشاً أمام عَظَمَة التشريع الإسلامي، في هذه الشعائر الظاهرة المعلَنة.(27/12)
شعيرة الصيام
ومثله أيضاً: الصيام فإنه شعيرة ظاهرة عامة، يشترك فيها المسلمون جميعاً، وتظهر بصماتها على مجتمعاتهم، لكنني أقول: نعم كل المسلمين يستعدون لرمضان، فمِنهم: مَن يستعد لرمضان بإخلاص القلب، وتصحيح النية، والإقبال على العبادة، وتجريد القصد لله تعالى، والعزم على التوبة.
مِن الناس مَن يستعد لرمضان بألوان الأطعمة والأشربة والمأكولات، كما يفعله كثيرٌ من الناس.
ومِنهم مَن يستعد لرمضان ببرنامج خاص -كما يفعل الإعلاميون- يحتوي على المواد المعينة، الذي يُخاطَب به الناسُ، ويُوَجَّهون توجيهاً معيناً، وإذا كان يُقَدَّم للناس في غير رمضان المسرحية المنحرفة التي يمثلها فلان وفلان، وتدرِّب على المعاني الرديئة، فإنه في رمضان قد تُقَدَّم لهم المسرحيات التي يظهر فيها ذلك الممثلُ نفسُه وعينُه، يؤدي دور خالد بن الوليد، أو صلاح الدين الأيوبي، أو غيرهما من أبطال الإسلام وعظماء التاريخ، حتى يظن الناس أن أولئك كانوا كهؤلاء، ويلتبس الأمر عليه، وتتحول الحقيقة إلى خيال، ويتحول الجد إلى هزْل.
ومِن الناس مَن يستعد لرمضان باللهو واللعب، كما نجده في كثير من البلاد، في ألوان المباريات الكروية، والدورات الرياضية، ومع الأسف الشديد أن يعْلَنَ في هذا العام، في شهر رمضان، عن ما يزيد على خمس عشرة مباراة رياضية، تستغرق جُلَّ الليل، وسوف يتكوم أعداد كبيرة من الشباب في ملاعب الكرة لمشاهدتها، أما الذين لا يستطيعون ذلك فهم سيتابعونها من خلال الشاشة، وسوف تأخذ جزءاً كبيراً من الليل، على مدى خمس عشرة ليلة من ليالي هذا الشهر الكريم، فإذا سهر الإنسانُ الليلَ كله يشاهد الكرة، فماذا تُراه سيصنع في نهاره؟ هل سيدرس؟ هل سيتعلم؟ هل سيقرأ القرآن؟ هل سيتعبد الله تعالى؟ بل -أحياناً- أقول: هل سوف يصلي الصلوات الخمس مع المسلمين؟ الله المستعان! ومِن الشباب مَن يستغلون ليل رمضان في تنظيم دوريات خاصة بهم، في عدد من الأحياء والأماكن والملاعب، تستغرق جُلَّ الليل، وربما كان أجمل ما يذكرهم برمضان هي: تلك الأنوار الكاشفة، والملاعب الليلية، والدوريات، وما أشبهها، وحقيقٌ وجدير بشباب الإسلام، أن يدرك حجم المؤامرة التي يدبرها له أعداء الإسلام وأعداء الدين من اليهود وغيرهم، وألا يقبل أن يكون لقمة سائغة لهم.
مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب مؤامرة تدور بكل بيتٍ لتجعله ركماً من تراب إنه جديرٌ بالمسلم أن يحقق معنى الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فإذا لم يَدَعِ الإنسانُ قولَ الزور والعملَ به، وشهادةَ الزور، واللَّغْوَ والرَّفَثَ، فأيُّ سبب يدعوه إلى الصيام إذن؟! إن الله تعالى ليس بحاجة إلى أن يَدَعَ هذا الإنسانُ طعامَه وشرابَه.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، اللهم اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم احشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه، اللهم ارزقنا فيه النية الصالحة.
والحمد لله رب العالمين.(27/13)
الصلاة
فالصلاة -مثلاًَ- تجد المسلمين وهم في تجارتهم وبيعهم وشرائهم، منهمكين في دنياهم، فإذا طرق آذانَهم صوتُ المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، ترك الواحد منهم الذي في يده، حتى ربما كان يزن بالميزان، فترك الكفة، واتجه إلى القبلة يصلي.
نحن الذين إذا دُعوا لِصلاتِهِم والحربُ تَسقي الأرضَ جامَاً أحْمَرا جعلوا الوجوهَ إلى الحجاز وكبَّروا في مسمَعِ الرُّوح الأمين فكَبَّرا محمودُ مثل إياس قام كلاهما لكَ في الوجود مُصَلياً مستغفِرا العبدُ والمولى على قَدَم التقى سَجَدا لوجهكَ خاشعَين على الثرى إن انطلاق ملايين الأصوات في مشارق الأرض ومغاربها، في كل يوم خمس مرات: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، إنه إعلانٌ بانتصار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقد رفع الله تعالى له ذكرَه كما وعد: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وأخْمَل ذِكْرَ أعدائه وحاسِدِيه، وشانِئيه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3] فلا يذكرهم الناس إلا باللعنة، أما هو صلى الله عليه وسلم فملايين الحناجر والأصوات في مشارق والأرض ومغاربها، تعلن الشهادة له بالرسالة والنبوة، في كل يوم خمس مرات.
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيِّ إلى اسمِهِ إذا قال في الخمس المؤذنُ: أشهدُ وشقَّ له من اسمه كي يُجِلَّهُ فذو العرش محمودٌ، وهذا محمدُ هذا في شأن الأذان ولذلك: {أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغزاة من أصحابه إذا أرادوا أن يغيروا على قرية أن ينتظروا، فإن سمعوا صوت المؤذن كفوا وإلا أغاروا} لأن هذا فيصل بين الإيمان والفجور.
ومثله أيضاً أمر الصلاة، فإن الصلاة من الشعائر الظاهرة التي تفصل بين الإسلام والكفر، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: {بين الرجل وبين الكفر والشرك: تَرْكُ الصلاة} {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كَفَر} ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أئمة الجَور قال: {الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم، ونخرج عليهم، ونقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة} ولما استأذنه رجلٌ من أصحابه في أن يقتل الرجل الذي احتج على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: اعدل يا محمد، هذه قسمة ما أُرِيْدَ بها وجهُ الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لعله أن يكون يُصَلِّي} فبالصلاة حقن المسلمُ دمَه، وبالصلاة انتمى إلى هذه الأمة العظيمة الكريمة، والصلاة شعيرة ظاهرة، لا يُقْبَل أن يَسْتَتِر بها الإنسان، وهو يستطيع أن يعلنها، ولهذا كانت صلاة الجماعة واجبة على الصحيح من أقوال أهل العلم، حتى هدَّد النبي صلى الله عليه وسلم مَن يتركها بأن يحرق عليه بيتَه بالنار.(27/14)
الجود في رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة: إنكم اليوم تستقبلون هذا الشهر الكريم، وقد انتهيتم الآن من أداء فريضة من فرائض الله عزَّ وجلَّ، ألا وهي صلاة العشاء، ثم أداء هذه السنة، التي نُقِلَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التراويح، وقد صلاها صلى الله عليه وسلم ثلاث ليالٍ أو أربع، ثم ترك أداءها في الجماعة، خشية أن تُفْرَضَ على أمته، فحافظ عليها أصحابُه من بعده.
أيها الأحبة: نبيكم -عليه الصلاة والسلام- كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيُدارسه القرآن، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ما سُئل شيئاً قطُّ فقال: لا.
وربما طَلَبَ منه أحدٌ الثوبَ الذي يلبسُه فدخل بيته، فخلعه وبعث به إليه.
كأنَّكَ في الكتاب وَجَدْتَ لاءًَ مُحَرَّمةً عليكَ فلا تَحِلُّ فما تدري إذا أعطيتَ مالاً أيَكْثُرُ في سَماحِكَ أم يَقِلُّ؟ إذا حَضَر الشتاءُ فأنتَ شَمْسٌ وإنْ حَضَر المصِيْفُ فأنتَ ظِلُّ حتى إنه صلى الله عليه وسلم يفرح بما يُعطِي أكثر من فرح الآخِذِ بما يأخذ.
تَراهُ إذا ما جئتَه مُتهللاً كأنَّك تُعطيِهِ الذي أنْتَ سائله ولو لم يكن في كفِّه غيرُ روحِه لَجَاد بِها فلْيَتَّقِ اللهَ سائله هكذا كان قدوتُكم وأسوتكم، على رغم شظف العيش، وقلة ذات اليد، وأنه كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [[يمر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ما أوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ قال: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء]] وكان عليه الصلاة والسلام {ينام على حصير، فيؤثر جنبه، حتى يراه عمر، فيقول: يا رسول الله! كسرى وقيصر يدوسون على الحرير والديباج، وأنت هكذا فيقول: أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا} أيها الأحبة: أنتم، وقد أنعم الله عليكم، وأعطاكم، وأوسع عليكم، وأنتم في هذا الشهر الكريم، وفي هذه الساعات المباركة، تسمعون يقيناً أحوال الكثيرين من إخوانكم في بلادٍ شتى من بلاد الله تعالى، يعانون من المصائب، والفقر والجوع والمرض ما لا قِبَل لهم به، ويجدون من أعداء الدين من اليهود والنصارى مِن ألوان الدعم والتأييد والمساندة والمساعدة الشيء الكثير، وهم يستصرخونكم ويستنجدون بكم.
وكل قضايا المسلمين بلا استثناء تحتاج إلى المال، ولو وجد المسلمون المال الكافي؛ لعرفوا كيف يدعون إلى الله، كيف ينشرون العلم، ولعرفوا كيف يحاربون الفقر والجوع، كيف يحاربون عدوهم، ولعرفوا كيف ينتصرون عليهم، ولحرروا بلادهم بإذن الله تعالى.(27/15)
دعوة إلى الإنفاق على الفقراء المسلمين
أيها الأحبة: وفي هذه الليلة بالذات، أذكركم بإخوان لكم في القارة السوداء، إفريقيا التي يكتسحها التنصير، ويحاربها ويعمل على تحويلها إلى النصرانية.
وفي هذا اليوم بالذات قرأت خبراً يقول: النصارى في الصومال يشترون الفتيات المسلمات، من سن اثنَي عشر إلى ستة عشر سنة، يشتروهُنَّ، ويُزَيِّنُوهُنَّ، ويُجَمِّلوهُنَّ، ولك أن تعرف ماذا يريدون بِهِنَّ، ليس التنصير فقط، بل تحويلهن إلى راهبات، وليس الفساد فقط، بل تحويلهن -لو استطاعوا، وأرجو أن لا يفلحوا- إلى بائعات للهوى والفساد.
فأين أنتَ يا غيور، هذه من محارمك، وكل مسلمة يجب أن تشعر أن انتهاك عرضها يسيء إليكَ، وأن العار الذي يلحق بها يلحق بك، ذُلُّهُ وحُوبُهُ وبَوارُه، فأنتَ مطالَبٌ اليوم بإنقاذ هذه المسلمة.
وذلك الطفل: الذي يتلوى جوعاً، مَن له إلاَّ الله ثم أنت، والفقراء، أكثر من سبعمائة ألف مسلم إرتيْرِي في السودان، لا يجدون الكفاف، ويبيتون في بيوت من القَش، لا تواري من حرٍ ولا برد ولا شمس، وأعداد غفيرة من المسلمين يفترشون هذه القارة المترامية الأطراف، يجدون حولهم النصراني، يدعوهم إلى النصرانية، فإن تنصروا سهل لهم المهمات كلها، وجعل الدنيا لهم ورقاً بلا شوك كما يقال.
أما المسلم، فيستصرخونه وينادونه، وهو كأنه لا يسمع، بل إنه لا يسمع فعلاً، فها أنا قد بلغتكم صوت إخوانكم، ووالله لتسألون عنهم، والله لتسألون عنهم، والله لتسألون عنهم، وإذا فَرَّطْتُم اليوم، فالدور عليكم غداً، إنهم أمانةٌ في أعناقكم، كبارهم وصغارهم، شيوخهم وشبابهم، رجالهم ونساؤهم، فقراؤهم وخائفوهم وجُهَّالُهم.
فواجب علينا أن نعلمَهم بنشر الدعوة، ونغنيَهم -بإذن الله تعالى- بالمال، والعطاء، واللباس، والكساء، والطعام، والدواء.
وواجب علينا أن نحميَهم من شر أعداء الإسلام، وأنا أدعوكم اليوم، رجالَكم ونساءَكم، أغنياءَكم ومتوسطيكم، شيوخَكم وشبابَكم، أدعوكم إلى أن تتقوا الله في أنفسكم، كما أدعوكم إلى أن تتقوا الله في إخوانكم هؤلاء، وإلى أن تنفقوا لإخوانكم في القارة السوداء، في إفريقيا، مما تجود به أنفسكم، من الزكاة، أو الصدقة، أو غير ذلك قال تعالى: ((وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة:272] وإنما هو لكم فأكثروا أو أقِلُّوا.(27/16)
الإنفاق في مجالات لا تنفع المسلمين
لا أدري لماذا تجد السخاء والإنفاق في المجالات التي إن كانت عبارة عن مشاريع خيرية في الظاهر، وهي في الحقيقة بخلاف ذلك، لا تضر ولا تنفع، فتجد الكثيرين يسارعون إلى الإنفاق، إما مجاملة لفلان وفلان، وإما عادة برزوا عليها، وإما ليُسْكِتوا أفواه الناس، وإما من أجل أن يُذكَروا بذلك، فإذا جاء مجال الإنفاق في سبيل الله، وفي أعمال الخير، وفي وجوه البر؛ وجدتَ قبض اليد، ألم تعلم كيف شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك البخيل الذي يُمْسك يدَه عن الإنفاق، إنه كمِثْل رجل عليه جُبَّة، كلما أراد أن يُوَسِّعَها تضامَّت عليه وضاقت، أما ذلك المنفق فهو الرجل الذي عليه جُبَّة، وكلما وسعها اتسعت حتى تُعْفِيَ أثََره، وتقفوَ بنانه.
ما لكم إذا قيل لكم أنفقوا في سبيل الله قبَضتُمْ أيديَكم؟ و {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] يدعوكم الداعي إلى الإنفاق، فلا تسرعون، ولا تندفعون، وأكثرُنا ينفق وفي قلبه ونفسه شيء، وعنده شيء من الإعراض، وهو يرى أنه قد أخرج شيئاً وَدَّ ألاَّ يُخرج غيره.
فيا عبد الله، إنك إنما تنفق على نفسك، وتتصدق لنفسك، والنفقة هذه أنت في ظلها يوم القيامة، ومن أعطى فإنما يعطي لنفسه، ومن تصدق فإنما يتصدق لنفسه، ومالُكَ ما قدَّمتَ، ومالُ وارثك ما أخرتَ.
فأنا أدعوكم الآن -عاجلاًَ غير آجل- إلى أن تتقوا الله تعالى في أنفسكم، وتتقوا الله تعالى في ذراريكم، الذين يُحفظون -بإذن الله تعالى- بصدقكم وإخلاصكم وتقواكم، وتتقوا الله في هذه الأمة، التي أنتم منها، جزءٌ من جسدها، ولعلكم أنتم يدَها الباذلة، وكفَّها المنفقة، فأنفقوا وتصدقوا، لا أقول: مِن مالكم بل من مال الله الذي آتاكم، ومما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير.(27/17)
الأسئلة(27/18)
حكم ختم السحور بماء أو لبن
السؤال
بعض الناس، وبخاصة العامة، إذا أرادوا أن يمسكوا عن الأكل والشرب، يجعلون حولهم ماءً أو لبناً، معتقدين أنه من الضروري ختم السحور بشربة ماءٍ أو لبن، ويسمونه بالعامية: استعقاد، فمن شرب فإنه لا يمكن أن يأكل أو يشرب بعد هذه الشربة، فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا ليس له أصل، بل إن الإنسان يُشرع له أن يتسحر بما تيسر له من طعام أو شراب، ثم إن له أن يأكل إلى طلوع الفجر، أما كون بعضهم يعتقد أنه إذا نوى الصيام قبل الفجر بنصف ساعة، أو ثلث ساعة، أو أقل، فإنه لا يجوز أن يعود ويأكل أو يشرب فهذا خطأ، بل له أن يأكل ويشرب حتى يطلع الفجر، كما قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] .
كما أن ختم السحور بشربة ماء، هذا أيضاً ليس له أصل، فإن أراد بشربة الماء أن يتمضمض لإخراج بقايا الطعام من فمه، فلا حرج في ذلك، أما إن اعتقد أن هذا شيءٌ يُتَعَبَّدُ به، فليس في ذلك أصل.(27/19)
حكم الصلاة والصيام من غير غسل للجنابة
السؤال
أنا بلغت مبلغ النساء، إلا أنني لم أعلم عن غسل الجنابة إلا بعد زواجي، فماذا يجب عليَّ فيما مضى من صيام وصلاة؟
الجواب
الأصل: أن عليها إعادة كل صلاة صلَّتها دون غسل جنابة، أما بالنسبة للصيام فصيامها صحيح، لكن إن كانت الأيام طويلة جداً، أي: إن كانت سنوات طويلة، سبع سنوات، أو ثمان سنوات وهي على ذلك لا تغتسل من الحيض، وتصلي وهي على ذلك دون غسل جهلاً منها، فإن طول هذه الأيام ربما يجعل لها سعة في أن تكثر من النوافل، وتستغفر الله تعالى، وقد أفتى بعض أهل العلم: بمَن طالت عليها مثل هذه الأيام -أفتى لها بأنه لا يلزمها إعادة الصلاة، لعظم المشقة، في إعادة صلاة سبع، أو ثمان سنوات، وإلا فالأصل وجوب قضاء كل صلاة صلاها الإنسان على غير طهارة.
ثم إني أتساءل: لماذا تجهل مثل هذه المرأة أو هذه الفتاة حكماً من أظهر أحكام الإسلام؟ وهي في مدينة من مدن الإسلام، بل في عاصمة وحاضرة من حواضر العلم والدين، إن هذه مسئولية كبيرة على الآباء والأمهات، في تعليم أولادهم وبناتهم، وعلى العلماء وعلى الأئمة أيضاً، في تفقيه الناس وتثقيفهم، خاصة في رمضان، وهي مسئولية على البنات بشكل خاص، أن عليها أن تتعلم أمور دينها، ولا تنتظر أباها أو أمها حتى يعلمها، فوسائل العلم اليوم كثيرة، وأصبح من الممكن أن تقرأ كتاباً، أو تسمع شريطاً، أو تسأل عما أشكل عليها من أمور دينها.(27/20)
المشاركة في مشروع الشيخ سفر الحوالي
السؤال يقول: ما رأيكم في مشروع الشيخ سفر الحوالي حفظه الله، وما رأيكم في الجمع له؟
الجواب
نعم، الجمع لمشروع الشيخ سفر الحوالي، والمشاركة في هذا المشروع العظيم من أعمال الخير والدعوة، وتكلفة هذا المشروع تقارب ستين مليوناً، ولن يمكن تسديدها إلا عن طريق المحسنين والأخيار والراغبين في الخير، ولكن هذا المشروع مما لا تصلح فيه الزكاة، ومن أحب أن يدفع لهذا المشروع شيئاً، فأنا على استعداد لإيصاله إلى فضيلة الشيخ سفر الحوالي حفظه الله.(27/21)
العمرة عن الميت
السؤال
ما حكم العمرة عن الرجل المتوفي إذا كان والداً، أو أُمَّا، أو ما أشبه ذلك؟ وهل يصل الأجر إليهما؟
الجواب
جاء في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة السلام: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له} .
وكذلك جاء الحال بالنسبة للحج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذِنَ للمرأة أن تحج عن أبيها، وكذلك العمرة.
فإذا حج الإنسان أو اعتمر عن أبيه أو أمه الميتين، فإن الأجر يصل إليهم إن شاء الله تعالى وله بذلك أجر أيضاً.
ومثل ذلك: إذا تصَدَّقَ عليهما، كما قال بعض السلف: ليس في الصدقة اختلاف، وقال في الحديث أيضاً: {أو ولدٍ صالحٍ يدعو له} فالدعاء من أعظم الأعمال التي ينبغي للناس أن يكثروا منها لآبائهم وأقاربهم، ومن أحسنوا إليهم من الأحياء والأموات.(27/22)
التقبيل في نهار رمضان
السؤال يقول: ما حكم تقبيل الزوجة في نهار رمضان؟
الجواب
إذا كان التقبيل يترتب عليه، أو يخشى الإنسان أن يجره إلى الوقوع في بعض المفطرات، فإنه يجب عليه أن يتجنبه، من باب سد الذريعة، كما إذا كان شاباً قوي الشهوة، شديد الشَّبَق، ويخشى أن لا يملك نفسه، فعليه حينئذٍ أن يبتعد عن ذلك؛ لأنه يجره إلى الوقوع في الحرام.
أما إذا أمن على نفسه فلا حرج، كما قالت عائشة رضي الله عنها: {أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه} أي: لحاجته.(27/23)
زكاة الأرض إذا كانت للتجارة
السؤال يقول: هل على مَن يملك قطعة أرض زكاةٌ، إذا كانت معدة للتجارة؟
الجواب
إذا كانت الأرض معدة للتجارة ففيها الزكاة، أما إذا كانت الأرض اشتراها ووضع فيها ماله، وفي نيته أن يبني عليها بيتاً في المستقبل، أو في نيته أن يزرعها، أو ما أشبه ذلك، ولم يعدَّها للتجارة، فلا زكاة فيها.(27/24)
حكم مسابقة الإمام
السؤال يقول: لقد كبَّرت مع الإمام تكبيرة الإحرام، وبعد الركعة الأولى سهوت، ثم سبقت الإمام بركعة من ركوعها وسجودها، ثم أستدركتُ وتابعتُ الإمام، وسجدتُ للسهو، وقد أعدتُ صلاتي، هل ما فعلتُه صحيحاً؟
الجواب
لا يجوز للإنسان أن يسابق الإمام، فإذا سابق الإمام متعمداً بطلت صلاته، وفي مثل هذه الحالة إذا كان سابقه بركعة وهو ساهٍ، فإنه كان من حقه أن لا يعتد بتلك الركعة، ويأتي بها بعد سلام الإمام، وما دام أعاد الصلاة فلا شيء عليه إن شاء الله تعالى.(27/25)
حكم إيذاء المصلين في المسجد
السؤال
بعض المصلين -هداهم الله- يأتي متأخراً إلى المسجد، ثم يضايق إخوانه ممن أتوا إلى المسجد مبكرين، أرجو توجيه كلمة لهم؟
الجواب
على الإنسان إذا جاء إلى المسجد أن يجلس حيث انتهى به المقام، ولا يضايق الناس، أو يؤذيهم، أو يتخطى صفوفهم أو رقابهم؛ لأن في ذلك أذية للمسلمين الذين جاءوا مبكرين إلى هذا المسجد.
أما من أراد الخير، فعليه بالتهجير والتبكير إلى المسجد، وكما قال صلى الله عليه وسلم: {ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه} فبكر وبادر، والفرق بينك وبين من بادروا ربما عشر دقائق، أو ربع ساعة، وما بين هذا وذاك كبير فرق.(27/26)
حكم الأمر بالمعروف مع عدم أمر النفس
السؤال
إنني مدرس -بحمد الله- أحث الطلاب على الالتزام والعمل الصالح، مع أنني مقصر في ذلك، فهل هذا من الخطأ؟
الجواب
لا.
أما تقصيرك، فهو من الخطأ، فعليك أن تستدركه.
وأما حثك للطلاب على العمل الصالح، فهو حق، ولو كنتَ مقصراً فيه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا جميعاً أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولو كنا مقصرين، ولو كنا مفرطين.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد(27/27)
سجود التلاوة
السؤال يقول: إذا كان شخص يقرأ سورة فيها سجدة، وهو غير مستقبل القبلة، فهل يسجد نحو القبلة أو أي جهة، وخاصة إذا كان جالساً على كرسي ونحوه؟
الجواب
ينزل عن الكرسي، ويستقبل القبلة، ويسجد لله تعالى، هذا هو المشروع في حقه إذا مرَّ بآية سجدة.(27/28)
قدر العلم الذي يكفي الداعية إلى الله
السؤال
في الدعوة إلى الله تعالى لا يوجد دعوة بدون علم، فكيف يعرف الإنسان أنه اكتفى بالعلم الذي يهديه للدعوة إلى الله تعالى؟
الجواب
الدعوة إلى الله لا بد أن تكون على علم، لكن ليس من شرط الداعي أن يكون مكتملاً في العلم، فلو كان هذا الشرط شرطاً شرعياً ما دعا أحدٌ، لأنه لا أحد إلا وفيه نقص من البشر، حاشا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
إذاً فعليك أن تدعو إلى الله تعالى بما تعلم، حتى لو كان ما تعلمه قليلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، -كما في الصحيح: {بلِّغوا عني ولو آية} فمن علم سورة الفاتحة، فحق عليه أن يُعَلِّمَها مَن يَجْهلها، ومن علم قصار السور فليُعَلِّمْها من لا يَعْلَمُها، وهكذا، وليس من شرط الداعية أن يكون كبيراً في العلم، ولا عالماً يُشار إليه بالبنان، ولا مفتياً، ولا فقيهاً، لكن الشرط: ألا يدعو إلا إلى ما يعلم، أما ما لا يعلم فيقول فيه: الله تعالى أعلم.(27/29)
زكاة الحلي
السؤال يقول: أريد أن أعرف: هل في الذهب المستعمل زكاة، علماً أنه لا يوجد مالٌ لاستخراج زكاة إلا عن طريق بيع شيء منه؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف، فإن جمهور العلماء، الأئمة الثلاثة وابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم، وجمع كبير من الصحابة والتابعين قبلهم، يرون أن الذهب المستعمل للمرأة ليس فيه زكاة، وبعضهم يقول: زكاته إعارته، واستدلوا لذلك بأدلة وقياسات كثيرة ليس هذا مجال عرضها.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن في الذهب المستعمل زكاة، وهذا اختيار جماعة من أهل العلم، منهم من المعاصرين: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، وجمع من أهل العلم، فإذا أخرجت المرأة زكاة الذهب احتياطاً؛ فهذا أفضل وأحوط وأبرأ للذمة، وإن لم تخرج فالأظهر -إن شاء الله تعالى - أنه ليس عليها شيءٌ.(27/30)
حكم دفع الزكاة للأخ الفقير
السؤال
لي أخ فقير، وأنا -بحمد الله- أملك بعض المال، فهل يجوز أن أخرج الزكاة إلى أخي؟
الجواب
إذا كان هذا الأخ فقيراً، أو محتاجاً، أو غارماً، فإنه يجوز أن تدفع إليه زكاة مالك، إنما لا تُدفع الزكاة للأصول ولا للفروع عند عامة الفقهاء، فلا تدفع للأب أو الجد، ولا للابن أو ابن الابن، كما لا تُدفع إلى من تجب عليك نفقتهم؛ لأنك إن أعطيتهم الزكاة كنت تحمي بها مالك.(27/31)
من دعي إلى طعام وهو صائم
السؤال يقول: بالنسبة لصيام النفل: إذا دعيتُ إلى وجبة وأنا صائم فبماذا أرد؟ وكذلك إذا أردتُ إخبار أحد بأني صائم؟
الجواب
أما إذا دُعيتَ: فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصلِّ} أي: يدعو لأهل الوليمة، فيدعو الله لهم بأن يكثر الله تعالى في رزقهم، ويوسع في مالهم، ويجزيهم خيراً، وما أشبه ذلك من الدعوات.
أما إذا أوذي الإنسان، أو تعرض له أحد بسب أو شتم أو ما أشبه ذلك، فليقل كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن امرؤٌ شاتمه أو سابَّه فليقل: إني صائم، إني صائم} قال بعض الفقهاء: يقول ذلك بكل حال، وقال بعضهم: يقول هذا إذا كان الصوم فرضاً، أما إن كان نفلاً فيقوله سراً، لئلا يكون ذلك من الرياء، والأقرب: أنه إن أمن الرياء، قال ذلك في فرض أو نفل، فإن خاف على نفسه الرياء في صوم النفل، فإنه يقول ذلك سراً، ويُعرض عنه.(27/32)
كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
حبذا لو ذكرتَ: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقرأ؟ وكيف كان يرتل؟ ويقف على المعنى، إلى غير ذلك؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم كان جبريل يعارضه بالقرآن، في كل سنة مرة، وفي العام الذي قُبِضَ فيه، عارضه بالقرآن مرتين؛ إيذاناً بدنو أجله، وهذا أصل في مشروعية ختم القرآن الكريم في شهر رمضان، وكان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن ترتيلاً كما أمره الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] [[وكان يقف على رءوس الآي]] أي: على نهايات الآيات -كما قالت أم سلمة: {وكانت قراءتُه مداً، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:1-3] يقف على رأس كل آية، ويمدها مداً} ولم يكن هو صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من أصحابه، يَهُذُّ القرآنَ هَذَّاً كهَذِّ الشِّعر، ولا ينثره كنثر الدقل، كما نهى عن ذلك الإمام المقرئ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وهو من قراء الصحابة، ولا يكون هَمُّ الواحد منا نهاية السورة، أو نهاية الوجه، أو نهاية الجزء، أو نهاية المصحف؛ لأن القرآن إنما أُنْزِل ليُعتَبر به، ولتُتَدَبَّر آياتُه، وليُوقَف عند معانيه، ولتُحَرَّك به القلوب، ولأن يختم الإنسانُ القرآنَ مرة واحدة في رمضان بترتيل وتمعن، ويقف عند المعاني، ويسأل عما أشكل، ويعرض قلبه على القرآن الكريم، ويحاول أن يخشِّع قلبه وصوته بالقرآن أفضل من أن يهُذَّ القرآن، ويختم مرات ومرات، دون أن يخرج من ذلك بطائل.
فكم قارئ للقرآن ما وقف عند حدوده، ولا ائتمر بأوامره، ولا انتهى عن زواجره، وهذا لا يكاد يستفيد من قراءته عملياً، وإن كان لا شك أن قراءة القرآن خير، وتحريك اللسان بذكر الله تعالى خير، وهو مأجور على كل حال، ولأن يقرأ القرآن ولو بغير تأمل، أفضل من أن يسكت، ولأن يسكت أفضل من أن يتكلم بكلام الفحش والسوء.(27/33)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء؟
الجواب
مسألة مسح الوجه بعد الدعاء، فيها خلاف بين أهل العلم، والأظهر والأرجح: أنه لا يثبت فيها حديث، ولكن مَن فَعلها فلا شيء عليه؛ لأنه قد جاء في هذا حديثان، صححهما بعض أهل العلم، كالإمام الترمذي وغيره.(27/34)
ما يجري في أفغانستان
السؤال
حبذا لو أعطيتنا نبذة عما يجري في أفغانستان؟
الجواب
هو خلافٌ بين الجمعية الإسلامية بقيادة رباني والحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، وهي فتنة -نسأل الله تعالى أن يَقِيَ المسلمين شرها- وهناك هدنة قائمة في هذه الأيام، ونرجو أن تكون بدايةً لأن تضَعَ الحربُ بينهم أوزارَها.(27/35)
ما أخبار الجهاد في الصومال والبوسنة
السؤال يقول: لا يخفى عليكم حال الإعلام وصنيعُه لنا، نرجو أن تحدثونا عن أخبار الجهاد في: يوغسلافيا، والصومال؟
الجواب
أما في الصومال، فالحمد لله، كانت كل الأحداث الماضية، على رغم أنه أريد بها شر، إلا أن المسلمين استفادوا منها، وقد بدأت التقارير الغربية تتكلم عن تنامي الوجود الإسلامي في الصومال، وأن أهل الخير والدعوة في الصومال، هم الذين بقوا الآن أعزاء أقوياء، وأنهم انتشروا في أوساط القبائل انتشاراً كبيراً، وقاموا بنشاط كبير في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا أيضاً يبشر بخير، ومهما كادوا ومكروا فالله من ورائهم محيط: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيْدُ كَيْدَاً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] .
أما في البوسنة: فلا زالت الحرب سِجالاً بين المسلمين وأعدائهم، وقد دخل مع أعداء المسلمين مجموعات من الشباب من القوميين الروس، الذين تطوعوا للقتال إلى جانب إخوانهم من أهل الكتاب، من النصارى الصرب، أما المسلمون فلا زالوا يصيحون بكم، وعندي رسالة لعلِّي أقرؤها عليكم غداً، جاءتني من بعض الأخوات المسلمات البوسنيات تتفطر لها القلوب ألماً وحسرة.(27/36)
فما استكانوا لربهم وما يتضرعون
كل ذنب لا بعد له من جزاء، وهذا الجزاء له صور وألوان، وفي هذا الدرس فصل الشيخ حفظه الله هذه الصور، ثم تكلم عن أحوال المؤمنين وغيرهم عند نزول العقوبات.(28/1)
كل عمل لا بد له من جزاء
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك وخليلك وحبيبك ونبيك ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد: أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكر لكم جميعاً حسن حفاوتكم، وكرم عنايتكم، ولطف استقبالكم، وإن كان هذا ليس بغريبٍ منكم، فهو مما لا أستحقه، وأسأل الله عز وجل: أن يغفر لي ما لا تعلمون، وأن يستر علي وعليكم وعلى سائر إخواننا المؤمنين، ونسأل الله عز وجل ألا يفجع بنا عباده الصالحين، وأن يجعلنا في الدنيا والآخرة من المغفورين، المستورين، وكما قال الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون]] أحبتي الكرام: هناك قاعدة وسنه إلهية، ثابتة مستقرة، جاءت نصوص الكتاب والسنة في تثبيتها وبيانها وهي: أن كل عمل لابد له من جزاء، في الدنيا وفي الآخرة، قال الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] وقال: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27] وقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] .
وكذلك الحال بالنسبة للأعمال الصالحة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] وليس الجزاء في الآخرة فحسب، بل الجزاء من جنس العمل في الدنيا والآخرة، ولذلك من عمل الصالحات أحياه الله تعالى حياة طيبة، كما وعد الله في كتابه فقال: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] .
هذا في الدنيا، ومن عمل السيئات فكذلك يجازيه الله بها في العاجل، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] .
أما في الآخرة فالأمر أظهر من أن يذكر، وحسبك أن الجنة والنار هما دار القرار: الموتُ بابٌ وكل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدارُ الدارُ جنة عدنٍ إن عَمِلْتَ بما يرضي الإله وإن فرطت فالنارُ هما مصيرانِ ما للمرءِ غَيرُهما فانظر لِنفسكَ ماذا أنتَ تختارُ(28/2)
العقوبات الدينية
هناك عقوبات إلهيةٌ دنيوية كثيرة، يعاقب الله تعالى بها خلقه على ذنوبهم، وعلى معاصيهم، وهي أنواع: النوع الأول: منها عقوبات تتعلق بدين الإنسان: فيعاقب الإنسان على المعصية بعقوبات دينية، مثل قسوة القلب، فربما وقع الإنسان في المعاصي حتى يقسو قلبه، فلا يميزُ معروفاً من منكر، ولا حقاً من باطل، ولا خيراً من شر، ولا هُدىً من ضلال، كما قال الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] يعني: غلب وغطى عليها ما كانوا يعملون من الأعمال السيئة، حتى كانوا لا يميزون بين الحق والباطل، وكما قال عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] .
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4] .
وجاء في بعض الآثار: أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا رب، كم أعصيك ولا تعاقبني، فقيل له: يا عبدي، كم أعاقبك ولا تشعر.
فهذه ميزة العقوبات الدينية، أن الإنسان في كثير من الأحوال قد لا يشعر بأثرها؛ لأنه لا يزال قلبه تغلب عليه المعاصي والذنوب، حتى لا يميز بين صحوة القلب وموته، وبين نوره وظلمته، وبين صحته ومرضه، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلبٍ أشربها -أي: تقبل الفتنة ورضي بها وتشربها وأحبها- نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتةٌ بيضاء؛ حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة} فإذا جاءت ذلك القلب الموعظة زلت عن اليمين وعن الشمال، لكن لا يقع فيه شيء؛ لأنه كأس مقلوب، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، فهذه هي العقوبات الدينية.(28/3)
أنواع العقوبات الدنيوية
النوع الثاني: فهي العقوبات الدنيوية.(28/4)
عقوبات لا دخل للمخلوق بها
والعقوبات الدنيوية قد تكون عقوبات من عند الله تعالى، يعني: قضاءً وقدراً لا دخل للمخلوق ولا حيلة له فيها، وذلك: كالقحط، والجدب، والجفاف، والفقر، والزلزال، والبركان، والفيضان، والطوفان، والخسف، ومثله الكسوف في الشمس والقمر، وكذلك الموت: موت القريب أو الحبيب أو ما أشبه ذلك.
فهذه عقوبات إلهية، مثلها مثل الصواعق، مثل الأشياء التي تنزل من السماء، ولا حيلة للخلق فيها بأي حال من الأحوال، فهذه من عند الله تعالى.(28/5)
عقوبات بأيدي بعض المخلوقين
وأما النوع الثاني من العقوبات الدنيوية: فقد تكون بأيدي بعض الخلق، وبأيدي بعض الناس، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} [التوبة:52] يعني: قل يا محمد للكفار: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] إما النصر أو الشهادة: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة:52] والعذاب من عنده تعالى قد يكون خسفاً، وقد يكون زلزالاً، وقد يكون بركاناً، وقد يكون فيضاناً، وقد يكون قحطاً، وجدباً، وجفافاً: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] .
إذاً هذا نوع ثانٍ من العذاب، بأيدينا، يعني: بسيوف المؤمنين، وبسهامهم، وبرماحهم، وبقذائفهم، وبجهادهم، فيبتلي الله تعالى الكفار بالمؤمنين يعذبهم بهم، حيث ينتصر المؤمنون على الكافرين فيسومونهم ويقتلونهم ويأخذون أموالهم وما في أيديهم، ويستبيحون نساءهم، يعني: عن طريق السبي بسنته المعروفة، المهم أن هذا عذاب من عند الله تعالى، ولكنه بأيدي المؤمنين، كما قال الله عز وجل في آية أخرى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] .
إذاً: العقوبات التي تُصب على الكافرين بجهاد المؤمنين هي من عند الله عز وجل، ومثله العقوبات التي تصب على المؤمنين بأيدي الكافرين هي عقوبات من عند الله تعالى، فقد يسلط الله الكافر على الظالم أو الفاسق أو الفاجر يسومه سوء العذاب، كما سلط فرعون على بني إسرائيل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] .
فهذه عقوبة من عند الله عز وجل، أجراها على يد بعض خلقه، قد يجريها على يد المؤمن عقاباً للكافر، وقد يجريها على يد الكافر عقاباً للمؤمن إذا عصى أو فرط أو قصر.
