صناعة السعادة
للسعادة معنى كبير وثمن غال جداً.
إنها معنى لا يرى بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحويه الخزائن.
إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير.
هي بسمة طفل طهور، ولهج لسان صادق، وعفو قلب متسامح، وهدية بلا منٍّ ولا أذى لا يأتي بها المال وكثرته، بل القناعة.
ولا يأتي بها الحرص، بل الرضا.
ولا يأتي بها الغضب والبطش، بل العفو والحلم لكن! لها معوقات قد تعيق وجودها أو استمرارها؛ فينبغي التعرف على هذه المعوقات والسعي إلى إخراجها من القلوب، وإقصائها من واقع المسلمين حتى يحيوا حياة سعيدة هنيئة.(1/1)
حقيقة السعادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره.
ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأحبة! صناعة السعادة معنىً كبير، ولا أكتمكم أني جمعت فيه الكثير الكثير حتى تحيرت فيما أختار لكم، فوجدتني بعد تلخيص التلخيص مقتصراً على ثلاثين فقرة أو ثلاثين عنواناً، وإذا كان الوقت المخصص لها ساعةً فحسب، فمعنى ذلك: أن كل عنوان يجب ألا يتجاوز دقيقتين فقط، فأسأل الله لي ولكم العون والفهم والسداد.
السعادة لا يمكن الوصول إليها بكنوز الفضة والذهب؛ لأنها أغلى من كنوز الدنيا كلها.
السعادة كاللؤلؤ في أعماق البحار, بحاجة إلى غواصٍ ماهر يتقن صنعة الاكتشاف.
السعادة هي مواقفك، وكلماتك، وتطلعاتك، ونظراتك إلى الحياة بواقعية وأمل وتفاؤل وإشراق ابحث في داخلك، ففي أعماقك كنز ثمين حين تكتشفه تعرف معنى الحياة: دواؤك منك ولا تبصر وداؤك فيك وما تشعر وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر بسمة طفل طهور لهج لسان صادق عفو قلب متسامح هدية بلا منٍّ ولا أذى خفقة حب حنون هدف نبيل كرب ينكشف نعمة تتحقق ساعة جهد وعمل وعرق تعقبها راحة ونجاح وسرور.
إنها معنىً لا يعرف بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحتويه الخزائن، ولا يشترى بالدولار أو بالدينار أو بالجنيه أو بالروبل.
إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير، من الداخل تأتي وليست تستورد من الخارج لفظ حلو يبعث على الروح والهمة والنشاط، كلمة سحرية لها رنين رقيق ضمير نقي نفس هادئة قلب شريف ميراث رضواني قد يجدها الفقير ويحرم منها الغني حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها عن طريق الخيال.
لكن يا ترى ماذا تعني السعادة في نظرهم؟! في استفتاء أجري على حوالي ستة عشر ألف إنسان، سئلوا فيه: ما هي السعادة؟ كانت إجاباتهم كالتالي: أولاً: السعادة هي الحب (35%) تقريباً.
ثانياً: السعادة هي الرضا (28%) .
ثالثاً: السعادة هي الصحة (17%) .
رابعاً: السعادة هي الزواج (7%) .
خامساً: السعادة هي المال (5.
5%) .
سادساً: السعادة هي الأطفال، حوالي (4%) .
ولقد ذكر الأستاذ العقَّاد قصة لزميل له رسام حاول أن يتخيل السعادة أي شيء تكون، فتصورها في صورة فتاة مراهقة تركض ذات اليمين وذات الشمال، في قوة ودعة واندفاع، وشعرها يتطاير يمنة ويسرة.
يقول: فاستدركت عليه وقلت له: إنني أتخيل السعادة وهي تجاوزت هذا العمر، فهي ليست في فترة الغرارة والجهالة والصبا والاندفاع، وإنما هي في فترة التجربة والقوة والخبرة، وأيضاً ليست السعادة شيئاً كهذا، إن هذا يمكن أن يعبر عنه بالفرح أو بالقوة أو بالاندفاع أو بالمراهقة، أما السعادة فإنها شيء فيه معنى الرضا والاكتفاء، فلا بد أن تكون ملامحها راضية هادئة حزينة مؤمنة، ولا بد من ألم تلطفه الذكرى، ولذة يطهرها الحنو، ونشاط يلوح عليه التعب والإعياء.
السعادة -أيها الحبيب- ذوق ووجد وإحساس، ليست معنىً علمياً نظرياً، ولا شيئاً يرسم بالحدود والتعريفات كما ترسم المسائل العلمية.
قد تطرق السعادة باب الإنسان فيعرض عنها وهو أحوج ما يكون إليها، ومن ذلك مثلاً: سعادة الطفولة والصبا، فإن الكثيرين يستمتعون بالسعادة ولا يعرفون اسمها.
إن كانت السعادة بالمال مثلاً فالجبال والمناجم أقوى وأكثر منا سعادة.
وإن كانت بالجمال والزينة والنُضرة فالورود والشقائق أجمل وأتم زينة.
وإن كانت بالبطش والقوة والطغيان وجهارة الصوت، أو قوة الشباب والجنس، أو كثرة الأكل أو فورة الغضب فالوحوش أقوى وأتم سعادة منا.
أما إن كانت السعادة في الأخلاق العالية، والروح المهذبة، والقول الرشيد، والصنعة الرفيعة، فإن الإنسان هو الأجدر بها.(1/2)
السعادة والعبادة
ثانياً: السعادة والعبادة.
- أولاً: الفرائض.
(وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه) {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .
- ثانياً: النوافل.
(وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) .
- ثالثاً: الذكر.
ذِكْرُ الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، يقول ابن القيم رحمه الله: حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة، فصلى الفجر ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إليَّ وقال لي: (هذه غدوتي لو لم أتغدها لم تحملني قواي) .
- رابعاً: قراءة القرآن.
{وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} [الإسراء:82] .
- خامساً: البر بأنواعه.
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] ، يقول ابن تيمية رحمه الله ما محصلُّه: أن هذه الآية عامة في الدنيا والآخرة، فللأبرار نعيم في الآخرة يذوقون أوله ومباديه في الدنيا، وللفجار عذاب وجحيم في الآخرة يذوقون مباديه في الدنيا.
- سادساً: الصلاة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال!) ويقول عليه الصلاة والسلام: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإذا أقبل على صلاته فلا شيء يشغله من أمر الدنيا.
- سابعاً: معرفة الله عز وجل.
حتى قال ابن تيمية رحمه الله: (إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فإنهم لفي عيش طيب) .
إن الإنسان لم يكتب له في هذه الدنيا أن يرى ربه، ولكنه يرى آثار صنعته فيؤمن به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، إلهي رأيتك، إلهي سمعت تعاليت لم يبد شيء لعيني تباركت لم يمض صوت بأذني ولكنّ طيفاً بقلبي يطل ومن طيفه كل نور يهل (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً) .
أمريكي كان مديراً لشركة كبيرة، وقد تحصَّل له المال والجاه، ومع ذلك كله كان لا ينام الليل من الهم والقلق والحزن والتوتر، وكان عنده من العاملين شاب عربي مسلم، موظف بسيط عادي في نفس هذه الشركة، وكلما رآه المدير تعجب، فإن السعادة تفيض من جوانحه وأطرافه وقسمات وجهه، فهو دائماً وأبداً ضحوك بسَّام متهلل مهما ادلهمت عليه الخطوب، فسأله وقال له: ما الذي يجعلك هكذا؟ قال: لأنني مؤمن مسلم أقرأ كتاب الله عز وجل، وأعمل بأمره، فإن حييت فأنا في طاعته، وإن مت فإلى رحمته وجنته ورضوانه بحوله وقوته.
فقال له: خذ بيدي إلى الطريق.
وذهب به إلى مركز إسلامي، فأمروه أن ينطق الشهادتين، ولقنَّوه إياها، وبعدما عرفوه مبادئ الإسلام، وآمن بها، انطلق في نوبةٍ عارمةٍ من البكاء فسألوه عن السبب، قال: لقد أحسست اليوم بسعادة تغمر قلبي، وتتسلل إلى فؤادي، لم أشعر بها من قبل.(1/3)
السعادة والإيمان
ثالثاً: السعادة والإيمان.
لقد سجَّل الله عز وجل أن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فالسعادة الحقيقية في القلوب، ولا يملأ القلوب ويجمع شعثها إلا محبة الله عز وجل، والإيمان به، ولهذا قال سبحانه: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] فالهداية سعادة في القلب في الدنيا ورضاً في الآخرة.
هذا الأستاذ بودلي يحكي تجربته العجيبة: عاش بين الأعراب في الصحراء الغربية في بلاد المغرب العربي، وارتدى زيَّهم، وأكل طعامهم، وأخذ عاداتهم، وامتلك مثلهم قطيعاً من الغنم، وكتب كتاباً بعنوان: الرسول، يبدي فيه إعجابه الشديد بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، يقول: تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق، وهم يؤمنون بالقضاء والقدر، فيعيشون في أمان، لكنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام الكارثة، يقول: هبت ذات يوم عاصفة رملية شديدة؛ شتتت هؤلاء الناس، وقتلت من مواشيهم ما قتلت، وما هدأت هذه العاصفة إلا وبعضهم يضحك إلى بعض، وهم يعددون الإيجابيات ويقولون: الحمد لله لقد بقي من غنمنا أكثر من (40%) .
يقول مرة أخرى: كنا نقطع الصحراء على سيارةٍ فانفجر الإطار، وأصابتني نوبة من الغضب، وقلت للسائق: كيف تفعل هذا -وقد نسيت الإطار الاحتياطي- وتتركنا في هذه الصحراء؟ قال: فالتفتوا إليَّ وقالوا لي: إن الغضب لا يصنع شيئاً، عليك بالهدوء.
ومشت السيارة على ثلاث إطارات، وبعد قليل توقفت لنكتشف أن البنزين قد انتهى أيضاً، يقول: فانطلقوا يمشون بهدوء وراحة على أقدامهم في هذه الصحراء دون غضب ولا انفعال، لقد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء أن المتفائلين ومرضى النفوس والسكيرين ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة والعجلة أساساً لها.
إن الحياة إذا خلت من الإيمان بالله عز وجل فهي صحراء قاتلة، وانتحار عاجل: إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يبك دينا ومن رضي الحياة بغير دينٍ فقد جعل الفناء لها قرينا(1/4)
السعادة والرضا
رابعاً: السعادة والرضا.
أعلى درجات الصبر هو الرضا، ولا يبلغه إلا من آتاه الله إيماناً وصبراً جميلاً، فتراه راضياً بما حلَّ به؛ سواء كان الذي حلَّ به فقراً، أو مصيبةً، أو علةً، أو غير ذلك، فهو يدري أن ذلك بقضاء الله عز وجل: أيُّ يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر يحدثنا التاريخ مثلاً: [أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كفَّ بصره، وكان مجاب الدعوة، فربما جاءه الناس فدعا لهم فاستجاب الله دعاءه، فقال له قائل: لم لا تدعو لنفسك يا سعد؟! قال: يا بني! قضاء الله عندي أحسن من بصري] إن الساخطين والشاكين لا يذوقون للسرور طعماً، فحياتهم كلها ظلام وسواد، أما المؤمن الحق فهو راضٍ عن نفسه، راضٍ عن ربه، موقنٌ أن تدبير الله عز وجل أفضل من تدبيره نفسه، ينادي ربه ويقول: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] .(1/5)
السعادة والعمل
خامساً: السعادة والعمل.
اسعد في عملك بتحقيق المراقبة الذاتية، فالعمل فرصة لذلك العمل فرصة لأن تكسب علاقات طيبة مع الآخرين، وتبني جسور الأخوَّة مع إخوانك المؤمنين، وتتواصل معهم من خلال التعامل اليومي اقتنع بالعمل، وتفهم تفاصيله، واندمج فيه، وحقق النتائج والنجاح حتى تشعر بذاتك وسعادتك.
انظر إلى الحياة نظرةً متفائلة وإيجابية، وإياك وكثرة الشكوى والتبرم والقلق.
استثمر النجاح ولو كان نجاحاً قليلاً، واستفد منه في طلب المزيد.
من الجيد أن تحتفظ بالحماس، حتى لو كانت الأمور تسير على غير ما يرام.
لا تدع الملل والسأم يفسدان حياتك، وأعط نفسك إجازة استرخاء بين الفينة والأخرى: جدد نشاطك يومياً مع زملائك واخلق معهم جواً من الود والتفاؤل والمرح والعمل الجاد.
الكثيرون منا يطفئون عود الثقاب قبل أن يتأكدوا من اشتعال الشمعة، فلا هو أشعل الشمعة، ولا هو استفاد من عود الثقاب مع أنه قد بذل جهداً.
أراد رجلٌ أن يغير العالم، فمكث عشرين سنة وهو يحلم بهذا التغيير، ولكنه لم يأت، فقال: إذاً فلأغير دولتي، فمكث عشر سنوات ولكن الوضع كما هو إن لم يكن أسوأ، فقال: إذاً فلأغير المدينة وخصصَّ له خمس سنوات ولكن دون جدوى، ففكر أن يغير الحي وخصص له عاماً كاملاً ولم يتغير شيء، وأخيراً قال: الدائرة الأضيق أغير بيتي وخلال ستة أشهر لم يتغير من البيت شيء، فقال: الآن وجدتها، فلأبدأ بتغيير نفسي.
نعم! قد تكون المشكلة في المرآة وقد تكون المشكلة في الصورة، فعلينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا حتى تكون أحكامنا على الأشياء صحيحة، وحتى نكون قادرين على إدارة عملية التغيير.(1/6)
السعادة والتعامل
سادساً: السعادة والتعامل.
الإحسان إلى الناس من أعظم أبواب السعادة: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ وفي الأثر: [إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم] ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجالساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون) .
وقد روي عن بعض السلف أنه كان يقول: (إنه لتكون بيني وبين الرجل الخصومة، فيلقاني فيلقي عليَّ السلام فيلين له قلبي) .
(وقد كانت الجارية تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتأخذ بيده، وتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت) .
إن الانشغال بعمل مفيد، أو عمل نافع، أو محاولة الإبداع فيما يحسن الإنسان وفيما ينفع به الناس من أبواب السعادة.
إن تخفيف النكبات على الآخرين - (الساعي على الأرملة والمسكين أنا وهو في الجنة كهاتين) - وطلاقة البشر -الوجه- والعفوية، والتماس الأعذار، وعدم البحث عن سلبيات الآخرين، أو اتهام النفس قبل الغير - {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]-.
أعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وابذل نداك، وكف أذاك، وتعاهد من وصلته بمعروفٍ جديد، تجد السعادة في عالمك.
من هو أسعد البشر؟! إنه ذلك الذي يقدر مواهب الآخرين، ويشاركهم في غبطتهم كما لو كانت غبطته هو، يقول الأستاذ مصطفى أمين: أشعر بسعادة غامرة عندما أستطيع أن أرسم ابتسامة على شفاهٍ حزينة، أو أمسح دمعة من عين باكية، أو أن أمد يدي إلى إنسان سيئ الحظ وقع على الأرض فأساعده على الوقوف.
إن السعادة الكبرى هي في العطاء وليست في الأخذ: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت آخذه أولئك الذين يكرهون الآخرين ويحزنون لنجاحهم هم في الحقيقة يطردون السعادة من قلوبهم بإرادتهم.(1/7)
السعادة والقناعة
سابعاً: السعادة والقناعة.
الإنسان مطبوع على حب الدنيا وما فيها السعيد ليس من ينال كل ما يرغب، وإنما السعيد من يقنع بما أعطاه الله عز وجل، قال سعد بن أبي وقاص لولده: [يا بني! إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن لم تكن قناعة فإنه ليس يغنيك مال مهما كثر] .
وفي الترمذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) .
حاتم الأصم ترك أولاده وبناته دون نفقة وذهب، فسقوا رجلاً، وتبين بالصدفة أنه أمير، فأعطاهم وأغناهم، فقالت البنت لأمها وهي تبكي: انظري يا أماه! هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف لو نظر الخالق جلَّ وعزَّ إلينا؟!! عمر بن عبد العزيز رحمه الله قبل الخلافة أمر أن يشترى له مطرف خزّ -حرير- فاشتري له بألف دينار، ووضع يده عليه وقال: ما أخشنه.
فلما ولي الخلافة أمر أن يشترى له ثوب بثمانية دراهم، فلما جيء به إليه وضع يده عليه وقال: ما أرقه! ما ألينه! ما أنعمه! رب صاحب قصر يتمنى السعادة، وربَّ فقير يعيش في كوخ وهو يتظلل ويظلل أهله بالسعادة.
من أراد السعادة فلا يسأل عنها المال، ولا الذهب والفضة، ولا القصور والبساتين أو الرياحين، بل عليه أن يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه؛ فإن القناعة هي ينبوع السعادة وهناءته: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا(1/8)
السعادة والصحة
ثامناً: السعادة والصحة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) ويقول المثل: (الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى) يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] .
استخدم صحتك البدنية فيما يسعدك ويسعد الآخرين، تعاوناً على البر والتقوى، وتآمراً بالمعروف، وتناهياً عن المنكر، فـ (إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) .
حافظ على صحتك باعتدال، ولا تكن أسير الأوهام والمخاوف.
من الصحة أن تعتني بنظافة بدنك؛ كنظافة الوجه والفم والشعر والجسم ظاهراً وباطناً، والعناية بطيب الرائحة؛ فإنه لم يكن أحدٌ أطيب رائحة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كأنه أخرج من جؤنة عطَّارٍ.
وكذلك جمال الثياب: (فإن الله تعالى جميل يحب الجمال) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك العناية بطيب المطعم والمشرب وجودة الطعام، وأن يكون من حلال، وتناوله بهدوء وراحة وسعة بال.(1/9)
السعادة والعادة
تاسعاً: العادة والسعادة.
هناك عادات عشر لا بد أن يتعلمها الإنسان: العادة الأولى: أن يسعى للتميز والتفوق والنجاح.
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] (أقربكم مني مجالساً يوم القيامة) .
العادة الثانية: تحديد الأهداف.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] .
العادة الثالثة: ترتيب الأولويات.
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] ، وفي وصية أبي بكر رضي الله عنه يقول: [إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، ولله عمل بالنهار لا يقبله بالليل] .
العادة الرابعة: التخطيط وبُعد النظر.
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] .
العادة الخامسة: التركيز.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] (إن العبد لينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، عشرها) .
السادسة: إدارة الوقت.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] [يا بن آدم! إنما أنت سويعات فإذا ذهب بعضك ذهب كلك] .
السابعة: جهاد النفس.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الناجح: هو من يكون راعياً بإرادته وليس كلباً منساقاً لها.
الثامنة: براعة الاتصال.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] .
التاسعة: التفكير الإيجابي.
{وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر) .
العاشرة: التوازن.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] (إن لبدنك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فآتي كل ذي حق حقه) .(1/10)
السعادة والزواج
عاشراً: السعادة والزواج.
المرأة التي لم تدغدغ أنامل الحب عواطفها هي تربة لم يشقها المحراث، إن لم ينبت فيها الزرع والثمر رعت فيها الحشرات والهوام.
إن الزواج من هدي الأنبياء والمرسلين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
الزواج استجابة لنداء الخالق عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: [من دعاك إلى غير الزواج فقد دعاك إلى غير الإسلام] ويقول: [لا يترك الزواج إلا عاجز، أو فاجر] .
الزواج هو الطريق الشرعي لقضاء الوطر: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] .
الزواج من أعظم نعم الله تعالى على العباد؛ فهو طريق العفة، وسبيل السعادة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] .
إنه طريق سهل ميسر لاكتساب الأجر والمثوبة: (وفي بضع أحدكم صدقة) (أفضل الدينار هو الدينار الذي أنفقته على أهلك) (وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله عز وجل إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيَّ امرأتك) .
الزواج السعيد هو القائم على أسس شرعية.
الزواج قوة للأمة، وتجديد لشبابها، وتكثير لها: (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) .
وصايا للزوج: اتق الله كن حسن الخلق كن صبوراً كن غيوراًَ أنفق على زوجتك، لا تفشِ سراً فقه نفسك وزوجتك (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) .
وقد أسفرت دراسة أجراها أحد الأطباء النفسانيين عن أن النساء أقدر من الرجال على استيعاب السعادة، وعلى استيعاب النحاسة والشقاوة والتعاسة في الوقت ذاته، فإذا توفر للمرأة -مثلاً- قدر مناسب من مقومات الحياة: بيت طيب يؤويها، وزوج صالح، وأطفال، وأيضاً لم تكن المرأة أصيبت بالسمنة، فإنها حينئذٍ تكون أسعد من الرجل، بينما على النقيض من ذلك إذا حرمت المرأة من هذه التطلعات فإنها تتجشم من البؤس والشقاوة أضعاف ما يتجشمه الرجل وهي أعجز منه عن المقاومة.(1/11)
السعادة والحب
حادي عشر: السعادة والحب.
القلب هو مصدر السعادة وليس البنك أو المعدة، فكوخ تضحك فيه المرأة خير من قصر تبكي فيه: لبيت تضحك الأرياح فيه أحب إليَّ من قصر منيف ولبس عباءة وتقرَّ عيني أحب إليَّ من لبس الشفوف إن المرأة السعيدة هي من تجد رجلاً تحبه ويحبها، وخير ما يقتني الرجل بعد تقوى الله عز وجل المرأة الجميلة، الوفية، المصونة، العاشقة، وتستطيع المرأة أن تنقل لزوجها وأبنائها السعادة التي تقل في الجنس الخشن من خلال صفة الرحمة التي تملك المرأة منها ما لا يملكه الرجال.
يقول أحد الشعراء: أيها السائح الذي طوَّف بالآفاق، وشهدت عيناه أخصب أرض تفيض فيها الأزهار، وأبصر المروج تتفتح فيها الورود، قل لي بالله عليك: أي بلاد رأيتها أجمل البلاد؟ أيتها الحسناء الجميلة أتريدين أن أدلك على البلد الذي يفوق بحسنه كل حسن، ويمحو بمنظره كل منظر؟ ذلك يا حسناء! حيث يقيم الأحبة، أخصب أرض هي تلك التي وطأتها أقدام الحبيب.
إذاً السعادة مرتبطة بالمحبة حين تكون المحبة مظللة بالقاعدة الشرعية، قائمة على الكتاب والسنة.(1/12)
السعادة والمال
ثاني عشر: السعادة والمال.
لهذه الكلمة رنين سحري، والبعض يظنون -خصوصاً ممن لا يملكون المال- أن مفاتيح السعادة في المال، والواقع أن الذين يسعدون بالمال هم أولئك الذين يملكونه، أما الذين يملكهم المال فإنه يحولهم إلى أشقياء تعساء، ويدعو عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) .
إن المال يوفر لك الطعام وليس الشهية، ويوفر لك الدواء وليس الصحة، ويوفر لك الخدم وليس الأصدقاء الأوفياء، يوفر لك المعارف وليس الأصدقاء، ويوفر لك المشتريات لكن لا يحقق لك السعادة.
المال يمنحك الفرصة الجيدة والحبوة عند الناس، فدائماً نكتة الغني جميلة وممتازة ويضحك الآخرون منها، ولهذا يقول الشاعر العربي لزوجته: دعيني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم وإن أمسى له نسب وخِير ويقصيه الندي وتزدريه حليلته وينهره الصغير ويرثى ذو الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جمٌ ولكن للغني رب غفور يسعد المال أمثال أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله؛ الذين ركبوا المال كما يركبون الدواب، أو قعدوا عليه كما يقعدون على الفرش، فجعلوه ذريعة إلى رضوان الله عز وجل، والإحسان إلى خلقه، والمسابقة إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
والكثيرون يرون القناعة خيراً من التوسع في المال، يمثلهم أبو الشمقمق الذي يقول: برزت من المنازل والقباب فلم يعسر على أحدٍ حجابي فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحاب فأنت إذا أردت دخول بيتي دخلت مسلِّماً من غير باب لأني لم أجد مصراع بابٍ يكون من التراب إلى السحاب ولا خفت الإباق على عبيدي ولا خفت الهلاك على دوابي ولا حاسبت يوماً قهرماناً محاسبةً فأغلط في حسابي وفي ذا راحة وفراغ بالٍ فدأب الدهر ذا أبداً ودابي(1/13)
السعادة والبرمجة السلبية
ثالث عشر: السعادة والبرمجة السلبية.
الكثيرون تمت برمجتهم سابقاً على بعض الأشياء السلبية منذ الطفولة، على سبيل المثال: أولاً: الأسرة:- فربما للأسرة دور كبير في تشكيل حقل الإنسان، فمعظم العادات السلبية أو الإيجابية التي تلقيتها اكتسبتها من الوالدين والمنزل والمحيطين بك في الطفولة، فقد يكتسب الطفل مثلاً الخوف أو القلق أو التشاؤم من والديه أو أحدهما وفي الحديث: (وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) .
ثانياً: المدرسة:- أيضاً لو رجعت بذاكرتك إلى أيام الدراسة فإنك تتذكر مدرساً كان يلومك مثلاً ويقول لك: أنت مشاكس، أنت غبي، أنت ساذج، وهكذا على الجانب الآخر ربما تجد معلماً كان يرفع معنويتك ويأخذ بيدك، ويعطيك جرعات من التشجيع والثقة بالنفس إلى غير ذلك.
ثالثاً: الأصدقاء:- فلهم دور كبير في تشكيل وبرمجة الإنسان برمجة إيجابية أو سلبية، فالإنسان يتأثر بهم كما يؤثر فيهم، ويروى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) .
الرابع: وسائل الإعلام:- ولا يخفى أثر هذه الوسائل سواء كانت صحفاً، أو مجلاتٍ، أو قنوات فضائية، أو مواقع إلكترونية، فقد أصبح الناس يتأثرون بها ويقضون من الوقت أمامها أكثر مما يقضونه في المدرسة, أو مع الوالدين, أو مع أي وسيلة أخرى، ولعلَّ ما نراه اليوم من عادات دخيلة على مجتمعاتنا عند الأولاد والبنات من الألفاظ والكلمات، أو الملابس، أو العلاقات، أو غيرها، إنما هي من أثر البرمجة السلبية التي تلقوها عن طريق وسائل الإعلام، خصوصاً في فترة الطفولة.
الخامس والمصدر الأخير للبرمجة السلبية أو الإيجابية: هو أنت نفسك:- فأنت ربما برمجت نفسك برمجة ذاتية نابعة منك بوعيٍ أو بغير وعي على عادات معينة، فمن الممكن أن تجعل منك إنساناً سعيداً تغمره المشاعر والتفاؤل والأمل والحماس، ويحقق آماله وأمانيه وأحلامه، أو تجعل منك إنساناً تعيساً سلبياً يائساً من الحياة، وفي ذلك يقول أحد المختصين: إن ما تضعه في ذهنك سواء كان إيجابياً أو سلبياً فهو الذي سوف تجنيه وتكسبه في النهاية.
لذلك تذكر دائماً وأبداً هذه النصيحة: راقب أفكارك؛ لأنها سوف تصبح أفعالاً راقب أفعالك؛ لأنها سوف تصبح عادات، وراقب عاداتك؛ لأنها سوف تصبح طبعاً راقب طباعك؛ لأنها سوف تحدد مصيرك.
يقول أحدهم: إنه كان يذهب إلى عمله مع شخصين: أحدهما إذا أقبل على المدينة بدأ يتأوه ويقول: كيف لي أن أجد موقفاً لسيارتي؟ إن هذه المدينة مزدحمة بالناس وبالسيارات، وإن الحصول على موقف للسيارة يعتبر أمراً شبه مستحيل.
يقول: فكنت إذا دخلت معه أضعنا أربعين دقيقة نبحث عن موقع للسيارة دون جدوى.
يقول: وأدخل مع شخصٍ آخر فكان دائماً يتعجب ويقول: على رغم سعة المدينة وكثرة سكانها وسياراتها، إلا أنني لا أجد صعوبة أبداً في الحصول على موقع.
يقول: وما هي إلا أن يصل إلى ما يريد حتى يجد سيارة تغادر المكان ليجعل سيارته مكانها.
حين تتحدث عن نفسك فاختر العبارة المناسبة، مثلاً: بدلاً من أن تقول: هذا عمل صعب.
قل: هذه مهمة ليست سهلة، ولكنني أستطيع أن أفعل ذلك، أو أحاوله.
بدلاً من أن تقول لأحد: لا تغضب.
قل له: هدئ أعصابك.
بدلاً من أن تقول: كم كان هذا اليوم صعباً وشاقاً.
قل: كم كان هذا اليوم مفعماً بالنشاط والعمل.
بدلاً من أن تقول: لا أستطيع.
قل: سأحاول.
بدلاً من أن تقول: لا أظن أن هذا الشيء سيتحقق.
قل: آمل أن يتحقق.
بدلاً من أن تقول: أشعر بكسل.
قل: أحتاج إلى شيء من الحركة والنشاط.
بدلاً من أن تقول لأحدٍ: أنت ضعيف.
قل له: أنت تحتاج إلى مزيد من الجهد والتمرين.(1/14)
السعادة والنجاح
رابع عشر: السعادة والنجاح.
كل إنسان له إمكانية النجاح، ولكن نجاحه يعتمد على قدرته على تفجير المواهب التي وضعها الله تعالى فيه، فمخطئ من يتصور أن النجاح يأتيه على طبق من ذهب، ومخطئ أيضاً من يعتقد أنه لا يملك آلية وأهلية النجاح.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتَّال أولاً: لا بد من الثقة بالنفس، فهي من المقومات الرئيسية للنجاح.
ثانياً: لا بد من الإرادة القوية، فالإنسان يعيش صراعاً، ولن ينتصر في هذا الصراع إلا إذا تسلح بإرادة قوية.
ثالثاً: لا بد من الطموح الدائم، حيث إن الطموح يزرع في الإنسان الجد والمثابرة.
رابعاً: لا بد من النشاط المتواصل، وهو عبارة عن الجهد المستمر الذي يبذله الشخص لإنجاز أعماله وتحقيق أهدافه في الحياة، وقبل ذلك وبعده لا بد من التوكل على الله عز وجل، فإنه من توكل على الله كفاه.
قواعد النجاح سبع نقاط: 1- تحديد الهدف في الحياة.
2- تعرف الإنسان على شخصيته.
3- عدم التفريط في الوقت.
4- الاستفادة من تجارب الآخرين.
5- البعد عن الإسراف.
6- مقاومة التعب.
7- التأكيد على أن يكون الإنسان متفائلاً حتى في أحلك الظروف.
- لماذا أنا هكذا؟ - تتبادر إلى الذهن أحياناً أسئلة كثيرة: - لماذا أنا هكذا في حياتي؟ - لماذا لم أنجح في الاختبار؟ - لماذا أشعر بالملل من حياتي؟ - لماذا يكرهني الأصدقاء؟ - لماذا تخلى عني شريك حياتي؟ - لماذا ملَّني والدي وأساء معاملتي؟ قد تكون هناك إجابات، وقد لا تكون، ربما تكون مثل هذه الأسئلة في الغالب هي نوع من البرمجة السلبية التي تعود الإنسان عليها، وأصبح يعتقد هذا الأمر خلاف ما هو عليه في الواقع.(1/15)
السعادة والصحة النفسية
خامس عشر: السعادة والصحة النفسية.
إن الصحة النفسية من الأشياء التي ينشدها الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأهميتها في حياة الفرد والجماعة التي لا تستغني عنها بحال من الأحوال، ولذلك نلاحظ تزايد عدد المؤسسات والعيادات النفسية التي تقوم على علاج الاضطرابات النفسية -مثلاً- يوماً بعد يوم، وخاصة في المجتمعات الغربية التي من أهم مظاهرها زيادة حالات الانتحار الفردي والجماعي، والتي تتناسب تناسباً طردياً مع الرفاهية ومستوى دخل الفرد، هذه الظاهرة تدل على اليأس من الحياة، وعدم القدرة على الوصول للصحة النفسية.
إن تحقيق السعادة والصحة النفسية يكبر في اتباع منهج خالٍ من التناقضات، يركز على الجانب الإيماني الذي به يكسب الإنسان حقيقته، فأنت بالروح لا بالجسم إنسان، ولا منهج إلا منهج الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] ، منهج الكتاب والسنة وما كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فلا بد أن يأخذ الإنسان بسيرتهم ويقتدي بهم، فإن له بهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.(1/16)
السعادة والتوقع
سادس عشر: السعادة والتوقع.
إن ما يتوقعه الإنسان يصبح سبباً نحو التحقق، فإذا توقع المرء توقعاً معيناً فسوف يكون ناجحاً، فإن التوقع يسهم كثيراً في نجاحه؛ لأنه يحدث نفسه بهذا النجاح، إنه من الممكن أن نتوقع أحسن الأشياء لأنفسنا رغم الظروف السيئة، ولكن الواقع المدهش هو أننا حين نتوقع شيئاً جيداً فإننا غالباً ما نجده، والأشخاص التعساء يركزون غالباً على الفشل وعلى نقاط الضعف فيهم، أما السعداء فهم يركزون على نقاط القوة وقدرتهم على الابتكار، فمهما كانت التوقعات فإن الإنسان سوف يصل إليها.(1/17)
السعادة والاسترخاء
سابع عشر: السعادة والاسترخاء.
- إن الحماسة والقوة والرغبة في العمل لا تتعارض أبداً مع الأعصاب الباردة.
- إن العمل المستمر دون انقطاع هو عبارة عن انتحار بطيء، فامنح نفسك قسطاً من المتعة وهدوء البال، والحيوية والاسترخاء، لا سيما في أوقات خلوتك بنفسك، وفكر دوماً بالأمور الإيجابية في حياتك، والأشياء التي تملكها وليست موجودة عند غيرك.
- لا توتر نفسك -مثلاً- بمشكلات الدراسة أو مشكلات العمل، واعتبرها جزءاً من الحياة، ولا تلتفت أبداً إلى الطعنات التي تأتيك من الخلف، وإلى مضايقات الآخرين، وتقبَّل الأمور على ما هي؛ لأن شيئاً لن يتغير فأنت لا تستطيع أن تربي الآخرين أو تغير سلوكهم، لكنك تستطيع أن تربي نفسك وأن تغير سلوكك.
- إذا كان جدول أعمالك مزدحماً فلا تقلق نفسك، ولا تتوتر، ففي النهاية أنت لم تنجز إلا ما يتسع له الوقت، ومن الأفضل أن تنفذ هذه الأشياء بنفسية جيدة لتتمتع بقدر من السعادة والرضا.
- كن متفائلاً، وتعلم كيف تسلم ببعض الأشياء التي جبلت عليها، وليس هناك أسلوب حياة أو عمل أو أسرة يخلو من المشكلات.
لا تنظر إلى تجاربك الفاشلة الماضية بحزن أو تشاؤم، واجعل الفشل الذي عانيته بالأمس ذريعة ودافعاً لاستمرار الوصول إلى الفلاح.
إن الأشخاص الذين يأسرون أنفسهم في تجاربهم الفاشلة الماضية لا يمكن أن يكونوا سعداء أبداً، وتذكر الحكمة التي تقول: إن القرار السليم يأتي دائماً بعد الخبرة التي حصلت عليها من القرار السيئ.
- عندما تقابل شخصاً أو صديقاً مقرباً، قل له نكتة، أو اطلب منه أن يقول هو ذلك، فالابتسامة والضحك المعتدل يولِّد بداخلنا نوعاً من البهجة والسعادة، ولا تجعل المستقبل مصدر قلقٍ لك، فإن هذا القلق سوف يسلبك السعادة.
- كن جريئاً في قراراتك دون تهور أو اندفاع، وكما تقول الحكمة: الحياة هي المغامرة ذات المخاطر، أو هي لا شيء على الإطلاق.
- لا تلتفت لصغائر الأمور اليومية، فهي لا تحتل الجزء الأكبر من تفكيرك، ولا تدعك تستمع بمباهج الحياة.
- اجعل أحد مصادر سعادتك مساعدة الآخرين، شخص محتاج، أو البسمة في وجه طفل، أو أسعد والديك.
أخيراً: قِوِ صلتك بالله عز وجل، وليكن إيمانك بالقَدِرَ باعثاً لك على راحتك النفسية، واعلم أن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) - ساعة واحدة من الاسترخاء تعني نصف ساعة من النوم، وأعطِ نفسك قدراً جيداً من النوم من سبع إلى تسع ساعات يومياً -وإن كان هذا يختلف بحسب السن- إن الحرمان من النوم يجعل الجسم مغلوباً على أمره، وعلامة أخذ الإنسان أو الجسد نصيبه أن يستيقظ نشيطاً متجدد القوى.
كيف تستطيع أن تحسن نومك؟ حدد وقت الذهاب إلى الفراش، واجعل الفراش مريحاً ومخصصاً للنوم.
تأكد أن غرفة النوم هادئة ومعتمة.
تحرك جيداً في النهار، وكُلْ بشكل صحيح ومعتدل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] .
إذا لم يأت النوم فلا تستعجله، وقم ومارس أي عمل مناسب واستفد من وقتك.
هناك تجربة شخصية: إذا لم يأتك النوم وطال بك السهاد فانهمك في ذكر الله عز وجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ لأنك حينئذٍ سوف تجعل الشيطان بين أمرين أحلاهما مر: إما أن يدهدهك ويهدئك حتى تنام؛ ليحرمك من الذكر، أو أن تصحو وتظل ذاكراً لله عز وجل فيزداد رصيدك من الحسنات والأعمال الصالحة.
إنها تجربة عرفها الكثيرون منه وخبروها.(1/18)
السعادة والهدف
ثامن عشر: السعادة والهدف.
لا بد للحياة من هدف، فما هذا الهدف؟ طرفة بن العبد شاعر جاهلي يقول: ألا أيها الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فإن كنت لا تستطع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي ولولا ثلاثٌ هنَّ من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عُوّدي فمنهنَّ سبقي العاذلات بشربةٍ كُميتٍ متى تغل بالماء تزبد وما زال تشرابي الخمور ولذتي وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبَّدِ وكرِّي إذا نادى المضافُ مجنِّباً كسْيِدِ الغضا نبهته المتورِّدِ وتقصير يوم الدجن والدجن معجِبُ ببهكنةٍ تحت الخباء المعمَّدِ إذاً هو يلخص هدفه بثلاثة أشياء: الخمر، والكرَّ، واللقاء والوصال الجنسي مع من يحب.
عمر بن عبد العزيز رحمه الله سمع هذه الأبيات فقال: [وأنا والله لولا ثلاثٌ لم أحفل متى قام عودي: -وهنا انظر إلى الفرق- لولا أن أعدل في الرعية، وأقسم بالسوية، وأسير في السرية] وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [مثل هذا وقع الحافر على الحافر] .
قيل لعاشق: ما السرور؟ قال: لقاءٌ يشفي من الفرقة، واعتناقٌ يداوي من الحرقة.
وقيل لعالم: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقة، واستنباط المعاني الدقيقة.
وقيل لفتاة: ما السرور؟ قالت: زوجٌ يملأ قلبي جلالاً، ويملأ عيني جمالاً.
كثير من الناس يكبتون غرائزهم وعواطفهم وفطرهم التي يعتقدون أنها لا تساعدهم على تحقيق الأهداف، فلا يبلغ الواحد منهم الهدف الذي يسعى إليه: منصباً كان، أو تجارةً، أو جاهاً، إلا وقد دفع الثمن غالياً.
على سبيل المثال: الذي يريد أن يكون غنياً، يضحي من أجل المال بصحته، وبعلاقاته الشخصية مع أقاربه مع زملائه مع أصدقائه، فإذا وصل إلى ما يريد وحقق الهدف وجد نفسه قد فقد لذة الحياة، وشعر بالبؤس، وصارت متعته الوحيدة هو أن يتكلم عن عبقريته الماضية في جمع المال، وعن تاريخه، وإنجازه.
وهكذا الذي يسعى أن يظهر باحترام الناس، ولا يتعرض لنقدهم، كثيراً ما يعيش شقياً بائساً، والسعي وراء الظهور والشهرة ربما يكون من أكبر العقبات في سبيل السعادة إذا تعارضت مع الغرائز الفطرية، أن تعيش سعيداً مع زوجتك، وأطفالك، وجيرانك، بل ومع نفسك، فإن هذا هو العمل العظيم.
قال عبد الملك بن مروان يوماً لأعرابي: ماذا تتمنى؟ قال: العافية والخمول -وهو يعني بالخمول عدم الشهرة- فإني -يقول الأعرابي- رأيت الشر أسرع شيء إلى ذوي النباهة.
فقال له عبد الملك بن مروان: والله ليتني كنت سمعت هذه الحكمة قبل أن أصل إلى الخلافة.
ونحن لا ندري هل كان عبد الملك بن مروان صادقاً جاداً في ذلك، بمعنى: أنه وصل إلى مبتغاه فهان عليه، وأدرك أنه لا يستحق المخاطرة، أم أنها كلمة قالها لتوقيف المجلس.
إن الجميع يعرفون -على سبيل المثال- قصة مارلين مونرو وانتحارها ووصيتها لبنات جنسها: احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء، إني أشهر امرأة في الوجود، ومع ذلك فأنا أتعس امرأة في الوجود إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة.(1/19)
السعادة والأطفال
تاسع عشر: السعادة والأطفال.
دع أطفالك يسعدون، وامنحهم حرية الاختيار في القرارات التي تهمهم، وعودهم على احترام وتقدير آرائهم.
نمِّ في أطفالك العلاقات الطيبة مع الآخرين، ودربهم على بنائها وعلى المحافظة عليها.
قوِّم دوافعك إلى التدليل ليتعود الأطفال أن السعادة لا تأتي من خلال إمطارهم بالأعطيات والهبات والأموال واللعب، وأعطهم بقدر، فلقد تبين من خلال دراسة عملية ميدانية أن أسعد الأطفال هم من يحصلون على قدر معتدل من الحاجات الضرورية، أما أولئك المدللون فهم بعيدون عن السعادة؛ لأنهم تربوا على الحصول عليها بسهولة، ولأنهم ظنوا أن السعادة تتحقق من خلال هذه الأشياء.
خرج أبو بكر وعلي رضي الله عنهما فرأيا الحسن يلعب مع الصبيان فحمله أبو بكر على عاتقه وهو يقول: [بأبي شبيهٌ بالنبي ليس شبيهاً بعلي، وعلي رضي الله عنه يضحك] كما في صحيح البخاري.
علِّم أولادك الاهتمامات المتنوعة؛ لئلا يقتصر على أمرٍ واحد، فلو أخفق فيه تحطم مستقبله، وعلِّمهم مهارة التكيف مع الظروف المختلفة.
وفِّر لأولادك بيتاً سعيداً وراحةً وأنساً، وكونوا سعداء من أجل أطفالكم.
إن الأطفال هم زينة الحياة الدنيا، والبيت الذي يقهقه فيه الطفل فإن السعادة تعتريه من كل جانب، ولهذا ماذا تقول الأم وهي تشعر لأول مرة أن صبياً أو فتاةً في بطنها ترجفها بقدميها: إذا ما تكورت في داخلي وأثقلت جسماً خفيفاً خلي وصرت تُلملمِ روح الحياة ولم يبق شيء سوى الآه لي عرفت بأني نديم السهاد وليلي طويل ولن ينجلي وبت أقلب فكر التمني سأحضى بليلى ترى أم علي ولما توالت شهوري الطوال وقاربت هولاً به مأملي ذبلت ذبول غصون الخريف ومن تك مثلي ولم تذبل وقد راودتني شتى الظنون بعاق سأرزق أم بولي إلهي أثبني بنجلٍ كريم وأكرمني في بكري الأول وحين تزمجر ريح المخاض تلاطم أمواجها مركبي شعرت بنوباتٍ شبه الجنون وموجات قهرٍ تغلغن بي وطافت ملائك ربٍ غفور ورددن قولك لي: جربي نظرت إليه كمن راقه هلال يشكل وجه الصبي وأيقظني من سبات عميق ملاك يغرد في جانبي فكن لي معيناً إذا ما الصروف رمتني بسهم على منكبي(1/20)
السعادة والسجن
عشرون: السعادة والسجن.
يظن الكثيرون أن السجناء لا يجدون طعم السعادة؛ لأنهم مقيدون، بينما الواقع أن السجناء في كثيرٍ من الأحيان هم أكثر حرية من الآخرين؛ لأنهم أحرار في وقتهم، لا أحد يدخل عليهم إلا بإذنهم وإرادتهم، وهم يتصرفون بأربع وعشرين ساعة يومياً كما يحلو لهم، وكما يريدون.
وهذه قمة السعادة.
يقول ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب: سمعت ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان محبوساً في القلعة ويقول: لو بذلتم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة.
وقال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير.
وكان يقول وهو في سجوده في الحبس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك.
وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل سجن القلعة وكان بداخله ونظر إلى السور قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] .
يقول ابن القيم رحمه الله: وعلم الله ما رأيت أطيب عيشاً منه مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية، وضد النعيم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاب، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاًَ، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم من وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف ذهبنا إليه، وإذا ساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض بما رحبت، أتينا إليه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله وينقلب إلى انفساح وانشراح وسرور وقرة عين.(1/21)
السعادة والقلق
واحد وعشرون: السعادة والقلق.
القلق جزءٌ أساسيٌ في حياتنا، وقدر من القلق ضروري للحاضر والمستقبل، لكن بحدود، بحيث لا ينتهي الأمر إلى أن تحس بالتعاسة.
بعض الناس يهرب من القلق عن طريق عدم مواجهة الحقيقة، والنتيجة أنه هرب إلى الحقيقة وأصبح أقرب وأقرب من القلق.
الآن وأنت في بداية عطلة يجب أن تحاول التخلص من القلق بطريقة عملية: أولاً: لا تطلب من نفسك أشياء فوق قدرتها، ولهذا يقال: قيل لأعرابي كان عنده أمة: يا أعرابي هل تتمنى أن تذهب عنك هذه الأمة، وأن تلي الخلافة؟ قال: لا والله.
قالوا له: ولم؟ قال: لأني أخشى أن تضيع الأَمة وأن تضيع الأُمة.
فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
ثانياً: انظر إلى نفسك بعين الرضا، مع محاولة الإصلاح والتدارك.
ثالثاً: تذكر أن صحتك أحسن من صحة الآخرين.
رابعاً: استمتع بالنجاح.
خامساً: لا تحقد على أحدٍ على خيرٍ ناله من الله عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] .
لا تحزن الفتاة من زميلتها التي تزوجت، ولا تحزن الزوجة من زوجة أخرى تعيش مع غني أو وجيه، ولا تبكي المطلقة كلما قابلت زوجة سعيدة.
تنفس واملأ رئتيك بالهواء وقل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43] إني في حالة جيدة، وأقنع نفسك أن اليوم أحسن من الأمس، وأن الغد أفضل من اليوم.
بودادي عليك هوِّن عليك الـ أمر لا بد من زوال المصاب سوف يصفو لك الزمان وتـ أتيك ضعون الأحبة الغُيَّاب وليالي الأحزان ترحل فالـ أحزان مثل المسافر الجوَّاب وإذا كان القلق يتعلق بما قد يصعب عليك تحقيق مصدره أو تحديد جهته، فهناك هموم المستقبل ومخاوفه وهي كثيرة.
إن من السعادة التخلص من المخاوف والهموم، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أنه نظر إلى الخلق كلهم، مسلمهم وكافرهم، غنيِّهم وفقيرهم، على اختلاف مللهم ومذاهبهم، قال: فوجدتهم جميعاً متفقين على مطلب واحد وهو طرد الهموم عنهم، ثم نظرت فوجدت أنه لا يطرد الهموم شيء كالإيمان بالله عز وجل، والتوكل عليه، والسجود له، والوقوع في الإخبات والانكسار بين يديه.
إن المخاوف كثيرة، والأمان هو في التوكل على الله عز وجل، والرضا بقدره، والخوف من وقوع الكارثة هو بحد ذاته كارثة، والخوف من الشيء أحياناً يكون أشد من وقوعه، وكما يقول المتنبي: كل ما لم يكن من الصعب في الـ أنفس سهل فيها إذا هو كانا فلا تخف ولا تحزن، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم: دع المقادير تجري في أعِنَّتِها ولا تبيتن إلا خالي البال ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حال قد لا تستطيع طيور الهم أن تحلِّق فوق رأسك، لكن امنعها أن تعشش في داخله: قد عشت في الدهر أطواراً على طرقٍ شتى وجربت منها اللين والفظعا كلاً بلوت فلا النعماء تبطرني ولا تخشعت من لأوائها جزعا لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا يقول ابن الجوزي رحمه الله: ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً، وهماً دائماً، وقد أخذت أبالغ في الفكر للخلاص من هذا الأمر بكل حيلةٍ وبكل وجه، فما رأيت طريقاً للخلاص فعرضت لي هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل همٍ وغم، قال: فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى، فوجدت المخرج.
فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله عز وجل وامتثال أمره، وليعلم أن الله كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] .(1/22)
السعادة والإدمان
اثنان وعشرون: السعادة والإدمان.
الإدمان: هو ابتهاج مؤقت، ونوع من التخيل والوهن، أو محاولة نسيان الواقع ومشكلاته، إنه خطر يهدد جمال المرأة وعفتها، ويهدد قوة الرجل وشهامته وشيمته وغيرته، لم يعد هناك فرق بين الذكر والأنثى، فالإدمان أصبح داءً يهدد الجميع.
يبدأ أحياناً بصورةٍ مألوفة: كالإدمان على مشاهدة التلفاز، أو الأفلام، أو لعب الورق، أو غيرها، أو مشاهدة المواقع الإلكترونية، أو بعض الألعاب عبر الكمبيوتر، ولكن ثمة صور أخرى: كإدمان التدخين مثلاً، أو الخمور والمخدرات، أو العقاقير المهدئة، أو عقاقير الهلوسة، أو غيرها، وكان في الماضي يظن أن هذا خاص بالرجال، وأنه مرض ذكوري حتى تمَّ اكتشاف أن مثل هذا الأمر يلعب بالجنسين معاً، ولا يفرق بين غني وفقير، أو مثقف وجاهل، أو مراهق وكبير، أو ذكر وأنثى.
عند البنات -مثلاً- في كثير من المدن موضوع إدمان الشيشة في بعض الطبقات، وفي أماكن سياحية كالفنادق و (الكفتيريات) ، وأصبح هذا الأمر كأنه تعبير عن نوع من التحرر على الرغم من شدة ضررها على الصحة كما هو معروف ومقرر.
الإدمان على الحشيش مثلاً فخلال تقرير أو إحصائية استطلاع أجريت في مصر على خمسمائة متعاطي، تبين أن (77%) من الذين يتعاطون الحشيش هو بسبب مجاراة الأصحاب وتقليد الأصدقاء، والحصول على ما يسمى بالفرفشة، بينما (25%) يتعاطونه لأسباب ودوافع جنسية، ظناً منهم أنه يقوي الدافع والممارسة الجنسية.
طالبة في الجامعة ذات جمال فتان، أفسدها الإدمان، ثم تزوجت واحتالت حتى أوقعت زوجها في الإدمان، وشكلا شبكة لتوزيع المخدرات على طلاب الجامعة، قبل أن يتم القبض عليهما وإيداعهما السجن ثم المصحة النفسية.
أخرى كانت عاملةً في الطيران ذات جمال وثقافة، تجيد أربع لغات، وقعت في الإدمان وتدهورت حالتها، وطلقت من زوجها لتتدرج وتصبح عضواً بل مديراً لشبكة بغاء قبل أن تقع في أيدي أجهزة الأمن.
طالبة عمرها سبعة عشر عاماً يغمى عليها، فتذهب للمستشفى خوفاً من أن يكون ثمة جلطة، مع أن احتمال الجلطة ضعيف في مثل هذا السن، ويتبين أنها تناولت جرعة كبيرة من الهروين.
سبب الإدمان: أولاً: التفكك الأسري بسبب غياب الأب مثلاً، أو الطلاق، أو الانشغال، أو ما أشبه ذلك.
ثانياً: التقليد لأصدقاء السوء (الشلة) الذي يحاول الفتى أو الفتاة تقليدهم والسير على منوالهم.
ثالثاً: الإحباط واليأس الناتج عن شعور الفتاة -مثلاً- بأنه غير مرغوب فيها إما لشكلها، أو لوضعها الاجتماعي، أو التعليمي، أو شعور الفتى بأنه كمٌ مهمل وليس له قيمة.(1/23)
الذكاء والسعادة
ثلاث وعشرون: الذكاء والسعادة.
أسفرت دراسة علمية على أن الأذكياء أقل سعادة من غيرهم؛ وربما ذلك لأنهم أرهف إحساساً، وأقلُّ رضاً وقناعة، وأبطأ شفاءً من غيرهم، ويذكر الدكتور ديل كرنيجي صاحب كتاب دع القلق وابدأ الحياة عن أحد كبار الأطباء أن مريضة تحول زواجها إلى مأساة، كانت تنشد الحب، والارتواء الجنسي، والأطفال، والمركز الاجتماعي، لكن زوجها لم يحبها، ولم تنجب أطفالاً فأصيبت بالجنون، وأصبحت تتصور باستمرار أنها طلقت من زوجها، وتزوجت من أحد النبلاء، وتتخيل في كل ليلة أنها تنجب مولوداً جديداً، وفي كل مرة يزورها الدكتور كانت تقول: يا دكتور! هل علمت أني البارحة قد أنجبت مولوداً جديداً.
يقول كرنيجي: إن في وسع الواحد منهم -يعني: المجانين- أن يمنحك شيكاً بمليار دولار، أو يعطيك خطاب توصية لـ جنكيز خان.
أحياناً ربما يضر الإنسان عقله.(1/24)
السعادة والسكينة النفسية
أربع وعشرون: السعادة والسكينة النفسية.
إن السكينة النفسية ينبوع السعادة، وهي روح من الله، ونور يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلق، ويتسلى به الحزين، وغير المؤمن تتوزعه في الدنيا هموم كثيرة، وغايات شتى، وهو حائر بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء مجتمعه الذي يحرص عليه ويسعى فيه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124] .
إن من أهم عوامل القلق: التحسر على الماضي، والسخط على الحاضر، والخوف من المستقبل، ولهذا ينصح الأطباء بأن ينسى الإنسان آلام أمسه، وأن يعيش واقع يومه، فإن الماضي لا يعود.
وقد صوَّر هذا أحد المحاضرين بالجامعة الأمريكية تصويراً بديعاً حين سأل طلابه وقال لهم: كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع كثير من الطلبة أصابعهم وقالوا: كلنا مارسنا نشر الخشب.
فقال لهم سؤال آخر: كم منكم مارس نشر نشارة الخشب؟ فلم يرفع أحد منهم يده.
قال: نعم لأن نشارة الخشب منشورة فهي لا تنشر مرة أخرى، وهكذا الشيء الذي مضى من أراد أن يستعيده فإنه يمارس نشر نشارة الخشب.
هناك الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي والتي قد يكون الله تعالى سامحك عنها، ولكن نفسك وضميرك العصبي وجهازك لا يزال يعدها ويحصيها عليك، فهذه الأخطاء هي سوس السعادة الذي يجعل الروح تتألم كما يتألم الضرس.
ولهذا يجب أن يلجأ المرء دائماً وأبداً إلى الاستغفار، والثقة بعفو الله عز وجل، وأن يعوض بالأعمال الصالحة التي تهدئ من ثورة الضمير ومن توتر الجهاز العصبي.
كثير من الشباب والفتيات -مثلاً- يعانون من العادة السرية، فيلجئون إليها تحت ضغط الشهوة والحاجة، ثم بعد ذلك تنتابهم حالات من الهم والندم والحزن، ربما تأثر فيهم وتبعدهم عن الطريق المستقيم.(1/25)
السعادة والسفر
خمس وعشرون: السعادة والسفر.
السفر له فوائد كثيرة، كما يقول الشافعي: تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج همٍ، واكتساب معيشةٍ وعلم، وآداب، وصحبة ماجد فـ الشافعي رحمه الله عدَّ هذه الفوائد الخمس، وهناك غيرها كثير حتى ذكر الثعالبي مثلاً: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله عز وجل، وغير ذلك من الآثار المعروفة المشهودة.
وإذا كانت هذه بعض المزايا فإن ثمة في السفر عيوباً وأضراراً؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب) من ذلك مثلاً: أولاً: الحرمان أحياناً من لذة الطعام والشراب والنوم والأهل والأحباب والانقطاع عنهم؛ مما يهيج الشوق والحنين إليهم، فلا يقر للمسافر قرار ولا يجد في قلبه الراحة أحياناً.
ثانياً: أنه قد يظهر مساوئ الأخلاق لبعض الناس، ولهذا قيل: إن السفر يسفر عن أخلاق الرجال.
ثالثاً: أن الأمور تختلط على المسافر؛ فقد يظن الصديق عدواً، أو العدو صديقاً.
رابعاً: كثرة النفقات والتكاليف التي تشق على الإنسان وترهقه مادياً كالإنفاق على وسائل المواصلات والسكن والفنادق، والأكل والشرب، والبضائع وغير ذلك.
خامساً: الذل في الغربة، فإن المغترب ربما لجأ إلى الذل وصار ذليلاً.
إضافة إلى مخاطر السفر، سواء كانت في الجو، أو البر، أو البحر، والحوادث التي يتعرض لها الناس يموت بسببها من الناس من لا يموتون في المعارك والحروب من حيث العدد.
ومع ذلك فإن في السفر تجديداً للحياة والخلايا والأنسجة، وإزالة لبعض الملل والسأم الذي يعتري الإنسان.(1/26)
السعادة والجمال
ست وعشرون: السعادة والجمال.
اتضح لبعض الباحثين أن خصال الوسامة والجمال أوفر حظاً في الإنسان، وأكثر تكيفاً وسعادةً، خصوصاً في مجال المرأة، فأولئك النسوة اللاتي يشعرن بالجمال والوسامة هن أقرب إلى تحقيق السعادة.
إن الجمال الطبيعي هو التمتع بجاذبية غامضة فاتنة ليس لها تفسير أو تحديد تظهر في كامل مظهرنا، أو تصرفاتنا، أو أحاسيسنا.
إن الجمال الطبيعي ليس هو فقط بوضع أحمر الشفاه الجميل على الشفتين؛ لجعلها جذابة ومثيرة، ولا بوضع ما يسمى (بالمسكرة) الداكنة على أهدابنا؛ لتبدو العيون بهيةً ومغرية، ولا بإظهار البشرة الناعمة المصبوغة من تأثير الشمس والتي يرغب فيها الجميع إلى أقصى الحدود، إن امتلاك الجمال الطبيعي يعني -ببساطة- أن تكون إنساناً على كافة المستويات، أعني أنه عندما نقول: هذا الإنسان يمتلك الجمال الطبيعي أو أنه جميل، فإنه يمتلك تلك الموهبة الخاصة بكونه جميلاً من الداخل، جميلاً من الروح، ينعكس الجمال على مظهره الخارجي، وعلى رغم أن عدداً قليلاً فقط من البشر يولدون مع هذه الهبة الإلهية، إلا أن كثيراً من الناس يستطيعون أن يتدربوا على اكتساب معاني الجمال الداخلي والتمتع بهذه النعمة.
إن الجمال الطبيعي هو الشعور الرائع الذي يشع من داخلنا، وينعكس على مظهرنا الخارجي، أي: أن الوجه والشعر والعينين واليدين والجسم والحركات، وردَّات الفعل الخارجية، وردَّات الحواس هي انعكاس لذلك الجمال الطبيعي، وهو الشعور بأنك على أحسن حال، وعلى مستوىً أعمق بكثير من سطح البشرة، إنه يضم جميع المشاعر الطيبة والرائعة الناتجة عن امتلاك ذهن صافٍ، والشعور بسلام داخلي، والإحساس بغاية سامية، ما هي إذاً الحلول والإيجابات الخاصة بالبحث عن هذا الجمال، وكيف الحصول عليه؟ إن الإجابة الوحيدة الأكثر فعالية هي الوصول إلى عمق المشكلة والبدء من هناك، وهذا يعني الاعتناء جيداً بصحة الفرد الإيمانية النفسية الداخلية قبل محاولة الاعتناء بالبشرة على المستوى السطحي.
إن المحافظة على صحة الأعضاء الداخلية؛ القلوب والنفوس والعقول يصبح أفضل ضمان للبشر لتعكس حالة التوازن والإشعاع والنضارة والنعومة والإشراق والجمال والشباب.(1/27)
السعادة والصداقة
سبع وعشرون: السعادة والصداقة.
من الصعوبة أن تعطي تعريفاً للصداقة، ولكن الصداقة تعني في كثير من الأحيان أن الإنسان يبقى في جسدين بروح واحدة، تعني: الاتحاد الكامل بين القلوب، وهي اللقاء بين أشخاص منجذبين الواحد تجاه الآخر، وهذه الصداقة تكبر بالثقة والتعامل يوماً بعد يوم، وهم أشخاص أحرار في أن ينفصلوا ولكنهم يؤثرون أن يبقوا أصدقاء تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه.
وهنا يمكن أن نجدد القول ونقول: إن الصداقة والعلاقة الحميمة التي تربط بين شخصين متماسكين يسعيان سوياً إلى عيش المحبة والثقة، هذه الصداقة، وهذه الكلمة الجذابة التي ينشدها كل إنسان، هي ما يحقق لك السعادة، إنها ترتكز على أساس الحب والحرية، لا يقدر أحد أن يفرض عليَّ صديقاً لا أريده، ولكن أختار الصداقة بمحض إرادتي وحريتي واختياري وفق الشروط الشرعية، فالصديق الذي ينفعني وأنفعه، بهذا يتولد الشعور بالإنسانية.
الصداقة تتطلب المساواة في التعامل، بحيث يتعدى ويتجاوز الوضع المادي أو الطبقة الاجتماعية، وهي تعني: الاحترام والثقة المتبادلة، وتعني: الحوار والتفاهم الدائم بين الأصدقاء، وتعني الانفتاح بمعنى أنه لا أمتلك صديقي وأمنعه من أن يتصل بالآخرين، أو يمتلكني ويمنعني من أن أتصل بالآخرين، وتبنى على التفاني وبذل الذات من أجل صديق.
الصداقة ليست ابتهاجاً عادياً مؤقتاً، وإنما هي تكامل دائم.(1/28)
السعادة والرياضة
ثامن وعشرون: السعادة والرياضة.
لقد أثبتت وأسفرت البحوث المستفيضة عن أن ممارسة التمارين الرياضية بانتظام تزيد من شعور المرء بالسعادة، وتساعد على مكافحة التوترات العصبية والمضايقات، فهي تعتبر من الأساسيات المهمة في حياتنا، ولكن الكثيرين يغفلون فائدتها؛ إما بحجة أنه ليس لديهم وقت لممارسة الرياضة -مثلاً- أو لأن تأثير الرياضة وفائدتها للجسم لا يتأتى في وقتٍ قصير، وإنما يحتاج إلى فترة معينة، ربما أسبوع على الأقل لتبدأ النتائج، وشهور حتى يحصل على نتائج أفضل، وبكل حال فإنها مهمة لكل فئات المجتمع؛ للشباب والفتيات، والحوامل والمرضعات، والشيوخ والكهول، بل والمعوقين وغيرهم، ولها فوائد كثيرة: فهي تساعد على الحفاظ على الوزن، وتكون -بإذن الله- سبباً في الامتناع عن كثير من الأمراض؛ كأمراض ضغط الدم والقلب، وتقوي عضلات الجسم، وتخفف من مشاكل أمراض المفاصل، إضافة إلى أنها تخفف كثيراً من المشاكل النفسية، فأي الرياضة يمكن أن نمارس؟ ليس هناك أجهزة خاصة للرياضة بالضرورة، أو أماكن مخصصة لممارستها، يمكن ممارسة الرياضة بالبيت مثلاً دون الحاجة إلى أجهزة، فطلوع السلَّم عدة مرات تعتبر رياضة، والجري في المكان رياضة، وممارسة الأعمال البيتية رياضة، لذلك السباحة، أو نط الحبل، والمشي بسرعة، وركوب الدراجة، إلى غير ذلك.
وعند ممارسة الرياضة يجب أن تعرف أنه لا يوجد نوع خاص نقول: إنه أفضل من غيره، بل بحسب ما يتاح لك يمكن أن تمارس من الرياضة.
عليك أن تجعل لك ما بين عشرين إلى ثلاثين دقيقة يومياً مخصصة للرياضة.(1/29)
السعادة والملل
تاسع وعشرون: السعادة والملل.
لماذا يفضي الملل إلى زوال السعادة ويقضي على جذورها؟ ما هي الأساليب التي يمكن من خلالها التغلب على الملل؟! إن الملل يسيطر على حياتنا فيولد الكآبة؛ نتيجة أسلوب حياتنا الروتيني المُمل، ونتيجة نظرنا إلى ما حولنا بتكرار وبطريقة معتادة تماماً، فالله تعالى حين خلق الحياة خلق فيها تنويعاً: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل:69] {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام:99] {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] .
إذاً: نحن نلاحظ في خلق الله عز وجل في الكون وفي الحياة والناس من حولنا كثيراً من التنوع الذي ينبغي أن نأخذ منه أن على الإنسان حتى يقضي على الملل أن يسعى في التنويع: التنويع مثلاً في القراءة التنويع في العلاقة بين الزوجين التنويع في الملبس التنويع في السفر التنويع في كل الأشياء التي من شأنها أن تضفي قدراً جديداً من البهجة على حياتنا.
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلاً إن شر الجناة في الأرض نفس تتوخى قبل الرحيل الرحيلا وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقه الندى إكليلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً لا بد أن نجدد حياتنا؛ حياتنا الزوجية، وحياتنا في الصداقة، وحياتنا الدعوية، وأن ندخل عليها باستمرار ألواناً وأنماطاً جديدة كفيلة بطرد الملل، وأن تشدنا إلى هذه الأشياء من جديد.
اسأل نفسك مجموعة من الأسئلة: ألا تشعر بمتعة لتناول الطعام في رمضان أكثر من غيره في الأيام العادية؟ ألا تستمتع برؤية الصديق إذا أبطأت عنه أكثر مما تستمتع لو كنت تراه يومياً في العمل مثلاً؟ ألا تستمتع بطعم الحياة العادية إذا حرمت منها بسبب توقف أو سجن لبضعة أيام أو غير ذلك؟ ألا تشعر بالمتعة والسعادة إذا عاد التيار الكهربائي إليك بعد انقطاع؟ من خلال هذه الأمثلة تستنتج أننا نشعر بفرحة ومتعة وسعادة إذا أعادت إلينا الظروف شيئاً حرمناه، وهذا السر من أسرار الحرمان الذي جعله الله تعالى في هذه الحياة، لكن إذا لم يأت هذا فبإمكان الإنسان أحياناً أن يحرم نفسه من بعض الأمور حتى يجد معناها ويجد طعمها وقيمتها.(1/30)
السعادة والقراءة
ثلاثون: السعادة والقراءة: عندما أقرأ كتاباً للمرة الأولى فكأنما كسبت صديقاً جديداً، لكن عندما أقرأ كتاباً سبق أن قرأته فكأنما لقيت صديقاً حميماً أحببته وعرفته منذ زمن قديم.
إن القراءة هي متعة الإبحار في عقول الناس وتجاربهم دون تحمل رعوناتهم أو قسوة أخلاقهم، والقراءة سعة في تفتح العبقريات، وتشييد عالم الثقافة والمعرفة، وقد تنتج قرَّاءً كتبيين، وقد تنتج بغبغائيين، وقد تصنع العلماء بالمعنى المبسط للكلمة، ولكنها تعجز عن توليد تلك الحالة التي إذا لم تتوافر لدى القارئ الطاقة الروحية فلا فائدة من ذلك.
إن القراءة من أعظم وسائل تحصيل العلم، وهي من أسباب زيادة الإيمان، وخصوصاً قراءة القرآن الكريم، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وسيرته وسير الصالحين والعلماء والمواقف الإيمانية.
المتعة أيضاً في القراءة تعكس النقطة السابقة من الملل، فإن الإنسان إذا قرأ فإنما يشعر بمتعة وهو بإمكانه أن يقرأ كتاباً في التاريخ ثم ينتقل إلى كتاباً في التفسير، ويقرأ قصة أو ديواناً من الشعر، أو كتاباً في الألغاز أو غير ذلك مما يكون سبباً في طرد الملل والسآمة، وفي نفس الوقت يشعر الإنسان أنه يكبر وينمو.(1/31)
معوقات السعادة
أخيراً: ما هي معوقات السعادة؟ أولاً: الحسد.
فإن الحاسد عيونه في جنة وقلبه في نار: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] ، إذا رأيت أحداً أعطاه الله تعالى أو منَّ عليه فافرح كما لو كانت هذه النعمة حلت بك؛ لتكون شريكاً في هذه النعمة وفي هذه السعادة.
ثانياً: الطمع.
فإن الإنسان إذا طمع أصبح عبداً لمطامعه، ولا يقنع بشيء مهما أوتي من الأموال، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) .
ثالثاً: السأم والملل، كما أشرت.
رابعاً: الشعور بالإثم، أخطاؤنا وكيف نتغلب عليها ونتجاوزها.
خامساً: الشعور بالاضطهاد.
فالكثيرون لديهم أسباب السعادة، ولكنهم يحسون بأن المجتمع من حولهم لم يعطهم مواهبهم، ولم يقدر نفوسهم حق قدرها، وأنهم يلاقون من الآخرين الجحود والنكران.(1/32)
نصائح عامة
أولاً: يا أخي! ثق أن أي عمل ممتاز سوف يجد في النهاية طريقه إلى النجاح طال الزمن أم قصر.
ثانياً: لا تبالغ في تقدير أهدافك الإصلاحية العامة، أو ما تعتقد أنت أنه نوع من المثالية، فإن هذه المثالية عندك لها جانب آخر يعتبر جانباً نفعياً أو جانباً شخصياً تماماً، أدركته أو لم تدركه.
ثالثاً: لا تتوقع أن يهتم الناس بك مثل اهتمامك بنفسك، وانظر إلى نفسك فإنك لن تهتم بالآخرين كما يهتمون هم بأنفسهم.
رابعاً: لا تفسر الأمور دائماً وأبداً بأن ثمة مؤامرة تدار عليك.
سل الآخرين ماذا يسعدهم، سل المتخصصين والمستشارين، واقرأ كتباً حول السعادة، فالحكماء والعلماء كتبوا عن السعادة منذ مئات السنين ضمن علم الأخلاق، أو النفس، أو الأدب، أو الفلسفة، وأرشح لك في الأخير كتاب (تجاربهم مع السعادة) للأستاذ عبد الله الجعيثن في ثلاثة أجزاء.(1/33)
الأسئلة(1/34)
أداء أوامر الله واجتناب نواهيه عبادة وامتثال قبل كل شيء
السؤال
كلما أردت أن أحس بالسعادة لا تأتي لا في صلاة ولا في قراءة ولا في تحفيظ، فماذا أفعل جزاك الله خيراً؟
الجواب
على كل حال أنت تصلي وتقرأ القرآن وتعبد ربك وأنت تدري أن هذا أجره في الآخرة, وثوابه في الدار الآخرة، وأما في الدنيا فالله تعالى يعطيك من ذلك ذواقة وعينة حتى يطمئن قلبك، ولا شك أن الإنسان لو ترك هذه الأشياء لشعر بما فقد، فهو ربما يصلي ويقول: لم أجد للصلاة طعماً أو سعادة، لكن فكر لو أنك تركت الصلاة كم سوف تجد من تأنيب الضمير، والشعور بالقلق والتوتر والضيق، وأن الإنسان ربما يكون ارتكب جرماً عظيماً، فعلى الأقل أن هذه الصلاة حفظك الله تعالى بها من هذه المشاعر الرديئة، وكلما زاد إيمان الإنسان وإقباله على صلاته وصدقه وسلامة قلبه، واستمر على ذلك زاد يقينه وزاد أثر العبادة فيه.(1/35)
لا بد من التناصح وتذكير الإخوان
السؤال
إذا كان لديك أخ وكان لديكما معاصٍ ترتكبونها الاثنين معاً، فالتزمتما وتركتكما تلك المعاصي، وأحببته في الله ثم عاد إلى تلك المعاصي فهل تتركه؟
الجواب
لا يا أخي! لمن تتركه؟ أتتركه للشيطان ولقرناء السوء، بل عليك أن تأخذ بيده، وتسعى في إنهاضه، وتربطه بمجموعة من الصالحين حتى لا تنساق معه أيضاً، فإذا أيست منه فيمكن أن توصي به غيرك.(1/36)
بعض أسباب الخشوع في الصلاة
السؤال
لدي مشكلة في الخشوع في الصلاة، فإن صلاتي غير خاشعة؛ فما العمل؟
الجواب
بإمكانك أولاً أن تبادر إلى الصلاة: توضأ لكل صلاة اذهب مع الأذان صلِّ ركعتين اقرأ شيئاً من القرآن أقبل على صلاتك حتى لو أخذك الشيطان في الصلاة فلم تنتبه إلا وأنت في التشهد فحاول أن تستدرك ما بقي.(1/37)
الصحابة رضي الله عنهم والسعادة
السؤال
كيف نَصِفُ عدم سؤال الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم عن السعادة؟
الجواب
الصحابة رضي الله عنهم وجدوا السعادة في قلوبهم، وأحسوها ولمسوها وتذوقوها، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كثير من معانيها، فأجابهم وأفادهم كما أشرنا إلى طرف من ذلك.(1/38)
مجاهدة النفس في دفع الأخلاق والعادات السيئة
السؤال
أغضب إذا اعتدى عليَّ أحد ولو بكلمة، ولكني عندما يعتذر إليَّ الشخص أرضى بسرعة؟
الجواب
الناس أربعة أنواع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: هناك من هو سريع الغضب سريع الرضا، فهذه بتلك، وهناك من هو بطيء الغضب بطيء الرضا، فهذه بتلك، وهناك من هو سريع الغضب بطيء الرضا، فهذا شر المنازل، وهناك من هو بطيء الغضب سريع الرضا، وهذا أحسنهم، فاحرص على ألا تغضب، ولا بد أن تجاهد نفسك، أقول: ليس فقط في خلال فترة معينة، لا لأربعين أو خمسين أو ستين سنة أنت محتاج إلى أن تجاهد نفسك على بعض العادات والأمور التي تحتاج إلى مقاومتها، وفي كل مرة تقع فيها تذكر أن هذا خطأ يجب إصلاحه، وعليك ألا تيئس أبداً.(1/39)
نصائح لطلاب التحفيظ
السؤال
بماذا تنصح طلاب التحفيظ؟
الجواب
أنصحهم بالتحفيظ، وأن يكون لهم مع حفظ القرآن شيء من معرفة معانيه وتفسيره، ولو أن يقرءوا مختصراً كتفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي.
ولا بأس أن نذكر الإخوة فيما يتعلق بدروس عملتها في الدورة الصيفية في الإجازة في تفسير قصار المفصل وهي حوالي ستة عشر درساً في قصار المفصل، أتمنى أن يسمعها بعض الإخوة لما فيها من التوجيهات التربوية والاجتماعية والعلمية وغيرها.(1/40)
شكر النعمة يزيدها ويبقيها
السؤال
كنت أعيش في ضنك شديد وقلق واضطرابات نفسية بسب المعاصي التي ارتكبتها، والآن بعد أن عدت إلى الله أجد نفسي في سعادة لا يعلمها إلا الله، فأقول: إن كان أهل الجنة فيما أنا فيه لكفى.
أرجو منك يا شيخ الدعاء لي بالثبات على هذا الدين؟
الجواب
والله هذه نعمة كبيرة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوزعك شكرها، وأن يثبتك عليها، فإن النعم إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت: إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم(1/41)
دور المرأة تجاه زوجها
السؤال
زوجي إنسان مستقيم، ولكنه لا يحب أن يستمر في أي وظيفة، وجميع وقته في فعل الخير وحياته مليئة بالديون، فهل من نصيحة؟
الجواب
والله هذا مهم، ربما يكون مبتلى بالملل أحياناً، فإذا قام في عمل ملَّ منه وتركه، فعليكِ أن تكوني عوناً له على مثل هذه الأشياء، وتساعديه على الاستمرار، وتهيئي له الأسباب.(1/42)
ضرورة الدعوة إلى الله في كل حال
السؤال
الحمد لله أنا ملتزم بديني، ومكثر من الطاعات والعبادات، ولديَّ من الأعمال الصالحة والنوافل الكثيرة ولله الحمد نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، لكن مشكلتي أني أجيد التحدث بأكثر من لغة أوربية وأشعر بسعادة عندما أتكلم مع الأوربيين غير المسلمين بكثرة معرفتهم؟
الجواب
هذا جميل يا أخي! استثمر هذا في تعريفهم بالإسلام، وبيان محاسن هذا الدين، وعظمة القرآن، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن تستخدمها في طاعة الله عز وجل.(1/43)
من أسباب السعادة
السؤال
هل من أسباب السعادة أن يكون للإنسان خليل يشاركه الهم والفرح؟
الجواب
نعم.
هذا من أسباب السعادة: لا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع فالصداقة من أسباب السعادة، والإنسان يحتاج إلى طرف آخر يكمله، قد تكون الزوجة أحياناً، ولهذا جاء في الحديث: (من تزوج فقد استكمل شطر دينه) ، لكن أحياناً ربما لا يجد الإنسان في زوجه ذكراً أو أنثى مثل هذا، لكن قد يجد في صديقه معنىً آخر، فلا بأس في ذلك، بل لا بد منه.(1/44)
لا يشترط للسعادة الراحة
السؤال
من أسباب السعادة طرد التعب، فكيف يكون ذلك لمن يعمل ساعات طويلة في الدوام؟
الجواب
ليست المشكلة في التعب، فقد يكون الإنسان يعمل وقتاً طويلاً لكنه سعيد وهو يعمل، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون في بناء المسجد، ويقولون: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعداً ومن يرى عن الغبار حائداً فهم يعملون ويجدون في عملهم وتعبهم راحة وأنساً، فليس التعب من أسباب الشقاء.(1/45)
كتب في السعادة
السؤال
هل ترى كتاباً في صناعة السعادة؟
الجواب
نعم ذكرت كتاب تجاربهم مع السعادة، وهناك كتب كثيرة جداً منها كتاب للدكتور ناصر العمر.(1/46)
الانطباعات الخاطئة والبرمجة السلبية قد تكونان سبباً من أسباب فقدان السعادة
السؤال
أبي وأمي وكل الناس يكرهونني، وحاولت مراراً الانتحار، فبماذا تنصحني؟
الجواب
لا.
ليس الأمر كذلك حبيبي، لا ليس كل الناس يكرهونك، فهذا شعور وهمي عندك ربما بسبب موقف: إما من أبيك، أو من شيخك، أو من مدرسك، أو بسبب ظروف مرت لك في الطفولة، ولدت عندك الشعور بأن الناس يكرهونك، وأصبحت تتعامل معهم على أساس أنهم يكرهونك.
عليك أن تحاول تغيير هذا الانطباع، أو هذه البرمجة الخاطئة السلبية في نفسك، وأن تعتقد باستمرار أن الناس يحبونك، وقل بلسانك أيضاً: الناس يحبونني الناس يحبونني، وتخيل هذا، وسوف تجد بعد فترة أن الأمور اختلفت عليك.(1/47)
ضرورة مجاهدة النفس
السؤال
أرجو نصحي: فأنا شاب ظاهره الصلاح، لكن أجد في نفسي شكوكاً وهموماً ونفاقاً؟
الجواب
الأمر كما قال الحسن البصري: [ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن] فأن تكون خائفاً من النفاق هذا دليل على وجود الإيمان في قلبك، ولكن لا يمنع أن يكون في القلب أيضاً شيء من النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً والحديث الآخر: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وفي حديث: (وإذا خاصم فجر) فهذه هي الأربع.
المهم أن الإنسان عليه أن يكمل نفسه، وأن يحرص على أن يطرد خصال النفاق بخصال الإيمان؛ فإن القلب الذي استقر فيه الإيمان تطرد منه معاني النفاق، فهو مثل الوعاء إذا ملأته بالعسل نفى غيره، وإذا ملأته بالتراب فإنه لا يتقبل شيئاً آخر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/48)
حسن الظن والتماس الأعذار من أخلاق المسلم
السؤال
نحتاج إلى مجالسة المشايخ، لكننا لا نجدهم، حتى بالاتصال بكثير من المشايخ إما يقفل (الجوال) أو لا يرد، نعم لهم حق، لكن لنا حق أيضاً؟
الجواب
جزاك الله خيراً، والله الذي تقوله صواب، لكن الإنسان أحياناً يكون في محاضرة، فمن الضروري أن يغلق الجوال؛ لأنه لا يستطيع أن يلقي محاضرة، ويرد على الجوال في الوقت ذاته، والذي يحضر المحاضرة أو حتى يزورك لو رديت على (الجوال) وهو عندك يقول: يا أخي! الحق لي أنا، فقد أتيت من مسافة، فهذا يتصل في وقت آخر.
إذاً ينبغي علينا أن ندرك أن الإمكانيات دائماً تظل محدودة، وينبغي دائماً التماس العذر.
هنا تقع قصص كثيرة جداً لا يتسع المجال أن أذكر لكم شيئاً منها، لكنها تنم عن أنه كثيراً من الناس ربما يغلبون جانب سوء الظن ببعض طلبة العلم، أنه لم يرد عليه، أو أغلق الجوال في وجهه، أو ما أشبه ذلك، بينما تكون القضية أنه قد يكون مر بمنطقة ليس فيها إرسال مثلاً، أو حصلت مشكلة في الجهاز، أو ما أشبه ذلك، فينبغي أن يكون عندنا نوع من سعة العذر للآخرين، كما أشرنا إلى طرف من ذلك، حتى نعيش نحن في سعادة، ونحفظ علاقاتنا مع إخواننا.(1/49)
حكم من يستعين بالسحرة
السؤال
فتاة لها والد دائم اللجوء إلى السحرة والاستعانة بهم في معرفة كل ما يدور حوله من خير وشر، فهو يستعين بهم ويستشيرهم ويمشي حسب توجيهاتهم، قالوا: إنه عمل، وأنا لا أتوهم كل ذلك بل هو عين الحقيقة، فهل هذا الأب كافر؟ وهل له ولاية على بناته في مسائل الزواج؟
الجواب
لا.
القول بكفره كما قلنا: صعب، هذا لا يقع عليه الكفر إلا إذا حكم القاضي عليه بأنه كافر، ونزع ولايته، وإلا فالأصل بقاؤه على الإسلام وبقاء ولايته، لكن ينصح ويسلط عليه من أئمة المساجد أو جلسائه أو أقاربه أو جيرانه من يحاول أن يبين له أن مثل هذه الأشياء تذهب بدينه وعقله وماله، وربما لا يستفيد منها شيئاً.(1/50)
التكفير حكم شرعي لا ينبغي الحكم به إلا عن علم
السؤال
كثير من شبابنا اليوم سلكوا طريق التكفير، حتى إن بعضهم مبتدئ في الالتزام، حتى صرنا فرقاً وأحزاباً؟
الجواب
هذه مشكلة صعبة وعويصة، إنه كما أشار الأخ في سؤاله: ربما شاب حديث عهد بالتزام -نصيبه من حفظ القرآن وحفظ السنة الاطلاع- يكفر ويفسق.
والتكفير مهمة أهل العلم؛ لأنه مزلق خطر، ومعرفة الأشياء التي يكفر بها والتي لا يكفر بها أمر صعب، فربما يكفِّر الإنسان بشيء هو ذنب وليس كفراً، قد يكون كفراً أصغر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً-: (من أبق من مواليه فهو كفر) هذا ليس كفراً مخرجاً من الملة، وقد يكفر الإنسان بشيء هو معصية وليس كفراً، وقد يكفر بشيء هو محل اجتهاد، بل قد يكفر الإنسان بشيء هو صواب، كما نجد أن هناك من يكفر بعض العلماء وأهل السنة بأقوال قالوها هي الصواب، ومع ذلك وقع نوع من البغي والعدوان في مثل هذه الأمور.
فالإنسان الحريص على نفسه ومستقبله يحفظ لسانه، فإن عفة اللسان مثل عفة اليد وعفة الفرج، بل هو من أعظم المطالب التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان، ولا شك أن رمي الإنسان بالكفر مثل قتله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) وقال: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) .
إن على الإنسان أن يتدرب كيف يحفظ لسانه: احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان محمد صلى الله عليه وسلم مات ولم يقل عن أحد ممن ادَّعى الإسلام أنه كافر، وفي عهده كان المنافقون، ووجد من قال: اعدل يا محمد.
ومن قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، اللهم إلا المرتدون الذين أصروا على الخروج عن طاعة الدولة المسلمة فقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم على ما هو معروف تفصيله.
أما الحكم على الأشخاص وعلى الأعيان فهذا له أسباب وله موانع وله عوارض, ينبغي على الإنسان ألا يدخل فيها من غير بصيرة ولا فهم.(1/51)
ضرورة التكيف والمرونة مع أي عمل ينقذ من البطالة
السؤال
إذا علمت زيادة البطالة في هذه الأيام والفراغ الممل فكيف تُطلب السعادة في مثل هذه الظروف؟ وما نصيحتكم للشباب العاطل؟
الجواب
والله لا شك أن البطالة مشكلة، وأن المجتمع بمؤسساته الحكومية وغير الحكومية مطالبة بأن تسعى إلى توفير العمل للشباب، في السعودية نسبة الشباب دون سن العشرين تزيد على (70%) من الشعب السعودي، وهذه نسبة عالية جداً، ومذهلة ومخيفة، إذا تخيلت ضيق حجم الفرص؛ سواء كانت فرصاً في العمل، أو الوظيفة، أو غيرها، هذه قضية على المستوى العام في المجتمع يجب أن تعالج بشكل جاد وصادق؛ لأنها قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت.
لكن أيضاً على الإنسان الشاب ألا يقف في انتظار أن يكون هناك حل جذري، عليه أن يسعى في الحل الذي يتعلق به هو بقدر ما يستطيع، كثير من الشباب -مثلاً- ربما يكون قادراً على أن يعمل مع والده، ولكنه يقول: لا أريد أن أعمل مع والدي باعتبار أو لآخر، أو يكون هذا الشاب يريد أن يكون ثمة عمل مفصل على مقاسه وقدره سواء بسواء، هذا أيضاً صعب، ينبغي أن يكون عند الشاب مرونة وقدرة على التكيف والبحث عن العمل المناسب، وإدراك أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، ويمكن أن تحصل على النجاح إذا بدأت.
أما فكرة أنك لا تريد إلا أن تصل إلى عمل ممتاز براتب راقي، ربما يطول بك الانتظار!!(1/52)
ضرورة مساعدة الأب المستطيع ابنه عند الزواج
السؤال
كيف تطالب يا شيخ بالزواج في ظل الظروف الصعبة؟ وهل هو واجب على الأب المستطيع؟
الجواب
نعم واجب على الأب المستطيع أن يزوج بنيه ولا شك في هذا، وأيضاً واجب على الشباب ألا ينتظروا مجرد أعطية من آبائهم؛ لأن الأب ولو زوجك ربما لا يكون قادراً على أن يوفر لك المسكن والنفقة الدائمة، على الشاب أن يكون عصامياً: نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكر والإقداما وجعلته فارساً هماما عليه أن يفكر كيف يستطيع أن يبني مستقبله، عندك مثلاً في المساء بضع ساعات؛ فكر وخطط جيداً كيف تستطيع أن توظف هذه الساعات في عمل تستفيد منه خبرة ومعرفة وشخصية ودربة وعلاقة مع الناس، وفي نفس الوقت ربما يكون لك فيه مردود مادي تستفيد منه لنفسك ولزوجك، إضافة إلى الاستفادة -وإن كان هذا أمر لا أفضله، إنما ربما عند الضرورة- من الجمعيات والمؤسسات الخيرية المتخصصة في هذا المجال.(1/53)
دواء العشق المحرم
السؤال
أنا شخصياً في سن المراهقة وأريد أن أتوب، ولكني مبتلى بالحب في غير الله فكيف أتخلص من ذلك حتى أجد السعادة الحقيقية؟
الجواب
هذا الحب يا أخي ليس حباً حقيقياً، هو وهم تخيل لك وسميته حباً، وإنما هو نوع من التعلق العاطفي المؤقت، فعليك أولاً: ألا تطلق عينيك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، وألا تخلو بمن تظن أن الشيطان يكون رسولاً بينك وبينه، بل أن تبتعد عنه، وأن تحرص على ملء وقتك وفراغك وقلبك بالنافع المفيد من الأعمال كحفظ القرآن الكريم، والمشاركة في الأنشطة الخيرية؛ في المكتبات، وفي المراكز الصيفية، وفي مثل هذه المخيمات، وفي المسابقات وغيرها، وأن تبتعد عن الأشياء التي تجرك إلى هذا المصير السيئ.(1/54)
السعادة في القناعة والرضا بالقليل
السؤال
أنا شاب من جدة قضيت عمري في البحث عن السعادة في الدنيا ولكني والله ما وجدتها إلا عندما أخرجت الدنيا من قلبي، وأعتقد أن هذه مشكلة الشباب حب الدنيا والمتع، فأرجو أن تحدثنا عن هذه النقطة؟
الجواب
لعله مر حديث عابر أن الدنيا إنما تزيد قلب الإنسان شعثاً وتفرقاً، فإذا رضي منها بالقليل وقنع أصبح عزيزاً سعيداً بهذا القليل.(1/55)
دور الشباب في تغيير الواقع المهين
السؤال
ما هو دور الشباب في ضوء هذه الفتن وهوان أمتنا؟ وكيف نرتقي بأمتنا؟
الجواب
لا شك أن دور الشباب دور كبير، وربما كان جديراً أن نقول: السعادة والشباب لكن الوقت ضاق عن ذلك، فإن الشباب هم سر الحاضر وعماد المستقبل، وعليهم أن يستشعروا هذه المسئولية، ويقوموا بالدور المنشود منهم، وأول المراحل كقصة ذلك الرجل الذي أراد أن يغير العالم، نريد من الشاب أن يغير نفسه بشكل صحيح، فالكثيرون قد يطرحون مثل هذا السؤال، لكنهم لا يملكون برنامجاً أو مشروعاً واضحاً في الإصلاح، ولذلك ربما يكون لديهم طموح شامل في تغيير واقع الأمة دون أن يملكوا الخطوة الأولى، وهذا يصنع أزمة واقعة ربما الكثير من الشباب يتجاوزون المراحل ويحرقونها، ويبتعدون عن التخطيط والنظر؛ بسبب أنهم يضعون لأنفسهم أهدافاً عظيمة جداً وهم لم يحددوا الخطوة الأولى.
فأوصي الشباب جميعاً: بأن يهتموا بالواقع، وأن يشعروا أنهم جزء من هذه الأمة، وأن يبدءوا الخطوة الأولى في سبيل الإصلاح وهو أن يكون الشاب على المستوى المنشود علماً وخلقاً وثقافةً وديناً والتزاماً، ولو أن كل شاب أصلح نفسه لوجدنا أنفسنا أمام مستو راقٍ رائع لهؤلاء الشباب.(1/56)
كلمة في جمع الكلمة
اجتماع الكلمة ولمّ الشمل من أهم مقومات هذا الدين، ومن الدعائم الأساسية لهذا المجتمع، ولا يتأتى هذا إلا بنبذ الفرقة والتنازع، فعلينا أن نسعى بجد واجتهاد من أجل زرع المحبة، وتوطيد الأواصر الأخوية فيما بيننا، وأن نجتنب الأسباب المؤدية إلى التشتت والتشرذم، فلن يتأتى النصر على الأعداء إلا بعد أن نتوحد على منهج الكتاب والسنة.(2/1)
أهمية جمع الكلمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى أزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الحضور السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنني أحبكم في الله تعالى أحبكم حُب الشحيح ماله قد ذاق طعم الفقر ثم ناله إذا أراد بذله بدا له أحبكم حباً لا تفسير له إلا هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين، يحِنُّ بعضهم إلى بعض وإن تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار، إلا أن رابطة الحب في الله تعالى تجمعهم أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر فإذا ألمت بك ملمة، أو نزلت بك نازلة، أو أغلقت دونك الأبواب، أو تعسَّرت الأسباب؛ فتذكر أن قلوباً صافية تأسى لأساك، وتحزن لحزنك، وتفرح لفرحك، وتتابعك وإن كنت لا تعرفها وكانت لا تعرفك، فإن رأتك على خيرٍ بكت فرحاً، وإن رأتك على سوء بكت ألماً.
ولعل هذه الكلمة -كلمة الحب- تصلح لجمع الكلمة، فمع الحب تذوب المشكلات بين الزوجين بين الشركاء بين الأصحاب في العمل بين المتخالطين بين الجيران بين المختلفين، لكن إذا تنافرت القلوب فلا ينفع حينئذٍ وئام ولا اتفاق.
لدينا في هذه الليلة المباركة (كلمة في جمع الكلمة) ومجموعة من المسائل التي نحب أن نتدارسها(2/2)
التفرق والاختلاف والفرق بينهما
أولاً: عنوان هذه الكلمة يوحي بأهمية الاجتماع والأمر به، والنهي عن التفرق في الدين، ويجب أن ندرك -أيها الأحبة- أن ثمة فرقاً بين التفرق وبين الاختلاف؛ فالله سبحانه وتعالى في تنزيله نهى عن التفرق مطلقاً، ولهذا نقول: كل تفرق فهو مذموم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن التفرق بالأجساد، ويقول لهم: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما هو من الشيطان) فكانوا إذا نزلوا وادياً اجتمعوا حتى لو وضع عليهم بساط لوسعهم.
فالتفرق مذموم في الأحوال، والأقوال، والمذاهب، والمواقف، والأبدان أيضاً إذا كان تفرقاً مبنياً على غير سبب، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران:105] .
أما الاختلاف فليس مذموماً بالإطلاق، بل منه ما هو مذموم ومنه ما هو محمود، ولهذا قال في الآية بعدها: {وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] .
إذاً فالاختلاف المذموم، والاختلاف في الكتاب أو الاختلاف على الكتاب هو اتباع الهوى؛ أن يختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وإلا فقد يكون اختلافاً محموداً، ومن أمثلته: اختلاف التنوع؛ أن يكون إنسان يعمل خيراً وآخر يعمل خيراً غيره، أو هذا يرى رأياً باجتهاده، وهذا يرى رأياً مختلفاً، كما وقع، وسنتبين جوانب من هذا الموضوع.
إذاً: التفرق مذموم بالإطلاق، وأما الاختلاف فمنه المذموم ومنه المحمود، والتنوع هو سنة ربانية قامت الحياة كلها على أساسه، فالله تعالى خلق من كل شيء زوجين، وجعل تنوعاً في أشكال الناس ومظاهرهم وألوانهم، وفي مخلوقات الله تبارك وتعالى، وفيما يراه الإنسان من حوله، فهذا التنوع هو جزء من ثراء الحياة الإنسانية، وجزء من التجدد والطرافة فيها، ولذلك يقول المتنبي: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجبٍ والخلق في الشجب فقيل تخرج نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب يعني: أن الناس اختلفوا في كل شيء إلا في الروح، وحتى الروح اختلفوا فيها، فقيل: إنها تفنى مع الجسد.
وقيل: تسلم.
ولا شك أن هذا من كلام الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] والمقصود الذي نقره من هذه الأبيات هو: أن الاختلاف شيء عميق في الحياة البشرية.
التفرق المذموم -أيها الأحبة- هو اتباع لسنة أهل الكتاب الذين: {تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع هديهم وسنتهم، والتفرق المذموم مخالفة لمقتضى المصلحة والعقل والرشد والبصيرة، ولهذا قال الله تعالى عن اليهود: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] فاختلافهم بسبب نقص عقولهم.
وكذلك التفرق هو نقض لأساسٍ من أسس الشريعة، فإن الشريعة جاءت بوحدة المسلمين، ولهذا كان الخطاب في القرآن الكريم جماعياً، وما لا يحصى من الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] ومعظم أحكام الشريعة لا يمكن تنفيذها إلا من خلال وحدة واجتماع.
كيف تستطيع أن تطبق الأخلاق الإسلامية, وتعرف إن كنت صبوراً، أو كنت حليماً، أو كنت كريماً، أو كنت شجاعاً؟ إلا من خلال الاختلاط بالناس كيف تستطيع أن تؤدي شعائرك؛ فتصلي، وتصوم، أو تحج أو تعتمر؟ إلا من خلال الاختلاط بالناس.
إذاً: التفرق اتباع لسنة أهل الكتاب، ومخالفة لما تقتضيه العقول السليمة والبصائر المستقيمة، وهو نقض لأساس من أسس الشريعة.
ونحن -أيها الأحبة- لا نتحدث فقط عن الدعاة والاختلافات التي تقع بينهم، أو العلماء واختلافهم في الفتوى، أو ما يسمى بالإسلاميين وتنوع مشاربهم ومذاهبهم فحسب؛ وإنما نتكلم عن الاختلاف بين المسلمين، الاختلاف الذي يضرب هذه الأمة، وإذا كنا نشهد في التاريخ الإسلامي ألواناً من الاختلافات التي لم يكن لها سبب ولا مسوغ ولا مبرر، والتي قضت على وحدة المسلمين وأكلت جهودهم وطاقاتهم، ومكَّنت أعداءهم منهم في غير مرحلة، فإننا نشهد في واقع المسلمين اليوم ألواناً وألواناً من هذا الاختلاف، جديرة بمبضع الجراح الذي يقوم بعلاجها.(2/3)
الأخوة الإسلامية لكل مسلم وبحسب إسلامه
الله تبارك وتعالى يقرر لنا أن المؤمنين إخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ويقول سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52] ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (المسلم أخو المسلم) .
إذاً الأخوة ليست في العروبة، وليست في الأرض، فالأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله.
وليست في المصلحة المشتركة، وليست في التاريخ المشترك، وإنما الأخوة الحقيقية هي التي تظلل الناس في ظل هذا الدين إن يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد أو يفترق ماء الوصال فماؤنا عذب تحدَّر من غمام واحد حتى حينما يقع عليك عدوان أو ظلم من أخيك، فهذا لا يعني أن أخوته زالت، تأمل قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] بين طائفتين وصل الأمر بينهما إلى حدِّ الاقتتال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ومع ذلك سماهم إخوة وقال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] يعني: في شأن القاتل الذي قتل أخاه المسلم، ومع ذلك سمَّاه الله تعالى أخاً، فالقاتل أخ للمقتول، والمقتول أخ للقاتل، إذاً هذه الأخوة التي عقدها الله تبارك وتعالى، لا يجوز أبداً لعوامل الفرقة والاختلاف، وحتى العداوة التي تقع بين المسلم وأخيه -لا يجوز أن تقضي على أساس هذه الأخوة أو تزيلها.
نعم، قد تجد من الناس من يقع منه تقصير في دينه -مثلاً- أن يكون عنده انحراف، أو معصية، أو تقصير، لكن ما دام يصح له وصف الإسلام فله أصل الحقوق، وإذا تم له كمال الإيمان كملت له الحقوق، وهذه نقطة مهمة جداً، نقول: كل من صح أن يوصف بأنه مسلم فله حقوق المسلم (حق المسلم على المسلم ست: رد السلام، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، وعيادة المريض) وغير ذلك من الحقوق التي لم تذكر في هذا الحديث, فكل من صح له وصف الإسلام ولو كان في الدرجة الدنيا منه فله قدر من هذه الحقوق، لكن كلما عظم قدره في الإسلام كلما عظمت حقوقه؛ ولهذا كان أعظم الحقوق على المسلمين بعد حق الله تعالى حق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم حق الصحابة رضي الله عنهم، ثم حق أهل العلم، وأيضاً حقوق الوالدين.
فالمقصود أن الحق باقٍ لكل من صح أن يوصف بأنه من المسلمين، وإن كان عليه نقص أو زلل أو تفريط، أو عنده شيء من الخطأ.
ولذلك قد يقول البعض: هذه أخوة عامة وأخوة خاصة، وأنا أفضل عدم استعمال هذا المصطلح؛ لأن الأخوة العامة والخاصة أجراها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين والأنصار، فآخى بين فلان وفلان، هذا مهاجري وهذا أنصاري، وكان بينهم نوع من الاندماج، حتى في أموالهم وفي سكنهم وفي أمورهم، حتى قال سعد بن الربيع لـ عبد الرحمن بن عوف: [انظر شطر مالي فهو لك، وانظر أجمل زوجتيَّ فأطلقها حتى تعتدَّ ثم تتزوجها من بعدي] وهذا الحديث في صحيح البخاري، فهذه أخوة خاصة كانت بين عبد الرحمن وسعد مثلاً.
لكن المقصود: أن الأخوة بين المسلمين قائمة، ولا مانع أن يعلم الجميع أن هذه الأخوة تتفاوت درجاتها، فليس حق شيخك العالم الجليل، صافي المشرب والمذهب، صادق السريرة، صالح القول والعمل المؤثر عليك؛ كحق إنسان بعيد من الناس، أو كحق شخص مضيع أو مفرِّط.(2/4)
معايير الالتزام وحقيقته
وكثير من الناس أحياناً، ربما في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية تسمعون بالتقسيم، أن في المجتمع ناساً نسميهم بالملتزمين، وهناك أناس نقول عنهم: غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول: كان الشخص غير ملتزم، ولكنه يحب الخير، ومحافظ على الصلوات أنت تتعجب! أولاً: ما هو معيار الالتزام؟ هل نقصد بالالتزام أن يكون مظهر الإنسان فقط متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟ فهذا الإنسان الذي قد يكون مفرطاً في مظهره وعنده معصية ظاهرة، ربما يكون من جهة أخرى ملتزماً؛ فهو مبكر إلى الصلوات، حريص على الجماعات، بار بوالديه، كثير الإنفاق في سبيل الله، عنده جوانب من الخير عظيمة، فهو ملتزم بهذا الاعتبار وإن كان عنده تفريط، كما أن ذاك الأخ الآخر الذي ربما عنده التزام ظاهر في ملابسه في شكله في شعره في هيئته في هديه وسمته الظاهر، لا يمنع هذا أن يكون عنده نقائص وعيوب خفية؛ فقد يكون مفرطاً -مثلاً- في صلاة الفجر مع الجماعة، وقد يكون عنده نوع من التقصير في حق الوالدين، أو ما أشبه ذلك من الأخطاء.
إذاً: ينبغي أن نضبط المعيار حينما نقول: ملتزم، أو غير ملتزم هذا أولاً.
ثانياً: من الخطأ أن نعتبر أن هذه القسمة أو هذه التسمية تقتضي نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم بعضاً، فإذا كنت أنا غير ملتزم -مثلاً- بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل، فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين لأستفيد منهم ومن علمهم ومن أخلاقهم، وأقتبس منهم، والآخر أيضاً الملتزم هو محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته عند من يسميهم أحياناً بغير الملتزمين.
إذاً: هي مجموعات داخل هذا المسمى يحتاج بعضها إلى بعض، وعلينا ألا نسرف في استخدام هذه الكلمة، وأن نضع لها الضوابط، وأيضاً ألا نسمح بأن توجد نوعاً من الانفصال.
إن كثيراً من شبابنا اليوم -مثلاً- في الأرصفة، أو في الاستراحات، أو في المنتديات، أو حتى في المدارس، ربما أصبحت القنوات الفضائية، أو مواقع الإنترنت، أو المجلات، أو السفريات، أو العلاقات الخاصة والمجموعات؛ ربما أصبحت تؤثر في صياغة سلوكهم أكثر مما يؤثر المجتمع المحيط بهم ربما الأب عاجز؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ربما الأم أيضاً لا تستطيع أن تسيطر أو تضبط أولادها، لكن زملاؤهم وأساتذتهم ومن في سنهم، ربما لو جدُّوا واجتهدوا لاستطاعوا أن يؤثروا فيهم تأثيراً بعيداً.(2/5)
ألوان التفريق
لقد تحدثت عن تفرقٍ داخل الأمة الإسلامية في حاضرها وفي ماضيها وتاريخها، ولا بأس أن أضرب بسرعة ألواناً ونماذج من هذا التفرق.(2/6)
التعصب للشيخ أو للمتبوع
كذلك التعصب للشيخ، أو التعصب للمتبوع أو المربي أو الأستاذ.
فإنه ينبغي أن يعتدل الإنسان، وأن يحفظ له قدره دون أن يتعصب له، أو يبالغ في ذلك، أو يتبع أقواله بمفرداتها؛ فإن الاتباع للمنهج لا للأقوال المفردة، فلهذا نقول نحن -مثلاً- عندما نكون أمام قول لـ أحمد، أو الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، نقول: العبرة بالدليل، والعبرة بالإجماع، فإذا كان قد خالفه من خالفه، أو وجد الدليل فيما يظهر لنا على خلافه، لم نجد حرجاً في رده، فهكذا من عايشناهم وعاشرناهم واقتبسنا منهم، ينبغي أن نطبق معهم هذا.
أيضاً: الانتساب لمذهب من المذاهب الفكرية أو الدعوية -كما أشرنا إليه قبل قليل- فلا ينبغي أن يمتحن الناس في الأسماء والألقاب، وإنما ينبغي أن تكون العبرة بما يقوله الإنسان وما يعمله.(2/7)
الانتساب لمنطقة أو إقليم أو غيرها
المثال الرابع: الانتساب لمنطقة أو إقليم، أو شعب من الشعوب، أو جزئية من الجزئيات.
فهذا نجدي، وهذا حجازي، وهذا غربي، وهذا شرقي، وهذا خليجي، وهذا شامي، وهذا مصري، وهذا عراقي، وهذا كذا هذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء، ولا يضير أن يقول الإنسان أنه من بلد كذا، لكن إذا تحولت -كما هو الواقع عند كثير من الناس- إلى نوع من العصبية, ونوع من الولاء على هذه النسبة؛ فإن هذا خطأ كبير، وقد تجد أن الكثيرين -مثلاً- إذا التقوا فيما بينهم أصبحوا يتبادلون النكت والطرائف المضحكة الدالة على تنقص الفئة الأخرى، فإذا اجتمعنا وكلنا من قبيلة معينة أو منطقة معينة، أو من جنسية معينة، لم نجد حرجاً أن نستطرد في إصدار الأحكام التعميمية أن أهل الإقليم الفلاني فيهم كذا وكذا، وأن القبيلة الفلانية فيها كذا وكذا، وأن الشعب الفلاني فيه كذا وكذا، ثم هذا يأتي بقصة، وهذا يأتي بنكتة، وهذا يأتي بتجربة مر بها وهكذا، حتى تشبعت نفوس الكثيرين منا بأنواع وألوان من الانفصال؛ قضت أو أضعفت من الأخوة الدينية القائمة بين المؤمنين.
ربما يستغل الأعداء هذا الكلام في كثير من الأحيان، كما نلاحظ -على سبيل المثال- أن القوى الغربية، وبالذات القوة الأمريكية المتغطرسة اليوم، التي إذا أردنا أن نسمي الأمور بأسمائها لقلنا إنها تسعى إلى إعادة استعمار العالم بشكل جديد، وإنها تضرب برأي الناس عرض الحائط، وتصر على مقاصدها وعلى اتجاهاتها وعلى نياتها، وإنها لا تبالي أن يموت الناس أو يحيوا، المهم أن تنفذ مآربها وأهدافها نلاحظ أنها كثيراً ما تعتمد على إثارة هذه الاختلافات وعلى توظيفها؛ من أجل تحقيق أهدافها ومآربها، وهذا يؤكد علينا أهمية أن نكون يقظين، وأن نحوّل هذا الكلام إلى واقع عملي في تجنب كل الأشياء التي تخدش من صفاء الأخوة الإيمانية.
ما بيننا عربٌ ولا عجمٌ مهلاً يد التقوى هي العليا خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا وطني كبيرٌ لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا بأندونسيا فوق إيران في الهند في روسيا وتركيَّا آسيا ستصهل فوقها خيلي وأحطِّم القيد الحديديا ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطان مجنحةٌ تسمو بروحي فوق العالم الفاني وما بريدة مهما لجَّ بي دمها أدنى إلى القلب من فاس وتطوان دنياً بناها لنا الهادي فأحكمها أعظم بأحمد من هادٍ ومن باني(2/8)
التعصب للقبيلة
المثال الثالث: التعصب للقبيلة.
وهذا أمر عريق عند العرب، كان العربي الأول يقول: أمرتهم وأمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم أو أني غير مهتدي وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ (وأربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن) فنحن نجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية.
ليس هناك مشكلة أبداً أن يعرِّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء؛ بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وأن قيامه، وأن ولاءه ومحبته وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب، لكن لو جاء شخص من قبيلة أخرى، وربما يحتفظ بذكريات تاريخية أو قصص من الآباء والأجداد، فإنه يتجافى عنه وقد لا يساعده أو يعينه بل لو استطاع لضره، فهنا تحول الانتساب القبلي إلى نوع من الانفصال والانشقاق داخل المجتمعات الإسلامية.(2/9)
الانتساب للمذاهب الفقهية
أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية.
حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع -أحياناً- من التفرق إذا ترتب عليه تعصب؛ لأنه في الأصل من الاختلاف المحمود، اختلاف الشافعي ومالك وأحمد ليس اختلافاً على القرآن والسنة وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم لكنهم اختلفوا بهذا الاعتبار، لكن إذا تحول الأمر إلى نوع من العصبية والتمسك، وتقديم قول الشيخ على قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يتحول هنا إلى لون من التفرق المذموم؛ لأنه بني على تعصب، وأحياناً يكون هو معقد الولاء والبراء، فتجد هؤلاء يوالون بعضهم بعضاً؛ لأنهم من المذهب الفقهي الفلاني، وقد يجافون من لا يوافقهم في المذهب أو في المشرب، وهذا يقع فيه كثير، تجد مثلاً حنبلياً يقول: أنا حنبلي ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا نقول: هذا ليس بصواب، الناس مطلوب منهم أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو إمام الأئمة، وهو الوحيد من الناس الذي يجب على الناس اتباعه مطلقاً، وأما الأئمة فما منهم إلا راد ومردود عليه، وما منهم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، فاعتبار أن هذا الإمام أياً كان هو معقد الولاء والبراء، وأن الحق محصور في هذا القول أو المذهب؛ فهذا خطأ، وقد حفل التاريخ والواقع بأشياء من هذا القبيل، مثلاً: الرجل الذي كان يقول: عذيري من قومٍ، وهو مالكي، والمالكية ليسوا شديدي التعصب، لكن هذا النموذج الذي أذكره وأحفظه: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن قلت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن قلت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله، ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك صلى الله على محمد، أي: أن مالكاً رحمه الله أول هذا الحديث أو وجهه وجهةً معينة، وهكذا تجد أن من أصحاب المذاهب من كان يقول: كل ما خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول.
إذاً هذه المذاهب الفقهية هي تصنع أحياناً اختلافاً بين المسلمين، وأحياناً أخرى تصنع لوناً من التفرق.(2/10)
الانتساب للجماعات والحركات
ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب، أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي.
فكثيراً ما نسمع من يقول مثلاً: هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وهذا من تلك، وأحياناً يكون هناك ولع وانهماك واندماج في التصنيف بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يدرس ويلقى! نعم.
التعاون على البر والتقوى مطلوب: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل، وأن يجتمع الإنسان مع إخوانه، ويتشاور معهم، وينسق المواقف، ويستفيد منهم؛ كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وهذه الأشياء كلها تعني مزيد الصلة بين المؤمنين، ومزيد التلاحم والترابط، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يكون في بلد آخر، أو يكون في واجب أو فرض كفائي آخر يقوم به أيضاً، فإن هذه الأشياء ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم على أساس القائمة، بمعنى: ما دام أن فلاناً من المجموعة الفلانية فهو فاضل، وما دام أنه من تلك المجموعة الأخرى فهو خاطئٌ أو منحرف أو ضال ليس هذا بلازم، الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] هل قال: كلهم سوف يأتون جماعات ويحصرون في قوائم؟! لا.
قد يكون الشخص مع مجموعة عليها نوع من التقصير وهو فاضل، وقد يكون مع مجموعة فاضلة وهو مقصر، وكثرة الاشتغال بمحاسبة الناس ومحاكمتهم والقيل والقال، هذه ليست من الأشياء المحمودة، فإن أكمل الناس وأفضلهم هو أعفهم لساناً، حتى حينما يريد أن يصحح أو يعدل؛ لأننا لا نزعم أن التجمعات أو العناوين الإسلامية أنها مجموعات للكملة والفضلاء، أو أن هذه هي الإسلام، إنما قصاراها أن تكون مثل المذاهب الفقهية، مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرها، اجتهادات معينة يستند أصحابها في الأصل على الشريعة وعلى الكتاب والسنة، ولكنهم يخطئون ويصيبون، والتعصب مردود، كأن تقبل خطأه وصوابه؛ لأنك تحبه، أو أن ترد كل ما عنده؛ لأنك لا تحبه.(2/11)
استيعاب العدو للخلاف وتوظيفه لمصالحه
وإزاء هذا الاختلاف الكبير الذي نتفق جميعاً على أنه عاصف بالمجتمعات الإسلامية اليوم، وإنني لا أتحدث الآن عن مجموعة ضخمة وهائلة من الدول العربية والإسلامية، ولا أتحدث عن داخل الدولة الواحدة مثلاً، بل ولا عن داخل الإقليم أو داخل القبيلة، بل الواقع أنك كلما دخلت إلى دائرة أضيق وجدت مجموعة من الخلافات، حتى تصل إلى مدينة أو ربما قرية، فتجد في هذه القرية عدداً من التقاطعات هناك تقاطعات بين الأحياء هذا الحي وذاك الحي هناك تقاطعات بين الانتسابات، بين من ينتسبون إلى هذه القبيلة أو تلك، أو بين من ينتسبون إلى قبيلة ومن لا ينتسبون إلى قبيلة أصلاً، إضافة إلى الاختلاف بسبب المصالح الدنيوية.
إذاً: العالم الإسلامي اليوم يضج بألوان من الاختلافات التي تحتاج إلى نوع من العلاج، فإزاء هذا الاختلاف الكبير، نجد أن من الصدق مع النفس القول بأن هذا الاختلاف يستنزف المجهودات الإسلامية، بينما عدونا استطاع أن يستوعب الخلاف، فأحزاب اليمين واليسار التي نجدها الآن فيما يسمى بدولة إسرائيل، كيف استطاعوا أن يستفيدوا حتى ممن يعتبرون متطرفين بمعاييرهم الأحزاب الليكودية والأحزاب اليمينية المتطرفة، كيف دخلت إلى عالمهم وإلى موضع القرار والمشاركة، وأصبح لها دور كبير، ولها جهود ولها شعبية، إضافة إلى اليساريين، إضافة إلى ألوانهم وأصنافهم: السفرديم، والأشكلاز، اليهود العرب، واليهود الأوربيون وغيرهم، كلهم يشاركون في صناعة وصياغة وبناء هذا المجتمع اليهودي؛ لأنهم يشعرون بالخطر، وأنهم جزيرة في بحر عربي إسلامي، يرفضها ويلفظها ولا يتقبلها، ولا يتواكب أو يتطبع معها.
إذاً: عدونا استطاع أن يستوعب الخلاف، وهذا نموذج، وكذلك نجد مثل هذا في الدول الغربية أوروبا -مثلاً- استطاعت أن تصنع أو تؤسس لوحدتها، مع أن كل دولة منها ربما كانت تعد قارة بأكملها، أو إمبراطورية كفرنسا مثلاً أو ألمانيا أو بريطانيا، ومع ذلك فهم يسعون في تحقيق ما يسمى بالوحدة الأوروبية، ونجحوا فيما يتعلق بالحدود، وفيما يتعلق بالجمارك، وفيما يتعلق بالعملة، ولديهم خطط قوية جداً في هذا.
أيضاً: عندما تنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هي عبارة عن خمسين دولة، خمسين ولاية انضم بعضها إلى بعض فتكون هذا الكيان الهائل القوي الضخم، هذه الإمبراطورية أصبحت تمارس نوعاً من التسلط والبغي والنفوذ كما هو واضح.(2/12)
المنهج النبوي الشرعي في التعامل مع الخلاف
إذاً: عدونا استطاع أن يوظف هذا الاختلاف، وأن يحيط نفسه كلما هم بشيء بمجموعة من الأحلاف، فيضع معه في اتجاهه من يستطيع أن يضعهم من الأسماء المعروفة وغير المعروفة، فلم يبق أمامنا نحن المسلمين، ونحن نعيش في هذا العالم المضطرب، ونواجه هذه التحديات الصعبة، التي أصبحت تستهدف ديننا وإيماننا وعقائدنا، ووحدتنا وإخاءنا، وخيراتنا وثرواتنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وأجيالنا الحاضرة وأجيالنا القادمة -لم يبق لنا إلا أن نلتزم ضرورة بالمنهج الشرعي النبوي في التعامل مع الخلاف، وهذه هي النقطة الثالثة.
الشرع الذي أقرَّ الخلاف واعترف به كجزء من الطبيعة البشرية، إلا أنه وضع مفردات في منهج التعامل مع هذا الخلاف، أعرض شيئاً منها:(2/13)
الإنصاف من النفس
ومن صور الالتزام بالمنهج الشرعي: هي قضية الإنصاف من نفسك.
أن تنصف الآخرين من نفسك، حينما نحاول نحن أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم تجدنا في الغالب لا بد أن نضع إصبعنا على طرف الكفة لترجح، أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا، فهنا حينما يكون لك علاقة بهذا الطرف، أو تحشر نفسك معهم؛ فإنك تميل إليهم، وقد قال عمار رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: [ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار] ومعنى الإنصاف من نفسك: أن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر، فتعامله كما لو كنت في مكانه، وهذه قضية أقول أحبتي بالتجربة والمعايشة للناس: ربما أتحدى أن يكون باستطاعتك أن تظفر بإنسان يوصف بأنه منصف من نفسه، لكن بعض الناس مسرف، وبعض الناس متوسط أو معتدل، وكما قيل: أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر حر أي: حر من قيد النفس ومن قيد الهوى، يستطيع أن يلاحظ ما للآخرين وما على نفسه: ولم تزل قلة الإنصاف مانعة بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم وكثيراً ما تجد من إذا غضب على شخص أطاح به, ونسي جميع حسناته وجميع فضائله، وإذا تكلم عنه، حتى وإن كانوا إخوة لأم ولأب أشقاء، واختلفوا على قطعة أرض -مثلاً- أو في تجارة أو في عمل؛ لوجدت هذا يتكلم عن أخيه بما لا يتكلم به أشد الناس عداوة، ثم تأتي للآخر وتجده يتكلم بمثل ذلك، فمتى يمكن أن تزول وتذوب هذه الفواصل بينهم؟ إذا تمسك كل واحد بما عنده وقال: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلف النقطة الخامسة من المنهج الشرعي: قضية الالتزام بنظام الخلق الإسلامي؛ من حسن الأدب، وحسن الحديث مع الآخرين، وحسن الاستماع، وحسن الظن بهم، والتماس المعاذير، والرفق، والصبر، والصفح.
وهنا لدينا مستويات: المستوى الأول: ألا يبدأ الإنسان أخاه بشيء من الشر، فإن البادئ أظلم، فكونك تبدؤه بذلك تكون قد استثرته.
والمستوى الثاني: أنه إذا بدئ بشيء من ذلك فعليه ألا يرد، وهذا مستوى راقٍ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] وقد تجادلت امرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أكثرت الأولى على الأخرى قامت وردت عليها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (كان هناك ملك موكل يذبُّ عنكِ فلما تكلمت ذهب وترككِ) .
إن الرد والمخاصمة أيها الأحبة! في كثير من الأحيان لا يزيد النار إلا اشتعالاً وخصومة، والقيل والقال ليس سبباً في إزالة الإشكال.(2/14)
التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي
ثانياً: التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي: فحينما تبحث مسألة علمية؛ قد تكون فقهية، أو دعوية، أو ما أشبه ذلك، عليك ألا تدخل فيها القضية الشخصية مع هذا الشخص الذي تتحدث معه أو تحاوره، ومما يذكر من الطريف في هذا: أن داود الظاهري ناظر رجلاً وجادله، فقال له ذلك الرجل بعد قليل: أنت يا أبا بكر! قلت كذا وكذا وكذا فقد كفرت والحمد لله.
فقال له داود الظاهري: سبحان الله! متى عهد أن مسلماً يفرح ويستبشر بكفر أخيه المسلم.
يعني: لو قلت: فقد كفرت ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإنا لله وإنا إليه راجعون! معقول! أما أن تقول: كفرت والحمد لله، كأنك كنت مغتبطاً بأنه وقع في الكفر من حيث لا يدري ولا يريد، وربما لا يكون كفراً ولكن هكذا فسر الآخر.(2/15)
عدم الدخول في القضايا التي لا يحسنها الإنسان
كذلك النقطة الثالثة وهي: عدم الدخول في قضية أو مسألة لا يد للإنسان فيها، ولا يدرك الإنسان أبعادها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] فإن كثيراً كثيراً من الناس ربما يتكلمون في قضايا ويتحدثون عنها, كما لو كان الواحد منهم ابن بجدتها ويقول: أنا عذيقها المرَّجب، وجذيلها المحكك ويتكلم في هذه القضية كأنه يدركها تماماً، بينما لو أخذت وأعطيت ربما تجده لم يفقه أصل المسألة؛ فضلاً عن تفاصيلها وأقوال الناس فيها وأدلتهم والراجح والمرجوح.
ولهذا فإن من الحكمة والذكاء أن يكفَّ الإنسان عن كثير من الأسئلة وكثير من المناقشات والمجادلات التي لا يملك الإنسان دليلها ولا حسن النظر فيها.
في بعض الأحيان يصبح الحوار؛ سواء كان حواراً في القنوات الفضائية، أو في المجالس، أو في (الإنترنت) -يصبح كأنه نوع من التصفيق، وكأننا في حلبة مصارعة أو ملاكمة، هؤلاء يصفقون لهذا وهؤلاء يصفقون لهذا، وربما لو أمسكت بأحدهم وسألته: ما الموضوع؟ أو ما الخطب؟ لم تجد عنده معلومة دقيقة سوى أنه يحب هذا ولهذا يصفق له، أو يكره هذا ولهذا يحاول تحطيمه، وهذا ليس من العقل ولا من الرشد في شيء.
ولا زلت أذكر أستاذاً كان يدرسنا في الجامعة، فجرى نقاش بينه وبين أحد الطلاب يوماً من الأيام، وكان نقاشاً علمياً هادئاً، لكن في آخر الفصل كان هناك طالب عنده نوع من قلة الأدب وقلة الحياء، وأحب أن يستفز المدرس، فكان كلما حصل توقف في النقاش صرخ هذا الطالب الآبق بأعلى صوته وقال: واحد صفر.
يعني: لصالح الطالب، باستمرار، ومع ذلك كان المدرس لبقاً وذكياً؛ ولذلك عامل الموضوع بهدوء حتى انتهى النقاش.
أيضاً من آداب المجادلة بالتي هي أحسن: الحرص على التي هي أحسن، كما ذكر ربنا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] وهنا لاحظ التعبير بالأحسن، فالله سبحانه وتعالى حتى فيما أنزل هناك حسن وأحسن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] وهناك حسن وأحسن، وعلى الإنسان أن يختار الأفضل والأحسن بقدر المستطاع؛ لأن الشيطان ينزغ بينهم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53] .
الإمام الشافعي رحمه الله كان يقول للربيع، والربيع أحد تلاميذه، كان يقول له: يا ربيع! اكسُ ألفاظك.
يعني: ألبسها كسوة، لا تخرج اللفظ عارياً، أو بعيداً، أو غليظاً، وإنما حاول أن تصنع عليه لباساً جيداً.
وجاءه مرة من المرات الربيع وهو مريض، فقال له: يا إمام! قوَّى الله ضعفك.
فقال له الشافعي: يا ربيع! أصبت المعنى وأخطأت اللفظ، لو قوَّى الله ضعفي لزاد ضعفي فمرضت ومت، وإنما قصدك أن يزيل الله ضعفي، أو يضعف ضعفي فتقوى قوتي.
ولا شك أن اختيار الألفاظ الجيدة هو من الأدب الذي ينبغي أن يأخذ النشء به أنفسهم.
إذاً النقطة الأولى: المجادلة والمحاورة والمحاجة بالتي هي أحسن، بمعني: بدون صخب ولا ارتفاع أصوات ولا استخدام ألفاظ سيئة، ودعوني أضرب أمثلة سريعة: الزوجان عندما يختلفان في مسألة من المسائل، تلاحظ في بعض الحالات أن الزوج ربما يأتي بما تقدم وما حدث، يقول لهذه المرأة مثلاً: تذكرين من يوم تزوجنا وأنا في نكد وتعب وعناء، وقلة راحة، ومن هذا القبيل ويبدأ يسرد لها تاريخاً طويلاً، بينما كانت القضية محدودة، لسنا بحاجة إلى استدعاء تاريخ قديم يضاف إلى الواقع الحالي، فتصعب المعالجة، وإنما على الإنسان أن يعالج الموقف الموجود دون أن يستدعي إليه ما يضيف.
وكذلك المرأة ربما غضبت على زوجها فقالت -كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم-: (ما رأيت منك خيراً قط) وحاولت أن تطيح بكل ماضيه وكل عمله.
فعلى الإنسان حينئذٍ أن يحرص على أن يضبط نفسه، وهذه هي قيمة الإنسان: أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان قيمة الإنسان أن عنده قدرة على ضبط نفسه، وضبط مشاعره، فلا تسع لتأتي بالعبارات القوية التي تظن أن بها الانتصار على الطرف الآخر، ولا أقول خصماً؛ فليست زوجتك خصماً، كذلك الولد، أو الزميل، أو المجادل لك في مسألة علمية، أو في مسألة دعوية، أو المختلف معك أيضاً.(2/16)
المجادلة بالتي هي أحسن
أولاً: المجادلة بين المتخالفين بالتي هي أحسن, كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فإذا كان القرآن الكريم يرشدنا إلى مجادلة اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، أي: لم يقل بالحسنة، وإنما بالتي هي أحسن، أي: بأفضل ما يمكن من الألفاظ والعبارات والطرائق والأساليب والحجج، فكيف بمجادلة من يتفقون معك في أصل الدين وأصل الانتماء، ولكن قد يختلفون معك في اجتهاد أو رأي أو موقف، أو حتى مصلحة دنيوية أو موقف دنيوي؟! فهنا تأتي قضية المجادلة بالتي هي أحسن، تبدأ من علاقة الإنسان مع زوجته مثلاً مع طفله في المنزل مع شريكه في العمل مع رئيسه مع مرءوسه، وتنتهي بالحوار العام بين جميع فئات الأمة وطوائفها.
ومن المجادلة بالتي هي أحسن: استخدام لغة راقية بعيدة عن الشتم والسَّب والاتهام، وقدرة الإنسان على أن يسيطر على عواطفه، وألا يسمح للاستفزاز أن يتحكم فيه، ولهذا قال أهل العلم كـ ابن تيمية وابن القيم والغزالي والشاطبي وغيرهم، قالوا: لو كان الغلب في المجادلة والمناظرة بالسّب والشتم لكان أكثر الغالبين من الجهَّال، وإنما الغلبة بالحجة وقوتها وإن كان الصوت منخفضاً.
ولهذا ليس رفع الصوت ولا الصخب والضجيج من عوامل النجاح في الخصومة والمجادلة، وليس استخدام العبارات القاسية بالتهجم على صاحبك، وتشبيهه -مثلاً- بالحيوانات أحياناً، أو بالرخم والطيور أحياناً أخرى، أو اتهامه، أو تجريحه، أو ما أشبه ذلك؛ هذه أيضاً لا مدخل لها في الحوار أصلاً.(2/17)
الأسباب المعينة على ضبط الأنفس عند الاختلاف
هناك ثمانية أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس، أعدها لك باختصار، الأسباب المعينة على ضبط النفس:(2/18)
قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم
السبب الخامس: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم: وهذا لا شك أنه من الحزم، حكي أن رجلاً قال لـ ضرار بن القعقاع: والله لو قلت واحدة لسمعت مني عشراً، فقال له ضرار: والله لو قلت عشراً لم تسمع مني واحدة.
إنني أقول لك بالتأكيد وبالخبرة والمشاهدة: إن الجهد الذي تبذله في الرد على من قد يسبك أو يشتمك أو ينتقصك؛ إن هذا الجهد لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي جاء بها الصمت، ولكنك بالصمت حفظت لسانك ووقتك وقلبك، ولهذا قال الله تعالى لمريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم:26] أحياناً الكلام والأخذ والعطاء والرد والمجادلة تنعكس على قلبك وتضر أكثر مما تنفع.(2/19)
رعاية المصلحة
السبب السادس: رعاية المصلحة ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله: (إن ابني هذا سيد، ولعلَّ الله أن يصلح به بين طائفتين من المسلمين) فأولاً ذكر أنهم من المسلمين، وأثنى على الحسن بهذه المنزلة، وكان هو سيد شباب أهل الجنة مع أخيه الحسين، فدلَّ هذا على أن رعاية المصلحة أحياناً تحمل الإنسان على الحرص على الاستماع وتجنب المخالفة.(2/20)
حفظ الإنسان لمعروف سابق
السبب السابع: حفظ الإنسان لمعروف سابقٍ أو سالف.
ولهذا كان الشافعي رحمه الله يقول: الحرُّ من راعى ودادَ لحظةٍ، أو تمسك بمن أفاده لفظة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حسن العهد من الإيمان) وأمثلة ذلك كثيرة.(2/21)
سكوت الإنسان مكراً ودهاءً وانتظاراً للفرص
السبب الثامن: أن يسكت الإنسان مكراً ودهاءً وانتظاراً للفرص.
وهذا في نظري أنه لا بأس به؛ لأنه ربما إذا سكت الإنسان وانتظر زالت حرارة الغضب من نفسه، فإنه يكون قادراً على السيطرة عليها فيما بعد ذلك، ولهذا كانت العرب تقول: من أظهر غضبه قلَّ كيده.
بعض الناس غضبه في لسانه، فإذا غضب زمجر وأرغى وأزبد وصرخ وتوعد وهدد، ثم بعد يوم تأتيه وكأن شيئاً لم يكن، بينما بعض الناس ربما يسكت ولكن يظل محتفظاً بالبغضاء، ولا شك أن الأول خير، ولكن خير منهما من لا يظهر الغضب عليه، لا في حاضره ولا في مستقبله، تقول العرب أيضاً: تعاقب أيدينا ويحلم رأينا ونشتم بالأفعال لا بالتكلم وأيضاً من مشهور الأمثال العالمية أنهم يقولون: الذي يريد أن يفعل فإنه في الغالب لا يهدد.
هذا من التشريع الذي فيه حفظ لحقوق الأخوة، فدعونا أيها الأحبة نتعلم مثل هذه الأشياء ونربي أنفسنا على هذه المعاني.(2/22)
الرحمة بالمخطئ
أولاً: الرحمة بالمخطئ، والشفقة عليه، واللين والرفق.
وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] نأخذ من هذه الآية فائدة وعبرة عظيمة وهي: أن الناس يجتمعون على الرفق واللين، ولا يجتمعون على الشدة والعنف، هذا مقتضى الآية؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وهؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، والسابقين الأولين، فكيف بمن بعدهم؟! وكيف بمن ليس له مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس، سواء كان من العلماء أو من الدعاة، أو ممن لهم رياسة أو وجاهة أو مكانة أو تجارة، أو ما أشبه ذلك؟!! إذاً: فالرحمة والرفق بالناس أمر ضروري وأساسي، ولا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق، ولهذا يقول أبو الدرداء لرجل سبه وشتمه وأغلظ له: [يا هذا! لا تغرقن في سبنا وشتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإننا لا نكافئ من عصى الله تعالى فينا بأفضل من أن نطيع الله تعالى فيه] .
وشتم رجل الشعبي فقال له: [إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن كنت لست كما قلت فغفر الله لك] .
وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه، فدعا له وأمر له بجائزة.
إذاً القدرة على تعويد النفس على الرضا، والصبر واللين والمسامحة، هي قضية أساسية، والإنسان يتحلَّم حتى يصبح حليماً، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده لا بأس به: (إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) .
وعليك ألا تؤاخذ الآخرين، وعليك أن تتذكر أن تحية الإسلام هي: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقولها لأهلنا إذا دخلنا، بل قال الله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] وأن نقولها للصغار والكبار، ومن نعرف ومن لا نعرف، كما ورد في الحديث: (السلام لمن تعرف ومن لا تعرف) [بذل السلام للعالم] .
هذه التحية فيها معنى السلام، أي: أنت تسلم مني؛ من لساني، ومن قلبي، ومن يدي، فلا أعتدي عليك بقول، ولا بفعل، وفيها الدعاء له بالسلامة أيضاً، وفيها الدعاء له بالرحمة، وفيها الدعاء بالبركة، هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا وعلاقتنا مع الآخرين.(2/23)
سعة الصدر وحسن الثقة
ثانياً من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب: سعة الصدر، وحسن الثقة مما يحمل الإنسان على العفو، ولهذا قال بعض الحكماء: أحسن المكارم عفو المقتدر وجود المفتقر.
فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه غفر له وسامحه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً.
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) : هداني هادٍ غير نفسي ودلني على الله من طرَّدتُّه كل مطردِ(2/24)
شرف النفس وعلو الهمة
ثالثاً: شرف النفس وعلو الهمة بحيث يترفع الإنسان عن السِّباب، ويرى أنه لا يجعل نفسه في هذا المقام لن يبلغ المجد أقوام وإن عظموا حتى يذلِّوا وإن عزوا بأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرةً لا صفح ذلٍّ ولكن صفح أحلام يعني: لا بد أن تعود نفسك على أن تسمع الشتيمة فيسفر وجهك، وتقابلها بابتسامة وضحكة عريضة، ليس على سبيل التمثيل، ولا تقل: لا أريد لخصمي أن يقطف زهرة الانتصار علي، وإنما تدرب نفسك تدريباً عملياً على كيفية كظم الغيظ وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا عود نفسك على هذه المقامات السامقة الراقية العظيمة نعم، إنها جرعة غيظ تتجرعها في ذات الله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه معاذ بن أنس الجهني عند أهل السنن وهو صحيح: (من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء) .
اسمحوا لي يا إخوة! فالكلام سهل وطيب، وأعتقد أن أي واحد منا يمكن أن يلقي محاضرة خاصة في هذا الموضوع، لكن بمجرد ما يواجه أول موقف يتغير عنده (الترمومتر) !(2/25)
استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ
السبب الرابع: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ وقد قال بعض الحكماء: احتمال السفيه خير من التحلي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته.
وهكذا قال لقيط بن زرارة وهو من حكماء وشعراء العرب، قال: وقل لبني سعد فمالي ومالكم ترقون مني ما استطعتم وأعتق لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد ردوه شر رد، حتى إنه لم يفق إلا وهو بقرن الثعالب، فجاءه ملك الجبال وقال: (مرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، قال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً) .
أيها الأخ الحبيب! إن هذه العضلة التي في صدرك وهي القلب، هذه العضلة مهمة جداً، وقابلة للتدريب والتمرين، فمرِّن عضلة القلب على كثرة التسامح، والتنازل عن الحقوق، وعدم الإمساك بحظ النفس، وجرِّب قلبك أن تملأه بالمحبة، فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعاً فلن تشعر أن قلبك ضاق بهم، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد، وأن يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة، فمرِّن عضلات قلبك على التسامح، وفي كل ليلة -وهذه نصيحتي لإخوتي- قبل أن تخلد إلى النوم وتسلم عينيك لنومة هادئةٍ لذيذةٍ؛ سامح كل الذين أخطئوا عليك، وكل الذين ظلموك، وكل الذين حاربوك، وكل الذين قصروا في حقك، وكل الذين نسوا جميلك، بل وأكثر من ذلك؛ انهمك في دعاء صادق لله سبحانه وتعالى أن يغفر لهم، وأن يصلح شأنهم، وأن يوفقهم، ستجد أنك أنت الرابح الأكبر من مثل هذا، وجرِّب أيضاً أنه كما تغسل وجهك ويدك بالماء في اليوم الواحد بضع مرات، أو أكثر من عشر مرات؛ لأنك ستواجه به الناس، فإن هذا القلب هو محل نظر الرب تبارك وتعالى: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) وفي لفظ: (وأعمالكم) هذا القلب الذي ينظر إليه الرب تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، احرص على ألا يرى فيه ربك تبارك وتعالى إلا الأشياء الطيبة، وكل ما يكره الله تعالى في هذا القلب تقوم بكنسه كنساً وترمي به -مع شديد الاحترام- في أقرب زبالة.
صحِّح هذا القلب اغسل هذا القلب تعاهده بشكل يومي؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد والكراهية والبغضاء، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيوداً تمنعك من الانطلاق، ومن المسير ومن العمل، ومن أن تستمتع بنومك وشربك وأكلك ويقظتك ومعايشتك لأهلك ومعاشرتك لهم، وجلوسك مع أطفالك، وقيامك بعملك تخلَّص من هذه الأشياء التي لا فائدة منها.(2/26)
اختلاف الاجتهاد بين العلماء والدعاة
وهذا الاختلاف أولاً أمر طبيعي لا حيلة فيه، بل من المصلحة بقاؤه، والله تعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فهذا جزء من خلقة الإنسان، الناس مختلفون في البصمة: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] مختلفون في حدقة العين، مختلفون في نبرة الصوت هناك أيضاً كل إنسان له نبرة وبصمة وحدقة مختلفة في عقله وتفكيره، ونظرة في الأمور يختلف عن الآخر تماماً.(2/27)
أسباب الاختلاف بين العلماء
إذاً: السبب الأول من أسباب الاختلاف هو: الاختلاف في التكوين الفطري والنفسي والجبلِّي، وفي المزاج الذي ركِّب منه هذا الإنسان، فـ أبو بكر يختلف عن عمر وعن عثمان وعن علي، فكل واحد له تكوين خاص يختلف عن الآخر.
السبب الثاني هو: الاختلاف في التحصيل, أي: قدر ما حصَّله هذا الإنسان من المعرفة والعلم، ومن الفهم والإدراك.
السبب الثالث هو: الاختلاف في الظرف الذي يعيشه هذا الإنسان؛ فإنه قد يعيش شخص ظرفاً معيناً يختلف عن الآخر بحسب تغير الأحوال والظروف، والمجتمعات، والسن، والحرب والسلم، والقوة والضعف، والصحة والمرض، وغير ذلك.
ثم هناك سبب رابع وهو: الهوى الخفي.
والهوى الخفي قلًَّ من يسلم منه، حتى ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أنه وقع فيه كثير من الأكابر من أهل الفضل والعلم، ومن السابقين من الأئمة والعلماء.
إذاً: يوجد عند الإنسان أحياناً من الهوى الخفي الذي لا يشعر به صاحبه ولا يلام عليه؛ لأن فضل الله تعالى واسع وعظيم، وإن كان على الإنسان أن يراقب نفسه بشكل جيد، لكن يقع للإنسان أحياناً نوع من الهوى الخفي الذي لا يدركه، وقد يحمله على بعض المواقف.