ولا شك أن تسلط الأعداء على الأمم الإسلامية في هذا الزمان بأخذهم خيرات بلادهم، ونهبهم لها، وتسلطهم عليها، وخنقهم للأمة الإسلامية، واعتدائهم على أموالها وبلادها وأعراضها ودمائها وأنفسها، وكون كثير من بلاد الإسلام أصبحت لقمة سائغة في أيدي أعداء الدين، يفعلون بها ما يشاءون فيتحكمون فيها، وفي اقتصادها يرسمونه كما يشاءون، ويفرضون فيه من الاقتصاد الكافر ما يشاءون، أو في سياستها فيوجهونها وفق ما يخدم أغراضهم ومآربهم، أو في خيراتها وبترولها ومعادنها ونفائس ما وضع الله تعالى فيها من خيرات، أو تسلطهم على أموال المسلمين، أو تسلطهم على أنفس المسلمين، حيث يقتلونهم قتل عاد وإرم، كما نسمع مما يقع للمسلمين في بلاد فلسطين أو في أفغانستان أو في إريتريا أو في الفلبين أو في غيرها من بلاد الشرق والغرب؛ حيث أصبح سيف الكفار مسلطاً على رقاب المسلمين في أكثر بقاع الأرض، لا شك أن هذا كله عقوبات من الله عز وجل لعباده، وخاصة الذين خالفوا أمره، لقد أصبحت أمم الكفر تتحكم في بلاد الإسلام، حتى في أخص خصائصها، وأصبح المسلم محتاجاً إلى الكافر في كل شيء -مع الأسف الشديد- فمركبه من عنده، وملبسه من عنده، ومأكله في كثير من الأحيان من عنده، ومشربه من عنده، وسائل التبريد أو التدفئة أو التسخين أو النطق أو الكلام أو إلخ.
أو أي وسيلة يحتاجها المسلم، فهي في الواقع من إنتاج مصانع الكفار، بل أصبح المسلم يحتاجهم حتى في الأمور التي لا شك أن حاجة الأمة فيها إلى عدوها هي نوع من المسخ، فمتى عُرف -مثلاً- أن العدو يدفع عن عدوه أو يحميه، أو يحمي سياسته أو اقتصاده، أو يدافع عن بلاده، فهذا ما لم يعهد منذ فجر التاريخ، ولا شك أن حاجة المسلمين في هذه البلاد، وفي كل البلاد إلى أعداء الإسلام، في مثل هذه الأمور، وفي كثير من الأمور لا شك أنه نوعُ من البلاء والعقوبات الإلهية التي صبها الله عز وجل علينا، حتى نتوب إليه تعالى، ونراجع ديننا.
ولا شك أن واقع الأمة الإسلامية اليوم أشبه ما يكون بواقع الأمة الإسلامية في أيام صلاح الدين حين كان يقول الشاعر: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيبُ فحقٌ ضائع وحمىً مباحٌ وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيبُ وكم من مسلمٍ أضحى سليباً ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليبُ دم الخنزير فيه لهم خلوقٌ وتحريقُ المساجدِ فيه طِيبُ أمورٌ لو تأملهنَّ طفلٌ لطفَّل في عوارضه المشيبُ أتسبى المسلمات بكل ثغرٍ وعيش المسلمين إذاً يطيبُ أما لله والإسلامِ حقُُ يُدافعُ عنه شبَّانُُ وشِيبُ فقل لذوي الكرامةِ حيثُ كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا إن التاريخ يُعيد نفسه، وبلاد الإسلام تتعرض لهجمات الأعداء وتسلطهم في كل جانب ومجال من مجالات الحياة يوماً بعد يوم، وما أخبار الأندلس حين تسلط عليها الأعداء من فرنسا وغيرها، فبدءوا يقصون ثوب الإسلام من الأندلس شيئاً فشيئاً؛ حتى طردوا المسلمين ونصَّروهم وجعلوا لهم محاكم التفتيش التي تمسخ المسلمين مسخاً، وتحرقهم إن أصروا على دينهم بالأفران، وتقتلهم شر قتلة، وما أخبار المسلمين في فلسطين أيضاً حين تسلط عليها اليهود ففتكوا بالمسلمين وقتلوهم، وأجروا الشوارع من دمائهم أنهارا -إلاَّ نموذجٌ لذلك، وكانت هي الأخرى نموذجاً لما حصل في الأندلس، كما قال القائل:- خلت فلسطين من أبنائها النُجب وأقفرت من بني أبنائها الشُهبِ طارت على الشاطئ الخالي حمائمهُ وأقلعت سُفن الإسلام والعربِ يا أخت أندلسٍ صبراً وتضحيةً وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ ذهبتِ في لجة الأيام ضائعةً ضياع أندلسٍ من قبلُ في الحقبِ وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ بمثلها أُمَّةُ الإسلامِ لَمْ تُصَبِ وما أخبار أفغانستان وهي أندلس هذا الوقت إلا نموذج لذلك، فهي البلاد المؤمنة التي لم تُدنِّسْ أرضها قدم كافر، حتى أنها هي الدولة الوحيدة مع هذه البلاد التي لم يقم فيها كنيسة للنصارى، ومع ذلك تجتاحها جحافل الروس وعملائهم من الأفغان الشيوعيين، ويقع للمسلمين فيها من نهب الأموال وتدمير الأرض وأخذ الخيرات، وهتك الأعراض، وقتل النساء والأطفال مالا يخفى على أحد في هذا الوقت، وما هزائمنا نحن المسلمين في عام (48، 67) من الميلاد إلاَّ نموذج ودليل وعبرة من عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] .
إذاً كما أن الله تعالى قد يسلط علينا القحط والجدب، أو أنواع المرض أو الفقر أو أي عقوبة إلهية، فقد يسلط الله علينا سيف العدو؛ حتى نعود إليه ونستكين إليه، ونتضرع، وننكسر بين يديه، يقول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] ويقول سبحانه عن بعض المعرضين الضالين من عباده الغافلين: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] .(28/6)
حال المؤمنين عند العقوبات
أيها الإخوة الأكارم: الناس أمام عقوبات الله عز وجل، صنفان: الصنف الأول: صنف المؤمنين الذين يعتبرون بهذه الأشياء ويتعظون، ممن إذا ذكروا تذكروا، سواء ذكروا بآيات الله الشرعية من القرآن والسنة والمواعظ، أم ذكروا بالآيات الكونية التي يصبها الله تعالى عليهم، من العقوبات السماوية أو العقوبات بأيدي بعض الكفار، فيكون في ذلك لهم نذيرٌ وعبرة، وهذا كان شأن المؤمنين من الرسل وأتباعهم مدار التاريخ.(28/7)
حال أهل جزيرة كريت
المثل الآخر: هي قصة -أيضاً معروفة في التاريخ- وقعت في جزيرة يقال لها: جزيرة كريت، والمسلمون يسمونها جزيرة إقريطش، وكانت هذه الجزيرة، جزيرة صغيرة في البحر المتوسط، وكان فيها مدينة يخرج منها دائماً الغزو للروم، وهذه المدينة الصغيرة كثيراً ما تخرج منها جحافل وجيوش لغزو الروم، فغضب ملك الروم أشد الغضب من هذه المدينة، وحلف أن يدخلها ويدمرها على أهلها، وغزاها بجيش كثيف، ملأ السهل والجبل وملأ البحر، وحاصر هذه المدينة حصاراً طويلاً، ولم يكن لهذه المدينة بد من الاستسلام، وكانت أشبه بإنسان صغير، أمسك عدوه بخناقه، وخنقه بثوبه، بحيث إنه ينتظر الموت في أي لحظة، وظهرت بوادر المجاعة في هذه المدينة، حيث لم يكن في ذلك العصر وسائل للاتصالات الهاتفية، أو غيرها بحيث يعلم المسلمون بالأمر، فبقيت هذه المدينة بمعزل لا يعلم المسلمون من أمرها شيئاً، وبعد ذلك تشاور أهل المدينة، واتفق أمرهم على أن يستسلموا؛ لأنه ليس أمامهم مفر من الاستسلام، فليس بيدهم قوة ولا حماية كافية، ولا استطاعوا أن يخبروا المسلمين بخبرهم فبقوا قلة قليلة، يحيط بهم جيش كثيف مدجج من الروم.
فكان هناك شيخ كبير السن، معتزل في أحد مساجد المدينة، فلما علم بالخبر دعا رءوس القوم، وقال لهم: ما الذي عزمتم عليه؟ قالوا: عزمنا على الاستسلام، قال: هل بقي لكم قوة تدافعون بها، أو حيلة تحتالون بها؟ قالوا: لا، لم يبق لنا شيء، قال: فاستمعوا إلىَّ إذاً: اخرجوا جميعاً إلى ساحة القرية، وأخرجوا رجالكم، ونساءكم، وأطفالكم، وبهائمكم، ودوابكم، ولا يبقى في القرية مريضٌ ولا صحيحٌ ولا كبيرٌ ولا شيخٌ ولا طفل إلا خرج، ثم افصلوا الأب عن ابنه، والأم عن ولدها، والقريب عن قريبه، ففعلوا ذلك كله، فبدأ الصياح والنحيب، الطفل يحن إلى أمة، والأم تبكي على طفلها، والقريب يبكي على قريبه، ثم أمرهم أن يبتهلوا إلى الله عز وجل، فابتهلوا إلى الله تعالى، وعلا نحيبهم، وصياحهم، وتضرعهم، إلى الله عز وجل.
فقال: هل بقي بقلوبكم شيء غير الله تعالى، واللجوء إليه والانكسار، قالوا: لا والله ما بقي في قلوبنا شيء، كلُُ الحيل الدنيوية قد فشلت، ولم يبق إلاَّ الاعتصام بالله تعالى.
قال: فافتحوا إذاً أبواب المدينة، واخرجوا إلى عدوكم مرة واحدة، عجوا إلى الله عجة واحدة، وقولوا: يا الله ففعلوا، وفتحوا أبواب المدينة، وخرجوا دفعةً واحدة، فلما رآهم العدو، قذف الله في قلوبهم الرعب ففزعوا وخافوا، وظنوا أن المسلمين قد أعدوا لهم خطه شديدة، فهرب العدو لا يلوي على شيء، وما التفت أحد منهم حتى وقع في البحر، ثم انصرفوا مهزومين، دون أن يمسوا المسلمين بسوء.
فأهل هذه الجزيرة لم ينتصروا بعدد ولا عدة ولا بقوه ولا بإمكانيات ولا بماديات ولا بأسلحة متطورة، ولا بتقنية، ولا بتقدم وتصنيع، ولا بكثرة جيوشهم؛ إنما انتصروا حين انقطعت قلوبهم إلى الله تعالى، لأن المسلم يعلم أن النصر من عند الله تعالى، وأن الله تعالى بيده مقاليد السماوات والأرض: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] .
فالله تعالى لو شاء أن يأمر السماء أن تمطر لأمطرت على أعدائنا ناراً تحرقهم، ولو شاء أن يأمر الأرض لزلزلت من تحت أقدام عدونا، ولو شاء عز وجل لسلط عليهم الريح، ولو شاء لسلط عليهم البراكين، ولو شاء لسلط عليهم طوفاناً من عنده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] .
لكن كل هذه الوسائل يدخرها الله عز وجل لعباده الصادقين، الذين علم الله من قلوبهم الانقطاع إليه، وصدق اللجوء والرغبة فيما عنده.(28/8)
حال صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الصليبيين
أولهما: مَثَلُ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، كما يذكر ذلك عنه ابن شداد، وهو عالم كان من أصحاب صلاح الدين، فيذكر ابن شداد: أن الإفرنج لما نزلوا بيت المقدس قريباً منه، وتواصلت الأخبار إلى صلاح الدين بأنهم قد عزموا على الصعود إلى القدس، ومحاصرته، وركبوا القنابل عليه، واشتدت مخافة المسلمين من ذلك بسبب شدة بأس العدو وتسلطهم وقلة المسلمين، فاضطر الأمراء إلى الاجتماع، وتشاور الناس فيما بينهم ماذا يصنعون؟ يقول ابن شداد: ضاق صدر صلاح الدين واكتأب وحزن لذلك، وتقسم فكره، قال: فكنت جالساً معه طوال الليل، وهو يقسم الناس أقساماً، ويضع على كل قسم أحد الرجال ممن يختاره ويثق به، وكان الزمان شتاءً، وليس معنا ثالث إلا الله عز وجل، فلما بقي على الفجر قريباً من ساعة، قلت له: لعلك ترتاح، يقول: خشيتُ عليه أن يتعكر مزاجه؛ لأنه كان يتأثر، وكان فيه تعب في جسمه، فقلت لـ صلاح الدين لعلك ترتاح ساعة، يقول: فقال لي صلاح الدين: لعله جاءك النوم اذهب فارتاح أنت، يقول: فخرجت من عنده إلى بيتي، فما وصلت إلى بيتي، وأخذت بعض شأني إلاَّ وقد أذَّن لصلاة الفجر، قال: فتوضأت ثم أتيته، وكان يصلي الفجر معه، فلما أقبلتُ على صلاح الدين، إذا هو يمر الماء على يديه -يتوضأ- قال لي: والله ما جاءني النوم أصلاً -ما نمت أصلاً حتى احتاج إلى وضوء- من صلاة العشاء وهو سهران في مصالح المسلمين، وفي هذا البأس الذي نزل به، قلتُ له: علمت أنك لم تنم، قال: كيف عرفت ذلك؟ قلت له: ما بقي للنوم وقت، وأعلمُ أنك في مثل هذا الظرف لا تنام، يقول: فلما صلينا الفجر قلتُ له: قد وقع لي خاطر -خطر في بالي خاطر- وأرى أنه حق إن شاء الله، قال: وما هو؟ قال: قلت له: نَكِلُ أمر الدفاع عن بيت المقدس إلى الله عز وجل، بالإخلاد إليه، والتوكل عليه، وصدق اللجوء والإنابة إليه، والخروج من المعاصي دقيقها وجليلها.
قال: كيف أصنع؟ قال: أرى -واليوم يوم الجمعة- أنك تغتسل ثم تخرج إلى المسجد مبكراً، وتخرج صدقات كثيرة إلى الفقراء، والمحتاجين سراً، وعلي يدي من تثق بهم من الناس، تجعلهم يتصدقون على الخلق بأموالك، وتخرج من جميع المظالم، ثم تصلي ركعتين لله سبحانه وتعالى تصدق فيها، وتنكسر بين يديه، فإذا سجدت تطلب من الله تعالى بقلب منقطع إليه: أن يغيث المسلمين، وينصرهم على عدوهم، يقول: ففعل ذلك كله، ثم صلى ركعتين، وكُنت إلى جواره، قال: فسمعته يقول وهو في سجوده: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية إلا منك، وعجزنا عن دفاع عدونا إلا بك، فإنا نستغيث بك، ونستنصرك ونعتصم بك، يقول: فابتهل إلى الله عز وجل، وبدأت الدموع تنحدر من عينيه فلما رفع رأسه من سجوده، إذا دموعه تتقاطر من لحيته.
يقول: فعلمت أننا منصورون ولابد، فلما كان في مساءِ ذلك اليوم، الذي هو يوم الجمعة جاءتنا رسالة أو رقعة من الإفرنج، فيها أن الإفرنج متخبطون، وقد ركبوا بعسكرهم إلى الصحراء -خرجوا إلى الصحراء- ووقفوا إلى قائمة الظهيرة -إلى وقت الزوال- وأنه صار بينهم اختلاف في ذلك، يقول: فلما كان يوم السبت جاءنا خبر بمثل هذا، فلما كان يوم الأحد وصل جاسوس فأخبرنا أن الإفرنج قد اختلفوا، وأن الفرنسيين منهم، وكانوا قد تحالفوا من الغربيين وغيرهم من أعداء الإسلام من النصارى، فأخبرهم الرسول -الجاسوس- الذي جاء إليهم، أن الفرنسيين يقولون: لابد من مهاجمة القدس، ومحاصرتها.
وأما من يسمون بالإنكشارية فإنهم يرون أنه لا يخاطر بدين النصرانية، يقولون: جنود عيسى لا نخاطر بهم، ولا يمكن أن نلقي بهم، سبحان الله! ما أشبه الليلة بالبارحة، الآن يوجد من أمم الكفر والنصارى، من يستميت في القتال، لأنه يريد أن يقضي على الأمة المحمدية، ويوجد من جنود الكفر واليهود والنصارى وغيرهم، من يرون أن قطرة دمٍ من كافر أغلى من المسلمين أولهم وآخرهم، فهكذا كان الأمر، فحصل بينهم خلاف أدى إلى أنهم ينسحبون من هذا الموقع، ويتركون بيت المقدس في أيدي المسلمين، وهكذا انتصر صلاح الدين دون أن يخوض معركة، لأنه أسند أمره إلى الله عز وجل.(28/9)
الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر
مثلاً: في معركة بدر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقود قلة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة أمام جحفل من جحافل الكفر، يزيد على الألف مدججين بألوان السلاح، ومع ذلك عرف الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لن ينتصر على هذه الكثرة الكافرة لا بعدد ولا بعدة ولا بقوة ولا ببأسه، وإنما ينتصر عليهم بعون الله تبارك وتعالى.
ولهذا بنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فكان يدعو ويرفع يديه إلى السماء، ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم، اللهم أسألك وعدك ونصرك} حتى سقط رداؤه عن منكبه عليه الصلاة والسلام، من شدة دعائه وافتقاره وابتهاله إلى الله سبحانه وتعالى؛ حتى جاءه أبو بكر رضي الله عنه والتزمه من خلفه، وقال له: {يا رسول الله، كفاك مناشدة ربك فإن الله تعالى منجز لك ما وعد} فلما رأى أبو بكر ابتهال الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق لجوئه إلى الله عز وجل عرف أن النصر آت لا محالة!! ليس لأن عدونا كذا، ولا لأن قوتنا كذا، ولا لأن إمكانياتنا كذا، ولا لأن جغرافية البلد كذا، ولا لأي سبب إنما لأنه رأى الانكسار الذي عودنا الله عز وجل أنه لا يرد من فعله، وما هي إلا ساعات حتى أخذوهم -كما هو معروف-: أتُطفئُ نُور الله نَفخة كافرٍ تعالى الذي بالكبرياءِ تفردا إذا جلجلت (اللهُ أكبر) في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك النِِدا هناك التقى الجمعان جمع يقوده غرور أبي جهل كهرٍ تأسدا وجمعٌ عليه من هداه مهابة وحاديه بالآيات بالصبر قد حدا وشمَّر خيرُ الخلقِ عن ساعد الفدا وهزَّ على رأس الطغاة المهندا وجبريلُ في الأُفق القريبِ مُكبرٌ لِيلقي الونى والرعب في أنفُسِ العِدا وسرعان ما فرَّت قُريشُُ بِجمعها جريحةَ كبرٍ قد طغا وتبددا ينوء بها ثُقل الغرامِ وهَمُّهُ وتجرحها أسرى تُريدُ لها الفِدا وأنفُ أبي جهل ٍ تمرغ في الثرى وداسته أقدام الحفاةٍ بما اعتدى ركب عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال له أبو جهل: [[لمن الدائرة اليوم؟ قال: يا عدو الله! لله ولرسوله وللمؤمنين، قال: لقد ارتقيت مُرتقى صعباً يا رويعي الغنم]] .
وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى وداسته أقدامُ الحفاةِ بِما اعتدى ومن خاصم الرحمن خابت جُهودُهُ وضاعت مساعيه وأتعابُه سُدى وفي معركة أحد هُزم المسلمون ولم ينتصروا، هُزموا وكانت فعلاً هزيمة منكرة لم يكن المسلمون يتوقعونها بأي حال، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] .
يعني: يوم بدر.
قلتم أنَّى هذا؟! فتعجب المسلمون كيف حصل هذا؟! ظنوا أنهم ما داموا مسلمين، ومادام قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لا يهزمون أبداً، فقالوا: أنَّى هذا؟! كيف حصل؟! فقال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] .
نرجع إلى القاعدة: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] فالله تعالى قادر على أن ينصر المسلمين دون قتال، ودون سيوف، ودون جهاد، ودون بلاء، لكنه عز وجل أجرى سنته فيهم أنه ينصر من ينصره، ينصر من يستحق النصر، ينصر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] .
ولذلك ظل المسلمون على مدار التاريخ: إن ألمت بهم ملمة أو تكالب عليهم عدو عرفوا أنهم لن ينتصروا على هذا العدو بعدد ولا بعدة، إنما بصدق اللجوء إلى الله عز وجل، وإن نزلت بهم هزيمة، وجروا أذيال الخيبة في معركة من المعارك، عرفوا أنهم إنما أُتُوا من قِبَل أنفسهم، ولعلي أذكر لكم مثالين في ذلك:(28/10)
صور من ألوان العذاب
أيها الإخوة هذه نماذج مما سُلط على المسلمين من كيد عدوهم فانتصروا عليهم بقوة الله تعالى، لا بقوتهم هم، وأما الأشياء التي سُلط على المسلمين فيها نكبات ومصائب إلهية، فحدث ولا حرج:(28/11)
قحط المطر
ولما قحط المطر وأجدبت الأرض وجاءه رجل -كما هو معروف في الصحيح في حديث أنس - فقال: {يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع الرسول عليه الصلاة والسلام يديه إلى السماء، وهو على المنبر، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال: فوالله ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر، إلاَّ والمطر يتقاطر من لحيته عليه الصلاة والسلام} .
هكذا استسقى عليه الصلاة والسلام، ومدحه عمه أبو طالب، فقال: أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عِصمةٌُ للأراملِ يعوذ به الهُلَّاك من آل هاشمٍ فهم عنده في خيرة وفواضلِ ومن بعده لما قحط المطر، وأجدبت الأرض، جاء الناس إلى عمر يشكون إليه، فقال عمر: [[اللهم إنا كُنا نستشفع إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسلُ إليكَ بِعَمِّ نبيك صلى الله عليه وسلم -بـ العباس - قم يا عباس فادع، فقام العباس فدعا، وقال: اللهم إنه ما نزل بلاءٌُ إلا بذنبٍ ولا رُفع إلاَّ بتوبة، واستغفر الله عز وجل، فما انتهى من دعائه، حتى نزل المطر، وأغاث الله المسلمين]] .
هكذا ظل المسلمون في كل زمان، إذا نزلت بهم نازلة، استسقوا الله عز وجل فأغاثهم وأسقاهم، ولعل من طريق ما يروى ويساق في هذا، ما نُقل عن المنذر بن سعيد، وهو من علماء الأندلس الكبار، في عهد بني أمية.
فقد قحط الناس في بعض السنين، آخر مدة عبد الرحمن الناصر، فأمر الحاكم، المنذر بأن يخرجَ إلى الصحراء ويستسقي، ويطلب من الله عز وجل أن ينزل للناس المطر، وصام الرجل أياماً، وتأهب واجتمع الناس في مصلى يقال له: مصلى الربض خارج المدينة، اجتمعوا فتأخر عليهم العالم المنذر بن سعيد، ولم يخرج إليهم، والأمير ينظر من الشرفة -يطل عليهم من قصره- ينظر حال الناس، ثم خرج هذا العالم متخشعاً، متضرعاً، متواضعاً، وقام ليخطب على المنبر، فلما رأى حال الناس، وما هم فيه من الضعف والحاجة بكى وأجهش، وغلبته تلك الحال ونشج وانتحب، ثم بدأ يخطب، فقال: سلامٌ عليكم، ثم بعد ذلك غلبه ما يجد، فلم يستطع أن يكمل، ولم يكن هذا من عادته، بل كان خطيباً لا يُشق له غبار، لكنه من شدة حاله، لما قال سلامُُ عليكم، لم يستطع إن يكملها، ثم استأنف بعد ذلك، وهو شبه حسير، فنظر إلى الناس، وقال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54] ثم قال: استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه، وتقربوا بالأعمال الصالحة، فضج الناس وهو يتكلم بكلام متقطع من شدة البكاء، فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، فلم ينفض القوم، حتى نزل على الناسِ غيثٌ عظيم.
واستسقى مرة من المرات، فجعل يهتف بالخلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر:15-16] فهيج الناس على البكاء ونزل المطر.
ومره ثالثة: جاءه رسول الأمير يقول له: الأمير يأمرك بأن تخرج للاستسقاء، فقال: ماذا صنع الأمير، قبل أن أخرج لابد أن أعرف ماذا صنع؟ هل غير المنكرات؟ هل أبطل المفاسد؟ هل أزال المكوس والضرائب التي أثقلت كواهل الناس؟ هل انتهى عن المعاصي؟ هل حكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسوله؟ هل أزال المظالم؟ هل ولى على الناس العدول الأخيار الأكفاء؟ وهكذا… انطلق يتساءل، ماذا صنع الأمير؟ فقط يأمرنا بأن نستسقي كل يوم أو كل أسبوع!! لا أذهب حتى أعرف ماذا صنع؟ فقال له: إنني ما رأيت الأمير منكسراً أشد منه هذا اليوم! يقول الرسول -رسول الأمير-: إنه قد خرج من المظالم، وتصدق بمالٍ كثير، ولبس أخشن الثياب، وأبعدها عن الترف والزينة، وأنه قد سجد في التراب، وعلا نحيبه، وارتفع صوته، وهو يخاطب الله عز وجل، ويقول: يا رب هذا أنا، ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية بذنبي، وأنا لا أفوتك يا رب! فلما سمع المنذر بن سعيد هذا الكلام، قال للخادم الذي معه: احمل الممطرة -الممطرة بمعنى: الشمسية الآن التي تقي من المطر- إذا خشع جبار الأرض، رحم جبار السماء.(28/12)
زلزلة الأرض
مثال: زلزلت الأرض في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه -زلزلت المدينة- فماذا صنع عمر؟ ضربها برجله، وقال لها: [[اسكني بإذن الله تعالى، ثم قال للناس لمن حوله: والله ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه -أي: لابد أنكم فعلتم شيئاً، زلزلت منه الأرض- والله لئن زلزلت مرةً أخرى، لا أساكنكم في هذه الأرض أبداً، ولأخرجنَّ من بين أظهركم]] يقول: إذا حصل الزلزال مرةً أخرى، سوف أخرج وأترككم، وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وسنده صحيح.
وكذلك حال ابن مسعود رضي الله عنه، عندما رجفت الكوفة في عهده، فقال لأهل الكوفة: [[إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه]] والأثر رواه الطبري في تفسيره.
أي: إن الله عز وجل يطلب منكم أن تتوبوا، وأن تُنيبوا، وأن تُقلعوا، وأن تعودوا إلى الله عز وجل، فأروا الله عز وجل من أنفسكم صدقاً في التوبة.(28/13)
الكسوف والخسوف
ولذلك تجد أن الله عز وجل شرع لنا صلاة الكسوف، وصلاة الخسوف، وصلاه الاستسقاء، لماذا؟ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، حين صلى فقال: {إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله تعالى بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته} {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] .
ولذلك لما كسفت الشمس خرج الرسول صلى الله عليه وسلم فزعاً يجُرُ إزاره، يخشى أن تكون الساعة، فصلى وبكى عليه الصلاة والسلام، وقرأ القرآن وتقدم وهو يصلي، ثم تأخر، وتكعكع، وقال عليه الصلاة والسلام: {عُرضت عليَّ الجنة والنار في عرض هذه الجدار} حتى أنه من طول صلاته صلى الله عليه وسلم، كان يُصيب بعض من يصلون وراءه الغشيان، يعني: يثقل عليهم، وقد يقعد أحدهم على الأرض، وقد يُصاب بشيءٍ من الغشيان، بسبب طول القيام.
لأنه عليه الصلاة والسلام كان صاحب قلبٍ حي، وكان صاحب قلب يقظ، فهكذا أمر الله عز وجل عباده بهذه الصلوات، بل عند العلماء صلاة يسمونها صلاة الآيات، تفعل إذا كان هناك زلزلة مثلاً، أو كان هناك فيضان، أو كان هناك آية غير الكسوف والخسوف، وهذه الصلاة ثبتت عن ابن عباس رضي الله عنه، كما ذكر ذلك البيهقي، وثبتت عن عائشة، وجاءت عن ابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم: أن المسلمين يصلون صلاة الآيات، إذا حصل آية من الآيات الكونية غير الخسوف، وغير الكسوف، كالزلزلة -مثلاً- أو البركان، أو الفيضان أو ما شابه ذلك.
إذاً: فقد صلى الرسول عليه الصلاة والسلام لما حصل الخسوف، والكسوف.(28/14)
أحوال المسلمين اليوم وواجبهم
أما المسلمون اليوم، فحدث ولا حرج، كم ينزل من المصائب، والنكبات والمحن والفتن سواء من عدوهم، أو من أمور قدرية: كالقحط، والجدب ونقص الأموال والأنفس والثمرات، ومع ذلك تجد أن كثيراً من المسلمين -كما يقال في المثل- مكانك راوح!! إذا جاء الكلام في المطر -مثلاً- قالوا: إن سبب عدم نزول المطر هذه السنة هو اتجاه الرياح كذا! أو وضع الأمور كذا! أو الجو كذا! وعللوا ذلك بتعليلات مادية، فإذا جاء الحديث عن مصيبة من المصائب، ولو كانت زلزالاً -مثلاً- قالوا: إن هذا بسبب انكسار في القشرة الأرضية! وهذا بسبب كذا! وإذا جاءت قضية الكسوف والخسوف -أيضاً- عللوها بتعليل معين، قالوا: هذا بسبب توسط القمر بين الأرض والشمس! إلى غير ذلك من التعليلات!! والواقع أننا لا ننكر الأسباب المادية هذه، وقد تكون صحيحة، لكنْ هناك سبب وراء هذه الأشياء كلها، وهو السبب الشرعي: أن الله عز وجل يبتلي عباده بهذه الأمور لعلهم يرجعون!! وهذا عندنا نحن المسلمين ليس موضع خلاف، لأن الأمر واضح في القرآن: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً * وَنُخَوِّفُهُمْ} [الإسراء:59-60] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] فإذا مني المسلمون بهزيمة، هزيمة عسكرية -مثلاً- قالوا: هذا بسبب نقص الإمدادات، أو هذا بسبب أن العدو كنا نتوقع أن يأتينا من الشمال فجاءنا من الجنوب، أو كنا نتوقع أن يأتينا من الجنوب فجاءنا من الشمال، أو هذا بسبب خيانة، وجعلوا يفسرون الأمور تفسيرات جزئية مادية، ونسوا السبب الأكبر الذي هو الإعراض عن الله عز وجل، والاعتماد على الأسباب المادية وحدها، بحيث إن المسلمين الآن قد انقطعوا عن الله بدل أن ينقطعوا إلى الله، انقطعوا عن الله!! وإذا انقطعنا عن الله، معنى ذلك أننا لا نطمع أبداً في معجزة، أو آية إلهية خارقة من الخوارق، لا تتوقع أن الله يمدك ويغيثك بزلزال يُدمر عدوك، أو أن الله تعالى يمدك ويغيثك بريح تدمر عدوك، أو أن الله تعالى يمدك بطوفان يأتي على عدوك، أو أن الله تعالى يمدك بالملائكة يقاتلون معك ضد عدوك، لا تنتظر شيئاً من هذه الخوارق، إذا كنت قد انقطعت عن الله تعالى، إذا كنت اعتمدت على قوتك، وعلى إمكانياتك، وعلى قدراتك المادية، وَكَلَكَ الله إلى هذا، خاصةً وأنك بالقياس إلى عدوك قليل من كثير، فما هي قوة الأمة الإسلامية بالقياس إلى قوة عدوها؟! لا شك أنها ضعيفة، وأننا إن كُنَّا سنقاتل عدونا بقدراتنا المادية البشرية، فإننا لا يمكن أن ننتصر بحالٍِ من الأحوال، لكننا نملك أيها الإخوة أفتك سلاح، وهذا ليس مجرد كلام شائع، لا، أبداً يا إخوان، هذا القرآن الكريم مليء بالأشياء التي أمد الله تبارك وتعالى بها أولياءه، أليس الله عز وجل هو الذي أيبس البحر لموسى ومن معه؟ أليس الله عز وجل هو الذي قال للنار: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] .(28/15)
صور من إكرام الله لأوليائه
فالله عز وجل أجرى الآيات، وأجرى المعجزات، وأجرى الخوارق، التي لم تكن للناس في حساب، أجراها لأوليائه ورسله وأنبيائه، حتى أتباعهم فهذا أبو أدريس الخولاني، لما ألقاه الأسود العنسي في النار، لم تحرقه النار، فخرج منها كما خرج إبراهيم من نار النمرود!! حتى إذا جاء إلى عمر رضي الله عنه، قام إليه، وقبله وقال: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من حقق الله تعالى له الآية التي أجراها على إبراهيم عليه السلام: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فالله تعالى حيٌ قيوم، قدير، وهم لا يعجزونه، يقول الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:59-60] .
أعدوا ما استطعتم، لكن إن استفرغتم وسعكم، فلا تعتمدوا على إعدادكم، فإن إعدادكم بالقياس إلى قوة العدو غالباً قليل، لكن اعتمدوا على الله عز وجل، فإنه يكمل نقصكم.
أيها الإخوة المؤمن المعتبر حاله كحال وهب بن منبه رضي الله عنه، يروى أنه سجن يوماً من الأيام في السجن، فقال له أحد الحضور: [[يا أبا عبد الله، ألا أنشدك بيتاً من الشعر؟ -يريد أن يقرأ عليه القصيدة، ليسري عنه ويذهب ما بنفسه من الهم والحزن- فقال له: يا ولدي نحن الآن في طرف من عذاب الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون} [المؤمنون:76] ثم صام ثلاثة أيام متواليات، فقيل له: يا أبا عبد الله ما هذا الصيام؟ قال أُحدث لنا فأحدثنا]] يعني: قضية عادية سجن ثلاثة أيام، ولم يقل: هذا بسبب كيد الأعداء، وهكذا وهكذا، بل رجع إلى نفسه، يقول: هذا لا شك بسبب ذنبٍ وقع مني، ولذلك يقابله بماذا؟! يقابله بالتوبة النصوح، وصدق اللجوء إلى الله عز وجل، فيصوم ثلاثة أيام متتابعات.
لذلك انظر مثلاً إلى موسى عليه الصلاة والسلام، لما أخذت قومه الرجفة ماذا قال؟ قال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155] .
ويونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فعاد إلى نفسه يلومها، ويعاتبها، ويوبخها، ويستغفر من ذنبه.
نوح عليه السلام يقول لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] .
جاء رجلٌُ إلى الحسن البصري -رحمه الله- وهو في المجلس، فقال له: يا أبا سعيد، إننا في بلدٍ قد قحطت فيه السماء، فلا تُمطِر، وأجدبت الأرض فلا تُنبِت، فقال: استغفر الله عز وجل -عليك بالاستغفار- ثم قام من عنده، فجاء إليه رجل آخر، وقال له: يا أبا سعيد، أنا رجلٌُ تزوجت منذ كذا وكذا، ولا يولد لي ولد، فقال: عليك بالاستغفار، فقام من عنده، فجاء له رجل ثالث، وقال له: يا أبا سعيد أنا رجلٌ لا أذهب إلى تجارة -أقيم مؤسسة أو شركه- إلاَّ تَفْشَلْ -كلما اتجهت إلى جهة خسرت- فقال: عليك بكثرة الاستغفار، فقال له بعض الحضور: يا أبا سعيد، ذكروا لك أمراضاً ثلاثة، وذكرت لهم علاجاً واحداً!! قال لهم: إن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] .
إذاً: من أراد المال، من أراد البنين، من أراد الجنات، من أراد الأنهار، فعليه بكثرة الاستغفار.(28/16)
أحوال غير المؤمنين مع آيات الله
أما غير المؤمن فإنه يمضي قُدماً لا يلوي على شيء، كما حكى الله تبارك وتعالى عنهم: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ما خضعوا، ولا ذلوا، ولا انكسروا، ولا دعو الله عز وجل، ويقول الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:74-75] .
فهم في الدنيا كشأنهم في الآخرة، أليس الله عز وجل أخبر عن هؤلاء القوم في الآخرة حين يعاينون النار بأعينهم، ويوقفون عليها، كما ذكر عز وجل عنهم {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فهذا كلامهم، قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] .
حتى بعد أن عاينوا النار بأعينهم وشاهدوها وقاسوا شيئاً من حرها ولهيبها، وخوفها، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه.
يقول: ابن عباس رضي الله عنه: [[كل شيءٍ في القرآن "لو" فهو مما لا يكون]] .
لكن لو فرض أنهم ردوا، لرجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والضلال والفساد: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] .
يقول مجاهد: العذاب هو السَنة، يعني: القحط، والجدب، والجوع، وغير ذلك.(28/17)
حال قريش بعدم الاعتبار بآيات الله
وقد روى ابن جرير، والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه: {أن أبا سفيان جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا الوبر بالشحم من شدة الجوع، قد قتلت رجالنا بالسيف وقتلت أطفالنا بالجوع والفقر} وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وأسلم ثمامة بن أثال الحنفي وهو سيد بني حنيفة في اليمامة قال ثمامة: [[والله لا يسري إلى مكة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]] فمنع الميرة عنهم، فكادوا أن يموتوا من شدة الجوع، فجاء أبو سفيان يستغيث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: يا محمد قتلت رجالنا بالسيف، وقتلت أطفالنا بالجوع، فأنشدك الله والرحم إلاَّ فكَّيت هذا الحصار الاقتصادي الذي فرضته علينا.
هذا هو السبب الذي نزلت فيه الآية، وبعد ذلك عادوا إلى ما كانوا فيه من الكفر: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] وهكذا شأن الكافر حتى يرى العذاب.(28/18)
حال ابن نبي الله نوح
مثلاً: ولد نوح على نوح السلام، لما رأى بعينه بوادر الغرق، ورأى السماء تهطل بالمطر، والأرض تفور، ونوح يقول لولده: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] لم يستيقظ بل قال: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] .
ولازلنا في الأسباب المادية، إذاً لاحظت الكافر كيف عقليته! وكيف تفكيره! وكيف نظره! فالمسألة عنده مادية بحتة يقول: هناك قمة مرتفعة سوف أصعد إليها، بحيث لا يصل الماء إليَّ، لماذا؟! لأنه لم يتصور أن القضية عقوبة إلهية، بل تصور أن المطر اشتد هذه المرة، وأن المطر لن يصل إلى أعالي الجبال، وبعد ذلك سوف تشربه الأرض، ويعود الأمر كما كان، قال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] لكن الواعين والمدركين يقولون: كما قال نوح عليه الصلاة والسلام، قال: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] .
الموج قطع الحوار بين نوح وبين ولده -حال بينهما- فغرق الولد ونجا نوح عليه السلام.
هذه نظرة غير المؤمنين، فهم يفسرون الأمور تفسيراً مادياً، حتى أن أحدهم لما حصل زلزال في مصر، قيل في عهد كافور الإخشيدي، وقيل في عهد الدولة التي تسمى بالدولة العبيدية، وهي الدولة الفاطمية، لما حصل الزلزال فيها، قام شاعر أمام ملك من ملوكها، يُدافع عنه، مع أن الزلزال عقوبة إلهية، لكن ماذا قال الشاعر؟! حَوَّلَ هذه العقوبة إلى نعمة، قال: ما زلزلت مصر من كيدٍ أَلمََّ بِها لكنها رقَصَتْ مِنْ عَدلِكمْ طَربَا فهو يقول: ليس بزلزال بل مصر ترقص فرحاً بكم وبعدلكم وكرمكم!! هنا دور المنافقين، يحولون الكوارث إلى نِعم، ويحولون المصائب إلى أمور يُفرح بها ويُسر بها ويتحدث بها؛ لأن هذا الزلزال ما هو إلاَّ رقص من عدلكم وإنصافكم وإحسانكم، وهذا مدعاة إلى أن الإنسان يستمر ويُصر على ما هو عليه من الفساد والانحلال.
أيها الإخوة: وكم أخذ الله عز وجل الكافرين، والفاسقين، والظالمين، بالآيات والنذر، فربما أصر كثير منهم على ما هو عليه.