الاختلاف إذاً طبيعي، وهو جزء من الشخصية البشرية، ومن الحياة البشرية، ومن الحكمة الربانية اختلاف التنوع الهائل الضخم الذي بموجبه تعمر هذه الدنيا.
لقد اختلف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم أنبياء الله ورسله اختلف موسى وهارون: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] .
واختلف موسى والخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي} [الكهف:66] {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74] {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] .
واختلف موسى وآدم فقال موسى: (يا آدم! أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة بأكلك من الشجرة، فقال له آدم: ألست تجد يا موسى! وأنت الذي كلمك الله واصطفاك برسالته وكلامه أن الله تعالى كتب هذا عليَّ قبل أن يخلقني بكذا وكذا، فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى) .
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به أيضاً ومرَّ على موسى قال له: (إني جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك -ومرة وثانية وثالثة وعاشرة- حتى قال: قد راجعت ربي حتى استحييت) .
إذاً هذا الاختلاف وقع حتى بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
أيضاً: اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أسرى بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ترون؟ قال عمر رضي الله عنه) وهو الرجل الذي في جبلَّته وطبيعته وتكوينه الفطري أو النفسي الخلقي نوع من القوة والشجاعة والجرأة، حتى كان الشيطان يخاف منه، قال: (والله يا رسول الله! إني أرى أن تمكنني من فلان، وتمكن علي بن أبي طالب من عقيل، وتمكن الباقين من أقاربهم حتى يقتلوهم؛ فإن هذا أول يوم أعزَّ الله فيه الإسلام، فشرِّد بهم من خلفهم، وسأل أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! أهلك وعشيرتك، وأرى أن تستأني بهم لعلَّ الله تعالى أن يهديهم إلى الإسلام -فهوى النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قاله عمر، وقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: إن مثلك كمثل إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] ومثلك يا عمر كمثل نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] أو كمثل موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:88] ) المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد القضية إلى نوع من التركيب الذي هو موجود حتى عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
أيضاً تجد الخلاف عند الأئمة، كأئمة الفقه -مثلاً- والتفسير، والحديث، في الأحكام، وفي الحكم على الأحاديث وفي تخريجها، وما أشبه ذلك من ألوان العلوم، فإن هذه الأشياء كلها موجودة وقائمة.(2/28)
ثلاثة أسئلة تطرحها على نفسك إذا اختلفت مع غيرك
وإذا اختلفت مع أخيك في مسألة دينية أو علمية أو شرعية، فإني أقترح عليك أن تطرح على نفسك ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: هل أقول عن نفسي: أنا أعلم من فلان بالدين والشرع؛ ولذلك اختلفت معه؟ أو أعتقد أنه يكون له من العلم مثل الذي عندي أو أفضل؟ السؤال الثاني: هل أعتقد أنني أعقل منه، وأنني قد أوتيت من الغريزة العقلية الفطرية المركبة في أصل تكويني، ومن قوة الإدراك وحدة الذهن ما لم يؤت؛ فأنا أعقل وأذكى منه، فلذلك أدركت ما لم يدركه؟ السؤال الثالث: هل أعتقد أن عندي من الصدق مع الله سبحانه وتعالى، والإخلاص وسلامة النية والغيرة شيئاً ليس عنده ولذلك اختلفت معه؟ كل هذه الأشياء الإنسان لا يزكي فيها نفسه، وإنما يقول: لعل أخي أعلم مني، ولعله أعقل مني، ولعله أصدق وأخلص وأغير مني، فهذا لا يعني أن أتابعه، ولكن يعني أن أعذره.(2/29)
نقاط مهمة في توظيف الخلاف لجمع الكلمة
وفي هذا السبيل في مجال الاختلاف في الانتسابات الدعوية وفي الاجتهادات العلمية بين الدعاة وبين العلماء وغيرهم، هنا عدة نقاط:(2/30)
التفريق بين الثوابت والمتغيرات
النقطة السادسة: قضية التفريق بين الثوابت والمسلمات القطعية المعروفة من الدين بالضرورة، وبين الاجتهادات والمتغيرات والأشياء القابلة للأخذ والرد فبالنسبة للثوابت والمسلمات هي محكمات في دين الله عز وجل، لا مجال للاختلاف حولها؛ من نصوص الكتاب والسنة، وإجماعات السلف الصالح رضي الله عنهم الصادقة القطعية، وهذه الأشياء هي معقد الولاء والبراء بين المؤمنين، وهي أصل الدين، ولهذا يسميها ابن تيمية رحمه الله: الدين الجامع؛ لأنه لا خلاف حولها، وهناك الأمور التي يقع فيها اختلاف، بعضهم يحدث عنده خلل، فربما يشكك في المحكمات، كما نجد في بعض المدارس الفكرية المعاصرة، في كثير من المؤلفات والمصنفات والكتب، فقد أصبحت تشكك في بعض محكمات الدين وقطعياته وضرورياته، وتحاول إعادة فهم القرآن الكريم، وهذا لا شك أنه انحراف خطير يفضي بأصحابه إلى خارج الدائرة الإسلامية.
لكن ثمة خلل آخر يقع أيضاً، وهو أن يقوم البعض بما أسميه التخريج على الثوابت، وأعني به أن يخرج الإنسان بثوابت الدين وقطعياته ما ليس منها، ليعزز اختصاصه بشيء أو تميزه بشيء، أو ليخرج غيره ممن يختلفون معه، ولهذا أقول: إن حكاية (المنهج) وربما الكثيرون يطلقون كلمة المنهج المنهج المنهج علينا أن ندرك أن كلمة (المنهج) لا تعني إلا الكتاب والسنة والدين الصحيح، عندما يقول الإنسان: نتمسك بالمنهج وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، يجب ألا يعتمد فيه على الرأي المجرد، أو الاجتهاد الخاص، وإنما على النقل المحقق، وحتى القول لواحد من أئمة السلف، كأن يكون قولاً لـ أحمد أو الشافعي أو مالك أو الأوزاعي أو سفيان أو الزهري، فإنه لا يتحول إلى منهج بمجرد كونه قولاً قاله، وإنما المنهج هو ما أجمعوا وأطبقوا عليه وانطلقوا منه.
الخلاف إذاً لا يكون في الثوابت والمسلَّمات وإنما يكون فيما وراء ذلك يكون في الفقهيات والفروع وهي كثيرة جداً، وأمور عملية؛ كالخلاف في بعض مسائل الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج، وكان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون فيها.
أيضاً: يكون الاختلاف في الوسائل وليس في الغايات، الغاية واحدة لكن اختلفنا في وسيلة معينة هل نستخدم هذه الوسيلة أم تلك؟ البعض -مثلاً- قد يتحدثون عن الاختلاف في استخدام التقنيات الحديثة في الدعوة إلى الله عز وجل، أو استخدام طريقة معينة في دعوة الشباب، يكون الاختلاف في الأساليب لا في الأهداف، فالأهداف واحدة لكن أسلوب الدعوة أن يكون بشدة أو بلين، أو بطريقة أو بأخرى، أو بصورة فردية أو جماعية، هذا أيضاً أسلوب لا يؤثر الاختلاف فيه.
مثال ذلك أيضاً: الاختلاف في نوازل الأمة التي تلاقيها، فإن الخلاف في هذه النوازل والأمور الواقعة الحادثة الجديدة التي لا سابق لها، يحتاج إلى نظر وإلى تأمل وإلى استنباط: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] .(2/31)
الخطوط المتوازية
النقطة الخامسة: قضية الخطوط المتوازية: فلا يلزم أن نتقاطع دائماً إذا اختلفنا، أو يدمر بعضنا جهود بعض، حتى لو لم يكن لديك قناعة بما يفعله الآخرون دع الأمر للوقت، ربما يتبين مع الأيام أن ما كان يفعله صواباً أو خطأ، أو أن فيه بعض الصواب وبعض الخطأ.
أحياناً فرط إحساسنا -أيها الإخوة- بالمسئولية، كأننا مسئولون عن الأمة، وعن الناس، وعن الدعوة، وعن العلم، فرط الإحساس يحملنا على توزيع البطاقات الحمر ذات اليمين وذات الشمال مع كل من نختلف معهم في الرأي أو في الاجتهاد, أو في القول، أو في الانتساب, أو حتى في المزاج في بعض الأحيان.
وربما نقوم بمراقبة الآخرين ونفتح ملفات لأخطائهم، فعندنا قائمة بماذا أخطأ فلان وماذا أخطأ علان وهذا في الواقع هو إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان من أقوال عيسى عليه السلام: لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، بل انظروا فيها كأنكم عبيد.
ولذلك يقال: إن رجلاً اغتاب بعض الصالحين عند ابن المبارك، فقال له: غزوت الروم؟ قال: لا السند؟ قال: لا الديلم؟ قال: لا الترك؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والهند والسند والديلم والترك؛ ولم يسلم منك أخوك المسلم!! ولذلك تجد أن كثيراً منا ربما لا يستخدم الأسلوب نفسه مع أعداء الإسلام، ولو قيل له في ذلك لم يعر اهتماماً لهذا، وقد لا يعتني بمتابعة الأحوال والأوضاع والمتغيرات التي لها أثر عقيم وعظيم في واقع الأمة، وفي سلوكها، وفي حاضرها ومستقبلها، ورجالها ونسائها، ولها تأثير في غاية الأهمية، ربما يرى أن الاشتغال بمثل هذه الأشياء نوع من الفضول، ويعتني ببعض الخلافات التي تقع مع إخوانه المسلمين.
أذكر الإخوة في هذا المجال بقضية التعاون، وقضية أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، الشافعي رحمه الله كان يقول: قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له وأحمد رحمه الله كان يقول: الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن، فهل ترى لهذين من عوض، أو عنهما من خلف؟!! وكان يقول أيضاً: كنا على خلافٍ مع أهل الرأي -من أصحاب أبي حنيفة من أهل الكوفة - حتى جاء الشافعي فأصلح بيننا.
وكثيراً ما كان يقول: إنه قلَّ ما أصلي إلا ودعوت الله تبارك وتعالى له.
ومالك هو أحد شيوخ الإمام الشافعي.
وهكذا تجد أن هؤلاء الأئمة كانوا كلهم كأنهم عائلة واحدة وأسرة واحدة.(2/32)
التخصص والتناوب في الأعمال
النقطة الرابعة قضية التخصص والتناوب في الأعمال بحيث يكون اختلافنا من اختلاف التنوع كما يقال، أو كما يطلق بعضهم: كلانا على خير، هذا مشغول بدعوة، وهذا مشغول بإغاثة، وهذا بتعليم، وهذا بعلم، وهذا بإصلاح، وفي كلٍ خير، ولا أحد يستطيع أن يستوعب الخير كله.
هذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان قائداً للجيوش، ولما انتهت مهمته في الحرب كان يصلي بالناس فيقرأ بقصار المفصل، ويقول: [شغلني الجهاد عن القرآن] بينما أبو هريرة رضي الله عنه لم يقد جيشاً ولا معركة، وإنما كان معروفاً بنقل العلم وروايته وحفظه.
ينبغي أن ندرك -أيها الأحبة- أن شمولية الإسلام لا تقتضي شمولية المسلم، نعم الإسلام دين شامل للحياة كلها، لكن المسلم ليس هو تعبيراً كاملاً عن الإسلام ولا شمولية له، ولهذا قد يتخصص في شيء أو ينشغل بشيء، أو يعتني بأمر دون غيره.(2/33)
العناية بجوانب الاتفاق أكثر من جوانب الاختلاف
النقطة الثالثة: قضية العناية بجوانب الاتفاق أكثر من جوانب الاختلاف: لأن هذه الجوانب التي نختلف حولها قليلة، ولكنها تكبر بالتركيز عليها، وأضرب لذلك مثلاً صغيراً أكرره أحياناً لبعض الإخوة: عندما تصلي مع الجماعة، ويصلي إلى جوارك أخوك المسلم؛ تجد أنك تراقبه كيف يهوي في سجوده؟ أين يضع يديه؟ كيف يحرك إصبعه السبابة في التشهد؟ فهذه الأشياء التي تعودنا أن نراقبها حتى نحكم عليها، وبعد الصلاة ربما أمسكه وأقول: أنت تفعل كذا لماذا؟ بينما نسيت أنك تتفق معه في أصول الدين وأركان الإيمان، في أركان الإسلام، وصلاة الجماعة، وأركان الصلاة، وشروط الصلاة، وواجبات الصلاة، بل في معظم سنن الصلاة، في (90 أو 80%) منها، والخلاف هو في (10%) من السنن فقط، ومع ذلك ربما كبرها الشيطان، وقد ذكر أبو بكر بن العربي أن شيخه أبا بكر الطرطوشي ذهب إلى بلاد الأندلس، وصلى عند حاكم هناك، فكان يرفع يديه عند التكبير وعند الركوع وعند الرفع منه، قال: فأمر هذا الحاكم بأن يقتل الشيخ.
قال أبو بكر بن العربي: فأصابني ما قرب وما بعد، وأتيت إليه وقلت: غفر الله للأمير، أصلح الله الأمير، هذا شيخ الأمة، هذا فقيه الوقت، كيف يقتل بمثل هذا؟ قال: لماذا يرفع يديه؟ قال: فما زلت به حتى بينت له أن هذه هي السنة، وأن هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول لكثير من أهل العلم، قال: فسكن، وإلا كاد أن يقتله.
وهدد أحدهم أخاه وقد رآه يحرك إصبعه بطريقة معينة، هدده بأنه سوف يقطع إصبعه.
ودعوني أذكر لكم هذه الحادثة التي وقعت لي شخصياً، ونحن نتكلم الآن عن تجنب الخلاف وعدم التركيز على عوامل الفرقة، هذا الكلام قلته كثيراً قبل أسبوع صليت بجوار أحد الشباب، فلما كنا في التشهد جاءني وتسلل إليَّ الشيطان وقال: انظر هذا الشاب كيف يحرك إصبعه؟ فنظرت فوجدته يحرك إصبعه محنية ويحركها باستمرار، فبدأ الشيطان يهمس لي وقال: ألا تلاحظ أنه يعتمد على حديث ضعيف وهو: (أنه حناها شيئاً ما) هذا الحديث لا يثبت عند أهل العلم، والشيطان أحياناً يصدق وهو كذوب، وقد ينقل الإنسان من المفضول إلى الفاضل بدلاً من أن تقبل على صلاتك أو تحقق أخوتك، يحاول أن يشغلك بذكريات من الأمور العلمية التي هي موجودة ومستقرة، لم يضف شيئاً جديداً لكنه بعثها وأشغلك بها.
ثم قال أيضاً: ألا تلاحظ أن كثرة حركته للإصبع لا تتناسب مع خشوع الصلاة وسكونها وهدوئها.
فصرت في حديث وحوار في هذا الموضوع، واستيقظت على سلام الإمام.
فلاحظ هنا أننا بحاجة كبيرة جداً إلى أن نتدرب مرة وعشراً ومائةً وألفاً على قضية التركيز على عوامل الاجتماع وجوانب الوحدة بيننا، وهي كثيرة وعظيمة جداً، وعزل جوانب الاختلاف، وألا نلغيها ولكن لا نضخمها أولا نبالغ فيها.(2/34)
عدم نسبة الإنسان رأيه واجتهاده
النقطة الأولى: قضية عدم نسبة الإنسان رأيه واجتهاده إلى الدين: فإن بعض الإخوة إذا اختلف ربما نسب قوله إلى شريعة الله، وحكم على من يخالفونه بأنهم كأنهم يردون على الله والرسول، فيقول مثلاً من قال كذا وكذا فكأنه يقول: لا سمع ولا طاعة لك يا رسول الله، مع أنه لا يوجد أحد من المسلمين يقول هذا، وإنما هم ينازعونك في القول الذي تقوله، هل يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا يقوله؟ فينبغي على الإنسان أن يتعود على احتمال وجهات نظر الآخرين فيما يحتمل مثل هذا.(2/35)
التعاون بين المختلفين والتنسيق بين الدعاة وترك الترفع
النقطة الثانية: قضية التعاون على البر والتقوى بين المختلفين، والتنسيق بين الدعاة من غير أنفة ولا ترفع ولا استعلاء.
فإن الميادين اليوم مكشوفة، والحاجة إلى الدعوة وإلى جهود الدعاة ضخمة جداً، فينبغي أن يكون ثمة تعاون، وأن نضع أيدينا في أيدي بعض، فالبعض من الإخوة قد يمتنعون من التعاون بدافع تنظيمي كما يقال، أي: أنه يرى أنه ليس من المصلحة ذلك؛ ولذلك لا يقوم به، والبعض قد يمتنع بدافع تنظيري، أي: أنه يرى أنه لا يجوز أو لا يشرع له أن يتعاون مع إخوانه في الله تبارك وتعالى.
وفي نظري أن من الحكمة والحزم الاستفادة ممن دونك مهما كانوا، الاستفادة من الآخرين أن تنتفع بتجاربهم أو تتعاون معهم، والله تعالى أمر بذلك في محكم التنزيل، فأصبح هذا الأمر من الواجبات: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فدعونا نعزز روابط التعاون والأخوة والتنسيق بين المؤمنين، ونتجنب عوامل الفرقة والاختلاف.(2/36)
أهمية إعطاء الأزمات والمحن حقها
فإننا اليوم نعيش في أزمة ومحنة لا يعملها إلا الله عز وجل، ولو قلت: إنه منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم لم يطرق ناموس هذا العالم مثل هذه المصائب الضخمة الهائلة التي تحيط بالمسلمين من كل مكان إن مثل هذه المعاناة التي نجدها اليوم توجب علينا -أيها الإخوة- وإن لم يكن المقام مقام الحديث عن هذه الأزمة، فلها حديث مفصل ومطول، وربما بعض المقالات والكتابات التي كتبت حول قضية التوظيف الإيجابي للأحداث، أو حول واجب الوقت، فيها بعض الإشارات إلى ما يجب علينا أن نعمله: أن نوحد صفوفنا، وأن نتقارب فيما بيننا، وأن نهدئ من عوامل الفرقة والانشقاق في وجودنا وفي أشخاصنا وفي حياتنا، إن الله تعالى يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] .
إن من السخرية أن تهيمن على الحياة الإسلامية نظم غربية، وأن تبدأ القوى الإمبراطورية باحتواء المسلمين سياسياً واقتصادياً وعسكرياً؛ بينما نجد أن كثيراً من المسلمين يلتقطون كسرة خبز، ويتصارعون حولها في زاوية صغيرة، وكأنهم لم يشعروا بصخب الحياة وضجيجها من حولهم.
أيها الإخوة: لا أزيد على ما تعرفونه من معاناة المسلمين في أرض فلسطين من الصلف اليهودي، والعدوان الغادر، وقتل الرجال والنساء والصبيان والأطفال، وهدم المنازل، واستهداف الرجال بكافة وسائل القتل والاغتيال وسفك الدماء، لا تقتصر على أن يكون همك نفسك، اجعل همك واسعاً؛ همّ الأمة كلها، أشركهم في دعائك وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع أشركهم في دموعك أعطهم دموعاً تغرف من قلبك حينما ترى هذه المصائب التي تنزل بهم أشركهم في إمكانياتك وقدراتك، إن كان عندك شيء من مال، كما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة) .
أيضاً: اصنع الحياة، ولا تقتصر على مجرد معالجة الأزمة أو الوقوف معها اصنع الحياة ابن نفسك بناءً أخلاقياً علمياً تربوياً دعوياً اكتسب المهارات والمواهب والقدرات رب إخوانك وأولادك ومن حولك دعونا نصنع الحياة الإسلامية المستقرة، فإن هذه الأشياء المطلوبة من الأمر بالمعروف لا ينبغي أن تتوقف بسبب أزمة عابرة مرت بنا.
إنني أؤكد لك والله تعالى أعلم بالغيب: أنه ربما تكون الأيام المقبلة لا تختلف اختلافاً كبيراً جداً عن الأوضاع التي يعيشها الناس اليوم نعم، تتفاوت أشياء سوف تسوء وأشياء سوف تتحسن، سوف تأتي أمور صعبة، وأمور ربما تتحول إلى فرص، لن يكون كبير شيء في المستقبل إلا ما يصنعه الناس بجهودهم وصبرهم ومعاناتهم، وعليك ألا تفقد صبرك واتزانك وتفكيرك عليك أن تخطط، فإن عدوك إنما غلبك بالتخطيط وبُعد النظر، وألا تقبل الاستفزاز، بل وعليك ألا تسمح لهذه الأزمات أن تقلق راحتك أو تزيل سكينتك، أو تنقلك من هدوئك.
أقترح عليك أن تسعد وأنت نائم، وأنت صاح، وفي مأكلك ومشربك، ومع زوجتك ومع صبيانك، احضنهم وداعبهم واضحك معهم وعلمهم وتعلم منهم، ولا تظن أن هذا يتنافى مع صدق الإحساس بالمصيبة التي تنزل بالأمة، بل ربما هذا هو المناسب، ولهذا امتن الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] في ظروف ومحن صعبة كان يواجهها صلى الله عليه وسلم، وكان الدين يواجه خطر الاستئصال أيضاً، ومع ذلك فإن انشراح الصدر وهدوء النفس وقرة العين والسكون هو أهم شيء من شأنه أن يجعل الإنسان يتصرف ويعمل بشكل صحيح.
أنتهي من هذه الكلمة المختصرة أيها الإخوة! وفي النفس حاجات إليكم كما هي، ولكن الوقت لا يسمح بأكثر من ذلك، فلعلَّ الله سبحانه وتعالى بمنه وفضله أن يأذن بلقاءات أخرى.
وأشكركم أنتم أيها الإخوة! يا من حضرتم وتجشمتم العناء، واقتطعتم هذا الجزء من وقتكم، وإذ فعلتم ذلك فأدعو الله تعالى لكم جميعاً: اللهم أنزل على إخواننا من فضلك ورحمتك يا حي يا قيوم ما تلم به شعثهم، وتهدي به قلوبهم، وتصلح به شئونهم، وتهديهم به إلى ما تحب وترضى، اللهم أصلح نياتهم وذرياتهم، وارزقهم العلم النافع والعمل الصالح، واجمع قلوبهم على البر والتقوى، واجعلهم من ورثة جنة النعيم.(2/37)
الأسئلة(2/38)
التكفير عند أهل السنة والجماعة
السؤال
ما هو معتقد السلف في قضية التكفير؟ وهل من أعمدة أهل السنة والجماعة؟
الجواب
صحيح أن هذا موضوع التكفير يحتاج لا أقول محاضرةً بل يمكن دورة أحياناً، لكني أريد أن أقول: أولاً: التذكير بقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيح من حديث ابن عمر وغيره: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) والحديث الآخر: (فإن كان كذلك وإلا حار عليه) وقوله صلى الله عليه وسلم هذا يؤكد على أن المسلم ينبغي أن يتوقى الحكم بالتكفير، حتى لو كان الشخص يحتمل أن يكون كذلك؛ لأنه لو لم يكن كذلك رجع التكفير عليك، لكن دعونا نتذكر هذه النقطة المهمة جداً ونعتبرها قضية منهجية، فعندما ننظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هل نجد أنه كفَّر أحداً ممن ادعى الإسلام؟!! لا.
المنافقون مثلاً قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] فهو سبحانه يعلمهم، ومع ذلك لم يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعاملهم معاملة المسلمين.
الرجل الذي قال: (اعدل يا محمد) وفي مرة قال: (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) ومع ذلك قال بعض الصحابة عمر أو غيره: (دعني أضرب عنقه يا رسول الله! قال: لعلَّه أن يكون يصلي) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) وهذا الحديث عظيم، ذكر فيه ابن تيمية رحمه الله أن كل من توضأ بنية وصلَّى فهو مسلم، إلا أن يكون منافقاً؛ عادة المنافق ألا ينوي، لكن من توضأ بنية وصلَّى بنية فالأصل أنه مسلم، حتى لو وقع في أخطاء، ويقول رحمه الله: كائناً ما كان خطؤه.
فمسألة التكفير ليست بالمسألة الهينة، قد يقع الإنسان أحياناً في كفر ولكن لا يوصف بأنه كافر؛ لأنه يقع فيه بسبب التأويل، أو بسبب الجهل، أو الإكراه، فيوجد نوع من العوارض الأهلية التي تمنع من إصدار الحكم عليه.
كذلك الصحابة رضي الله عنهم والخلفاء الراشدون، هل تجد أنهم كانوا يصدرون أحكاماً بالتكفير على أحد؟!! ربما تقرأ سيرتهم فيعييك أن تجد أنهم حكموا على شخص واحد ممن يدعي الإسلام بالتكفير.
ثم انظر للسلف كالأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، كم عدد الأحكام التي أصدروها على الناس؟ وهل كان يوجد هناك كفار؟ هل كان هناك منافقون؟ هل كان يوجد مذاهب ونحل باطلة؟ بلى؛ كانت توجد، ولكنهم كانوا يعالجون هذه النحل، ويردون عليها، ويبينون الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، دون أن يقحموا أنفسهم في الحكم على الشخص المعين، فالأصل أن من ادعى الإسلام يسلم له بهذه الدعوى، وحتى لو وقع في نوع من الكفر؛ فإنه قد يكون ذلك بتأويل أو بجهل أو بإكراه، فلا يحكم عليه إلا بعد توفر الشروط وزوال الموانع، كما نص عليه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ولأن يخطئ الإنسان في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، فمسألة كون كثير من الإخوة أحياناً ربما يحملهم فرط الغيرة أوالخلاف مع شخص، أو كأن سمع كلمة بشعة أو فظيعة استعجل في التكفير، وربما لو سألته: هل أنت متأكد أن فلاناً قال هذه الكلمة؟ قال: والله ما أدري، وإنما سمعت فلاناً يقول.
إذاً عليك بالآتي: أولاً: تأكد أن كون هذا الإنسان قال هذه الكلمة.
ثانياً: تأكد أن هذه الكلمة لا تحتمل تأويلاً آخر إلا الكفر، أي: ليس لها إلا وجهاً واحداً، أنا رأيت من قد يتعجل بتكفير الناس بأقوال أقول: إنها ليست خطأ أصلاً، فضلاًَ عن أن تكون قولاً مرجوحاً.
فأحياناً ربما قصر فهم الإنسان أو عدم إدراكه يجعله يتسرع في الحكم على الآخرين بالتكفير ولا فائدة، ثم ماذا إذا كفرته؟ هل أنت قاضٍ؟ هل أنت حاكم؟ إنما مثلك مثل غيرك أنك من المسلمين بشر ممن خلق: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284] والأولى ألا يتسرع ويتجرأ الناس على إطلاق أحكام التكفير، احكم على الفعل، أحياناً تستخدم لغة القرآن والسنة فإنها تكفيك، فالله سبحانه وتعالى عندما يقول مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] لم يقل: فإنهم من الكافرين، أو فهو كافر، قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1] إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] فأحياناً لغة القرآن والسنة تغني عن الدخول في مضايق أو متاهات ربما تصبح أسلوباً أو منهجاً قد يتسامح فيه ويتسرع فيه بعض الناس حتى لمن لا يستحق.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، والطف بإخواننا المسلمين في كل مكان.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، واسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! يا واحد يا أحد يا صمد! يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد! يا منان! يا بديع السموات والأرض! اللهم احفظ إخواننا المسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم احفظهم في كل مكان، اللهم احفظهم يا خير الحافظين، اللهم سدد سهامهم ورأيهم ورميهم واجمعهم على الحق والهدى، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم اخذل أعداء الإسلام والمسلمين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم يوماً أسوداً كيوم فرعون وقومه، اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد فهيئ لهم يداً حاصدة لا تبقي ولا تذر.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.(2/39)
حقيقة التقريب بين الطوائف والفرق
السؤال
هناك دعوات للتقريب بين المذاهب ونبذ الخلاف، أعني: إلى التقريب بين أهل السنة والرافضة، فما رأيكم فيمن يتكلمون في ذلك؟
الجواب
إن الكلام الذي قلناه واضح من حيث التأصيل والحديث، إن الكلام يتعلق بمن هم على أصل اتباع ما كان عليه سلف هذه الأمة من القرآن والسنة والإجماع أياً كانت الأسماء.
أما ما يتعلق بقضية الموقف من المخالفين في أصل من الأصول كالخوارج مثلاً، أو الشيعة أو غيرهم، فهذا موضوع آخر وله حديث، ربما كنت ذكرت جوانب منه؛ لكن الوقت لم يسمح لي بعرضها، وهناك جوانب منها: أولاً: ما يتعلق بضرورة العدل في الحكم.
فالخوارج مثلاً هم شر فرق أهل الإسلام، حتى إنه صح الحديث فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو عشرة أوجه كما قاله الإمام أحمد، ولم يرد في السنة شيء يصح في أهل البدع إلا ما ورد في الخوارج، ومع ذلك كان القول الراجح الصحيح الذي عليه الصحابة والتابعون وأكابر أهل العلم, وفصله ابن تيمية تفصيلاً: أنهم لا يكفرون، ولهذا لما سئل عنهم علي رضي الله عنه: [أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فهم منافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله بكرة وعشياً، قالوا: فما نقول؟ قال: إخواننا بغوا علينا] إذاً لابد من العدل، فلم نتكلم فيما يتعلق بموضوع الشيعة مثلاً، وليس هذا المجال مناسباً للحديث، لكن خلاصة كلام أهل العلم، خلاصة ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في منهاج السنة أو في الصارم المسلول أو في غيره، التفصيل في شأنهم: القسم الأول: هناك أقوال لا شك أنها كفر، فمن ادعى -مثلاً- أن جبريل خان الرسالة، أو أن عائشة الصديقة رضي الله عنها -وقد برأها الله- وقعت في الفاحشة، أو ادعى أن القرآن محرف، أو ادعى كفر الصحابة؛ فهذه الأقوال لا شك أنها كفر.
القسم الثاني: أن يوجد هذا القول عند الإنسان ولكنه لا يجهر به ولا يقوله، بل ينفيه وينكره ويدعي خلافه، فهذا أمره إلى الله تعالى، وظاهره أنه مسلم ويعامل معاملة المسلمين، وحاله مثل المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، والمنافق يعامل معاملة المسلم.
القسم الثالث: من لا يعتقد هذه الأشياء ولا يقول بها، ولا يدين بها ظاهراً ولا باطناً، ولكنه يقع في نوع من المخالفة والبدعة، كالمفضلة -مثلاً- الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على الشيخين، أو يقعون في بعض البدع العملية، فهذا مسلم ولكنه واقع في شيء من البدعة.
الأمر الثاني: ينبغي أن أؤكد أن هذه الأمم الموجودة داخل الأمة الإسلامية هي بأمس الحاجة إلى الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنك لا تصنع شيئاً بمجرد الكلام ومجرد إصدار الأحكام، ولكنك تستطيع أن تصنع الكثير من خلال الدعوة بالتي هي أحسن، والخلق الطيب، ولا يمكن أن تدعو إنساناً وأنت تقسو عليه، كما قال الإمام أحمد: قلَّ ما أغضبت أحداً فقبل منك.
فلا بد أن يكون هناك خلق طيب، وسلوك مستقيم، ومعاملة بالحسنى، ويكون ذلك سبباً إلى دعوة هؤلاء الناس بالأسلوب الأمثل المناسب إلى الله تعالى وإلى السنة النبوية.
الأمر الثالث وهو أيضاً نقطة مهمة: أننا نلاحظ أن خصوم الإسلام يحاولون أن يوظفوا جميع التناقضات الموجودة داخل المجتمع الإسلامي، فعلوا هذا في أفغانستان، وأعتقد أنهم سيفعلونه في العراق، فهم سيحاولون توظيف العرب ضد الأكراد والأكراد ضد العرب، والشيعة ضد السنة والسنة ضد الشيعة، والقبائل ضد بعضها، وهكذا سيحاولون أن يلعبوا على هذه التناقضات إذاً: من السياسة الشرعية ومن الحكمة أن يكون هناك نوع من التعقل في دراسة هذه الأمور وتناولها وتعاطيها, بحيث يستطيع الإنسان أن يجمع بين بيان الحق بأدلته الشرعية وإقامة الحجة على الناس، وإظهار الصواب والقرآن والسنة وأقوال أهل العلم دون أن يفضي الأمر إلى نوع من إثارة خلاف أو صراع في ظرفٍ ربما لا يكون هو الأفضل والأنسب.
أؤكد أن الموضوع هذا يتطلب وقتاً مطولاً؛ ولذلك الكلام ربما يكون فيه نقص، لكن لعله يكون له فرصة أخرى إن شاء الله.(2/40)
ماذا بعد العراق
الوداع يا بغداد! صرخة انطلقت من عمق آهات الأمة، وهي ترى سقوط عاصمة الرشيد، التي طالما كانت مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى.
وفي ظل هذه الظروف من الخطأ الكبير أن نقتصر على مجرد مشاهدة الحدث، أو التعاطف القلبي والوجداني ونترك قضية العمل والمشاركة الفعالة.(3/1)
وداعاً بغداد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم -أيها الأحبة الأبرار- ورحمة الله وبركاته.
نحن الآن في ليلة الجمعة الثامن من شهر صفر لسنة (1424) هـ.
لقد جئتم إلى هذا المكان المبارك -أيها الأحبة- على وقع الدمار الهائل الذي حل بالعراق وعاصمة الرشيد، جئتم والأسى يعصر قلوبكم، واليأس يجتاح النفوس، لكن لا يأس فالدهر دول، {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
اليأس حرامٌ حرامٌ على قومٍ آمنوا بالله تعالى، وأن الله حق، وله الحكمة البالغة، والرحمة السابغة، وبيده تصريف الأمور، وإذا كان عمر الولايات المتحدة الأمريكية نحو مائتي سنة، فلنذكر أنها خاضت مع نفسها حرباً ضروساً حصدت أكثر من ستمائة وخمسين ألف قتيلٍ فحسب، فدعونا نهدئ أنفسنا وندغدغ عواطفنا بهذا الخبر الجميل.
قوات غازية تجتاح عدة ولايات أمريكية بما فيها واشنطن، وتقتحم البيت الأبيض، واختفاء الرئيس الأمريكي ونوابه ومساعديه وسط حالةٍ من الفزع والهول والذهول.
الثوار الغاضبون المحتجون على السياسة الأمريكية يحتلون الشوارع ويهتفون ضد الإدارة ويتهمونها بممارسة جرائم حربٍ وإبادة وبتضليل الشعب وبانتهاك القوانين ومصادرة الحقوق.
مجموعة من السجناء تقتحم السجن وتنضم إلى الثوار.
مدمنو مخدرات يرفعون لافتاتٍ تقول: كفى ترويعاً للشعب، كفى ترويعاً للآمنين.
محتجون يدمرون تمثال الحرية ويضعون عليه خرقة مكتوبٌ عليها: انتهى وقت الخداع، اكشفوا الأقنعة عن وجوهكم البشعة يا تجار النفط، الشعب يرفضكم ولن يختاركم بعد اليوم.
هل أنت في حلمٍ لذيذ؟ هذا الحلم اللذيذ المنبعث من عمق الخيال، هو انعكاسٌ لما يجري في عاصمة الرشيد اليوم، ولعله صورة من صور المستقبل.
لقد هجم عليَّ البارحة موجةٌ عارمة من الحزن والكآبة، ولا أظن أحداً من المسلمين بقي بمعزلٍ عنها، وهو يرى ويسمع سقوط مدينة الخلافة بأيدي علوج الروم.
يا دجلة الخير ما يغليك من حنقٍ يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني ما أن تزال سياط البغي ناقعةً في مائك الطهر بين الحين والحين ووالغاتٌ خيول البغي مصبحةً على القرى آمنةً والدهاقين أدري بأنكِ في حزنٍ وفي لغبٍ والناس حولك عدوا بالملايين يرون سود الرزايا في حقيقتها ويفزعون إلى حدسٍ وتخمين الوداع يا بغداد! يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد والكرخي والجنيد وإسحاق ومطيع وحماد! يا منزل القادة والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأتقياء، والشعراء والظرفاء! يا مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى، يا دنياً فيها من كل شيءٍ شيء!! الوداع يا دار السلام! ويا موئل العربية! ويا قبة الإسلام! ويا منارة التاريخ! ويا منبر الحضارة! منذ أوائل الألف الخامس قبل الميلاد، تاريخٌ موغلٌ في القدم شهد هذا السهل - سهل الرافدين - قفزةً هامةً في التاريخ بالانتقال من القرى الزراعية إلى حياة المدن، ومر على هذا السهل زمنٌ كانت فيه شبكات القنوات معجزةً من معجزات الري في العالم، مرت عليه قرون وأجيال وأمم لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى: السومريون وهم من أقدم بناة الحضارة في التاريخ كله، ومن العراق انطلقت أول إمبراطورية معروفة في التاريخ، ثم جاء البابليون والآشوريون والكلدانيون وكان الفتح الإسلامي درة عقدٍ في هذا البلد الطيب، فحفظ للإسلام وده ووفاءه وبقاءه، وظلت العراق منطلقاً وعاصمةً للخلافة مئات السنين.
بنيت بغداد في عصر أبي جعفر المنصور؛ لتكون عاصمة الخلافة، وبلغت أوجها في عصر الرشيد، ولذلك كانت تسمى عاصمة الرشيد، كما تسمى دار السلام، والمدورة، والزوراء، وبغداد.(3/2)
التاريخ يعيد نفسه
ففي عام (1258) م انطفأت تلك الشعلة الوهاجة عندما أقبل التتر بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان واستباحوا بغداد، واصطبغت دجلة بلون الدم من كثرة ما ألقي فيها من الجثث كما اصطبغت بلون الحبر من كثرة ما ألقي فيها من الكتب، فكانت نهايةً لمجدٍ وحضارة، واشتعلت الحرائق حتى اعتكر دخانها غيماً أسود عظيماً في سماء بغداد، واغتيلت حضارةٌ من أغنى الحضارات الإنسانية، إنها حضارة الإسلام.(3/3)
توجيهات قرآنية
يقول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] قد يكون هذا الأجل الذي ضربه الله تعالى للأمم -كما يضرب للأفراد آجالاً- انقراضاً وزوالاً واستئصالاً بالكلية، وقد يكون انكماشاً وضعفاً وتراجعاً يحيط بأمةٍ من الأمم أو شعبٍ من الشعوب، والله تعالى كما يقول نبيه عليه الصلاة والسلام: (وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى) فللأمم آجال، كما للأفراد، ولها نهوض، ولها هبوط، ولها شباب، ولها هرم، ولكن هذه الأمة المحمدية تتميز عن الأمم الأخرى بأن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، فهي أمةٌ تمرض ولكنها لا تموت.
ثانياً: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141] .
أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا عز ولا ذل، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار، وكما يقول بعض الشعراء من أولاد الخلفاء: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبةً أو رهبة عظماؤها فلما انقضت أيامنا عصفت بنا شدائد أيامٍ قليل رخاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه الرقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها يقول الأمريكيون: إن هذه نهاية التاريخ كما سطر فوكوياما في كتابه المشهور ونظريته الذائعة، ولعلنا نقول: بل هو تاريخ النهاية.
والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله عن الظالمين المجرمين أهل الغدر والفجر والكفر: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44] كنت أقرأ هذه الآية كثيراً وأتعجب! وأقول: سبحان الله منزل القرآن! كل البشر يعرفون أن لهم نهاية، وأن لهم أجلاً يموتون فيه، فمن هؤلاء الذين أقسموا ما لهم من زوال؟ حتى رأينا بأعيننا هؤلاء القوم الذين غرتهم قوتهم، وغرتهم غطرستهم، وغرهم أمرهم من ربهم تبارك وتعالى، فصاروا يتكلمون عن أن حضارتهم هي نهاية التاريخ، وأن بقاءهم سوف يكون أبدياً أزلياً سرمدياً، فأقسموا ما لهم من زوال، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.
هذه المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هي نتيجة الاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرعوا بالسنن، واكتشفوا واخترعوا وتعلموا وجربوا واتحدوا وتعاونوا حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا في هذه الفترة بحكم العالم تقريباً، فصار العالم أحادي القطب تديره أمريكا وفق مزاجها ونظرها.
انتصارهم -أيها الأخ الكريم! - ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، نعم.
أنا مثلك تماماً حينما أرى خوذة هذا الجندي المتغطرس الأجنبي الغريب في هيئته وسحنته وبزته وقيمه وأخلاقه عن بلادنا وعن تاريخنا وعن أرضنا أرض المجد وأرض التاريخ يأتي من بلدٍ غريب منبت الجذور، ثم يظهر قوته ويضع علمه -أنا مثلك أشعر بالغيظ وأشعر بالمقت، لكنني أدري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعةٍ من التفوقات التي حصلت عليها إدارته في غيبةٍ وغفلة من الأطراف الأخرى، فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فانتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، بل هو انتصارٌ حياتيٌ، علمي، تقنيٌ، اقتصاديٌ، إداريٌ، سياسي، وهو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر وتقابل بالمدافعة.
ولهذا؛ الآية الثالثة قوله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] فإن ما يصنعه الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي عباده من القضاء والقدر لا يمكن أن يكون شراً محضاً، ولا بد أن يكون فيه جوانب من الخير ومن الحكمة، وإن كانت هذه الجوانب قد تخفى على العباد، خصوصاً في أوقات الأزمات، وحينما يستحر الحزن والقلق والكآبة والتوتر في قلوب الناس، لكن المؤمن يظل راضياً مدركاً أن وراء الأمر من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره ما يحمد الناس له العواقب.
رابعاً: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حينما نسمع من المحللين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلم في هذه الدولة الظالمة، وأعتقد أن كل ما يقال عنها فهو جزء قليلٌ مما تستحق، ولكن علينا ألا نغفل أيضاً عن أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكن أن يخفي قبحها شيء لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أتينا من قبل أنفسنا.
وهاهو ربنا تبارك وتعالى يقول للمبشرين بالجنة وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] .
فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة، والدماء نازفة، والآلام حية، قل هو من عند أنفسنا.
علينا أن نعتبر هذه فرصة لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى ربنا تبارك وتعالى عودةً صادقة، توبةً على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.(3/4)
ما بعد الحرب
لقد ذهبت هذه الحرب بالكثير الكثير، ذهبت أولاً بالشعارات الجوفاء التي طالما تحدث عنها هؤلاء الناس، فتكلموا عن الحريات، وعن القوانين الدولية، وعن حقوق الإنسان، وعن العدالة، وعن القيم الأخلاقية، فإذا بهذه الحرب تكشف عن الوجه الأسود الكالح الذي لا يمكن أن يستر ولا يخفى.
أين الشعارات أين المالئون بها الدنيا لَكَم زوّروا التاريخ والكتبا فلا خيول بني حمدان راكضةٌ لهواً ولا المتنبي مالئٌ حلبا وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا رُبَّ حيًّ رخام القبر مسكنه ورُبَّ ميت على أقدامه انتصبا يا بن الوليد ألا سيفٌ تؤجره فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا لقد انكشف الزور، وبانت هذه الشعارات التي طالما ضللت كثيراً من شباب الأمة وشباب العالم، فظنوا أن هذه الحضارة استثناءٌ، وأنها لونٌ ونمطٌ من الحرية للبشر كلهم، وأنها تجردت عن كل المعاني الرديئة، فإذا بها تبين في أكلح وأقبح صورها عدواناً على الآمنين استهدافاً للأبرياء تحدياً للقوانين محاولةً لمصادرة الحقيقة والقضاء عليها، وهكذا انكشف أن الحرية الإعلامية المدعاة، أو الحرية السياسية ليست إلا نوعاً من التسلط، ولكنه ربما يكون أحياناً بألوان من القفَّازات الناعمة، والمظاهر الجميلة، والعبارات المعسولة، وتخفي وراءها ما تخفي.
الكل يعاني نوعاً من التسلط، ربما في كثيرٍ من دول العالم الإسلامي تواجه الشعوب نوعاً من التسلط الواضح المكشوف المباشر، سواءً من خلال الإعلام، أو من خلال مصادرة الرأي والحرية، لكن العالم الغربي وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية بان من خلال هذه الحرب أن شعبها ربما يعاني نوعاً آخر من التسلط، يكون هذا النوع بقدرٍ كبيرٍ جداً من محاولة غسيل عقول الناس، والتأثير على إرادتهم بحيث يتقبلون هذه الأشياء بقناعة، فأنت تعمل ما تريد ما دمت تعمل ما نريد.
ذهبت هذه الحرب بالقوانين الدولية، والمنظمات التي كان الحديث يتم حولها، وتبين أن ما يتحدثون عنه من استقلال الدول أنه ليس إلا هراءً.
فهذه دولٌ مستقلة يتم العدوان عليها لأغراضٍ مختلفة، ويتم غزوها، ويعتبر الذين يدافعون أو يقاومون خارجين على القانون الدولي، مخالفين للأنظمة، يتم اعتقالهم، وأسرهم، وقتلهم، ومحاكمتهم، وضربهم، وتعذيبهم.
أيضاً قوانين الحرب التي تقتضي عدم العدوان على الأبرياء، وعدم العدوان على المؤسسات الإعلامية، نجد أنها ذهبت في دوامة هذه الحرب العمياء الظالمة.
أدعياء الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية يهاجمون الإسلام، ويهاجمون نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتهمونه بالدموية، وبالعنف، وبالإرهاب، بينما نحن نتحدى أن عدد القتلى في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المسلمين وغيرهم لا يمكن أن يقاوم عدد القتلى في يومٍ واحد في هذه الحرب الظالمة فضلاً عما قبلها من الحروب وما قد يكون بعدها.
ذهبت هذه الحرب بالحياد والاستقلال: الاستقلال السياسي، والثقافي، والعسكري، فإننا نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية كما سوف يتبين بعد قليل تحاول أن تفرض نفسها كسلطةٍ عالمية بلا منازع ولا مقاوم.
ذهبت هذه الحرب بالنظام العربي الذي تبين من خلالها أنه نظام مكشوفٌ عاجز، غير قادرٍ على المقاومة ولا على الاستقلال بالقرار والموقف.
ذهبت الحرب ربما بالإدارة الأمريكية التي انغمست في رمالٍ متحركة لا تعرف إلى أين تؤدي بها، ولعل الانتخابات القادمة بعد سنة ونصف أو سنتين تصدق هذا الظن أو تكذبه.
فهل جاءت هذه الحرب لهم بشيء؟ نعم.
لا شك أنها جاءت بمناطق نفوذ ونفط وقوة كبيرة وهيبة في أماكن شتى من العالم.
فيما يتعلق بالنفط مثلاً: فإن الشركات الأمريكية سوف تظفر بحصة الأسد من خلال علاقاتها مع القوى العراقية، ومن خلال دورها الأساسي في الحرب، وسيكون لذلك فائدة إضافية مهمة وهي تدمير ما يسمى بمنظمة أوبك أو تحجيمها عن أن تقوم بأي موقفٍ فيه إضرار بالمصالح الأمريكية.
يقول المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي: إن نجاح الحملة العسكرية على العراق سوف يصب في صالح الأعمال والشركات الأمريكية، ويقول: إن معنى تغيير النظام في العراق هو ضخ ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين برميل نفط يومياً بشكل إضافي إلى سوق النفط، وربما بعد خمس سنوات سيضخ عشرة ملايين برميل يومياً من النفط العراقي إلى أسواق العالم، وسوف تكون حصة الأسد من ذلك للشركات الأمريكية.(3/5)
أثر الحرب على وحدة العراق
ماذا سوف تفعل الحرب بوحدة العراق؟ قد يتخوف الكثيرون أن تتحول العراق إلى دول: كدولةٍ للأكراد، ودولة للشيعة، ودولة للسنة، وهذا لا يبعد أن يكون احتمالاً ولو لم يكن في نظري بالاحتمال القوي.
إن العراق كدولة لا تتعلق بالرئيس مثلاً، ولا بالحزب، فالرئيس العراقي ليس هو تيتو يوغسلافيا الذي جمع رقعاً متفرقة حتى تثور المخاوف من بعده حول وجود العراق من عدمه، وخلال عددٍ من الحالات لم تظهر نزعاتٌ انفصالية جدية إلا عند الأكراد الذي يشكلون حوالي (15-20%) من الشعب العراقي، ومع ذلك فإن الأكراد يفضلون نوعاً من العلاقة مع حكومةٍ مركزية.
نعم.
قد تعم الفوضى في المرحلة الانتقالية كما يسمونها، خصوصاً مع تعارض مصالح الدول المجاورة التي لكل واحدة منها أجندة خاصة فيما يتعلق بالعراق أو بالجزء المتاخم لها، يتضح هذا جلياً مثلاً في إيران وتركيا وغيرها.(3/6)
هل سوف تأتي الحرب بالديمقراطية؟
تستطيع أمريكا أن تلون غزوها كما تشاء، لكن هذا التلوين لا يعدو أن يكون ورقة التوت ليس أكثر، الديمقراطية المزعومة هي ضربٌ من الخيال، ليس لأن العراقيين ألفوا الاستبداد مثلاً، فهم قادرون على تجاوز هذا، لكن لما قد يحدث من الفوضى أولاً، وهذا متوقع بل نحن نراه اليوم في بغداد وفي الموصل وفي البصرة وفي غيرها من مدن العراق، ولأن أمريكا جاءت لتبقى، وليس مهماً عندها شكل الحكام أو نوع الحكم بقدر أهمية ضمان ولاء المقيمين في بغداد لها ولمصالحها.
العراقيون وإن كانوا غير متعاطفين مع النظام السابق، إلا أنهم يكنون كرهاً أكبر لأمريكا، خصوصاً منذ فرضت عليهم الحصار على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة، وقتلت من أطفالهم ما يزيد على مليوني طفل بسبب الأمراض التي لا تجد لها شفاءً، إضافة إلى شعورهم الوطني المعروف، فهم من أول من ثار على الاستعمار البريطاني.
تفيد التقارير الأمريكية أنه سوف يكون على أمريكا نشر ما يزيد على خمسة وسبعين ألف جندي للحفاظ على الاستقرار في العراق على مدى سنة كاملة على أقل تقدير، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى وجود أكثر من خمسة آلاف جندي على مدى خمس سنوات في العراق.
إذاً: الديمقراطية نموذج هش، يمكن أن يوجد منها في العراق ما هو مفصلٌ على وفق المصالح الأمريكية، ما يحقق للناس الحرية الشخصية، وما يحقق لهم المتعة العاجلة، وقدرٌ من المشاركة يضمن استقرار البلد ليس أكثر.(3/7)
ماذا بعد العراق؟
الأهداف المعلنة للحملة الأمريكية على العراق كانت تقول: تدمير الأسلحة والذخائر الكيماوية والبيولوجية، وإسقاط نظام البعث القائم، الذي يرونه تهديداً لجيرانه -لإسرائيل- ولمصالحهم الحيوية، وبالتالي قد يطرحون ما يسمى بالتحول الديمقراطي في العراق على النمط الغربي العلماني كمثلٍ يحتذى لدول الجوار.
وفي تقديري فإن أهم أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في المدى القريب والمتوسط ما بين خمس عشرة إلى عشرين سنة هو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط السياسية، المنطقة الغنية بثرواتها، بالبترول، بالماء، بالزراعة، بالخيرات، والذي ينفرد بأفضل وأخطر مركز بين الأقاليم في العالم، والذي تمثل بعض دوله في تقدير واشنطن بيئةً مناسبةً لنمو التطرف الديني والإرهاب كما يزعمون ويقولون.
والهدف الثاني لهم في ذلك هو: تغيير نظم الحكم في عددٍ من الدول العربية المحورية؛ لإقامة حكوماتٍ حليفة للغرب، وفي نفس الوقت تتمتع بنوعٍ من القوة والنفوذ، وقدرٍ مناسب من التأييد الشعبي، بما يتيح لهم في بضع سنوات مقبلة محاولة تجاوز الأشكال الديمقراطية بدرجةٍ أو بأخرى، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تعتزم الانفراد بحكمٍ عسكريٍ أو مدني مباشر في العراق لفترة معينة، باعتباره دولة بترولية ونفطية، وبما يحمي المصالح الحيوية والأمنية للولايات المتحدة في المنطقة العربية بأسرها، وبما يحقق اتخاذ العراق قاعدة انطلاق لعمليات عسكرية مرجحة في المستقبل المنظور ضد إيران -مثلاً- وضد سوريا، أو ضد بعض الدول المجاورة بما يخدم أمن إسرائيل والتخطيط الأمريكي، لمزيدٍ من السيطرة على الثروات الطبيعية في الخليج، وفي بحر قزوين، وفي آسيا الوسطى الإسلامية، إضافةً إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أراضي العراق وفي بحارها وفي أجوائها، وحرمان القوى الكبرى المنافسة من بناء وتنمية مصالحها في الشرق الأوسط.
الإدارة الأمريكية ترى أنه يمكن الوصول إلى السعودية -مثلاً- أو إلى مصر، أو سوريا، أو لبنان، أو إيران، عبر العراق بسهولةٍ أكثر وكلفةٍ أقل، ويبدو أن هذا من الأهداف الأساسية للحرب؛ فالهجوم على العراق واحتلاله يجعله مركزاً لتخويف إيران وسوريا، ويمكن من خلاله التحرك باتجاه السعودية ودول الخليج؛ لإحداث تغييراتٍ تتوافق مع السياسة الأمريكية.
كما أنه يمكن من خلاله التحرك باتجاه سوريا ولبنان.
السيطرة التامة على كل فلسطين، والقيام بعملية تهجير واسعة ضد الفلسطينيين، وخصوصاً أن قادة اليهود باتوا مقتنعين أن تغييرات جذرية قد حصلت بعد انتفاضة الأقصى، وأدت إلى إسقاط اتفاقية أوسلو، ومن ثم فإنهم يعتقدون أن الظروف بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تغيرت، وأن اتفاقية أوسلو وملحقاتها لم تعد مقبولة.
وبطلبٍ من الإدارة الأمريكية أعد الدكتور ماكس زنقر المختص في تحليل السياسات -وهو مؤسس معهد مشهور، معهد هيدسون للدراسات الاستراتيجية والأمريكية- وثيقة ترسم سيناريوهات محتملة للعالم خلال العقدين المقبلين وأهمها هو: أولاً: أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تقوم بهجماتٍ عدة ضد دول، وربما يؤدي ذلك إلى سقوط حكوماتٍ إسلامية، وستمتلك العراق ومصر وإيران والسعودية في تقديره أسلحةً نووية -طبعاً دعك من العراق الآن- وأن دولاً أخرى ستمتلك أسلحةً بيولوجية تستخدمها في النزاعات فيما بينها، وأن إسرائيل ستظل موجودة إلى ما بعد عشرات السنين، إلا أنها سوف تواجه خطراً كبيراً على وجودها، وقد تتعرض للإبادة بواسطة سلاحٍ إسلامي غير تقليدي يتوافر بكثرة في الشرق الأوسط.
ثانياً: كما يتحدث التقرير أيضاً بتفصيلٍ عن هذا السيناريو، ويقسم الدول الإسلامية إلى قسمين: الدول المؤيدة لما سماه بالإسلام الكفاحي، أو الإسلام المقاوم، والدول المعارضة له.
أما الإسلام الكفاحي الجهادي المقاوم فسوف يسيطر حسب تقديره على الدول العربية، وهي تسعمائة مليون نسمة، وكذلك طبعاً الجاليات الإسلامية في أوروبا وفي أفريقيا، وأما تركيا ووسط آسيا التي تشكل أربعمائة مليون نسمة من العالم الإسلامي، فإنها سوف ترفض هذا اللون من الإسلام كما يتحدث.
تتضمن الوثيقة أيضاً: خطة لمكافحة الإسلام يقسمها إلى عشر مراحل: منها: حل الصراع العربي الصهيوني، وذلك بحل مشكلة اللاجئين من خلال إعادة توطينهم، وهنا نطرح سؤالاً أين؟ الله أعلم! وحظر استخدام الإرهاب، ما هو الإرهاب؟ هذا سؤال أيضاً! دولة فلسطينية ملتزمة بأمن إسرائيل ضمن خارطة الطريق أو غيرها، ويفترض أنه من الممكن العمل على إخضاع الفلسطينيين حتى يخضعوا للحل الذي تريده إسرائيل، ومن هنا فإن المنطقة متجهة إلى مرحلةٍ شديدة السواد وفق هذه السيناريوهات التي ترسمها الإدارة الأمريكية، وتحاول فرضها ليس على العالم الإسلامي فحسب بل على العالم كله، لكن تبقى إرادة الممانعة، والرفض، والإصرار على التغيير، وفرض الوجود قادرةً على إفشال هذه المخططات وعلى البقاء على ساحة الحياة، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] .(3/8)
أسس التقرير الاستراتيجي الأمريكي
ما هي أسس التقرير الاستراتيجي الأمريكي؟ هناك تقرير استراتيجي أمريكي يخرج بين بضع سنوات، وهذا هو التقرير الأخير الذي صدر بعد أحداث أيلول بسنة تقريباً بعنوان: استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، وقد خرج في عشرين أيلول سبتمبر (2002م) .
هذا التقرير الذي يرسم السياسة الأمريكية ماذا ينطوي عليه؟(3/9)
محاربة الإرهاب
الأمر الرابع: محاربة الإرهاب دون أن يحددوا ما المقصود بالإرهاب بالضبط.
فإنهم يمارسون نوعاً من الإرهاب البشري البشع بآلاتهم العسكرية الضخمة، كما نرى ذلك في حق المدنيين وغير المدنيين سواءً في العراق، أو في أفغانستان، أو ما يمارسه اليهود في فلسطين من عمليات إرهابية قاسية ظالمة، لكن هذا كله عندهم له عبارة، وله غطاء من الدفاع عن النفس، ومن المحافظة على الحياة، ومن المحافظة على الحقوق، ومن المحافظة على الحرية، أما ما يقوم به الإسلاميون، وما يقوم به المسلمون فهو الإرهاب بعينه، ولقد قبضوا على يهوديٍ في الولايات المتحدة الأمريكية يسعى ويهم لتفجير مواقع ومؤسسات ومراكز إسلامية، فلم يقيدوا هذه الجريمة على أنها نوعٌ من الإرهاب، وإنما اعتبروها اعتداءً على ممتلكاتٍ خاصة، فهم يتحكمون في تعريف الإرهاب، ويضعونه كما يشاءون، ويرفعونه عمن يشاءون.(3/10)
التدخل في الشئون الداخلية للدول
النقطة الأخيرة: هي التدخل في الشئون الداخلية للدول، وهذا أمرٌ واضح، فربما لربع قرنٍ أو أقل أو أكثر والله تعالى أعلم ستواجه كثيرٌ من الدول الإسلامية ألواناً من التدخل المؤذي في شئونها الخاصة: التدخل في إعلامها التدخل في مناهج التعليم التدخل في المناهج الشرعية والكليات الشرعية التدخل في قضايا المرأة التدخل في قضايا الأقليات كما يسمونها التدخل في الحريات الدينية، حرية العبادة إلى غير ذلك من العبارات التي كثيراً ما تتردد في التقارير التي تصدر مثلاً عن وزارة الخارجية، أو عن منظمات الحقوق، أو عن وزارة الدفاع، أو عن غيرها، وباسم الحرية وباسم السلام يتم هذا التدخل.
بطبيعة الحال لا شك أن الدول الإسلامية كلما أبدت نوعاً من طأطأة الرأس، ومن الاستسلام، ومن القبول بهذا التدخل أغرت هؤلاء بمزيدٍ منه، وكلما استطاعت أن تراهن على شعوبها، وأن توحد صفها، وأن تقاوم وأن تفرض نوعاً من سيادتها على هؤلاء فإنهم يمكن أن يبتعدوا أو يتأخروا.
هناك ما يسمى بمبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والتي أعلنتها وزارة الخارجية الأمريكية قبل بضعة أشهر، ورصدت لها (29) مليون دولار، وربما هذه فقط نفقات الدعاية للمشروع، أما المشروع نفسه فلا شك أنه سوف يستغرق مبالغ ضخمة، ولكن
السؤال
من هو الذي سوف يدفع فاتورة هذه المبالغ؟ الهدف الأساسي مما يسمى بالشراكة الأمريكية الشرق أوسطية هو إلحاق النظم العربية كلها بالمنظومة الأمريكية، بواسطة إرادة مفروضةٍ بقوة السلاح وقوة التهديد، وقاعدتهم تقول: تكلم بلطف واحمل عصا غليظة، وذلك في ظل اختلالٍ واضح للقوى بين العالم الإسلامي ودولة إسرائيل بمفردها.
إن الإدارة الأمريكية بتوجهها النازي المؤيد للتيار الصهيوني المسيحي المتطرف مصرةٌ على التدخل في خصوصيات المسلمين، وعلى ممارسة لونٍ من التغيير في داخل المجتمع الإسلامي على المستوى الثقافي والعلمي والتعليمي والسياسي وغيره، وهذا هو أيضاً نفس مبادرة باول للشرق الأوسط كما أشرت إليها، وفيها عدد من النقاط خلاصتها هو ما سبق ذكره.(3/11)
ضرورة التركيز على الجانب الاقتصادي
يتحدث التقرير بشكلٍ متعاظم عن أهمية الجانب الاقتصادي، وكأنه يقول: إن العالم عبارة عن شركة اقتصادية، وإن الولايات المتحدة الأمريكية هي رئيس هذه الشركة، نعم، إنهم يدركون أن الاتحاد السوفيتي مع أنه كان دولة تملك قوةً عسكرية ضاربة إلا أن الذي هزمه هم والاقتصاد، ولذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تكون ضمن تحالفاتٍ دولية مع قوى اقتصادية وشراكة اقتصادية تضمن لها تفوقاً دائماً.
ثم يخلص إلى أهمية وجود قوات أمريكية في مناطق مختلفة من العالم، ومنها منطقة الخليج لحماية حلفائها وأصدقائها من أي خطرٍ محتمل.
إن آلية العلاقة بين العالم الإسلامي ودوله وبين الولايات المتحدة قد اختلفت اليوم اختلافاً كبيراً في ظل هذا التحول الاستراتيجي الجديد، وهذا يفرض على دول العالم الإسلامي جميعاً -وهو طرفٌ أساس في هذه العلاقة- أن يراجع هو مفاهيمه، وهو بين خيارين لا ثالث لهما: الخيار الأول: أن يرسم لنفسه رؤيةً خاصة صادقة، تقوم على قيمه ومبادئه أولاً، وتقوم على مصالحه ثانياً، وتتكيف مع هذا الواقع المتغير، فإن لم يفعل، فإنه سيظل مكتفياً بالمراقبة والانتظار والتساؤل، ومن الواجب على أي دولةٍ من دول العالم أن يكون لها رؤيتها الخاصة المعبرة عن تطلعاتها ورغبات شعوبها، وعن قيمها ومبادئها، وعن مصالحها وحاضرها ومستقبلها.
فيما يخص العالم الإسلامي فهناك أولاً حماية إسرائيل والتأكيد على تفوقها، وعلى التحالف الاستراتيجي الأمريكي معها.
إن أمريكا ملتزمةٌ بالتحالف مع إسرائيل، وملتزمةٌ أيضاً بضمان التفوق العسكري وغير العسكري لهذه الدولة المسخ دولة إسرائيل، ليس فقط في مواجهة دولةٍ إسلامية؛ بل في مواجهة العالم الإسلامي كله مجتمعاً.
كذلك: إن التقرير يوجه لهجةً رادعة صارمة إلى الدول الإسلامية التي تعارض السياسة الأمريكية بشكلٍ كلي أو جزئي كإيران -مثلاً- أو سوريا، أو السعودية أو غيرها، ويتهم هذه الدول بدعمها للإرهاب، وأن هذا الدعم إذا لم يتراجع فسوف يعرضها لضرباتٍ موجعة.
إن دعم الشعب الفلسطيني يعتبر دعماً للإرهاب إن دعم المقاومة الباسلة هو دعمٌ للإرهاب إن دعم الجمعيات الخيرية هو دعمٌ للإرهاب، بل لست أبالغ إذا قلت: إن إقامة المدارس، والمؤسسات، والمساجد، والأربطة، وجوانب النشاط الإسلامي الخيري كل ذلك هو دعمٌ للإرهاب، والحسابات الأمريكية تقوم بمتابعته ومراقبته ومحاسبة القائمين عليه حساباً دقيقاً.(3/12)
الأخذ بزمام المبادرة بالهجوم: الضربات الاستباقية
يؤكد هذا التقرير أن الرؤيا الجديدة للإدارة الأمريكية لا تقوم على رد الاعتداء، وإنما تأخذ زمام المبادرة بالهجوم على أي طرف يحتمل أن يكون عدواً في المستقبل، حتى ولو من دون دليل، أو من دون أسبابٍ تؤكد نية الاعتداء، وهذا ما يسميه التقرير بالضربات الاستباقية.
إذاً هم يقولون: إنه لا ينبغي لنا أن ننتظر حتى تأتي الضربة أو يأتي العدوان لندفعه، وإنما أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فعلينا أن نقوم بضربات استباقية، ولعل مما يؤكد صدقية هذا التقرير بدايتهم بالعراق، وهم يقولون في التقرير نفسه: إننا نسعى إلى أعمالنا ومشاريعنا ضمن إطارٍ عالميٍ من التحالف، ولكننا مستعدون أيضاً أن نمضي قدماً بمفردنا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك.
وهكذا فعلوا هنا، فهم قد تجاوزوا المنظمات الدولية، وتجاوزوا حلفاء الأمس الذين اجتمعوا معهم على ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وانطلقوا بمفردهم مع حلفائهم البريطانيين في حربٍ منعزلةٍ مفردةٍ حرب استباقية، ليس المقصود بها حماية أمريكا من عدوان العراق، ولكن المقصود منها حماية أمريكا وحلفاء أمريكا والمقصود بهم بالدرجة الأولى اليهود.
إذاً: تقوم أمريكا على أساس نظرة استراتيجية تمارس ضربات استباقية لكل ما يمكن أن يشكل خطراً مستقبلياً، وبناءً على ذلك فهم سوف يقومون بحرمان جميع دول العالم التي لا تنطوي ضمن سياستهم وأهدافهم من الحق في التقدم والتصنيع والتسليح؛ لأنهم سوف يشكلون خطراً عليهم، وهو ما يسمونه عادةً بالدول المارقة كما يتحدثون -مثلاً- عن كوريا الشمالية، أو عن إيران، وقد يتحدثون عن سوريا أو غيرها.
تقدم أمريكا نفسها على أنها شرطي العالم، تراقب، وتحاسب، وتكافئ، وتعاقب، وتمنع من الحصول على التقنية، وتنشر ثقافتها ورؤيتها الخاصة المتعلقة بالحرية المتعلقة بالحرب والسلام المتعلقة بالحقوق والتعليم المتعلقة بالإرهاب المتعلقة بتمويل الجمعيات الخيرية وغيرها، وتفرضها على الحكومات وعلى الشعوب.
يقول هذا التقرير في هذه الاستراتيجية: سنحول المحنة إلى فرصةٍ سانحة.
يعني: إن الأزمة التي مرت بهم بعد (11) سبتمبر سوف يحولونها إلى فرصة؛ ليقوموا باستدراك كثيرٍ من الخلل والنقص والعيب الذي ينتظم سياستهم، وهم يسمون من لا ينطوي تحت لوائهم بأنه مارق أو خارج على القانون، وكيف لا؟! فهم الذين يصنعون القانون، وهم الذين يكتبونه، وهم الذين ينفذونه.
ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها(3/13)
تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي
أولاً: السياسة الأمريكية بشكل عام تستهدف تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي، وفي نفس الوقت يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الأمن والمعيشة، ولذلك يقول أحد الرؤساء الأمريكان - ريجان في تجديد انتخابه-: أيها الأمريكيون! تعالوا لنقيم الجنة على هذه الأرض.
فهذا هو الحلم الذي يسعون إليه، رفاهية في الداخل، وأمن قومي مستتب، إضافةً إلى السيطرة على العالم.
وقد تطورت الأسس التي قامت عليها عبر الأوضاع المحلية والمتغيرات الدولية، ففي البداية -مثلاً- كانت استراتيجيتهم تقوم على العزلة التي عبر عنها الرئيس مونرو حينما رسم خريطة الولايات المتحدة الأمريكية، ورسم حولها أسلاكاً شائكة، ووضع أمامها شعاراً يقول: نحن نرحب بالزائر إذا لم يكن معه بندقية.
معناه: أنهم منعزلون على أنفسهم، ولكنهم يرحبون بالزوار، ومن هنا كانت أمريكا مكاناً لاستقبال المهاجرين من أنحاء العالم.
ثم انتقلت بعد ذلك إلى المرحلة الثانية وهي: المشاركة في صياغة النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وملء الفراغ الذي نجم عن تراجع الدور الأوروبي في العالم الإسلامي وغيره.
ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي الحرب الباردة، واستراتيجيات الأحلاف العسكرية حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.
ونستطيع أن نقول: إن المرحلة الرابعة التي نعيشها هي هذه المرحلة التي يتكلم عنها هذا التقرير الذي أعدته لجان عمل وأوصلته إلى البيت الأبيض، ووزع في ثلاث وعشرين صفحة بالعنوان السابق، وتزامن إعلانه مع مرور عام على أحداث سبتمبر.(3/14)
إمكانية بروز محور عالمي جديد يواجه القوة الأمريكية
ها هنا سؤال: هل يمكن بروز محور عالمي جديد يواجه هذه القوة المستفردة المتغطرسة؟ هذا سؤال يطرحه الكثيرون، وفي تقديري أن هذا هو المتفق مع السنن الإلهية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] فسنة المدافعة قائمةٌ في الغالب، والآن نحن نقول: هناك استفراد أمريكي وإن كنا ندرك أن ثمة قوى لا توافق الإدارة الأمريكية على منطلقاتها، ولكنها لم تصل بعد إلى أن تبلور نفسها وموقفها في قوةٍ واضحة تستطيع أن تواجه طغيان أمريكا وعدوانها.
لماذا لم يبرز حتى الآن محورٌ جديد معارض سواءً في أوروبا، أو في الصين، أو في نمور آسيا، أو في غيرها؟ كثيرٌ من الدول قد تطرح هذا، كما تطرحه روسيا مثلاً، تطرحه من أجل الضغط فقط على الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ليس بشكل جدي وعملي لعدة أسباب: السبب الأول: الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن معظم دول العالم بما فيها الصين -مثلاً- أو أوروبا، أو روسيا أو غيرها مرتبطة مع الولايات المتحدة الأمريكية بشراكة استراتيجية اقتصادية وسياسية يصعب عليها التخلي عنها.
ثانياً: التفوق الأمريكي الساحق في مجال القوة العسكرية، ويكفي أن تعرف -مثلاً- أن ميزانية الدفاع الأمريكية عام (2002م) م -يعني لسنة واحدة- هذه الميزانية تعادل ثلاثمائة وسبعين مليار دولار، بما يعادل الميزانية العسكرية للدول الست الكبرى مجتمعة، وهذا التفوق الهائل في مجال القوة العسكرية فضلاً عن التفوقات في مجال التقنية والاختراع والتسليح يجعل كثيراً من الدول تحجم عن مثل هذا الموقف.
إن دول أوروبا تشعر بأن الهوة بدأت تتسع مع أمريكا، وأن حلف الأطلسي بدأ يتحجم دوره، بل بدأ يفقد دوره، وفي مؤتمر السياسة الأمنية الذي عقد في ميونخ في ألمانيا بدأت بوادر الخلاف بين أمريكا وبين دول أوروبا، مع أن هذا أحد المحاور -أعني به مؤتمر السياسة الأمنية في ميونخ - التي ترسم السياسة العالمية تقريباً، ومع ذلك برز فيه نوعٌ من الخلاف، ولكن
السؤال
متى يتحول هذا الخلاف إلى نوعٍ من المواجهة مع الاستفراد ومع الغطرسة الأمريكية؟(3/15)
ضروريات المرحلة الجديدة(3/16)
ضرورة إيجاد المؤسسات والتجمعات والمبادرات العامة والخاصة
رابعاً: من المهم وجود المؤسسات والتجمعات والمبادرات العامة والخاصة في المجتمعات الإسلامية.
إن البناء -أيها الأخ الكريم! - هو خير تعبيرٍ عن الدفاع، نحن الآن في موقع حرب، وفي أزمة، وفي نازلة، بل قل: في هزيمة، إن البناء هو خير تعبيرٍ عن هذا الدفاع، والحدث أحياناً يصنع لدينا عقلية الدفاع أكثر مما يصنع لدينا عقلية البناء، والواجب أن ندرك أن المطلوب أن نسعى وننهمك في مشاريع إصلاحية بنائية في الدعوة في التعليم في الاقتصاد في الأخلاق في العلم في العمل في كل مجالات الحياة التي نحتاجها.
إن الهزيمة التي منينا بها ليست عسكرية فحسب، وهكذا الإصلاح ينبغي أن يكون إصلاحاً شمولياً في مجالات الحياة كلها.(3/17)
ضرورة إحياء روح الأممية في العالم الإسلامي
خامساً: إن من المهم إحياء روح الأممية في العالم الإسلامي، ما زلت أتذكر عام (1981) م حينما ضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي، وأن كثيراً من الناس من الإسلاميين ومن غير الإسلاميين ربما شعروا بنوعٍ من الراحة والبهجة والاغتباط، وقالوا: هذا السلاح ربما كان خطراً على هذا البلد الإسلامي أو ذاك، وليس خطراً على إسرائيل، ولهذا كان هناك اغتباطٌ بتدميره وسقوطه.
وهانحن نشهد اليوم أن تلك الضربة ربما كانت تمهيداً لما نراه الآن من القضاء على أصل النظام في العراق، ولا أعني النظام الحاكم، لكن النظام الذي يضبط حياة الناس ويمنعهم من الفوضى، ويحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم.
إن ذلك الاغتباط الذي عشناه يوماً من الأيام، أو عاشه البعض بضرب المفاعل النووي العراقي، أو الذي عاشه آخرون بهزيمة الجيوش العربية -مثلاً- أمام دولة إسرائيل؛ لأنهم يقولون: هذه جيوشٌ لدول لو انتصرت لظلت على ما هي عليه، إن هذا ربما يعبر عن قدرٍ من عدم الشعور بالأخوة الأممية الإيمانية بين العالم الإسلامي، والتي توجب أن يحزن المسلم لكل ما يصيب أخاه المسلم، حتى لو وجد خلاف بينك وبينه، أو كان له أجندة خاصة، أو نظام خاص؛ فإن روح الإسلام ينبغي أن تكون أقوى من الفواصل بين المسلمين الفواصل بين الدول بين الشعوب بين الجماعات بين الأحزاب ما دام الإسلام هو المرجع الأساسي لها.(3/18)
ضرورة السعي الجاد في الإعداد بكل صوره وألوانه
سادساً: لدينا إمكانية القوة في العالم الإسلامي، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] .
إن الواجب على العالم الإسلامي اليوم هو السعي الصادق الجاد في الإعداد بكل صوره وألوانه وأشكاله.
(مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) كل القوى مطلوبٌ أن نعدها، نعم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) هذا لونٌ من القوة العسكرية يتعلق بالرمي، ولا شك أننا نرى اليوم أن رمي الصواريخ، ورمي القنابل، ورمي المدافع يشكل أثراً كبيراً في المعركة، وهو الذي يتحكم غالباً في نهاياتها ونتائجها كما رأيناه وشاهدناه في أفغانستان، وكما رأيناه في العراق، وكما رأيناه قبل أيضاً في يوغسلافيا وغيرها.
فالرمي هو أساس القوة العسكرية، لكن علينا أن ندرك أن القوة العسكرية تحتاج إلى قوى كثيرة جداً تكون معها وقبلها وبعدها، القوة العسكرية هي الحماية، وهي الإطار الذي يحفظ العالم الإسلامي، ويحفظ مكاسب المسلمين، وإنجازات المسلمين، لكننا نحتاج إلى قوة علمية نحتاج إلى قوة في الإدارة نحتاج إلى قوة في الاقتصاد نحتاج إلى قوة في التصنيع نحتاج إلى قوة في وحدتنا، فإن الوحدة قوة، والاتحاد قوة، وإن الاختلاف فرقةٌ وعذاب.
ونحن نجد أن عدونا اليوم يتترَّس بقوةٍ هائلة، من خلال أكثر من مائتين وخمسة وثمانين مليون إنسان يشكلون ما يسمى بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال القدرة على توظيف كل القوى والطاقات والأحزاب بمختلف الاتجاهات لدعم وخدمة هذا الكيان المتسلط على العالم اليوم.
خمسون ولاية هي عبارة عن خمسين دولة تقاوم، ولذلك صارت لها هذه القوة، بينما في العالم الإسلامي قد قتل المسلمين أفراداً وجماعاتٍ وشعوباً، ومدناً ودولاً - داء التفرق وداء الاختلاف وداء التطاحن فيما بينهم، وأصبحت ترى أن العدو كما في أفغانستان، وكما في العراق يسهل عليه أن يوظف هذه التناقضات ما بين عرب إلى أكراد، إلى قبائل مختلفة، إلى طوائف أيضاً مختلفة انتماءاتها المذهبية والحزبية والطوائفية، يوظفها في تدمير بعض المسلمين بعضاً، والقضاء على قواتهم وإمكانياتهم، وتوفير قدراته الذاتية.(3/19)
ضرورة استشعار المسئولية الفردية
سابعاً وأخيراً: لا بد من استشعار المسئولية الفردية: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] .
إن علينا مسئولية كبيرةً -أيها الإخوة! - في أفرادنا تجاه بناء الفرد ذاته: نجاحك في مدرستك نجاحك في تعليمك في وظيفتك في أسرتك في بيتك في تفكيرك وعقلك في تعاملك مع الحدث نجاح الأسرة نجاح المؤسسة التجارية الدعوية العلمية الإعلامية.
إن هذه الأشياء كلها من الأمور التي ينبغي أن ندرك أنها ذات أثرٍ كبير.
ينبغي علينا في مثل هذه الظروف -أيها الإخوة! - أن نحيي روحاً من روح الاجتماع في مسئوليتنا الفردية، أن نعقد اجتماعات ومجالس: اجتماعاً في الحي اجتماعاً في المسجد اجتماعاً في المدرسة اجتماعاً على مستوى الأسرة اجتماعاً على مستوى البلد إذا أمكن اجتماعاً على مستوى الجامعة أو المؤسسة، وأن نتدارس قضايانا، وأن نتدارس المخاطر المحدقة بنا، وأن نقرأ، وأن نستمع، وأن نتناقش، وأن نتدرب على روح الحوار والاستماع للآخرين، وتقديم الرأي وتصحيح الرأي، إننا بحاجة إلى أن نصحح أوضاعنا على الصعيد الفردي والجماعي قبل أن تنزل بنا النازلة أو تحل علينا الكارثة.(3/20)
الحذر من التشاؤم واليأس من الإصلاح
ثالثاً: علينا أن نحذر من التشاؤم واليأس من الإصلاح في ظل الظروف التي نعيشها الآن، لنعطي أنفسنا فرصةً بأن نفرح بفضل الله تعالى وبرحمته وبمستقبلٍ منشود وبألوانٍ من الخير، وإن أصابنا همٌ وغمٌ وكآبة من جراء ما نرى ونشهد من التفوق العدواني والتسلط على البلاد الإسلامية.
إن الإمكانية في الإصلاح قائمةٌ الآن، وهي موجودة في أيدينا ووفق رؤيتنا، وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم أن التقرير الاستراتيجي الأمريكي يقول: إن هذه الأزمة التي حصلت هي فرصة سانحة لنا للتغيير واستدراك ألوانٍ من الخلل الموجود لدينا، فعلينا نحن أن نطلق الشعار ذاته، فإنه شعارٌ قرآني: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] يسر من عند الله عز وجل، لا شأن للبشر فيه، لكن ثمة يسرٌ آخر يصنعه الناس، يستخدم فيه الناس قدراتهم وإمكانياتهم وطاقاتهم وما أعطاهم الله عز وجل، لتحويل هذا العسر إلى يسرٍ، ولهذا قال الله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] ، ارغب في العبادة ارغب في السؤال ارغب في الاستعانة بقوته عز وجل ارغب في استخدام ما أقدرك الله عليه.
العالم الإسلامي اليوم يملك قواتٍ لا يستهان بها في العديد البشري في الموقع الجغرافي في الثروات الهائلة الموجودة فيه في موقعه أيضاً فيما يتعلق بالجو في إمكانيات كثيرة وكبيرة يمكن أن يراهن عليها متى ما وجدت إرادة التغيير في العالم الإسلامي.
إذاً: بإمكاننا أن نصنع الإصلاح وفق رؤيتنا الإسلامية الخاصة متى ما وجدت الإرادة لدينا.(3/21)
ألا ننسى بعد هدوء الأحداث أننا فعلاً دخلنا في مرحلة جديدة
أيها الإخوة: نحن أمام مرحلةٍ جديدة، مرحلةٍ صعبة وطويلة، والمهم ألا ننسى بعد هدوء الأحداث أننا فعلاً دخلنا في مرحلةٍ جديدة، وأن لهذه المرحلة تبعاتها ومقتضياتها الواجبة علينا أفراداً ومجموعات وشعوباً وحكومات.(3/22)
أن نعلم أنه ليست جميع الخيوط بأيدي العدو
ثانياً: من الخطأ أن نفترض أن جميع الخيوط هي بأيدي هؤلاء القوم أو أولئك، فإن نهاية الضعف تبدأ منه القوة، وقد رأينا -مثلاً- كيف أن الشعب الفلسطيني بضعفه وتمزقه، وقلة إمكانياته وذات يده استطاع من خلال طفل ومن خلال مقلاع ومن خلال الصخرة أو الحصاة التي يرمي أو الحجر الذي يرمي به عدوه أن يقلب كثيراً من القوى، وكثيراً من الموازين، علينا ألا نظن أن جميع الخيوط بأيديهم، بل بأيدينا خيوط كثيرة، وأعظم خيطٍ في أيدينا هو أن نستمسك بحبل الله عز وجل: فإنه الركن إن خانتك أركان والله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فإن الاستمساك بحبل الله عز وجل، والصدق مع الله تبارك وتعالى، وإرادة التغيير في نفوسنا، جديرةٌ -بإذن الله عز وجل- أن تصنع لنا شيئاً كثيراً في هذه المرحلة الحرجة والخطيرة من تاريخنا.(3/23)
الأسئلة(3/24)
حزب البعث قبل حرب الخليج وبعدها
السؤال
هل البعثيون مسلمون أو لا؟ وكم نسبتهم في العراق؟
الجواب
لا أدري عن نسبتهم في العراق، طبعاً حزب البعث هو الحزب المسيطر في العراق على مدى أربع وعشرين سنة مضت، وحزب البعث في الأصل حزب علماني، يدور في الفلك الشرقي فلك روسيا، الاتحاد السوفيتي السابق.
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانكشاف الاتجاه البعثي والاتجاه الاشتراكي مال كثير من البعثيين إلى البحث في التراث الإسلامي والتاريخ الإسلامي عما يعزز ويقوي وجودهم وحضورهم، ولذلك بدءوا يتجهون إلى لونٍ من الطرح العروبي أو الطرح الإسلامي، ومنهم من تأثر، فقد عرفنا في العراق خلال السنوات التي مضت توجهاً قوياً إلى الإسلام وإلى إقامة دورة علمية وفقهية وتاريخية ولحفظ القرآن الكريم، وكان هناك بوادر طيبة وإيجابية، وربما بعد هذه الأحداث التي صارت كل من سيذهب إلى العراق سوف يلاحظ الآثار الجيدة لما ذكرناه.(3/25)
هل أذهب إلى العراق؟
السؤال
هل أذهب إلى العراق؟
الجواب
الذهاب إلى العراق قد ذكرناه، وقد كتبنا فيه كتابة خاصة -يا أخي الكريم! - يمكنك أن تقرأها: هل أذهب إلى العراق؟(3/26)
معنى كون المسلمين جسداً واحداً
السؤال
في حال عدم خروج الشباب من الدول المجاورة إلى العراق وبقائهم في دولهم، فأين معنى الجسد الواحد؟
الجواب
معنى الجسد الواحد أنت تستطيع أن تساعد إخوانك في أشياء كثيرة جداً: ممكن أن تدعو لهم ممكن أن تنصرهم بقولك ممكن أن تنصرهم بالمال ممكن أن تغيثهم تساعدهم تحسن إليهم، لكن ليس معنى الجسد الواحد أنه إذا قتل منا شخص نقتل جميعاً، وتخلو بلاد الإسلام وتنكشف للأعداء المتربصين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(3/27)
أهمية المسارعة بالانطلاق للدعوة والإغاثة في العراق
السؤال
أنا شاب متدين، وكنت أفكر بالجهاد في العراق، لكن لم يكتب الله لي ذلك، فهل تنصحونني بالذهاب للدعوة والإغاثة؟
الجواب
نعم.
وهذه أيضاً مناسبة جميلة أن ننصح فيها الإخوة بأنه ربما تأتينا فرص في الأيام القريبة القادمة للذهاب إلى العراق: جمعياتنا مؤسساتنا أفرادنا مجموعاتنا للإغاثة للعمل الإنساني للدعوة للتواصل مع هؤلاء الإخوة لرفع المعاناة عنهم، ربما تكون هذه من الفرص السانحة والجميلة والقوية التي نستطيع فيها؛ لأن السبق في هذه الأمور يعطي نتيجته، السبق له أثر كبير نستطيع من خلال ذلك أن نعبر لإخواننا عن تضامننا معهم، ووقوفنا إلى جانبهم، وأن نبني علاقات، ونبدأ في صناعة مستقبل الإسلام، ومستقبل الدعوة من جديد في هذا البلد الطيب.(3/28)
الاهتمام بالمتابعة الفعالة للأحداث والابتعاد عن المشاعر المثبطة
السؤال
ألحظ على الكثير من الزملاء قدراً من الاكتئاب والحزن والقلق مع تتابع أخبار الحرب، مما جعلهم مسمرين إلى الصحف والإذاعات والشاشات في ساعاتٍ طويلة في اليوم والليلة، وقد أفقدهم ذلك القدرة والرغبة في العمل كما جعلهم متقاعسين عن الأعمال المناطة بهم، وأفسد أمزجتهم، فهل من كلمةٍ لهؤلاء؟
الجواب
هذا صحيح، كثير من الناس ربما يقتصر على مجرد مشاهدة الحدث أو التعاطف معه قلبياً ووجدانياً بفرحٍ حيناً، وبألمٍ أحياناً أخرى، بينما قضية العمل، وقضية المشاركة، وقضية المشروع الذي ينبغي على الإنسان أن يقوم عليه مهم جداً، كما أن اعتدال مزاج الإنسان أيضاً مهم، بأن يكون عند الإنسان من الرضا والإيمان بالقدر والقضاء، والنظر إلى جوانب المستقبل لهذا الدين، والنظر إلى الجوانب الإيجابية في كل حدثٍ يقع، يعني: مما يوصى به أحياناً الإنسان أنه حينما يقع لك أنت حادث معين مثلاً، قد يكون حادث سيارة حادث فراق الزوجة فشلاً في أمر تريده أو مشروع، فكر جيداً في سلبيات هذا الأمر الذي فقدته، وفكر في المقابل في إيجابيات الأمر الآخر الذي يمكن أن تعوض به، ومن خلال ذلك يستطيع الإنسان أن يحافظ على هدوئه وعلى استقراره في كل الظروف، وأن يتحول إلى كائن منتج عملي مثمر بنَّاء.(3/29)
وجود مراكز إسلامية تهتم بدراسة الأمريكان وخططهم
السؤال
هل يوجد مراكز إسلامية أو عربية تهتم بدراسة الأمريكان وخططهم وأطروحاتهم ومؤسساتهم، كما يعملون هم تجاهنا؟
الجواب
أعتقد أن هذا موجود، ولكنه قليل، فيوجد في مصر -مثلاً- على سبيل الخصوص، كما في العالم الغربي بعض مراكز الدراسات، كمركز الأهرام وغيره، لها جهود في دراسة الغرب، وفي معرفة القوى المؤثرة في الغرب، واتجاهات السياسة هناك إلخ.(3/30)
ضرورة الإعداد في جميع الجوانب
السؤال
بعد هذا الذي عشناه في دائرة الحدث ألا من صرخة يوجهها العلماء والدعاة والشعوب لتأمين الجبهة، وإعداد الشباب ونبذ الخلاف والتحام الداخل قبل أن نلتحم في الخارج، ففتح مراكز التجنيد أمرٌ مهم ولا بد منه؟
الجواب
نعم.
هذا من الأمور التي طالما دعونا إليها وطالبنا بها، إنه ينبغي أن تفتح مراكز التجنيد للشباب في العالم الإسلامي، وأن يتدرب الشباب على حمل السلاح وعلى الأعمال الاجتماعية والأعمال الإغاثية، والأعمال الخيرية، والأعمال الإصلاحية بشكل عام، وعلى الأخلاق الفاضلة، وعلى الروح الجماعية، وعلى الحوار فيما بينهم، هذه مهمة ومسئولية يجب أن يتم السعي إليها.(3/31)
أهمية وعي الحكومات والشعوب بالخطر المحدق
السؤال
هل من المتوقع أن تعدل وتصلح الحكومات من طريقة إدارتها للأمور وتعاملها مع الشعوب، وكبتها للحريات، وتلاعبها في قضاياه المصيرية، أو المتوقع مزيداً من الخنوع لأمريكا، والسير مع مخططات اللوبي الصهيوني، ومزيداً من القمع للشعوب والتفريط في المكتسبات إن كانت ثمة مكتسبات؟
الجواب
هذا يعتمد على مدى الوعي؛ لأن الخطر المحدق اليوم بالعالم الإسلامي حقيقةً ليس خطراً على أحد دون أحد، ليس خطراً على الشعوب دون الحكومات، ولا على الحكومات دون الشعوب، وقبل صلاة المغرب رأيت تقريراً من مسئول كبير في الدفاع الأمريكي يتكلم عن قضية أن من مهماتنا في المرحلة القادمة تغيير عدد من الحكومات العربية والإسلامية، وقد سموا بعض هذه الحكومات بالنص، وقالوا: إنها حكومات مهترئة وإنها حكومات بائدة ويجب أن تزول.
إذاً: الخطر المحدق بالعالم الإسلامي خطرٌ عام، ولذلك على العالم الإسلامي كافةً أن يدرك هذا الخطر، وأن يتعامل معه بقدرٍ كبير من المسئولية والإحساس.(3/32)
علاقة الرئيس العراقي بأمريكا
السؤال
ألا تعتقد أن الرئيس العراقي هو عميل لأمريكا، وأن هذه لعبة؟
الجواب
طبعاً البعض قد يطرحون مثل هذا الكلام، ولكن على الأقل وجهة نظري الخاصة أن هذا الأمر بعيد، وهذا ربما يكون نوعاً من التفسير بالمؤامرة.(3/33)
ضرورة تفعيل دور الإنسان العادي
السؤال
ألا ترى أن عرض هذه الأهداف الغربية المخيفة على مستوى العامة قد يسبب ردود فعل عكسية تشعر الكسالى بالإحباط، مما يؤدي بهم إلى تثبيط الناس بدعوى أن الأحداث لا حول لنا ولا قوة بها، إلى آخر ما ذكر؟
الجواب
لا.
أنا لا أعتقد هذا، بل أنا أعتقد شيئاً آخر، وهو أن المرحلة القادمة عندنا تتطلب تفعيل دور الإنسان العادي، يعني نحاول أن نقبل من الناس أن يسمعوا وهم يسمعون ويتابعون ويقرءون، لكن بدلاً من أن يكونوا سذجاً في تعاملهم أو تعاطيهم مع الأحداث أن يكون عندهم نوعٌ من الوعي، ومجرد صناعة الوعي عند الناس وفهمهم لما يقع وما يجري سوف يولد عندهم بالتالي قدراً من الإحساس بالمسئولية تجاه أنفسهم، تجاه أولادهم وأسرهم ومجتمعاتهم ودينهم.(3/34)
مدى إمكانية ضرب أمريكا لكوريا الشمالية
السؤال
هل تتوقع أن تضرب أمريكا كوريا الشمالية قبل إنهاء مرحلة الشرق الأوسط؟
الجواب
الله تعالى أعلم، هذه أمور من الصعب أن الإنسان يقول فيها شيئاً، لكن أعتقد أنهم سوف يعطون المحاولات الدبلوماسية نَفَسَاً كبيراً.(3/35)
ضرورة مقاطعة المنتجات الأمريكية
السؤال
الناس يتداولون رسالة بالجوالات يقولون فيها: إن أمريكا خسرت ستة بليون دولار؛ لأننا لم نشترِ من منتجاتها.
الجواب
هذا نموذج يذكرنا بنقطة مهمة جداً في مسألة دورنا وواجبنا، وهي قضية المقاطعة الأمريكية، يعني: توعية الأطفال والعجائز والشباب على مقاطعة البضائع الأمريكية، وعلى كراهية أمريكا، وعلى رفض كل ما هو أمريكي، وعلى التعبير عن ذلك بالقول وبالفعل من خلال الاتصالات التي تبث بالإذاعات أو القنوات الفضائية من خلال مواقع الإنترنت من خلال المقالات من خلال الجلسات من خلال مقاطعة كل ما هو أمريكي، أعتقد أن هذا لونٌ من المقاومة، ولونٌ من الجهاد، ينبغي علينا أن نشيعه وأن نربي الناس عليه.(3/36)
لم تنته الحرب في العراق
السؤال
هل انتهت الحرب في العراق؟
الجواب
لا.
لم تنتهِ بعد، ومن السابق لأوانه أن نقول: إن الحرب انتهت.(3/37)
حكم الظن بأن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة
السؤال
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] قال ابن القيم رحمه الله فيما معناه: إن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة يضمحل معها الحق، من ظن ذلك فقد ظن بالله ظن السوء، وهو ظن الجاهلية.
الجواب
نعم هذا صحيح، وكما ذكرنا {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .(3/38)
مدى تواجد تمثيل لأهل السنة في العراق
السؤال
بعد سقوط بغداد وانفتاح باب المجهول على العراق الحبيب، وفي ضوء تنافس الشيعة والأكراد والأحزاب العربية والعلمانية يكثر السؤال حول أهل السنة ومن سوف يمثلهم، وهل لهم قيادات فكرية وسياسية كما للشيعة؟
الجواب
نعم.
للسنة قيادات فكرية وسياسية، ولكن غالبها خارج العراق، وأعتقد أنه في المرحلة القادمة ربما لا يكون للسنة نفوذ كبير كما سوف يبدو، لعدم وجود تمثيل حقيقي لهم سواءً في الداخل أو في المعارضة أو غيرها.(3/39)
ضرورة التوسط في المشاعر
السؤال
أتينا لنزرع البسمة على شفاهنا ونغرس الأمل في نفوسنا، وإذا بك تزيد الجرح ألماً، مستشهداً بأقوالٍ غربية كثيراً ما أخطأت أهدافها!!
الجواب
الحقيقة من الصعب أن تزرع البسمة في مثل هذه الظروف، البسمة لها وقتها ولها مكانها، والإنسان عليه أن يكون معتدلاً، فلا يبالغ في اليأس والقنوط، لكن من الخطأ أيضاً أن نتحول إلى كائنات أسطورية بعيدة عن الواقع ترى المصاب وترى الألم ثم تشعر بأنها غير مقصودة وغير مستهدفة.
وأما ما ذكرته من أن هناك كثيراً من التقارير الغربية أخطأت أهدافها، فأنا أقول لك الآن: إنني لا أتحدث عن تقارير ولا عن تحليلات، إن ما قلته لك وذكرته هو كلام مقروء من التقرير الاستراتيجي الذي هو منطلق الإدارة والسياسة الأمريكية، فليس مجرد ظن أو تخمين أو احتمال، وإنما هو أساس يحكم على الأقل في هذه المرحلة أهداف الإدارة الأمريكية ومبادئها.(3/40)
مدى تأثير الدوافع الدينية على السياسة الأمريكية
السؤال
ماذا عن نظرية: الطريق إلى القدس يمر ببغداد، وأن احتلال العراق هو مقدمة لإقامة هيكل سليمان؟
الجواب
لقد كتب الكثيرون عن الدوافع الدينية للسياسة الأمريكية، ولم أشأ أن أخوض في هذا الموضوع؛ لأن الناس فيه بين طرفين ووسط كما يقال.
فهناك من يبالغون في تفسير السياسة الأمريكية بدوافع وأبعاد دينية، ونحن نعتقد أن الأمريكيين غير جادين في تدينهم ولا صادقين، وبالتالي فإن الدين هو غطاء أو ديباجة أو خلفية لدوافعهم.
نعم.
هو ليس بعيداً عن دوافعهم وأعمالهم وجزءٌ منها، لكن ليست دوافعهم دينية محضة، وإنما الدين هو أحد المحددات أو المؤثرات في دوافعهم لما يقولون وما يعملون.
فمن يبالغ في تقدير أن دوافعهم دينية محضة وبحتة، ويربط ذلك ببعض النبوءات المذكورة، فهذا في نظري نوع من التطرف.
وهناك طرفٌ آخر يعتبر أن القضية قضية علمانية بحتة، وأنه لا أثر للدين فيها بحال من الأحوال.
وفي ظني أن الوسط هو أن هناك دوافع دينية سواءً كانت بإرادة ووعي وشعور، أو بغير إرادة ولا وعي ولا شعور تؤثر في السياسة الأمريكية.
وعلى سبيل المثال ذكرت للإخوة يوماً مثالاً وهو ما يتعلق بضرب أفغانستان، لو أن المتهمين بأحداث سبتمبر كانوا في إسرائيل مثلاً، باعتبارها دولة ذات علاقة وثيقة ورابط ديني مع الإدارة الأمريكية مثلاً، فهل كان من الممكن أن يتم التعامل بتلك الطريقة: أن هناك اتهاماً مباشراً بغير دليل، ثم هناك تهديدات، ثم هناك فرصة معينة، مهلة يوماً أو يومين أو ثلاثة، ثم تشن الحرب بهذه الطريقة، الكل يقطع بأنه لم يكن الأمر ليكون هكذا لو كان المتهمون في إسرائيل، فهذا يؤكد لك ويبين أن ثمة دوافع دينية تؤثر في الإدارة الأمريكية، لكن ليس الدين هو فقط المؤثر فيها.(3/41)
سبب سقوط بغداد السريع
السؤال
ما تفسيركم لسقوط بغداد بهذه السهولة؟
الجواب
نعم.
لقد فاجأت العراق العالم بمصابرتها وصمودها، كما فاجأت العالم بسقوطها السريع، والقضية لا بد أن فيها سراً معيناً، هل ثمة صفقة تدار في الخفاء، أو ثمة شيءٌ آخر؟ هذا يترك للأيام تكشف عنه.(3/42)
انسحاب أمريكا من الخليج
السؤال
بعد زوال الحكم في العراق، وزوال الخطر عن منطقة الخليج وخصوصاً عن حلفاء الغرب، ألم يحن الوقت للقوات الأمريكية أن تخرج من جزيرة العرب، ومن الخليج؟
الجواب
أعتقد أنه ليس الأمر بالضرورة هكذا، بل ربما هذه الحرب سوف تضمن لأمريكا موقعاً جديداً في أرض العراق نفسها، وقد ذكرت أنه ربما يجلس أكثر من خمسة وسبعين ألف جندي أمريكي في منطقة العراق، وهذا لسنة على الأقل، إضافة إلى أنه إذا قامت حكومة في العراق موالية لأمريكا وهذا هو الوضع الطبيعي فسوف تعقد مع أمريكا وتبرم صفقات كثيرة، ومن ضمنها اتفاقيات الدفاع المشترك، وقواعد أمريكية، فالعراق ليس بالبلد السهل، ولذلك لا أعتقد أن الرحيل عنه سيتم بسهولة، كما أن هذه القوة الهائلة التي دخلت لا أعتقد أنها جاءت لتنصرف بسهولة.(3/43)
الواجب على الشعوب الإسلامية
السؤال
ما هو التوجه الذي تنصح به الشعوب خاصة الإسلامية؟
الجواب
هذا سؤال جيد؛ لأنه يعدل الكفة مع السؤال الآخر، يعني من الخطأ أن نعتبر أن المسئولية في مثل هذه الأزمة هي مسئولية خاصة بحاكم مثلاً، أو خاصة بعالم، أو خاصة بدولة من الدول، هذه مسئوليتنا جميعاً، ومن ذلك مسئولية الشعوب، فالشعوب مجموعة أفراد، ولنفترض أن هؤلاء الإخوة الموجودين الآن يشكلون جزءاً من شعبٍ عربي إسلامي سعودي أو غير سعودي، ومن هنا تأتي المسئولية الفردية التي أشرنا إليها.(3/44)
سبب اهتمام أمريكا بإسرائيل
السؤال
نجد كثيراً من المحللين يجمعون على أن الغرض من هذه الحرب هو أمن إسرائيل، فلماذا كل هذه المحبة لإسرائيل؟
الجواب
إسرائيل تعتبر حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية، وتعتبر هي ممثل المشروع الغربي في المنطقة العربية والإسلامية، ولذلك فهي استثناء، إسرائيل لا تحاسب أو تعاقب على عدوانها على المدنيين، ولا يمكن أن يكون هناك تفتيش لأسلحتها، ولا تساؤل عن وجود أكثر من مائتي رأس نووي عندها، وأسلحة غير تقليدية، بل ربما أسلحة بيولوجية وكيماوية، إنها جزءٌ من الولايات المتحدة الأمريكية، والبعض أحياناً قد يقول العكس، فيقول: إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الواقعة في قبضة إسرائيل، ولا شك أن اليهود الصهاينة متنفذون متغلغلون في مفاصل الإدارة الأمريكية الحاضرة.(3/45)
الواجب على الحكومات
السؤال
يا شيخ! ما واجب الحكومات؟
الجواب
لعلي أشرت إلى طرفٍ من ذلك، ولعلي أيضاً أؤكد على جانب آخر، وهو أن من أوجب ما يجب على الحكومات العربية اليوم بعدما شاهدت هذه التجربة، ورأتها بأم عينيها أن تحرص وأن تراهن على شعوبها، وليس على مددٍ أو دعمٍ من عدوها.
لقد بينت من خلال هذا الكلام أن الاستراتيجية الأمريكية قد تغيرت، فبالأمس كانت تقوم ربما على نوعٍ من المصالح المشتركة، لكن اليوم أصبحت الإدارة الأمريكية تقوم على الاستفراد بالسلطة، وعلى ضرب أي وضع لا يخدم مصالحها ضربات استباقية، فهي من الممكن أن تضرب دولة؛ لأنها تملك سلاحاً يهددها، أو لأن من المحتمل أن تملك سلاحاً يهددها، ولعلك تعرف فيما بعد ماذا سوف يصنعون بالعلماء العراقيين المتخصصين في الأسلحة ذات الدمار الشامل، إضافة إلى أنها قد تضرب دولةً من الدول، أو شعباً من الشعوب؛ لأنه يمكن أن يشكل لها تهديداً في المستقبل، فلن يبقى إلا المراهنة أولاً على الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والتوبة الصادقة إليه بمعناها الكامل، ومن ذلك بطبيعة الحال العودة إلى الشعوب برفع الظلم عنهم وبإعادة الحقوق إليهم، وبتشجيعهم على الفهم الصحيح، وعلى العلم الصحيح، وعلى الحوار الصحيح، وعلى التعبير الراشد عن الرأي ووجهة النظر، إضافة إلى استجماع القوة كما ذكرنا.(3/46)
حكم الذهاب إلى العراق
السؤال
هل يجوز لي أن أذهب إلى العراق؟
الجواب
أين تذهب إلى العراق حفظك الله؟ هذا سؤالٌ متأخر بعد فوات الأوان.(3/47)
إيحاءات العام الجديد
بداية كل عام جديد يستقبل الناس سنة جديدة من حياتهم، ويخلفون وراءهم أخرى، وفي هذه الوقفة على إطلالة عام جديد، ينبغي لكل شخص أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة ليستفيد من هذا الدرس عبراً وفوائد تعينه على المرور في سنته الجديدة.(4/1)
سبب اختيار موضوع إيحاءات العام الجديد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
إخوتي وأحبتي: حيَّا الله هذه الوجوه بالسلام، ومساها الله تعالى بالخير، والحمد لله على اجتماعنا بعد التفرق، فإننا الآن نستأنف هذه الدروس، دروس الأحد العلمية العامة، بعد انقطاع بمناسبة الامتحانات ثم بمناسبة موسم الحج، ولعل من توفيق الله تعالى أن نعيش في هذه الليلة أول ليالي العام الجديد، فإنك حين تقرأ التاريخ في هذه الليلة تجد أنه الأول من الشهر الأول من عام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة.
وفيها ينعقد هذا الدرس وهو الدرس الثالث عشر من الدروس العلمية، وقد فرض عليَّ هذا التاريخ موضوعاً بعينه لن يسعني أن أتجاوزه بحال من الأحوال.
ولا أكتمكم أنني بعد أن جمعت كتبي ومراجعي وأوراقي وبدأت في الإعداد لموضوعٍ سبق أن وعدت به، وجدت أنه من غير المستساغ أن أتجاهل هذه المناسبة الكبيرة ونحن نعقد هذا المجلس في أول ليلة من ليالي هذا العام، بل في أول ليلة في بداية عقد جديد من تاريخ المسلمين.
فقد خلع المسلمون -أفراداً وشعوباً وأمماً- عشر سنوات من أعمارهم وتاريخهم في هذا القرن، وبدءوا يستأنفون عشر سنوات أخرى والله تعالى أعلم ما يكون فيها، ولذلك كان لا بد أن يكون موضوع هذا المجلس هو: إيحاءات العام الجديد.(4/2)
نشأة التاريخ الهجري
وأول إيحاءٍ دعاني إلى التأمل والتفكر فيه هو: قضية التاريخ الهجري وكيف كان.
لقد كان العرب خاصة في زمن الجاهلية ثم المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم تاريخ معين يرجعون إليه، وإنما كانوا ينسبون الأشياء إلى الأحداث القريبة منها، فيقولون -مثلاً-: فلان توفي قبل بدر بسنة، وفلان توفي بعد أحد أو بعد الأحزاب بسنة، وفلان أسلم عام فتح مكة، وفلان قبل ذلك، وفلان ولد قبله أو بعده؛ فكانوا يؤرخون حسب الأحداث الكبيرة التي جرت لهم، ولم يكن لهم تاريخ معين يرجعون إليه، وهكذا كان الحال في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وردحاً من خلافة عمر.(4/3)
محاولات استبدال التاريخ الهجري وحكمه
ومع الأسف أقول: قد بدأ الماء الآسن يتسرب إلى المنبع الصافي، فبدأنا نجد من يحاول أن يفرض التاريخ الميلادي، وإذ كان من الصعب على المسلمين في هذه البلاد أن يتقبلوا التاريخ الميلادي هكذا مكشوفاً عارياً، فإننا قد وجدنا من يحاول أن يبدأ عن طريق ما يسمى بالتاريخ الهجري الشمسي؛ وذلك لأن من ميزة التاريخ الهجري الشمسي أنه يوافق التاريخ الميلادي، بمعنى: أنه منضبط معه، فإذا وضع -مثلاً- بداية معينة كبداية الدراسة، وحددت بتاريخٍ معين على مدار السنين، فهي لا تختلف في التاريخ الميلادي ولا تختلف في التاريخ الهجري الشمسي؛ لكنها في التاريخ الهجري القمري تختلف من سنة لأخرى.
ولذلك كان هذا الاتفاق والتواطؤ بين التاريخ الهجري الشمسي والتاريخ الميلادي، ذريعة عند بعض الضعفاء لجلب التاريخ الميلادي إلى هذه البلاد، ومحاولة نشره وترويجه بين المسلمين، والذي لا أشك فيه: أنه يحرم على المسلمين أن يوقتوا بالتاريخ الميلادي استقلالاً، بحيث يبدءون يعتبرونه دون غيره، ويلغون التاريخ الهجري ولا يعتمدونه ولا يعتبرونه، وذلك لأسباب: أولاً: لأنه خلاف الإجماع كما أسلفت، وهو إجماع رائع ربما يكون من أقوى الإجماعات، فإن العلماء الآن يقول الواحد منهم: أجمع العلماء على كذا، ويذكر لك مسألة قد يكون فيها خلاف يسير، وليس هناك دليل قاطع على الإجماع، لكن في موضوع التاريخ الهجري نتحدى أي إنسان أن يذكر لنا منذ عهد عمر -من يوم اتفق الصحابة على ذلك- إلى عصر الناس هذا خلافاً للمسلمين في اعتبار هذا التاريخ واعتماده والعمل به، ولا يوجد من ذلك شيء إلا بعض التساهل الذي ينتشر عند بعض المسلمين بسبب مجاورتهم لليهود أو للنصارى أو للفرس أو لغيرهم، أما أن يكون تاريخاً معتمداً لدى الأمة الإسلامية فلا، وقد أجمع الصحابة على ذلك فمخالفة إجماعهم لا تجوز.
ثانياً: إن نقل الأمة من التاريخ الهجري القمري، إلى التاريخ الهجري الشمسي أو الميلادي، فيه عزل للأمة عن تاريخها، وعن كتبها، فإذا نسي الناس التاريخ الهجري القمري واعتمدوا التاريخ الشمسي أو التاريخ الميلادي فكيف سيقرءون كتبهم؟ ومعنى ذلك أن الإنسان يحتاج إلى مترجم إذا قرأ كتاب البداية والنهاية لـ ابن كثير أو الكامل لـ ابن الأثير أو تاريخ الطبري أو غيره، ويحتاج أيضاً إذا قرأ كتاباً من كتب الرجال والتراجم وكتب الحديث إلى مترجم يذكر له هذه السنة وما يقابلها، وهذا فيه عزل للأمة عن ماضيها وعن تاريخها، وحيلولة بين الشباب وبين تراثهم وثقافتهم، فهو مثل من يريد أن يشيع اللغة العامية لتكون بديلاً عن اللغة العربية، ويريد أن يجعل في الناس عجمة وجهالة فلا يستطيعون أن يقرءوا كتبهم، ولا يفهموا ما قال علماؤهم، ولا يفهموا كتاب ربهم ولا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن هذا فيه تشبه بالأمم الكافرة، من الرومان الوثنيين المتلبسين بالنصرانية، والفرس واليهود وغيرهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من تشبه بقوم فهو منهم} ولا شك أن التواريخ يرتبط بها أعياد ومناسبات، ويرتبط بها حوادث وعزل وولاية وأشياء كثيرة جداً، فالتواريخ من أعظم الشعارات التي تفاخر بها الأمم وتتعرف بها، ويلتقي بها الحاضر بالغابر.
فالتشبه بهم في التاريخ من أعظم ألوان التشبه وأخطره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} .
رابعاً: إن التاريخ الهجري القمري هو الذي رُتبت عليه المواقيت الشرعية؛ من دخول الأهلة كدخول رمضان وخروجه، وعشر ذي الحجة، ويوم عاشوراء وغيرها من المناسبات، فإنها مبنية على أساس رؤية الهلال وعلى أساس التاريخ الهجري القمري لا غيره.
فلذلك لا يجوز بحالٍ من الأحوال استبداله بغيره، ونقول لمن يريد عنه بديلاً: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] .
وهذه الوقفة أعتبر أنها وقفة مهمة جداً؛ لأن كثيراً من الناس تنطلي عليهم مثل هذه الأشياء، وقد لا يدركون هذه المحاولة الخطرة التي يحاولها البعض، وإن كان مما يجب أن يقال في هذه المناسبة يشكر للجهات المختصة أنها أصدرت أمراً باعتماد التاريخ الهجري القمري في جميع المناسبات، وهذا فيه قضاء على هذه المحاولات اليائسة من بعض المضللين.
ومن أراد المزيد من الدراسة في موضوع التاريخ وبداية التاريخ وما يتعلق به، وهي بحوث نفيسة مهمة كنت كتبت فيها بحيثاً صغيراً، لكنني بحثت عنه خلال إعدادي لهذا الدرس فلم يقع في يدي، فبإمكانه الرجوع إلى عدد من الكتب أذكر منها كتاب: المختصر في علم التاريخ؛ وهو كتيب مختصر صغير مفيد للكافيدي، وكتاب: الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للإمام السخاوي، وكتاب: مفتاح السعادة للشيخ طاش كبرى زاده من شيوخ العثمانيين، وكذلك كتاب: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي مادة أرخ، وكتاب: الخطط المقريزية للمقريزي، وغيرها من الكتب.(4/4)
سبب تحديد بداية التاريخ بالهجرة النبوية
وذلك لأسباب: أولاً: لأن الهجرة لم يُختلف في تاريخها، بخلاف المبعث والمولد فقد اختلف فيها العلماء، فإن مولد النبي صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد لا يومه ولا شهره بل ولا سنته، وهذا أكبر رد يوجه للذين يحتفلون بالمولد النبوي، وهو أن نقول: حددوا لنا أولاً متى المولد قبل أن تحتفلوا به، فالمهم أن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد، لا يومه ولا شهره بل ولا سنته.
وكذلك مبعثه صلى الله عليه وسلم فيه اختلاف، أما هجرته عليه الصلاة والسلام فلا يكاد يختلف الناس في أنها كانت في ربيع الأول، ويحددونها باليوم الثامن أو قريباً من ذلك، فرأوا أن التحديد بالهجرة أنسب لأنه متفق عليه.
وهنا يأتي
السؤال
لماذا لم يحددوا التاريخ من وفاته عليه الصلاة والسلام؟ مع أن وفاته عليه الصلاة والسلام كانت معروفة مضبوطة؛ لأنها كانت بحضور أصحابه، وكلهم يعرفون أي يوم بل أي ساعة لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الطاهرة، فالسؤال لماذا لم يبدأ التاريخ منذ وفاته عليه الصلاة والسلام؟ لم يحددوا بالوفاة لأنه لم يكن من اللائق ولا من المناسب أن يبدأ التاريخ بحدث كهذا؛ لأنه من الأحداث الأليمة التي تحزن لها النفوس وتنقبض لها القلوب، ويكره الناس أمرها وتذكرها، فكرهوا أن يبدأ التاريخ بها، ولهذا فإن السبب الثاني في أنهم حددوا بداية التاريخ بالهجرة: أن الهجرة كانت بداية خير ونصر للمسلمين، حيث انتقلوا فيها من الذل إلى العز، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، وبدءوا حركة الفتوح والجهاد والمغازي، فكانت الهجرة حدثاً عظيماً في تاريخ المسلمين، وكان من المناسب أن يبدأ التاريخ الهجري بهذا الحدث العظيم.
لقد حدثت الهجرة في ربيع الأول، ولذلك قال المسلمون: نبدأ السنة من أولها من شهر المحرم، لأنه أول السنة، فقالوا: نعتبر السنة الأولى من الهجرة، ولا نبدأ من ربيع الأول وإنما من المحرم، وعلى هذا جرى أكثر العلماء والمؤرخين، ومنهم من يبدأ السنة بربيع الأول، ولعل الحافظ ابن كثير رحمه الله جرى على هذا، لكن أكثر العلماء والمؤرخين جروا على اعتبار بداية السنة من محرم.
وكان أول يوم في السنة هو يوم الخميس أو يوم الجمعة، كما ذكره الكافيدي في كتابه المختصر في علم التاريخ وغيره.
وكان بداية اعتماد المسلمين للتاريخ في السنة السابعة عشرة للهجرة، في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فمنذ ذلك الحين بدءوا اعتبار التاريخ، كما يقولون بلغة العصر الحاضر: بأثر رجعي، فقالوا: أول سنة نزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة نعتبرها السنة الأولى، ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا، فبدءوا يحسبون منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت السنوات التي يحسبون بها سنوات قمرية وليست شمسية، والسنة القمرية تعتمد على بزوغ الهلال، فيكون الشهر فيها تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً، وهي بلا شك أقصر من السنوات الشمسية، فاعتمد المسلمون على السنوات القمرية، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا} إلى غير ذلك من النصوص التي دلت المسلمين على أنه ينبغي أن يعتبروا رؤية الهلال في خروج الشهر ودخوله.
ولذلك أقول -أيها الأحبة-: لقد أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والأمة كلها من ورائهم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان على اعتبار التاريخ الهجري لا الميلادي؛ لا ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ميلاد عيسى، ولا ميلاد غيرهم من الأنبياء، ولا على غير ذلك من الحوادث، بل على اعتبار التاريخ الهجري، فكان ذلك إجماعاً رائعاً صحيحاً ثابتاً مستقراً، ومن المحال أن يأتي إنسان بما ينقض هذا الإجماع بأي صورة وبأي شكل.
وكذلك أجمعوا إجماعاً آخر لا شك فيه على اعتبار الشهور والسنوات القمرية لا الشمسية؛ أما السنوات الشمسية فكان الرومان هم الذين يؤرخون بها ويستخدمونها -وهي كما قلت- أطول.
ولذلك قد تجد السنة ألفاً وأربعمائة وعشرة للهجرة، بالتاريخ الهجري القمري، لكنك لو نظرت إليها في التاريخ الشمسي لو جدت وهذا غير مقصود به التاريخ الهجري الشمسي أنها ألف وثلاثمائة وحوالي السبعين أو زيادة على السبعين أو قريباً من ذلك.
المهم أن التاريخ الهجري القمري هو المعتمد في الإسلام، ولذلك نعلم أنه لا يجوز لأحدٍ أن يؤرخ بالتاريخ الميلادي على سبيل الاستقلال، ومع الأسف أن هذا هو الموجود في جميع البلاد الإسلامية باستثناء هذه البلاد، ففيما أعلم أن جميع البلاد الإسلامية تؤرخ بالتاريخ الميلادي، إما استقلالاً أو تذكر معه التاريخ الهجري تبعاً، ففي بعض الأمصار لا يعرفون إلا التاريخ بالميلاد؛ والميلاد المقصود به ميلاد المسيح عليه السلام، فهذا أيضاً غير معروف ولا محدد، ولا يمكن القطع به ولا الجزم به، وهو تاريخ وثني غير إسلامي؛ بل هو تاريخ نصراني أُثر عن الأمم الكافرة غير المؤمنة، التي اتخذت من عيسى عليه السلام إلهاً من دون الله عز وجل.
وفي بعض البلاد الأخرى يؤرخون بالتاريخ الميلادي ويذكرون بعده التاريخ الهجري، فيقولون مثلاً: هذا العام (1990م) الموافق (1410هـ) ، فيبدءون بالتاريخ الميلادي ويعتبرونه أصلاً، ثم يذكرون ما يوافقه من التاريخ الهجري، وهذا لا شك فيه مضاهاة للأمم الكافرة المشركة بالله عز وجل.(4/5)
سبب نشأته
ثم حدثت حادثة في عهد عمر رضي الله عنه؛ استدعت أن يفكر المسلمون في قضية التاريخ من جديد، وهذه الحادثة اختلف الرواة في صياغتها، فمنهم من يقول: إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: [[إنه يأتينا من أمير المؤمنين صكوك وكتابات، فيها أن هذا محله في شعبان، فلا ندري أي الشعبان؛ أشعبان الماضي أم شعبان الآتي؟!]] وفي بعض الروايات على العكس من ذلك، وهو أن أبا موسى الأشعري وغيره من العمال والأمراء كانوا يكتبون إلى عمر رضي الله عنه بالكتب، ويؤرخونها بالشهور، فربما تأخر وصولها في البريد؛ لأنه لم يكن الناس كما هو عهدهم اليوم، من البريد بالطائرات وغيرها، فلم يكن يعرف المسلمون البريد إلا على الخيل والإبل، فربما مكث الكتاب في البريد شهراً أو أسبوعاً، وربما مكث أطول من ذلك.
فجاء كتابٌ إلى عمر من أبي موسى رضي الله عنه، فكان عمر يقلبه ويقول: شعبان أي شعبان؟! أشعبان الماضي أم شعبان الآتي؟! ومن حينئذٍ بدأ عمر يفكر ويستشير المسلمين في قضية التاريخ، فأشار عليه الهرمزان الفارسي بالتاريخ الفارسي، وقال: إن الفرس لهم تاريخ يؤرخون به، فلو أخذتم به، فكرهه المسلمون، فأشار بعض من حضر من مسلمي اليهود بالتاريخ اليهودي، وكانوا ينسبونه إلى الإسكندر أو غيره، فقالوا: لو أخذت بالتاريخ اليهودي فكره ذلك المسلمون، ثم تشاوروا بم يأخذون؟ فاتفقوا وأجمعوا إجماعاً لا تردد فيه ولا خلاف على أن يبدأ التاريخ منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.(4/6)
نظرة وداع إلى العقد الماضي
ننتقل بعد ذلك إلى إيحاء آخر من إيحاءات هذه الليلة المباركة وهذا العام الجديد، وهذا العقد الجديد من القرن الخامس عشر، وهي نظرة وداعٍ إلى السنة الماضية بل إلى العقد الماضي.
فمن نظر إلى سنة قد طواها وتعداها وتركها وراء ظهره، بل إلى عقدٍ بأكمله قد تخطاه وأصبح مجرد ذكرى تمر في خاطره فإنه يكثر من ذلك عجباً، أعطوني -بالله عليكم- ماذا بقي لنا وماذا بقي بأيدينا، لا أقول من سنة مضت أو من عقد مضى، بل من عُمُرٍ مضى، من عاش منا معاشاً ينظر ماذا بقي في يده من عمره الماضي كله، إنه ينظر فلا يرى شيئاً.(4/7)
أعظم نتيجة إيجابية تحققت خلال العقد الماضي
وهنا -أيضاً- وقفة لا أريد أن أتجاوزها: وهي إذا كان الكلام الذي ذكرته فيما يتعلق بالأفراد، فلننظر فيما يتعلق بالأمة الإسلامية على مدى عشر سنوات مضت فقط، ماذا حققت الأمة الإسلامية وماذا تحقق لها؟ وأريد أن أشير إلى نتائج إيجابية، فأعظم نتيجة إيجابية تحققت للأمة خلال عشر سنوات مضت هي قضية الصحوة الإسلامية، التي أصبحت واقعاً وحقيقة لا يمكن أن يتجاهلها أحد، وقد رأينا أحوال المسلمين في بلاد شتى، فلا تجد بلداً إلا وتجد الصحوة فيه، كالإنسان الذي قعد سنيناً طويلة مريضاً، ثم كتب الله تعالى له العافية فبرئ وقام، وأصبح يحاول أن يغير كثيراً.
وقد مررنا في بعض البلاد غير الإسلامية، بحي من الأحياء التي للمسلمين، فأصبحنا نتلفت فنجد مكتبة السلام، مكتبة النور، دار المعرفة، دار العلم، مكتبات بلا عدد، ثم تجد محلات التسجيل الإسلامية؛ فتجد التسجيلات والأشرطة، ثم تنظر فتجد المطاعم الإسلامية؛ فتجد اللحم الحلال والذبح على الطريقة الشرعية، فتساءلنا وقلنا سبحان الله! هذا شيء طيب.
فقال لنا بعض الإخوة: لو أتيتم قبل خمس سنوات لما رأيتم من ذلك شيئاً، فلم يكن في هذا المكان إلا أماكن للدعارة والبغاء وبارات الخمور وأماكن الفساد واللهو الحرام، ولا تكاد تجد مكتبة ولا مطعماً إسلامياً ولا محلاً لتسجيل الأشرطة الإسلامية، لكن هذا نورٌ أفاضه الله تبارك وتعالى على عباده، فأشرق عليهم بعد ظلام.
فهذه الصحوة -الآن- أصبحت صحوة عارمة عامة طامة في كل مكان ولله الحمد، وهذا نصر تحقق خلال عشر سنوات، لكن يجب أن نقول بعد ذلك: على مدى عشر سنوات قادمة يا ترى ما الذي يجب أن نفعله؟ بل ما الذي يجب أن تحققه هذه الصحوة الإسلامية؟ ومن البشائر -أيضاً- والنتائج الإيجابية: أن الإسلام أصبح شيئاً عظيماً لا يهم حتى أعداء الدين بالنيل منه، فالذين كانوا بالأمس من الشيوعيين وأعداء الدين يسبون -أحياناً- الإسلام، وقد يسبون الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يسبون رب العزة جل وعلا، غيروا لهجتهم وأصبحوا لا يستطيعون -الآن- أن يقولوا هذا، بل قد يسبون العلماء أو الدعاة، أو ينالون من المصلحين، ولا يستطيعون أن يتجرءوا على النيل من الدين، بل ينالون من أهل الدين، وهذا دليل على أن الدين أصبح له عزة وقوة.
شيء آخر: بعض اليساريين وأعداء الدين، الذين كانوا بالأمس -وإن تمسحوا بالإسلام، أو كتبوا عن الدين للتجديد وقد قرأت لبعض هؤلاء- كانوا بالأمس يقولون: إن الإسلام لا يصلح أن يحكم في الواقع؛ لأن الدنيا تغيرت والأمور اختلفت.
والآن تغيرت اللهجة وأصبحوا مقتنعين بأنه لا بد أن يحكم الإسلام بلاد الإسلام.
فأوجدنا -بحمد الله- على مدى عشر سنين وأكثر، قناعة عند الناس بأن الإسلام دين هذه الأمة، وهو الذي يجب أن يحكمها في جليل الأمور وحقيرها وصغيرها وكبيرها، وقد اعترف بذلك حتى الذين كانوا بالأمس يرفعون شعار العلمانية، أو الماركسية، أو القومية، أو البعثية، أو الناصرية، أو غيرها من الشعارات الدخيلة على هذه الأمة، فأصبحوا يعترفون الآن -إن صدقاً وإما على سبيل أنهم يركبون الموجة- بأنه لا بد من الإسلام، وهذا مكسب عظيم.
إذن لا بد أن ننتقل الآن إلى مسألة أنه لا بد أن يستقر الإسلام في واقع الأمة الإسلامية في كل صعيد؛ فيجب أن يستقر الإسلام في مجال الاقتصاد ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الصحة والطب ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في العلوم الاجتماعية ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال التعليم ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الإعلام ويتخصص لذلك أهله، ثم يكون هناك التعليم الشرعي الصحيح الذي يخرج لنا العلماء والفقهاء الذين يرعون المسيرة ويضبطونها.(4/8)
أصناف الأعمال الماضية
وأعمالنا التي عملناها في الماضي لا تتعدى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: أمور عصينا الله تبارك وتعالى فيها، واستجبنا لداعي الشهوة والهوى، وهذه الأشياء ذهبت لذاتها وفرحتها وسرورها وبقي ألمها وعذابها، يقول الشاعر لولده: إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل فاللذة ذهبت، لكن بقي الإثم ينتظره الإنسان يوم يلقى ربه، موفوراً في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبقيت -أيضاً- آلام المعصية يقاسيها الإنسان في الدنيا، وآلام المعصية كثيرة، منها: ألم في القلب على مخالفة أمر الرب جل وعلا.
ومنها: ألم قد يجده الإنسان في الواقع؛ فإن المعصية يتبعها ذل وفضيحة وعقاب؛ إما بالضرب في السجن والتوبيخ، أو بالقتل أو بغير ذلك من العقوبات، فبقيت آلام المعصية وعقوباتها الدنيوية والأخروية وذهبت لذتها حتى كأن لم تكن.
الصنف الثاني: طاعات أطعنا الله تعالى فيها، وعصينا فيها الشيطان وداعي الهوى والشهوة، فهذه الطاعات، من صلاة وقيام ليل وصيام وظمأ الهواجر ونفقة وغير ذلك؛ ذهب ألمها وتعبها وإجهادها، وبقي سرورها وحبورها ونورها في قلوب من فعلوها، وبقي برها وذخرها وأجرها عند الله تبارك وتعالى يلقاه يوم يلقاه قال الله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] ويكفي من سرور الطاعة ما يحس به الإنسان من الانتصار على الهوى والشهوة وطاعة الله عز وجل، فيورث الله في قلبه من السرور مالا يعرفه إلا من جربه وذاقه وقارن بين ذل المعصية وعز الطاعة.
يقول بعض الصالحين: إنَّا لفي عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله إنه لتمر ساعات يرقص القلب فيها طرباً من طاعة الله عز وجل، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب.
ويقول رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
وهو يعني بذلك: السرور بمناجاة الله تعالى والقرب منه ودعائه وذكره واستغفاره، فيكفي هذا من ثمرة الطاعة.
الصنف الثالث من أعمالنا التي عملناها فيما مضى: أعمال الدنيا التي نقاسيها، من طلب الرزق والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأعمال الدنيوية، وهذه الأعمال منها ما لا بد للإنسان منه؛ فهذا لا يلام عليه وإن أحسن قصده فيه كان له به أجرٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة إلى قوله: وفي بضع أحدكم صدقة.
قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} رواه مسلم.
ومن هذه الأعمال الدنيوية مالا حاجة للإنسان به، فوا عجباً من إنسان يكدح ليله ونهاره في جمع أموالٍ، يعلم أنه لو أكل بكل ما يستطيع وأنفق بكل ما يستطيع لم يكد يأتي على آخرها! فهل كل هذا الجهد الذي يبذله الإنسان حباً في أولاده من بعده، حتى أصبح حب أولاده وورثته من بعده أشد وأعظم من حبه لنفسه؟! كلا! والله ليس الأمر كذلك، بل إننا نجد ممن يجهدون في جمع الأموال من يكون الواحد منهم عقيماً لا وارث له.
ومن الغرائب والعجائب التي نسمعها من أخبار الأمم الكافرة: أن امرأة غنية ثرية ماتت في أمريكا أو غيرها، وخلفت وراءها أموالاً طائلة هائلة، فلما فتحوا وصيتها وجدوا أنها قد أوصت بهذه الأموال الطائلة إلى قطتها الأثيرة الحبيبة لديها، ووالله إنك تنظر في حال كثير من كبار الأثرياء والأغنياء الذين وسع الله عليهم بالمال، فلا تجد لهم فضلاً إلا فضل الشهادة؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فالعقول متقاربة، فإن هذا الإنسان الذي يجمع الأموال الطائلة ويبخل بها حتى على نفسه لا عقل له، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] .
فواعجباً ممن يتعب في جمع هذه الأموال، ويقضي فيها ليله ونهاره، مع أنه يرى أن هذه الأيام والليالي كل يوم تنقله مرحلة إلى القبر وتقربه منه، وتبعده عن العمل الصالح وتحول بينه وبينه، ثم واعجباً من ذلك!! هذا فضلاً عما يفعله كثيرٌ من أولئك من ارتكاب الحرام في جمع الأموال وجمع الحطام؛ من أكل الربا وأكل أموال اليتامى، ومن الغش والخيانة والزور والكذب إلى غير ذلك من الوسائل، وليس الكلام فقط عن أصحاب الأموال، بل أنت تجد مثل ذلك في أصحاب الوظائف الذين يتوسلون إلى الوصول إلى المناصب بكافة الوسائل المحرمة، وفي أصحاب الدنيا بأصنافهم وألوانهم.
فلا بد -أيها الإخوة- من وقفة تأمل عند نهاية هذا العام، يتذكر فيها الإنسان أن الله عز وجل حينما قسم الدنيا إلى قرون، وقسم القرن إلى سنين، وقسم السنين إلى شهور، والشهر إلى أسابيع، والأسبوع إلى أيام، واليوم إلى ساعات، والساعة إلى دقائق، والدقيقة إلى ثوان ولحظات، أن يتذكر الإنسان أن الله عز وجل جعل لكل مناسبة وظائف، فيأتي الإنسان مناسبة شهر رمضان ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة أيام الحج والعشر، ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة بداية العام وشهر المحرم، ثم إذا خرج جاءته مناسبة وهكذا، حتى يتذكر الإنسان ويستدرك ويأخذ من يومه لأمسه، كما قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] أي: إذا فات الإنسان عمل الليل استدركه بالنهار، وإذا فات الإنسان عمل النهار استدركه بالليل، ولذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا غلبه عن صلاة الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة} صلاها في الضحى، فيستدرك ما فاته بالليل في النهار.
وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {من نام عن حزبه بالليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل} قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] ، ويقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12] وهي القمر {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة} [الإسراء:12] وهي الشمس: {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] .
فإن من الحكمة في تقسيم السنين والشهور والأيام: معرفة الحوادث وعدد السنين والحساب، وابتغاء الفضل من الله عز وجل، وتذكر ما مضى، وأن يعي العاقل فيستدرك، ويأخذ مما بقي لما مضى.(4/9)
مشكلة إلقاء اللوم على الدهر
إيحاء ثالث في مطلع هذا العام الجديد وهذا العقد الجديد، ألا وهو: ماذا يقول الناس في مثل هذه المناسبات؟ أكثر ما يتحدث الناس به أنهم يلوون ويقلبون رؤوسهم ويقولون: سبحان الله! ما أسرع الأيام والليالي! ثم بعد ذلك تجد طائفة كبيرة منهم ينحون باللائمة والسب على الدهر.
يقول الإمام ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، وهو كتاب مفيد نفيس، ينبغي لطالب العلم أن يقرأه ويتأمله ويحذر ما فيه من السقطات، فإن الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في هذا الكتاب نَقدَ في ثلاثة مواضع أو أكثر من يسميهم بالمشبهة، وكأني به يقصد بذلك أهل السنة والجماعة، فغفر الله تبارك وتعالى لنا وله وتجاوز عنا وعنه، لكن الكتاب في الجملة كتاب مفيد، وفيه عبر وعظات، يقول في هذا الكتاب: ما رأت عيني مصيبة نزلت في الخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} وفي الحديث الآخر -الحديث القدسي- يقول الله عز وجل: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر} يقول ابن الجوزي: ومعناه: أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهليكم وتنسبونه إلى الدهر، والله تعالى هو الفاعل لذلك كله، حتى رأيت الحريري أبا القاسم يقول: ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى عن الرشد في أنحائه ومقاصده تعاميت حتى قيل عني أخو عمى ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده فانظر كيف أخطأ الحريري فنسب الدهر إلى العمى، ونسب إليه الأحداث والأعمال، وإن الله تعالى هو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي يفعل ما يشاء ويختار.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقد نهجوا الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا أما هذه الشمس التي تطلع علينا فوالله الذي لا إله غيره إنها هي الشمس التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، بل هي الشمس التي طلعت على آدم وموسى وعيسى وهارون وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا الليل الذي يظلنا هو الليل الذي أظلهم وأظلم علينا، وهذا النهار هو نهارهم.
أما الديار فإنها كديارهم وأرى نساء الحي غير نسائها الذي اختلف هو الإنسان فنحن الذين تغيرنا، ولهذا عاد اللوم علينا كما قال الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا نحن المعيبون والملومون، والزمان لا ذنب له في ذلك، فالناس هم الذين يفعلون الأحداث، حتى العادات التي تنتشر في عصر أو بيئة إنما يصنعها الناس، وأحياناً تجد الإنسان يفعل شيئاً ويقول: هذه عادة لا أستطيع أن أتركها.
وهذه العادة من الذي أوجدها؟ ومن الذي جعلها عادة؟ فما الذي أوجدها أنا وأنت وفلان وفلان فالعادة هي ما اعتاده الناس، وأخذوا عليه، فالناس هم الذين يصنعون عاداتهم وتقاليدهم وينشرونها فيما بينهم.(4/10)
حقيقة سير الإنسان في هذه الدنيا
الإيحاء الرابع الذي يتذكره الإنسان في مثل هذه المناسبة: هو أنه يتنبه إلى أن الذي أخذ من عمره ما أخذ، إنه يباعده عن العمل ويقربه من الأجل.
فإن هذه الأيام والليالي مراحل لا تزال بالإنسان حتى تورده القبر، قال الحسن البصري رحمه الله: ما من يوم ينشق فجره إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
هذا هو حقيقة ما تقوله الأيام والليالي.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها فإن الإنسان يتذكر في هذه المناسبة وجوب الاستعداد للموت، وتذكر القبر والبلاء وألا يغفل الإنسان: كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح بعدك والقبر فإن من مضى، أخبارهم في الكتب والدواوين وعلى أفواه الرجال، أما من تراهم وتعاينهم فهم بين عينيك، يوماً بعد يوم يفقد الناس راحلاً إلى القبر، قد انقضت أيامه وتصرمت ساعاته وأعوامه، وانقضى أجله وارتهن بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وهذا يذكر بقضية طول الأمل، يقول الله عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: {لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: حب الدنيا، وطول الأمل} وهذا من العجب فإن الإنسان يكبر ويكبر معه أمله، وإنك لتعجب -أحياناً- أن تجد شيخاً بلغ التسعين فتجد أنه قد عقد آمالاً عراضاً! مع أنك قد لا تعجب من شاب في سن العشرين، وإن كان هذا عجباً في الواقع، لأن هذا الشاب في سن العشرين ليس معه صك أنه سيعيش كذا وكذا من السنين، وهو يرى من زملائه وإخوانه من تخرمته المنايا وانتهى في سن الشاب، وكما ذكر أبو الحسن التهامي حين كان يرثي ولده: شيئان ينقشعان أول وهلة ذل الشباب وصحبة الأشرار يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفيرٍ هار فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار حتى ابن العشرين ما يدري لعل هذه ليلة لا يدركه صباحها، أو يوم لا يدركه مساؤه! بل رب ساعة لا يدركها! ورب نفس يخرج ولا يدخل، أو يدخل ولا يخرج! فهذا هو كل ما في الأمر.
لكن قد تقول: الشباب يغتر بشبابه، واسوداد شعره وحيويته وقوته ونشاطه وإقبال الدنيا عليه، لكن تعجب من شيخ بلغ الستين أو السبعين أو الثمانين وربما التسعين، ومع ذلك يعقد الآمال العراض، فهو يشتغل في المزرعة ويبني العمارة ويجمع الأموال والدور ويبني القصور: يؤمل آمالاً ويرجو نتاجها وأرى وعلَّ الردى مما يرجيه أقربا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه، وقد صعد على درج مسجد دمشق فقال: [[يا أهل دمشق! ألا تسمعون من أخ لكم محب ناصح مشفق؟! إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويؤملون بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً وبنيانهم قبوراً، وأملهم غروراً.
هذه عاد التي ملئت البلاد، وأكثرت فيها الفساد، أهلاً ومالاً وخيلاً ورجالاً، ثم صاروا إلى ما صاروا إليه، فمن يشتري مني تركتهم بدرهمين؟]] فلا والله ما قام أحد يشتري من أبي الدرداء رضي الله عنه تركة هؤلاء القوم ولا بدر منهم واحد.
تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائدٌ ذاك الشباب الذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدر(4/11)
خطر التسويف
فرحم الله امرءاً تنبه لنفسه، وتذكر أنه يمر عليه اليوم بعد اليوم، والعام بعد العام، حتى يقال: فلان مات، ولو نظرنا -أيها الأحبة- في عدد الحضور الآن، وقدرناهم بثلاثمائة أو أربعمائة إنسان أو أقل أو أكثر، وهؤلاء الأربعمائة لو قدر للإنسان أن يطلع على ما كتب لهم في مقاديرهم وآجالهم؛ لربما وجدنا من بيننا من كتب أنه سيموت هذا الأسبوع، ومنا من كتب أنه سيموت هذا الشهر، ومنا من كتب أنه سيموت هذه السنة، ومنا من كتب أنه سيموت في هذا العقد، ولا شك في هذا مطلقاً ولا بد منه، لكن من يدري: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:20] لكن على العاقل أن يفترض أن الأمر سيقع به هو: فحذار حذار من التفريط والتسويف والإهمال والتعلق بالآمال، فإنها لا تغني عن العبد شيئاً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبه وقال له: كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل} والغريب: هو إنسان أتى إلى بلد يريد أن يقيم فيها أسبوعاً أو أسبوعين ثم يرتحل، فهل عهدتم أن الغريب يشتري بيتاً فخماً وسيارة فخمة، ويتوظف ويعمل ويشتغل ويبني ويمد الحبال الطويلة؟ كلا! بل الغريب يقتصر على الأشياء اليسيرة، ولو أتيت إلى إنسان في رمضان -مثلاً- أو في الحج فتقول له: يا أخي استأجر بيتاً وأثث هذا البيت وافرشه وضع فيه مكيفات وثلاجات وغسالات.