ولاشك أن ما تعيشه هذه الأمة الإسلامية منذ قرون، منذ أن زالت الدولة الإسلامية الواحدة التي يستظل المسلمون جميعاً بظلها، وأصبح المسلمون شيعاً وأحزاباً لا يوالي بعضهم بعضاً، ولا يناصر بعضهم بعضاً، ولا يغضب بعضهم لبعض، ولا ينتصر بعضهم لبعض، بل ولا يدري بعضهم ما يجري للبعض الآخر، منذ ذلك الوقت وهم في بلاء ومحن لا يعلهما إلا الله عز وجل: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ وأنتم يا عباد الله إخوانُ لقد مر وقت كان المسلمون يستنجدون بنا في كل بقاع الأرض، فربما أعرض كثير من المسلمين عن غوث إخوانهم، ونصرتهم والقيام بحقوقهم، كم كنا نسمع من استباحة الأعراض في كل مكان، في لبنان، وفي فلسطين، في أفغانستان، في القريب في البعيد، فماذا كنا نقول؟! كان كثير من الناس يقول: إنهم يستحقون، هؤلاء وقعوا في المعاصي والذنوب، وعثوا في الأرض الفساد، سبحان الله! ونحن ما هو حالنا؟! هل نحن أتقياء بررة؟! وهل نحن أطهار أخيار؟! أليس فينا الفساد والانحلال، والضياع، والتقصير، والربا، والمعاصي، والتقاطع، والتدابر، والتقصير، والجهل، والهوى، والغفلة، والتعلق بالدنيا، وموالاة الكفار، وارتكاب المعاصي؟! أين هذا؟! هل نحن في عالم آخر؟! أليست رياح الفساد هبت علينا من كل مكان؟! فكيف نتصور أن المسلمين يشردون في كل مكان ونحن بمنجاة مما يصيبهم؟! ثم سمعنا أخباراً أخرى وثالثة ورابعة، ولعل آخر ما سمعنا هو ما جرى لإخواننا في الكويت وهي البلد المجاور، وكان الناس يقولون بملء أفواههم.
أما هذا البلد ففيه وفيه وفيه!(28/19)
نسيان عيب النفس وإبصار عيوب الآخرين
وكلنا نعلم أن كل بلاد الإسلام أصبحت -مع الآسف- مسرحاً لكثير من المنكرات الكبار، التي تسخط الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279] .
لكن المصيبة والمشكلة، أنك تُبصِر عيوب الآخرين وتنسى عيوبك! وكثير من المسلمين، وأخص هذه البلاد اليوم، مازالوا يتكئون على كلمة يرددونها في مناسبة وغير مناسبة، أن هذه البلاد بحمد الله أهلها أصحاب عقيدة سليمة، وهذه البلاد بحمد الله هي قلعة الإسلام، وهذه البلاد بحمد الله هي البقية الباقية، وهذه البلاد بحمد الله هي التي سلمت من الشرور، وهذه البلاد بحمد الله وهذه البلاد بحمد الله ونحن لا ننكر أبداً أن هذه البلاد أحسن من غيرها، لكن غيرها قد يصل إلى القرار، إلى الهوة السحيقة، إلى نهاية الوادي، فهل إذا كفر الناس، ونحن دونهم بشبرٍ أو ذراع قلنا: الحمد لله، نحن أحسن؟! لماذا ننظر إلى غيرنا؟! لماذا لا ننظر إلى حالنا الآن مع ما يجب علينا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! بل لماذا لا ننظر إلى حالنا الآن مع حالنا في الماضي؟! هل نحن في زيادة أم نحن في نقص وتأخر؟! فإن الشيء الذي ينقص ينتهي، والشيء الذي يزيد يصل إلى كمال، فإذا نظرت إلى أحوالنا لوجدت أمور المسلمين تتأخر وتتردى في كافة المجالات، يوماً بعد يوم، فتدرك أن الخطر داهم، وأنه لا ينفعنا أبدا أن نتعلل بوضعٍ كُنا عليه، كنا وكنا، لا تكن (كنتياً) يقول: كُنت وكُنت: كُن ابن من شئت واكتسب أدباً يُغنيك محموده عن النسبِ إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي فاعتمادنا على أنه كان حالنا في يوم من الأيام كذا وكذا هذا ليس بصحيح ولا يكفي، كذلك اعتمادنا على قضيه صلاح العقيدة، صحيح أن العقيدة بحمد الله، ليس عندنا قبورُ تُعبد، وليس عندنا مزارات منكرة، وليس عندنا بدعٌ مُنتشرة، لكن لماذا لا نتساءل عن أمورٍ قد خرقت عقيدة الأمة كلها، والأمة في غفلة؟! مثلاً: قضية التعلق بالدنيا، قد يعبد الإنسان وثناً، أو صنماً، أو ولياً، وقد تُنسى عبادة القرش، والريال، والدرهم، والدينار، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار} فلماذا لا أتصور هذا، وأنه من أعظم الأشياء التي تخل بالعقيدة: أن من الناس من أصبحوا عبيداً للدنيا، عبيداً للمنصب، أو للشهوة، أو للقرش، والريال، أو للوظيفة، أو للكرسي، أو لفلان، أو للزعيم؟! قضية أخرى: وهي الولاء للكفار: أصبح كثير من المسلمين يحبون الكفار من أعماق قلوبهم، ويتكلمون عنهم بكلام عجيب، على حين يذمون إخوانهم المؤمنين ويسبونهم وينالون منهم، والكافر أصبحً عزيزاً كبيراً في أعيننا له عندنا المكانة، وهو الولي، وهو المحب، وهو المدافع، وهو النصير، وهو الحامي، وأصبح المسلم مُبغضاً؛ لأنه من بلدٍ آخر!! أليس هذا واقعاً؟! إذاً: أين الولاء والبراء؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] .
هذا يخل بأصل العقيدة عند المؤمن، كثير من المؤمنين انسلخوا -والعياذ بالله- من حقيقة ولائهم وبرائهم، وأصبحوا يوالون، ويعادون في الدنيا، وحسب ما تقتضيه أصول الإعلام الذي يرسم عقولهم، ويصور لهم الأمور بصورة غريبة.(28/20)
الأسئلة(28/21)
الجهاد
السؤال
أريد أن أذهب إلى الجهاد، ولكن أمي ليس لها أحد غيري يعولها، فهل يجوز لي أن أذهب مع العلم أن عمري لا يتجاوز الخامسة عشر سنة؟
الجواب
لا يجوز لك أن تذهب، ما دام حالك بهذه الحال أن تترك والدتك.
تركت أباك مرعشةً يداه وأمك لا يسيغ لها شرابُ لا يجوز لك أن تفعل ذلك، أما الجهاد في أفغانستان فهو ليس فرض عين وإنما هو فرض كفاية.(28/22)
حكم المال الحرام
السؤال
أخذ مبلغاً من المال بغير حق، وأدخله في بناء عمارة سكنية، وأخذ قرضاً من البنك، وتاب إلى الله عز وجل، فماذا يصنع؟
الجواب
لا بد أن يعرف من أصحاب هذا المال، ويعيده إليهم، فإن لم يستطع أن يدفع لهم المال الآن، فإنه يكسبه ديناً في ذمته أو يتحلل منه.(28/23)
كلمة الحق
السؤال
هناك أسباب تمنع من الحق وقول كلمة الحق، فما هو الحل، وهل نعمل بالقاعدة الأصولية: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) ؟
الجواب
نعم فيعمل بها، لكن ينبغي أن نميز المصالح من المفاسد، فإن كلمة الحق لا يجوز الصمت عنها، والإنسان إن لم يستطع أن يقول الحق بنسبة (100%) يقول بنسبة: (50%) ، وإن لم يستطع أن يصرح بالحق، فليلمح به ليعلم الناس الأمر.(28/24)
البث المباشر
السؤال
ما رأيك في البث المباشر، وهل فيه خطورة؟
الجواب
نعم فيه خطورة سواء كان البث الذي قد يصل إلى هذه البلاد -كما أعلن أمس عن البث المصري الذي هو بأموال سعودية- أو البث الأجنبي وهو الذي بدأ يدهم ويذاع على المنطقة الشرقية، أو البث المباشر الذي سوف يأتي من بعض الأقمار الصناعية لا شك أنه خطر كبير، لكن ينبغي أن ندرك أن الأمور في المستقبل والله تعالى أعلم سوف تكون خير بلا شك للإسلام والمسلمين، لماذا؟ لأن الأمور سوف تتضح ليس هناك مجال للإنسان في أن يماري أو يداهن أو يكون الدين بالوراثة، لا.
إما أن يهتدي الإنسان على بصيرة، أو يضل على بصيرة، وهذا لا شك فيه خير كبير، أهم مقومات النصر.
كما قال تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح:25] إلى آخر الآية، ونحن مطمئنون بأن ما يجري فإنه سوف يصب في بحر خير الإسلام والمسلمين، وبشرط: أن نبذل الجهد ونجمع الكلمة ونشتغل بالدعوة، الدعوة أيها الإخوة، كن داعياً حيثما قعدت، وحيثما قمت، في البيت، في المدرسة، في السوق، في الشارع، في المسجد، حاول أن تكون داعية ذا خلق حسن، ابتسامة عريضة تكسو وجهك، بالكلمة الطيبة، بالهدية، بالسخاء، بالكرم، بالجود، بالدأب والاستمرار والإصرار والتواضع، واطمئن إلى أن العاقبة للتقوى كما أخبر الله عز وجل.(28/25)
مادة ذات لون أسود توضع على الأظافر
السؤال
هناك مادة مثل الحناء ذات رطوبة تخض وتوضع على الأظافر بدلاً من المناكير، فما حكمها للمرأة المصلية، وهي ذات لون أسود؟
الجواب
إن كانت هذه المادة لها جرم يمنع وصول الماء فلا يجوز ذلك، أما إذا كانت مجرد لون كالحناء مثلاً فلا حرج فيه.(28/26)
إعادة الوضوء
السؤال
شخص توضأ للظهر، وبقي على طهارته إلى العصر، ولكنه لم يصل بهذا الوضوء، وراح يتيمم بحجة أنه لم ينو هذا الوضوء؟
الجواب
لا يصلح هذا.
الخاتمة:- أسأل الله تعالى في ختام هذا المجلس أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم إنا نبرأ إليك من أنفسنا وذنوبنا ومعاصينا وأخطائنا.
اللهم انصرنا على عدوك وعدونا، اللهم افضح المنافقين من العلمانيين وأعداء الدين، اللهم افضحهم وأظهر أسرارهم، اللهم اجعل ولاءنا لك ولرسولك وللمؤمنين، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لكونن من الخاسرين، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم، اللهم صل على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً مباركاً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(28/27)
زيارة الصالحين
السؤال
ما رأيكم فيمن يعتقد أن زيارة الصالحين والعلماء وتكون شفاعةً له يوم القيامة، هل هذا من الشرك؟
الجواب
زيارة الصالحين مشروعة، وفي صحيح مسلم: {إن رجلاً زار أخاً في قرية فأرصد الله تعالى على مدركته ملكاً فقال له: أين تريد؟ قال أريد أخي فلان، أزوره في الله عز وجل، قال هل لك عليه من نعمة تردها عليه، قال لا: غير أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله تعالى إليك، أن الله تعالى يحبك كما أحببته فيه} فزيارة الصالحين خير وبركة وهي قربة إلى الله عز وجل.(28/28)
انتقاد الجماعات
السؤال
ما رأيك في الذي يقول: الدين تشعب، والدعوة السلفية والإخوان المسلمون هذا تشعب؟ وما أصح هذه الدعوات وأقربها إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف ندعو إلى الحق، وهذا لابد أن يكون في أحد هذه الدعوات؟
الجواب
هذا ليس بلازم، فإن أولاً: كل من دعا إلى الله عز وجل، داخل نحن إطار أهل السنة والجماعة، ولا ارتكب بدعة غليظة يخرج بها عن مسمى أهل السنة، فهو إن شاء الله إلى خير، ولا ينبغي أن نفرق المسلمين أو أن يكون النيل من فلان أو من علان؛ لأننا أمام عدوٍ كافر نحتاج إلى أن نوحد كلمتنا إزاءه وأن لا يشتغل بعضنا ببعض، وإن كان مثل هذا لا يمنع من النصيحة والتنبيه على الأخطاء الموجودة عند هذه الطوائف التي أشار إليها السائل، فما من جماعة إلا وعندها صواب اجتهدت ووفقت فيه، وعندها خطأ اجتهدت ولم توفق فيه، فنحن نسعى إلى تثبيت الصواب الذي عندها وإزالة ومحو الخطأ الذي وقعت فيه بالحسنى وبالكلمة الطيبة وبحسن الظن، وأما الهجوم والتشفي والشتم والسب، فلا أرى أنه من وسائل الدعوة في هذا الوقت، ولا في أي وقتٍ من الأوقات، والحق الذي سأل عنه الأخ ليس بلازم أن يكون عنده طائفة بعينها، بل قد يكون بعض الحق عند هؤلاء، وبعضه عند هؤلاء، وبعضه عند هؤلاء، والحق ضالة المؤمن أينما وجده أخذه.(28/29)
خروج النساء متبرجات
السؤال
ما حكم خروج النساء إلى الأسواق متبرجات وكشف الأيدي ولبس البرقع بالنسبة للنساء؟
الجواب
خروج النساء إلى الأسواق متبرجات لا يجوز بحالٍ من الأحوال؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] فالمرأة المؤمنة مطالبة بألا تتبرج بالزينة عند رجلٍ أجنبي، ولا يجوز للمرأة أن تخرج متبرجة أو متطيبة، حتى أفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في السنن، بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجالٍ ليجدوا ريحها فهي زانية} وليس معنى زانية أنها وقعت في الزنا الذي هو الفاحشة لكن هذا هو نوع من الزنا، كما في الحديث الآخر: {العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع والفم يزني وزناه القبلة -وفي رواية الكلام- واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} فهذا نوعٌ من الزنا لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقع فيه، وهي تخاف الله عز وجل.(28/30)
الأناشيد
السؤال
ما حكم الأناشيد في الإسلام مع ذكر الأدلة؟
الجواب
الأناشيد تجوز بشروط: الأول: أن تكون المعاني التي احتوت عليها الأناشيد معاني شرعية ليست فيها بدعة ولا محرم ولا منكر.
الثاني: أن لا يكون معها ضربٌ بالطبل، أو الموسيقى من آلات اللهو.
الثالث: أن لا تغلب على الإنسان، وتكون كل همه، لما رواه البخاري في صحيحه: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً} أما الدليل على جوازها -فهذا معروف- فالرسول صلى الله عليه وسلم، كان يوصي حسان بن ثابت أن يشعر في المسجد، كما في سنن الترمذي، وقال: حسن صحيح، فيقوم عليه، وينشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري في الصحيح {أن حساناً رضي الله عنه كان يمشي وهو يشعر فمر به عمر رضي الله عنه، فلحظه بعينه فقال حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهو شعر حسنه حسن، وقبيحه قبيح} .(28/31)
متابعة الأخبار
السؤال
بعض الناس همه متابعة قرارات مجلس الأمن، هل تكون كذا أم كذا، وقد يعتمد على صوت أمريكا؟
الجواب
بالنسبة لمتابعة الأخبار، فالمسلم مطالب أن يتابع الواقع ويدري ما يجري في الدنيا، أما الاعتماد على هذه الأشياء، فالإنسان ينبغي أن يكون أكبر منها، ويدرك أننا ولله الحمد، عندنا من الانطلاق بالفكر والنظر والإيمان، ما يجعلنا أقدر منهم في أن نتصور الأحداث، ولو كانوا يملكون من الوسائل والإحصائيات ومراكز المعلومات ما يملكون.(28/32)
الغش
السؤال
طالب مسلم كسائر الطلاب ولكني امتنعت عن الغش، وأنا ولله الحمد لا أغش، لكن المشكلة أننا الذين لا نغش نأخذ درجات ضعيفة، وأما الذين يغشون فهم ينالون درجات عالية؟
الجواب
هذه ضريبة التمسك بالدين يا أخي الكريم -إن صح التعبير- هذا الذي تدفعه دليل على أنك مستعد أن تتخلى عن ذلك، أليس المسلم يدفع الزكاة، والكافر لا يدفعها فأنت لماذا تخرج المال؟ لكي تنال ما عند الله عز وجل، أليس المسلم يتخلى عن شهوته لابتغاء مما عند الله؟! أنت كذلك قد تتخلى عن درجات، أو عن مستويات عالية، تبتغي ما عند الله عز وجل، مع أنه ينبغي للطالب المسلم أن يكون مجتهداً مبرزاً بين زملائه وأقرانه.(28/33)
الدعاء للكافرين ودورنا في الأحداث الراهنة
السؤال
ما هو دور المسلم في الأحداث التي تمر بها الأمة؟ وما هو دورنا في الهجعة الشرسة على المرأة المسلمة؟ وما حكم من يقول: الله يعز رئيس دولة كذا وكذا، وهي دول كافرة عدوة للإسلام والمسلمين؟
الجواب
أما الدعاء للكفار بالعز، فهو -والعياذ بالله- من أبشع صور الموالاة للكافرين، لأن عز الكافرين ذل للمسلمين، وهذه قاعدة ومعادلة لا تختلف أبداً، عز الكافر ذل للمؤمن، فإذا دعوت بعز الكافرين، فهذا بحقيقة الأمر ذل للمؤمنين، فليتق الله من قال هذا، وليقل: أتوب إلى الله، قبل أن تقبض روحه على هذا الحال.
أما الهجمة الشرسة على المرأة المسلمة، فالدور كبير -ولعله سبق الكلام بشيء من ذلك- لكن علينا دور تجاه هذه الحملة: تجاه نسائنا، وتجاه أختك وزوجتك وقريبتك في البيت، ثم دور أكبر تجاه النساء في المجتمع، بقيام الحلقات العلمية والدروس وتنشيط المحاضرات في مدارس البنات، والمحاضرات في المساجد، خاصة بالمرأة -أيضاً- وننشر الكتب التي تتعلق بالمرأة، ومحاولة إيصالها إليهن بكل وسيلة.
أما دور المسلم في الأحداث، فإنه دور كبير، ولعل من أهم الأدوار: أولاً: التضرع إلى الله تعالى والتوبة إليه.
ثانياً: العمل على إزالة المنكرات الموجودة في المجتمع، فإنها أسباب الخروج من هذه الأزمات وثالثا: تثبيت الناس، لأن الناس في حالة ارتباك، وتضعضع، واختلال في المفاهيم، واضطراب في الولاء والبراء ومعرفة العدو من الصديق، وخوف شديد يحتاجون إلى من يثبتهم ويطمئنهم ويقول لهم بملء فمه: إن المستقبل للإسلام، وإن المستقبل لهذا الدين، وأنكم أيها المسلمون لغانمون ومنصورون بإذن الله عز وجل.(28/34)
التعامل مع البنوك الربوية
السؤال
لا شك بحرمة التعامل مع البنوك الربوية، ولكن نحن موظفون، ونجبر على استلام رواتبنا من إحدى هذه البنوك، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا أُجبرت فلا شيء عليك، ولك أن تأخذ راتبك من هناك.(28/35)
صلاة المسبل
السؤال
هل تقبل صلاة المسبل؟
الجواب
جاء في صلاة المسبل حديث عند أبي داود، عن أبي هريرة قال: بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ ثم جاء، ثم قال: اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال له رجل: يا رسول الله، مالك أمرته أن يتوضأ؟ ثم سكت عنه فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله جل ذكره لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره} ولكن الحديث ضعيف، فيه رجلٌُ اسمه أبو جعفر من أهل المدينة وهو مجهول فالحديث ضعيف، لكن الإسبال لا شك في تحريمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في البخاري: {ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار} وفي الحديث الآخر: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب إليم وذكر منهم المسبل} .(28/36)
الدعاء بالشفاعة
السؤال
هل يجوز أن نتوسل بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تقول: إنا أن ندعوك بشفاعة رسول الله؟
الجواب
إذا دعوت الله تعالى أن يشفع فيك نبيه صلى الله عليه وسلم، مثل أن تقول: اللهم شفع فيَّ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم فلا حرج بذلك.(28/37)
البيع للكفار
السؤال
ما حكم بيع ما يحتاج إليه أفراد القوة الأجنبية من الحوائج؟
الجواب
أرى أنه لا بأس من أن يبيع لهم الإنسان ما يحتاجون إليه، لكن مع بغضهم، ومعرفة أنهم أعداء، كما أخبر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] .(28/38)
الكلام في العلماء
السؤال
كثير من الناس أصبح همه وأكثر كلامه في العلماء، فبماذا تنصحوننا أن نقرأ؟ وبماذا تنصحون هؤلاء؟
الجواب
في الواقع أن العلماء الذين أذعنت الأمة لعلمهم وفقههم وفهمهم قد جاوزوا القنطرة، ولا يضرهم من تكلم فيهم، لأنهم قد اتفقت الأمة عليهم، وتوحدت كلمتها إجمالاً، ولا يعني هذا أنهم معصومون، لكنهم إن أخطئوا فهو باجتهاد فَهُم مأجورون إن شاء الله، ولهم فيه تأويل سائغ، فلا ينبغي النيل من العلماء، ولا التعرض لأعراضهم وجعلهم ديدناً وهماً للإنسان، وينبغي أن يخاف العبد من العقوبة التي أشار إليها ابن عساكر حين قال: "اعلم أخي أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله تعالى في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالثلم، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت قلب".(28/39)
حديث إلى معتمر
العمرة إلى بيت الله مكفرة للذنوب، والمسلم محتاج إلى ذلك، بل قد قال بعض أهل العلم بوجوبها.
وفي هذا الدرس بيان مختصر واضح سهل لأعمال العمرة وبعض ما يحرم على المحرم.(29/1)
فضل العمرة
حمداً لله تعالى حمد الشاكرين، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمدٍ أفضل الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد: طلب مني كثيرٌ من الإخوة والأخوات، أن أتحدث عن بعض مسائل العمرة وما يتعلق بها.
والكلام في موضوع العمرة طويلٌ وطويل، ولكنني أوجزه في عدة أمور منها: فضل العمرة: يقول الباري جلَّ وعلا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وهذا فيه إشارةٌ إلى فضل العمرة، ووجوب إتمامها على من دخل فيها، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة} فذكر عليه الصلاة والسلام أن العمرة من كفارات الذنوب، والمقصود بذلك الصغائر من الذنوب، أما الكبائر فإن جمهور أهل العلم وأهل السنة والجماعة على أنه لا يكفِّرها إلا التوبة النصوح، لقوله عز وجلَّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] .
بل العمرة في رمضان خاصة لها مزيةٌ كبرى، ففي الصحيحين من حديث أم العلاء الأنصارية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: {إذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرةً في رمضان تعدل حجة} وفي رواية للبخاري وغيره: {فإن عمرةً في رمضان تعدل حجة معي} أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فإنك إذا ذهبت معتمراً مُهلِّاً لذي الجلال والإكرام في هذا الشهر الكريم، قائلاً لبيك عمرة، كتبك الله تعالى -إن كُنت مخلصاً- كما لو كنتَ لبيت بالحج مع سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وكما لو كنت طُفتَ معه بالبيت، وسعيت معه بين الصفا والمروة، ورميت معه الجمار، ووقفت معه بعرفة، وبِتَّ معه بمزدلفة ومنى، فأي خيٍر أعظم؟ وأي فضلٍ أوسع وأوفر وأكرم من هذا الفضل العظيم، والخير الكثير الجزيل؟ قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] .
فلا يفوتنك -يا أخي المسلم- ولا تفوتنكِ -يا أختي المسلمة- هذه الفضائل في هذا الشهر الكريم، فإنه موسم الخيرات، وهو راحل عما قريب، وقد تدركه العام ولا تدركه عاماً آخر، فالبدار البدار إلى تدارك هذه الفرص وعدم تفويتها: بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفُرص واغتنم مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الصُبح قَنص فهذا صيد الآخرة، فبادره مع الصباح، قبل أن تطير الطيور بأرزاقها، ويفوتك ما وعد الله مما وعد به العاملين المخلصين الجادين، فاحرص أن تكون منهم.(29/2)
صفة العمرة باختصار
صفة العمرة باختصار:(29/3)
الحلق أو التقصير
ثم بعد ذلك يحلق أو يقصر، والحلق أفضل من التقصير، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين واحدة، فقال: {اللهم ارحم المحلقين.
وفي روايةٍ: اللهم اغفر للمحلّقين.
قالوا: والمقصرين، قال في الثالثة: والمقصرين} .
فالحلقُ أفضل والتقصير مجزئٌ.
فإذا فعل ذلك فقد تمت عمرته، ويجب أن يكون متطهراً في الطواف، أما في السعي فلا يشترط فيه الطهارة، فلو سعى وهو غيرُ متطهرٍ جاز وأجزأه ذلك.(29/4)
السعي بين الصفا والمروة
ثم يذهبُ إلى الصفا، فيرقاه ويقول: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فإذا رقاه استقبل البيت، فرفع يديه وكبَّر وهلَّل، ودعا بما أحب، ثم كبر وهلل، ويقول: "الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
ثم يدعو، ثم يكرر هذا الدعاء، ثم يدعو، ثم يكرره ثم يدعو.
ثم يمضي إلى المروة، فإذا حاذى العلم الأخضر ركض شدّاً، وهو في وادي الأبطح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يقطع الأبطح إلا شدّاً} أي: ركضاً وبسرعة.
ثم يمشي إلى أن يصل إلى المروة، فيرقاها ويستقبل البيت، ويدعو كما دعا عند الصفا، وهكذا حتى ينتهي من الأشواط السبعة.(29/5)
ركعتا الطواف والشرب من زمزم
ثم إذا انتهى من الأشواط السبعة؛ فإنه يذهب خلف المقام ويصلي ركعتين، وهما ركعتا الطواف، وهما سُنةٌ عند كثير من الفقهاء، ويقرأ -استحباباً- في الركعة الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
ثم يشرب من ماء زمزم، وهو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: {طعام طُعمٍ وشِفاءُ سُقمٍ} كما في صحيح مسلم، وفي حديث آخر صحيح: {ماء زمزم لما شرب له} فيشربه ويتوكل على الله تعالى، ويدعو الله تعالى أن يكون خيراً له وبركةً في دينه ودنياه.(29/6)
الطواف
ثم يأتي إلى البيت فيجعله عن يساره، مُبتدئاً من عند الحجر الأسود، ويطوف سبعة أشواط، ويبدأ الطواف بقوله: "بسم الله والله أكبر".
ثم يكبر ويشير بيده اليمنى في بقية الأشواط، ويستحب أن يقول ما بين الركن والمقام: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"، ويدعو في الطواف بما أحب من خير الدنيا والآخرة، وإن قرأ شيئاً من القرآن فحسن، وليس للطواف دعاء يخصه، وما يتناقله الناس أو يقرءونه من الكتب فهذا مما لا أصل له، وينبغي نهي الناس عنه وتعويدهم على تركه، وعلى أن يدعوا بما أحبوا من خير الدنيا والآخرة، من صدورهم لا من كتب يقرءونها قد خُصص فيها لكل شوط دعاءٌ خاص.
فإذا استطاع أن يستلم الركن اليماني؛ مسه بيديه وكبَّر، وإن لم يستطع مرَّ من عنده ولا يُكبر، فإذا أتى الحجر الأسود قبله واستلمه وكبر.(29/7)
الإحرام
أن يحرم الإنسان بالعمرة من أحد المواقيت المكانية المعروفة، وهي معروفة مشهورة، وأماكنها معروفة أيضاً، فيحرم بالعمرة بعد أن يتجرد من المخيط ويتطيب ويتنظف، قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك عمرة.
فيُحرم بالعمرة، وكذلك المرأة حتى لو كانت حائضاً أو نفساء؛ فإنها تحرم بالعمرة من الميقات، ولكنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر من حيضها أو نفاسها، فإذا طهرت اغتسلت، ثم طافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة، وهذا مما يخفى على كثير من النساء.
ومن تجاوز الميقات دون أن يُحرم، سواء كان بالطائرة أم بالسيارة، فإن عليه إذا وصل إلى جدة أو إلى أي مكان، وأراد العمرة -وقد كان نواها من الأصل- عليه أن يخرج إلى الميقات فيحرم منه، فإن لم يحرم من الميقات بل أحرم من موضعه، فقال كثيرٌ من أهل العلم: عليه دم، وهو بلا شك آثم بفعله ذاك.
أما من لم ينوِ العمرة أصلاً، فإنه يحرم من أدنى الحل، أي إذا طرأت عليه نية العمرة وهو بمكة؛ فإنه يحرم من أدنى الحل كما قال أهل العلم.
فإذا أحرم الإنسان لبَّى حتى يصل إلى البيت، فإذا دخل إلى البيت قدَّم رجله اليمنى قائلاً: "بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم".
وهذا الدعاء يُشرع أن يقوله عند دخول كل مسجد، وكذلك عند دخول المسجد الحرام.(29/8)
أخطاءٌ تقع للمعتمرين
وهي كثيرة جدّاً، فمن ذلك أن بعضهم يسافرون إلى العمرة ويتركون أعمالهم الواجبة، فقد يترك أحدهم عمله الوظيفي المنوط به، بل والذي تتعلق به بعض مصالح المسلمين، وهذا خطأٌ كبير؛ فإن الإنسان ينبغي أن يقدم الفرض على النفل، والله تعالى لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة.
وينبغي أن تعلم -أيها المسلم- أن قيامك بوظيفتك وخدمتك للمسلمين بنية صالحة، خاصةً إذا كُنت في مرفق يحتاجون إليك، أن هذا من الأعمال العظيمة المقربة إلى الله تعالى، وليست القضية مجرد عمل تتقاضى عليه مُرتباً، بل أنت تخدم فيه إخوانك المسلمين، وتقدم إليهم ما يحتاجون، فأنت بهذا مأجورٌ مثاب.
ولا داعي لأن تحتال على الأنظمة للخلاص منها والفرار؛ بحجة أنك تريد أن تؤدي العمرة، والعمرة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل حجة، يمكن أن تتم خلال أربع وعشرين ساعة، فخلال إجازة الخميس والجمعة -مثلاً- مع مساء الأربعاء، بل ما هو دون ذلك، تستطيع أن تذهب وتأتي بعمرة، وقد يكون معك أهلك أو والداك أو أحدهما يشاركونك في هذا الفضل.(29/9)
إفراط الآباء في الثقة بأبنائهم
إن مما ينبغي أن يتفطن له الآباء، وأولياء الأمور والشباب: أن كل واحدٍ منا يحسن الظن بأخواته، ويحسن الظن بزوجته، ويحسن الظن ببنته، لأن البنت أمام والدها خجولة حيية، وهذا طبع، وفيها خجلَّ فطري فعلاً، ولو تكلم أبوها في الزواج -مثلاً- لطأطأت رأسها وخجلت، ولم تستطع أن ترد عليه، ولهذا جاء في الحديث {إذنها صمتها} أي: إذا استشيرت في شخصٍ معين صمتت، فيظن الأب أن هذه البنت إذا كانت تخجل من الزواج الذي هو على كتاب الله وسنة رسوله، فهي أولى أن تكون بعيدةً عما يسخط الله تعالى في غيره، فيبالغ في حسن الظن، ويدع لها الأمر كله، فلا يتفطن لذلك، فالهاتف بمتناول يدها، وتخرج متى ما شاءت، وتدخل متى ما شاءت، وتفعل ما شاءت، وتخرج للسوق إلى غير ذلك.
وهذا خطأٌ كبير؛ لأن البنت إذا غاب عنها والدها، وأخوها، ومحرمها، وزوجها، وكانت في السوق وتناولتها ذئاب بشرية وتعرضت لها؛ فإنها قد يوسوس لها الشيطان، وقد يزين لها من ترى، فيصور لها أنه خيرٌ لها من زوجها، أو خيرٌ لها من غيره، وكذلك قد لا تكون راغبةً هي، ولكن الشيطان يغري غيرها بها، فربما أوذيت في نفسها ولو بالكلام، في شيءٍ لا تريده هي، وكم جاءتني من أسئلة واستفسارات من نساء كثيرات، يشتكين أموراً حصلت لهن في أطهر البقاع، أقولها لكم صريحة حتى تتفطنوا، وهنَّ في المطاف أو عند رمي الجمار، أو في المسعى، في الأماكن الفاضلة التي اختارها الله تعالى واصطفاها.
نسأل الله تعالى بمنه، وكرمه أن يتوب على جميع عصاة المسلمين، وأن يهديهم إلى الحق، ويردهم إليه رداً جميلاً، ونسأله جلَّ وعلا أن يرزقنا وإياهم تعظيم حرمات الله، وتعظيم شعائره، والبعد عما يسخطه.
لكن هذا لا يمنع أن يوجد من يستهويهم الشيطان، من ضعاف النفوس، وضعاف الإيمان، ففي مثل هذه البقاع الطاهرة، والأماكن النظيفة، والأوقات الفاضلة أيضاً، قد يحصل ما لا تحمد عقباه، بعمدٍ أو بغير عمد.
إذاً: الإفراط في الثقة والمبالغة أمرٌ مذموم، وينبغي للإنسان أن يتفطن لمن تحت يده، ومن ولاه الله تعالى أمرهم من البنين والبنات، فيتعاهدهم بالنصح والإرشاد والتوجيه، والتذكير بالله وباليوم الآخر، وبعقاب الله تعالى للمخطئين والمعاندين والمقصرين، ولا يبخل عليهم أبداً ولا ييئس، ومع النصح والتوجيه والإرشاد؛ لابد من المراقبة.
وأقولها صريحةً: لا بد من المراقبة للكبير والصغير، حتى المتدين لا يمنع أن يراقَب، لأن الشيطان لا يمكن أن يقول هذا إنسان متدين ولا حاجة لي به، إذا كان يغري الإنسان المنحل بالفاحشة؛ فهو قد يغري الإنسان المتدين بما دون ذلك، وأقل ما يغريه به النظر الحرام، والنظر الحرام يجر إلى ما بعده.
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ وقد رأينا أن الشيطان أفلح ووصل حتى ببعض الأخيار، فأوصلهم إلى بعض الأمور التي ما كانوا هم يتصورون أن يصلوا إليها، ولكن المسألة مسألة خطوات الشيطان، فينبغي المراقبة حتى للكبير.
وكنتُ ذكرت لبعض الإخوة في بعض المناسبات؛ أن هناك وزيراً في إحدى الدول العربية بلغ الستين من عمره، وفي إحدى المرات أجروا معه مقابلة، فكان يقول: إن والدي لا يزال حياً، وإنه لا يزال يراقبني بدقة حتى الآن، الولد عمره ستون سنة الآن، وأصبح جداً، ووزيراً، وتجاوز فترة المراهقة بمراحل كثيرة، لكنه يقول: لا يزال والدي يراقبني فكلما أردت أن أخرج من البيت، استوقفني وقال: إلى أين يا ولدي؟ فأقول له: يا أبتِ سوف أذهب إلى عملي في الوزارة، أنا وزير.
فيقول: ساعدك الله، ويدعو له ثم يخرج.
يقول: فإذا تأخرت وجئت في وقتٍ غير مناسب، أو متأخر عن الوقت المعتاد، أوقفني وقال: لماذا تأخرت يا ولدي؟ فأقول له: يا أبتِ، تأخرت بسبب حركة المرور، وشدة الزحام، واضطررت أن أتأخر ساعة، أو نصف ساعة، أو أقل أو أكثر.
فيقول: حياك الله والحمد لله على السلامة.
وما يزال الولد ملتزماً بهذا النظام الرتيب، وكذلك الأب، فيلزمك إذا كان ابنك في الثامنة عشرة، أو التاسعة عشرة أو العشرين أو بنتك؛ أن تكون شديد المراقبة لهم، وشديد اليقظة.
وليست القضية سوء ظن أو اتهام، بل القضية أولاً: أننا لا نحسن الظن أبداً بالشيطان، ونعرف أن الشيطان مسلط على كل بني آدم.
ثانياً: إن الشيطان يملك من الوسائل والحيل والأساليب الشيء الكثير، وبناءً عليه فلا نحسن الظن بالشيطان، ولا نتوقع أن أولادنا أو بناتنا معصومون من وسوسته وكيده، بل ما من إنسان إلا وقد سلط عليه الشيطان، ومن أجل هذا؛ نراقبهم، ونحاسبهم، ونسائلهم، ونناصحهم، ونبذل الوسع لهم، ولأن تجلس في بيتك يا أخي، لمراقبة أولادك وبناتك وذكر الله تعالى، والصلاة في المساجد، خيرٌ لك من أن تذهب إلى مكة، حيث اجتماع الناس، والكثرة الكاثرة.
فإذا كنت تعلم أنه يصعب عليك أن تحافظ على أهلك وأولادك وبناتك، وأنه لن تستطيع ولن تتمكن أن تراقبهم، وتطمئن إلى سلامة سلوكهم واعتدال تصرفاتهم؛ فالجلوس في البيت لمراقبة الأبناء أفضل وأخير.(29/10)
واجب أولياء الأمور
نحن نعلم أن كثيراً من الشباب والفتيات فيهم خيرٌ وفيهم دينٌ، ولن يكون هذا في نيتهم، ولكن الشيطان لا يزال يجرهم خطوةً خطوة، وشيئاً فشيئاً حتى يوقعهم، والله تعالى قال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168] ، فهي خطوات، وكل واحدة تجر إلى التي تليها، فليتقِ الله المسلمون والمسلمات، وليبعدوا عما حرم الله، وليتقِ الله أولياء الأمور فيمن ولاهم الله تعالى أمرهم من الأولاد والبنات، وليراقبوهم، وقد حصل مراتٍ ومراتٍ أن يقع للولد أو للبنت مشكلة، وقد يقبض عليه -أحياناً- من قبل بعض الأجهزة والوسائل، والأب ربما كان جالساً بعد صلاة الفجر في الحرم، يقرأ القرآن ويذكر الله تعالى ويدعوه.
فأولى لك يا أخي ثم أولى؛ أن تعتني بأولادك وبناتك، وتراقبهم من كيد الشيطان ووسوسته، ومن شر شياطين الإنس والجن، وتطمئن على سلامة سلوكهم واعتدالهم، من أن تقبل على قراءة القرآن والذكر، وتتركهم لحالهم وما يصنعون.
وأحسن ما تفعل أن تقول لهم: لا آذن لكم بالخروج إلى الحرم، لكن للأسف أنت لم تأذن للبنات بالخروج إلى الحرم، لكنك أذنت لهن بأن يخرجن إلى السوق.
ولعل الكثير يعرفون ماذا يقع في أيام الأعياد، من تزاحم الناس في الحرم، وفي الساحات المحيطة به، التي زينت للرجال والنساء، بالطيب والعطور النفاذة التي تنادي من مكانٍ بعيد، ولا أحد يستطيع أن يدفع أحداً عن القرب منه، ويحصل من جراء ذلك أمورٌ الله تعالى أعلم بها، فينبغي أن يكون العاقل حريصاً على وقاية نفسه، وعلى وقاية من تحت يده، من مثل هذه الأمور؛ بشدة الحرص، والتعاهد، وبكثرة النصح.
تقول ماذا أصنع؟ أقل ما تملكه تعاهدهم بالنصيحة الدائمة، والتذكير الدائم، والتخويف الدائم.(29/11)
حال البنات والفتيات
أما البنات، فقد تكون البنات أيضاً من الفتيات الصالحات، الدينات الصينات، والكريمات العفيفات، وما أكثرهن بحمد الله! وما أطيب الحديث عنهن! فهؤلاء النساء الطيبات، تجد أن الواحدة متعففة ومتحجبة، إن خرجت لا تخرج إلا لحاجة للحرم، أو لحاجة لا بد منها، فإذا خرجت تجدها بعيدة عن الزينة والطيب، وتجدها تلبس القفازين في يديها، وجوارب في رجليها، وعباءة فضفاضة، وتستر وجهها بغطاءٍ طويل، وتبعد عن الرجال وأماكن ازدحامهم، وتذهب لتصلي أو تعبد الله، أو تسأله أو ترجوه، أو تخرج لحاجةٍ لا بد لها منها، وتحرص على أن لا تخرج إلا ومعها أحد، يبعد عنها الأعين النهمة، والذئاب الجائعة، والسباع الضارية، فإن كانت بناتك من هذا الصنف فالحمد لله.
أما إن كنتَ تعلم أن بناتك لسن كذلك، أو كنت ممن يحسن الظن ببناته وأولاده، فيظن أنه لا أطيب ولا أحسن منهن، ولا يدري ما الأمر عليه فهذه مصيبة.
فبعض الفتيات -هداهن الله- يخرجن إلى الأسواق كثيراً، ويتجولن في الدكاكين والمحلات، ونحن جميعاً نعرف مكة وأزقتها، وشوارعها الضيقة، بعض الأماكن التي توجد فيها الدكاكين في مكة، لو التقى فيها اثنان لتضايقا، والدكاكين أضيق وأضيق، مع أنها أماكن ازدحام، وأوقات ازدحام، وفيها كثرة، وكثيرٌ ممن فيها إنما هم يتسكعون فقط، ليسوا يتسوقون لغرض، وإنما يذهبون إما للفرجة، وإما لأغراضٍ أخرى، فيحصل من جراء ذلك الازدحام، وتلاصق الأجساد وتلامسها، وبعض المغرضين ومرضى القلوب يجدون في ذلك بغيتهم وضالتهم، وقد رأينا وسمعنا واطلعنا من ذلك على أمور يندى لها الجبين، ويستحي الإنسان من ذكرها، والحمد لله على ستر الله، ولكننا ننبه الإخوة من أولياء الأمور والشباب، وننبه النساء والفتيات أيضاً إلى ضرورة الحذر من ذلك كل الحذر.
وبعض الفتيات قد تذهب للحرم، ولكنها تذهب متزينة متطيبة، فتفتن الناس، وتفتن الشباب، وقد رأيت بعيني مجموعات من الشباب، شدوا أحزمتهم وحقائبهم، وأزمعوا الرجوع من مكة، فقلت لهم: لماذا ترجعون بعد أن أصبح الناس يأتون؟ قالوا: لا قبل لنا بما نرى من هذه الفتن، التي هي كقطع الليل المظلم، نريد أن نخرج ونعود إلى بلادنا.
فهؤلاء الشباب، تُحرك الشهوات في قلوبهم، وتُثار كل الغرائز في نفوسهم، ويُصدون عن الحرم وعن البيت العتيق، ويُمنعون من العبادة والذكر بسبب فتاةٍ مراهقة لم ترزق ديناً يردعها، ولم ترزق ولياً يُعلِّمها ويقوم عليها، فأصبحت تتزين وتتطيب، وتخرج إلى الأماكن وإلى الأسواق، بل وإلى الحرم، فتزاحم الناس في المطاف، وفي أوقات الازدحام والضيق، والإنسان ربما لا يلجأ إلى المطاف في مثل تلك الأوقات إلا لطوافٍ واجب لابد منه.
أما الطواف النفل فيتحرى له الأوقات التي لا يكون فيها ازدحام، ولا يكون فيها ضيق، ولا يكون فيها كثرة من النساء، أما أن امرأة فتاة شابة، تطوف في أوساط الرجال وبينهم، فمثل تلك الأوقات ما أظن أن هذا مما يتقرب به إلى الله تعالى، خاصةً إذا علمنا ما بُليَ به الناس اليوم من كثرة الفتن والشهوات والمغريات، فليتقِ الله أولئك النساء، وليتقِ الله أولياء أمورهن.
وكذلك بعض الفتيات قد تفعل ما يفعله الشباب، فتعاكس بالهاتف من خلال كبينات الهاتف الموجودات حول الحرم أو غيرها، وقد تركب مع أجنبيٍ عنها، وقد ترتكب ما نهى الله عنه، وقد تعاكس بعض الشباب في الشوارع، أو من خلال البلكونات، أو من خلال النوافذ، أو من خلال وسائل أخرى غير هذه، أو ترمي عليه رقم هاتف أو رسالة أو ما أشبه هذا، فهؤلاء لم يذهبن للأجر، ولكن كما قال الشاعر: من اللائي لم يحججن يبغين حجةً ولكن ليقتلن البريء المغفلا أين تقوى الله؟! أين خوف الله؟! أين مراقبة الله؟! ومثله المزاحمة عند أبواب الحرم دخولاً وخروجاً؛ لأن الناس يخرجون دفعةً واحدة، عند صلاة المغرب، وبعد صلاة التراويح، وفي سائر الأوقات، وبعد صلاة الفجر أيضاً، ويكون هناك ازدحام بين الرجال والنساء، وليس هناك فاصلٌ بينهم، بل في كثير من الأحيان يلتقون في بابٍ واحد، ويقع ازدحام وتلاصق بالأجساد.
فالحياء والدين والورع وخوف الله تعالى يمنع الإنسان من مقارفة ذلك كله، أو القرب منه، وينأى ويبعد بنفسه وبمن تحت يده من المحارم والنساء، خاصةً من الفتيات الشاباب وكذلك الفتيان الشباب، يبعدهم عن ذلك كله، فإن الشيطان يجر أقدام الجميع رجالاً ونساءً إلى ما يسخط الله تعالى، والشيطان لا يستحي من أحد، ولا يوقر أحداً، ولا يرعى حرمة للبيت العتيق ولا لغيره.(29/12)
من منكرات الأخلاق
إن كثيراً من الناس يذهبون بقضهم وقضيضهم من أول رمضان، أو في العشر خاصة، ويجلس الأب هناك، قد يكون الأب متعبداً لا يخرج من المسجد إلا لِلعَشَاء والسحور، ويترك بعد ذلك بناته وأولاده وزوجاته، لا يدري ماذا يصنعون ويفعلون، بل أشد وأنكى من ذلك، أنه يمنعهم من الذهاب إلى الحرم، ثم لا يدري ماذا يصير لهم بعد ذلك.(29/13)
حال الشباب
أما الشباب فمنهم -لا شك- الصالحون والأخيار والفضلاء، الذين يراوحون بين صلاةٍ وذكرٍ وقراءة قرآن، وقيامٍ وتراويح، وغير ذلك من الأعمال الفاضلة الصالحة، فإن كان أولادك من هذا الصنف فلا حرج عليك إن شاء الله، لكن قد يكون بعض الأولاد من المراهقين الذين يتسكعون في الشوارع ويتجولون، ويذهبون إلى الأسواق، ويذهبون إلى مداخل الحرم، ويزاحمون الناس في أماكن كثيرة، ويضيقون على عباد الله، بل يحصل منهم أذى للناس بالقول وبالفعل، وقد يركبون السيارات، وقد يضايقون المارة، ويحصل منهم أشياء كثيرة، فتصبح ذهبت من أجل الحصول على الأجر، وتسببت في إثمٍ لنفسك ولغيرك، ولم تعهد أولادك بالتربية.
وقد يحصل أن هؤلاء الأولاد يلتقي بهم سفهاء آخرون من أهل مكة، أومن الطارئين عليها من البلاد الأخرى، فيتعارفون ويتبادلون ما بينهم من الأخلاق الضارة والعادات السيئة، فيأخذ بعضهم عن بعض، مثلاً: ارتكاب الفواحش، أو سماع الغناء، أو تعاطي المخدرات، أو صحبة الأشرار، أو التدخين على أقل تقدير، ويقع من جراء ذلك شرٌ كثير، وقد يحصل أن هؤلاء الشباب -وقد تركهم والدهم وأهملهم- يقفون طوابير عند كابينات الهاتف، فيكلمون ويتصلون ببعض البيوت، ويزعجون أهلها، وقد يحصل منهم معاكسات هاتفية، ومغازلات للنساء، وأحاديث لا ترضي الله، والأب غافلٌ عن ذلك كله لا يدري ماذا يجري.
وهذا لا يجوز، فإنه مسئولٌ عنهم، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فهذه رعيتك ماذا صنعت بها؟ لقد تركتها ترعى في المرعى الأسن غير النظيف، وأنت غافلٌ لاهٍ، هذا لا يليق ولا يجوز.(29/14)
الذهاب بالخدم
ومن الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الناس: أنهم يذهبون بخدمهم، وقد يكون معهم خادمة غير مسلمة، وقد اطلعت على شيءٍ من هذا، إما كافرة، أو نصرانية، أو بوذية أو وثنية، فيلبسونها الحجاب والجلباب والعباءة، وتصبح كما لو كانت من نسائهم، وتمر من عند نقاط التفتيش على أنها من بعض أهل البيت، ولا يعرفون وجودها، مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .
والمسجد الحرام قيل هو الحرم كُله، وقيل هو البيت الحرام "الكعبة وما حولها"، فلا ينبغي لهم أن يذهبوا بمن ليس بمسلم إلى تلك الأماكن الطاهرة، هذا فضلاً عن أنها تصحبهم وهي ليس معها محرم، وهذا أيضاً مخالفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} .(29/15)
الأسئلة(29/16)
ما يقال بعد الوتر
السؤال
أرجو تنبيه الإخوة إلى ما يُسن قوله بعد الوتر؟
الجواب
يسن أن يقول بعد الوتر، إذا سلم من الوتر: {سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس -وإن زاد-: رب الملائكة والروح} فحسنٌ.(29/17)
حكم الولائم للموتى
السؤال
الولائم التي تصنع عشاء للموتى ما حكمها؟ وهل لها أصل؟
الجواب
عموم الصدقة عن الميت لا بأس بها، فليتصدق عن الميت، بمال أو رز أو غير ذلك، ويعطى للفقراء والمساكين والمحتاجين.(29/18)
الوسوسة في الوضوء والصلاة
السؤال
أنا مصاب بالوسوسة والشك، حيث أني في بعض المرات أعيد الوضوء أكثر من ثلاث مرات، وأقرأ الفاتحة، في الركعة أكثر من مرة؟
الجواب
لا يجوز لك أن تكرر قراءة الفاتحة، ولا أن تتوضأ أكثر من ثلاث مرات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم} فهل يسرك أن تكون موصوفاً على لسان سيد المرسلين أنك مسيء ومتعدِ وظالم، فيسعك ما وسع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فتوضأ وضوءاً معتدلاً سابغاً بعيداً عن الإسراف، وادفع عنك وسوسة الشيطان بالاستعاذة منه، ولا تستجب لهذا الوسواس، وإذا قاومته بشدة وحزم أعانك الله عليه، ويمكنك مراجعة شريط: "رسالة إلى موسوس" وشريط "رسالة إلى موسوسة" وكذلك إذا أحسست بخروج شيء منك؛ فلا تلتفت إليه حتى تتيقن، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: {فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} أي: حتى يستيقن ويعلم ويقطع بأنه قد انتقض وضوؤه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(29/19)
بيع الأسهم بربح
السؤال
رجل اشترى أسهماً من سابك ونقل البحر، وبعد مدة باع هذه الأسهم بربح، فما حكم الربح؟
الجواب
سبق أن بينا أننا نقترح عليه إذا باعها بربح، أن يتخلص من نصف الربح ويصرفه في أعمال الخير.(29/20)
تجنب الاختلاط
السؤال
لاحظت بعض الاختلاط المشين، وأن بعض الأفراد لا يقوم بدوره، فهل من توجيهك لذلك؟
الجواب
ينبغي للجميع وخاصة الشباب أن ينتبهوا لذلك أثناء الخروج من هذا المسجد، فيبتعدوا عن أماكن وجود النساء وتجمعهن، ويا حبذا أن توقف سياراتهم أيضاً بعيداً عن ذلك، ورحم الله امرءاً دفع هذا الأذى عن نفسه وعن غيره من المسلمين والمسلمات.(29/21)
هل في الحلي زكاة
السؤال
يوجد عند زوجتي ذهب، وأريد أن أدفع عنه زكاة، فما حكم ذلك؟ وذلك الذهب لم يتم عليه الحول بعد، ويتم الحول في شهر صفر، وأنا أحب أن أخرج زكاته في رمضان؟
الجواب
حسن أن تخرج الزكاة، فجمهور العلماء على أنه ليس فيه زكاة، وذهب آخرون إلى وجوب الزكاة في الحلي المستعمل، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة، واختاره جماعة من علمائنا المعاصرين، كالشيخ ابن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، وجمهور الأئمة، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم وذهب جمعٌ كبير أيضاً من علمائنا المعاصرين أنه لا زكاة فيه، فإن زكى فإنه أحوط، وكون الزوج يخرج زكاة ذهب زوجته هذا جيد، وإن قدم الزكاة -كما اقترح السائل- فأخرجها الآن فلا حرج، بحيث يخرجها العام القادم في رمضان أيضاً.(29/22)
حديث أسماء الله الحسنى
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} هل هذا الحديث صحيح؟
الجواب
نعم هذا حديث رواه البخاري: {إن لله تسعة وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} والإحصاء يشمل أموراً:- أولها: معرفة هذه الأسماء وحفظها.
ثانياً: معرفة معانيها.
ثالثاً: استحضارها بالقلب؛ بحيث تدعوك إلى الخير وتنهاك عن الشر، وعدم تحريفها أو صرفها عن دلالتها.(29/23)
حجز المكان في المسجد
السؤال
بعض المصلين يحجزون أمكنة في هذا المسجد، ما رأيك في هذا؟ وهل من حقي أن أجلس في مكانٍ وضع فيه شيء يدل على أنه محجوز؟
الجواب
ليس في المساجد حجزٌ، لكن إن كان في داخل المسجد وطرأ عليه أن يتوضأ؛ فذهب إلى دورات المياه فهذا شيء، أما أن يحجز ثم يذهب إلى بيته ليتناول طعام العشاء أو ما أشبه ذلك فهذا لا يصلح، ومن أتى ووجد هذا فمن حقه أن يزيله.(29/24)
معنى الباء من سبحان الله وبحمده
السؤال
أرجو منك تفسير معنى كلمة: سبحان الله وبحمده، ماذا تعني الباء؟
الجواب
معناها الملابسة، أي أنك متلبسٌ بحمد الله تعالى، تسبحه وأنت متلبسٌ بحمده.(29/25)
دعوة إلى مقاطعة بنوك الربا
السؤال
عشنا قبل قليل آيات التحذير من الربا وبيان عقوبته، فلو تكرمت بدعوة الموجودين بتركه، ومقاطعة بنوك الربا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه؟
الجواب
هذه دعوة إلى مقاطعة بنوك الربا، وعدم التعاون معها في كل مجال، وسوف أخصص له إحدى الليالي -إن شاء الله- في مسجد آخر إن ضاقت الأيام، فإنني -إن شاء الله- سوف أكون في الليلة القادمة في هذا المسجد، وسيكون بعنوان الدرس: "خمسة مقترحات".(29/26)
موسى هو المقصود
السؤال
قلت في حديثك: رجلٌ من بني إسرائيل قال: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] فهل المقصود به موسى؟
الجواب
نعم.
قال: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] هو موسى عليه السلام.(29/27)
نصيحة للشباب بخصوص التلفاز
السؤال
أسأل الله أن يجمعنا في الفردوس، في بيتنا تلفاز، وهو عند أخواتي، ووالدي كبير السن، يرفض إخراجه وهو لا يقرأ ولا يكتب، وهذا حال كثير من الآباء والبيوت، فما نصيحتكم لأولئك الشباب؟
الجواب
جاءتني ورقة اليوم من أحد الإخوة، يتكلم عن أضرار هذا التلفاز، وأنه خطر يداهم البيوت، ويقول: إنه يحرق البيوت، ويدمرها تدميراً كبيراً، وإنه جر كثيراً من الشباب والفتيات إلى ألوان من الفساد لا يعلمها إلا الله.
والناس منهم من يجهل ذلك، ومنهم من يتجاهل، ومنهم من يأخذ الأمر ببساطة، ويقيس الناس على نفسه، فإذا رأى تأثيره عليه محدوداً لأنه كبير السن وعاقل، ظن أن تأثيره على أولاده كذلك.
وأنا أدعو الجميع إلى إخراج هذا الجهاز من بيوتهم، وأن يستبدلوا به أشياء مفيدة، كالأشرطة المفيدة، والكتب النافعة، وبعض القصص، وبعض المجلات المفيدة، وكذلك بعض الألعاب للصغار التي تشغلهم، ويمكن أن يستخدم الوالد أو الولد جهاز الكمبيوتر وما فيه من البرامج العلمية النافعة، التي ليس فيها إثم ولا حرام، ليغني الصغار ويشغلهم عن مثل هذه الأمور.(29/28)
اختلاف نية المأموم والإمام في عدد الركعات
السؤال
الإمام صلى الوتر ثلاث ركعات بدون علم بعض المأمومين، فلم ننو الوتر، فهل صلاتنا صحيحة؟
الجواب
مادام أنك دخلت مع الإمام بالأصل من أول الصلاة، وأنت تنوي ألا تنصرف إلا معه؛ فأنت تنوي أن تصلي معه الصلاة كلها وتنصرف على وترٍ.(29/29)
تخطي الرقاب في المسجد
السؤال
هناك بعض الإخوة -هداهم الله- يتأخرون عن الحضور إلى المسجد، فيأتون متأخرين، ويتخطون رقاب الناس، ويضيقون عليهم، فما حكم ذلك؟
الجواب
ينبغي على الأخ أن يأتي مبكراً، وفي الحديث: {لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه} التهجير أي التبكير إلى المسجد، وإذا أتى متأخراً فليجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطى رقاب الناس ولا يؤذيهم.(29/30)
الطيب لا يفطر
السؤال
هل الطيب يفطر؟
الجواب
مجرد الرائحة لا تفطر، أما إذا كان يتصاعد منه شيءٌ يدخل إلى الأنف كالبخور، فينبغي على الصائم أن يتجنبه.(29/31)
قضاء الصلاة للحائض
السؤال
هل يلزم المرأة إذا حاضت قبل غروب الشمس، قضاء صلاة المغرب؟
الجواب
إذا حاضت قبل غروب الشمس، فلا يلزمها قضاء صلاة المغرب، وكيف تقضيها وقد حاضت قبل أن يدخل وقتها.(29/32)
الدخان هل يفطر
السؤال
والدتي توقد ناراً وهي صائمة لقصد التدفئة، فهل يكون الدخان مفطراً؟
الجواب
الأولى أن تتجنبه وتبتعد عنه.(29/33)
إجبار البنت على الزواج
السؤال
أسأل الله أن ينفع المسلمين بك وبسائر إخواننا من طلبة العلم، هناك أبٌ له بنات وهنَّ على سن الزواج، ولكنه يريد تزويجهن من أحد الأقارب، وهُنَّ لا يردن ذلك، أرجو توضيح أمرهن، وأرجو توجيه نصيحة للأب؟
الجواب
لا يجوز للأب أن يزوجهن بدون رضاهن، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تستأمر البنت في زواجها، وحرامٌ عليك أن تزوج بنتك إلا بكامل رضاها، ولا تضغط عليها حتى مجرد ضغط، اللهم إلا إن كانت تريد إنساناً منحرفاً؛ هنا تضغط عليها، أما أن تزوجها من قريب أو من إنسان بينك وبينه علاقة بدون رضاها، فالذي سوف يعيش مع الزوج هي وليس أنت، ويحرم على الأب أن يزوج بنته إلا برضاها وموافقتها، ويأخذ منها موافقة شفهية بالكلام، فإن لم يمكن فأقل تقدير أن تسكت، إذا قال: ما رأيك في فلان؟ وسكتت، معنى هذا موافقة، أما إذا قالت: لا أريده، أو أخبرت أمها وقالت: لا أريد فلاناً؛ فيحرم على الآباء أن يلزموا بناتهم بالزواج ممن لا يردن، كما أنه يحرم على الآباء عضل بناتهم.
بلغني وعلمت يقيناً أنه في البيوت بنات في سن الخامسة والثلاثين، بل علمت أن في البيوت نساء في سن الأربعين؛ حال أبوها بينها وبين تزويجها.
أعوذ بالله، ألا تخاف أن يحول الله بينك وبين رحمته؟ إذ حرمتها من نعيم الدنيا، وأنت يمكن أن يكون عندك ثلاث أو أربع زوجات، أما تخاف الله؟! أما تراقب الله؟! أين حنان الأبوة؟! أين عاطفة الأبوة؟!! هذا قلبٌ قُد من حجرٍ فلو تلين صخور الصين ما لانا والله أنا أستغرب كيف يحدث هذا من آباء! بل كيف يحدث من أباء مؤمنين بعضهم قد يكون راكعاً وساجداً وعابداً! نسأل الله السلامة والعافية.(29/34)
الكعب العالي والمناكير
السؤال
ما حكم لبس الكعب العالي، وحكم المناكير؟
الجواب
المناكير إذا كانت المرأة تصلي -أي ليست حائضاً- فإنه يجب عليها أن تزيلها إذا أرادت الوضوء، لأنها تحول دون وصول الماء إلى موضعها.
أما بالنسبة للكعب العالي فإن كان مرتفعاً ارتفاعاً غير معتاد؛ فإنه يظهر المرأة كما لو إن كانت طويلة أكبر من حقيقتها، وكذلك يعرضها لبعض الأخطار، ووقع الكعب على الأرض له رنينٌ وتأثير، والله تعالى قال للمؤمنات: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فأنصح المؤمنات بتجنبه.(29/35)
تجعيد الشعر
السؤال
بعض الطالبات ذوات الشعور الناعمة يَعْمَدْنَ إلى تخشين شعورهن بطريقة معروفة بين الفتيات، فما حكم هذا الفعل، مع العلم أن ذلك من صنع نساء الغرب؟
الجواب
هذا ما يتكلم عنه العلماء ويسمونه بالتجعيد، والأصل أن تجميل المرأة نفسها وشعرها وثيابها خاصةً المتزوجة؛ أنه جائز، ما لم يفضِ ذلك إلى إفراط، أو تضييع للوقت، أو تقليد لنساء الغرب، وأرى أن مثل ذلك العمل إن تركته المرأة فهو أحسن، وإن فعلته دون أن يكون في ذلك اشغالاً لها، أو مُثلةً وطول عناية بهذا؛ فلا أرى في ذلك إن شاء الله حرجاً.(29/36)
قول: ما صدقت على الله
السؤال
ما حكم قول: ما صدَّقت على الله؟
الجواب
لا أرى في هذه الكلمة بأساً إن شاء الله، لأن معناها لم أكن أتوقع أن يحصل هذا الأمر.(29/37)
ملابس الإحرام للنساء
السؤال
ما هي ملابس الإحرام بالنسبة للنساء؟
الجواب
الواقع أنه ليس للمرأة لباس إحرامٍ كالرجل، بل تحرم فيما شاءت من الثياب، وتتجنب ثياب الزينة المثيرة في ألوانها، والمزركشة والجذابة، وكذلك تتجنب الطيب الذي يلفت إليها الأنظار، ويجوز لها أن تغير ثيابها.(29/38)
احتلام المحرم
السؤال
ما حكم من احتلم وهو محرم؟
الجواب
إنَّ هذا لا يضره، لأن هذا شيء ليس في طوقه ولا في إمكانه، كما أنه لو احتلم وهو صائم أيضاً، فإنه لا شيء عليه في ذلك، وإنما عليه أن يغتسل فحسب، ولا يضر ذلك في إحرامه ولا في صيامه.
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم عمرةً متقبلة، وحجاً مبروراً وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً واسعاً، إنه على كل شيء قدير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، والحمد لله رب العالمين.(29/39)
تنبيهات على العمرة
بقي في موضوع العمرة نقاط متعددة نمر عليها بسرعة، رعاية لقصر الوقت، فمن ذلك: أولاً: بالنسبة للدعاء الذي ذكرته في الطواف: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" هذا يقال بين الركن اليماني والحجر الأسود، أثناء الطواف.
ثانياً: يستحب للطائف أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، أي أن يمشي مشياً سريعاً مع مقاربة الخطى، في الأشواط الثلاثة الأولى كلها، من الحجر إلى الحجر، كما في الصحيح عن جابر: {أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر} ثم يمشي في الأشواط الأربعة الباقية.
ثالثاً: يستحب للطائف -أيضاً- أن يضطبع، ومعنى ذلك: أن يظهر الكتف الأيمن ويجعل الرداء من تحته، ويجعل طرفي الرداء على كتفه الأيسر، يفعل ذلك في الطواف كله، فإذا انتهى من الطواف، غطى كتفه الأيمن قبل أن يصلي ركعتي الطواف.
هناك محظوراتٌ كثيرة للإحرام معروفة: مثل لبس المخيط للرجل، والطيب للرجل والمرأة، ويتأكد النهي عنه في حق المرأة، خاصةً إذا كانت تريد الخروج، وكذلك نهي المرأة عن تغطية وجهها، إذا لم يكن في حضرتها رجال أجانب، ومثله: النكاح، أعني: عقد النكاح، وكذلك النساء، ومثله أيضاً الخِطبة قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يَنكِح المحرم ولا يُنكِح، ولا يخطب} ومثل ذلك قص الشعر أو حلقه وقص الأظافر، وغير ذلك مما ذكره الفقهاء، والأمر في شأنه وتفصيله يطول.
على كل حال، هذه بعض المسائل ذكرتها لعموم الحاجة إليها.(29/40)
أخذ إجازة لأجل العمرة
السؤال
أنا موظف في وظيفة إدارية، ولا يترتب على غيابي عن العمل أي ضرر، فهل يجوز لي أخذ إجازة اضطرارية من أجل الذهاب إلى العمرة؟
الجواب
ذكرت هذا في دروس رمضان، وجرى له تعديل في الطبعة الجديدة، وبشكلٍ عام أرى أن الإنسان لا يحسن في حقه -لا أقول يحرم- أن يأخذ إجازة اضطرارية من عمله إلا لحاجة، مثل إذا كانت أمه سوف تذهب للعمرة، وهو يذهب محرماً لها فلا بأس، أو كان أبوه سيذهب، وهو سيذهب في خدمته فلا بأس، أو كان هناك بعض أهله سيذهبون ويخشى عليهم، فيريد أن يذهب لمراقبتهم وضبط أحوالهم والاطمئنان على سلامتهم هناك؛ فلا حرج، أو كان هناك بعض الشباب سيذهبون وهو سوف يكون كالموجه والمرشد والمربي لهم فلا حرج أيضاً.
أما بالنسبة للعمرة -فكما ذكرت- يمكن أن يأخذها دون أن يحتاج إلى إجازة، ونحن نريد أن يكون المسلم موظفاً وعاملاً، نموذجاً للإنتاج والعمل والأداء والإخلاص في عمله.
ومن المعلوم أن من دينك وتدينك أن تكون ناجحاً في عملك، ومحافظاً على دوامك، وقائماً بما يتعلق بك، وتكون في وجه الجمهور شاباً ملتزماً يخدم الناس، ويقوم بما يجب عليه، وما يحتاجون إليه، وهذا جزء من الدين ينبغي أن نحرص على إبرازه للناس، فالدين الإسلامي ليس في المسجد فقط، بل حتى في وظيفتك، يمكن أن تظهر التدين من خلال نجاحك في عملك، وقيامك به وحرصك عليه، وظهورك أمام الجميع من رؤساء ومن مراجعين، بمظهر الإنسان الحريص على أداء العمل، والقيام به خير قيام لوجه الله، لا من أجل ثناء الناس.(29/41)
السهو في التكبير في الصلاة
السؤال
ما حكم من يسهو في التكبير في الصلاة، كالتكبير عند الرفع من السجود؟
الجواب
أما إن كان إماماً فعليه أن يسجد سجود السهو، وكذلك إن كان منفرداً، أما المأموم فلا شيء عليه، وخاصةً إذا كان تابعاً للإمام من أول الصلاة.(29/42)
حكم العمرة والطواف للحائض
السؤال
تسأل كثيرٌ من النساء عن حكم طوافها وهي حائض، أو أدائها للعمرة وهي حائض؟
الجواب
قد سبق أن بينت أنها تحرم بالعمرة، أي تلبي بالعمرة وتحرم وهي حائض، ولكن لا يجوز لها أن تطوف بالبيت حتى تطهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ل عائشة كما في الصحيح: {غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري} فلا تطوف بالبيت حتى تطهر، تنتظر حتى تطهر ثم تغتسل بعد ذلك، وتطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم تقصر من شعرها، من كل جديلة أو ظفيرة قدر أنملة.
ولا يجوز لها الطواف وهي حائض، إلا لضرورة عند بعض أهل العلم، والضرورة تقدر بقدرها.
فلو كانت امرأة أتت من مكانٍ بعيد، ولا تستطيع البقاء حتى تطهر، ومحرمها ورفقتها لا يمكن أن يجلسوا معها، وإذا ذهبت لا تستطيع الرجوع أيضاً، وليس هناك وسيلة لرفع الحيض؛ لأن هناك الآن وسائل طبية من الممكن أن يرتفع الحيض بها، فتطوف وهي طاهرة، فإذا تعذر ذلك كله أصبحت بين خيارين؛ إما أن تجلس في مكة وتذهب الرفقة، وقد ينالها من جراء ذلك ضررٌ عظيم، أو أن تذهب وهي لم تقضِ عمرتها، فأفتى حينئذٍ شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وجماعةٌ من علمائنا المعاصرين، بأنها تتحفظ ثم تطوف، وهذا يعتبر من أجل الضرورة القصوى فحسب.(29/43)
حكم طواف الوداع
السؤال
يسأل كثيرٌ من الناس عن حكم طواف الوداعِ للعمرة؟
الجواب
طواف الوداع بالنسبة للحج فرضٌ لا شك فيه، وفي حديث ابن عباس في الصحيح [[أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه رخَّص أوخفف عن الحائض والنفساء]] أما بالنسبة للعمرة فقد اختلف أهل العلم، والجمهور على أنه لا يجب على المعتمر طواف وداعٍ، فإن طاف للوداع فحسن، وإن ترك فلا شيء عليه، وهذا هو الذي تسانده ظواهر النصوص، والله تبارك وتعالى أعلم.
إذاً لا يجب على المعتمر طواف وداعٍ، إن وادع فحسن، وإن ترك فلا شيء عليه، وذهب بعض أهل العلم، إلى وجوب ذلك، فطواف الوداع -على كل حال- فيه خروج من الخلاف، لكن الذي يظهر ويترجح: أنه إن ترك طواف الوداع لحاجة أو استعجالٍ أو غير ذلك من الأسباب؛ فلا شيء عليه.(29/44)
جزيرة الإسلام
تحتوي هذه المادة على التعريف بالجزيرة العربية، والأحاديث التي وردت في فضل أماكنها، ثم المميزات التي تمتاز بها الجزيرة العربية عن بقية الأرض.(30/1)
تنبيهات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
هذا هو الدرس (31) من الدروس العلمية العامة، في يوم السبت، ليلة الأحد 15 من شهر جمادى الأولى لعام (1411هـ) .
أيها الأحبة الكرام: موضوع هذه الليلة: جزيرة الإسلام.
وأود أن أنبه أن بعض الإخوة بمجرد أن ينتهي الإمام من الصلاة، يأتون سراعاً إلى هذا المكان، ولا شك أننا نعلم أن الإمام -مثلاً- له حق في البقعة التي صلى فيها، والمؤذن له حق في البقعة التي صلى فيها، والجماعة الذين في الصف الأول كذلك، والإخوة أصحاب التسجيلات يحتاجون إلى مساحة تكون فارغة يتحركون فيها.
مع هذا أقول: يعلم الله أنني إذا رأيت مثل هؤلاء الإخوة حتى من الشباب الصغار، أنني أحس بفرح كبير؛ لأننا ندرك أن مثل هؤلاء الشباب على أكتافهم -بإذن الله تعالى- يكون مستقبل الإسلام، وقد يكون من بين هؤلاء الصغار الذين ما لبسوا الغتر، قد يكون من بينهم -أحياناً- عالم جليل، وفقيه نبيل، وداعية ومرشد وخطيب ومجدد ومجاهد.
فنحن نفرح بمجيئهم إلى هذه المجالس، ونسر بذلك أيما سرور، لكن من باب المحبة، والحرص على البعد عن كل أمر قد يعيبك به الناس؛ أحببت أن أنبه إلى ذلك.(30/2)
المختارة والمفضلة في الجزيرة
أحبتي الكرام: الله عزوجل وهو الخالق، وهو الذي يختار كما قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] خلق البشر، واختار منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخلق الخلق واختار منهم ما يشاء، وخلق الملائكة واصطفى منهم أفضلهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البلاد والأرضين واختار منها بقاعاً وهي أفضلها وأطهرها، يقول الله عزوجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ويقول الله عزوجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] .
وهذا الاختيار والاصطفاء الإلهي لا بد أن يكون اختياراً على علم؛ لأن الله تعالى هو العالم، ولذلك قال عزوجل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فالله عز وجل اختار من البشر أفضلهم، واختار من البقاع أفضلها، كما قال عزوجل: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] .(30/3)
فضل الشام
ومثله: بلاد الشام؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم لها بالفضل، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وهو صحيح: {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} وذكر لأهل الشام فضائل أخرى، بل صنف فيه عدداً من أهل العلم كتباً خاصة.(30/4)
فضل الحجاز
ومن الأماكن الفاضلة: الحجاز بشكل عام، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه مسلم: {إن الدين يأرز بين المسجدين -مسجد مكة ومسجد المدينة- كما تأرز الحية في جحرها} .
إذاً يحنّ الدين وينضم ويجتمع إلى بلاد الحجاز، إلى مكة والمدينة وما بينهما.
وفى حديث جابر -وهو في صحيح مسلم أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز} فحكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأن بلاد الحجاز وأرض الحجاز مأوى للمؤمنين، يفيئون إليها مرة بعد أخرى، وأن الإيمان في أهلها أكثر، ولا شك أن هذه ليست تزكية مطلقة؛ لأن أهل الحجاز حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم كفار معاندون، وكان فيهم منافقون مستترون بنفاقهم وكفرهم، وكان فيهم وفيهم ولكن الغالب عليهم يومئذ الإيمان.(30/5)
فضل اليمن
وكذلك الحال بالنسبة لأرض اليمن، وهي جزء من جزيرة الإسلام، وجزء من جزيرة العرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة: {أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن هذه الفضائل.
واليمن يشمل مواقع عديدة، حتى أهل المدينة هم في الأصل من اليمن، وكذلك ما تيامن عن الكعبة فهو يسمى ويعد من اليمن، وليس مقصوراً فقط على البقعة الجغرافية التي تسمى اليوم اليمن، بل الأمر أشمل من ذلك، ويشمل كل ما كان عن يمين الكعبة.(30/6)
فضل المدينة
المدينة المنورة -مثلاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المدينة حرام، ما بين كذا إلى كذا وذكر موضعين، وفي رواية: ما بين عير إلى ثور المدينة حرام ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حَدَثاً، أو آوى فيها مُحْدِثاً فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منهم صرفاً ولا عدلاً} هذا من فضل المدينة المنورة، كما جاء في حديث سهل بن حنيف أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهوى بيده إلى المدينة، وأشار إليها بيده وقال: {المدينة حرم آمن} والحديث في صحيح مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يصبر أحد على لأواء المدينة وجهدها، إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة} وهو في صحيح مسلم، وذلك لأن المدينة فيها حُمَّى، قد تصيب بعض الذين يهاجرون إليها، أو يقيمون فيها، أو يسكنون بها، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يصبر أحد على تعب المدينة وحمَّاها ولأوائها وجهدها إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة} .
ولذلك -أيضاً- يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم: {المدينة كالكير تنفي خبثها} وفى رواية: {تنفي خبث الناس كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب} .
فإن المنافق لا يكاد أن يقر له بالمدينة قرار، ولا يكاد أن يطيب له فيها دار، فهو فيها كالسجين، كالطير في القفص يحاول الفرار منها.
ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في آخر الزمان يخرجون من المدينة إلى الشام وإلى العراق وإلى غيرها، قال عليه الصلاة والسلام: {المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون} كما في حديث سفيان بن أبي زهير، وهو حديث متفق عليه.
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً: {أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي طابة؛ تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب} .
إذاً الرسول صلى الله عليه سلم أُمر بأن يهاجر إلى مدينة طيبة مباركة مشرفة، وهي: المدينة النبوية، تأكل القرى، يسمونها يثرب، كما قال المنافقون: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] وهي كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة.
ولعل من فضل المدينة ومكة: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إذا جاء المسيح الدجال لا يستطيع أن يدخل مكة ولا المدينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال} .
وهذا الحديث متفق عليه.
{على أنقاب المدينة -أي: أبوابها وطرقها- ملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاعون} أي: مرض الطاعون كوباء، فإنه لا يدخل المدينة، بمعنى: أن أهل المدينة لا يصيبهم الطاعون وباءً عاماً ينتشر ويفشو فيهم كما يفشو في البلاد الأخرى.
وكذلك الدجال لا يستطيع أن يدخل المدينة.
قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي بكرة: {لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان يحرسانها} .
وفي الحديث الثالث: وهو حديث أنس رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس بلد إلا وسيطؤه الدجال، -ليس بلد في الدنيا كلها إلا سيطأه الدجال- إلا مكة والمدينة، فإنه لا يطؤهما ولا يستطيع أن يدخل إليهما، لكن ينزل في سبخة من السباخ القريبة من المدينة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه فيها كل كافر ومنافق} .
إذاً قوله عليه الصلاة والسلام: {فيخرج إليه كل كافر ومنافق} دليل على أنه هذا درس وعبرة كبيرة -أيها الأحبة- أنه حتى في الزمان الذي يخرج فيه الدجال، وهو أكثر الزمان ظلمةً وقترةً وسواداً وفساداً وفتنة، حتى في ذلك الوقت يكون في المدينة المنورة، وفي جزيرة العرب، أناس كثيرون يحتاجون إلى النفاق، لماذا يحتاجون إلى النفاق؟ لماذا لم يجاهروا بكفرهم وردتهم وفجورهم؟ ذلك لوجود الخير، ووجود الشوكة للمؤمنين، والصالحين، والطيبين.
ولذلك حتى في زمان الدجال؛ المنافقون مستترون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يستطيعون أن يُظْهِروا رءوسهم، أو يخافون على مصالحهم، ولذلك يستترون فإذا جاء الدجال كشفوا عن مقاصدهم ومآربهم، وكشروا عن أنيابهم، وخرجوا إلى الدجال في سبخة من السباخ المحيطة بالمدينة.
ويكفي المدينة شرفاً وفضلاً وبهاءً ومكانة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن فيها بقعة من بقاع الجنة.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عبد الله بن زيد المتفق عليه: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} وفي الحديث الآخر: {ومنبري على حوضي} فالرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أن هذه البقعة المشرفة من مسجده صلى الله عليه وسلم أنها روضة من رياض الجنة، وهي اليوم تسمى: الروضة النبوية.(30/7)
فضل مكة
أحبتي الكرام: هناك أماكن اختارها الله عز وجل واصطفاها واختصها، وهي أماكن كثيرة جداً، أذكر شيئاً منها، وبعض ما ورد في فضل هذه الأماكن بإيجاز واختصار، لأن الموضوع مهم وطويل.