فسوف يضحك عليك ويقول: يا سبحان الله! كأنني سوف أجلس سنة أو سنتين، كل مقامي في مكة شهر أو أسبوع أو أسبوعان ثم أغادر.
ثم أضربَ عن ذلك عليه السلام وقال: {أو عابر سبيل} وعابر السبيل ربما كان أشد من الغريب؛ لأن الغريب قد يجلس فترة، لكن عابر السبيل لا يجلس إلا يوماً أو أقل من ذلك، ثم يستمر في طريقه وسفره، وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك]] .(4/12)
أهمية معرفة الأمور على حقيقتها
أحبتي الكرام: اعلموا -بارك الله في وفيكم- أنه لا بد للواحد منا إذا نزل به المرض أن يقول: الآن يا ليت، يقول ابن الجوزي رحمه الله: إن الإنسان -أحياناً- إذا أصابه أمر يعتقد أنه الموت الحق، فينكشف له عند ذلك أمور كثيرة، ويريد أن يعمل ويشتغل ويُكَفِّر ويستدرك، لكن إذا عافاه الله تعالى وشفاه ومد له في هذه الدنيا نسي ما كان يقول من قبل.
ويقول بعض المعلقين على هذا الكتاب: حصل لي ذلك مرتين؛ مرة كنت في نهر فكدت أن أغرق، فتغيرت الأمور في عيني، سبحان الله! وقلت: إن أعطيت عمراً فسأفعل كذا وأفعل كذا، ومرة أخرى وقع له نظير ذلك.
يقول: ولو استمررت على ما كنت عليه لكنت من الصالحين، أما الآن فيقول: لا أكاد أن أستنشق ذلك الأنس ولا مجرد استنشاق.
لا يكاد يتذكر ذلك.
فإن العبد -حتى الكافر- إذا نزل به الأجل عرف الأمور على حقيقتها، ولذلك من دعاء بعض الصالحين أنه كان يقول: اللهم إني أسألك أن تريني الأمور على ما هي عليه.
يقول بعض الواعظين: وهذا الدعاء يدل على عظيم فقهه، ولو عرفتم الأمور على ما هي عليه، لتغيرت أشياء كثيرة في حياتنا، فمثلاً: هذه الدنيا التي أخذت جزءاً كبيراً من جهدنا ووقتنا وتفكيرنا وعرقنا، هل عرفناها على ما هي عليه؟ كلا! متى نعرفها على ما هي عليه؟ نعرفها على ما هي عليه إذا وقعنا في المصيدة وفي الفخ، فهنا عاد تقييم الإنسان من جديد، وبدأ ينظر في هذه الدنيا، ويغضب ويمقت نفسه حتى لو استطاع أن يقتلها قبل أجلها لفعل من شدة مقته لها، لكن ليس هناك فائدة، فقد فات الأوان.
إذن فليحرص الإنسان على أن يعرف الأمور على ما هي عليه، فمثلاً: الشهرة؛ فكثير من الناس يركض وراء الشهرة ويسعى إليها ويحرص عليها ويفرح بها، حتى من الصالحين، ولو عرف الأمور على ما هي عليه لأدرك أن هذا لا يغني عنه من الله شيئاً، وحينما يكون في حال الاحتضار، فوالله إن الناس كلهم عنده أمثال النمل لا يأبه بهم ولا يكترث، فلا يفرح بمدح المادحين ولا يحزن لقدح القادحين، ولا يفرق بين عدو ولا صديق، ولا يكترث لقريبٍ ولا بعيد، قد شغله ما هو فيه عن أمر الناس.
فإنا نقول: اللهم إنا نسألك أن ترينا الأمور على ما هي عليه.
واجعل هذا من دعائك الذي تدعوا به في المناسبات.(4/13)
قصر الأمل والاستعداد للموت
أحبتي الكرام: وفيما يتعلق بقصر الأمل وتذكر الأجل والاستعداد للموت، أذكركم بأربعة أمور: أولاً: وجوب الإسراع بالتوبة؛ فإن العبد لا يدري متى يحال بينه وبينها.
ثانياً: وجوب رد المظالم إلى أهلها؛ فإن العبد إذا مات حيل بينه وبين ذلك، ويلقى الله عز وجل بحقوق الناس.
ثالثاً: الحزم بالأعمال الصالحة؛ فلا تؤجل وتؤخر وتقول: غداً أعمل وبعد غد أعمل، يقول بعض السلف: [[أنذرتكم سوف]] فالأعمال الآن التي تستطيع أن تعملها فاعلمها الآن، أما المستقبل فدعه ولا تنتظر شيئاً في المستقبل.
رابعاً: كتابة الوصية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها؛ وهو أن يكتب الإنسان وصية، ولا شك أن من كان عليه حقوق للناس يجب عليه أن يوصي بها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به يبيت ليلة إلا ووصيته عنده مكتوبة} .
فيا أخي الحبيب! إذا انصرفت من مجلسك هذا فأحضر ورقة وقلماً واكتب وصيتك، كما كتب الصالحون وصاياهم، واكتب مالك وما عليك، وأوص أهلك وزوجتك وأولادك بتقوى الله عز وجل، واذكر ما عليك من الحقوق، وما تريد أن توصي به، واحذر من التسويف؛ فكم من إنسان كان يريد أن يوصي لكنه حيل بينه وبين الوصية، كان يريد أن يوصي بثلث ماله لكن لم يوص، فحيل بينه وبين ذلك وأصبح ماله كله للورثة.(4/14)
تسويف التوبة
إيحاء خامس من إيحاءات هذه المناسبة المباركة الكريمة، وهو: أن كثيراً من الناس يقول: أمرنا أمرٌ عجب نحن عقلاء لكن أفعالنا -أحياناً- تشبه أفعال المجانين، كيف ذلك؟! ذلك أن الإنسان قد يسمع الموعظة وينفعل لها ويتأثر بها، بل قد يفكر في نفسه وفي أمره وفي دنياه وما هو مقبل عليه، وهو مؤمن يعرف الموت ويعرف البعث والجزاء والحساب والجنة والنار، ويعرف هذه الأمور كلها، ولو كان كافراً أو جاهلاً لقلنا: هو منطقي مع نفسه يعمل للدنيا؛ لأن الدنيا غاية ما يريد.
لكن هذا مؤمن بالبعث بعد الموت، وبلقاء الله ويعرف ذلك كله، ثم مع هذا العلم والمعرفة تجد الإنسان يسوف ويماطل ويؤجل في التوبة والندم وعمل الصالحات، فيا ترى ما هو السبب في ذلك؟(4/15)
أسباب التسويف وتأجيل التوبة
لذلك أسباب أرى أن من أهمها ما يلي: أولاً: رؤية الهوى العاجل.
فإن ذلك يشغل عن العواقب، ويوقع في المعصية، فإذا رأى الإنسان هوىً لاح له ربما استغرق في هذا الهوى حتى يغفل عن عواقبه.
مثاله: إنسان يدري أن الزنا حرام، وأن عواقبه في الدنيا وخيمة، من سواد الوجه والفقر والذل والوقوع في المحرمات وأنواع العقوبات، ثم العقوبة في الآخرة وهي عظيمة، ومع معرفة ذلك كله، فإنه ربما رأى امرأة جميلة فتعلق بها، فدعاه داعي الشهوة الحاضرة وغلب عليه، حتى غطى على العلم الذي في قلبه، فالسبب الأول: هو اتباع الهوى.
وقل مثل ذلك في المال، فالإنسان يعرف أن الربا حرام، لكن جاءته صفقة بالملايين فرأى أنه لا يستطيع أن يفرط بها، وهو يعرف أنها حرام، لكن داعي الهوى والشهوة والتعلق بذلك أغفله عن العمل بالعلم الذي يعرفه.
ثانياً: الغفلة.
وأكثر الناس غافلون، فتجد السلطان غافلاً في الأمر والنهي، لا يكاد يسمع موعظة أو نصيحة إنما يسمع المديح والثناء، فتحجب عنه عيوبه وذنوبه ومساويه، وترفع له حسناته، بل يختلق من غير الواقع له حسنات وفضائل لم تكن له، فتلصق به وتدعى له، ويسمعها بأذنه صباح مساء، فلا يزال في غفلة وغرور وهو ينتقل في شهواته ومطامعه في ذلك، فهو غافل عما خلق له.
وتأتي -مثلاً- إلى طبقة أخرى وهي التجار؛ فالتاجر مشغول بأمواله وصفقاته، حتى إنه ربما أوى إلى فراشه فتقلب ساعات وهو يدير أموره وأمواله وحساباته، وربما أذن الفجر وهو لم ينم، وربما لم يستمتع حتى بدنياه، فزوجته إلى جواره قد لا يستمتع بها، والطعام يوضع بين يديه فلا يأكله، لماذا؟ لأنه مشغول غافل مستغرق في الدنيا وفي هذا المال الذي يركض وراءه.
وتأتي إلى صاحب الوظيفة وصاحب المنصب الذي أعطي منصباً ونسي المسكين أن الكرسي دوار! فصار يتطلع إلى كرسي أكبر، ويعد العدة ويخطط الخطط والوسائل.
وأستار غيب الله دون العواقب ويتذرع بوسيلة بعد وسيلة يتطلب منصباً أعلى، حتى سقط على رأسه وذهب تشيعه اللعنات مأزوراً غير مأجور، كما قال صلى الله عليه وسلم: {شرار أئمتكم الذين تلعنونهم ويلعنونكم، وخيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم} فيغفل في طلب وظيفته وكرسيه حتى يأتيه ما يبعده عنها، فإن بقي فيها فالموت له بالمرصاد.
تأتي إلى طبقة الفلاحين فتجدهم مشغولين.
وتأتي إلى طبقة النساء فتجدهن مشغولات.
وتأتي إلى الطلاب فتجدهم مشغولين.
وكل طبقة مشغولة غافلة لاهية مستغرقة بعمل معين، لا تفكر في الأمر الذي خلق له كل هؤلاء.
ثالثاً: من أسباب تأجيل التوبة رجاء الرحمة.
فيقول العاصي: ربي غفورٌ رحيم، خلِّ بيني وبين ربي، ونقول: هذا صحيح، ولكنه شديد العقاب! وكيف تأمن من هذا الغفور الرحيم الذي شرع في هذه الدنيا أن تقطع اليد في مالٍ يسير؟ فالنصاب الذي تقطع فيه اليد هو ثلاثة دراهم، إذا توفرت الشروط، فكيف تأمن مع ذلك أن يعاقبك ويأخذك بذنبك؟ وكيف تأمن أن يرد توبتك؟ ورب إنسان يدخل النار في ذنب واحد! ألم تعلم أن آدم أخرج من الجنة بذنب واحد؟! تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحد! والواحد منا يفعل في اليوم الواحد من الذنوب ما لا يعلم به إلا الله، فرجاء الرحمة -أحياناً- يغفل الإنسان.
وإن هذه مناسبة للتوبة، فإننا الآن في شهر الله المحرم، وفي بداية العام، وقد تاب الله في هذا الشهر على قوم؛ فقد تاب على بني إسرائيل كما ورد في حديث وإن كان فيه ضعف: {إن الله تاب فيه على قومٍ ويتوب فيه على آخرين} فاجعل نفسك ممن تاب الله عليهم في هذا الشهر، خاصة وأنك تتذكر أنك انتقلت من مرحلة إلى أخرى، وتذكر وأنك إن لم تتب فإن الله تعالى قد يأخذك بذنبك: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99] .
قد يؤخذ الفرد بذنبه، وقد تؤخذ الأمة بذنبها أيضاً، فإنه لا أحد يعلم الموازين عند الله جل وعلا، فقد تفعل ذنباً مستهيناً به فيسخط به الله تبارك وتعالى عليك، ويقول: لا أغفر لك بعدها.
وقد يأخذك الله به في هذه الدنيا ويعجل لك به العقوبة، فيأخذك أخذ عزيز مقتدر، وحتى لو أبطأت وأجلت في التوبة، فما هو الذي يؤمنك إذا أخرت التوبة، ألا يبقى أثر الذنب عندك؟! ألم تعلم أن آدم عليه السلام لما أتاه أهل الموقف ليشفع لهم اعتذر بذنبه، وموسى اعتذر بذنبه، وإبراهيم اعتذر بذنبه، مع أنهم قد تابوا منها لكن منعتهم من الشفاعة.
فما الذي يؤمنك إن ظللت مقيماً على ذنوبك أن يسود بها وجهك، ويتغير قلبك، ويفسد بها طبعك، ويضيق بها رزقك، ويتكدر بها عيشك؟ فسارع إلى التوبة قبل أن يكتب عليك.(4/16)
علو الهمة
الإيحاء السادس: علو الهمة.
كل شيء كبير خطير، يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله.
ألم تر كيف أن الإنسان إذا توجه إلى طلب العلم احتاج إلى سهر الليل وتعب النهار، والسهر بالأسحار والظمأ والتعب وتفويت المصالح والانكباب، وربما أصابه جهد في بدنه أو ضعف في بصره، أو فاته كثير من مصالحه حتى يحصل على شيء من العلم الشرعي.
حتى قال أحد الفقهاء: والله لقد بقيت سنة أشتهي الهريسة ولم أحصل عليها، وذلك لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس، والهريسة طعام من الحلوى اللذيذة، ويمكن أن نعبر عنها بلغتنا الحاضرة بما يسمونها بالجميدة، مع أن الهريسة شيء آخر لكن هذا مثال، فطالب العلم يريد أن يروح عن نفسه فيأكل بعض الأطعمة التي يستحليها الناس ويستحسنونها، والجميدة هي ما يشتهر على ألسنة العامة بالآيسكريم، وقد اقترح بعضهم أن تسمى بالجميدة، وهذا اسم لا بأس به، فيكون تعويضاً عن اسم أجنبي لأن الآيسكريم اسم غير عربي.
المهم أنه يقول: بقيت سنة أشتهي الهريسة ما أكلتها؛ لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس.
ففاته هذا من أجل ألا يفرط في خمس دقائق في حضور درس العلم.
وقل مثل ذلك بالنسبة لتحصيل المال، كيف ترى التاجر يبذل من الوقت والجهد في تحصيله؟ كذلك الشرف، فإذا أراد الإنسان أن يحصل على شرف بالكرم والجود ويوصف بأنه جواد كريم، تجده يجمع الأموال الطائلة ثم يفرقها بمناسبة أو وليمة أو عزيمة أو غيرها، وعلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، فكم يتعب في تحصيل المال، ثم يجاهد نفسه لأن المال محبوب عند الجميع، ومن قال إنه لا يحب الدنيا فكأنه يكذب في ذلك.
وهكذا كل أمر عظيم جليل لا بد فيه من علو الهمة، فما بالك بإنسان يريد أن يحصل ذلك كله! وما بالك بأقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها! فهم يريدون أن يحصلوا على العلم وعلى العمل بأكمله، فلا بد أن يكون عندهم همة عالية.(4/17)
أهل الدين هم أسعد الناس
فما بال الإنسان في الدنيا قد مدَّ حبالاً عراضاً، وصاحب همة عالية، وتجده في الدين على النقيض من ذلك، والواجب أن يكون الإنسان بضد هذا؛ لأن من كانت همته الدين فلا يعني هذا أنه قد فقد الدنيا، فوالله الذي لا إله غيره إن المتدين تديناً حقيقياً هو أكثر الناس استمتاعاً حتى بهذه الدنيا، فاستمتاعه بالمال أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالطعام والشراب أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالزوجات أعظم من استمتاع غيره، وذلك لأسباب: منها: أنه مرتاح البال، يحس بأنه فعل ما يرضي الله، ولم يرتكب معصية أو محرماً، ويعلم أن هذا من حلال.
ومنها: أنه قد منع نفسه من الحرام فتجمعت قوته لذلك، فقد منع نفسه من كثرة النظر وارتكاب الفواحش وغيرها، فتجمعت قوته في مصب واحد، فكان أكثر متعة من غيره.
ومنها: أنه منع نفسه من التشتت في أنواع التجارب، مثلاً -عافانا الله وإياكم- من يبتلون بالوقوع في الزنا، تجد الواحد منهم ذواقاً لا يكاد يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، بل كلما وقع في المعصية دعته إلى معصية أخرى وجرته إلى شر منها، فهو مثل الذي يوقد النار ويضع عليها الحطب فلا يزال في سعير.
أما المطيع الذي اقتصر على الحلال، فإن الله عز وجل يورثه ويعوضه في الدنيا من الأنس بذلك واللذة ما لا يجده الذواقون وأصحاب الشهوات، وشتان بينهما.
ومن أسباب تلذذ المؤمنين واستمتاعهم بهذه الدنيا: أن الواحد منهم يستشعر أن في هذا طاعة لله عز وجل وقربة إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: {وفي بضع أحدكم صدقة} حتى وهو يأكل أو يشرب أو يأتي أهله أو ينام؛ يحس أن هذا يكتب له به أجر وله به صدقة، وهو في ميزان حسناته، فيفرح بذلك ويسر له، فحتى الدنيا والله فاز الصالحون بخيرها، فالخيرون والطيبون والمتدينون ذهبوا بخيري الدنيا والآخرة.
أحبتي الكرام: لنتأمل أي خير في أموال طائلة لا يجني منها صاحبها إلا الهم والحزن؟! وأي خير في لذات عاجلة ذهبت وبقي الإثم؟! وأي خير في منصب لا يجني الإنسان من ورائه إلا السب والشتم واللعن والدعاء من الصالحين؟! فأي خيرٍ في مثل هذه الأعمال؟ لا خير فيها -والله- أبداً.(4/18)
تفاوت همم الناس
وهمم الناس تتفاوت، وكل إنسان له همة، ولذلك ورد في الحديث الذي رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام} لماذا همام؟ لأن ما من إنسان إلا وعنده همَّة، فيَهُم وينوي شيئاً مهما كان، فكل حيء عنده همة، لكن من الناس من همته في الدنيا، وهمته في تحصيل الزوجات، كلما حصل على امرأة طلب غيرها، ولا يزال هكذا لأنه يجد عيباً يعيب في المرأة القريبة منه، وأما البعيدة الغريبة فإنه لا يعرف عيوبها، فيستحسنها ويستمدحها ويطلبها بالحلال أو بالحرام، فالناس في ذلك أصناف، وهذا لا شك أنه ضيع همته في غير طائل، ولا ينتهي إلى نهاية.
يقول الشاعر: والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر أي: ما دام أن الإنسان له عين يقلبها في النساء، وينظر إلى هذه وإلى هذه، فمعناه أنه لن ينتهي إلى نهاية، وهو كالذي يشرب من البحر، ولذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر فيما معناه: من عرف النساء رضي بزوجته.
وياليت النساء يسمعن حتى نحصل على الجوائز الثمينة!! لأن الإنسان بطبيعته يضع عيوب زوجته أمام ناظريه، أما النساء البعيدات فلا يضع منهن إلا الحسن، حتى إن من الناس في هذا البلد من كان له زوجة حسناء ومع ذلك كان مبتلى بالنظر؛ فإذا رأى امرأة غريبة نظر إليها حتى تغيب عنه، وإن كان لا يفعل أكثر من هذا، فيوم من الأيام عرفت زوجته عنه هذا فتنكرت بلباسٍ، ثم مرت من عنده فوجدته ينظر إليها حتى تجاوزته، ثم ذهبت السوق الآخر ودخلت البيت فجاء الرجل ورأته مهموماً ضيق الصدر، فقالت له: مالك يا أبا فلان؟ فأبى أن يخبرها، فما زالت به حتى قال: رأيت امرأة فأعجبتني وتمنيت أن تكون لي، فقالت: هي والله أنا، وإنما عرفت ذلك من أمرك فأحببت ألا تغتر بكيد الشيطان.
فكان لا ينظر بعد ذلك إلى النساء.
وهذا أمر مشاهد بالعيان.
فمن الناس من يكون هذا شأنه، يقول ابن الجوزي: كنت أسمع فلاناً -وسماه- الواعظ على المنبر يقول: والله لقد بكيت البارحة من يد نفسي.
قال ابن الجوزي: فبقيت أتفكر.
وأقول: أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي؟ فهو رجل متنعم، له الجواري التركيات، وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء، ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى، والدجاج في ذلك الوقت يعتبر أفخر أنواع اللحوم، وله الدخل الكثير والمال الوافر والجاه العريض، والإفضال على الناس، وقد حصل طرفاً من العلم واستعبد كثيراً من العلماء بمعروفه، وراحته دائمة -وهذا الكلام لـ ابن الجوزي وكأني أحس أن الإمام ابن الجوزي رحمه الله غير راضٍ عن هذا الشخص- يقول: فما الذي يبكيه؟ فتفكرت في هذا فعلمت أن النفس لا تقف على حد، بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، وكلما حصل لها غرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر ويضعف البدن، ويقع النقص ويرق الجاه، ولا يحصل المراد؛ وليس في الدنيا أبلد -أي: أكثر بلادة- ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليست في الدنيا على الحقيقة لذة.
فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه وعلم سترها ودينها؛ أن يعقد الخنصر على صحبتها، وأكثر أسباب دوام محبتها ألا يطلق بصره، فمتى أطلق بصره وأطمع نفسه في غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق، وينقص المخالطة، ويستر عيوب الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب.
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر فمن الناس من هذا غاية همه ونهاية همته؛ فيطمع في الزوجة بعد الزوجة، والمرأة بعد المرأة، ومثل ذلك همم الدنيا وهي كثيرة؛ الأموال والمناصب والشهرة إلى غيره ذلك.
لكن العاقل من يجعل همته في الآخرة، فإذا وصل إلى مستوى طمع إلى ما هو فوقه، فينظر إلى الصالحين والزهاد والعباد، ولذلك تجد كثيراً من الناس اليوم لو سألته: من تحب أن تكون مثله في الدنيا؟ لبحث عن أكثر الأثرياء والأغنياء، وقال: مثل فلان.
لكن لو سألته في الدين والآخرة هل يقول: مثل فلان الزاهد، أو فلان المجاهد، أو فلان العابد، أو فلان العالم؟! قلَّ من يقول ذلك! بل تجده يقول: يكفيني أن أصلي الفروض الخمسة في المسجد، وعسى الله أن يعيننا عليها، وعسى أن نقوي أنفسنا عليها.(4/19)
زيادة العمر للمؤمن خير
الإيحاء السابع: زيادة العمر للمؤمن خير.
روى الترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه: {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من خير الناس؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فمن شر الناس؟ قال: من طال عمره وساء عمله} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وللحديث شواهد عن عبد الله بن بسر وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم أجمعين.
فطول العمر للمؤمن خير، ويعجبني أن أنقل لكم كلمتين لإمامين في مسألة طول العمر.
الكلمة الأولى: لـ ابن الجوزي رحمه الله يقول في كتاب صيد الخاطر (ص114) يقول: دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحب.
قال فعارضني وسواس من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟ فقلت له: يا أبله - ابن الجوزي يحاور إبليس وهو يعاتبه ويخاطبه ويوبخه- لو فهمت ما تحت دعائي وسؤالي لعلمت أنه ليس بعبث، أليس في كل يومٍ يزيد علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي يوم حصادي؟ أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأني ما كنت أعرف الله تعالى معرفتي به اليوم، وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها فيها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي في انقاذ المباضعين من المتعلمين -أي: في الدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور- فياليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل نفع ورفع.
ما أجمل هذا الكلام! فإن بعض الناس من التزهد والتوعظ قد يقول لك: يا ليتني أموت الآن، فقد كثرت المعاصي وكذا وكذا، وهذا بسبب أنه لا يعلم خيراً، ولا ينفع الناس، لكن ابن الجوزي رحمه الله لأنه كان واعظاً، وربما تاب في مجلسه الواحد مائة وخمسون من العصاة، وأسلم على يديه مئات من أهل الذمة، وله أثر عظيم ملموس، لذلك كان يقول وينادي: يا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه شيء نفع ورفع.
أما الكلمة الأخرى فإنها كلمة لأحد الدعاة المهتدين المعاصرين، وهو الشيخ الأستاذ سيد قطب رحمه الله يقول في كتابه أفراح الروح؛ وهو كتاب لذيذ مفيد لو حفظ لم يكن هذا كثيراً عليه، يقول في (29) : لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد أخذت من الحياة كثيراً -أعني: لقد أعطيت- ولقد عملت بقدر ما كنت مستطيعاً أن أعمل، وهناك أشياء كثيرة كنت أود أن أعملها، لو مدَّ لي في الحياة، لكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع، إن الآخرين سوف يقومون بها، إنها لن تموت إذا كانت صالحة للبقاء، فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فطرة صالحة تموت -أي: الأفعال التي يريد أن يعملها ولم يستطع أن يعملها يقول: سوف يوفق الله من يعملها من بعدي- فلم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد حاولت أن أكون خيراً بقدر ما أستطيع، أما أخطائي وغلطاتي فأنا نادم عليها، وإني أكل أمرها إلى الله، وأرجو رحمته وعفوه.
ثم يقول: -وأريد من الإخوة أن يبينوا لي ما رأيهم في هذه الكلمة-: أما عقابه فلست قلقاً من أجله، فأنا مطمئن إلى أنه عقاب حق وجزاء عدل، وقد تعودت أن أتحمل تبعة أعمالي خيراً كانت أو شراً، فليس يسوءني أن القى جزاء ما أخطأت حين يقوم الحساب.
أما نحن فنقول: رحمه الله وغفر لنا وله.
وأنا في رأيي أن هذه الكلمة -وإن كانت ولا شك صادرة عن شعور معين عند الرجل- لكن فيما يظهر من حقيقة معناها أنها ليست سليمة؛ لأن الواقع أن العبد ينبغي أن يخاف من ذنوبه، فكما أنه يرجو الله تعالى لأعماله الصالحة، كذلك يخاف من ذنوبه، وهذا هو منهج الأنبياء والمرسلين، قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .
لكن الإنسان -أحياناً- قد يغيب عنه أحد هذه المعاني، فيدعو الله رغباً فحسب، أو رهباً فحسب، أو حباً فحسب، وهذا -لا شك- يعتبر نقصاً، والكمال ما كان عليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، فإنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعون الله تعالى رغباً ورهباً، أي: رغبةً فيما عنده.
وخوفاً من عقابه، فينبغي للعاقل أن يخاف من ذنوبه، لأن الله تعالى لو عاقب الإنسان بذنوبه لأدخله ناره وحرمه من رحمته، لكن يستغفر الله ويسأله عز وجل من فضله.(4/20)
فضل شهر الله المحرم
أخيراً أيها الأحبة: هذا شهر الله المحرم، وهذه أول ليلة منه، وشهر الله المحرم هو أول السنة، وهو من الأشهر الحرم قال الله: {إِنّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] .
والأشهر الحرم الأربعة هي: محرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ولذلك تقول العرب: الأشهر الحرم أربعة، منها ثلاثة سرد وواحد فرد، أما الثلاثة السرد فهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وهي ثلاثة أشهر متوالية، وأما الفرد فهو: رجب، ولذلك يسمى رجب الفرد أحياناً؛ لأنه منفرد عن بقية الأشهر الحرم.
ومن حكمة الله تعالى أن بدأ السنة الهجرية بشهر حرام، وهو محرم، وختمها بشهر حرام وهو ذو الحجة.
والمحرم قال بعض العلماء: إنه أفضل الأشهر الحرم، قال الحسن البصري رحمه الله: [[إن الله افتتح السنة بشهر حرام، وهو المحرم، واختتمها بشهر حرم وهو: ذو الحجة، وإن أعظم شهر في السنة عند الله بعد رمضان شهر الله المحرم.
وقد جاء اسمه هكذا في السنة شهر الله كما في صحيح مسلم وسنن النسائي: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه شهر الله الذي تدعونه المحرم} وإنما نُسب إلى الله تعالى تعظيماً له، كما يقال: بيت الله وناقة الله وما أشبه ذلك، فإنما نسبته إلى الله تعالى نسبة تشريف وتعظيم، فهو من أشرف الشهور وأفضلها وأعظمها عند الله تعالى.
وكان يسمى الأصم، بل ورد هذا في حديث مرفوع لكنه مرسل عن الحسن البصري، وذلك لشدة تحريمه عند الله تعالى.
وقد جاء في سنن النسائي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير؟ وأي الأشهر أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خيرُ الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم} فهذه من فضائل شهر المحرم]] .
ومن فضائله: أنه يستحب فيه الصيام، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم} وليس المقصود أنه أفضل الصيام على الإطلاق، لكن صوم النفل على قسمين: القسم الأول: صوم نفل مقيد: مثل الست من شوال، وأيام البيض، وما أشبه ذلك، فهذا يكون أفضل من المحرم.
القسم الثاني: نفل مطلق غير محدد، فهذا أفضله المحرم.
مثل الصلوات، فهناك نوافل مقيدة، مثل الرواتب قبل الصلاة وبعدها، فهذه أفضل حتى من قيام الليل، وهناك نوافل مطلقة، كأن: تصلي بعد الظهر ما شاء الله لك، أو بعد المغرب تصلي ما شاء الله لك، فهذا قيام الليل أفضل منه، وهكذا الشأن في موضوع صيام شهر الله المحرم.
ومما يستحب صيامه في محرم يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر؛ لأنه يومٌ نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، والكلام في يوم عاشوراء يطول، لكن يوم عاشوراء كان يُصام في الجاهلية، وكان يوماً تكسى فيه الكعبة، وكانت اليهود أيضاً تصومه، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، حتى جاء في الصحيحين من حديث الربيَّع وغيرها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في القرى القريبة من المدينة: من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن كان صام فليصم فكانوا يُصَوِّمون صبيانهم، فإذا بكى أحدهم أعطوه اللعبة من العهن حتى يكون عند الإفطار} أي: يعطونه اللعبة يلعب بها ليصوم حتى الغروب.
فأمر الناس بالصيام في ذلك اليوم، ولهذا ذهب جماعة من الفقهاء كـ أبي حنيفة وغيره إلى أن صيام يوم عاشوراء كان واجباً، فلما فرض رمضان أصبح سنة.
ولا يزال جمهور العلماء يرون أن صيام يوم عاشوراء مستحب، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء، فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله} .
فيستحب للإنسان أن يصوم عاشوراء، وفي صحيح مسلم أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} فمات صلى الله عليه وسلم، فيستحب أن يصوم اليوم التاسع معه، ويكره بالصيام؛ لأن في ذلك مشابهة لليهود، بل يستحب أن يصوم الإنسان يوماً قبله، وإن صام يوماً قبله ويوماً بعده إفراده كما ذهب إلى هذا ابن القيم واعتبر أن هذا هو الأكمل كما في زاد المعاد، فلا حرج عليه، لكن هذا لم يرد فيه نص، وإنما يستحب أن تصوم التاسع والعاشر.
وفي بعض الكتب يقولون: إن الحيوانات تصوم، ويذكرون أن واحداً فتَّ للنمل فما أكلت في يوم عاشوراء، وذكروا قصصاً، وهذه كلها تهاويل لا حقيقة لها، وهو باطل؛ لأن هذه الحيوانات لو كانت تصوم لكان أفضل لها أن تصوم رمضان، فرمضان أفضل من عاشوراء، ولعل هذا من اختلاق بعض أهل الكتاب، وتلقاه عنهم بعض المسلمين وذكروه في كتبهم، وهو مما ينبغي الإعراض عنه.
كذلك من الأشياء التي ينبغي أن نتفطن لها في موضوع عاشوراء: أن فيه بدعاً يقع فيها بعض الناس؛ فبعض الناس يخصصون يوم عاشوراء بخصائص، فمنهم من يغتسل في يوم عاشرواء، ومنهم من يكتحل أو يتزين أو يختضب، وكل هذه الأشياء بدع ولا تنبغي، بل في هذا مضاهاة لليهود؛ لأنهم يعتبرون يوم عاشوراء يوم عيد، ولهذا نحن حين نصومه ونصوم يوماً قبله حققنا أمرين: أولاً: أنه ليس يوم عيد؛ لأن أيام العيد لا تصيام عندنا نحن المسلمين.
ثانياً: أننا كذلك صمنا يوماً قبله لئلا نوافق اليهود في صيامهم.
وكذلك من البدع العظيمة ما تفعله الرافضة في هذا اليوم، فإنهم في بلادهم كلها وفي الأماكن التي يوجدون فيها، يخرجون جماعات في الأسواق، ويعملون التمثيليات ويركبون الخيول والإبل، وينوحون ويصيحون، ثم يخلعون ملابسهم ويأتون بالسلاسل والسكاكين، فيضربون بها وجوههم وجنوبهم وظهورهم وتسيل الدماء ويسقط الجرحى والقتلى، ويعتبرون القتلى شهداء في هذا اليوم، حتى صنف بعض خبثائهم ومشعوذيهم كتاباً في شهداء يوم عاشوراء.
وهذه من الألاعيب التي يلعب بها الشيطان على أتباعه ومريديه؛ حتى إنهم يصبحون أضحوكة للأطفال والصبيان والسفهاء، ومع الأسف الشديد أصبحوا في هذا العصر أضحوكة حتى للكفار، فقد بلغني في عام مضى أنه في التلفزيون البريطاني، عرضوا مشهداً مطولاً عما تفعله الشيعة في يوم عاشوراء، وأتوا بالدماء تسيل والجراح والسكاكين وهؤلاء يتساقطون، والذي يضرب بيده، والذي يضرب بنعله، والذي يضرب بسلسلة، والذي يضرب بأشياء تشمئز منها النفوس، ومع الأسف لا يقولون إن هؤلاء هم الرافضة أو الشيعة، بل يقولون: هؤلاء هم المسلمون، فيعطون صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله.
اللهم اجعل هذا العام هالاً علينا بالأمن، وهذا الشهر هالاً علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق فيما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اجعل ما نستقبل من أيامنا خيراً مما نستدبر، ووفقنا ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى.
اللهم اجعل هذا العقد عقد خيرٍ ونصر للإسلام والمسلمين، اللهم ارفع به كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وارفع به التوحيد وأهله وأذل به الشرك وأهله، اللهم انصر به المجاهدين في كل مكان، وأقر أعيننا بنصر الإسلام والإيمان يا حي يا قيوم يا ديان إنك على كل شيء قدير.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.(4/21)
أنصفوا العمال أيضاً
تحدث الشيخ -حفظه الله تعالى- في هذا الدرس عن ظاهرة ظلم العمال المتفشية في دول الخليج وغيرها من الدول التي تكثر فيها العمالة من خارج البلدة، وقدم بأسباب الحديث عن هذا الموضوع، ثم ذكر الطرق الشرعية للتعامل والتوجيهات حول نفس الموضوع، ثم بين طائفة من مظاهر الظلم للعمال في المجتمع الخليجي، وفي نهاية الدرس سرد مشاركات أدبية (نثراً وشعراً) لبعض الأشخاص حول الموضوع، واستعرض بعض مواد نظام العمل والعمال السعودي، ثم أجاب على الأسئلة.(5/1)
لكي نكون منصفين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا المجلس (78) في سلسلة الدروس العلمية العامة في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى من سنة 1413 للهجرة، وأول عنوان أطرحه بين أيديكم (لكي نكون منصفين) .
لقد قلت لكم بالأمس: (أنصفوا المرأة) وأنا اليوم أقول لكم: و (أنصفوا العمال) أيضاًًًًًً، وهذا هو عنوان حديثنا في هذه الليلة، وكما حاولت أمس أن أهدئ مشاعر الرجال بوعد مفتوح بدرس يكون عنوانه: أنصفوا الرجل؛ فإنني أحاول اليوم أيضاً أن أهدئ مشاعر أرباب العمل والكفلاء بأمرين: أولهما: أن أقول: إن ما سوف أذكره اليوم من مظالم حاقت بهؤلاء النفر الضعاف من العمال الذين لا يملكون حولاً ولا طولاً، وكثرت وانتشرت وذاعت وشاعت، إنها وإن كانت أمراً مشتهراً كثيراً إلا أنه ليس قاعدة مطردة، فنحن نعرف بين أرباب العمل والكفلاء من يتميزون بالصدق والإنصاف والإخلاص والعدل حتى إن أحدهم يعامل عماله ومن تحت يده كما يعامل أولاده.
إذاً ما نقوله ليس قاعدة عامة، وليس اتهاماً لكل صاحب عمل، ولا لكل مالك مؤسسة، ولا لكل قائم على شركة، فإننا نعلم بين هؤلاء من يقوم بالحق والعدل والقسط، ولهؤلاء منا الدعاء ولهم من الله عز وجل الأجر والثواب بإذنه سبحانه، ولكنَّ حديثنا عن فئة خاصة، وطائفة معينة -وليست بالقليلة- من أولئك الذين يسومون عُمَّالهم سوء العذاب.
وثانيهما: أن كلاً من الطرفين: العمال وأرباب العمل، يتحمل جزءاً من المسئولية، وكما أن للعامل حقوقاً يجب أن يأخذها، فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم العامل راعياً ومسئولاً عن رعيته وكما في الحديث الصحيح {ما من والٍ يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة} فالمحافظة على مواعيد العمل بإتقان ودقةٍ وانتظام هو من الواجبات على العامل، وقد يتأخر الكثير من العمال بعذرٍ أو بغير عذرٍ عن أداء عمله في الوقت المحدد وعلى الوجه المطلوب.
والمحافظة على مال الغير كفيلاً كان أو رب عمل أو غيرهما هو ضرورة أيضاً وواجب وهو جزء من الأمانة في عنق العامل، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك} والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو داود وغيرهما عن أبي هريرة وهو حديث صحيح، وفي الباب عن أنس وأبي أمامة وأبي بن كعب وغيرهم، فلا يجوز أن تأخذ مال الغير ظلماً أو سرقةً أو اختلاساً أو غصباً، ولا حتى يجوز عند طائفة من أهل العلم أن تأخذ ماله وأنت تقول: إنه ظلمني وأنا آخذ بعض حقي منه وقد ظفرت به؛ فإن من أهل العلم من لا يجيز ذلك قط، ومنهم من يحمل الحديث على الاستحباب ألا تأخذ مال الكفيل، ولو كان ظالماً لك معتدياً على حقك.
وقد يحافظ العامل أحياناً على الوقت المحدد للعمل، ولكنه لا يقوم بالواجب المنوط به ولا يؤديه على الكفاية وهو يعلم في قرارة نفسه أنه يستطيع أن يقوم بالعمل بصورة أفضل، وأن ينجزه بطريقة أحسن مما فعل لو أنه استشغر المسئولية وستحضر الإخلاص لله تعالى، وقد روى البيهقي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} إنه ليس من الإتقان، ولا من المسؤولية في شيء أن يقدم الإنسان نفسه للآخرين على أنه يحسن كل عمل، ويجيد كل فن ولا يعتذر عن شيء، ولكنه لا يحسن شيئاً قط.
كما إنه ليس من القيام بالمسؤولية أن يحضر العامل في الوقت المحدد، ويورَّي بالقليل من الأعمال، فإذا جاء الكفيل تظاهر بأنه منهمك في العمل، مخلص فيه، فإذا أعرض عنه عاد إلى الدعة والراحة والسكون، فإن خصمه حينئذٍ هو الله عز وجل وليس خصمه الكفيل الذي يحضر ويغيب.(5/2)
دافع الحديث عن العمال
قد يقول قائلٌ: هل انتهت قضايا المسلمين ومشاكلهم وأحداثهم على المستوى العالمي والإسلامي والعربي والمحلي حتى لم يبق إلا قضية العمال لتتحدث عنها! فأقول: إن عذري وشفيعي في حديثي في هذا الموضوع عدة أسباب لعلك أن تسمعها فتقتنع بها:(5/3)
ضعف العامل
السبب الرابع: أن العامل في موضع الضعف بطبيعته وحكم موقعه، وهذا يجعله عرضةً للظلم والاضطهاد من الكثيرين الذين لا يحترمون إلا منطق القوة، فالكفيل قد يظلمه، والمدير قد يبخس حقه، وصاحب العمل قد يحتقره ويوبخه ويعاتبه، والمواطن العادي لا يلتفت إليه، وينسى هؤلاء جميعاً أن هذا الرجل قد يكون مسلماًٍ صالحاً له عند الله تعالى منزلةٌ عظيمة.
وليست العبرة عند الله تعالى بحسن البزة، ولا برفعة المنصب، بل بحال المضغة التي إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله تعالى لأبره} .
إن الضعفاء هم أتباع الأنبياء، قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس {أن أبا سفيان سأله هرقل: فأشراف الناس يتبعونه -يعني يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم- أم ضعفاء الناس هم قال بل ضعفاؤهم، قال: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس} .
بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الأكابر أبو جهل وأبو لهب وعتبة وشيبة والملأ المستكبرون قالوا له: كذبت إن هذا لشيء يراد، وقاله له الفقراء والضعفاء والشباب وغيرهم صدقت وآمنوا به وصدقوه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
فإن كنت رجلاً مؤمناً فلا تحتقرن أحداً، ولو كان بأسمال بالية، ولو كان على وجهه ويده أثر العمل، ولو كان لا ينطق ولا يبين، وتواضع لرب العالمين.
ولأن هذا العامل ضعيف لا يملك القدرة على رفع الظلم عن نفسه، ولا يجد من يدافع عنه إلا احتساباً، كان واجباً علينا جميعاً أن ننتدب للمدافعة عن المظلومين.
وما إن أعلنت هذا الدرس حتى انهالت عليَّ الأوراق والشكاوى والوثائق تدل على أن عدداً كبيراً من هؤلاء يسامون سوء العذاب، ولا يجدون الجهة التي يشتكون إليها، لأن صاحب العمل قد أتقن اللعبة، وحبك المؤامرة، ونظَّم الخيوط كما سوف يبين لك.(5/4)
إمكانية دعوتهم للخير
السبب الثالث: أن وجود هذا العدد الضخم كان من الممكن توظيفه بصورة سليمة لو أننا أفلحنا ونجحنا، فكان من الممكن إعطاء هؤلاء القادمين صورة واقعية جميلة عن المجتمع المسلم العادل النظيف، لكن المؤسف أن معظم هؤلاء يرجعون بانطباعٍ سيء عن هذه البلاد وأهلها، بل إن أي بلدٍ يلقون فيه الإهانة والإذلال سوف يرجعون عنه بالانطباع ذاته، وكيف تظن بعامل كلف بما لا يطيق، وعومل بصورة شرسة لا إنسانية، وعُدِّل العقد معه بعدما وصل إلى هذه البلاد، وأسكن في زرايب لا تصلح لسكنة، الدجاج فضلاً عن الحيوانات، وأخر راتبه شهوراً بل سنوات، ثم سُفِّر على حسابه الخاص، فرجع يجر أذيال الخيبة.
ثم هذا الإنسان لم يواجه من الكثير فحسب، بل واجه من المجتمع كله النظرة المحتقرة، وعدم الاحترام، وعدم التجاوب، وعدم الاهتمام به، وكأننا نتصور أحياناً أن هؤلاء العمال ليسوا داخلين في البشر الذين يشرع الإحسان إليهم، ولو بلقمة العيش، أو بأن تحمله على سيارتك، فإن لم تطق فلو بكلمة طيبة.
أم ماذا تقول عن خادمة سيمت سوء العذاب من ربة المنزل، واقتطع جزء من راتبها، وأهينت في المطار ذاهبة وآيبة، ثم أعيدت إلى أهلها قبل تمام مدة العقد وفي بطنها جنين يتحرك من غير الحلال.
نعم لقد قرأت هذا في صحف طبعت في إندونيسيا، وفي الفلبين وفي تايلند، وهي تشير بأصابع الاتهام والسب والشتم إلى بلاد طهرها الله تعالى وقدسها وباركها، وفضلها وأغناها، وجعلها قبلة المسلمين ومنطلق الرسالة والوحي، تشير بالحق لا بالباطل، وبالوثائق لا بالاتهامات المبهمة.
وكيف تتوقع لو أننا استفدنا من هذا القادم المسلم، فربيناه تربية إسلامية، وثقفناه ثقافة شرعية، وغرسنا في قلبه عقيدة التوحيد، وغرسنا في شخصيته أخلاق الإسلام، وعلمناه أحكام الشرع في العبادات والمعاملات وسائر شئون الحياة.
إذاً لعاد هذا العامل إلى بلده يحمل المنهج السليم، ويبلغه لمن وراءه وكان داعية خير وعدلٍ وصلاح، وكان من الممكن أيضاً أن يستفاد من ذلك العامل الكافر مادمنا قد بلينا به، ومادمنا خالفنا فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن استعمالهم واستقدامهم وإسكانهم هنا، لكن مادام الأمر قد وقع؛ فكان من الممكن دعوتهم إلى الإسلام بالقول وبالفعل وتهيئة الأسباب لذلك من الأشرطة المسموعة بلغتهم، والمرئية بلغتهم أيضاً، والكتب، والنشرات، والمطويات، والندوات، والدروس، والجمعيات، والمراكز، والمكاتب التي تهتم بأمر هؤلاء من غير المسلمين؛ ولاشك أن شيئاً من ذلك يحدث، ولكن ليس هذا موضع دراسة مدى نجاح هذه التجربة أو فشلها، إنما لا نشك أن ما يقع هو أقل من المطلوب بكثير.
إننا نعلم أن المسلمين ينصرون، وقبل أيام قرأت خبراً أن أربعة آلاف مسلم عراقي تنصروا على يد منظمات الإغاثة التي تحمل الإنجيل بيد وتحمل الغذاء والدواء والكساء باليد الأخرى، أتدري في أي دولة تنصروا؟ إنني لا أقول لك: في فرنسا ولا في أمريكا ولا في إيطاليا؛ وإنما في بلاد الشام في سوريا، تنصر أربعة آلاف عراقي على يد جمعيات الإغاثة النصرانية، فهذا العدد الكثير موجودين في بلادنا، وقد ذكرت في إحصائية سابقة أن عددهم يزيد على ثلاثمائة وخمسين ألفاً!!! أين المكاتب التي تسعى إلى دعوتهم إلى الإسلام؟ أين الجهود؟ فعلى الأقل إن لم نفلح في دعوتهم إلى الإسلام نشككهم في دينهم أو على أقل تقدير ليضعف حماسهم لعقيدتهم، وربما يشك اليوم ويسلم غداً أو بعد غد، المهم السهم الذي لا يقتل فإنه يصيب.(5/5)
كثرة العمال
السبب الثاني: أن العمال اليوم في بلاد الإسلام كلها عددٌ غير قليل وفي بلاد الخليج بصفة خاصة يصدق على حالها قول المتنبي عن شعب بواد: ملاعب جلة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان وهنا في هذه البلاد يقول الكتاب الثانوي الإحصائي لوزارة المالية والاقتصاد الوطني لعام (1410هـ) يقول ما يلي: إن عدد الإقامات الممنوحة من الجوازات في جميع المناطق عام (1406هـ) هو (563.
747) خمسمائة وثلاث وستون ألف وسبعمائة وسبع وأربعون، أي أكثر من (560) ألف إقامة (خمسمائة وستون ألف) إقامة.
أما في عام (1410هـ) وبعد أربع سنوات فقد قفز العدد على رغم الظروف قفز إلى (705.
679) إقامة أفلا تعتقد أن سبعمائة وخمس آلاف أو جزءً كبيراً من هذا العدد أنهم جديرين بأن يتحدث الإنسان عنهم، إن من بين هؤلاء خمسمائة وست وأربعون أو ست وسبعون ألف رجل، أما البقية فمن النساء.
فمثل هذا العدد الضخم الذي يقارب المليون -هذا قبل ثلاث سنوات- وربما وصل الآن إلى أكثر من ذلك، إن مثل هذا العدد يشكل جزءاً كبيراً في المجتمع، ويؤثر فيه تأثيراً بليغاً في أداء المجتمع وأخلاقه وأعماله ومستوياته ولابد أن يحظى بحديثٍ عنه.(5/6)
نصرة المظلوم
أولها: إنها من أعظم القضايا على كافة الأصعدة على المستوى الدولي والإسلامي والمحلي، وواجبنا جميعاً أن نقف في صف المظلوم لإنصافه ممن ظلمه بكل وسيلة نستطيعها، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] على أحد الأوجه في تفسير الآية فإذا لم نستطع أن نقاتل في سبيل الله لحماية المستضعفين، فلا أقل من كلمة حق وعدلٍ يقولها الإنسان ينصف بها مظلوماً.
فواجبنا جميعاً أهل الإسلام أن نتمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أعيننا وهو حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصرة المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام} .
الأمة يجب أن تقدم نفسها نصيراً للمظلومين ومدافعاً عن حقوقهم حتى ولو كانوا في أرضٍ غير أرضها، وفي بلادٍ غير بلادها، ولو كان الذي يمارس الظلم معهم من جنس آخر، أو دين آخر، أو نحلة أخرى، فكيف وقد أصبح الظلم اليوم قائماً في الأمة نفسها، تمارسه وترضى به وتقره، وربما سمعنا -مع الأسف الشديد- اليوم أصواتاً منكرة غريبة غربية وشرقية تنتقد انتهاكات حقوق العمال في هذه البلاد، وفي بلاد أخرى, وتعلن أنها المدافع عن حقوقهم وتناديهم باسم النصرانية ليرفضوا هذا الظلم الذي يقع عليهم من المسلمين.
إنها المرتبة التي فرطنا فيها وتخلينا عنها يوم رضينا أن ننشغل بأمورنا الخاصة، وتركنا للكافر أن يتظاهر بالعدل، وأن يقدم نفسه مدافعاً عن حقوق المستضعفين، فهذا سبب.(5/7)
الطريقة الشرعية للتعامل مع العمال
ثالثاً: المنهج الشرعي، خرج موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:22-23] بعيدتان؛ لأنهما عفيفتان طيبتان من بيت نبوة وخير وصلاح، فلا تختلطان بالرجال ولا تقتربان منهم، فتعجب موسى وهو الفتى القوي، فسألهما عن حالهما: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] إذاً ما جئنا هنا إلا للضرورة لأن أبانا لا يستطيع أن يقوم بالسقي ولا بالرعي، ولذلك نقوم بهذا العمل في جو من الحشمة والبعد عن الرجال {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] وأخيراً تذهب الفتاتان إلى أبيهما، فتقولان: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] .
فها هنا الصفات المطلوبة في العامل: القوة لئلا يعجز عما وكل إليه، والأمانة لئلا يخون أو يغش، فضلاً عن الشهامة والرجولة والمروءة التي بدت على سيما موسى عليه السلام وخلقه ورفقة بالضعيف والمسكين والمحتاج، وعفافه وبعده عن النظر إلى ما لا يحل له.(5/8)
الفوائد المستقاة من توجيهاته عليه الصلاة والسلام
إنه نظام شامل وإنها أحاديث أبلغ من أي تعبير، وأقوى من كل كلام، فبأي حديث بعد كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنون أو يتعظون.
لقد بينت هذه الآيات وتلك الأحاديث كل شيء: أولاً: بينت الحقوق للعامل سواء كانت حقوقاً شخصية تتعلق بلباسه، وطعامه، وشرابه، ومسكنه، وغذائه، وعلاجه، أو كانت حقوقاً معنوية تتعلق باحترامه وتكريمه وتقديره وعدم سبه أو شتمه أو السخرية منه.
ثانياً: بينت أصول العمل، في قيام العامل بما يستطيع وعدم تكليفه بما لا يطيق أو ما لا يستطيع.
ثالثاً: حددت العقوبات، ومتى تستخدم، وفي حق من، ومن هو الذي يستخدم العقوبة ويقرها.
رابعاً: بينت التعويضات التي تكون للعامل على أي تقصير يبدر في حقه، وكل ذلك مربوط محفوف بالخوف من الله عز وجل ومراقبته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي مسعود: {اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه} .(5/9)
توجيه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حول تعاملهم مع العمال
وفي المجتمع الإسلامي الأول في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك أرباب المزارع والأعمال، وكان هناك من يأجرون على أمور محددة لقاء أجر معلوم، فضلاً عن العبيد والأرقاء الذين قلما يخلو منهم بيت أو منزل، فكيف ترى الحال في ذلك المجتمع؟ وبدون أن أسترسل سوف أقرأ عليك مجرد نماذج من ذلك الحديث، في باب صحبة المماليك من كتاب الإيمان والنذور في صحيح مسلم تقرأ الأحاديث التالية: 1- عن ابن عمر رضى الله عنه وقد أعتق مملوكاً، فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال ما فيه من الأجر ما يساوي هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من لطم مملوكاً أو ضربه فكفارته أن يعتقه} 2- وعن ابن عمر أيضاً: [[أنه دعا بغلام له؛ فرأى بظهره أثراً- أي أن ابن عمر ضربه رضى الله عنه فرأى بظهر الغلام أثراً -فقال له أوجعتك قال: لا، قال: فأنت عتيق]] .
3- عن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لي فهربت، ثم جئت قبيل الظهر فصليت مع أبي فدعاه ودعاني -محكمة- ثم قال امتثل منه، قال: فعفى -خذ حقك، قال سامحتك، ثم قال له أبوه له يعلمه، قال: كنا بني مقرنٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {أعتقوها، قالوا: يا رسول الله! ليس لهم مملوك ولا خادم غيرها، قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها} .
4- عن أبي مسعود رضى الله عنه قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فلم أفهم الصوت من شدة الغضب، قال: فلما دنى مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود، فألقيت السوط من يدي، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم قال: فسقط السوط من يدي من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: والله لا أضرب مملوكاً بعده أبداً، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله -قال عليه السلام: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار} .
5- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قذف مملوكه بالزنا؛ يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال} إذاً كل حق لا يؤخذ منك في هذه الدنيا يستوفى منك في الآخرة.
6- عن المعرور بن سويد قال: {مررت بـ أبي ذر بالربذة وعليه بردٌ وعلى غلامه مثله، فقلت: يا أبا ذر لو جمعت بينهما فكانت حلة عليك -لو لبستهما معاً لكانت حلة، إزار ورداء- فقال أبو ذر رضي الله عنه: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيَّرتُه بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وسبوا أمه، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم} .
7- عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به، وقد ولي حره ودخانه فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً -أي قليلاً- فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين} يعني: لقمة أو لقمتين.(5/10)
عمل موسى عليه السلام في مدين
هذا الرجل صاحب العمل يخاطب موسى وقد جاءه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] .
فأولاً حدد له قيمة الأجرة قبل أن يطلب منه العمل، الأجرة ما هي؟ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، أما العمل فهو أن تأجرني ثماني حجج -ثماني سنوات- فإن أتممت عشراً فمن عندك.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] هذا هو العقد الكامل، العمل بالرعي والسقي معروف واضح، والأجرة هي الزواج من إحدى هاتين الفتاتين، المدة ثمان سنوات إلزامية، وسنتان اختيارية ليس فيهما إلزام.
أما رب العمل فهذه صفاته: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] لا يشق على العامل، ولا يحمل عليه ما لا يطيق ولا يعنته ولا يكلفه يكلفه، فليس في العمل أعباء يعجز عن حملها ولا مسؤوليات يضعف عنها، ثم: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] في أخلاقه، في معاملته، في رفقه، في حلمه، في تعليمه له، إن صحبة الصالحين سبب للصلاح والفلاح، وافق موسى عليه السلام وأعلن ذلك، قال: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] .
وهاهنا يظهر التراضي التام بين الطرفين والاتفاق على شروط العمل، ثم قال موسى عليه السلام: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] إنها كلمة عظيمة الدلالة تؤكد أن الحقوق لا تضمن أبداً من خلال منظمات حقوق الإنسان، ولا من خلال مكاتب العمل، ولا حتى من خلال المحاكم، حقوقية كانت أم شرعية فحسب، وإنما تضمن الحقوق أولاً من خلال الضمير الحي الذي يراقب الله عز وجل، ويعلم أنه موقوف بين يديه، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] .
سبحان الله! أرأيت كم بين العقد وبين انتهائه من المسافة، إنها بضع آيات ذلك بيني وبينك فلما قضى موسى الأجل، بل آية واحدة، عشر سنوات قضاها موسى، فقد قضى أطول الأجلين، لأنه رجل كريم جواد معطاء فقد رضي أن يشتغل عشر سنوات، انتهت بهذه السرعة بدون مشكلات ولا صعوبات ولا تأخير في العمل، ولا مماطلة في الأجرة، كل ذلك لم يكن بل قضى الأجل وسار بأهله، زوجته التي كانت هي التي وقع عليها الاختيار.(5/11)
من ألوان ظلم العمال
خامساً: ألوان من الظلم: إن الظلم الذي يحيق بالعمال اليوم ضخم عظيم، ولو أنني ذكرت لكم قصة واحدة من قصص العمال لتعجبتم من ذلك، فكيف إذا تصورنا هذا العدد الكبير الذي يزيد على نصف مليون إنسان، وكثيرٌ منهم يواجهون في مقر عملهم أو إقامتهم ألواناً من الظلم لا يرضى الله تعالى عنها أبداً، من ذلك:(5/12)
منع العامل من جلب زوجه
ومن صور الظلم منعهم من جلب زوجاتهم، فإنهم بشر مثلنا يحتاجون إلى هذه الأشياء، وقد يأتي الرجل منهم دون زوجته، أو تأتي المرأة دون زوجها، وأحياناً في جوٍ من الإثارة، فهو بائع في دكان -مثلاً- تتردد عليه النساء كاسيات عاريات في أحيان كثيرة، وقد يُغرى بما لا يحل، أو قد يكون هذا الرجل سائقاً، وربما يكون صاحب العمل متساهلاً مفرطاً يجعل أهل البيت نساءه وبناته يركبن مع هذا السائق هنا وهناك، وقد يكون العامل امرأةً في المنزل ترى في البيت أشياء كثيرة تثيرها وتحركها، وهؤلاء وأولئك لا يجدون الدافع الإيماني القوي الذي يحميهم ويردعهم، ولا يجدون التربية، ولا يجدون المراقبة -أيضاً- فيقع من جراء ذلك اتصالات كثيرة بين العمال وبين النساء العاملات في البيوت، ويقع من جراء ذلك معاصي ومفاسد ومنكرات وفواحش، يتقع بسبب ذلك أمور لا تحمد عقباها.
ولو أن هؤلاء رشد استخدامهم أصلاً بحيث لا يستخدم أحد إلا وفق شروط ومعايير قوية وواضحة؛ واقتصرنا على الأقل على نصف هذا العدد، ثم أذنا لهم أن يستقدموا نساءهم لعملوا في جو آمن مريح هادئ، وضمنا بإذن الله تعالى تقلص نسب الفساد، شريطة أن تكون القادمة معه زوجته فعلاً، وليست -مثلاً- خدعة كما يرتكب في أحيان كثيرة، أنه قد يأتي بامرأة على أنها زوجته ويتبين بعد ذلك أنه لا علاقة له بها ألبتة.(5/13)
زيادة العمل على العامل
الصورة الثامنة: من صور الظلم هي مضاعفة العمل عليه، سواءً كان ذلك من نوع العمل، فقد يكون جاء معلماً، ولكن ظروف العمل جعلته يتحول بقدرة قادر إلى سباك أو كهربائي أو حمال أثقال أو أي شيء آخر دون اعتبار لكرامته ولا لشهادته ولا للعقد المتفق معه، ولا لشيء من ذلك، أو بما يتعلق بساعات العمل فقد جاء وقيل له: إن مدة العمل ثماني ساعات يومياً، وثمان وأربعون ساعة أسبوعياً، فلما جاء وجد أنه أحياناً يضطر حتى يبقى تحت وطأة التهديد بالتسفير والتهديد بتأخير الراتب، وغير ذلك أن يعمل أحياناً من طلوع الشمس إلى غروبها بل يعمل أحياناً إلى ساعات متأخرة من الليل.(5/14)
استغلال جهل العمال
الصورة التاسعة: استغلال جهل العمال: حتى إن بعض هؤلاء يوقعون على أوراق بيضاء؛ فإذا أراد الكفيل شيئاً كتب في هذه الأوراق ما يشاء، وأول ما يأتي العامل يجعله يوقع على أوراق بيضاء، ثم يكتب فيها أحياناً نعم أنا قد استلمت من كفيلي مبلغاً وقدره كذا وكذا وهو راتب ثلاثة شهور أو عشرة شهور وأحياناً يقول: نعم أنا استلمت من كفيلي مبلغ عشرة آلاف ريال يستلمها مني ويأخذها من مرتبي، وفي حالة ثالثة يجعله يعترف ببعض الجرائم من أجل أن يقاضيه بها أمام الجهات والدوائر الرسمية سواء مكتب العمل أو المحاكم أو غيرها، وتلك الجهات الرسمية أحياناً تتعامل مع هذه الأوراق ولا تملك إزائها إلا أن تعتبرها؛ لأنها أوراق ثابتة مؤكدة موقع عليها، بل بعضهم يجعل عامله يوقع على استلام مبالغ كسلفة أو حقوق أو غير ذلك بالقوة، وإذا رفض فإنه يهدده بالتسفير.(5/15)
تولية الكفار على المسلمين
ومن صور الظلم أيضاً تولية غير المسلمين على المسلمين سواءً في شركات الصيانة والتشغيل والنظافة أو التطبيب أو غيرها، فإنهم يجعلون القائم والمسئول والمشرف في أحيان كثيرة غير مسلم فيسوم المسلم سوء العذاب ولا يراعي ظروفهم ولا يراعي وقت الصلاة، ولا يراعي أنهم صائمون في رمضان، بل يهينهم ويسيء إليهم ويُقدِّم عنهم تقاريراً سيئة، فيقدم على المسلم تقرير أنه غير ناجح في العمل، وأنه مشاغب، وأنه كسول، أما ذلك النصراني فيحظى منه بتلك التقادير الرفيعة والممتازة حتى ويرفع في العمل ويزداد راتبه.(5/16)
إحضار العمال بدون عمل
الصورة السابعة من صور الظلم هي: إحضار العمال بدون عمل؛ فيحضر الواحد عشرة أو عشرين أو حتى عدداً بالمئات أو بالألوف -أحياناً بالنسبة للكبار- من العمال ويتركونهم بدون عمل وليبحثوا لأنفسهم عن عمل، ويسلموهم مقابل ذلك مبلغاً شهرياً، أما الكفيل فلا يدري في أي بلدٍ يقيمون، وأي عمل يزاولون وقد ترتب على ذلك مفاسد عظيمة جداً، منها: أولاً: تكدس أعداد كبيرة من العمال أكثر من الحاجة المطلوبة دون أن يكون هناك عمل يقومون به، وهذا لاشك له أضرار كبيرة جداً من الناحية الاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية، في البلاد لو أن هناك من يلاحظ ذلك ويراقبه.
ثانياً: عجز وفشل في الشركات والمؤسسات الكثيرة التي أصبحت تتاجر بجهد العمال وعرقهم ثم تشهر إفلاسها وتعلن عنه بعد ذلك.
ثالثاً: هي الجرائم العظيمة والخطيرة لمثل هؤلاء، إن الكثيرين ممن يحضرون العمال ويفرضون عليهم نسبة معينة لا يراقبونهم، ولا يدرون أين يذهبون، ولا بماذا يتاجرون، فربما تحول العامل في كثير من الأحيان إلى تاجر مخدرات، لأن هذا أقرب طريق، ولأنه يضمن من ورائه أرباحاً طائلة، وتحوَّل آخرون إلى متاجرين بالرذيلة والفاحشة والفساد، وتحولت فئة ثالثة إلى قوم يتعاطون ويبيعون الأفلام المحرمة من أفلام السكس وغيرها؛ لأن هذه الأشياء أمور يستطيعون أن يقومون بها ويجدون من ورائها أرباحاً طائلة؛ وهم قومٌ مغفول عنهم لا يسألون أين راحو، ولا أين أتوا، ولا مما كسبوا، ثم إن من جراء ذلك: الحوادث والجرائم الضخمة العظيمة، وعلى سبيل المثال: في عام (1410هـ) ذكر الكتاب الإحصائي لوزارة الداخلية -وهو كتاب رسمي موثق- يتكلم عن الجرائم والحوادث المسجلة رسمياً، دعك من الأمور التي انتهت، ودعك من الذي لم يكشف، دعك من هذا كله اقتصر فقط على المعلن رسمياً من كتاب الإحصاء لوزارة الداخلية عام (1410هـ) يقول لك: إن الحوادث الجنائية (22952) حادثاً لهؤلاء الذين -اتهموا طبعاً بهذه الحوادث- من خارج البلاد تسعة الآلاف وستمائة إنسان (9600) هذا خلال عام واحد، وفي خلال حوادث معينة فقط وهي الحوادث الجنائية أيضاً، فما بالك بكل الجرائم، وما بالك بما لم يصل إلى المستوى الرسمي، وما بالك بما كان بعد ذلك في السنوات التالية.
أما حوادث الانتقام والقتل فهي كثيرة، فكثيراً ما يعتدي العامل أو الخادمة أو المربية على أهل المنزل فيبيتهم ليلاً ويقتل منهم بسبب من الأسباب.
وكذلك أيضاً حوادث السحر والشعوذة والكهانة وغير ذلك وقد انتشرت في البيوت وكثرت كثرةّ غريبة ملفتة للأنظار، وأدعو طلبة العلم والمهتمين بالأحوال الاجتماعية والخطباء إلى الانتباه والاهتمام لهذا الخطر الراهن، فقد علمت من خلال الأسئلة الكثيرة التي تصل إليَّ أن كثيراً من البيوت أصبح فيها مخاوف من السحر والشعوذة والكهانة وغير ذلك، وأصبح كثير من النساء تستخدم بعض العاملات الأجنبيات في مثل هذا العمل، وكثير من العمال أيضاً الذين لا يجدون عملاً يتاجرون بمثل هذه الأشياء.
ومثله أيضاً الأعمال غير الأخلاقية التي يتورطون بها رجالاً أو نساء، وقد فتحت الصحافة المصرية بعد حرب الخليج ملفاً خطيراً للعمال المصريين في منطقة الخليج سمته: الرق المؤقت، وهذه الكلمة لها دلالتها على بعض الظلم الذي يقع فعلاً على العمال، والذي قد نظن أنه ينسى؛ ولكن الواقع أنه مكتوب محسوب لا أقصد في الدار الآخرة فهذا أمر معروف، ولكن حتى في هذه الدنيا فإن روائحه أصبحت تتكلم عنها الصحف العربية وغير العربية.
إن الإنسان المسلم الذي جاء ثم لم يجد عملاً سوف يأخذ انطباعاً سيئاً عن هذه البلاد وأهلها، وسوف يرجع بصورة غير الصورة التي جاء بها.
لقد جاء يتصور أنه قادم على أولاد الصحابة، وعلى الفضلاء النبلاء الأخيار الأتقياء الأبرار، فوجد أن الأمر بخلاف ذلك فرجع بغير الوجه الذي ذهب به، رجع يحمل انطباعاً سيئاً عن هذه البلاد وأهلها من خلال رب العمل والكفيل!! بل من خلال المجتمع الذي يعتبر في نظره متواطئاً على تلك الجريمة، أما غير المسلم فقد أكدَّت له تلك التصرفات والأعمال المعلومات التي كانت تقال له من قبل عن الإسلام والمسلمين، لقد عُثِّئ قبل أن يأتي عن صورة الإسلام وصورة المسلمين واضطهادهم وظلمهم وعدم إنسانيتهم وغير ذلك، فلما جاء رأى بعينه ما كان يقال له من قبل، فأصبح بالنسبة له عين اليقين.(5/17)
بيع التأشيرات
الصورة الرابعة من صور الظلم: بل هي من المظالم الكبيرة، بيع التأشيرات والفيز، فقد أصبحت سلعة رابحة رائجة، وبعض أصحاب النفوذ، وبعض الذين يملكون الوساطات والشفاعات، أو الجاه، أو المسئولية، يستخرج الواحد منهم المئات بل الألوف من هذه التأشيرات ويبيعها بأثمان باهظة، خاصة إن كان هناك صعوبة بالنسبة لبعض البلاد، وقد رأينا في تلك البلاد أن بعض التأشيرات تباع بمئات الألوف.
لقد أصبحت عملة ذات قيمة؛ يتم تداولها بين الأطراف المستفيدة، والذي لا شأن له ولا قيمة هو العامل، وهو الذي يدفع الثمن غالياً، يدفع الثمن من عرقه ومن دمه ومن دمعه، بل ويدفع الثمن أحياناً -والله- من دينه ومن شرفه، وفي معظم البلاد التي يتم فيها الاستخدام والاستقدام منها بكثرة، يوجد شركات يسمونها شركات، وقد رأينا هاهنا ووقفنا عليها، لها بيوت وأحواش واسعة تحشر فيها النساء اللاتي يراد استقدامهن، والرجال لزمن طويل في أوضاع مأساوية، ومهمة تلك الشركات امتصاص دماء الكادحين، تبيع التأشيرة بثمن باهظ لا يستطيع العامل أن يوفره إلا بعد أن ينسى بلده لسنوات وسنوات يجمع المبلغ، وربما باع العامل مزرعته وأرضه وعقاره ومتاعه وما يملك.
المهم عند ذلك العامل المسكين أن يأتي، إلى الجنة الموعودة التي صُوِّرت له هنا، وليس في الدار الآخرة، ولا يحتاج هذا العامل المسكين ليكتشف الخدعة الكبيرة، والكذبة العظيمة؛ إلا إلى بضع ساعات يقضيها في الطائرة، وما أن تقع قدمه هنا حتى يفاجئ بالأمر العظيم الخطير.
إن مسألة بيع التأشيرات من أخطر الأمور وقد علمت من خلال أسئلةٍ كثيرة، ومن خلال الأخبار وبعض القصص أن مثل هذه الأشياء أصبحت تباع بشكل كبير.(5/18)
الاحتقار
خامساً: الاحتقار والإهانة والسب والشتم وعدم مراعاة الحقوق المعنوية للعامل، فإن صاحب العامل؛ بل ومن يعملون عنده؛ بل وعامة الناس في كثيرٍ من الأحيان لا يرعوي أحدهم بأن يحتقر العامل، أو يسفهه، أو يسبه، أو يشتمه، أو يضربه، أو يهينه بألوان الإهانة، أو يستخدم معه أساليب اللف والدوران سواءً بالكلام أو بالقول أو بالفعل، باعتبار أن هذا العامل في نظرهم مخلوق من الدرجة الثانية أو الثالثة لأنه لا يملك مكتباً ضخماً -كما تملك أنت يا صاحب العمل- ولا سيارة فارهة، وليس له هنا أسرة ولا أولاد، حتى ردُّ السلام أحياناً نعتقد أنه ليس ممن يدخل فيه، أو ترد عليه السلام، وربما لو رأينا رجلاً يُسلم على هذا العامل -أحياناً- لدارينا ابتسامة في شفاهنا، يسلم على هذا العامل؟! أما المصافحة والبشاشة في وجوههم، وإدخال السرور على قلوبهم، والحديث معهم؛ فأعتقد أن الكثيرين منا يعتقدون أن هذا مما لا يليق أن يفعله الإنسان مع العامل.
إذاً يعتقدُ الكثيرون أن النصوص الشرعية يُستثنى منها العمال، ولا أدري من أين جاء هذا الاستثناء الذي أصبح قاعدة مستقرة في قلوب وعقول الكثيرين، إن هذا ليس خاصاً برب العمل؛ بل هو عامٌ في المجتمع كله، وكلمة هندي -مثلاً- في دول الخليج كلها لها معنى خاص، ولها تداعيات معروفة، بل الذي يكره زوجته يناديها، ويقول لها: تعالي يا هندية، روحي يا هندية، يا أخي! الإسلام ليس فيه عربي وعجمي وهندي، وغير هندي، إنما فيه مسلم وكافر! {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره يحذره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
مجتمع الإسلام الأول كان فيه محمد صلى الله عليه وسلم العربي، وأبو بكر العربي، وفيه بلال الحبشي، وفيه صهيب الرومي، وفيه سلمان الفارسي، وبناة الإسلام من القواد والفاتحين والعظماء والعلماء والدعاة كان فيهم من كل بلاد الدنيا دون استثناء، فلماذا التعيير بالجنسية، أو باللون، أو بطبيعة العمل، أو بأي شيء آخر؟! ولماذا تتخذ من ضعفه مجالاً لأن تمارس عليه ألوان التسلط والإذلال؟ يا أخي! يقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم: {اعلم يا فلان لله تعالى أقدر عليك من قدرتك أنت على هذا الغلام أو على هذا العامل} .(5/19)
عدم توفير ضروريات الحياة
سادساً: عدم توفير ضروريات الحياة، كيف يسكن هذا العامل؟ نعم! أنا أخبرك الخبر اليقين، يسكن أكثر من ستة وعشرين عاملاً في غرفة واحدة مساحتها (4×5) الأسرة عبارة عن طبقات بعضها فوق بعض؛ كأنها أدراج يضع العامل فيها نفسه ويصعد على السلم من أجل أن ينام في السرير الأعلى.
أما التهوية فلا تهوية، أما الإنارة فهي عبارة عن أسلاك من الكهرباء في غاية الخطورة، وإذا جاءت الأمطار صارت عرضة للإصابات وغيرها، أما التدفئة أو التكييف في الشتاء والصيف، فهذا أمر قد انتهى منه والله المستعان، وصاحب العمل يقول: مسكين أنت تريد أيها العامل تدفئة تريد تهوية! أنا في بيتي لا يوجد مكيف، فكيف أستطيع أن أحضر لك ذلك.
أما المرافق من دورات المياه فلا توجد أو توجد بصورة سيئة ورديئة.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى توفير الماء للشرب لا يوجد، الملابس قلما توجد، الطعام لا يوجد، العلاج لا يوجد.
بل إن أحد الإخوة كتب إليّ ورقة يقول فيها: يجب ألَّا يمرض إلا إذا كان كفيله موجوداً وأذن له بذلك! هل سمعتم بهذا؟ نعم لأن المستوصفات لا تقبله في حالة مرضه إلا بشروط، الأول: وجود إقامة سارية المفعول وهذا لا غبار عليه، الثاني: وجود ورقة مختومة من الكفيل بالنسبة لمستوصفات الأحياء، أما المستشفيات فلا تستقبل أصلاً مراجعة من تسميهم بالأجانب، وأعتقد أن الأجانب ليسوا هم إخواننا المسلمون حتى لو كانوا من أي جنسية أو بلد، إنما الأجانب هم الكفار الذين في أحيان كثيرة يملكون من توفير ضروريات الحياة أكثر مما يملكه المسلم، ولعلي ذكرت لكم نماذج من هذا فيما مضى.
ألم تعرف أن الأطباء أنفسهم في الغالب ينتمون إلى جنسيات شتى من غير هذه البلاد، فكيف ترى يحدث في مثل ذلك من الحزازات والأحقاد والبغضاء حينما يرى الطبيب مثل هذه المعاملة والتمييز والتفرقة، ويرى العامل أيضاً مثل ذلك!! إنها ضروريات الحياة التي لم نفلح في توفيرها لهؤلاء العمال الكادحين؛ بل لعلك تعجب أنه حتى الموت أحياناً تكتنفه بعض الصعوبات، نعم! العامل المسلم إذا مات قد يصعب دفنه بعد موته، أما قبل موته فربما يكون من الممكن أحياناً أن يدفن بركام المظالم التي يثقل بها كاهله، ربما جلس العامل المسلم الميت في الثلاجة ثلاثة أشهر أو أربعة اشهر، والكفيل متهاون بهذا الأمر، خاصة وأن الميت لا يمكن أن يؤدي أي خدمات، والقضية عندنا قضية مصالح دنيوية، والمستشفى لا يصرح بدفنه إلا بعد استكمال الإجراءات.
لقد وقفت -أيها الإخوة- على الصورة المرسومة للسكن الذي يجب أن يعيش فيه العامل حسبما هو موجود في نظام العمل والعمال السعودي، فوجدت أمراً عجيباً.
إن نظام العمل يقدم صورة للسكن لما قرأتها أقول لكم بصراحة: تمنيت أن يتاح لي سكنٌ تتوفر فيه تلك الشروط، (مساكن واسعة، ملاعب رياضية، مستوصفات، مدارس، أماكن ترفيه، أماكن علاج، تكييف، تهوية، تدفئة، مياه نقية، دورات مياه) إنها صورة تشبه الصورة التي رسمها أفلاطون لجمهوريته، لكن هذا هو المكتوب على الورق، أما المعروف على الطبيعة فإنه لا يحتاج الى بيان.(5/20)
تغيير العقود
الصورة الثالثة من صور الظلم: تغيير العقود بعد وصول العمال إلى مكان العمل، وكثيرٌ من العمال يوقعون على عقود وهناك أو تعرض عليهم أو يعرفونها، فإذا وصلوا إلى مكان العمل، غُيَّرت العقود بما يخدم صاحب العمل ويضر بالعامل، ووضع العامل بين أمرين أحلاهما مر، إما أن توافق على هذا العقد الجديد بما فيه من ظلم ونقص للراتب ومضاعفة لساعات العمل وتكاليف جديدة، وإما التسفير والعودة إلى بلدك، وبالتأكيد فإنه سيقبل وسيوافق مضطراً على هذا العقد الجديد.
أيها الأحبة إن العامل يأتي إلى بلاد الثروة والنفط في بلاد الخليج خاصة؛ وفي تصوره أنه سوف يرفن فقره وفقر أبويه وأولاده في سنوات قليلة يقضيها هنا، وأنها كفيلة بأن تجعله يعيش في رغدٍ من العيش ما بقي، حتى إن بعضهم يدفع مئات الألوف من أجل تأشيرة يشتريها هناك، ويظن أنه سوف يسددها خلال فترة وجيزة، فإذا جاء فوجئ بالأمور على غير ما تصور وأن العقد المبرم الذي جاء بموجبه لابد أن يُغيَّر لصالح رب العمل، أيها الأخ، الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وهذا عقد أبرمته مع إنسان.
يا أخي! والله لو كان كافراً فربما يجوز ذلك هذا، فكيف وهو مسلم، (أوفوا بالعقود) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم، أحدهم: رجل أعطى بي ثم غدر} لقد قطع هذا المسكين آلاف الكيلومترات بناءً على عقد معين، فلما جاء فوجئ بأمرٍ آخر لم يكن في حسابه.(5/21)
عدم دعوة العامل
أولاً: ترك العامل جاهلاً لا يعرف دينه، وأي ظلم أظلم من أن تحرمه من سعادة الدنيا التي تكون بطاعة الله عز وجل، وأن تحرمه سعادة الآخرة بجنة الله تعالى التي ينالها بتقواه واتباع دينه وشرعه، إنه ليس من الشهامة أبداً أن تُعيِّر العامل بأن بلاده بلاد الشرك؛ ثم لا تعلمه أنت التوحيد، ولا أن تُعيِّره بأن في بلاده التبرج والسفور وتردي الأخلاق والانحلال وشيوع المنكرات، ثم تتركه دون رعاية أو عناية أو تربية أو مراقبة.
لماذا لا تسأل عاملك عن الصلاة وأدائها كما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعطيه فرصة القيام بها؟ لماذا لم تهيئ له فرصة العبادة كالصيام، والحج المفروض الذي تتحرق نفسه إليه، وإلى قراءة القرآن، وإلى غير ذلك من الأعمال الصالحة؛ مع أن هذا لن ينقص من عمله، بل سوف يزيده، وسيشعر بأن العلاقة بينك وبينه علاقة ود ومحبة وإخاء وحياء وسيضاعف من جهده ونشاطه؟! لماذا تترك العامل لعاداته الموروثة التي تلقاها في بيئته وأسرته أو تدعه لزملائه -زملاء العمل أو زملاء السكن- الذين هم مثله أو أقل أمنه، أو تتركه لأشرطة الفيديو يقتل بها وقت الفراغ وكل ما عملته أنك سهلت له مهمة الحصول على جهاز التلفاز وجهاز الفيديو، وشراء هذه الأشرطة أو حتى استقدامها عن طريق البريد الذي يسمح بألوان من الأشرطة للعمال وغيرهم حتى ولو كان فيها العري الكامل أحياناً وحتى لو كانت مما لا يسمح به في قوانين وزارة الإعلام؟!! أين المجهود الدعوي الذي تؤديه أنت مع عمالك؟ إنني أسألك سؤالاً: ألست تريد الدنيا، وتحب المال؟ لاشك أنك كذلك.
سؤال آخر: ألست تثق بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً ويقيناً؟ قطعاً ويقيناً أنت تثق بأنك مسلم موحد، إذاً فاسمع يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان في قصة علي رضى الله عنه قال: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} حتى ولو كان عاملاً؟ نعم، حتى ولو كان جاهلاً؟ المهم أنه إنسان، خيرٌ لك من حمر النعم، خيرٌ لك من الذهب والفضة والدرهم والدينار والإبل التي كانت من أنفس وأعظم مقتنيات العرب وأموالهم، فأين أنت من هذا الخير الكثير.
ومثل ذلك أيضاً تلك الخادمة أو الممرضة أو غيرها، لماذا لم نأمرها بالحجاب الشرعي؟ ونسترها ونصونها ونربيها على العفاف والبعد عن الرجال ومجانبتهم، والتحرز من الاحتكاك بهم أو مقابلتهم أو القيام على خدمتهم بأي وسيلة، هذا من أعظم الأمور والمسئوليات.
وإنني بمناسبة الحديث عن موضوع دعوة العمال إلى الله عز وجل، وتربيتهم على الخير، وتعليمهم أمور الإسلام، أذكر ذلك التعميم القضائي الذي وزع على جميع المحاكم في (21/10/1411هـ) والذي يقول بما يتعلق بهذه الفقرة يقول التعميم: على كافة أصحاب الأعمال من شركات ومؤسسات وأفراد الذين تحت كفالتهم أيدٍ عاملة غير مسلمة؛ بوجوب العمل بكل الوسائل الممكنة لترغيبهم في الإسلام، وتمكين من يسلم منهم بإقامة شعائر الدين أسوة بإخوانهم المسلمين؛ وعدم التضييق عليهم، ومن يخالف ذلك من أصحاب الأعمال أو تابعيهم يحال إلى القضاء الشرعي لتقرير الجزاء الرادع في حقه، ويشار في التعميم إلى أن مراكز الدعوة والإرشاد هي الجهة المختصة لمتابعة ورعاية أحوال المسلمين الجدد، كما يشار فيه إلى حث أصحاب الأعمال على أن يكون مراقبو العمال والمسئولون المباشرون عنهم من المسلمين.
نأمل اتخاذ الترتيب لإنفاذ ما يخص هذه الوزارة بما يتعلق بالتعميم المشار إليه، وللإحاطة واعتماد موجبه فيما يخصكم جرى تعميمه والله يحفظكم، التوقيع وكيل وزارة العدل: -سابقاً الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى.
إن هذه فرصة أن يمكن العمال من الدعوة إلى الله تعالى، ويمكنون من القيام بشعائر الدين، بل وأن يكون القائمون عليهم من المسلمين؛ وأن من يعارض أحكام هذا التعميم يحال إلى القضاء الشرعي، ولدى المحاكم أوامر باستقبال كل قضية من هذا النوع.(5/22)
انتقاص أجرة العامل
الصورة الثانية: عدم إعطاء العامل أجرته أو راتبه الشهري أحياناً يتأخر إلى شهر أو شهرين، بل إلى ستة أشهر بل أحياناً يتأخر لسنوات، وقد حصل من شركات عدة، من بشركات الصيانة والنظافة والتشغيل وغيرها أن يوجد عندها مئات العمال يقيمون ربما ظلوا لسنوات معدودة لم يقبضوا قرشاً واحداً، مماطلة وتسويف وتلاعب وفي غفلة الرقيب، مع أن الكفيل في كثيرٍ من الأحيان يملك من أساليب الكيد ما يجعلهم لا يشتكون، فهو يهددهم بالتسفير إن اشتكوا، وقد يجعل بعضهم يوقعون أحياناً على استلام بعض المرتبات وهم لم يستلموها، ويوقعون لأنهم جهلة لا يعرفون، أو لأنهم جاءوا حديثاً ولا يدرون ما الخطب، أو لأنهم يخافون، ويقول: وقع وسوف يأتيك الراتب غداً، فيوقع العامل لأنه لا يريد أن يثير مشكلة مع كفيله من أول وهلة ويظن أن الأمر سوف يمضي بسلام.
يا أخي! بئس الدرهم والدينار الذي يدخل جيبك من عرق هذا المسكين، واسمع هذا التهديد النبوي المخيف الذي رواه مسلم في صحيحه عن إياس بن ثعلبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من اقتطع حق امرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم الله عليه الجنة، وإن كان شيئاً يسيراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن كان قضيباً من أراك} ما يساوي ريالاً واحد، أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، إن عجز هذا العامل عن استيفاء حقه لا يُسَوِّغُ لك أبداً الاعتداء عليه، ولا تقول: هذا ضعيف لا يستطيع أن يطالب بحقه، ولا أن يصل إلى المحاكم، ولا إلى مكتب العمل، ولا إلى أين يذهب، لا تقل هذا لأنه ليس هو خصمك، بل أن خصمك هو الله، من يقل هذا؟ يقوله الرسول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، يقول في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره} أي استوفى منه العمل ولم يعطه مقابله، فالله تعالى خصمك يوم القيامة.
لقد استوفيت منه العمل أو بعض العمل، فلماذا لم يستوف منك الأجرة كلها أو جلها؟ ألم تعلم أن من أسباب البركة في مالك، والسعة في رزقك، ألَّا يدخله قرش ولا ريال من كد هذا العامل، ألا تعرف قصة الرجل الإسرائيلي {الذي عمل عنده عامل أحد الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار عمل عنده عامل، فذهب وترك أجرته، فنماها له، فأتاه بعد سنين، فقال: اتق الله وأعطني حقي، فقال: كل ما ترى من حقك فأخذ وادياً من الإبل ووادياً من البقر ووادياً من الغنم، حتى كان يقول: أتسخر بي! قال: إني لا أسخر بك، فاستاقه كله وما ترك منه شيئاً} .
إنه عزل حقه ونصيبه ونماه له حتى أصبح هذا العدد الكبير من الشاة والبقر والإبل ثم أعطاه إياه، ولذلك بارك الله تعالى له في رزقه ووسع له في دنياه، ولذلك كشف الله تعالى عنه الشدائد فلما انطبقت عليهم الصخرة فسأل الله تعالى بهذا العمل الصالح زالت عنهم وخرجوا يمشون، فإذا كنت تريد أن يكون الله لك في شدائدك وكربك وأزماتك المالية وأزماتك الاقتصادية، بل ومصائبك في نفسك، وفي أهلك، وفي مالك، وفي ولدك، وأنت قادم على مصائب أعظمها مصيبة الموت، فإياك إياك أن يدخل جيبك قرش أو ريال بغير حق.
وبعض أصحاب العمل يفرض على العامل نسبة معينة ثقيلة، فهو قد جاء به أنه سوف يعمل بشروط معينة لقاء راتب معين، ألف ريال مثلاً أو أقل أو أكثر، فإذا جاء قال له: لا، نغير العقد، المطلوب منك مثلاً أن تعطيني شهرياً مبلغ ألف ريال أو ألفين ريال أو ثمانمائة ريال، فما زاد فهو لك، فهذه النسبة أحياناً تكون نسبة ثقيلة لا يستطيع العامل أن يقوم بها، ولا أن يحققها، وما يسر له الكفيل شيئا، لا سكنناً، ولا سيارة، ولا عقود عمل، ولا مراقبة، ولا شيئاً، وإنما تركه يسيح في الأرض يبحث عن عمل، المهم أن يأتي بخراج شهري تأتي به إليه وهو ذلك المبلغ المعلوم، وبئس هذا المال أيضاً الذي جاء نتيجة كد هذا العامل وسرقة جهده، فماذا عملت أصلاً مقابل هذه النسبة التي تأخذها؟ ماذا وفرت له؟ نعم، أنا أعترف أن منهم من يحسن فيوفر للعامل سكناً ويوفر له سيارة وقد يوفر له عقود عمل أحياناً ويراقبه أيضاً، ويرفق به، وتكون النسبة المتفق عليها نسبة معقولة مرضية للعامل ومرضيه لصاحب العمل وليس فيها ظلم، ومثل هذا لا إشكال فيه، الإشكال هو في تلك النسب الباهظة العظيمة؛ مع الإهمال الكامل للعامل.
وآخرون يقتطعون من راتب العامل شهرياً مبلغاً معيناً بعدما يستلمه أو يوقع على استلام المبلغ كله ويأخذون جزءاً منه، ويحتفظون بهذا؛ فإذا أرادوا أن يسفروه -مثلاً- سفروه على حسابه هو، مع أنهم ملتزمون أن يكون السفر على حسابهم.
وبعضهم يبخسون العمال مرتباتهم؛ فيعطونهم راتباً لا يكفي لشيء، حتى إن بعض العمال يشتغل بثلاثمائة ريال شهرياً، وعنده هو أعمال يريد أن يقوم بها وهو يريد أن يجمع للزواج، ويريد أن يرسل لأبويه، وقد ترك وراءه أقارب كثيرين هناك بل ربما يكون متزوجاً وله أطفال، وربما كان هذا الرجل قد تحمَّل مبالغ ضخمة -كما سوف يأتي- من أجل أن يجيء إلى هذه البلاد؛ وأخيراً يكون مرتبه ثلاثمائة ريال أو أربعمائة ريال.
بل أشد من ذلك أن بعض الناس قد يكون موظفاً في عمل، فيتفق مع عامل آخر على أن يقوم بالعمل بالنيابة عنه، ويكون الرجل الأصلي الذي العمل باسمه يستلم ألفي ريال مثلاً، يعطي للعامل منها الذي يقوم بالعمل فعلاً ويتعب ثلاثمائة ريال، ويضع في جيبه ألفاً وسبعمائة ريال مقابل أنه يوقع على الكشف في نهاية الشهر، ولاشك أن هذا المال حرام حرام حرام! شاء أم أبى واستفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك، ألف وسبعمائة ريال تأخذها من عرق وجهد هذا المسكين مقابل ماذا؟(5/23)
مشاركات
هناك نقطتان: النقطة الأولى: هذه مشاركة من أحد الإخوة بعنوان سباحة أو سياحة فكرية في عقل عامل نظافة، يقول: عندما ترى عامل النظافة في الأربعين عاماً ربما انزعجت من صوت عربته، وارتطام عجلاتها بحفر الأرض، وربما التفت إليه ناهراً، وربما يراه أحد الأطفال وهو ينظف الأرض وقصاصات الأوراق وقطع الخشب؛ فدفعته غريزة العناد إلى أن يمزق أوراقاً أو مناديل كانت مستقرة في جيبه، ليقوم هذا الذي يسميه: رفيق، بجمعها وهو ينظر بتلذذ، وربما كان عمر هذا الطفل ثمانية عشرة عاماً، نعم هو طفل ولكنه كبير، وربما لفت نظرك عناية هذا العامل بشعره؛ فهو يقوم عليه بالدهن والمشط والتصفيف يومياً، ألم يخطر ببالك أنه ربما كان هذا الفعل هو العمل الوحيد الذي يستشعر به بقاء ذاته ويبقي على كبرياء نفسه؟ عندما يرى في طريقه طفلاً صغيراً ربما انفلتت من عينه دمعه، إنه تذكَّر أبناءه الصغار الذين خلفهم في بلاده البعيدة منذ زمن طويل لا يراهم إلا في الأحلام، ولا يعرف من أخبارهم إلا ما تجود به الأيام من رسائل على مدد متباعدة طويلة، وعندما يرى جمعاً من الناس في مناسبة ما يجمح به الخيال بعيداً حيث أبواه وإخوانه وأقربائه وخلانه وهو يلتقي بهم ويتحدث إليهم، وربما لم يرده من شروده إلا صوت المراقب ينهره ويأمره بمواصلة العمل.
عندما يدفع عربته التي باتت أقرب الناس إليه بين الشوارع، ويرى البيوت الشامخة المكللة بالمصابيح المختلفة ذات الأشكال الهندسية البديعة يستحضر في ذهنه كوخه المتهدم الذي يقطنه أولاده وزوجته وأبواه وإخوته.
وعندما يبصر صاحب البيت وهو يوقف السيارة ليفرغ حمولتها من كل لون وجنس من المطعوم والمشروب يتلمظ ويسيل لعابه وهو يتذكر واقعه الذي فر منه، وكيف كان يجهد وراء لقمة العيش ويجلب الماء من النهر، وربما أدركت صاحبة البيت الرقة فنفحته ببرتقاله أو تفاحة أو جمعت بينهما فرفع يديه بالشكر والدعاء وأجهد مكنسته وهي كل ما يملك حول هذا البيت المنعم، وعندما يهب إلى مسكنه وهي الغرفة التي يشاركه فيها أربعة من زملائه يحس بالإرهاق بعد تعب النهار، فلا يجد ما يُسلِّيه إلا صوت المذياع وربما لم يعرف اللغة التي يتكلم بها المذيع، وربما أحس بمرض، أو أصيب بحادث، ووقتها شعر بوحشة الوحدة، ولسع الغربة، ولا أحد يخفف عنه، ولا أحد يؤنسه حتى ثقلت عليه الساعات وأظلمت في وجهه الأيام، وربما مات وحيداً غريباً، وبينما كان أولاده ينتظرونه ليزغردوا في وجه، وكانت زوجته تترقب وصوله لتطمئن على سلامته، وكان أبواه ينتظرانه ليساعدهما بماله الذي جمعه على علاج مرضهما؛ ففوجئ الجميع بجثمانه يصقع أبصارهم، فماتت البسمات على شفاههم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق37] وآخر شارك بقصيدة تُعبِّر وتحمل بعض هموم صاحب العمل، ولعلها موعظة لرب العمل قبل أن تكون حكاية لواقع، شارك أحد الإخوة بهذه القصيدة: اعلم هداك الله أن حياتنا لا تستديم لنا ولا تتخلد وأنا وأنت وكل حي نابغ تحت التراب مصيره سيمدد وهناك لا تحكي سوى أعمالنا كل صحيفته شراع مفرد فارجع وعدل ما استطعت فإننا ما بين غمضٍ ثم رمش نورد فالظلم ظلمات إذا بعث الورى وجوارح عند الإله ستشهد واحذر لمظلومٍ دعاءً صادقاً يدعو عليك وقلبه يتوقد ما بين دعوته وبين إلهه حجب تظلل أو صواعق ترعد حق الأجير معلق برقابكم ما ظل عرق لم يجف ويجحد فعلام تؤذينا بهظم حقوقنا ولكم بذلك واجبات تحمد سبع قضيناها بكل أمانةٍ ما زاد فيها الراتب المتجمد وتضاعفت أعباؤنا فحملتها ثقلاً على كتفي وما فترت يدي لكنني ما نلت أي مقابل معنى يكون لنا وشيء ينقد فظللت أستجدي لآخذ أجرتي حقاً تذللني به لا أبعد وتؤخر المصروف عن ميعاده ومعاشنا فيه ومنه المرقد ولأنني أنا قد طلبت إجازتي تقسو عليَّ وبالخروج تهددُ أتظن إن عدنا إلى أوطاننا سنموت جوعاً أو سيطفأ موقد الرزق عند الله وهو كفيلنا ما ظل نبض قلوبنا يتجدد ما لي أراك عدلت عن خلق الألى وخصال قومك أنت عنها تبعد فأبوك نجم في المروءة ساطع هش اللسان وفي المكارم فرقد نعم، هكذا كان أبوه، أما الولد فكما قيل: أرى ناراً قد انقلبت رمادا.
جم التواضع لا يحقر غيره شهمٌ وعند الحق لا يتردد ملك القلوب بنيله ووفائه عدل وما لقضائه أبداً غدر ما غره مال ولا متقلب أفضاله في البر لا تتعدد فالله أسأله بحق صفاته صبراً على الدنيا به أتجلد ويرد مظلمتي غداً يا ذ ذاك يوم تقول ما فعل الغدُ(5/24)
وقفة مع نظام العمل والعمال السعودي
أما النقطة الأخيرة فهي وقفة مع نظام للعمل والعمال وهو نظام موجود ومطبوع، وهو المفروض نظاماً أن يكون العمل به، وقد قرأت عن هذا النظام وسجلت عليه بعض الملاحظات التالية، أقولها باختصار لأني أريد أن أقسم بعض الوقت أيضاً: أولاً: يبدو أن هذا النظام مستل في معظم مواده من قانون العمل المصري، وقانون العمل المصري مأخوذ بطبيعة الحال من القوانين الإنجليزية والفرنسية والأجنبية بشكل عام.
ثانياً: يتكلم القانون الذي سُمي (تلطيفاً بنظام) يتكلم عن مسألة الأجانب، ولا أدري من المقصود بالأجانب.
إن الأجانب في حصن المسلم هم الكفار، أما المسلم فهو أخونا، له ما لنا وعليه ما علينا بغض النظر عن بلده، أو لونه أو جنسيته أو دولته، إن هذا التعريف للأجنبي تعريف غريب؛ فالسعودي -مثلاً- هو المواطن أياً كان، لا يلتفت إلى أي شيء آخر، أما الأجنبي فهو غير السعودي أياً كان لونه أو دينه أو بلده أو عمله.
ملاحظة أخرى يقول النظام: لا يجوز اتهام العامل في مخالفة مضى على كشفها أكثر من خمسة عشر يوماً كما أن في المادة رقم (126) وفي الشرح يقول: إن إيقاع الجزاء على العامل مقابل عقوبة أو خطأ وقع فيه لا يجوز بعد ثبوت المخالفة بأكثر من ثلاثين يوماً، إذا كان العامل يتقاضى راتباً شهرياً لشهر، أو خمسة عشر يوماً لغير هؤلاء، وهذه فيها نظر؛ لأن الحق لا يسقط لمضي خمس عشر يوماً، بل يؤخذ من صاحبه ولو مضى على ذلك ما مضى.
في المادة (129) كلام جميل من الناحية النظرية: حالة صحية نظيفة لسكن العمال، حالة صحية نظيفة خالية من الروائح، تهوية للغرف، الوقاية من الغبار والدخان، الإنارة لابد أن تكون كافية، دورات المياه، المياة صالحة للشرب، مياه الغسيل … إلخ، لكن في الواقع العملي كما أسلفت، ما يدل على أننا بحاجة إلى رقابة جيدة على إسكانات العمال.
أولئك الذين يملك الواحد منهم خمسين عاملاً أو أكثر نصت المادة (137) على ما يلي: لابد مع ما سبق من وجود: أولاً: حوانيت لبيع الحاجيات التي يحتاجون إليها.
ثانياً: متنزهات وملاعب رياضية.
ثالثاً: ترتيبات طبية مناسبة.
رابعاً: مدارس لتعليم أولاد العمال.
خامساً: برامج لمحو الأمية.
سادساً: نظام للتعيينات والترقيات مناسب.
وأقول: كلام جميل، إضافة إلى ذلك فهناك الإجازات المتنوعة للأعياد السنوية فضلاً عن النفقات والمصاريف وغيرها، إجازات -كما قلت- أعياد: عيد الأضحى، عيد الفطر العيد الوطني هذا فيه إجازة أيضاً، إجازة مرضية، إجازة الوضع بالنسبة للنساء ومدتها في اعتقادي حوالي سبعين يوماً، إضافة إلى ذلك كله النظام أعطى للعامل باليد الملىء من كل الجوانب، لكن هذه من الناحية النظرية لكن من الناحية العملية، فالأمر كما أشرت إليه.
هناك قضية خطيرة تتعلق بتسوية الخلافات فيما يتعلق بالخلافات بين العمال أو بينهم وبين أرباب العمل، فهناك لجان، النوع الأول من اللجان تسمى: لجان ابتدائية، هذه في القضايا الصغيرة أو الجزئية أو المؤقتة، واختصاص هذه اللجان بعض الخصومات يرأسها حاكم شرعي ولابد أن يشارك فيها رجل حقوقي أو قانوني كما نصت المادة (173) .
النوع الثاني: وهو الخطير: اللجنة العليا التي تعتبر مجالاً للاستئناف، وتسوي الخلافات الكبيرة، وتعتبر قضاياها نهائية، هذه اللجنة تؤلف من خمسة أعضاء، ثلاثة يمثلون وزارة العمل، والرابع وزارة التجارة، والخامس يمثل وزارة البترول، ويجب أن يكون رئيس اللجنة وأعضاءها من المتصفين بالحيدة والخبرة في الشئون الحقوقية.
قال الشارح: الشئون القانونية كما نصت المادة (175) ولم يرد ذكر للشرع قط في هذه المادة.
مهمة هذه اللجان العليا: أولاً: الاستئناف كما ذكرت.
ثانياً: عقوبة من يخالف أحكام نظام العمل والعمال، أما إذا خالف الشريعة فلا عقوبة.
ثالثاً: قرارات هذه اللجان قرارات نهائية واجبة التنفيذ فوراً.
رابعاً: صلح هذه اللجان ملزم، فإذا صالحت بين طرفين فصلحها ملزم ولا يحق لأحد أن يعترض على ذلك.
المادة (185) تقول: لا يجوز لأي لجنة من اللجان المنصوص عليها أن تمتنع عن إصدار قرارها بحجة عدم وجود نص في هذا النظام يمكن تطبيقه، يعني: لا ترفض النظر في قضية، وتقول: لا يوجد في نظام العمل السعودي نص يصلح لهذه الحالة، وعلى اللجان في هذه الحالة -يعني: في حالة عدم وجود نص في قانون العمل والعمال- عليها في هذه الحالة أن تستعين بماذا؟ مبادئ الشريعة الإسلامية والقواعد المحلية، وما استقرت عليه الثوابت القضائية، ومباديء الحق والعدل، وقواعد العدالة، وهذه كلها أشياء معروفة في القانون الدولي.
في الفصل الثاني عشر هناك شيء اسمه العقوبات الجزائية، وهو يؤكد أن معظم أو كل العقوبات هي عبارة عن غرامات مالية، ثم كل التجريم الذي ينزل بالعامل يتعلق بمخالفته لنصوص نظام العمل والعمال.
للمراجعة: راجع كتاب شرح نصوص نظام العمل والعمال، في المملكة العربية السعودية للمستشار يوسف عبد العزيز محمد عبد المجيد، طباعة الدار السعودية للنشر، الطبعة الأولى عام (1407هـ) .
هناك أشياء لم تبرز في هذا النظام وقد سبق أن أصدر فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله تعالى رسالة قيمة سماها " نقد نظام العمل والعمال " وتكلم فيها عن مخالفة هذا النظام للشريعة في التسوية بين المسلمين والكفار، بل في تفضيل الكفار على المسلمين في أشياء كثيرة في أمور الدية والأعمال والمرتبات وغيرها وإن كان هناك تعديلات فإنها لم تمس جوهر هذا النظام.(5/25)
الأسئلة(5/26)
ذكر بعض المظالم
السؤال
يقول السائل: 1- لقد رغبت في نقل كفالة عامل ووافقت الجهات المختصة، ثم طلبت مني تنازلاً من الكفيل فوافق على التنازل بشرط أن يتنازل العامل عن جميع الرواتب الباقية وعددها ثمانية أشهر فرفض العامل ذلك ومن حقه أن يرفض.
إن في هذا أكلاً لحقوق العمال وأجرتهم متأخرة لها.
هذا نموذج قد ذكرناه قبل قليل.
2- عدم الاهتمام بسكن العمال حيث أني قد رأيت عاملاً أجبره الكفيل على أن يضع سريراً له عند الأغنام من أجل الحراسة.
3- وضع بعض الكفلاء العمال في مسكن واحد وقد يكونون على ديانات مختلفة.
هذا أيضاً من الأخطاء.
4- عدم توفير متطلبات العمال الضرورية مثل الأكل والتكييف والسخانة والملابس وغيرها.
الجواب
نعم وقد ذكر لي وأرسل لي عدد من الإخوة قصصاً طويلة تمنيت أن أذكرها لولا ضيق الوقت.(5/27)
عدم اهتمام العمال بالصلاة
السؤال
بعض العمال لا يهتمون بالصلاة المفروضة فضلاً عن غيرها، وإذا سألته قال: ذكر أنه يتساهل ويقول: أنا أعمل إلى أكثر من ذلك؟
الجواب
هذه أولاً مسئوليته لأنه بشر مكلف.
ثانياً: مسئولية صاحب العمل أن عليه أن يعلمه ويرشده بالخير والمعروف وينهاه عن المنكر.(5/28)
من أنواع ظلم العمال
السؤال
كنت في أحد المدارس وكان عندنا أحد العمال من بنجلاديش وهو مسلم، وفي يوم وجدناه يبكي بكاء مراً تكسرت له قلوبنا وبعد سؤالي عن السبب قال: إن صاحب المؤسسات لما طلبت منه مرتباتي أو مبلغاً من المال لآكل منه أو أتعيش لأنني في بلدة صحراوية تبعد عن الإسفلت خمسة عشر كيلو متراً، قال لي: كل من التراب.
فما رأيكم بهذه المعاملة من صاحب المؤسسة المسلم.
الجواب
هذا يلقى جزاءه عند الله تعالى بل يلقى جزاءه في الدنيا والله لا يوفق مثل هذا أبداً.(5/29)
أمر العامل بحلق اللحية
السؤال
ما رأيك فيمن يقول لعامله احلق لحيتك؟
الجواب
هذا من باب الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ولا يقوله إنسان يخاف الله تعالى، بل عليه أن يأمره بالمعروف ويربيه على مكارم الأخلاق في ظاهره وباطنه.(5/30)
حكم الرجوع لنظام العمل والعمال
السؤال
يقول هل العودة إلى نظام العمل والعمال مرجعاً ملزماً في حالات الخلاف، حتى إن كان ذلك بين الإخوة الملتزمين الذين لا تخفى عليهم مواد هذا النظام المستقاة من الأنظمة الخارجية والأجنبية، كأن يكون صاحب العمل بين قانون العمل مع ما به من إجحاف لحقوق العمال أو إجحاف بحقوق غيرهم؟
الجواب
ينبغي أن يعمل هؤلاء -إذا كانوا من الأخيار والطيبين- على التراضي فيما بينهم وأن تحل القضية صلحاً أو يجعلوا بينهم رجلاً صالحاً ولا داعي لأن يرجعوا إلى مثل هذه القوانين في المواد والأنظمة التي تخالف الشريعة.
أسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يرزقنا العدل في أقوالنا وأعمالنا إنه على كل شيء قدير، وأسأله أن يعز الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين ويعلي كلمة الحق والعدل إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآهل وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(5/31)
عشرون كلمة عتاب للرجل والمرأة
مشكلة المرأة أنها كثيراً ما تُظلَم في أغلب المجتمعات، ولذلك كانت من وصايا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم في حجة الوداع الوصية بالنساء والاستيصاء بهن.
ومع هذا يقع عليها الظلم في المجتمعات الإسلامية، وكثير من الناس من يلصق الظلم بالإسلام أو بالرجولة وجاء أعداء الإسلام فاستغلوا هذه الثغرة ونتيجة لرد الفعل انبرى من يرد عليهم منشغلاً بذلك عن الاهتمام بالمرأة، بتعليمها وتثقيفها وتربيتها تربية إسلامية ورفع الجور عنها ولكن هذا الدرس يسد هذه الثغرة ففيه معالجة لما ينقص المرأة، ولما تشتكي منه.(6/1)
مقدمة في الدفاع عن المرأة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذه الكلمة المختصرة "عشرون كلمة عتاب للمرأة" وحديثي موجهٌ إلى الأخت المسلمة بالذات.
أيها الأحبة أيها الأخوات الكريمات! إننا جميعاً يجب أن نكون أول المدافعين عن قضايا المرأة من منطلق الإسلام والرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت لإقامة العدل والقسط بين الناس وليس في مجتمع الإسلام فصام بين الرجل والمرأة، فإرضاء الرجل لا يعني إسخاط المرأة، وإرضاء المرأة لا يعني إسخاط الرجل، ولا يجوز أن نجعل منهما طرفين متناقضين، بل هما يسيران جنباً إلى جنب على سنن الوفاق والوئام والانسجام.
وثمة رسائل كثيرة واتصالات متعددة تأتيني من بعض الإخوة من الرجال، ويزعمون ويقولون: إنني قد أعطيت المرأة حقها، ولكنني بخست الرجال، ولم أتحدث عن حقوقهم! نعم! يقول لي أحد الإخوة: لقد تكلمت في محاضرة طويلة بعنوان أنصفوا المرأة، وبينت ما للمرأة من حقوق؛ زوجة كانت أو أماً أو أختاً أو بنتاً أو غير ذلك، ثم طيبت خواطرنا في آخر المحاضرة بوعد مفتوحٍ أن تتكلم عن حقوق الرجل، ووجوب إنصاف الرجل، والقيام بواجباته ولكنك لم تفعل، وعلى أي حال فإنني أقول: إن الرجل والمرأة هما كما ذكر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فمن هو الذي يستطيع أن يتصور الحياة بدون امرأة؟! فالأم كانت قبل وجودك، والزوجة كانت بعد وجودك، والبنت فرعٌ عنك؛ ولهذا فالإنسان يعتبر أن إنصاف المرأة إنصاف له هو، فهو إنصاف لأمه وأخته وابنته وزوجه؛ ولكن مع ذلك فإن هذا لا يمنع أبداً عن الحديث عن شئون الرجال وشجونهم.(6/2)
نصائح وعتاب للمرأة
أقول للأخوات الكريمات: إن الحديث الذي سوف أسوقه الآن هو حديث يجري على ألسنة الرجال، وما أنا فيه إلا ناقلٌ ومعبر عما يقولون ويتحدثون، وقد يكونون مصيبين أو مخطئين، والحديثُ إذا كان نصحاً للمرأة فهو إنصاف لها أيضاً قبل أن يكون إنصافاً للرجل، ولنا مع الرجال أيضاً حديث خاص فسيكون حديثي في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى هو مع الإخوة الرجال، أما اليوم، فهذه عشرون كلمة عتاب تحدث بها إليَّ جمعٍ من الإخوة، ولا أكتم سراً إذا قلت لكم: إنني أنظر بعيني فأرى عدداً منهم بين يدي الآن حاضرين ينتظرون هذا الحديث، هم يوجهون أسئلة وانتقادات لبعض أهليهم، وما أنا إلا ناقل ومعبر.(6/3)
إعانة الرجل في أمور دينه
الحادي والعشرون: وهو الأخير، يتحدث عن شكوى لعلها هي الأهم، ولعل تأخيرها حتى تبقى في الذهن وترتسم في الشعور، إنه يقول: إن زوجتي امرأة كريمة، تحسن إلي وتكرمني، وهي لي كما أحب، في ملابسها، وزينتها، واستقبالها، وإعدادها للطعام والمنزل، والعناية بالأطفال، وحفظ سري، وحفظي في نفسها، ومالي، ,عدم إفشاء الأمور، ولكنني أقول: إنها كثيراً ما تشكو مني أنني لا أعينها على أمور دينها، وأنا أيضاً أشتكي منها هذا الأمر بعينه، فأنا أيضاً أحتاج إلى من يعينني على أمور ديني، أحتاج إلى من يوقظني لقيام الليل، وأحتاج على أقل تقديرٍ إلى من يوقظني إلى صلاة الفجر، وأحتاج إلى من يذكرني إذا نسيت، ويأمرني بالمعروف، وينهاني عن المنكر، ويكون خير معوانٍ على طريق الدعوة إلى الله، أحتاج إلى المرأة التي إذا رأتني على صواب شجعتني عليه وأعانتني، وإذا رأتني على خطأ نهتني عنه وذكرتني بالله عز وجل، وأحتاج إلى تلك المرأة التي إذا أيقظتني ولم أستيقظ رشت على وجهي قليلاً من الماء، وحاولت بكل وسيلة أن توقظني للصلاة ولو أن أركع ركعتين في ظلام الليل.
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحاً وإذا ما هممت القول بالبا طل فاجعل مكانه تسبيحا(6/4)
الاهتمام بمواعيد الرجل
أما التاسع عشر: فهو يقول وهي شكوى غريبة: إنني أشكو من إهمال مواعيدي، وعدم مراعاتها من قبل أهلي، سواء كانت هذه المواعيد كان إهمالها نتيجة الاستغراق في النوم، فطالما نمت ففاتتني الطائرة، أو فاتني موعد العمل، أو فاتني موعدٌ مهم، أو فاتتني الصلاة، وهي أهم وأعظم من ذلك كله أو عدم مراعاة ظروفي في تجهيز الطعام، وتهيئته في الوقت المناسب أو غير ذلك مما يترتب عليه إحراجات كثيرة لي مع الآخرين، أنا أتحمل وزرها ومسئوليتها وإحراجها، ولا أستطيع أن أبوح بسببها.(6/5)
الاهتمام بملابس الرجل وإعداد حقيبة سفره
أما العشرون: فيتحدث عن عدم العناية بملابسه تنظيماً للملابس، وتنظيفاً لها وغسيلاً وكياً، وتكميلاً وطلباً لما يحتاج إلى تكميله أو إعداده منها، وهكذا الحال فيما يتعلق بالسفر؛ فإن إعداد الحقيبة "حقيبة السفر" وتجهيزها يقول أقوم بها بنفسي في أحيانٍ كثيرة! ولا تفكر زوجته في إعداد هذه الملابس وتهيئتها، ولا مانع من الزيادة.(6/6)
تقليل المعاذير ومراعاة مشاكل الرجل
أما الثامن عشر: فيقول: إن زوجتي تطالبني دائماً وأبداً بأن أراعي ظروفها، فهي اليوم مريضة، وبعد أسبوع هي حامل، وبعد شهر تعاني مما يسمى بالوحم الذي قد يغير نفسيتها وطبيعتها، وتطلب مني أن أراعي ذلك كله، وهذا حقٌ، ولكنني أيضاً أطلب منها مقابل ذلك أن تراعي ظروفي، فأنا اليوم قد واجهت مشكلة في عملي، أو اشتبكت مع طالب، وغداً حصل لي حادث في السيارة، وبعد غد اعتدى علي إنسان، وفي اليوم الرابع حصلت لي مشكلة مالية وهكذا، فآوي إلى المنزل وأنا في حالة نفسية صعبة، أحتاج إلى من يراعي ظروفي، كما يطلب مني أن أراعي ظروفه.(6/7)
كتمان الأسرار العائلية
السابع عشر: يقول: إنني أشكو من أن أية قضية تقع في المنزل سرعان ما ينتشر خبرها في المجتمع! لماذا؟ لأن زوجتي تثرثر فتتصل بأمها وتخبرها بما جرى، وبأختها، وبصديقتها، ولذلك أجد أن مشاكلنا وأسرارنا الزوجية وعلاقتنا تنتقل بين الناس، وربما وصلتني من بعض الأصدقاء أو من بعض الجيران، أو عاتبني أبوها، أو أخوها، أو قريبها، على بعض المشاكل والقضايا التي تقع في المنزل بشكل خاص.
إن المنزل يتسع لهذه المشكلات، وكان بالإمكان أن نتدارسها فيما بيننا، وتظل سراً يموت معنا لا يعلم به أحدٌ غيرنا، وهي أيضاً لا ترضى أن أحدث الآخرين بمثل هذه القضايا، فهو يشكو من تسرب مثل هذه الأمور إلى خارج المنزل.(6/8)
الوفاء وذكر المحاسن
السادس عشر: يقول: لقد نسيت زوجتي أشياءي السابقة الزوجية أكثر من عشرين سنة، لقد عملت الكثير وبذلت الكثير، وفي فترة الشباب كنت لها نعم الزوج، وأنقذتها من مشكلاتٍ كثيرة كانت تعانيها في بيتها، وكانت تعترف بذلك كله، أما الآن فربما حصل مني خطأ أو تقصير، لكنني أجد أن أي خطأ، يجعل زوجتي تنسى كل أعمالي حتى كأني لم أعمل خيراً قط، وأتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وتكفرن العشير} تقول: لقد أمضيت زهرة شبابي معه، وقضيت عمري معه، ويقول: كأنني أنا ما عملت معها شيئاً، وكأنها هي وحدها التي بذلت وضحَّت وصبرت وصابرت!(6/9)
تقليل الخروج من المنزل
الرابع عشر: يشكو من كثرة الخروج من المنزل، نعم هو مشغول بعض الشيء، ولكن يقول: زوجتي الأخرى أصبحت تكثر الخروج، فيوماً تقول: اذهب بي إلى أهلي، وبعد ذلك إلى أختي، واليوم الثالث إلى عمتي أو خالتي واليوم الرابع إلى جدتي أو جدي، واليوم الخامس للسوق، واليوم السادس لتغيير بعض الملابس التي اشتريناها ولم تكن مناسبة، ثم للجيران، ثم للمناسبات، والعزائم، والولائم وغيرها، حتى يقول أحد الإخوة: إنني أحصيت بعض الزيارات، فوجدتها تزيد على ست زيارات طويلة خلال أقل من عشرة أيام.(6/10)
إسماع الرجل كلمات الشكر والثناء
الخامس عشر: يقول: لقد فعلت ما في وسعي، فاشتريت وأكرمت، وبالغت، وبذلت ما أستطيع، ولكن قلما أسمع من زوجتي كلمة شكرٍ أو ثناء أو دعاء.
إنني أنتظر "جزاك الله خيراً"، أو أنتظر: "شكر الله لك"، أو أنتظر: "خلف الله عليك"، أو "كثر الله خيرك"، أو ما أشبه ذلك من العبارات أو الكلمات الطيبة أنتظرها كثيراً فلا تأتي، ثم قلت لذلك الأخ: لماذا لا تعلمها قال: إنني أشعر أنه لا قيمة لكلمة أنا أمليها عليها، وأنا ألقيها على لسانها أو في فمها، أريدها أن تخرج منها، من قلبها، من شعورها، وألاَّ تكون من عندي أنا.(6/11)
عدم ذكر عيوب الزوج وترك معايرته بزملائه
حدثني أخٌ وهو الثاني عشر: أنكِ كثيراً ما تعيرينه بزملائه، أي أنك تقارنين بين أفعاله وأفعالهم، فتقولين له بلسان الحال أو المقال: أنت لم تفعل شيئاً، وصديقك فعل كذا، وصديقك الآخر فعل كذا، وهذا تعريضٌ به إذ لم يفعل مثل فعلهم مع أنك تنسين -كما يدعي زوجك والعهدة عليه- أن له هو فضائل ومحاسن وأعمال ما قاموا بها هم، وقد يكون لهم هم عيوب ومثالب ومآخذ لا تعرفينها أنت، ولكن زوجاتهم سترن عليهم ولا يخبرنك إلا بالحسن، أما أنت فيدعي زوجك -إن كان صادقاً- أنك تخبرين صديقاتك بالحسن والقبيح.(6/12)
الاهتمام به وبعودته
الزوج الثالث عشر: إذا جاء إلى البيت يدعي أنه يجدك في الغالب نائمة، ويقول: إن هذا تعبيرٌ عن عدم الاهتمام، يقول: نعم! قد أتأخر أحياناً لظروف، وقد أقصر وأنا أعدكم -وقد عاتبناه- أعدكم أن أعود مبكراً إلى المنزل، وأن أعطي أهلي حقوقهم، لكن يؤسفني أن أتأخر وأنتظر زوجتي، وبدلاً من أجدها تنتظرني وقد تزينت لي وتطيبت وتعطرت، فإنني أجدها نائمة تغط في نومها، ثم أجد أنه ليس عليها أي مظهرٍ للاهتمام، أو الاستعداد، فربما لو وجدتها مستعدة لي، لقلت: غلبها النوم وعاتبت نفسي على التقصير، ولكني وجدت أنها نامت في ثياب مهنتها، في الثياب التي كانت عليها وهي تشتغل بالمنزل، أو تتحرك في مطبخها، ثم يقول: إن مثل هذا الأمر دعاني إلى مزيدٍ من التأخير، فأصبحت أتأخر؛ لأن النوم بحد ذاته ليس مطلباً لي، إنما حاولت أن أبكر بعض الوقت؛ لأني توقعت أن هناك قلباً ينتظرني، ونفساً تتطلع إلي، ورفيقة دربٍ تترقبني، أما إذا كانت القضية قضية نوم، فإن النوم أجده في كل مكان، ولا شك نحن لا نوافق هذا الأخ على ما يقول، ولكني أنقل لكن أيها الأخوات ما يقول حتى تكون المرأة على بينة من الأمر.(6/13)
احترام أهله وعشيرته
الأخ العاشر: يشتكي أن زوجته لا تقوم بحقوقه وحقوق أهله، فيقول: أمي مهجورة منذ زمن طويل، ما رأتها زوجتي ولا زارتها، ولا دعتها إلى منزلها، بل ولا اتصلت عليها بالهاتف، ولا اتصلت حتى تطمئن على صحتها، وقد أصابتها وعكة، بل يقول: أحياناً أسمع السب والشتم والتنقص لأهلي، انتقاصهم في أخلاقهم وأعمالهم، في مسكنهم، وملابسهم، وكلماتهم، في أسلوبهم في الحياة، وسلوكهم، إلى غير ذلك.
ويقول: يوم من الأيام قُدِّر لي أن أرفع سماعة الهاتف، فوجدتها تتحدث مع صديقة لها أو مع قريبة لها، وهي تتحدث عن أهلي، وعن أخلاقياتهم، وعن معاملاتهم، وعن مشكلاتهم، وتنسب إليهم أشياء كثيرة ليست صحيحة، وبعضها حتى لو كان صحيحاً؛ فليس يكن معقولاً أن يكون مجالاً للحديث بين زوجتي وبين امرأة أخرى أجنبية، يقول ذلك الأخ: أين إعانتي على بري بأبوي وعلى صلتي بأقاربي وذوي رحمي؟ إن هذا ما كنت أرجوه من زوجتي، وأنا أريد أن تنجب لي بإذن الله تعالى أولاداً صالحين يكونون بارين بأمهاتهم، واصلين بأرحامهم.(6/14)
تقليل العتاب
الحادي عشر: يشكو من كثرة العتاب عند الباب يستقبل بدلاً من "أهلاً ومرحباً وحياك الله ونورت المنزل" لماذا تأخرت؟ أنا منذ وقت أنتظرك، لماذا اشتريت كذا، ولماذا لم تشتر كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ ولماذا فعلت كذا؟ وهكذا يظل يلاحق بلماذا لماذا؟ والله تعالى أرشدنا جميعاً بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] .
خذ الميسور العفو الذي يأتي بلا تكلف بلا حرج، بلا مشقة، والشاعر يقول: خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب ولا تضربيني ضربك الدف مرة فيجفوك قلبي والقلوب تقلب فإني رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب(6/15)
ترك التحايل في تحقيق الطلبات
ويشكو أخٌ تاسع: من أن مطالب زوجته لا بد أن يتم بأي وسيلة، فإن تم بطيبٍ ورضى، وإلا فثمة وسائل كثيرة، منها أحياناً الحديث المستمر المتصل، فعند الغداء والفطور والعشاء، والصباح والمساء، وعند النوم، وبعد الاستيقاظ، هيه يا فلان لا بد من كذا، لابد من كذا، جزاك الله خيراً أرجوك حاول، وهكذا حتى يشعر في النهاية أنه لابد أن يفعل على الأقل، حتى يرتاح من هذا الكلام الطويل العريض.
وإذا لم يُجد هذا كله؛ تحول الأمر إلى بكاء ودموع وهموم وأحزان، فإذا لم يستجب فإن الحياة حينئذٍ تتحول إلى روتين بارد، لا حديث أو ابتسامات أو تبادل مشاعر أو ود، إنما هي حياة روتينية: عشاء، غداء، نوم، استيقاظ، دخول، خروج، والسبب هو أنك لم تُلبِّ هذا المطلب.
قد يكون الأخ مبالغاً فيما قال، ولكني أحدث الأخوات، وأقول لهن: أنا حين أنقل لكن هذا الحديث، لا أنقله ليسمعه الرجال، كلا! ولكني أنقله وقد تحدث فيه الرجال، حتى تسمعه الأخوات ويعرفن كيف يمكن معاملة الزوج، وكيف يمكن القضاء على مشكلاته، وكيف يمكن التسلل إلى قلبه وإسعاده والحصول على ما يمكن الحصول عليه منه.(6/16)
مشاركة الرجل في همومه واهتمامته
ثامنٌ يقول: إن لي هموماً في عملي ووظيفتي، حيث إنني مدرس في إحدى المدارس الثانوية أو المتوسطة، وهموماً في تجارتي التي أحاول أن أشتغل بها، فأنجح يوماً، وأفشل يوماً آخر، وهموماً في دعوتي إلى الله تعالى حيث لي جهودٌ في الدعوة إلى الله والمشاركة في بعض المخيمات، والنشاطات الدعوية، والأعمال الخيرية، وأجد أن زوجتي إذا قدمت المنزل ليس لها همٌ في ذلك كله، ولا تسعى إلى سؤالي عن مثل هذه الأشياء، ولا تبادلني الحديث, وإنما أجدها تنقلني إلى عالمٍ آخر، ففلانة تزوجت، وفلانة أنجبت، وفلانة طلقت، وفلان انتقل عن بيته، والآخر نزل… وهكذا، فتنقلني إلى هموم أخرى لست منها في قليل ولا كثير ولا قبيل ولا بعيد، وإذا لم أتجاوب معها فإنها تعرض عني.
إن من المطلوب جداً أن يكون هناك قدرٌ من المشاركة بين الزوجين في الهموم والمشاكل المشتركة، فعلى المرأة أن تحرص على أن تتحدث مع الرجل -أيضاً- في همومه، كما أن على الرجل أن يعمل على مشاركة المرأة في همومها.(6/17)
تقليل الطلبات
أما الرسالة السابعة: فهي تتبرم من كثرة الطلبات والحاجيات وتنوعها مع عدم مراعاة الظروف، فالمرأة قد تطلب أشياء كثيرة على حد تعبير بعضهم من أواني المنزل، ومن تغيير الأثاث، ومن الملابس، ومن الحاجيات لها ولأطفالها ولأهلها ولصديقاتها ولجيرانها، وهدايا إذا قدمت من السفر، وهدايا للعيد، وهدايا لرمضان، وأشياء وأشياء، وتطلب من ذلك شيئاً كثيراً مع أنني موظف صغير، راتبه لا يتجاوز ثلاثة آلاف وهي نفسها تعلم أني مدين، وعليَّ أشياء ترهقني، وعليَّ التزامات وطلبات كثيرة، وهي لا تراعيني في شيء من ذلك، فكأن هذا المبلغ كله يجب أن يصرف في مثل هذه الأشياء، فأين المرأة التي تكون مع زوجها في السراء والضراء، وفي العسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر؟! إنني حين أعتذر عن بعض حاجتها، أو آتي يوماً من الأيام دون أن أحضر لها هدية، أو أعتذر عن بعض الطلبات، إنني أشعر أن الحياة قد تحولت إلى قلقٍ لا يستقر، وتوترٍ لا يهدأ، فالنفس قد أعرضت عني، ووجهها شاحب، وكلماتها مقتضبة، وأحاديثها مختصرة، حتى حاجاتي المنزلية أجد فيها أحياناً نوعاً من التقصير.(6/18)
الزوج الموظف
أخ سادس: كتب إلي يقول: تصور أن مهمتي الآن كأنها تحولت إلى مجرد السعي لترفيه المرأة وإسعادها وإزالة همومها وغمومها، كأنه لا هم لي إلا ذلك، أما أنا فكأن المرأة ليست معنية بأمري، فقد آتيها أحياناً وأنا بحاجة إلى من يزيل همي، أو غمي، أو يسعدني، أو يشاركني، فلا أجد منها ذلك، إنما أجدها تتربص وتنتظر، تريد زوجاً يزيل همومها وغمومها، فهو يقول: أشعر بأنني زوجٌ موظف، مهمتي هي السعي في الترفيه والإسعاد، مع أنني أنتظر إذا شقيت خارج المنزل أن آوي إلى البيت، فأجد سعادتي وأجد راحتي وطمأنينتي.(6/19)
الهاتف ومشاكله
وخامس يقول: إنني أعاني من الهاتف ما أعاني، فقد أصبح الهاتف هماً يقلقني، فالزوجة دائماً وأبداً جالسة بقرب الهاتف، تتصل بالقريب والبعيد، وتحدث الناس أهلها وأقاربها وغيرهم، وتجلس مع صديقاتها، وليست المشكلة محصورة في فاتورة الهاتف، فإن معظم هذه الاتصالات هي اتصالات داخلية ليس عليها حسابٌ أصلاً، ولا تظهر في الفاتورة، ولكن المشكلة أن هذه الأحاديث يأتي من جرائها شرٌ كثير، فمنها غيبة، وكلام في فلانة وفلانة، ومنها نميمة، ومنها -وهو من أشدها وشرها على الزوج- تلك الأحاديث التي تدور بين النساء فتجعل المرأة تسمع من زميلاتها أن زوجها أعطاها كذا، وفعل لها كذا، وسافر بها إلى المكان الفلاني، وخرج بها من البيت، فتظل المرأة تسمع من زميلاتها ما فعل الأزواج، ثم تنتظر من زوجها أن يكون كأولئك الأزواج، مع أنه ربما يكون كثيرٌ مما تسمعه المرأة مبالغة وتشبعٌ بما لم تعط، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {المتشبع لم يُعط كلابس ثوبي زور} .
وما يدري المرأة أن تكون أولئك النساء قد كذبن عليها، وبالغن من باب التظاهر والمجاملة وادعاء أنهن سعيدات في حياتهن الزوجية، كما فعلت هي حينما حازت هذه النبرة، وقالت لهن هي الأخرى: وأنا زوجي ما قصر معي، جزاه الله خيراً! أعطاني كذا، وأتاني بكذا، ومنحني كذا، وذهب بي إلى كذا، ووعدني بكذا، وهذا كله كذب تقوله لهن، فإذا جاء الزوج انفجرت في وجهه، وقالت له: بنات الناس حصل لهن كيت وكيت، وأنت ما رأيت منك خيراً قط.
فيقول هذا الأخ: لقد أزعجني هذا الهاتف، وضايقني وسبب لي حرجاً شديداً.
ثم يقول: أحياناً أدخل البيت، وزوجتي تمسك بالسماعة، وجلستها تدل على أنها سوف تطيل المكالمة، فإذا رأتني اختزلت الكلام وغمغمت وأتت بعبارات مجملة، ثم وضعت سماعة الهاتف، وهذا جعلني أشك في الأمر ربما تكون مكالماتٍ أو اتصالات تعلم الزوجة أنها لا ترضيني أو أنها أشياء مذمومة؛ ولذلك وجدت أنها شعرت بالإحراج حينما اكتشفتها وهي تتكلم في الهاتف.
وهذا يؤكد على المرأة أن تقتصد في مكالماتها وتبتعد عما حرم الله عز وجل، وإذا دخل زوجها وهي في مكالمة، فعليها أن تكون طبيعية لئلا يظن الزوج أن تلك المكالمة قد تكون معاكسة مثلاً، أو اتصالاً برجلٍ آخر أو خيانة له، وما سبب هذا الظن والوسواس من الشيطان إلا أنها أنهت المكالمة بطريقة غير طبيعية.(6/20)
الاهتمام بزينتها وملابسها
أما أخي الرابع: فإنه يقول: إنني أدخل على زوجتي فأجدها هي هي، الملابس قد حفظتها، وحفظت أشكالها وتقاسيمها وألوانها وخطوطها، ليس هناك تغيير لهذه الملابس، ولا عناية بها بحالٍ من الأحوال، بل إنني أجد أن الملابس الكثيرة التي اشتريتها بأغلى الأثمان لا أراها إلا إذا كان الأمر استعداداً لزواج، أو حضور مناسبة، أو ذهاب إلى أهل، فإنه يقول: إن هذه الملابس لا أراها إلا في تلك المناسبات، وأنا أعتقد -ولا يزال الحديث له- أنني أحق الناس بالتمتع بهذه الملابس ورؤيتها على زوجتي، والعبد المؤمن العفيف يُحب أن يرى هذه الأشياء؛ ليستعف بها عما حرم الله، فإنه يرى كثراً من النساء في الأسواق والمناسبات، بل وربما في المساجد أحياناً! وقد لبسن أبهى ملابسهن وزينتهن، وربما كانت روائح العطور تفوح، فيقول: يؤسفني جداً أن أدخل إلى بيتي فلا أجد ذلك كله ولا شيئاً منه، مع أنني ما قصرت، اشتريت الملابس، والعطور، والأطياب وغيَّرت، وذهبت بزوجتي وجعلتها تختار على عينها، وبذلت لذلك أموالاً كثيرة ثم وجدت أن الملابس التي أراها على زوجتي، هي في الغالب ملابس غير ملفتة للنظر، بل إنني أشعر بكثيرٍ من الحرقة والإحباط واليأس إذا رأيتها، إنها قد تكون ملابس استعارتها من جدتها، أما الملابس الجميلة فلا أراها إلا إذا كنا على موعد للذهاب إلى صديق، أو حضور مناسبة، أو ما أشبه ذلك.
قد يكون هذا الأخ مبالغاً أو مسرفاً أو مفرطاً، ولكنني أنقل ما يقوله هذا الأخ لتسمعه النساء حتى يعرفن ما هي الثغرات التي يأتي منها الرجال.(6/21)
الاهتمام بالمنزل
أولاً: يقول أحدهم: لماذا البيت غير منظم؟ والملابس ملقاة فيه كيفما اتفق؟ والمناديل موزعة على أرجاء المنزل؟ وصناديق القمامة ممتلئة؟ والأواني المنزلية متفرقة؟ وملابس الأطفال أجدها هنا وهناك؟ يقول: أين دور المرأة في تصفيف هذه الأشياء وتنظيمها، والعناية بالمنزل ونظافته؛ حتى إذا دخل إليهم إنسان انشرح صدره؟ إن هذا المنظر التي تقع عليه عيني يعطي انطباعاً بالإهمال، وعدم العناية بالمنزل، وعدم ترتيب الأثاث، أو تنظيف المداخل والأفنية والصالات وغيرها.(6/22)
الاهتمام بالطعام
ثانياً: وآخر يقول في كلمة أخرى: لماذا الطعام يُقدَّم لي مرة وهو بارد، ومرة أخرى أجلس ساعة أو أكثر وأنا في انتظار نضجه؟ ولماذا يكون الطعام نوعاً واحداً لا يتغير ليس فيه تغييرٌ ولا تجديد، مع أن البيت ممتلئ -بحمد الله- بألوان الأطعمة والمأكولات والأشربة والخيرات التي امتن الله تعالى بها علينا؟ إن الإنسان بطبيعته يحب التغيير والتنويع والتجديد، حتى ولو في طريقة تقديم الطعام، أو في الأواني التي يقدم فيها، أو في أي شئ أخر يضاف إليه أو يغير، أو يبدل؛ فيشعر الزوج بأن ثمة تجديداً فيما يقدم له.(6/23)
الاهتمام بالطفل
ثالثٌ يقول: الأطفال وما أدراك ما الأطفال! لماذا أفاجأ دائماً بأن ملابس الأطفال غير نظيفة، ووجوههم متسخة، وشعورهم شعثة، وليس هناك روائح طيبة تنبعث منهم؟ إنني أحب أن أرى أطفالي وكأنهم زهرات تنضح بالروائح الطيبة، فإذا رآهم أبوهم سر لذلك، وإذا قدمهم للآخرين قدمهم بكل فخرٍ واعتزاز.
إنني أخجل حينما يرى أصدقائي أطفالي، فيرون فيهم تلك المظاهر التي لا يسرني أن أراها في أطفال الآخرين، وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة لملابس الطفل أو شعره أو حذائه أو جسده، فكيف ما يتعلق بتربية الطفل، الكلمات التي يطلقها في لسانه؟! إن طفلي لا يجيد قراءة القرآن الكريم، ولا حتى قصار السور لا يستطيع أن يقولها، ولا يحفظ شيئاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف بعض القصائد والأبيات والأناشيد الإسلامية، ولا يحسن كيف يرد على من يتحدثون معه رداً حسناً جميلاً، لا يعرف كلمة جزاك الله خيراً، ولا يعرف كلمة أحسنت، ولا يعرف كلمة شَكَرَ الله لك، ولا يعرف الرد وإذا سئل كيف أنت؟ كيف حالك؟ عساك بخير؟ كيف أهلك؟ ما اسمك؟ ما اسم عائلتك؟ أين تدرس؟ ماذا تعمل؟ إنه لا يجيد راداً على ذلك كله، وإنما يردد كلماتٍ سوقية وألفاظٍ مبتذلة حفظها من أولاد الجيران، أو من أولاد الشارع.
وإذا كان هذا طفلي وهو في هذا السن، فإذا كبر فمن سوف يعلمه؟ من سوف يحل واجباته؟ من سوف يربيه؟ من سوف يؤدبه؟ من سوف يحمله على الصلاة، وعلى الصيام، وعلى طاعة الله، وينهاه عن معصية الله تعالى؟(6/24)
صبر المرأة على زوجها
نعم أيتها الأخوات الكريمات! هذا ما يقوله الرجال، ولا يعني كوني ذكرته أن ذلك واقعٌ بالنسبة لكل النساء أو لكثير من النساء، بل هي شكوى من عددٍ منهم، ولا شك أن النساء كما الرجال فيهم وفيهم: والناس ألفٌ منهم كواحد وواحد كالألف إن أمرٌ عنى ولا شك أيضاً: يشكوها الرجل في زوجه أو بيته أو أهله، فهو يتحمل جزءاً من مسئوليتها، وإذا كان هذا ما يقوله الرجال، وأنا أرجو أن أكون ناقلاً أميناً لما قالوا متبرئاً من عهدتم، فلا تقل النساء: نحن كنا نرجو أن تنصفنا، وأن تتحدث عن الرجال، وأن تأمرهم بالإحسان إلينا، أنا مجرد ناقلٍ لهذا الحديث، وقصدي من ذلك أن أحدث الأخوات المؤمنات بضرورة العناية بهذه القضايا، والاجتهاد فيها بقدر الوسع، وأن تحرص الأخت -إذا رزقها الله زوجاً صالحاً- على أن تمسك به بكلتا يديها، وأن تتحمل بعض سلبياته وأخطاءه وعيوبه، ولتعلم الأخت المؤمنة أنه لا قوام للحياة إلا بالصبر، ولا لذة للعيش إلا به، كما قال عمر رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]] .
ولي مع الرجال حديث آخر، فسوف أتحدث بوضوح وصراحة عن بعض الأخطاء والعيوب والملاحظات التي يفعلها الرجال، سواء كانوا من المتدينين الملتزمين أو من غيرهم في تقصيرهم بحقوق النساء، أو إخلالهم بما يجب لهن، وسيكون هذا الحديث إن شاء الله تعالى في الليلة المقبلة.