فالله عز وجل اختار مكة والحرم من حولها، كما قال الله عزوجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96-97] .
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا} .
فلا يجوز السفر إلى بقعة في الدنيا كلها بقصد العبادة، إلا لهذه الأماكن الثلاثة، لأن الله اختارها وجعل الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها.
ومثله في فضل مكة: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل، ولم يحرِّمها الناس} وفي حديث ابن عباس أيضاً: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام لا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، فإن أحد ترخَّص بقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله عز وجل أذن لنبيه ولم يأذن لكم} .
ومن المواقف الطريفة والعجيبة في فضل مكة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أُخرج منها في الهجرة، بعد أن آذاه كفار قريش واضطهدوه، واضطروه إلى الخروج من مكة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكانت آنذاك بلداً صغيراً محدوداًَ، ربما في حدود الحرم اليوم وما حوله، فلما تجاوزها النبي صلى الله عليه وسلم، وصار إلى الشمال الشرقي منها، ربما في المكان الذي توجد فيه الأسواق اليوم، التفت إلى مكة وهو يبكي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطباً مكة التي أحبها، قال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي وهو حديث حسن.
ومثله ما رواه البخاري أيضاً: {أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما جعل زوجه وابنه إسماعيل في مكة، وذهب وتركهم لحقت به زوجته تقول له: يا إبراهيم، إلى أين تذهب وتدعنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ وهو لا يجيب، فلما رأت إصراره قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا.
فرجعت إلى ولدها، فجاءهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه} .
إذاً وهذا وصية من جبريل عليه السلام لأهل بيت الله وأهل حرمه، وسكان أرضه وبلاده الطاهرة الطيبة المقدسة المباركة، لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه.(30/8)
جزيرة الإسلام في السنة النبوية
جاء ذكر الجزيرة في أحاديث عدة، رأيت أن أسردها لكم مع شيء من التعليق عليها.(30/9)
تعليق على حديث: {عودة الجزيرة مروجاً وأنهاراً}
ومن النصوص الواردة في جزيرة العرب: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، وحتى يخرج الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها، ولا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً} وقوله عليه الصلاة والسلام: {حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً} يحتمل عدة أمور: الاحتمال الأول: أن يكون المقصود أن الناس ينشغلون في بعض الأزمنة بالحروب والمعارك والفتن ونحوها، عن الأرض والمزارع والمياه ونحوها، فيهملونها فتكون أنهاراً تسيح ليس لها أحد يهتم بها.
وهذا ذكره النووي، وهو بعيد.
الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك بسبب عناية الناس بالزراعة، وحفرهم للآبار والعيون، وشقهم للترع ونحوها وزرعهم للأرض، وهذا ما نجد بوادره الآن في هذه الجزيرة؛ حيث اشتغل كثير من أهلها بالزراعة، وأخضر كثير من صحاريها الجرداء، وهو داخل -والله أعلم- في معنى الحديث.
الاحتمال الثالث: وهو من أقوى الاحتمالات: ما ذكره جماعة من العلماء المتخصصين في هذا العصر، أن هناك احتمالاً كبيراً أن تتحول الجزيرة -فعلاً- إلى أرض ذات هواء لطيف، وجو طيب، وهناك توقع لكثير من العلماء يقولون: احتمال مجيء ما يسمونه بالزحف الجليدي القادم من جهة الشمال إلى هذه الجزيرة، والذي يتسبب في تلطف هوائها، وحسن جوها، ومزيد اعتداله، وبناءً عليه يوجد في هذه الجزيرة فعلاً مروج حقيقية، وأنهار حقيقية، كما كانت موجودة فيها من قبل، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {حتى تعود جزيرة العرب} فقوله: (تعود) قد يدل بظاهره على أنها كانت مروجاً وأنهاراً في غابر الزمان، وتعود في آخر الزمان أيضاً مروجاً وأنهاراً، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
فخالقها جل وعلا قادر على أن يفجر فيها الأنهار والعيون، وأن يحول جدبها إلى خصب، وأن يحول أراضيها الجرداء القاحلة إلى رياض خضراء مزهرة، والله تعالى على كل شيء قدير: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] .
ومن النصوص الواردة في الجزيرة العربية من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رواه نافع بن عتبة، وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله} إذاً المسألة بالترتيب أربعة أشياء، يا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام هكذا ذكر لكم نبيكم عليه الصلاة والسلام عملكم: أولاً: تغزون -والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- جزيرة العرب، وهكذا كان، فإنهم غزوا الجزيرة حتى لم يمت النبي عليه الصلاة والسلام إلا ومعظم الجزيرة خاضع لحكم الإسلام، وجاءته الوفود من كل مكان ففتحها الله.
بعد ذلك انتقلوا إلى بلاد فارس، فغزوها ففتحها الله.
ثم انتقلوا إلى بلاد الروم، ولا زالت الحروب مع الروم ومع بلاد الروم.
ثم بعد ذلك الدجال وهو في آخر الزمان.
أربعة مراحل في تاريخ هذه الأمة، ذكرها صلى الله عليه وسلم، وظاهر من خلالها أن جزيرة العرب هي أول ما يفتح للإسلام، ويجتمع عليه أمر هذا الدين.
أيضاً من الأحاديث الواردة: حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوماً وهم يتذاكرون الساعة.
فقال: ماذا تتذاكرون؟ قالوا: نتذاكر الساعة.
قال صلى الله عليه وسلم: إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات} فذكر صلى الله عليه وسلم الخسف والدخان والدابة، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: {وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في جزيرة العرب خسف في آخر الزمان قبل قيام الساعة، ولعل هذا الخسف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، هو الخسف الذي بينه في حديث عائشة وأم سلمة وغيرهما، وهو في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يعوذ عائذ بالبيت} وفي أحد الأحاديث: {أنه صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام عبث في منامه -أي تحرك في منامه بحركة لم تكن معهودة منه- فلما استيقظ، قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! صنعت شيئاً لم تكن تفعله! قال عليه الصلاة والسلام: العجب أن ناساً من أمتي أو قوماً من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم} .
وفى رواية: {يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم} وفي رواية: {ثم لا ينجو منهم إلا الشريد الذي يخبر عنهم} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يسخر الأرض لنصرة قوم من أوليائه وحزبه وجنده، يعتصمون بذلك البيت ليس لهم منعة إلا سيوفهم واعتصامهم بالله جل وعلا وثقتهم به، فيؤمهم قوم، أي: يغزونهم ويقاتلونهم، وهم أقوى منهم وأقدر، فيسلط الله تعالى عليهم الأرض، فتفتح فمها ثم تبتلع هذا الجيش عن آخره، حتى يكون فيه أسواقهم ودوابهم ومن ليس معهم، والمجبور، والمستبصر، وابن السبيل، والتاجر وغيرهم، ثم يبعثون على نياتهم، يردون مورداً واحداً، ويصدرون مصادر شتى.(30/10)
تعليق على حديث: {إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب}
النوع الثاني من النصوص: ما رواه مسلم أيضاً، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم} .
والحديث رواه مسلم، وقد جاء الحديث نفسه عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وجرير وأبو الدرداء وأبي بن كعب وعبادة بن الصامت وغيرهم، كلهم ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} .
وهذا الكلام يحتمل أموراً منها: أولاً: إن الشيطان يئس أن يعود أهل الجزيرة مرتدين كلهم، وإن وجد منهم ردة، ووجد فيهم شركاً، ووجد فيهم فساداً، لكن يئس الشيطان أن يرتد الناس كلهم عن الإسلام في هذه الجزيرة.
ثانياً: أن يكون المقصود الناس الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا، فإن الشيطان لما رأى انتشار الإسلام وعزته وقوته؛ يئس من رجوع الناس عن دينهم أو ردتهم عنه، واستسلم للأمر الواقع.
وذكر العلماء وجوهاً أخرى لهذا الحديث، ومنها: أنَّ يأس الشيطان متعلق بالمصلين، فالذين يصلون وهم ورواد المساجد، قد يئس الشيطان منهم أن يعبدوه ويشركو في ولكنه رضي منهم بما دون ذلك، وهو التحريش بينهم، وإثارة العداوات والبغضاء، وملء القلوب بالإحن والضغائن، والكلام في الناس حتى تمتلئ القلوب بالضغائن والأحقاد.
هذا هو الذي تسلط به الشيطان على المؤمنين في هذه الجزيرة وفي غيرها، فنحن نرى المؤمنين وطلبة العلم -في كثير من الأحيان- يكون في قلوبهم الحسد البغضاء وسوء الظن والقيل والقال، إلى غير ذلك من الأشياء التي يوقد الشيطان نارها في قلوب المصلين، فيرضى منهم الشيطان بذلك ويكفيه منهم هذا.(30/11)
الجزيرة العربية عاصمة الإسلام
روى ابن عباس رضي الله عنه، كما في الصحيحين قال: {يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بلَّ دمعه الثرى، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد به وجعه، قال: ائتوني حتى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً.
قال: فاختلفوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فبعضهم قالوا: قربوا حتى يكتب لكم كتاباً.
وبعضهم قالوا: ما شأنه صلى الله عليه وسلم؟ -استفهموا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فالذي أنا فيه خير من الذي أنتم فيه، ثم أوصاهم صلى الله عليه وسلم بثلاث: الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب.
والثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم -أي: أعطوا الوفود التي تبايع على الإسلام بمثل ما كنت أعطيهم- قال الراوي: ونسيت الثالثة} والثالثة كما ذكر أهل العلم، هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد، الذي وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام.
وفي حديث عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} والحديث عند مسلم وفي رواية عند الترمذي قال: {لئن بقيت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} .
وعائشة رضي الله عنها تقول: [[آخر ما عهد للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا يترك بالجزيرة دينان]] .
لا يجتمع ولا يتساكن في جزيرة العرب دينان، وجزيرة العرب هي جزيرة الإسلام وجزيرة الإيمان، لا يساكنه فيها دين آخر أبداً.
وحديث عائشة رواه أحمد، وسنده حسن.
ومثله حديث أبي عبيدة رضي الله عنه: {آخر ما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: أخرجوا يهود الحجاز ونصارى نجران من جزيرة العرب} .
إذاً نص النبي صلى الله عليه وسلم على إخراج المشركين واليهود والنصارى، وبالذات يهود الحجاز، لأنهم كانوا موجودين في خيبر ونحوها، وكذلك النصارى كانوا موجودين في نجران، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم، والحديث رواه أحمد.
وروى مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} .
هذا هو القسم الأول من النصوص الواردة في الجزيرة، وهي صريحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لهذه الجزيرة بأنها عاصمة الإسلام وبقعته، وتتميز عن كل بلاد الدنيا بهذا الحكم الخاص؛ أنه لا يجتمع فيها دينان، ولا يساكن الإسلام فيها ملة أخرى، لا شرك ولا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية، ولا غيرها.
وما ذلك إلا لأنها المنطلق الأول والأخير للإسلام، ولأن الله عزوجل كتب أن تكون هذه الجزيرة هي الدار، كما قال الله عزوجل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] .
فهي دار الإيمان وبلاده وأرضه، التي يفيء إليها، ويأتي إليها أهل الإيمان من كل مكان وفى كل زمان.(30/12)
حدود الجزيرة العربية
ما هي الجزيرة العربية؟ وما هي حدود هذه الجزيرة؟ وما المقصود بها؟ تكلم أهل العلم كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم، في حدود هذه الجزيرة، وغالب هذه الأقوال تذكر بعض بلاد الجزيرة العربية؛ كاليمامة، والحجاز، ومكة، والمدينة، وخيبر، وفدك ونحوها.
ويقول الخليل بن أحمد: إن الجزيرة العربية سميت جزيرة؛ لأنه يحدها بحر الحبشي من جهة، وبحر فارس من جهة أخرى.
كأنه يعني الخليج العربي والبحر الأحمر، كما تسمى بلغة الناس اليوم.
فهذه حدود الجزيرة العربية، وهي في الواقع ليست جزيرة وإنما هي شبه جزيرة؛ لأن البحر يحدها من ثلاث جهات تقريباً، وسموها جزيرة من باب التسامح، وهي أكبر شبه جزيرة في العالم، فلا يوجد شبه جزيرة في الدنيا في مساحة وسعة هذه الجزيرة العربية.(30/13)
مميزات الجزيرة العربية
وهذا الموقع الذي تميزت به له آثار كبيرة جداً، يدركها الإنسان بأدنى تأمل، من آثار هذا الاختيار الإلهي لهذه الجزيرة ما يلي: وسنقف وقفات عند هذا الموقع وهذه الجزيرة، وهذه الأرض التي اختارها الله تعالى للإسلام:(30/14)
اعتدال جوها وهوائها
ميزة رابعة: وهي من طريف ما ذكره بعض العلماء، خاصة من يسمونهم بعلماء الفسيولوجيا، يقولون: إن هذه الجزيرة بحكم وجودها في المنطقة المتوسطة بين الشرق والغرب، فإن هواءها وجوها معتدل نسبياً، ولذلك فإن الإنسان الذي يعيش فيها يستطيع أن يتكيف مع الأجواء الأخرى شديدة البرودة مثلاً، بخلاف الناس الذين يعيشون في الأجواء الباردة، كالمناطق القطبية مثلاً، والبلاد الأمريكية؛ فإنهم لا يستطيعون أن يتكيفوا مع جو هذه الجزيرة.
ولذلك إذا جاءوا إليها، سرعان ما تتأثر وجوههم وسحناتهم وأشكالهم، ثم ينتقل التأثير بعد ذلك إلى أجهزة أجسامهم، وتتأثر بذلك تأثراً كبيراً.
وهذه ميزة؛ أن هذه الجزيرة هي لأهلها، لأهل هذه البلاد، لأهل الإسلام، أما أهل الإسلام فيستطيعون أن يغزوا بلاد الدنيا كلها، فهم يذهبون إلى كل البلاد فيستطيعون أن يعيشوا فيها، لينشروا فيها دين الله عز وجل، وينشروا فيها القرآن، وينشروا فيها أحاديث الرسول عليه والصلاة والسلام، فهم يستطيعون أن يتكيفوا مع كل الأجواء ومع كل البلاد.(30/15)
الموقع الاستراتيجي
ميزة خامسة: إن هذه الجزيرة في موقع استراتيجي هام، فهي تمسك بخناق العالم كله، وتتحكم بطرق تجارته، فهي صلة الوصل بين عدد غير قليل من الدول الكبيرة والقارات، وهي تربط بينها، وتهيمن على عدد من الممرات المهمة، التي يعتبر إيقافها -لو أوقفت- يعتبر قطعاً لشريان الحياة عن جزء كبير من هذه الأرض، وهذه ميزة أيضاً لهذه الجزيرة اختارها الله عزوجل لها.(30/16)
نعمة الشمس
وأخيراً فيما يتعلق بالميزات الموجودة في هذه الجزيرة: هذه الشمس التي أنعم الله بها على هذه الجزيرة، أتدرون أنهم يحسدوننا على كل شيء، حتى على هذه الشمس التي تشرق علينا؟! كم في هذه الشمس من الخيرات: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ:13] هذه الشمس التي تكون سبباً في الصحة والعافية، وقتل كثير من الأوبئة والأمراض الموجودة في الهواء، وفي النباتات، وفي الإنسان، وفي غيرها.
هذه الشمس التي تكون سبباً في ظهور نباتات كثيرة يستفيد منها الناس، كالليمون وغيره، والذي يقول بعض الغربيين: لو كان عندنا هذا ما احتجنا إلى مستشفيات، ويحسدوننا عليه أيضاً.
هذه الشمس التي بدءوا الآن يفكرون بما يسمونه بتخزين الطاقة الشمسية؛ بحيث يمكن أن تحول إلى أشياء يستفاد منها في الزراعة، وفي التهوية، وفي التصنيع، وفي الإضاءة، في أشياء كثيرة جداً بواسطة ما يسمونها بالطاقة الشمسية.
وهم -أيضاً- يحاولون أن يعرقلوا هذه المشاريع، ويقفوا في وجهها.
هذه الشمس التي هي سبب في خيرات كثيرة أنعم الله بها على هذه الأرض.
ولذلك بمجمل هذه الأشياء؛ فإن هذه الجزيرة -باختصار- تستطيع أن تستغني عن الدنيا كلها، بثرواتها وخيراتها، بمزروعاتها وحيواناتها وألبانها، بشمسها وهوائها، تستطيع أن تستغني عن الدنيا كلها، فهل تستطيع الدنيا أن تستغني عن هذه الجزيرة؟! كلا! إن هذه الجزيرة تملك -قبل ذلك كله- أمراً آخر هو أعظم من هذا، ألا وهو أنها تملك إيصال الهداية إلى البشرية كلها، تملك أن توصل هذا الدين وتحمل هذا النور، الذي حمّله الله عزوجل أهل هذه البلاد، وحمَّله المسلمين أجمعين من ورائهم، على حين أن الدنيا لا تملك إلا الضياع والدمار والخراب والبوار.(30/17)
صحراؤها حمتها من كيد الغزاة
الميزة الثانية: أن أرض هذه الجزيرة الصحراوية جعلتها بمنجاة من كيد الغزاة.
فإن صحراء هذه الجزيرة ورمالها مقبرة للغزاة الذين يهمون بها منذ فجر التاريخ، فقد حماها الله عزوجل بصحرائها ورمالها الممتدة، وأرضها الواسعة، من كيد الغزاة المحتلين منذ فجر التاريخ إلى اليوم، كما أن الله عزوجل حماها بذلك من تأثير الحضارات المادية، فتأثير الحضارة المادية في الماضي والحاضر على الجزيرة هو أقل تأثيراً، ففي الماضي -مثلاً- كانت حضارة الفرس والرومان واليونان والهند والصين، ومع ذلك الجزيرة كانت بعيدة عن هذا كله لا تدري ماذا يدور في الدنيا! أما اليوم فمع أن الجزيرة -ولا شك- قد تأثرت بالحضارات المادية الموجودة، ووجد من أبنائها من يتأثر بحضارة الشرق فيدين بمبدأ الشيوعية -مثلاً- أو يتأثر بحضارة الغرب، فيرفع راية العلمانية، وينادي بفصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة، وعن المرأة، وعن الاجتماع، وعن الاقتصاد، وعن التعليم، وجعله محصوراً في المسجد.
فوجد هؤلاء ووجد أولئك، ولا تزال رياح الفساد والتغيير تهب على هذه الجزيرة من كل مكان، وهذا أمر لسنا نجهله بحمد الله، وينبغي أن نكون جميعاً على أن يكون هذا الأمر على بالنا، وألا نستنيم أو ننخدع بما نتكلم فيه.
ولكنني أقول: مع ذلك؛ إن من العدل أن ندرك أن هذه الجزيرة على رغم هذا كله؛ لا تزال هي أطهر بقعة في الدنيا، ولا تزال أنموذجاً فريداً من بين بلاد الدنيا.
ولو أردت أن أتحدث عن التميز الموجود الآن في الجزيرة لطال المقام، ولست أريد -كما ذكرت- أن أبالغ في مدح هذه الجزيرة ومدح أهلها والثناء عليهم، حتى كأننا لا نريد أن نصنع شيئاً، لا.
ليس بين أحد وبين الله عزوجل سبب إلا التقوى، فالقرشي والعربي وساكن الجزيرة وغير ساكن الجزيرة والأعجمي، كلهم في ميزان الله تعالى سواء قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وليس لنا بلد نقول هذا بلدنا، سواء آمن أم كفر، كلا! أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنا لك حيث يبعثها المنادي فالقفر أحلى من رياض في رباها القلب صادي ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني وميزة الصحراء في هذه الجزيرة أيضاً: أنها جعلت شعوب هذه الصحراء شعوباً قوية أبية جديرة، لا تحمل الضيم، ولا تقبل الذل، ولا ترضى به، ولا تعطي الدنية في دينها بحال من الأحوال.
إن في الشعوب التي نشأت في الصحراء، من القوة والشهامة والعزة والأنفة والكرامة أشياء كثيرة، ولذلك يقول الرافعي -رحمه الله-: إنما الإسلام في الصحراء انتهد ليجيء كل مسلم أسد انظر هل أنت كذلك، أم لا؟! وانتهد، أي: وجد ونشأ.
إنما الإسلام في الصحراء انتهد ليجيء كل مسلم أسد ليس كالمسلم في الخلق أحد ليس خلق اليوم بل خلق الأبد المسلم لا أحد مثله، خاصة حين يكون نشأ في هذه الصحراء، وتربى على القوة والرجولة والفتوة فيها، بعيداً عن ترف الحضارة وزخرفها والإغراء في لذاتها ومادياتها وشهواتها.
هذا محمد إقبال يناديكم، ويقول: أمة الصحراء يا شعب الخلود من سواكم حل أغلال الورى أي داع قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا من هو الذي قال: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله عز وجل} ؟ إنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى يد من تحقق هذا الأمر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟! لقد تحقق على يدي أمته وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
أي داع قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا من سواكم في حديث أو قديم أطلع القرآن صبحاً للرشاد هاتفاً في مسمع الكون العظيم ليس غير الله رباً للعباد لا تقل أين ابتكار المسلمين؟ لا تقل: أين حضارة المسلمين، أين علمهم، أين تقدمهم؟! لا تقل أين ابتكار المسلمين؟ وانظر الحمراء واشهد حسن تاج دولة سار ملوك العالمين نحوها طوعاً يؤدون الخراج دولة نقرأ في آياتها مظهر العزة والملك الحصين وكنوز الحق في طياتها دونها حارت قلوب العارفين أنتم يا شعب الصحراء، طالما كنتم جمالاً للعصور وجمالاً للتاريخ وجمالاً للأمم، تشرئب الأعناق عند ذكركم.
فكروا في عصركم وانتبهوا طالما كنتم جمالاً للعصر وابعثوا الصحراء عزماً وابعثوا مرة أخرى بها روح عمر ينادي -رحمه الله- أن يكون في المسلم روح عمر من جديد، روح القوة والشجاعة والشهامة والحمية والأنفة وإباء الضيم.(30/18)
احتواؤها على ثروة طائلة
ميزة ثالثة: تتميز هذه الجزيرة في موقعها وأرضها وهوائها وصحرائها وذلك يتعلق أيضاً بجوها وتربتها وصحرائها: إن الله عز وجل جعل فيها خزائن الأرض، ولذلك جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولاحظ التعبير: {مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي} .
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [[فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم تنتثلونها]] أي تستخرجونها.
وكان الناس في يوم من الأيام يحسبون خزائن الأرض هي الذهب والفضة فقط، لا يعرفون غيرها، أما اليوم فقد علمت الدنيا كلها أن هناك في باطن هذه الأرض، خاصة أرض الجزيرة، أنها كما يقولون: خزان يعوم على بحر من النفط.
هذا النفط الذي هو من أعظم خزائن الأرض، وأعظم ثرواته وخيراته، حتى إن حضارة الناس اليوم وحياتهم في الشرق والغرب؛ لا يمكن أن تستغني عن هذا النفط بحال من الأحوال، ولو تعطل لتوقف اقتصادهم، وتوقفت صناعاتهم، بل وتوقفت حياتهم، وسياراتهم، وأمورهم، وتدفئتهم، وغذاؤهم، وأكلهم وشربهم، كل أمورهم بنوها على هذا، خاصة في بلاد الشرق والغرب.
إذاً: في هذه الجزيرة هذه الثروة الهائلة العظيمة التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بها وبغيرها، حينما قال: {وبينا أنا نائم إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} فهذا جزء من خزائن الأرض، أكثر من (70%) من نفط العالم، موجود في هذه الجزيرة وما حولها.
وأما بلاد الدنيا كلها على سعتها أطرافها، فيها قرابة 30% من هذا النفط.
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] وقد انزعج لذلك وجزع منه أعداء الإسلام من الكفار ومن كافة الأصناف، وتعجبوا كيف يكون في هذه البلاد كل هذه الخيرات؟! كيف تكون بهذا الثراء العظيم؟! يقول تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:68-69] .
إنهم يسخرون من هذه الجزيرة ومن أهلها، ويكيدون لهم، ولكن الله عزوجل لهم بالمرصاد قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] .
إن الأمة الإسلامية يوم أن تستطيع أن تتحكم تحكماً حقيقياً بخيراتها، فهي بلا شك الأمة القادرة على قيادة البشرية، وتزعَّم الإنسانية، ونشر دينها في أرجاء المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، وأن تكون هي الأمة القائدة والرائدة العظيمة، التي تذعن لها جميع بلاد الأرض.(30/19)
الجزيرة مركز الدنيا
أولاً: الجزيرة وسط في هذه الدنيا كلها، فإننا نحن المسلمين سرنا حتى إذا صرنا في مركز الأرض قعدنا وقلنا هذا موقعنا الذي اختاره الله تعالى لنا جزيرة العرب، ولذلك الدراسات الحديثة اليوم تقول: إن مكة هي مركز الأرض؛ بمعنى أن اليابسة موزعة على مكة بنسب منتظمة متعادلة، فمكة في الوسط، وقد كتب أحد المتخصصين في علم المساحة؛ وهو الدكتور حسين كمال الدين، كتب في مجلة البحوث الإسلامية، التي تصدرها رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء، في العدد الثاني بحثاً طويلاً، أثبت فيه بالأدلة والدراسات والإحصائيات والبحوث؛ أن مكة هي مركز الكرة الأرضية، وهي مركز الدنيا.
ولذلك الفقهاء القدماء -فقهاء الأحناف والشافعية وغيرهم- يذكرون أن هناك يوماً في السنة لا يكون للأشياء فيه ظل بمكة، يوم واحد في السنة كل الأشياء في مكة عند الزوال لا يكون لها ظل، لماذا؟ لأن الشمس تكون عمودية تماماً على مكة، فلا يكون للأشياء ظل، أما في البلاد الأخرى فإنه عند الزوال -وقت زوال الشمس الساعة 12بالتوقيت الزوالي- يكون للأشياء ظل لكنه قليل، أما في مكة، فهناك يوم أو أكثر، لا يكون للأشياء ظل عند الزوال على الإطلاق؛ لأن مكة مركز الأرض، والشمس تكون عليها عمودية تماماً، فلا يكون للأشياء فيها ظل.
وهذه ميزة، ولذلك قال الله عزوجل: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:7] .
قال بعض أهل العلم: لأن الدنيا كلها حول أم القرى، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث لينذر الدنيا كلها، لا لينذر الجزيرة العربية فحسب، ولا لينذر العرب فحسب، ولكن لينذر الأمم كلها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] .(30/20)
فضل العرب ومميزاتهم
العرب الذين يسكنون في هذه الجزيرة ومن حولها، أي شعب هم؟ وما ميزتهم؟ وما خصائصهم؟ لست من القوميين الذي يريد أن يمدح العرب ويتغزل بهم، ويجعل العرب أفضل الشعوب أياً كانوا: مسلمين، أو يهوداً أو نصارى، أستغفر الله فإن القومية دين آخر غير دين الإسلام بهذا المعني.
ولكنني أيضاً، لست من الشعوبيين الذين يحاولون أن يقللوا قيمة العرب، ويتهموا العرب، أو يفضلوا عليهم شعوباً أخرى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه العظيم الكبير اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، يقول: إن أهل السنة والجماعة على أن جنس العرب أفضل من جميع الأجناس، من عجمها ورومها وعبريها وفارسيها وغيرهم.
فجنس العرب أفضل من جميع الأجناس على سبيل الإجمال، وقد يوجد في العجم أفراد أفضل من العرب، وقد يوجد في الفرس أفراد أفضل من العرب، لكن الجنس -بشكل عام- العرب أفضل، كما أننا نقول مثلاً: جنس الرجال أفضل من جنس النساء.
ومع ذلك قد يوجد في النساء من هي أفضل من الرجال.
هكذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن جنس العرب أفضل من جنس العجم، والروم والفرس وغيرهم.
وهذا أمر معروف، حتى لا يكاد أن يجادل فيه أحد من الذين فقهوا عن الله تعالى وعن رسوله.
وهذا الفضل للعرب من جوانب عديدة منها:(30/21)
اللغة
أولاً: اللغة.
فإن الله عزوجل اختص العرب بهذه اللغة الواسعة الشاعرة القوية، التي أنزل الله تعالى بها كتابه: وَسِعْتُ كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آيٍ به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي(30/22)
الحفظ
الميزة الثانية فيما يتعلق بالعرب هي: الحفظ؛ فإن العرب عندهم أذهان قوية قادرة على الحفظ؛ ولذلك تجد أن العربي يستطيع أن يحفظ من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، ومن الأشعار، والأقوال، وغيرها ما لا يستطيع غيره من الشعوب، وهذه ميزة.(30/23)
العقول
الميزة الثالثة: العقول؛ وأعتقد أن العرب، وخاصة في هذه البلاد يتميزون بعقول عملية، أي: أن العرب يتميزون بالعقول التي تعلمهم كيف يعملون؛ وكيف يخطون الطريق لنصر دينهم؛ كيف يجاهدون في سبيل الله؛ كيف يصلون إلى ما يريدون، وليست العقول التي دمرتها الفلسفة والترف والضياع في أمور لا طائل تحتها.
فإن الفلسفة ضيعت كثيراً من العقول الأجنبية، فالعرب لا يعترفون بهذه الفلسفة، ولا يلتفتون إليها.
فالعقول عندهم هي التي ترشد الإنسان إلى الطريق المستقيم الذي يكون به سعيداً في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.(30/24)
الأخلاق
ومن أعظم الميزات للعرب أيضاً: الأخلاق والغرائز؛ فإنهم يتميزون بأخلاق لا يتميز بها غيرهم، وهذا لا يشك فيه أحد عايش العرب، وعايش غيرهم من الأمم والشعوب.
فهم أطوع للخير، وأقرب للسخاء، والحلم، والشجاعة، والكرم، والوفاء، والعطاء من سواهم حتى في الجاهلية كان العرب عندهم طبيعة طيبة لكنها مثل الأرض الطيبة التي لم ينزل عليها مطر، فلما جاء الإسلام كان المطر الذي نزل على أرض طيبة فـ: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] .
كان العرب في جاهليتهم يهيمون بالحرية، ويأبون الذل، والرق، والاستعباد، ويبعدون عن الغطرسة، والازدراء ولا يقبلون الضيم بحال من الأحوال، ولم يتعودوا على حمل الضيم، ولهم في ذلك قصص عجيبة.
أما الأمم الأخرى فإنها تقبل الضيم، وأذكر لذلك قصة طريفة، يقال: أن كسرى أمر جنوده أن -يمسحوا الأرض- يمسحوا بلاده ويقوموا بإحصائية عن المزارع والأراضين وغيرها، فمسحوها وقدموها بين يديه، فجمع كسرى الناس، وقال لهم: قد جمعنا الأرض، ومسحناها، وقررنا أن نأخذ منكم في السنة (3) مرات مقداراً معيناً من المال، نضعه في بيت المال حتى إذا حصل أمر عارض، احتجنا فيه إلى المال، أخرجنا من هذا المال وأنفقناه في حاجتنا، فما رأيكم؟ فسكتوا وأعاد مرة أخرى: ما رأيكم؟ وسكتوا.
ومرة ثالثة، يقول: ما رأيكم؟ فقام إنسان مسكين رديء الحال وبدأ يعطيه من ألفاظ التبجيل، والتقدير، والتوقير المعروفة للطغاة، ثم قال له: كيف تجعل هناك خراجاً وجُعْلاً ثابتاً في السنة ثلاث مرات، على أرض غير ثابتة؟ فإن الزرع يهيج ويموت، والماء يتوقف، والنبع يجف، والكَرْم يهلك، فكيف نخرج عطاءً ثابتاً على أشياء قد تموت وقد تهلك؟! فقال: يا مشئوم، يا مشئوم ماذا تعمل أنت؟ ما هو عملك؟ قال: أطال عمرك! أنا كاتب.
فقال أين الكتاب؟ فجاء الكتاب كل واحد معه الدواة.
قال: اقتلوه بالدواة، فبدأ كل واحد يضرب هذا المسكين بالدواة حتى قتل هذا المسكين.
وبعد ذلك قال كسرى للناس: ما رأيكم؟ قالوا: رضينا، رضينا، والذي تراه هو المبارك.
فهذه الأمم الأخرى تحملت الضيم، وتعودت على حمله، وأذعنت له حتى لا يهم أحد منهم أن يتكلم بالحق.
أما العرب فكانوا على النقيض من ذلك؛ حتى في جاهليتهم؛ ولذلك أمثلة كثيرة من أمر الجاهلية يطول الكلام فيها، وهي موجودة في كتب الأدب والشعر، لكن لا بأس أن أضرب شيئاً منها: هناك رجل عربي في الجاهلية كان عنده فرس نفيسة يسميها: سكاب، فجاءه شيخ القبيلة، أو ملكهم، فقال له: أريد هذا الفرس، أريدها لي، أو أعطني إياها، أو أهدها إليّ، فرفض وأنشأ يقول أبياتاً من الشعر: أبيت اللعن! إن سكاب علق نفيس لا يعار ولا يباع أبيت اللعن: حجية معروفة عند العرب.
علق نفيس: يعني شيء مهم جداً، لا يعار ولا يباع.
فلا تطمع أبيت اللعن فيها ومنعكها بشيء يستطاع ما دمت مادامت أستطيع أن أمنعكها، فلن أعطيكها بحال من الأحوال.
أيضاً عمرو بن كلثوم، وهو شاعر جاهلي معروف، طلب منه عمرو بن هند؛ وهو ملك من ملوك العرب، طلب منه أن يزوره، قال: تأتي أنت وأمك، فجاء هو وأمه -اسمها ليلى - وزاروا هذا الملك.
فجلس هو عند الملك عمرو بن هند، وجلست أمه عند أمه، فقالت أم الملك لـ أم عمرو -هذا الزائرة-: يا ليلى أعطيني الطبق هذا، وكانت قد أوحت للخادمات أن اذهبن، فهي خططت خطة، وقالت لهن: اذهبن كلكن.
وقالت لها: يا ليلى أعطيني الطبق، تريد أن تكون خادمة لها.
فقالت لها: صاحبة الحاجة تقوم إلى حاجتها، لا أعطيك الطبق قومي أنتِ.
فألحت عليها، فلما أصرت عليها، صاحت وقالت: واذلاه، يا لتغلب، -تغلب قبيلتها- فسمعها ولدها وكان جالساً عند الملك عمرو بن هند في الرواق، فقام إلى سيف معلق في الرواق فأخذه وضرب به رأسه حتى برد، ثم عدا وسطا هو وقومه على كل ما في هذا الرواق فأخذوه وذهبوا، وهربوا إلى جزيرتهم، ثم أنشأ يقول: بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا تهددنا وأوعدنا رويداً متي كنا لأمك مقتوينا؟! يعني: متى كنا خداماً لأمك؟! إذاً: هذا كان حال العرب في الجاهلية، وهذه لا شك أنها خصائص فطرية ليست بالسهلة.
وأذكر -أيها الإخوة- على سبيل المثال في مجال الكرم -مثلاً- العربي حتى الآن والمسلم كريم، وفي بلاد الكفار لا يعرفون شيئاً اسمه الكرم، بل إنهم إذا رأوا مسلماً يجود بالمال لغيره ضحكوا به، وقالوا: هذا مجنون، كيف يعطي المال بدون مقابل؟! فهم لا يتذوقون طعم الأخلاق الفاضلة؛ فضلاً عن أن يعملوا بها.
أما لما جاء الإسلام ظهر صدق العرب في أمور؛ حتى الذين كانوا يحاربون الإسلام ظهر صدقهم، مثلاً: سهيل بن عمرو لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما اتفقوا على كتابة الكتاب، قال: {اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: لا تكتب رسول الله، فوالله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك} فكانوا صرحاء، أي: الكافر منهم صريح في كفره، والمؤمن صريح في إيمانه.
ولذلك كان المنافقون في المدينة غالبهم من اليهود، ولم يوجد في مكة منافق، بل إن في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً من الأيام جالساً تحت شجرة نائم، فجاءه رجل من الأعراب، اسمه غورث بن الحارث وهو مشرك، فرفع السيف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم والسيف في يده، فقال يا محمد: من يمنعك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يده، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف ومده، وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد؛ يا محمد! كن خير آخذ.
قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله -والسيف أمامه الآن، قال: لا -فهو لم يخف من الموت- قال: ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فخلى سبيله النبي صلى الله عليه وسلم} .
إذاً هذا دليل أن هذا الرجل ليس عنده استعداد للنفاق، فهو إما مسلم صريح، أو كافر صريح.
عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه قاتل النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف ثم أسلم، وفي معركة اليرموك ضايقوا عكرمة، وضايقوه، وضايقوه، وتألبوا حوله حتى أرادوه أن يفر من المعركة، فقال: [[قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الكفر في مواطن كثيرة، وأفر منكم اليوم!؟ لا والله، من يبايعني على الموت؟ فبايعه خلق على الموت، فصار يضرب ويقاتل بسيفه، حتى أثبتوه بالجراحة، ثم قتلوه رضي الله عنه]] يقول: غير معقول أني أفر من المعركة، وأنا بالأمس أقاتل الرسول عليه الصلاة والسلام، والآن بعد أن هداني الله للإسلام أفر من أمام الروم.
ولذلك أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على قبائل كثيرة من قبائل العرب، والكلام في هذا يطول.
من القبائل التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليها قريش قال: {الناس تبع لقريش مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم} .
كما أثنى صلى الله عليه وسلم على أسلم فقال: {أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها} .
وعلى الأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع، وبنو تميم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بني تميم: {إنهم أشد الناس على المسيح الدجال} .(30/25)
شواهد التاريخ والواقع والمستقبل
نقطة سادسة في الموضوع وهي: شواهد التاريخ والواقع والمستقبل.(30/26)
شواهد المستقبل
أما فيما يتعلق بمستقبل هذه الجزيرة فسأتحدث عنه في نقاط.
ذكرت قبل قليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم هدد جيشاً بالخسف؛ لأنه يغزو الكعبة، ويحاول أن ينتهك الحرمة، ويسيء إلى بلاد الله تعالى وأهله وحرمه، فالله عزوجل يأخذه بهذه الطريقة التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم.
كذلك الحارث بن مالك، كما في الحديث الذي رواه الترمذي، وسنده حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم -بعد ما فتحت مكة- قال: {لا تغزى مكة بعد اليوم أبداً} وهذا دليل ووعد صادق من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بأن مكة وما حولها محفوظة بحفظ الله عز وجل، فلا تغزى -بعدما غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وفتحها- لا تغزى إلى قيام الساعة، لا يغزوها عدو كافر، يهودي أو نصراني أو شيوعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ووعد به.
وفى ذلك بيان لحفظ الله عزوجل لهذه البلاد ولأهلها، وأنه وإن قصرت فيهم النفقة، وإن عجزوا، وإن كان فيهم نقص في إمكانياتهم وقدراتهم المادية والعسكرية، إلا أن الله عزوجل يحفظ هذه البلاد بقوم صالحين يقومون على أمر هذا الدين، وهم جزء من الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث.
إذاً فجهود الأعداء الخارجيين أياً كانوا، الذين يحاولون غزو هذه الأمة، وتحطيم قوتها وإمكانيتها، سوف تذهب أدراج الرياح، وسوف تدفن في رمال الصحراء، وكذلك جهود الأعداء الداخليين أياً كانوا أيضاً، وبأي اسم تسمو، وتحت أي راية حُشِرُوا، جهودهم سوف تبوء بالفشل، وسوف يدركون في النهاية أنه ليس أمامهم إلا أحد ثلاثة أمور: إما أن يتوبوا إلى الله عز وجل، ويقلعوا عما هم عليه ويتركوا مثل هذا الأمر.
وإما أن يهربوا إلى غيرها، فإن هذه الجزيرة كالمدينة، كما ذكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تنفي خبثها، وتنصع طيبها} فهي تنفي الخبث والنفاق والمنافقين، فإذا جاء الدجال وهو الفتنة الكبرى، لا يدخل مكة ولا المدينة، ويخرج إليه كل منافق ومنافقة، ولا يطيقون البقاء، ويلحقون بزعمائهم، سواء كانوا من اليهود، أو النصارى، أو القوميين أو الشيوعيين أو المنافقين أو سواهم، لا مقام لهم هاهنا، وإلا فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:60-61] .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد، الذي رواه البخاري: {ليُحجنَّ هذا البيت، وليُعتمرنَّ بعد يأجوج ومأجوج} إذاً البيت باق، والمدينة باقية، ومكة باقية، والجزيرة محفوظة بحفظ الله جل وعلا، وما دورنا إلا أن نعمل على أن نكون نحن المؤمنين الذين يحفظ الله تعالى بنا البلاد والعباد، فهذا هو واجبنا.
وسأتحدث عن جوانب أخرى من الموضوع في محاضرة قادمة.(30/27)
شواهد التاريخ
أما شواهد التاريخ فكثيرة.
أولاً: البيت العتيق، قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] قال جماعة من المفسرين: إنما سمي بالبيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط، ولا يزال محفوظاً بحفظ الله تعالى من تسلط الطغاة والكفار والمفسدين عليه.
ثانياً: ما ذكر الله عزوجل في سورة الفيل، لما جاء أبرهة بجيشه لهدم الكعبة، فسلط الله عليهم الطير الأبابيل، وأنزل في ذلك قرآناً يتلى، يمتن به على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1-5] .
ثالثاً: إن هذا البيت من لدن أول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو يُحج ويُعتمر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بواد بين مكة والمدينة فقال: أي واد هذا؟ قالوا: هذا وادي الأزرق.
قال: كأني بموسى هابطاً من هذه الثنية، له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية -إذاً البيت مزار الأنبياء- ثم مر بثنية أخرى ثنية هرشة، قال: أي ثنية هذه؟ قالوا: هذهثنية هرشة.
قال: كأني بيونس بن متى عليه جبة من صوف، راكباً على ناقته له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية} فالبيت مزار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
أيها الإخوة، هذه الجزيرة لم تذعن يوماً من الأيام -مثلاًَ- لتسلط أهل بدعة من البدع، لم يحكمها الرافضة يوماً من الأيام -مثلاًَ- ولا حكمها القرامطة، ولا حكمها الخوارج، ولا حكمتها أي نحلة أو ملة ضالة مضلة، فهذا تعبير عن بقائها للإسلام، وإنما قد يتسلطون على بقعة من بقاعها في وقت محدود، في مكان محدود وزمان محدود، ثم يبعدهم الله تعالى عنها على أيدي المؤمنين الصادقين.
وأمثلة ذلك كثيرة، وما أخبار القرامطة عنا ببعيد.(30/28)
شواهد الواقع
أما فيما يتعلق بالواقع: فإن هذه الجزيرة -بحمد الله تعالى- تحظى وتفرح اليوم، وتعلن سرورها بهذه الصحوة المباركة العارمة، التي قد أينعت وآتت أكلها بإذن ربها، هذه الصحوة في هذه الجزيرة ليست خاصة بالجزيرة ولكنها عامة، وإنما تتميز الصحوة في هذا البلد بأربع مميزات، لا تكاد توجد في أي بلد آخر إلا ما شاء الله.
الميزة الأولى: أنها سبقت تيار الفساد.
فإن البلاد الأخرى عم فيها الفساد وطم، وسيطر فيها العلمانيون والمفسدون والمنافقون، ثم استيقظ المؤمنون بعد ذلك فبدءوا من جديد، فكانوا مسبوقين بالفساد، وكأن فعلهم كان استجابة لهذا الفساد الموجود ورداً عليه.
أما في هذه الجزيرة؛ فإنها منذ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، وهي لا تزال تعيش في أوضاع -على سبيل الإجمال- جيدة، وتنتقل من خير إلى خير، ولا يزال العلم والعلماء، والدعاة وطلبة العلم، والحلقات والدروس العلمية فيها قائمة على قدم وساق، لم يمر بها خلال ذلك فترة ركود أو جمود، أو غفلة أو انهيار، أو تسلط الفساد والمفسدين عليها، وهذه نعمة كبيرة.
فالخير سبق تيار الفساد، ولذلك رأينا الفتيات -مثلاً- الملتزمات بالحجاب، واللاتي يلبسن القفازين في أقدامهن وأيديهن، وهذا مظهر، وأنا لا أقول أن هذا كل شيء وأن هذا هو الإسلام، لكن هذا مظهر يدل على الالتزام بالحجاب وعلى التدين، رأينا هذا قبل أن نسمع أصوات الأفاعي المنادية بتحرير المرأة بزمان طويل.
وهذا دليل على أن تيار الصحوة واتجاه الناس إلى الخير والإسلام؛ سبق تيار الفساد والعلمنة والتغريب في هذه البلاد، وهذه ميزة كبيرة ولا شك.
يتبع هذه الميزة ميزة أخرى وهي: أن هذه الصحوة في هذه البلاد هي من المجتمع وجزء لا يتجزأ منه، ليست الصحوة في هذه البلاد عبارة عن جمعية خاصة، أو فئة معينة، أبداً.
الصحوة هي المجتمع في هذه الأمة، وهي الناس الذين أعلنوا أنهم دائماً وأبداً مع هذه الصحوة، ومع الإسلام، ومع الخير، ضد كل دعوة تناوئ الدين وتحاربه.
ولذلك فالصحوة جزء من هذا المجتمع لا يتجزأ، بل هذا المجتمع كله يعيش صحوة كبيرة، بخلاف بلاد أخرى كثيرة، فقد تجد أهل الخير فئة محدودة منعزلة، وقد تجد الغلبة في المجتمع للشر وأهله، وقد يرمى هؤلاء بشتى التهم فيجدون من يصدق ما يقولون.
الميزة الثالثة -وهي أيضاً من ميزات الصحوة في هذه البلاد خاصة- هي: أنها سلمت من الغلو، فإننا نجد في كثير من البلاد أن الصحوة الإسلامية قد ابتليت ببعض الأطراف التي شذت عن القاعدة وغلت وزادت، وربما يكون ذلك بسبب الفساد الموجود في تلك البلاد، كما نجد -مثلاً- شيئاً من ذلك في مصر، أو نجد شيئاً من ذلك في الصومال، أو نجد شيئاً من ذلك في باكستان، أو في الهند، أو في الجزائر، أو غيرها، حتى إنه يوجد نماذج -وإن كانت قليلة- ممن يسمون حقيقةً بالمتطرفين، وهم فعلاً غلاة وإن كانوا قليلين.
والعدو يستغل هؤلاء، ويحاول أن يطلق لفظ التطرف ليشمل كل المؤمنين، حتى في هذه البلاد يحاول أن يرميهم بهذا اللقب الجارح، فيحاول أن يصف كل ملتحٍ يضع المسواك في جيبه، ويقصر ثوبه، ويتردد على المسجد، يحاول أن يصفه بأنه متطرف.
فلا علينا من الأعداء، وليقولوا ما شاءوا، فنحن لم نعبأ بهم يوماً من الأيام، ليقولوا عنا متطرفين، وليقولوا عنا أصوليين، وليقولوا عنا ما شاءوا، فقد عرفنا طريقنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم نعد نلتفت إلى ما يقولون عنا، بل العيب عندنا والذي يحزننا لو مدحونا، فلو مدحونا لكان هذا دليلاً على أننا فينا شيء يعجبهم ويرضيهم، وهم أعداء لا يرضيهم إلا ما يسخط الله عزوجل، فالذي يسرنا هو أن يذمونا.
لكن يوجد في البلاد الأخرى أناس قد يكون عندهم شيء من الغلو، أما في هذه البلاد ففي حدود ما أعلم؛ فإن الله تعالى حمى هذه البلاد وهذه الصحوة، وقد تجولت في كثير من مدنها ومناطقها، وجلست مع الشباب، فلم أر هناك ما يسمى بالتطرف.
صحيح أن الآراء قد تختلف، وقد يوجد الإنسان عنده شدة، وقد تختلف أساليب معالجة الأخطاء، ولكن ليس هناك غلو في حدود ما أعلم.
وأرجو الله عزوجل الذي حفظ هذه الصحوة، وهذه الأمة فيما مضى، أن يحفظها فيما بقي، فإن العدو يتربص الدوائر، ويحاول أن يجد ولو نموذجاً يسيراً حتى يعمم هذا النموذج، ويحاول أن يرمينا كلنا بمثل هذا الأمر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] .
ميزة رابعة: إن هذه الصحوة بنيانٌ واحد متصل بعضه ببعض، ليست شيعاً وأحزاباً، كما هي الحال في عدد من البقاع، تتحارب فيما بينها، وكل واحدة ترفع راية، فهذه الصحوة بنيان واحد متصل، يدور حول العلماء الكبار، وحول طلبة العلم، وحول الدعاة المعروفين المشهورين، وحول الخطباء الذين تستمع إليهم الأمة في كل جمعة، وحول الأئمة وأمثالهم ممن هم قادة الصحوة، وزعماؤها وأئمتها وموجهوها، وهذه نعمة كبيرة، فليست الصحوة شيئاً آخر غير الإسلام، وغير المجتمع المتدين، والعلماء، وطلبة العلم، كله أمر واحد لحمته وسداه، لا يمكن تمييز بعضه عن بعض.
وهذه كلها نعم يدركها العقلاء العارفون بأحوال الأمم الأخرى.(30/29)
الأسئلة
.(30/30)
خطأ استدلال دعاة الوطنية بحديث: {إنك لأحب البلاد إليَّ}
السؤال
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: {إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} .
فالدعاة إلى الوطنية، وإلى حب الأرض والتراب، قد يستغلون هذا الحديث لإقناع الناس بصحة ما يدعون إليه من حب الوطن والدفاع عن الوطن، دون ذكر للدين، فما قولكم؟
الجواب
في الواقع، أما دعاة الوطنية فإننا نحثو في وجوههم التراب، ونقول لهم: خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تتطايروا عمياً وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا في إندونيسيا فوق إيران في الهند في روسيا وتركيا إذاً بلاد الإسلام واسعة، والمسلم لا يشده إلى الوطن أنه ولد فيه، وأظلته سماؤه، وأقلته أرضه، ولا تراب الوطن، ولا خضرة الوطن، ولا زيتون الوطن، ولا شيء من ذلك، ولا هذه الصحراء العفراء كما يقولون، كلا! وإنما يشده للوطن أنه بلد الإسلام، فأي بلد يحكم بالإسلام وهو وطن الإسلام ندافع عنه دفاعاً عن الإسلام.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أحب مكة؛ لأنها بلد الكعبة، ولأنها البلد الذي يحبه الله عزوجل، فليس حبه لها لأنها مكة التي ولد فيها، كلا! وإنما لأن الله تعالى يحبها، وهكذا المؤمن يحب ما يحبه الله تعالى من البقاع والأشخاص والأعمال والأقوال والأسماء وغير ذلك، ويبغض ما يبغضه الله تعالى، أما دعاة الوطنية فاحثوا في وجوههم التراب.(30/31)
مفهوم الوحدة العربية القومية الديمقراطية
السؤال
الوحدة العربية، القومية العربية، حكم الشعب بالشعب، ما معنى هذه المصطلحات؟
الجواب
الوحدة العربية: هذه دعوة إلى توحد العرب كلهم تحت راية واحدة، مسلمهم وكافرهم ويهودهم ونصرانيهم، وهذه لا شك دعوة قومية باطلة مناوئة للإسلام.
أما القومية العربية، فهي كذلك.
وأما حكم الشعب بالشعب: فهو ما يسمى بالديمقراطية، فالغرب ينادي بالديمقراطية، والمقصود بالديمقراطية؛ أن لا يُحكم بالإسلام، وإنما يحكمون بما يراه الشعب.
فالشعب يختار ممثلين له، يكونون في مجالس معينة، فإذا أريد مسألة تنادوا فيها، مثلاً لو أرادوا البحث في قضية، أوضاع المرأة، هل نأذن للمرأة بالاختلاط بالرجال أو لا تختلط بالرجال مثلاً، يقولون: لا نرجع إلى القرآن والسنة، إنما نعرض الموضوع على الممثلين الذين يمثلون الشعب، والذين اختارهم الشعب.
فنقول: ما رأيكم؟ فإذا قال أكثرهم: لا مانع أن تختلط المرأة بالرجل فتختلط، وقل مثل ذلك في قضايا العقوبات، والحدود، والمعاملات، والأحكام وغيرها، لا يؤمنون بحلالٍ ولا حرام.
فهذا معنى الديمقراطية في الأصل.
وبعض الناس يطلق الديمقراطية ويقصد بها الشورى.
ونحن لا يعنينا هؤلاء، بل يعنينا مصطلح الديمقراطية كما هو في أصله، وهي كلمة يونانية أصلها: ديموكراتي، أي: حكم الشعب، ويعرفها بعضهم: بأنها حكم الشعب بالشعب.
فالشعب مصدر هو السلطات، وهو الذي يحلل ويحرم، ويأمر وينهى، ويمنع ويبيح، هذا معنى الديمقراطية في الأصل.(30/32)
ذو السويقتين والكعبة
السؤال
ذكرتَ في المحاضرة أن الكعبة لا يغزوها غاز، فما رأيك في ذي السويقتين الذي يغزو الكعبة ويهدمها، ويقلعها حجراً حجراً؟
الجواب
ذو السويقتين أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {من الحبشة، رجل صغير الساقين، أو أعوج الساقين، يقلع الكعبة حجراً حجراً} فكيف نقول؟ يمكن الإجابة عنه بأجوبة: إما أن يقال: إنه لا يغزوها غزواً؛ لأنها حينئذٍ يكون من ضياع الأمر، وقبض أرواح المؤمنين، ما يجعل أنه يأتي إليها بدون حاجة إلى غزو وجند وأعوان وأنصار.
الجواب الثاني: أن يقال: هذا مستثنى؛ لأنه أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يغزوها غيره.(30/33)
حكم الحجز في المسجد
السؤال
أخ يسأل عن الذين يضعون الحجز -كما يقول- في الصف الأول، كالورق أو قلم أو مفاتيح، وهم إما في الصفوف الأخيرة يقرءون، أو يكون بعضهم خارج المسجد؟
الجواب
على كل حال، إذا كان الذي وضع علامة الحجز -كما يقول الأخ الكريم- موجوداً داخل المسجد فأرى أنه له الحق في ذلك إذا أراد أن يتكئ، أو أطال البقاء في المسجد.
أما إذا كان خارج المسجد فليس له الحق في ذلك.
وأنصح الإخوة أن لا يضعوا هذا الحجز؛ لأن كثيراً من الناس يلاحظون وينتقدون، ونحن نحب ألا يكون عليكم كلام، وكلكم -بحمد الله وشكره- من أهل الخير، الذين أنتم علامة أو كالشامة بين الناس، فنريد أن لا يلاحظ الناس أي أمر مهما كان قليلاً ودقيقاً، وإن كان الأمر من حقك والناس قد يلاحظونه فكونك تتركه وتتنازل عنه لوجه الله عزوجل؛ فهذا شيء طيب وتشكر عنه.(30/34)
فضل الشام
السؤال
ما الجمع بين ما ورد في فضل الجزيرة وعودة الشام إليها، وما ورد في فضل الشام لا سيما في آخر الزمان؟
الجواب
الجزيرة والشام كلها من بلاد الإسلام، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطائفة المنصورة وهم بالشام، فإن المقصود من قوله: {وهم بالشام} والله تعالى أعلم، أي: في آخر الزمان.
فإن المهدي وعيسى بن مريم عليهما السلام يكونان بالشام، كما ثبت ذلك في الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(30/35)
معنى: {ومنبري على حوضي}
السؤال
ذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {ومنبري على حوضي} فهل هذا يعني يوم القيامة، أي هل هذا الكلام على معناه الظاهر أم ماذا؟
الجواب
ظاهر الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن منبره على حوضه، وهو قد يدل على أن هذه البقعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي روضة فعلاً من رياض الجنة.(30/36)
حدود جزيرة العرب
السؤال
ذكرت إخراج اليهود، فما هي حدود جزيرة العرب؟
الجواب
حدود جزيرة العرب مختلف فيها، لكن أكثر العلماء يحددون الجزيرة بتحديد قريب من الذي يحددها به الجغرافيون اليوم.
وبعضهم قد يقتصر على الحجاز.
ومسألة إخراج بعضهم لا يلزم إخراج اليهود والنصارى من كل الأنحاء في الجزيرة، إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم منها، بمعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام -مثلاً- أقرهم في اليمن، وكذلك أبو بكر وعمر أقروهم فيها.(30/37)
من العادات السيئة
السؤال
ذكرت أن الناس سواسية عند الله وأن أكرمهم عند الله أتقاهم، وهناك ميزة سيئة في هذه الجزيرة وهي التفاخر بالأنساب.
وهناك من لا يقبل تزويج الرجل حتى إذا كان ذا دين أو عالم إذا كان أقل منهم نسباً، فأرجو نصح المسلمين في ذلك؟
الجواب
في الواقع هذه القضايا التي نخصص لها محاضرة.
لكن بشكل عام أحذر أهل الجزيرة من أمور: أولها: أن لا يغتروا بهذا الكلام ويعتقدوا أن مؤدى هذا الكلام أن نضع خدودنا على أيدينا وأن لا نعمل شيئاً، فإن الله عزوجل -كما ذكرت في ثنايا المحاضرة- لم يخصص شخصاً أو بقعة لذاتها فقط؛ إلا بالعمل الصالح، فمن كان من أهل العمل الصالح فهو من أقرب الناس إلى الله عز وجل، وأولى الناس بالإسلام، ولو كان في أقصى بلاد الدنيا، ومن كان كافراً أو فاجراً أو منافقاً؛ فإنه أبعد الناس عن الله، وأقرب الناس إلى سخطه وعقوبته ولو كان في جوف الكعبة، فلا نغتر بهذا الأمر.
أمر ثانٍ: لا نغتر بالكلام الذي ندندن حوله كثيراً حين نقول: نحن أفضل من غيرنا، وبلادنا أحسن من غيرها، والمرأة لا تزال عندنا محجبة، والاختلاط غير موجود.
لا تنظر إلى الوراء، بل يجب أن ننظر إلى الخطوات والمخططات التي تحاك ضد هذه البلاد وأهلها، وإلى الأخبار التي تترامى إلى مسامعنا يوماً بعد يوم، والتي تدل على أن هناك من يريد بهذه البلاد شراً.
وقد استمعت إلى مقابلة مع رجل ذي مكانه في إحدى الإذاعات، وهو يُسأل عن وضع المرأة في هذه البلاد، فقال للأمريكان الذين يقابلون معه: إنه يجب عليكم أن لا تقيسوا وضع المرأة في هذه البلاد مع وضع المرأة في أمريكا؛ فوضعها في أمريكا لم تحصل على حقوقها إلا بعدما ناضلت (200) سنة، وحصلت على حق التصويت بعد (120) سنة، فلا تقيسوها بالمرأة في بلادكم -أي أن المرأة في بلادنا متخلفة هكذا معنى كلامه- فلا تقاس بوضع المرأة في أمريكا التي حصلت على حقوقها، وكأن المعنى: انتظروا فعامل الزمن سوف يجعل المرأة هنا تكون كالمرأة في تلك البلاد.
ثم قال كلاماً آخر لا أود أن أقوله، يتحدث عن الدعوة إلى المدنية، وأننا نريد المدنية للناس، ومعروف ماذا يقصد بالمدنية، لكن لا نريد أن نفرضها على الناس بالقوة، والمقابلة مسجلة عندي.
أمر ثالث أنبه إليه، وهو ما أشار إليه الأخ، وهي قضية التفاخر بالأحساب فهذا من أمر الجاهلية، كما قال عليه الصلاة والسلام: {أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت} فلا ينبغي الفخر بالأحساب، قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم لآدم وآدم من تراب} .
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم في أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء ولذلك لا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، ولا لقبيلي -كما يقولون- على خضيري، أو شعوبي، أو أو إلى آخره إلا بالتقوى والعمل الصالح.
فالناس كلهم سواسية، ولا بأس أن يتزوج هذا من هذه، أو هذه من هذا، والكفاءة لا تتعلق بذلك.(30/38)
فتح القسطنطينية
السؤال
ذكر بعض طلبة العلم أن فتح القسطنطينية التي تم على يد الفاتح لا يعد فتحاً إسلامياً؟
الجواب
بل هو فتح إسلامي، لكن ليس هو الفتح الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفتح الأخير يكون قُبيل خروج الدجال.
أسأل الله عز وجل أن يغيث قلوبنا وبلادنا وأرواحنا، وأن يجعل هذه البلاد حصناً حصيناً للإسلام وأهله، وأن يكفيها ويكفي أهلها شر أعدائها الظاهرين والمستترين.
وأسأل الله عزوجل أن يحفظ بيته وأهله وبلاده، إنه على كل شيء قدير.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(30/39)
جزيرة العرب للإسلام فقط
السؤال
هل نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يبقى في جزيرة العرب دينان مجرد نهي أن يوجد أو أمره بإبعاد أي دين غير الإسلام، أم فيه إخبار بأنه لا يمكن أن يستمر في جزيرة العرب دينان باقيان يدينون بهما؟
الجواب
بعض أهل العلم قالوا: هذا نهي: {لا يجتمعْ في جزيرة العرب} وبعضهم قالوا: إنه خبر: {لا يجتمعُ في جزيرة العرب} والأظهر والله تعالى أعلم: أن هذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بإخراج اليهود والنصارى وسائر أصحاب الملل والأديان الأخرى من هذه الجزيرة؛ بحيث تبقى عاصمة الإسلام، ولا يقيم فيها إلا المسلمون.(30/40)
إشكال حول الخسف في جزيرة العرب
السؤال
ذكرت الحديث الذي فيه الخسف في جزيرة العرب، علماًً بأنه قد ذكر في إحدى المناسبات؛ أن الشيخ الزنداني يقول: بحكم وجود السلسلة الضخمة من جبال السروات يكون فيها الخسف؟
الجواب
الحقيقة لم أسمع ولم أقرأ هذا الكلام، الذي ذكره الشيخ الزنداني، ولهذا لا أستطيع أن أتكلم عنه.(30/41)
حكم من يكره مكة والمدينة
السؤال
ما رأيكم في من يكره مكة لوجود الرائحة وغير ذلك، وكذلك المدينة؟
الجواب
نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، مكة والمدينة لا يكرههما إلا منافق، كيف تكره البيت الحرام؟! البيت العتيق الذي تهفو إليه أرواح المؤمنين وأفئدتهم من كل مكان؛ استجابة لأمر الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27-28] واستجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] .
فلا بد أن يخفق قلب المؤمن بحب مكة والمدينة، ولا يلزم من ذلك أن يحب كل ما فيهما، فقد يكون فيهما من الناس، ومن الأحوال، ومن الأوضاع، ومن الأشخاص ما لا يُحَب، فيميز الإنسان بين هذا وهذا.(30/42)
سبب تسمية الدرس
السؤال
لماذا اخترت الموضوع أن يكون "جزيرة الإسلام"، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {جزيرة العرب} ؟
الجواب
هي جزيرة العرب، لكنني أحببت من خلال العنوان أن أؤكد للناس كلهم أن جزيرة العرب هي جزيرة الإسلام، أن جزيرة العرب التي اسمها في التاريخ والجغرافيا جزيرة العرب، اسمها في الواقع العملي جزيرة الإسلام في الماضي والحاضر والمستقبل، فهي لا تصلح إلا للإسلام، ولا يصلح لها إلا الإسلام.(30/43)
فضل وادي العقيق
السؤال
وادي العقيق في المدينة المنورة، هل ورد فيه شيء؟
الجواب
نعم.
ورد في الحديث الصحيح عن عمر وغيره: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في وادي العقيق، فقال: أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة} ، وفى رواية: {فقل: عمرة وحجة} .(30/44)
فضل جبل أحد
السؤال
كذلك جبل أحد هل ورد فيه شيء؟
الجواب
نعم.
ورد في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {هذا أحد جبلٌ يحبنا ونحبه} .(30/45)
سبب تسمية البقيع ببقيع الغرقد
السؤال
ما هو سبب تسمية البقيع ببقيع الغرقد؟
الجواب
سبب تسميته بذلك؛ لكثرة شجر الغرقد في ذلك البقيع.(30/46)
مخطط دولة اليهود
السؤال
ما رأيك في تخطيط أبناء القردة والخنازير -اليهود- في وضع دولة كبيرة لهم، ومنها أجزاء من بلاد الإسلام سموها دولة إسرائيل الكبرى؟ هل هذا صحيح؟
الجواب
نعم.
اليهود يخططون لمراحل: الأولى: إسرائيل الصغرى، وهي الموجودة الآن.
المرحلة الثانية: إسرائيل الكبرى، وهي تمتد امتداداً كبيراً، وتأخذ أجزاءً كبيرة من بلاد العرب، ومنها: بلاد في هذه الجزيرة، يخططون لها، فهم يحلمون بأراض كبيرة، كخيبر مثلاً، وتيماء، وفدك، وغيرها من البلاد التي يدعون أنها كانت لهم، يخططون لذلك ويكيدون.
والمرحلة الثالثة التي يحلم بها اليهود هي: إقامة دولة إسرائيل العالمية التي تحكم الدنيا كلها، وهذه كلها أحلام تكتب على الماء، مثل الذي يرقم على الماء لأننا نملك وعداً من الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أيمن بن صريم: {تقاتلون المشركين -والمقصود بالمشركين هاهنا اليهود- على نهر بالأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه.
قال الراوي: ولا أدري أين الأردن يومئذٍ} والحديث حسن، كما حسنه جماعة من أهل العلم، والأدلة قويه وقائمة على أنه حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإسرائيل لن تتعدى حدودها الحالية كثيراً، وسوف نقاتلهم على نهر الأردن وننتصر عليهم: {حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} .(30/47)
الجمع بين حديثين
السؤال
كيف الجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد} وقوله عن المسيح الدجال: {إنه ينزل في سبخة، ثم ترتج ويخرج كل كافر ومنافق} ؟
الجواب
هذا من نفي المدينة لخبثها، فالخبث موجود لكنها تنفيه غالباً، ولذلك هذا من نفي المدينة لخبثها، أنه إذا جاء الدجال نفت المدينة خبثها فخرج الكفار والمنافقون منها.(30/48)
أساليب خصوم الإسلام
إن الإسلام هو دين الله تعالى، والله تعالى قد قضى وقدر أن الصراع دائم بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، فالإسلام محارب من قبل أعدائه محاربة ضارية، وأعداء الإسلام يتخذون كل الأساليب التي تمكنهم من حرب الإسلام، وما من أسلوب إلا وجربوه ضد الإسلام، ولابد أن يعرف المسلم هذه الأساليب، حتى يكون على بينة من أمره.
وقد تحدث الشيخ عن جملة من هذه الأساليب بشيء من التفصيل.(31/1)
منزلة الأخوة في الله عز وجل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: أيها الإخوة: يسرني في بداية هذا اللقاء بعد أن ألقي عليكم تحية الإسلام، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أن أرحب بهذا الجمع الأخوي المبارك، ببيتين من الشعر ليس من نظمي، ولكنهما من تجميعي، فأنا لا أنظم ولكنني أجمع، وأنتم جميعاً تعرفون المصانع أو الصناعات التجميعية.
يا قوم إن حبال الله تجمعنا فهل يفرقنا خيطٌ من البشر أما البيت الآخر فهو: والشوق في أضلعي ما إن يبينه نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب إن مثل إن هذا الجمع الطيب، يثير في النفس مشاعر الأخوة الإسلامية، فعلى رغم تنائي الديار، وتباعد الأخطار والأمصار؛ إلا أن لواء الأخوة الإسلامية يظلل الناطقين بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويجمعهم على كلمة التقوى، ويوحد بينهم، ويُقِّرب مشاعرهم، فهم من أقصى بلاد العالم الإسلامي إلى أقصاه، يلتقون في شعورٍ واحد منسجم، حتى كأنهم جسدٌ واحد، فيكون شأنهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} وفي الحديث الآخر: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} .
وكما قال الشاعر: تذوب حشاشات العواصم حسرةً إذا دميت في كف بغداد أصبع ولو أن بَرَدى أنَّت لخطبٍ أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع هكذا أخوة الإسلام تجمع المتباعدين والمتقاربين.(31/2)
الصراع بين الحق والباطل سنة ماضية
أيها الإخوة: موضوع المدارسة في هذه الليلة كما سمعتم هو: أساليب خصوم الإسلام في ضرب الدعوة الإسلامية.
وقد اعترض في العنوان على كلمة: المعاصرة؛ لأن الأساليب في حقيقتها لا تختلف، فالأساليب التي كان يستخدمها فرعون لحرب موسى، هي الأساليب التي استخدمها النمرود لحرب إبراهيم، وهي التي استخدمتها قريش لحرب محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الأساليب التي تستخدمها الجاهلية في كل زمان ومكان؛ لحرب الإسلام والدعوة الإسلامية.
إخوتي الأكارم، إن الذي يستمع إلى مثل هذا الحديث، يفترض -بادئ ذي بدء- أن عنده تسليماً مطلقاً لا يقبل الشك، في قضية الصراع بين الحق والباطل.
إذاً: من البدهيات التي يجب أن نوقن بها يقيناً كاملاً: أن الحق والباطل منذ وجد الإنسان في صراع دائم لا ينتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، صراع يبدأ بالدعوة إلى الحق، وانقسام الناس إلى مؤمنٍ وكافر، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] .
إذاً: يترتب على الدعوة إلى الله انقسام الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، لا تنتهي القضية عند حد مجرد اختيار الإنسان للهدى أو للضلال، للإيمان أو للكفر، كلا! بل تنتقل إلى مسألة الصراع والخصام، ولذلك قال: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] الخصام بكل وسيلة، بالصراع العقائدي، واللسان والإعلام والبيان، وبكل وسيلة ممكنة، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] .
إذاً: هناك صراع بالقول واللسان والحجة والبيان، وغير ذلك من الأساليب، بين جند الله وجند الشيطان، حتى الرسل والأنبياء جعل الله تعالى لهم أعداءً، بل إن الله تعالى عبَّر عن الكافرين بأنهم أعداء الله سبحانه، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] فالكافر عدوٌ لله تعالى، كما أن الله تعالى عدوٌ له، وهذا الزخرف اللفظي والبهرج الإعلامي، الذي يستخدمه الضالون، يغتر به من لم يرد الله تعالى هدايتهم بل أراد فتنتهم، ولذلك قال في الآية السابقة: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} [الأنعام:113] أي هذا الزخرف وهذا الخداع والتضليل الإعلامي الذي يسلكه أعداء الإسلام: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] بعد ذلك ينتقل الصراع إلى مرحلته الثالثة والأخيرة، وهي الحرب الصريحة بين الإسلام والكفر، وهذا ظاهر جداً، كما في قوله تعالى -حين ذكر عن فرعون أنه كان يهدد موسى وبنى إسرائيل بقوله- {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] هذه هي نهاية الصراع، أنه يتحول إلى صراع عسكري مسلح دامي، والعاقبة للمتقين في الدنيا وفي الآخرة.(31/3)
أسباب معرفة كيفية الحرب ضد الإسلام
أيها الإخوة: لابد لنا -جميعاً- أن نفهم كيف يحاربون الإسلام، سواءً كانوا من الأعداء البعيدين أو من القريبين لأسباب: أولاً: إن الذي لا يعرف أساليب الخصوم في حرب الإسلام؛ قد يتأثر بهذه الأساليب، فربما يذهب بعضنا ضحية تضليل، أو خداع أو تلبيس من أعداء الإسلام، بسبب جهله بالأساليب والطرائق التي يسلكونها.
ثانياً: قد يتعدى الأمر ذلك، ليشارك الواحد منا مشاركة فعلية في هذه الأساليب، ويكون عوناً لأعداء الإسلام على المسلمين من دون أن يشعر، لماذا؟ لأنه مغفل لم يدرك هذه الأساليب.
ثالثاً: لأننا باعتبارنا مسلمين، مطالبون بمواجهة هذه الأساليب بمثلها.
فحتى نواجهها ونرد كيد المعتدي في نحره؛ لابد أن نعرف هذه الأساليب واحداً بعد آخر.
وسأشير إلى خمسة من الأساليب، التي ظهر لي أنها تجمع معظم الأعمال والخطط التي يسلكها أعداء الإسلام، سواءً كانوا من القريبين أو البعيدين.(31/4)
حقيقة الحرب ضد الإسلام
وإذا كان البعض يحاولون أن يغطوا هذا الصراع -أحياناً- بألفاظ وهمية وأشياء أخرى؛ فينبغي ألَّا ننخدع عن حقيقة هذه الحرب الضارية ضد الإسلام.
أحياناً نسمع من يقول: إن الغربيين يعطون الحرية للإسلام والمسلمين في الدعوة والصلاة وغيرها، وهذا الكلام قد يكون فيه شيء من الحق ولكن أُريد به باطل، أو شيء من الحق حمل أكبر من حجمه الطبيعي، فالواقع أن أولئك القوم، قد يقبلون بنشاط إسلامي إلى مدى معين وإلى مستوى معين، لكن لا يقبلون أن يرتفع الإسلام عن هذا المستوى، بحيث يتحول الإسلام إلى خطر يهددهم ويهدد مجتمعاتهم وأديانهم.
فنحن جميعاً يجب أن نعلم ونقتنع -بمقتضى مطلق الصراع بين الحق والباطل، الذي قرره الله تعالى في كتابه، وقرره الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، بأكمل وأوضح بيان- أنهم لا يمكن أن يرضوا بذلك.
ولا مانع أن أشير إلى مثال صغير ولكنه معبر: فرنسا بدأ يغزوها الإسلام، وقبل فترة ليست بالقريبة، كتب أحد الصحفيين الفرنسيين، يشكو من الإسلام ومن تعاظم مده ويقول: كأنني أتصور ذلك اليوم الذي إذا جاء وقت الأذان، وضعت مكبرات الصوت في شوارع باريس، ولبس الناس الثياب البيضاء، فإذا أذن المؤذن أغلقت المحلات، وفرشت البسط في الشوارع، واتجه الناس إلى مكة وقالوا: الله أكبر.
ويذكر كيف أن عدداً من أصدقائه كان منهم واحد رسام، وآخر وثالث ورابع، وتحولوا إلى مسلمين، فكان الإسلام يتحرك في فرنسا بصورة جيدة، وينتشر بشكل سريع، لكن الكل سمعوا بقصة الفتيات الثلاث المحجبات، التي أصبحت قضيتهن قضية كبرى في الصحافة العالمية، وقد حصلت على قصاصات من كثير من الصحف الأوروبية والأمريكية، تتحدث عن قضية الحجاب، لأن مجموعة من الفتيات العربيات المسلمات لبسن الحجاب في المدرسة، فثارت قضية كبرى، ومنعن من دخول المدرسة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت قضية صحفية، ونبش أولئك القوم التاريخ الماضي، ونبشوا قضية الحجاب في مصر، وقضية الطهطاوي وقاسم أمين وتاريخ الحجاب، ثم انتقلوا إلى قضية الخميني والخطر القادم من الإسلام، وربطوا هذا كله بوجود ثلاث فتيات يلبسن الحجاب في المدرسة.
إذاً حالوا أن يضفوا على القضية زخماً كبيراً، ويعظم الأمر ويتطور ليصبح قضية كبرى في صحافتهم، بل في مؤسساتهم الإدارية.
إذاً قضية الحرية التي تمنح للإسلام هناك، هي مجرد غطاء وهمي أو حرية إلى مستوى معين، فإذا تخطَّاها وتعداها المسلمون فسيواجهون حرباً ضارية.(31/5)
انقسام الناس إلى إيمان لا نفاق فيه ونفاق لا إيمان فيه
أيها الإخوة: مرَّ على المجتمعات الإسلامية في هذا العصر وقت من الأوقات، ربما نستطيع أن نقول: إن غالبية الناس في تلك المجتمعات، كانوا وسطاً، ليس لديهم صلاح ظاهر متميز، واستقامة وحرص على الدعوة، كما أنه ليس لديهم انحراف ظاهر -أيضاً- وعداوة للإسلام.
فغالبية الناس متوسطون، يصلون الصلوات الخمس -هذا في وقتٍ ليس بالبعيد في أكثر المجتمعات الإسلامية- ويؤدون الزكاة، ويحافظون على الأعراض، لكن ليس لديهم غيرة على الإسلام، ولا حماس للدين، ولا انطلاق في الدعوة، ثم مني العالم الإسلامي بعدد من النكبات والنكسات، والدعوات المضللة، من شيوعية إلى علمانية إلى قومية إلى بعثية إلى غيرها، ومني بتجارب مريرة في مجال السياسة والاقتصاد وغيرها، ومني -أيضاً- بالاستعمار العسكري الذي سيطر على معظم البلاد الإسلامية، فحاول مسخ المسلمين، وتحويلهم عن دينهم إلى أديان أخرى، ثم جاءت هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها المسلمون اليوم.
ولذلك أصبحت تجد -عياناً- أن المجتمعات الإسلامية اليوم، بدأت تتحول تدريجياً إلى التميز الذي ورد الإخبار عنه في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أشار أنه في آخر الزمان وقبل قيام الساعة، يتحول الناس إلى معسكرين، معسكر إيمان لا نفاق فيه ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، الآن بدأ هذا التميز وبدأت بوادره، فأصبح كثير من الناس يتجهون اتجاهاً إسلامياً صحيحاً عن علم ومعرفة ووعي وقناعة بالدين، فيضحون في سبيل الدين بالغالي والنفيس، ويختارونه على علم، ويبذلون في سبيله الوقت والمال والإمكانيات والجهود وكل ما يستطيعون، ويتحملون في سبيله الأذى والتعب.
وفى مقابل ذلك، تجد أن هناك جموعاً من المنسلخين عن جسم هذه الأمة، الذين رضوا لهم اسماً آخر غير اسم الإسلام، الذي سماهم به الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قال الله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] رضوا أن يكونوا شيوعين -مثلاً- أو علمانيين أو ملحدين أو زنادقة، أو أي أمر آخر غير الإسلام، هؤلاء اختاروا طريقهم -أيضاً- عن عمد وبوضوح، وصاروا يضحون في سبيله، ويتعبون من أجله، ويدعون إليه.
إذاً: أصبح المجتمع يتميز إلى معسكر إيمان عن وعي وبصيرة، ومعسكر نفاق أو ضلال -أيضاً- عن معرفة وإدراك وإصرار مسبق، وموقع الوسط الذي كان بالأمس يشغله أكثر الناس، بدأ ينقص ويتآكل تدريجياً، فبعض الناس تتجه نحو الإسلام عن وعي، وبعضهم يتجه إلى الضلال والانحراف عن وعي وتعمد وإصرار أيضاً، أما الوسط فيقل شيئاً فشيئاً، وربما يأتي يوم من الأيام لا تجد في أي مجتمع إسلامي شخصاً تستطيع أن تقول: إنه متوسط، ليس مؤمناً إيماناً حقاً ولا عدواً للإسلام، قلَّ أن تجد شخصاً كهذا.