نسأل الله أن يجمع شمل المسلمين على ما يحب ويرضاه، ونسأل الله أن يوفق الأزواج ذكوراً وإناثاً إلى مرضاته، وأن يجمع قلوبهم على محبتهم وطاعته، وأن يرزقهم الذرية الصالحة، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تنبيه: بقيت كلمة: بعد صلاة الوتر إن شاء الله تعالى سوف نقوم هذه الليلة بجمع التبرعات وسوف تكون التبرعات هذه الليلة مخصصة لمشاريع الدعوة وبالذات للدخول الثابتة، أي أنها سوف توظف في أعمال خيرة تريع وتدر على الدعوة، وتكون إن شاء الله أشياء ثابتة يستفيد منها الإنسان باعتبارها صدقة جارية يظل أجرها وذخرها له إن شاء الله تعالى حتى بعد وفاته، وهذا جانبٌ مهمٌ جداً فلا يجوز أن تظل الدعوة والعلم والجهاد وقفاً على التسول من الناس يوماً بعد آخر، فهو ميدان عظيم ومجال كبير، وأنا أدعو الإخوة إلى أن يقدروا هذا الأمر، ويسارعوا إلى الإنفاق.
الكثيرون ربما بعد وفاتهم يوصون بالثلث أو الربع، وقد يكون هذا الثلث أو الربع سبباً في مشكلات بين الأولاد تبدأ ولا تنتهي، والكثير منه يضيع ولا يوجد من يقوم عليه، فلماذا لا تتصدق وأنت صحيح شحيح بمال تعتبره كالوقف باقٍ في أصله ومنفعته للمسلمين؟ وأرجو من الشباب أن يقوموا بهذا العمل.
الكثيرون يسألون عن مجموعة التبرعات في الأيام الماضية، قلت لكم أول مرة: إن التبرعات للبوسنة والهرسك بلغت مائتا ألف، أما الآن فقد زادت هذه التبرعات إلى ثلاثمائة ألف ريال، فجزى الله المحسنين خير الجزاء، أما التبرعات للصومال فإنها تقارب مائتي ألف ريال، جزاكم الله تعالى خير الجزاء، وبارك الله فيكم، وخلف الله تعالى عليكم ما أنفقتم؛ إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(6/25)
عشرون كلمة عتاب للرجل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
في هذه الليلة عشرون كلمة لشريك الحياة لقد تحدثت أمس بعشرين كلمة موجهة إلى المرأة، وقد كان تجاوب الأخوات فيما وصلني من اتصالات يدل على تفهمٍ جيد لهذا الموضوع، ويبشر باستعداد كبير للتغيير نحو الأفضل، وهذا بحمد الله يدل على أن إمكانية العلاج لمشكلات مجتمعاتنا قائمة فعلاً، وأن الناس بخيرٍ ما تواصلوا وتناصحوا، وأن أكثر ما يدمر الحياة الزوجية هي تلك النصائح المغرضة التي تأتي أحياناً عبر الشاشة، وعبر صوت المُذيعة، وأحياناً كثيرة تأتي مكتوبة على ورق يسمى جريدة أو مجلة، أو حتى كتاباً يعالج مشكلات الأسر والأولاد والبنات، وها نحن اليوم مع عشرين كلمة أخرى نستعير فيها ضمير المؤنثة المتكلمة المتحدثة إلى زوجها.
زوجي العزيز! لقد وضعت فيك كل آمالي بعد الله عز وجل، ولم أعد أعبأ بما ألاقي من أهلي أو إخواني أو من سائر الناس، فبحسبي أن تكون أنت لي كما أحب، فأنت كل آمالي في هذه الدنيا بعد الله عز وجل.
نعم لقد كانت أيامنا الأولى مليئة بالسعادة، ولكنها سعادة لم تطل، شأنها في ذلك شأن الحياة الدنيا إذ هي زهرة تُقطف ثم تُرمى، ولحظة تعاش ثم تنسى، واسمح لي أن أهمس في أذنك بعشرين ملاحظة على غرار الملاحظات التي قدمتها لي أنت بالأمس.(6/26)
الخجل من المشي مع الزوجة
التاسع عشر: أحسست -ولعلي أكون مخطئة- أنك تشعر بالخجل والإحراج، كلما ذهبت بي ولو لضرورة أو لحاجة أو لمصلحة حتى قد تكون شرعية، تشعر بالإحراج والخجل، إذا رآك أحدٌ من أصدقائك.
ألست زوجتك بكتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بأزواجه في الغزو فيقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها؟ أليس خرج من معتكفه ليقلب صفية إلى منزلها؟! ولما رآه بعض الأنصار قال لهم: {على رسلكم! إنها صفية} ألم يسابق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟! فلماذا تستحي أنت من أمرٍ لا حياء فيه في دين الله تعالى؟!(6/27)
الحرص على تربية الأولاد
العشرون: وبها أختم عتابي إليك، لقد أدخلت جهاز التلفاز إلى منزلنا، وأنا كنت له كارهة -كما تعبر عدد من الأخوات- وقلت لي: في وقت الفراغ وللأطفال، ثم وجدنا أن التلفاز فرصة لإلهاء الأطفال عنا وعن مضايقتنا وإيذائنا، فكلما شغلونا قلنا لهم اذهبوا إلى ما يسمى بأفلام الكرتون أو الصور المتحركة، وأرى أن هؤلاء الأطفال قد بدأت بصمات التلفاز تظهر على عقولهم، وعلى أخلاقهم، وسلوكهم وكلماتهم.
إنني أطمع أن يكون أولادنا علماء عاملين، أو أن يكونوا مجاهدين في سبيل الله، أو أن يكونوا خطباء في المساجد، أو أن يكونوا أئمة يتقدمون المصلين بين يدي الله عز وجل، ولست أريد أن يكونوا ممثلين أو مغنيين أو من أهل هذه الدنيا الفانية، فلماذا لا نخرج هذا الجهاز من منزلنا؟ ولماذا لا تتظافر جهودنا في تربية أطفالنا؟ إنني أقترح عليك أن تأتي لهم بمكتبة صوتية، هي عبارة عن مجموعة من الأشرطة المتعلقة بقصص الأطفال والأناشيد المناسبة لمستواهم، ومكتبة مقروءة هي عبارة عن مجموعة من الكتب الصغيرة والكتيبات والقصص والأناشيد، وأن تجعل لهم أنت من أسبوعك ساعة واحدة فقط، وتترك الباقي لي، فإنني سوف أستعين بالله عز وجل وأعمل على تربيتهم، فلعلهم أن يقر الله بهم عيوننا في هذه الدنيا، ولعل الله تعالى أن يُقر بهم عيون المسلمين في كل مكان، وأي فخرٍ وشرف أكبر وأعظم من أن يكون فلان بن فلان مجاهداً مرموقاً، أو داعية شهيراً، أو عالماً مقصوداً يكون في الدنيا عزاً لنا، ويكون في الآخرة رفعة في درجاتنا، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] .(6/28)
الاستشارة
الثامن عشر: أنت لا تستشيرني في شيء لا أقول في أمورك الخاصة، وإن كنت أتمنى ذلك ولا ألزمك به، بل لا تستشيرني حتى في الأمور التي تهمني، فأمور المنزل، والأثاث، والفرش، وقضايا الولائم، ومسائل الأولاد والأطفال حتى -ولعلك تتذكر- أسماء الأولاد لا تجعل لي فيها رأياً ولا استشارة، أغرك الحديث الذي يتناقله الناس عن النساء: شاوروهن واعصوهن! ألم تسمع أن أهل العلم حكموا أن هذا حديث موضوع لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/29)
توفير المتطلبات الأساسية
السادس عشر: أراك تماطل في متطلباتي مع أنك سريع إلى قضاء حوائج الناس، فأغراض المنزل تجلس في جيبك أياماً طويلة، والزيارات أعرضها عليك مرات ومرات حتى أستحي، أما الذهاب إلى المستشفى وهو أمرٌ مكروه مبغوضٌ بالنسبة لي أكثر مما هو مبغوض بالنسبة لك، فإني أعلم ما في المستشفيات من المنكرات والاختلاط والتعرض للرجال وغير ذلك مما يكرهه الله عز وجل، ومما هو مخالف لفطرة المرأة وأنوثتها وطبيعتها، ولكن: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها وأنت تسوف بذلك وتماطل مرة بعد أخرى، ولست -تعبر إحداهن- ممن تسرع إلى المستشفى بأقل سبب وتكثر الشكوى على غير حق، بل كثيرٌ من الأشياء تمر، ثم يزيلها الله تعالى دون حاجة إليه.(6/30)
احترام أهل المرأة
السابع عشر: لست أنكر أن في أهلي عيوباً كثيرة، وأنني أنتقدها، وأن أخي قد سبب لك مشكلة، وأن والدي كبير السن وربما تنقصه بعض الخبرات وبعض الأمور، ولكنهم في النهاية أهلي، ولا شك تعلم أن ما يؤذيني يؤذيهم، ويحرجني النيل منهم، ويجرح قلبي تعييرهم؛ فلماذا لا تجامل مشاعري في هذا؟!(6/31)
مراعاة جانب المرأة مقابل حق الأم والأهل
الخامس عشر: أمك أمي وعلى عيني ورأسي، وأخواتك أخواتي، ولكن لا تنس أن الحياة الزوجية في بيت مستقل كانت هي الأولى والأفضل حتى من الناحية الشرعية بعيداً عن الإخوة الذين عجزت -تقول عدد من الأخوات- عن التحفظ منهم، فلا بد أن يروا رجلي أو كفي أو شيئاً من شعري أو على حين غرة، أما ذهابي وإيابي من بين يديهم فهو كثير كثير وضرورة لا بد منها.
ثم من الناحية الاجتماعية والعائلية والأسرية والزوجية فإن الانفراد في الأصل، أدعى إلى تحقيق معاني السعادة الزوجية، ولكنني أُقدِّر الظروف التي تمر بها، وأدرك أن الخروج من أهلك في مثل هذه الظروف يعتبر نوعاً من التقصير في حقهم، فكيف تترك أبويك شيخين كبيرين هما بحاجة إليك؟! بل إنني أقدر كثيراً روح المودة والبر والإحسان التي تحملها لأبويك، وأرجو الله عز وجل أن يرزقني -تقول إحدى الأخوات- منك أولاداً يكونون كأبيهم في البر والصلة والإحسان، فأنا فرحة مسرورة بما أرى من برك بأبويك وعنايتك بأخواتك، ولكنني أحيانا أشعر أن بعض أهلك -واسمح لي عن التفصيل- يغارون مني كثيراً، نعم! أنا أصبر وأصابر وأقابل الإساءة بالإحسان، ولكن على أقل تقدير أريد منك أن تدرك طبيعة موقفي، لا تعتبرني مخطئة دائماً وغيري مصيب.(6/32)
الابتعاد عن الحلف بالطلاق
الرابع عشر: وأظن أنك ما نسيت أنك حلفت علي مرات بالطلاق، وهذا لا يجوز، بل هو من معصية الله تعالى، بل هو من اتخاذ آيات الله هزواً، قال الله عز وجل: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة:231] .
وتقول الأخت: وهددتني بالطلاق أكثر من مرة وهو بغيض إلى الله كما سمعنا في الحديث: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق} وهو حديث مرسل، وصححه جمعٌ من أهل العلم، بل هو من عمل الشيطان الذي يأمر به، فإنه ينصب عرشه على الماء ويبعث سراياه، فيأتيه أحدهم، فيقول له: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين زوجه فيدنيه ويقربه، ويقول له: أنت أنت.
إنك تهدد به أو تضرب لسانك بالطلاق بغير ترو منك في وقوع المكروه، إن الله تعالى حين جعل العصمة والطلاق بيدك إنما كان ذلك؛ لأنك رجل منضبط التصرفات، منضبط الشخصية متأن، مترو، حليم، عاقل، فلماذا تهدد به في كل حين؟! ولماذا توقعه أحياناً على حين غضبٍ منك وانفعال؟!(6/33)
مراعاة مشاعر المرأة وأحاسيسها
الثالث عشر: تعدد الزوجات شريعة ربانية لا اعتراض لأحد عليها: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] .
فلماذا تثير أعصابي باستمرار بقضية الضرة الجديدة؟! إنني أقول لك: إذا عزمت فتوكل على الله، تقول إحدى الأخوات: دعني أذوق المرارة مرة واحدة فقط، ولا تجرعني العلقم كل يوم بتهديدي بالزميلة المنتظرة؛ إنه ليس من مكارم الأخلاق أن تهددني بالزوجة الجديدة صباح مساء في هزلك وفي جدك، وإذا قبلته منك مرة فإنني لا أقبله منك كل مرة.(6/34)
مراعاة ظروف المرأة
الثاني عشر: إنني متحيرة فالبيت كله عليَّ، وأنت لا ترضى بالخادمة، وأنا أشكرك على ذلك؛ إذ ما حاجتنا إلى أن نستخدم امرأة أجنبية تأتي في كثير من الأحيان بدون محرم، فتكون سبباً في معصية الله عز وجل، وتؤذينا في منزلنا، وقد تؤثر في تربية أطفالنا، وقد يترتب على مقدمها مفاسد كثيرة دينية وأخلاقية بل ودنيوية، فإن الخادمة في البيت تعتبر مراقباً على سلوك الزوجين، وحاجزاً كبيراً بين تمتعهم بحياتهم كما يحبون، فأنا أوافق على ذلك.
ولكنني أقول: أنت وأنا لا نرضى بالخادمة، أما المدرسة فأنت ترفض أن أتركها بحجة الحاجة إلى المعلمات الصالحات، وأن البنات في المدارس يفتقرن إلى الإرشاد والتوجيه، وأنا معك أيضاً على هذا، فإنني -إن شاء الله- وأنا في المدرسة محتسبة عند الله تعالى، والأولاد لا ترضى بأن يتأخر الحمل ولو شيئاً يسيراً، فالواحد منهم بعد الآخر، ليس بين الواحد والآخر حتى ولا سنة واحدة، وأنا أيضاً قد أوفقك على ذلك، ولكن أنت لا ترضى بأي تقصير آخر، فتريد كل شيء على ما يرام، وفي الوقت الذي تشاء، أنت أيضاً لا تشارك في تربية الأطفال، ولا تقوم بإعانتي عليهم ولو بأقل القليل، ولا ترضى أن تشاركني في عمل المنزل بشيء.
لقد كان الرسول الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله كما في صحيح البخاري، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة، وأنت لم تبلغ شيئاً يذكر بالقياس إليه عليه الصلاة والسلام في كثرة مشاغله، وقيامه بأمر الأمة، وعلمه، وعمله، وصبره، وجهاده، واختلاطه بالناس كلهم، ومع ذلك وجد من وقته وقتاًَ يشارك حتى زوجه في عمل بيتها، أنا لا أطالبك بذلك، لكنني أرجو أن تُقِّدر ظروفي، فلماذا تعتذر أحياناً إذا وُجِد مناسبة أن يشاركنا فيها الطباخ الذي يقوم بالطبخ حيث صادفت تلك المناسبة ظروفاً خاصة أنت تعرفها.
إنني لست من تلك النساء -كما تعبر إحدى الأخوات- اللاتي يأمرن الزوج بالذهاب إلى المطبخ في كل يوم، أو أن يأتي بالطعام من المطعم باستمرار، كلا! بل أنا والحمد لله ربة بيت متعلمة -كما تقول الأخت ولعلها صادقة إن شاء الله- وأقوم بهذه الأشياء بكل سرورٍ وبهجة نفس، وأشعر بأنني أمارس شخصيتي، وأنا أقوم بهذه الأعمال، ولكن الظروف أحياناً تضطر إلى مثل ذلك؛ فلماذا لا تكون مرناً في بعض الأحيان.(6/35)
الادخار والتخطيط للمستقبل
الحادي عشر: إني أراك لا تخطط لمستقبلك، والمستقبل بيد الله عز وجل {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] ولكن فعل الأسباب مطلوب، فأنت الآن أبٌ وزوج تحتاج إلى بيت وإلى دخل، وكما قال الصادق المصدوق لـ سعد بن أبي وقاص: {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} فأنت تحتاج إلى دخل ثابت، ومصاريف مستمرة، وأرضٍ وبيت لك ثم لأولادك من بعدك، ومرتبك كثير، ولكنك لا تفكر في المال قط، وهذا يعجبني من جهة فأنت لست عبداً للدرهم والدينار، وأنت كريم جواد، ولكن أطرح عليك سؤالاً: لماذا تعتبرني بخيلة ومحبة للمال والدنيا، إذا طلبت منك أن تدخر ثلث مرتبك كما فعل صاحب الحديقة الذي جاء الثناء عليه في الحديث ثلث مرتبك على الأقل لشراء أرضٍ لك ولأولادك والبناء عليها.(6/36)
عدم تعيير الزوجة وتوبيخها
عاشراً: وإذا لم يكن حسناً أن أذكرك بكلماتٍ مضت، فإنني أجد نفسي مضطرة إلى أن أبوح لك بكلمات عَجِزت أن أنساها، لقد سمعتها منك وهي محفورة في ذاكرتي، فأنت مرة كنت تناديني، وتقول: يا فلبينية! أي أنك تعتبرني خادمة في المنزل فحسب، وتعيرني بهذه الكلمة الصعبة، وأخرى ناديتني، فقلت لك: سَم، فسمعتك تقول: سُم، ألم تسمع أن الله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] .
ألم تعلم أن الكلمة الطيبة صدقة كما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إن الصدقات ليست فقط أموالاً توزع، والهدايا ليست ثياباً أو أثاثاً أو ذهباً يُعطى فحسب، بل إن الكلمة الطيبة أحياناً تكون هدية ثمينة نفيسة، وتغني عن غيرها، ولا يغني عنها غيرها، وكما أنت فأنا أيضاً أنتظر منك ثناء على طبخٍ قدمته لك، أو تنظيفٍ للبيت اجتهدت فيه، أو ملابس تزينت بها لك، أو عملٍ حاولت أن أكسب فيه رضاك بعد رضا ربي عز وجل.(6/37)
احترام العلاقة الزوجية
تاسعاً: أشعر وأنا أتمنى أن أكون مخطئة أن العلاقة بيننا لا تتجاوز الجنس، ثم ينتهي كل شيء! إن أعظم الروابط التي تربطني بك إنما تكون في غرفة النوم فحسب، والذي أعتقده أن العلاقة الزوجية رباط رباني أكبر من ذلك وأوسع، إن العلاقة بين الذكر والأنثى تبدأ منذ بداية الحياة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] .
إن حواء خلقت من ضلع آدم، وإنها تدوم حتى في الدار الآخرة {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] .
فهي علاقة بين قلبين وروحين وجسدين ورفقة درب طويل ينبغي أن تشمل كل أمورنا، ولا تكون مقصورة على لحظة في الحياة.(6/38)
الإهداء إلى الزوجة
ثامناً: إنني أنتظر منك التعويض على أقل تقدير، فإذا غبت عني في سفر، فطيب نفسي بهدية رمزية ولو كانت قيمتها يسيرة، وإذا تأخرت عني في الليل؛ فأعطني كلمة حلوة تمسح بها آلامي، لا تجعلني أشعر دائماً أنني على هامش حياتك.(6/39)
تعليم الزوجة
سابعاً: أعلم أن لك دوراً جيداً في تعليم الناس، فأنت مدرسٌ أو معلم أو أستاذ، ولك جهودٌ في حلقات العلم ولك نشاط طيب، ولكني وأنا زوجتك -تقول الأخت- لم أتعلم منك الكثير.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ابدأ بنفسك ثم بمن تعول} إن زوجتك صورة لك أمام الآخرين، فأين تعليمها، وتربيتها؟! وأين تفقيهها في دينها؟! وأين بيان الأحكام التي تخصها؟!(6/40)
الثقة في زوجتك
سادساً: أحياناً يخيل إلي أن الشكوك تنتابك في جميع تصرفاتي، فأنت تشك في كلماتي، وترتاب في اتصالاتي، وتنظر نظرة تردد في علاقاتي، وتحاول أحياناً أن تثير تاريخي السابق، كأنك تبحث فيه عن شيء ما، تظن أنه كان لي عبث المراهقات، أو اتصال بعض الفتيات العابثات، حتى نظراتي وأنا معك في السيارة تداخلك فيها الريبة، فأنت تظن أني أحياناً أنظر إلى الآخرين نظرة لها معنى، ألست أنت برجل؟ ألم تملأ أنت حياتي؟ ألم تشغل أنت قلبي؟ ألم تعد أنت كل آمالي الدنيوية في هذه الدار؟ فلماذا تظن بي هذه الظنون؟! إنني أقولها لك بصراحة -والحديث للأخت- إنني فتاة صالحة -بحمد الله- وبنت حمولة طيبة كما يقال، حتى مراهقة البنات وحماقتهن قد عصمني الله تعالى منها، فلا تفسدني -بارك الله فيك- بكثرة الشكوك، وكما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان: {لا تتبع عورات الناس؛ فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم} .(6/41)
التكلم بكلمات الحب والغزل
ثالثاً: لم أعد أسمع منك تلك الكلمات المعبرة التي تدهن عجلة الحياة، إنني كثيراً ما أحتاج إلى كلمة مكونة من أربعة حروف: أحبك! أو أي تعبيرٍ آخر عن المشاعر، فالحياة بدون المشاعر خواء، وأراك الآن أصبحت تستحي ربما أن تقولها لي اللهم إلا في حالات خاصة.(6/42)
عدم بقاء الزوجة في بيت أهلها والتقليل من الأسفار
رابعاً: وأنت في سفراتك تلقي بي وبأطفالي في بيت أهلي، وعند أمي، وحيث إخوتي وزوجات إخوتي وأولادهم، فتجد أطفالك يأكلون معهم، ويضايقون أطفالهم ويتشاجرون معهم، وربما ثارت العجوز لأحد أولاد أولادها، وقالت: لماذا هذا الرجل المتدين أو الملتزم أو المتطوع -كما تعبر- يلقي كل يومٍ بأبنائه علينا؟ ألا تدري أن أولادك هم أولاد الناس بالنسبة لأهلي؟! بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فلماذا لا تقدر ظرفي وإحراجي في مثل هذا الموقف؟(6/43)
الاعتراف بالخطأ
خامساً: رأيتك عنيداً ناشف الرأس، لا تكاد تعترف بخطئك مهما كان واضحاً بل تُصِّرُ عليه، وربما تعتقد أو تظن أن اعترافك بالخطأ ينقص القوامة، وأن رجولتك تقتضي ألاَّ تعلن تراجعك مهما اكتشفت أنك قد أخطأت يوماً ما.
إن الشجاعة الحقيقية هي في إعلانك الخطأ إذا تبين لك، والناس على دين ملوكهم، فلتعلم أنني أنا وأن أولادك من بعدك سيكونون صورة طبق الأصل لك، كما أنك أنت قد تكون صورة طبق الأصل لمن هم فوقك ممن يسمون بالكبار.(6/44)
الكلام والمزاح مع المرأة
ثانياً: أرى وكلماتك في بيتك معدودة، ومزاحك قليلاً، وضحكاتك نادرة، فأنت لا تداعبني، ولا تمازحني، ولا تتحدث إلي، ولا تتحدث إلى الأطفال، ولا تأنس بهم، ويجب أن تعلم أنني أنا الأخرى طفلٌ يرمي برأسه عليك؛ لتحتمل من همومه وتزيل عنه وحشته، فإن المرأة ضعيفة، وهي تحتاج إلى من يقويها ويشدها.
أنت إن جلست في البيت، فأنت أحياناً قارئ يدفن وجهه ورأسه في كتاب أو جريدة، أو متصلٌ عبر الهاتف، أو مستقبلٌ للضيوف، أو منهمك في عملٍ ما، إنني لا أكاد أجد الأوقات التي أتحدث فيها معك بما يجيش في صدري.(6/45)
التواجد في المنزل وإعطاء الأهل بعض الوقت
أولها: ساعاتك في المنزل قليلة، وبقاؤك محدود، فأنت حيناً في مخيم للشباب، وحيناً آخر في مخيم للأقارب، خاصة في تلك الإجازات التي ننتظرها بفارغ الصبر، ثم أنت في العشر الأواخر من رمضان في رحلة عمرة تستغرق العشر الأواخر كلها، فإذا جاء موسم الحج فأنت ذاهب للحج مع زملائك وأصدقائك، فإذا جاءت إجازة الربيع فأنت في سفرٍ يطول أو يقصر، وربما كان هذا سفراً إلى الخارج أحياناً مشاركة في دعوة، أو مشاركة في إغاثة إسلامية، أو مشاركة أحياناً في رحلة عادية مع مجموعة من الزملاء والأصدقاء، أنا لا أعرف بالضبط ماذا تعملون فيها، لكن الذي أتأكد منه أن زوجتك وأطفالك وأهلك يفقدونك وهم أحوج ما يكونون إليك.
إنني لا أعترض على أي مشروع خيري، أو دعوة إلى الله، أو مشاركة في إصلاح، أو نفع للناس قريبهم أو بعيدهم، فكل ذلك مما يجب أن أساعدك عليه، وأكون عضداً لك فيه، ولكنني أرجو منك شيئاً واحداً فقط هو أن تضيف إلى برنامجك خانة جديدة اسمها: نصيب الزوجة، وخانة أخرى: اسمها نصيب الأولاد والأطفال، وأن تجعل لهم من إجازتك إجازة، ومن فرصتك فرصة، فتسافر بهم ولو أياماً معدودات، وتذهب بهم ولو في رحلة إلى البر يغيرون فيها روتين الحياة الممل.(6/46)
قوام الحياة الزوجية
أيها الزوجات والأزواج! باختصار شديد!! إن الحياة الزوجية شراكة بين طرفين، ومن المحال أن تستمر الحياة هنيئة إلا بقدر من التنازل للطرف الآخر وغض الطرف عن كثير من الأمور: ليس الغبي بسيدٍ في قومه لكن سيد قومه المتغابي ومن المحال -أيضاً- أن تستمر الحياة إلا بقدر من الصبر، فلا بد من الصبر، وأقول: الصبر أولاً، والصبر ثانياً، والصبر أخيراً، اصبر على زوجتك، واصبر على تعنتها، واصبر على خطئها! هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى أليس غريباً ضعفها واقتدارها يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه} وبعض الناس يظنون هذا تنقصاً للمرأة هذا والله العظيم -هو غاية الحفاوة بالمرأة؛ لأن معنى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الرجل! ارفق بالمرأة، وتحمل ضعف المرأة، وتحمَّل خطأ المرأة وتحمل ما قد يصدر من المرأة؛ لأن المرأة هكذا خلقت، فإذا أردتها أن تكون لك دائماً وأبداً كما تحب فلا تطمع في ذلك، إنَّ هذا لا يكون في نساء الدنيا، إنما يكون في نساء الجنة فاعمل صالحاً لتكسب الحور العين.
وكذلك أقول للأخوات المؤمنات: لا بد من الصبر فإني وجدت أسعد النساء في حياتهن الزوجية، والله تشتكي من أحوال ومن أحيان، وأقرأ بعض الرسائل من الأخوات فتكتب صفحتين كاملتين تصف فيها حياتها الزوجية مع زوجها، فتذكر أن الله تعالى رزقها بزوج صالح خلوق كريم يكرمها ويحبها ويقدرها ويحشمها، وأخيراً تقول: ولكن! ثم تذكر أشياء وعيوباً لا بد منها، إنها بهار للحياة، لا يمكن أن تخلو منه؛ لأن الله تعالى خلق الحياة الدنيا أصلاً مليئة بالأكدار.
جبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقدار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار فعليكم جميعاً رجالاً ونساء بالواقعية والاعتدال والمرونة، وأن تدركوا أن هذه طبيعة الحياة الدنيا، وإليكم نصيحة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضاه، قال: [[وجدناخير عيشنا بالصبر]] .(6/47)
الأسئلة
.(6/48)
أجهزة البث المباشر
السؤال يقول: هناك أجهزة الدش موجودة في عدد من الأماكن، وذكر الأخ السائل بعض البيوت التي توجد فيها هذه الأجهزة.
الجواب
هي أجهزة في غاية الخطورة، وعلى الجيران وأهل المسجد وأخي السائل أيضاً أن يقوم بنصح أصحاب هذه الأجهزة وتذكيرهم بالله تعالى وتخويفهم بمغبتها وما تجره من الضرر عليهم وعلى أزوجهم وأولادهم.
اللهم اهدنا واهد لنا واهد بنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، فأنت الله الذي لا إله إلا هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الحي القيوم الذي هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، إنا آمنا بك وبرسلك، وتوكلنا عليك وفوضنا أمورنا كلها إليك، اللهم إنا نسألك أن تنزل علينا في هذه اللحظة -رجالنا ونساءنا- من بركاتك يا حي يا قيوم ما تلم به شعثنا، وتقوي به ضعفنا، وترحمنا به في الدنيا والآخرة.
اللهم تب علينا، وارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أحييتنا، الله تب علينا يا حي يا قيوم، اللهم تب على التائبين، اللهم وفقنا للتوبة، اللهم وفقنا للإقلاع عن الذنوب، اللهم استعملنا فيما يرضيك، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا أرحم الراحمين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
والحمد لله رب العالمين.(6/49)
توبة السارق
السؤال يقول: عندما كنت في السنة الخامسة عشرة كنت أنا وزميلان لي نسرق من مستودع قريب من منزلنا، وأعرف الآن صاحب المستودع، فما هو الحل؟
الجواب
الحل هو إعادة هذا المال إليه؛ فما دمت تعرف صاحبه، فواجب أن ترجع إليه المال الذي أخذته منه، أما لو كان الإنسان لا يعرف صاحبه، أو كان انتقل إلى مكان آخر، فإن عليه أن يتصدق بهذا المبلغ.(6/50)
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
السؤال
ما هي الأوقات المنهية عن الصلاة فيها في اليوم والليلة؟
الجواب
أوقات النهي خمسة؛ أولها: بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، والثاني: من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قدر رمح، وهذا يتم خلال عشر دقائق إلى ربع ساعة، وهذان الوقتان متصلان فنستطيع أن نقول: إنهما وقتٌ واحد من صلاة الفجر إلى أن ترتفع الشمس قدر رمح، أي إلى بعد طلوع الشمس بربع ساعة، الوقت الثالث: هو وقت الزوال وقت زوال الشمس لحظة الزوال، وهي قليلة أيضاً، تعادل نحو خمس إلى عشر دقائق، الوقت الرابع: من صلاة العصر إلى حين غروب الشمس، الوقت الخامس من حين غروب الشمس إلى أن تغيب في الأفق ويدخل المغرب وهذا الوقتان متصلان أيضاً وبعض الفقهاء يقسمونهما إلى قسمين النهي المخفف وهو ما بعد الفجر وما بعد العصر والنهي المغلظ وهو لحظة ارتفاع الشمس ولحظة الزوال ولحظة الغروب، وينبغي أن يعلم أن أوقات النهي هذه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ فيها بنافلة بتطوعٍ مطلق، لكن لو صلى لسبب كتحية المسجد مثلاً أو ما أشبه ذلك، فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى.(6/51)
الإجازة والعمل عند النصراني
السؤال
أنا أشتغل وأعمل في مؤسسة توزع مكسرات وصاحبها نصراني هل يجوز لي العمل معه، وأنا أحب صلاة التراويح والتهجد وأحب حضور الدروس والمحاضرات؟
الجواب
لا بأس، يجوز العمل بمثل هذة المؤسسة، وذلك لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد عمل عند يهودي على تمرات كما هو معروف، لكن عليك أن تدعوه إلى الله تعالى.(6/52)
كفارة اليمين
السؤال يقول: علي حلف يمين، وأنا غريب في البلد، هل أطعم في بلدي أم هنا؟
الجواب
تطعم في أي مكان عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلك أو تكسوهم.(6/53)
جواز الوتر بخمس ركعات متصلة
السؤال
وهاهنا أيضاً بعض الأسئلة تسأل عن جواز أن يوتر الإنسان بخمس ركعات موصولة بتسليمٍ واحد، وهل هذا يجوز؟
الجواب
إن هذا جائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {من أحب أن يوتر بخمسٍ فليفعل} .(6/54)
نصائح لبائعي الأغاني
السؤال
يقول كما هو معلوم أنه في هذا المسجد المبارك أكثر من خمسة آلاف مسلمٍ مصلٍّ، ونحن في شهر مبارك، فأهل المعاصي يكون عندهم التقبل أكثر إلى اقتراح كل واحدٍ منا إلى محلات تسجيلات الأغاني ويطلبون منهم أشرطة إسلامية، مثل القرآن أو خطب أو محاضرات، وسوف يجيبون بعدم وجود تلك الأشرطة، وأنهم لا يبيعون إلا أغاني، ثم بعد ذلك يتم نصحهم في بيان مضرة هذا العمل وهكذا، ويطلب الأخ أن أقرأ السؤال.
الجواب
هؤلاء نحن قرأنا هذا السؤال، ولا حرج بل ينبغي على الإخوة بهذا أو مثله، مثل أن ينصحوا نصيحة مباشرة، فإن أصحاب محلات الأغاني قد خصصوا عملهم بذلك، ومثلهم أصحاب الفيديو، ومثلهم العاملون في بنوك الربا، ومثلهم الذين يتعاطون الحرام بأية صورة، فلماذا لا نكون ناصحين آمرين بالمعروف ناهيين عن المنكر في كل مكان وفي كل وقت وخاصة في هذا الشهر الكريم؟!(6/55)
العمل في البنوك
السؤال
إن لي ابناً يعمل في أحد البنوك، يعطيني كلما زارني قدراً يسيراً من المال كل شهرٍ أو شهرين؛ فهل يجوز قبول هذا المال رغم أني لا أصرفه على نفسي بل أصرفه فيما يحتاجه منزلي؟
الجواب
إذا كان هذا الولد له مصارف أو مصادر متعددة للمال مثل ورث بعض المال وله تجارات، فلا حرج في قبول هبته ومساعدته وصدقته وأعطيته، أما إن كان دخله الوحيد من الربا، فلا يجوز قبول شيء من ذلك، ونوصي جميع الإخوة الذين يعملون في البنوك أن يتقوا الله تعالى ويتركوا ذلك ولا يقل الإنسان منهم: لا أجد عملاً، فإنه لو اضطر إلى أن يتسول فهذا خير له من أن يعمل في البنوك الربوية، فإن سؤال الناس إذا احتاج إليه حلال، ولكن العمل في البنوك الربوية حرام.(6/56)
نشر الجهود الدعوية في كتاب
السؤال يقول: إن تلك الجهود الدعوية والخيرة الموجودة في هذه المنطقة من جهودٍ تقوم بها جماعة تحفيظ القرآن وجمعية البر، ويقوم بها الكثير من المشايخ وطلبة العلم وغير ذلك من الجهود الدعوية والخيرية أمر يفرح ويسر، والاقتراح لماذا لا يتم الحديث عن هذه الجهود في كتاب يتم طبعه وتوزيعه، لكي تحتذي ذلك المناطق الأخرى؟
الجواب
على كل حال الحمد لله تعالى، هذه المنطقة فيها خيرٌ كثير، والمناطق الأخرى فيها خير أيضاً، وما يقع هنا يسمع به الإخوة في مناطق أخرى ويقتدون به، وقد يكونون من السابقين في بعض الأعمال؛ ولو أمكن أن يقوم بعض المحتسبين برصد هذه الأعمال ودراستها وإبرازها بطريقة إعلامية جيدة، لكان هذا حسناً.(6/57)
ارتداء النقاب للمرأة في البيت الحرام
السؤال
كثير من الفتيات يرتدين النقاب في البيت الحرام؛ فما حكم ذلك؟
الجواب
أما إذا كانت محرمة بحجٍ أو عمرة، فلا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تنتقب المحرمة} وهكذا بعض ألوان النقاب التي انتشرت بين الفتيات تزين عيونها بألوان الكحل ثم تضع نقاباً واسعاً يبين عن عينيها وحواجبها وجزء من خدها، وربما يكون أداة للزينة والإغراء، فإن الملابس الشرعية والحجاب كله إنما شرع لكف الفتنة لا لإثارتها، أما إذا كان النقاب بقدر ما يبرز العين فحسب ولمشاهدة الطريق، فلا حرج في ذلك كما هو ظاهر حديث ابن عمر.(6/58)
حكم جلوس الحائض في حوش المسجد
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تجلس في حوش المسجد، وهي حائض؟
الجواب
أما دخول المرأة الحائض إلى المسجد فالراجح أنه لا يجوز، أما إذا كانت تجلس خارج المسجد في الساحة المحيطة بالمسجد او القريبة منه، ولو كانت تستخدم للصلاة أحياناً إذا ضاق المكان، فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى.(6/59)
أفضلية الصفوف الأولى للنساء إذا كن مفصولات عن الرجال
السؤال
سمعنا أن خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها، فما رأيكم إذا كان المكان محجوزاً بين الرجال والنساء؛ فأين تكون الأفضلية؟
الجواب
إذا كان المكان محجوزاً والرجال لا يرون النساء ولا يقربون منهن، فالظاهر أن الأفضلية للصفوف الأولى الأقرب إلى الإمام.(6/60)
بقاء أهل الخير في وظائفهم
السؤال تقول: أنا معلمة في إحدى المدارس، والمشكلة هي خوفي من الظلم، سواء بعدم اتقاني للمادة العلمية أو الظلم في الدرجات، حيث إنني بعض الأيام أفكر في ترك هذه المهنة، مع العلم أني أبذل جهدي بالابتعاد عن ذلك؟
الجواب
بل يجب عليها أن تظل في هذا العمل ما دامت مخلصة باذلة لجهدها، وتسعى إلى الاعتدال في الدرجات وبذل ما تستطيع في التعليم، ولا يصل هذا الأمر بها إلى درجة الوسوسة والشك؛ فإن هذا الأمر مما قد يدخل به الشيطان إلى الإنسان.(6/61)
التفرقة العنصرية
السؤال
وجهت أكثر من مرة ولأكثر من شيخ، ولكنه في كل مرة يذهب إلى دائرة المحفوظات، والسؤال هو لماذا لا يتطرق المشايخ والعلماء إلى موضوع هام، أرى أنه من أساسيات في بناء أي مجتمع، ألا وهو موضوع التفرقة العنصرية، فيا ليت لو تحدثت عن هذا الموضوع بمحاضرة خاصة! خاصة أن المجتمع يعاني من هذه الآفة.
الجواب
هذا موضوع طويل ومتشعب، وقد وعدت أكثر من مرة بأنني سوف أتحدث عنه إن شاء الله تعالى، نعم سبق أن تحدثت عنه مراراً لكن دون تفصيل.(6/62)
من أحوال الموسوسين
السؤال
سمعنا فتوى مضمونها أن الإنسان إذا كرر قراءة الفاتحة فصلاته باطلة؛ لأنه كالذي يأتي بركن زائف خصوصاً إذا كان متعمداً؛ فهل هذه الفتوى صحيحة خصوصاً أن بعض الناس يكررها من باب الوسواس؟
الجواب
مشكلة الموسوس أنه يقع في الوسواس في العمل، فإذا أفتيته وسوس في الفتوى، فهو يوسوس في قراءة الفاتحة فيعيدها، فإذا سمع هذه الفتوى قال: يمكن تكون صلاتي باطلة؛ لأني كررت الفاتحة، ونقول له: لا عليك قراءتك الفاتحة مرة واحدة تكفي، وينبغي ألا تتجاوز ما أمرك الله به، لكن لو أنك كررتها شاكاً في ذلك، فلا شيء عليك، وليست صلاتك بباطلة.(6/63)
استعمال الكفار في أعمال يكون لهم بها تسلط على المسلمين
السؤال
ما رأيكم في تشغيل النصارى والوثنيين والهندوس والبوذيين في إداراتهم أعمال المسلمين داخل بلادهم ومحبتهم وتعظيمهم؟ وما توجيهكم تجاه هذا الأمر؟
الجواب
هذا أمرٌ عجيب! أن كثيراً من المسلمين -سواء في الإدارات الحكومية أو المؤسسات أو الشركات الأهلية- أنهم يستخدمون بعض النصارى، بل كثيراً من النصارى والبوذيين ويولونهم، وقد يكون هؤلاء أحياناً مسئولين عن أعمال، وتحت ولايتهم بعض المسلمين، فيذلونهم ويهينونهم، ويكتبون عنهم التقارير السيئة، ويسعون في إبعادهم بكل وسيلة، وقد يحولون بينهم وبين العبادة كالصلاة والصيام، وهذا في الواقع خيانة لأخوة الإسلام؛ كيف تأتمنونهم وقد خونهم الله؟! وتستعملونهم وقد أبعدهم الله تعالى؟! كيف يكون هذا؟! كيف تكرمونهم وقد أذلهم الله؟! ألا اتخذت حنيفاً مسلماً؟! هل ضاقت الأرض بالمسلمين؟! يقول البعض: المسلمون ليس عندهم خبرة! نعم وسيظلون بدون خبرة إذا كنا نذهب فنأتي بالممرضات وبالأطباء وبالعاملين وبالخبراء وبألوانٍ من الاختصاصات من غير المسلمين، فيكسبون الخبرة والمال من بلادنا، ثم يعودون إلى بلادهم شوكة في حلوق المسلمين، لا! يجب أن نأتي بالمسلمين ونعلمهم ليكسبوا الخبرة والمال، ويتعلموا في هذه البلاد، ويرجعوا بالدين الصحيح، بالعقيدة السليمة، بالمال، بالخبرة حتى نساهم في رفع مستوى المسلمين في كل البلاد.(6/64)
بشائر النصر
السؤال
قد يئس من انتصار المسلمين، وقد أحاط الكفر ببلاد المسلمين، أرجو بيان سنن الله تعالى في ذلك حتى لا ييئس المرء من انتصار الدين؟
الجواب
أعجب ممن ييئس من انتصار الدين في هذا الوقت، فهذا الوقت حتى اليائسون عادت إليهم الآمال، فالإسلام قد أصبح يكسب أنصاراً جدداً، لا أقول: من المسلمين فقط، بل حتى من الكفار من الوثنيين والنصارى، أصبحوا يدخلون في دين الله أفواجاً على رغم ضعف الإمكانيات وضعف الوسائل، والإسلام أصبح اليوم يكسب مواقع جديدة في كل وقت، وأعداء الإسلام أصبحوا يتراجعون، والدول الكبرى التي كانت تحارب الإسلام أصبحت تتهاوى، فبعد سقوط الشيوعية العدو الأكبر للإسلام وللتوحيد، ها نحن نرى بأعيينا بوادر سقوط الرأسمالية في العالم الغربي، وعلينا أن ندرك أنه خلال سنوات ليست بالطويلة سوف ينتصر الإسلام، وتقوم تعلن تحكيم الشريعة، وتعلن حماية المسلمين في كل مكان، وعلينا نحن أن نكون من أنصار الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] .(6/65)
من أحوال المسلمين في البوسنة
السؤال
هل هناك تحسن في البوسنة كما في الصومال؟
الجواب
أما من حيث التوجه إلى الله تعالى والاستقامة فنعم، انتشر الحجاب الشرعي، ومدارس تحفيظ القرآن، وحفظ القرآن الكريم، والمترددون على المساجد، وارتفعت معنويات المسلمين، وشعروا بالعداء للكفار، والمحافظة على الصلوات، وتحسنت عقائدهم، والكثير الحمد لله تعالى قد أقبلوا على الله تعالى رجالاً ونساء إقبالاً عظيماً محموداً، حتى إن العبد يقول: رُبَّ ضَارةٍ نافعة.(6/66)
معنى المباشرة التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم
السؤال يقول: ما معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم؟ وما معنى المباشرة؟
الجواب
المباشرة هي أن تلمس البشرة البشرة مثل التقبيل أو لمس المرأة يعتبر مباشرة، ولكن لا تعني المباشرة الجماع في حال من الأحوال.(6/67)
مسابقة الإمام
السؤال
مسابقة الإمام بالصلاة أو موافقته أرجو إلقاء نصيحة بهذا الموضوع؟
الجواب
هذا حرام، بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بالإمام، وقال كما في الصحيح: {إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد} .
وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه: {أنهم كانوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يخر أحد منهم ساجداً حتى تقع جبهة النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، ثم يسجدون بعد ذلك} فمسابقة الإمام لا تجوز، وموافقته يقول الفقهاء: مكروهة، وقد تؤدي إلى المسابقة ويتعود الإنسان عليها، وينبغي للمأموم ألاَّ ينتقل إلى الركن إلا بعد أن يتم انتقال الإمام إليه.(6/68)
التواكل
السؤال يقول: بعض المسلمين يقولون: ما دمنا نعلم أن المستقبل لهذا الدين؛ فلماذا نتعب أنفسنا بالعمل والله سينصر دينه ويحميه كما حمى الكعبة من أبرهة الحبشي؟
الجواب
على النقيض والله يا أخي، الكلام عن مستقبل الإسلام يرفع المعنويات، ويزيد من همم الناس؛ لأن دين الله تعالى منصور، ولكن الله تعالى سينصر دينه على يد جنوده المخلصين، فنرجو أن نكون من هؤلاء، ولكن إذا شعر الإنسان بأن العدو كبير والخطر عظيم، فإنه ربما يداخله شيء من اليأس، فإذا قيل له: إن المستقبل لهذا الدين ارتفعت معنويته وتقدم ليقوم بمشاركة في هذا المجال.(6/69)
النصيحة من المدرس للتلاميذ
السؤال يقول: أعمل مدرساً ومن ضمن المواد التي أدرسها مواد شرعية، وأستغل في الوقت المتبقي من الحصة في نصح الطلاب عن الصلاة وترك الأغاني ومشاهدة التلفاز وما أشبه ذلك؛ مع أني أقوم بتوزيع الأشرطة، وأقوم بفعل بعض الأشياء التي أنصح بتركها، فهل يجوز لي هذا؟
الجواب
نعم عليك أن تنصح الناس بالمعروف ولو كنت تاركاً له، وتنصحهم عن ترك المنكر ولو كنت فاعلاً له، وهذا لا يضر، إنما الذي يضر تركك للمعروف وفعلك للمنكر، فهذا هو الذي تأثم به، أما النصيحة فهي واجبة حتى من المقصرين وحتى من المفرطين.(6/70)
سفر النساء بلا محرم
السؤال
هذا سؤال طويل خلاصته أن إحدى الجهات المعروفة وذات العلاقة بالجمهور قد قامت بإرسال حافلة أو حافلات من مراكز متعددة يوم الثلاثاء الماضي من أجل العمرة، ومجموعة من النساء ليس معهن محارم، وقد تركن أعمالهن من ذلك الوقت حتى هذه الليلة ولم يعدن، وسافرن بدون محرم، وهو مخالف لتعاليم الإسلام، وكذلك مخالف للأنظمة الصادرة من هذه البلاد، وعلماؤنا يحذرون من السفر بالعوائل إلى مكة إذا كان الرجال لا يستطيعون مراقبة أولادهم ونسائهم؛ فما بالك بنساء عازبات ليس معهن محارم؟
الجواب
هذه أحد الأخطاء، وأنا سوف أحتفظ بهذه الورقة، وسنخاطب أهل الاختصاص فيها، ونبذل ما يستطاع في مثل هذا، ونسأل الله أن يعين الجميع على فعل المعروف والأمر به وترك المنكر والنهي عنه.(6/71)
من صور الميسر
السؤال
بعض الشباب خاصة في رمضان يكونون فرقاً ومباريات في الشهر، ويلزمون كل لاعب أن يدفع خمسمائة ريال حتى يشتروا للفريق الفائز جوائز فما الحكم؟
الجواب
هذا لا يجوز؛ لأنه نوع من الميسر الذي نهى الله عنه؛ فإن هذه المبالغ قد يأخذ من دفعها أضعاف أضعافها، فضلاً عن أن استغلال وقت رمضان في مثل هذه الألعاب وتضييع الليل كله في ذلك أنه من باب استبدال الأدنى بالذي هو خير ومما نهى الله تعالى عنه بني إسرائيل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] .
فكيف تترك قراءة القرآن والذكر التسبيح ومجالس العلم أو حتى الأعمال المباحة في مثل هذه الأشياء التي هي بلا شك محرمة، أعني جمع المبالغ وأن يأخذها الفريق الفائز، وهو قد شارك في جمعها.(6/72)
النوم عن الصلاة
السؤال
ما رأيكم في أناس يأتون من المدرسة الساعة الثانية ظهراً، وينامون ولا يصلون العصر حتى قبيل أذان المغرب؛ فهل يجوز هذا الفعل؟
الجواب
كلا! {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] وتأخير الصلاة عن وقتها من كبائر الذنوب، ومن تركوا صلاة العصر إلى أن كادت أن تغرب واصفرت، فقد أخروا الصلاة عن وقت الاختيار، وأثموا بذلك فضلاً عن إثمهم بترك صلاة الجماعة؛ فهم آثمون بالوجهين: أولاً: بتأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس وقرب الغروب، وهذا الوقت لا يجوز تأخير الصلاة فيه إلا لضرورة.
ثانياً: أنهم آثمون بترك صلاة الجماعة.(6/73)
حزب الاتحاد الإسلامي الصومالي
السؤال
ما رأيكم في حزب الاتحاد الإسلامي الصومالي؟ وهل تؤيدون مناصرته؟
الجواب
نعم! هو حزب إسلامي، سلفي المعتقد، موثوق المنهج، وله جهودٌ طيبة في الدعوة والتعليم والجهاد وغير ذلك، وهو من الأحزاب التي ينبغي مناصرتها وتأييدها.(6/74)
جمع التبرعات
السؤال
هذا أخٌ يقول نرجو منكم الدعاء لمن يقومون بجمع التبرعات؟
الجواب
في الواقع أن الإخوة تجاوبوا تجاوباً مشكوراً جزاهم الله خيراً، وهناك العديد من الشباب وغيرهم جمعوا من زملائهم مبالغ طيبة ووافوني بها، وهذا رفع المبلغ الذي جمعناه للبوسنة ما يقارب مائة ألف ريال، وكذلك الحال بالنسبة للصومال، وندعوهم إلى المواصلة، وندعو الله أن يجزيهم خيراً على ما بذلوا، وأن يقر أعينهم بصلاح قلوبهم وأولادهم وزوجاتهم، إنه على كل شيء قدير، وليعلموا أن كل مبلغٍ قلَّ أو كثر يقومون بجمعه، فهم شركاء في الأجر فيه إن شاء الله تعالى.(6/75)
صلاح الظاهر والباطن
يرى الشيخ أن الخطاب الدعوي حالياً يركز على إصلاح الظاهر ولا يهتم بإصلاح الباطن وأن الناس عامتهم وخاصتهم يخدعون بالمظاهر ويقَيِّمون الناس على أساسها، وأن التوبة اقتصرت على إصلاح الظاهر، وأن المربين لا يعالجون أمراض القلوب بقدر ما يهتمون بالظاهر كما أن بعض الناس يحتج عليك إذا نهيته عن منكر هو عليه بأن التقوى في القلب وفي هذا الدرس ذكر العوامل التي يصلح بها الباطن، كالعلم، والعمل الصالح، والاهتمام بالأعمال القلبية، كالحب، والخوف، والرجاء، وغير ذلك.(7/1)
حقيقة الإنسان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اقترح علي بعض الإخوة أن تكون هذه المحاضرة حلقة ضمن دروس السلسلة العلمية العامة، ورأيت هذا الاقتراح وجيهاً، وذلك نظراً لأهمية موضوعها وحاجة الكثير من الناس إليه هنا وهناك، ولذلك فإن رقم هذا الدرس هو الحادي والخمسون، وهذه ليلة الخميس الثالث عشر من جمادى الآخرة لسنة (1412هـ) وينعقد هذا الدرس استثناءً في هذا المكان في جامع حي سلطانة، وعنوان هذا الدرس: صلاح الظاهر وصلاح الباطن.
الإنسان مظهر ومخبر، وصورة وحقيقة، وهذا أمر معروف تفَّطن له الناس قديماً وحديثاً، ولذلك قال الأول -الشاعر الجاهلي- وهو زهير بن أبي سلمى: وكائن ترى من صامت لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم أي أن الإنسان وهو ساكت قد يعجبك، لكنه إذا تكلم زاد أو نقص بحسب جودة كلامه وقوته وسيلانه أو عكس ذلك، فإذا كان لسان الفتى نصفاً، وكان عقله وقلبه وفؤاده نصفاً آخر، لم يبق منه إلا صورة اللحم والدم، وهو بذلك يلفت النظر إلى أهمية تثقيف الإنسان، وبتقوية عقله، وتعزيز ذهنه، وتحريك قريحته، وكذلك تدريبه على جودة المنطق وصفاء الكلام، قبل أن يكون الاهتمام بمظهره وشكله الذي هو صورة من اللحم والدم، يستوي فيها الإنسان مع غيره من الحيوانات، وهكذا لم يكن المقياس عند الناس -حتى في الجاهلية الأولى- في الإنسان مقياساً ظاهرياً محضاً في شكله وهيئته ومظهره، بل كانوا يقيسون الإنسان بباطنه وحقيقته، قبل أن يقيسوه بمظهره، ولعلنا جميعاً نحفظ تلك القصيدة الطويلة الجميلة، التي قالها العباس بن مرداس السلمي وهو يخاطب بعض بني قومه معاتباً: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير كم من إنسان يعجبك بمظهره، لكنك إذا ابتليته وقسته ومسسته، لم تجده أهلاًَ لهذا الإعجاب.
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور أي: أن هذه البغاث من الطيور الصغيرة كثيرة الفراخ، لكن الصقور قليلة نزرة، تلد بين الفينة والأخرى، وشيئاً يسيراً واحداً، ومع ذلك فإنه ثمين نفيس عظيم، لا يقاس ببغاث الطير؛ ولهذا قيل: "إن البغاث بأرضنا يستنسر" أي يتشبه بالنسور وهو لا يقاس ولا يقرن بها.
صغار الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير وتضربه الوليدة بالهراوي فلا غير لديه ولا نكير يُصرفه الصغير بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير أي: أنه يجر بالحبل، وهو ضخم كبير فلا يُغيَّر ولا يتحرك، ثم قال: فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير(7/2)
علاج المظاهر المخالفة للشرع
أقصد من هذا الكلام أن أقول: إنه بالنسبة للأشياء المتعلقة بمظهر الإنسان، إذا كان معتاداً على فعلها أو على تركها، وغيَّر فربما يجد صعوبة أول الأمر، ثم بعد ذلك يصبح الأمر طبيعياً، لتعوَّد الناس على أن فلاناً يعفي لحيته، وانتهت المشكلة خلال أسبوع.
لكن أمور المخبر، قلبية ليست بهذه البساطة أبداً، فهي أمور صعبة، وقد يجاهد الإنسان نفسه زماناً طويلاً على علاج مرض من أمراض القلب كالرياء، ويفشل ويخفق في ذلك، حتى أن منهم من يقول: والله إني أعالج نفسي من آفات الرياء مئات المرات، حتى إذا ظننت أني قد نجوت منه وجدت أني قد بليت به من جديد، فعدت أجاهد نفسي بعد ذلك مرات ومرات، وقل مثل ذلك في أمراض القلوب، وهي كثيرة جداً.
إذاً: علاج أمراض القلب ليس كعلاج الأمراض الظاهرة، فالأمراض الظاهرة علاجها أيسر، وقد يتركها الإنسان بسهولة، وقد يتركها تصنعاً، وقد يتركها لسبب أو لآخر، لكن أمراض القلوب لا يتركها العبد إلا لله؛ لأن المطلع على القلب هو الله سبحانه، وكذلك إزالتها ليست بالأمر الهين، بل هي أمر صعب يحتاج إلى مجاهدة.
ولعلكم من خلال هذا أدركتم جانباً من أهمية علاج مثل هذه الأمور، سواء على مستوى الخاصة أو على مستوى العامة على مستوى طلبة العلم والدعاة والعباد والزهاد أو غيرهم.(7/3)
اهتمام الإنسان بالمظاهر
أيها الإخوة: واقع الناس في كل زمان ومكان أنهم قد يهتمون ويكترثون بالمظاهر أكثر مما يهتمون بالحقائق والمخابر، فأنت حين تنظر إلى العامة، تجد أن عنايتهم بالمظهر أكثر من عنايتهم بالمخبر، سواء في ذلك تربيتهم لأبنائهم، فيُعْنَى الواحد منهم بإعداد ولده، يُعْنَى بثيابه، ومظهره، ويُعْنَى بصحته، وجماله، لكن هل يعنى بعقله، وخلقه، وبدينه، وفصاحته؟ هذا قليل! أما عنايتهم -مثلاً- بمناسباتهم: فقد يعنون بالمناسبات، فيظهرون هذه العناية على شكل حفلات، أو أكل يقدم، أو طعام، أو شراب، لكن العناية بهذه المناسبات في معرفة السبب في وجودها، كأن تكون عيداً من الأعياد الشرعية، وربط الناس بهذا المعنى هو قليل، بل أقل من القليل.
بل تجد عنايتهم حتى بأمور معاشهم، من طعامهم وشرابهم ولباسهم، وغير ذلك، فقد يعنى الواحد منهم بمظهر معين، من لبس أو أكل أو شرب أو غير ذلك، لكن هل يعنى بكونه من حلال أو من حرام؟ قد يعنى بالمظهر الدنيوي من كون هذا الطعام حلواً أو لذيذاً، لكن هل يعنى بكونه نافعاً للبدن؟ هذا قليل! فضلاً عن أن يعنى بكون هذا الطعام مباحاً شرعاً، وليس فيه حرام، أو لم يأت من حرام ولا غير ذلك.
بل حينما تنظر إلى عباداتهم، تجد أن هذه العبادات أصابها ما أصاب الأمور الدنيوية، فأصبح الناس يهتمون في العبادة بالمظهر أكثر مما يهتمون بالمخبر، فقد يُقبِلَ الواحد منهم على صلاته، ويحافظ عليها، وهذا محمود بكل حال، ولكن هل يخشع في صلاته ويُقبل على ربه؟ وهل يبكي وتدمع عينه؟ هذا قليل!! قد يسمعون القارئ يقرأ القرآن، فتجد أن أكثر الناس يخرجون ويقولون: قد أجاد! بارك الله فيه! ما أحسن صوته! ما أحسن قراءته! ما أضبطه! لكن أن تكون هذه القراءة وصلت إلى قلوبهم، أو تبللت عيونهم على الأقل ببعض الدموع، هذا قليل! وهكذا تجد حالهم في صيامهم، وحجهم، وعمرتهم، وفي سائر أعمالهم.
قد يذهب الإنسان للحج أو العمرة، فتجد أنه كلما جاء رمضان، ذهب يعتمر، هو وأولاده، وكلما جاء موسم ذهب يحج، لكن أصبحت الجلسات هناك جلسات أنس وحديث وزائر ومزور وضحك وسواليف وما أشبه ذلك، أكثر مما هي أسفار بقصد العبادة والتقرب إلى الله تعالى.
فسيطر الظاهر على دنيا الناس، بل حتى على كثير من أمورهم الدينية.
أما إذا انتقلت إلى الخاصة، فإنك تجد الأمر نفسه موجوداً من طلبة العلم والدعاة والعلماء وغيرهم.
فتجد -مثلاً فيما يتعلق بطلب العلم- الإنسان قد يهتم بالكم: كثرة ما يقرأ، وكثرة ما يحفظ وما يحصل، وكثرة جلوسه إلى مجالس العلماء، وما أشبه ذلك، لكن أن ينظر في أثر هذا في قلبه، والتأثير في نفسه، ومدى عمله بما علم، وهل هذا من العلم النافع أو غير النافع؟ هذا قد لا يلتفت إليه كثيراً.
ومثله إذا انتقلت إلى موضوع العبادة، قد تجد الناس يكثرون من الكلام في العبادات، وقد يتنافس بعضهم مع بعضهم في كثرة العبادة، لماذا؟ لأنهم يسمعون الكلام عن أن فلاناً كان يصلي في الليلة ألف ركعة، وفلاناً كان يختم القرآن في ليلة، وفلاناً كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وفلاناً كان كذا وكذا وهذه كلها أشياء بعضها وارد، وصحيح، وبعضها قد يكون فيه مبالغة، لكن هل يهتمون بالكيف مثلما يهتمون بالكم؟ فيقبل الإنسان منهم على صلاته، وصيامه، وقراءته، وعبادته، بحيث يكون هذا من العلم، من الذكر النافع المقرب إلى الله تعالى، وتكون صلاته وصومه، وحجه، وعبادته زلفى إلى ربه!! هذا فيه نظر.
كذلك إذا انتقلت إلى مجال الدعوة إلى الله تعالى، تجد الذين ينطلقون إلى الدعوة كثيرين، لكن ربما صبوا جل اهتمامهم على تكثير سواد الناس كما يقال، فكثر المقبلون على الدعوة، وكثر الأخيار، والملتزمون، لكن كم مِن هؤلاء مَن يكون في قلبه إشراق ونور؟ وكم من هؤلاء من دخلت حقيقة الإيمان ولامست قلبه أو تغيَّر باطنه؟ قليل! أما الأكثرون فقد تغيَّر ظاهرهم فقط، أصبح مظهرهم ملتزماً -كما يقال- أصبح مقصراً لثوبه، وفيه خير في مظهره، لكن القلب لم يتغير، هل عالجنا القلوب؟ هذا السؤال يطرح نفسه.
وفي كثير من الأحيان، نعتقد نحن الدعاة أن مهمتنا مع الناس تنتهي بمجرد أن يلتزموا ظاهرياً، فإذا رأينا فلاناً الذي كان بالأمس مدمناً للمخدرات، أو تاركاً للصلوات، أو واقعاً في الجرائم والموبقات، أو عاقاً لوالديه، أو مرتكباً للآثام، فيخرج من سجن ليدخل في سجن آخر، أو كل يوم يمسك في قضية، فمجرد أن نجد هذا الإنسان أظهر الاستقامة، وأعفى لحيته، وأزال ما كان في ثوبه من الطول المخالف للسنة، اعتقدنا أن مهمتنا انتهت عند هذا الحد، وأصبحنا نتحدث عنه في المجالس، ونطريه، فنثني عليه ونعتبره نموذجاً، ونتكلم عنه، وننسى أنا لم نعالج بعدُ أخطر منطقة في نفسه، ألا وهي القلب.
وقد يكون عند هذا الإنسان أمراض وعيوب ما عولجت، فقد يكون في الماضي عنده كذب، أو غرور، أو مصائب، وعلل، وأمراض في قلبه ما عالجناها، بل ربما ما عرفناها أصلاً، لماذا؟ لأن قضيتنا مظهرية انتهت عند حدود الالتزام الظاهري، فبمجرد أن التزم هذا الإنسان ظاهرياً، اعتقدنا أنه جاوز القنطرة وانتهى دورنا عند هذا الحد، وهذا خطأ كبير؛ لأنه سوف يجعل الإنسان عرضة للنكسات مرة بعد أخرى، وبقدر ما فرحنا به اليوم قد نحزن له بالغد، وكم من إنسان فرحنا به وطبَّلنا حوله ودندنا له؛ لأنه فلان الذي كان وكان، كان رياضياً أو فناناً أو كان مشهوراً أو أياً كان اهتدي وأصبحنا نقدمه للناس على أنه رمز لانتصار الإسلام، وعلى أنه رمز للهداية، والتقوى، وبعد حين نفاجأ بهذا الإنسان أنه قد انتكس وتراجع، وبقدر ما فرحنا لهدايته وتوبته، حزنّا لرجوعه وانتكاسه، وبقدر ما بيَّض وجوهنا بالأمس، سوّد وجهنا اليوم والعيب منا نحن الدعاة، والمصلحين؛ لأننا اعتبرنا أن مجرد هداية الإنسان في ظاهره، ونسينا أن نعالج أخطر شيء في نفسه وهو القلب، وظننا أن أمراض البدن هي أمراض الظاهر فقط، فلذلك انتكس هذا الإنسان.
أمر آخر: أن هذا الإنسان قد لا ينتكس ظاهراً؛ لأنه قد أصبح من الأخيار، فهو محسوب عليهم، ويذكر من ضمنهم، ويحس في نفسه أنه قد وقع في عداد الأخيار، ومن الصعب جداً أن يستل نفسه منهم، أو يخرج من بينهم لكن هنا تقع مصيبة أعظم وأهول وأطول وهي: أن مصائب هذا الإنسان بدأت تظهر، فقد يكون كذاباً كل يوم له قصة طويلة عريضة، ليس لها زمام ولا خطام، يخلق ما يقول: من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة لي حيلة فيمن ينمُّ وليس في الكذاب حيلة ولأن مظهره كمظهر الأخيار أصبح الناس يحسبونه على الأخيار، وهذا الإنسان يفتري ويكذب، ويكذب، ويكذب، وعندما يكتشف كذبه يقال: هؤلاء الطيبون، يكذبون.
وقد يكون لصاً، فيسرق فيكتشف أنه لص والعياذ بالله، فيقال: هذا من الطيبين، فينسب إلى الأخيار؛ لأن مظهره منهم، ولأننا أفلحنا في تغيير شكله الظاهر، ولم نعالج -لا أقول: لم نفلح- ولم نجاهد في تغيير قلبه وباطنه وحقيقته، فبقي بمظهره محسوباً علينا، وبحقيقته بعيداً منا، لكن تصرفاته بكل حال محسوبة على الأخيار، فإذا كذب، وسرق، وغش، وافترى، أو ظهر بأي مظهر غير لائق، قال الأعداء: هؤلاء الخيرون، وهؤلاء الطيبون يظهرون لنا شيئاً، ويبطنون لنا خلافه.
والحقيقة أن هذا الإنسان لو كانت مقاييسنا حقيقية، ما كان محسوباً على الأخيار، ولا كان منهم، لأن الخير ليس مظهراً فقط، بل هو مظهر ومخبر، وهذا الإنسان أخذ أسهل الأشياء، وترك أعمقه.
خذ -مثلاً- اللحية: اللحية من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، إعفاؤها واجب وحلقها حرام، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، فهي سنة، أي: أنها مأثورة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنها واجبة الإعفاء وحلقها لا يجوز، بل يأثم الإنسان على حلقها أجمع على هذا أهل العلم.
والإنسان الذي تعود على حلق لحيته، بكل تأكيد سيجد صعوبة أنه يعفيها أول مرة، لأن الناس الأقارب والأباعد، والزملاء في العمل، وزملاء المهنة، وأهل الحي، وأبناء العم، والجيران، كلهم تعودوا أن فلاناً حليق، فلو رأوه لأول مرة، وقد أعفى لحيته تعجبوا وصار الكثير منهم -وخاصة الأشرار- يعلقون عليه.
مثلاً يقولون: ما شاء الله يا فلان تدينت! ما شاء الله يا فلان تغيرت الأمور!! وبعضهم يقولون: كلمات معينة غير لائقة، يقصدون لدغ هذا الإنسان، وبعضهم يقول: بدري عليك! فهذا الإنسان قد يسمع مثل هذه التعليقات لأول مرة، لكن يوم ثلاثة أسبوع بعد ذلك أصبحت شخصيته معروفة أنه ملتحي، فسكتت هذه التعليقات، ولا أحد يعيبه بها، أو يعلق عليه، بل العكس لو أنه حلق لحيته، لوجد من يعيره بذلك، ولوجد الأخيار -أولاً- يعيبونه ويعاتبونه.
ومثلاً يقولون: يا فلان نعوذ بالله من الحور بعد الكور! أمس تلتزم بالسنة وتعمل بها، واليوم تحلقها! نسأل الله العفو والعافية! الناس يزيدون وأنت تنقص! اتق الله! فوجد من الأخيار والطيبين والدعاة وطلبة العلم الإنكار والدعوة والتغيير، ومنهم من يعيب عليه ويعتب حتى ولو لم يكن خيّراً، فيقول: يا فلان مالك متناقض ما عرفنا لك طريقة، كل يوم لك حال، وكل يوم لك شخصية، ووضع، فصار يعاب بحلق اللحية.(7/4)
التغيير الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم
لكي تدركوا خطورة الموضوع وأهميته؛ أطرح عليكم سؤالاً: عندما جاء الإسلام، وبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، ما هو الذي حدث بالضبط؟ وما هو أعظم تأثير أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياة الأفراد والأمم والشعوب والجماعات؟ خذ مثالاً ملابس العرب في الجاهلية: كيف كانوا يلبسون؟ أما كان العرب في الجاهلية يلبسون الإزار والرداء؟ بلى! كانوا يلبسون الإزار والرداء.
أما كان العرب يلبسون العمامة أحياناً؟ بلى! كان من ملابس العرب في الجاهلية، عمامة بذؤابة أيضاً، وكانوا يلبسون النعال، والخفاف، فهل غير الإسلام هذه الأشياء وقال حرام أن تلبس الإزار والرداء؟ وحرام أن تلبس العمامة؟ أو نلبس الخف أو النعل؟ لا! كل ما فعله الإسلام أنه وضع ضوابط وأسساً بالنسبة للباس، أن يكون مباحاً في نفسه، ألاَّ يكون حريراً للرجال، أن يكون ساتراً، ألاَّ يكون مسبلاً تحت الكعبين، ألا يكون ضيقاً، ألا يكون لباس شهرة.
إذاً وَضَعَ الإسلام صفات وضوابط للباس، وأما ما كان معتاداً عندهم في الجاهلية، من ألوان الملابس، فإن الإسلام لم يتدخل في تغييرها، إنما دخل في التعديل بما يتلاءم مع الضوابط والشروط الإسلامية الشرعية.
سؤال ثانٍ: جاء الإسلام، وأسماء العرب: طلحة، وسفيان، وأرقط، وعبد الله، ومحمد، وغَير ذلك من الأسماء، فهل الإسلام -عندما جاء- غيَّر هذه الأسماء كلها، وألزم كل مسلم جديد أن يغير اسمه، ويستحدث لنفسه اسماً جديداً غير الاسم السابق؟
الجواب
لا! ونحن نعرف أن كثيراً من أسماء الجاهلية ظلت في الإسلام، صحيح هناك أناس غيّر الرسول عليه الصلاة والسلام أسماءهم لأنها أسماء لا تنطبق مع الشروط والمواصفات الشرعية، مثل: ألاَّ يكون هناك تعبيد لغير الله، فإذا كان اسمه عبد المطلب أو عبد العزى غير النبي عليه والصلاة والسلام اسمه، وسماه عبد الله مثلاً.
وكذلك إذا كان اسمه فيه تشاؤم، قد يغير اسمه مثلما طلب من حزن تغيير اسمه إلى سهل، ومثله إذا كان الاسم مذموماً شرعاً غيره النبي عليه الصلاة والسلام: فالذين كان اسم الواحد منهم العاصي، مثل العاص بن وائل وغيره، غير النبي صلى الله وعليه وسلم أسماء من أسلم منهم، ومنهم مطيع والد عبد الله بن مطيع، كان اسمه العاصي فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً، وآخر سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ومثله أبو جندل، كان اسمه العاص كما ذكر أهل السير، فغير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم لأنها أسماء مكروهة، لأن المعصية ممنوعة في الشريعة ومذمومة، فيغيره.
إذاً: غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء التي لا تنطبق مع المواصفات والشروط الإسلامية، لكن هل كان كل من أسلم يعطيه اسماً جديداً، أو يقول له: غير اسمك، ما كان هذا شرطاً، متى كان الاسم لائقاً بقي اسمه كما كان من قبل.
ونعرف أنه كان في العرب مجموعة ممن تسموا محمداً حتى قبل الإسلام، وخاصة من كانوا على علم بدين أهل الكتاب، وكانوا يتوقعون أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت كان ينتظر أن تكون النبوة له، ولذلك سمى نفسه محمداً، وجماعة سموا أولادهم محمداً رجاء أن يكون أحدهم هو النبي عليه الصلاة والسلام.
هل التفت الإسلام عندما جاء إلى أشكال العرب أو المدعوين؛ إلى كون الواحد منهم قصيراً أو طويلاً أو أبيض أو أسود، عربياً أو عجمياً؟ كلا! بل كانت هذه الأشياء غير ذات اعتبار.
لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وبدأ بدعوته، هل كانت بداية الدعوة هي فقط دعوة إلى تغيير عادات اجتماعية؟ طريقتهم في العلاقة فيما بينهم، وطريقة استقبال الضيوف، وطريقة طبخ الطعام، وطريقة اللقاء، وطريقة الوداع، وطريقة السفر إلى آخر العوائد مما يسمى بعوائد العرب، هل كانت بداية دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لما صدع بين أظهرهم: يا معشر العرب! أنتم على عادات قبيحة، وعلى تصرفات غير لائقة، وأنا بعثت لأغير هذه العادات والتقاليد، لا!(7/5)
شمولية التغيير
إذاً: دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة عظيمة غيَّرت قلب الإنسان وعقله ومظهره، غيرت الفرد، وغيرت الجماعة، والدولة، والأمة، كل هذا أحدثه الرسول عليه الصلاة والسلام.
هذا التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم هو عبارة عن دين كامل مهيمن نظّّم كل شيء، الفرد والمجتمع، المظهر والمخبر، لهذا نقول: حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن كل مسألة تمر بالإنسان سواء كانت قضية شخصية أو زوجية أو عائلية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بالرجل أو بالمرأة، بالفرد أو بالمجتمع، -وكل من ألفاظ العموم- كل قضية فلله وللرسول صلى الله عليه وسلم فيها حكم، إما إيجاب أو تحريم، أو إكراه، أو استحباب، أو إباحة، فلا يوجد شيء في الدنيا تقول فيه: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فهذا غلط، وهذا عمل الجاهلية الأولى.
أما الإسلام فليس هناك شيء لقيصر، كل شيء لله، فقيصر وما ملكت يداه لله، ولهذا كان من تلبية المسلمين: لبيك لا شريك لك، وأهل الجاهلية كانوا يقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، أعطوه بعض الحقوق.
أما في الإسلام، فليس لله شريك والعلمانية تقول: الدنيا لقيصر، والمسجد لله، وهذا كفر بالله وردة عن الإسلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] والذي يقول: هذا حلال وهذا حرام، عليه إما أن ينسب ذلك إلى الله والرسول، وإلا فسوف يكون مفترياً على الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] .
إذاً: لا يوجد شيء في الدنيا إلا ولربنا جل وعلا ولرسولنا صلى الله عليه وسلم فيه حكم يجب على المسلم التعرف عليه واتباعه والتزامه.
وأنا أقول هذا؛ حتى تعرف أنه ليس في الإسلام تهوين في شيء، فلا تهون في المظهر، وتقول: لا يهم! من الذي قال لك: لا يهم؟! لا يتصور أبداً إنسان عنده صلاح في باطنه إلا وعنده صلاح في ظاهره، ولا يتصور صلاح الأفراد إلا بصلاح المجتمع، ولا يتصور صلاح الرعية إلا ويصلح الحاكم، فكل هذه الأشياء مترابطة، والإسلام جاء بإصلاح الجميع.
وكما أن الإسلام ضبط لك المظهر، وأمر المسلم بالعناية بشكله الظاهر، فحرم عليه حلق لحيته مثلاً، وكذلك جاء بتعليم معين في قص الشارب أو تقصيره والأخذ منه, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لم يأخذ من شاربه فليس منا} ؛ ولهذا إذا أراد بعض الناس أن يمدحوا بعضهم، قال: والله الرجال طوال الشوارب! الإسلام لا يمدح بطول الشوارب، ولو كان طول الشوارب مما يمدح به لكان غير الإنسان أولى بهذا، فمن الحيوان المذموم من يكون طويل الشوارب، إنما يأخذ المسلم من شاربه ويقصه.
كذلك جاء الإسلام إلى الثياب، ووضع إطاراً عاماً لها، فوضع صفات وشروطاً لا بد من التزامها.
وكذلك جاء الإسلام فيما يتعلق بالشعر للرجل والمرأة، بتعليمات لا ندخل في تفاصيلها، سواء في حلق الشعر أو تركه.
كذلك جاء الإسلام بسنن الفطرة، كالسواك والاستحداد الذي هو إزالة الشعر الداخل كالإبطين والعانة وغير ذلك من الأشياء التي ينظم فيها مظهر الإنسان، هذا جانب.
وبالمقابل جاء بالأشياء الأخرى التي فيها تغيير لعقلية الإنسان، وتغيير لقلبه، فعلَّم الإنسان كيف يعرف ربه، بصفاته وأسمائه وأفعاله جل وعلا وبين من هم الأنبياء والمرسلون، وما هي حقوقهم، وماذا يجب على المسلم بالنسبة لهم من الإيمان بهم، ومحبتهم وأتباعهم، وطاعتهم إلى آخر ذلك.
جاء بالنسبة للدنيا والآخرة، فبيَّن الدار الآخرة: البرزخ والموت وما بعده، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، والجزاء والحساب، وغير ذلك، وجاء بالإيمان بالقضاء والقدر.
وأتى بقضايا كثيرة تُنظِّم فهم الإنسان -إن صح التعبير- أو تصحح فهمه وتصوراته عن كل شيء، كما جاء بالنظام الاجتماعي، من تنظيم أمور الزواج والعلاقات وغير ذلك، وجاء بالنظام السياسي الذي يحكم حياة الناس دقيقها وجليلها، ويبين حق الراعي وحق الرعية والعلاقة بينهما، ومراقبة الحاكم ونقده وتصحيحه، وعدم المتابعة على الخطأ، وتعزيز الصواب إلى غير ذلك، فجاء بنظام سياسي كامل، كما أنه نظم علاقة الناس بعضهم ببعض، أفراداً، وجماعات، ودولاً، ونظم علاقاتهم بالكفار سواء كانوا محاربين أو ذميين أو مستأمنين إلى غير ذلك.
وكل ذلك مرتبط بالعقيدة الداخلية الموجودة في ضمير الإنسان والتي ينبثق منها التعليم، وهي الرقيب -أيضاً- على أعمال الإنسان، بمعنى لو كانت القضية مجرد قرار صدر بتغيير شيء، فما دام أن عند الإنسان عقيدة فيمكن أن يخالفه في الخفاء وفي السر، وكم من القرارات التي تصدر في طول العالم وعرضه، تصدر علانية وتخالف سراً! وربما يكون من أول من يخالفها هو من أصدرها! لماذا؟ لأن هذا القرار ما صدر عن عقيدة تكون هي الرقيب على أعمال الإنسان وتصرفاته، حتى وهو منفرد، فإنه يراقب الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، بل هي أشياء مظهرية شكلية غير مرتبطة بعقيدة؛ ولهذا أخطر شيء على حياة الناس هو أمر العقيدة.
خذ مثالاً صغيراً، قضية المخدرات، الآن هناك حرب عالمية على المخدرات، ونحن نشارك ضمن هذه الحرب في أجهزة الإعلام، ونضع أوراقاً في الشوارع، ونضع خرقاً، ونضع دعايات في كل مكان، المخدرات سم قاتل، عدو فاحذروه، وعبارات، وتعاون بين الجهات والوزارات وغير ذلك.
نحن هنا نعالج في الغالب الأمر الظاهر، لأنني أنا مسئول في جهة معينة -مثلاً- أو في إدارة، أو مدرسة، وجاء أسبوع مكافحة المخدرات، يهمني أن يوجد اسمي أو اسم المدرسة أو اسم المؤسسة أو اسم الجهة، بأنها شاركت في شيء من النشاط، وأن أقدم تقريراً في هذا الأمر! لماذا؟ لأن القضية قضية تعامل بالشكليات، لكن إذا تحول الأمر إلى علاج حقيقي بالقلب، فمعناه أننا نعالج الناس بالتربية الوجدانية، بالإيمان، وبالخوف من الله، فأصبح المؤمن حتى لو كانت المخدرات عنده -مثلاً- أو الخمر في متناول يده، حتى ولو كان في بلاد الكفر والإباحة، فإنه يكف عنها، ليس عجزاً ولا خوفاً من السلطة -أيضاً- إنما خوفاً من الله تعالى، قبل أن يكون خوفاً من المرض أو من الآثار أو من الأضرار؛ فهو يراقب الله الذي يعلم السر وأخفى، والمطلع عليه في جميع الأحوال، وفي جميع التصرفات، فيمتنع ويكف خوفاً من الله تعالى، حتى ولو كانت هذه الأمور تحبها نفسه أحياناً، مثل المشروبات، أو النساء أو غير ذلك، لو كانت في متناول يده كف يده عنها، وتذَّكر قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] .(7/6)
عظمة التغيير وبعد النقلة
أيها الأحبة: حتى تعرفوا التغيير العظيم الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، تصوروا تغيير قناعة الإنسان في أمر من الأمور، لو أن إنساناً مقتنعاً برأي شخص معين يقول لك: هذه الحارة مناسبة جداً، وأحسن حارة نسكن فيها، فإنك تجلس معه حتى تقنعه بأن الحارة غير مناسبة وتحتاج إلى ساعة أحياناً، وبعد الساعة يمكن أن يقتنع، ويقول: والله أنت فعلاً قدمت لي معلومات جديدة تشكر عليها، وأنا غيَّرت رأيي، وأحياناً يمكن يقول: لك رأيك، ولي رأيي.
إذا كان تغيير قناعة الإنسان بأمر زهيد يتطلب وقتاً طويلاً، فما بالك بتغيير عقيدة الإنسان في كل شيء؟! وليست القضية دنيوية، تترتب عليها خسارة أو ربح؛ لأن الدين يقول لك: إن الذي لا يدين بهذا الدين كافر، والكافر مخلد في النار فالقضية خطيرة.
إذاً: تصور إمكانية تغيير عقلية الإنسان وعقيدته في كل شيء؛ بحيث إن هذا الإنسان سيدخل في الدين الجديد مثلاً، من الجاهلية إلى الإسلام، وبناءً عليه سوف يحكم بأن كل ماضيه فاسد، وكل جهوده السابقة ضائعة سدى، وأن آباءه وأجداده كانوا كفاراً، وأنهم من أهل النار.
هذه عقيدة المسلم لما دخل في الدين؛ ولهذا كان من أكثر الأشياء التي أكثر المشركون من الحديث حولها، أنهم يقولون: سفّه أحلامنا، وعاب آلهتنا، وضلل آباءنا وأجدادنا، هذه القضية صعبة أنهم يعتقدون هذا الأمر في آبائهم وأجدادهم، بل وفي حياتهم السابقة، وأن يضلوا ويفسقوا ويكفروا من كانوا قبلهم ممن ينظرون إليهم نظرة إعجاب وإكبار وإعظام.
وبذلك تعرف خطورة انتقال الإنسان من دين إلى دين خطيرة جداً، فما بالك إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يغير واحداً فقط، ينقله من الجاهلية إلى الإسلام؟ لا! بل غيّر أمة بأكملها، وغيّر مجتمعاً، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنزل الله عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] أي لما جاءه الأجل، وكان الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً، الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ومكة خضعت للإسلام، وجاءت الوفود تبايع النبي صلى الله عليه وسلم من كل أنحاء الجزيرة العربية؛ ولذلك العام التاسع يسمى عام الوفود في السيرة، لأن الناس بايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: أحدث الرسول عليه الصلاة والسلام تغييراً جوهرياً وجذرياً وعميقاً وداخلياً، وتغييراً في الباطن والظاهر أيضاً.
من السهل تغيير الظاهر فقط، مثلاً: لو أن دولة أرادت تغيير التاريخ من الهجري إلى الميلادي، وهي دولة لا تراعي حرمات الله مثلاً، ولا تعتبر أن هذا العمل حرام، فماذا تفعل؟ تصدر قراراً، ونحن نعرف بأن هذا القرار غَيّر التاريخ في بلاد الإسلام كلها، إلا هذا البلد فلا يزال، وهناك محاولات كثيرة وجادة من أطراف عديدة لتغيير التاريخ من هجري إلى ميلادي، وهذا الأمر معروف، والمحاولات أصبحت مكشوفة من قبل عدد من الأطراف والشركات وغيرها.
المقصود كيف غُيّر التاريخ الهجري؟ بقرار اعتباراً من تاريخ كذا وكذا يعمل بالتاريخ الميلادي، أمر خطير، لكنه غُيّر بقرار؛ لأنه أمر ظاهري عمل الناس به.
قضية أخرى، تغيير الزي مثلاً، كمال أتاتورك لما أراد أن يغير أثر الإسلام في تركيا، مثلاً عندما أراد أن يغير اللبس الإسلامي بلبس القبعة الأوروبية، أصدر قراراً بهذا، واضطر الناس إليه ولبسوه، كذلك هو أفلح في تغيير عقول الناس أيضاً، ولكن المقصود أن تغيير المظهر أسهل، وهكذا لو أن حاكماً أو دولة أو مصلحاً أراد أن يغير مظهر الناس في ملبسهم، وفي عاداتهم وتقاليدهم، فإنه يغيرَّه بقرار قد يعارض أول الأمر، ولكن بعد ذلك يستسلم الناس له، وتنتهي المشكلة.
لكن القضية التي أحدثها الرسول عليه الصلاة والسلام أخطر وأكبر من ذلك، ما كان تغيير النبي عليه الصلاة والسلام عبارة عن تحويل قيادة إلى قيادة، فبدلاً من انقيادهم لـ أبي جهل وأبي لهب صاروا يتبعون أبا بكر وعمر، كلا! وما غير النبي صلى الله عليه وسلم أموراً مظهرية فقط، بل غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً عقولهم وقلوبهم بحيث أصبحت تدين لله تعالى، ولا تُعظّم إلا الله، ولا تتعبد بالحب والخوف والرجاء والتعظيم والذل إلا لله سبحانه وتعالى، فلما تغيرت قلوبهم تغيرت كل أحوالهم، فتغير سلوك الشخص، ومظهره، ولباسه، وشكله، وتغيرت المرأة، والرجل، والمجتمع، وتغيرت العادات، والتقاليد، وأمور السياسية، والاقتصاد، وتغيرت كل الأمور، لكن هذا التغيير أهميته كانت في أنه تغيير قلبي قبل أن يكون تغييراً مظهرياً.
لم يكن التغيير إذاً الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الهين اليسير، بل لعله -كما عبر عنه أحد الباحثين- هو أكبر وأعظم تغيير في التاريخ كله، وهذا أقل ما يقال عن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم لم يفعلوا كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله من أكثر الأنبياء أتباعاً حتى من موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ونحن نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الذي رواه ابن عباس وهو في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه الأمم، فرأى النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، ورفع له سواد عظيم، فظنه أنه أمته فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فإذا سواد قد سد الأفق! فقيل: هذه أمتك!} إذاً: التغيير الذي فعله موسى لا يقاس بالتغيير الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من حيث العدد، ومن حيث كثرة الأتباع، وكذلك من حيث نوعية التغيير وقوته، فنحن نجد -مثلاً- أن أتباع موسى عليه الصلاة والسلام آذوه، ولهذا قال الله للمؤمنين من هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] صبر عليهم صبراً عظيماً عليه الصلاة والسلام، كل مرة وهم يقترحون عليه شيئاً: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] ألا تستحيون من أنفسكم؟! بعد فترة: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} [البقرة:61] وبعد فترة {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] كأنهم يقولون: ما عملت لنا شيئاً من قبل ومن بعد، المسألة هي هي، آخر ما فعلوا: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ * يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:21-22] والآية التي بعدها: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] .
انظر إلى الأمر العجيب! يقول: ادخلوا الأرض المقدسة، فيقولون: لا! حتى يخرج أهل الأرض، ويقولون: تفضلوا وادخلوا، وهذا لا يمكن أن يكون.
ولهذا صبر عليهم موسى عليه الصلاة والسلام، ولهذا في حادثة الإسراء والمعراج، لما فرض الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة، مرّ على موسى، فقال قال له موسى عليه السلام وهو قد جرب أمة من شر الأمم، كل يوم وهم يقترحون، إني قد جربت الأمم قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتك لا تطيق، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، ويرجع حتى صارت خمس صلوات، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إني قد جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، فاذهب إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: قد استحييت من ربي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي هي خمس في العدد وخمسون في الأجر والثواب والمكانة وهذا فضل الله تعالى.
المقصود أن موسى عليه الصلاة والسلام لاقى من بني إسرائيل ما لاقى، حتى آذوه في شخصيته عليه الصلاة والسلام، فمرة كما في الصحيح قالوا: إن موسى آدر -أي: عظيم الخصية أعضاؤه التناسلية ليست متناسقة- عيَّروه بهذا وهم كاذبون، لكنهم قوم بهت، حتى أن الله تعالى بَّرأه مما قالوا، ففي يوم من الأيام كان يغتسل عرياناً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراةً، فخلع ثيابه، ونزل يغتسل، ووضع ثيابه على حجر.
فالله تعالى أمر هذا الحجر أن يهرب بثيابه، فذهب الحجر بثيابه، فرآه موسى وقد طارت ثيابه، فخرج من البركة وهو يركض وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يصرخ ويصيح بالحجر: تعال أعطني ثوبي! حتى وقف الحجر ونظر الناس من بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وإذا هو أكمل وأجمل خلق الله! ليس فيه عيب ولا آفة، فبرأه الله مما قالوا، وعلموا أنهم كانوا كاذبين، فبدأ موسى يضرب الحجر، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {إنه لندب في الحجر من أثر ضرب موسى عليه الصلاة والسلام له} .
المقصود أن حجم التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة لا يقاس به تغيير قط، حتى من الأنبياء مع أنهم جميعهم عليهم الصلاة والسلام قاموا بالمهمة الجلية العظيمة خير قيام، ولكن كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253] إلى آخر الآيات.(7/7)
البدء بالعقيدة
كان ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معشر العرب! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، وتدخلون بها الجنة، فلما قال هذا حاربوه ونابذوه، وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] .
فبدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، وإلى علاج القلوب من أمراضها وأوبئتها؛ ولذلك أستطيع أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث -كما يقولون بلغة العصر الحاضر إن صح التعبير- ثورة كبيرة وشاملة في معتقدات العرب، وحياتهم وتصوراتهم العقلية والقلبية، وترتب على هذا أن انسلخ العرب والمسلمون عموماً -الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم- انسلخوا في قلوبهم بالكلية من عبادة غير الله تعالى، ووجهوا قلوبهم وأفئدتهم وأرواحهم وحياتهم إلى الله تعالى، فكان أحدهم يقول: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] فما عاد الواحد منهم ينظر إلى الصنم الذي كان يعبده بالأمس نظرته إليه التي كان ينظرها إليه بالأمس أو بالبارحة، كلا! بل كان يقول: هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور فانقلبوا من مشركين وثنيين كانت الأصنام تتحكم فيهم كل شيء، حتى إذا أراد الواحد منهم -مثلاً- أن يتزوج، ذهب يستشير الصنم، وإذا أراد أن يسافر ذهب يستشير الصنم ويستقسم بالأزلام، وإذا أراد أن يبرم أمراً، أو يعقد صلحاً، أو يثير حرباً، فإنه يذهب إلى هذا الصنم، ويستشيره عن طريق الاستقسام بالأزلام، لكن لما جاء الإسلام انسلخت قلوبهم من هذه العبودية لهذه للأصنام، وتوجهوا بأفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم وعقولهم إلى الله تعالى، فتحولوا من مشركين وثنيين إلى عباد موحدين صادقين في عبادتهم وأعمالهم وأقوالهم، بل صار الواحد منهم يوجس خيفة حتى من أي أمر كان عليه في الجاهلية، حتى الأمور العادية في الجاهلية صاروا يتوجسون منها خيفة، فيحتاج إلى أن ينزل قرآناً يقول: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:235] كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] .
لأن هذه كانت من عادات الجاهلية، وهم عندما أسلموا انسلخوا عن كل ما يمت إلى الجاهلية بنسب أو صلة أو سبب، فيحتاجون إلى أن يقول: لا مانع في هذا وإن كنتم عليه في الجاهلية.
إذاً: القضية التي حصلت والتغيير الذي جرى والثورة التي أحدثها الإسلام في معتقدهم، هو أن غيَّر معتقدهم بشكل كلي ونهائي، وتبعاً لتغير المعتقد تغيَّرت حياتهم كلها، فتغيّرت قناعاتهم، وتصرفاتهم، وعاداتهم، وأخلاقهم، لكن هذا كله كان تبعاً للتغيير الداخلي الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبهم.(7/8)
حرص الإسلام على بناء الإنسان ظاهراً وباطناً
إذاً: بناءُ الإنسان بناءً جديداً هو قبل عملية الفتوح، وقبل الحركة العلمية التي أحدثها الإسلام، وقبل الإبداع الحضاري، وقبل النجاح السياسي، قبل هذا كله، نجح الإسلام في بناء الإنسان، وهذا الإنسان بدوره هو الذي فتح الفتوح بإذن الله، وهو الذي أحدث الحركة العلمية، وهو الذي أبدع في الحضارة، وهو الذي تقدَّم في السياسة، كان هذا النجاح كله أثراً للنجاح في بناء الإنسان، والإنسان كما قال: لسان الفتى نصف ونصفٌ فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فالإنسان ليس بالشكل، وليست تربيته تربية العجول لا يا أخي وليست مسألة رياضة تجتمع فيها الآلاف المؤلفة على المدرجات، تهتف وتصيح وتلوح بالأعلام والشعارات، فتتكدس أجسامهم وتضيع ويصبح لا قيمة لهم، إن بناء الإنسان بناء العقل، والقلب، والروح، والتقوى، والخلق، بحيث تكون أمام إنسان واعٍ عالم عاقل مدرك خلوق فاضل حريص غيور، ومع ذلك لا مانع من الاهتمام بصحته والاهتمام بقوته، وحفظه مما يضره فهذا مطلوب، بل واجب على من ولاه الله أمر المسلمين أن يحرص على وقاية الناس، من كل ما يضر بصحتهم أو بأبدانهم؛ وبطبيعة الحال، من باب أولى أن يحرص على وقايتهم مما يضر بأديانهم أو عقولهم أو أخلاقهم، وهذا باب آخر.(7/9)
وسائل إصلاح الظاهر
أما إصلاح الظاهر، فكما قلت: أهم وسيلة لإصلاح الظاهر هي الشجاعة، فإذا كان الإنسان عنده معصية ظاهرة، فأعظم وسيلة لإصلاحها هو أن يكون عنده شجاعة على مواجهة الناس بشيء لم يتعودوه، كإنسان مقصر، عنده معصية، وهي أنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ولا ينشر علمه، وإذا كان قادراً على ذلك يقول: أستحي! حسناً فما الحل؟ الحل هو أن تعود نفسك على هذا الأمر، وستجد في أوله إحراجاً وصعوبةً، ولكن بعد ذلك سيكون الأمر عادياً.
زمن تعود عليه الناس أنه بشكل معين، لو رأوه على غيره أنكروا وتعجبوا، فعليه أن يسعى إلى إصلاح ظاهره، وسيفاجأ أول الأمر، ثم بعد ذلك يألفون ولا يستنكفون ولا يستنكرون أو يستغربون.
ومع التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه، والاحتساب فإنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] .(7/10)
عدم التركيز على العدد والكم
كذلك من الأشياء التي عني الإسلام بها ودلت على العناية بالمخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت أنظار الناس إلى ألاً ينظروا إلى العمل من حيث عدده، أو مقداره فقط بل يلتفتوا إلى الأمور الأخرى: الزمان والمكان والنية والقصد والظروف.
على سبيل المثال: في الحديث الذي رواه النسائي عن أبي ذر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما -وهو حديث حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبق درهم مائة ألف درهم} أي: درهم واحد تصدق به الإنسان سبق مائة ألف درهم، فجعل الناس يتعجبون، ويقولون: سبحان الله! تصدق بدرهم وآخر دفع مائة ألف، والذي دفع درهماً أفضل عند الله بهذا الدرهم! فالقضية ليست قضية أعداد فقط -صاحب هذا الدرهم ليس عنده إلا درهمان فقط- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- تصدق بأحدهما، والآخر لنفسه وعياله، فبذل كل ما يستطيع، والذي عنده مائة ألف درهم عنده أموال هائلة طائلة، فأخذ من عرضها مائة ألف درهم، ولم يعلم بها أي لم تؤثر فيه، ففرق بين هذا وذاك.
إذا كان هناك إنسان عنده ذكاء وقوة وبلاغة وجودة، وصار يتكلم ويتحدث ويدعو ويأمر وينهى ويعظ، فلا ينبغي له أن يقول: أنا أحسن من ذلك القاعد! فربما يكون القاعد أحسن منه؛ لأن القاعد كان يستطيع أن يفعل أكثر مما فعل العامل لأن الله أعطاه مواهب وإمكانيات، يجب أن تستغل هذه المواهب وهذه الإمكانيات بشكل صحيح، لكن ذلك الإنسان قد يكون عيياً، ليس عنده فصاحة، وبلاغة وقدرة، يمكن أن يكون مثل الإنسان الذي قام مرة يخطب في المسجد، فلما رأى كثرة الناس أرتج عليه، وقال: يا أيها الناس اتقوا الله! إن الله تعالى يعاقب العبد إذا عصى، هؤلاء قوم صالح قد عاقبهم الله بناقة لا تساوي درهمين، فخرج الناس يضحكون من المسجد، وسموه مقوم ناقة الله! من قال لك: إنها تساوي درهمين، أو أقل أو أكثر هل أنت أعلنت عنها بالمزاد؟! لأنه أرتج عليه، ولم يجد إلا هذا الكلام.
وقد ذكر الجاحظ من طرائف الذين فيهم عي في الكلام، شيئاً عظيماً غريباً، بعضه مما لا يناسب المقام.
المقصود إذا كان لديك قدرة لا توجد عند غيرك، فأنت مسئول أكثر من غيرك، مثلما أن التاجر يطالب بالإنفاق أكثر من غيره، كذلك الذكي يطالب باستخدام عقله للإسلام أكثر من غيره، والبليغ يطالب باستخدام بلاغته للإسلام أكثر من غيره، والقادر الذي أعطاه الله تعالى همة على العبادة وقيام الليل وصيام النهار والدعوة يطالب بذلك أكثر من غيره، والله تعالى يحاسبك بحسب ما أعطاك {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
فلم تكن دعوة المسلمين في يوم من الأيام -أيها الأحبة- مجرد دعوة إلى تغيير المظهر فقط، كما قنع كثير منا اليوم، حتى صاروا يعتقدون أنهم بمجرد إصلاح ظاهر الإنسان يكونون قد جاوزوا القنطرة؛ مما ترتب على ذلك وجود عدد كبير ممن ينسبون ويحسبون على الدعوة وعلى الإسلام والالتزام وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح في مظاهرهم، ولكن قلوبهم خاوية، وأمراضهم وعللهم القلبية باقية.
ولم تكن دعوة الإسلام والمسلمين -ولا يمكن أن تكون- دعوة لإصلاح الباطن فحسب؛ إذ أن الظاهر -كما ذكرت- هو تبع للباطن، وبصلاح الباطن يصلح الظاهر.(7/11)
الاهتمام بالنية
أمر آخر يتعلق بحقيقة العمل والعناية به قبل العناية بمظهره: هو إخلاص النية: وهناك نصوص كثيرة في موضوع النية، ويكفيك حديث عمر رضي الله عنه الشهير: {إنما الأعمال بالنيات} الحديث، إنما الأعمال بالنيات، فلا تقل: العمل ليس ضرورياً ولا شرطاً، بل العمل شرط، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات} .
إذاً: عندنا أعمال، وعندنا نيات، العمل لا يصلح إلا بالنية، لكن نية بدون عمل أمر غير معقول، بل لا يتصور وجود نية بدون عمل إلا للعاجز الذي لا يستطيع أن يعمل فنوى، فيبلغه الله تعالى ما نوى؛ ولهذا أيضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المتفق عليه: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية} أي: أن الهجرة من مكة انقطعت لأن مكة فتحت، لكن بقي الجهاد، وبقيت النية الصالحة يتعبد الله بها إلى يوم القيامة.
فلا بد من النية التي تصحح الأعمال؛ ينوي بها وجه الله تعالى، وينوي بها عملاً معيناً.
مثلاً: ينوي صلاة معينة، أو صوماً معيناً إن كان فرضاً معيناً أو كان نفلاً معيناً.
كذلك قضية لإقبال على العمل نفسه مثل الصلاة؛ فمن أهم الأشياء في الصلاة: الإقبال على صلاتك؛ ولهذا -مع الأسف- الناس دائماً يتربون على الكم لا على الكيف، وعلى المظهر لا على المخبر والحقيقة.
فكثيراً ما نقول للناس مثلاً: إن فلاناً -كما ذكرت- يصلي من الليل كذا، ويصوم كذا، ويحج كذا، وقد نُعلِّمهم بعض الأشياء، ولكننا قلما ننبه الناس إلى قضية إصلاح النية، وإصلاح العمل، والإقبال على العبادة.
وأعطيك مثالاً: عمار رضي الله عنه كما في سنن النسائي والحاكم وصححه الحاكم وسنده صحيح وهو كما قال: {صلى صلاة -هو صحابي فاضل عالم- فأوجز فيها وخفف، فانتقده من حوله وعابوه، وقالوا له: لقد أوجزت في هذه الصلاة، -اختصرت- قال: أما إني لم أخل بشيء من قيامها ولا ركوعها ولا سجودها، وإني مع ذلك قد دعوت بدعوات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها ثم قام.
فلحقه أحدهم وقال: يرحمك الله! ما هذا الدعاء الذي دعوت به؟ قال: إني قلت: اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كان كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين} .
الله أكبر! لو تأملت هذا الدعاء فهو من جوامع الدعاء فيه معاني عظيمة: الخشية، والخوف، والشوق، كل هذه المعاني القلبية دعا بها عمار.
إذاً قال لهم عمار بلسان حاله: ليست العبرة بطول الصلاة، إنما العبرة بالإقبال على الصلاة، والعبرة بالنية والصدق مع الله تعالى في الصلاة، وبأثر الصلاة؛ ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله تعالى إلا بعداً]] .(7/12)
الفقه الكامل لمسألة خطأ الداعية
يعجبني بعض الناس، عندما يكون عنده فتاة يريد أن يزوجها، يقول لبعض الناس: ابحث لي عن إنسان طيب صالح، لكن ليس كل طيب يصلح لي؛ لأن بعض الناس قد يكون مظهره صالحاً، لكن حقيقته بخلاف ذلك، فهو سيئ الخلق، سيئ الملكة، والمعاملة، بذيء اللسان، عاق، قاطع لرحمه، عنده قسوة، بل أحياناً عنده -عافانا الله- أشياء وأشياء.
ولهذا نقل عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب إلى بعض عماله، أن ولِّ الفقهاء، أي: استعمل الفقهاء، فكتب إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين! قد وليناهم فوجدناهم خونة فقال له عمر: ويحك! ولِّهم فإن كانوا خونة فغيرهم أخون.
ونحن لا نوافق هذا العامل على ما قاله لـ عمر أنهم خونة؛ لأن هذا غير صحيح، والفقهاء هم الذين زكاهم الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، وقد جاء في الحديث: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله} وهذا صححه الإمام أحمد والعراقي وغيرهما فزكى النبي صلى الله عليه وسلم الذين يحملون العلم، بل قال في الحديث الآخر الصحيح: {نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها} فدعا له بالنضرة ودعا له بالخير؛ ولذلك فحملة العلم وأوعيته والفقهاء هم أفضل طبقات المجتمع إجمالاً بلا شك، لكن لا يعني هذا أنهم ملائكة أو أنهم معصومون بل لا يعني هذا أنهم لا يندس فيهم من ليس منهم.
مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام وُجِدَ فيه المنافقون الذين يتظاهرون بأنهم من الصحابة، وهم في الحقيقة كفار، وما ضر هذا أن زكى الله تعالى أصحاب محمد عليهم الصلاة والسلام كلهم ومدحهم وأثنى عليهم، والأمة قالت: إن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم عدول ثقات، المعروف منهم وغير المعروف.
فلا يضر أن يوجد في الأخيار من يندس فيهم وليس منهم، ويتظاهر بالخير وليس من أهله، وقد يتصرف تصرفات رعناء، ولكن كثيراً من الناس لا يميزون، فينسبون هذه التصرفات إلى الطيبين والخيرين والملتزمين ويعتبرونه منهم.
وقد يوجد من بعض الملتزمين من يكون عنده أخطاء وعنده سوء في المعاملة، وهذا أمر موجود؛ لأنهم ليسوا معصومين، وليس لهم قداسة -أيضاً- ألاّ ينتقدوا، بل العكس ينتقدون مثلما ينتقد غيرهم.
مثلما نتكلم الآن على الطبيب، فننتقده في خطئه ونمدحه على صوابه، ومثلما نتكلم على المدرس، فنثني على خيره ونشجعه عليه، وننتقده فيما أخطأ فيه، ومثلما نتكلم على الشباب، فنمدحهم في جوانب، ونذمهم في جوانب، ومثلما نتكلم على المرأة، فنمدحها في جوانب، وتنبه على أخطأ في جانب آخر.
كذلك جنس كل من الأخيار، والملتزمين، والدعاة، وطلبة العلم، والمحتسبين، ليسوا معصومين من الخطأ ولا هم منزهين عنه، وليسوا أيضاً مقدسين عن أن ينتقدوا مثل غيرهم.
ولذلك نحن دائماً وأبداً نقول للناس: جزاكم الله خيراً! انتقدونا لكن بالتي هي أحسن، ليس بالشتيمة ولا بالسب ولا بالتعيير ولا بالافتراء والكذب والتزوير ولا باتهام النيات.
فما تعلم أنه خطأ قد وقع فيه أخوك المسلم -كبيراً أو صغيراً- طالب علم أو داعية أو إنسان من العامة، فعليك أن تصحح له الخطأ، إن كان الأمر يستدعي أن يكون ذلك بينك وبينه فحسن، وإلا فلا مانع -إذا كان الأمر عاماً، أو ظاهرة عامة- أنك تعالجها في مجالات عامة، لكن هناك فرق بين النقد البناء الذي يستهدف الإصلاح وبين النقد الذي يستهدف التشهير والتجريح وتشويه السمعة والحط من المكانة, وإفقاد الناس الثقة بهذه النوعية من الناس الأخيار.(7/13)
العبرة بحقيقة العمل لا بمظهره فقط
كذلك من عناية الإسلام بقضية الباطن، أن العبرة في الإسلام أن العمل بحقيقته قبل أن يكون بمظهره، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة: الإيمان شرط في كل الأعمال، ولا يقبل الله تعالى العمل حتى يؤمن صاحبه؛ ولهذا قال الله تعالى عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] والإيمان في القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الإسلام علانية والإيمان في القلب} .
فالإيمان شرط لكل الأعمال، وهو سابق لها؛ ولهذا جاء ذم المنافقين في القرآن الكريم كثيراً في سورة التوبة وفي غيرها، بل هناك سورة خاصة بهم؛ مع أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يحجون معه، وقد يجاهدون، حتى أن بعضهم يقتل في المعركة أيضاً ومع ذلك جاء ذمهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار، تحت الكفار، لأنهم فقدوا الشرط الأصلي الذي هو شرط الإيمان، ومثله أيضاً جاء ذم الخوارج على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام -مع أن أعمالهم طيبة في ظاهرها- قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث: {يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن -رطباً طرياً- لكن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} .
إذاً: القضية ليست قضية مظهر فقط! فلا بد من ظاهر وباطن، والإيمان شرط في كل الأعمال، ولأن الخوارج فقدوا الإيمان، ذمهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل جاء ذمهم في القرآن كما ذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] حملها بعضهم على الخوارج.
ومثلهم جاء ذم المنافقين في الكتاب والسنة كثيراً؛ لأن أعمالهم الظاهرة طيبة، ولكن أعمالهم الخفية فاسدة.(7/14)
ظاهر الإنسان صورة لباطنه
إن الإسلام -يا أخي- حرص على الظاهر والباطن، والظاهر أثر للباطن، ولم يهمل الظاهر بحجة التقوى هاهنا أي في القلب كما يفعل بعض الناس عندما تجد عليه منكراً، وتقول له: يا أخي! جزاك الله خيراً الرسول عليه السلام كان من سنته كذا وأمر بكذا قال: يا أخي! التقوى هاهنا، وأشار إلى قلبه وصدره، ونسي أن التقوى في كل مكان، فالتقوى إذا كانت في القلب فاضت على الجوارح، ولا يتصور أبداً لا في الإسلام ولا في غير الإسلام أن عند الإنسان عقيدة حقيقية في قلبه ليس لها تأثير في حياته العملية أبداً، هذا محال، كل عقيدة في القلب لا بد أن تترك أثرها في الجوارح؛ فالإسلام لم يهمل الظاهر بحجة أن التقوى في القلب، وكما أنه اعتنى بالظاهر، وجعله دليلاً على الباطن في الغالب، فهو أيضاً لم يهمل الباطن ويتركه بحجة العناية بالظاهر والإقبال عليه ومصانعة الناس ومجاملاتهم وتحسين صورة الإنسان المسلم أمام الآخرين.
أحياناً يقول الإنسان: والله أنا عندي هذا الشيء وتركته ليس خوفاً من الله، لكن لأني لا أريد أن أشوه صورة الطيبين، هذا دليل على خلل في قلبه؛ لأنه أصبح يستخفي أو يستحي من الناس، ولا يستحي من الله، فيجامل الناس في ترك أمر، ولا يخاف من الله تعالى في تركه، ولهذا قال ربنا جل وعلا: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] .
انظر! فالإثم له ظاهر وباطن، ما هو ظاهر الإثم؟ المعاصي التي يراها الإنسان منك، سواء في هيئتك، أو معاملتك، أو في أخذك، وعطائك، فمثلاً: الفحش، والبذاءة، والشتم واللعن، وارتكاب المعاصي الظاهرة، كل هذا من ظاهر الإثم، أما الباطن فهو في القلب؛ كالحقد، والغش، والحسد، والبغضاء، وعدم الإنصاف، والظلم، والعجب، والغرور، والكبرياء، والغطرسة، واحتقار الناس، كل هذه الأشياء أصلها في الباطن، لكنها تفيض على الظاهر، فيظهر تصرف هذا الإنسان في معاملته للآخرين.(7/15)
إصلاح القلب ومنزلته بالنسبة للجسد
الإسلام دعا إلى إصلاح القلب، واعتبر هذا سبباً للنجاة، حتى قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] فلا ينجو أحد يوم القيامة إلا أصحاب القلوب السليمة، وما قال: ببدن سليم أو بمظهر سليم! بل قال: بقلب سليم.
إذاً المعاملة معاملة قلوب أولاً، ومعاملة أعمال ثانياً، ليست قلوباً فقط، بل قلوب وأعمال، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث المتفق عليه، حديث النعمان: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .
إذاً: كل الجسد يدور حول الملك -القلب- إذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، فالأعضاء جنود، اليد، والرجل، والرأس، واللسان، إذا صلح الملك وهو القلب، صلحت هذه الجنود وهي الأعضاء، فصارت تسعى في طاعة القلب، فيملي عليها تعليمات صحيحة، يقول القلب الصالح للسان: تكلم بذكر الله، مر بالمعروف وانه عن المنكر، وادع إلى سبيل ربك، فيمتثل، ويقول لليد: أنفقي، فتمتثل، مري بالمعروف فتفعل، ويقول للرجل: امش إلى الطاعة فتفعل، ويقول للعين: انظري إلى ما يستحب النظر إليه فتفعل، ويقول للأذن: اسمعي ما يحب الله أن يسمع، فتفعل وهكذا، تصبح الجنود كلها خدماً تسعى في طاعة هذا الآمر المتنفذ المتوج وهو القلب {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} .(7/16)
مقياس التقويم هو القلب
أسألكم بالله أيها الإخوة! وأسأل نفسي: هل نحن الآن نعنى بإصلاح القلوب -سواء قلوبنا أو قلوب الناس الذين نعمل معهم وندعوهم ونعاشرهم- هل نحن نعنى بإصلاح القلوب أكثر من عنايتنا بإصلاح الظواهر؟ أم أن عنايتنا منصبة غالباً بإصلاح المظهر بحيث قد نفلح كما أسلفت في إصلاح المظهر، ويبقى القلب يتخبط في أمراضه وآفاته ومصائبه؟! هذه كارثة لا يعلمها إلا الله.
إذاً: الإسلام دعا إلى إصلاح القلب.
بل أمرٌ آخر، جعله الإسلام مقياس التقويم والحكم على الآخرين يتعلق بحقيقة ما في قلوبهم قبل أن يتعلق بمظهرهم، حتى إنه جاء في الصحيح عن سعد رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ومعه مجموعة من أصحابه، فمر رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس -وقد جاء في بعض الروايات أنه أبو ذر -قال: ما رأيك بهذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجل من خيار الناس، هذا حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال: أن يسمع لقوله -أي هذا رجل له مكانة- فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجل من ضعفاء الناس، هذا حرّّي إن قال ألاَّ يسمع لقوله، وإن شفع ألاَّ يشفع، وإن خطب ألا ينكح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا -الثاني- خير من ملء الأرض من مثل هذا} .
يعني من الأول، فالمظهر ليس العبرة، والصحابي أجاب على حسب المظهر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب على حسب المخبر.
ومثله تماماً ما في الصحيحين عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من تكلموا في المهد ذكر أن صبياً تكلم في المهد والقصة هي: كانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ولدها، فمر رجل، فلما مر كان ذا شارة حسنة أمير أو وزير، حوله هيلمان وصولجان، وجنود وحشم وخدم وأعوان، فالمرأة قالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، انظر المقاييس الدنيوية، تريد ابنها أن يكون ذا جاه؛ مثل أي واحد الآن يقول: أتمنى أن يكون ولدي مشيراً أو وزيراً أو طياراً إلى آخره، هذه قالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، وكان الصبي يرضع، فترك الصبي الثدي، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على الثدي يمصه، بعد ذلك مرت امرأة أمة، يلحقها الناس ويعيرونها، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك الثدي، وقال: اللهم اجعلني مثلها، فتعجبت الأم وكان الأول جباراً من الجبابرة وهذه يقولون: سرقت ولم تسرق، وزنت، ولم تزن، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل! فالمسألة ليست مسألة مظاهر وأبهات وصولجان وفخفخات وتطبيل ونفخ! هذه كلها تضيع في الميزان، الميزان عند الله إنما توزن به الأعمال، وربك عزوجل يعلم السر وأخفى ويعلم كل شيء، فمقياس الناس هو بحقائقهم.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يوماً من الأيام جالساً يدعو كبار المشركين، فجاء رجل أعمى، وقال: يا رسول الله! علمني مما علمك الله -وهو عبد الله بن أم مكتوم - وكان الرسول مشغولاً بهؤلاء، فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام عبس في وجهه، فعاتبه ربنا من فوق سبع سماوات، ونزل قرآن يتلى إلى يوم القيامة: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1-4] إلى آخر الآيات، عتاباً للرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ومع هذا لا يعني هذا أنك إذا أردت أن تحكم على الناس أن تتدخل في أسرارهم وخصوصياتهم وفيما لا يعنيك، لا! فنحن ليس لنا إلا الظاهر، لكن المشكلة أحياناً أننا نغفل حتى عن الظاهر! مثلاً: من منا يقيس الناس بصبرهم وبورعهم عن الحرام وببلائهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ تجد أننا نطري فلاناً، ونعطيه من الألقاب والهالات والتبجيل الشيء العظيم، وإذا جاءت القضية ليس لشيء سوى أن عنده بعض الصفات الخيرة الظاهرة، لكن باطنه لا ندري عنه، بل أقول: ربما يكون واعظاً في مسجد أو يلقي درساً! نسأل الله أن يعفو عنا ويتوب علينا ولا يؤاخذنا بذنوبنا، لكن المهم ليس هذا فقط، بل المهم بلاء الإنسان وجهاده في الإسلام وصبره وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعفته عن محارم الله، وتقواه وزهده، وصدقه مع الله تعالى، فتقيس الإنسان بقدر ما تعلم من ظاهره، أما الباطن فلا تتدخل في نيات الناس هذا ليس إليك.
كذلك فإن دعوتنا هي إلى إصلاح القلب، أما مسألة تقويم الناس والحكم عليهم -أيضاً- فيراعى فيها التزكية الخفية التي لا يستطيع الناس إدراكها، فقضية اعتبار الناس واحترامهم وتقديرهم هو الآن بحسب مظاهرهم؛ ولهذا مثلاً الناس قد يحترمون فلاناً لأنه ثري، أو وجيه، أو ذو سلطان، فيقدرونه، ويبجلونه، ويثنون عليه، مع أن واقعه لا يجعله مستحقاً لذلك.
هذا عائذ بن عمرو رضي الله عنه، روى كما في الصحيح {أن أبا سفيان -وأبو سفيان تعرفون أنه أسلم في عام الفتح أي تأخر إسلامه- مر على جماعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، منهم: سلمان وصهيب، وبلال، وهؤلاء كانوا كلهم عبيداً -فلما مر أبو سفيان ورأوه- وكان أبو سفيان مشركاً، فقال بعضهم لبعض: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها -معنى هذا أنه حي- فمر أبو بكر، فقال: تقولون هذا لسيد قريش وزعيمها أبي سفيان، ثم انصرف أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قال وما قالوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك أسخطتهم يا أبا بكر، والله لئن كنت أسخطتهم لقد أسخطت ربك} .
عجيب والله! هؤلاء: بلال وصهيب وعمار وسلمان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: {والله لئن كنت أسخطتهم لقد أسخطت ربك!} صار رضا الله مرهوناً برضاهم، وسخطه مرهوناً بسخطهم، لماذا؟ لأن القضية قضية إيمان، وهؤلاء الناس أهل إيمان وتقوى، مثلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} وكذلك قال علي بن أبي طالب، في صحيح مسلم: {إنه لعهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق} لأن القضية قضية إيمان؛ من تحقق في هذا الإيمان أصبح أهلاً لأن يحب بحب الله تعالى، ومن انسلخ من الإيمان يبغض لوجه الله تعالى، حتى ولو كان كبيراً وعظيماً وغنياً، بل حتى لو كنت محتاجاً إليه أنت، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في السنن، وهو حديث صحيح، قال: {إذا جاءكم من ترضون دِيَنه وخُلُقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} .
فما قال: من ترضون شكله، أو وظيفته، أو صفاته الخلقية، قال: دينه وخلقه وأمانته، فربط القضية بالدين، والدين مظهر ومخبر وباطن ولا بد من رعاية ذلك كله.(7/17)
وسائل إصلاح الباطن
هناك وسائل كثيرة نذكر منها ما يلي:(7/18)
الوسيلة السابعة: الموالاة.
الموالاة: من أعمال القلب التي تتبعها أعمال في الجوارح، تحب ما يحب الله، وتبغض ما يبغض، وقد ذكرنا حديث عائذ بن عمرو قبل قليل لما قال الرسول لـ أبي بكر {لئن كنت أسخطتهم، لقد أسخطت ربك} هذا هو الولاء والبراء.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} والحديث متفق عليه، لأن الأنصار صاروا رمزاً من رموز الولاء لهذا الدين والجهاد في سبيله والصبر على تضحياته وتكاليفه، فلا يبغضهم إلا منافق، ولا يحبهم إلا مؤمن، ومثلما سبق لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} .
فلا بد من الإقبال على أعمال القلوب ومحاولة إصلاحها.(7/19)
الوسيلة السادسة: التواضع
كذلك من الأعمال القلبية: التواضع، وضد التواضع الكبر، والله تعالى لا يحب المستكبرين، بل إن ذنب إبليس الأعظم هو الاستكبار {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة:34] {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75] ؛ ولذلك لا يجتمع الكبر والاستسلام لله تعالى في قلب أبداً، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال حبة من خردل من كبر} والحديث في صحيح مسلم لا يدخل الجنة؛ لأن الكبر يتنافى مع حقيقة العبودية لله تعالى.
ولهذا قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فأمر بالعبادة وتوعد المستكبرين عنها، وكانت هذه معصية إبليس، ويجب أن تفهم من التواضع في القلب؛ فبعض الناس يريد أن يظهر التواضع، فيجلس مع الصبيان الصغار ويأتي ويسلم عليهم ويقبلهم، وقد يزور المرضى وقد يختلط بالناس وما أشبه ذلك، وليس هو متواضعاً فعلاً، لكن يريد أن يقول للناس: انظروا أنا متواضع، فيريد أن يمدحوه بأنه كبير وعاقل وذكي وحكيم وكذا وكذا ومتواضع، والدليل على أنه متواضع حاله مع الناس والصغار والكبار والضعفاء والمرضى والجميع، هذا هو التواضع، فيكون من الاستكبار أحياناً إظهار التواضع، لأن التواضع الحقيقي ينطلق من القلب، فمعرفتك بنفسك، وقدرها، وحاجتك، وفقرك تواضع، وكان ابن تيمية كثيراً ما يقول: أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي ويقول: أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي(7/20)
الوسيلة الخامسة: العناية بأعمال القلوب
من وسائل إصلاح القلوب: العناية بأعمال القلوب وتوابعها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أحمد وغيره عن معاوية وهو حديث صحيح- قال: {الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه} فأنت يجب أن تعتني بأعمال القلوب الخفية أشد مما تعتني بالأعمال الظاهرة.
ومن أعمال القلوب: محبة الله تعالى، وهي كما قال ابن تيمية: من أعظم موجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الدين، فإن كل حركة من الإنسان إنما تصدر عن محبة، إما محبة محمودة أو محبة مذمومة، فمحبة الله تعالى هي أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، فينبغي للإنسان أن يحب الله تعالى ويمرن قلبه ذلك، ويستدعي محبة الله بالتفكر في آلاء الله وقراءة أسمائه وصفاته والتعرف إلى الله تعالى بكل وسيلة، وعبادته وطاعته، وقد وعد الله تعالى وعداً لا يخلفه، قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: {من تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً، تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة} .
ثانياً: الجهاد، وهو من لوازم محبة الله تعالى، بل هو دليل على كمال المحبة؛ ولهذا قال ربنا جل وعلا: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] فالجهاد من لوازم محبة الله وإيثار الله تعالى على الدنيا، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] فربط بين محبة الله تعالى وبين الجهاد في سبيله جل وعلا، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فمن أحب الله تعالى جاهد في سبيله، ولم يبال بما يصيبه في ذات الله، فصار يقول: رضيت في حبك الأيام جائرةً فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب بل يستعذب ما يلقى في سبيل الله تعالى ويفرح به؛ لأنه أثر من آثار المحبوب؛ ولذلك فإن الإنسان إذا أحب في الدنيا، وعشق فكل ألم أو تعب في سبيل المعشوق يفرح به ويفتخر؛ لأنه تحمل من أجل فلان، والشعراء شغلونا بالقصائد التي تكلموا فيها عن الذين يلومونهم ويعذلونهم ويعاتبونهم على محبتهم لمخلوق لامرأة، حتى أن بعضهم مثلاً، يتكلمون عن المحبوب وما لا قوا في سبيله، وما أوذوا، وما قيل لهم.
وأشعار قيس وعروة وغيرهم من العشاق كثيرة في هذا الباب، يقول أحدهم: يلومونني في حب ليلى عواذلي على أنني من حبها لعميدُ يقول: لوموا أو لا تلوموا، فأنا قد وقعت في حبها وهويت ذلك، ولا يجد ألماً لذلك، بل يدعو الله تعالى ألاَّ يفارقه حبها أبداً، حتى يقول المجنون: يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا إذاً: في سبيل حب دنيوي وهو حب مخلوق، ويقول آخر: يلومونني في حب عفراء صحبتي وبيعي عليها القلب بيع سماح وما كان هذا منك يوماً سجية ولا هو لربات الهوى بمتاح فقلت دعوني والهوى ما على الهوى إذا ما تغشى القلب بعض جناح تعلق عفراء الفؤاد فملؤه من العشق أنات وطول صياح فما بالك إذا كان حباً لله، إذا أوذي في سبيل الله، أو استهزئ به، أو عُذّب، أو طرد، أو حرم من دنياً، أو مالاً، أو جاه، أو وظيفةً، أو منصبً، أو سلطانً، أو مكان إنه يستعذب ذلك ولا يضيق به ذرعاً؛ لأنه أثر من آثار الحب، كل هذا من الجهاد، سواء كان الجهاد بالقول أو بالفعل وعدم الخوف من أحد في سبيل الله، يقول الله تعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] بل يفرح الإنسان بالموت في سبيل الله.(7/21)
الوسيلة الرابعة: تعاهد القلب من الآفات
القلب له أمراض مثلما للبدن أمراض؛ فكما أنك تتعاهد آفات البدن بالعلاج فكذلك تعاهد آفات القلب.
مثلاً: العجب، يقول سعيد بن جبير رحمه الله كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التحفة العراقية وهو كتاب مفيد في هذا الباب، يقول سعيد بن جبير: [[إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويعمل السيئة فيدخل بها الجنة]] قال ابن تيمية رحمه الله: ذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينيه، ويعجب بها، كلما ذكر شيئاً قال: أنا فعلت.
ويُحكى أن أعرابياً صلى إلى جانب الأصمعي فأحسن صلاته، وأقبل عليها، وخشع وركع، وسجد، وأطال ثم سلم، فتعجب الأصمعي وقال: بارك الله فيك! لقد صليت صلاة رغبةٍ ورهبةٍ، قال: نعم فكيف لو عرفت أني مع ذلك صائم؟! وبعض الناس يعجبون بعملهم والعياذ بالله، فيكثرون من ذكره، والثناء عليه، والتمدح به في المجالس، فكلما جلس أحدهم في مجلس، قال: أنا فعلت كذا، أنا قلت كذا، أنا أنفقت كذا، وبعضهم قد يعلن في الصحف أحياناً والجرائد: المحسن الكبير تصدق بكذا، وفعل كذا، وربما يُدلُ بها على بعض الناس، وإذا كان داعية مثلاً ربما تكلم عن عمله، وأنه جمع من الناس في محاضرة كذا وكذا، وأنه قال كذا، وأنه فعل كذا، وأنه أوذي وصبر، وبعضهم كثيراً ما يقول: أنا سجنت، وتعرضت للبلاء، وأنا مكثت في السجن عدد ما لبث يوسف، وفعل بي كذا، وليست القضية أننا نمنع من هذا الكلام، لا يا أخي، لا تفهمني خطأً، جزاك الله خيراً! لكن أقول: إذا كنت تقول هذا الكلام لغرض صحيح، وقلته مرة أو لمناسبة واتضح أنه في مصلحة فلا حرج، أما إذا كنت تشعر أنك تقوله إعجاباً بهذا العمل، وإدلالاً به وشعوراً بأن هذا العمل هو مهر الجنة، وأنك تستحق به رضوان الله وأنك وأنك!! فحينئذٍ نحن نرفق بك وننصحك، ونقول: لعلك تراجع نفسك في هذا الأمر، وتتقي الله تعالى أن يذهب هذا العمل الذي تعبته هباءاً منثوراً، تجملت به أمام الناس، ومدحت به في الدنيا، نخشى أن يقال يوم القيامة: {اذهبوا للذين كنتم تراءونهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء} ولذلك يا أخي! راع قلبك.
الأصل أن الحسنة هي سبب لرضوان الله ورحمته الذي به يدخل العبد الجنة، وكذلك السيئة هي سبب لسخط الله الذي يدخل به العبد الناس، وهذا معروف، لكن أحياناً يحصل العكس، أن العبد يعمل الحسنة فيعجب بها، والإعجاب ذنب لا تنفع معه الحسنات والعياذ بالله، إلا أن يتوب العبد منه، خاصّة الحسنات التي تتعلق به، والتي أعجب بها الإنسان.
ولهذا أنتم تلاحظون ظاهرة الانتكاس -والعياذ بالله- الردة وسوء الخاتمة، هل تظن أن عبداً مخلصاً صادقاً طيعاً، قلبه من الله، قريب، وهو من الله تعالى خاشع باكٍ دامع، ثم يقلبه الله تعالى إلى فاجر كافر عنيد ويرتد ويموت على الكفر؟! من صفات الله تعالى العدل والرحمة، والله تعالى أحياناً يتوب على الفاسق عند الموت ويختم له بخير، فالمؤمن الصادق صحيح القلب إلى خير إن شاء الله، والله تعالى يختم له بالخير قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: {احفظ الله يحفظك} فإذا حفظت الله في حال الحياة، حفظك الله حال الموت، يحفظك من الشيطان، ومن الردة، ومن الانتكاسة، وسوء الخاتمة، لكن العيب أنه قد يكون مظهر الإنسان -فيما يظن الناس- صالحاً، لكن إذا أتاه الأجل وافتضح على فراش الموت: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبانت البينات، وظهرت الحقائق المخفيات في ذلك الموقف الذي ليس فيه مجال للتمثيل والمجاملة والجيلة؛ لأن المجال واضح مكشوف، انكشف الإنسان -والعياذ بالله- وافتضح.
والذين يحملون عللاً قلبية ولا يعالجونها، ولا يدعون الله بالنجاة منها، يفضحهم ربك ويكشفهم ولو بعد حين، ولو ظهروا بمظهر الناصحين الصالحين الصادقين الملتزمين لكن يكتشفون! ولهذا تجد ظاهرة الردة كما ذكرت وكما أسلفت، ولذا لا يوجد إنسان يرتد إلا وتجد عنده جرثومة من قبل، ولعلكم جميعاً تعرفون قصة " القصيمي " الذي كان يجلس مع طلبة العلم ويحفظ، وطالما رآه بعض العلماء وفي إبطه صحيح البخاري، وهو يتردد على مجالس العلماء في هذا البلد، ثم بعد ذلك ارتد وألحد والعياذ بالله، وألف عشرات الكتب التي تنكر وجود الله أصلاً، وتَنَكَّر للدين أيما تنكر، بل تنكر لكل ما يمت إلى الدين بسبب أو صلة والعياذ بالله، وكان على أسوأ حال، نسأل الله العفو والعافية.
لا تقل: سبحان الله يا أخي! القلوب بيد الله جل وعلا! نعم القلوب بيد الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك} لكن لا تنس أبداً أن القضية هي أن قلب هذا الذي انتكس وانحرف، كان فيه جرثومة العجب، وجرثومة الغرور، ولهذا قالوا عن هذا الرجل قالوا: إنه كان مغروراً معجباً بنفسه، حتى أنه كان يقول كما قرأت في بعض الكتب: ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق أغنى عن الرسل إذاً: كان الرجل مستكبراً، لم يكن يعبد الله، إنما كان يعبد ذاته، لأن الإنسان أحياناً يرى أن هناك مجالاً لإظهار الخير، وأن هناك مكانة له، فيظهر الخير ليكسب من حوله؛ لأن البيئة طيبة وصالحة مثلاً، لكن حقيقته والعياذ بالله فاسدة، وهذا ينكشف ولو بعد حين، ويفتضح في الدنيا، وإن لم يفتضح في الدنيا افتضح عند الموت.(7/22)
الوسيلة الثالثة: الصدق
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود: {إن الصدق يهدي إلى البر} وفي رواية: {عليكم بالصدق، فإنه يهدي إلى البر} .
وقال بعض السلف وبعض الشيوخ: قل لمن لا يصدق: لا يتبعنا، وقال بعضهم: الصدق سيف الله في الأرض، ما وضع على شيء إلا قطعه، وقال يوسف بن أسباط وهو من العباد الكبار: ما صدق الله تعالى عبد إلا صنع له، أي: إذا كان صادقاً مع الله، فإن الله سبحانه وتعالى يسخر له خلقه؛ ولذلك كان الفرق بين المؤمن والمنافق، أن المؤمن صادق والمنافق كذاب.
ولذلك ليس الصدق أن تكون صادقاً في قولك فحسب، بل الصدق أشمل من الصدق في القول، وأن الواحد لا يكذب ولا يذكر خلاف الواقع، هذا صدق، ومن الصدق أن يفي الإنسان بما وعد أيضاً، وألا يقول: والله إن حصل كذا لأفعلن كذا، ثم يفعل: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75-76] .
ومن الصدق: الصدق في الأعمال وذلك؛ أن تقصد بها وجه الله تعالى، لا تقصد بها شيئاً آخر، لا رياء ولا سمعة.
وما أعظم وأدق وألطف مداخل الشيطان على نفس الإنسان! فلا بد للإنسان أن يضع كشافات على قلبه وعلى مشاعره وعلى نياته، يكتشف بها كيف يتسلل الشيطان.
ولذلك ألف ابن الجوزي رحمه الله كتاباً اسمه تلبيس إبليس؛ لأنه يلبس على الكبار، على العباد والزهاد وطلبة العلم والعلماء والشيوخ، فكيف بالعوام؟! وسائر الناس هم أقرب تأثراً وانخداعاً بتلبيس الشيطان.
كذلك الصدق في النيات ومجاهدة الإنسان نفسه على إخفاء العمل بقدر ما يستطيع إذا كان إخفاؤه لا يضر ولا يؤثر حتى يكون أخلص لله تعالى وأبعد عن إرادة وجه الناس في هذا العمل؛ ولهذا مدح الله تعالى وأثنى في القرآن كثيراً على الذين يريدون وجه الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:20] {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] .
فأثنى الله تعالى على الصادقين الذين صدقوا في نياتهم ومقاصدهم، وصدقوا في أقوالهم، وأعمالهم، بحيث انعكس الصدق على وجوههم، حتى كان الواحد منهم إذا رآهم، عرف أنهم صادقون، ليست وجوههم بوجوه الكذابين، لا يتعاملون بالحيل والمكر والقيل والقال، والتلبيس فهم مكشوفون واضحون صرحاء، شخصياتهم غير قابلة لأن تلبس غير ثوبها أبداً، لأنهم تعاملوا بالصدق مع الله ومع الخلق.
من الصدق أيضاً: البعد عن التكلف والتصنع للناس ومجاملتهم، وأن يتعامل الإنسان تعاملاً حسناً مع الله ويعمل لله، كما كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: [[إنما أريد ما عند الله تعالى]] .(7/23)
الوسيلة الأولى: العلم
من أهم وسائل إصلاح الباطن العلم؛ فالعلم نور للظاهر والباطن؛ وهو العلم بالله، وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والعلم بأيام الله وسننه، وباليوم الآخر، وبالشرع عقيدة وشريعة، وحلال وحرام، قال الله قال رسول الله، هذا مما يلين القلوب، ويقرب العبد من الله تعالى.
ومما ينور داخل الإنسان أن يكثر من العلم بالله وبشرع الله تعالى.
والعلم علمان كما قال الحسن البصري: [[علم في اللسان: فذلك هو حجة الله تعالى على ابن آدم، وعلم في القلب: فذلك هو العلم النافع]] .
فأنت احرص على أن يكون علمك العلم النافع، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28] قال العلماء: هو العلم النافع والعمل الصالح، العلم النافع هو: الذي يقربك إلى الله، ليس الأصل أنك تتكثر به في المجالس، ولا تمدح به فيقال: فلان! ولا يشار إليك بالبنان، إنما قصدك القربى إلى الرب جل وعلا، والفوز بجنة النعيم، تعلمت لهذا، وتحرص أن تصلح نيتك؛ فهذا من العلم الذي يصلح الباطن.
ومن أعظم العلم القرآن الكريم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وذلك لأن القرآن أساس العلم ولبه، وفيه تعظيم الله تعالى، والثناء عليه، وذكر أسمائه، وصفاته، وأفعاله وغير ذلك، وفيه ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، والإيمان بهم، وذكر اليوم الآخر، وأخبار الأمم السابقة، وعبر، وأشياء أخرى بحيث أن الإنسان إذا أدمن وأكثر من قراءة القرآن نَوَّرَ الله تعالى قلبه بآياته وذكره، كما أن فيه التهوين من شأن الدنيا التي تكبر في أعين الناس؛ لأن من أهم الأسباب التي تجعلنا نهتم بالظاهر التصنع للناس.
يا أخي! فكّر في نفسك إذا رجعت -ودعونا من الكلام الذي لا ينفع- إذا رجعت فاسأل نفسك: من أجل من تعمل؟ ستجد أشياء كثيرة فتقول: "من أجل فلان وعلان"، "ومن أجل الناس"، "وأخشى أن يقال! " صار الواحد، كأنه ينفذ ما يريده الناس، لا ما يقتنع هو أنه صحيح، أو ما يقربه إلى الله تعالى، فالإنسان إذا قرأ القرآن، عرف قدر الناس وقدر الدنيا، وبالمقابل عرف عظمة الله تعالى، فخافه وراقبه، ويفعل ما يرضي الله وإن أسخط الناس، ويترك ما يسخط الله وإن رضي الناس.(7/24)
الوسيلة الثانية: العمل الصالح
ولهذا مدح الله في القرآن العلم الذي يتبعه ويصاحبه عمل في آيات كثيرة، منها: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] اهتدوا بالعلم والعمل، ومنها: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66-68] .
ولهذا قال بعض السلف: من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم، انظر الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66-68] ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28] .
فإذا اتقى العبد ربه وعلم وعمل، فإن الله تعالى يجعل له نوراً، وفي الآية الأخرى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] ويقول الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] ويقول الله سبحانه وتعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة:16] .(7/25)
الأسئلة(7/26)
بعض الكتب التي تعالج فساد القلوب
السؤال
ماهي الأمور التي يصلح بها القلب، وتصلح بها قلوب الآخرين؟
الجواب
هذا الباب يطول وقد ذكرت بعضه، وأنصح بالرجوع إلى بعض الكتب التي تعالج ذلك، تعالج الإثم الظاهر والباطن: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] اجعل هذه الآية نصب عينك: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] وأشرت سالفاً، إلىكتاب التحفة العراقية ل ابن تيمية، اقرأه مرة ومرة، وكذلك الداء والدواء، لـ ابن القيم رحمه الله، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وهذا كتاب نفيس، وكتب ابن القيم عموماً تعالج هذا الجانب ففيها علاج القلوب.(7/27)
حكم العادة السرية
السؤال
أنا شاب ملتزم، ولكن في الخفاء أعمل العادة السرية؟
الجواب
هذه يشتكون منها دائماً، يشتكي منها الكثير، والعادة السرية من أعظم أثارها السلبية أنها تسبب لمن يفعلها انتكاساً في قلبه، وتسبب له انزعاجاً في نفسه، وتسبب له قلقاً وإعراضاً عن الأعمال الصالحة، وأشياء عجيبة.
وجمهور العلماء على أن العادة السرية محرمة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] فعليك أن تتقي الله وتترك العادة السرية، وتحرص على أن تحصن نفسك بالزواج والصيام وصحبة الأخيار ولا تخلو بنفسك، ولا تأوي إلى الفراش وأنت حاقن مثلاً أكثر من ذكر الله تعالى، وصلِّّّ واسأل الله تعالى أن يعافيك، ومع ذلك إذا وقعت في العادة السرية فتب إلى الله تعالى، فإن الله يقبل التوبة من القاتل والزاني ومن اللوطي، فيقبل التوبة منك، إذا وقعت في العادة وتبت منها، وإذا تبت -أو حتى إذا كنت مصراً عليها- فإياك إياك أن يمنعك وقوعك في هذا الذنب عن تعليم العلم، وعن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدريس القرآن، وإمامة الناس، والخطابة، والوعظ وعن أعمال البر وأعمال الخير التي ربما تُكّفر ذنوبك وتكفر الأخطاء والنقائص التي وقعت منك.(7/28)
أعمال من لا يهتم بأعمال القلوب
السؤال
اهتمام كثير من الناس بالظاهر وترك العلم بالباطن، كالنية وغيرها؛ هل تقبل أعمالهم؟
الجواب
إذا كانت نية الإنسان صالحة في الأصل، فإنها تقبل إن شاء الله تعالى، أما إذا كان قصده الناس، فالله تعالى يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ويقول يوم القيامة {اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء} !! أسأل الله تعالى أن يكون هذا المجلس في ميزان حسناتنا وأن يتقبله منا، ويعفو عنا ويسامحنا ويغفر لنا، ويثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
والحمد الله رب العالمين.(7/29)
شكر من يقوم بالخير
السؤال
ما رأيك في برقيات الشكر لمن يعملون أعمالاً خيرة؟
الجواب
إن كانت هذه الأعمال خيرة تستحق أن يشكروا عليها، فلا حرج في ذلك ولا بأس به إلا أن يخشى أن يؤدي هذا إلى توقف بعض الأعمال أو الشعور بأنه ليس هناك داع لمزيد من الإصلاح، فإذا دعا الإنسان أو شكر أحداً على أمر فعله، فينبغي أن يشفع ذلك بأن يطالبه بالمزيد من الإصلاح، وأن الناس لا يزالون يترقبون وينتظرون أكثر وأكثر.(7/30)
الخوف من الرياء
السؤال
بعض الناس إذا قيل له: صل بنا واقرأ، قال: أنا أخشى من الرياء؟
الجواب
لا ينبغي أن تعمل العمل رياءً، كذلك لا ينبغي أن تترك العمل خوف الرياء، بل اعمل واحرص على إصلاح النية، وقل كما أرشد النبي أبا بكر: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} .(7/31)
التخلف عن صلاة الجماعة
السؤال
نحن جماعة في هذا المسجد وغيره نرى تخلف الكثير عن الصلاة وخاصة صلاة الفجر، فنرجو أن توجه نصيحة لهم؛ عسى الله أن يهديهم.
الجواب
نسأل الله بمنه وكرمه أن يهدينا وإياهم سواء السبيل ويعيننا وإياهم على أنفسنا، وعليهم أن يحرصوا على صلاة الفجر مع الجماعة، فإنها من علامات الإيمان، أما ترك صلاة الفجر والمداومة على ذلك فقد ورد فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} .
وحاشاك أيها الأخ المسلم أن ترضى أن تتشبه بالمنافقين في هذه الخصلة الذميمة!! التأخر عن صلاة الجماعة خاصة الفجر لأن المواظبة عليها من علامات الصدق، وإيثار الله تعالى والدار الآخرة على عاجل الدنيا وزخرفها ولذاتها وراحتها، واحرص أن تنام مبكراً، وأن يكون لك ساعة للإيقاظ، وأن تجعل جيرانك يوقظونك أو أهل بيتك وما شابه ذلك.(7/32)
الصحف الواجب مقاطعتها
السؤال
ما هي أهم الصحف الذي يجب علينا أن نقاطعها؟
الجواب
أهم الصحف التي تكلمت عنها هي صوت الكويت والسياسة، هذه التي نطالب المسلمين بمقاطعتها بكل وسائل المقاطعة، ونريد أن تنجح هذه المقاطعة في فرض حصار على هذه الصحف، حتى تكسد في البقالات، وترجع إلى أصحابها، ويعرفون أي جرم ارتكبوا، وأي ذنب فعلوا، وأي إهانة وجهوا إلينا نحن المسلمين، ونحن -بحمد لله- نعتقد أننا نستطيع لو أخلصنا النية وتواصينا بذلك أن نصنع أشياء كثيرة، فغالب من يشتري هذا هم نحن، فلو كل واحد منا فعل ووصى وتكلم وكلم صاحب البقالة وجاره وزميله في العمل، ونشرنا هذا الأمر مع الخطباء، والدعاة، وطلبة العلم، أعتقد أننا سوف نصنع شيئاً كثيراً.
وبعد ذلك تأتي أيضاً مثل جريدة الصباحية، وجريدة الرياضية؛ فإن هذه الجريدة أساءت إلى المسلمين أيما إساءة، وغيرها كثير، لكن إذا قلنا دعنا نبدأ الآن ولو ببعض الصحف، ودع الناس يتسامعون يُعرفون أن هذه الصحف قد كسدت، وأرجعت، ولم تشتر، وانخفضت مبيعاتها في هذا البلاد، حتى يعرفوا أي كلام يجب أن ينشروه وقولوه، هذا فضلاً عما ينشرونه من الصور الخليعة البذيئة، يا أخي! العجب كل العجب من أن يباع هذا في أسواقنا، ونشتريه بأموالنا ونضعه في بيوتنا لبناتنا وزوجاتنا! لا حول ولا قوة إلا بالله!(7/33)
أخطاء الملتزمين
السؤال
المجتمع يتحدث عن بعض الأعمال غير اللآئقة لبعض الملتزمين، مثل الغش والكذب نأمل أن توجه نصيحة لمثل هذا؟
الجواب
هذا -مثلما ذكرت يا أخي- يحتاج إلى علاج، ويحتاج إلى كلام، نسأل الله أن يعين هؤلاء على أن يقوموا بالواجب الذي ينتظره الناس منهم؛ لأن الإنسان المتدين مثل الثوب الأبيض إذا وقع فيه أدنى دنس، فإنه يبين فيه ويظهر.(7/34)
جماعة التبليغ
السؤال
هذا يسأل عن جماعة الدعوة والتبليغ يقول: ما رأيكم فيها بكل صراحة ما دام في ذلك مصلحة للدين، وبماذا تنصح هؤلاء الإخوة؟ أخي العزيز فأنا -ولله الحمد- أثق بك وبكلماتك؛ فالرجاء الرد على هذا السؤال! لماذا لا تكون كل الجماعات جماعة واحدة ممثلة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أمة الإسلام؟
الجواب
أولاً: أنا أوافقك أنه يكفينا اسم الإسلام الذي سمانا به الله جل وعلا على لسان إبراهيم، فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] ولا داعي إلى أن نفرق المسلمين أشياعاً وأحزاباً.
وبما أنك سألتني عن جماعة التبليغ، فأقول: الجماعة فيهم خير إن شاء الله، وفيهم اجتهاد، ودعوة إلى الله تعالى، وفيهم خلق حسن وفاضل، وفيهم تعبد، ويعينون الناس على تعلم الأخلاق الفاضلة، وحسن العبادة، والإقبال على الله، وهدى الله على أيديهم كثيراً من الكفار إلى الإسلام كما هدى الله على أيديهم كثيراً من الضالين والفاسقين والمنحرفين إلى جادة الاستقامة والعبادة، لكن عندهم أخطاء، وأيضاً عندهم جهل، لأنهم لا يتعاطون العلم في مجالسهم، وكذلك لا يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كثير من البلاد، وربما يصلون في مساجد توجد فيها قبور، وتوجد فيها معاص، وبعض البدع، فلا ينكرون، بل ربما لا يوافقون أحداً على أن ينكر.
وأنا لا أقول هذا الكلام عن نقل، هذا واقع أعرفه، ومع ذلك أنا أحب كثيراً منهم، وخاصة أهل هذه البلاد؛ لأنهم إن شاء الله نرجو أنهم من أسلم الناس أو من أسلم أفراد الجماعة اعتقاداً؛ لأنهم تربوا على عقيدة صحيحة، والبلد -والحمد لله- بلد علم، ولذلك يستفيدون علمياً، وكثير منهم يحضرون مجالس العلم هنا، ويجيئون إلى العلماء ويسمعون منهم، ولا أرى في الواقع أن نشن حملة ضارية على هؤلاء أو نشهر بهم أو نشتمهم في الوقت الذي نسكت فيه عن اليهود والنصارى والمنافقين والعلمانيين وغيرهم! أقول: هؤلاء فيهم خير كثير، وفيهم أخطاء ويمكن تصحيح الأخطاء بها، وما أمكن وطالب العلم لا يلزم أن يخرج معهم، لكن إن رأى أحداً فاسداً يمكن أن يخرج فيصلح، فلا حرج في ذلك، وإذا صلح فإنه يزوده بالعلم الذي يقيه -بإذن الله- من وجود بعض الثغرات والأخطاء والبدع التي قد يلقاها، سواء مع الجماعة أو إذا خرج إلى بلد من البلدان الأخرى التي توجد فيها مثل هذه الأمور، والكلام في هذا يطول، لكن هذا كلام على سبيل الاختصار.(7/35)
الحكم على الشخص بالظاهر
السؤال
هل من المفروض أن نحكم على الشخص من أول نظرة أنه طيب؟
الجواب
هذه مصيبة يا أخي، إن مصيبة الناس أنهم مظهريون، تربوا حتى في أمور دنياهم -كما قلت- على المظاهر، حتى الطعام! لا تجد الواحد إذا جاء بطعام ينظر ماذا فيه من البروتينيات والدهنيات إلى غير ذلك مما يحتاجه الجسم، بل ينظر هل هذا الطعام حلو فقط، فالقضية مظهرية حتى في الأمور الدنيوية، وهذه تربية درجنا عليها.
وأعتبر المحاضرة هذه -وقد أكون قصّرت في أدائها وتقديمها إليكم لأسباب عديدة- لكن أعتبر أنها لبنة في هذا الموضوع يجب أن تتبعها لبنات منكم، ومن بقية الدعاة، وطلبة العلم والعلماء للفت نظر الناس إلى قضية المخبر، حتى في الحكم على الآخرين فلا تحكم على الإنسان بمجرد أن تراه من أول مرة، فيمكن أن يكون الإنسان يتظاهر بالخير لغرض، ولا تحكم بالسيئة أيضاً، فأنتم غير مطالبين أصلاً وغير ملزمين بالحكم، فإذا عرفت منه شيئاً تحكم بمقتضاه.(7/36)
محمد عبده وترك الغناء
السؤال
ما صحة ما سمعنا عن محمد عبده هل التزم أو ترك الغناء فقط؟
الجواب
رأيت الرجل في رمضان، وأرجو أن يكون مقبلاً على خير، وقد سمعت من قبل أن الرجل محافظ على الصلوات، وفيه طاعة لله، وعنده معاصٍ، منها الغناء، وقد ترك الغناء، ثم بعد ذلك يبدو أنه وفعت عليه بعض الضغوط وبعض التأثيرات، فعاد إلى بعض ألوان الغناء، وهناك مقابلة معه متعددة، بعضها يشجع، وبعضها قد أوجد عند بعض الناس نوعاً من التساؤل أو نوعاً من علامات الاستفهام، لكن -إن شاء الله- أرجو للرجل خيراً كثيراً، وأسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يثبتنا وإياه بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يهدينا وإياه وسائر المسلمين إلى سواء السبيل.(7/37)
الحماس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
ما رأيك في الذين يلتزمون ظاهراً ونحسن فيهم النية، لكن لا نجد منهم حماساً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تتمعر وجوههم عند رؤية المنكر، هل يمكن أن مثل هؤلاء يحمل هم الإسلام؟
الجواب
يمكن أن يتم ذلك على مراحل: المرحلة الأولى: أن يلتزم بنفسه.
المرحلة الثانية: أن يكون عنده رغبة في الخير وإقبال وحرص وغيرة على الدين وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فأنت لا تعجل عليه، لكن إذا رأيت الرجل لا يتمعر وجهه، ولا يتأثر قلبه، فهذا يدل على مرض في القلب ولا شك.(7/38)
حكم من تقع منه التوبة والعودة إلى الذنب من جديد
السؤال
شاب يدرس في الحلقة ويحفظ القرآن، ويتوب من بعض المعاصي الصغيرة التي هو مقيم عليها، حاول عدة مرات لكن يعود بعد ذلك إليها؟
الجواب
إذا عاد فعليه أن يتوب مرة أخرى، وباب ربك لا يغلق سبحانه والله تعالى إذا سامحك عن ذنب مضى فإنه لا يرجع في المسامحة هذه، وإذا وقعت في الذنب مرة أخرى فلا يحسب عليك الذي مضى، لكن يحسب عليك الذنب الجديد، تب من هذا الذنب، وإذا أذنبت إلى المرة المائة تب، وإلى المرة الألف تب، لا تمل يمكن أن يختم الله لك على توبة، وكذلك انظر في الأسباب التي تدعوك إلى الوقوع في الذنب فتخلص منها.(7/39)
الدين لب كله
السؤال
أرى شباب الصحوة لا يزالون يرددون أنظار أمثال الطعن في بعض الشخصيات والغيبة في مقابل أننا نطالب أن يرقوا بأنفسهم إلى ما هو أعظم من ذلك، مثل التفكير في إيجاد أمة تتعامل بالاقتصاد الإسلامي، وفي هذا أطلب منكم كلمة لتوجيه الشباب من عدم الاستهانة بصغائر الأمور التي هي بأنظارنا صغيرة؟
الجواب
في الدين ليس هناك صغير! فـ مالك رحمه الله، لما سئل عن مسألة قال: لا أعلم، قالوا: هذا صغير، قال: الدين ليس فيه صغير، يقول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] .
كل الدين ثقيل وكبير، ليس في الدين شيء تحقره وتصغره، لا! الدين كله دين، ولا تستصغر شيئاً، لكن لا شك أن الدين له أركان وشرائط وواجبات ومستحبات وسنن، وهناك سنن مقطوع بثبوتها، وسنن الراجح أنها سنن، وسنن مختلف فيها، وسنن الراجح أنها لا تثبت، فالمسألة مراحل ودرجات، وينبغي أن يلتفت الشباب إلى الأمور الكبار، ويعملوا بها ويعطوها قدرها.(7/40)
علاج النظر إلى ما حرم الله
السؤال
مظهري يوحي بأنني شاب ملتزم، لكن العكس صحيح، حيث أنني قد بليت بالنظر إلى ما حرم الله، فما هو السبيل للعلاج؟
الجواب
أنت إن شاء الله فيك خير، ما دمت -أنك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- قد إن سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت إن شاء الله مؤمن، وعلى سبيل الهداية والنجاة، لكن لا تقنع بما أنت فيه، عالج نفسك، وعالج قلبك، فقلبك ممتحن بالنظر إلى الصور الجميلة، فأملأ قلبك بحب الله تعالى.(7/41)
عقبات في طريق الالتزام
السؤال
نرى شباباً يظهر فيهم الصلاح، ولكن بمجرد امتحان بسيط ينقضون بعض آرائهم، ويتخلون عنها، بمجرد أن يحقق لهم ما أرادوا، فأولئك يشوهون صورة الالتزام، وكثير يتلقفون الأخطاء، ويمثلون صورة أراها لا تتكلم فهي خرساء؟
الجواب
نعم بدأنا، ولكني لا أريد أن نعطي أنفسنا نحن الطيبين والخيرين، حجماً كبيراً، ونعطي أنفسنا هالة وقداسة يجب أن نقول بدأنا بحمد الله.
بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه الصنم بدأنا في طريق الخير ولكن لا أننا انتهينا، فلا زلنا في بداية الطريق.
بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم وفينا الكرامة مهجورة كمحصنة لوثتها التهم وفينا قبور طواها الأنين عليها الردى ليله مدلهم وفينا النفاق عطور تساق وفي زهرها فاتكات النقم(7/42)
اهتمام الإنسان بنفسه
السؤال
الرجاء يا شيخ أن تبين أن المخاطب في جميع هذا الحديث هم نحن، وليس غيرنا؛ حتى يتم التطبيق؟
الجواب
مَن المقصود؟! مشكلة إذا كان الكلام يزل يمنة ويسرة، ويكون المقصود غيرنا، فمعنى ذلك أننا لم نستفد شيئاً نقول للناس: أصلحوا بواطنكم! وبواطننا نحن فاسدة وخربة، نسأل الله العفو والعافية، كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه، لا! ابدءوا بأنفسكم، يا أخي! ابدأ بنفسك فانهها عن غيها، قبل غيرك.(7/43)
الداعية بين الظواهر والبواطن
السؤال
هل الداعية مسئول عن بواطن الأمور أم عن ظواهرها؟
الجواب
البواطن الله يتولاها، نحن لا نقول: إنك تدخل قلوب الناس وتتعرف على خطراتهم، لا! لكن نقول: عالج القلوب، وسبحان الله! ما من شيء في القلب إلا وله رصيد في الواقع، فأنت تجد الإنسان المغرور واضحاً؛ لأنه دائماً يتكلم عن نفسه، ويقول: أنا وأنا، ويعرض عن الآخرين ويزدري ما عندهم؛ فكل شيء في القلب يظهر أثره في الجوارح، فأنت لا تكتفي بأن تجعل الإنسان ملتزماً ظاهرياً، وهذه الآفات والعلل تلعب في قلبه، وأنت تعرض عنها، لا! لا بد أن تعالجها.(7/44)
ضياع الأوقات وقلة الجلسات المفيدة
السؤال
الجلسات المفيدة والإيمانية لدى شباب الصحوة قليلة ونادر، بل يستكثر بعضهم أن تكون الزيارات الأخوية ذات فائدة أو طابع إيماني؛ فما توجيهكم، وهذا عيب ما زلنا نعيشه؟
الجواب
ينبغي أن تحيا جلسات الإيمان والذكر، كما في حديث ابن رواحة ومعاذ [[اجلس بنا نؤمن ساعة]] وأنتم اجلسوا آمنوا بالله تعالى، واذكروه، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ينبغي ذلك حتى لو لم تكن جلسة طويلة أو بعد العشاء ساعة أو ساعة ونصف، فيمكن أن تجلس ثلث ساعة؛ لأن بعض الناس يعرف أنه إذا جلس يصعب أن يقوم، يا أخي الوقت ثمين، ويصعب أن تأخذ وقتك ووقت الآخرين، اجلسوا عشر دقائق أو ربع ساعة، وتكلموا في أمور مفيدة ثم انصرفوا، حتى تكون الجلسة خفيفة على النفوس.(7/45)
واجبنا تجاه من يعصي الله ويتظاهر بالصلاح
السؤال
شخص ملتزم ظاهرياً، وبعد الاكتشاف ظهر أنه يعمل أعمالاً تنافي الشخصية الإسلامية التي التزم بها، هل نصفه بالنفاق؟ وما واجبنا نحوه؟
الجواب
لا! لا تصفه بالنفاق، النفاق أمره إلى الله تعالى، لكن الواجب عليكم أن تعملوا على علاج باطنه، وعلاج قلبه؛ فإن ظهر هذا وأثرت فيه وإلا فإنه يبين ما يضر الناس منه؛ إذا كان إنساناً كذاباً ويتكلم بالكذبات التي تبلغ الآفاق، فإنه يُخبر الناس أنه كذاب فلا تقبلوا حديثه، وطالما تكلم علماء الجرح والتعديل في بعض العباد والزهاد وقالوا: كذابون لا نأخذ عنهم ولا نقبل حديثهم، وكذلك إذا كان لصاً، يبين هذا حتى يحذره الناس، وإذا كان أحد اغتر به أحد لمظهره فعامله أو ما أشبه هذا، فينبغي أن ينصح الإنسان للمسلمين.(7/46)
حكم لبس الملابس الضيقة عند النساء
السؤال
بعض النساء الملتزمات يلبسن بعض الملابس الضيقة في المناسبات وأصبح هذا عند النساء، معتاداً، وملابس بعض الأطفال كذلك وتجد أهلهم ملتزمين؟
الجواب
ينبغي أن يعالج هذا، المرأة قدوة خاصة الملتزمة، فينبغي أن تحرص على العناية بمظهرها، كما تعتني بمخبرها، يكون مظهرها في ثيابها، وفي معاملاتها، وأقوالها، وأعمالها قدوة حسنة للأخريات.(7/47)
معالجة الباطن مع خفائه
السؤال
كيف تتم معالجة الباطن وهي خفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
نحن ليس لنا إلا الظاهر، لسنا نطلب منك أن تحاسب الناس، أما الحساب فاتركه إلى يوم القيامة، نحن نطلب منك الآن أن تعالج أمراض قلبك أنت، ثم ابدأ بمن حولك ممن تعول، ومن قرابتك، ومعارفك، وزملائك، ومن ولاك الله أمرهم من الطلاب والتلاميذ والمدعوين وغير ذلك.(7/48)
المدح لا يقدح في الإخلاص
السؤال
أنا إن شاء الله مستقيم، فإذا فعلت خيراً ورأى الناس ذلك فإنهم يمدحونني، فما رأيك بذلك؟
الجواب
إذا كان فعلك من أجل الله، ولا تحرص أن يعرف الناس، لكن إذا عرفوا فمدحوك، فهذا لا عليك إن شاء الله.(7/49)
واجبنا تجاه إخواننا الكبار
السؤال
لي أخ أكبر مني بسنة، وهو دائماً يهتم بمظهره ومنظره، ولا يهتم بباطنه؛ حيث إنه شاب ملتزم، فما واجبي تجاهه؟
الجواب
واجبك أن تعالجه قدر المستطاع، ولا بأس أن توصل إليه مثل هذا الدرس وما شابهه مما فيه علاج للقلب.(7/50)
المعاصي والتوبة
السؤال
أنا شاب وفقني الله للالتزام، لكن إذا خلوت بنفسي ارتكبت بعض المحرمات وبعض الأفعال الظاهرة، فهل أنا مثل صاحب الرحى؟
الجواب
صاحب الرحى هو: الذي يدور بأمعائه في النار كما يدور الحمار برحاه، إن شاء الله لا تكون مثله نسأل الله أن ينجينا وإياك من النار، لكن عليك بكثرة التوبة وكثرة الاستغفار، وأكثر من قول: لا إله إلا الله، فإنها أعلى شعب الإيمان، واستغفر الله، واحرص على ألا تخلو بنفسك، وحصِّن نفسك بكثرة الصيام وبالزواج وبالأعمال التي تشغل بها وقتك عما لا يحل.(7/51)
احتجاج أصحاب المعاصي بصلاح بواطنهم
السؤال
ما رأيك في من يقول: التقوى هاهنا ويشير إلى القلب؛ علماً بأنه في الظاهر مرتكب لعدد من المعاصي والمحرمات؟
الجواب
هذا كما ذكرنا، فالواقع أنه إذا فسد الظاهر، نكتشف أن الباطن فاسد، ولا يمكن أن يوجد باطن صالح وظاهر فاسد، هذا لا يوجد.(7/52)
من يضمر الشر للملتزمين
السؤال
هناك بعض الأفراد يظهرون الالتزام، وتنطوي نفسه على خبث عظيم، ويتستر بمظهره والتزامه بالفرائض والسنن، ومع أنه يعمل الجرائم العظيمة، ليس هذا فحسب، بل يسعى في إفساد الشباب، ويصد هم بل يعلمهم كيف يتخفون بمثل لباسه، والسؤال كيف يتصرف مع أمثال هؤلاء؟ هل يتستر عليه ويحرص على الدعاء له ودعوته؟
الجواب
لا، لا بد أن تبين حال هذا الرجل! لغرض، بأنه مندس في صفوف الأخيار أو في حلقات المساجد أو غيرها لغرض خبيث، مثل أن يكون فاسد القصد، خبيث الخلق، يصطاد الشباب ويوقعهم في شَرَكِه، أو أن يكون قصده التجسس على الأخيار والكذب عليهم ورفع ذلك، فمثل هذا ينبغي الحذر منه والتشهير به، حتى يحذره الناس ويبتعدوا عنه.(7/53)
حكم مشاركة الكفار في أعيادهم
السؤال
هل يجوز إعانة الكفار في أعيادهم؟
الجواب
في الأيام القريبة هناك أعياد كثيرة، ومع الأسف الشديد يقيمونها في هذه البلاد، وقد اطلعت واطلع غيري على الكثير من منشوراتهم وأوراقهم التي يدعون فيها المسلمين إلى مساعدتهم بالسيارات وبتمثيل بعض الأدوار وبتوفير بعض البيوت وما أشبه ذلك.
وأقول: هذه الأعمال لا يجوز أبداً إقرارها ولا الرضا بها؛ ولا تهنئتهم ولا إعانتهم ولا مساعدتهم بشيء قط، بل ينبغي التبليغ عنهم ومحاربتهم والتضييق عليهم، على كل من استطاع على ممن كان له ولاية أو سلطة أو كان من عامة الناس.
وبكل أسف نقول: إنه يوجد من يساعدهم، ويوجد من بعض الرؤساء ومن بعض المسئولين من يتستر عليهم، ومن يرسل لهم بطاقات التهنئة، ومن يسهل لهم في إدارته أو مستشفاه أو غير ذلك، وهذا والعياذ بالله جرم عظيم؛ لأن هذه الأعياد أعياد فاسدة، وأعياد من أعياد اليهود والنصارى كما يسمونه الكريسمس في رأس السنة، فلا يجوز تهنئتهم بذلك ولا إعانتهم بذلك.
وقد صدر بذلك فتاوى عن جماعة من أهل العلم، منهم سماحة الشيخ محمد بن العثيمين، ولذلك أنصح بنشر هذه الفتوى وتوزيعها على الناس، في المستشفيات وفي الدوائر الحكومية، وفي البلاد والأماكن الذي يوجد فيها النصارى، نسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرهم.(7/54)
الصراع بين الحق والباطل
الصراع بين الحق والباطل حقيقة ماثلة للعيان عبر العصور، وفي عصرنا الحاضر شاعت مقولة بأن عصر الأديان قد ولى، وأن الصراعات القائمة ستكون على الماديات والمصالح لكن الدلائل تشير إلى غير ذلك خصوصاً بعد سقوط الشيوعية حول هذه الدلائل وحول ما ينتظر الامة الإسلامية من العداء وواجبها تجاه ذلك يدور هذا الدرس.(8/1)
لا وسطية بين الحق والباطل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فكل ما في الدنيا من أقوال وأعمال وآراء وسلوك؛ فهو متردد بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخطأ والصواب، لا يمكن أن يخرج شيء في الدنيا عن هذه الأمور، إما أن يكون حقاً أو أن يكون باطلاً، أو هدى أو ضلالاً أو خطأ أو صواباً؛ ولا يمكن أن تخلو الدنيا -أيضاً- من هذا أو ذاك؛ فإننا نعلم أن قوام حياة الناس مبني على مواقف وتصرفات وسلوك وأقوال ومذاهب، وأنه لا بد للبشرية أفراداً وجماعات من مذاهب يعتنقوها، وأشياء يتدينون بها، وأموراً يلتزمونها، وهذه الأشياء منها ما يكون حقاً ومنها ما يكون باطلاً، ولذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:5-6] .
إذاً إما هذا وإما ذاك، إما قوام حياة الناس مبني على مواقف وتصرفات وسلوك وأقوال ومذاهب وأنه لا بد للبشرية أفراداً وجماعات من عبادة الله، وإما عبادة الشيطان، ويستحيل أن يوجد وسط بين ذلك، فكل إنسان يرفض عبادة الله لا بد أن يعبد الشيطان؛ لأن مجرد رفض عبادة الله جل وعلا هو ذات عبادة للشيطان، فلا يمكن أن تخلو الدنيا من أحد هذين الأمرين، ولا يمكن أن يخلو شخص من أحدهما؛ لذلك نعلم أنه لا يمكن أن يوجد إنسان وسط.
كما قال الشاعر: لا يصلح إنسان وسط ما بين الجنة والنار وبالتالي لا يصلح إنسان في هذه الدنيا وسط بين الهدى والضلال والحق والباطل.(8/2)
أطراف الصراع في هذه الأمة
وبعد بعثة النبي الخاتم عليه صلاة الله وسلامه انحصرت الخصومة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان له أعداء كثيرون في الحياة، من المجرمين، من الأكابر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123] وما أبو جهل وأبو لهب وعتبة وشيبة وغيرهم إلا أمثلة ونماذج لأعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم الذين يحاربون دعوته صلى الله عليه وسلم عبر العصور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبالمقابل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أصبح أولياؤه هم العلماء الذين ورثوا هديه وتراثه؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {إن العلماء ورثة الأنبياء} وكلذلك بيّن الله سبحانه تعالى قبل ذلك أن هذه الأمة سيوجد فيها من يحمل الرسالة، فلا تعني وفاته الرسول صلى الله عليه وسلم سقوط الراية، الراية كلما جاء جيل، قيض الله تبارك وتعالى بين هذا الجيل من يحمل الراية، ويقيم الحجة على هذا العصر، ولهذا يقول الله جلّ وعلا في محكم التنزيل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] .
وبصورة أخص: تحدّث الرسول عليه الصلاة والسلام عن اسم خاص لحملة الهدي النبوي الذين يخلفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس في الإسلام فقط، وليس في الالتزام بالسنة فقط؛ بل بالدعوة إليها والقيام عليها والصبر، ودعوة الناس إلى ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان الاسم الخاص الذي ميزهم الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء به هو أنه ميزهم بالطائفة المنصورة، وهذا اسم جليل عظيم تهتز له القلوب، وتستبشر له النفوس.
وفي حديث متواتر يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين منصورين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وهؤلاء يقابلهم أعداء الرسل ويحاربونهم ويضعون في طريقهم الأذى والشوك؛ فلا يضرونهم إلا بالتعب والجهد واللأواء، وهذه خصومة طبيعية؛ لكن الطريق ماض، والقافلة مستمرة لا يمكن أن يؤثر هؤلاء فيها توقفاً، قال الله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُون} [آل عمران:111] .(8/3)
قدم الصراع بين الحق والباطل
هذا الحق والباطل بينهما صراع منذ أن خلق الله الإنسان على ظهر الأرض، فيوم أن كان آدم وحواء في الجنة كان الله عز وجل قد خلقهما للابتلاء والاختبار، ولذلك قال الله عز وجل: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] ومنذ تلك اللحظة ابتلي الإنسان بكيد الشيطان وخصومته وصراعه معه، وما زال الشيطان يكيد لآدم وحواء حتى أهبطا إلى هذه الدنيا، وبعد إهباطهما وإهباط الشيطان يقول الله جل وعلا: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو} [البقرة:36] وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض، وبدأت الخصومة.
ولذلك بعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض ظلت أجيال من الناس على الهدى قروناً طويلة يتوارثون الهدى والخير والإيمان عن أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه عند الحاكم والطبري وغيرهما في تفسير قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين} [البقرة:213] قال ابن عباس: كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وهكذا جاء في قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ((كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)) هذا أحد الأوجه في تفسير الآية، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إن الأجيال التالية لآدم ظلت وفيةً للحق، وفيه للتوحيد الذي تلقته عن آدم عليه الصلاة والسلام، حتى أثّر فيهم كيد الشيطان، فانحرفوا عن التوحيد، واندرست معالمه، فاحتاج الأمر إلى بعثة نبيٍ يجدد الإسلام والدين والتوحيد: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة:213] .
وبعد بعثة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم وبين أعداء الرسل من أتباع الشيطان، ولذلك يقول جلا وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِين} [الفرقان:31] فما من نبي بعث إلا ويصدى له أعداء من المجرمين يضعون العراقيل في طريقه، ويعترضون عليه بمختلف الوسائل، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] .(8/4)
وجود حق وباطل في أمر لا يعني الوسطية
مسألة الحياد في أمر الحق والباطل غير وارده، وحين يقول إنسان: أنا محايد بين الحق وبين الباطل، فإنه يصنف في دين الله وشرعه في قائمة أهل الباطل؛ ولذلك يقول الله جل وعلا: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُون} [يونس:32] فليس هناك إمكانية الحياد في مسألة الحق والباطل، والهدى والضلال، والخطأ والصواب، وهذا لا يمنع -بطبيعة الحال- أن يوجد أمور يكون فيها حق وباطل وخطأ وصواب؛ لكن لا يعني هذا أن الخطأ صار صواباً أو أن الصواب صار خطأً، بمعنى أنك تجد الإنسان يقول بقول في مسألة من المسائل لا تستطيع أن تقول: إن هذا القول باطل محض، ولا أن تقول: إن هذا القول حق محض؛ لكن تستطيع أن تقول: إن هذا القول التبس فيه الحق والباطل، أي: أنه توجد نسبة من الحق وهي كذا وكذا، وتوجد نسبة من الباطل وهي كذا وكذا، ويبقى الحق حقاً والباطل باطلاً.(8/5)
ملاحظات ينبغي التنبه لها
وفي الآيات والأحاديث التي وردت في شأن الخصومة بين الحق والباطل -وهي كثيرة- نلاحظ عدة ملاحظات مهمة جداً للمسلم في هذا العصر، وهو يلاحظ حركة الصراع بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وأريد أن ألقي الضوء على بعض الأمور المهمة التي يحتاج إليها المؤمن في هذا العصر.(8/6)
وجوب البذل لتحقيق النصر
وكما أن أهل الباطل يجهدون ويجاهدون ويتعبون، فكذلك أهل الخير، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104] إذاً الجهد الذي يبذله أهل الباطل يجب أن يبذل أهل الخير لا أقول مثله، لكن أقول: يجب أن يبذل أهل الخير ما يستطيعون في مواجهته {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فلا يظن الإنسان أن الطريق معبده، وأنها مفروشة بالورود والرياحين، ويكفيه أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاقوا في سبيل هذا الطريق ما لاقوا، منهم من أوذي، ومنهم من أخرج، ومنهم من طورد حتى قال ورقة بن نوفل -كما في صحيح البخاري- للنبي صلى الله عليه وسلم أو ل ما بُعِثَ {ليتني أكون حياً حين يخرج قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم! لم يأتِ أحد بمثل الذي جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً} .
وهذا الذي حدث فعلاً حيث أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصة إخراجه من مكة فيها عبرة، وفيها ما يثير نفوس المؤمنين، وكأني أنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد طارده المشركون وضايقوه وأحكموا عليه الخناق حتى اضطروه إلى الخروج من مكة البلد الأمين الذي يحبه صلى الله عليه وسلم، فخرج حزيناً على ذلك، فلما وصل إلى الحزورة، وهو مكان يقع إلى الشرق من الكعبة، وهو اليوم أسواق التفت إلى الكعبة وهو بقلب حزين ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال يخاطب مكة: {والله إنك لأحب البلاد وأفضل البلاد إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} ولما ذهب إلى المدينة صلى الله عليه وسلم وأصابته الحمى، وكان في المدينة محمومة في ذلك الوقت، وأصابت الحمى أصحابه، فكانوا يقعون تحت طائلة هذه الحمى، حتى إن بعضهم كان يقول من شدة الحمى ولا يعي ما يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليلُ وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل يتطلعون إلى معالم ومواضع وأماكن وجبال في مكة عاشوها وما حولها، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة كما أخرجونا من ديارنا إلى ديار الوباء} ثم دعا صلى الله عليه وسلم للمدينة أن ينقل حماها إلى الجحفة، وأن يصححها للمؤمنين.
على المسلم البذل ومن الله التأييد: المهم أن الطريق طويل وشاق، ويحتاج إلى جهاد دائم من حملة رسالة الإسلام؛ لكن هذا الجهاد يؤيده الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) [النساء:104] ويبارك فيه ولو كان قليلاً، المهم أن يبذل الإنسان ما يستطيع.(8/7)
النصر لابد فيه من الجهد والبذل
الملاحظة الرابعة: أن هذا النصر الموعود ليس أمراً يأتي بقضاء الله وقدره بدون جهد البشر، والله قادر على ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] فالله تبارك وتعالى خلق في السماء ملائكة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وفي حديث أبي ذر في صحيح مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط -والأطيط: وهو صوت الراحل إذا ثقل عليها الراكب أو غيره صار له صوت أطيط وأزيز- ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك راكع أو ساجد} فهؤلاء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فالله تبارك وتعالى قادر على أن يخلق البشر كذلك لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ لكن خلقهم جلَّ وعلا بهذه الصفة، وجعل الإنسان في ميدان الخصومة بين الحق والباطل للابتلاء والامتحان، ولذلك قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] فالله تبارك وتعالى شاء أن يخلق بشراً يمكن أن يهتدي، ويمكن أن يضل؛ ليتحقق بذلك الابتلاء والاختبار لحكمة يعلمها، وهو جلّ وعلا أحكم الحاكمين، فهذا النصر ليس غنيمة باردة يقبضه الإنسان بدون ثمن، بل لا بد من الصبر والجهاد.(8/8)
ثبات الحق ورسوخه وطيشان الباطل وزواله
الملاحظة الثالثة التي نستفيدها من الآيات والأحاديث في موضوع الصراع أو الخصومة بين الحق والباطل: هي ثبات الحق وانتصاره ورسوخه وطيشان الباطل وزواله، وهذا ظاهر من خلال الآيات السابقة، فمثلاً يقول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] فهذه الخاتمة إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ينصر المهتدين ويؤيدهم ويحفظهم وعقب ما ذكر الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] قال بعد ذلك: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، وفي الآية الثالثة من سورة إبراهيم: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] ولما ذكر الكلمة الخبيثة، قال: {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] ثم قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] .
الطائفة التي تحمل الحق سماها الرسول صلى الله عليه وسلم الطائفة المنصورة إشارة إلى أن النصر هو حليفهم في النهاية طال الزمن أم قصر، ولما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76] وهذا نموذج من الخصومة بين الحق والباطل، لأن الخصومة قد تكون خصومة فكرية، وقد تكون خصومة في ميدان القتال، عقّب بقوله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] لو نقطع بأنه إذا وجد معركة حقيقة بين الحق والباطل ووجد للحق حماته الذين يدافعون عنه -وهم موجودون لا محالة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- فإن العاقبة لهؤلاء المتقين، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [الأعراف:128] وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] .(8/9)
التلبيس الذي يحدثه أعداء الرسل
والملاحظة الثانية: هي قضية التلبيس التي يحدثها أعداء الرسل، لاحظ قول الله عز وجل: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] إذاً هناك مؤامرة عالمية ليست جديدة كما نتصور، صحيح أنها قد تطورت الآن وأخذت شكلاً جديداً، وأسلوباً جديداً، وبعد جديداً، لكنها قديمة، وهي الحرب الإعلامية ضد الإسلام، وحملة الإسلام، وحملة السنة، والتي تشوه الحق وتلبسه لبوس الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق بتزين الألفاظ وزخرفة العبارات {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} [الأنعام:112] ولذلك يقول القائل: في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذاقيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير.
فالمعنى الواحد قد يعبر عنه الإنسان بلفظ واحد، أو لفظين، أو عبارتين بينهما بون شاسع.
وأذكر طرفة -في هذا المجال- وهي لا تخلو من فائدة، يقولون: إن أحد الخلفاء رأى في منامه أن أسنانه سقطت، فقال: عليَّ بمن يعبرون الرؤيا، حتى يعبروها لي! فجيء بمعبر، فقال له: إني رأيت في المنام أن أسناني سقطت، فقال: يموت أولادك كلهم وأنت حي، فغضب عليه الخليفة وأمر بجلده مائة جلدة! وقال: عليَّ بمعبر آخر! فجيء له بمعبر آخر حكيم فقص عليه رؤياه! فقال له هذا المعبر: يا أمير المؤمنين أنت أطول أهلك عمراً، فأمر له بجائزة ضخمة والنتيجة واحدة، فما دام أنه أطول أهله عمراً فمعنى ذلك أنهم سيموتون قبله لكن الأسلوب الذي قدم له به في الحقيقة يختلف، فالحق -أحياناً- قد يعتريه سوء تعبير، قد يُعبر الإنسان عن الحق بعبارة لا تخدم الحق، بل ربما يصور بعض المغرضين الحق بصورة الباطل، من ذلك: أنك قد تجد -مثلاً- أن إنساناً يعمل بسنة من السنن، وهذه السنة متفق على أنها من السنن؛ فلو قال للناس: إن فلاناً يعمل بهذه السنة لقال له الناس: وماذا؟ هذا إنسان متبع مجتهد ويجب أن يشكر على عملة؛ لكنه لا يقول هذا بل يقول: إن فلاناً متنطع فيه كذا وكذا، وأنه يعتبر هذه السنة واجب، وقد يكفر من لا يعمل بها، وقد يعدها ركناً من أركان الإسلام، وبذلك ألبس الحق لبوس الباطل ولبَّس به على الناس.
الآية توضح الحملة، أو توضح الجهد الإعلامي الذي يبذله أهل الباطل في تزيين باطلهم، أو في تشويه الحق {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .
ولذلك نجد الحملة الإعلامية العالمية اليوم ضد الإسلام، وكثيراً ما نسمع في الأخبار تسمية المسلمين -مثلاً- بالأصوليين، أو بالمتشددتين، أو بالمتطرفين، أو غير ذلك من العبارات التي تبثها وكالات الأنباء العالمية، وتتناقلها أحياناً الإذاعات الإسلامية والصحافة في البلاد الإسلامية على أنها عبارات دارجة، ويصبح يقولون: هؤلاء أصوليون، وهؤلاء متشددون ومتطرفين إلى غير تلك العبارات التي يلبسون بها على الناس الحق بالباطل.
إنه في كثير من البلاد التي تتشدق بالديمقراطية مثل أوروبا وغيرها أصبح هناك ما يسمى بالدكتاتورية المقنعة، ففي روسيا وغيرها كان الناس يحكمون بالحديد والنار، والصوت المخالف يخنق بالقوة؛ لكن في أمريكا وأوروبا والدول التي تتشدق بالديمقراطية يستطيعون أن يقضوا على الصوت المخالف بكل سهولة، فهم يسخرون أجهزة الإعلام لصياغة عقول الناس، بحيث إذا أرادوا أمراً من الأمور جندوا كافة الأجهزة الإعلامية لإقناع الشعوب بأن الأمر بهذه الصورة، ولذا تجد أن الناس عن طواعية واختيار يتجهون نحو الأمر الذي يراد لهم، وهذه دكتاتورية أخطر، لأن دكتاتورية الحديد والنار يمكن أن يتمرد الناس عليها كما تلاحظون أو تسمعون الأخبار في روسيا وبعض المناطق الإسلامية التي أصبح فيها هيجان وتمرد؛ لكن تلك الديكتاتورية الإعلامية في تلك الدول التي تتسمى بالديمقراطية كثير من الناس يشعرون أنه لا أحد يفرض عليهم شيئاً، في الوقت التي تفرض عليهم أشياء كثيرة في الواقع بمحض اختيارهم من خلال أجهزة الإعلام المختلفة.
مثل آخر: قضية الأدب والشعر وغير ذلك من الوسائل المهمة.
في كثير من البلاد الإسلامية أصبحت وسائل للهدم والتخريب كان يكتب كاتب في أي بلد إسلامي قصة ينشر منها مئات الآلاف من النسخ في المكتبات المختلفة خلال فترة وجيزة، لأنها قصة تتحدث عن قضايا الغريزة والجنس والإثارة، فيَقبل عليها الشباب والفتيات إقبالاً كبيراً، والروايات والقصص التي كتبها أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم من الروائيين والقُصّاص والكتّاب، إضافة إلى ألوان كثيرة من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، إضافة إلى أعداد هائلة من الدواوين الشعرية التي تسير في هذا الاتجاه، زخرفت الباطل وزينته بالحق كم من ديوان صدر لمثل لـ نزار قباني وتلقفته الأيدي في كل مكان، وترى الكتاب يباع بأغلى الأسعار، ولا تخلو منه مكتبة، ومئات الآلاف من النسخ تطبع منه، فيروج بشكل رهيب، لماذا؟ زخرف القول تزيين الباطل! فهذا نموذج يؤكد لك أن الكلمة من أخطر ميادين الصراع بين الأنبياء وأعدائهم.
كلمة الحق لها وقع كبير، وبالمقابل كلمة الباطل لها تأثير كبير، وأهل الباطل يعملون على زخرفة باطلهم بالعبارات الرنانة، والكلمات المعسولة.
والذين ينخدعون بهذه الأشياء من هم؟ يقول الله تعالى فيهم: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون بِالْآخِرَة} [الأنعام:113] إذاً: لا تروج هذه الأشياء إلا حين يكون هناك خواء وفراغ روحي وعقلي، فتصبح الشعوب مستعدة لتلقي هذا الزخرف من القول، فلو كان عند الناس وعي لما تأثروا بهذا الباطل! لكن المؤسف أنه في غياب الوعي، وفي غياب الإيمان بالآخرة، وفي غياب المفاهيم الصحيحة يكون هناك فراغ يمكن أن يملأ بهذه الأشياء، وهذه القضية أيضاً تؤكد على حملة رسالة الإسلام أنهم لا بد أن يستفيدوا من أجهزة الإعلام مسموعة أو مقروءة أو مرئية في الدعوة إلى الحق وحمايته ونشره، وبناء الفضيلة والأخلاق، وأنه لا بد أن يستفيدوا من الوسائل الأدبية: من القصة، ومن المقالة، ومن القصيدة، في الوصول إلى كافة الطبقات من الناس وإيصال الحق إليهم، فليست -مثلاً- المحاضرة، أو الدرس العلمي، أو الخطبة، أو الموعظة هي الوسيلة الوحيدة، نعم هذه لا شك هي وسائل لها تأثير ولها جمهور ولكن هناك جمهور، آخر لا بد له من وسائل أخرى؛ لأن الحق لا يجب أن يصل إلى كل أذن بقدر ما يستطاع: وقد بين ذلك الله سبحانه وتعالى الصراع في هذه الناحية بقوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:24-26] فالكلمة الطيبة تقارع الكلمة الخبيثة، ولا بد أن تقال في كل ميدان وفي كل وسيلة حتى تفعل هذه الكلمة الطيبة فعلها.(8/10)
مقالة (يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه)
وبهذه المناسبة أُذّكر بكلمة يقولها البعض وهي تحتاج إلى شيء من الإيضاح.
بعض الدعاة يقولون: يجب أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ونتعاون فيما اتفقنا عليه.
وأقول: هذه الكلمة تحتاج إلى إيضاح، فلا يجب قبولها أو ردها دون أن تحدد، ففي الأشياء التي يختلف فيها المسلمون إن كانت من قضايا العقيدة أو من قضايا الأحكام التي الأدلة فيها واضحة، وقال فيها إنسان رأياً بدون اجتهاد فلا يعذر في ذلك، فإذا أخطأ شخص في قضية عقدية لا نعذره في هذا الخطأ، أو إنسان أخطأ في قضية ولو من غير قضايا العقيدة؛ لكنه أخطأ بناءً على أنه تكلم في أمور بدون اجتهاد في أمور هو ليس أهلاً لها؛ هذا الإنسان أيضاً لا يعذر في هذا الخطأ، لكن إذا اجتهد وهو أهلّ للاجتهاد في هذه المسالة فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
وكذلك التعاون فيما اتفق عليه، هذه القاعدة صحيحة داخل إطار أهل السنة والجماعة، أما مع الطوائف الضالة والطوائف المنحرفة التي غيّرت وبدلت، فإنّ المسلم يعرف أنه لا بد من وضوح الراية وتميز المنهج، وليس من المعقول أن نقول: يجب أن نتفق أو نتعاون -مثلاً- مع الرافضة فيما اتفقنا معهم فيه، كحرب الشيوعية، هذا غير صحيح لأنه يمكن أن يأتي إنسان ويقول: لماذا لا تتعاون مع النصارى في حرب الشيوعية أيضا؟ هذا غير صحيح، فلا بد من وضوح الراية، ومن المهم جداً أن يكون الناس عندهم تمييز بين الحق والباطل بحيث أنه لا يوجد التباس عندهم بين راية الحق وراية الباطل، فداخل إطار أهل السنة والجماعة يمكن أن يتعاون الجميع فيما اتفقوا عليه، فالقضية الأولى هي قضية الولاية التي يتناصر بها أعداء الرسل وهي توجب للمؤمنين أن يتناصروا فيما بينهم بحبل الله ودين الله الذي يربط بعضهم ببعض.(8/11)
ضرورة اتحاد أهل السنة والجماعة
إن الحاجة ماسة إلى أن يجتمع أهل السنة والجماعة تحت الراية الواحدة التي تجمعهم مهما اختلفت المسائل الفرعية التي تجمعهم عليها أصول متحدة، ومهما اختلفت اجتهاداتهم في الأمور العملية، ومهما اختلفت اجتهاداتهم في وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، ومهما اختلفت بلادهم وآراؤهم؛ فهذه القضايا ليست مدعاة إلى أن يتفرق أهل السنة والجماعة أما إذا كان الخلاف خلافاً عقدياً مبنياً على الأصول، فهنا الأمر لا شك أنه يستدعي توضيح الأمر، وألا يلتبس الحق بالباطل على الناس، أما أن نتخذ من هذه الخلافات الجزئية والفرعية التي لا تؤثر سبباً للتفرق والخصومة والتناحر، وأن ينشغل بعضنا ببعض، فهذا ليس من الحكمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، هل من الحكمة أن ينشغل المؤمنون والدعاة والصالحون -مثلاً- بالخلاف حول سنه من السنن أو حول مسألة فقهية ويتركوا أمراً هم مجمعون على أنه خطأ حرام وباطل وضلال؟ هذا ليس من الحكمة.
لو سألت مؤمناً عن رأيه -مثلاً- من الفساد الأخلاقي الذي يجتاح المجتمعات الإسلامية؟ لمَّ رأسه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولو سألته عن هذه المعاملات الربوية التي لوثت جيوب الناس وحياتهم؟ لما كان يخالفك على ذلك أي مسلم.
هناك أشياء كثيرة يتفق المؤمنون من أهل السنة والجماعة على أنها منكرات وأخطاء وضلالات، بل إن منها ما يتفقون على أنه كفر بالله العظيم، فلماذا لا يكون هناك تعاون في محاربة هذه الأشياء التي يتفق الجميع على أنها كفر أو باطل أو حرام؟ وهذا -أيضاً بطبيعة الحال- لا يعني أننا نحرم أو نمنع الكلام في الأمور الفرعية كما يفعله البعض، كلا! لا مانع أن يتحدث الإنسان في قضية فرعية أو جزئية، أو في سنة من السنن أو في مسألة خلافية ويبين الراجح ويبين المرجوح، بالأدلة، كل هذا لا مانع منه، لكن الشيء الذي أقصده ألا يتحول هذا الأمر إلى سبب يوجد عدم التعاون بين المؤمنين في أمور يتفق الجميع على أنها يجب أن تقاوم وتحارب.(8/12)
الفرق بين ولاية المؤمنين والكافرين
وهناك فرق أساسي بين ولاية المؤمنين وولاية الكافرين، فولاية الكافرين مبناها على التعصب والهوى واللجاج، ولذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] وكلمة (مِن) يقابلها في الآية الأخرى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وبادي الرأي قد يخيل للإنسان أن كلمة (من) هنا أبلغ؛ فكيف عبر الله عز وجل عن علاقة المنافقين بأن بعضهم من بعض، أما علاقة المؤمنين فقال: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] هل معنى ذلك أن علاقة المنافقين بعضهم ببعض أقوى من علاقة المؤمنين؟ كلا.
وإنما السر -والله تعالى أعلم- أن علاقة المنافقين ليست مبنية على منهج وطريق صحيح يتوالون فيه، بل القضية مبنية على الهوى والتوافق على الباطل، أما أهل الحق فولايتهم مبنية على الحق؛ فهم أولياء لبعض في الحق، ولذلك لو تخلّى أحد منهم عن الحق تخلوا عن ولايته، وكذلك لو أخطأ إنسان لما كانت ولايتهم له موجبة لموافقته في الخطأ، ولذلك قال: {بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ} [المائدة:51] فهي ولاية نبوية بصيرة، وليست ولاية عمياء على مجرد الهوى.
وإنه لا بد- أيها الإخوة- في كل عصر وفي هذا العصر بالذات، وقد رأينا جميعاً كيف يتوالى أعداء الإسلام على حربه لا بد من التعاون بين المسلمين على البر والتقوى، -كما أمر جل وعلا- قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] هل تجد أبلغ من هذا الوصف والتشبيه؟ {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] والبنيان المرصوص لا يمكن أن يجد فيه ثغرة ينفذ منها أو يتسلل منها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} ونحن الآن لو وجد الواحد منا قطعة في الشارع لكان من السهل أن يحملها أو يكسرها؛ لكن حين يأتي إلى جدار مكون من مجموعة من اللبنات، فلو حاول أن يدفعه لما استطاع؛ لأن هنا انضمت اللبنة المفردة إلى أختها فاكتسبت قوة جديدة، وأصبح من غير الممكن للإنسان أن يدفعها، وهذا سر من أسرار التعاون الذي أمر الله تبارك وتعالى به المؤمنين، فلا بد أن يتقي المؤمنون الله جل وعلا بألا ينشغل بعضهم ببعض.(8/13)
قوة الروابط بين الأعداء في هذا العصر
فالملاحظة الأولى: هي الرابطة الوثيقة التي يتناصر بها أعداء الرسل، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] كل هؤلاء مصنفون في عداد أعداء الأنبياء، ثم قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ويقول الله جل وعلا: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [المائدة:51] .
اتحاد أهل الكفر في مواجهة الإسلام: فأعداء الرسل أعداء الإسلام يتناصرون بمقتضى بالعداوة، وقد يكونون بينهم من البور والخلاف الشيء الكثير، لكنهم حين يواجهون الإسلام يكونون صفاً واحداً، فليس من الضروري أن تكون ولايتهم مطلقة، بل ولاية بعضهم لبعض قد تكون مطلقة وقد تكون أمام الإسلام فقط، فمثلاً اليهود والنصارى بينهم عبر التاريخ خصومات طويلة، ومجازر رهيبة، وخاصة اليهود طالما تسلطوا على النصارى وآذوهم، وسفكوا دماءهم وأحرقوهم بالنيران، والعكس كذلك؛ ومع ذلك الله عز وجل يقول: بعضهم أولياء بعض، أي: في حرب الإسلام ومواجهته يقول القائل: وليس غريباً ما نرى من تصارعٍٍٍ هو البغي لكن للأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحدا فحين يكون العدو والخصم هو الإسلام ينسون خصوماتهم الداخلية والفرعية ويوحدون الوجهة ضد الإسلام وأهله فهذا أمر ملحوظ في ولاية أعداء الرسل بعضهم لبعض، وهذه الولاية توجب على حملة الإسلام أنه لا بد أن يكون بعضهم لبعض أولياء أيضا.(8/14)
ميدان الصراع بين الحق والباطل
المسألة الثانية والأخيرة في هذا الموضوع، وهي مسألة ميدان الصراع: ميدان الصراع بين الحق والباطل وله ميدانان:(8/15)
الصراع بين الهدوء والاحتدام
الصراع قد يهدأ حيناً وقد يحتدم حيناً آخر، فهو مثل المعارك الحربية، فالمعركة الحربية -كما هو معروف- فيها حرب وفيها هدوء حذر -كما يقولون- ومنها سلم، وهكذا الصراع بين الحق الباطل قد يحتدم أحياناً وقد يهدأ أحياناً أخرى، وهذا يبرز كثيراً في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم.
في وقت مضى كان الصراع يمر بمرحله يمكن أن نسميها بمرحلة فتور أو هدوء، ولذلك كان غالبية الناس في المجتمعات الإسلامية هنا وفي كثير من البلاد كانت غالبيتهم في مرحلة وسط هم بالصالحين صلاحاً يذكر ويتحدث عنه، ولا هم بالمنحرفين انحرافاً مشهوراً ومعروفاً، بل هم وسط فيهم خير وفيهم تقصير غالبية الناس كانوا كذلك؛ لأن المرحلة مرحلة الفتور والصراع بين الحق والباطل.
الآن أرى أن الموضوع بدأ يتجه نحو الاحتدام وظهور هذا الصراع بشكل أكثر وضوحاً، ولذلك تجد أن مرحلة الوسط التي كان الناس فيها بالأمس؛ هذه المرحلة بدأت تتآكل وبدأ الناس الذين في الوسط يقلون، وصار غالبية الناس إما أن يتجه نحو الخير وإما أن يتجه نحو الشر، والذين في الوسط يقلون ويرجعون تدريجياً، ولذلك تجد أن الإنسان عندما يتحدث عن الخير والصلاح، والمحاضرة، والكتب العلمية، والصحوة الإسلامية يجد ميداناً خصباً للحديث، لأن كثيراً من الناس أقبلت على الخير، لكن هذا لا ينبغي أن ينسيك أن جزءاً من هؤلاء كانوا في الوسط واليوم صاروا طيبين، بالمقابل هناك أناس آخرون استهلكتهم التيارات المنحرفة، والمذاهب الضالة، والبدع، والخرافات، والمعاصي، والفسوق، وألوان الانحرافات الموجودة، فبدأ الأمر يتميز، وبدأت المجتمعات تتميز كما ورد في بعض الآثار: {إلى فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه} وهذا الاحتدام في الصراع بين الحق والباطل، والذي من نتيجته اليوم في المجتمعات أنه بدأت اليوم الأمور تتميز وتتضح أكثر، يبدو لي أنه مؤشر إلى أن الصراع بدأ يكون علنياً وليس خفياً، بدأ يتجه نحو العلنية، ولذا تجد الآن أن الصراع بدأ يتجه نحو الميدان العام، وهذا يؤكد على حملة رسالة الإسلام، أو يؤكد على الناس عموماً أولاً: ضرورة تحديد الموقف -كما أسلفت في البداية- الحياد لا مكان له هنا، لأن الوسط لا يكاد يوجد في أحد.
فلا بد للإنسان أن يحدد موقفه إما مع الإسلام أو مع خصوم الإسلام.
النقطة الثانية: أنه يؤكد على حملة رسالة الإسلام -بالذات- أنه لا بد أن يبذلوا جهودهم بالسبق إلى الميادين العامة التي تؤثر في المجتمع، السبق إلى أجهزة الإعلام، الجامعات، المؤسسات، الجمعيات، الوسائل، المراكز القيادية التي تؤثر في المجتمع بحيث يمكن توجيه الناس ليس من خلال المسجد فقط، بل من خلال كل وسيلة ممكنة يمكن أن يسمع صوت الحق، لأن هناك سباق وصراع على هذه الميادين، وإذا ما استطاع أهل الإسلام أن يسعوا إلى هذه المجالات فلنثق أن هناك من يتربص بهذه الأمور ويسعى إلى السبق فيها؛ بل لسبق فيها، والواجب على المسلمين وأهل الإسلام أن يستدركوا ما حدث من تقصير فيما مضى، هذا ما أريد أن أقوله، وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم في هذه الكلمات.
وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من حملة الحق والدعاة إليه، المجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم بما يستطيعون، وأن يكتب النصر لجنده وأوليائه، كما وعد الله جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(8/16)
تغير المفاهيم والسكوت على المنكر
أنت عندما تجد كثيراً ممن حولك يتعاطون هذا المنكر تجد أنه لا فائدة من حربه، وهذا لا يسوغ للإنسان ترك المنكر أو السكوت عنه، وهذا يبين جانباً من جوانب الصراع بين الحق والباطل، وهذا يمر بثلاث مراحل: المرحلة الأولى بالنسبة للناس الذين قصروا عليهم: أن الإنسان يسكت عن إنكار المنكر فيقول أحد المهزومين المخذلين يقول لك: أنت تنفخ في رماد، وتصيح في وادٍ، لا فائدة! التيار أقوى منك، اترك هذه الأشياء، هذه مرحلة، فبذلك يترك الإنسان النهي عن المنكر، وينتقل إلى مرحلة أخرى بعد فترة يقع هو نفسه في المنكر فتجد هذا الإنسان الذي يقول أمس: أنه فعلاً منكر ولكني لا أنكره على الناس، انتقل إلى أنه هو يقع في المنكر، ليس هذا فحسب؛ بل ينتقل إلى مرحلة ثالثة، أنك تجد أن هذا الإنسان أصبح يسوغ المنكر، ويحاول أن يلبسه لبوس الحق، مثال ذلك: الغناء كل النفوس السليمة تعرف أن الغناء حرام، بغض النظر عن كون المرء عالماً أو جاهلاً، أو فاسقاً، أو تقياً، كل النفوس المستقيمة والنفوس السوية تعرف أن الغناء حرام، وإذا قلت: الغناء فلا يأتي شخص ويقول: الحداء، أو غناء العمال وهم يرتجزون وما أشبه ذلك، الغناء مصطلح له معن واضح يعرفه الجميع، إذا قيل: الغناء انصرفت الأذهان إلى الغناء الذي يبث عبر وسائل الإعلام بالموسيقى، وهو في امرأة تحن إلى رجل أو رجل يحن إلى امرأة للوصال والكلام الفارغ المعروف.
كل الناس تعرف أن الغناء حرام من حيث أصل الفطرة، ولذلك حين تسمعون أن فلاناً تاب من الغناء، وهو ليس عالماً شرعياً ولا طالب علم، وهو مغنيٍ طول حياته، لكنه عارف في قراراته أنه أمر لا يرضي الله، ولذلك تجد أنه يعلن توبته، فالنفوس تعرف ذلك، لكن الإنسان لما يرى أن الغناء أصبح قضية موجودة في كل مكان كما ذكر بعضهم في بعض مقالات ومقابلات نشرت؛ فإنه يرى، ويقول: ما معنى أن هذا حرام والناس مبتلون به جميعاً؟ فيرى أن يسكت عن هذا الأمر، لا يلزم بالضرورة أنه يخلف هذا الأمر، قد يسكت عنه أولاً باعتبار أنه أمر قد انتشر، نحن ننشغل بما هو أهم منه، وعندما ينتشر هذا الأمر تأتي بعد ذلك مرحلة أخرى أن هذا الإنسان الذي سكت عن هذا المنكر أصبح يشارك فيه، ولو لم يرضه أو يقره؛ لأن هذا المنكر نفسه عليه، بعد ذلك تأتى مرحلة ثالثة وهي أن هذا الإنسان لا يكتفي بأن وقع في المنكر؛ بل صار يبحث عن قول فقهي أو تأويلاً ضعيفاً أو رأياً شاذاً ليقول: إن هذا الأمر مباح وحلال ولا شيء فيه، فهذا يبين لك خطورة مسألة تلويث المجتمع والبيئة العامة.(8/17)
الأمر بالمعروف يصلح المجتمع
وقد حرص الإسلام على تحصين المجتمعات من عوامل الفساد؛ حتى لو وُجد فساد على مستوى فردي فالإسلام حريص على ألا ينتشر ليلوث البيئة، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، ثم يصبح، ويقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه وأصبح يكشف ستر الله عليه} لماذا الرسول صلى الله عليه وسلم توعد المجاهرين بهذا الوعيد؟ لأن المجاهر انتقلت المعصية من كونها معصية فردية تضر صاحبها إلى كونها معصية عامة تلوث البيئة، كلها فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على حماية المجتمع، ولذلك كان السلف يقولون: كما يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه: [[إن المعصية إذا سترت لن تضر إلا صاحبها، فإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة]] ولذلك جاء في شريعة الإسلام شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس المقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القضاء النهائي على المنكرات، لأن القضاء النهائي على المنكرات بحيث يكون المجتمع سليماً من المنكر بنسبة (100%) بعيد وغير ممكن، فحتى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان هناك بعض من المنكرات لكنها قليلة مستخفية.
المقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إنما المقصود من شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقاية البيئة العامة من التلويث، لأن البيئة العامة إذا تلوثت أصبح من الصعب على الإنسان أن يستقم؛ لأنه -كما يقال- يسبح ضد التيار، انظر في شرائع الإسلام! لماذا شُرِع الإسلام، صلاة، الجمع، العيدين، الصيام؟ إن ذلك من أجل إيجاد مظهر عام وبيئة صالحة يتربى فيها الناس.
وأضرب لكم مثلاً ملموساً مشاهداً: نحن أدينا فريضة صيام شهر رمضان، وكان الناس خلال الشهر -كما هو معروف- لا يجدون مشقة كبيرة خلال تأدية الفريضة، فلا أحد يتعب من صوم الفريضة حتى الإنسان الذي لا يصوم طيلة السنة إلا الفرض تجد أنه خلال الشهر لا يتعب كثيراً، ويخرج يقول: والله ولله الحمد كنا متخوفين من الصيام هذه الأيام، فوجدنا أن الأمر يسير وسهل، والإنسان إذا عزم وجدّ يسر الله سبحانه وتعالى له وهذا صحيح.
لكن إذا أراد الإنسان أن يصوم الست من شوال، أو يصوم أيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر يجد صعوبة كبيرة في ذلك أصعب مما يجده في صوم الفرض، بل إنني أجد أن بعض الإخوة إذا صاموا الفرض لا يحسون بأي شيء، لكن إذا صاموا النفل يحس كثير منهم بالصداع، بل وبعض أعراض تتعبه حتى في جسمه، وهذا له أسرار كثيرة لا أستطيع أن أذكرها؛ لكني سأذكر منها سراً واحداً يتعلق بما نحن فيه وهو تأثير المجتمع، وذلك أن المجتمع في رمضان كله صائم، ولذلك أنت عندما تذهب إلى السوق لتجد حاجياتك، تجد أن الناس كلهم صائمون، في الشارع الناس صائمون، الطلاب والموظفون الكل صائم، في البيت الكل صائم، ولذلك لا يشعر الإنسان بشيء؛ لأن المجتمع كله يسير في نفس الاتجاه، ولكن فيما عدا ذلك الإنسان صائم لوحده أو مع أفراد قلائل، والمجتمع غير صائم، ولهذا يجد صعوبة، ولهذا نجد أن الطلاب الذين يسافرون إلى بلاد الغرب، ويصومون رمضان هناك، يجدون صعوبة في الصيام، وبعض الشباب يعودون إلى بلادهم لصيام شهر رمضان هنا من ضغط المجتمع، لأن المجتمع هناك مفطر فيضغط عليهم نفسياً ويضغط عليهم بوسائل أخرى بحيث إن الإنسان يجد مشقه في الصيام؛ لأنه يخالف المجتمع الذي حوله، وهذا يؤكد لك أهمية صلاح المجتمع في صلاح أفراده، وفي هذا الإطار -أيضاً- تأتي عناية الإسلام بالمظهر الخارجي بتقصير الثياب -مثلاً- بإعفاء اللحى، عدم التشبه بالمشركين إلى غير ذلك.
علاقة المظهر الخارجي بالصراع في المجتمع: بعض الناس الذين عندهم قصر نظر يقولون: ما هذا القصور الذي شغلونا به؟ لا يا أخي هذه القضية لها بعد كبير جداً؛ لأن هذه القضية من شأنها أن تحقق للمجتمع المسلم التميز والاستقلالية، وتحفظ المجتمع من الانهيار والمشي وراء ركاب الأمم الأخرى، أو التشبه بأمم أخرى بحيث يفقد المجتمع المسلم تميزه وصلاحه، وأصلاً المجتمع لا يلجأ إلى أخذ ما عند الآخرين إلا إذا شعر بالهزيمة والضعف، ولذلك عقد ابن خلدون في المقدمة فصلاً في اقتداء المغلوب بالغالب، الآن لا تجد أن الأعداء هم الذين يقلدوننا بل نحن الذين نقلدهم، لأننا في حالة هزيمة -كما يقولون- هزيمة حضارية، سبقونا في مجال العلم والتقدم الصناعي فأصبحنا ننظر لهم نظرة معينة ونقتبس منهم الكثير من الأشياء، فالإسلام حرص على تميز المسلم حتى في مظهره حماية ووقاية لهذا المجتمع.
اليوم نجد أن هناك حرباً على المجتمعات الإسلامية لتلويثها، فمثلاً عصابات المخدرات المنتشرة في العالم، عصابات المافيا وغيرها التي جندت نفسها لترويج المخدرات بالذات في البلاد الإسلامية، وبعض البلاد الإسلامية أصبحت مركزاً سواءً لتصنيع أو تهريب أو ترويج المخدرات بأنواعها، هذا نموذج من محاولة الأعداء تلويث المجتمع بحيث أنك تجد بعض الشباب في بعض البيئات أصبحت المخدرات قضية لا يجد فيها حرجاً، بل ربما يشعر بالنقص إذا لم يتعاط هذه الأشياء، فهو أحياناً يتعاطاها ليعبر أنه شخصية مستقلة، وأنه إنسان عنده كمال في شخصيته، وهذا أمر موجود عند بعض الشباب نتيجة الشعور بالهزيمة.
قضية الأجهزة والوسائل الإعلامية واستخدام الإعلام للتأثير على الناس، وقد ذكرت لكم أثره في تغيير الناس وسلوكهم، ولكن خذ على سبيل المثال: حينما ننظر في قضية من القضايا الاجتماعية نجد كيف استطاع الإعلام أن يغير سلوك الناس ويضغط عليهم، مثلاً قضية تعدد الزوجات نجد أنه لا يكاد يعرض مسلسل من المسلسلات في كثير من أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية يتعلق بموضوع تعدد الزوجات إلا ويكون الهدف من ورائه الحديث عن فشل موضوع التعدد، وأنه ينتهي بالرجل إلى الهروب من البيت وتحطيم الأسرة ترك الأولاد، مشكلات طويلة عريضة، وأن المرأة تذهب ضحية هذا التعدد، وما زال الضرب على هذا الوتر حتى أصبح مستقراً في نفوس الناس أن تعدد الزوجات أمراً خطيراً إلى آخره.
وبطبيعة الحال الحديث عن تعدد الزوجات ليس هذا ميدانه، فسلبياته وإيجابياته وحكمه يحتاج إلى حديث لا أريد أن أتحدث به الآن؛ لكن فقط أريد أن أضرب المثل حتى استقر عند الناس هذا الأمر، لكن وقوع الإنسان في الزنا والعياذ بالله قد لا يحمل نفس الخطورة، أو لا تحرص تلك الأجهزة على الحديث عن خطورته، ولذلك قد تقبل بعض النساء أحياناً أن تعلم أن زوجها قد يرتكب الفاحشة مع الخادمة، لكنها تقلب الدنيا رأساً على عقب - إن استطاعت- لو علمت أن زوجها يفكر مجرد تفكير في الزواج من امرأة أخرى، وهذا جزء أو جانب من تأثير أجهزة الإعلام.
وإذا كنا نسمع أن العالم اليوم يحضر لغزو البلاد الإسلامية بواسطة ما يسمى بالبث المباشر، فهذا جزء من تلك الحملة التي يهدف العالم فيها إلى تنصير المسلمين، لا مانع أن يكون هذا من أهم أهدافه من خلال برامج تنصيرية تعمل على زعزعة العقائد الإسلامية، وتحويل المسلمين إلى مرتدين على أقل تقدير إذا لم ينصروهم، محاولة نشر الأخلاق المنحلة والرذيلة بين المسلمين وهذا يتم الآن من خلال أجهزة الفيديو، ومن خلال الأفلام الهائلة.
فهناك مدن بأكملها مخصصه لنشر الفساد للإنتاج الفني -كما يسمونه- الذي تغزى به البلاد الإسلامية.
ولذلك عمل الأعداء على تكييف المنكرات بحيث لا تنكر، يصل المنكر ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حد مستقر، ما عاد المنكر ضيفاً يرحل اليوم أو يرحل غداً، أصبح المنكر صاحب محل مستقر ولا يفكر أحد بإزالته، وربما يضحك الناس من إنسان لو فكّر في تغيير المنكرات، من هو الذي يفكر مثلاً بحرب الربا في البلاد الإسلامية؟ لا أحد يفكر، مجرد خواطر في نفوس الطيبين والصالحين، أما هذه المنكرات فقد استقرت وضربت بجرانها فأصبح الناس لا يفكرون بها، مثلاً أجهزة التلفاز يوماً من الأيام كان الناس أو بعضهم لهم موقف من هذه الأجهزة؛ لكن جاءت مرحلة أصبح كثيراً من الناس يرى أن الجهاز من الأثاث المكمل للبيت، وهذه قضيه لا تحتمل عنده جدلاً، ليس هذا فقط بل حتى ترك هذا المجال للنساء والرجال والكبار والأطفال والصغار ثم جاءت قضية الفيديو قطعت على هذا وهكذا تجد كثيراً من الناس تتطبع نفوسهم على المنكرات، ويصبح المنكر مستقراً لا يفكر أحد بحربه.(8/18)
الصراع مع المجتمع
الميدان الثاني من ميادين الصراع: وهو أثر من الميدان الأول وهو الصراع مع المجتمع، فالناس الذين معهم انحسم الصراع نسبياً لا أقول -مثلاً- انتهى الصراع أو الجهاد كما هو التعبير القرآني: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الجهاد في ميدان النفس لا أقول: إنه ينتهي، لكن الذين يجاهدون أنفسهم منهم من ينجح في هذا الجهاد، فيكون من أهل الخير ومن دعاة الإسلام، ومنهم من يفشل في هذا الجهاد أو لا يجاهد أصلاً فيكون من أهل الشر الذين عرفوا الحق ورفضوه أو لم يعرفوه أصلاً، وهنا يوجد الصراع بين هؤلاء وهؤلاء في الميدان الكبير ميدان المجتمع، وهذا هو الميدان الآخر في الصراع بين الحق والباطل، وبين الشيطان وبين الرسل وأتباعهم.(8/19)
النفس البشرية
الميدان الأول هو ميدان النفس البشرية: فالإنسان -كما أسلفت- قابل للخير والشر والهدى والضلال قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الشمس:7-9] .
فالإنسان عنده قابلية للخير والشر، وكذلك الإنسان حين يكون خيراً لا يعني أن عناصر وعوامل الشر زالت منه بالكلية، بل النفس الأمارة بالسوء موجودة، وكيد الشيطان موجود، ولذلك قد يحدث من الإنسان المستقيم أن يخطئ، أو يضل، أو ينحرف عن هذا الطريق، أو يتركه حيناً ثم يعود إليه، وبالمقابل؛ الإنسان المنحرف والضال لا يعني أنه أصبح شيطاناً رجيماً متمحضاً للشر، بل قد يحدث منه أحياناً أن يستقيم ويهتدي إلى الخير، بل وحتى حين يكون مصراً على الشر الذي هو فيه لا تظن أبداً أنه لا تثور في نفسه نوازع الخير.
لقد حدثني أناس قضوا زماناً طويلاً في ميادين الشر والفساد والانحراف أن قلوبهم كانت تغلي أحياناً بمراجل الهم والندم والحزن والرغبة في الإقلاع ولا تغتر بمظاهر أو بعبارات أو بعض اندفاعات أو أشياء يحاول الإنسان بها أن يظهر أنه طبيعي وأنه لا يحس، لا أعتقد أبداً أن إنساناً مسلماً يفعل المعصية ويظل فرحاً مسروراً بها أبداً، المؤمن قد يعصي ولكنه لا يمكن أن يفرح ويطمئن بها؛ بل لا بد أن يوجد في قلبه ندم على هذه المعصية، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في صفة المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وفي الحديث عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: {أن القلب فيه لمة للملك، ولمة للشيطان؛ فلمة الملك إيعاد إلى الخير وحث عليه، ولمة الشيطان إيعاد إلى الشر وتكذيب بالحق} .
فالإنسان الطيب لا يخلو من وجود شيء من الشر يحتاج إلى مدافعة وإزالة ومقاومة، ولذلك لا بد من جهاد النفس، ولا يمكن أن نقول: إن هذا الإنسان وصل كما تقول الصوفية بأن عندهم الإنسان قد يصل إلى مرحلة يسمونها مرحلة سقوط التكاليف، وقد قيل لـ أبي علي الروذباري وهو من أئمة أهل السنة والجماعة: إن فلاناً يزعم أنه وصل، قال: صدق، ولكن إلى سقر.
فليس هناك مرحلة يصل فيها الإنسان وتسقط عنه التكاليف، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: حتى يأتيك الموت، فاليقين هاهنا المقصود به الموت.
وبالمقابل الإنسان الشرير لا يوجد ما يدعو إلى اليأس منه، واعتقاد أن هذا الإنسان لا خير فيه، رب كلمة توافق قلباً فتدخل فيه وتغيره رأساً على عقب، وقد تكون كلمة عادية، قد تكون كلمة هادئة، اسأل الذين اهتدوا: فبعضهم سمع برنامجاً في الإذاعة، أو سمع كلمة طيبة من أحد فتأثر بها، وربما يكون الذي قال هذه الكلمة لم يحسب لها حساباً لكنها صادفت قبولاً في هذا الإنسان، فغيرت معالمه ظاهراً وباطناً، وهذا يوجب للإنسان الصالح ألا يغتر بنفسه؛ لأنه قد يتغلب عنصر الشر يوماً من الأيام فيتحول والعياذ بالله ويجب ألا ييأس الإنسان من نفسه ولا من غيره.
فأما اليأس من الناس فإني رأيت أن من مداخل الشيطان العظيمة على النفوس أنه - أحياناً - قد يأتي لإنسان فيه خير وصلاح، مثلاً: رجل صالح مع قوم صالحين، أو إنسان يؤم الناس في الصلاة أو يعلمهم العلم أو يقرئهم القرآن، أو يدعوهم إلى الله تعالى، وقد يكون عنده معصية خفيه لا يعلمها الناس، فيأتيه الشيطان في الخلوة فيقول: أنت منافق! أمام الناس تتظاهر بشيء، وفي واقعك عندك معاصي وعندك كذا وعندك كذا، فلا يزال به حتى -لا أقول- يقنعه بترك المعصية، فهذا ليس من شأن الشيطان؛ لكن لا يزال به حتى يقنعه بترك الطاعة التي هو فيها ويقول: كن منطقياً مع نفسك لا داعي أن تقف أمام الناس تدعوهم إلى الخير، وأنت تعرف أن عندك معصية في السر.
وقد علمت أيضاً أن هناك من الصالحين من انحرف لهذا السبب، ونقول: العلاج ليس أن الإنسان يترك العوامل الطيبة في نفسه استجابةً لطاعة الشيطان، بل نقول: ضاعف الأمور الخيرية في نفسك، وقاوم المعصية بقدر ما تستطيع النجاة منها، وحتى ولو لم تستطع لها اليوم أو غداً فليس الحل أن تترك أعمال الخير، كلا! وهذا ليس بنفاق، خطأ أن تتوقع أن هذا من النفاق، لأن عدم الرغبة في نفسك، وكره المعصية، والحرص على التخلص منها يدل على خير، وليس المطلوب أن تجاهر بمعصيتك أو تعلنها للناس حتى تكون منطقياً مع نفسك، وليس مطلوباً منك أن تترك أعمال الخير حتى تتمحض لهذه المعصية ويتفرد بك الشيطان، فهذا مزلق خطير ينتبه له الإنسان فلا ييأس الإنسان من نفسه، ولا ييأس من غيره أيضاً، يمكن أن تأمر الإنسان مرة أو مرتين أو عشر مرات، تقول: فلان والله أعذرت معه، نعم، نحن لا نقل: أعذرت بل عليك واجب شرعي فأنت قمت بالواجب عليك وانتهت مهمتك؛ لكن إن كنت داعية فلا تيأس إن كنت أمرته عشرين مرة فربما يستجيب لك بعد المرة العشرين فجرب!(8/20)
الأسئلة(8/21)
مواجهة الباطل
السؤال
ماذا نفعل لمواجهة الباطل؟
الجواب
أنا ذكرت ذلك في نهاية المحاضرة وإن كان ذكراً باختصار؛ لأنني شعرت بشدة الحر ووطأته عليّ وعليك فأوجزت الحديث في مسألة أعتبر أنها مهمة جداً في الموضوع، وذكرت لكم في آخر المحاضرة أن الصراع بين الحق الباطل بدأ يتجه إلى أن يكون صراعاً علنياً، وقوياً نظراً للتميز الذي نلاحظه في المجتمعات الإسلامية، وأن من واجب أهل الإسلام أن يحرصوا على السبق إلى الميادين التي تؤثر في المجتمعات، فهي ميادين الصراع مثل الأجهزة الإعلامية والمدارس والجامعات، والجمعيات والمؤسسات والمراكز القيادية والوظائف الكبيرة وغيرها من الأشياء التي تؤثر في حياة الناس أفراداً وجماعات، وينظر الناس إلى أصحابها نظر التقدير، وعندهم الاستعداد إلى القبول منهم، الصراع يبدو لي أنه يبدأ يتجه إلى هذه الأمور ولذلك فإن الذي يريد أن يقاوم الباطل ويواجهه عليه أن يصل إلى هذه المراكز ومن خلالها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله جل وعلا.(8/22)
استئذان الأم في الذهاب إلى الحج
السؤال
يريد أن يذهب إلى الحج مع المركز الصيفي، ووالدته تقول له: لا تحج هذه السنة لأن هناك ظروفاً تعيق هذه الرحلة، فهل يجوز أن أذهب إلى الحج وإلا أرجع إلى قول والدتي؟
الجواب
إن كان الحج لك فريضة فتذهب ولو لم ترض والدتك؛ لكن عليك أن تتلطف معها وأن ترضيها ما استطعت، ومهما قدرت على أن تحج وهي راضية فهذا هو أجدر بك، أما إن كان الحج نافلة فلا تذهب ما لم ترض والدتك بذلك.(8/23)
مواجهة من يلبس الحق بالباطل
السؤال يقول: أخي في البيت يلبس الحق بالباطل ويلبس الباطل بالحق في بعض الأوقات، فماذا تنصحني بأن أقول له كي يترك هذا العمل؟
الجواب
مسألة التلبيس هذه مسألة نسبية، فكل قضية وقع فيها في تلبيس الحق بالباطل عليك أن تجادله بالتي هي أحسن، وما دمت تميز الحق من الباطل فبين له ما وقع فيه من الباطل وتبين -أيضاً- الصواب الذي في كلامه.(8/24)
التعصب لعالم في مسألة اجتهادية
السؤال
من يتعصب لمسألة قال بها أحد العلماء يسوغ فيها الاجتهاد لأهل العلم فيرى أنه على الحق وغيره على الباطل وقد يبدع أو يفسق، فهل من نصيحة لمثل هؤلاء الإخوة؟
الجواب
التعصب للعالم لا يجوز، لا يجوز التعصب إلا للحق ونحن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال والتعصب داء ممقوت في الماضي والحاضر، ثم إن المسائل الفقهية التي يسوغ فيها الاجتهاد لا ينبغي أن يكون فيها تضليل أو تبديع أو تفسيق غاية ما في الأمر أن يكون فيها راجح ومرجوح، ولذلك تجد العالم الذي عنده فهم ويقضة ووعي يقول: الراجح كذا، وقد تكون الأدلة مثل الشمس، لكن الإنسان الذي أخذ حظاً يسيراً من العلم يسمع ظاهر حديث يأخذ به، وقد يقول لك: هذا هو القول الصحيح ومن قال بخلافه فقد خالف الكتاب والسنة، فيحتاج الإنسان إلى تريث وصبر وطول بال، والعلم لا يؤخذ بيوم وليلة.(8/25)
الزواج بفتاة جامعية تهدده بشهادتها
السؤال
أنا متزوج بفتاه جامعية وتعمل بالتدريس تهددني بهذه الشهادة حيث أنني لم أحصل إلا على الشهادة الثانوية ولم تسمح لي الظروف بإكمال الدراسة، فماذا أفعل جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: الإنسان حينما يبحث عن الزوجة عليه أن يراعي أن قضية القوامة تستدعي أن يكون موقف الرجل أقوى من موقف المرأة، ولذلك فإن زواج الإنسان بامرأة تفوقه ذكاءً أو علماً أو مستوى لا ينبغي أن يكون أمراً دارجاً إلا في حالات يقتنع الإنسان أنه لا حرج في مثل هذا الأمر، أما في مثل هذه الحال فإن هذا الأمر يمكن أن يزول مع الوقت باعتبار أنك مثلاً أنت القيم على البيت، وأنت الذي تقوم بشئونه، ولذلك فإن المرأة ليس لها إلا اعتبار أن الرجل قائم عليها، ولا أرى أن مثل هذا الأمر يوجب الخصام والفراق، كما أن على المرأة ألا تدلي بهذه الشهادة، فماذا يستفيد الزوج من شهادة تحملها زوجته، أو وظيفة تعمل بها، وربما يكون الزوج محتاجاً؛ لأن تترك زوجته العمل -أحياناً- للتفرغ لشئون البيت والأطفال.(8/26)
البذاءة في الوعظ
السؤال
هل يجوز للواعظ أن يذكر الكلام البذيء في الموعظة وفي المسجد إلى غير ذلك؟
الجواب
لا ينبغي ذكر الكلام البذيء في الموعظة، وإذا رأى الواعظ أن هناك رجلاً عنده معصية فليس عليه أن يوبخه بالكلام الشديد ولو كان الكلام حقاً في نفسه، قد يكون الكلام حقاً في نفسه ولكنه غير مناسب، فما كل حق يقال في كل مجال، فمن الحكمة والبلاغة أن يقول الإنسان الكلام المناسب في الوقت المناسب، وأن يتكلم إذا كان الكلام حسناً، وأن يسكت إذا كان السكوت حسناً.(8/27)
التفريق بين الحق والباطل
السؤال
كيف يمكن التفريق بين الحق والباطل؟
الجواب
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] .
فأولاً: التقوى والخشية من الله تجعل الإنسان يفرق بين الحق والباطل.
وثانياً: العلم، فالعلم نور يفرق به الإنسان بين الحق والباطل.(8/28)
حكم الصور في البيت
السؤال
يوجد لدي بعض الصور في البيت للأهل والبعض للأصدقاء، فهل وجود هذه الصور يسبب لي ذنباً، وهل يمنع دخول الملائكة إلى البيت؟
الجواب
ما دامت هذه الصور ليس لها حاجة في البيت فلا داعي من اقتنائها، بل يجب أن تتخلص منها بإتلافها وإحراقها، وأعتقد أن البيت الذي فيه صور لا حاجة لها لا تدخله الملائكة، مثلاً غرفة توجد بها صور لا تدخلها الملائكة ما دامت هذه الصور ليس لها حاجة؛ بل صورت لذات الصورة.(8/29)
حكم السترة في المكان الخالي من الناس
السؤال
عندما أصلى لوحدي في البيت هل من الضروري وضع سترة أمامي؟
الجواب
السترة سنة عند جماهير العلماء بما في ذلك الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وهذا هو الصحيح -إن شاء الله- الذي عليه جمهور العلماء خلفاً عن سلف، والأدلة على سنيتها كثيرة، وهناك قول ظهر أخيراً أن السترة واجبة, ولعل الإمام الشوكاني من أشهر من قال بهذا القول، وذهب إليه من المعاصرين الشيخ الألباني، ولا أعتقد أن هذا القول صحيح بل فيه بعد، وهناك من الأدلة ما يدل على أن الأمر لا يعدو السنية، ولذلك فعليك أن تضع السترة أمامك حيث صليت إلا أن تكون مأموماً، فالمأموم سترته الإمام، أما إذا صليت بمفردك أو إماماً فعليك أن تضع السترة أمامك لأن هذه السترة سنة عند جماهير أهل العلم وواجبة عند قليل منهم.(8/30)
قسوة الأب على أولاده
السؤال
هذه أم لأطفال، زوجها عصبي جداً جداً، وعصبيته تكون على حساب أطفالي إذا غضب يضربهم ضرب الحمير والمجرمين، وأكبرهم لم يتجاوز الخامسة من عمره مما تكون حياتي مستحيلة معه فيما بعد، انصحه جزاك الله خيراً؟
الجواب
الحقيقة أقدم النصيحة للطرفين النصيحة الأولى: بالنسبة للزوج العصبي: نحن نعرف بأن الإنسان قد يولد هكذا أحياناً، قد يكتسب الناحية العصبية ميراثاً، وقد يتلقاها في البيئة بسبب ظروف مرت به؛ لكن الذي أنصح هذا الأخ العصبي أن يكثر من مراجعة نفسه ومواقفه؛ لأنه لا يوجد شيء يمكن أن يؤثر فيه مثل أن يراجع ما سبق، لأنه سوف يندم عليه، وهذا الندم سوف يجعله بأن يتخذ موقفاً سليماً في المرات القادمة ولا يندفع مع هيجانه وعصبيته إذا انفعل.
الأمر الثاني: أن على هذا الإنسان العصبي أن يحرص بقدر ما يستطيع على تجنب المواقف التي يمكن أن تثير أعصابه بحيث يفقدها، وقد يتصرف تصرفاً غير سليم.
الأمر الثالث: أن هذا الإنسان عندما يشعر بأنه بدأ ينفعل أو بدأ يتأثر عليه أن يحاول تغيير الموقف؛ مثل أن يكون موجوداً في البيت ويحصل أمر يثيره عليه أن يخرج من البيت وأن يتوضأ وينشغل بأمر من الأمور، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الإنسان إذا غضب كما ورد في حديث حسنه بعضهم أن يتوضأ، وإن كان قائماً أن يقعد، وإذا كان قاعداً أن يضطجع وهذا من شأنه أن يطرد الشيطان عن الإنسان، لأن الغضب غليان في قلب ابن آدم وهو من الشيطان لا شك، فيزيله الإنسان بهذه الأشياء، فدعاء الله وذكره، والصلاة والوضوء يخفف الغضب، وكذلك تغيير الحالة التي عليها الإنسان من شأنه أن يجعل الإنسان لا يتصرف تصرفاً بمقتضى هذا الغضب الذي حدث منه.
النصيحة الثانية: ثم على الأخت السائلة أن تدرك أن عليها مسئوليه كبيرة تجاه زوجها وأطفالها وهي أن تحرص؛ لأنها عرفت أن هذه طبيعة الرجل، وحقيقة الطبائع يمكن أن تهذب؛ لكن من الصعب أن تزول، ولذلك لا ييأس أحد ممكن أن يهذب الإنسان العصبي أخلاقه وطبائعه بنسبة كبيرة جداً، ولو لم يتحول من إنسان عصبي إلى إنسان بارد بطبيعة الحال، ولكن على الزوجة أن تدرك أن تحوّل زوجها من إنسان عصبي إلى إنسان آخر في النقيض أمر غير ممكن، وإن كان التهذيب ممكناً -كما ذكرت- وبالتالي عليها أن تعينه على نفسه.
محاولةً إبعاد الأشياء التي تثيره، وأن تتحمل بقدر ما تستطيع من نفسها ومن إعداد أولادها ما لا يثير غضب الزوج، بعض النساء يكون عندها حكمة وقدرة على التغلب على تلك المواقف، وبعض النساء على النقيض من ذلك قد تزيد الطين بلة!! وهناك قضية أخرى: أن المرأة قد تتدخل بين الزوج وبين الأطفال، وهذا قد يؤدي إلى وجود خصام بين الزوج وزوجته وقد يؤدي إلى الطلاق، فمثلاً كون الزوج ضرب أحد الأطفال ضربة لا تضره، لا يؤدي إلى أن المرأة تتدخل والزوج في حالة غليان، وتقول له: أنت فعلت وسويت، وحولت حياتنا إلى جحيم، وربما ينفعل الزوج ويقول: أنت طالق، لا؛ عليها ألا تسلك هذا الأسلوب، عليها أن تأخذ الابن إلى مكان بعيد، ويمكن أن تلاطف الزوج إذا ما استطاعت، أو تتجنب الموضوع بالكلية وهذا يحتاج إلى شيء من الحكمة، وبالحكمة يمكن أن تقتنع الزوجة أن الحياة غير مستحلية بل ممكنة.(8/31)
توجيهات حول القرآن وحفظه
السؤال
ما هي أفضل الأوقات لحفظ كتاب الله، وما نصيحتكم للشباب في تعاهد حفظ كتاب الله وتدبر آياته والعمل به والدعوة إليه؟
الجواب
أفضل الأوقات للحفظ الأسحار، وللكتابة وسط النهار، فعلى الإنسان أن يحرص على حفظ كتاب الله إما في السحر أو بعد صلاة الفجر؛ بحيث يجلس في المسجد بعد صلاة الفجر إلى وقت طلوع الشمس يذكر الله جل وعلا ويقرأ القرآن، فإن كان ثمة حلقات للقرآن الكريم فيستطيع أن يحفظ كتاب الله تعالى معهم، وعليه أن يرتب لنفسه ولو جزءاً يسيراً يحفظه من القرآن الكريم حتى يختم القرآن الكريم مع مراجعة ما سبق حفظه، والحافظ لكتاب الله جل وعلا يجب أن يظهر أثر هذا الحفظ في سلوكه، وعمله، وهديه، وسمته ووقاره وجهده وأخلاقه وغير ذلك.(8/32)
تحصين المرأة من مسلسلات التلفزيون
السؤال
ما هي نصيحتك للمرأة التي ابتليت بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية المحتوية على الاختلاط المحرم والتبرج والسفور، وما هي الوسيلة التي تحصن المسلمات والمسلمين من هذا؟
الجواب
المسلسلات داء انتشرت في البيوت، فتك بكثير من الأسر والعوائل، وأصبحت المرأة المسلمة والرجل والشاب يقضون معظم أوقاتهم أمام الشاشة، سواء في مشاهدة التلفاز أو أفلام الفيديو، وهذه مشكلة خطيرة جداً لأنها أولاً تدل على الفراغ، فالأجيال السابقة من عهد الرسول إلى عهد قريب ما كانوا يحسون بفراغ يدعوهم إلى التفكير في كيف يقضون وقتهم، الآن أصبح معظم الوقت أمام التلفزيون، ربما من وقت صلاة العصر إلى المغرب ومن المغرب إلى ساعة متأخرة من الليل، وهذه ظاهرة خطيرة، ثم ماذا يقدم في هذه الأشياء؟ يشترون ما يضرهم ولا ينفعهم، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، معظم ما يقدم هو السيئة.
والواجب يتركز في عدة أمور: فمن جهة المفروض هو إيجاد بدائل جيدة وحسنة في البيوت أشرطة إسلامية، أو محاضرات، أو دروس أو كتب، أو قصص، ومجلات طيبة، دروس يعقدها القيم على البيت لأهل البيت ويربيهم بها، يمكن أن يستفيد من بعض الوسائل المباحة أيضاً مثل برامج الكمبيوتر وغيرها، توفير أمور يمكن أن تملأ فراغ أهل البيت في ذلك، كما أن من الواجب أن يقوم الصالحون والمصلحون بواجبهم في إنكار منكرات الإعلام من المسلسلات وغيرها، والإنكار يأخذ صوراً عديدة منها: إيجاد البدائل الصالحة أيضاً، ومنها: مخاطبة المسؤولين في هذا الجهاز وغيره في أنه صار كذا وصار كذا وكذا إلى غير ذلك.(8/33)
المجلات الهدامة
السؤال
المجلات التي تهدم أخلاق المسلمات هل يجوز اقتناؤها؟ وما ردكم على السفور التي تنادي بها مجلة سيدتي؟
الجواب
المجلات التي تهدم أخلاق المسلمات تربو على العد والحصر، وأحياناً يذهب الإنسان إلى إحدى المكتبات لغرض، فربما وجدت أن في بعض المكتبات جناح ضخم جداً وتجد زواياه مليء بألوان المجلات من ثمرات جميع بلاد الدنيا، بكافه اللغات والأحجام والألوان، وفي مختلف الموضوعات، ومؤسف بأموالنا تشترى وتكون تخريب لجيوبنا، وقبل ذلك وبعده وأخطر منه تخريباً لعقولنا وأدياننا وأخلاقنا -وهي كثيرة جداً- وهي أيضاً يجب أن يحتسب عليها، يكتب عنها، يحذّر منها، يُنكر على ما يوجد فيها، وينهى الناس عن اقتناء هذه الأشياء التي تضرهم ولا تنفعهم.
أما دعوى السفور، فإن هناك كتباً خاصة في مسألة السفور تحدثت عن وجوب الحجاب، والتزام المسلمة بتغطية بدنها ووجهها أمام الرجال الأجانب، وهي لجماعة من أهل العلم منها كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز وسماحة الشيخ محمد بن عثيمين ومنها كتاب الشيخ أبو الأعلى المودودي له كتاب الحجاب، ومنها كتاب السندي عن الحجاب أيضاً إلى غير ذلك، وكلها ذكرت ما يربو على خمسة عشر دليلاً من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب تغطية المرأة بدنها، ولا يتسع المجال لعرض هذه الأدلة، وقد سقتها جميعاً في كتاب حوار مع الغزالي.(8/34)
الدعوة وطلب العلم
السؤال
عندما ينظر الداعية المبتدئ إلى المجتمع الذي يحيط به لا يراه متمسكاً بتعاليم الإسلام إنما أداء الشعائر من غير علم فكيف يتعامل معه حتى يرده إلى لدين الحق مع العلم بأن كثيراً من الشباب المستقيم لا يطلب العلم؟ فكيف يبدأ مع الناس؟
الجواب
كأن الأخ يشير إلى أن المجتمع الذي من حوله فيه آثار الإسلام من أداء بعض الشعائر؛ لكن ليس فيه حقيقة الالتزام بالإسلام، وهنا تأتي أهمية الدعوة إلى الله عز وجل، لأنك حين تدعو إنساناً غير مسلم -الأمر واضح أماه- أنت تدعوه إلى شيء ليس هو عليه مثلاً: يهودي، أو نصراني، أو ملحد، أو مرتد حين تدعوه إلى الإسلام القضية واضحة أمامه، تدعوه إلى شيء غير الذي هو عليه؛ لكن حين تدعو إنساناً مسلماً إلى الالتزام يخيل إليه بأنك تدعوه إلى أمر هو عليه، وربما ظن أنه هو أفضل منك في هذا الأمر وأعلم ملك، وهذه لا شك أنها معضلة تحتاج إلى شيء من التلطف في دعوة الناس، واختيار الأسلوب المناسب، وكون الداعية لديه علم بحيث يستطيع أن يقيم الحجة على مقابله، وخاصة أن كثيراً من الذين يكونون في مواجهتك، ربما يكونون أكبر منك سناً، إما في السن أو القدر أو المجتمع، أو في الوظيفة وهذا يحتاج إلى مراعاة الأسلوب الأمثل مع هؤلاء.(8/35)
منع الأم من سماع الغناء
السؤال
والدتي تريد أن تسمع الغناء وأنا أمنعها وهي تغضب مني وتتركني وتدعو عليَّ، فهل دعاؤها مقبول؟ وهل ما أفعله صحيح؟
الجواب
دعائها غير مقبول، وما تفعله أنت صحيح، ويجب عليك أن تمتعها من ذلك وتسمعيها كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم في تحريم الغناء، وتعطيها البدائل المناسبة، والمؤمن يستغني بكتاب الله بسماعه وحفظه وقراءته ومدارسته عن هذه الأشياء المحرمة.(8/36)
وسوسة الشيطان للملتزم
السؤال
أنا راغب في الالتزام لكن الشيطان يوسوس لي وأحس بضعف أمامه!؟
الجواب
وسوسة الشيطان هذه هي مهمته التي أخذ على عاتقه أن يقوم بها {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ولكن القضية إحساسك بشيء من الضعف أمامه إنما هو لوجود شيء من الضعف في إيمانك، فعليك أولاً أن تستعين بالله جل وعلا وتلجأ إليه، ثم عليك أن تجاهد لأن الله سبحانه وتعالى وعدك بأنك إذا جاهدت فعلاً أن ينصرك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ثم عليك أن تبحث عمن يعينك على هذا الطريق من الجلساء الصالحين.(8/37)
نصيحة للمشغولين بالخلاف
السؤال
هناك مسائل فرعية -كما ذكرت- أو خلاف بين العلماء، لكن بعض الإخوة يفرض عليها اتباعها، وأيضاً يكثر -أحياناً- الحديث هل هذا حديث ضعيف وهل هذا صحيح، وينكر على البعض؛ خاصة لمن ليس لديه القدرة على التمييز بأن هذا حديث صحيح أم ضعيف ما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
المشكلة ليست فيما يطرحه الإنسان، ولكن المشكلة في الطريقة التي يطرح بها ما لديه، على سبيل المثال: مسألة السنة، يمكن أي إنسان أن يتحدث عن أية سنة؛ لكن ما هي الطريقة التي يتحدث بها عن هذه السنة؟ هنا تأتي المشكلة، فحين يتحدث عنها تأتي مناسبة لها، ويتحدث بأسلوب هادئ، ويذكر أدلتها، ويذكر أقوال أهل العلم، ولا يتحمس ويفرط لهذه السنة حتى كأنها واجب يلام من خالفه أو حتى أنكره إذا كانت المسألة فيها خلاف، لا أحد ينحرف من ذلك، لكن حين يطرح الإنسان قضية السنة بطريقة شديدة، ويرد على مخالفيها ويتحمس لها وربما صارت هي همّه الأكبر، وهي التي تملأ مجلسه، هنا يشعر الناس أنه حوَّل السنة إلى واجب، بل من الناس من يحول السنة -فعلاً- إلى واجب، فهذا لا يصلح.
مثال آخر: قضية الخلاف الذي يقع أحياناً، الخلاف ليس مشكلة؛ لكن يمكن أن أختلف أنا وإياك في سنة من السنن وتقول أنت بها، وأقول أنا: والله ما ثبت أنها سنة، ويبقى الأمر هيناً ولا إشكال، الصحابة اختلفوا في هذا، وهنا تأتي المصيبة حين يتحول الخلاف بيني وبينك إلى مشادة ومشاحنة ومواقف هنا تأتي الخطورة، أو تردّ علي حتى كأنني مرتكب كبيرة أو واقع في غلط عظيم هنا أيضاً تأتي المشكلة.(8/38)
إشكال في قتل ابن آدم وعيشه على الحق
السؤال يقول: أنزل الله القرآن الكريم وفيه قصة آدم عليه السلام، وهي أن أحد أبنائه قتل أخاه وهذا عمل باطل، وأنت قلت في بداية المحاضرة أن الأمة بعد آدم عليه السلام عاشوا على الحق، ماذا في تفسير ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم الذي قلته هو كما ذكرت أحد الأوجه في تفسير الآية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة:213] وقد صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، والذي أفهمه أنا من الموضوع ليس المقصود أن العشرة القرون الأولى كلهم لا يخطئون، بل آدم عليه السلام وقع في الخطأ ثم تاب الله عليه وهدى، ولكن المقصود أن الحق كان ظاهراً ثم بدأ الحق يندرس ويخفى شيئاً فشيئاً حتى احتاج الأمر إلى بعثة الأنبياء يجددون ما اندرس وخفي من أمر الدين.(8/39)
زيارة الدعاة للعصاة
السؤال
من للعصاة الذين في بيوتهم؟ من يذكرهم بالله عزوجل ويدعوهم إليه؟ وهل تنصح الإخوة الملتزمين بأن يزوروا هؤلاء العصاة وينصحونهم؟ وهل ذلك من سنه نبينا صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم، ذلك من سنته عليه الصلاة والسلام كان يغشى ليس العصاة فقط بل الكفار واليهود وغيرهم في أماكنهم ومنازلهم وأسواقهم وبلادهم يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، فالإنسان يجب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ حتى لو رأى صاحب معصية على معصيته وعلم أنه مقيم عليها الآن، فقد يكون من المصلحة أن يذهب إليه أثناء فعل المعصية وينهاه عما يصنع، وهذه أمور قد يقدر فيها الإنسان المصلحة المناسبة.(8/40)
محمد الغزالي
السؤال
سمعنا من مقدم المحاضرة أن لكم كتاب" حوار مع محمد الغزالي"، هل لنا معرفة هذا الحوار باختصار، وما رأيكم عن كتاب السنة النبوية بين الفقه والحديث للشيخ الغزالي؟
الجواب
الكتاب هذا عبارة عن مجموعة من الفصول، الفصل الأول منه: في تحديد المدرسة العقلية التي يتأثر بها الغزالي في أطروحاته الفكرية، والفصل الثاني: عن موقف الغزالي من أحاديث الآحاد، والفصل الثالث: عن موقف الغزالي من قضية القضاء والقدر، والفصل الرابع: عن موقف الغزالي من قضية الشيعة، والخامس: عن موقف الغزالي من قضية المرأة، الفصل السادس: هو عن أدب العلم عند الغزالي بين النظرية والتطبيق، وهو عن موقف الغزالي من العلماء المخالفين له في المنهج وأسلوبه معهم، والفصل الأخير هو بعنوان نظرات في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث وهو فصل طويل، فيمكن للسائل مراجعته إن شاء.(8/41)
دعوة أهل الباطل
السؤال
ما هو السبيل إلى الحق بين أهل الباطل خصوصاً وأن أهل الحق رغم كثرتهم قلة بين أهل الباطل، ولا يملكون الإمكانية الكافية في الدعوة إلى الله جل وعلا؟
الجواب
كثيراً ما نغفل عن قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وهذه الغفلة جعلت عند بعضنا نوعاً من التعجل الذي قد يفّوت الخير الكثير؛ بسبب أن الإنسان يريد أن يتعجل في الوصول إلى النتائج، ويخيل إليه - أحياناً- أنه لا بد أن يصل إلى ما يريد، ليس ضرورياً أن تصل أنت يمكن أن يصل غيرك وإذا لم يصل فسيصل الجيل الذي بعدي، وقضية التعجل -أيضاً- أشرت إليها في محاضرة البارحة.
أما طريقة الدعوة: فادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.
إخوتي الشباب، إخوتي المستمعين: أقول: إن أهم أمر أتمنى أن يوفق الله سبحانه وتعالى الدعاة إليه هو أن يدعو الناس بحسن الخلق، بالتلطف، دخل رجل على أحد الخلفاء العباسيين فأغلظ له بالقول واشتد عليه، وكان هذا الخليفة فقيهاً عالماً، فقال له: قد بعث الله تعالى من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ما أنت خير من موسى ولا أنا شر من فرعون حتى تخاطبني بهذا الأسلوب.
أحياناً بعض الدعاة قد يغلظ على أخ له يوافقه في معظم المسائل؛ لأنه اختلف معه في مسألة من المسائل أو في جزئية من الجزيئات أحدهم يقول: سنة والآخر يقول: لا ليس سنة، مثل جلسة الاستراحة، أو وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع، أو رفع اليدين في تكبيرة الجنازة، أو رص الكعب على الكعب في الصلاة، الأول قال سنة والآخر قال ما ثبتت سنيتها، تجد أنه يمكن أن يصل الأمر بينهم الخصومة والمهاجرات إلى حد غير محمود، وكيف ترتكب محرماً لأجل سنة؟! أليس الذي علمك هذه السنة علمك أيضاً أنه لا يجوز أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث؟ أليس الذي علمك هذه السنة علمك أيضاً أنه: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} حسن الخلق، حسن التلطف، التبسم في وجوه الناس هو أهم ركيزة توجد في الداعية وتضمن له -بإذن الله- النجاح، ولذلك قال عليه الصلاة السلام في الحديث الذي رواه مالك وابن سعد وغيرهما وهو حديث صحيح: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} وفي لفظ: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} وقال الله تعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] كان خلقه القرآن، وكثير من الدعاة اليوم يحتاجون إلى جرعة من حسن الخلق، اللطف، عدم القابلية للاستفزاز.
فلا داعي إلى أن تكون أعصاب الداعية قابلة للاستفزاز في أية لحظة، حتى عندما يستفزك الإنسان بكلمة أو عبارة حاول أن تضبط أعصابك وتتحدث معه بالطريقة المناسبة، لأنه -كما أشار السائل- أن إمكانيات صاحب الحق قليلة بالقياس إلى إمكانيات صاحب الباطل، والإنسان يقدر الموقف الذي هو فيه، والطريقة التي يستطيع أن يصل فيها إلى ما يريد.(8/42)
التركيز على التوحيد في هذه الغفلة
السؤال
ألا ترى أن الناس الآن وهم مصابون بالغفلة والمادية واتباع الشهوات وكثرة الفتن بأن تركز أمور العقيدة والتوحيد والتعمق في ذلك ليكمل بذلك إيمانهم؟
الجواب
الناس أنواع، وكل نوع يحتاج إلى خطاب، عندنا طلاب علم يحتاجون إلى من يعلمهم تفاصيل العلم الشرعي والأصول والفروع وغيرها، وعندنا دعاة يحتاجون إلى من يبصرهم بالدعوة وطرقها وأساليبها ومخاطرها، وعندنا جماهير من الناس تحتاج إلى من يدعوهم إلى الإسلام الصحيح قولاً وعملاً وسلوكاً، وينبههم إلى الأخطاء والمنكرات الموجودة عندهم، وكل هذه الأشياء تحتاج إلى الحديث عنها وتحتاج إلى من يذكر الناس بها.(8/43)
زيارات قبور الأولياء
السؤال يقول: بعض الفئات توجد في مكتباتهم كتب فيها دعوة إلى المزارات، زيارة قبور الأولياء، والدعوة إلى عدم التفرقة بين المسلمين سواء كان رافضياً أو سنياً، وجعلوا هذه الكتب من مناهجهم الأساسية؛ لأن أصحابها ممن يؤيدونهم ومن شيوخهم، أفيدونا؟
الجواب
مسألة زيارة قبور الأولياء مسألة هذه مشكلة بلي المسلمون بها منذ قرون، حيث أقيمت قبور في أماكن عديدة لمن يزعمون أنهم أولياء وصالحون، لا أقول: إنهم أولياء وصالحون بل أصبحت القضية ضحكة? حتى جحا له مزار في تركيا يزار، وتعقد عنده الجلسات، وتقام حوله العبادات، ويعقدون حوله عقود الزواج تبركاً بها إلى غير ذلك.
القضية ليست مقصورة على الأولياء وإن كان الأولياء ممن لا يجوز بناء المعابد على قبورهم، ولا دعاؤهم بل دعاؤهم شرك بالله جل وعلا، ولا يجوز قصد قبورهم للدعاء عندها باعتقاد أن الدعاء عندها مقبول، ولا للصلاة عندها، ولا لغير ذلك، وكذلك مسألة التمييز بين الطوائف المسلمة والطوائف الضالة ضرورة، وفي الحديث الصحيح المتواتر يقول صلى الله عليه وسلم: {وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة} والحديث كما أشرت حديث متواتر، ولا بد أن يبين للناس الحق من الباطل والهدى من الضلال حتى من هذه الطوائف، وكون الإنسان يقرأ كتاباً فيه مثل الأشياء إن كان متعلماً وفقيهاً فينبغي عليه أن يحذر من هذه الأشياء، وإن كان مبتدئاً في العلم فعليه أن يحذر من هذه الأشياء؛ لأنه قد قد لا يستطيع أن يميز الحق فيها من الباطل، ووجود مثل هذه الكتب في مكتبتك في رأيي غير حميد؛ لأنه قد يقرؤها غيرك، وقد تموت أنت فيرثها غيرك، فتبوء بإثم من ضل بسبب هذه الكتب.(8/44)
مناقشة المبتدئ بالهداية
السؤال
ذكرتم أنه لا مانع من المناقشة في سنة جزئية، فهل من المستحسن لمن هو في أول طريق الهدى مناقشة فروع الأمور الجزئية أم البداية بغير ذلك؟
الجواب
المقصود أن يحقق الإنسان ما المدعو لحاجة الله، فلا يمكن أن تعالج الجرح والرأس مقطوع -كما يقول أحد العلماء- من غير المعقول أن تأتي بإنسان ملحد وتحدثه في سنة من السنن أو تأتي بإنسان واقع في ضلال ولا يصلى مطلقاً وتتحدث معه عن مسألة اللحية? لا ابدأ معه بهذه الأشياء المهمة التي هي ضرورة لاعتباره مسلماً، ثم تدرج معه لكن لامانع حين تجد إنساناً مسلماً مصلياً يتردد إلى المسجد ويحب الخير أن تحدثه عن بعض السنن لا على سبيل أنها واجبات يلزم أن يعملها، وينظر إليه بازدراء وانتقاص إذا لم يعملها، كلا! فهذا منهج غير سليم? ولا معنى لعدها سنة حينئذٍ، كأنها صارت واجباً في نفس المعلم? لكن لا مانع أن تحدثه على أن هذه سنة، وإذا كان يطبق أن يعملها فلا مانع من ذلك، وبعد ذلك إذا عملها فهو حسن وإذا لم يعملها فلا حرج عليه، لأن هذا شأن السنة أنه لا يجوز الإنكار على من تركها، ولكن التعليم لا بأس به.(8/45)
اجتماع الخير والشر في الإنسان
السؤال
على أي شيء يكون الإنسان الذي أطاع الله بتوحيده، وأقام الأركان وما يطلبه الإسلام، ولكنه أطاع الشيطان في بعض الأمور، من جهة هوى النفس وشهواتها؟
الجواب
هذا فيه إيمان وفيه نفاق فيه خير وفيه شر، قد ذكرت لكم أنه يمكن أن يوجد حق أو باطل، ويمكن أن يوجد أمر التبس فيه الحق بالباطل، فهذا الإنسان فيه خير وشر، ولا مانع أن يجتمع في الإنسان شعبه في شعب الإيمان أو بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق فيكون موحداً، فيكون أخذ أعلى شعبه وهي لا إله إلا الله، وفي نفس الوقت يكون -مثلاً- كذاباً فيكون أخذ بشعبة من شعب النفاق، فهذا نقول: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، أو نقول: مؤمن ناقص الإيمان.(8/46)
مشاكل في الرفقة والعادة السرية
السؤال يقول: إني أحبك في الله، ومشكلتي أني لا أجد الصحبة الصالحة وإذا استغنيت عنها وتبت إلى الله وسرت في الطريق الصحيح لم يمض علي شهر حتى أعود إلى ضلالي وهكذا، وإني في سن الرشد، أفيدوني ماذا أفعل، وكذلك إني استعمل العادة السرية وما حكم هذه العادة -وكأنه يقول- لا أستطيع التخلص منها، أو كيف أستطيع التخلص منها؟ وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
من البعيد أن الإنسان لا يجد الرفقة الصالحة، لأنني تحدثت من خلال المحاضرة عن الطائفة المنصورة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم من خلال الواقع أنه في كل بلد -لا أقول البلاد الإسلامية- بل حتى في البلاد الكافرة لا تكاد تدخل مدينة إلا وتجد فيها مركزاً ومسجداً وجالية إسلامية، وقوماً صالحين، فيجد الشاب بالبحث رفقه صالحة في المسجد أو في المدرسة ويستطيع أن ينضم إليهم ولا بد من ذلك، لأن الإنسان لا قوام له إلا بهؤلاء القوم الذين يعينونه على الخير، ويذكرونه ويحثونه عليه، وينهونه عن الشر؛ فإنه إذا انفرد تخلى وتخلى عنهم انفرد به الشيطان، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: {إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم} .
أما سبب ضلال هذا الإنسان ورجوعه إلى الحور بعد الكور -أي: الضلال بعد الهدى- فإن السبب يرجع -والله تعالى أعلم- إلى أحد عوامل: فإما أن يكون هذا الإنسان له أصدقاء يزينون له الباطل، ولذلك قد يتوب ثم يغرونه بالباطل فيعود إليه مرة أخرى، أو أن يكون هذا الإنسان مقيماً على أسباب تحثه على الرذيلة مثل أن يشاهد التلفاز وما فيه من مسلسلات رديئة، أو فيديو، أو صور النساء في المجلات، أو يسمع الغناء أو يخرج إلى الأسواق وغيرها من المجالات التي تثير في الإنسان دوافع الغريزة والشهوة، فعليه: أن يمنع نفسه عن هذه المجالات وكما قيل: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ فأول خطوات الوقوع في الرذيلة هو النظر إلى هذه الأشياء أو استماعها، وبالتالي تبدأ سلسة الخطوات حتى يصل الإنسان إلى الوقوع في الحرام، وعلى الإنسان أن يقي نفسه من الذهاب إلى هذه المواطن، أو مشاهده الأشياء السيئة، ويختار لنفسه الرفقة الصالحة، ويكثر من دعاء الله جل وعلا.
أما مسألة العادة السرية: فلاشك في تحريمها، والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] فما عدا ذلك فهو محرم يلام الإنسان على الوقوع فيه.
كيفيه التخلص منها هناك أسباب كثيرة: منها ما ذكرت قبل قليل، ومنها إشغال النفس بالقراءة، واليوم للقراءة أهمية أساسية، واليوم الشباب لديه عزوف عن القراءة، القراءة الشرعية، القراءة العلمية المفيدة، القراءة الأدبية المفيدة، القراءة التاريخية، يشغل نفسه بالقراءة، يشغل نفسه وجسمه بالأمور المفيدة من عمل، أو حركة، أو رياضة مباحة، أو ما أشبه ذلك، كما أن من الوسائل ألا يكثر الإنسان من التفكير في هذه القضايا، وألا يأوي إلى فراشه إلا عندما يشعر بالحاجة إلى النوم، وإذا أوى إلى الفراش فإنه يعمل بالسُنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم من النوم على الجانب الأيمن، وقراءة الأدعية الواردة، وذكر الله حتى تغلبه عينه، ويحرص على ألا يكون بمفرده، وإذا شعر أن الشيطان بدأ يتسلل إليه فعليه أن يخرج ويختلط بالناس وخاصة الطيبين الصالحين، أو يشتغل بأي عمل.
وأؤكد مرة أخرى ما قلته قبل قليل: حين يستزلك الشيطان فتقع في المعصية، تب إلى الله، فإذا استزلك مرة أخرى فتقع تب إلى الله، يستزلك للمرة المائة فتقع تب إلى الله، لا تقل أنا والله تسعة وتسعين مرة وقعت، التوبة تجب ما قبلها، وهذا لا يعني التلاعب؛ لكن تب توبة صحيحة، توبة ندم وإقلاع وعزيمة على ألا تعود، فيمكن أن يقبض الله روحك وأنت على هذه الحالة الطيبة، ولو فرض أنك وقعت أيضاً تب إلى الله، وإياك أن يأتيك الشيطان، فيقول: أنت إنسان لا خير فيك، وربما تستسلم لهذا الأمر فهذا من أخطر المداخل للشيطان.(8/47)
اختلاف الجماعات وعدم التنبيه على الأخطاء
السؤال يقول: بعض إخواننا في الله ينفرونا من بعض إخوانهم؛ لأنهم ليسوا ينهجون مسارهم مع العلم أنه يوجد عليهم بعض الأمور التي تخالف الكتاب والسنة ولا يريدون من يذكرها لهم؟
الجواب
أولاً: تحدثت البارحة في محاضرة (الصحوة الإسلامية بشائر ومحاذير) عن قضية الاختلاف، ولا أريد أن أعيد ما قلته، فبإمكان الأخ السائل أن يسمع ما ذكرته من ملاحظات حول هذه النقطة؛ لكنني أشير الآن إلى مسألة من يوجد عندهم أخطاء لا يريدون من يذكرها لهم، لماذا؟ لا شك أن الشيطان مسلطاً على ابن آدم، لكن هناك سبب قد يوجد، وهو أن بعض المصلحين الذين يحاولون التنبيه على بعض الأخطاء قد يستفزون الإنسان، ويستثيرون عناده وغضبة وعناده بالطريقة التي يأمرونه بها، فمثلاً أنا عندما أرى عليك خطأ، وآتيك وأقول لك: يا أخي! الله يهديك أنت وأصحابك فيكم كذا وفيكم كذا وفيكم كذا، يا أخي: لماذا وأنتم دعاة وتدعون أنكم صالحون؟! هنا كأنني أقول لك: إياك أن تسمع مني، إياك أن تتقبل مني ما أريد، كأني استثير عوامل التحدي والخصومة والعناد لي، وهذا ليس أسلوباً، حين تريد أن تنبه إنسان على خطأ موجود لديه تسلل إلى قلبه بطريقة هادئة، ابحث عن حيلة توصل هذا الخير بقدر ما تستطيع، لأنه ليس قصدك أن تتسلط على الناس أو يظهر أن الحق معك والباطل معهم، أو أن عندك وليس ما عندهم، هذه الأمور كلها مستبعدة، أنت قصدك أن يهتدي الناس إلى الطريق المستقيم، وأن يزول الخطأ فبأي طريقة زال الخطأ، فالحمد لله فهذه مسألة مهمة جداً.
وبالمقابل الإنسان الذي يوجد عنده خطأ عليه أن يخاف الله جل وعلا، يا إخواني! الواجب علينا أن نراجع أنفسنا، يا إخواني! والله إن المسألة أمانة ومسؤولية، الدين أمانة، والدعوة إلى الله عز وجل أمانة، ومن غير المعقول أن أصر على أموري، أو على آرائي، كل واحدٍ منا يخطئ، ومراجعة الإنسان لنفسه من الكمال وليست من العيب، كون الإنسان يراجع الأمور التي هو عليها، الآراء، السلوكيات، بعض الأخطاء، ويكتشف أنه فعلاً تصرف تصرفاً غير مناسب، وقلت كلمة غير مناسبة، وتبنيت أنا غير مناسب والله إن هذا من الكمال، ولهذا تجد الرجال الذين عندهم ثقة بأنفسهم لا يستحي الواحد منهم أن يقول: أنا أخطأت في المسألة الفلانية، وأرجع عنها، بل بعضهم كانوا يرسلون الناس يصوتون في الأسواق، أن العالم الفلاني رجع عن هذا القول، لكن إنسان عنده ضعف وعدم ثقة بنفسه يعتبر أن اعترافه بالخطأ أو رجوعه عنه يعني تنقصه، فينبغي للمؤمن أن يكون هنياً بأيدي إخوانه، فحين ينهى إلى خطأ لا يستحضر في ذهنه أن الطرف الآخر يتحدث وأنت تعد العدة حتى تستغل سكوته لترد عليه، انظر! ليس بالضرورة أن يكون معه الصواب (100%) يمكن أن يكون معه (10%) أو أقل أو أكثر، خذ هذه (10%) وتقبلها، فإذا تقبلت (10%) لا مانع أنك ترد (90%) حينئذ، لأنه يمكن أن يتقبلها، لكن حين ترد كل ما قال قد يقول: هذا الإنسان إنسان معاند ومصر وعنده أشياء ما عنده استعداد التخلي عنها.(8/48)
مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
لقد سبق أن سمعنا لك دروساً خاصة بموضوع إنكار المنكر، ولنا بعض الاستفسارات، كما لا يخفى على أحد أن المجتمعات النسائية في عصرنا الحاضر مليئة بالمنكرات واللغو، وما إلى ذلك من الأمور المضيعة للوقت، والتي لا تتناسب مع ديننا الحنيف، وبالتالي فالدعوة في هذه المجتمعات تحتاج إلى جهد وعلم كبير، والسؤال هو: هل ينبغي للمرأة المسلمة التي تدعو في تلك المجتمعات أن تخالط نساء هذا المجتمع لكسب قلوبهن، وبالتالي يمكن أن يتقبلن منها أية دعوة، هذه مصلحة للدعوة ولكن يترتب عليها مفسدة؛ وهي أنها ستضطر أن تسكت أمام بعض المنكرات التي تراها في سبيل التدرج في الدعوة، فأرشدونا -جزاكم الله خيراً- إلى الطريق الصحيح للدعوة في تلك المجتمعات؟
الجواب
نعم، كما ذكرت الأخت السائلة أو الأخ السائل، سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع أكثر من مرة، وعلى كل حال فمراعاة تحقيق المصلحة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوبة، ومن ذلك أنك لو رأيت إنساناً عنده مجموعة من المنكرات قد لا يكون من المناسب أن تبينها له دفعه واحدة، لأن معنى ذلك أن الإنسان لن يتقبل منك، وسيقول لك: معنى ذلك أنني تحولت إلى مجموعة من الأخطاء والرذائل، فقد يكون هذا مدعاة إلى ألا يقبل منك شيئاً، ولذا فالتدرج مطلوب، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقه تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} .
فعلم بذلك أن التدرج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب، فلو رأيت عند إنسان مجموعة من العيوب فعليك أن تتدرج معه في الأمر، وتبدأ بالأهم منها على ألا تهمل الآخر، بل تنتظر الفرصة المناسبة لنهيه عن هذا المنكر أو لأمره بذلك المعروف الذي قصر فيه، كما أنه لا بد من التلطف في أمره.
فمثلاً: لو كنت تستطيع أن تقيم علاقة مع هذا الإنسان بحيث توجد هناك مودة بينك وبينه ثم تبدأ معه كان هذا أفضل؛ لكن قد تجد إنساناً فتقول: والله قد لا ألقاه يوماً من الأيام وليس لي به هذه العلاقة، وترى أنه من المناسبة أنك تبلغه فتتحدث معه في أهم شيء تراه عليه، ولو تركت ما سوى ذلك مراعاة للمصلحة، والله سبحانه وتعالى أعلم بما في قلبك من أنك منكر له.(8/49)
المنهج القويم لطلب العلم
السؤال
لا شك أن طلب العلم ضرورة شرعية يحتاجه كل مسلم ومسلمة فالرجاء أن يوضح الشيخ المنهج القويم الذي يجب أن تسلكه المرأة المسلمة في طلب العلم في بيتها ومع أخواتها؟
الجواب
نعم.
{طلب العلم فريضة على كل مسلم} كما ورد في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود على كل مسلم ومسلمة فكلمه "مسلم" تشمل الرجل والمرأة، فالعلم منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية، ففرض العين مثل العقيدة الصحيحة فيما يتعلق بتوحيد الروبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات وأركان الإيمان؛ لا بد من معرفة العقيدة الصحيحة على كل مسلم، ومن فروض العين معرفة الأحكام المتعلقة بالإنسان مثل أحكام الطهارة، والوضوء، والغسل، والصلاة، وما يتعلق بها إلى غير ذلك مما يحتاجه الإنسان في أموره الخاصة، وفروض الكفاية ما يحتاج الإنسان أن يعلمه إلى غيرما تحتاجه الأمة على سبيل الإجماع، فالمرآة المسلمة مطالبة بأن تتعلم فروض العين بلا شك وبلا استثناء، أما فروض الكفايات فينبغي للمرأة أن تحرص على تعلمها لتفقه غيرها من النساء، وفي مجال التعلم هناك وسائل كثيرة لكني أقتصر الإشارة إلى أسلوب واحد أعتبر أنه من المهم التنبيه عليه وهو: أنه من الخطأ أن يتفقه الإنسان ذكراً كان أو أنثى بمفرده، وقد تحدث بذلك أهل العلم وأطالوا، وقيل: (من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه) فالإنسان الذي يتفقه على الكتاب فقط غالباً ما يقع في أخطاء، لأنه قد لا يفقه حقيقة ما يقال، وقد يفهم الكلمة على فهم وحقيقتها على أمر آخر.
وكم رأينا في كتب بعض الناس من تعبيرات وأقوال وتفسيرات ليست صحيحه، وما قال بها أحد غيرهم، وإنما فهموها من كلام بعض أهل العلم نظراً لأنهم اعتمدوا على أنفسهم في الفهم، ولم يضموا هذا الكلام إلى غيره من الأقوال الأخرى فوقعوا في الخطأ، ولذلك فيجب على الإنسان ألا ينفرد بنفسه في التعلم بل يتعلم مع غيره، فإن أمكن أن يوجد -مثلاً- مع الأخت المسلمة مجموعة من الأخوات تلتقي معهن في تعلم الكتاب والسنة كان هذا حسناً، ومع ذلك فهذا لا يكفي؛ بل ينبغي أن يكون مرجع هؤلاء الأخوات في التعلم إلى العلماء المعتبرين الذين يشار إليهم بالبنان من علماء أهل السنة والجماعة بحيث تراجعهم تلك الأخوات فيما يشكل عليهن، وإذا كتبت إحداهن -مثلاً- بحثاً في مسألة ترسله إلى أحد العلماء والمشايخ ليراجعه ويصححه ويبين ما فيه من أخطاء حتى يكون التعلم مضبوطاً ويسلم من الشذوذ الذي يمكن أن يقع.
في كثير من البلاد نظراً لغياب العلماء وكون الشباب ذكوراً وإناثاً يتتلمذون على أنفسهم وعلى الكتب فحسب، يوجد أخطاء كبيرة جداً، أخطاء حتى في العقيدة، وأخطاء في الأحكام، وآراء شاذة، وترجيح أشياء مرجوحة، السبب هو الفوضى العلمية الموجودة، وعدم وجود قيادات علمية يلتف حولها الناس، هذه البلاد -ولله الحمد- قيّض الله لها، علماء كباراً وبصورة لا أعتقد أنه يوجد مثلها في أي مكان آخر، فمن واجبنا حين نتعلم أو نتفقه في قضايا الدين ألا نتعلم ونتفقه بمعزل عن هؤلاء العلماء، هناك أشرطه للعلماء مفيدة جداً للتفقه؛ لأن المرأة حينما تستمع لهذه الأشرطة فكأنما تسمع للشيخ مباشرة، وتستطيع أن تستفسر عن طريق الهاتف عما أشكل عليها ليستبين لها الطريق.(8/50)
ولكن كونوا ربانيين
لا قيمة للعالم -فضلاً عن طالب العلم أو الداعية- إلا بمقدار ما يؤثر ذلك العلم على عبادته وسلوكه وتصرفاته، فكم من عالم باع دينه لغرض من الدنيا، وكم من عالم قدم صورة مشوهة للعلم وللدين بتذلله للحكام والأمراء وأصحاب الأموال، وكم من عالم زلت به قدمه إذ لم يكن مخلصاً، وكم من عالم حرم الناس من علمه باعتزالهم والإعراض عن تعليمهم ودعوتهم والعالم المتخلص من كل تلك الصفات هو العالم الرباني الذي حقق مقصود الشارع من إيجاد العلماء.(9/1)
من هم الربانيون
الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، فله الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأصلي وأسلم صلاة وتسليماً دائمين إلى يوم الدين على نبيه ومصطفاه من خلقه نبينا محمد، النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، حمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فصلى الله عليه وسلم.
ما ترك خيراً يدل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه وأمرنا به، ولا شراً إلا بينه وحذَّرنا منه، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جزي نبياً عن أمته، فقد أبلى فينا البلاء الحسن، وسهر ليله، وتعب نهاره، وشاب شعره، وأنهك جسمه، ولقي الأمرين من أجل أن يصلنا الدين نقياً مصفى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] .
أما بعد: فأشكر لكم جميعاً يا أهل الأسياح بكل مدنها وقراها، أشكر لكم عظيم حرصكم على حضوري، حيث كان أعداد منكم من الشباب وغيرهم يتوافدون إلى مسجدي يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، يلحون في الحضور، وكنت أشعر بإحراج شديد لتأخري في تلبية هذه الدعوة، إذ أعلم أنه ما دفعهم لذلك إلا حسن الظن بي، وإن كنت أعلم يقيناً أيضاً أنه حسن ظن في غير مكانه، لكن لا أريد أن تضيع الأوقات في مثل هذا، ولذلك أستغفر الله مما قاله أخي المقدم فقد أسرف فيما ذكر، وأسأل الله أن يعفو عنه وعني وعنكم أجمعين ما زلت به ألسنتنا، إنه على كل شئ قدير.
وهذه الليلة هي ليلة الثلاثاء، السادس من شهر صفر، من سنة 1413 للهجرة، وعنوان هذه الجلسة جزء من آية من كتاب الله عز وجل من سورة آل عمران: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباًأَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون} [آل عمران:79-80] .
من مصائب الأمة أيها الأحبة: الجهل: وطالما تمرغت الأمة في ظلمات الجهل بعيدة عن هدى ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يقل عن الجهل مصيبة العلم المؤسس على غير هدى ولا كتاب منير، فنحن لابد أن نحارب الجهل، ولكن -أيضاً- لابد أن يكون العلم الذي ندعو إليه مؤسساً على الأصول الشرعية الصحيحة، علماً مقرباً إلى الله عز وجل.
وطالما رأت الأمة شباباً، كما وصفهم أحد الإخوة لي في رسالة بعث بها، يقول: إن بعض الشباب في بلاد إسلامية؛ كان أحدهم إذا استيقظ في آخر الليل يدير مؤشر الراديو قبل أن يفتح الصنبور ليتوضأ لصلاة الفجر، فلا شك أن مراجعة المسيرة، وتصحيح الخطأ، والدعوة إلى التوازن من أهم المقاصد التي يحرص عليها الصالحون والمصلحون.
إننا نعلم أن الجاهل قد يقبل التعليم، فإذا كان جاهلاً جهلاً بسيطاً لا يعرف متى وقعت -مثلاً- معركة بدر، فقلت له: وقعت معركة بدر -مثلاً- سنة اثنين من الهجرة حفظها، لكن لو كان سمع طفولته أن معركة بدر وقعت سنة ست من الهجرة، كان من الصعب تعديل هذا العلم الخاطئ الموجود، لأن الموجود لديه جهل مركب.
إذاً فالجاهل قد يتعلم، لكن الذي يرى نفسه عالماً قد يكون من الصعب أن يقبل من غيره.
هذه الآية الكريمة فيها الحديث عن صنف من العلماء وصفهم الله عز وجل بأنهم (ربانيون) ومعنى الآية: أن الله تعالى نفى أن يكون لبشر من البشر -النبي أو الرسول- أن الله تعالى يمنحه الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقوم هذا النبي ليقول للناس: كونوا عبيداً لي، فالنبي لا يدعو الناس إلى عبادته هو، وإنما يدعوهم إلى الله، فيقول للناس: كونوا ربانيين، لا يأمرهم بغير ذلك، فلا يأمرهم بعبادة نفسه، ولا يأمرهم أيضاً بأن يتخذوا الملائكة والنبيين الآخرين أرباباً من دون الله عز وجل، وكيف يأمرهم بالكفر وهو إنما جاء وبعث بالإسلام؟ ربانيون: منسوبون إلى الرب، وقد ذكر ابن الأنباري هذا عن النحويين، وهو على كل حال نسبة على غير قياس، كما يقال: شعراني.
ربانيون: وصلوا إلى الدرجة العليا والمقام الأعلى في العلم والتربية، إذاً فالربانية لا تطلق على الإنسان المبتدئ في العلم الذي حضر لتوه مجالس الذكر والتعليم، لا، وإن كانت البوادر قد تظهر عليه منذ صغره: في تقواه، وورعه، وتحريه عن الحرام، وحرصه على العمل؛ لكن إنما يوصف بالربانية العالم الراسخ في علمه كالأئمة الأربعة -مثلاً- والمجددين عبر العصور فإنهم يطلق عليهم أنهم ربانيون.
ربانيون: أي حكماء، علماء، حلماء كما ذكره ابن كثير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه.
ربانيون: أي فقهاء كما ذكره ابن كثير وغيره أيضاً عن الحسن البصري وغير واحد من السلف.
ربانيون: أي أهل عبادة وتقوى؛ كما هو قول الحسن أيضاً.
وهؤلاء توفرت فيهم صفات:(9/2)
من صفات الربانيين العلم
الصفة الأولى: العلم: (تَعَلَمُونَ) هكذا قرأها جمهور القراء (تَعَلَمُونَ) .
إذاً هم علماء وهذه من أخص صفاتهم: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] إذاً هم أساتذة، وشيوخ، وفقهاء، ومفتون أقبلوا على علم الشريعة، علم الكتاب والسنة فرفعهم الله تعالى به.(9/3)
منزلة أهل العلم
قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فقرن أولي العلم مع ملائكته وأشهدهم على ذلك مع ذاته المقدسة فدل على رفعة قدرهم.
وقال عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول وقبل العمل (فاعلم) هم علماء والعلم حياة، ولهذا قال الشاعر: أخو العلم حيٌ خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى يظن من الأحياء وهو عديم وقال آخر: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور فهم أموت غير أحياء بجهلهم، ولو كانت أسمائهم على كل لسان، فأنت اليوم -مثلاً- لو سألناك عن أعظم عالم في القرن السابع وأوائل الثامن، لقلت: شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فأصبح يعرفه الكبير والصغير، لكن لو سألناك -مثلاً- من هم تجار ذلك القرن؟ هل تعرفهم؟ لا تعرفهم ومن هم حتى قواد الجيش في هذا القرن؟ قد لا تعرفهم، ومن هم أصحاب السلطة والجاه في هذا القرن بأسمائهم؟ قد لا تعرفهم.
لكن ابن تيمية من الذي لا يعرفه؟! كلما تقدم الزمن زادت شهرته ومكانته؟ حتى إن مكانته اليوم -وأجزم بهذا- عند المسلمين أعظم بكثير من مكانته يوم كان حياً يتحرك بينهم، ففي ذلك الوقت خصومه كثير، ضايقوه، وحاربوه، وأحرقوا كتبه، وكادوا له حتى وقع في غياهب السجون، ومنعت فتاواه زماناً، بل حاولوا أن يضربوه في بعض المناسبات، لكن اليوم أبى الله عز وجل إلا أن يظهر حقه على باطلهم فماتوا وبقي ابن تيمية حياً: يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا(9/4)
الجهل وخطره على الإنسان
ملايين من الناس اليوم في الوظائف، والأسماء، والتجارات، والأعمال لا يعرفهم أحد، ولا يحزن عليهم إن ماتوا أحد، والغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة لا يختاره إلا القليل؛ لأن أمام طلبه عقبات وعقبات تنقصم لها الظهور، وتنكسر لها الأعناق، والعجيب -أيضاً- أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير أو يظنونه فيه من قول أو فعل، فهم يلومونه، يقولون: العالم الفلاني -غفر الله له- عنده أرض في المكان الفلاني، والعالم الفلاني سمع المنكر ولا غيَّره، ومرة من المرات فعل كذا، أغلظ في القول لرجل عنده.
فيعدون عليه أخطاءً فعلها، يظنونها أخطاءً وهي قد لا تكون خطأً، وقد تكون من خطأ البشر، فنقول لهم: نوافقكم على ذلك، هبوا أن ما تقولونه على هذا العالم -الذي هو فعلاً عالم- هبوا أنه صحيح، وأنه أخطأ: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه هذا العالم عددتم له أخطاءً خمسة أو عشرة، لكن أنا وأنت وفلان وعلان من يحصي أخطاءنا.
وقف رجل يوماً على المنبر فتكلم، فقام له أحد الحضور وسأله سؤالاً، فقال: لا أدري، قال: تصعد المنبر وأنت لا تدري، قال: إنما علوت بقدر علمي، أنا علوت ثلاث درجات على المنبر أو درجتين بقدر علمي.
ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء.
أقول: يعتبون على العالم في خمسة أخطاء أو عشرة يظنونها أخطاءً وقع فيها هذا العالم، ولكن ينسون هم -وأنا وأنتم- ننسى أننا ملومون على مسألة أكبر، وهي لماذا كان هذا عالماً، ولم نكن نحن علماءً؟ لماذا تركنا نحن التعلم والتعليم؟ نعم بعضنا معذور قد يكون إنساناً لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء، والفهم، والفطنة، وقد يكون بعضنا لم يتيسر له أسباب تحصيل العلم، وقد يكون بعضنا في بلاد بعيدة ونائية لم يستطع أن يتعلم، دعك من هؤلاء كلهم، لكن كثيرون تمكنوا وعندهم عقل، وذكاء، وفطنة، وحفظ، والأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة، ومع ذلك لم يتعلموا.
أحياناً يخطر في ذهني
السؤال
العلماء المشاهير، أين زملاؤهم؟ ابن باز -مثلاً- أين زملاؤه الذين كانوا على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم؟ الشيخ ناصر الدين الألباني، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن عثيمين، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن جبرين أين زملاؤه؟ ومثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها وعرضها.
هذا العالم كان في يوم من الأيام طالباً في حلقة على الأقل له عشرون زميلاً في الحلقة، أين هم؟ أكثرهم تأخروا عن الركب وبقي هو وحيداً في الساحة لأنه أصر على طلب العلم، وأصر على المواصلة، أما هم فكثير منهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس لا يتميزون بشيء، إلا أن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجلس، وقال: أنا من زملاء فلان، حسناً إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله؟! ولم تعمل عمله؟! هو تلَّقى من العلم مثلما تلقيت، فلماذا ظهر هو وخفيت أنت؟ ونفع هو ولم تنفع أنت.
ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه، فإن كان صاحب علم وعمل تركه، وإلا عاتبه الشافعي عتاباً مراً، وقال له: لا جزاك الله خيراً، والشافعي رجل مؤدب، ولكنه يحترق قلبه فيغلظ في العتاب، والعتاب يزيل الوحشة بين الأحباب، لا جزاك الله خيراً، لا عن نفسك، ولا عن الإسلام، ضيعت نفسك، وضيعت الإسلام هكذا يقول الشافعي.
كان من الممكن أن تصبح عالماً يشار اليه بالبنان، ويرفع الله به الجهل عن أمة من الناس، ولكن لم يكن هذا بتقصير، والغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير؛ بل زدت على ذلك أن توجه سهام اللوم والعتب إلى من قطعوا هذا المشوار الذي عجزت أنت عن قطعه.