وهذا نموذج للصراع بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر والهدى والضلال.(31/6)
أسلوب الاحتواء
الأسلوب الأول، هو ما يمكن أن نطلق عليه: أسلوب الاحتواء، ومحاولة تفريغ الدعوة الإسلامية من مضمونها الصحيح، وتحويل الدعوة عن مسارها، وعن أهدافها التي قامت من أجلها.
فالدعوة الإسلامية في كل مكان، يجب أن يكون هدفها هو: إعادة عبودية الناس لله جل وعلا فقط، ليس لها أي هدف أو مطمع، إلا أن تجعل الناس عبيداً حقيقيين لله تعالى، تدعوهم إلى الله عز وجل، قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف:59] وكثيراً ما يحاول الأعداء في البداية -بدلاً من أن يواجهو الدعوة صراحةً- أن يفرغوها من محتواها، أن يحتووا هذه الدعوة، ويسيطروا أو يهيمنوا عليها بطريقة أو بأخرى.(31/7)
قاعدة المصالح والمفاسد
قبل أن ننتقل من الأسلوب الأول، وهو أسلوب محاولة الاحتواء وتفريغ الدعوة من مضمونها الحقيقي، أودُّ أن أشير إلى قضية ربما تلتبس على كثيرٍ من الناس وكثيرٍ من الدعاة، وهي: إن هذا الكلام لا يمنع من تحصيل المسلم لخير الخيرين ودفعه لشر الشرين، فإن قاعدة المفاسد والمصالح في الإسلام قاعدة عظيمة، وهي تقتضي أن المسلم قد يحصل على مصلحة ولو من العدو أحياناً، فيرى أن كسبها نافع، دون أن يؤثر هذا في الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه، ودون أن يغير في وجهة الدعوة.
كما أنه يدفع المسلم إلى أن يحارب الشر ولو كان شراً جزئياً؛ لأنه يرى أنه شر عظيم، وينبغي دفعه عن مجتمع المسلمين، فنفرق بين قضية تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وبين قضية الاستجابة لأعداء الإسلام في بعض المطالب التي يريدون من ورائها تحويل مسار الدعوة عن هدفها الحقيقي، وهو إعادة عبودية الناس لله جل وعلا.(31/8)
اشغال الداعية ببنيات الطريق
من هذه الوسائل التي يسلكونها -مثلاً- أنهم قد يشغلون بعض الدعاة -كما يقال- ببنيات الطريق، وقد يستنزفون جهودهم في أعمال جانبية، بحيث تكون هذه الأعمال الجانبية غاية الدعاة ونهاية مقصدهم ومطافهم.
على سبيل المثال: ربما يشغلون الداعية بالوسيلة عن الغاية، فيشغلون الداعية -مثلاً- بالمنصب، الذي يخيل إليه أحياناً أنه وسيلة إلى الدعوة إلى الله تعالى، وإلى حمل الناس على الإسلام، فيشغلونه بذلك عن الحقيقة التي يدعو إليها ويعمل من أجلها، يشغلونه بالوظيفة، ويشغلونه ببعض الأشياء السياسية، عن هدفه الأعظم والأسمى الذي يهدف إليه.
من الوسائل في موضوع الاحتواء: أنهم قد يظهرون نوعاً من الإصلاحات أو نوعاً من التدين، الذي يوهم الناس بأن هؤلاء القوم معهم، فيحاولون بذلك، أو ينجحون في سحب مشاعر الناس، أو تخدير مشاعرهم، وكثيراً ما يظهر العدو الموافقة لك على ما تريد وعلى ما تقول، خاصةً حين يجد أنك جادّ فيما تدعو إليه.
وهذا أمر قد نجده في حياتنا القريبة, فلو أراد شخص منا من آخر أمراً فشعر ذلك الشخص أنك مصمم على ما تريد، وتطلبه بقوة ومستعد أن تضحي في سبيله، فإنه لا يبدأ بمواجهتك فيستثير بذلك غضبك وانفعالك، بل في البداية يقول لك: يا أخي، ما تريده سوف أنفذه وأنا مستعد, ويعطيك وجهاً يدل على الرضى والموافقة والقبول، حتى يسحب هذا الشعور الموجود عندك، ويشعرك بأنك وإياه على خطٍ واحد، ثم يُنفَّذ بعد ذلك ما يريد.
من ذلك مثلاً: النصارى فقد يظهرون للمسلمين نوعاً من التسامح أحياناً، أو يمكنونهم من العبادات, ولهذا لا غرابة أن تجد أن هناك مؤتمرات تعقد في كثير من البلاد، مما يسمونه بالحوار الإسلامي المسيحي، وهذا الموضوع عُقد له مؤتمرات كثيرة جداً في لبنان، وفي مصر، وفي أسبانيا، وفي الفاتيكان، وفي ليبيا، وفي غيرها من البلدان الإسلامية، مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، يقولون لك: يا أخي! نحن نريد أن نسمع منك وتسمع منا، نجلس على مائدة المفاوضات، ما كان عندك من حق تقبله وما عندنا من حق نقبله، نتعاون جميعاً في حرب الشيوعية وفي حرب المادية، إلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي يخادعون بها بعض السذج من المسلمين.
فالهدف من وراء هذا الأسلوب: هو تفريغ الدعوة من محتواها، وتذويب هذه المشاعر الفياضة لدى المسلمين, مشاعر العداء لليهود, وللنصارى, ومشاعر العداء للشيوعيين، ولأي أمة من الأمم الكافرة.
ولذلك تجد كثيراً من المسلمين -اليوم- أصبح الواحد يخجل أن يطلق عليهم كفاراً، يخجل أن يسمي النصراني كافراً، حتى أنى قرأت في بعض صحفكم قبل وقت ليس بالبعيد، مقالاً طويلاً يدافع فيه صاحبه عن اليهود، وعن النصارى، ويقول: من الخطأ أن تفهموا أن اليهود كفار، أو أن النصارى كفار، فاليهود مسلمون والنصارى مسلمون، والله تعالى لا يطالب اليهود بأن يكونوا مسلمين مثلنا، ولا يطالب النصارى بذلك, لكن يطالب اليهود بأن ينفذوا تعاليم دينهم، ويطالب النصارى كذلك بأن ينفذوا تعاليم دينهم، كما يطالبنا نحن بأن ننفذ تعاليم ديننا!! وهذا في الواقع تكذيب للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن جميع المسلمين مجمعون على أن الدين الوحيد المقبول عند الله تعالى، هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ جميع الأديان السابقة، نسخ اليهودية، ونسخ النصرانية، حتى لو كانت غير محرفة، فكيف وقد دخل في اليهودية والنصرانية من التحريف ما تعرفون!! وهذه القضية ليست جديدة، فإن التتار حين جاءوا إلى البلاد الإسلامية، كانوا متوحشين وثنيين، فلما جاءوا إلى بلاد الإسلام، كانوا يملكون القوة والسلاح لكن لا يملكون الفكر؛ فلذلك أظهروا الإسلام، وكانت الجحافل والغزوات المتأخرة من التتار، يأتي مع جيشهم عدد من القضاة والمؤذنين والأئمة، ويحملون المصاحف ويظهرون شيئاً من الإسلام، ويدَّعون أنهم مسلمون، وقد ينطقون بالشهادتين، بل ينطقون بها، ومع ذلك كانوا يقاتلون المسلمين ويحاربونهم، وهذا أوجد الشك عند كثيرٍ من المسلمين في قضية حرب التتار، فحسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال: كيف نقاتل التتار وهم يعلنون الإسلام؟ حسم ذلك بفتوى مشهورة معروفة موجودة ضمن الفتاوى.
المهم أن التتار كانوا بهذه الطريقة يستميلون المسلمين إلى ألا يحاربوهم ولا يقاتلوهم، ويستسلموا أمامهم؛ لأن هؤلاء مسلمون، فكيف نحاربهم وفى صفوفهم القضاة والمؤذنون والمرشدون، ومعهم المصاحف يحملونها على أيديهم وعلى ركائبهم حيث حلوا وارتحلوا؟(31/9)
زرع النفاق وبناء مساجد الضرار
الأسلوب الثاني -من أساليب حرب الإسلام قديماً وحديثاً- هو: زرع النفاق وبناء مساجد الضرار.
وهذا الأسلوب من المكر اليهودي، فبعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وضرب الإسلام بجرانه في الأرض، علم اليهود أن من الصعب حرب الإسلام علانية؛ فزرعوا ودسوا أذرعهم الخفية وهم المنافقون، ولذلك كانت الأولى البذرة من النفاق في المدينة على أيدي اليهود، كانوا منافقين من اليهود، الذين أظهروا الإسلام لضرب الإسلام وحربه، وهؤلاء أشد خطراً من الكافر المعلن وذلك لما يأتي: أولاً: لأنهم يعيشون بين المسلمين، ويعرفون عورات المسلمين، ويستطيعون أن يصيبوهم في الصميم.
ثانياً: لأنه يصعب اتقاؤهم، فالكافر المعلن يمكن معرفة الخطر منه؛ لأنه معروف متميز، أما المنافق فإنه يعيش داخل الصف المسلم، وبالتالي يصعب معرفته واتقاء شره، ولذلك قال الله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] أي: المنافقين، وقوله: (هُمُ الْعَدُوُّ) هذا أسلوب حصر، ومعروف عند العارفين باللغة العربية كأن معنى قوله: (هُمُ الْعَدُوُّ) أي لا عدو إلا هم، وليس المقصود حصر العداوة فيهم فقط، لكن المقصود التأكيد على شدة عداوتهم، وضراوتها وقسوتها وصعوبة الحذر منها، ولذلك قال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] والمنافقون في كل زمان ومكان، لهم شخصيات ومؤسسات وملل ونحل، يدخلون وينفذون من خلالها.
على سبيل المثال: من شخصياتهم التاريخية عبد الله بن سبأ اليهودي، المعروف بـ ابن السوداء، وكان يهودياً من أهل صنعاء، فلمَّا رأى قوة الإسلام وانتشاره؛ أعلن الإسلام وجاء بين المسلمين، ثم تسلل إليهم، وبدأ يفتك بالمسلمين ويدعو وينشر بينهم الأفكار الضالة باسم الإسلام.
والشخصيات المنافقة على مدار التاريخ كثيرة، أما الملل والنحل فلعل من أكثرها وأعظمها التي استغلها المنافقون، على سبيل الإجمال ما يسمى: المذاهب الباطنية، والمذاهب الباطنية لفظٌ عام يشمل طوائف كثيرة، من الرافضة، والصوفية، والقاديانية، والبهائية في العصر الحاضر، وغيرها من الملل والنحل التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية، وأصبحت تقيم المؤسسات والمدارس والمراكز في بلاد العالم الإسلامي، وفي بلاد أمريكا وأوروبا، وتعلن أنها تدعو إلى الإسلام، وهي في الواقع تدعو إلى دينٍ آخر غير دين الإسلام، وإلى نبيٍ آخر غير محمد عليه الصلاة والسلام، لكنها تتمسح بالإسلام؛ للخداع والتضليل لهؤلاء السذج المغفلين، خاصة حين يكون الإنسان غير مسلم فيدعى إليهم، أو يكون حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف عنه شيئاً ولا يميز بين الحق والباطل، فيضله هؤلاء، وقد يدخلونه في دينهم وملتهم ونحلتهم.
فهذه نماذج من المنافقين.(31/10)
مساجد الضرار
ومن بيوت الضرار ومساجد الضرار: المنافقون بنو مسجد الضرار الأول في المدينة، وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: تصلي فيه؛ لأن مسجدك بعيد، ويصعب علينا في الليلة الشاتية والليلة المطيرة أن نصل إليه، فهذا مسجد بنيناه حتى نصلي فيه فدعو الرسول عليه الصلاة والسلام للصلاة فيه، فنهاه الله عز وجل عن ذلك فقال: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] فنهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وسماهم ضراراً فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة:107] كم من مؤسسة وكيان وجهة ومركز وشخصية، تحمل اسم الإسلام وتلبس لباسه، وتنادي به، لكن حقيقتها خلاف ذلك، وكم من إنسان يظهر الدعوة إلى جانب من جوانب الإسلام، وهو في الواقع كما قيل: كلمة حقٍ أريد بها باطل.
وما أصعب التحرز من هؤلاء، فشأنهم كما قال الشاعر: والمدّون هوى الإسلام سيفهم مع الأعادي على أبنائه النجبيخادعون به أو يتقون به وماله منهم رفد سوى الخطب كم من إنسان كانت خطبه ملأى بالكلام عن الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، وحماية الإسلام، وتاريخ الإسلام، وتمجيد محمد صلى الله عليه وسلم، لكن أعماله على النقيض من ذلك! وهذا يذكرني بالأسطورة التي تذكرها بعض الكتب، عن انخداع بعض الناس بهذا الأمر، يقولون: إن هناك صياداً كان معه بندقية، فدخل إلى مكان ليصطاد بعض الطيور، فكان هناك عصفوران، فقال أحدهما للآخر: انظر إلى هذا يريد أن يصطادنا، فنظر إليه وقال: إنه لن يصطادنا، ألا ترى أن عينيه تدمع وتبكي رحمة لنا وشفقة علينا؟ فقال له: لا تنظر إلى دمع عينيه، ولكن انظر إلى هذا السلاح الذي في يديه.
فكثير من الناس -كما يقال- يذرفون على الإسلام دموع التماسيح، لكن أقوالهم تقول لكل رائي ومتأمل: إنهم كاذبون في ذلك، ومن قبل كان عبد الله بن أبي بن سلول، شيخ النفاق والمنافقين في المدينة، كان إذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب، قام بعده عبد الله بن أبي بن سلول يعقب على الخطبة، ويشيد بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا لهذا النبي الكريم الذي اختاره الله لكم واجتباه وخصكم به إلى غير ذلك من الكلام، وكان الناس ينخدعون بكلامه في أول الأمر.
إذاً ليس المقياس هو الكلام والخطب الرنانة، فكم من خطبٍ قيلت وليس لها رصيد من الواقع، إنما المقياس هو اتباع القول بالعمل، هذا هو الميزان الشرعي الحقيقي لمعرفة صدق الإنسان من كذبه، فإذا قال الإنسان قولاً -وهنا أيضاً أحذر- إذا قال الإنسان قولاً حسناً، لا ينبغي أن نسارع في اتهامه، بل يجب أن نتميز بالعدل حسناً جميلاً، نقول: هذا قول حسن وجميل، ولكن ننظر ماذا بعد هذا القول؟ فإن وجدناه أتبع القول بالعمل، كان هذا آيةً على صدقه، وإن وجدنا أنه توقف عند حد هذه البضاعة الكاسدة، بضاعة القول فحسب، وخالف ما يقول؛ عرفنا أن هذا القول كمجرد خداع وتضليل، وترويج هذا الأمر على الناس فقط.(31/11)
معرفة أساليب دس المنافقين
أيها الإخوة: لابد من معرفة العدو من الصديق حول هذا الأسلوب، أسلوب دس المنافقين وبناء مساجد الضرار، لئلا يلتبس الأمر على كثيرين، فيتهمون من هم من هذا الأمر براء، أو ينخدعون بأناس ليس لهم في هذا الشأن نصيب.
فمن أوجب الواجبات على المسلم؛ أن يعرف عدو الإسلام من وليه، وهذا أمر تقتضيه الأخوة، والولاء والبراء في الإسلام، فلا ننخدع بشخص لمجرد أنه يتكلم بكلام معسول، حتى نرى مصداق ذلك في سيرته وسلوكه.
الأمر الآخر: لابد من فضح المنافقين وبيان خططهم ومؤامرتهم على الإسلام، سواءً كانوا أشخاصاً أو مؤسسات، أو أجهزة أو جمعيات، أو أحزاب أو تجمعات، أو ملل أو نحل، لابد من فضحها، وهذا من ضمن المقاصد التي نزل القران من أجلها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] فاستبيان سبيل المجرمين -أي: إيضاح ومعرفة سبيل الكافرين والضالين- هي من مقاصد إنزال الكتب وبعثة الرسل؛ لأن المسلم مطالب بأن يحب المسلم ويبغض الكافر والمنافق ويتبرأ منه، وكيف تبغضه وتبرأ منه وتحاربه وأنت لا تعرفه؟ ولذلك من أعظم المصائب التي يبتلى بها المسلمون، أن يلتبس العدو عندهم بالصديق، فيتحول الصديق -أحياناً- إلى عدو، ويتحول العدو -أحياناً- إلى صديق، لماذا؟ خذ مثالاً: قد يقع داعية من الدعاة في خطأ -والخطأ لا يسلم منه أحد- فيتحول هذا الداعية من صديق نعرف أنه مجاهد في سبيل الله ومضحٍ، عند بعض الناس إلى عدو؛ لأنه أخطأ، ومن هو الذي لا يخطئ؟ فهنا جعلنا الصديق عدواً.
مثال آخر: قد ينصح الداعية لبعض قومه، والنصيحة -أحياناً- توجد البغضاء، كما قال الأول: وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح أي أن الناصح ربما يبغض، لماذا؟ لأنه قال لنا كلاماً ما نحب أن نسمعه، نحن دائماً نحب أن نسمع من يمدحنا، ويقول: كلكم على صواب، وكل فعلكم حسنٌ وجميل، ولم يقع منكم ما يعاب، فهذا من طبيعة الإنسان: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] ولذلك إذا وجد إنسان يقول لنا: أخطأتم.
ربما نبغضه ونحوله إلى عدو، ولو كان داعية للإسلام.
فهنا جعلنا الصديق عدواً، وفى أحيان أخرى لغفلتنا وسذاجتنا نجعل العدو صديقاً؛ لمجرد أنه كان يجيد فن الخداع.(31/12)
تأجيج النزاع القائم بين المسلمين
الأسلوب الثالث: هو أسلوب تأجيج النزاع القائم بين المسلمين، واستثماره وتوظيفه لخدمة أعداء المسلمين، والخلاف بين المسلمين أمرٌ قديم، والذين يعتقدون أنهم يستطيعون أن يقضوا على الخلاف الموجود في داخل الأمة واهمون! من غير الممكن -مطلقاً- أن نجمع الأمة على كلمةٍ واحدة في جميع الأمور، أصولها وفروعها، فلابد من الخلاف، لأنه إذا اختلف أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والعشرة المبشرون بالجنة، فكيف يعتقد أحد أن أصحاب الدعوة وأهل الإسلام، في القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، سوف يجتمعون على كلمة سواء في كل شيء؟ هذا لا يمكن أن يكون، لابد من وجود خلاف بين المسلمين، وهذا أمر يجب أن نسلم به، لكن هذا الاختلاف لا يعني التفرق ولا يعني التنازع والتناحر.
أعداء الإسلام يحاولون أن يستغلوا هذا الخلاف -الذي هو واقع لا محالة- يستغلونه لتحقيق مآربهم ومقاصدهم، فيصطادون في وسط هذا الجو، فكم من إشاعة أشيعت بين الدعاة إلى الله تعالى، وبين الصالحين من المسلمين ضد فلان، أو ضد الفئة الفلانية أو الطائفة الفلانية، أو أن فلاناً يريد بك شراً، أو قال عنك شيئاً، وحين تتحقق تجد أن هذا ليس له رصيد من الواقع، خاصة والنفوس -في كثير من الأحيان- تكون مشحونة بنوع من الحساسية، فإذا كان عندي حساسية ضد فلان؛ لأن له أسلوباً في الدعوة يختلف عن أسلوبي وطريقةً تختلف عن طريقتي، يكون عندي جو نفسي مهيأ لتقبُّل ما ينقل عنه، فإذا قيل لي: إن فلاناً يتكلم فيك ويغتابك ويسبك؛ سارعت إلى تصديق هذا الأمر، لماذا؟ لأنني أقول: الشيء من معدنه لا يستغرب، ليس ببعيد أن يتكلم عني فلان؛ لأنه يخالفني في الأسلوب والمنهج والطريقة والتعلم وما أشبه ذلك.
فالنفوس مشحونة ومستعدة لتقبل مثل هذه الإشاعات، حتى لو كانت كاذبة، وهذه فرصة للمنافقين وضعاف النفوس؛ لأن يندسوا في وسط المسلمين وفي وسط الدعاة، ويلوثوا هذا الجو الأخوي الطيب الآمن.
وقد يصل الأمر إلى التحريض، فيحرضون بعض الجهات الإسلامية على بعض، ويشغلون بعضها ببعض، وما ألذها على نفوس الكفار وأعداء الإسلام، أن يوفروا قوتهم وإمكانياتهم، ويجعلوا المسلمين ينشغلون ببعضهم ببعض، فما يبنيه زيد يهدمه عمرو، وما يكتبه صالح يمحوه إبراهيم، وهكذا يصبح المسلمون أحدهم يبني والآخر يهدم، كما قال الأول: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم على سبيل المثال: في بعض البلاد الإسلامية يكتب أحد الدعاة كتاباً، يوضح فيه مسألة يعتقد هو أن من الواجب عليه أن يوضحها، ثم يوظف مجموعة كبيرة من الناس الذين يثقون به؛ لينشروا هذا الكتاب بين الناس، حتى يصل إليهم، فينشرونه في المساجد والمدارس والمراكز وفي كل مكان, وفي ذلك بذلوا جهداً كبيراً، في كتابة الكتاب وطباعته، وفي الإنفاق عليه، وتوزعيه وفي غير ذلك، بعد ذلك يسمع مسلمٌ آخر بهذا العمل، وهو يعترض عليه ويعتقد أنه ضار؛ فيجند مجموعة أخرى لأخذ هذا الكتاب من كل مكان يوجد فيه، وإتلافه والقضاء عليه، وهكذا يؤخذ الكتاب ويتلف ويُقضى عليه, فهذا الجهد كم ثمرته للمسلمين؟ لا شيء، بل أقل من لا شيء وهي السلبية؛ لأن الكتاب الذي تَعب عليه قد أتلف وانتهى ولم يستفد منه أحد، ولكن هناك جهود كبيرة من المسلمين من الطرفين ضاعت هباءً منثوراً.
وفى أحيان أخرى الأعداء لا يكتفون بمجرد التحريض، بل يساعدون بعض المسلمين على بعض، ولعلنا نذكر على سبيل المثال نماذج تاريخية، إذا كنت ذكرت لكم -آنفاً- أن عبد الله بن سبأ اليهودي المتمسلم - ابن السوداء - دخل الإسلام ليهدم من الداخل، فإنه استغل بوادر الاختلاف بين المسلمين في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه؛ فبدأ بنشر الفتنة، فلمَّا جاءه خبر موت علي بعد فترة، رفض وقال: والله لو أتيتموني بدماغ علي في سبعين صرة ما صدقت، بل إنه حي وإنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، وسوف يعود ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً ظلماً.
وبدأ يؤلب الناس ويدعوهم وينشر بينهم العقيدة المعروفة عقيدة الرفض، حتى أسس هذا المذهب الذي ظل -على مدار التاريخ- هدماً للإسلام.
كيف استطاع عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معه، أن يؤججوا الصراع بين المسلمين على رغم أن المسلمين كانوا على درجة كبيرة من الوعي؟ اندس بعضهم في جيش علي، واندس بعضهم في جيش معاوية، رضي الله عنهم أجمعين، فلما التقى مبعوث علي ومبعوث معاوية لكتابة الصلح، وكانت نفوس الصحابة رضي الله عنهم مستعدة جداً للمصالحة ورأب الصدع وخم الصف، أصبح الذين في جيش علي من أتباع ابن سبأ يتحرشون بجيش معاوية، والذين في جيش معاوية يتحرشون بجيش علي، حتى كان معاوية يقول: غريب أمر علي! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟! ويقول علي: غريب أمر معاوية! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟! وما زال هؤلاء يتحرشون حتى أنشبوا الخصومة والقتال بين المسلمين وحدث ما حدث.
أريد أن أوضح أن أعداء الإسلام -من المنافقين وغيرهم- يستغلون الخلاف بين المسلمين ويؤججونه، وقد يدخلون فيه ويستغلون عملاءهم في داخل الصف الإسلامي؛ لتأجيج الصراع بين المسلمين وإنهاك جسم الدعوة الإسلامية.(31/13)
الحصار
الأسلوب الرابع: أسلوب الحصار.
والحصار ينقسم إلى قسمين:(31/14)
الحصار الإعلامي
النوع الثاني: هو ما يمكن أن يُسمَّى بالحصار الإعلامي.
وأعني بالحصار الإعلامي: محاولة تشويه الدعوة ونشر الإشاعات الكاذبة حولها.
قريش فعلت هذا الحصار الإعلامي، بطريقة تتناسب مع عصرها وبيئتها، فبعد ما استفاد الرسول عليه الصلاة والسلام من التجمعات التي كانت تحدث في مكة، مثل اجتماعهم في سوق عكاظ، ومجنة وذي المجاز وغيرها، وكذلك في مواسم الحج التي كانت العرب تجتمع فيها، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يذهب، وأحياناً كان يذهب ومعه أبو بكر إلى القبائل، فيعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم دعوته، كما ورد في حديث ربيعة بن عباد الديلي، وطارق بن شداد وجابر وغيرهم، وهي أحاديث صحيحة ثابتة، أن الرسول عليه السلام كان يأتي إلى الناس والقبائل، فيقول: {من أنتم؟ فيقولون: نحن بنو فلان.
فيقول: من يؤويني وينصرني، حتى أبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشاً منعوني أن أبلغ رسالة ربي} وأحياناً يقول لهم: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} وكان خلفه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين، يلاحقه ويرميه بالحجارة ويضع التراب على رأسه ويقول: لا تطيعوه! إنه صابئ كذاب، يريد أن تتركوا ما تعبدون، ويريد أن تتركوا حلفاءكم من الجن.
فيقول ربيعة: سألت أبي: من هذا؟ قال: هذا محمد وهو يذكر النبوة، وهذا الذي خلفه يمشى وراءه هو أبو لهب بن عبد العزي.
فكانت قريش تحاول أن تحاصر الدعوة الإسلامية حصاراً إعلامياً، حتى إذا قدم أحد إلى مكة قالوا له: إن محمداً -ونقول صلى الله عليه وسلم- ساحر، يفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وأخيه.
فلا يزالون ببعض الناس حتى يضعون في آذانهم القطن -كما ورد في قصه الطفيل، وهي قصة في الصحيح- حتى لا يسمعوا شيئاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذا الحد بلغت محاصرة قريش الإعلامية لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واليوم في هذا العصر وسائل الإعلام أصبحت تؤثر في الناس، وتصوغ عقولهم ومناهجهم وأفكارهم، ربما نستطيع أن نقول: إن وسائل الإعلام أبلغ من أي أمر آخر في التأثير على الناس، أبلغ من المدرسة مثلاً، وأبلغ من الأصدقاء، وأبلغ من أي وسيلة أخرى.
وسائل الإعلام اليوم أخذت جميع الوسائل، فلننظر ماذا تقول وسائل الإعلام أو الكثير منها عن المسلمين وعن الإسلام.
كثيراً ما نجد من يصف المسلمين والدعاة بأوصاف مثل لفظ الأصوليين، -مثلاً- أو لفظ المتطرفين، أو غير ذلك من الألفاظ التي يريدون من ورائها السب والشتم، أنا لست أنكر أنه يوجد بين المسلمين -في الماضي والحاضر والمستقبل- يوجد بينهم غلاة، ويوجد بينهم من تجاوز الحد ومن يعتدون ويظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، ويوجد بينهم المخطئ، لكن هل أصبح هؤلاء هم الأكثرية والأغلبية حتى أن معظم الحديث ينصب عليهم؟ ثم ما هذه التقسيمات التي أصبحنا نسمعها عن عامة المسلمين، أن هؤلاء متشددون وهؤلاء معتدلون، وهؤلاء متطرفون وهؤلاء كذا وهؤلاء كذا؟ هل من حق إنسان سواءً كان علمانياً أو زنديقاً أو ملحداً أو عدواً للإسلام، ربما لا يصلي مع الجماعة، ولا يُعرف بأنه من العلماء ولا من طلاب العلم، ولا من الدعاة إلى الله عز وجل، هل من حقه أن يصنف المسلمين إلى مثل هذه الأصناف؟ نحن قد نقبل تصنيف العلماء، حين يقول لنا أهل العلم الشرعي المعروفون الموثوق بهم: إن هذه الفئة ضالة أو غالية أو متطرفة.
نقبل ذلك، وحين نجد أدلة صريحة على ذلك نقبل، لكن حين يقول لنا إنسان -نعرف أنه ليس من أولياء الإسلام، ولا حزبه ولا من أهله، شخص قضى عمره في حرب الإسلام، وفي تشويه التاريخ الإسلامي، وفي الوقيعة بين المسلمين -فنجد أنه يتعارض لشخصيات إسلامية مرموقة، شخصيات جاوزت القنطرة، شخصيات دعوية جهادية، علمية، فيبدأ يشرِّح ويجرح، ويرفع هذا ويخفض ذاك، فإننا نقول لكل مسلم: إنه لا ينبغي لك أن تصغي لمثل هذا، وإن أصغيت له فلا تقبل منه، بل كن معه كما قال الأول: لقد أنلتك أذناً غير صاغيةٍ ورب متنصت والقلب في صمم أما أن نتقبل نحن -مثلاً- ترويجات الصحافة والإذاعة وأجهزة الإعلام، في تقسيم المسلمين وتصنيفهم، فهذا خطأ كبير، وأعود فأكرر وأقول: أنا لست أنكر أنه يوجد بين المسلمين من يقع منهم الخطأ، ويوجد غلاة في الماضي والحاضر والمستقبل، بل يوجد في كل أمة من الأمم، على سبيل الإجمال والتفصيل، ما من أمة في الدنيا إلا ويوجد فيها غلاة ومعتدلون، ويوجد فيها مفرطون، سواءً الأمم الكتابية كاليهود والنصارى، أو الأمم الوثنية أو الشيوعية أو غيرها، تجد في الشيوعية -مثلاً- الغلاة الشيوعيون الحمر، الذين لا يؤمنون إلا بالقوة والحديد والنار، وتجد فيهم من دون ذلك، وتجد فيهم من يتسامحون في هذا الأمر ويجاملون الأوضاع، وقد يتمسحون بالإسلام ويخادعون أو يتقون به.
من الاتهامات التي توجه -أحياناً- عبر هذا الحصار الإعلامي للدعوة الإسلامية: اتهام الدعاة في نياتهم ومقاصدهم.
وإمام هذه الطريقة هو فرعون، فإنه كان يقول لموسى وهارون، يتهمهم بأن لهم مطامع ونيات سياسية: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عليهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] أي: إنكم تريدون من وراء هذه الدعوة، أن تكونوا زعماء وقادة وسادة، ويكون الأمر لكم {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] .
وبعده واجه الرسول صلى الله عليه وسلم التهمه نفسها، فلما جهر بدعوته وقال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:5-6] وقولهم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]-كما ذكر بعض المفسرين- يقصدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم، ليس يريد دعوتكم للإسلام، وإنما يريد أن تكونوا أتباعاً له، وأن يكون زعيماً وقائداً لكم، فاتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقظاً في هذا الأمر -وهو كذلك- وقد سدده الله تعالى وعصمه، فكان يتجنب الأمور التي تكون مدعاة لإثارة الأقاويل في هذا الباب، كما سيأتي.
ومن التهم -أيضاً- التي واجهها العلماء عبر التاريخ: ما نذكره أن شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قام بدعوته وإصلاحه وتجديده، وشى به بعض الناس إلى السلطان المملوكي، وقالوا له: إن ابن تيمية يريد الملك ويريد السلطان.
فدعا ابن تيمية وأحضره في مجلسه، وسأله عما قيل له، فقال له ابن تيمية: أنا أريد ملكك! والله إن ملكك وملك التتار لا يساوي عندي فلساً واحداً، إنما أنا أدعو إلى الله عز وجل، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الدعاة المعاصرون، فكم رأينا وسمعنا من يتهمهم بمثل هذه التهمة، وأنهم متآمرون، وأن لهم مطامع، وأن لهم مقاصد وأغراض سياسية، وما أشبه ذلك، ولذلك أقول: إن كثيراً من الناس يُلتبس عليهم هذا الأمر، لأننا لا نقول: إن الإسلام لا سياسة فيه مثلاً، بل السياسة جزء من الدين ولاشك في هذا، والقرآن الكريم فيه نصوص كثيرة تتعلق بتنظيم حياة الناس، كأفراد ومجتمعات ودول وأمم إلى غير ذلك، وفى القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] الظالمون، الفاسقون.
ولهذا أرى أنه من الواجب على الدعاة -دائماً وأبداً- أن يحرصوا على تجنب كل أمر يمكن أن يوقع اللبس عند الناس، مثلاً: تحالف بعض المسلمين مع جهات مشبوهة أحياناً، هذا يحدث، وهو يوقع لبساً عند كثير من الناس، أن هؤلاء القوم ليس لهم هدف إلا الوصول إلى السلطة، فبأي أمرٍ وصلوا لا يهمهم ذلك.
فلهذا نقول: الأجدر بالداعية أن يتجنب أي أمر يمكن أن يوقع اللبس عند الناس، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين من حديث عائشة - قال لـ عائشة رضي الله عنها: {لولا أن قومك حديثو عهد بكفر؛ لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه} لكنه لم يفعل ذلك الذي تمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الفعل قد يوقع عند الناس لبساً، وقد يقول بعضهم -وهم حديثو عهد بكفر-: إن محمداً صلى الله عليه وسلم صنع هذا ليكون له مكانة، أو حتى يذكر بهذا، أو حتى يكون له الذكر الحسن، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي قد تسبق إلى أذهانهم، فاتقى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصلحة تحصيلاً لما هو أعظم منها، وكذلك أقول: الداعية يهمه ثقة الناس به وبدعوته، حتى لو فاتته بعض المصالح الآنية العاجلة.
وذلك لأن تحطيم شخصية الداعية هو تحطيم للدعوة، والناس لا يمكن أن يتصوروا حقاً مجرداً عن الأشخاص، ولذلك الله عز وجل كان يرسل الرسل من الناس وينزل معهم الكتب؛ لأن مجرد إنزال كتاب -مثلاً- أو مجرد كلمة الإسلام؛ لا يمكن أن يتقبلها الناس، إلا بعد أن تتمثل في أشخاص يدعون إليها، فبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام، ثم جعل العلماء والدعاة من بعده يرثون هذا التراث والميراث والهدي الذي خلَّفه لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فحماية شخصية الداعية، من أن يمسها سوء أو تنال بسوء أو يعلق عليها أحد، هو من أعظم المقاصد الذي ينبغي الحرص عليها.
ولهذا نجد أنه -أيضاً- عبر التاريخ، هناك من يُحاول تشويه وتلويث شخصيات الدعاة بأي صورة، حتى -أحياناً- في أمور تستطيع أن تقول: إنها تافهة.
خذ مثلاً: ما قاله بنو إسرائيل عن موسى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] إذاً هو مجرد تشويه بأي أسلوب وبأي صو(31/15)
الحصار المادي
القسم الأول: الحصار المادي والاقتصادي، حتى الحصار البدني، ولعل من أكثر النماذج شهرة: ما فعلته قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بما يسمى في السيرة النبوية (حصار الشعب) وهو حصار ثابت في الصحيحين، في حديث أسامة بن زيد وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أو لما كان عام حجة الوداع قال: {نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر} ففي ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، أراد أن يظهر نعمة الله تعالى عليه وعلى المسلمين بالفتح، فنزل بالخيف وهو الوادي الذي التقت فيه قريش، وكتبت فيه هذه الصحيفة الظالمة الآثمة؛ ليبين أن هذا المكان الذي كان بالأمس حورب الإسلام منه وحوصر، اليوم ينزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحاً مظفراً منصوراً، فقريش عقدت صحيفة وعلقتها بجوف الكعبة، ألا تبايعهم ولا تشاريهم ولا تتزوج منهم ولا تزوجهم، حتى يسلَّم إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكثوا على ذلك ثلاث سنوات -كما تقول بعض الروايات- حتى أن عتبة بن غزوان يقول -كما في صحيح مسلم-: ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله مالنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا -من كثرة ما يأكلون من الورق- ولقد وجدت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك -أي سعد بن أبي وقاص - نصفين، فاتزرت بنصفها واتزر سعد ٌ بنصفها، فما أصبح اليوم منا رجل إلا وقد أصبح أميراً على مصر من الأمصار.
المهم أن قريشاً فرضت حصاراً اقتصادياً واجتماعياً على المسلمين في الشعب لمدة ثلاث سنوات، قريش التي كانت تتبجح بالكرم والجود، حتى قال زهير، كما هو معروف في قصيدته يمدح بعض زعمائهم، يقول: على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل فما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل كانت العرب تتمدح بالجود والكرم والعطاء، حتى كان عبد الله بن جدعان - وهو من أجود قريش المشهورين- كان يجعل موائداً كبيرة جداً، من العسل والطعام والبر وغيرها، ويرسل أناساً يصيحون في أطراف مكة: هلموا إلى الطعام في دار عبد الله بن جدعان، وبذلك مدحه أمية بن أبي الصلت في قصيدته التي يقول فيها: له داع بمكة مشمعلٌّ وآخر فوق دارته ينادي إلى قطع من الشيزى عليها لُبابُ البر يُلبَكُ بالشهادِ هؤلاء لما صارت الحرب مع الإسلام، نسوا كل ما تعارفوا عليه من الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد، والأشياء التي توارثوها، وحاصروا المسلمين، حتى كان يسمع تضاغي وصراخ الأطفال في الشعب من شدة الجوع، لا تلين لذلك قلوب القرشيين، حتى إن المسلمين هاجروا إلى الحبشة فراراً من هذا الإيذاء، وبعد ذلك إلى المدينة.
وبعد ذلك يأتي دور المنافقين -أيضاً- قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] وكم نجد في هذا العصر من الحصار على المؤمنين في أرزاقهم، ووظائفهم، وأموالهم، وفي التضييق عليهم بكل وسيلة، فضلاً عما يشيعه كثير من أعداء الإسلام من شائعات عن المسلمين؛ لمنع نجاحهم في أي مشروع يريدونه، فإذا قام الدعاة إلى الله تعالى -مثلاً- بمشروع إصلاحي أو دعوي، أو إغاثة أو مساعدة للمسلمين في أي مكان، لا يبعد ولا يستغرب أن تجد من يشيع الشائعات الكاذبة، أن هذا المال يتلاعب به، وأن هذا المشروع لصالح فلان أو علان، أو أنه ما أريد به وجه الله، وإلى غير ذلك من الأقاويل، التي يقصدون من ورائها الحصار الاقتصادي والمالي على المؤمنين وعلى الدعاة.(31/16)
فصل الداعية والدعوة عن المجتمع
أشير إلى أمر يمكن أن يعتبر نوعاً من الحصار، ربما نعتبره نوعاً رابعاً، وهو: فصل الداعية والدعوة عن المجتمع.
وهذا أمر خطير، يعمل أعداء الإسلام فيه على قناتين، القناة الأولى: على قناة المجتمعات، فأعداء الإسلام يحاولون تلويث البيئة العامة وتلويث المجتمع.