إذاً لابد من الدعوة إلى العلم، فالعلم خير كله، حتى الكلاب المعلمة فضلها الله عز وجل: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غير المعلم، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى واختاره واصطفاه؟! قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .
إذاً الميزة الأولى للعالم الحق الرباني أو للإنسان الرباني: العلم.(9/5)
من صفات الربانيين الاتباع
الميزة الثانية: هي الاتباع فليس هذا العلم الذي يتعلمه هو قال: فلان، وقال: علان، لا، وإنما هو علم الكتاب؛ ولهذا قال في الآية: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] الكتاب المنزل من الله تعالى على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.(9/6)
ترك نصوص الكتاب والسنة والانشغال بالآراء
إن الفقه حقاً هو القرآن والسنة وفهم معانيهما، وأما أقوال الرجال، قال فلان، وقال علان، فلا تعدو أن تكون تفسيراً للقرآن أو تفسيراً للحديث، ولا ينبغي أن يشتغل الإنسان بها إلا بقدر ما تكون بياناً لهذا أو لذاك، ولهذا لما تشاغل الناس بأقوال الرجال ظهر مصطلح أهل الفقه وأهل الحديث وتميزا، والواقع أن الفقه والحديث شيء واحد، ما الفقه إلا علم القرآن والسنة حفظاً، وفهماً، وعلماً، وعملاً.
ولذلك أنكر الأئمة كـ ابن الجوزي والخطابي وغيرهما التفريق بين أهل الفقه وأهل الحديث، بل الفقه والحديث شيء واحد، ولهذا -أيضاً- لم يعتبر العلماء أن المقلد تقليداً محضاً أنه عالم، الذي يقلد فلاناً وفلاناً هذا ليس بعالم، حتى قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن المقلد لا يعد من العلماء، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: العلم هو المعرفة الحاصلة من الدليل، والدليل: آية أو حديث أو إجماع، فهذا هو العلم، أما كونك سمعت فلاناً يفتي بكذا، وسمعت فلاناً يقول كذا، فهذا لا يعد علماً، وإنما هو تقليد قد يُعذر به الجاهل الذي لا يستطيع إلا التقليد فقط، أما طالب العلم فلا.(9/7)
معنى الاتباع
إذاً فالمقصود بالعلم هو: العلم الشرعي المنبثق من الوحي، (من الوحيين الكتاب والسنة) {ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح، (القرآن والسنة) فالعلم إما آية محكمة، أو حديث صحيح، أو إجماع قائم قال الشاعر: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه وقال غيره: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان يقول الإمام ابن رجب -رحمة الله تعالى عليه-: العلم النافع من هذه العلوم كلها -لأن العلوم اليوم كثيرة عند الناس فيحتار الإنسان- ماذا أتعلم؟ وبماذا أبدأ؟ نقول: عليك بعلم الكتاب وعلم السنة، يقول ابن رجب: العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور.
كلام قصير يغني عن كثير، ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور، لا تأتِ لنا بمعنى لم تسبق إليه، لا تقل في مسألة ليس لك فيها إمام كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وحين نقول: الكتاب والسنة فهما يشهد بعضهما البعض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان شارحاً ومفسراً للقرآن بقوله وفعله، فأما بقوله؛ فإن السنة تبين القرآن، وتُفصِّل مجمله، وتوضح معانيه.
وأما بقوله: فقد سئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت للسائل: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} فأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت تفسيراً للقرآن، ولهذا وصفه بعضهم بأنه كان قرآناً يدب على وجه الأرض، وهذه الكلمة وإن كان فيها تسامح ومجاز إلا أنها تعبير دقيق وجيد عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عليه الصلاة والسلام.(9/8)
من صفات الربانيين الإخلاص
الصفة الثالثة لهؤلاء الربانيين: الإخلاص والنية، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات} ويقول أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه عن ابن عباس وغيره: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} ؛ فيعبد الله تعالى بالنية الصالحة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]-بنيته وقصده- {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15-16] .
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] يقول الزهري وهو من خيار التابعين: [[ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من العلم]] .
إذاً وأنت تتناول العلم حفظاً، أو دراسةً، أو تأليفاً، أو تعليماً فأنت تعبد الله بهذا، ويقول سفيان الثوري: [[لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم؛ لأن العالم هو وريث النبي، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم]] .
جاء أبو هريرة رضي الله عنه إلى أهل السوق وهم يتبايعون ويتشاورون، فقال: [[أنتم ها هنا وميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد، فتركوا بضائعهم، وذهبوا يركضون إلى المسجد فدخلوا فما وجدوا إلا حلقة هنا تعلم التفسير، وحلقة تعلم الحديث، وحلقة هنا وحلقة هناك، فرجعوا، وقالوا: يا أبا هريرة -غفر الله لك- ما رأينا شيئاً، قال: ذهبتم؟ قالوا: نعم، قال: فماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يعلمون القرآن، وقوماً يعلمون التفسير، وقوماً يعلمون الحديث، قال: وهل ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا؟]] .
ويقول ابن وهب وهو من تلاميذ الإمام مالك قال: كنت عند مالك وقد نشر كتبه يقرأ، ويعلم، ويبين، قال: فأذن المؤذن فذهبت أجمع هذه الكتب من أجل أن يذهب بها، فقال الإمام مالك على رسلك -ترفق- ليس الذي تقوم إليه -من التنفل قبل الفريضة- بأفضل من الذي تقوم عنه من العلم إذا صحت النية.
إذاً فالعلم عبادة، ولابد لطالب العلم وهو يتناول العلم من أن يشعر أنه يتعبد الله تعالى ويتقرب إليه بالتعرف على حكمه في المسائل، والتعرف إليه جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتعرف إلى أنبيائه بمعرفتهم ومعرفة حقوقهم، وما أشبه ذلك من ألوان العلم وصنوفه.
وهذا الوصف، وصف الإخلاص والنية هو من أخص معاني الربانية: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] أي: إرادة وجه الرب تبارك وتعالى فيما يأخذ الإنسان ويدع، وبها يبارك الله تعالى في العلم، وبها يُثمر العلم وينفع، فأنت تجد أن الذين نفع الله تعالى بعلمهم ليسوا بالضرورة هم أذكى الناس، لا، ولا أكبر الناس عقولاً، ولا أكثر الناس علماً أيضاً، ولكن بارك الله في علمهم، ونفع الله به؛ لأنه كان فيه الإخلاص، فكان يخلط مع علمه شيئاً من الإخلاص، وهناك علم غزير ولكن بلا روح، ولا إيمان، ولا إخلاص، ولذلك لم يبارك الله تعالى فيه فقل المنتفعون به.(9/9)
من صفات الربانيين السمت والوقار
الصفة الرابعة: خلق العلم وأدبه: بالسمت والوقار غير المتكلف، والقدوة في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان أعظم العلماء على الإطلاق، ومع ذلك إذا وجدت هديه، وأدبه، ومعاملته للناس تجد أمراً يعجز عنه الآخرون، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام التي ميزه الله بها، ففي مجال العلم هو البحر لا يدرك ساحله، لكن -أيضاً- تأتي إليه عليه الصلاة والسلام فتجده متواضعاً مع أصحابه، يمازحهم، ويضاحكهم، ويأخذ معهم حتى ربما تكلموا في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم عليه الصلاة والسلام.
إنما كان له من الهيبة والوقار في نفوسهم شيء عظيم، حتى إنه سها يوماً من الأيام في صلاة، كما في الصحيحين وسلم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين فلم يجرؤوا على أن يقولوا له: سهوت يا رسول الله، حتى أبو بكر وعمر أخص أصحابه هابا أن يكلماه، حتى قام رجل اسمه الخرباق، يقال له ذو اليدين فقال: {يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لا، ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وصلى ركعتين وسلم، ثم سجد للسهو ثم سلم عليه الصلاة والسلام} .(9/10)
من صفات الربانيين مخالطة الناس
من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الربانيون مخالطة الناس بالحسنى، والتخلق معهم بالخلق الفاضل، لقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] تعلمون من؟ تعلمون الناس، وكيف تعلمونهم وأنتم في أبراجكم العاجية؟! وكيف تعلمونهم وأنتم في مكتباتكم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم تغلقون أبوابكم في وجوههم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم معتزلون منعزلون عنهم؟ هذا لا يكون.
إذاً لابد من مخالطة الناس، وفي حديث وهو صحيح عند أصحاب السنن عن ابن عمر أو غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} .
إذاً: لابد من مخالطة الناس، مخالطة فيه الاقتصاد، يعطيهم قدراً من وقته، نحن لا نقول للعالم: دع أعمالك، وعلمك، ومشاغلك، وأمورك، وتفرغ للناس، هذا لا يكون ولا يطالب به أحد! بل هو مما لا يستطاع، لكن لابد أن يخصص للناس أوقاتاً يعطيهم فيها مما أعطاه الله تعالى، ويتفرغ فيها لأمورهم وهمومهم وشئونهم.
ومن عجيب وبديع ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله؛ أنه قسم الناس في المخالطة إلى أربعة أصناف، قال: من الناس من مخالطته كالغذاء، مثل الطعام الذي تحتاج إليه بين وقت وآخر كالغذاء، وهذا هو العالم الرباني الذي تخالطه لا لتضيع عليه وقته ولكن لتستفيد وتمتح من علمه.
الثاني: من مخالطته كالدواء، إنما تتعاطاه عند الحاجة إليه، وهذا هو الإنسان الذي تستفيد منه في أمر معاشك في مشاورة أو أمر أو ما أشبه ذلك، أو تريده في أمر من أمور الدنيا فهذا كالدواء، ومن الناس من مخالطته كالداء مثل المرض، والمرض كما تعلم أنواع: من الأمراض مرض عضال لا يشفى منه الإنسان، ومن الأمراض مرض مثل وجع الضرس، وهذا بمجرد ما تقلع هذا الضرس يزول المرض، وهذا مثل الإنسان الذي مخالطته تؤذيك بسيئ القول، فإذا غادرته زال الألم؛ فالضرس كذلك إذا قلعته زال الألم.
ومن الأمراض، أمراض الحمى التي لا تكاد تفارق الإنسان، ومن ذلك -مثل ما ذكر- مخالطة الإنسان الثقيل الذي لا هو بالذي يتكلم فتستفيد، ولا هو بالذي يسكت فيستفيد هو، فلا يستفيد ولا يفيد.
ومن الناس من مخالطته هي الموت بعينه، وهو الإنسان الذي يضرك في دينك، إما بضلالة، أو ببدعة، فتبين بذلك أن مخالطة الناس أربعة أصناف: منهم من هو كالغذاء، ومنهم من هو كالدواء، ومنهم من هو كالداء، ومنهم من هو الموت، فعليك أن تختار لنفسك وتعلم أن فضول المخالطة لا خير فيها، يكثر فيها القيل والقال، والغيبة، والمجاملة، والتصنع، وربما كان طول المخالطة سبباً في المباعدة، والمفارقة، واكتشاف العيوب، فيتحول ذلك إلى نوع من العداوة، ولهذا جاء في حديث روي مرفوعاً عند الترمذي وغيره، وروي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه، أنه قال: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما} اقتصد في الحب، والبغض، والمخالطة، والعزل.
إذاً العالم الرباني ليست مهمته التعامل مع الكتب -مثلاً- فقط فهذه وظيفةٌ سهلة، ولكن مهمته قيادة الناس إلى ربهم عز وجل وتوجيههم، ومشاركتهم في آلامهم، ومشاكلهم، وأفراحهم، وأتراحهم، وأن يكون قريباً من نفوسهم وقلوبهم، ولا يجوز أن تخلو الساحة من العلماء العاملين، العالمين، المخلصين؛ لأن خلوها أتاح الفرصة للأشرار، الأشرار الذين رفعوا يوماً من الأيام لواء الدفاع عن المرأة أو ما يسمونه بتحرير المرأة، فأفسدوا نساء المسلمين باسم الدفاع عن المرأة، ولماذا لا يتولى أمر الدفاع عن المرأة العلماء العاملون المخلصون؟ فيدافعون عن المرأة ضد كل ظلم أو ضيم يقع عليها، دفاع بالشرع لا بالهوى، ويكسبون المرأة إلى صف الإسلام والمسلمين.
الأشرار الذين تبنوا قضايا الأطفال والنشء، وأعدوا لهم البرامج والكتب وغير ذلك، فربوهم على غير هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا يتولى أمر الدفاع عن قضايا الطفل العلماء العاملون المخلصون، أو من يلوذ بهم ويسمع كلمتهم؟ حتى يربوا الأطفال على المنهج الصحيح، منهج الكتاب والسنة.
الأشرار: الذين ادعوا أنهم ينادون بتصحيح أوضاع العمال، والدفاع عنهم: يا عمال العالم اتحدوا، ورفعوا هذه الراية فضلوا وأضلوا، ولا شك أن العمال لن يجدوا من يدافع عنهم أصدق لهجة، وأصح منهجاً من حملة الكتاب والسنة لو تصدوا لهذا واهتموا به، ودافعوا عن حقوق العمال بالحق لا بالباطل.
الأشرار: الذين طالبوا بتحسين الأوضاع المعيشية للناس، فتبعهم بذلك الفقراء {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39] ولماذا لا يكون العلماء الربانيون هم المدافعون المتولون لشئون الناس من الفقراء والعمال والمظلومين وغيرهم؟ ولماذا يذهب الأشرار بمجتمعات المسلمين، ويبقى العالم منعزلاً في بيته أو في مكتبته لا يدري ما الناس عليه من خير أو شر، ولا يدري الناس أيضاً هذه العلوم التي يتعاطها وأي شيء تكون؟ بل بلغ الأمر أنه في وقت من الأوقات في مجتمعات المسلمين كانت بعض وسائل الإعلام تتناول العالم بالسخرية، فتظهر السخرية به في التلفاز، أو تظهر السخرية به في كاريكاتير ينشر في جريدة، أو تظهر السخرية به في مقرر مدرسي؛ فلا يجد العالم من يغضب له، لماذا؟ لأنه ترك مجال المجتمعات للأشرار، وإلا فالناس في كل بلاد الإسلام عندهم عاطفة دينية، ولو أن أحداً تناول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوجدت الغضب، لماذا؟ لأنهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام، فدل على أن أصل العاطفة الدينية عندهم موجود، ولكنها تحتاج إلى بعث، وإلى إثارة، وإلى تحريك، والذي يستطيع ذلك هو العالم الذي يتكلم فيسمع الناس؛ متى أقام الجسور بينه وبينهم.
إذاً لابد من المخالطة على منهاج النبوة.(9/11)
من صفات الربانيين العزة بهذا العلم
من الصفات التي لابد أن يتحلى بها العالم وهي من أخلاقيات الربانيين: العزة بهذا العلم، والترفع عن الأغراض الدنيوية، ولهذا الله عز وجل قال في الآية نفسها: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران:79] فالذي أوتي الكتاب، وأوتي الحكم، ماذا ينظر إلى الدنيا؟ خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً حبيبا فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا فالعالم الذي أوتي الكتاب والحكم يرى أن أهل الدنيا في وادٍ وهو في وادٍ آخر، مثل ما كان يقول ابن تيمية رحمه الله: ماذا يصنع بي الأعداء؟! إن سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة، فأنا في وادٍ وهم في واد، والعز بن عبد السلام لما قيل له: تعال قبل رأس السلطان من أجل أن يسامحك ويعفو عنك تبسم وقال: مساكين! أنتم في واد وأنا في واد، أنا ما أرضى أن السلطان يأتي ويقبل يدي، فكيف أنا أقبل يده؟! وسيد قطب رحمه الله لما قيل له: اكتب كلمة اعتذار ونسمح عنك عن الإعدام، قال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله لا يمكن أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية.
فالذي أوتي الكتاب، وأوتي العلم، وأوتي الحكم -أي: الحكمة والفهم عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يترفع عن أعراض الدنيا وسفاسفها.
ثم أن الله تعالى قال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] منسوبون إلى الرب، والربانيون من أهل الآخرة، الدنيا قد يملكونها بمال أو غير ذلك، ولكنها عندهم مثل الفراش الذي يقعد عليه، ومثل الحمار الذي يركبه، يستخدمه ولا يخدمه، يستخدمون الدنيا ولا يخدمونها فهم ليسوا عبيداً لها، ولهذا ازدروا الدنيا ورأوا أنها ليست أهلاً لأن يريقوا شرفهم من أجلها، هذا الشافعي رحمه الله يقول: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله: {دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس} ، فتكسب محبة الله تعالى ومحبة خلقه بأن تجعل الدنيا تحت قدميك، ومع ذلك سوف تكون من أحسن الناس دنياً، أي قيمة لأموال طائلة موجودة في الرصيد لإنسان يُقِّتر على نفسه وولده.
إذاً لماذا تجمع الدنيا، هذه العزة والترفع تكسب الإنسان الهيبة عند العامة والخاصة؛ لأنهم يعرفون علو همة هذا الإنسان، وأنه ينظر إليهم فيرثي لحالهم، ويعرفون -أيضاً- أن هذا الإنسان من الصعب أن يصطاد.
ولهذا وضع بعض الخلفاء للعلماء طعماً من الدنيا، أعطى هذا أرضاً، وأعطى هذا مالاً، وأعطى هذا ولاية، فقبلوا كلهم إلا واحداً من العلماء -مع الأسف كان من علماء البدعة معتزلياً اسمه عمرو بن عبيد - رفض وما أخذ شيئاً نفض يده، فقال الخليفة يخاطب العلماء: كلكم يمشي رويدا كلكم يطلب صيدا غير عمرو بن عبيد عمرو بن عبيد هو الوحيد الذي ثبت أنه لا يريد الدنيا أبداً، الدنيا تحت نعله لا يمكن أن يجامل من أجلها، فلذلك يكسب العالم بعزته يكسب هيبة الخاصة والعامة من أهل الدنيا وأهل الرياسة, وأهل المال، وأهل الجاه، وغيرهم.
ولهذا من القصائد المشهورة المعروفة التي تساق في هذا المجال كلمة وقصيدة للإمام القاضي الجرجاني التي يقول فيها وهي قصيدة طويلة: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقضِ حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما ما هذا حق العلم أن تجعله سلماً إلى لمطامع الدنيوية.
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت أقلب كفي إثره متندما إذا قيل هذا منهلٌ قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما ولم أبتذل في خدمه العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما يقول: أنا عزيز لا أذل العلم.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان، هان وهانوا معه.
العالم الذي يجلس عند رجل في مجلسه، فإذا قام قام معه وإذا قعد قعد معه، أي قيمة لعلمه، العالم الذي يدخل على قوم لديهم يسمعون ما يسوء ولا يجوز، فلما رأوه قاموا احتراماً وتقديراً له، فأغلقوا مصدر الصوت، فبدلاً من أن يفرح بذلك اتجه إليهم يوبخهم ويعاتبهم، ويقول لمن أغلق مصدر الصوت: لماذا تفعل؟ إذا كنت أنت لا تريده فغيرك يريده دعه وما كان عليه.(9/12)
من صفات الربانيين الحكمة
من صفات وأخلاق الرباني: الحكمة: ولهذا قال ابن عباس فيما رواه البخاري في صحيحه تعليقاً في كتاب العلم في تفسير قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] قال ابن عباس: [[حكماء فقهاء]] وقال البخاري: ويقال: الرباني الذي يربي بصغار العلم قبل كباره.(9/13)
الحكمة في مخاطبة الناس
ومن الحكمة أيضا ألا تصدم الناس بما هو أكبر من عقولهم فيكون هذا سبباً في ردهم وتكذيبهم، وفي الأثر: [[خاطبوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]] قاله على بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول الغزالي في إحياء علوم الدين: كِل لكل عبد بمعيار عقله -بقدر عقله- وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه من قوله أو إنكاره، حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، وكم من إنسان خُطِّئ وبدع، وربما ضلل وهو على حق؟ لكن لأنه تكلم بهذا الكلام في وسط قوم لاتسع عقولهم ما قال، أو أن هذا الكلام بُلِّغ إليهم من غير طريقه، فخطئوه وهم المخطئون، وضللوه وهم الضالون.
ومن الحكمة أن يبدأ بالأهم قبل المهم، فيشتغل بالعلوم الضرورية قبل العلوم الحاجية، وبالعلوم الحاجية قبل العلوم التحسينية، فالعلم الذي يضطر إليه اليوم ويفوت كوقت الصلاة -مثلاً- فيتعلمه الآن؟ ويقدمه على علم يحتاجه فيما بعد، والعلم الذي يحتاجه يقدمه على بعض الأشياء التي هي من باب الكمال ولكنه قد لا يحتاج إليها.
وكذلك لابد أن يكون حكيماً في عمله، فمثلاً: ليس مناسباً أن يعمل أمام الناس عملاً هو يعرف أنه مباح، لكن الناس يستنكرونه ويستكثرونه منه، فيُسِرُّ بهذا العمل ما دام أنه يعرف أنه ليس فيه شيء من الشرع، يُسِرُّ به لئلا يراه الناس فيستغربونه ويستنكرونه.
ولهذا من عجيب ما يقال: أن عالماً سجنه أحد الطغاة في السجن، وقال له: لابد أن تأكل لحم الخنزير، تجلس على مائدتي، وتأكل معي لحم الخنزير لابد من ذلك، فأبى، فأتاه بعض الطباخين المخلصين من خدم الملك، وقالوا له: نحن سوف نضع لك لحم ضأن، لكن كل من أجل تفتدي نفسك وتخرج من السجن، فقال: لا آكل، قالوا: لماذا؟ قال: من يبين لهؤلاء العوام بأن ما آكله هو لحم ضأن؟ سيظنون أن ما أكلته لحم خنزير فيستحلون بذلك، أو على أقل تقدير يرون أنني أكلت حراماً، وأنا عالم يُقتدى بي في فعلي كما يقتدى بي في قولي، فلا أفعل، وأصر على موقفه، هذا من الحكمة.
ومن الحكمة أن يكون حكيماً في تعليمه، يُعطي كل أحد ما يستحق، يخص بعض الناس بالعلم الذي يناسبهم، يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويبدأ بالأهم قبل المهم، ويتدرج إلى غير ذلك مما سوف يأتي.(9/14)
الحكمة في العلم
إذاً: فالعالم الرباني حكيم في علمه، يضع العلم في موضعه، ولا يصرف العلم لمن ليس له بأهل، فمن الحكمة أن يكون حكيماً في علمه يضعه في موضعه، ولا يضعه أو يقدمه لمن لا يناسبه، فمثلاً عامة الناس يحتاجون إلى حكمة في إيصال العلم الذي يجب أن يتعلموه، فتيسر وتسهل لهم العلم الشرعي حتى يمكن أن يصل إلى العوام من النساء والرجال والكبار والصغار وغير المتخصصين، تيسيره باللفظ والقول، والفعل، وتسهيله من خلال دروس للعامة، من خلال كتيبات، من خلال أشرطة بحيث يكون العلم الشرعي متاحاً لكل إنسان يريد أن يتعلم بالتسهيل والتيسير، هذا لابد منه، تأتي بعبارة لبقة بحيث أن هذا العلم يكون للناس كلهم، هذا صحيح.
لكن -أيضاً- ليس من الحكمة أن تأتي إلى هؤلاء العوام، فتدخلهم في أمور ليسوا بحاجة إليها، تحشدهم مثلاً من أجل الرد على خطأ العالم الفلاني، فتجمع العامة ثم تقول لهم: فلان أخطأ في كذا، وأخطأ في كذا، وتأتي ترد عليه بالآيات والأحاديث وأقوال من أهل العلم ونحو ذلك، حتى لو كان أخطأ فعلاً في اجتهادلم يحالفه فيه الصواب، لماذا؟ لأنك إن حشدت ضمائر العوام على هذا العالم فانتظر منهم كل شيء، انتظر أن منهم من سوف يكون معك، فينزل على ذلك الذي خطأته بكل قول سيء، وربما وصل إلى تفسيقه، أو تضلليه، أو تبديعه، وربما تكفيره، وربما شتموه، وانتقصوه، ووقعوا في عرضه وأنت السبب في ذلك كله.
وماذا يهم العوام من شأن فلان وفلان؟ يهمهم هم العلم الموصل إلى الجنة، ودعهم وما هم فيه، لا يحتاجون إلى مثل هذا، ولا ينتفعون به، وإن حشدتهم إليه فتوقع منهم كل شيء، وربما كان بعضهم ضدك، ولم يقتنع بما قلت؛ فأصبح في المجالس يتحدث عنك، ويخطئك، وينتصر لذلك العالم فأحدث ذلك شرخاً عظيماً يصعب سده وردمه، وأصبح العوام أحياناً حكاماً بين العلماء، أصبح العامي حكماً فلان أخطأ وفلان أصاب، لماذا؟ أنت جررته إلى هذا الميدان الذي هو ليس ميدانه، فهذا من الحكمة أن تضع العلم في موضعه.(9/15)
من صفات الربانيين التواضع
ومن أخلاقيات العالم الرباني التواضع أو معرفة قدر النفس وهضم الذات، فلا ينتصر لنفسه، ولا يؤذي غيره بقول أو فعل، ولا يرد الحق إذا عرفه، ولا يشتغل بالناس.(9/16)
قبول الحق والتزود من العلم
فمن التواضع أن يعرف الإنسان قدر نفسه، ومن التواضع -أيضاً- أن يقبل الإنسان الحق ويتزود من العلم، ولهذا قال الله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] عالم يدرس: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] وقد سبق أن ذكرت أن الآية فيها قراءتان: الأولى (بِمَا كُنْتُمْ تَعَلَمُونَ الْكِتَابَ) وهذه قراءة الجمهور.
والقراءة الثانية: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] يعني تعلمونه غيركم وهذه قراءة حمزة، وعاصم، وابن عامر، والكسائي، وخلف وهي قراءة سبعية كما هو معروف، وهي المثبتة في المصحف رواية حفص عن عاصم {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] .
إذاً تعلمون وأيضاً تدرسون، فأنت تجد الرجل شيخاً في حلقة وتلميذاً في حلقة أخرى، الإمام أحمد كان يركض ونعلاه في يديه -يمكن ما عنده وقت يلبس النعال- في أحد شوارع بغداد فقال له أحد تلامذته: يا أبا عبد الله إلى متى تركض؟! قال: إلى الموت، وفي قصة أخرى قيل له: فقال: مع المحبرة إلى المقبرة، لا يترك العلم أبداً.
إذاً فهم يتعلمون ويُعلِّمون حتى الموت، ولا يرون أنهم قد وصلوا، لإن الله تعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .
وقد سبق أن بينا أن العلم عبادة، بل هو من أعظم العبادات، إذاً من معاني الآية، واطلب العلم -طاعة لله- حتى يأتيك اليقين، لكن العلم النافع الموصل إلى الدار الآخرة.(9/17)
من التواضع عدم الاشتغال بالناس
يقول ابن دقيق العيد لرجل وقد رآه يطلب العلم فأعجبه، قال له: أنت رجل فاضل، والسعيد من تموت سيئاته بموته؛ فلا تهجوا أحداً.
لا تهجو أحداً: لا تجعل لسانك يصول ويجول في أعراض الناس لأنك طالب علم، فتفتخر عليهم، وتقول كل شيء يخالف الشرع، وتأتي لفلان وعلان، وتضربهم بسياطك بحجة أنك أنت الناطق الرسمي باسم الشرع، لا، هذا ما يصلح، قال: فما تكلمت في أحد قط.
ليس من صفات العالم الرباني الخصومة واللجاج في كل شيء ولسبب ولغير سبب، ولهذا الله عز وجل نفى في هذه الآية عن الأنبياء وعن الربانيين أنهم يدعون الناس إلى أنفسهم، لا يدعون لأنفسهم فتضمن ذلك أنهم لا يغضبون لحظوظهم الدنيوية، ولا يسعون إلى رفعة أنفسهم على حساب الآخرين -مثلاً- ولا يغضبون لأن فلاناً ما التفت إليهم، أو ما اتجه إليهم، أو ما أشبه ذلك، إنما غضبهم للحق وحتى غضبهم للحق، هو غضب يتبعه حرص على التصحيح.
فهذا الإنسان الذي رأيت أنه أخطأ أعامله بالحسنى رجاء أن يعود إلى الحق، فمن غضبي للحق ألاَّ أظهر غضبي، بل أظهر له اللين تأليفاً لقلبه، فإن رأيت أن عنده إمكانية القبول والأخذ والرد معي فلا أغضب عليه، فإن وجدت أنه مبتدع -مثلاً- وأنه مصر، وأنه مجاهر، وأنه معاند للحق حينئذٍ لكل مقام مقال.
يقول الجاحظ: "وأنا أحذرك من اللجاج، فإنه لا يكون إلا من خلل القوة، ومن نقصان قد دخل على التمكين، واللجوج في معنى المغلوب"، نعم! هذا كلام علمي رصين، اللجوج: هو الذي تجده يرفع الصوت ويصرخ يبهرج الكلام هذا مغلوب، أما الإنسان الواثق الغالب فتجده قوياً بالحجة، ولو كان صوته هادئاً، ولو كانت نبرته هادئة، لكنه قوي بالحجة، قوي بالبرهان، ومع ذلك لا يلتفت إلى هذه الأعاصير وهذه العواصف التي تثار هنا وهناك.
فهو لا يختار الرد -مثلاً- من أجل أن يريح نفسه، أو يشبع غروره، أو يظهر الغلبة على خصمه، هذا ليس من شيمة العالم الرباني.
يقول الإمام ابن قتيبة ناصحاً طالب العلم في كتابه عيون الأخبار يقول: أحب أن تجري على عادة السلف الصالحين في إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت وثلبوا وتورعت.
يعني لا تحس بإنك أنت كامل وهم ناقصون، وأنت ورع وهم مخلطون، وأنت متنزه وهم قد اقترفوا بعض المعاصي، لا تحس بهذا، إياك والاستعلاء! إياك والكبر! {بطر الحق وغمط الناس} كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولاتك كالدخان يعلو مكانه على طبقات الجو وهو وضيع(9/18)
من صفات الربانيين العمل
من صفات الربانيين بعد الكلام عن أخلاقيات العالم الرباني: من صفاتهم العمل والعمل هو الثمرة، حتى إن السلف رحمهم الله ما كانوا يسمون الفقه إلا العلم والعمل، كما قرر ذلك وحرره الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، والإمام ابن القيم وغيرهما من أهل العلم وساق فيه الدارمي وغيره روايات كثيرة عن السلف.(9/19)
تشاغل الكفار بما ينفعهم دنياً أدى إلى تقدمهم
ويؤسفني أن أقول: أمم الكفر من اليهود والنصارى اليوم في بلاد الغرب تشاغلوا بالأمور الدنيوية، فسخر الله تعالى لهم من هذا الكون المادة، فاستفادوا منها وانتفعوا أيما انتفاع، فغاصوا في أعماق البحار، وصعدوا إلى أجواء الفضاء، وتقدموا في ألوان العلوم، واستطاعوا أن يستفيدوا من ذلك في التسهيلات الحضارية التي انتفعوا بها هم كثيراً، وانتفع بها غيرهم، واستطاعوا أن يحفظوا مكانتهم، ويحققوا لأديانهم وعقائدهم وأفكارهم انتصارات عسكرية بسبب ما ابتكروه واخترعوه.
وذلك لأنهم تركوا التشاغل بغيرهم، وقد أصابوا من جانب وأخطئوا من جانب، أصابوا من جانب الاشتغال بهذه العلوم الدنيوية المفيدة، وكان يجب على المسلمين وما زال يجب أن يشتغلوا بها، ويحققوا أكثر مما حقق هؤلاء، ولكنهم أخطئوا من جانب آخر، وهو أنهم تشاغلوا عن العلوم الأخروية الموصلة إلى رضوان الله تعالى، فصدق عليهم قول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] .
فهم لا نصيب لهم في الدار الآخرة، إنما نصيبهم في هذه الدنيا، أما الأمم المسلمة فأخشى أن تكون في بعض مظاهرها خسرت هذا وذاك، فهي لم تفلح في إعزاز دينها ولم تفلح في تطوير دنياها مع الأسف الشديد.
إذاً العلم قرينة العمل وهو ثمرته، والعلم والعمل اسمهما الفقه، وفي الصحيحين من حديث معاوية: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} وأنت في صلاتك تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وما الصراط المستقيم إلا العلم والعمل بالهدى ودين الحق، ولهذا قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران:80] .
نزلت هذه الآية في أهل نجران عندما قالوا: يا محمد! -وهم نصارى- هل تريد أن نعبدك؟ والنصارى عبدوا عيسى، وقيل: نزلت في من يقول: يا رسول الله! ألا نسجد لك كما يسجد النصارى لزعمائهم؟ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: {لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها} فاليهود والنصارى ضلوا بترك العلم كما فعل النصارى، أو بترك العمل كما فعل اليهود فأنت تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] يعني: صراط العلم والعمل {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ممن تركوا العمل وهم اليهود {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين تركوا العلم وهم النصارى، فإن حصلت العلم والعمل فأبشر بالخير الكثير.(9/20)
عدم التشاغل بما لا يفيد من العلم
كذلك تجد أن هذا العالم الرباني -لأن همه العمل بالعلم- تجد أنه يعتني بصلب العلم قبل طرائف العلم وفروعه وملحه وطرائفه البعيدة، التي قد تخفى على بعض كبار أهل العلم، مثلاً مصنفات جديدة، تتبع كل جديد من الكتب، هذا ليس لازماً لأن فيه من إضاعة الوقت الشيء الكثير، وبالمقابل قد لا يكون فيه أكثر من الطرفة والملحة والجمع، وقد يفتن الإنسان بجمع الكتب كما يفتن الآخر بجمع المال، ولا يستفيد منها علماً ولا عملاً، وإن كان الجمع المعتدل مطلوباً، والتخصص -أيضاً- في ذلك مطلوب.
ومثل ذلك الأغلوطات التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وهي صعاب المسائل، فالتشاغل بها مهلكة، وأقول: بعض شباب الدعوة في بلاد إسلامية كثيرة أصغي إلى أسئلتهم أحياناً لساعات فأتعجب، وتأتيني أسئلة في البريد أحياناً، أو يسلمونني أوراقاً قد يكون فيها خمسين، أو ستين، أو سبعين سؤالاً أتعجب من بعض هذه الأسئلة وما فيها من التمحل، والتكلف، والتدقيق، والتنقية، فمعظم هذه المسائل من الأغلوطات التي نهى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها.
وتتعجب من هذه العلوم، وهذه الأسئلة لم يقع عليها السلف الصالح، ولا أجابوا عنها، أو ما فهموها، أو لم تتهيأ لهم حتى انبرى لها هؤلاء، فكشفوها وسألوا عنها: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وقد تجد هذا الإنسان جاهلاً ببعض الأصول الكبار، وغير متعمق في علوم كان يجب أن يتعمق بها وأن يفهمها.
ولهذا يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس يقول: لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في العلم -لو كان العمر متسعاً للوصول إلى منتهى العلوم- غير أن العمر قصير، والعلم كثير، فهذه ضعها في اعتبارك، كم ستقضي في طلب العلم؟ فالتشاغل بغير ما صح يمنع من التشاغل بما هو أهم منه.
ولما تشاغل يحيى بن معين فاته من الفقه الكثير يقول ابن الجوزي: ومن أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ أمضى ستين سنة في طلب الحديث فلا يعرف عنها شيئاً، وأقول: قد يكون ما تشاغل به يحيى بن معين مما ينفع الناس، ولكن غيره كثير تشاغلوا بما لا ينفع من الغرائب، والعجائب، والطرائف التي لا يحتاج إليها والتي تموت بموتهم.
ولهذا قيل في عيوب بعضهم -مثلاً-: أنهم أبحث الناس عن صغير وأتركهم لكبير، يبحث عن الصغائر، لكن قد تجده واقعاً في الكبائر، أعرف شخصاً ينقر في المسائل ويوالي ويعادي، ولكنه عاق لوالديه لا يبرهما، أي خير في هذه؟! وقيل في عيوب بعضهم: أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما كان، فليس المقصود بالعلم المفاخرة، والمباهاة بالكلام، والتصنيف، والشهرة، والقيل والقال، بل المقصود العمل ديناً ودنيا.(9/21)
أنواع العمل المحمود
إذاً: اسمع يا أخي كلمةً ينفعك الله بها، هما علمان لا يضرك ما فاتك غيرهما: العلم الأول: علم ينفعك في الدار الآخرة، ويوصلك للجنة، ويباعدك من النار فهذا تشبث به وتمسك به.
العلم الثاني: علم ينفعك في الدنيا، إما زراعة، وإما صناعة، وإما طب، وإما هندسة، وإما غير ذلك مما تنتفع به أو تنفع به غيرك في الدنيا، أيضاً عليك بهذا العلم بقدر ما تحتاج أنت وبقدر ما يحتاج الناس، وإن أخلصت النية فأنت على خير عظيم وهذا جواب على سؤال.
أما ما سوى هذا وذاك فلا تشتغل به، فلان وعلان هذا طلع وهذا نزل، وهذا أصاب وهذا أخطأ ماذا ينفعك؟ قد تدخل الجنة وأنت لا تدري بكثير من هذه الأمور، بل قد تبلغ الدرجات العلا منها، وأنت لا تدري بهذه المشاكل، والقيل والقال، والأخذ والعطاء، والغادي والرائح، فأمسك، واترك كثيراً من الفضول التي يتشاغل بها الناس، وقد رأيت أن أكثر الناس يحبون التشاغل بالفضول.
المجريات، الأحداث التي حصلت، المشاكل، القضايا التي لا ينتفعون بها في دين ولا ينتفعون بها في دنيا، لو أنها تنفعهم في دنياهم قلنا: نعم، لكن لا تنفعهم في دنياهم، إنما هي إزجاء للفراغ، ونوع أحياناً مما يسمونه الترف الفكري، كثير من الشباب يأتونني ويسألونني، فأتأمل هذا السؤال الذي سألني عنه هذا الشاب، هل ينفعه؟ فأجده لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.
إذاً لماذا يسأل عنه؟ اشتغل يا أخي بعلم ينفعك في دينك، عبادة، دعوة، على الأقل علم ينفعك في دنياك: تجارة زراعة، أما هذه الأقاويل والأغاليط، والمسائل، والأمور، تقول: مثل ماذا؟ أقول: لا داعي للتمثيل، انظر أي سؤال تريد أن تطرحه هل هو ينفع في الآخرة؟ إذا كان لا، إذاً اتركه، ينفع في الدنيا، لا، أما إذا كان ينفعك في أُخراك أو في دنياك، فلا أحد يلومك على ذلك.
ولهذا تجد العالم الرباني يعتني بالعلم الذي له ثمرة، فيسأل عن ثمرة هذا العلم قبل أن يتشاغل بهذا العلم، مثلاً: لا يطرح مثل تلك الفرضيات التي ربما لا تقع إلى يوم الساعة، لا يتشاغل بالجدل -مثلاً- في مسائل محفوظة، وقد تكون مذكورة في بعض الكتب، لكن لا يحتاج إليها الآن بحال من الأحوال، مع أننا نجد أن هناك مسائل موجودة الآن لم يسأل عنها، ولم يتشاغل بها، ولم يبحثها.(9/22)
العمل عند السلف والخلف
السلف ما كانوا يعرفون الفقه الذي هو قراءة الكتب، لا، بل يعرفون أن الفقه إنسان يعلم فيعمل، ويطبق، وينفذ، ولا فاصل عندهم بين هذا وذاك، ولهذا سئل أيوب السختياني وهو من التابعين -رحمه الله- سئل أيهما أكثر العلم اليوم أو في الماضي؟ فقال: الكلام اليوم أكثر ولكن العلم فيما تقدم أكثر، وهذا الكلام يصلح أن يطبق على واقعنا.
فالكلام اليوم أكثر، شقق الناس الكلام، والقيل والقال وفرعوا وغير ذلك، ولكن العلم الذي وصل إلى القلب، وأثمر العمل والصدق هذا قليل، وقيل للإمام أحمد في مجلس ذكر فيه معروف الكرخي وهو من الزهاد العباد الأتقياء وله في هذا أخبار معروفة ذكرها الذهبي وابن الجوزي وغيرهما، تراجع في مظنتها، لكن المهم ذكر في مجلس الإمام أحمد فقال أحد الحضور: معروف قصير العلم، ما عنده علم، قال له الإمام أحمد: أمسك -عافاك الله- كف عن عرض هذا، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ يقول: ماذا نريد بالعلم إلا النتيجة التي وصل إليها معروف، معروف حصل النتيجة وهي العمل.
وفي حادثة أخرى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سئل والده وقال له: يا أبت! هل كان معروف معه شيء من العلم؟ قال له: يا بني! معه رأس العلم، خشية الله تعالى.
وفي حديث أبي موسى وهو في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير} فهذا العالم العامل المعلم كالأرض الطيبة التي نزل عليها المطر فـ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] .
فأثمر العلم عنده العمل، والعبادة، والدعوة، والصبر، {وكان منها أجادب -أرض صلبة- أمسكت الماء، فنفع الله تعالى به الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا فهذا مثل إنسان عنده معرفة بالنصوص ولكن لا يعمل؛ مثل الأرض ما استفادت من الماء لكن استفاد الناس منها واغترفوا منها، {وكان منها أو أصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأ} فهذا لا عنده معرفة ولا عنده عمل ولا عبادة {فذلك مثل من فقه في دين الله فعمل وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به} وقال بعضهم في وصف بعض الطلاب: زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأسفاره أو راح ما في الغرائر وقد وصف الله تعالى أهل الكتاب بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] .(9/23)
من صفات الربانيين التعليم
أخيراً من صفات الربانيين التعليم، والتعليم مهمة الأنبياء يعلمون الناس، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، وينبغي أن تعلم أن العلم كالمال لا يكنز، لابد أن تؤدي زكاته، ويختلف العلم عن المال في أن العلم ليس له نصاب حتى لو لم يكن عندك من العلم إلا آية واحدة أو حديث وجب أن تبلغها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} آية واحدة، وفي الحديث الآخر وكلاهما في الصحيح: {نضر الله امرأً سمع منا حديثاً واحداً فبلغه} .(9/24)
سبل التعليم
سبل التعليم للربانيين لابد أن يراعى فيها أن يكونوا ربانيين، أي يربون الناس بالعلم، يراعون في ذلك التدرج في العلم فلا ينقلون الإنسان طفرات تجعله غير منضبط في علمه وفي تعليمه.
ثانياً: يراعون التربية فليس العلم هو مجرد حقن الذهن بالمعلومات، فقد تجد إنساناً هو كالبحر في معلوماته لكن شخصيته، لم تصغ صياغة سليمة، لم يكن فيها الانضباط، لم يكن فيها التوازن، لم يكن فيها العمل، لم يكن فيها الأدب، ولم يكن فيها التعقل، ولم يكن فيها الجهاد، فيكون علمه حجة عليه؛ لأنه يغتر بهذا العلم، ويغتر الناس بهذا العلم لأنه إذا تكلم في المسائل أجاد وأفاد، لكن ينسون أن هذا العلم لم يصحبه عقل كبير، ونور وبصيرة، وتربية ومراعاة للأحوال.
ثالثاً: بذل العلم للعامة بسهولة العبارة ووضوحها؛ لأن المقصود ليس التقعر بالقول، وليس إظهار القدرة على الناس، وإنما المقصود تبليغ السامع؛ ولذلك ربنا عز وجل قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] المقصود أن يصل العلم إليه، وليس المقصود شيئاً آخر، ولهذا الإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول: وبهذا كان السلف الصالح يعملون في تبليغ الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أقصر الطرق وأقربها إلى عقول المخاطبين والطالبين من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف؛ بل كانوا يرمون بالكلام على عواهله ولا يبالون كيف وقع الكلام في ترتيبه إذا كان سهل المأخذ قريب الملتمس.
فتراعي إذاً التبسيط والتيسير والتسهيل، وليس بالضروري أن ترتب، على شكل ونقاط، ومسائل، وقيل وقال، المهم أن يصل الحق إلى الناس ولو بأقرب طريق، ولا يمنع أن الإنسان يخص أقواماً بمزيد من العناية والترتيب والتبويب لأنهم مثلاً طلبة علم، أو مختصون أو ما أشبه ذلك، ولذلك يختص الخطيب بضرورة تسهيل العلم للناس، ومثله من يخاطب الجماهير.
قال ابن قتيبة رحمه الله: "ينبغي أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، يتخير اللفظ، ولا يدقق في المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح"، يكون في كلامه إجمال وعموم يتناسب مع عقول المستمعين.
هذا وقد أطلت عليكم فأعتذر إليكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس في ميزان أعمالنا وحسناتنا.(9/25)
صناعة الحياة
تحدث الشيخ عن عنوان المحاضرة ومعناه وما سبق من محاولات وعناوين في هذا الموضوع، وعقب ذلك بالدواعي والأسباب التي تدعو إلى طرق هذا الموضوع موضحاً أن الدعاة ملزمون بالقيام بحقوق الآخرين الخاصة والعامة، وبحسن الخلق مع جميع الناس وتجنب روح التسلط، ثم ختم بذكر وجوب الإحسان إلى الناس والدفاع عنهم خصوصاً النساء والعمال.(10/1)
أهمية شمول الخطاب الدعوي لكل البلدان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
هذا يوم الأحد ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول لعام 1412 للهجرة، أما رقم الدرس فهو التاسع والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وعنوانه كما قرأتم وسمعتم هو: (صناعة الحياة) .
أيها الأحبة أقدم بين يدي هذا الدرس بحمد الله تعالى وشكره والثناء عليه بما هو أهله؛ حيث هيأ لنا عودة هذه الدروس واستئنافها بعد انقطاع لم يطل بحمد الله تعالى، وإني لعلى يقين من أن كل ما يكتبه الله سبحانه وتعالى وبقدره فهو خير لنا، مهما كان ظننا بخلاف ذلك، فإن الله تعالى يختار لنا، واختياره عز وجل لنا خير من اختيارنا لأنفسنا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] .
وفي الصحيح عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن} فكل ما يصيب المؤمن فهو خير له في دنياه وآخرته، مهما ذهبت به الظنون بخلاف ذلك.
كما أنني أود أن أقدم بين يدي هذا الدرس بتنبيه أرى أنه على جانب كبير من الأهمية لمن يستمعون إلى هذه الدروس، ألا وهو أنه جاءتني رسائل كثيرة من أحبة كرام في بلاد الإسلام في مناطق شتى وبلاد مختلفة، وهم يقولون: إنكم يا معشر الدعاة في هذه البلاد تخاطبون فئة معينة من الناس، مع أن الذين يتلهفون إلى سماع الحق وإلى متابعة الدروس هم موجودون في كل مكان، وليسوا محصورين في إقليم أو بلد.
وأقول: إنه يجب أن يكون هذا المنبر موجهاً لمخاطبة من يستمعون إلى هذه الكلمة في أي مكان وفي أي بلد وفي أي إقليم، فليست الأمثلة التي أذكرها، أو الحديث الذي أتحدث فيه، أو الأخطاء التي أتكلم عنها مقصورة على مجتمع بعينه أو أفراد بذواتهم، وإنما أستحضر في ذهني صورة المسلمين في أي مكان وقد أنتزع مثالاً من واقع المسلمين في بلد بعيد، أو أنتزع خطأً من واقع المسلمين في بلد آخر لأتكلم عنه، أو أذكر قضية في شرق البلاد أو غربها، فهموم المسلمين واحدة شرّقوا أم غرّبوا وفي كل مكان، وهذه الحدود والسدود والحواجز الجغرافية والسياسية لا يجوز أبداً أن تحول بين المسلمين بعضهم وبعض.
بل ينبغي أن تكون كلمة الحق للجميع، وأن يتنادى المسلمون إلى توحيد كلمتهم، ولمَّ صفهم، وتقريب وجهات نظرهم، وأن يكون همُّ الداعية إلى الله تعالى هو إصلاح أحوال المسلمين في كل مكان، فهذه الأمةُ أمةٌ واحدة كما وصفها الله تعالى في مواضع من كتابه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52] .
تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبعُ وإن بردى أنَّتْ لخطبٍ أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمعُ فهي كلها بلاد الإسلام كما قال القائل:- بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطار مجنحةٌ تسمو بروحي فوق العالم الفاني فإن طرسوس مهما لج بي دمها أسمى إلى القلب من فاس وتطوان دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها أَعْظِمْ بأحمد من هادٍ ومن بان صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.(10/2)
معنى: صناعة الحياة
أما بعد: فربما كان هذا العنوان: "صناعة الحياة" غريباً بعض الشيء بالنسبة لكثير من الإخوة الذين قرءوا هذا العنوان، ولعل هذه الغرابة أن تزول وتنقشع حينما يستمعون إلى ثنايا هذا الموضوع وتضاعيفه.
وعلى كل حال وبكلمة موجزة مختصرة لا أسبق فيها الموضوع إلا أنني أقول: إن المقصود بهذا الموضوع -صناعة الحياة- هو بيان كيف يتمكن الداعية إلى الله عز وجل من التأثير في المجتمع الذي يعيش فيه، وكيف يتمكن من صياغة المجتمع الذي يحيط به صياغة إسلامية، وإن شئت فقل صناعته على وفق ما يحبه الله ويرضاه.
فالصناعة ليست هي فقط صناعة باليد أو حرفة، وإنما كل ما يمارسه الإنسان يمكن أن يعد صنعة أو عملاً يحتاج الإنسان إلى تعلمه والتدرب عليه وإتقانه؛ حتى يستطيع أن يحصل على ما يريد وأن يصل إلى ما يتمنى.
فالدعوة إلى الله تعالى صناعة، وهي ليست صناعة محصورة، إذا كان الصانع أو النجار يهتم بصناعة شيء معين من الأواني أو الفرش أو الستائر أو الكراسي أو غيرها، فإن الداعية إلى الله يحاول أن يصنع الحياة كلها على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه، إذ إن الحياة كلها ينبغي أن تكون خاضعة لحكم الله ورسوله.
فالإسلام جاء مهيمناً على الحياة، مسيطراً عليها من ألفها إلى يائها، وليس ثمة شيء يمكن أن نقول: هذا ليس له علاقة بالدين أولا علاقة للدين به، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بشريعة كاملة شاملة، ما فرط الله تبارك وتعالى فيها من شيء، وأنزل القرآن تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء، وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه -أو يقلب جناحيه في الهواء- إلا وبين لنا منه علماً.
وهذا العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوارثه الأجيال لا يضيع منه شيء.
وقد كنا في صبيحة هذا اليوم نقرأ من صحيح البخاري: باب صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقرأ مثلاً حديث أنس رضي الله عنه أو حديث أبي جحيفة أو غيرهم من الصحابة، وكيف كانوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعدون الشعرات البيض في رأسه ولحيته، وأنها لا تتجاوز العشرين شعرة، أو لاتصل إلى عشرين شعرة.
فالذين حفظوا كم شعرة بيضاء في رأسه ولحيته عليه الصلاة والسلام، حفظوا لنا كل هديه في كل شئون الحياة، حتى وهو مع زوجه في الفراش، حتى وهو في الخلاء، حتى كيف يغتسل، وكيف يقضي حاجته، علمهم صلى الله عليه وسلم كل شيء، فكان نعم المعلم وكانوا نعم المتعلمين.
هذه صناعة الحياة التي أتقنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتقنها أصحابه من بعده، وحق على الدعاة في كل مكان أن يتقنوا هذه الصناعة، وأن يعرفوا كيف ينتقلوا بالإسلام إلى واقع الحياة، وكيف يطوعوا كل أمور الدنيا لهذا الدين فلا يند شيء عن شريعة ربنا عز وجل.
وهذا الأمر الذي هو صناعة الحياة بالدعوة إلى الله تعالى، وبصياغتها على وفق ما يحب ويرضى، أمر لاشك أن فيه من الصعوبة ما فيه، وأنه يحتاج إلى طول نفس وإلى صبر ويحتاج إلى أناة، ولكنه هو الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره، كما قيل: يا إخوتي درب الجنان طويل وبه المصاعب والمصائب جنة لكنما هو ليس عنه بديل(10/3)
المحاولات السابقة لعرض موضوع صناعة الحياة
وسأتحدث في هذا الموضوع بشيء من الاختصار، فأول نقطة أتناولها هي الحديث عن محاولات سابقة لعرض هذا الموضوع، ولعل من الطريف أن أذكر لكم أن هذا الموضوع الواسع جداً حيرني كثيراً حينما أحببت أن أتكلم عنه خاصة وأنا أحرص ألا يتعدى هذا الموضوع ليلة واحدة؛ حتى يتسنى للإخوة سماعه وتداوله بيسر وسهولة.
وإن كنت سبق أن عرضت جوانب أخرى من هذا الموضوع -قد لا أحتاج إلى تكرارها- في محاضرات أو دروس سابقة.
فمثلاً هناك محاضرة بعنوان: (الداعية والمجتمع) وأخرى بعنوان: (أنتم شهود الله في أرضه) وثالثة بعنوان: (دعاة في البيوت) سبق فيها الحديث عن جوانب من هذا الموضوع.
وأظن بل أجزم أن غيري من الدعاة أو طلبة العلم قد تكلموا عن هذا الموضوع في مناسبات شتى، وإن كانت الذاكرة لا تسعفني بذكر أشرطتهم أو دروسهم أو كتبهم التي تناولوا فيها هذا الموضوع، وإلا لذكرتها أيضاً حتى يتسنى لمن يرغب في استكمال هذا الموضوع أن يحصل على هذه المراجع من كتب وأشرطة ويستفيد منها.(10/4)
تأليف القلوب
أما العنوان الآخر الذي أسلفته فهو فن تأليف القلوب، فقد كان أستاذ تأليف القلوب هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يعتبر تأليف القلوب جزءاً من الحق الذي بعث به وجاء به عليه الصلاة والسلام.
من هو الرجل الذي يدّعي أنه أكثر أعباءً وتبعات وتكاليف ومسئوليات من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أي إنسان في الدنيا -وكانت هموم الدنيا كلها على كتفه- وأي: إنسان يعتقد أنه أشد غيرةً وحرصاً وحماساً على دينه وعلى دعوته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أبداً! وعلى رغم كثرة أعبائه وتبعاته عليه الصلاة والسلام، وعلى رغم شدة حماسه لدعوته وتفانيه واستغراقه فيها؛ فإنه لم يغفل لحظةً واحدةً عن الحرص على جمع القلوب على هذه الدعوة، وإزالة نفور الناس منها وشموصهم عنها لعلمه صلى الله عليه وسلم أن القلب هو أساس الصلاح والإصلاح، وأن الإنسان -مهما كان- لا يستطيع أن يفرض الحق على الناس بقوة الحديد والنار، ما لم تكن القلوب حول هذا الحق سياجاً يحوطه ويحميه.
ولذلك كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان {جاءه يوم من الأيام مخرمة بن نوفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداري من مخرمة حدة وشدة، وكان فيه غلظة، فسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أقبية على الناس -كما جاء في الصحيحين- فقال لابنه المسور: يا بني!! هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرق الباب فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته عرف لماذا جاء؛ فأخرج قباءً وأمسك به بيديه، وجاء إلى مخرمة يسلم عليه ويقول: يا مخرمة! خبأت هذا لك خبأت هذا لك} لا تغضب، هذا قد أعددته لك، وخبأته لك واحتجزته لك، فطاب خاطره وأخذه وانصرف.
وفي يوم من الأيام وزع النبي صلى الله عليه وسلم أموالاً، وكان سعد بن أبي وقاص حاضراً، فقال: {يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً، والله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً؟ قال: والله إني لأراه مؤمناً، وفي الأخير قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقتال يا سعد؟ -هل المسألة قتال وإلحاح- والله إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه كراهية أن يكبه الله على وجهه في النار} .
إذاً المسألة ليست مسألة أن هذا أولى وهذا أحق وهذا أفضل، أنا أعطي إنساناً مفضولاً، ترقيقاً لقلبه، وتقريباً لنفسه للإسلام وتأليفاً له على هذا الدين خشية أن يكبه الله على وجهه في النار.
ولو أن هذا الإنسان كبه الله على وجهه في النار فماذا يطول رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟! فهو صلى الله عليه وسلم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
بل هو في الفردوس الأعلى، وهي منزلة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله ويرجو صلى الله عليه وسلم أن يكون هو صاحبها، فاسألوا الله له الوسيلة.
ومع ذلك يهمه صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان ألا يدخل النار، ولا يكبه الله تعالى على وجهه في النار، فيتألف قلبه على الحق والخير والإسلام بشيء من لعاعة هذه الدنيا.
بل أعجب من ذلك وأغرب وأهول وأطول أنه في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يوماً من الأيام مالاً على مجموعة من الناس، بعث إليه علي بن أبي طالب من اليمن بذهيبة في أديم فوزعها على أربعة رجال -أعطاها أربعة من المؤلفة قلوبهم- فوجد الناس في قلوبهم، حتى قام رجل، وقال: يا رسول الله! اتق الله!! -سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى رجل من أطراف الناس يقول له: اتق الله!! ويقولها على سبيل الإنكار لهذا القسم!! - فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد سمع من الناس وشوشة وكلاما-: ألا تأتمنوني وأنا أمين من في السماء، ينزل علي الوحي صباحاً ومساء؟! ولما سمع ذلك الرجل الذي يقول: يا رسول الله اتق الله! قال: ويحك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! لأضربن عنقه -دعني أقتله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، لعله أن يكون يصلي} .
وما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحقيق مع هذا الرجل ولا بسؤاله، ولا بالتحري حوله، ولم يسلط عليه أحداً، وإنما تركه، وأجاب على قوله: ألا تتقي الله؟ بقول صلى الله عليه وسلم: {أولستُ أحقَّ أهل الأرض بأن يتقي الله} أي: أنا الذي آمركم بتقوى الله عز وجل، فتوزيعي لهذا المال هو من تقوى الله عز وجل؛ لأنني ما أعطيته لأقاربي ولا احتجزته لنفسي، وإنما أعطيته أقواماً أتألفهم على الإسلام، وهذا من حق الإمام أن يتصرف فيه على وفق ما يرى المصلحة في ذلك.
{فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله! وإن كان هذا الرجل يصلي، كم من إنسان يصلي وفي قلبه ما فيه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم} .
إذاً كان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف يحرص على تأليف قلوب الناس، ويتحمل منهم أخطاءهم وزلاتهم حرصاً على وحدة الكلمة وتقريب الناس من هذا الدين ومن العقيدة.
وفي حديث أنس رضي الله عنه وهو في مسلم أيضاً قال: {كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي وهو يمشي في الشارع، فجبذه - جر برد النبي صلى الله عليه وسلم بردائه - جبذة شديدة، حتى يقول أنس رضي الله عنه يقول: نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت فيها حاشية الرداء -ظهر الاحمرار في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر هذه الجذبة أو الجبذة- وقال الأعرابي بكل جفاء وغلظة: يا محمد! مُر لي من مال الله -ما قال من مالك أو مما عندك قال: من مال الله أي: كأنه يقول: ليس لك منه في هذا، فهو يقول: مر لي من مال الله الذي عندك فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ - التفت إليه وتبسم وأمر له بعطاء} .
وكانت الجارية تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، وتكلمه فيما تريد، لا يستنكف أو يستكبر صلى الله عليه وسلم، بل يتحمل منهم.
ولك أن تتصور ماذا تقول هذه الجارية، أو ماذا يقول إنسان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه مشكلة ويبدأ يعطيه من التفاصيل والكلام، وقال وقلت وحصل وكذا وكذا وتفاصيل لا يحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى سماعها، وليس عنده في الحقيقة وقت لسماعها، لكنه تعود الحلم والصبر وسعة البال، فكان يعطي أذنه لمحدثه حتى ينصرف عنه.
ويعطي يده لمن يصافحه، فلا يقبض صلى الله عليه وسلم يده حتى يكون ذاك الآخر هو الذي يقبض يده.
: {وفقد يوماً من الأيام بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم رجلاً أو امرأة -كما في حديث أبي هريرة - كان أو كانت تقم المسجد، فقال: أين هو؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: هلَّا كنتم آذنتموني! قالوا: إنه مات في الليل، فكرهنا أن نوقظك؛ فقال: دلوني على قبره -أو قال على قبرها- فذهب إلى القبر فصلى وكبر عليها أربعاً، وأمرهم إذا مات أحد من أصحابه أن يوقظوه بليل أو نهار ليصلي عليه} .
فلم يغفل أو ينسى أو يتجاهل صلى الله عليه وسلم هذه الأمة السوداء التي كانت تقم المسجد.
ربما كثير من الناس يمرون بها ليس لها شأن، وليس لها قيمة، وليس لها اعتبار عندهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الكبير لم يغفل عنها، فلما فقدها أياماً سأل: أين هي؟ ولما علم أنها ماتت انتقدهم على عدم إخباره بذلك، وأمر أن يدلوه على قبرها فكبر عليه أربعاً صلى الله عليه وسلم.
عنايته بالأطفال الصغار في يوم من الأيام -كما في الصحيحين- جيء بثوب جميل، فقالوا من يعطي هذا الثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أم خالد بنت خالد بن أبي العاص فجيء بها تُحمل -فتاة صغيرة السن- فأخذها وألبسها هذا الثوب بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم.
ولك أن تتصور أنك قد تعطي إنساناً ثوباً، ولكنك تضرب به في وجهه ضرباً، فلا يكون له وقع، لكن حينما تأتي بالصبي الصغير، فتلبسه هذا الثوب بيديك، ثم تمسح عليه، وتقول: ما شاء الله! تبارك الله! ما أجمل هذا الثوب! ما أحسنه! فيكون وقع هذه الكلمات وهذا التصرف في نفس الصبي عظيماً كبيراً.
وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جيء بهذه الفتاة الصغيرة فألبسها الثوب بيده الكريمة، ثم قال: {ستى يا أم خالد} أي: هذا ثوب جميل حسن بلغة الحبشة وكناها النبي صلى الله عليه وسلم وفي التكنية لها -وقد يكون هذا اسمها أيضاً والظاهر أنه كنية فكناها لما في ذلك- من التحبب إليها.
كل هذه الأشياء -وغيرها كثير مما يطول الكلام به- مما يدخل في باب حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على تأليف القلوب وسعة خلقه صلى الله عليه وسلم، وقدرته على صناعة الحياة على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه من خلال الوصول إلى قلوب الناس.
فكانت قلوبهم وأرواحهم تفديه قبل أيديهم، كانوا في المعارك يموتون دونه عليه الصلاة والسلام، ويقول قائلهم: كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نُطَاعِنْ دونه ونناضلِ ونسلمَه حتى نُصرَّعَ حوله ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ يموتون دونه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعرفون أنه به أنقذهم الله من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والتوحيد، وأنقذهم به من النار إلى الجنة، ومع ذلك أيضاً: لِمَا يعرفونه من حسن خلقه وطلاقة وجهه وهشاشته وبشاشته.
وإلا فإن الله عز وجل يقول في محكم التنزيل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي: حتى هؤلاء الذين عرفوا عظيم نعمة الله عليهم ببعثته، يقول الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] .
أم(10/5)
تصحيح المسار
فيا أحبتي! أين الداعية الذي يكون في قلبه هذا الهم والحرص على هداية الناس؟! أين الداعية الذي يحتاج دائماً وأبداً إلى التثبيت والتصبر والتهدئة: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] إلى غير ذلك مما صبَّر الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
فلذلك أقول: كان لا بد من تصحيح مسار بعض الإخوة المجتهدين من الدعاة الذين يتجاهلون الآخرين، خاصة في هذا العصر الذي ضعف فيه رصيد الإيمان في نفوس الناس، وكثر فيه أعداء الدعوة ومناوئوها والمتربصون بها، الذين يبحثون عن أدنى زلة أو سقطة من داعية حتى يعتبروها مجالاً للطعن في الجميع.
بل لا يبحثون عن زلة أو ينتظرون سقطة، بل إنهم يأتون إلى أفعال الدعاة والمخلصين التي هي صواب لا خطأ فيها، فيحاولون أن يلبسوها ثوب الخطأ، وأن يعطوها غير ما هي له؛ حتى يشوهوا صورتهم وسمعتهم في نفوس الناس.
أيها الأحبة ألا تعتقدون أنه من المحزن حقاً أن هذه الأمة التي يقول أكثر المنتسبين إليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحبون الله بقلوبهم، ويحبون الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم؛ ومع ذلك حيل بين هذه الأمة وبين دعاتها الصادقين في كثير من البلاد، فصارت الأمة تسيء الظن بدعاتها في بلاد كثيرة، وتنظر إليهم شزراً، وتعتقد أنهم من الغلاة، أو أنهم من المتطرفين، أو أنهم من المخربين المفسدين على وفق ما أراد لها العلمانيون، وعلى وفق ما خططوا لها.
فحالوا بين الأمة وبين دعاتها الصادقين، حالوا بين الأمة وبين رجالات الإسلام المخلصين، وحينئذٍ صار المثل كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقري فخلا الجو للمنافقين من العلمانيين وأعداء الإسلام، وعبثوا بهذه الأمة بعد ما حالوا بينها وبين الدعاة إلى الله عز وجل.
ولذلك كان العنوان السابق لهذه المحاضرة -كما ذكرت- وجوب تصحيح المسار.(10/6)
من سيرة الرسول في إقامة المعروف
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة لكل مسلم وخاصة للدعاة إلى الله تعالى- كان يعتقد أن هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام حق، ولكنه لم يفعل هذا الحق، فما الأمر الذي حال بينه وبين فعل هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق عليه الصلاة والسلام؟ إنه رأى أن في تنفيذ هذا الحق مفسدة أكبر، فتركها خشية أن يحدث على الناس شراً، وأن يفهمه الناس ويفسرونه تفسيراً خاطئاً يضر بهم.
فقال لـ عائشة كما في الصحيحين: {لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية، فأخشى أن تنكر قلوبهم، لهدمت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس منه، وباب يخرجون منه} .
فترك عليه الصلاة والسلام إقامة هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق مراعاة لمصلحة الدعوة إلى الله، وتأليف قلوب الناس على الخير، وعدم إيجاد أشياء أو أعمال يفسرونها تفسيراً خاطئاً، ويؤولونها تأويلاً ضالاً فتودي بهم، وربما كان سبباً في انحرافهم أو سوء ظنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم هم حدثاء عهد بجاهلية، فقلوبهم قريبة من الجاهلية؛ فما بالك بغيره من الدعاة الذين وجود الخطأ منهم متصور أصلاً؟! وسوء الظن وارد فيهم أصلاً! لا شك أنهم أولى برعاية هذا الأمر.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعه من قتل المنافقين المندسين في الصف، والذين كانوا يقومون بأسوء الأدوار في صفوف المسلمين، وقد ظهر نفاقهم: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74] ولم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتلهم إلا أمر واحد بينه هو كما في صحيح البخاري وغيره من حديث جابر فقال: {كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} .
فترك قتل هؤلاء، ليس لأن دماءهم حرام، ولا لأنه لا يجوز قتلهم، لا؛ ولا لأن وجودهم ليس ضاراً بالمسلمين، وإنما ترك قتلهم خشية من وجود فتنة وضرر، وسوء تفسير من الناس، واستغلال الأعداء لهذا العمل، فقال: {لئلا يتحدث الناس} وفي رواية: {فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} .
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل اليهودي الخبيث لبيد بن الأعصم، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، ووضعها في بئر في المدينة يقال له: بئر ذروان أو بئر ذي أروان، فوضع فيها السحر، فعقد عقداً، ونفث فيها، وعمل ما عمل، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهولا يفعله.
فجاءه الملكان وقرأا عليه سورتا المعوذتين، وأنقذه الله من شر هذا السحر، ولما قيل له في شأن هذا اليهودي وقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أما أنا فشفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً} وكذلك لم يأمر بإخراج هذا السحر، بل دفن تلك البئر، ولم يصبه أذى من شر هذا السحر.
فالذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتل هذا اليهودي، مع أنه يعتبر ناقضاً للعهد بسحره رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله: {وكرهت أن أثير على الناس شراً} مراعاة لمصالح قد أعرفها أنا وأنت أو لا نعرفها.
لكنه صلى الله عليه وسلم بما وهبه الله تعالى من بعد النظر والتجرد وسعة العقل وما ألهمه وما أعطاه وما لقنه وما فهمه، رأى في ذلك شراً وضرراً، ورأى تركه أولى من فعله، فدفن هذه البئر، ولم يفعل بهذا اليهودي شيئاً.
فكان عليه الصلاة والسلام إذاً يعتبر من الحق مراعاة المصالح العامة، والنظر في أحوال الناس، وما يمكن أن يفسروا عليه الأقوال أو الأعمال أو التصرفات، ويراعي ذلك في سائر أموره صلى الله عليه وسلم.
لم يكن خائفاً من كلامهم صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا فيه كل شيء، قال فيه المشركون والمنافقون كل ما يستطيعون أن يقولوا، فقالوا: ساحر، شاعر، كذاب، كاهن، وما تركوا كلمة في قاموس السب والهجاء إلا وألصقوها به صلى الله عليه وسلم، وهو أطهر من السحابة في السماء، ما جرّبوا عليه كذباً قط.
وكان صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله نموذجاً للخلق الفاضل الكريم، ومع ذلك قالوا فيه ما قالوا، وما بالى بهم، بل كان يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟! يشتمون مُذَّمماً وأنا محمد} فهم من شدة بغضهم له عليه الصلاة والسلام ما كانوا يقولون: محمد فعل كذا وكذا؛ بل يقولون: مذمم؛ لأنهم يقولون: ليس هو محمداً؛ لأن محمداً من الحمد، والمشركون يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه غير محمود بل هو مذموم، فيسمونه مذمماً فيقولون: جاء مذمم، ذهب مذمم، قال مذمم فعل مذمم! فيقول صلى الله عليه وسلم معلقاً على تعييرهم له بهذا اللقب: {ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟!} فهم يشتمون رجلاً اسمه مذمم، وأنا اسمي محمدُ فيصرف الله عني شتمهم لا ينالني ولا يصيبني.
فلم يكن يبالي صلى الله عليه وسلم ماذا يقولون، وماذا يفعلون في حقه، ولكنه كان يبالي ماذا يصيب الدعوة، وماذا يصيب أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان يحرص أشد الحرص على تليين قلوب الناس لدعوته، وتقريبهم إليها، وفتح أفئدتهم لها، فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ بحجزهم عن النار، وهم يتساقطون فيها: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128](10/7)
عناوين أخرى
وكنت أحس منذ فترة طويلة بأهمية طرق مثل هذا الموضوع خاصة للدعاة إلى الله تعالى من الرجال والنساء، ولهذا سبق أن أعلنت عن محاضرة في جدة ثم في بريدة ثم في المنطقة الشرقية، وكان العنوان الذي اخترته آنذاك: (وجوب تصحيح المسار) ولكن شاء الله تعالى ألا تقوم المحاضرة في هذه المرات الثلاث، ثم أعلن عنه قبل شهر أو نحو شهر في مكة المكرمة بعنوان آخر وهو: (فن تأليف القلوب) ويشاء الله تعالى ألا تقوم تلك المحاضرة، فتأجلت كما تأجلت أخوات لها من قبل.
فهذه إذن هي المرة الخامسة التي حاولت فيها أن أعرض هذا الموضوع أو أطرح جوانب منه، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسددني ويلهمني لأقول ما يحب ويرضى وما ينفع عباده.(10/8)
أهمية العناية بأساليب الخطاب الدعوي
أما فيما يتعلق بالعنوان وقد أشرت إلى معناه فإنني أود أن أقول: إن الكثيرين من أهل الخير ومحبي الخير قد يتجاهلون الآخرين من الناس، وينظرون إلى ما يعتقدون هم أنه حق، دون أن ينظروا إلى أساليب أو طرائق إيصال هذا الحق إلى الناس.
فيقول قائلهم: إذا كان هذا الأمر حقاً فلا يهمني رضي الناس أم سخطوا، أحبوا أم كرهوا، فالأمر عندي يتعلق بكوني أعرف أن هذه المسألة حق، فإذا عرفت أنها حق فلا أبالي بالناس في أي وادٍ هلكوا، وفي أي مكان كانوا!! بل إن البعض يقولون: إذا كان هذا الأمر الذي أقوله حقاً، فإنه لا يهمني قبله الناس أم ردوه، المهم أن أقوم بالحجة، وأؤدي الواجب المفروض علي، ولا يعنيني بعد ذلك أمر الناس.
وفي الواقع أن هذه إذا تأملتها أيها الداعية الكريم، وجدت أنها نوع من الأنانية لا يقبلها الشرع والعقل، ولا تقبلها الفطرة السليمة.(10/9)
واجبات ومطالب على عاتق الدعاة
فالدعاة إلى الله تعالى مطالبون بأمور: أولاً: أن يكون كل واحد منهم ملتزماً بإسلامه وحريصاً على دعوته متفانياً في سبيلها، وهذا شرط لا بد منه؛ وإلا فما معنى بأن توصف بأنك داعية فضلاً عن أن توصف بأنك مسلم.
والحسن البصري رحمه الله يقول: [[ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال]] وبعضهم يروي هذا حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح هذا، بل هو من قول الحسن البصري رحمه الله تعالى، أحد أئمة التابعين.
الأمر الثاني: أن يكون الداعية متقناً لتخصصه أياً كان تخصصه، فقيهاً أو عالماً أو مهندساً أو طبيباً أو إدارياً أو عسكرياً أو خبيراً أو غير ذلك، ينبغي أن يكون الداعية نموذجاً في إتقان تخصصه الذي وجه همته إليه، وأن يحرص في هذا الإتقان على أن يكون في ذلك حصول مرضاة الله تعالى، وأن يعطي المثل الطيب للناس في الداعية الذي يحرص على أن يقدم لهم ما يستطيع من الخدمة في دنياهم وقصده إصلاح دينهم.
الأمر الثالث: الذي يطالب به الداعية هو أن يكون قادراً على إقامة الجسور مع المجتمع، ليحظى بمحبة الناس وتقديرهم، فالفتح الحقيقي هو فتح القلوب وليس فتح البلاد، ولم يكن نبوغ الجيل الأول ولم تكن عظمتهم لأنهم فتحوا بلاد كسرى وقيصر فحسب؛ بل أعظم من ذلك بكثير أن الله تعالى أخضع لهم تلك البلاد، حين انفتحت قلوب الناس لهم فأحبوهم من قلوبهم؛ لما يعرفون من صدقهم وإخلاصهم، ولما يعرفون من حرصهم على مصلحة الناس، ولما يعرفون من زهدهم في الدنيا وتخليهم عن زينتها وأبهتها ولما يعرفون من أنهم نموذجاً حياً للصدق والإخلاص في أقوالهم وأعمالهم فأحبهم الناس حتى قال الكفار: قال أحد المؤرخين البريطانيين الكفار: ما عرف التاريخ من فاتح أرحم وأعدل من العرب.
وهو يعني المسلمين بطبيعة الحال، لكنه يسميهم العرب، ما عرف التاريخ من فاتح أعدل ولا أرحم من العرب.
وكان النصارى يفضّلون أن يحكمهم المسلمون على أن يحكمهم بنو جنسهم من النصارى؛ لأنهم جرّبوا من بني جنسهم فرض الضرائب، والإتاوات، والظلم، والطبقية، والمفاضلة بين الناس، والتسلط، والعنجهية، والعدوان، والقسوة، وجربوا من المسلمين العدل والإنصاف والصدق والتواضع وإعطاء الحق وأخذ الحق، فكان النصارى يفضلون أن يحكمهم المسلمون على أن يحكمهم بنو جنسهم من النصارى، وكذلك غيرهم.
فالفتح الحقيقي الذي استطاع المسلمون أن يحققوه هو فتح القلوب، وقد ترتب عليه فتح البلاد.
وقبل أن يوجد الإسلام في أي بلد، وقبل أن يحكم الإسلام في أي بلد، لا بد أن توجد القلوب التي تحبه، ولابد أن توجد القلوب التي تتطلع إلى عزته ونصره وتمكينه.
أيها الأحبة لا أفشي لكم سراً إذا قلت لكم: إن هذا العنوان: "صناعة الحياة" هو عنوان مستعار، إنما كان دوري فيه إلا الاقتباس، فهو عنوان كتاب لأحد الفضلاء وهو الأستاذ محمد أحمد الراشد، فقد ألف كتاباً صغير الحجم كبير الفائدة سماه: صناعة الحياة، وهو يتكلم فيه عن نظرية في الدعوة إلى الله عز وجل، فيها من الشمولية ما فيها وأنا أثني على هذا الكتاب وأطريه، وإن كان هذا الثناء وهذا الإطراء لا يعني بالضرورة الموافقة على كل ما في هذا الكتاب، فلكل إنسان رأيه واجتهاده، ولكن المقصود أن الكتاب بصفة عامة كتاب مفيد نافع لمن يقرؤه.
أما وجود اختلاف في مسائل أو اجتهادات مختلفة فيها، فهذا أمر لا غرابة فيه، ولا يحتاج إلى تأكيد، ولكنني أقول ذلك؛ لأن بعض الناس قد يفهموا من الثناء أو الإطراء شيئاً ما.
على كل حال فهذا الموضوع لعله أصبح ظاهره إقامة الجسور والعلاقات مع المجتمع؛ بحيث يحسن ظن الناس بالدعاة إلى الله تعالى، وتتعاظم ثقتهم بهم، ويعرفون أن الدعاة إلى الله تعالى هم الناصحون لهم، الحريصون على دينهم ودنياهم، وأنهم أصدق حديثاً من غيرهم، وأقوم قيلاً، وأنهم أكفأ في إدارة شئون الدين والدنيا، وما كان في الدعاة إلى الله من نقص، فإن هذا النقص موجود في غيرهم بصورة أعظم، وما كان في غير الدعاة إلى الله تعالى من كمال فإنه يجب أن يكون موجوداً في الدعاة إلى الله أيضاً بصورة أعظم.
والموضوع على كل حال -كما أسلفت- موضوع شامل وواسع سأتحدث فيه إن شاء الله تعالى في دروس ومحاضرات متفرقة، وأرجو أن يأذن الله تعالى بخروجه ضمن كتاب مستقل يكون أحد سلسلة رسائل ترشيد الصحوة.(10/10)
الدواعي إلى طرق موضوع "صناعة الحياة"
والذي دعاني في حقيقة الأمر إلى طرق هذا الموضوع والحديث عنه أمور:(10/11)
الفهم الجزئي للجهاد
النقطة الرابعة: مما يدعو لتناول هذا الموضوع أن طائفة من الدعاة نسيت كل هذه المعاني، وكل هذه الألوان من المجاهدات المشروعة والواجبة، وظنت أن الأمر يبدأ وينتهي في ميدان المعركة بالسلاح، وأن الحكم للسيف في كافة الظروف والأحوال، وهذا ليس بصحيح، وربما استشهد قائلهم بقول الشاعر: حينما تبدأ القنابل بالعزف تموت القصائد العصماء وقول الآخر: السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحدُّ بين الجد واللعب بيض الصفائح لاسود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب ونحو نقول: نَعَمْ! السيوف ينجلي بها الحق من الباطل في ميدان المعركة؛ لكن ميدان المعركة ليس هو ميدان القتال فقط، بل نحن في منازلة مع أعداء الله تعالى في كل الميادين.
ففي ميدان الاقتصاد منازلة بين دعاة الحق وبين دعاة الربا والكسب الحرام، وفي ميدان الأمور الاجتماعية منازلة بين دعاة الطهر والعفاف والفضيلة ودعاة الرذيلة والانحراف، وفي ميدان العلم منازلة بين دعاة الحق ودعاة الباطل، وفي ميدان الطب منازلة، وفي ميدان الإعلام منازلة، وفي كل ميدان من ميادين الحياة منازلة ومعركة ضارية حامية الوطيس، هي في حقيقتها -والله الذي لا إله غيره- أعظم وأشد وأكثر فتكاً من المعارك العسكرية.
ولكن أكثر الناس لا يدركونها؛ لأن الناس كثيراً ما يتكلمون عن حصول معركة في المكان الفلاني، والداوعي تتوفر على نقلها، لكن أقل الناس من يتكلمون عن الصراع بين الحق والباطل في هذه الميادين؛ لأنه صراع قد يكون مستتراً مستخفياً في كثير من الأحيان، لا يدركه إلا العاقلون العالمون المتابعون.
إن الجهاد -أيها الأحبة- بالسيف شريعة قائمة، ولا عز للإسلام إلا بالجهاد، ولكن هذا الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام له ألوان أخرى.
فالدعوة إلى الله تعالى شريعة أخرى قائمة، وحسن الخلق شريعة أخرى قائمة، وتأليف القلوب شريعة قائمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شريعة قائمة، والإحسان إلى الخلق شريعة قائمة، وسياسة الناس بالحسنى شريعة قائمة، فلماذا هذه النظرة الجزئية المختزلة؟! جوانب القضية -كما أسلفت لكم- كثيرة، وقد تحيرت كثيراً كيف أقدمها لكم، ثم اخترت أن أقدمها بشيء من الإيجاز والاختصار على أن تنتهي إن شاء الله في هذه الليلة.(10/12)
تصحيح نظرة الناس إلى المتدينين
الأمر الثالث: إن المجتمع أيها الأحبة -وهذه قضية تشغلني كثيراً -وحين أقول المجتمع: أعني مجتمع الأمة الإسلامية في كل بلد، ليس في هذا البلد فقط، وإنما في كل بلاد العالم الإسلامي- المجتمع يستمع إلى أقوال متناقضة عن المتدينين، فهو يسمع من خصوم المتدينين -وبلفظ آخر يسمع من خصومنا حتى يُفهم أننا من ضمن المقصودين أيضاً- يسمع: أن المتدينين قوم جفاة غلاط جهلة، تفكيرهم مغلق، ثقافتهم ضحلة، أهل عقوق وبخس للحقوق، وأنهم أصحاب مطامع دنيوية، وأصحاب طموحات مادية، وأنهم لا يستطيعون تفهم أمور الحياة الدنيا، ولا يستطيعون التعايش مع الناس، وأنهم ضيقو الأفق غير مقدرين للمصالح والمفاسد، وأنهم وأنهم فيسمع هجاءً كثيراً، ويسمع كلاماً غزيراً في نقد الدعاة وسبهم وعيبهم بالحق وبالباطل؛ وليس هذا بغريب، فخصمك لا يمكن أن يقول فيك إلا هذا ومثله.
وبالمقابل يسمع الناس في المجتمعات الإسلامية من الشيوخ والدعاة ومحبي الشباب الملتزمين: أن الشباب الملتزمين وأن الدعاة إلى الله تعالى أهل تقوى وصلاح وخلق فاضل كريم، وأهل قلوب تقية نقية، وأهل نفوس سمحة، وأنهم أهل همم عالية، وعقول كبيرة، وتنازل عن حقوقهم، وإعراض عن متاع الحياة الدنيا وزينتها، ونجاح في سائر تخصصاتهم.
فمنهم الطبيب الماهر، ومنهم المهندس الحاذق، ومنهم الفقيه النبيل، ومنهم العالم الجليل، ومنهم المربي الفاضل، ومنهم الخطيب المفوه، ومنهم ومنهم وهكذا أيضاً قصيدة طويلة في الثناء على شباب الصحوة وعلى الدعاة إلى الله تعالى.
وأقول بملء فمي: إنهم يستحقون هذا وأكثر منه، وأنا ممن يتغزل -إن صح التعبير- بالثناء عليهم في مواضع كثيرة، وأعتبر هذه قربة أتقرب بها إلى الله تعالى وأحمد الله تعالى عليها.
فقد رزقني الله تعالى حب هؤلاء -علم الله- ولو لم أعرف أسماءهم ولم أعرف وجهاتهم، إلا أنني أقرأ في وجوههم محبة الله ورسوله، وحب الخير للناس، والغيرة على دين الله عز وجل.
فيجد الإنسان في نفسه محبتهم والحرص على مصلحتهم، لا حرصاً في عاجل الدنيا، ولكنه أمر وضعه الله تعالى في قلوبنا لا حيلة لنا في تحصيله كما لا حيلة لنا في دفعه.
ولكن أريد بعد ذلك أن أقول: إن من طبيعة الناس عموماً أنهم يحكمون على المجموع من خلال واحد، من خلال رؤيتهم لفعل شخص واحد قد يحكمون على المجموع، فيعممون الحكم من خلال حوادث فردية، فإذا ابُتلي -مثلاً- بعض الناس بداعية يكون بذيء اللسان أو رديء الخلق، فإن الناس لا يقولون: فلان رديء الخلق ولكن بقية الدعاة صالحون، بل يقولون: هؤلاء الدعاة فيهم وفيهم وفيهم، ثم يستشهدون بقول فلان والعكس بالعكس، فقد يكون هناك داعية صالح فتجد أن المجتمع المحيط به والبيئة القريبة منه تثني على الدعاة كلهم وتستشهد بفعل فلان.
وهذا أمر سمعته كثيراً فقد سمعت من يثني على الشباب الصالحين، فإذا قلت له: ماذا رأيت منهم؟ قال: ولدي فلان ولد صالح وهو يفعل كذا وكذا وكذا، ثم أثنى عليه خيراً.
وسمعت والله من ينال من الشباب الخيرين، ومن الدعاة إلى الله تعالى، ويصفهم بأبشع الأوصاف والألقاب، ويشتمهم، ويقول: إن الأشرار خير منهم، وما رأينا منهم خيراً، فإذا سألته وقلت له: لماذا؟ قال: فلان فذكر ولده أو جاره أو قريبه، وأنه فعل وفعل، وفعل ثم ذكر أشياء قد يكون بعضها حقاً، وقد يكون بعضها باطلاً، ولكن الواقع يشهد أن بعض هذا الكلام يكون حقاً في كثير من الأحيان.
إذاً أنت أيها الداعية! عبارة عن عينة للبقية من الدعاة، فإن أحسنت في تصرفاتك وأقوالك وأفعالك ومعاملتك للناس، ووصلت وتسللت بحسن تلطف إلى قلوبهم؛ فنعم الممثل أنت لنا! ونعم المعبر عنا! ونعم الناطق بلساننا! فأنت الرائد الذي لا يكذب أهله، وإن كانت الأخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا لا يعني أننا نطالب الدعاة ألا يدعوا إلى الله تعالى، وألا يقوموا بهذا الواجب إلا إذا كانوا مثالاً للأخلاق الفاضلة والكمالات لا! لكن يعني أن الإنسان ينبغي أن يحرص أشد الحرص على ذلك، ويبحث عن تحقيق وسائل هذه الدعوة بكل ما يستطيع.
وإذا علم أن هدف الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو إزالة المنكرات القائمة وإحلال المعروف بدلاً عنها، علم أن البحث عن دواعي القبول واجب وكما قيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولهذا تكلم العلماء في هناك حالات يحرم فيها إنكار المنكر لماذا؟ لأنه لن يزول بالإنكار بل سيزيد، وتكلموا عن حالات يحرم فيها الأمر بالمعروف لماذا؟ لأنه لن يتحقق إذا أمرت به، بل سوف يزول معروف آخر كان موجوداً أو يتحقق منكر آخر، والمقصود هو زوال المنكر وحصول المعروف.
وكذلك المقصود في الدعوة هو تحقيق الخير ونشره، وإزالة الشر والنهي عنه، والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها.(10/13)
أخطاء الدعاة
أولها: التجاوزات الكثيرة في تصرفات فئة من الدعاة ليست بالكثيرة، أما التجاوزات فهي كثيرة.
هذه الفئة لا تعترف بالناس ولا تقيم لهم وزناً، وتظن أن هذا من باب القوة في الحق ومن باب الصرامة، فيتلقى الناس هذه التجاوزات ويعظمونها ويتحدثون حولها، ويلصقونها بالدعاة إلى الله كلهم جملة وتفصيلاً.(10/14)
تركيز بعض الدعاة على الأخطاء
الأمر الثاني: طريقة بعض الإخوة في التركيز على أخطاء الآخرين والبحث عنها والعناية بها مما ينعكس سلبياً على ظن الناس بأن الدعاة إلى الله همهم البحث عن نقائص الآخرين، وأنهم يعتقدون في أنفسهم الكمال المطلق، ويعتقدون في غيرهم النقص المطلق.
والواقع أننا يجب أن ننتبه إلى محاسن الآخرين إلى جوار ذكر مساوئهم، فلا يسوغ أبداً أن يكون همنا دائماً وأبداً التنبيه على أخطاء بعض الناس؛ لأن الناس حينئذٍ يتصورون بأنهم مجموعة من الأخطاء! لا ينبغي هذا، بل ينبغي أن يكون ذكر الأخطاء مسبوقاً بذكر الحسنات؛ حتى يعلم الناس أنك إنسان منصف ومعتدل؛ فأنت تمدح فلاناً بأنه مقيم للصلوات الخمس، وتمدح الآخر بأنه بار بوالديه، وتمدح الآخر بأنه صادق النية صافي القلب، ليس في قلبه غل أو حقد على مسلم، وتمدح الرابع بأنه لا يأكل المال الحرام، وتمدح الخامس بأنه قائم بأعماله الموكلة والمسندة إليه، وهذا وهذا، وما من إنسان -وخاصة المسلمين- إلا وفيه بعض فضائل يمكن أن تمدحه وتثني عليه فيها.
وقد كان من عجيب صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يعرض نفسه على القبائل أنه ربما ذكر للقبيلة ولو شيئاً مما فيها؛ حتى إنه جاء لقوم يقال لهم: بنو عبد الله من قبائل العرب، فقال لهم: يا بني عبد الله! إن الله تعالى قد أحسن اسمكم، ثم دعاهم إلى الله عز وجل.
فكل جسر حاول أن تقيمه مع الناس حاول أن يكون وسيلة للعبور إليهم، والوصول إلى قلوبهم، كلمة طيبة، أنا لا أقول: امدح الناس بالباطل، ولا أقول: اجعل لسانك مداحاً تمدح هذا وذاك، بحق وبغير حق، وبغرض ولغير غرض لا! لكن إذا تكلمت مع إنسان أو مع جماعة من الناس أو مع طوائف منهم، فاحرص على أن تمهد بين يدي ما تريد من أخطاء ببعض ما تعلم من الحق والصواب الذي هم فيه.
وهذا المنهج قديم، ومن قرأ في سير الدعاة عرف هذا.
اقرأ مثلاً رسائل الشيخ ابن تيمية للعلماء ورسائله حتى للصوفية، ورسائله لبعض الشيوخ الذين عليهم مآخذ وانحرافات، تجده رحمه الله يمهد لذلك بذكر بعض ما لهم من الفضل وما لهم من الخير، وما لهم من الإحسان، ومن هدى الله على أيديهم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى تقويم ما عندهم من الخطأ والاعوجاج.(10/15)
القيام بحقوق الآخرين الخاصة والعامة
فالجانب الأول الذي أطالب نفسي وأطالب إخواني من الدعاة إلى الله تعالى والمنتسبين إلى العلم الشرعي بالقيام به هو: القيام بحقوق الآخرين من الخاصة والعامة.
فأما الخاصة فكالوالدين والأزواج والأبناء والإخوة والجيران والزملاء، ولكل من هؤلاء حقوق على وجه الخصوص، وفي هذه الحقوق آيات ونصوص، وليس المجال مجال بسطها وعرضها، وأوسع من ذلك كله حق المسلم على المسلم، فالسلام ورد السلام، وتشميت العاطس، ونصر المظلوم، وكف الأذى، وإبرار المقسم، وعيادة المريض، واتباع الجنائز كل هذه حقوق بينها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث البراء وغيره، وهي حقوق ثابتة راسخة يجب على المسلم أن يؤديها لأخيه المسلم، فكيف بالداعية وأخيه الداعية؟! أو إلى أخيه المسلم الذي يحتاج أن يكون مدعواً إلى الله تعالى؟!(10/16)
من أسباب القسوة على الأهل عند بعض الدعاة
وأيضاً ينبغي أن يراعى أن بعض الدعاة يشحنون الشباب والتلاميذ بقصص المواجهة مع الأهل.
فتجد مثلاً الداعية يذكر كثيراً لطلابه وتلاميذه قصة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وكيف قتل أباه، وكيف أن عمر قتل قريبه، وأبا بكر وفلان وعلان، فيذكر قصص المؤمنين الأولين، فينشأ الشاب الصغير أحياناً، وفي قلبه روح المواجهة والتحدي والإصرار، فهو مستعد للمقاومة في البيت، حتى ولو كان آباؤه متدينين وصالحين، فتجده عند أقل خطأ -بل حتى عند أشياء ليست خطأً أحياناً- يثور في وجوههم ويقاومهم ويتكلم في حقهم، وربما خرج من المنزل وتركه لمثل هذه الأسباب.
وقد ذكروا قصة أبي عبيدة كما قلت لكم- مع أن قصة أبي عبيدة في قتله لوالده غير صحيحة - وقد نبه الإمام النووي في كتابه المجموع وغيره من أهل العلم إلى أن قصة قتل أبي عبيدة لوالده غير صحيحة، وأن والد أبي عبيدة قد مات في الجاهلية أو قتل.
لكن ينسى هؤلاء أن يذكروا قصة سعد بن أبي وقاص، وأصلها في صحيح مسلم، وقد رواها الإمام أحمد في مسنده كاملة، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: نزل فيَّ أربع آيات من القرآن، وذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] وذكر قول الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وذكر الآية الثالثة، وذكر الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] كيف نزلت؟ لما أسلم سعد قالت أمه: أليس صاحبهم يأمرهم ببر الوالدين وصلة الرحم؟! والله لا آكل طعاماً حتى يكفر، فكانوا إذا احتاجوا إلى أن يعطوها الطعام، شجروا فمها بعود أو عصاً، ووضعوا فيه الطعام بالقوة، فأنزل الله تعالى قوله: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] أي: أنه كان على سعد أن يلطف بأمه، وربما جاء في بعض الروايات أنه قال: والله لو كان لها مائة نفس فماتت نفساً نفساً، ما رجعت عن ديني، وهو لن يرجع عن دينه بطبيعة الحال، لكن كان يستطيع أن يطلب منها أن تأكل وأن يهادئها بغير ذلك، فأمره الله تعالى بالإحسان إلى والدايه حتى ولو كانا مشركين: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] .
إذن ينبغي أن يتنبه الداعية إلى الأثر السلبي لمثل هذه الأساليب التربوية في معاملة الشباب لوالديهم ومجتمعهم، وإلى أن يوجد الموازنة بين مثل هذه القصص والأخبار مع تلك الآيات والأحاديث والقصص والأخبار التي فيها بيان حقوق الوالدين، وحقوق الأهل، والأقارب، والجيران، وحقوق المسلمين إلى غير ذلك، حتى ينشأ نشأة سليمة معتدلة متوازنة.(10/17)
آثار ترك حقوق الآخرين
وربما وجدنا في مقابل ذلك أباً يقول: لا ندري ما هؤلاء المطاوعة؟ وما منا أحد إلا سمع هذا الكلام من بعض الآباء خاصة يكونون بعيدين عن العلم والخير ومجالس الذكر، لا ندري من هؤلاء المطاوعة كما يسميهم.
صحيح أن منهم من يكون ذا لحية أو ذا ثوب قصير، ولكن ما إن تتكلم مع الواحد منهم حتى يزجرك وينهرك ويغلظ عليك في القول، فهولا يعرف للكبير حقاً، ولا يعرف للصغير رحمة، وينسى جميع عيوبه، ولا يعرف إلا عيوب الآخرين.
وربما تسمع أباً ثالثاً يقول: ولدي قتل في معركة في ميدان من ميادين الجهاد، وأنا لم أكن علمت أنه قد سافر أصلاً، وربما سمعنا هذا من آباء فضلاء غيورين.
وربما سمعت أماً، تقول: وقد غضبت بنتها الملتزمة من وجود خادمة بالبيت، فقالت البنت الملتزمة: لا يمكن أسكن مع هذه المرأة أما أنا أو هي! لا تريد وجود خادمة في المنزل، وقد تكون الخادمة غير مسلمة، وفي وجودها أضرار كثيرة، وليست هذه محاضرة للكلام عن ضرر الخادمة، لكن الكلام حتى تستطيع أن تخرج الخادمة من المنزل، قالت لأمها: لا يمكن وجود هذه الخادمة في المنزل إما أنا أو هي، إذا ما خرجَتْ فأنا سوف أذهب إلى أخوالي أو إلى جدي أو إلى جدتي.
فقالت لها أمها: والله هذه الخادمة خيرٌ لنا منك -لنفترض هذه الفتاة ملتزمة- وأنفع، فأنتِ إما أن تكوني في المدرسة أو تكوني في غرفتك تقرئين أو تنامين أو تكلمين زميلاتك في الهاتف، ومالك عمل في البيت إلا النقد والاعتراض، وهذا خطأ، وهذا لا يصلح، وهذا لا يكون، وهذا لا يصير! أما أن تقومي بدورك، وتقومي بواجبك، وتخدمي أباك وأمك، فهذا ما لا تفعلينه.
أنا أقول: هذا مثال لواحدة فقط، وإلا فإنني أقول: إن كثيراً جداً من الشباب وكثيراً جداً من الفتيات المؤمنات المتدينات هم أكثر من غيرهم قياماً بالحقوق، لكنني أعالج تلك الظاهرة السلبية الموجودة في بعض هؤلاء.(10/18)
آثار القيام بحقوق الناس
كم سمعنا من أب يقول: يا ولدي بارك الله فيك! وكثر الله من أمثالك! فأنت بار بوالدك، وصول لرحمك، محسن إلى جيرانك، لم أسمع منك طيلة عمري كلمة سخط، تمر علي كل صباح، فتقبل رأسي وتقول: يا أبت! صبحك الله بالخير! وفي المساء تمسيني وتقول: مسَّاك الله بالخير! وربما أغلظت لك في القول، وهجرت لك في العبارة، فتتبسم في وجهي وتقول: عفا الله عنك يا أبتاه، وفي المقابل ينطلق هذا الأب ليمدح شباب الإسلام، ويمدح الدعاة إلى الله تعالى، ويمدح طلبة العلم كلهم لهذا السبب.
وكم سمعنا من أسرة تثني على الشباب المتدينين، وتقول في المجالس العامة والخاصة: لا تزوجوا إلا المتدينين، فإذا قيل لهم: لماذا؟ قالت الأم: بنتي أخذها واحد متدين، فأحسن إليها، وأكرم جوارها، وقام بحقوقها، ورباها على الخير، وحفظها وقام بحقها، فرأينا أن المتدينين خير للناس، وهكذا تجد أن حسن المعاملة من أخ أو ابن أو أب أو زوج أو قريب تنطلق إلى الجميع، فتكون خيراً وبراً لهم، وربما تعدت أيضا إلى الدعاء للعلماء والدعاة وطلبة العلم الذين كانوا سبباً في هداية هؤلاء واستقامتهم على الطريق نظراً لعنايتهم بالنشء تلك العناية وترتيبهم لهم تلك التربية.
وكثير من الناس يثني على الشباب المتدينين لماذا؟ قال: لأنهم يرعون الكبير، أو يرحمون الصغير، أو يدلون الأعمى، أو يحترمون غيرهم، أو يتلطفون في حديثهم، أو يقومون بالخدمات المناسبة سواء في الأزمات أوفي غير الأزمات، أو لأنهم كما يقال يفزعون عند النوائب وعند الحاجة وهذه الأشياء وغيرها كثير كلها رصيد في نفوس الناس للمتدينين يظهر عند الحاجة إليه.(10/19)
حسن الخلق
ننتقل بعدها إلى نقطة أخرى أيضاً وهي قضية حسن الخلق، وحسن الخلق لا حاجة لي أن أتكلم الآن عن أهميته في الدين، وأن الله تعالى وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وأن النبي صلى الله عليه وسلم لخص مهمة رسالته بقوله: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} وفي رواية: {مكارم الأخلاق} .
فالكلام عن هذا يطول، وإنما أتكلم عن أن الداعية ينبغي أن يتحلى بقدر طيب من ذلك.(10/20)
تجنب التسلط وإلقاء الأوامر
ومما يجب أن يراعى أيضاً ألا يكون في أسلوب الداعية في إنكاره للمنكر نوعاً من التسلط أو ممارسة -كما يقولون- الأستاذية على الآخرين، وإشعارهم بأنهم لا بد أن ينفذوا منذ البداية.
بل إن أمكن أن ينفذ الناس ويغيروا من قبل أنفسهم وبواسطة قناعاتهم الذاتية؛ فهذا هو الأفضل والأمثل، فأحياناً تجد على إنسان خطأً فلا تأت من منطلق أنك أستاذ أو أنك فوقه أو أن لك سلطة، فتقول له: غيِّر وتأمره منذ البداية بالقوة، ربما تأخذه العزة بالإثم فيرفض، لكن لو أتيته -كذا لو كان لك سلطة- في البداية تأتيه بالأسلوب الحسن وبالكلمة الطيبة وبالمحاولة، وكأنك لا تملك أية وسيلة إلا الكلمة، فحينئذٍ ربما يقتنع ويغير من ذات نفسه، ويكون هو نفسه أكثر حماساً منك -ربما- لتغيير هذا الأمر، والحكمة يحصل الإنسان بها على أشياء لا يمكن أن يحصل عليها بالقوة.(10/21)
تربية النفس على حسن الخلق
ونحن لا نطالب الداعية أن تتكامل فيه جميع الصفات في يوم وليلة، لكن يجب أن يسعى إلى تكميل نفسه بكل ما أوتي من قوة.
فأنت -مثلاً- أيها المسلم، تتعلم الحلم من خلال حياتك العملية، حين تكون في السيارة، ويكون أمامك شخص بطيء الحركة أو ضعيف في فن قيادة السيارة، تتعلم الحلم من خلال مشيك وراءه، فلا تزعجه بالمنبه أو تسعى إلى الخروج بطريقة غير معقولة مثلاً، تعتبر هذه فرصة؛ لأن تمارس الحلم وتعرف ما مقدار قدرتك على ضبط أعصابك، أو تستمع إلى شخص بطيء الكلام مولع أحياناً بذكر التفاصيل التي لا حاجة إليها، فتتعلم الحلم من خلال الصبر عليه، فتضع أذنك لشخص يذكر لك قصة، أو يسألك سؤالاً، فيعطيك ثلاث صفحات في كلام لا جدوى منه ولا طائل من ورائه، ويذكر لك تفاصيل، وجزئيات، وأسماء، وأحداثاً، وأخباراً، وأرقاماً، وفي النهاية تجد السؤال جزئياً وصغيراً وقصيراً، فبعض الناس يقوم في وجه هذا الإنسان، وربما نفض يده وربما عاتبه وربما وبخه.
لكن عود نفسك قدر المستطاع وتعلم وجرب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الخطيب البغدادي وغيره وسنده جيد أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إنما الحلم بالتحلم} وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن يتصبر يصبره الله} يتعلم الصبر، يتعلم الحلم، يتعلم حسن الخلق، الحياة مدرسة تتعلم فيها.
أحياناً تتعامل مع شخص فظ غليظ صخاب يرفع الصوت بذيء العبارة! عود نفسك أن تقابله بالهشاشة والبشاشة والابتسامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي كما مر قبل قليل.
أحياناً تجد جفاءً من بعض من تواجههم، جفاء بالقول وجفاء بالفعل، فجرب نفسك كيف تكون أعصابك حينئذٍ؟ وعلى الشاب والمسلم بشكل عام أن يتجنب الانتصار للنفس، وأقول بملء فمي: نحن كثيراً ما ننتصر لأنفسنا أكثر من انتصارنا للحق الذي نتحمس له.(10/22)
من آثار الغضب
فقد ترى شخصاً على منكر، فتنكر عليه بلطف وبكلمة طيبة، فيجادلك فتجادله بالتي هي أحسن، فإذا سبك هذا الإنسان أو نال منك أو سب قبيلتك فنجد أنك بسرعة غضبت وثارت أعصابك، وتكلمت عليه بما لا يحسن وما لم يحدث منك حين رأيت المنكر! وهكذا تكتشف يا أخي الحبيب أنك غضبت لنفسك، أو أنني أنا إن كنت صاحب الموقف غضبت لنفسي أكثر مما غضبت للحق الذي رأيته مهدراً أومن المنكر الذي رأيته قائماً أومن المعروف الذي رأيته متروكاً.
والداعية بشر على كل حال، ونحن لا نطالب بأخلاق الملائكة، وإنما نطالبه أن يحاول أن يقتدي بأخلاق الأنبياء، فمسئوليته كبيرة ومكانته ليست كغيره: قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} والله ما أجمل أن أجلس على هذا الكرسي وعلى هذه الماسة، وأتكلم معكم بالكلام الطيب والأخلاق الفاضلة، ونسرد فيها القصص، لكن ربما من أقل موقف يذهب كل هذا أدراج الرياح، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة! ما صنعنا شيئاً إذا كان الأمر كذلك.
ينبغي -أيها الإخوة- أن يتحول هذا الكلام إلى منهج عملي لنا في أشخاصنا، وفي ذوات نفوسنا، وإلا فلا فائدة في الكلام حينئذ.(10/23)
الإحسان إلى الناس والدفاع عن مصالحهم
الأمر الثالث أو الجانب الثالث من جوانب الموضوع: هو الإحسان إلى الناس والدفاع عن مصالحهم، وخاصة الضعفاء والفقراء والمعوزون.
لا شك أن من الدين الحديث عن هموم الناس المعيشية وما يعانونه وما يواجهونه من مشاكل أو مصاعب أو مصاعد أو أزمات والسعي للتخفيف عنهم بكل وسيلة ممكنة، فهذا من الدين، وإنه لشرف كبير جداً للعالم أو الداعية أن يقصده الناس في كل ما ينوبهم وينزل بهم من أمر الدين أو أمر الدنيا.
فأنا أعتبر أنه شرف للعالم أن الفقير يأتي يطلب عنده المساعدة، وأن المظلوم يأتي يطلب عنده النصرة، وأن الذي عنده مشكلة في البيت يأتي يطلب منه حلها، وأن الذي يبحث عن عمل من حقه أن يحصل عليه يأتي للداعية أو العالم ليشفع له أو يحرص على إيصاله إلى حقه.
لا شك أن هذا شرف كبير للداعية ودليل على أنه يتقن صناعة الحياة.(10/24)
الرسول ومعالجة مشاكل الناس
ولما فتح على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وجاءت الدنيا في يده كان عليه الصلاة والسلام يقول: {أنا أولى بكل مسلم، أيما مسلم ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ، وأيما مسلم ترك مالاً فليرثه ورثته من كانوا} .(10/25)
العلماء ودفع ظلم الحكام عن الناس
ولقد كان العلماء عبر العصور وعبر التاريخ يقاومون الحكام الجائرين النهابين وما يطرحونه على الناس ويفرضونه من العشور والضرائب والإتاوات وغيرها، ويجاهدون لتنفيذ شريعة العدل بين المسلمين، ويعتبرون هذا جزءاً من واجب المجاهدة التي ألقاها الله تعالى على عواتقهم، وهذا مع أنه جزء من الدين -فإن الدين جاء بتحقيق بالعدل- إلا أنه مع ذلك سبب لقبول الناس للحق ومحبتهم للعلماء.
فإذا رأى الناس أن العلماء قد أفلحوا في تخفيف الرسوم والتكاليف التي أثقلت ظهورهم، وأنهم دافعوا عن حقوقهم، وأنهم وقفوا في وجوه ظالميهم؛ عرفوا أنهم لا يريدون بالناس إلا الخير، ولا يريدون إلا المصلحة العامة للآخرين.
حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول -كما في صحيح البخاري- يقول: {أبغوني ضعفاءكم؛ فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم واستغفارهم} فلا تزدر أو تحتقر عملاً تقدمه لضعيف أو فقير أو مسكين أو مظلوم، أو حتى لإنسان ضعيف العقل أو إنسان ضعيف البنية أو لشخص لا يوجد من يدافع عنه؛ فإن الله تعالى يحب العبد الذي ينصر أخاه المسلم بالحق لا بالباطل.
والضعفاء والفقراء عادة أصفى فطرة وأسلم قلباً وأبعد عن الأبهة والخيلاء التي عادة ما تكون في الكبراء والمترفين والأثرياء.
ولهذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على مصالح الناس الدينية والدنيوية بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .
فالأمر الذي يشق على الناس يشق على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم حتى في أمور دنياهم، وهكذا ورثة النبي صلى الله عليه وسلم من العلماء والدعاة، وما مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية أو سلطان العلماء العز بن عبد السلام -في الدفاع عن مصالح الناس وحقوقهم- منا ببعيد.(10/26)
الدفاع عن حقوق العمال
وكما أن من الدين الحديث عن حقوق المستضعفين والفقراء المظلومين والمهضومين والدفاع عن مصالحهم الدنيوية، فكذلك من الدين الحديث عن حقوق العمال ومآسيهم ومعاناتهم، فهم طبقة في المجتمع لا يكاد يشعر بها أحد، ولا يكاد يدافع عنها أحد.
ولست أقصد فقط العمال الذين أتوا من الخارج وخاصة حين يكونون مسلمين؛ بل حتى حين يكون الإنسان عاملاً في أي بلد، سواء كان في بلده، أوفي غير بلده، ولستُ أتحدث عن بلد بعينه، وإنما أتكلم عن بلاد المسلمين من مشرقها إلى مغربها، وفي كل بلد طبقات من العمال سواء من أهل البلد الأصليين أومن الطارئين عليهم من غيرهم.
فهذه الطبقة من العمال تعاني ما تعاني من أرباب العمل في أحيان كثيرة، تعاني من الجور والظلم، وتعاني من منع الرواتب، وتسكن أحياناً في زرائب لا تسكنها حتى الحيوانات، ولا تجد في كثير من الأحيان القوت الذي تأكله، بل لا تجد في أحيان كثيرة التذكرة التي تستطيع أن تسافر بها، وربما حُمّلوا من العمل ما لا يطيقون إلى غير ذلك من ألوان الظلم التي قد تكون سبباً في عقوبة من الله عز وجل تنزل بالمجتمع الذي يظلم هؤلاء الضعفاء والمساكين ولا يؤدي حقوقهم.
مع أن هذا الظلم هو أخطر قنبلة يمكن أن تنفجر في أي مجتمع، وقد استغلت الشيوعية هذا الخطر -خطر العمال والمظلومين- زماناً طويلاً، ومنتهم الأماني بأنها سوف تعيد إليهم حقوقهم المهضومة، وتدافع عن مصالحهم، وترفع الظلم عنهم، فاستغلتهم أبشع استغلال، ورفعت شعار: يا عمال العالم اتحدوا، وادعت أنها سوف تحكم باسم طبقة العمال أو البيروليتاريا كما يسمونها، وباسم العمال سرقوا العمال أيضاً!! وهذا ليس بغريب فهم -أعني الشيوعيين- أتباع الشيطان، والله تعالى يقول: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [الإسراء:64] فجنود الشيطان يعدون الناس بالوعود الكاذبة ولا يوفون.
أما جنود الله تعالى وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم ينبغي أن يعدوا الناس الوعود الصحيحة، بل ينبغي أن يقدموا للناس عربون الوفاء والصدق فيما يقولون، وأن يكون واحدهم صاحب وعد حق كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] .
ولما جعله على خزائن الأرض وعده فوفى ووجده حفيظاً عليماً كما وصف نفسه عليه صلاة الله وسلامه.(10/27)
الدفاع عن المرأة وحقوقها
ومن الدين أيضاً الحديث عن المرأة والدفاع عن حقوق المرأة، ومن المؤسف جداً أن يتولى الدفاع عما يسمى بحقوق المرأة العلمانيون وأعداء المرأة، فيتظاهرون بأنهم مدافعون عن حقوقها، وأنهم يريدون رفع الظلم عنها، وقد يستغلون بعض الظلم الذي يوجد حقيقة على المرأة في بعض البيئات وبعض المجتمعات.
ومرة أخرى أقول: أنا لا أتكلم عن بلد بعينه، بل أتكلم عن مجتمع المسلمين في كل مكان، وسيكون هذا المجتمع هو ميدان حديثي في المستقبل بإذن الله تعالى بشكل عام دون حاجة إلى التذكير الدائم بهذا الأمر.
فالمرأة تعاني أحياناً من منع الميراث، وأحيانا تمنع حتى من العبادة المشروعة، وأحياناً يتصرف فيها أبوها، وكأنها سلعة للبيع والشراء، ولا يأخذ رأيها حتى في بضعها وفي من ينكحها ومن يزوجها! في الرجل الذي يكون شريك حياتها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة بسند جيد- يقول صلى الله عليه وسلم: {إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة} ولا يكفي الكلام حينما نتكلم عن المرأة أن نتكلم عما يجب على المرأة، يجب أن تفعل، ويجب أن تفعل! بل يجب أن نتكلم أيضاً عما يجب للمرأة عن حقوق المرأة، وهذه أعظم ضمانة نستطيع أن نقطع بها الطريق على دعاة تغريب المرأة وتخريبها المسمين بدعاة تحرير المرأة.
فلن تنصت لدعاوى المستغربين والعلمانيين الذين يستغلون الظلم الواقع عليها، ويطالبون بحقوقها، لن تنصت لدعواهم إذا استطعنا نحن المسلمين وطلبة العلم والدعاة إلى الله أن ندافع عن حقوق المرأة، ونبين الظلم الذي وقع عليها، وأنه يجب رفعه ممن وقع منه في، أي: بيئة كان وفي أي بيت كان وفي أي مجتمع كان.(10/28)
بذل النصيحة والمشورة
ومن الإحسان أيضاً إلى الناس: بذل المستطاع من جاه أو مال أو مشورة أو نصيحة في دين أو دنيا، فيكون الداعية إلى الله تعالى أو طالب العلم أو الشاب المتدين أول المسارعين إلى البذل والعطاء والكرم والجود بكل ما يملك من مال أو جاه أو شيء يستطيعه أو رأي؛ حتى يعلم الناس أن الدنيا ليست من مطامعه ولا من مطامحه، ولسان حاله يقول: قلبي خليٌّ عن الدنيا ومُطَّلبَي ربي فليس سراب العيش من أربي وأقل درجات الإحسان على كل حال؛ هو كف الأذى عن الناس بالقول أو الفعل أو المزاح.
فمثلاً تراعي ألا تخدش مشاعر الناس بقسوة العبارة، وأنت تستطيع ليونة العبارة، وتراعي أن تبتسم في وجوه الناس، فتبسمك في وجه أخيك صدقة، وتراعي ألا توقف سيارتك بحيث تؤذيهم، وقد اشتكى إلى بعض الإخوة من بعض الإخوة الذين يأتون إلى هذا الدرس أنهم قد يوقفون سيارتهم بطريقة تمنع الآخرين الذين جاءوا للتسوق من الانصراف، وتحملهم بعض الأذى أو تشق عليهم، وتسمح للناس بالتجاوز في الطريق سواء كانوا رجالاً على أقدامهم أو ركباناً على سيارتهم، ولا تعتبر أن من الشجاعة أو الشطارة أن تسرع بسيارتك بألا يتجاوز أحد أمامك، لا ترمِ القمامة في مكان غير ملائم يكون مؤذياً لك أو لغيرك، لا توقف سيارتك أمام باب الجيران أو غيرهم من الناس.
وهكذا مئات من الأمثلة بل ألوف من أمثلة السلوكيات التي لو تفطن لها الإنسان لأدرك عظيم خطرها لموقف الناس من الدعاة، وأدرك أنه في كل خطوة أو تصرف -حتى لو كان في نظرنا تافهاً- فإنه يستطيع أن ينفع أو يضر من خلال هذا التصرف.
قد يقول قائل: كون الواحد يشرب البيبسى ثم يلقى به من نافذة السيارة ماذا يضر؟ وهل يستحق هذا أن تتكلم عنه في محاضرة؟ فأقول: إن مثل هذا التصرف هو عبارة عن نقطة من سيل! إذا كثرت مثل هذه التصرفات مع نوعية معينة من الناس أحدثت عند الآخرين تصوراً، مع أن القضية ليست هذه القضية الجزئية البسيطة، لكنها قضية آلاف الأمثلة التي هي في مجموعها تشكل الحياة، ونحن نتكلم عن صناعة الحياة.
فكن يا أخي الحبيب من صناع الحياة الذين يتقنون الوصول إلى قلوب الناس بكافة الوسائل! بل بالأمور البسيطة اليسيرة.(10/29)
القرآن وهموم الناس
ونحن نجد في القرآن الكريم لوماً وتقريعاً للذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين لا يهتمون بالفقراء والمساكين والمعدمين في آيات كثيرة جداً، حتى في مكة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً من الدنيا، ومع ذلك كان القرآن ينزل: بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6] الذين {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:1-2] .
ويقول عز وجل: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:27-20] ويقول سبحانه: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:11-16] إلى آخر الآيات.
إذاً عُني القرآن -حتى في مكة- بالحديث عن هموم الناس المعيشية الدنيوية، في الدفاع عن حقوق المستضعفين، في رفع الظلم عن المظلومين، في المطالبة بحقوقهم وحمايتهم، وأقل ما يمكن هو وعيد الذين يقومون بظلم الناس وبخسهم والاعتداء على حقوقهم، وعيدهم بالنار هذا أقل ما تملك، ولكنك قد تملك أحياناً أكثر من ذلك، فيجب عليك أن تفعله.(10/30)
شبهة وجوابها
سيتساءل البعض -وربما يكون هناك أسئلة قرأت بعضها من هذا القبيل- يقول: كأننا جعلنا عملنا إذاً بحسب رضا الناس؟! فأقول: أولاً: رضا الناس في مثل تلك الأشياء والأحوال التي تكلمت عنها هو من رضا الله عز وجل لأمور منها: أنه ليس في هذه الأشياء معصية لله تعالى، بل هذه الأمور إما أن تكون طاعة لله عز وجل أوهي على أقل الأحوال أمور مباحة لا حرج فيها؛ فرضا الناس من رضا الله.
ثانياً: أن الهدف -في كسب رضا الناس حينئذٍ- ليس لأن ننال مديحهم وثناءهم، ولا أن نسلم من شرهم، ولكن أن نحقق استجابتهم للدعوة إلى الله تعالى، إنك ستواجه الناس أيها الداعية بأشياء كثيرة خلاف ما يألفون وخلاف ما يحبون مما اعتادوا هم عليه وهو منكر، فتريد أن يتركوه وأن تفطمهم عنه.
وهناك أشياء مدعاة للكراهية ومدعاة للامتعاض منهم، فلا بد أن تعوضهم عن ذلك بتوفير بعض ما يحبونه بحيث تدفع كما يقولون: هذا يبرِّد هذا! فيكافئ أحدهما الآخر، ولا يجوز أن يكون دورك أيها الداعية مقتصراً على كلمة لا، أو كلمة حرام فحسب، بل يجب أن تقول: حرام لما هو حرام، وتقول: لا فيما يجب أن يقال فيه: لا، وأن يتعدى دورك مع هذا إلى الدور الإيجابي المؤثر في الحياة.
مثال: إذا كان عند أسرتك زواج، فأنت تعرف أنه سيقع في الزواج منكر، فلا يجوز أن يكون دورك فقط أن تقول لا تفعلوا، لا تفعلوا، لا تفعلوا؛ لأنهم لن يطيعوك حينئذٍ.
بل ينبغي أن تحجز مكاناً لقبول رأيك، فتحاول أن تخدمهم؛ فتوزع بطاقات الدعوة للزواج، تيسر الأمور، تستقبل الضيوف، تقوم بالخدمات، توفر الإمكانيات، تأتي بالبسط، والمعدات الكهربائية، والمصابيح التي يحتاج إليها، والعقود الكهربائية إلى غير ذلك بحيث تكون فعالاً ومؤثراً في عملية تيسير موضوع الزواج.
فإذا جاءت قضية الأمور التي لا تجوز قلت: لا! هنا قفوا! لا نريد أن نرتكب ما حرّم الله عز وجل، لا نريد أن نأتي بالغناء المحرم فيسمعه الناس، لا نريد أن يسمع الرجال أصوات النساء، لا نريد اختلاط الرجال بالنساء.
وهكذا يكون كلامك مؤثراً لماذا؟ لأنك أصبحت صاحب قرار، أصبحت فعلاً قد حجزت مكاناً لرأيك قبل أن تقول الرأي أو تقدمه نفسه.
أيها الأحبة لقد حيل بين المسلمين وبين معرفة حقيقة الدعاة -كما ذكرت قبل قليل- بحوائل كثيرة، فجعلوا قبول الدعوة، في كثير من الأحيان أمراً فيه صعوبة، بل قد صوّرهم الإعلام بكافة الصور، ونحن ينبغي أن نسعى دائماً وأبداً إلى إزالة هذه الصورة، وأن يعلم الناس حقيقة ما في قلوب الدعاة لهم.
وأترك ما بقى من الكلام، وهولا شك كلام مهم، ولكن أريد أن أترك بعض الوقت للأسئلة، وهذه بعض الأسئلة.(10/31)
الأسئلة(10/32)
مسئولية الدعوة إلى الله
السؤال
ما رأيك في الاعتقاد السائد عند بعض الناس أن الدعوة إلى الله تعالى ملقاة على عاتق طلاب الشريعة والدراسات الدينية، وينفي المسئولية عن طلاب التخصصات الأخرى؟
الجواب
لا أبداً! الحياة مدرسة، فيها صناع من كل الألوان والأنواع، وكل الدعاة إلى الله تعالى من صناع الحياة الذين يجب أن يقوموا بدعوتهم من خلال تخصصاتهم، فالفقيه يتكلم فيصدقه الطبيب ويصدقه الاقتصاد.
وربما قال الفقيه مثلاً: إن الربا يمحق المال، فلم يصدقه الناس -أو كثير من الناس- لضعف يقينهم، فقام عالم الاقتصاد وقال: صدق الفقيه! الربا يمحق الاقتصاد وهذه هي الأدلة، فقال الناس: آمنا وصدقنا.
وربما قال الفقيه: الزنا سبب للانهيار، والزنا سبب لكثير من الأمراض، والزنا سبب لتفكك الروابط؛ فشك الناس في أمره، فقام الطبيب وقال: صدق الفقيه! وهذه هي الإحصائيات، وهذه هي الأدلة وهذه هي الأرقام، فصدقه الناس، فنحن نحتاج إلى كوادر من كافة التخصصات تقوم بالدعوة إلى الله تعالى.
وهذا الموضوع أيضاً في كثير من المحاضرات والدروس ألفت النظر إليها منها محاضرة للشيخ سعيد بن زعير، بعنوان: الدعوة إلى الله مسئولية من، ومنها محاضرة للشيخ عبد الوهاب الناصر بعنوان: العمل للدين مسئولية الجميع.(10/33)
إثم من ترك الحكمة في دعوته إلى الله
السؤال
بعض الدعاة بل كثير منهم إذا أراد النصح والإرشاد همه أن يبرئ ذمته في هذا الأمر، بغض النظر عما يؤول إليه فتجده يأمر وينهى باختصار فيرمي الكلام ويذهب، وكثيراً ما سمعته يقول: أنا بَرَّأْتُ ذمتي، أما النتيجة فيتحملها هو!! مع أنها نصيحة جافة جداً؛ فما رأيك؟
الجواب
أشرت إلى هذا الأمر، لا ينبغي أبداً أن يكون الداعية أنانياً بهذه الصورة؛ بل إن براءة الذمة قد لا تتحقق بهذا، ما رأيك في إنسان دعا بجفاف -كما قال: بكلمة جافة- ولم يمهد لها، فكانت النتيجة أن تضاعف المنكر؟! أعتقد أنه آثم! اللهم إلا أن يكون اجتهد وسعه حينئذ، فالمجتهد غير آثم، لكن إن كان غير مجتهد فحينئذ يكون آثماً، فلا تبرأ ذمته بل يتحمل وزراً جديداً، وينبغي أن يعرف الداعية أنه كما عليه أن يعرف الحق الذي يدعو إليه عليه أن يعرف الطريق في الدعوة إلى هذا الحق.(10/34)
التلطف والمزاح مع الزملاء
السؤال
لي زملاء منهم رئيسي ومنهم من هو دون ذلك؛ فهل أمازحهم في سبيل الدعوة وقلبي كاره لهم؟ وما رأيك في دائرة خدمات فيها مهندس مجوسي يرأس نحو150 مسلم هل من نصيحة للمسئولين الذين ولوا هذا المجوسي؟
الجواب
هذه كارثة أن يكون في بلاد الإسلام مجوسي يتولى على المسلمين، سواء كان ذلك في دوائر حكومية، أوفي شركات أهلية، وهي مصيبة موجودة، وأحياناً هذا الكافر يؤذي أولئك المسلمين في مناسبات الصلاة أو الصيام أو الحج أو غير ذلك.
وأما التلطف والممازحة لزملائك في العمل بقصد دعوتهم إلى الله تعالى فلا حرج عليك في ذلك.(10/35)
وسائل لكسب الإخوة الصغار
السؤال
ما هي الطرق والوسائل التي أستطيع بها أن أكسب قلوب إخواني الصغار ولكي أَبني أنا ما يهدمه والدي في التعنيف والضرب؟
الجواب
كسب قلوب الصغار سهل، فالصغار أصحاب قلوب طيبة وأصحاب فطرة سليمة، فتكسب قلبهم من خلال الكلام الطيب، من خلال اللطف معهم، من خلال القصص التي تقدمها لهم، من خلال الحلوى التي تهديها لهم، أو اللعبة الطيبة، أو تركبهم معك في السيارة إن كنت صاحب سيارة، وتحاول أن تساعدهم على حل واجباتهم، ولا تقسو عليهم، وإذا أخطئوا تصحح لهم الخطأ بالأسلوب المناسب، وتستمر على ذلك، وقد ترى أحياناً أن من الواجب أن تغضب عليهم أو تعاقبهم، لا مانع من ذلك، لكن لا يكون ذلك منك هو القاعدة أبداً، بل يكون هذا عند الحاجة.(10/36)
التوفيق بين تأليف القلوب وإنكار المنكر
السؤال
كيف نوفق بين تأليف القلوب وإنكار المنكر؟ حيث إن هذا الشخص لا تعرفه من قبل حتى تعامله بما يصلح له؟
الجواب
أصلاً تأليف القلب ليس له حد محدود، الابتسامة مثلاً: ابذل الابتسامة لكل أحد، فإذا وجدت هذا الإنسان عليه منكر، وتريد أن تنبهه عليه، فاجعل رسولك إليه الابتسامة الطيبة الصادقة التي تعبر عن قلب لا يحمل له إلا الحب.
ثم صافحه بحرارة وتكلم معه، واسأله عن أحواله، حتى إذا وجدت في قلبه ميلاً إليك، وهدأت نفسه، وزال ما يجب، فتسلل إليه بالأسلوب الذي تعتقد أنه مناسب، وتحدث معه فيما تريد.(10/37)
فقه أولويات الدعوة
السؤال
هل إذا ظننت أن إنكاري للمنكر قد يجلب منكراً آخر، أو يقضي على معروف، هل الظن يخولني ترك إنكار المنكر؟
الجواب
المسألة مسألة اجتهاد، فالإنسان الذي يريد إنكار المنكر إن استطاع وكان الأمر يتسع إلى أن يستشير غيره ممن يكون أعلم منه، فليستشر غيره في ذلك.
لكن إن كان الأمر لا يسعف ولا يمكن إلا أن يقوم هو بذلك، فعليه أن يجتهد وسعه في هذا الأمر ولا يألو، ويعمل بما يغلب على ظنه؛ لأن هذه الأمور ليس فيها يقين بطبيعة الحال، إنما فيها غلبة ظن، فإن غلب على ظنه أن المنكر يزول أنكر، وإن غلب على ظنه أنه قد لا يزول، ولكن لن يترتب مفسدة فإنه ينكر أيضاً.
لكن إن غلب على ظنه أنه لن يزول المنكر، بل سيوجد منكر آخر أعظم منه، أو يزول معروف أعظم، فحينئذ لا ينكر.(10/38)
مراعاة شعور الناس لا يستلزم ترك الحق
السؤال
من يقول: إني إذا راعيت شعور الناس في أعمالي فإني لن أعمل كثيراً من الحق؟ فماذا نقول له؟
الجواب
أقول: إن مراعاة الناس في هذه الأمور بالأسلوب الذي تكلمت عنه تفصيلاً هو من الحق كما حرصت على إظهار ذلك منذ البداية، من الحق الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعمله ودعا إليه واتخذه مبدأً في كثير من أعماله وأقواله وأحواله عليه الصلاة والسلام.
ثم إن الواقع يدل على أنك إذا راعيت شعور الناس حصلت على كثير مما تريد، وقد قال عبد الله بن المبارك: [[حسن الخلق شيء هين! وجه طلق وكلام لين]] الناس ليس في التعامل معهم صعوبة بل هو سهل، وبمجرد أن يكون وجهك طلقاً وكلامك ليناً، تحصل منهم على شيء كثير، وهذا أمر مجرب.
فليس المطلوب منك -الآن- أن تترك الدعوة أو تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تترك الإصلاح، لا! المطلوب أن تقوم بذلك كله، لكن أن تجعل الوسيط بينك وبين الناس جسوراً قائمة.
سمعتك بين الناس حسنة، تقوم بمصالح الناس الدنيوية، تحرص على ما ينفعهم، تتلطف إليهم بالخلق الفاضل، لا تترك سبيلاً إلى الوصول إلى قلوبهم والتسلل إليها إلا سلكته، ثم مع ذلك وقبله وبعده تدعوهم إلى الله تعالى، وستجد أن النتائج أكبر بكثير مما تتصور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله} الحديث.
فإذا ملكت قلب هذا الإنسان فكأنك استعبدته، فأصبحَ طوعَ بنانك، فنحن لا نريد استعباد الناس لأنفسنا، إنما نريد تعبيدهم لرب العالمين.(10/39)
جلسة على الرصيف
إن الحديث إلى أولئك الشباب الذين يملئون الأرصفة والطرقات في مجالسهم وأماكنهم أمر مهم جداً، وهو باب من أبواب الدعوة إلى الله تعالى، فلابد من إخراجهم مما هم فيه من الضياع وعدم الالتزام بالدين إلى نور الإيمان والطاعة، وهذه هي مسئولية الشباب الملتزم المستقيم على دين الله.
لذلك فقد تكلم الشيخ -حفظه الله- إلى الشباب بكل وضوح وصراحة، وبيَّن خطر الغفلة والضياع ثم ذكر قِصَر الدنيا وأنها لا تساوي شيئاً، وتكلم عن بعض أوصاف الجنة والنار، ثم حض على التوبة النصوح والاستعداد ليوم المعاد.(11/1)
الحديث مع شباب الأرصفة حقيقة لا خيال
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: موعدكم هذه الليلة مع الدرس الثلاثين وفي يوم السبت ليلة الأحد (8 /جمادى الأول/ 1411هـ) وعنوانه: (جلسة على الرصيف) .
صحيح أن الجلسة على الرصيف مما لا يسوغ ولا يليق بطلبة العلم كما تحدث عن ذلك أحد الإخوة الذين كتبوا إليَّ رسالة في هذا الموضوع، لكن الحديث معروف، وعنوان هذا الدرس ملائم لموضوعه إن شاء الله تعالى.
أخي الشاب أخي الحبيب!! السلام عليك ورحمة الله وبركاته حقيقة أقول لك: إني سعيد أنني أتحدث إليك الآن، لقد مر علينا زمن كنا نرى فيه فلذات أكبادنا، في مجالسهم وأماكن سمرهم وسهرهم، فيخيل إلينا أن الحديث إلى أولئك الشباب قد يكون ضرباً من الخيال والمحال، فإذا به الآن يصبح واقعاً فالحمد لله على كل حال.
أخي الحبيب، هل نطمع أن يكون هذا اللقاء الميمون في هذه الجلسة، وفي هذه المحاضرة، سبباً في الاتصال الدائم بيننا، نستمع إليك وتستمع إلينا، ونتدارس المشكلات بروح الأخوة والمحبة، أرجو أن يكون هذا اللقاء فاتحة خير وبركة لنا ولإخواننا من الشباب، بل أقول: هل نطمع أن يتسع صدرك لرؤية إخوانك الطيبين، حين يزورونك عشر دقائق أو خمس دقائق، ليتناولوا معك فنجاناً من الشاي، أو كوباً من الماء، ويرسلوا إليك خبراً يهمك، أو يحدثوك بقصة أو يستشيروك في مشكلة، أو يقدموا لك هديةً؟! أرجو أن يتسع صدرك -أيها الشاب- لمثل أولئك الإخوة! حين يقدمون إليك بما ذكرت.
نحن واثقون -أيها الأخ الكريم- أن كرمك الفطري، لن يعتذر عما نطلبه منك.
أخي، هل رأيت المآذن دوماً تشق الفضاء؟ أخي، هل سمعت النداء يردد: الله أكبر؟ أخي، هل غسلت فؤادك يوماً بنور السماء؟ تعال معي يا حبيبي إلى روضة من ضياء.
تعال إلى حيث يدعو المنادي صباح مساء: يردد الله أكبر.(11/2)
شباب الأرصفة والشباب المستقيم
أيها الشباب! إن الفرق كبير وكبير بين صنفين من الشباب، فرق بينهما في الاهتمامات المستقبلية، فرق بين من طموحه أن يمتلك سيارة فارهة فخمة يجوس بها خلال الديار، ويحدث بصرير عجلاتها الإزعاج للناس، أو يحمل عليها صديقاً أو زميلاً، وبين من يتعدى طموحه ذلك إلى أن يطمح في تحقيق نصر وعزة للإسلام، أو يطمح أن يكون ممن يكتب الله عز وجل على يديه انتصار هذا الدين، أو يطمح أن يكون عالماً يشار إليه بالبنان، أو داعية أو خطيباً يهز أعواد المنابر، أو مجاهداً يخضب الأرض بدمه.
وفرق كبير بين من غايته ومناه أن يمتلك بيتاً واسعاً، وزوجة حسناء جميلة، وبين من يطمح أن يكون من المتقين، الذين هم: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] .
فرق بين من يسهر الليل يتقلب على فراشه في أسف، حزناً لواقع الأمة الإسلامية، التي أصبحت تئن تحت المطارق والضربات ليلاً ونهاراً، وبين من يبيت يتقلب، لأن صديقه الذي امتلأ قلبه بحبه قد تركه إلى غيره، أو أن فريقه الذي يشجعه قد مُني بهزيمة منكرة، في مباريات رياضية.
أيها الإخوة! فرق كبير بين من يعد العدة ويتربص، ويعد الأيام والليالي ينتظر الإجازات؛ ليسافر إلى أماكن الفساد والرذيلة، في بانكوك أو كازابلانكا أو فرنسا وغيرها، وبين من يعد العدة ويترقب الأيام والليالي، ليسافر ليحيي شعيرة من شعائر الله، الجهاد في سبيل الله على أرض أفغانستان، أو على غيرها من بلاد الله، التي ترفع فيها أعلام الجهاد في سبيل الله عز وجل.
فرق أي فرق -أيها الإخوة- بين من يسافر؛ ليتعاطى الخمور والمخدرات، ويبيت في أحضان المومسات والبغايا؛ ليعود إلى بلده وقد فقد الحياء، والرجولة وفقد الدين، وفقد المال والصحة والسعادة، وبين من يذهب يدعو إلى الله عز وجل، ويبلغ الناس رسالات الله عز وجل، ومن يذهب إلى المسلمين يتفقد أحوالهم ويعايشهم، ويحاول أن يخفف عنهم من همومهم وآلامهم.
فرق كبير بين إنسان من الشباب، إذا سمعته المجالس فرحت وارتفعت الرءوس، واشرأبت الأعناق، وطاب الحديث؛ لأنه فلان بن فلان الرجل الطيب المطيب، صاحب الحديث اللذيذ، والمجلس المبارك، والصدقات، والابتسامات وتحفيظ القرآن والعلم والتعليم والمسجد والعبادة، وبين إنسان آخر إذا ذكر فإنما يذكر بالسب والشتم والدعاء؛ لأنه إما مدمن خمر، أو متعاطي مخدرات، أو آكل ربا، أو واقع في فاحشة، أو صاحب أسفار، أو زميل لشلة من شلل الفساد والريب، أو رجل لا يعرف إلا في أماكن السوء والانحلال.
أيها الإخوة! هناك فرق بين من يتمتع بما أحل الله عز وجل له، فتجد أن صحته سليمة، وحياته مستقيمة وراحته تامة ونومه هنيء؛ لأنه قد أرضى الله عز وجل فأرضاه الله تعالى، وبين إنسان يتقلب على فراش المعصية، قد امتلأ جسمه بالأمراض والأوبئة، بسبب معصية الله عز وجل، وفقد الهدوء والأمن والاطمئنان، فهو يتقلب على مثل شوك السعدان يأوي إلى الفراش يريد النوم فيطير من عينيه؛ لأن الأحزان والمصائب التي ملأت قلبه، لم تدع للنوم إلى عينه سبيلاً.
فرق بين من أرضى الله عز وجل، وبين من أسخط الله عز وجل.
الله تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، من رضي الله عنه فالدنيا في عينه واسعة، حتى ولو تقلب على جمر الغضى، وحتى لو كان يعيش على سرير المرض، فإن الله عز وجل إذا رضي عن عبد فإنه لا خوف عليه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان وبين إنسان آخر سخط الله عز وجل عليه، فجعل كل ما عنده سبباً في شقاوته فيتعبه ويقلقه، فالصحة كانت سبباً في وقوعه في الرذائل والمعاصي، والولد كان وبالاً عليه، والشهادة كانت سبباً في شقائه، فكل ما أعطاه الله تعالى من عطايا هذه الدار، أصبحت سبباً في شقائه؛ لأن الله تعالى سخط عليه فجعل كل ما في هذه الدنيا وبالاً عليه.
أيها الإخوة! وكذلك فرق بين من يتمتع برضاء أمه وأبيه، فإذا خرج من البيت، قالت له أمه: يا ولدي! حفظك الله في حلك وترحالك! فقبل رأسها ودعا لها، وخرج وملء قلبه الرضا والسرور وبين إنسان آخر يدخل على والديه، فلا يلتفت إليهما، ولا يلتفتان إليه، هم يدعون الله تعالى عليه بكرةً وعشياً أن يهديه أو أن يهلكه، حتى يرتاحا من شره.
أيها الإخوة! هؤلاء شباب هذه الأمة، منهم ومنهم، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، ومنهم الصالحون ومنهم القاسطون.(11/3)
مبشرات في نتائج الاستبيان
أخي الشاب! "أنت مع من أحببت" ولعلي لا آتي بجديد إذا قلت: إن كل امرئ محاسب عن نفسه، حتى الأب لا يجزي عن ولده، والزوج لا يجزي عن زوجه والولد لا يغني عن والده شيئاً، مع كل هذا فإني أضع بين يديك هذا السؤال لماذا يحرص الشباب الملتزمون على هداية الناس؟ لماذا يحرصون على ذلك؟ ولماذا يتكدر هؤلاء إذا سمعوا الأخبار السيئة عن انحراف بعض الناس؟ بل لماذا يشتدون أحياناً ويغضبون إذا سمعوا أو رأوا ما يسخط الله عز وجل؟ هل تعتقد -أخي الحبيب- أن هناك سبباً آخر غير محبتهم الخير لك؟ كلا، إنهم لا يضيرهم أبداً أن ينحرف من ينحرف، ويضل من ضل، ويهلك من هلك: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] .