خذوا على سبيل المثال: المخدرات كيف تفتك بالمجتمعات الإسلامية بشكل غريب، قضية ما يسمى بالبث المباشر، أفلام الفيديو، أوكار الدعارة والبغاء والفساد، وبيوت الربا، إلى غير ذلك من المؤسسات الكثيرة، التي تهدم في داخل المجتمع المسلم، وتحاول أن تلوث البيئة العامة، ليست مجرد مفاسد مستترة، لأن الفساد إذا كان مستتراً كأن يكون رجل واحد في بيته فساد، فهذا أمره هين، ولا يضر إلا نفسه، المشكلة الكبيرة، هي حين يتحول المجتمع إلى مجتمع منحرف، تعلن فيه صور الانحراف والرذيلة والفساد، وتستقر حتى تصبح عرفاً مستقراً عاماً، لا أحد يستطيع أن ينكره أو يغيره، هنا تكون البيئة فسدت، فأعداء الإسلام يحاولون من جهة أن يبالغوا في إفساد البيئة، وينشروا مثل هذه الوسائل التي تساهم في تضليل الأجيال وصدها عن دين الله عز وجل.
ومن جهة أخرى -أيضاً فيما يتعلق بالمجتمع- يحاولون أن يبينوا للناس: إن الدعاة سيخرجونكم من أمورٍ قد ألفتموها وعرفتموها، فإذا أراد أعداء الإسلام أن يتحدثوا عن داعية، قالوا: أتدرون إلى ماذا يدعو هذا الإنسان؟ يدعوكم إلى أن تتركوا كذا وكذا، وتتركوا التعامل بكذا، أمور قد تعودنا عليها، فبمجرد ما نعرف أن إنساناً ويحذرنا منها نشمئز منه، كما كان زعماء قوم نوح يقولون لهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] فيذكرون لهم أسماء هذه الأصنام المحببة إليهم الأثيرة في نفوسهم (لا تذرن آلهتكم) أي: هذا شُغلكم أنتم، لا تتركوه من أجل فلان أو فلان.
وفي كثيرٍ من الآيات القرآنية، يقول تعالى: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عليهِ آبَاءَنَا} [يونس:78] إذاً أنت تريد أن تُغيِّر وضعاً مستقراً وعرفاً قائماً في نفوس الناس، فهذا مدعاة إلى أن يرفض الناس هذه الدعوة.
فمن جهة يحاول أعداء الإسلام أن يفسدوا المجتمع، وأن يزيدوا من تشبث وتمسك المجتمع بالانحرافات الموجودة فيه، ومن جهة ثانية: يحاول الأعداء أن يضغطوا على الدعوة الإسلامية، بكافة الوسائل وأنواع الحصار، حتى -أحياناً- بالاعتقال، والتعذيب، والإنهاك، والقتل، إلى غير ذلك، وهذا من أجل أن يكون تفكير هؤلاء -الذين يحملون الدعوة- أن يكون تفكيرهم تفكيراً غير معتدل؛ لأن الإنسان إذا كان يُفكِّر في جوٍ من الكبت والضغط، غالباً يكون تفكيره يتجه نحو العنف، واستخدام القوة والشدة في مواجهة هذا الوضع الذي يعيشه، وهذا يريده الأعداء -أحياناً- ليستعدوا على الدعوة، ويُحولوا الأمر إلى صراع بينها وبين المجتمع.
ولذلك تلاحظون اليوم -أيها الإخوة- خاصةً في الصحافة الغربية، وأبواق أعداء الإسلام في البلاد الإسلامية، أن هناك تركيزاً على موضوع الصحوة الإسلامية، والتقارير يوماً بعد يوم من مراكز الدراسات الغربية، في أمريكا، وفي أوروبا وفي روسيا عن الخطر الإسلامي، وعن الصحوة الإسلامية، وعن مستقبل الصحوة، وعن أشياء كثيرة، وهذه التقارير المختلفة والتي تخرج يومياً، وعشرات الكتب -ولابد أنكم جميعاً عندكم خلفية عن مثل هذا الأمر- المقصود منها الاستعداء على الإسلام، يريدون أن يقولوا للناس: احذروا الإسلام فالإسلام خطرٌ قادم يهددكم ويريدون أن ينشبوا صراعاً بين الإسلام وبين المجتمعات الإسلامية.
ولذلك فإنني أقول: إن الحل في هذا الأمر، هو أن يدرك الدعاة إلى الله عز وجل، أن من الضروري أن ينغمسوا في المجتمعات.
ما قيمة الداعية إذا خرج عن مجتمعه؟ الداعية في المجتمع كالسمكة في البحر، فإذا خرج منها فقد جدواه وفقد معنى كونه داعية.
فالواجب على الداعية أن ينغمس في المجتمع ويدخل في الناس، يتعرف إليهم ويعرفهم بنفسه، لا يجوز أن يكون الداعية لغزاً غير معروف بين الناس، بل ليعرف الناس ماذا تدعو إليه، ومن أنت، وما هي أخلاقك، وما هو أسلوبك، وما هو منهجك، ولتكن واضحاً معهم.
كما أنه يجب على الداعية أن يكون محبوباً لدى الناس، بحسن الخلق والتلطف وتحمل الأخطاء من الناس ومداراتهم، ومدارة الناس صدقة، كما ورد عن جمع من السلف، وهي تختلف عن المداهنة أو الإدهان في الدين، المداراة مطلوبة، دفع بعض الشر ببعض، واتقاء أعظم الشرين وجلب خير الخيرين، والتلطف مع الناس في الدعوة، والتحبب إليهم والابتسام في وجوههم، ومحاولة إعطائهم صورة حسنة عن الدعوة إلى الله عز وجل.
من أعظم المكاسب التي يمكن أن يحققها الدعاة إلى الله تعالى: أن يلتحموا بالمجتمع، ويتبنوا هموم المجتمع وآلامه ومشاكله؛ ليكونوا هم جزءاً منه، كما أن من الواجب عليهم أن يسعوا سعياً حثيثاً إلى دفع الفساد الذي يجتاح المجتمعات الإسلامية، ولذلك كم هو حسن وجميل، أن يسعى الدعاة إلى الله تعالى إلى إيجاد مراكز ومؤسسات وأجهزة، تسعى إلى إصلاح المجتمع بشكل عام.
صحيح أن هناك جهات لإصلاح الشباب -أحياناً- نشاطات خاصة بالشباب، أو مراكز أو مخيمات، أو ما أشبه ذلك، لكن من الواجب -أيضاً- أن نسعى إلى إصلاح المجتمع شيباً وشباباً، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، وكافة الطبقات يجب أن نوصل إليها كلمة الإسلام؛ لنحول دون هذا الانفصال الذي يسعى إليه الأعداء؛ للوقيعة بالطرفين بكل حال.(31/17)
أسلوب المواجهة الصريحة
أخيراً: أشير إلى الأسلوب الخامس: وهو أسلوب المواجهة الصريحة.
سواء في ذلك المواجهة العقدية، التي تتمثل في نقد الإسلام صراحةً، كما نجد كثيراً منهم يسبون الدين والعياذ بالله وما أكثر ما نجد في أجهزة الإعلام من النيل من الإسلام، أو النيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل قد يتعرض بعضهم لذات الله عز وجل إما نثراً أو شعراً.
أو التعرض لبعض أحكام الإسلام وتشريعاته، بحيث يحاول أن يقتطع هذا الغصن من تلك الشجرة، ويقول: هذا ليس من الإسلام، ثم ينهال عليه.
مثلاً: يأتي إلى قضية الربا، فيحاول أن يستل هذا الحكم الشرعي الثابت، ثم يسب أولئك الذين يمنعون من الربا، أو من بعض صور الربا بحجة أنهم لا يفهمون الدين، أو قضية الحجاب، أو تحريم الغناء، أو أي قضية معينة، يأخذها ويحاول أن يفصلها من الدين، ويقول: ليست من الدين.
ثم يتكلم عنها كما يحلو له، وأحياناً قد لا يجرؤ على هذا ولا على ذاك، فينتقل إلى الخطوة الثالثة وهي: المواجهة مع شخصيات الدعاة، والنيل منهم كما أسلفت.
أما القسم الثاني من المواجهة، فهي: المواجهة المادية.
وأعني بها: الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين، كما كان فرعونهم الأول يقول: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] وهذا قد يكون في بداية الدعوة، كما كان فرعون يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] وقد يكون بعدما تكتمل الدعوة، وتكون قوةً مرهوبة الجانب، فيخشى منها الأعداء، فيحاولون أن يعاجلوها بالمواجهة المادية الصريحة المعلنة.
نسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هؤلاء الأعداء، ويبصرهم بمؤامراتهم، ويهبهم القيادة الصالحة التي تقودهم إلى التوفيق والعز والنصر والسعادة، إنه على ذلك قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(31/18)
الأسئلة(31/19)
عدم الاعتناء بالعلم الشرعي
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول: إن من أكبر معوقات الدعوة داخلياً -أي من نفس الدعاة- هو عدم الاعتناء بالعلم الشرعي، والاهتمام بالتحرك مع الجهل أو العلم السطحي؟
الجواب
هذا صحيح، مسألة العلم الشرعي أصل ينبغي الاهتمام به خاصةً للداعية، ليس من الضروري أن يتحول كل داعية إلى عالم، لكن ينبغي أن يقوم من بين الدعاة من يتخصصون في العلم الصحيح، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فأولاً: لابد أن يقوم من بين الدعاة من يتخصص للعلم الشرعي، ويبني نفسه في هذا المجال بناءً صحيحاً متوازناً متدرجاً.
أما ثانياً: فإن الداعية ينبغي أن لا يدعو إلا إلى ما يعلم، أما أن تدعو إلى شيء وأنت لم تتأكد منه، ولم تعرف دليله؛ فهذا خطأ، لا تدعو إلى شيء تعلمه أنت، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(31/20)
كتاب: حوار هادئ مع الغزالي
السؤال
فضيلة الشيخ، ما صدى كتابك: حوار هادئ؟ وهل رأيت أن هناك إيجابية لمن رددت ضده، وهو الغزالي؟
الجواب
بالنسبة للصدى، فأحمد الله تعالى وأثني عليه، فهذا توفيق منه وفضل، فقد كان لهذا الكتاب ولله الحمد صدى كبيراً في سائر البلاد الإسلامية وغير الإسلامية ووقفت على ذلك، فقد وصلني عبر البريد -بدون مبالغة- مئات الرسائل من السعودية وجميع دول الخليج، ومصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب وبريطانيا وفرنسا وأمريكا، وكلها تتحدث عن أثر هذا الكتاب وصداه، وتقبل الناس له.
ثم رأيت بعيني في بعض الزيارات التي قمت بها إلى عددٍ من الدول، وخاصةً في أمريكا، رأيت هذا الكتاب -ولله الحمد- في كل مكتبة، وعند كثير من الشباب، ولقي من كثير منهم حفاوة وتقبلاً، وفتح عيونهم على بعض الاجتهادات الخاطئة، التي تحدث عنها الغزالي، في كتابه المعروف: السنة النبوية، فله صدى طيب ولله الحمد.
أما إن كان السائل يقصد صداه لدى الغزالي نفسه، فالأقوال متضاربة في ذلك، فبعضهم يقول: إنه تقبله بقبولٍ حسن، ووعد بالتعديل والإصلاح، وبعضهم يقول خلاف ذلك، ولكن قطعت جهيزة قول كل خطيب، فالمقابلات الصحفية التي أجريت مع الشيخ في عدد من المجلات، منها مجلة الأنباء هنا، ومنها جريدة الأنباء، ومنها جريدة المسلمون، ومنها جريدة اسمها جريدة المساء، وكلها تدل على أن الرجل لا يزال متمسكاً بآرائه، بل وبأسلوبه الذي يستخدمه في مواجهة الآخرين، وتدل على أنه ما زال متمسكاً بهذا الأمر.
وقد زرت المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، والذي ذكره الشيخ الغزالي في مقدمة الكتاب، وقال: إنني وضعت الكتاب بناءً على مشورتهم.
وحدثني مديره، أنهم حين اطلعوا على الكتاب -كتاب حوار هادئ مع الغزالي- رأوا فيه أشياء كثيرة، ينبغي أن يعاد النظر في كتاب الغزالي على ضوئها، وقال لي: إننا أرسلنا نسخة من الكتاب إلى المؤلف الغزالي، وقلنا له: إن هذا ليس أي كلام، وإنما هو كلام علمي، ويجب أن تعيد النظر فيه وتصححه؛ ليطبع الكتاب مرةً أخرى بعيداً عن الأخطاء الموجودة فيه.(31/21)
دراسة الفتاة في الجامعة
السؤال
إنني فتاة تخرجت من المرحلة الثانوية العامة، واخترت الجلوس في البيت، فوقف الجميع ضدي، فما تنصحني أنت به يا شيخنا الفاضل، أرجو التفصيل؟
الجواب
الحقيقة السؤال عندي مشكلة؛ لأنني لا أعرف حقيقة الأوضاع، وكما يقول الأصوليون: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فهذا يتوقف -أولاً- على وضع الجامعة التي يمكن أن تنتقل أو تدرس فيها هذه الفتاة، هل يمكن أن تلتزم بالإسلام فيها أو لا يمكن؟ ثم يتوقف -ثانياً-: على مدى قدرة هذه الفتاة على التحمل، كما سلفت آنفاً في موضوع الدعوة، فبعض الناس قد يعيش في أجواء ليست نظيفة تماماً، لكن عنده صبر وجلد واعتزاز بدينه وبشخصيته يمنعه من الانجراف، وهناك إنسان آخر يشعر في نفسه بأنه رخو العزيمة قريب من الانحراف، فمثل هذا لا شك أنه لا يستشار في الموضوع، بل ينبغي أن يبتعد عن المجالات الموبوءة، ويطالب بأن ينجو بنفسه.
هذا هو التفصيل الذي يمكن أن تقيس الفتاة نفسها ووضعها على ضوء هذا المقياس العام.(31/22)
كيف ينظم المسلم وقته
السؤال
نريد وصية تنصح بها الحضور لنتفع بها إن شاء الله، وما هو الجدول اليومي للمسلم؟
الجواب
أما النصيحة: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلانية، فهذه كلمة قصيرة تغني عن غيرها.
أما الجدول اليومي، فلا أرى من الضروري أن المسلم يجعل له جدولاً يومياً؛ لأن الإنسان بشر وليس آلة، فلا يستطيع أن يجعل لنفسه جدولاً مبرمجاً بالدقيقة؛ لأنه مرتبط بآخرين وبظروف وبأشياء كثيرة، فتؤثر في وقته، لكن الشيء الذي أقترحه عليكم كبديلٍ عن الجدول اليومي: أن يرسم الإنسان لنفسه أهدافاً متنوعة، مثلاً خلال هذا الأسبوع أرسم لنفسي هدفاً أن أنهي قراءة هذا الكتاب، وأحدد لنفسي كتاباً مناسباً أعرف أنه يتناسب مع وقت فراغي، فأعمل خلال هذا الأسبوع على أن أختم هذا الكتاب، قد أجلس يوماً كاملاً للقراءة، وفي آخر ربما لا أجد ولا ساعة للقراءة، فعندي مجال للتحرك ومرونة، المهم أن لا يضيع وقتي، فالمهم ليس رسم الجدول، كما لو كان الإنسان في مخيم مثلاً، المهم هو ضبط الوقت.
فالذي أنصح به الإخوة لضبط أوقاتهم، أن يرسموا لأنفسهم أهدافاً محددة، وأن يقووا في قلوبهم الاستشعار بقيمة الوقت وأهميته، فالأمر كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] فهذا العمر هو الذي بمقتضاه تحاسب وتعذب أو تنعم، ويقول شيخ الإسلام الهروي: إن الوقت سريع التقضي، أبي التأتي، بطيء الرجوع.
فسرعان ما يضيع الوقت، ولذلك كثيراً ما نجلس جلسة طويلة، وخاصةً حين نكون مطمئنين، فإذا نظر الإنسان إلى الساعة قال: سبحان الله! كيف وصل الوقت إلى هذا الأمر.
فهو سريع التقضي، بطيء التأتي أبي الرجوع، فإذا مضى الوقت لا يمكن أن يعيده الإنسان بحالٍ من الأحوال ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها والحمد لله رب العالمين.(31/23)
تبيين الأخطاء والرد عليها
السؤال
فضيلة الشيخ! ضربت مثلاً على النزاع بين المسلمين وانشغالهم بالردود، فما جوابك لمن وجد كتاباً فيه أخطاء عقدية، هل يسكت ويترك، أم يرد عليه، وما رأيكم وجوابكم؟
الجواب
هذه مثل الأخطاء التي تشيع، إذا انتشر شيء ووقع فيه لبس عند الناس، وربما كان سبباً في وقوع بعضهم في أخطاء وهو لا يشعر، واجب على العلماء وعلى الدعاة وعلى من يحسنون الحديث؛ أن يبينوا هذه الأخطاء للناس، سواءً ربطوها بكتابٍ أو شخصٍ أو ما أشبه ذلك أو تحدثوا عنها حديثاً عاماً، لكن أعتقد أن من الصعب -بل من العسير إن لم يكن المتعذر- أن يرد الإنسان على كل من تكلم، لأن الباطل لا يتناهى، كل إنسان يقول ما يشاء، وله هواه من أقوال وآراء وأمور يضلل بها الناس، فلا يمكن أن يقف الإنسان أمام هؤلاء جميعاً فيرد على كل إنسان بعينه، لكن مهم جداً أن نبدأ نحن ببيان الحق، لا تكون دعوتنا مجرد رد فعل لجواب، أو رد على فلان أو علان فقط، الأصل أن ندعو الناس إلى الله تعالى وإلى الإسلام وإلى الدين، ونبينه لهم حتى يتقبلوه، والفطرة السليمة تقبل الحق، خاصةً إذا كان في جو هادئ، ليس بجو شد وجذب وأخذ وعطاء وجدل وخصومة.(31/24)
المستقبل للإسلام
السؤال
إلى أين تسير الدعوة في نظركم، وأيهما أخطر: الأعداء القريبين من أهل جلدتنا أم أولئك الكفار؟ ثم ما هي صحة عبارة قلتموها وهي: الإسلام يغزو فرنسا؟
الجواب
العبارة إن شاء الله نرجو أن تكون صحيحة، أنا ما زرت فرنسا، ولا أدري كيف أحوال المسلمين فيها، لكن الذي نسمع وحسب ما رأينا في بعض البلاد في أوروبا وأمريكا؛ أن هناك توجهاً طيباً نحو الإسلام، سواءً من قبل المسلمين الذين يقيمون هناك، من الطلاب والعمال وغيرهم، أو حتى من قبل أهل البلاد الأصليين، الذي يدخلون في الإسلام أفواجاً، وهذا أمر رأيناه في أمريكا بشكل واضح ويبشر بخيرٍ كثير، وهناك تعطش للإسلام، ولولا ما تبثه أجهزة الإعلام هناك، من تشويه متعمد للإسلام، وما تركز في نفوس الجميع هناك، من أنه لا يفكر الواحد منهم بالإسلام أصلاً؛ لأنه لا يفهم من الإسلام إلا أنه دين قمع ووحشية ودماء، فالمثقف منهم يعرف عن الإسلام قضية تعدد الزوجات، وقضية قتل المرتد فقط، فهم يفهمون مجموعة شبهات، أثيرت في نفوسهم على الإسلام، ولذلك الذي يبحث منهم عن الدين -كما رأينا مع الأسف الشديد- يبحث في اليهودية فييئس، ثم يبحث في النصرانية فييئس، ثم يبحث في البوذية، ويبحث في الأديان الوثنية، وفي القاديانية، ولكن لا يبحث في الإسلام، قد أسقط الإسلام من الحساب ابتداءً، بسبب التشويه الإعلامي الغريب فعلاً.
أي: أنها أصبحت قضية غير قابلة للنقاش عندهم مسألة الإسلام، فهناك واجب علينا، أن نقشع هذه الغشاوة التي قد غطت على عقولهم وأفكارهم عن الإسلام، ثم نبين لهم الإسلام الصحيح، وأعتقد أنهم سوف يقبلون عليه بشكل غريب جداً؛ لأنهم متعطشون وقلقون، ومستاءون من الأوضاع التي يعيشونها، يعيشون والله في جحيم لا يطاق، ذكرهم وأنثاهم سواء، حتى من النواحي الاقتصادية، ليس السقوط للشيوعيةفقط، بل الدور ينتظر الدول الغربية، التي تعاني من بوادر أزمات اقتصادية، وربما نشاهدها عن قريب.
فنعتقد ونرجو الله تعالى أن يكون الإسلام يكتسح كثيراً من بلاد الأرض، وعلى الأقل هذا أمل نرجو أن يتحقق.
أما مسألة: إلى أين تسير الدعوة؟ كأن الأخ يتساءل عن مستقبل الدعوة الإسلامية، والواقع أن الذي ينظر إلى أوضاع العالم الإسلامي والدعوة الإسلامية؛ يتفاءل بخيرٍ كثير، وأنا من المتفائلين بمستقبل الإسلام، ولكن حين ننظر إلى واقع الدعاة، لا أقول: إن هذا التفاؤل يضعف أو يقل، لكن ربما يحس الإنسان، بأن وقت تحقق هذا الفأل ليس بالقريب جداً، وذلك لأن أوضاع كثير من المنتسبين إلى الإسلام وحملة الدعوة، أوضاع تحتاج إلى مراجعة وتحتاج إلى تصحيح.
على سبيل المثال: نفتقد العدل، ونفتقد التوازن، ونفتقد الشمول.
أما قولك: أيهما أخطر العدو القريب أم البعيد؟ العدو القريب أخطر دائماً، ولذلك أمرنا بالابتداء بهم، والعدو الأخطر هو العدو الملابس، أي: العدو الذي يكون قريباً من الإنسان جداً، أحياناً نفسك، وأحياناً قد يكون إنساناً يسير معك في نفس الطريق، وكثيراً ما تجد انحراف داعية -مثلاً- يفت في عزيمه كثيرين، ويقعدهم عن الانطلاق في الدعوة إلى الله تعالى، كما أن عزيمة الإنسان نفسه -أحياناً- تقعده عن الدعوة، ولا أريد أن أستشهد بحديث {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} أولاً: لأنه حديث ضعيف.
وثانياً: لأن معناه ليس على الإطلاق، فلا يمكن أن نصف القتال بالجهاد الأصغر، وجهاد النفس بالأكبر دائماً، وإن كان جهاد النفس أمراً عظيماً؛ لأن الإنسان إذا انتصر على نفسه يستطيع -بأذن الله تعالى- أن ينتصر في المعركة العسكرية، المعركة الكبرى.(31/25)
الدعوة إلى الله تعالى في أوساط الناس
السؤال
نرى البعض يحاول الإصلاح عندما يخوض في البيئة المعادية للإسلاميين، ثم يتشرب فتنهم فيذوب فيهم، فما هو العلاج؟
الجواب
الإنسان ينبغي أن ينظر إلى نفسه، أول سؤال تسأل نفسك: ما هي البيئة التي أستطيع أن أدعو فيها؟ فأحياناً بعض الناس وهبه الله سبحانه وتعالى صلابة وقوة في شخصيته، عنده قوة في عقله وقلبه، ومقاومة ضد الشبهات بإذن الله تعالى، وصمود أمام المغريات والشهوات، فهذا لا يمنع أن يهجم على بعض المجالس ويتحدث، ويجادلهم ويناظرهم ويدعوهم إلى الله تعالى، ولا نقول: إنه آمن، فليس هناك أمن من الانحراف، لكنه مطمئن إن شاء الله إلى نفسه، وما وهبه الله تعالى.
هناك إنسان آخر يشعر من نفسه بالضعف الشديد، بحيث أنه إذا جلس في تلك المجالس وخالط أولئك القوم؛ وجد من نفسه أنه تأثر، حتى أنه -أحياناً- قد يكون قاب قوسين أو أدنى من الفاحشة والرذيلة، وأحياناً يسمع الشبهة؛ فترن في ذهنه أسبوعاً أو أسبوعين، وتنغص عليه حياته وعبادته، فمثل هذا نقول له: انج بنفسك، اترك هذه المجالس وهذه المجتمعات، واحصر دعوتك في الناس الذين ليس لديهم شبهات ولا شهوات، لكنهم ضعفاء يحتاجون إلى تقوية، ودعم، وتشجيع، وما أشبه ذلك.
هناك شخصٌ ثالث عنده بعض القوة، لكن قد يشعر -أحياناً- بتأثر، فهذا أرى أن الأصل أن يندفع في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنه يقل أن يوجد إنسان إلا ويتأثر، حتى الدعاة الكبار إذا سمعوا الشبهات لا تتشربها قلوبهم، لكن لا شك أن سماع الإنسان للشبهة ثم رده عليها؛ يورث قلبه نوعاً من الجفاء، فليس الذي يجلس ليناظر المنحرفين مثل ذلك الشخص الذي يجلس ليتعبد ويذكر الله تعالى ويبكي ويخشع ويسجد، بينهما فرق كبير.
بل إن الذي يقاتل العدو في المعركة، ليس في إشراق قلبه وشفافية روحه، مثل ذلك الشخص المتعبد في محرابه، فبينهما فرق، لكن قد يكون أجر هذا أعظم من أجر هذا، وإن كان قلبه أصابه نوع من الجفاف، فهذا الداعية ينبغي أن ينتبه لهذا.
فليس المقياس هو مجرد إشراق القلب وسعادة النفس، قد أجلس في مجتمع أعاني وأشعر بجفاف في قلبي، لكنني أحس بأنني على ثغرة، لو تركتها لأتي الإسلام من قبلها، فأنا أجلس مع هؤلاء القوم، وأدعوهم وأنصحهم، على رغم أني أحس بأن قلبي قد يكون فيه نوع من الانقباض، ولو كنت جالساً للتعبد وقراءة القرآن؛ لكان قلبي أكثر إشراقاً، لكن الفائدة أقل، فهذا نفعٌ متعدٍّ وذاك نفعٌ لازم، والنفع المتعدي -عند التعارض- يقدم على النفع اللازم، مع أن الإنسان ينبغي أن يجمع بينهما، فتجعل لنفسك أوقاتاً تخصصها للعبادة والذكر وترقيق القلب؛ لئلا تصاب بقسوة القلب وهو داء الأمم السابقة.(31/26)
كيف نواجه أساليب الأعداء
السؤال
ما هي المواقف الإيجابية من الدعاة ضد هذه الأساليب الهدامة؟
الجواب
لعلي أشرت خلال هذا الحديث إلى بعض هذه المواقف، ولعل الموقف الأساسي يتكون من ثلاث نقاط أشرت إليها في البداية أيضاً، وهي: معرفة هذه الأساليب لتجنب التأثر بها، وتجنب المشاركة فيها، ومواجهتها بالأساليب المكافئة؛ فإذا كان العدو يستخدم -مثلاً- أجهزة الإعلام لضرب الإسلام، فلماذا يبقى المسلمون متخلفون في كل مجال؟ وكأن التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي وقفٌ على أعداء الإسلام، هذا خطأ ينبغي أن ينتهي.(31/27)
موقف الغزالي
السؤال
من أي الأساليب التي ذكرتها تصنف موقف الغزالي من الدعوة الإسلامية؟
الجواب
الواقع أنا لا أعتقد أن الغزالي من أعداء الإسلام، الغزالي رجل أخطأ في أمور معينة، وهذا لا ينسي أن الرجل كان له جهاد، وله مواقف معينة سابقة، في مواجهة النصارى، وفي مواجهة العلمانيين، ومواجهة الشيوعيين، وله كتابات عن الإسلام، فالله تعالى يأمرنا بالعدل، ومع ذلك الرجل له مواقف -خاصة في الأخير- مواقف كثيرة مؤسفة ومحزنة أن تصدر من مثله، وإلا لو صدرت من غيره لم يكن في الأمر غرابة، وهذه الأشياء تحدث عنها العلماء وتصدوا لها وردوها، وأكثروا في ذلك -جزاهم الله خيراً- حتى استبان الحق للناس أو لأكثر الناس، ونتمنى للشيخ أن يهديه الله تعالى، ويبصره بعيوب نفسه حتى يتراجع، ونرجو الله تعالى أن يختم لنا وله بخاتمة خير.
لست أعتقد أن الرجل عدواً للإسلام حتى أصنفه من الأصناف السابقة، وإن كانت سمعة الرجل وتاريخه السابق وبلاؤه، جعل كثيراً من الشباب الأغرار، الذين ليس لديهم استقرار وعمق في العلوم الشرعية، يتقبلون ما يقول بحجة أن هذا كلام فلان، وهو له كذا وكذا من التاريخ والكتب والمواقف، فالسمعة جعلت كثيراً من الناس يتقبلون هذه الأشياء دون تمحيص، وهذه من العيوب الكبيرة؛ أننا أصبحنا نعرف الحق بالرجال، والواقع أن العكس هو الذي يجب أن يكون، أن نعرف الرجال بالحق، وليس نعرف الحق لأنه قاله فلان أو قاله علان.(31/28)
التفرق والاختلاف بين الدعاة
السؤال
فضيلة الشيخ: هل تعتقد أن من المعوقات للدعوة تفرق الدعوات؟ إذا كان نعم، فما السبيل إلى جمعهم على كلمة سواء؟
الجواب
الواقع لست أعتقد أن مجرد التفرق والاختلاف بذاته عائقاً كبيراً، لأن هذا الاختلاف قد يكون اختلافاً محموداً، وقد يكون من العسير -كما أسلفت- جمع الناس على رأي واحد، لكن أعتقد وأجزم أنه من المعوقات -كما أشرت إليه- أن ينشغل الدعاة بعضهم ببعض، فيكون الأمر كما قال الإمام الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا ونهجو ذا الزمان بغير جرمٍ ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا كم من داعية يهمه أن يسقط أخاه، إسقاطاً مادياً أو معنوياً، يشوه سمعته ويحط من قدره، إما غيرةً وحسداً، وإما مخالفةً، وإما لحاجةٍ في نفسه، فتجد أنه يستغل جميع السبل والوسائل لهذا الأمر، ولو أنه صرف هذا الجهد للتحذير من منحرف أو عدوٍ للإسلام؛ لكان ذلك خيراً له.
أذكر قصة طريفة بغض النظر عن كونها صحيحة أو غير صحيحة لكن فيها عبرة: دخل بعض الخوارج على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الخليفة الأموي العادل، وكان عمر بن عبد العزيز أرسل من يناظر الخوارج ويأخذ منهم ويناقشهم، وهدى الله تعالى على يديه جمعاً غفيراً، وكانوا يرتاحون لـ عمر بن عبد العزيز من بعض النواحي؛ لأنه رجل عادل ومنصف، والعدل والإنصاف من أسباب جمع كلمة المسلمين دائماً وأبداً، فدخلوا على عمر بن عبد العزيز وقالوا: أنت رجلٌ فيك وفيك لكن نريد منك أمراً وهو أن تلعن معاوية، لأنك لا تلعن معاوية، فلماذا لا تلعن معاوية؟ فقال للسائل: منذ متى عهدك بلعن فرعون؟ ففكر السائل وقال: والله منذ زمن بعيد.
فقال للسائل: إذاً انتظر حتى ننتهي من لعن فرعون.
وليس المقصود أن عمر سينتقل بعد لعن فرعون إلى لعن معاوية، حاشاه من ذلك رضي الله عنه؛ لأنه لا يمكن أن يلعن صحابياً من المؤمنين، وهو معاوية رضي الله عنه، لكنه أراد أن يقيم الحجة على هذا الخارجي، أن مسألة اللعن لا يتعبد بها، مجرد لعن أشخاص، ولذلك هذا الرجل لا يتذكر متى لعن فرعون، ربما لم يلعن فرعون إلا أن يقرأ القرآن الذي فيه لعنه ولعن أمثاله.
فمن المؤسف أن بعض الدعاة يشتغلون بإخوانهم، قد يتفق معك أخوك في (70%) أو (80%) من اجتهاداتك، ومع ذلك تشتغل به وتحاول أن تسقط مكانه، والآخر الذي تختلف معه (100%) من أعداء الإسلام أو خصومه، ربما لم يصب منك بسوء، وأذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الله بن المبارك رضي الله عنه ورحمه الله، فاغتاب رجلاً من الصالحين، فقال له عبد الله بن المبارك: هل غزوت الروم؟ قال: لا.
قال: هل غزوت الفرس؟ قال: لا.
قال: هل غزوت الهند والسند؟ قال: لا.
قال: فسلم منك الروم والفرس والهند والسند ولم يسلم منك أخوك المسلم!!! فالغيبة داء يفتك بالمؤمنين، تناول أعراض الدعاة والوقيعة فيهم والحط والتجريح، وتأتي -أحياناً- بأساليب ملفوفة، أحياناً تأتي بأسلوب النقد أو بأسلوب التقييم أو بأسلوب النقد الذاتي، وأحياناً يسميها ملاحظات، وهي في الواقع غيبة، حتى -أحياناً- مجرد كلمة، فإذا ذكر شخص فأنت في نفسك تريد أن تسقط قيمته، لكن من باب الورع لا تريد أن تقول كلمة صريحة، فتقول: دعوه الله يستر علينا وعليه.
هذه الكلمة بحد ذاتها غيبة، لماذا؟ لأنك تقول للناس هذه عليه أشياء وملاحظات لا أريد أن أبينها، دعوه ستر الله علينا وعليه.
أو يُذكر شخص فتقول: لا أريد أن أغتابه وهذه غيبة؛ لأنك حين قلت: لا أريد أن أغتابه.
معناه: إنني لو أردت أن أقول فيه لقلت فيه شيئاً كثيراً، ومجال الحديث فيه واسع، لكن أنا ورع لا أريد، فاغتبته من حيث تدري ولا تدري.(31/29)
خطر البدعة ومنزلة العقيدة
السؤال
فضيلة الشيخ جزاكم الله خيراً، قد ذكرتم الأسلوب الأول في محاربة الإسلام وهو الاحتواء، ولا شك أن خطورة أهل البدع على الإسلام أشد من أعدائه الكفار، وأهل البدع خاصة من يجعل العقيدة في الخلف، يسلك هذا الأسلوب باحتواء الشباب حولهم، بإعطائهم المناصب وغير ذلك، ألا ترى أن هذا الأسلوب يعم الكفار وأهل البدع؟ وما رأيك فيمن يدعي أن العقيدة تفرق بين المسلمين؟
الجواب
البدعة هي إحدى مصائد الشيطان، لكنها ليست كالكفر، وهذا الأمر هو ظاهر لكن نحتاج إلى بيان، فالكفر درجة أعظم من البدعة، وإذا حصل الشيطان من الإنسان على الكفر؛ فلا يهمه بعد ذلك شيء من أمره، فإذا لم يقع منه على الكفر، قنع منه بالبدعة، فإذا لم يقع منه على البدعة، قنع منه بالمعصية الكبيرة، فإذا لم يستطع قنع بالمعصية الصغيرة، فإذا لم يستطع فقد يقنع من الإنسان بأن يشتغل بالمفضول ويترك الأمر الفاضل، فالشيطان له مراحل متدرجة من الإنسان.
أهل البدع أنواع: هناك بدع مكفرة.
يعتبر أصحابها الذين يقولون بها ويعرفون معناها -فعلاً- من خارج الأمة الإسلامية، كما هو ظاهر -مثلاً- في القاديانية والبهائية والتجانية، وكثير من الطوائف التي تعتقد كفراً بواحاً صراحاً لا لبس فيه ولا غموض، فهذه الطوائف لا يمكن أن تحسب من الإسلام، ولا من الثنتين والسبعين فرقة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا بضربٍ من التأويل، وهؤلاء يصدق عليهم الكلام الذي ذكرته آنفاً.
وهناك بدع دون ذلك، بدع لا يصل الأمر فيها إلى حد الكفر، منها بدعٌ غليظة، ومنها بدع خفيفة، والناس مراحل في هذا الباب، وينبغي أن نفرق ونميز بينهم، فلا نعاملهم معاملة واحدة، وهؤلاء ليسوا أعداءً للإسلام دائماً حتى نستطيع أن نقول: إنهم يسلكون هذه الأساليب لحرب وضرب الإسلام، بل قد يكون فيهم أناس صالحون وفيهم دعاة إلى الله، وفيهم من نفع الله بهم، وهدى الله على أيديهم بعض الكفار، وإن كانت ليست هداية مطلقة، لكنه تحول من الكفر الصراح إلى إسلامٍ مشوبٍ ببدعة، وهذا خير من بقائه على الكفر، وخيرٌ من ذلك لو أنه سلك مسلك الاعتدال، وآمن بالعقيدة الصحيحة وسار على طريقة أهل السنة والجماعة، فإذا تيسر هذا فهو غاية المطلوب.
أما موضوع العقيدة، فيجب الاهتمام بالعقيدة، والعقيدة تعني أموراً: فمن العقيدة: معرفة أسماء الله تعالى وصفاته، والإيمان بها وإثباتها كما أثبتها السلف الصالح رضي الله عنهم، دون أن يدخل الإنسان في تأويلها أو تكييفها أو نفيها، أو ما أشبه ذلك.
ومن العقيدة: الإيمان بربوبية الله تعالى، وأنه المالك الخالق المتصرف المدبر.
ومن العقيدة: الإيمان بألوهية الله، وهذا جانب مهم جداً ويغفل عنه الكثيرون، وهو أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فكثير من المنتسبين إلى الإسلام أصبحوا يثقون بأصحاب القبور مثلاً، يثقون بمن يسمونهم بالأولياء أكثر مما يثقون برب العالمين، فإذا نزلت بالواحد منهم نازله، نادى فلاناً أو علاناً من المقبورين يرجوه كشف الضر أو دفعه أو ما أشبه ذلك.
كذلك الحكم بغير ما أنزل الله، واستيراد قوانين وأنظمة كافرة وتحكيمها في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم ورقابهم، هذا أيضاً مما ينافي توحيد الألوهية، قال الله {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
ومن العقيدة: إحياء المعاني العقدية في نفوس الناس، وهذا يغفل عنه الكثير أيضاً، قضية حب الله تعالى وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، وما أشبه ذلك من معاني العقيدة التي يغفل عنها الكثيرون ولا يتحدثون عنها، وهذا أمر ينبغي التنبه له.
فالمسلم يهتم بهذه الأشياء وهي المنطلق، لا يتصور إنسان مسلم بدون عقيدة، بل لا يتصور إنسان بلا عقيدة، إما عقيدة صالحة أو منحرفة، لأن هذه ميزة الإنسان أنه يعتقد، بخلاف الحيوان الأعجم الذي لا ينطق ولا يفهم ولا يخاطب، أما الإنسان فهو مخاطب، وأول ما يخاطب به هو العقيدة، ولذلك أول واجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو أول ما بعث به الرسل وأول ما قالوا لأممهم، وأول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
كما في حديث ابن عباس، حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن -كما في الصحيحين- {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} فالعقيدة أولاً، ولا إشكال في هذا، وهي أولاً وأخيراً أيضاً، بمعنى: أننا لا ندعو إلى العقيدة ثم تنهي دور العقيدة، وبدأنا ندعو إلى غيرها، ليس هناك تجزئة، بل ندعو إلى العقيدة وإلى غيرها، وفي جميع المراحل.
القرآن الكريم نزل في المدينة، كان يرسخ العقيدة في نفوس الناس، حتى في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فالعقيدة لا ينتهي تعليمها عند حد معين، بل ينبغي سقي شجرتها، ولا تنتهي إلا بموت الإنسان {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .(31/30)