إذاً: لا يضرهم أن يهتدي الناس أو يضلوا، يستقيموا أو ينحرفوا يصلحوا، أو يفسدوا, لكن الله عز وجل جعل في قلوبهم رحمة، فإذا رأوا الفاسق والعاصي حزنوا لذلك وابتأسوا حتى كأنهم سوف يعذبون بمعصيته وإثمه فيحرصون من ثَمَّ على هدايته وجلب الخير له.
إنها محبتهم للخير للأمة، وحرصهم على هداية الناس، وكراهيتهم أن يروك وأنت تعذب في النار.
أحبابنا كم كان سرورنا بالغاً- ولعله يشاطرني السرور كل من علموا بهذه النتيجة- أنه خلال استفتاء أشرت إليه سابقاً وأجري مع مجموعة تربو على مائتين من شباب الأرصفة، من الشباب الذين يقيمون في الأرصفة، أو يجلسون في جنبات الطريق بارك الله فيهم وهدانا الله تعالى وإياهم إلى سواء السبيل، ونفع الأمة بنا وبهم، كم كان السرور بالغاًُ حين نعلم جميعاً أن (70%) من هؤلاء الشباب أعلنوها صراحة أنهم يحبون الشباب المتدينين، جملةً وتفصيلاً، وأن (10%) يحبون بعض الشباب المتدينين، وأن (10%) هم الذين لا يحبون المتدينين، لسبب أو لآخر.
إذاً: (80%) يحبون الشباب المتدينين، وحين سئل كثير من هؤلاء الشباب: هل تحب أن تكون شاباً متديناً؟ قد تتعجبون إذا علمتم أن أكثر من (99%) منهم قالوا: نعم، نحب أن نكون شباباً متدينين، (99.
5%) يرغبون أن يكونوا شباباً متدينين، وهذه إحصائية دقيقة، وليست كإحصائيات الانتخابات في بعض البلاد التي تخرج بنسبة (99.
999%) بالموافقة.
هذه إحصائية مكتوبة على الورق أن (99.
5%) من الشباب، يتمنون أن يصبحوا شباباً متدينين، لماذا؟ لأنهم يريدون رضوان الله والجنة، وبعضهم قال: ويريد الراحة في الدنيا.
عن أنس رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها كثير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت} رواه البخاري وغيره.
وأيضاً عن ابن مسعود وأبي موسى: {أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري -: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -يعني: يحبهم، ولكنه لم يعمل مثل عملهم- فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب} وقائل: هل عملٌ صالح أعددته ينفع عند الكرب فقلت حسبي سنة المصطفى وحبه فالمرء مع من أحب أيها الإخوة: إنك حين ترى كثيراً من هؤلاء الشباب، تعلم أنهم يحبون الطيبين من خلال عيونهم ونظراتهم ووجوههم، فإن الوجه يعبر عما وراءه: والنفس تعرف في عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها عيناك قد دلتا عينيَّ منك على أشياء لولاهما ما كنت أدريها وأحياناً لغة العيون تدل على ما في الضمائر والقلوب.
فيا أخي الشاب الحبيب، أولاً: أبشر بالخير الآجل والعاجل، فإن قدمك قد وضعت في الطريق الصحيح حيث جعلت ولاءك لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وأعلنت إعلاناً صريحاً أنك تحب الشباب الملتزمين المتدينين، ولا تعدل بهم أحداً، لا فناناً ولا مطرباًُ ولا لاعباً ولا تاجراً ولا أميراً ولا وزيراً.(11/4)
فضل الحب في الله
أخي الكريم! هذا حب في الله عز وجل، فهل ذقت طعم المحبة في الله تعالى، إنها محبة في الله ليست محبةً في الفريق، فلم تحب فلاناً لأنه يشجع النادي الذي تشجعه، وليست محبة من أجل المال، فلست تحبه لأنك تستفيد منه مالاً، وليست محبة في الشكل، تحب فلاناً لحسن شكله وحسن هيئته وجمال خلقته، لا.
وليست محبة الهوى التي يتبعها الذل، فإن محبة الهوى ذل في الوجه، وذل في الحياة، وذل بعد الممات.
مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها غبار الذل بين المقابر إن المحبة في الله طعم آخر غير ذلك كله، إنها طعم لا يمكن وصفه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} .
أخي، هل اقتربت من الطيبين؟ هل نظرت في وجوههم المشرقة بنور الإيمان؟ هل سمعت لذيذ كلامهم وحلاوة حديثهم وبرد أنفاسهم؟ عن أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه قال: {دخلت مسجد دمشق فإذا فيها فتىً براق الثنايا، وإذا الناس حوله، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه فيه، قال: فوقع حبه في قلبي، فسألت عنه فقيل لي: هذا معاذ بن جبل، هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما كان من الغد بكرت فوجدته قد سبقني في التبكير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى إذا قضى صلاته أتيته من قبل وجهه، فجلست بين يديه، وقلت له: والله إني لأحبك في الله.
فنظر إليّّ، وقال: آلله -تحلف بالله- قلت: آلله.
قال: آلله قلت: آلله.
قال: فأخذ بحبوتي فجذبني إليه -جرني إليه- فقال لي: أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: {وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيَّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيَّ، ووجبت محبتي للمتباذلين فيَّ} .
أخي الحبيب أخي المسلم هل تريد في دنياك شيئاً أعظم من أن الله تعالى يحبك؟ من أحبه الله تعالى، فماذا يضره أن يبغضه الناس كلهم لو أبغضوه؟ مع أنه تعالى إذا أحب شخصاً كتب له الحب بين الناس، إذا أحب شخصاً نادى في السماء إني أحب فلاناً فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، ينادي جبريل في السماء إن الله يحب فلاناً فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض فيحبه الناس المؤمنون كلهم أجمعون.
هل تريد شيئاً أكثر من أن يحبك الله عز وجل فيجعل كل طرائقك وكل مسالك خطاك مآلها إلى النجاح؟ إن هذا غاية ما يتمناه كل إنسان، وطريقه سهل يسير، هو: أن يخفق قلبك بمحبة المؤمنين.
فهل جربت هذا؟ هل تحرك قلبك بحب أصحاب الوجوه النيرة؟ هل خفق قلبك بحب أصحاب النوافل؟ هل خفق قلبك بحب أهل الصيام والقيام؟ هل خفق قلبك بحب أهل العلم والدعوة والجهاد؟ هل خفق قلبك بحب أهل الصدقة والبذل والإنفاق في سبيل الله؟ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن من الناس أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بمكانهم من الله عز وجل، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: هم قوم تحابوا في ذات الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62-64] } .
هذه المحبة الإيمانية الأخوية، هي أدوم شيء في هذه الدنيا، فإن المتحابين في الله لا يتفرقون أبداً، لقد خفقت قلوب المؤمنين بحب بعضهم بعضاً منذ عشرات السنين، وما زال هذا الحب لا تزيده الأيام والليالي إلا ثباتاً ورسوخاً ومضاءً، وأحلف لكم بالله -أيها الأحبة- إنني أرى بعض الشباب الطيبين منذ سنين طويلة، وبينهم من الألفة والود والتراحم والتحاب والصداقة، أشد مما بين الأخ الشقيق مع أخيه، فكنت أقول في نفسي: ربما تكون هذه عاطفة مؤقتة وتزول، ولكني وجدت الأيام لا تزيدها إلا ثباتاً ورسوخاً وعمقاً، فهم منذ سنين طويلة على غاية من الحب فيما بينهم والتواصل والتراحم لم يجد الشيطان سبيلاً إلى فصم عرى هذه المحبة، فهي محبة باقية، بخلاف المحبة في غير الله، كالمحبة في الفريق -مثلاً- أو المحبة في المال، أو المحبة على معصية، فما أسرع ما تزول، يقال: من أحبك على شيء أبغضك على فقده، فكم من تاجر افتقر تفرق عنه أصحابه وأحبابه، وكم من رئيس أو مسئول لما أُعفي من منصبه، أو ابتعد عنه أو تقاعد؛ تركه الناس وأعرضوا عنه، وكم من إنسان كان يتمتع بشيء فلما زال وذهب عنه هذا الشيء؛ أعرض عنه الناس؟! حتى ربما يرونه في الشارع فلا يسلمون عليه! فهل تريد يا أخي الحبيب شيئاً أدوم وأثقل وأثبت من المحبة في الله تعالى؟ ما كان لله دام واتصل، بل إن هذه المحبة تدوم حتى بعد الموت، ألم تر إلى الطيبين، إذا ذُكر بعض أحبابهم الذين ذهبوا إلى قبورهم، دمعت أعينهم، وقالوا: رحمة الله على فلان، ووالله إننا نتلذذ بأن نردد أسماء بعض أحبابنا وأصحابنا الذين لقيناهم يوماً من الدهر، ثم سبقونا إلى الدار الآخرة، فكلما ذكرناهم ترحمنا عليهم، قلنا رحمة الله عليهم، وكلما عرف الطيبون والصالحون أن صديقهم فلاناً له أولاد بعد وفاته، أو زوجة أو أم أو قريب، أو عليه دين؛ سارعوا في سداد دينه، أو إعانة ورثته أو ما أشبه ذلك.
فالمحبة باقية بعد الموت، بل وباقية في الدار الآخرة، قال الله عز وجل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أما غير المتقين فالمودة بينهم في الحياة الدنيا فقط، أما يوم القيامة فكما قال الله عز وجل: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت:25] .
فاختر يا أخي الحبيب، لنفسك أي الطريقين شئت! وأنا واثق كل الثقة أنك لن تختار لنفسك طريقاً تدري أن فيها العطب في الدنيا والآخرة، فإن العاقل لا يختار لنفسه إلا أسلم الطرق وأحسنها.(11/5)
الالتزام واللباس
يا أخي الحبيب ما الذي يمنعك من الالتزام الكامل بدين الله عز وجل وشرعه؟!! أنت -مثلاً- تريد أن تكون جميل الثياب، جميل السيارة جميل المظهر نظيفاً، فهل تعتقد أن التزامك بالإسلام يمنعك من ذلك؟ كلا! فالله جميل يحب الجمال! كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم يحب أن يكون ثوبه حسناً نظيفاً ويحب أن يكون نعله حسنةً جميلة، وقد سألوا رسول لله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فوافقهم عليه وأقرهم، وفي سنن أبي داود وغيره، عن جابر رضي الله عنه قال: {أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى رجلاً أشعث، قد تفرق شعره -شعره فيه تفرق وشعث- لم يسرح شعره منذ أيام وما أصابه دهن منذ أيام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره؟! أي: ما كان يجد دهناً أو غيره يسرح به شعره؟ قال: ورأى رجلاً آخر، عليه ثوب وسخة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما كان هذا يجد ماءً يغسل به ثوبه؟} .
والنظافة لا تحتاج إلى كبير جهد، غسل الثوب، وتسريح الشعر، وإصلاح النعل، ونظافة السيارة، هذه لا تحتاج إلى كبير جهد، وليس معنى هذا أن الإنسان يصرف أربع ساعات أو خمس ساعات في اليوم والليلة على تسريح الشعر أمام المرآة، وعلى تصفيفه أو تسريحات غربية في أماكن الحلاقة وغيرها كلا؛ وليس مطلوب من الإنسان أن يشتغل طول وقته بثيابه، وكيها وغسلها وتلوينها وتنويعها، كلا؛ وإنما المطلوب قدر معتدل من النظافة، يكون به الإنسان حسناً جميلاً بين الناس، دون أن يفضي به ذلك إلى إسراف أو غلو أو إهدار وقت فيما لا فائدة فيه.
عن أبي الأحوص رضي الله عنه، قال: {أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب غير جميل -ثوب متسخ أو قديم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال آتاني الله عز وجل! من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته عليك.
وفي لفظ: إن الله تعالى يحب إن يرى أثر نعمته على عبده} .
ولذلك ابن عباس رضي الله عنه لما ذهب إلى مخاصمة الخوارج ومناظرتهم ومجادلتهم قال: [[لبست أحسن ما يكون من حلل اليمن -كان عنده ثوباً ثميناً غالي الثمن، من حلل اليمن فلبسه رضي الله عنه وأرضاه- وكان ضخماً جهوري الصوت، فجاء إليهم، فقالوا له: مرحباً بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون عليّ، لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل]] فنحن لا نعترض عليك -أخي الحبيب- في لباسك، ولا في حذائك ولا في سيارتك، ولا في مظهرك، مادام في حدود المباح، هل لبست ثوباً من حرير؟ لا.
لم تلبس من حرير، وكيف تلبسه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة} ويقول عليه الصلاة والسلام، وقد خرج ومعه قطعة من حرير، وقطعة من ذهب: {هذان حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها} هل لبست ثياباً شفافة لا تستر؟ وليس تحتها ما يستر؟ كلا لم تفعل ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {احفظ عورتك إلا من نفسك أو ما ملكت يمينك} والله تعالى يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] هل لبست ثوباً صنع لغيرك؟ كلا؛ وأنى لمثلك -ممن من الله عليهم بالرجولة- أنى لمثلك أن يلبس ثوباً صنع لغيره، سواء صنع لكافرٍٍ أو صنع لجنس آخر هل خرجت إلى حد البذخ والإسراف في لباسك؟ كلا.
إذاً فكل والبس واركب وتصدق، في غير إسراف ولا مخيلة.(11/6)
الالتزام والرياضة
أخي الكريم! أنت تحب الرياضة وتلعب الكرة، وقد تحضر بعض المباريات الرياضية، وتقضي جزءاً غير قليل من الوقت مع الفريق أو النادي الذي تشجع، فهل ترى أن تبخل على نفسك بدقائق تقضيها في المسجد أو في المحاضرة أو مع بعض الرفقة الصالحين؟ هل يمنعك ذلك من أن تأخذ ولو ساعة أو نصف ساعة أو ربع ساعة تسمع فيها كلمة قد ينفعك الله تبارك وتعالى بها؟ فربما أن الكلمة التي كتب الله سعادتك بها لم تسمعها حتى الآن، فإذا سمعت متحدثاً فاستمع إليه ربما يصل كلامه إلى قلبك.(11/7)
شبهة من يقول: إن جلوسي في مجالس اللهو ثم في مجالس الصالحين من النفاق
بعض الإخوة من الشباب يقولون: نحن لا نريد أن نكون منافقين وهذا صحيح، ونحن نوافقهم ونؤيدهم على أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وأن المنافق أكفر من الكافر وأكفر من اليهودي أو النصراني، لكن كيف يكونون من المنافقين؟ بعضهم يقول: ليس صحيحاً أن أجلس اليوم على مدرجات الكرة، ومعي الطبل في حجري، وأستمع الغناء وأفعل الحرام، ثم غداً تجدني أصلي في المسجد، أو أجلس في حلقة، أو أقف مع شباب طيبين، هذا نوع من النفاق.
هكذا يتصور بعض الشباب، وهذا خطأ كبير، بل هي ضحكة من إبليس على أولئك الإخوة، فإن العكس هو الصحيح.
الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وكان الأولى بك أن تدعو نفسك إلى ترك المعصية حتى تكون مستقيماً منسجماً، وتكون حياتك كلها براً وصلاحاً واستقامة وصحبة للأخيار وحضوراً للمساجد، لكن إذا عجزت عن ذلك، فإنه يجب عليك أن تصر على فعل الخير، رجاء أن يوفقك الله إلى التوبة.
فإذا ترك الإنسان الطاعة، ترك الصلاة -مثلاً- وترك صحبة الأخيار، وترك حلقة العلم وحضور المحاضرة ودرس القرآن، بحجة أنه يقول: أنا مقيم على معاصي، لو علم بها هؤلاء الشباب الذين إلى جواري؛ لتركوني وبصقوا في وجهي، وأعرضوا عني وركلوني بأقدامهم، فإن الإنسان حينئذٍ يكون قد اختار لنفسه والعياذ بالله -طريق النار، ما هو طريق النار؟ هو ترك الطاعة والإقبال على المعصية، هذا هو طريق النار فالمعاصي الصغيرة قد تجتمع على الرجل العظيم حتى ترديه نار جهنم.
إن مجرد صحبتك للأخيار، وجلوسك معهم وحبك لهم، قد تكون سبباً في شمول الرحمة، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه {اجتمع قوم في مجلس يذكرون الله عز وجل، فصعدت بعض الملائكة إلى الله عز وجل، فقال: كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم يذكرونك ويسبحونك ويحمدونك ويسألونك فقال الله عز وجل، ماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة ويستعيذون بك من النار، فقال الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم، قالوا: يا رب إن فيهم فلاناً ليس منهم وإنما جاء لحاجة -رجل في الواقع ليس منهم، ولا من عادته أن يحضر معهم، لكن أدركته حاجته، كان يريد شخصاً فجلس ينتظر قيامه حتى يخرج معه- فقال الله عز وجل: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} .
وهكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.
فجلوسك مع الطيبين سبب في نزول الرحمة، وتشملك الرحمة وعند حلقات ذكر الطيبين، تنزل الرحمة.(11/8)
المجاهرة بالذنوب والمعاصي
أخي الحبيب! هل تريد أن تكون مجاهراً بمعصيتك، حين تركت صحبة الطيبين، وقلت: لا أريد أن أكون من المنافقين؟ هل تريد أن تعلن معصيتك وتجاهر بها، حتى يتكلم الناس عنك: فلان بن فلان عنده من المعاصي كذا وكذا؟ هذا لا يصلح أخي الحبيب، كون أن عندك معصية تستتر بها بينك وبين رب العالمين، فهي سر تسأل الله: يا رب سرٌّ بيني وبينك، أسألك لا تفضحني في الأرض ولا يوم العرض هذا شيء، وكونك تعلن المعصية على الملأ وتتبجح بها، هذا شيء آخر.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} أي: المعلنون للمعاصي.
من هم المجاهرون؟ كونك -مثلاً- تشغل المسجل على صوت أغنية يسمعها الناس من مسافة مائة متر أو أكثر، وتمر وتمشي بسيارتك بهدوء، تستعرض وكأنك تريد أن تلفت إليك الأنظار، هذه مجاهرة؛ لأنك تقول للناس اسمعوا، أنا الآن أستمع إلى أغنية وإن كان الله تعالى قد حرمها؛ فهذا من المجاهرين.
ومن المجاهرة أن الإنسان يفتخر بالمعصية أمام زملائه أحياناً، فإذا اجتمع بعض الشباب يبدأ بعضهم ممن ليس عنده دين، يجاهر بأنه فعل كذا، وفعل كذا، ويذكر مغامرات وجرائم وذنوب فعلها، وكيف أنه أوقع امرأة في الحرام، وكيف شرب وسافر وسكر، ويبدأ يسرد قائمة من المعاصي، هذا لا يغفر له إلا أن يتوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم عليه أنه لا يعافى؛ لأن هذا الإنسان لو كان يعلم أن هذا الأمر يسخط الله عز وجل ويدري أن الله عز وجل يسمعه الآن، ما أقدم على ما أقدم عليه، ولجعل الأمر سراً بينه وبين الله عز وجل.
وأخبث وأعظم من ذلك، أن بعضهم إذا سمع زملاءه يقولون هكذا، فإنه ربما افتعل واختلق شيئاًلم يحدث وبدأ يجاريهم فيما يقولون، فقال: إن لي علاقات محرمة، وأنا لي صديقات وأنا فعلت، وبدأ يسرد قصصاً مكذوبة عن بعض المعاصي التي لم تقع، وهذا والعياذ بالله لاشك أنه ليس أعظم إثماً ممن فعلها وجاهر بها، لكن إثمه أيضاً عظيم، وبعضهم يتعدى به المجاهرة إلى أن يسجل المعصية على شريط، كما فعل بعض المغنين ولا كرامة لهم؛ لأنهم مرتدون بفعلهم هذا، فعندما يسجل أغنية، كيف أنه غرر بفتاة وجرها إلى المنزل، وارتكب معها الفاحشة، ويذكر تفاصيل كثيرة، ويجعل هذا في شريط يسمع عند بعض السفهاء، وبعض الفساق، فإن هذه ردة عن الإسلام، وهذا مخلد والعياذ بالله في نار جهنم إلا أن يتوب، لماذا؟ لأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] .(11/9)
الفرق بين العاصي المؤمن والعاصي الفاجر
إخوتي الأحبة! يجب أن نفرق بين العاصي المؤمن، وبين العاصي الفاجر، المؤمن يحزن لمعصيته، ويتحرق قلبه ويتقطع ويتحسر ويندم، وينزل دموعاً لا عداد لها على ذنوب بارز الله بها، وعلى لحظات غفل بها عن ربه، فوقع في معصية أو زلة أو خطيئة، أو نظرة أو حركة أو خطوة، أما الفاجر فإنه يمضي قدماً لا يلوي على شيء، وإنما يقول: زدني زدني؛ لأن هذه المعاصي أصبح يتلذذ بها ولا يحزن عليها، هذا هو الفاجر، والعياذ بالله.
المؤمن يستغفر ويرجو التوبة، وكلما عصى الله عز وجل وضع جبهته في التراب، وقال: يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، أما الفاجر فإنه لا يستغفر الله من ذنبه ولا من معصيته؛ بل إنه معرض عن الله تعالى، وربما بلغت به الوقاحة إلى أن يغفل عن ربه، أو يهزأ بأوليائه وحزبه.
والمؤمن يتستر في معصيته، فإذا عصى الله عز وجل حاول أن لا يعلم ذلك أحد؛ ليكون الأمر سراً بينه وبين الله، أما الفاجر فإنه يعلن معصيته، ويفخر بها بين الناس، هاأنا قد عصيت ربي، كأنه يتحدى الله تعالى، والله تعالى بالمرصاد لكل من يبارزه بالمعاصي، يفضحه في الدنيا، ويفضحه على رءوس الخلائق يوم القيامة.
المؤمن وإن عصى فإنه يحب الطائعين ويواليهم، ويتمنى أن يكون مثلهم، ويبغض العاصين وإن كانت بضاعتهم واحدة.
أما الفاجر فإنك تجد ولاءه وحبه وقلبه مع أهل المعصية والفساد، فإذا رأى رجلاً عليه علامة الإيمان والصلاح أعرض وأشاح عنه بوجهه، وربما أغمض عينيه، وربما طأطأ رأسه، وربما أطلق بعض الكلمات التي تنم عن كراهيته وتذمره لرؤيته ولمشاهدته، المؤمن لا يتبجح بمعصيته، ولا يعتبر المؤمن أن من المروءة أن يكون ارتكب ما يسخط الله عز وجل.
إن المؤمن لا يسخر بالمطيعين ولا يسخر بالذين يتركون الربا؛ لأنهم لا يعرفون البيع والشراء في زعمه، ولا يسخر من الذين يتركون الزنا؛ لأنه يحسب أنهم ما جربوه، أو أنه ليس في قلوبهم شهوات، كلا.
كلا؛ إنهم في نفوسهم من الشهوات للمال ولغيره، مثل ما في نفسه أو أعظم، لكنهم ألجموا أنفسهم بلجام الخوف من الله عز وجل، فنهوا النفس عن الهوى قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41] .
هل تحسب يا أخي أن المؤمن لا يوجد في نفسه هوى؟ وهل تظن هذا؟ ومن قال لك هذا؟ بل في نفسه مثل ما في نفسك، بل يمكن أشد، ولكنه مع ذلك نهى النفس عن الهوى؛ لأن عنده شيئاً اسمه: الآخرة، يستعدون له ويضعونه في الحسبان، فإن الجنة هي المأوى.
هل يمنعك -يا أخي الكريم- زملاؤك الذين تصحبهم من الخير والاستقامة؟ إن كان زملاؤك كذلك فلا خير فيهم، فإن كل شيء حال بينك وبين الله عز وجل فهو شر يجب أن تبتعد عنه.
فإن كانوا لا يحولون بينك وبين الطاعة، فحبذا وحيَّهلا، وعليك أن تعمل على جرهم إلى أماكن الخير والطاعة وإلى مناسبات الاستقامة بقدر ما تستطيع، عسى الله أن يكتب لك أجر استقامتهم.(11/10)
حال المؤمن مع المعاصي
بالله عليكم! الذي يعرف أن الزنا حرام وفاحشة ويسخط الله عز وجل، هل يفتخر أمام الناس وأمام الملايين أو مئات الألوف من الناس، بأنه غرر بفتاة وزنى بها.
لا يفعل هذا مؤمن، المؤمن لو فُرض أنه وقع في زلة أو جرته قدمه إلى معصية، يكون حاله كحالة ماعز الأسلمي، ظل بعد ما زنا أياماً لا يذوق لذيذ الفراش، ولا طعم النوم، ولا يهنأ بعيش، ولا أكل ولا شرب، حتى يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، زنيت فطهرني، ثم يقام عليه الحد، فيصبح في أنهار الجنة ينغمس فيها، المؤمن الذي يعلم أن الزنا فاحشة يعمل كما عملت الغامدية -لو جره الشيطان إلى معصية- ما زالت حتى أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليها حد الزنا، بعد سنتين وتسعة أشهر من وقوع الجريمة، وهي مع ذلك تطالب بإقامة الحد عليها.
المؤمن يحرقه الندم على معصيته، أما الذي يقف أمام الناس، ويقول: فعلت وذهبت وجئت وارتكبت، ويفتخر بجرائمه ومغامراته المحرمة، فهذا لا يؤمن بقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وقل مثل ذلك بالنسبة للمخدرات والسرقات واللواط ولأي معصية يعصى الله تعالى بها، ولعل أبشع وأقبح من ذلك، أن بعض الذين طمس الله على أعينهم ومسخ أفئدتهم، وكتب عليهم الدمار والبوار -إلا أن يعودوا إليه ويرجعوا إلى دينهم- يتعدى الأمر بهم إلى أن يصوروا هذا على أشرطة مصورة، وغرضهم من ذلك أمور، من أهمها: توريط الأطراف الأخرى حتى يضمنوا أن لا يتوبوا، وكثير من الشباب يريدون أن يتوبوا، ولكن يحاول أصدقاؤهم السيئون أن يحولوا بينهم وبين التوبة بتهديدهم ببعض الصور الموجودة عندهم.
أو يبيعون هذه الأشياء ليتكسبوا من ورائها، وهؤلاء والعياذ بالله بلغ بهم الانحطاط والوقاحة والضلال مبلغه، حتى إنني لا أجد وصفاً إلا أنهم قد تشبهوا بأعداء الله من الكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، والذين عُجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، فغاية ما يطمح أحدهم أن يتمتع بشهوة عابرة، ولا يهمه أن يكون مصيره إلى النار وبئس القرار.(11/11)
الشباب والشهوة
أخي الكريم! لعل أكثر ما يزعج الشباب ويقلقهم، ويدعوهم إلى الوقوع في بعض المعاصي: قضية الشهوة، الشهوة التي تدعو إلى النظر، النظر في الوجوه، سواء في وجوه المردان أو وجوه النساء، أو الصور في المجلات أو في الأفلام أو المسلسلات أو غيرها، وهذا مدعاة إلى العشق؛ حيث يتعلق القلب بهذه الصور حتى تصبح هذا الصور كل همه وغاية قصده، فيشتغل بذلك عن الله عز وجل، وبذلك يكون الإنسان قد مشى إلى الشرك بالله تعالى قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] كحب الله، حتى يقول أحدهم عن معشوقته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي فاعتبر عبوديته لهذه المرأة هي أشرف الأسماء التي يدعى بها، وقال آخر يخاطب امرأةً أو شاباً أحبه: وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل انظر والعياذ بالله كيف استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، إن هذا الإنسان الذي قال هذا البيت، أتدرون أين هو الآن؟ إنه في قبره، قد وسد وتحول جسده إلى تراب، وبلي ولعبت به الديدان، حتى لو رآه أحد، بل لا يراه أحد؛ لأنه أصبح كومة من تراب، وأصبح مرتهناً بعمله، لكن لازالت الأجيال تحفظ هذا الكفر البواح الصراح: وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل ولو لم يكن من مضار العشق والتعلق بالصور، والانصياع إليها والاشتغال بها، وامتلاء القلوب بحبها، إلا أنها تحول بينك وبين الله عز وجل، لكفى بهذا عيباً وداءً؛ ولذلك يعذب الله تعالى الإنسان بهذا المحبوب الذي أحبه، كما قيل: من أحب غير الله عُذِّب به، كم من إنسان أحب إنساناً وتعلق به، فكان سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة، تركه وأعرض عنه في الدنيا، فعاش حياته كسيفاً حسيراً كسيراً؛ لأن محبوبه قد تركه وأبغضه، أو حتى مات، وفي الآخرة مرتهن بما عمل، حيث ملأ قلبه بغير حب الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] هذا حب العبادة، شرك المحبة في القلب.
ألم تر إلى المرض والسقم في وجوه من ابتلوا بمثل هذا الداء الدوي، حتى إذا رأيت وجوههم وجدت عليها صفرة، ووجدت عليها كدر، ووجدت فيها ظلاماً كظلام الليل والعياذ بالله كأنها ما أشرقت بلا إله إلا الله، وما ذاقت طعم القرآن وكأنها ما خشعت لله عز وجل، وكأنها ما بكت من خشيته، وكأنها ما عفَّرت جباهها في التراب، ذلاً بين يدي الله تعالى، فضربهم الله تعالى بظلم في وجوههم: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:27] وهذا الظلام في الدنيا هو آية الظلام في الآخرة، كما قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:38-40] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27] .
هذا فضلاً عن السقم في البدن، فإن العشق يؤدي بالإنسان إلى المرض، بل ربما آل به إلى الموت، وكثير منهم يموتون بسبب هذا المرض الذي ابتلوا به، وهم لاشك ماتوا في غير سبيل الله، وقد كتب جماعة من العلماء في مصارع العشاق.(11/12)
آثار العادة السرية
ومن الأسباب: عدم الخبرة وعدم المعرفة بأضرارها، بعض الشباب لا يعرف ما هي الأشياء المترتبة على العادة السرية، فهناك آثار على الوجه، تجد الإنسان الذي يمارس العادة السرية، يبدو على وجهه أثر ذلك -أحياناً- احمرار -وأحياناً- اصفرار، وأحياناً آثار ظاهرة على وجهه، يعرفها الناس منه إذا داوم عليها، وأيضاً أثرها على الأعصاب: تجد الشاب الذي يمارس العادة السرية، في أعصابه شيء من عدم الانضباط، واهتزاز واضطراب وعدم قدرة على التحمل وأيضاً أثرها على النفس: تجد الإنسان كثير القلق والخوف والتفكير، سارح شارد، عنده خجل وعدم قدرة على مواجهة الناس، وعدم قدرة على الحديث، وعنده ضعف.
وأيضاً أثرها على ترك الطاعة؛ لأنها تجر إلى معصية أكبر منها، فالذي وقع في العادة السرية، قد يجره الشيطان إلى الوقوع في الزنا، ثم يجره الشيطان إلى الوقوع في اللواط، ثم يجره للوقوع في معاصي أخرى، ثم يجره إلى ترك الصلاة، ثم يجره إلى الكفر والعياذ بالله وهي سلسلة يجر بعضها بعضاً.
كذلك هذه العادة من الآثار السيئة لها أنها تكون سبباً في سلب القوة، وأنها تقوض الأجهزة الجنسية للإنسان، حتى أن كثيراً من الأطباء، أثبتوا أن الذي يقع في ممارسة العادة السرية يكون عنده ضعف في أجهزته، فبعد الزواج قد يصاب بما يسمى بالعنة وهو العجز عن المعاشرة الزوجية.
كما أنها تضر الذاكرة ضرراً كبيراً وتكون سبباً في التأخر الدراسي، حيث تظل هذه الأفكار والصور التي في ذهن الإنسان يفكر بها بشكل دائم، فتؤثر على حفظه وذاكرته.
أخي الكريم أخي الحبيب أخي الشاب!!! ألم تقارن مقارنة سريعة بين شؤم المعصية وبركة الطاعة؟ ألم تر المعصية سبباً في حرمانك من العلم؟! شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي فتجد أن الشاب المنحرف متأخر في دراسته، وربما يؤول الأمر بكثير منهم إلى ترك الدراسة، فإذا ترك الدراسة قد يلتحق ببعض المعاهد المهنية أو غيرها، ثم لا يواصل فيها، وترك الدراسة يجر له مشاكل أخرى بسبب الفراغ، فيضيع مع زملاء يقضي معهم كل وقته، ولا يصبح له مستقبل يهمه ويفكر فيه، بخلاف الشاب الطيب الصالح المستقيم فإنك تجده مبرزاً في دراسته، تجده من الأوائل في فصله وفي مدرسته، محبوب لدى مدرسيه، وقلما تجد شاباً طيباً يفكر بترك الدراسة، مجرد خواطر تمر بفكره ثم يتركها؛ لأنه يدري أن هذا فيه خير، وفيه مصلحة وخير للأمة، أما ذلك الشاب المنحرف، فإنه يستثقل هذا الأمر ويتركه؛ لأنه قد عصى الله عز وجل فحرم بركة العلم.(11/13)
من آثار المعاصي
ِومن آثار المعصية: الوحشة بينك وبين الله، الوحشة في قلبك، فإنك إذا عصيت الله استوحشت منه، كيف تدعوه وقد عصيته؟ كيف تسأله وقد عصيته؟ وهذا يجرك إلى معاصي أخرى، في الإعراض عن الله عز وجل، بخلاف المؤمن فإنه قريب من الله تعالى، دائم الابتهال إليه دام الدعاء، إذا دخل قال: بسم الله، وإذا خرج قال: بسم الله، وإذا أخطأ قال: أستغفر الله، وإذا سمع منادياً ينادي قال: سمعنا وأطعنا.
ومثله الوحشة بينك وبين الناس، فإنك تجد العاصي -سبحان الله- كأن بينه وبين الناس حجاب، لا يحبونه ولا يطمئنون إليه، بخلاف العبد المطيع، فإن الناس يألفونه ويرتاحون إليه ويسرون لرؤيته، ويثقون به، ليس بينه وبينهم وحشة؛ لأن الله عز وجل جعل في قلوبهم محبته.
ومن ذلك: تعسير الأمور أيضاً، فإنك تجد العاصي كلما ذهب إلى أمر يغلق عليه الباب، إذا أراد أن يقبل في مدرسة لم يقبل، أو في وظيفة لم يقبل، وإن اشتغل في تجارة فشلت التجارة، أو في مؤسسة انهارت، أو اشترى سيارة، بعد فترة صار عليه حادث وتلفت عليه السيارة وهكذا.
تجده حيث ما يمم تغلق الأبواب أمامه، للسبب الذي ذكرته أولاً، وهو أن الله إذا أحب العبد يسر له الأسباب، وإذا أبغض العبد منعه، وقد يكون هذا خير، وقد تكون هذه منبهات، ضع في ذهنك أن هذا العمل يقول لك: انتبه انتبه!! غير الطريق، اختر لك طريقاً آخر، هذا الطريق الذي تسلكه لا يرضي الله عز وجل، ولا يصلح لك في دنيا ولا في آخرة، والعكس من ذلك الإنسان الطيب أينما وجه وفق.(11/14)
خطر الدوام على المعصية
أخي الكريم أخي الحبيب!! إنك إذا داومت على فعل المعصية، بعد حين لا تستقبحها وتصبح عادة؛ بل وتستحسنها، فتكون ممن قال الله تعالى فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] وإن ذلك سبب في هوانك وسقوطك من عين الله عز وجل، وأخيراً فربما كان سبباً في أن يطبع على قلبك، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] فإذا طبع على الإنسان كان من الغافلين، فأصبح لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى ربما ارتكب أبشع وأفضع الجرائم، وهو يضحك ولا يبالي، حتى كأنه حيوان أو بهيمة، حتى أنني قرأت في بعض الكتب قصة في غاية العجب، وهي تمزق القلب تمزيقاً، ولا يكاد الإنسان يصدق بها، لولا أننا في عصر العجائب.
ذكر مؤلف ذلك الكتاب، أن فتاة في العشرين من عمرها، ذهبت إلى إحدى المستشفيات، وكانت حاملاً لتضع مولوداً، وفعلاً وضعت مولوداً، كان بأتم صحته وأتم حاله، وليس فيه ما يعيب، لكن هذه الفتاة كان يسيطر عليها خوف شديد، وارتباك ظاهر، وكانت مسودة الوجه، كثيرة البكاء، فلما أرادوا منها أن تخرج، وطلبوا أن تبعث إلى وليها ليحضر، ارتبكت وبكت بكاءً مراً، واستمرت حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء، فانفردوا بها في غرفة، وسألوها عن الأمر.
وبعد جهد جهيد، قالت لهم بصوت متقطع" إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، أي أن الوقاحة بلغت به لشدة جراءته على الله وعلى معاصيه، أنه كان يتعاطى المخدرات، ثم يقع على من بحضرته، سواءً كان أجنبياً، أم ذات محرم أم غير ذلك، وربما جاءها وهي نائمة، فارتكب معها هذه المعصية، ولو أخبرنا أن هذا الأمر وقع في الأمم السابقة من بني إسرائيل، للمَّ الواحد رأسه وقال: إننا لله وإنا إليه راجعون، ولو أخبرنا أن هذا وقع في بلاد الكفر والإباحية؛ لاستعظمنا ذلك، فكيف وصل الحال أن يحدث مثل هذا من قوم ربما نطقوا بالشهادتين بأفواههم، وربما سمعوا آيات الله عز وجل تتلى، ثم انسلخت قلوبهم ومسخت إلى هذا الحد، وأصبح الواحد منهم لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
يا أخي الحبيب! لا تستعظم مثل ذلك، وتقول: كل ذلك بعيد عني.
لا، ربما كانت بداية هذا الوحش الكاسر ربما كانت بدايته شربة من خمر، وربما كانت بدايته نظرة من حرام، وربما كانت بدايته أغنية سمعها، وربما كانت بدايته تمثيلية شاهدها جرته شيئاً فشيئاً، حتى وصل إلى الحضيض، إلى القرار، إلى الوادي السحيق الذي لا مخرج منه إلا إن يشاء الله عز وجل.(11/15)
أخطار جريمة اللواط
أيها الإخوة! من المشاكل الكبيرة التي يشتكي منها أو يقع فيها كثير من الشباب هي: قضية الوقوع في اللواط والعياذ بالله، واللواط من الكبائر بإجماع العلماء، قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما ً} [النساء:31] .
فاللواط من كبائر الذنوب التي تحتاج إلى توبة، ولو لقي صاحبها بها ربه عز وجل فقد يعذبه يوم القيامة، وقد عاقب الله عز وجل قوم لوط بالعقوبة المعروفة، حيث رفع قراهم -قرى سدوم- حتى سمعت الملائكة أصوات حيواناتهم وصياحهم، ثم قلبها عليهم، ثم أمطر عليهم بعد ذلك حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد، فكل من فعل مثل فعلهم فإن الله تعالى يمسخه، يمسخ قلبه إذا ما أسرع بالتوبة، وقد يحال بينه وبين التوبة كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم في الجواب الكافي: أن المبتلى باللواط ربما يصعب عليه التوبة، ولو تاب منه يبقى في قلبه آثار كثيرة؛ إلا من رحم الله وقليل ما هم، ما لم يتدارك نفسه عاجلاً غير آجل وإلا فيمسخ قلبه، وكذلك تمسخ مشاعره وعواطفه، فإن هذا اللوطي منتكس الفطرة، لا يتلذذ بما أباح الله تعالى له، لا يتلذذ إلا بالحرام، وحتى هذا الحرام بعدما يبتلى به ويتورط فيه، يصبح وبالاً عليه ويصبح هماً وغماً يجثم على صدره وقلبه، فلا يهدأ له عيش، فيكون حاله كما قال الأول الذي يشرب الخمر: وكأسٍ شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها فهو يفر من المعصية إلى المعصية، ومن الإثم إلى الإثم، ومن الذل إلى الذل، وهذا الذنب العظيم هو سبب في مقت الإنسان وهوانه على الله عز وجل، فإن الله تعالى إذا نظر إلى عبده وهو يواقع هذه المعصية المقيتة الخبيثة العظيمة الكبيرة عند الله تعالى، فإن الله تعالى يمقت هذا العبد ويبغضه، ويسقط من عين الله تعالى.
وقد توعد الله تعالى أقواماً، بأن الله تعالى لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فما يؤمنك أن تكون من هؤلاء على لذة عابرة أو شهوة عابرة، كان الإنسان يستطيع أن يقاومها بأن يبتهل إلى الله عز وجل، وما عودنا الله تعالى أنه يرد مبتهلاً قط، وما من عبد انكسر بين يديه وبكى بقلب صادق إلا رفعه الله ونفعه، وأجاره مما يخاف وأمنه منه.
وهذا الإنسان الذي ابتلي باللواط، قد يبتلى في نفسه أو أهله، أو ولده أو ماله بعقوبة دنيوية عاجلة، ولعل من البلاء ما تسمعونه اليوم من الأمراض الجنسية التي أصبحت مخصصة بالشاذين، فبعضها لا يصيب إلا أصحاب الشذوذ الجنسي مثل الرجل مع الرجل، أو المرأة مع المرأة، فسلط الله عليهم الأمراض الجنسية الفتاكة، التي أعلن الطب عجزه بالكلية عن علاجها، كالهربس والإيدز والكلامديا وغيرها من الأمراض القديمة كالزهري والسيلان وغيرها، هذه الأمراض مخصصة بمن يرتكبون الحرام وخاصة بالشاذين الذين يرتكبون ما يسمى بالشذوذ الجنسي، كاللواط أو السحاق.(11/16)
أسباب العادة السرية
كثير من الشباب يقعون في ما يسمى بالعادة السرية، وهي الاستمناء باليد وللوقوع في العادة السرية أسباب منها: ضعف الوازع الديني، فإن المؤمن عنده الصبر والعفة، وعنده الخوف من الله عز وجل، فينهى النفس عن الهوى، أما ضعيف الإيمان فإنه كلما تحركت في نفسه شهوة أسرع إليها.
ومن الأسباب: عدم الزواج المبكر، فتأخير الزواج بسبب عقبات كثيرة قد تواجه الشاب في بيته أو مجتمعه، ومنها الشبق والإثارة الجنسية، حيث إن الإنسان إذا شاهد المشاهد المثيرة، سواء امرأة أو صورة أو منظراً يثيره، فإن هناك ما يسمى بالهرمونات التي تزيد الإفراز؛ حينئذٍ يوجد عند الإنسان شيء من الشبق والإثارة.
ومن أسبابها: العادة فإن الإنسان الذي يفعل العادة السرية مرة أو مرتين أو ثلاث، ثم بعد ذلك تصبح العادة عادة كما سميت، وأصبح يفعلها وإن لم يكن هناك دافع لها كبير، لكن بمقتضى العادة التي هيمنت على بعضهم، حتى أن البعض يتزوج ويغنيه الله تعالى بالحلال، لكن لا يجد لذة إلا في ممارسة هذه العادة التي كان يفعلها من قبل.
ومن أسبابها: أنه بعد ذلك تحول الأمر من قضاء للشهوة إلى رغبة في تحصيل اللذة، أول مرة يفعل الشاب العادة السرية؛ لأنه يريد أن يتخلص من هذه الشهوة، التي تفور في جسده كالنار، لكن بعد ما يعتاد فإنه يبدأ يفعل العادة لتحصيل اللذة، وإن لم يكن هناك شهوة تتأجج في نفسه.
ومن أسباب العادة السرية الخلوة والانفراد، خاصة للذين يكثرون مشاهدة الصور المحرمة، فإن الواحد منهم إذا خلى أو انفرد بدأت الصور التي سبق أن رآها تتراقص في عينيه وبدأ يتذكرها، ثم يدعوه ذلك إلى فعل العادة السرية وهو يتصور هذه الصور.
ومن أسباب الوقوع فيها: الجهل، فإن كثيراً ممن يفعلونها، قد لا يكونون يعلمون أنها حرام، وأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29-30] .
ولا يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطيع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء} ولو علموا أنها حرام وأنها اعتداء، لربما أقلعوا عنها.(11/17)
حقيقة الحياة الدنيا
أخي الكريم أخي الحبيب!! هل تذكر أن هذه الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وأن لنا ولك موعداً لن نخلفه أبداً؟ ألم يخطر في بالك يوماً من الأيام، أن تذهب في زيارة قصيرة إلى تلك الدور التي هي في ازدياد؟: أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر؟ وأين المذل بسلطانه وأين العظيم إذا ما فتخر؟ تنادوا جميعاً فلا مخبرٍ وماتوا جميعاً وأضحوا عبر ألم تروا القبور؟ {زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة} كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
قف بالمقابر وانظر وتأمل، كم من الأجيال والقرون الغابرة، دفنت وأفنيت وانتهت، وأنت على الأثر؟! كنت أقول لبعض الشباب يوماً من الأيام وأنا أعظهم -وكانوا تقريباً أربعين- أيها الإخوة! تذكروا أنتم الآن أربعون، والزملاء الذين بجواركم في الفصل الآخر والرابع والخامس، فلو نظرنا إلى هذه الأعداد الكبيرة، هل ترون أنه لم يكتب أن يموت منا في هذه السنة أحد؟ فسبحان الله! كان من بين الطلاب الذين أحدثهم، شاب ما مر عليه نحو أسبوع، إلا وذهب يسبح مع بعض زملائه، وغرق ومات في تلك البركة.
فسبحان من يحيي ويفني وتخلف الدهور دهور والأنام أنام وقال آخر: وكائن ترى من دار حيٍّ قد اقفرت ودار لميت بالفناء جديد هم جيرة الأحياء أما محلهم فدانٍ وأما الملتقى فبعيد يقول مجاهد رحمه الله: [[ما من ميت يموت، إلا مُثِّل له جلساؤه]] يعني عند الموت، كأن جلساءك وأصدقاءك الذين تجلس معهم في الحياة يجلسون بين يديك، إن كانوا طيبين فطيبين، وإن كانوا سيئين فسيئين.
ولذلك يتكلم أهل العلم عن سوء الخاتمة وحسن الخاتمة، بأمور يشيب لها رأس الصالحين، وأهل الخير والقيام والصيام، فكيف بنا نحن المقصرين المسرفين على أنفسنا.(11/18)
قصة معاصرة في حسن الخاتمة
أذكر -أيها الإخوة- قصة لشاب معاصر من الدعاة إلى الله عز وجل قضى عمره في الدعوة، وكان معتمراً في أحد السنين فأصابه مرض ذهب على إثره إلى المستشفى، ثم جاءت اللحظات الأخيرة من حياته، فيحدثني بعض من كانوا قريبين منه: أنه في أحد الليالي طلب المصحف فأخذه، ثم تلا منه ما تيسر، ثم وضعه على صدره وأغمض عينيه ثم قضى وقد كنت ممن صلى عليه في تلك الليلة، فرحمة الله عليه، كيف كتب الله له بخاتمة خير إن شاء الله.
شاب آخر، ذو سمعة حسنة، وكان في الحي معروف بصلاحه واستقامته، فغضب زملاؤه منه، وحاولوا جره إلى المخدرات ففشلوا، فجاءوا يوماً من الأيام، وكان يشرب شيئاً من الشاي، فوضعوا في الشاي مخدراً دون أن يعلم، وبعد ذلك أصبح مدمناً للمخدرات، ثم مُسك في قضية المخدرات وسجن فيها فترة، وبعد ذلك خرج، فحاول أهله أن يقنعوه بالإقلاع عن المخدرات وما زالوا به حتى أقنعوه، وأقنعوه أنه سوف يتزوج، فأعلن توبته إلى الله عز وجل، وترك قرناءه السيئين، وأتلف ما عنده من المخدرات وأقبل على الصلاة، وبدأ يستعد ليوم الزواج، وكان زواجه في يوم السبت، ولما كان في ليلة الخميس، نام وكانت تلك الليلة هي ليلته الأخيرة، فقد قبضه الله تبارك وتعالى.
أيها الإخوة أيها الشباب!! ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيِّ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيءِّ ما هي المشاهد التي ينتظرها الإنسان في موقف القيامة: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو تعلمون ما أعلم؛ لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل} وكما في الحديث القدسي: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة: [[اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]] ] } .(11/19)
من قصص السلف في حسن الخاتمة
فقارن هذا مع من كتب الله تعالى لهم حسن الخاتمة مجاهد بن جبر رضي الله عنه مات وهو ساجد.
ولما احتضر حذيفة رضي الله عنه قال: [[اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، لا أفلح من ندم، مرحباً بالموت حبيب جاء على فاقة]] وكذلك بلال رضي الله عنه، لما احتضر كان يقول: [[غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه؛ فلما بكت زوجته وقالت: وابلالاه! واحزناه! قال لها: وفرحاه! وسروراه]] .
خيثمة بن عبد الرحمن، دخلت عليه امرأته وهي تبكي، فقال لها: [[ما يبكيكِ؟! الموت لابد منه.
فقالت: الرجال بعدك عليَّ حرام، فقال: ما كل هذا أريد منك -ما كنت أريد منك كل هذا الشيء- إنما كنت أخاف رجلاً واحداً، وهو أخي فلان- حيث كان له أخ، يقول: أخشى أن يتزوجك بعدي، وكان رجلاً فاسداً يتناول الخمر- فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب، بعد إذ كان يتلى فيه القرآن]] فهو يقول: بعد أن كنت أختم القرآن في كل ثلاثة أيام مرة، يشرب أخي الخمر في بيتي: هذا الذي كنت أخشاه.
انظر كيف ختم الله له بهذه الخاتمة الحسنة.
مالك بن دينار لما حضره الموت قال: [[لولا أنني أكره أن أصنع شيئاً لم يصنعه أحد من قبلي من الأنبياء والصالحين؛ لأوصيت أهلي إذا مت أن يقيدوني ويجمعوا يديّ إلى عنقي، فينطلقوا بي على تلك الحال، فإني عبد آبق من مولاه]] يقول: لا أريد أن ابتدع في الدين وإلا أنا أتمنى أن تربط يدي إلى عنقي ويفعلون بي فعلهم بالأسير العبد الذي هرب من مواليه فأمسكوا به؛ لعل الله عز وجل أن يراني على تلك الحالة فيرحمني.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: [[اخرجوا فلا يبقى عندي أحد، فخرج من كان عنده وجلسوا عند الباب يستمعون، فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جن، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم مات رحمه الله]] آدم بن أبي إياس ختم القرآن وهو مسجى على سريره ثم قال: " يا رب، بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، ثم قال: لا إله إلا الله ثم لفظ روحه ".
الإمام أحمد قال لولده عبد الله: " جئني بالحديث عن طاوس، أنه كان يكره الأنين -هات الحديث- فجاء ابنه وقرأ عليه الحديث عن طاوس: أنه كان يكره الأنين -يكره أن المريض يئن- فقرأه عليه فلم يئن الإمام أحمد إلا في الليلة التي توفي فيها.
يقول ابنه عبد الله: كان يغمى عليه ثم يفيق، فإذا أغمي عليه فتح عينيه، ثم قال بيديه هكذا: لا بعدُ بعدُ، قال: ففي المرة الثالثة قلت: يا أبه ما هذا، إنني أراك تحرك يدك وتقول: لا بعدُ بعدُ، قد لهجت بهذا الكلام ولا أدري له معنىً، فقال الإمام أحمد: إبليس -لعنه الله- قائم بحذائي عاض على أنامله، يقول: يا أحمد فتني يا أحمد، فتَّني، فتَّ علي فأقول له: لا بعدُ بعدُ حتى أموت " يعني ما دام الروح في الجسد، فلا زال هناك خوف من كيد الشيطان.
ولما احتضر أبو الوقت السجزي رحمه الله، أسنده بعض تلاميذه إلى صدره، فقال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27] ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة قال: " يادنيا ما أطيبك، إن طويلك لقصير، وإن كثيركِ لحقير، وإن كنا منك لفي غرور" ثم أنشأ يقول: إن تناقش يكن نقاشك يا رب عذاباً لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت رب صفوح عن مسيء ذنوبه كالتراب محمد بن واسع رحمه الله، كان عنده قوم جلوس وقوم قيام، فقال: ما يغني عني هؤلاء إذا أخذ بناصيتي وقدمي وألقيت في النار، ثم تلا قول الله عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41](11/20)
سوء الخاتمة
ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله: في كتاب الثبات عند الممات، أن رجلاً احتضر، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: هو كافر بها، نعوذ بالله، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، قال: حيل بيني وبينها، حيل بيني وبينها، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54] وقال ابن الجوزي: إنه يعرف رجلاً اشتد به الألم، وزادت عليه المصائب، فافتتن -أصابته فتنة- فكان يقول وهو في مرض الموت: لقد قلّبني -يعني ربه- في أنواع من البلاء، فلو أعطاني الفردوس لما وفّى بما يجري علي -يعني وما الفائدة من هذا الابتلاء- لو كان الموت وأنا صحيح فنعم، لكن هذا الابتلاء ما هي الفائدة منه؟ هكذا يخاطب ربه وهو في مرض الموت، بلغ به الجزع والفزع وعدم الصبر وسوء الخاتمة إلى ذلك.
قال ابن الجوزي: وسمعت آخر وهو في مرض الموت يقول: ربي يظلمني.
وأذكر أيها الإخوة شاباً سافر إلى إحدى دول جنوب شرق آسيا، وقد كان في العشرين من عمره، وكان يتعاطى مخدراً اسمه: الهيروين، جرعة فجرعة، ويزيد شيئاً فشيئاً، وذلك لوفرته في تلك البلاد وغناه، حيث كان شاباً غنيًا ثرياً مترفاً، واستمر هناك ما يزيد على سنة ونصف، بعد ذلك أحضر بالقوة قسراً، وأدخل في مستشفى الأمل في إحدى المدن، بعد ذلك وجد الراحة من العلاج واستمر فترة طويلة، ثم علم زملاؤه الأشرار بحاله، فاتصلوا به وطلبوا منه الخروج، وأغروه بذلك، فخرج ولما خرج صحبوه معهم، وفي أول جلسة معهم أعطوه جرعة ضخمة من المخدر، فشربها أو تعاطاها ومات في ساعته.
وآخر سمعت قصته بنفسي، حين زرت بعض تلك البلاد، وحدثني بعض العاملين في تلك البلاد، يقول: كان هناك رجل من هذه البلاد من دول الخليج -وكان يزيد على الستين من عمره، فجاء إلى بلاد الإباحية والرذيلة والفساد، قال: واستأجر غرفة في أحد الفنادق، فبدأ يعب الخمور عباً، ففي اليوم الأول شرب ست قارورات من الخمر والعياذ بالله ثم أتبعها بثلاث، ثم أتبعها باثنتين، فشعر بالامتلاء وشعر بوضع غير طبيعي، فذهب ليتقيأ في دورة المياه، فسقط وبعد ما طال الأمر به ولم يخرج، طرقوا عليه الباب ثم فتحوا الباب، فوجدوه ميتاً في أخس وأحط مكان، رأسه في دورة المياه.
فانظر كيف يجر الشيطان الإنسان إلى أمور مما يعاب عليه فيها في الدنيا والآخرة، ومن الأشياء التي إذا رآها الناس، ظهر عليهم الامتعاض والانزعاج والتأثر والحزن، فسبحان الله! ما أعظم الفرق بين من يموت هكذا، وبين من يموت شهيداً في سبيل الله عز وجل: تتلقاه الملائكة، وتتلقاه الحور العين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهل بيته، ويأمن من عذاب القبر، ويلبس تاجاً، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها} يا سبحان الله! الفرق بين الثرى والثريا، إنه بون شاسع، وكلهم من أولاد آدم، وكلهم مكلفون، ومطالبون، ولكن: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] .
وحدثني ثقة أنه يذكر أن صديقاً له كان له أخ يعتقد العقائد الخبيثة الكفرية، من عقائد العلمانيين والشيوعيين وغيرهم، فكان يناصحه ويكلمه، وهو لا يستجيب له، وعمل ما يستطيع، قال: فمرض أخي مرضاً شديداً، أصيب بالسرطان، فكنت آتيه وأتحدث معه، وأرجو هدايته لعل الله يختم له بخير، فلما كان في أحد الأيام قال لي: ائتني بالمصحف هات المصحف -قال: فقمت فرحاً مسروراً خفيفاً، لعل الله أن يكتب لأخي خاتمة سعادة، قال: فلما رأى المصحف، قال: هذا المصحف! قلت: نعم، قال: هو كافر بهذا الكتاب -والعياذ بالله تعالى- ثم قُضي ومات في لحظته تلك.
ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذين كان يجلس معهم، فيتكلمون في سب الله ورسوله، وشتم الدين والسخرية من أهله، تمثلوا له في مجلسه ذلك، فأغروه بأن يصر على ما هو عليه من الكفر والإلحاد.
وكذلك الذي يتعاطى المخدرات -مثلاً- مع قوم، إذا كان في ساعة الموت مثلوا له بين يديه، والذي يرتكب المعصية معهم إذا جاءته ساعة الموت مثلوا له بين يديه.(11/21)
الجنة ونعيمها(11/22)
المبادرة بالتوبة قبل الموت
أيها الإخوة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى الأشعري: {إن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} رواه مسلم.
وفي حديث صفوان بن عسال أيضاً: أنه ذكر باباً للتوبة، مسيرة سبعين عاماً، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها.
وعن عبد الله بن عمر {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرر} إذاً عجل يا أخي الحبيب، عجل ما دام الباب مفتوحاً، قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وما يدريك متى تطلع الشمس من مغربها، ربما نكون في أشراط الساعة الكبرى، ونحن لا ندري ولا تقل: هذا بعيد، فنقول لك: عجل قبل أن تغرغر، قبل أن تكون الروح تتردد في حلقك، وحينئذٍ لا تقبل منك التوبة لأنك رأيت الملائكة الذين جاءوا لقبض روحك فحين، فحينئذٍ لا ينفعك الإيمان.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فيا أخي الحبيب والله إني لك محب وعليك مشفق ولك ناصح، حاول أن تكون من التوابين، كلنا خطائين فمن منا التوابين؟ التائبون -أيها الإخوة، كثير ولعلي أختم هذا المجلس -وهذا الموضوع الميمون في التوبة، لعلي أختمه بهذه القصة الطريفة، التي ذكرها أحد الإخوة، وهو صاحب كتاب: العائدون إلى الله.(11/23)
قصة تائب
ذكر أن هناك شاباً، توفي والده، فكان له أم تسهر على رعايته وتربيته، وتشتغل بالخدمة في بيوت الجيران، حتى تجمع له ولإخوانه المال، فلما كبر هذا الشاب ذهب إلى الخارج للدراسة، وأتى بشهادة عالية، ولكن بعد ما غُسل مخه وانحرف فكره! وتغيرت أخلاقه! ونسي فضل الأم، فلما أراد الزواج عرضت عليه أمه فتاة طيبة، صالحة، فكره ذلك ولم يتزوج بها، وذهب يبحث، كما يقول هو: عن فتاة تكون من بيئة أرستقراطية، يعني يريد الترف، يريد النعيم، يريد أناساً من بيئة معينة، فتزوج هذه الفتاة وجلست عند أمه في البيت، يقول: بعد ستة أشهر من الزواج، دخل فإذا زوجته تبكي، فقال مالكِ؟ قالت: أما أنا أو أمك! لا أستطيع أن أجلس مع أمك في هذا البيت، ولا أستطيع أن أصبر أكثر من ذلك.
يقول هذا الشاب في قصته: بعد ذلك غضبت وفي ساعة غضب نسيت فيها الواجب، طردت أمي من البيت، فخرجت أمي التي طالما سهرت على رعايتي وتربيتي وغادرت البيت وهي تلتفت إليَّ وتبكي، وتقول: يا ولدي أسعدك الله! يقول: بعد ذلك ذهب الغضب وذهبت السكرة، ورجعت الفطرة فذهبت أبحث عن أمي، فلم أجدها في ذلك الوقت، ورجعت إلى البيت، فاستطاعت هذه الزوجة بذكائها وجمالها أن تنسيني أمي الغالية، فانقطعت أخبارها عني، فأصبت بعد ذلك بمرض خبيث ودخلت المستشفى، وعلمت أمي بالخبر، فجاءت تزورني، يقول: وكانت زوجتي عندي، فقابلتها عند الباب، فقالت لها: ارجعي ابنك ليس هنا، ماذا تريدين منا؟ نحن لا نريدك، يقول: فرجعت أمي من المستشفى، وبعد ذلك خرجت أنا، ثم عدت مرة أخرى، وانتكست حالتي الصحية وفقدت الوظيفة التي كنت فيها، وتراكمت عليَّ الديون، وتخلى عني أصدقائي وأصحابي، وهرب الناس من حولي.
يقول: في آخر ذلك كله جاءتني زوجتي يوماً من الأيام، وقالت لي: أنا لا أريدك طلقني! ما دام ليس لك وظيفة ولا مكانة في المجتمع، فأنا لا أريدك فطلقني! قال: فكانت تلك صفعة شديدة على وجهي، لكني بالفعل كنت أستحقها واستيقظت من السبات الذي أنا فيه، وخرجت أهيم على وجهي، أبحث عن أمي وفي النهاية وجدتها، ولكن أين؟ في أحد الأربطة تعيش على صدقات المحسنين، وقد أثر فيها البكاء فبدت شاحبة ضعيفة، وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها، وبكيت بكاءً مراً، وما كان منها إلا أن شاركتني بالبكاء، واختلطت الأصوات وظللنا على هذا المشهد ساعة أو أكثر، بعد هذا أخذتها معي في السيارة إلى البيت، وآليت على نفسي طاعتها ما حييت.
يقول هذا الشاب: وأنا الآن أعيش أحلى وأسعد وأجمل أيامي مع حبيبة العمر، أمي حفظها الله تعالى، فقد تركت النساء بعد تلك المرأة.
أيها الإخوة كان الموضوع طويلاً، وكان هناك أشياء وأشياء، لكنني شعرت بأن الموضوع أكثر مما أريد، وأعتذر إليكم عن التقصير، وأسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يتقبل منا أعمالنا كلها، وأن يوفقنا للتوبة النصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وأن يجعل ما نقول ونسمع حجة لنا لا حجة علينا.(11/24)
النار وحال أهلها فيها
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته -يعني إلى وسطه إلى أسفل بطنه- ومنهم من تأخذه إلى عنقه، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته} رواه مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] عن النبي صلى الله عليه وسلم {لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم} فكيف بمن تكون طعامه؟ والحديث رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح.
ما بالكم -أيها الأحبة- ونحن نتكلم الآن عن الغازات السامة، والقنابل الجرثومية، وننسى قطرة الزقوم، تصور قدرة الله عز وجل، الغازات السامة والقنابل الجرثومية فعل البشر، ومهما كان فهو ضعيف ومحدود، لكن قطرة من الزقوم قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] لو أن قطرةً واحدة قطرت في الدنيا؛ لأفسدت على أهل الأرض كلها معايشهم، فكيف بمن يكون هذا طعامه.
قال الله عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] ليست كثياب الدنيا، ليست كالثياب التي نتجمل ونباهي بها، إنها ثياب من نار، {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19-22] .
هذا كلام الله تعالى، ليس بحديث فتقول: هذا حديث ضعيف، هذا كلام الله تعالى، من ينكره كافر مرتد، والمؤمن عجب له كل العجب، كيف يعصي الله تعالى ويبارزه بالمعاصي وهو يؤمن بهذا؟ نحن لا نلوم الكافر الذي لا يؤمن بيوم الحساب حين يعصي أو يقع في الإثم والزور؛ لأن هذا ينسجم مع العقيدة التي اعتقدها بالكفر بيوم الحساب، يريد أن يأخذ من الدنيا قبل أن تفوت، لكن المؤمن الذي يدين بهذا ويؤمن بهذا، ويوقن بهذا كيف يعصي ربه؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: {سمع وجبة -أي صوتاً شديداً- فقال لأصحابه: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: هذا حجر رمي في النار منذ سبعين خريفاً، فالآن انتهى إلى قعرها} هذه الصخرة تتدهده في النار على مدى سبعين سنة وصلت إلى قعر نار جهنم والحديث رواه مسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن أهون أهل النار عذاباً رجل له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه، وإنه ليرى أنه ليس في النار أشد عذاباً منه} ما بالك بمن يقاسي نار جهنم ويصلى بها؟ ما بالك بمن يأكل الزقوم؟ ويشرب الغسلين؟ ما بالك بمن يضرب بالمطارق والمقامع من حديد، كلما أراد أن يخرج أعيد فيها؟(11/25)
الشباب طموح ومعاناة
بدأ الدرس بتقديم فضيلة الشيخ عائض القرني، وقصيدة للشيخ/ سلمان العودة، رحب فيها بالشيخ عائض القرني ثم بدأ الشيخ عائض محاضرته بمقدمة شعرية، ذكر بعدها عناصر المحاضرة ثم بدأ في تفصيل المحاضرة فتكلم حول الشباب والفطرة ثم بين أن المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة، وتكلم بعد ذلك عن صور المعاناة عند الشباب لمصادرة الحريات وتحجيم دور الشباب في الحياة، وعن حيرة الشباب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي وغيرها من صور المعاناة، معرجاً بعد ذلك على ذكر بعض صور الطموحات عند الشباب المسلم.
ثم ختم المحاضرة بذكر بعض الاقتراحات العاجلة، وقام بعد ذلك الشيخ سلمان العودة بالتعليق على المحاضرة بكلام قيم نفيس وختم كلامه بالدعاء.(12/1)
كلمة ترحيبية
الحمد لله على نعمة الإسلام, وكفى بها نعمة, والحمد لله عند كل نعمة، والحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضاه, والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل نبي وأشرفه وأزكاه.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة طيبة.
أيها الإخوة الأحباب! باسمكم جميعاً نحيي شيخنا وضيفنا وحبيبنا أبا عبد الله الشيخ: عائض بن عبد الله القرني أيها الأحباب: من كل قلب يمتلئ بالحب، وكل عينين تشعان بالصدق, وكل لسان ينطق بالحق, نقول: أهلاً بـ أبي عبد الله ترحب به عرانين نجد وبطاحها، يوم جاء من ذرا عسير وقممها, أهلاً بـ أبي عبد الله من كل الشباب الذين امتلأت قلوبهم حبّا لك, كما امتلأ قلبك نصحاً لهم وحباً.
يا أبا عبد الله! تحييك نجد والقصيم كلها, من كل الشباب الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً, تحييك نجد كلما هبت صباها, وفاح شذاها, وتقلب صباحها ومساها, أهلا بك يا أبا عبد الله كلما نبست شفة أو رفت عين، أو خفق قلب بحب.
يا أبا عبد الله إن جموع الشباب التي يغص بها هذا المجمع المبارك, جاءت لتعلن بلسان حالها ومقالها، أنها جموع محمد صلى الله عليه وسلم, وإنهم أهل الحق الذي تصدع أنت بكلمته, وإنهم أتباع محمد الذي تشدو أنت بدعوته, وأن الطريق والصراط المستقيم قد اتسع لشباب علت هممهم، وسمت اهتماماتهم, وأصبح الذي يستهويهم صوت الكلمة الصادقة, والدعوة الناصحة, والرأي السديد.
أيها الإخوة أدعكم مع سبح شعري، معانيه في قلوبكم جميعاً, ولكن الذي رسم كلماته هو شيخنا الشيخ سلمان بن فهد العودة , رسم هذه الكلمات معبراً عما في قلوبنا كلنا من حب, وشرفني يوم أن أمرني بإلقائها: احملوني إلى الحبيب وروحوا واطرحوني ببابه واستريحوا أنا من هيج الغرام شجاه وبراه الهيام والتبريح يا أبا عبد الله كم من محب ناله في هواك ضر جريح فسلام عليك من حيث تغدو وسلام عليك حيث تروح وسلام عليك في كل صمت وسلام عليك حين تبوح وسلام أنى حللت يباريك كما الظل في مداه الفسيح ذلك الحزن في الوجوه بكاء من مآسٍ تغدو بنا وتروح ففلسطين طعنة وأنين وقتيل ونازف وجريح وقلوب قد أنهكتها الرزايا فعليها من الرزايا صروح وبلاد الأفغان أنّات حزن وثكالى على ثكالى تنوح ويهز الدنيا نداء صريخ تحت أقدام قاتليه طريح وعلى كل بقعة ذكر اسم الله فيها مصائبٌ وقروح يا أبا عبد الله ما حشر الأشباح إلا روح أبيٌّ سبوح هزه الشوق للمجالس نشوى بعبير من الجنان يفوح وبلحن من الكلام ندي فيه سر من السماء وروح فلأنت الشباب يهتز عطراً ومعاناته وأنت الطموح رافضاً زخرف الحياة جمالاً باهتاً لم ينده التسبيح أما الآن فأدعو أسماعكم لتتعطر بهتافات أبي عبد الله وكلماته، فليتفضل مشكوراً مأجوراً…(12/2)
قصيدة شعرية للشيخ عائض القرني
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم صلّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي, وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي, صاحب الغرة والتحجيل, المؤيد بجبريل, المعلم الجليل، المذكور في التوراة والإنجيل, صلى الله عليه وسلم كلما تضوع مسك وفاح, وكلما ترنم حمام وصاح, وكلما شدا بلبل وناح.
هذا جراحي وهذا كله وصبي وهذه دمعتي سالت على تعبِ يكفيك يا قلب أنا في القصيم غدت قلوبنا تنسج الأفراح في طربِ يا ماسح الدمع عن عيني ذكرتكم والهم ينتابني والهول يعصف بي فيا فمي اليوم قبِّل كل ناصية شماء واقصد بها الرحمن واحتسب بريدة الحق ما زالت محجبة وصانها الله من باغٍ ومغتصبِ أمطر عنيزة دمع الحب يحمله روادها من صميم السادة العرب في الرس ترسو المعالي وهي راسخة وفي البكيرية الغراء كل أبي يا بن البدائع أبدع ما أردت على نهج الرسول ونهج الثلة النجب يا مذنب الأوفياء الله يحفظكم من زاركم مذنباً في دينه يتب هل أخبروك عن الخبرى وما فعلت أجيالها حاملو الأقلام والقضب؟ قصدي عيون الجوى يا عين فاغتنمي يا صاحب العين لا تأس على الحجب شمس الشماسية البيضاء معتقة بالبر والخير لم تكسف ولم تغب أرض الأشاوس ما دانت لمضطهد جوراً وما صافحت كفاً لمنتهب ولا استناخت لجبار على رغم لو كان من يزن نسلاً ومن كرب أنوف أبطالها مرفوعة أبداً إذا أنوف خصوم الحق في الترب صلى على أرضها روح الفدا وسقا ترابها معصرات المزن في السحب وذاد عنها دعاة الخير ما برحت تُرمى الشياطين عنها الدهر بالشهب يا أهل القصيم إن الذي يأتي ليحدثكم كالذي يروض الأسود, أو كالذي يسحب الحبل على شفرات السيوف.
يا أهل القصيم! يوم أن أتيت إليكم قال لي قلبي: إنك تأتي قوم أهل كتاب وسنة, فليكن أول ما تخبرهم عنه أنك تحبهم في الله, فأشهد الله في هذه الليلة, وأشهد ملائكته وحملة العرش, وأشهد المسلمين, أني أحبكم في الله, ولسان الحال يقول: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] .
كان لي نية قبل فترة أن أتشرف بزيارة هذا المعلم, وهذا المكان لأشارككم فرحة عودة دروس الشيخ الفاضل العالم المسدد سلمان بن فهد العودة , ونعيش هذه الأمنية الغالية، ولكني جئت الليلة معتذراً وشاكراً ومعانقاً ومسلِّماً.(12/3)
موجز المحاضرة
عنوان المحاضرة (الشباب معاناة وطموح) ولها عناصر: الشباب والفطرة، المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة، معاناة الخيرين أبد الدهر، رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإيذاء والإغراء.
من صور المعاناة عند الشباب: 1- مصادرة الحريات في حياة الجيل وفصله عن ماضيه المجيد.
2- تحجيم دوره في الحياة ومكانته في التأثير.
3- حيرته أمام ركام هائل من الغثاء الفكري والعقدي والسلوكي.
4- إدانته باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة.
5- قلة المربين والعلماء الربانيين.
أما من صور الطموحات: 1- فتطلعه أن يكون العالم الرباني، الذي يعيد للعلم مكانته.
2- سعيه إلى أن يكون المجاهد الذي ينصر الله به دينه.
3- حرصه على إعادة الأمة إلى صدارتها وإمامتها.
4- هدايته الناس إلى الله تبارك وتعالى.
5- تطهيره الأرض من الدخيل الكافر, وإعادة الكمال الإنساني إلى أمة الخلافة.
تلكم عناصرها، وفي الحقيقة إنني كتبت المحاضرة لجلالة الموقف, وكنت أرتجل في غالب الأوقات، لكن لما علمت أني سوف أفد إلى مدينة العلم والدعوة، والقضاة والمشيخة, آثرت أن أكتب: كالبحر يمطره السحاب وما له فضل عليه لأنه من مائه شباب محمد صلى الله عليه وسلم أخاطبهم هذه الليلة, شباب المساجد، شباب القداسة, شباب المبادئ، شباب التوحيد.(12/4)
الشباب والفطرة
قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] على ماذا فُطِرَ هذا الإنسان؟ على لا إله إلا الله محمد رسول الله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] فنطقوا، قال الرازي والغزالي شهادة حال, وقال الجمهور: شهادة مقال.
ولد المولود وفي قلبه مكتوب لا إله إلا الله، وفي دمه تجري لا إله إلا الله، وفي عروقه تسبح لا إله إلا الله.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لكل مسلم ميلادان اثنان: الميلاد الأول: يوم ولدته أمه.
والميلاد الثاني: يوم اهتدى وتابع الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن لا يلد الميلاد الثاني فلا ينفعه الميلاد الأول، لأن الميلاد الأول من جنس ميلاد الحيوانات والعجماوات والبهائم والطيور والزواحف, وقال كذلك شيخ الإسلام في مختصر الفتاوى: ولكل مسلم أبوان الأب الأول أبوه الجثماني، والأب الثاني محمد صلى الله عليه وسلم أبوه الروحاني، قال: وفي قراءة أُبي: ((وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم)) فالرسول صلى الله عليه وسلم أبٌ للشبيبة المهتدية السالكة إلى الله.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} سقط رأسه على التوحيد, وانبعث على التوحيد, ولكن التربية والغزو الفكري والأيادي العميلة, ومرتزقة الفكر، أرادوا أن يلحد، أو ينحرف، أو يفسق في دين الله, وجزاء الذين يغيرون فطرة الله أن يُغير الله أفئدتهم وأبصارهم؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] قالوا: أول مرة يوم الميلاد, وقيل: يوم الدعوة, وهذه الآية تتحقق في أسمى كمالها، في انهيار الشيوعية اليوم، تنسحق ويخرج العراة الجائعون من بيوتهم يدوسون بجزماتهم صور لينين واستالين.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب لقد قلَّب الله فطرهم, ولقد قلَّب الله أنظمتهم, ولقد دسَّ الله أنوفهم بالوحل, فرئيسٌ يأتي ليسحب صورة رئيس ويلعنها ويدوسها, {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] .
ولكني لا أفيض، وقد أردت أن أفيض, ولكني سوف أترك هذه الإفاضة لفضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري غداً مع محاضرة: موسكو تحطم أصنامها.
{وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان} {وأن يبيع حاضر لباد} وأن تُلقى السلع قبل أن يهبط بها إلى الأسواق, فأعطي القوس باريها، والكلمة خطيبها، منتظراً منه بحثاً في هذه الجزئية، التي نعيشها بدمائنا وضمائرنا وقلوبنا.(12/5)
المعاناة في حياة الجيل سبيلٌ وسنة
المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة, والله خلق الإنسان في كبد: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الانسان:2] قالوا: بالدعوة, وقيل: بالتكليف, بل هو مبتلى حتى في طعامه وشرابه, والفاسق مبتلى في معصيته, وشارب الخمر مبتلى بكأسه, وضارب العود مبتلى بعوده, والفنان مبتلى بفنه, والزنديق مبتلى بزندقته, والمؤمن مبتلى برسالته ومبادئه التي يحملها للناس: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فهو في مشقة وفي ورطة, لا يخرجه من هذه الورطة إلا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] ولا يكون المخرج إلا محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور, ولأنه ربان سفينة النجاح، من ركب فيها نجا, ومن تخلف عنها هلك.
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فهو عامل، المغني كادح, ومدير القرار كادح, ومنتج الجرم كادح, ومقترف الفاحشة كادح, ومرسل الكلمة البناءة كادح, ولكنه يعود إلى الله, وكما قال البوشنجي وهو يتكلم عن الدنيا، وهو أحد العلماء المحدثين: أتينا كارهين لها فلما عشقناها خرجنا كارهينا وما بالعيش سلوتنا ولكن أمرّ العيش فرقة من لقينا يقول: أتينا نكره الدنيا، غاضبين على الدنيا, لا نريد الدنيا؛ فلما تعلقنا بها أتينا إلى الموت تعلقنا بالدنيا, وهو كما قال الأول: ولدتك أمك يا بن آدم باكيا والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً وهذه هي المعاناة الكبرى, وهي العامة لكل البشر؛ لمؤمنهم ولكافرهم، ولمهتديهم وضالهم.(12/6)
معاناة الخيرين
أما معاناة الخيرين فهي معاناة خاصة, وهي أجر ومثوبة, وهو تكليف وواجب, ولقد عانى في الطريق كل صالح وكل خير, طريق شاق ومتعب, وطريق مضنٍ، بل العجيب! أن رواد الحق، ودعاة الباطل، حتى في طريقهم إلى مبادئهم يضحون, هذا يضحي وذاك يضحي، سجن ابن تيمية وسجن لينين , كل من أجل مبدئه، وقتل أبو جهل وقتل حمزة كل من أجل مبدئه, وجلد أحمد وجلد كارل ماركس في بلجيكا, كل من أجل مبدأه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] طريق ناح فيه نوح، وذبح فيه الذبيح, واغتيل زكريا, وضُرِّج عمر بدمه في المحراب, وذبح عثمان , وفصل رأس علي , وجلدت ظهور الأئمة؛ ولكن: جزى الله الطريق إليك خيرا ولو أنا تعبنا في الطريق فكم بتنا على الأجهاد يوماً نراعي النجم من أجل الصديق إنها طريقة ولكنها أجر ومثوبة, نوح يصارع الطوفان, وإبراهيم -عليه السلام- يحارب بالنار, وموسى يفتن فتونا, ورسولنا عليه الصلاة والسلام يتلقى الكربات.(12/7)
الرسول صلى الله عليه وسلم بين حرب الإغراء والإيذاء
رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإغراء والإيذاء، وهما حربان يتعرض لها الدعاة دائماً, فأيهما غلبته سقط وهزم وسحق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح نجاحاً باهراً، وانتصر انتصاراً مبيناً في كل الحربين.
اسمع إلى حرب الإغراء، وأول ما يمارس الطغاة والظلمة حرب الإغراء, إنهم يقدمون الدينار، ويقدمون الجائزة ويقدمون الفلة، والسيارة الفخمة, إنهم يشترون الضمائر ليبتاعوا بها المبادئ, تعرض صلى الله عليه وسلم لهذا أول ما تعرض له، الفتاة الجميلة تعرض على محمد صلى الله عليه وسلم يقول له الوليد: إن كنت تريد زوجة زوجناك أجمل فتاة في مكة, وكانت الزوجة الجميلة طموحاً وهدفاً للعرب في الجاهلية, ولذلك يقول قائلهم عن الفتاة: أخبروها إذا أتيتم حماها أنني ذبت في الغرام فداها ويقول جميل: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد ومجنون ليلى وهو يدعو الله عند مقام إبراهيم, ينسي دعواته ويلتفت إلى تلك الفتاة الجميلة التي سلبت عقله: أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب هذه عروبة أبي جهل وأبي لهب المنفصلة عن لا إله إلا الله، محمد رسول الله, لكن ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا، طموحاته أعظم.
عرض عليه الملك، ليتولى ملكاً على العرب العرباء, وليقود الجزيرة العربية, ولكن الملك مجرداً من الدين منية البسطاء, ومبلغ علم الوضعاء, ولذلك جعلته العروبة قبل الإسلام من أقصى أمانيها يقول امرؤ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا إما ملك أو موت.
وقال -المهلوس الآخر- المتنبي: ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك وأن ترى لك الهبوات السود والعسكر المجر وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر هذه هي أمانيهم, وهذه طموحاتهم, وعرضت له الدنيا عليه الصلاة والسلام، وقال الوليد: وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً لتكون أغنى أهل مكة, ولكن ماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ قال فيما يروى عنه: {والذي نفسي بيده لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لا أتركه أو أهلك دونه} لله درك، لله در مبادئك وطموحاتك وهمتك وعزيمتك.
البدر والشمس في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار يا فاضح الظلم فارت هاهنا وهنا فضائح أين منها زندك الواري ومحمد صلى الله عليه وسلم ينتصر، فلما انتصر على الإغراء, عرضوا له الإيذاء، وهي المدرسة الأخرى، وهو الأسلوب الآخر, السب والشتم "ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وكاذب" يصلي عند المقام، عليه الصلاة والسلام فيضعون السلا على رأسه، فيقوم يحتحت السلا، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يذهب إلى الطائف جائعاً ظامئاً متعباً ساهراً, فيُرَد من الطائف بالتكذيب، ويرمى بالحجارة فتسيل أقدامه, ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يتعرض للإيذاء في عرضه، في عائشة الطاهرة, فيصبر ويتحمل, تباع أملاكه في مكة, تصادر كرامته, يؤذى، يشهر به في القبائل, ولسان حاله ومقاله: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} .
يأتيه ملك الجبال فيقول: ائذن لي أن أطبق على أهل مكة الأخشبين, قال: {لا إني أرجو الله أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} وبالفعل أخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة , ومن صلب الوليد خالداً , فنشروا الدين في ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.
ويتعرض عليه الصلاة والسلام لمحاولة الاغتيال, ولكن يتصل بالله، وينتصر به ويستعز، فينصره الله نصراً مؤكداً يرتجف في الغار, حوله خمسون شاباً تقطر دماؤهم دماً وحقداً وموتاً, يرتعد ويرتجف أبو بكر ويخاف أبو بكر , ويقول: {يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا} , فيتبسم صلى الله عليه وسلم, من الذي يتبسم في وهج العاصفة؟! هو وحده.
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} لا تحزن إن الله معنا وانتصر وحقق أعظم طموحات التي ما حققها مصلح على تاريخ مسيرة الإنسان، وعبر القرون والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(12/8)
من صور المعاناة عند الشباب(12/9)
الاستهزاء والسخرية
تمر المعاناة بهذا الجيل الذي يريد أن يرث رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يبلغها للناس، فإذا هو الجيل الذي يمر به الاستهزاء والسخرية في أول درس له، مدرسة الاستهزاء والسخرية, وهذه قديمة تعرَّض لها صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يذهب بهم إلى تبوك, ليرفع لا إله إلا الله، وليطرد الغازي عن شمال الجزيرة, ومعه في الجيش مستهزئون منافقون, قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن أفئدة عند اللقاء, من هو الجبان؟! ومن الذي يتخلف عن الصف؟ أمحمد صلى الله عليه وسلم جبان؟! أمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يخوض المعارك بنفسه, والذي يضرب الكتائب بسيفه, والذي يقول عنه: علي وهو من أشجع الناس: {كنا إذا اشتد الهول، واحمرت الحدق، وحمي الوطيس, اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون أقربنا إلى القوم} .
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أبدبت في هول الردى أبطالها وإذا وعدت صدقت فيما قلته لا من يكذب قولها أفعالها هذا محمد صلى الله عليه وسلم! يستدعيهم في الصباح ليحاكمهم، هؤلاء أعداء الرسالة والصحوة والمنهج, ما لكم؟ نخوض ونلعب في أعراض الصالحين, فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] وهذه المدرسة تُجرِّب حظها اليوم في مسيرة الصحوة, فتستهزئ باللحية, والثوب القصير والسواك, واتباع الرسالة, وصلاة الجماعة, والأذان, والقرآن.
أحدهم يذكر في جريدة الحياة عن شباب الصحوة أنهم يعتقدون أن من قرأ آية الكرسي على الطائرة فوق خمسة عشرة سقطت, وهذا لا يقوله أحد, والكرامات نقرها, لكن حنانيك!! أبشباب الصحوة تستهزئ, أبا للشباب الذين لو ذهبت أنت إلى بورتلاند تتزلج على الثلج, ذهبوا إلى أفغانستان يتزلجون تحت الدبابات, أبشباب الصحوة تستهزئ، الذين إذا ذهبت إلى الخمارات ذهبوا إلى المساجد لإقامة الصلوات!! أبشباب الصحوة الذين إذا تلوت أنت المجلة الخليعة تتملاها, تلوا كتاب الله وآياته يقرءونها ويفسرونها.
وإذا تكون ملمة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] إذا قيل التزموا كما التزم الشباب الخيرون, قالوا: كيف نلتزم كما التزم المتطرفون الأصوليون الفضوليون, قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:13-14] أما في مجالس أهل العلم والفضل فيتظاهرون بالدين ورعاية الملة وحماية الشريعة, وأما في مجالسهم فيهدمون الإسلام بالمعاول {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ * يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15-16] وهي مدرسة: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:30] وهي مدرسة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] .
ويراني كالشجر في حلقه عسراً منزعه ما ينتزع فاجراً يخطر ما لم يرني فإذا أسمعته صوتاً قمع قد كفاني الله ما في نفسه وإذا يكفيك شيئاً لم يُضع غاظه أني حنيف مسلم وهو في اللذات واللهو تبع أتريدون سقوطي بعدما لمع الشيب برأسي وسطع لكن لمع نور محمد عليه الصلاة والسلام, وسطع ضياؤه في قلوب الموحدين, وليسوا بضارين كيداً، والله معنا يوم نعتمد عليه.(12/10)
مصادرة الحريات
من صور المعاناة: مصادرة حرية الجيل وفصله عن ماضية المجيد, فصوت الداعية مبحوح, ورأي الرشيد مذبوح, ومرتزق الفكر يغدو ويروح.
من صور المصادرة: أن يتهم الناصح في نيته, ويشكك في مقاصد أهل الخير وأهل الفضل, وإلا فمبدأ المؤمن النصح, لا يريد الغش لله ولا لرسوله ولا للمؤمنين.
أتى أبو سفيان إلى علي في الليل يطرق عليه بابه, قال: يا علي أتريد الخلافة من أبى بكر , لأملأن عليك المدينة فتيانا مرداً وخيلاً جرداً لتأخذ الخلافة من بنى تيم إليك, وهذا منطق الجاهلية، قال علي: [[يا أبا سفيان إن المؤمنين نصحة, وإن المنافقين غششة]] فالناصحون لا يتهمون، وإنما يريدون أن يحفظ الله بنصيحتهم البلاد والعباد, وأن يحجب غير الملتزم والمستقيم عن ميادين الإبداع, وعن مجال التأثير, وأن يعد طارئاً على المألوف, وارداً على السائد المتعارف عليه، حادثاً بأفكاره، وأن يترك الميدان لغيره، والكلمة لسواه.
إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر ٌ وعير قساً بالفهاهة باقل وقال الدجى للشمس أنتِ كسيفة وقال السهى للبدر وجهك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل يريد المشاركة هؤلاء الأخيار، فيجدونها في أضيق نطاق، بينما يجد أهل الهوايات الأبواب المفتوحة، والصدور المشروحة, وأهل الهوايات أصبحوا نجوماً، وباعة المبادئ أعلاماً، وأشباه السائمة رموزاً, فشياطين الإنس يجولون في صدور أولئك, ويحولون بين الشباب هؤلاء وبين ما يريدون من الخير, ويدغدغون الغرائز، أما هؤلاء الثلة الممتازة، التي تريد رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, يسخرون بدينه وبنبيه, ويتلاعبون بمصادر عزته, فأصواتهم ومجلاتهم وإشاراتهم ولافتاتهم وأغانيهم وكتبهم وجرائدهم وأشرطتهم في كل بيت, في المعمل، والعيادة، والدكان، والجامعة، والسوق, ثم يقال له: احذر أن تسيء الأدب, أو أن تجرح المشاعر, أو أن تغضب الآخرين, أو أن تنكر.(12/11)
تحجيم دور الشباب في الحياة ومكانه في التأثير
وأما تحجيم دوره في الحياة, ومكانه في التأثير, فهو ينظر إلى إسلامه وهو يزوى ويركن عن الحياة, هذا الدين الذي أنزله الله عز وجل منقذاً للبشرية؛ ورحمة للكون, وينظر الشاب إلى قرآنه فإذا هو معزول عن حياة الناس, في جماعة تحفيظ القرآن, في القراءة على الموتى، في رقية المصروع, في افتتاح الندوات فحسب, لكن أن يصدر القرآن ويورد هذه الأمة وأن يقودها إلى معالم الخير, وأن يرشدها في الحياة فلا, القرآن الذي أنزله الله وقال فيه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:1] إليك يا محمد, إليك يا حامل المبادئ, إليك يا منقذ الإنسان بإذن الله, إليك يا صاحب النور, لماذا؟ ألتقرأه في المسجد, أترقي به الصرعى فحسب, أتفتح به الندوات أم {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1] ويقول الله في كتابه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] قال مجاهد: [[شرف لك ولقومك]] , إي والله إنه الشرف العظيم, أين دستوري ودستورك قبل الرسالة؟ أين تاريخي وتاريخك؟ أين شريعتي وشريعتك؟ إنه القرآن والسنة.
هذا الشاب يمتعظ ويغضب، ويثور ويفور دمه, يوم يرى هذا القرآن يُنَحَّى عن حياة الناس, والله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هذا الشاب في نظرهم لا يصلح أن يكون من أساطين الأدب لأنه ملتحٍ, ولا من رواد الفكر لأنه قصير الثوب, ولا من أهل القرار لأنه يحافظ على صلاة الجماعة.(12/12)
حيرة الشباب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي
ثم يحتار هذا الشاب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي والفكري والسلوكي.
والأصل في توجه المسلم تجريد المنهج الرباني من الدخن، وتصفيته من الشوائب, ذهب عمر إلى مدراس لليهود، فوجد صحيفة هناك من التوارة ملقاة فاستبشر بها, وظن أنه سوف يضيف لثقافة الرسول صلى الله عليه وسلم ثقافة جديدة, ولشريعته منهجاً آخر, وأتى بالصحيفة يحملها ويبشر بها رسولنا عليه الصلاة والسلام, فَتَمَعَّر وجهه عليه الصلاة والسلام، وغضب, وقال فيما رواه هذا النسائي بسند صحيح: {أمتهوكون فيها يا بن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد أتيت بها بيضاء، والذي نفسه بيده لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي} موسى صاحب تلك الرسالة، وصاحب تلك التوارة, لو كان لكان تلميذاً من تلاميذي، وطالباً من طلابي؛ ومع ذلك تذهب لتأتينا بثقافة جديدة.
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات وينزل الصحابة، ويرون شجرة ذات أنواط, تشبه شجرة المشركين ذات أنواط, يعلقون عليها الأسلحة, بل يطلبون الرسول عليه الصلاة والسلام شجرة ذات أنواط, تشابه تلك, فقال صلى الله عليه وسلم: {الله أكبر! إنها السنن، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} فأنكر عليهم صلى الله عليه وسلم حتى المشابهة في هذا الشكل الخارجي, لما يؤدي إليه من المشابهة في المضامين والمقاصد, لا.
المسلم يتميز حتى في ثيابه, وفي لباسه, وفي منهجه, وفي فكره, وفي أدبه.
ذكر ابن إسحاق في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان يصالح المشركين يوم الحديبية فلما رأى المشركون عثمان قصير الثياب إلى منتصف الساق، علمه شيخه وأستاذه أن السنة تقصير الثوب, والمشركون كانوا يجرون الإزار ويسحبون الثياب, النابغة يمدحهم: رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب على كل حال قالوا: قد صبأ عثمان , قد صبأ عثمان , قالوا: صبأ لأنهم رأوا ثيابه قصيرة، لأن شيخه أتى بثياب قصيرة, فقلده واتبعه، واستن بسنته رضي الله عنه وأرضاه, وصلى الله على المعلم وسلم.
يدخل عمر المسجد وهذا في التاريخ أيضاً, فيجد قاصاً يقص على الناس, لكن من القرآن؟ لا, من السنة؟ لا وعندنا القصص وعندنا الأدب, وعندنا الإبداع, وعندنا الروعة, وعندنا المنهج المتكامل, قال عمر: من هذا؟ قالوا: قاص, قال: يقص ماذا؟ قالوا: يقص علينا من كتاب " دانيال " - دانيال ضائع من ضيعة التاريخ عاصي جدته لم يعرف منهجه إلى الله عز وجل- وعمر عنده عصا نسيها في البيت, فعاد فأخذها وأتى إلى الرجل فشق الصفوف إليه وضربه على رأسه, وقال: يا عدو الله! يقول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وتقص علينا من كتاب " دانيال ", مثل من يذهب الآن ويترك صحيح البخاري وصحيح مسلم ليخبرنا عن قصة بياعة الخبز, ووردة المهترية, وخلف الكواليس، ومحمود عنقاوي.(12/13)
إدانة الشباب باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة
هل سمعتم عن أحدٍ يخجل أن يحمل ملة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته؟ لقد أحوج المنافقون شباب الإلتزام إلى أن يخجل بعضهم من اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام, حتى يقول الأول: إذا ما محاسني اللائي أدل بها كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذر إذا كان اتباعنا لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام, وسجودنا لله عز وجل, وانتهاجنا نهجه, إدانة واتهام فكيف نعتذر للناس؟ ولذلك يقول منطق الجاهلية: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، أبناء الفقراء يسبقوننا إلى المساجد والهداية وإلى الالتزام والسنة, عرفنا الإسلام قبلهم, ونحن أهل الإسلام الأصيل, ولكن هو منطق واحد: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] لماذا اصطفاهم الله؟ لقد أُحْرِج صراحة كثير من الشباب بسبب اتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ووجدوا من التعليقات المريرة المرة, ما لم يجده العصاة, وهاهم العصاة يتبجحون ويسرحون ويمرحون, لا يعلق على الحالق بحلق لحيته, ولا على المسبل بإسبال ثوبه، ولا على شارب الخمر بشرب خمره, ولا على حامل العود بضرب عوده, ولا على هاوي المجلة الخليعة بمجلته, وإنما يعلق على أولياء الله، لأنهم اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها معاناة جعلت بعض ضعيفي الإيمان من شباب الصحوة يتنازل عن الكثير من السنة, بل ويجد الحرج في أن يحمل أحدهم السنة، وربك يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] كيف يجدون طعم الإيمان وهم يخجلون من اتباعك؟! وقد صرح بعضهم في تصريحات رسمية أنه لولا أسرته لربَّى لحيته, ولولا أن أباه يضغط عليه لترك الغناء, ولولا أن أمه تحاربه لحضر دروس العلم والمحاضرات, فسبحان الذي يغير ولا يتغير, ويبدل ولا يتبدل!(12/14)
قلة المربين والربانيين
قلة المربين والعلماء الربانيين، فقد أصبحوا أندر من الذهب الأحمر, وأعز من الكبريت.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل وأصبح الآن يذكر في المدن عالمٌ واحد, ممن يحمل الشريعة، ويؤتمن على الميثاق، وعلى الكلمة الحقة, وأصبح كما قال بعض الفضلاء: لو جمعنا الدعاة في البلاد في منطقة واحدة أو في مدينة, ما غطوا حاجتها, وهذا هو الصحيح, وأصبحت بعض المدن لا يأتيها المحاضر, لا تقام فيها المحاضرة في السنة إلا مرة أو مرتين, وأصبح هناك فقر مدقع في الدروس العلمية, بينما تمطر الأمة بوابل من الغثاء صباح مساء, فالصحف والمجلات والوسائل كلها ترغي وتزبد بما لا ينفع, ولكن مع قله المربين والدعاة، والله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ولو أنها تصرف الأموال, ولو أنها تهيأ الوسائل, وتدرس البرامج, ولكن لا يهمك {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ويبقى الحق منتصراً مع قلة وسائلة وقلة ما يلمع أو يعطى أو يوجه.
أصبح كثير من العلماء يشتغل بالنفل الزائد من نوافل المستحبات والزهد والورع, ورع بارد لا ينفعه؛ ورع والأمة تغرق؟! ورع والأمة تصادر كرامتها وحريتها؟! ورع والأمة تفصل من لا إله إلا الله؟! ورع والأمة تحول عن القبلة؟! ورع والأمة توصل بحبال إلى الغازي المستعمر؟! أي ورع هذا؟! وصنف آخر يتشاغل بفضول العلم، وتوليد المسائل، وتفريع الفرعيات, على حساب الأولويات والمهمات, فلا ينزل للجيل، ولا يقود المسيرة, ولا يوجه الطاقات, ولا يعظ, ولا يأمر, ولا ينهى, فأي علم وأي فائدة؟! المكتبات تغرق بوابل من التأليفات في الجزئيات حتى أَلَّفَ في مسألة المسبحة ما يقارب خمسة كتب مجلدات.
ولكن من يسبح بهذه الأمة إلى شاطئ الأمان, إنهم رواد محمد صلى الله عليه وسلم الذين يُعلِّمون الناس: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] قيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره, وقيل: هو الذي يكون إماما في الخير ويُعلِّم ويربى بفعله وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} [السجدة:24] هل قال في بيوتهم أو زوايا مساجدهم؟ لا {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يقول عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} .
إن القلة القليلة التي تتبوأ مكان الصدارة, تحتاج إلى من يرفدها ويعينها من القاعدين الآخرين، الذين رضوا بالجلوس في بيوتهم، وأفتاهم الشيطان ببعض الفتاوى التي لا تصلح في هذا الزمن, بل هو زمن الصراع العالمي والجهاد وأن تبدو ببضاعتك، وأن تنشر بزك, وأن تكون مرفوع الرأس.(12/15)
صورٌ من الطموح(12/16)
طموح إلى الربانية
ويتطلع الشباب كل واحد منهم -وهذا طموح- إلى أن يكون العالم الرباني، وسوف يحصل متى ما كان هناك استعداد وتوفيق ونية ليتعلم العلم الشرعي، ورغبة في التحصيل, وصبر على صعوبة الطريق, وفراغ القلب والوقت من الشواغل, مع ذكاء وفطنة.
إن الإسلام يعترف بالعلماء ليصدر عن رأيهم، لكن يوم يكون العالم وارثاً لمحمد عليه الصلاة والسلام, يوم يكون العالم يقول كلمة الحق ولا يكتم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] إن الذي يشتري بدعوته منصباً, أو سيارة فخمة, أو فيلةً بديعة, أو وظيفة مغرية, ثم يترك هذا المبدأ ولا يبينه للناس, لهو الخاسر في آخر الطريق, وهو المنكوب صراحة, وهو المفلس.(12/17)
طموحٌ إلى الجهاد
ويتطلع الشباب إلى أن يكون الواحد منهم مجاهداً في سبيل الله, وليس الجهاد فحسب في أفغانستان, بل في كل مكان, جهاد الكلمة والموعظة, والخطبة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وتربية البيت, والتحصيل العلمي, وتربية النفس على طاعة الله عز وجل, وكلٌ منا في قلبه أفغانستان, وكل في قريته أو مدينته أفغانستان, وهي من الجهاد أيضاً، ولكن نعطيها حجمها من الاهتمام, لئلا نترك الثغرات الأخرى، التى فتحت علينا وتولى أصحابها, وكانوا على المسلحة بالسيوف في الأنقاب, يطردون كل مسيح دجال يريد أن يدخل من هذا النقب.
سقطت راية الجهاد -كما قالوا- بعد " صلاح الدين " وتخلفت الأمة الإسلامية لتعيش في آخر الركب, وصارت تستورد ولا ُتصدِّر, وتُوجَه ولا تُوجِه, وتُقَاد ولا تقُود.(12/18)
طموحٌ إلى قيادة البشرية
والشاب الآن يطمح لأمته التي يقرأ عنها في التاريخ أن تقود البشرية، أصبح الآن حجتنا أن نغسل عنا العار على وجوهنا, أن نقدم لهم كل جمعة عمر بن الخطاب: لو أسمعوا عمر الفاروق نسبتهم وأخبرو الرزايا أنكر النسبا أبواب أجدادنا منحوتة ذهباً وذي هياكلنا قد أصبحت خشبا من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا إذا أردنا أن نعتذر قلنا: منا صلاح الدين , وعمر بن عبد العزيز.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا فلماذا لا يكون كل منا عمر بن الخطاب ولو مصغر, وصلاح الدين ولو نبذة منه, أو نسخة مكررة, وما ذلك على الله بعزيز.
وينتظر الشاب إلى أن يكون الداعية إلى منهج الله عز وجل ضد دعاة الباطل, وحملة الرذيلة، والمطالبة منا أن نراغمهم في الميدان، وأن نلاحقهم في كل معترك.
فالداعية الشاب الملتزم يجرع أعداء الله غصصاً لا تنتهى، فخطيب الدعاة مع خطيب أولئك, وصحفينا مع صحفيهم, وأديبنا مع أديبهم, وكاتبنا مع كاتبهم, ومفكرنا مع مفكرهم.
{حَتَّى إذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] وعندنا ولله الحمد في شباب الصحوة من التخصصات والمواهب والاستعدادات, ما يغطي كل جانب, ولكنها ما استثيرت وما وجهت وما وضعت في أماكنها, عندنا مئات الشعراء والحمد لله: إن بني عمك أكفهم رماح ومئات الخطباء ومئات الدعاة, ومئات الوعاظ, ومئات الشعراء, كلهم عندنا: أتركبون فإن الركب شيمتنا أو تنزلون فإنا معشرٌ نزُلُ إن شئتم فسيوف الهند ضاحكة أو شئتم الطعن فالأرماح ترتجل ويريد الشاب الملتزم من طموحاته أن يكون الآمر الناهي, الذي يتمعر وجهه كل يوم مرات عديدة, إذا رأى الإسلام يُمَرَّغ في التراب, يمرغ على الأرصفة, ويمرغ في الحوانيت, ويمرغ في الجامعات, ويمرغ في المنتديات, ويمرغ في النوادي, فيلتهب هذا الشاب، ويفور دمه، لأن دينه ومبدأه يمرغ في التراب, ويُزْبِد ويُرْعِد إذا رأى المنكر أمامه يهدد منهج الله، ويضايق أوليائه.
إن هذا الجيل -إن شاء الله- لا يريد أن يكرر مأساة بنى إسرائيل اليهودية القذرة, التي تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقال الله عنهم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] يقول الحبيب لحبيبه:: {قل الحق ولو كان مراً} يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: {قل الحق ولو كان مراً} رواه ابن حبان والحق مر يذهب بالرءوس, والحق مر يأخذ النفوس, والحق مر يسيل الدماء, لكن قل الحق ولو كان مراً, ما هي ميزتنا أمام الأمم؟ أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله, فإن تخلينا عن هذه الميزة سقطنا من عين الله ثم من عيون الأمم.
والشعوب الإسلامية الآن ترك كثير منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفعل الاستعمار, بل أصبح الأمر والنهي دخيل على الأمة، وأصبح مستغرباً, وأُذِيْبَ وأُنْهِيَ حتى أصبح الآن متلاشياً قليلاً ضعيفاً.(12/19)
طموح إلى دخول الجنة
أيها الإخوة الفضلاء! ومن طموحات هؤلاء دخول الجنة، نسأل الله لنا ولكم الجنة، وهى أعظم ما بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، خلافاً لأهل التصوف الكذبة, الذين يرون أن هناك مطلباً أعلى من دخول الجنة, ويرون أنهم لا يعملون للجنة, وأن العامل لا يعمل من أجل الجنة, يقولون: أجير السوء إذا أعطاه سيده أجرة أخذها, وإلا ما عمل، ويقول أحدهم: والله ما عبدت الله طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره, ولكن ليرضى عني, وقال أحدهم وهو يقرأ قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] والله يخاطب أهل أحد, من يريد الدنيا؟ أهل الغنائم, ومنكم من يريد الآخرة الشهداء الذين تركوا الغنائم, قال: فصفق بيديه هذا الصوفي، وقال: الله أكبر فأين الذين يريدون الله، يعني أن ما من الصحابة أحد يريدون الله، وهو فقط في صومعته وفي جهله وفي تخلفه يريد الله.
الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة منَّى الصحابة بالجنة {قال له الأنصار: يا رسول الله على ماذا تبايعنا؟ قال على أن تمنعوني مما تمنعوا منه نسائكم, وأطفالكم, وأموالكم, قال ابن رواحة: يا رسول الله فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة, فقام من مجلسه ابن رواحة وقال: ربح البيع والله لا نقيل ولا نستقيل} قال ابن القيم معلقاً: والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإذا تفرقا وجب البيع.
طولب ابن رواحة بالبينة ما هي بينتك؟ وأنت ذهبت من مجلس العقد, وقد سمعت الصك يتلى عليك من رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه} [التوبة:111] فطولب بالبينة، فتقدم في غزوة مؤتة, وأخذ الصحابة يقولون: رويدك يا ابن رواحة , فيقول: لا أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه >إن أقبل الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنه ثم باعها من الله, والله اشترى، وذهبت روحه إلى الحي القيوم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-29] وذكر ابن هشام في السيرة وغيره، وابن كثير أن شاباً من شباب محمد صلى الله عليه وسلم وقف النبي صلى الله عليه وسلم يعلن الحرب يوم الجمعة على أبي سفيان لأنه هدد أمن المدينة, واجتاح أطرافها، وأراد دخولها قبل المعركة بيوم أو يومين, فقال للناس: ماذا ترون أين نقاتلهم؟.
قال كبار الصحابة: في المدينة، يقول اللواء الركن/ محمود شيت خطاب: وهو الرأي السديد فإن حرب المدن دائماً في صالح المدافع على المهاجم؛ وأقر صلى الله عليه وسلم ذلك وخرج ثلة من أصحابه، من الشباب من آخر المسجد، خرجوا يكبرون وينشدون: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ويقول عمرو بن سالم: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى أحد, لا تمنعني دخول الجنة, والله لأدخلن الجنة, فيقول صلى الله عليه وسلم: بم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله, ولا أفر يوم الزحف, قال: إن تصدق الله يصدقك} وخرج بهم صلى الله عليه وسلم، فقدموا من التضحيات الهائلة، التي لم يحيها تاريخ، ولم تحفظ في كتاب, إلا في كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تروَ في قصة، ولم يسمع بها دهر, ووالله تضحيات تقيم شعر الرأس، وتجعل الدم مواراً في الجسم, تضحيات لا تنسى أبداً، يمد سيفه صلى الله عليه وسلم قبل المعركة قال: {من يأخذ هذا السيف، فرفعوا أياديهم قال: بحقه، فنزلت الأيادي إلا يد أبي دجانة , قال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} اسمع الشرط، اسمع شبابه عليه الصلاة والسلام: {أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} .
إن على كل رئيس حقاً أن يخضب القناة أو تندقا قال: {أنا آخذه يا رسول الله, فأخذه وأخرج عصابة الموت الحمراء, وهي تترجم (خطر ممنوع الاقتراب) وقال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت, فحان الموت, وأخذ أبو دجانة يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدار في الكيول أضرب بسيف الله والرسول ففلق به المشركين, وتقدم قتادة بن النعمان ليعلن من نفسه الصدق مع الله عز وجل, فضربت عينه ونزلت حتى تعلقت بعرق في خده -قالها ابن القيم في زاد المعاد، وغيره من أهل العلم- وأتى بعينه يعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم, بالله هل بعد هذه تضحيات؟ فيردها صلى الله عليه وسلم إلى مكانها فتخرج أجمل من الأولى, ويفتخر ابنه ويقول عند عمر بن عبد العزيز: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد فصارت على خير لأول حالها فيا حسنما كف ويا حسنما خد ويتقدم حنظلة، ويقتل وهو جنب، ويغسل بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن.
أملاك ربى بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة فانزاحت السجف سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا(12/20)
طموح إلى رضا الله
ومن طموحات هذا الجيل أن يرضى ربه عنه, ورضا الله غاية الغايات, وأهم المقاصد، وهى أكبر ما يطمح إليه العبد المؤمن في الحياة, -فنسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرضى عنا وعنكم- والمسلم، دائماً في كل صباح يقول: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً " صلى الله عليه وسلم, ولابد أن يحقق هذا في عمله وعبادته وسلوكه وأخلاقه, ولابد أن يجعل هذا الميثاق نصب عينيه، في كل دقيقة ولحظة من لحظات اليوم, ولا يُقدِّم على رضا الله رضا أحد من البشر مهما كان, ولا يقدم على الخوف من غضب الله غضب أحد من البشر مهما كان, أبداً، فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم، فيما يروى عنه، أنه قال: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عليه الناس} فالواجب على المسلم وعلى هذا الجيل أن يحرص على رضا الله عز وجل, وأن يردد دائماً بمعانيه وبعمله: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذى بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب(12/21)
اقتراحات عاجلة
وهذه غاية الغايات كما قلت، وقبل أن أختتم كلامي هذه اقتراحات عاجلة, من أخ إلى إخوانه، ومن زميل إلى زملائه، ومن صديق إلى أصدقائه, منها: أن يصنف الفضلاء حسب مواهبهم واستعداداتهم للذود عن الملة, وحراسة حياض الشريعة, وحماية دار الإسلام, ما بين عالم وداعية، وواعظ، وآمر، وكاتب، وأديب، وصحفي, ثم يقف كل منا على ثغرة فلا يغادرها حتى يقضي نحبه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] .
الثاني: أن ينتقل كل منا من مرحلة تواكل المسئولية، والتبرؤ من التبعات, إلى التأثير والمشاركة, وإلى ميادين العطاء, وإلى نشر ميثاق محمد صلى الله عليه وسلم, بكل ما أوتي الداعية من قوة.
الثالث: أن يهيأ في كل حي درس في الشريعة لأحد المؤهلين، يجيد مخاطبة العامة وتربية الناس, وهذا يقترح أن يكون مثل صاحب إحياء علوم الدين, وهو من أحسن ما يكون.
الرابع: أن ننطلق جميعا مُشَرِّقين ومُغَرِّبين, نرفع الجهل عن الناس، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر, فندخل البوادي والقرى والأرياف, داعين إلى منهج الله.
وقال غيري من الفضلاء، وأقول: يعلم الله أنه يوجد من أهل المبادئ الظالمة، والأنظمة الظالمة، من يضحي لمبدئه أعظم مما يضحي الموحد لتوحيده, والمسلم لإسلامه.
الخامس: أن نتخلى من عقدة الخوف, أتدرون ما هي عقدة الخوف؟ إنها العقدة التى تصل إلى حد أن يخرج الإنسان من الملة وهو لا يشعر, وقد جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نواقض لا إله إلا الله شرك الخوف, ونعرف أنه ليس في الحضور، ولا في غيرهم من شباب الصحوة، وأهل الإسلام، من يعبد نجماً أو شجراً أو حجراً, ولكن منهم من يشرك شرك الخوف حتى يخرج من الملة, يخاف من البشر أكثر من خوفه من رب البشر, ويخاف من الناس أكثر من خوفه من رب الناس, والله يقول: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ويقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] .
قرأت لأحد شعراء النبط ومعذرة في هذا, ولكني عجبت من قوته وجلده, وهو يعلن مبدأه في بيتين من الشعر وهو يخاطب بها بعض الظلمة, يقول: أنا يا كرى مثلك يحب العلا شجعان يراهم بروحه ما يخاف الشمالية أنا بعت روحي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النية وما دام وصلنا إلى النبط، فمعذرة فأنا سوف أختم كلامي ببعض الأبيات من شعر نبطي من طلق أهل الجنوب.
يا جميل الوصف بالله ما زرت القصيم ديرة فيها البطولات رمز أبطالها العقيدة والمروات والدين العظيم زلزلت منهم ديار الوفا زلزالها من جنوب المملكة جيت والمنصىكريم عند ما تحيا الجزيرة بذا نبلى لها وأكرر شكري لكم ودعائي, وأسأل الله أن يحشرنا وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وأن يجمعنا بالصالحين من عباده.
وأشكر أهل الفضل الذين شرفونى بالحضور، وتواضعوا للسماع مني، كالشيخ رئيس المحاكم عبد الرحمن العجلان، والمشايخ عموماً كالشيخ/ حمود العقلا , وغيره من الدعاة والخطباء وأهل الفضل, فشكر الله لهم ذلك، وما بقي من وقت فأتركه لفضيلة الشيخ الداعية المسدد سلمان بن فهد العودة ومع الشيخ ليقدمه لكم ثم يدلف إليكم.
تعليق الشيخ عبد الوهاب الناصر: إنا والله يا أبا عبد الله أعجز أن نكافئك أو نجازيك، يوم أسعدت بمقدمك, وآنست بطلعتك, وبعثت في القلوب بكلمتك من المعاني العظيمة، ما أنعشها وأحياها وأذكاها وأزكاها, فقد لامست بحديثك عن المعاناة جروحاً والله في القلوب راعفة, وحركت بحديثك عن الطموح همماً إلى المعالي سامية, لا نملك أن نكافئك ولا أن نجازيك، ولكن نملك أن ندعو لك ونسأل الله أن يجيب, نسأل الله أن يكتب لك ما احتسبت, نسأل الله جل جلاله أن يبارك في عمرك، وينسأ في أجلك, ويجزيك عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خير ما جزى داعياً عن دعوته, نسأل الله جل جلاله أن يسعد قلبك, ويقر عينك بعز الإسلام وظهور المسلمين.
أما الآن أيها الأحباب فادع قلوبكم لأشواقها, مع كلمة شيخنا، الموعودين نحن بها، فليتفضل شيخنا أبا معاذ ليعقب بما تيسر والله يحفظه ويرعاه.(12/22)
استهداف شباب هذه الأمة
الشيخ: سلمان العودة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وآله وأصحابه أجمعين.
أحبتي الكرام! كم هو محرج لي أن أجلس في هذا المجلس بين يدي مشايخي، كالشيخ عبد الرحمن والشيخ حمود والشيخ محمد بن صالح المنصور , وبقية المشايخ الذين حضروا إلى هذا المجلس المبارك، وهم كانوا أحق بهذا المجلس مني وأولى بالحديث مني.
أيها الأحبة الكرام! ليس لي حديث بعد هذا الكلام الطيب العذب, الذي تفضل به لنا الشيخ عائض بن عبد الله القرني، جزاه الله تعالى عنا خيراً, وبارك الله تعالى في أوقاته وفي جهوده.
أحبتي الكرام! شباب هذه الأمة اليوم كما هو ظاهر مستهدفون بحملة شرسة، تعمل على مسخ اهتماماتهم, وتوجيه تطلعاتهم إلى قضايا ثانوية, وإلى قضايا دونية, أصبح طموح الشاب، وأصبحت البطولات التي تتراقص في ذهنه, وأصبحت المثل التي يتمناها ويتطلع إليها, هي ليست البطولات التي تحفظ لهذه الأمة تاريخها, ولا ترفع هذه الأمة إلى مكانتها، وإنما تعلقت قلوب كثير من الشباب باهتمامات دنيوية, وطموحات عادية؛ بل أصبحت تطلعات كثير منهم لا أقول: دنيوية وعادية فحسب، بل ربما تكون ضد ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين, أي فائدة تجنيها هذه الأمة المنكوبة المكلومة من سفور المرأة وتبرجها وتعريها؟! وأي مصلحة تجتنيها وتكسبها من انشغالها بإعداد عجول آدمية لا يملكون إلا القوة في أيديهم وسواعدهم وأقدامهم فحسب, ولكنهم لا يملكون قلوباً قوية, ولا يملكون نفوساً أبية؟! وأي فائدة تكسبها الأمة من الأصوات الصداحة التى لا تتغنى بالقرآن, وإنما تتغنى بحب فلانه وفلان؟! إن الأمة اليوم ليس ما ينقصها هو المغني أو اللاعب, وإنما الذي ينقصها الشاب الذى يحمل قلباً يتنزى من جراح المسلمين في كل مكان, والشاب الذى يحمل روحاً تتطلع إلى نصرة الإسلام على يديه, والشاب الذي يملك نفساً تحترق لهموم المسلمين, والفتاة التي يهمها أن تكون قعيدة بيتها لتربي لنا أبطالاً، ليعيدوا لنا أمجاد السابقين.
كما تحدث فضيلة الشيخ عائض , أصبحنا اليوم نتكئ على تاريخنا كثيراً، فخطيبنا ومتحدثنا ومحاضرنا وفي مجالسنا لا نملك إلا أن نعدد مآثر سابقينا, فنقول: فلان فعل وفلان فعل.
وقد قيل: كن ابن من شئت واكتسب أدباًً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبى هذه الأمة أصبحت تجتر تاريخها, لأنها عقمت في حاضرها, فلم تجد من البطولات، ولم تجد من ألوان العظمة, ولم تجد من الجد والاجتهاد, ما تتحدث به في واقعها, ولهذا انكفأت على تاريخها تقلب صفحاته, كما ينكفئ التاجر إذا أفلس على أوراقه القديمة، ويقلب دقاتره السابقة لعله يجد ديوناً هنا أو ديوناً هناك.
أصبحنا نتحدث عن ماضينا، ولا نتحدث عن حاضرنا, لا أقول نتحدث عن ماضينا أكثر مما نتحدث حاضرنا, بل نتحدث عن ماضينا ولا نتحدث عن حاضرنا.
وأفلح عدونا فعلاً في إغراقنا بألوان من الهموم والمشاغل، من خلال غزو مُرَكَّز قامت به أجهزة الزور العالمية التي دخلت كل بيت وكل عقل وكل قلب وكل روح, فغيرت من نفسية الإنسان المسلم.
أصبح المسلم يعاني مسخاً منذ أن يستيقظ إلى أن ينام, ومنذ أن يولد ويكتب في دفتر التابعية إلى أن يدفن ويكتب في دفتر الوفيات, يعاني مسخاً وتشويهاً وتغييراً لعقليته, ولروحه ولإيمانه، لا يكاد يصمد لها إلا الأقلون.
ولعلنا نعرف كم يصدر يومياً من المجلات والجرائد، ومن الكتب ومن الدواوين، ومن القصائد ومن القصص ومن المسلسلات!! وكم يوجَّه إلى عقل الشاب المسلم اليوم من ألوان التسلط التي تمسخ عقله وتغير فكره.
وكم تواجه الفتاة حتى وهي في عقر دارها, حتى وهي في مدرستها, حتى وهي معزولة عن عالم الرجال, كم تواجه من ألوان التغيير والتضليل، التي جعلت كثيراً من الناس -كما تحدث الشيخ عائض - حفظه الله- تنقطع صلتهم بماضيهم, وتنبتر صلتهم بتاريخهم, وتقل رابطتهم بإيمانهم, حتى أنك لا تجد منهم من يهتم لهمِّ هذه الأمة, ولا من يعيش مشاعرها، وربما أصبح كثير منهم يعرفون من تاريخ أبطال الغرب, وفنانينه ومخترعيه وصُنَّاعه, ما لا يعرفون عن أبطالهم ولا عن تاريخهم، وربما استطاع كثير من هؤلاء -وقد رأيت هذا بعيني- أن يقرأ أغنية من أولها إلى آخرها, لكن ربما لو طلبت منه أن يقرأ سورة من كتاب الله عز وجل لعجز، ولو قرأ منها آيات لقرأ آيات مكسرة مهشمة، يخطئ فيها في السطر الواحد مرات , أي مسخ أكثر من هذا؟! والواقع أيها الأحبة أن الكثير لا يدركون ذلك, لماذا لا ندركه؟ لأن الكثيرين منا بحمد الله يعيشون في أجواء طيبة، وبين أوساط قوم صالحين, هذا يحفظ القرآن, وهذا يتلو كتاب الله, وهذا يتعلم السنة, وهذا يحضر مجالس الذكر, لكن هناك قسماً آخر كبيراً جداً من المجتمع، لا علاقة لنا به, ولا ندري ماذا يدور فيه, ولا عما يتحدثون, ولا ما هى اهتماماتهم، ولا ما طموحاتهم, ولا ما هي معاناتهم, وكثير من هؤلاء قد مُسِّخت عقولهم, وغُيِّرت أفئدتهم, حتى أصبحت صلتهم بدينهم وواقعهم أبعد ما تكون, وأصبحت قلوبهم مع عدوهم، وإن كانت أثوابهم أثوابنا, ولغتهم لغتنا, وربما كانت أسماؤهم اسماءنا, وهم من عوائلنا وأسرنا، لكن كثيرون منهم قد ذهب بهم الغرب كل مذهب, وغير عقولهم وأفئدتهم, وقلبهم فيما يحب ويشتهي, حتى أن الواحد منهم لا يحس بأدنى حسرة على هذا الواقع المرير الذى تعيشه أمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, ولا يحس بأدنى غبن، وهو يرى أمم الغرب والشرق تبلغ قمة المجد في دنياها وفي تقدمها، وفي صناعتها، وفي علومها التى كان يجب أن تكون في أيدي المسلمين, فلا يعنيهم من أمر ذلك شيء.
بل إن الغرب نفسه أصبح يُصدِّر إلينا التعاسة، والفساد، والتوافه من الأمور، ويحتفظ لنفسه وأبنائه ولفتياته بالتقدم والعلم, ففي الوقت الذي يشغل الغرب فيه شبابه ذكوراً وإناثاً بالأمور النافعة, وبالأمور المفيدة على الأقل في دنياهم، أصبح الغرب يصدر إلينا من توافه البضائع، من المجلة الهابطة, ومن الأغنية المنحطة, ومن الأفلام الفاسدة, ومن البرامج الرديئة, أشياء وأشياء, وإن كان من أولادهم من يتشغل بها إلا أن منهم أيضا من يشتغل بجلائل الأمور ومعاليها.
ونحن نعلم أنه حتى في مجال المرأة أصبحت جيوش كثير من أمم الكفر تجند النساء, لماذا تجند النساء؟ لخدمة عقائدهم ومبادئهم, نحن نربأ بأزواجنا وأخواتنا وبناتنا وأمهاتنا وقريباتنا، من نعتبرهن درراً مصونة، تحفظ في بيوتها ويقول الله تعالى لهن: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] نحن نربأ ببناتنا, بنسائنا, بأخواتنا المؤمنات, عن مثل هذه المواقع.
لكننا نقول: إنها لعبة واضحة مكشوفة ينبغي ألا تنطوي علينا أن الغرب في الوقت الذي يجند حتى صاحبات السواعد الرخوة يجندهن للدفاع عن مصالحه في أنحاء العالم, فإنه يصدر إلى شبابنا -وليس إلى فتياتنا فقط- ألوان الفساد والتعاسة, وألوان الانحراف والانحطاط, وها هو البث المباشر أصبحوا يهددوننا به صباحاً ومساءً, حتى يخترقوا بيوتنا وأخلاقنا وعقولنا وقلوبنا وأرواحنا, ويجعلوا شبابنا يعيشون في حالٍ لا يعلمها إلا الله.(12/23)
الأمة الإسلامية بحاجة إلى صحوة
أيها الأحبة الأمة الإسلامية بحاجة إلى صحوة, وينبغي أن ندرك أنه إذا كان يجتمع في مسجد مثل هذا الجمع الطيب بالألوف, فإنه يوجد أعداد كبيرة من الشباب هم بأمس الحاجة إلى اليد الحانية، التي تأخذ بأيديهم إلى المسجد, وتربطهم بالله عز وجل, وتدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وتتطلف معهم حتى تجرهم وتسوقهم سوقاً رفيقاً غير عنيف إلى مجالات الخير, ومجالات البر ومجالات الإحسان.
وإننا نعتبر أن مثل هذه المجالس، كما نعتبر مجالس العلم التي يحييها علماؤنا في كل مكان, كما نعتبر دروس تحفيظ القرآن, كما نعتبر الدور التي تقام والمجالات الخيرية، نعتبر أنها نوع من المقاومة والكفاح، لا يقل أبداً عن ذلك الذي يحمل سيفه ويواجه العدو في ميدان المعركة, بل نحن نواجه عدواً أشرس وأعظم، لأن الذي يواجه العدو في ميدان المعركة قد حدد عدوه، وعرفه على وجه التحديد, وعرف جهته, وقد وجد في الواقع ما يثير حماسه ويلهبه, حتى أن كثيراً ممن يكون فيهم خوف وجبن إذا ذهبوا إلى ميادين القتال، وسمعوا أزيز الطائرات، وسمعوا طلقات المدافع، زال عنهم الخوف, وأصبحوا شجعاناً ينطلق الواحد منهم لا يلوي على شيء، وهو يتمنَّى أن يموت في سبيل الله, وهذا أمر مشاهد مجرب, لكن الذي يواجه عدواً مستتراً عدواً منافقاً، عدواً يتظاهر بالود, يتظاهر بالخير, يتظاهر بمحبة الطيبين والخيرين، وأنه يريد الخير لهؤلاء الناس, ثم يدس لهم في اليد الأخرى السم الناقع، ذلك من أصعب الأمور مواجهة أمثال هؤلاء، لأن الكثيرين تفتر حماستهم، وتقل اندفاعاتهم نحو هذه المجاهدة, التي هي من أوجب الواجبات في هذا الوقت, وما هذه الكلمات النيرات التي تقدم بها أخي الشيخ عائض حفظه الله وسدده ووفقه وجزاه عنا خيراً, إلا نبراس في هذا الطريق، فنحن أصبحنا اليوم أيها الإخوة مطالبين، حتى من كان منا عنده معصية، أو عنده بعض التقصير، مطالبين بأن ننقذ أنفسنا وننقذ بيوتنا، من هو الذي يرضى أن يكون بيته مقتحما؟ من هو الذي يرضى أن يكون عدوه في قعر بيته؟ يصل إلى أخته وإلى أخيه وإلى قريبته بل إلى زوجته في بعض الأحيان, والله إننا نعرف من أوضاع البيوت من أوضاع الشباب ومن أوضاع الفتيات ما يندى له الجبين, وندرك أن الشاعر كان على حق حين صاح منذ سنوات طوال وهو يقول: مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب مؤامرة تدور بكل بيت لتجعله ركاماًَ من تراب هذا الشاب الذى تلتهب القوة الجسمانية في بدنه, ثم يرى على مرأى منه ومسمع صور الرذيلة، التي تصدر لنا من الشرق والغرب, وصور المرأة الجميلة، والأغنية الهابطة, ما هو الذي يعصمه من كل هذا؟! صحيح أن الإيمان يعصم قدراً من الناس، لكن كثيرين تضعف قوتهم, ويتأخرون ويستجيبون لمثل هذه النوازع الشهوانية, ويظل الشيطان يجرهم جراً من منحدر إلى منحدر, ومن درك إلى درك, حتى لا يصحو الواحد منهم إلا وهو في الحضيض، وقد أصبح مدمناً للمشاهدة, مدمناً للسماع, مدمناً للمخدرات, مدمناً لأي لون من ألوان الفساد, ويصعب عليه أن يتخلص من ذلك, إلا بجهد جهيد.
فيا أيها الإخوة! ينبغى أن يعلن كل فرد منا، إن صح التعبير، حالة الطوارئ على نفسه, وفي بيته, ويكون يقظاً صاحياً مدركاً للمسئولية التى ألقيت على عاتقه، وأن يؤدي دوره في منزله, وفي زملائه، وفي حيه، وفي كل مجال يكون فيه على أحسن ما يكون أداء الدور.
وإذا لم تنفع اليوم، أيها الأخ! دينك وأمتك فمتى تنفعها؟ نحن على ثقة، وعلى يقين من وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الدين منصور, والله الذي لا إله غيره أقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً, إن هذا الدين منصور ولكن بسواعدنا، فإن الله يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] فنصر هذا الدين إنما يكون بسواعد المؤمنين, وبجهادهم وبصبرهم وببلائهم وبدعوتهم إلى الله تعالى, لو شاء الله تعالى لأنزل ملائكة في الأرض يخلفون، وعن دين الله تعالى يذبون ويكافحون، ولكنه أراد أن يبلوا بعضنا ببعض، ويختبرنا ببعضنا ببعض, فلنكن من المجاهدين في سبيل الله, ولو بالكلمة الطيبة, ولو بالنصيحة الهادئة, ولو ببذل جهد بسيط في هذا السبيل.
فنحن نحتاج منك إلى أقل القليل من الجهد، وأقل القليل إذا أضيف إلى غيره فإن الله تعالى يبارك فيه, خاصة إذا توافرت مع ذلك النية الصادقة, والخلق الحسن، والبسمة تكسو وجهك, وحب الخير للناس, لا تريد علواً في الأرض ولا فساداً, ولا تريد أن تمارس على الناس هيمنة، أو تسلطاً أو أمراً أو نهياً, وإنما قصدك أن يهتدي الناس إلى دين الله وإن لم تعرف وإن لم تذكر، وإن لم يستجب لك الناس في شخصك, لكن يهمك أن يستجيبوا لدينك ولدعوتك حتى ولو كنت تحت أطباق الثرى.
خاتمة: وأختم هذه الجلسة المباركة بالدعاء، أن يوفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه, ويجعلنا جميعاً هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين, وأن ينفع بنا دينه وينصر كلمته، ويعلي بنا سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا, إنه على كل شيء قدير وأدعو الله للشيخ عائض بن عبد الله القرني أن يوفقه الله لما يحبه ويرضاه, وأن يملأ الله قلبه إيماناً وسعادة, إنه على كل شيء قدير.(12/24)
حكم لفظة: (سقط من عين الله)
السؤال
قد سمعتك تكرر لفظة (سقط من عين الله) فهل هذه العبارة تليق بالله جل وعلا أم لا؟ وهل فيها تشبيه أم تمثيل أم لا؟ هذا للتنبيه وأَعَلَمُ أنك قلتها بدون قصد.
الجواب
في الحقيقة لا أدري من المقصود، أنا أم الشيخ عائض؟ ولكن سأجيبك بعد أن أستسمح الشيخ في ذلك.
أنا أعتقد أن العبارة هذه ليس فيها شيء, وقد وردت في بعض الآثار على كل حال, والمقصود بها أن الإنسان إذا فعل معصية أو قصر في واجب, فكما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى يعرض عنه, أو ما أشبه ذلك ولا يكون له عند الله المنزلة, ولا شك أن منزلة العبد عند ربه تكون بقدر إخلاصه وعمله وتقواه, فهذا هو المقصود, وهو مقصود صحيح، واللفظ ليس فيه شيء في حدود علمي, وإن كان فيها شيء، فحبذا أن ينبهنا مشايخنا إلى ذلك.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك والحمد لله رب العالمين.(12/25)
يا لجراحات المسلمين
تحدث الشيخ حديثاً مهماً عن قضايا المسلمين وجراحاتهم وما يدور في الساحة الإسلامية من مآسٍ لا يعلم حقيقتها إلا الله، وتناول في حديثه ما يجري في البوسنة والهرسك والصومال وأفغانستان وإريتريا وما سواها من الدول الإسلامية، ثم تناول حديثاً عن واقع المسلمين في البلاد العربية، وما فيه من المضحكات المبكيات، وتطرق إلى الأسباب في هذه المآسي وما هو الدور المطلوب من الحكومات والأفراد.(13/1)
اعتذار وشكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه المحاضرة (يا لجراحات المسلمين) تُلقى في هذا المسجد الجامع الكبير، بمدينة المجمعة، في ليلة الجمعة آخر يوم من شهر صفر من سنة (1413هـ) .
أيها الأحبة من الحضور، وأيها الأحبة من أهل المجمعة، إني لا أشكركم لأنكم دعوتموني إلى المحاضرة فحسب؛ ولكنني أشكركم لأمورٍ، منها: إلحاحكم الدائم الذي أحرجني وأشعرني بالتقصير في حقكم، وبُعد العهد معكم، فقلما يمر أسبوع أو أقل من ذلك، إلا وألتقي بوجوه أحبة كرام من هذا البلد الكريم يطلبون إليَّ فيها الشخوص إليهم، والحديث معهم، وزيارة مدينتهم المباركة الطيبة.
وأشكرهم أيضاً للزيارة المستمرة التي يشمرونني بها شيباً وشباباً للسلام، والمحادثة، والجلوس، والزيارة في الله عز وجل.
وأشكرهم أيضاً للبذل الكريم السخي، الذي لمسته منهم كما لمسه غيري في قضايا المسلمين وحاجاتهم، وهذا مما يدل على عُمق الرابطة الأخوية بيننا وبين إخواننا المسلمين في كل مكان.
كما أشكرهم أخيراً لنشاطهم العلمي والدعوي الذي نحمد الله تبارك وتعالى عليه.
وربما كُنت ذكرت لكم يوماً من الدهر، أنني أتيت قبل سنين طويلة إلى هذا البلد، فلم أجد فيه ما نجده اليوم من هذا الإقبال الكبير على الخير، وهذا الاندفاع المبهج نحو الأعمال الصالحة، وهذا الحضور الحاشد لمثل تلك المجالس والمحاضرات والدروس، فالحمد لله الذي بدّل الأحوال بما هو خير وأفضل، وأرانا في هذه البلاد كلها ما يسر كل غيورٍ على دينه، حريصٍ على أمته، ثم شكراً لكم شكراً على كل ما قدمتم وبذلتم.(13/2)
الحديث عن مصائب الأمة
هذه المحاضرة -أيها الأحبة- ليست نشرة أخبار، تتكلم عن أحوال المسلمين في هذا البلد أو ذاك، وليست تحليلاً أو تقريراً يصف الأوضاع وُيشخّصها ويربط الأمور بعضها ببعض، وأنَّى لنشرة إخبارية، أو تحليلٍ، أو تقريرٍ، أن يُلم بمصائب أمة تسكن فطاع عريضة من الأرض، أو يتحدث عن كارثة نزلت بما يقارب ألف مليون إنسان.
إننا نستطيع أن نُشخِّص مصيبة فرد واحد، أو كارثة أسرة بعينها، ونتكلم عن ذلك بما يبكي العيون، ويحرِّك جامد القلوب، ويهز الضمير والوجدان.
وأنت تسمع أحياناً قصيدة عربية، أو نبطية، يتكلم فيها الشاعر عن مصابه الشخصي، وهو سجين، أو مريض، أو طريد، أو شريد، أو فقير، أو مات أهله وأقرباؤه وذووه، فلا تملك الدمعة من عينه، ومن هو الذي يستطيع -مثلاً- أن يسمع قصيدة أبي ذؤيب الهذلي حين مات بنوه السبعة بالطاعون في عام واحد، فأنشأ قصيدة طويلة معروفة: أمن المنون وريبها تتوجعُ؟ ولدهر ليس بمعتبٍ من يجزعُ أودى بنيَّ فأعقبوني حسرةً بعد الرقادِ وعبرةً ما تقلعُ ولقد حِرصتُ بِأن أُدافعَ عنهُمُ وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفعُ وإذا المنية أنشبت أظفَارَها ألفيتُ كُل تَميمةٍ لا تنَفعُ فالعين بعدهم َكأنَّ حداقها كحِلتْ بِشوكٍ فهي عُورُُ تَدمعُ وتجلُدي للشامتينَ أُرِيهُمُ أني لِريبَ الدهرُ لا أتزعزعُ من هو الذي يستطيع أن يسمع هذه القصيدة، فلا يتأثر قلبه أو يهتز أو يملك عينه من الدمع؟ أو يسمع قصيدة ذلك الشاعر الآخر، الذي شُرِّد وطُرد من بلده، وأُبعد عن أهله وأحبابه وجيرانه، فكتب قصيدةً بدمع العيون بل بدم القلوب، يصف فيها حاله: طال اغترابي وما بيني بمُقتضب والدهرُ قد جدَّ في حربي وفي طلبي والشوقُ في أضلعي نارٌ تذوبني ما أفتكَ الشوقَ في أضلاعِ مُغتربِ كم ذا أحنُّ إلى أهلي إلى ولدي إلى صِحابي وعهد الجَد واللعِبِ إلى المنازل من دينٍ ومن خُلقٍ إلى المناهلِ من علمٍ ومن أدبِ إلى المساجدِ قد هامَ الفُؤادُ بها إلى الآذان كلحن الخُلد في صببِ الله أكبر هَل أحيا لِأسمعها إن كان ذلكَ يا فوزي ويا طربي إني غريبُُ غريبُ الروح منفردُُ إني غريبُُ غريبُ الدارِ والنسبِ ألقى الشدائدَ ليلي كُلهُ سهرُُ وما نِهاري سِوى ليلي بِلا شُهُبِ أكابد السقم في جسمي وفي ولدي ,في رفيقةَ دربٍ هدها خببِ من يستطيع أن يسمع تلك القصيدة الطويلة، فلا يحزن ويأسى ويشارك الشاعر في مُصابه، أو من ذا الذي يستطيع أن يسمع قصائد كثيرة من هذا القبيل، أو كلماتٍ منثورة، تحكي مصيبة فردٍ، أو أسرة إلا ويتأثر بها؟ فما بالك إذا كان الحديث عن مصاب أمةٍ بأكملها، ثم هذا المصاب الطويل العريض، ماذا تأخذ منه وماذا تذر؟ أتتحدث عن مصاب الأمة، وهى تتحطم تحت سنابك خيول العدو؟ أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة وهى تموت جوعاً، وعرياً، وفقراً، ومسغبةً على حين أنها أغنى الأمم وأثراها وأكثرها أموالاً وأولاداً؟! أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة حين يقتل بعضها بعضاً، ويسفك بعضها دم بعض؟! أم تتحدث عن مصيبة هذه الأمة حين تفارق دينها وتجهل حدود ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؟! أم تتحدث عن هذا أم عن ذاك أم عن غيرهم؟ إن الذي يريد أن يتكلم عن مصائب هذه الأمة في دقائق أو ساعات، أو حتى في كتاب، يحاول أمراً مُحالاً، ولكنني في هذه الكلمة والجلسة أريد أن نتذاكر معكم نماذج من هذا وذاك، ليس لمجرد التلذذ بنكء الجراح، وتهييج القلوب على المصائب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر؛ وبالتأكيد فهذا الحزن الذي يملئ قلوبنا لا يمكن أن يشبع جائعاً، ولا يروي ظمئاناً، ولا يؤمن خائفاً، ولا يسلّح أعزلاً، ولا يعلِّم جاهلاً، وإنما نريد أن نتحدث لنضع أيدينا على الداء والعلة، ونحاول أن نتعرف على الدواء والعلاج، ثم لنعرف موقعنا نحن من هذه الخريطة الحمراء بالدم، السوداء بالقحط والجفاف، البيضاء بأكفان الموتى، لندرك أن ما أصاب أخاك اليوم قد يصيبك غداً، وإنما أُكُلت يوم أكلُ الثور الأبيض.(13/3)
جراحات المسلمين متعددة في الغرب والبلاد الإسلامية
أيها الأحبة لسنا ممن يتلذذ بمضغ آلام المسلمين وهمومهم، بل علمَ الله أن الإنسان أحياناً، وهو يقرأ في الأخبار، أو يسمع بعض المصائب، لو أراد أن يتحدث عنها ما أسعفته العبارة!! ولعجز عن الحديث، فإن الواقع أحياناً أكبر من الكلمات، كما سوف يبدو لك، وخذ هذه النماذج السريعة، التي لا أزعم أنني سوف أستوفي ولا جانباً واحداً منها، وإنما هي مجرد عرض سريع، حتى تستطيع أن تُكِّون تصوراً عاماً عن بعض هذه المصائب:(13/4)
أحوال المسلمين في البوسنة والهرسك
لعل أول ما يخطر في البال هو ما يلاقيه المسلمون في جمهورية البوسنة والهرسك، فعدد الهاربين اللآجئين إلى دول العالم من هذه الجمهورية المسلمة يزيد على مليوني إنسان!! وعدد الشباب الذين حُشدوا وحُشِروا في معسكرات الاعتقال الصربية، أكثر من مائة ألف إنسان!! حشروا فيما يزيد على أربعين معسكراً، في أوضاع وظروف مأساوية لا يمكن تصورها، والكثيرون منهم، هم عبارة عن هياكل عظمية ليس فيها إلا هذه الأنفاس التي تتردد، أما بقيةٌ من حياة وإلا فالموت منهم قاب قوسين أو أدني! هذا الحصار على البقية الباقية من أرض المسلمين هناك وإلاَّ فإن أعداء الإسلام قد سيطروا على نحو (70%) من الأرض الإسلامية، أمَّا (30%) فهي المنطقة التي تدور فيها حرب الشوارع، ويقتل فيها المسلمون في بيوتهم، أما الحديث عن الاعتداء على أعراض المسلمات بالقوة والاغتصاب من قبل جنود الصرب، فهو حديثُُ بشعُُ فظيعُُ فوق مستوى ما يتصوره إنسان.
أما الحديث عن الآلاف من الأطفال الذين منهم من قتل بصورة بهيمية بشعة، والكثيرون منهم وصلوا إلى البلاد الأوروبية، حيث يُنّصرون هناك، ويكفي أن تعلم أن ألمانيا فقط استقبلت ما يزيد على مائتي ألف إنسان مسلم من تلك البلاد!! وحدّث ولا حرج عن البلاد الأخرى وهى كثيرة في أمريكا وبريطانيا، وفرنسا، وكرواتيا، وصربيا، وفي بلاد أخري كثيرة.
لم يكتف العدو بالحصار، ولم يكتف بحرب الشوارع، بل أصبحت الطائرات تقصف المدن الإسلامية بقسوة وضراوة، وأصبحت تستخدم حتى القنابل المحرمة دولياً كقنابل النابال، والقنابل والأسلحة الكيماوية، والجرثومية، والعنقودية وغيرها، والعالم كله يتفرج وٌيطّمئن الصرب! لأنه لا يمكن أن يتدخل ولا يفكر في التدخل، لأن البوسنة والهرسك ليست الكويت، وأوروبا قالتها صريحة: نحن لا نريد دولة إسلامية أصولية في أوروبا، والرئيس بوش حذر رئيس البوسنة والهرسك: علي عزت من العرب والأصوليين، وقال: هذه خطوط حمراء يجب أن تقفوا دونها فماذا يملك المسلمون؟! حتى الإغاثة تتم تحت سيطرة الأمم المتحدة، وهناك معلومات مؤكدة، حتى في الصحف غير الإسلامية، تؤكد أن مندوبي الأمم المتحدة سواءً من العسكريين، أو القائمين على أعمال الإغاثة، أنهم ينحازون دائماً إلى جانب الصرب، وهاهنا تقارير عدة في مجلة المجتمع، وفي مجلة روز اليوسف المصرية، وفي تقارير غربية كثيرة، تؤكد انحياز موظفي الأمم المتحدة إلى جانب الصرب، لأنهم في الغالب من النصارى، حتى في موضوع الإغاثات والمساعدات الإنسانية.(13/5)
أحوال المسلمين في الصومال
تنتقل إلى جرحٍ آخر نازف في الصومال، فتجد أن هذا البلد الإسلامي الذي لا يوجد فيه نصراني واحد في الأصل، بل هو مسلم (100%) أن النصارى والغرب استماتوا في تقسيم وتمزيق هذا البلد، حتى إنهم قسموه إلى خمسة أجزاء في عهد الاستعمار -ما بين الصومال البريطاني، والفرنسي، والإيطالي، والكثير إلى غير ذلك- ثم سلطوا عليه حاكماً فاسداً فاجراً: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] حتى أشاع النعرات القبلية، واضطهد هذا البلد، وحارب الإسلام، وجعله في وضع مآساوي مريع، وقتل العلماء، وعلقهم على أعواد المشانق، ثم لما وصل البلد إلى هذا المستوى الفظيع، أنسحب هذا الحاكم، وفرَّ بنفسه وأعوانه وأمواله وجنوده، وترك هذا البلد يتصارع بعضه مع بعض، والغرب يتفرج على هذا الصراع، ويُغذي الجانب الأضعف، حتى يتمكن من المقاومة، وظل الغرب زماناً طويلاً، وهو ينظر إلى أبشع مأساة إنسانية في هذا القرن، حيث يُتعرض أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، إلى الموت جوعاً بسبب المجاعة، والفقر، والمرض، والعطش، بسبب الأوضاع الصحية السيئة المتردية إلى أبعد الحدود.
ولذلك صرحوا بأننا تأخرنا في قضية إغاثة الصومال، أكثر مما يجب، وهذه الأعداد التي تُعاني من الفقر والمجاعة، هي هاربة من جحيم الحرب، هذه الحرب التي أوجدها الغرب بين عملائه من العلمانيين الذين يحملون شتى الأسماء والشعارات واللافتات، وهم على كل حال مدافعون عن مصالح الغرب، وهي الفرصة الذهبية للمنظمات التنصيرية، حيث أصبحت تستقبل أعداداً كبيرة من الهاربين من جحيم الحرب، والفقر، والمجاعة، وقد تكلم أحد التقارير المتأخرة التي وصلتني قبل يومين، عن بعض المشاهدات.
فعلى سبيل المثال: أعداداً غفيرة من الناس، تقف طوابير عند إحدى المنظمات، لماذا؟ لأجل أن تسجل أولادها وأطفالها في قوائم الراغبين في السفر إلى أوروبا، وأمريكا، حتى يجدوا الحياة المطمئنة هناك وهم أطفال، وقطعاً سوف يتخرج هؤلاء قُسساً ورهباناً، ومنصرين، ثم يعودون إلى الصومال بأسماء نصرانية، ويحملون الصليب بيد، والإعانة بيدٍ أخرى، وربما عادوا حكاماً للصومال في وقت من الأوقات كما يطمح الغرب، وإحدى المنظمات النصرانية الأخرى، تمد العون للمسلمين، ثم يقول أحد المسئولين فيها بصوت جهوري، يقول: ها نحن نقدم لكم الكساء والغذاء، فأين المسلمون؟! فماذا تتصور إزاء مثل هذا الوضع، ثم تجد أن جميع الدول الإسلامية، لم تُبدِ واحدة منها استعداداً لاستقبال اللاجئين المسلمين، بل لقد مكث اللاجئون في البحر أياماً طويلة على حدود اليمن قبل أن يؤذن لهم، حتى مات منهم في الباخرة أكثر من مائتي إنسان!! وماذا يشكل موت مائتي إنسان مسلم على الباخرة؟ إنه أمرٌ عادي غير ذي بال.
إنك تأسف حين تعلم أن أكثر اللاجئين المسلمين الصوماليين ذهبوا إلى أوروبا وأمريكا، فنصف اللاجئين تقريباً في أوروبا وأمريكا، أما النصف الآخر فهم موجودون في كينيا وغيرها من الدول المجاورة.
وتحزن أكثر حينما تعلم أن منظمة الصليب الأحمر الدولي، قد خصصت أكثر من (20%) هذا العام من ميزانيتها لإنقاذ الوضع في الصومال، وأي شيء هي منظمة الصليب الأحمر الدولي؟(13/6)
أفغانستان والجرح النازف
ننتقل -مثلاً- إلى أفغانستان فتجد أن هذا الجرح بعد ما كاد يلتئم، عاد من جديد جرحاً نازفاً، وبدأت المعارك الطاحنة في كابول، ثم تفرعت إلى الولايات الأخرى، ويكفي أن تعلم أن تقرير الأمم المتحدة، يتحدث عن أكثر من ألفي قتيل، خلال خمسة عشر يوماً فقط.
فما بالك بالقتلى قبل ذلك وبعده، أو القتلى في الولايات الأخرى، أو القتلى الذين لم تأتِ عليهم تلك الإحصائيات فضلاً عن انقطاع المؤن، والأغذية، والإمدادات، والكهرباء، والاتصالات، وغير ذلك.
فضلاً عن أن هناك حلماً كبيراً كان المسلمون جميعاً يُعلقون عليه آمالاً عريضة، بدأ المسلمون يراجعون نظرتهم، والكثير منهم بدأت تساوره الشكوك تجاه جدية وجود دولة إسلامية صادقة في أفغانستان.(13/7)
إريتريا جرحٌ قديم
تنتقل بعد ذلك إلى إريتريا، وهو جرح قديم، لكن ربما أن كثرة المصائب والمشاكل أشغلت المسلمين عنه، وقد يفاجأ البعض حينما أقول لهم: إن في السودان وحدها أكثر من مليون ونصف لاجئ إريتيري، منهم سبعمائة ألف في المعسكرات، في أوضاع في منتهى الفقر، لا يجد الواحد منهم إلا ما يسد رمقه، أو يستر سوأته وعورته فحسب، وفي داخل إريتريا أيضاً يواجهون من الصعوبات في ظل الجبهة الشعبية الحاكمة الشيء الكثير، وهي جبهة شعبية علمانية نصرانية، ويوجد فيها بعض المسلمين الذين يتسمون غالباً بالطابع العلماني.(13/8)
إفريقيا والنظرة الغربية
تنتقل إلى مناطق أخرى، في إفريقيا فتجد أن الغرب فعلاً يؤكد على ضرورة أن تتحول إفريقيا كلها إلى قارة نصرانية، وكل التقارير المسيحية تؤكد على ضرورة أن تتحول إفريقيا إلى قارة نصرانية! خلال عام ألفين، وهناك جهود جبارة لمجلس الكنائس العالمي في هذا الصدد، وقد تكلمت عن جانبٍ منها، في ضمن الدروس التي خصصتها عن موضوع التنصير.(13/9)
أحوال المسلمين في العالم العربي
تنتقل بعد ذلك إلى بعض الدول العربية القريبة فماذا تجد!!(13/10)
أحوال المسلمين في مصر
لو نظرت -مثلاً- إلى مصر، لوجدت أن الأمر كما تقول وكالة الأنباء الفرنسية، أشبه ما يكون بحرب أهلية مصغرة في أسيوط وفي الصعيد كلها، وهى حرب بين أجهزة الأمن التي جندت ما يزيد على خمسين ألف عنصر، حرباً لا أقول ضد ما يسمونه: بالتطرف، ولا ضد الجماعات الإسلامية بل ضد سكان تلك المناطق والمدن والقرى الذين هم في الغالب متدينون، ومسلمون، ومتعاطفون مع الإسلام، ومع طلبة العلم، والمشايخ ومع الجماعات الإسلامية، وقد أخذت أجهزة الأمن في مصر، إذناً بأن تطلق النار على كل من تشتبه فيه، فأصبحت تقتل الشباب في الشوارع.
وطالما دميت قلوبنا ونحن نسمع في وكالات الأنباء الغربية، أن أجهزة الأمن تطلق عيارات نارية على شباب في سن السادسة عشرة، والسابعة عشرة في الشوارع، فترديهم قتلى، وما أسهل أن تقول أجهزة الأمن: إن هؤلاء الناس منتسبون إلى جماعات إسلامية، أو متطرفون، أو أنهم قاموا بأعمال تخريبية، والعجيب في الأمر أن هذه الأجهزة لا حسيب عليها، ولا رقيب! تتساءل: ماذا صنع المسلمون؟ أين الاحتجاجات من الجمعيات الإسلامية؟! أين الاحتجاجات من العلماء في هذا البلد أو في غيره؟! أين الاحتجاجات من الدعاة؟! نعم صدرت -مع الأسف- من منظمة أمريكية غربية نصرانية اسمها: منظمة ميدل إيست، وهي إحدى المنظمات المعنية بحقوق الإنسان ومقرها في نيويورك، حيث أصدرت بياناً تندد فيه بالأوضاع المأساوية التي آلت إليها حقوق الإنسان في مصر، وتقول: إن أجهزة الأمن المصرية تزج بكل المعارضين في السجون، دون محاسبة ولا محاكمة، ولا تحقيق، ولا تحري، وأن الأوضاع في داخل السجون أوضاع صعبة، وأن مصر تنكر ذلك، ولهذا تشعر بأنها غير مطالبه بأي تغيير، وطالبت تلك المنظمة، الدول الغربية أمريكا وغيرها بأن لا تعطي مصر أي مساعدة إنسانية، إلا وتكون مساعدة مشروطة بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، فإلى الله المشتكى!(13/11)
أحوال المسلمين في تونس
تنتقل بعد ذلك -مثلاً- إلى بلد آخر كتونس -مثلاً- تجد أن النظام زج بما يزيد على ثلاثين ألف مسلم في السجون، من الرجال والنساء، ومارس معهم ألوان التعذيب، الوحشي، والقمع، وأمتلك من الوثائق، والحقائق، بل والصور ما يتعجب منه الإنسان، حتى إن منظمة حقوق الإنسان هي الأخرى احتجت على الأوضاع السيئة للسجناء في تونس، وتكلمت عن إهدار كرامة الرجل والمرأة، حتى إنهم في كثير من الأحيان يحضرون المرأة ويهددونها في عفتها، وطهارتها، بل ويعتدون عليها جسدياً، وقد أصيب عدد من الأخوات المسجونات هناك بالانهيارات العصبية، وأكثر من هذا أنهم يختلقون الأكاذيب، على عدد من العلماء والدعاة، ويصورون أفلاماً عبارة عن خدع تصويرية -أفلاماً مدبلجة- مغيرة ثم يقدمونها للناس، يتهموا فيها فلاناً بأنه إنسان عنده انحرافات سلوكية وأخلاقية، وتتكلم الصحف هناك، ولا يستطيع المسلم أن يدافع عن نفسه، ولا حتى أن يقول: كذبتم، بل هناك حرب على الإسلام بما يسمى بتجفيف منابع التدين، في تغيير الإعلام إلى إعلام فاسد، وتغيير التعليم، وإبعاد كل ما يربي الروح الإسلامية في نفوس الناس رجالاً ونساءً طلاباً أو عامة.
وفي الوقت الذي نجد أن منظمات حقوق الإنسان تعترض وتحتج، حتى منظمة حقوق الإنسان في تونس نفسها، حلت نفسها، واعترضت على الأوضاع السيئة للسجناء، لكننا في الوقت نفسه لم نسمع من هؤلاء الألف مليون إنسان الذين يملئون هذه الساحة الإسلامية الطويلة العريضة، لم نسمع منهم صوت احتجاج في الخارج، تقول: أين العلماء؟ أين الجمعيات الإسلامية؟ أين الدعاة إلى الله تعالى؟ أين المجلات الإسلامية؟ أين الأصوات الإسلامية؟ إنها أصوات تضيع في الزحام!!(13/12)
أحوال المسلمين في الجزائر
ثم تنتقل بعد ذلك إلى الجزائر، فتجد الوضع نفسه، عشرات الآلاف من السجناء بما يسمى: بالمحتشدات في الصحراء، في ظل درجة حرارة مرتفعة؛ بل في ظل ظروف صعبة، بل إنه يقال: إن الأرض الذي سجنوا فيها آثار نووية وكيماوية قديمة، من أيام الاستعمار الفرنسي، وهي تهدد بعض هؤلاء السجناء بتأثيرات خطيرة على أجسادهم وأوضاعهم النفسية أيضاً، بل أقدمت الحكومة هناك على هدم مسجد من أكبر المساجد في العاصمة؛ لأنها تعتبر أنه مجتمع للدعاة والمصلحين، ومكان للمناقشات السياسية كما تقول.(13/13)
أحوال المسلمين في فلسطين
ثم تنتقل بعد ذلك إلى فلسطين، فتجد ألوان الاضطهاد الذي يلقاه المسلمون على يد اليهود، الذين هم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] .
فهم يأخذون الإنسان ويسجنونه عشرات السنين دون أن يقال لهم: لماذا؟ وأوضاع الإنسان وحقوق الإنسان أيضاً في إسرائيل حقوق صعبة عسيرة، وإن كانت إسرائيل تحسن المماطلة والخداع والتضليل للعالم، بحيث يبدو كما لو كانت تحافظ على حقوق الإنسان.(13/14)
أحوال المسلمين في العراق
ثم تنتقل إلى العراق، فتجد أن شعباً بأكمله يحتضر:- شعبُُ برمته في العري يحتضرُ كانوا بأوطانهم كالناس وانتبهوا فما هم من وجود الناس إن ذكروا مشردون بلا تيهٍ فلو طلبوا تجدد التيه في الآفاق ما قدروا يلقى الشريد فجاج الأرض واسعةً لكنهم بمدى أنفاسهم حشروا لا طعام، لا شراب، لا علم، لا عمل، حتى الأنفاس! وهناك حصار غريب، الحصار الدولي الذي يمنع عنهم الطعام، والشراب، والإغاثات الإنسانية وكل شيء، وإضافةً إلى ذلك، الحصار الداخلي من حكومتهم العلمانية الكافرة، التي تحسب عليهم الأنفاس، وتُصادر حرياتهم، وأديانهم! بل استطاعت تحويل العراق إلى حظيرةٍ لا يستطيع أحدُُ أن يفعل فيها إلا ما تريده السلطة، وأصبح الكثيرون، يتاجرون بكل شيء، بحثاً عن الحياة.
ثم لو نظرت إلى ما لم أذكر من هذا الجسد الإسلامي المضخم بالجراح، لوجدت أن في كل بلدٍ مصيبة، وفي كل منطقة كارثة، وفي كل ناحية نكبة، فالأمر أعظم من أن يتحدث عنه الإنسان لكن هذه نماذج، ولو نظرت -مثلاً- إلى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي، التي خرجت لتوها من جحيم الشيوعية، لوجدت أنه في الوقت الذي تمتعت فيه، الجمهوريات الأخرى بحريتها، وقطعت مراحل طويلة في تحسين أوضاعها الإعلامية، والاقتصادية، والسياسية؛ أما الجمهوريات الإسلامية بالذات فلا زال الغرب والشرق يتحالفان على خنق أنفاسها وكتمها، والدول التي بقيت فيها الشيوعية قوية، هي الجمهوريات الإسلامية فقط.(13/15)
المضحكات المبكيات
أنتقل بعدها إلى النقطة الثالثة من هذه التعليقات هي موضوع المضحكات المبكيات، فضمن هذا العرض تجد ما يضحك ويبكي فعلاً في ذلك.(13/16)
أغلى إنسان وأرخص إنسان
الأمر الرابع: من المضحكات المبكيات، أن أغلى إنسان بالمقياس والمعيار الشرعي وهو المسلم، أصبح هو أرخص إنسانٍ على وجه الأرض، أما إنه أغلى إنسان فإنه يحمل لا إله إلا الله، وأنا أتكلم حينئذٍ عمن هم مسلمون فعلاً، لا عمن ينتسبون للإسلام بمجرد الهوية، أو بمجرد الميلاد، أو بمجرد الأرض التي نشئوا عليها، فالمسلم هو أغلى إنسان عند الله عز وجل، وهو أغلى إنسان في الحقيقة، لأنه يحمل كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنه في هذا الواقع أصبح أرخص إنسان عند الغرب.
فالغرب -مثلاً- يغضب لأن العراق حكم بالسجن سبع سنوات على بريطاني قبض عليه متهماً بالتجسس، لكن الغرب لا يحرك ساكناً على مليوني إنسان، غادروا أرض البوسنة والهرسك إلى مكان لا يعلمونه، ولا يغضب على مئات الألوف ممن هم في معسكرات الاعتقال، ولا يغضب لعشرات الألوف الذين سحقتهم الدبابات وقتلوا في حرب الشوارع، ولا يغضب أيضاً لتلك الأعداد الغفيرة ممن ماتوا في المجاعات، لماذا؟! لأنهم مسلمون، فالإنسان الغربي -الرجل الأبيض- له ميزانٌُ خاص، وكذلك الإنسان المسلم هو رخيص أيضاً عند المسلمين، حكاماً ومحكومين، فنحن نعلم أن من الدول الإسلامية من دفعت إعانات، ومساعدات، لبعض حدائق الحيوانات في لندن، بل لذلك نستطيع أن نقول: ربما الكلب الأوروبي، أغلى أحياناً من الإنسان العربي أو المسلم، فنحن نجد الإعانات حتى للكلاب، والقطط الأوروبية، لماذا؟! لأنها قططُُ يملكها الرجال البيض، فقد نزلت عليها أو شملتها الكرامة التي أضفوها على أنفسهم، فأصبح لها منزلة ومكانه عند حلفائهم في كل مكان، فوجدنا المساعدة لهؤلاء، ووجدنا الغضب لغضب الغربيين، أما الإنسان المسلم فلم نجد شيئاً من ذلك، اللهم إلا السب والشتيمة في أجهزة الإعلام العربية كلها دون استثناء، فالموت والقتل بالنسبة للمسلم لا شيء.
أمرُُ آخر يظهر لكم جلياً هذا الأمر: قضية الجنسية، ماذا يستفيد الإنسان إذا منح جنسية لإحدى الدول الإسلامية وماذا سيجد؟ هل سيجد الحرية التي سينشدها؟ كلا هل سيجد الغناء والثراء؟ كلا هل سيجد أن يعبد الله تعالى كما أمره الله تعالى دون أن يُضيِّق عليه أحد؟ كلا بل سيجد المضايقة، والسجن، والتشديد عليه، والمطاردة، وقد يُهدد بهذه الجنسية عند كل مناسبة، ومع ذلك هذه الجنسية في أي دولةٍ عربية أو إسلامية، ربما يكون الحصول عليها أحياناً ضرباً من المستحيل؛ لكن الدول الغربية تعلن في الصحف أن تعالوا!! ولم نكن نستغرب أن تمنح الدول الغربية الجنسية للأطباء المسلمين وهذا أمرُُ معروف، وليس سراً أن كثيرا من المستشفيات في الغرب القائمون عليها أو على عدد منها، هم من العرب ومن المسلمين، بل وأحياناً من الصالحين، ولكنهم وجدوا هناك البيئة المناسبة التي لم يجدوها في بلدانهم، فهاجروا إلى هناك حيث التكريم للإنسان من حيث هو إنسان، وحيث الإعانة، وحيث المساعدة، وحيث الرواتب، وحيث مراكز العلم التي تمكنه من المواصلة في الطلب والتحصيل في علمه الدنيوي الذي يتجه إليه.
لقد هان المسلم على نفسه، فأصبح لا يرى نفسه شيئاً، ولا يري نفسه أهلاً لشيء، لا يعمل، ولا يتكلم، ولا يشارك، ولا يناقش، ولا يُفكِّر، ولا يسمع، ولا يبصر، ويرى أنه قد كفي، وأنت اليوم تجد المسلم العادي -ودعونا من البعيدين- دعونا نتكلم في محيط الحضور في هذا المسجد، ربما تجد أفكار البعض يقول: لماذا أسمع الأخبار؟ أنا لست حاكماً كي أتصرف، فدع الناس وما هم فيه، لماذا أسمع وأزعج نفسي؟! إذاً هو أقنع نفسه أنه لا يسمع، وأيضاً لا يبصر، يقول: لماذا أشاهد الأحوال والأحداث والأوضاع والأمور وأنا لا أستطيع أن أقدم ولا أؤخر؟! فأقنع نفسه أنه لا داعي لأن يبصر، وهو لا يفكر أيضاً، لأنه يرى أنه لا يوجد فائدة، وأن الأمور كلها كما يعبر البعض: خربانة، ولا فائدة للتفكير، إذاً لا داعي لأن أفكر، ولا يعمل شيئاً لأنه يقول: ليس بيدي حيلة والشكوى إلى الله.
وهكذا هان الإنسان على نفسه، الإنسان الذي كرّمه رب العالمين من فوق سبع سماوات، وأنزل في كتابه آيات بينات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .
هان الإنسان المسلم على نفسه، حتى أصبح يرى نفسه ليس أهلاً، لشيء وليس عليه أن يفعل أي شيء، فلمّا هان على نفسه، هان على غيره، هان على الحكومات، فأصبحت أي حكومة لا ترى حرجاً في أن تسوم شعوبها سوء العذاب، وتضطهد من شاءت، وتسجن من شاءت، وتعذب من شاءت، وتقتل من شاءت، لأنها دجنت هؤلاء، وزرعت الذل في قلوبهم، وصدورهم، فأصبح الواحد منهم يمشي خطوة إلى الأمام، ويلتفت إلى الوراء، يبحث عن الرقيب، يخاف من كل شيء، يخاف من ظله، يخاف من الكلمة، يخاف من زوجته أحياناً، لماذا؟! الذل باض وفرّخ في صدورنا، الجبن الهلع، أصبح الواحد يخشى من كل شيء، يخشى من الوهم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .
أصبحنا نخشى من رجل المباحث، ونخشى من الدول العظمى، ونخشى من خصومنا وأعدائنا، ونخشى من اليهود، ونخشى من النصارى، ونخشى من كل أحد، وأصبح الواحد ربما إذا خلى بنفسه تكلم، أو بخاصته وأصدقائه من الناس، فهو ربما يملك فكراً سليماً، وربما يتكلم، ولكنه بعد ذلك يغلق فمه، ويرى أن من أغلق عليه فمه فهو آمن، ولذلك عاملتنا الأمم الغربية بالمنطق نفسه، فرأت أن هذه الشعوب التي قبلت الذل، والخضوع، والخنوع، ودجنت، وهجنت، وتربت على أساليب الخصم، أنها جديرة بألوان الاضطهاد، ولعل أقرب مثال أسوقه لكم العراق، شعب مكون من ثمانية عشر مليون إنسان، من أقوى الناس عبر التاريخ، وأشد الناس برأسه، وأكثرهم عناداً، ومع ذلك تمكن هذا الطاغوت، أكثر من عشرين سنه من رقابهم، لم يترك أسلوباً من أساليب الاستدلال، والقتل، والسجن، والتعذيب، والتشريد، والاغتيال، إلا مارسه.
ومع ذلك لا يزال الرجل -تتكلم التقارير الغربية، بل حتى التقارير العربية، بل حتى شهود العيان الذين جاءوا من هناك، أن الرجل- تتدعم وتتقوى مكانته يوماً بعد يوم في أرض العراق، ولذلك الغرب أصبح يتحرك في منطقة العراق، كما لو كان في منطقة يملكها هو، فاليوم يجعل منطقة في بلاد الأكراد محمية، لا يستطيع الطيران العراقي أن يحلق فيها، وغداً بل اعتباراً من الليلة سوف تكون منطقة الشيعة أيضاً منطقة محمية، من الذي يحميها؟ تحميها أمريكا وفرنسا وبريطانيا، ونحن نقول: نعم، حاكم العراق استغل قومه، واستخفهم فأطاعوه، ولكن الغرب أيضاً رأى أن الأبواب مشرعة أمامه، لأن هذه الشعوب التي لا تقدم ولا تؤخر، جديرة بأن يمارس الجميع ألوان الخسف والاستدلال، وكل هذه من المضحكات المبكيات.(13/17)
الهداية مرتعاً خصباً للثقافات الغربية
الأمر الثالث: من المضحكات المبكيات أن هذه الأمة التي أنعم الله تعالى عليها بالهداية، ونعمة الإسلام، أصبحت سوقاً لنشر ثقافات الغرب، ونظريات الغرب، ومبادئ الغرب الصليبي، واهتمامات الغرب الصليبي.
فمثلاً: التنصير على قدم وساق في هذه الأمة، وأعظم وأكبر هدف للتنصير في العالم اليوم، هو منطقة الشرق الأوسط، وقد عقد مجلس الكنائس العالمي، اجتماعاً في استراليا، وقرر أن منطقة الشرق الأوسط، هي أخطر وأهم منطقة يجب التركيز عليها.
وخص من ذلك أيضاً منطقة الخليج العربي، والجزيرة العربية، ولذلك عين البابا شنودة مندوباً له في الشرق، إشعاراً بالاهتمام، وأعطاه صلاحيات لم تمنح لغيره من المندوبين في أنحاء العالم، ونجح التنصير فعلاً باستقطاب أعداد من المسلمين، سواءً ممن تنصروا ودخلوا في النصرانية، أو ممن خلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم، وأصبحوا عملاء للنصارى، أو من العلمانيين الذين عقدوا حلفاً مع النصرانية، لأن النصارى يرونهم بديلاً مناسباً عن الإسلام، والعلمانيون يرون النصارى أفضل لهم من المسلمين، وهذا مقتضى دينهم الذي يدينون به، ولذلك وجدت أن التنصير يسير في بلاد المسلمين على قدمٍ وساق.
ثم تجد أن العلمانية نفسها قد أصبحت ديناً يدين به قطاع عريض، ولعل المتقاتلين في الصومال نموذج لذلك، وهم يتقاتلون على الدنيا، وكلها لافتات علمانية، ومثل ذلك الرايات المرفوعة في طول العالم الإسلامي وعرضه، إنما هي رايات علمانية، تُنادي بفصل الدين عن الدولة؟ لا؛ بل تنادي بفصل الدين عن الحياة، في الوقت الذي تجد فيه أن زعيماً للعالم متوجاً هو: جورج بوش يضرب على وتر المشاعر الدينية.
وهذا خبر قبل خمس أيام في جريدة الخليج، يقول: اتهم الرئيس جورج بوش بطريقة غير مباشرة، الديمقراطيين المنافسين له في الانتخابات، بأنهم تخلوا عن الله والدين، ويقول: هذا الهجوم شديد العنف، حتى بالمعايير القاسية أصلاً لهجمات انتخاب الرئاسة.
وقال بوش في خطاب أمام زعماء المنظمات الدينية: إذا كان لي أن أُدلي بتعليقٍ سياسيٍ واحد، فلقد أذهلني في الواقع أن الحزب الآخر اختار كلمات مبلورة لبرنامجه، ولكنه ترك ثلاثة أحرف بسيطة، وهنا نطق الرئيس بلفظ الجلالة المكون من ثلاثة أحرف باللغة الإنجليزية، فهو ينتقد الحزب الآخر المنافس، لأنه أبعد كلمة (الله) عن برنامجه الانتخابي، ثم يقول بوش: إن برنامج حزبي وهو الحزب الجمهوري مختلف ونحن فخورون بتمجيد تراث بلدنا اليهودي، المسيحي، المنقطع النظير في العالم، وقد صفق الحضور وهتفوا لقوله هذا، إلى آخر الكلمة الطويلة التي تتكلم عن المشاعر الدينية.
وقبل ذلك سبق أن قلتُ لكم أن الرئيس نفسه يتكلم عن الشعب الأمريكي المتدين، ويقول: إن (99%) من الشعب الأمريكي يحافظون على أداء الصلوات باستمرار.
ومثل ذلك: أن من لم يقع في فخ النصرانية، ولا في فخ العلمانية، فإن الكثيرين منهم وقعوا في شرك الإباحية الغربية، فأصبح معبودهم هو اللذة، أو الشهوة، أو المادة، ولا شيء آخر غير ذلك، فأين المبادئ والمثل والقيم التي نستطيع أن نقدمها للغرب الذي يشعر بالجوع الروحي؟ إن الغرب نفسه يتكلم الآن عن جوعٍ في البلاد الإسلامية، فيقول: إن العالم الإسلامي كما هو بحاجة إلى الإغاثة في مجال المساعدات المادية، فهو أيضاً بحاجة إلى الإغاثة والمساعدة فيما يتعلق بنقل تعاليم المسيح إليهم، وقد انتكست الآية مع الأسف الشديد.(13/18)
أغنى مناطق العالم هي أفقر مناطق العالم
الأمر الأول: تلاحظ أن أغنى مناطق العالم، هي أفقر مناطق العالم، فليس سراً أن أغنى مناطق العالم هي بلاد المسلمين، أغنى مناطق العالم بالثروات: البترول وغيره، أغنى مناطق العالم بوجود المنافذ المهمة والمواقع الحساسة: الجوية، والبرية، والبحرية، والمضايق التي يحتاج إليها العالم، أغنى مناطق العالم بالكثافة العددية والبشرية، ومع ذلك فهي أفقر مناطق العالم، فلا يوجد مستوى لدخل الفرد أقل مما يوجد في البلاد الإسلامية، وأفقر بلد في العالم اليوم هو الصومال -مثلاً- بلد إسلامي عربي، وعضو في الجامعة العربية، وأفقر بلد في العالم بنجلادش، وهو بلد إسلامي، وهكذا تجد الدول الإسلامية الأخرى، هي أفقر بلاد العالم، وأقل مستوى لدخل الفرد هو في تلك البلاد الإسلامية.
ولعل من الطريف أن تعلم أن الغرب يوزع خيرات المسلمين على المسلمين، فهذه الإغاثات التي تنقلها الأمم المتحدة -مثلاً- إلى الصومال، من أين هي؟ هل هي من كد جبينهم، ومما عملت أيديهم، كلا.
إنها بعض ثروات المسلمين، وبعض خيرات المسلمين، التي استطاع الغرب بخبرته، وسبقه، وذكائه، وسياسته، استطاع أن يمتصها؛ فهو يمتصها في بنوكه، ويمتصها في مصانعه، ويمتصها في ميزانياته، ويمتصها في وزارات دفاعه واقتصاده، وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم يجعل جزءاً يسيراً منها إلى البلاد الإسلامية المنكوبة، وهذا الجزء اليسير، إنما يستخدمه الغرب لتنصير المسلمين، ولعلك تعجب أكثر حينما تعلم أن هناك أموالاً جمعها المسلمون في مساجدهم، وبلادهم، ومجتمعاتهم، قامت منظمات صليبية بتوزيعها على المسلمين أيام الفيضانات، أو أيام المجاعات، سواءً في بنجلادش أو في كشمير أو في البوسنة والهرسك وغيرها، وأحياناً منظمات ألمانية نصرانية، تقوم بتوزيع بعض أموال المسلمين التي جمعت هنا على المسلمين في البوسنة والهرسك أو غيرها من البلاد.
وأعجب من ذلك -أيضاً- أن الغرب يتكلم عن -صندوق التنمية- صندوق دولي للتنمية يقوم بمساعدة الدول الفقيرة، أو الدول النامية، أو دول العالم الثالث كما يسميها، وهذا الصندوق أمواله من البلاد الإسلامية، وبالذات من دول الخليج العربي، والذي يقوم بإدارته، هي أمريكا، وتوزعه على المناطق الفقيرة، وهذا يذكرني بنكته يتناقلها العوام، يقولون: "إن رجلاً مغفلاً، جاء إلى أحد الأغنياء الأذكياء، فقال الغني له يا فلان: إنني سمعت أن هناك منطقة في الصحراء المحيطة بنا، يوجد فيها الكمأ، فأريدك أن تذهب لتلتقط الكمأ لي، مناصفةً بيني وبينك، فهزَّ الفقير رأسه وذهب موافقاً وركب حماره، وفي أول يوم ذهب إلى تلك المنطقة، فأصبح يبحث في الأرض، ويلتقط الكما، ثم وصل إلى هذا التاجر فقسمه بينه وبينه مناصفة، أعطاه نصفه وأخذ النصف، وفي اليوم الثاني ذهب الفقير إلى المنطقة نفسها، وبدأ يلتقط أيضاً من الأرض، فلما كان في عرض الطريق أصابته صحوة فهز رأسه، وقال: الحمار حماري، وأنا أنا، والأرض لله، والمطر من الله، وأنا أعطي هذا التاجر نصف ما أجمع، هذا لا يصح!! فألقى بها في الأرض، ورجع بلا شيء! لماذا؟ لأنه يريد أن يحرم هذا التاجر من هذا الكمأ، فانظر كيف عالج هذه المشكلة، فهذه النكتة، هي فعلاً ما يقع الآن.
بنك أو صندوق للتنمية العالمية يُنفقُ عليه المسلمون، وتديره الدول الغربية، إذاً هو سوف يخدم مصالح الغرب في بلاد المسلمين، وبناءً عليه سوف يستطيع المسلمون، أن يحققوا ويضمنوا مصالح الدول الغربية في بلادهم بأموالهم، والأمر لله من قبل ومن بعد، وقد ذكر الله عز وجل عن بعض المعاندين والمكابرين من أهل الكتاب أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وهذا اليوم مع الأسف أصبح تشبهاً من المسلمين بأعدائهم، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، وأيدي الكافرين، هذه إحدى المضحكات المبكيات.(13/19)
ألوانٌ من المآسي يتبنى الدفاع عنها الكفار
الأمر الثاني: من المضحكات المبكيات، أنه في الوقت الذي يشهد المسلمون -فيه فقط- من بين جميع شعوب العالم ألوان المآسي ولا تستطيع أن تجد أي شعب في العالم يعاني ما يعانيه المسلمون، واسأل نفسك سؤالاً: أين توجد المجاعة في غير الصومال والمناطق الإسلامية؟ وأين توجد عملية التصفية العرقية والقضاء على شعب وعنصر بأكمله في غير البلاد الإسلامية كالبوسنة والهرسك؟ وأين يوجد الحصار الاقتصادي في أي مكان في العالم؟ إلاَّ في البلاد الإسلامية كالعراق وليبيا!! حتى الحصار المزعوم على صربيا كذبُُ في كذب، وهي تتمتع بمنطقة بحرية، ولها صلات اقتصادية، وسياسية منوعة مع جميع دول العالم، فما يسمى بالحصار على صربيا ليس سوى حبرٍ على ورق، وأين يوجد الفقر في أي دولة من دول العالم؟ إلا في دول غالبها إن لم يكن كلها دولٌ إسلامية!! فالوقت الذي فيه للمسلمين نصيب الأسد من هذه المآسي، فإن مما يزعجك ويحزنك كثيراً أن الذين يظهرون تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم، هم النصارى والكفار، وأي خيرٍ في أمة يتولى عدوها الدفاع عنها، يُصاب المسلمون في أي بلد فلا يعلن الدفاع عنهم إلا منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات العدل، والمنظمات الدولية الإنسانية في أوروبا وأمريكا وغيرها، التي هي في غالبها إن لم تكن كلها منظمات نصرانية، ليس للمسلمين أي وجود فيها.
هذا مثال أين الأمة التي جُعلت شاهداً على العالم، الأصل ما هو؟ الأصل: أن المسلمين كان يجب أن يدافعوا عن المستضعفين في كل بلد، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] .
فالأصل أن المسلمين هم الشهود على العالم: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] .
هم حُماة الفقراء، والضعفاء، والمأسورين والمقهورين، حتى لو كانوا من غير المسلمين!! أما اليوم فقد انعكست الآية، وأصبح من المضحك المبكي، أننا ننتظر منظمات حقوق الإنسان، حتى تُدافع عن المسلمين، أو تتكلم عن مُصاب المسلمين في تونس، أو مصر، أو في أي دولة من دول العالم.
نعم! لقد أصيب المسلمون بالجبن، والهلع، والخوف، والتمزق، فأصبح المسلم أولاً لا يشعر بمصاب أخيه، ولو شعر به فإنه لم يملك الشجاعة والجرأة أن يتكلم ويضع النقاط على الحروف، ويرفع عقيرته منادياً بإنصاف أخيه المسلم، في سجن الطاغية فلان، أو في بلد فلان.
إضافةً إلى أن المنظمات النصرانية الغربية، لم تكتف فقط بإصدار البيانات، والقرارات، والتقارير، وعقد المؤتمرات الصحفية، وفضح الأنظمة التي تضطهد المسلمين، وتتسلط على الشعوب الإسلامية، بل تعدت ذلك إلى خطوات عملية، فقامت بأعمال إغاثية ضخمة، ومساعدات قوية، في مصر -مثلاً- عقدت المنظمة التي ذكرتها -منظمة ميدل إيست- وهي منظمة من منظمات حقوق الإنسان في نيويورك، عقدت في مصر نفسها مؤتمراً صحفياً، وأعلنت في القاهرة نفسها أن حكومة مصر تضطهد المسجونين، وتضيق على المعارضين، وتزج بهم في السجون دون تحقيق ولا محاكمة، وتقتلهم بمجرد الظن، ورفعت صوتها، ونشرت الصحف خبرها، لكن أعطوني شريطاً مسجلاً واحداً، نتناقله عن أوضاع إخواننا المسلمين في مصر، وقُل مثل ذلك في تونس أو بلاد المغرب كلها، أو بلاد المشرق، أو سوريا، أو فلسطين، أو غيرها من بلاد الله.
أيضاً الصليب الأحمر تعدى مرحلة الكلام إلى مرحلة إيجاد أكثر من ثلاثين منظمة إغاثية في الصومال، ليست كلها تابعة للصليب، لكن كلها صليبية، وخصصت منظمة الصليب كما أسلفت، أكثر من (20%) من موازنتها لمساعدة المسلمين في الصومال، على حين أنك تجد أن المسلمين لم يفعلوا شيئاً يُذكر في هذا الصدد، بل أعجب من ذلك أنه في الأمس الذي ليس بعده إلا اليوم أني قرأت في جريدة الشرق الأوسط وغيرها، إعلاناً من كندا.
يقول الإعلان: أي إنسان يريد أن يحصل على الجنسية، والمميزات، ما عليه إلا أن يملأ هذه الورقة ويرسلها إلى السفارة صندوق بريد ورقم فقط، بغض النظر عن دينه، وجنسيته، ومن أي بلد، وما هي الأسباب وما هي الدوافع، وعليه أن يستفيد فوراً من النظام، لأن النظام هذا قد يتغير فيما بعد، فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة السانحة التي قد لا تتكرر.
وقد حدثني شهود عيان، جاءوني بالأمس أيضاً، أنه يوجد في كندا وغيرها آلاف مؤلفة من الشباب الصوماليين -ذكوراً، وإناثاً، وكباراً، وصغاراً- يقيمون هناك، في إسكانات حكومية بالمجان، وتعطيهم الحكومة نفسها ما يسمى ببدل بطالة -مرتب تصرفه لهم باستمرار- ويعيشون في بحبوحة من العيش، وإذا حصل أي مشكلة اجتماعية بالمسلمين فإنها تحال إلى المراكز الإسلامية والجمعيات الإسلامية هناك، ويعاملون معاملة تليق بهم، باعتبارهم بشراً من البشر، لكن حدثوني أي بلدٍ إسلامي يفعل بعض هذا، ثم حدثوني -بارك الله فيكم- ما هو موقف المسلم البسيط المغفل، ضعيف الإيمان، قليل العلم، إذا وجد هذه التيسيرات والخدمات والمساعدات، ووجد أن النصارى قد هبوا معه بكل قواهم، وناصروه وأيدوه في محنته؟! ثم وجد أن أبواب المسلمين موصدةُُ في وجهه، وأن المسلمين لا يملكون له إلا التنقص والشتيمة والتهمة، وأن أبواب الدول الإسلامية وحدودها مغلقة، وأن السفينة ترسوا على شاطئ بحر لإحدى الدول، فتُمنع من النزول أياماً حتى يموت فيها أكثر من مائتين! ثم يؤذن لها بعد ذلك، نتيجة وساطات دولية.(13/20)
ماذا نشتكي؟
أنتقل إلى
السؤال
ماذا نشتكي؟(13/21)
الجهل بالدين والدنيا
نشتكي أموراً وإلى الله المشتكي.
أولها: الجهل بالدين، والجهل بالدنيا، فأما الجهل بالدين، فإن المسلمين يعانون أزمة علماء في كل بلد، والقدر الضروري من العلم الذي لابد لكل مسلم أن يعلمه وما يسمى من المعلوم بالدين من الضرورة، أو العلم الضروري، حتى العلم العملي، والاعتقادي أكثر المسلمين لا يعرفونه، ولا أتحدث عن الجمهوريات السوفيتية، لأنها كانت تحت الشيوعية أكثر من سبعين سنة، ولا عن المسلمين -مثلاً- في البوسنة والهرسك، لأنهم أيضاً كانوا تحت الشيوعية، أو ألبانيا لأنها كانت شيوعية، بل أتكلم عن البلاد الإسلامية التي تحررت من الاستعمار منذ زمن بعيد، لا يعرفون حتى فرض العين الذي يجب عل كل مسلمٍ أن يعلمه.
أمرٌ آخر: أستطيع أن أقول وأنا متأكد مما أقول، لو جمعنا علماء المسلمين كلهم، ودعاة المسلمين كلهم، لو حشرناهم في بلد إسلامي واحد متوسط العدد، لم يستطيعوا أن يغطوا حاجة الناس إلى العلم الشرعي في هذا البلد، أي: لو حشدنا علماء المسلمين الصادقين من العالم كله، ووزعناهم على بلدٍ واحد، مثل تونس، أو الجزائر، أو مصر -من بابٍ أولى- لم يستطع هؤلاء العلماء أن يغطوا حاجة الناس إلى العلم الشرعي، فما بالك إذا فرقوا على مساحة شاسعة واسعة من العالم الإسلامي.
أصبح العالم عزيزاً نادراً، وقد زرت بلداً إسلامياً هو إندونيسيا الذي بلغت إحصائيته اليوم أكثر من مائة وثمانين مليون مسلم، فلم أجد في العاصمة جاكرتا إلا أربعة علماء، وأقول: علماء تجوزاً؛ لأن بعضهم مثقفين ومفكرين وليسوا علماء شرعيين، والعالم الشرعي الوحيد الذي أعتبره فعلاً عالم، وله كتاب مصنف في التفسير، وكتب أخرى، كان كبير السن، جاءوا به إلينا يحملونه على نقالة -عربة- لأنه رجل مقعد وقد جاوز الثمانين من عمره.
أما الجهل بالدنيا فالأمر أوضح من أن يتكلم عنه إنسان، وعلى الرغم أن لدينا علماء وخبراء وعقول، إلا أن التربة هنا والمجتمع والبيئة والظروف السياسية، والعلمية، غير قابلة لنشوء علم صحيح، فجو القهر والحرمان والخوف، يحطم كل الطاقات وكل الإمكانيات، ولذلك تهاجر العقول العربية والإسلامية إلى المراكز العلمية بالغرب فيستفيد الغرب من هذا التزيف للعقول البشرية.(13/22)
ظاهرة الفقر
ثانياً: ظاهرة الفقر: -كما أسلفت- وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، وكان يستعيذ منه كل يوم، والعلماء يقولون: (كاد الفقر أن يكون كفراً) وإذا ذهب الفقر إلى بلد قال للكفر: تعال معي، وأنت تجد أن الرذيلة والفساد أكثر ما تكون في البيئات شديدة الفقر، بل مع جو التنصير الذي نشهده اليوم، فإن الفقر يدعو إلى النصرانية والذين تنصروا في جميع البلاد إنما تنصروا نتيجة الظروف الاقتصادية السيئة.(13/23)
ظاهرة المرض
ثالثاً: ظاهرة المرض: وأكثر نسبة على سبيل المثال للوفيات في مجال الأطفال في العالم هي في العالم الإسلامي، مع قله الخبراء، وقله المستشفيات، والمستوصفات، خاصة في مناطق الكوارث والبلاد الإسلامية تعاني قله بل ندرة في هذا المجال، والمستشفيات، والمستوصفات الموجودة في الغالب هي غير إسلامية، مع أن الأطباء -كما قلت- موجودون في بعض المناطق الغربية.(13/24)
ظاهرة التفرق
رابعاً: ظاهرة التفرق: قضية التفرق والاختلاف التي تضرب بجرانها على المسلمين، فعلى رغم هذه الضربات الموجعة، وعلى رغم التخلف في كل المجالات، وعلى رغم أن العدو يتنادى للقضاء على المسلمين، وعلى رغم أن الوضع وصل -أحياناً- إلى مسألة التصفية الجسدية للمسلمين، والقضاء عليهم من حيث هم، على رغم ذلك كله فإن الكثير من المسلمين لا يزالون يدندنون حول الاختلاف، فإن وجدوا سبباً للاختلاف اختلفوا، وأقول صراحة وأدين الله تعالى بما قلت: وإن لم يجدوا سبباً للاختلاف فإن الكثير منهم يبحثون ويفتعلون أسباباً وهمية، لمزيد من الخلافات فيما بينهم، ويتعللون بالخلاف مع فلان وفلان وفلان، لئلا يقوموا معه بالتعاون على عمل صالح رشيد، يجتمع عليه أمر المسلمين.
الاختلافات بين الشعوب، بالأمس كانت الاختلافات مع الحكومات، أما اليوم فأصبحت الاختلافات بين الشعوب، فلا تجد مسلماً ينتمي إلى شعب إلا ويشتم الشعب الآخر، ويعتبر أنه شعب فاسد، وفيه من المصائب والمعائب كذا وكذا، فإذا وقع هذا الشعب في مصيبة، قال: نعم! هم يستحقون هذا بما كسبت أيديهم، هذا الشعب فعل كذا وفعل كذا، وهو أمر خطير.
الخلاف بين الجماعات الإسلامية، وإذا صح أن نعتبر أن الجماعات الإسلامية على ما فيها من عيوب أيضاً، لكنها تعتبر صفوة المجتمعات الإسلامية في الجملة، فإن هذا الخلاف على أشده، وتجد أن بعض هذه الجماعات الإسلامية تتنافس في كسب الشعوب لصالحها ضد الطرف الآخر، ومع الأسف الشديد أنك قد تجد بلداً إسلامياً منكوباًَ مصاباًَ، وتجد هذه الجماعات تتناحر فيما بينها، وتتهارش، وتتحارب، ولا ترضى بأن تتفق ولو على عمل إغاثي، على رغم أن العدو يسعى للقضاء عليها، بل على المسلمين جميعاً، وتحويل هذا الشعب إلى شعبٍ كافر، أو القضاء عليه وإبادته بالكلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله!!.
الخلاف بين القبائل؛ القبائل في الصومال تتقاتل, والقبائل في أفغانستان تتقاتل، وليس بالضرورة أن الخلاف بين القبائل معناه حرب قبلية (100%) الجانب القبلي موضوع في الاعتبار، وقد يضاف إليه عناصر وأسباب وعوامل أخرى كثيرة، مبنية على سوء الظن المتبادل بين الأطراف، أو على اعتقادات، وتصورات، وخلفيات تاريخية معينة، وهذا الخلاف يجعل الأعداء في كثير من الأحيان لا يحتاجون إلى التدخل بين المسلمين، فالمسلم نفسه يقوم بمهمة القضاء على أخيه المسلم أو مقاومة جهده! فمثلاً! أنا اليوم أكتب كتاباً وأؤلفه وأنشره بين المسلمين، فبدلاً من أن يسعى العدو إلى القضاء على هذا الكتاب، أو محاربته، لا يحتاج العدو إلى شيء؛ لأن هناك مسلماً آخر سوف ينبري ويتصدى لإصدار كتاباً للرد على هذا الكتاب، وبالتالي تتحطم هذه الجهود بعضها على بعض، فلا أنا الذي استطعت أن أقضي على اجتهادات أخي المسلم الآخر، ولا هو الذي استطاع أن يقضي على اجتهاداتي، ولكننا استطعنا ونجحنا أن نقنع المسلمين بأنه أنا وأخي -ذلك الذي رد علي- كلنا لا نصلح لشيء، ونتخالف ونتهارش حول قضايا، وبالتالي تركنا الساحة لغيرنا، واشتغلنا فيما بيننا.
وأيضاً لا يحتاج العدو أحياناً إلى أن يُصّوِب بندقيته في صدري، لأن هناك مسلماً قد سبقه، وصوّب البندقية في صدري، ربما يحتاج العدو أحياناً إلى أن يُساعد المسلم الضعيف، حتى يكون هناك نوع من التكافؤ لتطول مدة الحرب فيما بيننا، وما خبر -مثلاً- الحرب العراقية الإيرانية -مع أن القياس مع الفارق طبعاً- لكن فالحرب العراقية الإيرانية، تبين بالحقائق والوثائق أن الغرب كان يغذي الطرفين، من أجل مزيد من الإنهاك لقوة البلدين، ومزيد من نزيف الدماء، وتجربه لبعض الأسلحة الجديدة في منطقة إسلامية.
إن هناك نصيحة غالية ينبغي أن نقولها في ظل الحرب الشاملة التي يواجهها المسلمون، في موضوع الخلاف: إننا بحاجة إلى قلوب واسعة، لا تحمل حقداً أو كراهيةً أو بغضاء لمسلم، ولا تتهم مسلماً يظن سوء وهي تجد له من الخير محملاً، وبحاجة إلى عقول واسعة، تُقدر اجتهادات الآخرين، وتفهم دوافعهم، وآرائهم، وحججهم في كل أمر، وتجعل ميداناً واضحاً في الأمور التي يمكن الخلاف فيها، وميداناً أيضاً واضحاً للتعاون حتى مع الذين تختلفون معهم، إنني أعتقد أنه لا مجال للخلاف بين المسلمين، إذا كنا نستطيع أن نردم الخلاف، أنا لا أقول: تُنهى الخلاف مع كل الأطراف، ولا أقول: اترك الخلاف مع المبتدعة، فهذا موضوعُُ آخر، بل أنا أخاطب أهل السنة والجماعة، وهم كثير.
فأقول: لماذا لا توحدون صفوفكم، ألستم أنتم المخاطبين بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ألستم أنتم المعنيين بقوله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ألستم أنتم ممن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الذي رواه مسلم: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً -وذكر منها-: أن تعتصموا بحبل الله جمعيا ولا تفرقوا} وهل معنى الاعتصام بحبل الله والاتفاق أن يجتمع المسلمون على رأيك أنت الخاص؟ أو على اجتهاداتك أنت الشخصية، أو على قناعة هذه الجماعة، أو على آراء هذه الطائفة؟ كلا.
فمن المستحيل أن يجتمع الناس على ذلك، ولكنهم يجتمعون على الأصول العامة، المستقرة، الناصعة، الواضحة في القرآن والسنة والتي اتفق عليها المسلمون من فجر التاريخ، أما الاجتهادات الفردية فهي لا تتوقف ولا تنتهي، وإذا لم يتفق المسلمون اليوم، وعدوهم يسعى إلى قتلهم، وينهب خيراتهم، ويستعمر بلادهم، وأقول بالحرف الواضح: يستعمر بلادهم، ويسعى إلى تنصيرهم وتكفيرهم، فإن عجز سعى لتصفيتهم والقضاء عليهم، إذا لم يتفق المسلمون وهم يواجهون اليوم عدواً مدججاً أعدادهم بالمليارات، وأموالهم طائلةُُ هائلة، وقوتهم الأسلحة النووية والكيماوية، وهذا أقل ما يملكون، فإذا لم يتفق المسلمون في ظل هذه الظروف، فقولوا لي بالله عليكم متى يتفقون؟ ومتى يعقلون؟! وأقول للمسلمين الذين لا يزالون يدندنون حول الخلافات التي يمكن تجاوزها، أو حتى يمكن إثارتها، ومع إثارتها يكون هناك قدر من التعاون على البر والتقوى، أقول: أكل يومٍ لا تعقلون؟!(13/25)
السبب فيما صرنا إليه
وهاهنا سؤال سادس يطرح نفسه: ما هو السبب فيما صرنا إليه؟ ولا داعي لأن أجتهد من عند نفسي، فلنسمع ماذا قال ربنا جل وعلا، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] .
وقال تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53] .
وفي الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] .
هذه تقريباً سبع أو ثمان آيات من كتاب الله تعالى، وهي ناطقة، لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو بيان، وخلاصة هذه الآيات أن كل ما أصاب الإنسان من مصيبةٍ دينية أو دنيوية، فهي من عند نفسه، فهذا هو خلاصة المعنى العظيم الذي دلت عليه هذه الآيات.
بقى في الموضوع أيها الإخوة كثير، وبقى في الوقت قليل، وهذه الأسئلة أمامي، ولذلك فسوف أسرد عليكم بقية الموضوع باختصار، في نحو دقائق، حتى نفرغ بعض الوقت لهذه الأسئلة.
وإذا كان هذا هو السبب الإجمالي، وهو بسبب الذنوب والمعاصي، فإننا نستطيع أن ننتقل إلى ذكر وتشخيص بعض الذنوب والمعاصي، فإن الكثيرين إذا سمعوا كلمة الذنوب والمعاصي، لم يتصوروا من الذنوب والمعاصي إلا الذنوب والمعاصي الفردية: كالزنا، أو شرب الخمر، أو السرقة، أو أكل المال الحرام، أو حلق اللحية -مثلاً- أو تطويل الثياب، أو ما أشبه ذلك من الذنوب الكبيرة أو الصغيرة، وظنوا هذه هي الذنوب والمعاصي فقط، والواقع أن الذنوب والمعاصي أعظم وأشمل وأوسع من هذا المفهوم، فمثلاً.(13/26)
الانحراف في معرفة الله
أولاً: الانحراف في معرفة الله تعالى ومحبته وتعظيمه، إلى الجهل به، أو اعتقاد وجود وسائط بين الإنسان وبين الله تعالى، أو ضعف المحبة لله، أو ضعف الرجاء فيما عند الله، أو ضعف التوكل على الله، أو ضعف الثقة وحسن الظن بالله عز وجل مما يؤدى إلى الاعتماد على النفس، أو الاعتماد على الناس، أو الخوف من المخلوقين، أو ما أشبه ذلك، سواءً أكانوا أفراداً، أو منظمات، أو مؤسسات، أو أجهزة، أو دول، أو غير ذلك.(13/27)
الانحراف في فهم العمل وأهميته
ثانياً: الانحراف في فهم العمل وأهميته: الكثيرون من المسلمين لا يعرفون قيمة العمل، سواءً العمل للدين، أو العمل للدنيا، ولا يزال الكثيرون يجهلون أن العمل ضرورة للنجاة في الدنيا، كما هو ضرورة للنجاة في الآخرة، فإذا كان بعض المسلمين في المجال الديني، يعتقدون أن الأولياء والشفعاء يغنون عنهم عند الله عز وجل، وهذا مفهوم كنسي، وهو مفهوم صوفي -أيضاً- فإن الكثير من المسلمين -أيضاً- يعتقدون أن العمل للدنيا ليس ذا شأنٍ ولا ذا بال! والنصوص واضحة في القرآن والسنة في أهمية العمل، وأن الإنسان يدخل رحمه الله تعالى بعمله، وكذلك يحرم من رحمة الله تعالى بعمله.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] وقال تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] وقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] .(13/28)
الانحراف السلوكي
ثالثاً: الانحراف السلوكي: باعتقاد أن صفاء القلب يكفي، والبعض يقولون أحياناً: ربك رب القلوب، والمهم هو الباطن، وبعضهم قد يقول: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله} وهذا حديث متفق عليه عن النعمان بن بشير، لكنهم يفهمونه خطأً، فالحديث معناه: إذا صلح القلب، صلحت الجوارح، ومن أدعى صلاح القلب، فالدليل على ذلك جوارحه، لكن البعض يفهمونه خطأً، فيظنون أن معني الحديث، أنه إذا صلح القلب كفى عن غيره، والواقع أنّ الرسول عليه الصلاة السلام قال: {صلح الجسد كله} ومثله الحديث الآخر: {التقوى ها هنا} نعم التقوى محلها القلب، ولكنها تفيض على جوارح الإنسان، وعلى سلوكه، وعلى أعماله، وعلى أخذه، وعلى إعطائه.
والإسلام لم يبعث فقط لإصلاح القلوب، بل بعث لإصلاح القلوب، والسلوك، والحياة الفردية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والعلمية، وغيرها، ولا شك أن الانحرافات السلوكية مثل: أكل الحرام، أو النظر إلى الحرام، أو تعاطي الحرام، أو التعامل بالحرام، على مستوى الفرد، والجماعة، والدولة، هو من أسباب تشتت القلب، وبعده عن الله تعالى، ومن أسباب ضعف الهمة، ومن أسباب الخور والجبن والخوف، ومن أسباب قلة التوفيق للعبد في دينه ودنياه.(13/29)
التخلف في الإعداد
رابعاً: التخلف في الإعداد، وهذا من أعظم الذنوب والمعاصي، على الأفراد والجماعات والأمم، النقص في الإعداد العلمي والتقني، والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] .
ويأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، والسير في الأرض، والاعتبار بالآيات في النفس، وفي الكون، وفي هذا دعوة إلى التعلم والتعليم والتأمل، وأول آية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] فهذا المسلم الذي دعي إلى النظر في الملكوت والتأمل في جميل صنع الله تعالى وإبداعه في الأرض، وفي الكون وفي النفس، لم يستعد ولا يزال متخلفاً في المجال العلمي، والتقني، وبالأمس كان المسلمون يملكون ناصية العلم، والحضارة، واليوم أصبحوا عاجزين حتى عن مجرد الاستفادة من إنتاج العلم والحضارة، وهم سوق غير جيدة لمنتجات الغرب.
أحياناً: قد يشتري المسلمون مصنعاً بأكمله، بل وعماله معه أيضاً، وقد يقوم المسلمون ببناء مؤسسات، وشركات، وقواعد، ومراكز، كلها غربية من الألف إلى الياء، ويحصل في ذلك نصب، واحتيال، وخداع، وتضليل، وألاعيب، تبدأ من عند السمسار الذي يأخذ الأموال، إلى البائع، إلى ما يعلم الله تبارك وتعالى به، وفي ذلك خطورة كبيرة تكلم عنها مجموعة من الخبراء في ندوة بعنوان: هل انتقلت التقنية إلى العالم الإسلامي؟ ومن الذنوب والمعاصي والتخلف في الإعداد، أيضاً: التخلف العسكري، والتخلف العسكري أمر واضح، سواءً في المجال الفردي، أو في مجال التسليح، والغرب يفرض حصاراً على ألوان الأسلحة إلى العالم الإسلامي بالذات، وهذا نموذج للرغبة في بقاء المسلمين محتاجين، ومهددين من قبل عدوهم، وليس سراً أن أمريكا قد التزمت لإسرائيل ضمن محادثات السلام القائمة اليوم، أن تظل إسرائيل متفوقة عسكرياً على الأمة الإسلامية والعربية، مجتمعة وذلك لضمان سلامة إسرائيل وأمنها، مع أن أحد الخبراء الألمان يقول: هذا أمر عجيب!! لأنه إذا كان مطلوباً أن لا تقوم حرب في الشرق الأوسط، فيجب على الغرب أن يزود العرب بقنبلة نووية أيضاً، حتى يكون هناك نوع من التكافؤ النووي، أو ما يسمى بالردع الذي يضمن ألا تعتدي إسرائيل أو تقوم باستخدام هذا السلاح، لأن الطرف الآخر لا يملكه.
وعلى كل حال فليست مشكلة المسلمين من الناحية العلمية، أو من ناحية السلاح أو غيره ليست مشكلتهم التسليح فقط بل إن كل التيسيرات المادية التي تمكن الإنسان من قضاء حاجاته الدينية والدنيوية بيسر وسهوله، وتسهل له القيام بأعماله بأقل قدر من الوقت، وأقل قدر من الجهد، وأقل قدر من المال، هي مما كان يجب أن يسعى إليه المسلم؛ فالمسلم كان ينبغي أن يسبق الغرب -مثلاً- في اختراع المكيف، واختراع مكبر الصوت، واختراع السيارة، واختراع الهاتف، واختراع الفاكس، واختراع ألوان التيسيرات المادية والعلمية، التي تخدم الإنسان وتحفظ عليه وقته وجهده وماله، ولكن المسلمين آثمون وعصاة، لأنهم قصروا في ذلك كله، وأخص القادرين على ذلك.(13/30)
ما هو المخرج؟
السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو المخرج؟ وإذا كان السبب هو المعصية؟ فالمخرج هو الرجوع إلى الله تعالى، وإلى دينه، وهذه القاعدة المجملة، يمكن أن نترجمها إلى توصيات:- أولاً: المخرج بالإصلاح الشامل في مناهج التعليم، وفي مناهج الإعلام، والسياسة، والاقتصاد.
ثانياً: إعداد الجامعات، والمراكز العلمية التخصصية، للإفادة من النهضة العلمية العالمية اليوم، وتطويرها وتوسيع نطاقها، والإمساك بزمامها وناصيتها.
ثالثاً: تخلي المتسلطين على رقاب المسلمين عن حماية المصالح الغربية، إلى حماية مصالحهم وشعوبهم، وقيامهم بتحكيم شريعة الله تعالى في عباده.
لكن هذه المطالب لمن تُوجِهها؟ إن من توجهها إليهم هم مصدر الداء وهم البلاء! وكما قيل: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تُنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخُ في رمادِ ولهذا أنتقل لأقول: لا يجوز أبداً أن يُلقي المسلمون باللائمة والمسئولية على الحكومات، فإن هذه الحكومات، يجب ألا ينتظر منها المسلمون شيئاً يذكر، بل إنها في كثيرٍ من البلاد، هي مصدر البلاء، ولهذا على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيق ما يستطيعون بإمكانياتهم الذاتية، من خلال الأفراد، ومن خلال المؤسسات، والهيئات الإسلامية الشعبية، التي لا تهيمن عليها السياسة، ولا تديرها الحكومات لمصالحها الذاتية، وأنت بذاتك أيها المسلم، عليك واجب ودور كبير، وأقول:(13/31)
واجب المسلم تجاه قضايا المسلمين
نحن مفلحون جداً إن خرجنا من هذا المجلس، وكل واحد منا يشعر أن له دوراً، يستطيع أن يؤديه ولو كان دوراً يسيراًَ، تشعر بقيمة العمل، وأنا سوف أقرأ عليك مجرد قراءة لبعض الأدوار التي تُفلح بها وتستطيع أن تقوم بها:(13/32)
توجيه الاهتمام إلى قضايا المسلمين
ثانياً: ضرورة توجيه الاهتمام إلى قضايا المسلمين، والتتبع لأخبارهم، وألا نعتبر الكلام عن أمور المسلمين فضول أو لا فائدة منه، ولا أن استماع أخبارهم، أو قراءتها، أو الإطلاع عليها، لا فائدة منه! لا؛ بل هذا نوع من المشاركة، ينبغي أن تحرص عليه، وتبذل جهداً فيه.(13/33)
التوجع للمسلمين والحزن لهم
ثالثاً: التوجع للمسلمين والحزن لهم: وهذا التوجع والحزن كما أسلفت، لا يُشبع جائعاً، ولا يروي عطشاناً، ولا يغيث ملهوفاً، ولا يؤمن خائفاً، ولكنه ذا نفعٍ عظيم، لأن هذا التوجع والحزن الذي لا تتعبد به، هو وسيلة فالإنسان ما لم يتوجع أو يحزن لن يستطيع أن يصنع شيئاً، فلابد من التوجع لمصاب المسلمين، وبمناسبة هذا التوجع أقرأ عليكم هذه القصيدة الذي كتبها أحد الشعراء -الأخ محمد العجلان - وبعث بها إلينا: قتل وتعذيب وتشريد فمتى سيغمر كوننا العيدُ ومتى متى يا أمتي فرحي ومتى متى ستُزغردُ الغيدُ في كل شبرٍ أمةُُ هُتكت أستارها واغتُيل توحيدُ في كل شبرٍ صرخة نغم فدوت بِالصدى البيدُ لكننا نلهو فلا غضبُُ نبدي ولا الإيثارُ موجودُ وكأنَّ وقراً قد تغلغلَ في آذنِنا فالسمع مسدودُ صِربُُ وصهيونُُ تمُزقنا وسِلاحنا في الصدر تهيدُ والمجلس المأمول في شُغلٍ عنَّا يُماطِل فوقه الهودُ ويسومنا أبناءُ جلدتِنا بِسياطِهم والعدلُ مفقودُ والنخوة القعساءُ صادرها متفردُُ بالرأي نُمرودُ أدمى بخنجره حشاشتنا فإذا العراق الحُر مصفودُ وإذا العُروبة تنبري شيعاً عادت إليها الأزمُنُ السُودُ يا أمةً شاخ الزمان بها وعلت مُحياها التجاعيدُ عاثَ الخلاف بها وفرقها بُعد عن الإسلامِ مشهودُ الهَدي فيها وهي ضائعةُُ يقتادها القيثارُ والعودُ قد خُدِّرت بفم مُنغمة شُغلت بها والسيفُ مغمودُ وعلى رُباها ألفُ غانيةٍ رقصت ومِلءُ السمعِ ترديدُ هي والليالي الحُمر في طربٍ سكرى وليلُ الشِرك تصعيدُ في كل يومٍ يُستباحُ بها دم يُقامِر فيه عِربيدُ يا أمتي ما ضاع يُرجِعهُ سيف بِه الإيمانُ معقودُ يا أمتي هذا الكتابُ لنا ولنا به عز وتسويدُ فإذا به سِرنا سيغمِرُنا نصر مِن الرحمنِ موعودُ إذاً لابد من التوجع، نريد منك حزناً، نريد منك دمعة عين، وآهة أسف، وتنهيده لأخيك المسلم الجائع، أو العاري، أو المقتول، أو الجاهل، أو المريض.(13/34)
نشر الوعي الحقيقي بين المسلمين
رابعاً: نشر الوعي الحقيقي بين المسلمين، وإزالة الغشاوه عن المخدوعين بالإعلام، ليكون هناك مشاركة واسعة وعريضة في كلِّ قضايا المسلمين.(13/35)
المشاركة المادية
خامساً: المشاركة المادية ببعض ما أنعم الله تعالى عليك: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] وقال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] .
وأنت خبيرُُ بقصة صاحب الحديقة ملكُُ من السماء يقول: أسق حديقة فلان، لماذا؟ لأنه يأكل ثلثاً ويتصدق بثلث، ويرد الثالث في الحديقة، فكن أنت صاحب هذه الحديقة، والأمر سهلٌ ميسور.(13/36)
المشاركة بالنفس
سادساً: المشاركة بالنفس، وهذا يكون بالدعوة إلى الله تعالى، هؤلاء الجهال اذهب إليهم وعلمهم، فإن النقد المجرد، حيلة نفسيه، حين تقول: هؤلاء جهال، أذهب وعلمهم يا أخي، يجب أن تنزل للميدان، وماذا تنتظر من مسلم جلس أكثر من خمس وسبعين سنه تحت مطارق الشيوعية، في روسيا، أو في يوغسلافيا، أو في ألبانيا، أو في غيرها، هل دعوته أنت؟! هل علمته؟! هل فهمته فأعرض ورفض وأنكر؟ هذا أمرُُ آخر.
الذهاب للجهاد في البلاد الملتهبة مطلوبٌ، ممن يملك ذلك، ولكن ينبغي أن نعلم أن من أعظم ألوان الجهاد أن نعلمهم الدين، ونعرفهم ونعرف هؤلاء الشباب المتحمسين للجهاد، الذين نشد على أيديهم، ونقول: هلموا، فالمسلمون يحتاجونكم في كل مكان، في يوغسلافيا، وفي غيرها، نقول لهم: مع ذلك كله ليس بالبندقية وحدها ينتصر الإنسان، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون) َ) [آل عمران:160] وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] .(13/37)
السعي الجاد لإقامة جهدٌ دعوي مشترك
سابعاً: هذا الكلام كله سوف يفرز مع الوقت أساليب أكثر تنظيماً، وأكثر دقة، وأغزر إنتاجاً، وأوسع عطاءً، للإخوة من المسلمين، والدعاة، والمحتسبين، والمهمتين، بقضايا المسلمين، سوف يفرز هذا الإحساس، وهذا الاهتمام جمعيات إسلامية، وهيئات خيرية، ومؤسسات دعويه، تسهر على مصالح المسلمين، وسنجد بعد وقت إذا سلكنا السبيل، سنجد جمعيات متخصصة للدعوة إلى الإسلام، الدعوة بالمراسلة، بالاتصال، بالتعليم، بالإعلام، وأفضل وسيلة للهجوم على النصارى، وأفضل وسيلة لمدافعة النصارى هي الهجوم عليهم، بتعليم المسلمين ودعوة النصارى أيضاً إلى الإسلام، وسنجد أيضاً جمعيات متخصصة في الاقتصاد، وتنمية المال الإسلامي، واستثماره فيما يرضي الله عز وجل، وسنجد جمعيات متخصصة في الإغاثة والأعمال الخيرية الإنسانية، وسنجد جمعيات متخصصة في التعليم على كافة المستويات، بما في ذلك تطوير الكفاءات العلمية الإسلامية، وسنجد الكثير من ذلك، وأقول: من يملك أمرين يستطيع أن يصنع الكثير: أولاً: الرغبة الصادقة.
ثانياً: المال.
فإذا ملكنا الرغبة الصادقة مع المال، فلن يقف في وجوهنا بإذن الله تعالى شيءٌ سيكون الله تعالى معنا متى كنا مخلصين.
أيها الإخوة! هذا ما أحببت أن أقوله لكم، وأنا إذ أتحدث إليكم الآن عن جراحات المسلمين، أدعوكم إلى أن تصدقوا مع ربكم جل وعلا في أن تتخلوا عن كل ما تستطيعون التخلي عنه الآن، وليس غداً، لإخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وبعد إقامة الصلاة سيقف بعض الشباب على الأبواب، لجمع التبرعات التي ستوزع مناصفةً بين إخوانكم في البوسنة والهرسك، وإخوانكم في الصومال، جزاكم الله تعالى خيراً.(13/38)
الدعاء الصادق
أولاً: الدعاء الصادق: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال عليه الصلاة السلام: {من لم يدع الله يغضب عليه} وقال صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} .
هل تظن أن ألف مليون مسلم -بل آخر إحصائية تقول: ألفاً ومائتين مليون مسلم- ليس فيهم شخص واحد لو أقسم على الله لأبره، أو لو دعا الله تعالى أجابه، بلى، وأنا أحلف أنه -إن شاء الله تعالى- لا تخلوا هذه الأمة من أخيار، وأطهار وأبرار فلماذا إذا لا نحشد هؤلاء؟ ولماذا لا ندعوهم إلى أن يقوموا في الهزيع الأخير من الليل؟! حين ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من سائل؟} فيقولون: نعم، يا رب نحن السائلين، نمد لك أكف الضراعة أن ترحم هذه الأمة الملهوفة، فلو أننا ركزنا على هذا الأمر، ودعونا الشِّيِبِ، والكبار، والصغار، والأطفال، والغافلون، وأصحاب القلوب النظيفة، إلى أن يدعو الله تعالى في مشاكل المسلمين دعواتٍ عامة، وخاصة، ولعلك واحدٍ من هؤلاء، يقول: ولو كنت ملوثاً بالذنوب والمعاصي؛ لا تقل هذا، بل العلم عند الله تعالى.(13/39)
الأسئلة(13/40)
حقيقة ما يجري في أفغانستان
السؤال يقول: كم كانت الأنفس مستبشرة بانتصار المجاهدين الأفغان، ولكن لم تكتمل الفرحة حتى حدث ما لم يكن في الحسبان، فهل أطلعتمونا على الصورة الحقيقية؟
الجواب
الصورة الحقيقية سبق أن تكلمت عنها في مناسبات عدة، ينبغي أن نفرح لكل ما يقع للمسلمين، لكن ينبغي أن يكون فرحنا مشروطاً واعياً، فلا ينبغي أن يكون فرحنا كفرح الأطفال الذين لا يدركون المخاوف التي تهددهم.
ففي أفغانستان أولاً: هناك مشاكل داخلية -تكلمت عنها مرات- وأخطرها قضية المليشيات، والمليشيات فعلاً هي تمارس دوراً خطيراً الآن، وهي السبب الرئيسي في الصراع بين المجاهدين.
ثم هناك الخطر الخارجي، فالغرب لن يرضى أبداً بانتصار إسلامي وسيقاومه! مع أنه يقاومه وأنا أقول لكم: لا يجوز أبداً أن نخاف من الغرب، بل ينبغي أن ندرك أن الغرب عاجز، وإذا وجد قوة إسلامية صادقة، فإنه سيقف مكتوف الأيدي، وماذا تنفع روسيا أسلحتها السوفيتية النووية القوية، لم تمنعه من أن يسقط ويتهاوى كما تتهاوى وتتساقط أوراق الخريف، لكن سيحاول الغرب أن يستغل نقاط الضعف الموجودة فينا، وعلى سبيل المثال قرأت تقريراً غربياً يقول: تُحاول أمريكا أن تجعل في شمال أفغانستان منطقة خاصة للمليشيات يحكمونها -مستقلة- وأمريكا اليوم كانت تمارس دوراً في تجزئة العالم الإسلامي، ولعل العراق يعاني شيئاً من ذلك، وأفغانستان أيضاً، لماذا المنطقة المعزولة في شمال أفغانستان؛ حتى تحول بين الحكومة الأصولية في كابول، وبين أن ينتقل تأثيرها إلى الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك أدعو لإخوانكم المسلمين في أفغانستان.(13/41)
نصائح توجيهية للدعوة
السؤال
إن ما يشهده هذا البلد في الفترة الأخيرة من حركة طيبة في مجال إنكار المنكرات من قبل الهيئة، ونتيجة لذلك كثر الكلام من العوام، ونقلت الشائعات بلا تثبت، ونقل العمل بغير علم، ووقع في الأعراض بلا تورع، فهل من نصيحة؟
الجواب
أولاً: أدع الإخوة إلى أن يبذلوا مزيداً من الجهد في هذا السبيل.
ثانياً: أدعوهم إلى أن يكونوا على اتصال قوي بالناس، فنحن كما نحتاج إلى دور الإخوة في العمل في مجال الهيئات، نحتاج أيضاً إلى هؤلاء العاملين أنفسهم، أن يكون لهم اتصال إعلامي قوى في وسط المجتمع، بحيث يكون المجتمع معك في أي خطوة ويكون معك في الصورة، بحيث يشعر كل مواطن بأنك تُدافع عن عرضة وعن بنته، وعن قريبته، وعن أهله، وعن جيرانه، وأنك حريص عل الستر، وحريص على الإصلاح، وحريص على أن تسير الأمور بطريقةٍ هادئةٍ وسليمةٍ بعيدةٍ عن الإثارة، حتى تستطيع أن تكسب الناس إلى صفك، فعلينا أن نبذل ذلك، كما أن على العلماء والخطباء والدعاة دوراً في ذلك.(13/42)
وقفات مع سورة الذاريات
سورة الذاريات فيها قوارع وزواجر، وفيها تكرار للقسم على أحقية البعث، وجزاء المتقين والمجرمين، ثم ذكر قصص السابقين تسلية للمؤمنين وتهديداً للمجرمين.(14/1)
تأكيد البعث والجزاء
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذارايات:1-23] الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذه السورة العظيمة، سورة الذاريات، وهي مكية، وموضوعها هو موضوع الآيات المكية غالباً، تقرير العقيدة، وترسيخها في القلوب، وكشف أدلتها، والرد على المخالفين، وقد افتتح الله تعالى هذه السورة بهذا القسم العظيم {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات:1-4] فأقسم بهذه الأشياء الأربعة، الرياح: وهي الذاريات، والسفن: وهي الجاريات، والسحاب: وهي الحاملات، والمقسمات: وهي الملائكة، وأقسم بها بصيغة الجمع ليكون أفخم وأوقع في النفس {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5-6] فهذا هو موضوع القسم، وهذه هي الوقفة الأولى.
أما المسلم فلأنه يُعظِّم الله تعالى، فإن الأمر عنده أصلاً لا يحتاج إلى أكثر من أن يأمر الله بشيء فيفعله، أو ينهي عن شيء فيجتنبه، أو يقرر الله تعالى شيئاً فيؤمن به، فإذا جاءه هذا القسم من الله بهذه الأشياء العظيمة، وبصيغة الجمع، كان هذا سبباً في شدة اهتمامه، وتوجه قلبه، إلى هذا الموضوع المقسم عليه، أما غير المؤمن، فإن هذا القسم أيضاً سيحدث عنده شيئاً كبيراً.(14/2)
لا يقبل على الهداية إلا من وفقه الله
إن هذه الآيات بقوتها وشدتها ووضوحها، تقول لكل إنسان: لا تأخذ قضية الجزاء والبعث والحساب مأخذ التهاون والتساهل والتفريط، أعط القضية حقها من الاهتمام، ووجه قلبك، وفكرك، وعقلك إليها، وتأمل في أدلتها وحينئذٍ ستصل إلى النتيجة الصحيحة، لأنه لا أحد يُقبل على طلب الهداية، والبحث عن الحق، بتجرد وصدق وإخلاص، إلا وفقه الله سبحانه وتعالى لإدراك الهداية وتحصيلها، والدليل على ذلك قصة جبير بن مطعم، وأيضاً من القرآن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فهذه الآية نص في أن من يطلب الهداية، ويجاهد في طلب الهداية، فإن الله تعالى يهديه سبلها، ويوفقه إليها، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وأيضا قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] إلى غير ذلك من الآيات.
إذاً: هذا القسم بهذه الأشياء العظيمة الكبيرة، وبصيغة الجمع، من الله جل وعلا، يحدث عند كل إنسان تأثيراً قوياً، فأما المؤمن فتأثير القسم عليه هو شدة الاعتناء والحفاوة بالأمر المقسم عليه، وشعوره بأنه موضوع خطير، وأن ربنا جلَّ وعلا ما ذكره هكذا، وإنما ذكره في سياق القسم عليه، والتأكيد على معناه.
وأما غير المؤمن، فحتى لو لم يؤمن بهذا الشيء بمجرد القسم، إلا أن هذا يعطيه تأكيداً للموضوع، ويقول له: إن هذا الموضوع في غاية الأهمية، ويجب أن توجه قلبك، وعقلك، وهمك، إلى التفكير فيه، والبحث عن وجه الصواب، وتحري الحق، والمؤمن يعلم أن لا أحد يتحرى الحق، ويبحث عن الصواب بتجرد إلا اهتدى إليه، لأن هذا وعد من الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] فيقسم الله تعالى بهذه الأشياء على هذا الموضوع الجليل الخطير، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5-6] الدين هو الجزاء والحساب، فمعنى الآية: إن مجازاة الناس بأعمالهم يوم القيامة أمر واقع لا شك فيه.(14/3)
وعود الله تعالى للمؤمنين
أما قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] فهو أعم من ذلك، فهم قد وعدوا أشياء كثيرة، ومما وعدوا أن يبعثوا، ويجازوا بأعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذا مما وعدوا، لكنهم وعدوا أيضاً بغير ذلك، وعدوا بالنصر والتمكين للإيمان والمؤمنين، وأن الله تعالى سوف ينصر رسله، ووعدو أيضاً بأن الله تعالى سوف يخذل أعداءهم، ويجعل الدائرة عليهم، ووعدوا أيضاً بأن الله تعالى سوف يجري على يد رسله وأنبيائه من الآيات والحجج الباهرة الشيء العظيم، بل ووعدوا تفاصيل أشياء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، أنها ستقع مثل قصة عدي بن حاتم، التي فيها الوعد بفتح فارس والروم، ونصر المسلمين واستتباب الأمن في بلادهم، وكثرة الخير بأيدي المسلمين، ومما وعدوا أيضاً هزيمة الروم قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم:3] ثم انتصارهم من بعد: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3] وهزيمة فارس، ومما وعدو أيضاً: قصة سراقة بن مالك إن صحت: {كيف بك يا سراقة! إذا لبست سواري كسرى} ومما وعدوا فتح القسطنطينية ووعدوا أن هذه الأمة ستتبع الأمم قبلها، حذو القذة بالقذة، إلى غير ذلك مما جاء على ألسنة الرسل، وهو كثير جداً.
فهذا قسم على أن كل ما توعدون من الله تعالى على لسان رسله، أنه صادق، وصدق الوعد يعني أنه سيقع ويتحقق، ثم أكد على أمر واحد مما وعدوت وهو الدين، يعني الجزاء والحساب يوم القيامة، فعم وخص {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] وإنما خص مسألة الدين، وهو المجازاة، دين الناس بأعمالهم، لأنه هو موضوع السورة، بل وكثير من السور المكية، وهو موضوع القسم أيضاً.(14/4)
الكافرون في أمر مريج
ثم أقسم الله تعالى بالسماء ذات الحبك، ذات القوة، ذات الجمال، ذات النجوم، إنكم يا معشر الكفار! {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8-9] قضية القسم، وهي الوقفة الأولى كما سبق، هي التأكيد على موضوع البعث والقسم عليه، والدعوة إلى التأمل فيه والتفكر، ولهذا عقَّب بقسم آخر، بالسماء البعيدة، الرفيعة، القوية، البهية، الجميلة، ذات الحبك، إنكم يا من تكفرون بالبعث! قد تجاوزتم الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال! فأصبحتم في قول مختلف، لا يستقر على حال، فهذا كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] ليس هناك شيء في الدنيا ثابت ومستقر، تطمئن إليه النفوس، والعقول، والقلوب، إلا الحق، فإذا آمن الإنسان بالحق، ودعا إليه، وعمل به، أورثه هذا طمأنينة ويقيناً واستقراراً، فتجد كلامه الأمس وكلامه اليوم هو كلامه غداً من حيث الجملة، لأنه ينطلق من مصدر واحد، لكن إذا ترك الحق وأعرض عنه، ابتلي بالتلون، والتذبذب، والنفاق، فأصبح شأنه اليوم غير شأنه بالأمس، وشأنه غداً غير شأنه اليوم، ولهذا قال: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] لأننا إذا تركنا المجال للتصورات العقلية، وجدنا أنا الإمكانيات العقلية -الاحتمالات العقلية- كثيرة جداً، فقد يتصور الإنسان مثلاً بالعقل بدون الدين، قد يتصور أن الحياة الدنيا التي يأتي بعدها الموت، هي نهاية المطاف، وأن من مات لا يبعث أبداً! هذا تصور عقلي، يمكن أن العقل يتصور هذا، وقد يتصور آخر، أن الإنسان إذا مات في هذه الدنيا فإن روحه تذهب إلى شخص آخر، أو إلى حيوان آخر، أو إلى طير! كما هو مذهب التناسخية الذين يقولون بتناسخ الأرواح، وقد يتصور الإنسان شيئاً مثل هذا، عشرات الاحتمالات العقلية، لماذا هذه الاحتمالات؟ ليس واحد منها بأفضل من الآخر، فمسألة الإمكان العقلي، هذا ممكن وهذا ممكن، واعتبار أن هذا الاحتمال أقوى، أو هذا ليس عليه دليل، فيصبح الكافر في قول مختلف، قد يقول اليوم قولاً، فيقنعه بعده آخر بقول ثان، وآخر بقول ثالث، وهكذا، فهو في قول مختلف مضطرب مريج، كما قال تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] وهذا القول المختلف هو قول متناقض، قول ليس عليه دليل ولا يخفى فساده إلا على الإنسان الذي عطل عقله، وألغى إدراكه، ولهذا قال: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: يصرف عن فساد هذا القول الذي أنتم فيه، فهذا القول المتناقض لا يصرف عنه إلا من عطَّل مداركه، وقُلِبت فطرته، فأصبح لا يميز بين الحسن والقبيح، ولا بين الحق والباطل.(14/5)
النظر إلى الحياة الدنيا طريقان
الأول: طريق الوحي، الذي يقرر أن الحياة الدنيا مؤقتة، وأن الناس مطالبون بعبادة الله، وأن بعد الدنيا آخرةً، وبعثاً، وجزاءً، وحساباً، وجنة للمتقين، وناراً للعاصين، هذا طريق الله، وهو طريق واضح، من آمن به استقر قلبه، وهدأت نفسه، وعرف طريقه.
الطريق الثاني: هو طريق الباطل، طريق الشيطان الذي ليس له قرار ولا استقرار، ولا يقوم على أساس، وإنما هو قول مختلف، مضطرب، مريج، لا يرتاب في ضلاله واضطرابه إلا من أراد الله تعالى له الضلال، فعطل عقله، وألغى مداركه، وانقلبت فطرته، فصار لا يستخدم هذه المواهب التي أعطاه الله تعالى إياها في الوصول إلى الحق، فهذا معنى قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: فأنتم يا معشر المكذبين بالبعث في أمر مختلف مضطرب مريج، لا يؤفك -أي: يصرف ويقلب- عن إدراك خطئه وفساده إلا من أفك، يعني: قلب وصرفت فطرته، وإلا فالإنسان العاقل يعرف فساده، ولهذا عقب أيضاً بقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] وهذا دعاء عليهم، قتلوا: أي أهلكو ولعنوا وذموا، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:11-12] يعني هؤلاء القوم أهل الشك والحيرة والاضطراب، الذين لم يهتدوا إلى طريق الله، فظلوا في الإفك والتردد والشك، كل يوم عندهم احتمال عقلي، مثل ما تجده حتى عند كبار العباقرة إذا نظرت غير مؤمنين، إذا أتيت تفكيره في مسألة الإيمان وجدته أقل من تفكير الصبيان، لأنه ما استخدم هذه المواهب العظيمة في ما ينفعه في الدار الآخرة، إنما استخدم المواهب في الدنيا، فتجده اكتشف الكهرباء، واكتشف الجاذبية، واكتشف أعماق البحار، ومجاهيل الأرض، ومجاهيل الفضاء، واكتشف في مجال التصنيع، والزراعة، والذرة، أشياء كبيرة لأنه وجَّهه عقله إليها، واستخدم طاقاته لها، لكن القضية الكبرى قضية الآخرة ما وجه عقله إليها ولهذا يُعبَّر عنه بأنه أفك عن هذا الأمر، وصرف عنه، فوقع في هذا الأمر المختلف المريج، وأصبح من الخراصين، الذين يتشككون ويترددون ويتقلبون، فكل يوم لهم رأي، وهم ساهون غافلون لا يأخذون القضية مأخذ الجد، ولم يفكروا فيها تفكيراً عميقاً، بل هم في غمرتهم وغفلتهم وسهوهم ودنياهم.
وأنت لو تأملت أحوال الناس لوجدت غالب الكافرين على هذا الأمر، فلو كان هناك إنسان مهتم بقضية الدين فعلاً ولو لم يكن مسلماً فإنه بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، يصل في النهاية إلى الدين، يبحث ويقول: ذهبت ودرست النصرانية فلم تعجبني، ثم ذهبت ودرست اليهودية فلم تعجبني، ثم لم أكن أعرف الإسلام، فوجدت البهائية مثلاً فأخذت كتب البهائية أظنها هي كتب المسلمين، فقرأتها فلم تعجبني فوجدت فيها تناقضاً، وجلست سنوات وأنا في حيرة وفي قلق وفي شبه اليأس، حتى هممت بالانتحار ولكني لم أفعل، حتى وقع في يدي كتاب كذا، فقرأته فوجدت فيه الهداية، فيذكر بعض كتب المسلمين التي حصل عليها بالصدفة يظن، والواقع أنه قدر ساقه الله تعالى إليه، فكل إنسان يأخذ قضية الدين بجد ويبحث عنها بتحرٍِ، يصل في النهاية، وإنما يصرف عن الدين {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:11] مشغولون بتفاصيل حياتهم اليومية، من وظيفة، وطعام، وشراب، وبرنامج يومي، ومشاريع بعد مشاريع، دراسة، ثم وظيفة، ثم زواج، ثم سفر، ثم مشاريع اقتصادية، ثم مشاريع علمية، ثم دنيوية، ثم، ثم حتى تنتهي حياة الواحد منهم وهو لم يجد وقتاً للتفكير، فهو في غمرة، أي في لهو، وغفلة، ولذلك هناك كفر اسمه كفر الإعراض، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] لأنهم ما فكَّروا أصلاً، فهذا إذا جاءه الموت صحا قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:12] هذا سؤال مستهتر مستخف! فإن هذا ليس من شأن العبد، وهذا السؤال لا يطرحه إنسان جاد، فسواء كان يوم الدين بعد سنة أو بعد مائة سنة، أو ألف سنة، أو ما يعلم الله تعالى من ذلك، الإنسان الجاد يسأل: هل يوم الدين حق أم ليس بحق؟ ويبحث عن الأدلة، فإذا توصل إلى أنه الحق، أعد العدة له، وهو يعلم أنه لا يحول بينه وبين يوم الدين إلا الموت، ثم يلقى هو دينه وجزاؤه وحسابه.(14/6)
يوم الدين غيبٌ لا يعلمه إلا الله
أما يوم الدين الأكبر، يوم الجزاء الأوفى للطائعين والعاصين، والذي يجمع فيه الناس لرب العالمين، فهذا غيب عند الله تعالى لا يعلمه إلا هو، وإنما
السؤال
أيَّان يوم الدين؟ سؤال استبعاد أيضاً، فهو إنما يصدر من قلوب جاحدة، ونفوس منكرة، تعترض على الرسل بهذه الطريقة، فتقول: متى سوف نبعث وفي أي يوم وفي أي تاريخ؟ فالرسل يتكلمون بالجد، وهؤلاء يواجهون الموضوع بسخرية واستهزاء! ولهذا فمِثل هذا السؤال، (أيان يوم الدين؟) لا يستحق الجواب، إنما يستحق التهديد لأصحاب هذا السؤال، فإذا كنتم تقابلون الموضوع بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، جاحدين، مستهزئين، مستنكرين فالجواب {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:13] .
أي: يحرقون بالنار، ويقال لهم: ذوقوا فتنتكم وحريقكم وعذابكم، الذي وعدتم به، {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] أمس في الدنيا.
وتقولون: أيان يوم الدين؟ {قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] هذا هو، ما أسرع ما وصلتم إليه! ومضت دنياكم كأنها عشية أو ضحاها، أو كأنها ساعة من نهار، أفضلكم وأحسنكم طريقة، وأكبركم عقلاً يقول: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:104] {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] .
إذاً هذه هي الوقفة الأولى في السورة، وهي موضوع القسم، الذي أقسم الله تعالى عليه، وهو إثبات البعث والوعد الحق، والصدق الذي لا يتخلف، لأنه ممن لا يخلف الميعاد، ولأنه ممن هو على كل شيء قدير وهو الله، وقد عالج هذا الموضوع، ومن العلاج: إثارة الاهتمام في نفس الكافر ليفكر في الموضوع على الأقل، ولا يأخذه بتهاون، أو استخفاف، أو لا مبالاة! فالموضوع خطير، وقد أقسم الله عليه، وأكدَّ أنه سيحصل، وأنَّ من أنكره أو كذَّب به أنه في أمر مضطرب، مريج، مختلف، ووبَّخ الله تعالى الخرَّاصين المرتابين، الذين لا يأخذون هذا الأمر بجد، وإنما يغفلون عنه، وهم في غمرة وغفلة ساهون لاهون، يتساءلون إذا سمعوا حديث البعث، والحساب، والجزاء: متى ذلك؟ في أي يوم ستقوم الساعة؟ وفي أي يوم سيكون الجزاء؟ أوهو قريب أم بعيد؟ وعالج هذا الاستخفاف بهذا الوعيد الذي يحرق القلوب {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] والداعية قد يأخذ من هذا درساً، فيمن يدعوهم إلى الله تعالى، وهو أن من أعظم وأنجح وسائل الدعوة، أن تفلح في كسب اهتمام المدعو، بمعنى أنه ليس المهم في البداية أن يؤمن المدعو بما تقول له مباشرة، فهذا قد يكون صعباً أحياناً، خاصة إذا كان المدعو كافراً أو شاكاً، لكن المهم هو أن تفلح في كسب اهتمامه، بأن تثير عنده القضية، بحيث تشغل تفكيره، فإذا وجدت أنك أفلحت في تحويل اهتمام هذا الإنسان مثلاً، من الدنيا، والوظيفة، والفن، والرياضة، والمصالح العاجلة، إلى الاهتمام بأمر الدين، والتفكير فيه، والبحث عن الصواب، فاعلم أنك قد قطعت مرحلة كبيرة في دعوة هذا الإنسان، وعليك بعد ذلك أن تساعده في الوصول إلى الحق، لأن أمامه عدة تصورات، وعدة احتمالات، وعدة حلول، فعليك أن تساعده في اختيار الحل الصحيح.(14/7)
صفات المتقين
الوقفة الثانية: وهي ذات علاقة بالأولى، هي في صفات المتقين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:14-19] فبيَّن المصير الذي هم صائرون إليه، وهو الجنات والعيون، وهذا مصير حق، أجمله هنا وفصله في مواضع أخرى، فذكر ما يأكلون وما يشربون، وكيف يعيشون وكيف يتحدثون، إلى غير ذلك مما هو إغراء كبير بالتشبه بهؤلاء، والتحلي بصفاتهم، وحتى بالنسبة للكافر، كما ذكرنا قبل في الوقفة السابقة، هذا الكلام عن المتقين، ينفعه لو ألقى السمع وهو شهيد، كيف ينفعه على ضوء الوقفة السابقة؟ المقصود أن تلمس أثر مثل هذه الآيات على نفسية إنسان غير مسلم، ولكنه يبحث عن الصواب، فلما يسمع: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] يثور في نفسه سؤال يؤكد المعنى السابق، أنت يا إنسان الآن أمام قضية كبيرة، فالذي يقول لك إن هناك بعثاً لا يقول: الناس يبعثون، ثم يؤخذ الحق لهذا، ويؤخذ الحق لهذا، ثم يموتون مرة أخرى، وإنما يقول: إن بعد البعث محاسبة على الأعمال كلها، ونتيجة هذه المحاسبة، هي جنات وعيون للمتقين، خالدين فيها، وبالمقابل نار يفتن عليها الكافرون {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:13-14] .
إذاً: فالأمر خطير وكبير، والنتيجة عظيمة، ويجب عليك أن لا تتخذ رأياً إلا بعد دراسة متأنية وعميقة، وأنت تجد هذا في كل أمور الدنيا، فتجد الإنسان إذا أراد أن يقبل على قرار كبير، مثل قرار التوظف بعدم التخرج من الجامعة، أو قرار الزواج، أو قرار موقع شراء الأرض في أي حي يشتريها، أو قرار إقامة عمل تجاري، أو مؤسسة تجارية، قد يكسب من ورائها مكاسب طائلة، فيصبح ثرياً أو مليونيراً -كما يقال- وقد يخسر فتُثْقِلُ الديون كاهله.
إذا أراد الإنسان أن يقبل على قرار خطير من هذا النوع، هل يُقبِلُ عليه ببساطة ولا مبالاة، أم يتناوله بالدراسة العميقة؟ الأولى أنه يتناوله بالدارسة العميقة، لأنه يقول: إن هذا قرار له ما بعده، إذاً نفس القضية في موضوع البعث؛ فهذه الآيات وغيرها تقول للإنسان الشاك في أمر البعث: إن موضوع البعث موضوع خطير وكبير، والمسألة يترتب عليها حسب التصور الديني والإيماني جزاء وحساب، وبعث، وجنة أبداً، أو نار أبداً، فلا تقل: ليس هناك بعث، وتمشى دون تفكير، أو تقول: لا ندري! لا، توقف وفكِّر وتأمل، وادرس الموضوع دارسة بما يستحقه، فقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] يجعل المؤمن حريصاً مقبلاً على صفات المتقين للتحلي بها ونيل هذا الجزاء العظيم، ويجعل الناس حتى الكافر يعطي موضوع البعث اهتماماً وعناية يستحقهما.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:15-16] فذلك يوم القيامة في الجنة، ما أعطاهم الله تعالى من الخيرات، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قبل ذلك أي: في الدنيا، هذا هو الصحيح في تفسير الآية، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل الدار الآخرة، يوم كانوا في الدنيا كانوا محسنين.
وفي المسألة والآية تفسير آخر، ذكره ابن كثير وغيره عن بعض السلف، أنهم قالوا: معنى الآية: أن المتقين يأخذون ما آتاهم ربهم من الفرائض، فإذا أوجب الله تعالى عليهم الصلاة أخذوها وصلوا، فإذا أوجب الصيام أخذوه وصاموا، فإذا أوجب الزكاة أخذوها وزكوا، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل أن توجب عليهم الفرائض، وتقرر عليهم الأحكام محسنين، أي: مستعدين في عقولهم وقلوبهم للامتثال والتنفيذ والصواب الأول، أن المعنى {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] ما أعطاهم ربهم في الجنة، من النعيم، والحبور، والحور والسرور، والقصور {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قبل أن يصلوا إلى الدار الآخرة، في الدنيا كانوا محسنين، وكثيراً ما يصف الله سبحانه وتعالى أهل الجنة بالإحسان: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] وهناك آيات أخرى وصف الله تعالى فيها هؤلاء بالإحسان، وأثنى فيها على المحسنين مثل قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] إلى غير ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم فسَّر الإحسان في حديث جبريل فقال: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وحقيقة الإحسان في اللغة: هو جعل الشيء حسناً، فالبنَّاء إذا أتقن البِنَاء قلنا: هذا قد أحسن، والزارع إذا اهتم بزراعته، وعُنى بها، وعالجها من الآفات والأمراض، وأصلحها وسقاها ورعاها، قيل: هذا قد أحسن، والأب إذا اهتم بأمر أولاده، تسميةً وتربيةً وتعليماً وإطعاماً وعلاجاً وكساءً وغذاءً، قيل: هذا قد أحسن، فالإحسان في كل شيء، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم {إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء -ثم مثل بأمثلة قريبة جداً ويسيرة- فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} رأيت كيف يكون الإحسان حتى في القتل، آخر ما يخطر في بالك أن تحسن في القتل، تحسن قتل الإنسان الذي استحق القتل، إما بحد أو قصاص أو غير ذلك- وإذا ذبحت البهيمة تحسن الذبحة -ومن إحسان الذبحة كما قال عليه الصلاة والسلام،- {وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} فهذا من الإحسان، فإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة وهي تقتل، فكيف يكون الإحسان معها قبل القتل! ولذلك دخلت امرأة النار في هرة، ودخلت امرأة الجنة في كلب، وإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة، فكيف يكون الإحسان مع الإنسان؟! بمساعدته، وإطعامه، وسقيه، وطِيْب الكلام، وإطعام الطعام، وحسن الخلق، وغير ذلك، وإذا كان هذا الإحسان مع الإنسان في أمر الدنيا، فما بالك كيف يكون الإحسان في أمر الدين! {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] كل هذه الأشياء تدخل في قوله: محسنين.(14/8)
قيام الليل من خصائص المتقين
{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] .
فهذا ما يتعلق بأمر عبادتهم وصلاتهم أنهم يقومون الليل كله إلا قليلاً {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] و"ما" هنا مصدرية، يعني: هجوعهم في الليل كان قليلاً، فنومهم قليل، والغالب أنهم قائمون في صلاة، أو ذكر، أو عبادة، أو طلب علم، أو غير ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله} فهذا من يُسر الله تعالى على عباده، وإذا صلَّى الإنسانُ ولو صلاة الوتر، رجي أن يكون له حظٌّ من هذه الآية، فإن كان من أهل النوافل، وصفِّ الأقدام في الظلام، فهو حقيق وجدير بها، روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: {لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الناس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول اله صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر إليه، فلما استثبت في وجهه -يعني: نظرت إليه وحققت النظر فيه- عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام.(14/9)
الاستغفار شعار المتقين
{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] يدركهم السحر آخر الليل وهم يستغفرون الله تعالى، إما أن يكونوا يستغفرونه في صلاة، وهذا أفضل الاستغفار، وإما أن يكون مستغفراً ولو في غير صلاة، حتى لو أن الإنسان صحا في السحر وهو يتقلب على فراشه ويستغفر الله، لرجي أن يكون من أهل هذه الآية، وهذه العبادة، وهذه الصلاة، وهذا الذكر، وهذا الاستغفار من أعظم أسباب توفيق الله للعبد، وإعانته على ما يقاسيه من أمور دينه ودنياه، فإنه لا قوام، ولا قوة، ولا حول للإنسان، إلا بالله تعالى، فإذا عَبَدَ الله، أمدَّه الله تعالى بروح من عنده، فوجدته صلباً قوياً ذا همة عالية، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله تعالى ويسبح، ويهلل، ويقرأ القرآن، حتى يتعالى النهار ويرتفع، ويقول: هذه غدوتي، لو لم أتغدها لم تحملني قواي! يقول هذا الشيء مثل الطعام للجسد، هو لروحي مثل الطعام لجسدي، لو تركته ما استطعت أن أعمل شيئاً في ذلك اليوم، فلا بد من الزاد وخاصة لأهل الدعوة إلى الله عز وجل، ولهذا خاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب في معنى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآن تَرْتِيلاًَ * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] أي أنك تحتاج إلى هذا القيام، لأنك تستعد لقول ثقيل، يُلقى عليك: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:2] .
أ/ الإنفاق من صفات المتقين: ثم قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] فهم ليسوا دراويش لا يعرفون الأمور، ولا يوردونها، ولا يصدرونها! بل هم وإن كانوا من أهل الآخرة إلا أنهم لم ينسوا نصيبهم من الدنيا، فلهم تجارات، ولهم أعمال، ومزارع، ولهم خيرات في هذه الدنيا، لكنهم لم يجعلوا هذه الأشياء همهم، بل جاءتهم بغير عناء ومشقة، ولم تكن حلَّت من قلوبهم محلاً، فلذلك ينفقونها في أوجه الخير {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] هم لا يرون أن ما ينفقونه فضلاً بحتاً منهم، بل يرونه حقاً عليهم، فيخرجه الواحد وهو يتخلص من شيء لو بقي لظن أنه يفسد ماله، لأنه حق للآخرين، وحق الآخرين إذا دخل في المال أفسده، فيخرج المال، ويقول: هذا حق للسائل الذي يتعرض للسؤال، ويطلب من الناس المساعدة، أمَّا المحروم فقيل هو المتعفف الذي لا يسأل، وقيل: هو الذي اجتاحت ماله جائحة ذهبت به، وقيل: هو الإنسان الذي لا يوفق في تجارته، فكلما ذهب في مشروع فشل فيه، وكلما اشترى صفقة خسر فيها، وكلما أقبل على شيء أعرض الناس عنه، فلا يكون موفقاً في التجارة، وبذلك لا يكسب شيئاً، بل تركبه الديون، ويكون محتاجاً إلى مساعدة الناس، وكل هذا داخل في المحروم، وفي معنى قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] والانفاق وإخراج المال وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه برهان، فقال: {والصدقة برهان} أي: دليل على صدق الإيمان، لأن الإنسان جُبِلَ على حب المال، كما قال الله عز وجل: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] وقال أيضا سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقال أيضاً: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] فقد رُكِّب في الطبيعة حب هذه الأشياء، والمؤمن الذي يخرج المال ليس معناه أن المال عنده مثل التراب لا يبالي به، بل قد جبل وطبع على شيء من محبته، ولكن حب الإيمان، وصدق اليقين، تغلَّب على هذه المحبة الفطرية فأخرج المال، ولهذا كانت الصدقة برهاناً على صحة إيمان صاحبها، وصدق يقينه، حيث تغلَّب على هذه الشهوة الفطرية، شهوة حب المال، وأخرج هذا المال، وهذه سمة للمؤمن في كل شيء، ليس في موضوع الصدقة فحسب، بل في كل شيء، المؤمن يقدِّم ما يدعوه إليه إيمانه، لا ما تدعوه إليه غريزته أو شهوته.
فمثلاً: قد تجد المؤمن -أحياناً- أقوى غريزة، وأكثر ميلاً إلى النساء من ذلك الفاجر الذي لا يبين له حرام إلا أسرع إليه، ولكنَّ هذا المؤمن نهى نفسه عن الهوى، وألجمها بلجام التقوى، فأعرض عن الشهوة الحرام، وإن كانت النفس تتوق إليها.
والمؤمن أيضاً قد يكون محباً للدنيا وللبقاء، ويرغب في تجنب المعارك والحروب، ولكنه آمن بالله وبالدار الآخرة، فَوَلَّدَ هذا عنده، شجاعة ورغبة فيما عند الله، تغلَّبت على حب الدنيا، فصار يخوض المعارك، ويُسرِع إلى الموت، ويتغلَّب على شهوة حب الحياة! وهكذا الأمر في المال أو غيره، ولهذا قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] .
وفي الصحيح قصة صاحب الحديقة، أن رجلاً سمع صوتاً في السماء يقول: اسقِ حديقة فلان، فتأتي هذه السحابة فإذا توسطت من بستان أهراقت ماءها، وأفرغت ما فيها، وانتهى الأمر، ثم يجد رجلاًً في هذه الحديقة، رجلاً فلاحاً بسيطاً، من عامة الناس، معه مسحاة يسوي الماء بمسحاته، فيتعجب! ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه في السحاب، قال: ماذا كنت تصنع؟ قال: لا شيء إلا أني إذا خرج الزرع في هذه الحديقة، قسَّمته ثلاثة أقسام: قسم للفقير وابن السبيل، وقسم يأكله هو أولاده، وقسم يرده فيها، ليس في الأمر معجزة، ولكن فيه التغلب على شح النفس، الذي يورث توفيق الله تعالى للعبد، يورث والبركة في المال.(14/10)
الحجج والبراهين على قدرة الله تعالى على البعث
الوقفة الثالثة هي: في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] وهي الآيات والحجج على قدرة الله تعالى على البعث ليوم الحساب.(14/11)
تأييد البعث
ثم ختم بقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] السماء التي فيها رزقكم، والأرض التي فيها الآيات، إنه -أي: أمر البعث والجزاء- لحق، فعادت القضية بعدما ساق الأدلة ليؤكد على القضية الأولى، قضية البعث، ويقسم عليها قسما ثالثاً، أقسم عليها أولاً بالذاريات، والجاريات، والحاملات، والمقسمات، ثم أقسم بالسماء {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ثم أقسم أخيراً سبحانه بقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] مثلما أنك تتكلم وتنطق، وهو حق لا شك فيه لأنه محسوس، يسمع بالأذن ويرى بالعين.(14/12)
الأرض
ذكر الله تعالى في هذه الآيات، آيات الأرض مجملة، فقال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] وآيات الأرض كثيرة منها، ما ذكره سابقاً عز وجل في سورة (ق) فقال: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] .(14/13)
النفس
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فالنفس أيضاً فيها آيات وعبر، سواء في بدن الإنسان، وأعضائه، وأجهزته، وتركيبه، وحياته، وقلبه وعقله، ولو تأمل الإنسان في نفسه لوجد العجب العجاب.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ولذلك تجد أن أقرب الناس للإيمان هم الذين يتعاملون مع خلق الله تعالى مباشرة، إما مع الأرض، فالفلاح مثلاً يحرث الأرض ثم يضع الحب ثم يسقيه، ثم يجد هذه النبتة تخرج شيئاً فشيئاً، فيرى قدرة الله بعينه، فيما يخرج من الأرض، فالفلاح أقرب للإيمان، ولذلك دائماً حتى عند الأمم الأخرى غير المسلمين، تجد البيئات الزراعية بيئات محافظة متدينة.
وكذلك الطبيب مثلاً، فالطبيب يتعامل مباشرة مع خلق الله، يتعامل -أيضاً- مع الإنسان، الجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والأعضاء، والدم وغير ذلك، فيتعامل مع خلق الله، ويرى بعينه آيات القدرة الإلهية العظيمة، ولهذا تجد التدين أيضاً في عالم الطب أكبر منه في أي مجال آخر، حتى في غير المسلمين قلمَّا تجد طبيباً ملحداً، تجد الطبيب يؤمن بوجود الله، لو لم يكن مهتدياً مسلماً، على الأقل تراه يؤمن بوجود الله، لأنه يرى صنعة رب العالمين بعينه، ويحسها بأحاسيسه وأعضائه، لكن لو نظرت -مثلاً- إلى الإنسان الذي يتعامل مع صنعة المخلوق، لوجدته أقلَّ إيماناً، فالإنسان الذي يتعامل مع الآلة مثلاً في المصنع، تجده غالباً عديم الإيمان، أو قليل الإيمان.
إما أن يكون غير مؤمن وإما أن يكون غير مكترث أصلاً بهذه القضية، لا تعينه في قليل ولا كثير ولا يفكر فيها، ولا يصغي سمعه لمن يحدثه عنها، لأن بينه وبين صنعة الله تعالى واسطة، فهو يتعامل مع صنعة المخلوق، وطبعاً ينسى المخلوق الذي صنع هذه الآلة، بل ينسى نفسه لأنه مستغرق فيما بين يديه، ولكن الفلاح، أو الطبيب، أو نحوهم ممن يتعاملون مع صنعة الخالق مباشرة، هم أقرب إلى الإيمان، وأحرى بالتصديق، فهو ذكر العلامات هنا في الأرض، ثم ذكر العلامات في النفس، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] .
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] فكل شيء مكتوب عند الله تعالى، في اللوح المحفوظ، وهو في السماء، ففيه كل شيء، كما أن المطر ينزل من السماء فتحيا به الأرض، ويقوم عليه رزق الكثيرين من الناس.(14/14)
الأنبياء مع أممهم
بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات:24-46] .
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، صلوات الله وسلامه على نبينا محمد، وسائر رسله وأنبيائه أجمعين.(14/15)
قصص الأنبياء فيها العبرة والعظة
هذا المقطع الذي قرأناه الآن من قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] يعالج موضوعاً مهماً وهوقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من قصة إبراهيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] إلى لوط، إلى عاد، إلى ثمود، إلى فرعون، إلى نوح، فهذا المقطع يعالج قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما حصل لهم مع أممهم، والعاقبة التي صاروا إليها.
أما علاقة هذه القصص بما قبلها من الآيات في السورة من قوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] إلى قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] إلى قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] إلى قوله: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) [الذاريات:15] العلاقة هي مصيرهم في الدنيا وفي الآخرة وهذا هو الرابط بين أول السورة وبين وسطها، وذلك أنه بعدما ذكر في الآيات السابقة مسألة الدين والجزاء والحساب يوم القيامة، التي بدأت بها السورة، وأقسم الله عليها، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] فذكر في أول السورة أن ثبوت الجزاء بعد البعث، ومصير المؤمنين والكافرين، ثم ذكر هنا نماذج من الأمم والأقوام المكذبة، وما جرى لهم في الدنيا من العذاب والنكال وما ينتظرهم في الآخرة من السلاسل والأغلال، فهذا جزء من الرابط بين أول السورة وبين وسطها، وهذا السياق القرآني في قصص الأنبياء، يرد كثيراً في القرآن الكريم، بل لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن، من قصص للأمم السابقة، وكثيراً ما يوجه الله تعالى أنظار عباده إلى هذه القصص، لما فيها من العبرة، فأما العبرة للمؤمنين فهي تسلية لهم وتسرية وطمأنة لقلوبهم، أنه مهما طالت الدنيا فهي قصيرة، وهذا مصير أعداء الله ورسله، فتطمئن قلوبهم، ولهذا قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] كذلك فيها عبرة، ووعيد وتهديد للكافرين أنفسهم، فبقدر ما فيها تسلية للمؤمنين فيها وعيد على الكافرين: أن تربصوا، وانتظروا، وافعلوا ما شئتم! فهذا هو المصير الذي ينتظركم(14/16)
سنة الله في عباده لا تتخلف
وفي هذا القصص إلهام عظيم، لا يغفل عنه إلا من كان قلبه في تيه بعيد، هذا الإلهام هو أن سنة الله في عباده لا تتخلف، فالسنة التي جرت على قوم نوح، هي التي جرت على قوم موسى، وهي التي جرت على عاد، وثمود وعلى سائر الأمم، وهي التي جرت على العرب المكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي جرت على المعاندين بعد الرسول عليه السلام، وهي التي تجرى اليوم على أعداء الله، وهي التي تجري غداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالسنة واحدة، فما هذه السنة؟ السنة أن الله تعالى جعل البقاء والعاقبة للحق، وجعل الزوال والضياع للباطل، وإن أجلب الباطل بخيله ورجله، وكثر أعوانه وهيلمانه وسلطانه، إلا أن الله تعالى قضى أن الباطل لا بقاء له، فإذا نظر المؤمن إلى هذا، عَلِمَ أن ما تقوم عليه الدول الكبرى والعظمى -كما يسمونها- التي تقوم على الباطل، وتنصر الباطل، وتجحد الحق، وتُلَبِّسُ على الناس، أن مصيرها إلى زوال، وأيقن يقيناً مثلما يوقن أن الشمس سوف تطلع اليوم، أن بناء الباطل إلى زوال، وإن مكنه الله تعالى عشرين أو ثلاثين أو ثمانين أو مائة سنة، فنحن نعلم أن هناك دولاً من الدول الرومانية، ومن الأمم السابقة، كان لها مكان ثم بادت واندثرت، وإن كانت عمرت من السنين ما شاء الله تعالى، فلا يُغتر بسطوة الباطل وطغيانه.(14/17)
دروس من قصص القرآن
قصص الأنبياء فيها عبرة وتسلية للمؤمنين، وفيها وعيد وتهديد للكافرين، وكثرة ذكر القصص في القرآن الكريم، يؤخذ منه دروس:(14/18)
الإنسان بحاجة إلى التذكير
الدرس الأول: أن الإنسان بحاجة إلى التكرار، فإن من طبيعة الإنسان أنه يغفل وينسى، وقد لا يفهم من أول مرة أحياناً، فالعليم به -سبحانه- جعل هذا القرآن مثاني، وكرَّر فيه الآيات والعبر، وصرَّفها وذكرها بوجوه مختلفة، حتى تستقر في ذهن الإنسان، أكثر قصة وردت في القرآن الكريم من قصص الأنبياء، هي قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذكرت في مواضع كثيرة، كما تجدها مثلاً في سورة البقرة، تجدها في العديد من السور، بل لا يكاد يذكر الله سبحانه قصص الأنبياء، إلا ويذكر قصة موسى، وأحياناً يذكر قصة موسى فقط، ولا يذكر معها غيرها من القصص، فهذا التكرار يفيد أنه لا يكفي في الأمر أن يقال مرة واحدة حتى يفهمه الناس، فبعض الدعاة إذا تكلم في الموضوع مرة واحدة، ظن أنه كفى ولا داعي لتكراره! لا، القرآن يدل على أنه ينبغي أن يكرر الإنسان، لأن المدعو قد ينسى، وقد يغفل، وقد يغلب عليه الشيطان إلى غير ذلك، فينبغي أن يكون هناك تكرار للمعاني المهمة، التي يراد ترسيخها في النفوس.(14/19)
الإنسان بحاجة إلى التنويع
الدرس الثاني: أنه مع التكرار ينبغي أن يكون هناك تنويع، فإنك تجد أن القصص في القرآن الكريم، لا تُذكر بعبارات واحدة، بل تغير، وأحياناً يكون فيها تطويل، وأحياناً يكون فيها اختصار، وأحياناً يكون فيها توسط، وأحياناً يذكر جوانب من القصة، وأحياناً يذكر جوانب أخرى، وفي كل موضع يبرز جانباً من الأحداث، لا يبرزه في الموضع الثاني، وتجد أن القصة تفهم من مجموع المواضع، فهذا يدل على أنه مع التكرار ينبغي أن يعتني الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، بالتنويع في مخاطبة الناس بالأساليب المختلفة، حتى يستحوذ على اهتمامهم.(14/20)
أهمية القصة في حياة الإنسان
الدرس الثالث: يبرز أهمية القصة في حياة الإنسان، وأنه ينبغي أن يحرص الداعية والواعظ على عرض بعض القصص وذكرها، مما يكون فيه عبرة للناس، دون أن يدعوه هذا إلى إيراد القصص المكذوبة، فمثلاً إذا أراد أن يتحدث عن التائبين، والتوبة، وفضل التوبة فلا مانع، بل ينبغي أن يورد بعض قصص التائبين، لما فيها من تحريك القلوب، وإغراء النفوس بأن تسلك مسلكها، وفي ذلك تأثير على السامع، ولكن لا ينبغي أن يجره هذا إلى التساهل في إيراد قصص موضوعة مكذوبة، ولو صُدِّرت بلفظ مثلاً: حدثني ثقة، وأخبرني شخص صدوق، أو ما أشبه ذلك، فلا ينبغي التساهل في إيراد القصص المكذوبة، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لما أورد قصص الأنبياء، كما في قصص يوسف، قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111] إذاً لم يكن حديثاً مكذوباً مفترى، ولكن كان عين الواقع وعين الحادث.(14/21)
وقفة مع قصة إبراهيم عليه السلام
ذكر الله تعالى في هذا السياق قصص مجموعة من الأنبياء، أولهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعمق الروابط وأقواها، فهو أبونا عليه الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، وكان مجدداً لشريعته ودينه، بل هو دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم {أنا دعوة أبي إبراهيم} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] إذاً السياق هنا يبرز جانب الضيوف، أول ما تحدث ما قال: هل أتاك نبأ إبراهيم، قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات:24] إذاً الموضع هذا من القصة يعتني بإبراز جانب الضيوف، وماذا جرى لهم، وكانوا مجموعةً من الملائكة، جبريل ومعه مجموعة من الملائكة، جاءوه في صورة شباب، فيهم من الجمال الشيء العظيم، على ما هو ظاهر، فجاءوا إليه، ودخلوا عليه وسلموا، قالوا: سلاماً، قال: سلام قوم منكرون! وأبرز ما ذكر الله تعالى في صفة هؤلاء الضيوف أنهم مكرمون: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] لأن إبراهيم بالغ في تكريمهم والحفاوة بهم، ويظهر هذا من خلال عدة أمور: أولاً: دخلوا عليه فقالوا: سلاماً، قال: سلام، فهذا أول الكرامة، أنه رد عليهم التحية بأحسن منها، فإن الرفع أثبت من النصب، فكأنهم قالوا: نسلم سلاماً فقال هو: عليكم سلام، مبتدأ وخبر، والجملة الاسميه دائماً تدل على الثبات والاستقرار والاستمرار، فكان رده أبلغ وأحسن من سلامهم، قالوا: سلاماً، قال: سلام.
ب/ إحضاره العجل: ثم قال: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] وكلمة "راغ" معناها: ذهب إليهم خفية، إذاً هو تسلل إلى أهله، ولماذا لم يذهب علانية؟ هذا من التكريم لهم أيضاً، فإن الرجل المضياف يتسلل خفية عن الضيوف، ليقول لأهله: أعدوا الطعام، حيث طعام لا مَنَّ فيه، ولا أذى، ولا إعلان، أما الإنسان البخيل، أو الذي لا يحب أن يطعم ضيوفه، فماذا يصنع؟ إذا جاءه الضيوف وقف أمامهم وقال: هل تريدون شيئاً؟ تحبون أن أصنع لكم طعاماً، تشتهون شيئاً، وبدأ يعرض، لأنه يريد أن يقول الضيوف: لا نحتاج شيئاً بارك الله فيك، كأنما أكلنا وشربنا، لماذا؟! لأنه بخيل.
أما الكريم فإنه يروغ خفية وبسرعة إلى الأهل وتلطف، ليطلب إليهم صنع الطعام، حتى يأتي الطعام للضيوف قبل أن ينتظروه، وقبل أن يترقبوا، فهذا أيضاً من الكرامة للضيوف، أنه راغ إلى أهله.
{فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] والفاء هنا يقول أهل اللغة عنها: إنها من حروف العطف والترتيب والتعقيب يعني: أنه جاء بعجل سمين بسرعة، بخلاف "ثم" فإنها تدل على التراخي، أما الفاء فتقول: قام فقعد، تدل على أنه قعد بعد قيامه مباشرة، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وهذا أيضاً من الكرامة، فإنه عليه السلام استعجل أهله في صنع الطعام للضيوف، وسرعان ما قدم للضيوف عجلاً سميناً، وهنا أيضاً قال: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ما قدمه إليهم وقال: قوموا إلى الطعام! كما هي عادة الناس اليوم، بسبب تغير طبيعة الحياة ونمطها، أصبح الإنسان يُقدِّم الطعام في مكان، ثم يقول للضيوف: هلِّموا إليه، فيقومون من مكانهم إلى صالة الطعام، وهذا على كل حال من عادات الناس.
لكن نبي الله عليه الصلاة والسلام، قدم الطعام {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وفي الآية التي بعدها، قال: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:27] وأدناه منهم، بحيث لا يكون عليهم مشقة في القيام إليه، وهذا أيضاً من الكرامة.
ج) صفة العجل: وقوله: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:6] وجاء في الآية الأخرى {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] والعجل فيه: الصفتان، أما صفته الأصلية فهو أنه سمين، وهو ما كان يملكه عليه السلام، فأعطاهم أجود وأسمن ما يملك من الذبائح، ثم إنه صنعه بطريقة خاصة، طريقة الشي (شواه لهم) وهذا معنى قوله: {حَنِيذٍ} [هود:69] فهو سمين من حيث خلقته، وحنيذ من حيث صنعته {فقربه إليهم قال أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] وهذا أيضاً من الكرامة، فإن هذا أسلوب العرض في لغة العرب، ما قال: تقدموا كلوا، لا، قال: ألا تأكلون، ألا تتفضلون فتتناولون شيئاً من الطعام، ففيه أسلوب العرض المؤدب، البعيد عن مايفهم منه الأمر أو الطلب، وكل هذا من الكرامة، ففي ذلك دليل على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هو قدوة للمصلحين في الكرم والجود، وأنه ينبغي للإنسان الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، أن يكون كريماً جواداً، في عطائه، وفي ضيافته، بل وفي علمه أيضاً، فيبذله للناس، وفي دعوته، وفي طِيْبِ قوله، وفي كل شيء، والكرم لا يتوقف على المال، فقد يُعطى الإنسان مالاً لكن مع المن والأذى! فلا يفرح به آخذه، ولكن هشاشة الوجه، وطلاقته، وبشاشته، وطيب الكلام، وحسن الاستقبال، كل هذا من أعظم ألوان الكرامة، فينبغي للداعية أن يتحراها، ويحرص عليها، بل وعلى كل خلق كريم جبلت عليه الفطر السلمية، وجاءت به الشرائع الإلهية، فحسن الخلق عموماً مما أطبقت عليه الشرائع، واستحسنه الناس على كافة طبقاتهم، حتى أسوأ الناس خلقاً، وأشد الناس طبعا، ً تجد أنه يرتاح للخلق السليم، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أما شراسة الطبع، وغلظ الخلق، والجفاء، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة، فهي لا تأتي بخير، لم يأتِ بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا أقروها، ولا رضوها، فأولى بأتباعهم أن يبتعدوا عنها.
وفي القصة التي ذكرها الله تعالى عن إبراهيم إجمال، فإن قوله -مثلاً- هنا: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات:28] أوجس الخيفة منهم لأنهم لم يأكلوا الطعام، فهم كانوا ملائكة، لا يطعمون، ما خلقت أجسادهم للطعام والشراب، بل هم مستغنون عن ذلك، فلهذا لم يأكلوا، وهو لم يعلم حقيقتهم بأنهم ملائكة، بل عاملهم بمقتضى ما ظهر له من بشريتهم، فلمَّا رأى أيديهم -كما جاء في الآية الأخرى- ((فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود:70] إذاً الخيفة التي أوجسها هنا: هي أنهم لم يأكلوا، ففي الآية طيِّ، والتقدير: فقربه إليهم قال: ألا تأكلون، فلم يأكلوا! ولم تمتد أيديهم إلى الطعام، فحينئذٍ نكرهم وأوجس منهم خيفة أن هؤلاء القوم قد يكونون أضمروا شراً! وقد قيل: إن من عادة العرب أن الضيف إذا أكل لم يغدر بأهل المنزل، فإذا نوى وأضمر غدراً فإنه لا يأكل عندهم، ولهذا جرت عادة العرب عندنا أنه إذا جاء الضيف قالوا له: مالح، يعني كل من الطعام، لأنه إذا أكل من الطعام اطمأنوا إليه، أما إذا لم يأكل دلَّ على أنه يضمر بهم شراً وغدراً.(14/22)
وقفة مع قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً)
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات:37] أي أن الله تعالى أهلك قرى قوم لوط، ولم يذكر ها هنا أيضاً كيف أهلكهم، وقد ذكر في آيات أخرى أن الله تعالى أمر جبريل فرفع قراهم ثم قلبها عليهم، وأمطر عليهم زيادة على ذلك حجارة من سجيل منضود {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [الذاريات:34] يعني معلمة، كل حجر فيه اسم صاحبه الذي هو موجه إليه، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] هذه الآيات تلهم سنة من سنن الله تعالى، أنه حيثما وجد الانحراف والشذوذ جاء عقاب الله، فيأخذها المسلم حتى ولو كان لا يعلم من واقع العالم شيئاً، لأن هذه سنة واضحة، الذي عاقب قوم لوط يعاقب غيرهم، السنة واحدة، والطبيعة والبشر واحد، والله تعالى حكم عدل، لا يمكن أنه يعاقب قوم لوط، ويترك غيرهم دون عقاب.
انظر في واقع الناس اليوم، واقع العالم الفاسد الفاجر، في أمريكا وروسيا، وفي جنوب شرق آسيا، وفي كل مكان، حيث توجد الرذيلة الآن، ويوجد الشذوذ الجنسي بألوانه، من اللواط، وما يسمى بالجنس الثالث، إلى السحاق، إلى ألوان الانحرافات، إلى الجنس الجماعي، إلى غير ذلك من ألوان الانحراف الخلقي، التي لم توجد في الأمم السابقة والله أعلم، هل نجوا من عقاب الله؟! جاءهم العقاب نفسه فلا تغتر بالألفاظ والألقاب، الآن ما يسمى بمرض الإيدز، هذا الذي يهدد مئات الملايين من الناس، خاصة فيما يسمى بالبلاد السياحية التي تكثر فيها الرذيلة، وغالباً ما يكون هذا المرض بسبب الشذوذ الجنسي، لأن الرجل الذي مع زوجته ما أصابه هذا المرض، أصاب المنحرفين، وبصفة خاصة الشاذين، وعجز الطب عن علاجه على رغم المراكز المتخصصة في العلاج! وعلى رغم الأبحاث والجوائز، وعلى رغم الجهود الكبيرة، إلا أن هذا المرض كل يوم يفاجئ العلماء من جديد، حتى إن من آخر ما قرأت عن هذا المرض: أن أحد العلماء يقول: حير العلماء أنهم وجدوا أن مرض الإيدز يوجد في بعض الأجساد، دون أن يتمكن الأطباء من اكتشاف جرثومته، التي تكون سبباً في وجوده! يعني يجد في الأصل أن هناك جرثومة تنقل المرض، أو يكون وجوده بسببها، لكن وجدوا الآن أن هذا المرض يوجد في أجساد دون أن يعثر الأطباء أو يكتشف الأطباء هذه الجرثومة في جسد المريض! ومع ذلك لم يستطيعوا أن يعثروا له على علاج، ويقول الأطباء: أن هذا المرض إذا استمر في تزايده وتكاثره، على النسبة التي هو عليها الآن، فإنه يهدد حياتهم.
فإذا نظرت إلى أهل الإيمان والتوحيد، وجدتهم بحمد الله بمنجاة من هذا، إلا من شذ منهم وفعل ما فعله الكفار، فالعقوبة أيضاً واحدة، والله تعالى حكم عدل، فلا ينجو هذا من هذه العقوبة لأن اسمه إسلامي، أو لأنه من بلد إسلامي، ولهذا تجد هنا في هذه البلاد، تجد عدداً من المصابين بهذه الأمراض والعياذ بالله ينامون في مستشفياتها، لكنه بلا شك لم يتحول إلى ظاهرة تخيف إلى الآن، كما هو الحال في أمريكا مثلاً أو في تايلاند، أو في غيرها من البلاد، والعجيب في الأمر أن تجحد وتكتم نسب وجود هذه الأمراض، ولا أدري أي مصلحة، وأي عيب في أن تعلن وزارة الصحة أو أي وزارة في العالم الإسلامي، أن هذا البلد فيه عدد من حالات الإيدز هي كذا! لنجعل الناس ينتبهون ويستيقظون، ويتعظون، ويعتبرون، وهذا ليس ناتجاً عن تقصير بالضرورة من أحد، وإن كان ناتجاً عن تقصير فهذا التقصير ينبغي أن يتدارك ويتلافى، وإذا كنا نعطي الشباب فرصة أن يسافروا إلى هناك، ونعطيهم التخفيضات والتسهيلات، والمساعدات، ونسهل لهم الإجراءات، فينبغي أن يعدل هذا ويصحح، ويمنع شباب الأمة أن ينهمكوا في الرذيلة التي تدمرهم دنيا وآخرة، فالعقوبة واحدة، وما أصاب قوم لوط يصيب غيرهم، ليس بالضرورة حجارة تنزل من السماء مسومة معلمة لأصحابها.
المهم عقاب دنيوي عاجل من الله تعالى.(14/23)
البشارة بالولد
ولما رأوا -هم- أثر التوجس عليه والاستغراب والإنكار! {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] فانتقل الحال من الخيفة إلى البشارة في لحظة واحدة! بشروه بغلام وقد كان لم يولد له، فبشروه على حين الكِبَر! ولهذا قال في الآية الأخرى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر:55] {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] يعني: صيحة عظيمة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات:29] لطمت وجهها وضربت جبينها {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29] سبحان الله! تقول: لما كنت بنتاً في سن الإيلاد لم أكن ألد، بل كنت عقيماً، والآن مع ذلك أصبحت عجوزاً، فكان من العجيب جداً أن تلد وهي عجوز، على أنها كانت عقيماً في سن الشباب، تعجباً وذهولاً! لأن الإنسان يألف الحال التي هو فيها، وإن كان يؤمن بقدرة الله تعالى، وأن الله تعالى لا يعجزه شيء: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:30-34] فأخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط المجرمين، ثم خرجوا من عنده بعد ما بشروه بهذه البشارة، وأخبروه بهذا الخبر، خرجوا من عنده إلى هذه القرية قرية سدوم، التي هي من قرى قوم لوط المؤتفكة، التي قلبها الله -تعالى- على أصحابها، فأخرج الله تعالى من كان فيها من المؤمنين قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] فهؤلاء القوم، بيت لوط ومن معه، اجتمع فيهم وصفان: الإيمان والإسلام، ولا شك أنه إذا وصف بالإيمان؛ فهو مسلم من باب الأولى؛ لأنه إذا ذكر الإيمان والإسلام دل كل واحد منهما على معنى، فالإيمان يدل على العمل الباطن، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأما الإسلام فيدل على العمل الظاهر، فهؤلاء اجتمع فيهم الإسلام والإيمان، ولا شك أن الإيمان مرتبة أعلى كما في حديث جبريل، فالله تعالى وصفهم بالوصفين، فقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] فوصفهم بالإيمان {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] فوصفهم بالإسلام أيضاً، أما إذا ذكر أحد هذين الأمرين دون الآخر، فإنه يدخل فيه الثاني تبعاً، فإذا قلت مثلاً: الإيمان، دخل الإسلام فيه، فلا يتصور أن تذكر إنساناً مؤمناً ويكون غير مسلم، بل يكون مسلماً من باب الأولى، وكذلك إذا قلت: الإسلام، دخل فيه الإيمان من حيث أصله، فإذا قلت: إن هذا إنسان مسلم معناه، أنه مؤمن بالله وكتبه وكتبه ورسله واليوم الآخر أيضاً، ولكنه مع ذلك مقيم للفروض والواجبات، وأركان الإسلام.(14/24)
وقفة مع قصة موسى عليه السلام
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:38-40] أيضاً هذه قصة موسى وهي من أكثر ما يرد في القرآن الكريم.(14/25)
طغاة العالم اليوم
والسنة ماضية، فأنت الآن لو نظرت إلى طغاة الدنيا، وجدتهم ملء السمع والبصر، من هو الذي لا يعرف رئيس أمريكا جورج بوش! الكل يتحدثون باسمه، العجائز، والكبار، والصغار، والأطفال، وينظرون إليه، ويسمونه رئيس العالم! والعبارات في مدحه والثناء عليه، خاصة في منطقة الخليج العربي، والكويت، صباح مساء، وأشياء تسبب التقيؤ لمن يقرؤها! تدل على الانهيار التام الذي وصل إليه هؤلاء، اصبر عليه، أياماً معدودات، ولنفترض أنه رشح مرة أخرى، فاصبر عليه سنوات أيضاً، ثم ينتهي ويموت ويصبح ذكرى، يتذكرها الناس، فيشتمونه ويلعنونه.
وهكذا صدام حسين كوجه آخر طغى وتجبر، وأذل الناس، وقتل مئات الألوف من الناس، سواء من الأكراد، أو من المسلمين، أو من غيرهم، أو من أفراد شعبه الذين يزج بهم في المهالك، والمعارك دون حساب، لكن تربص به ريب المنون، سنوات ثم يهلك هذا الإنسان.
تذكر الخميني طال عمره حتى ارتاب بعض الناس، كلهم يترقبون خبر موته، لا يأتي خبر موته، على رغم كبر سنه، ثم أخذه الله تعالى في ليلة وانتهى أمره، وكأنه ما مشى على ظهر الأرض، وكأنه لم يتحدث، وكأنه لم يخطب في هذه الجماهير، فيا سبحان الله! هذه الدنيا عاتية على الجميع، الكبير والصغير، والغني والفقير، فالإنسان يتأمل في قصص هؤلاء وعبرهم، يتذكر أنه هو أيضاً واحد من هؤلاء سوف يمضي، ولا ينفع الإنسان إلا عمله الصالح، حتى أنه لا ينفعه مدح الناس له، إلا أن يكون مدحاً بالخير الديني الشرعي من باب {أنتم شهداء الله في الأرض} .
فهذا أخذ الله تعالى للطغاة من فرعون إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40] .(14/26)
سبب تكرر ورودها في القرآن
ومن أسباب تكرر ورودها في القرآن أن بين قصة موسى وقصة محمد صلى الله عليه وسلم وقومه شبهاً كبيراً، فإن موسى له أتباع كثيرون، كما لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهاجروا من بلادهم كما هاجر محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وكتب الله تعالى لهم تمكيناً في الأرض، كما كتب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فلذلك بين القصتين شبه عظيم؛ ولذلك يكثر ذكر قصة موسى، فقد ذكر الله هنا أنه بعثه إلى فرعون بسلطان مبين أي حجة ظاهرة قوية، فتولى فرعون بركنه وأعرض، واتهم موسى بأحد تهمتين: إما ساحر، أو مجنون، وهي التهمة نفسها التي اتهمت قريش بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] وتولى هذا الرجل وأعرض، وأصر على كبريائه وغطرسته؛ فأخذه الله تعالى وجنوده، والأخذ هنا يدل على شدة العقاب، كما يدل على شدة طغيان فرعون، وكثرة حشمه وخدمه وأتباعه، فما أغنى عنه جنده شيئاً! وفي هذا أيضاً درس للطغاة والمستكبرين.(14/27)
درس للطغاة والمستكبرين
إذا كان في قصة لوط وقومه درس للفاسدين، والشواذ، والمنحرفين، ففي قصة فرعون وقومه درس للطغاة والمستكبرين، ففرعون كان يملك مصر، وبنى هذه الأهرامات الشامخة التي لا تزال قائمة إلى اليوم، وكان له جيوش جرارة، حتى إن بعض العلماء قالوا في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر:10] قالوا: إنه كان يملك الجيوش الجرارة الضخمة.
وأيضا فرعون كان له أجهزة أمنية متطورة، مباحث واستخبارات، وقوى عجيبة، ولهذا يقول فرعون يخاطب في بعض خطبه التي يلهب بها مشاعر الناس {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54-56] (حاذرون) هذه الكلمة تحتها معاني، أي نحن يقظون ومنتبهون، ونعلم جيداً كل ما يجري، ولا يغيب عنا شيء، ولدينا أجهزة تأتينا بكل الأخبار، فنحن حذرون من موسى ومن معه، فما أغنى عنه هذا شيئاً (فَأَخَذْنَاهُ) لاحظوا الأخذ، بقوة (وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ) -سبحان الله! - لاحظ كلمة (نبذناهم) أيضاً، مثلما الإنسان يأكل التمرة ثم ينبذ النواة أي يلقي بها، أو ينبذ الأشياء التي لا قيمة لها، هكذا الله سبحانه وتعالى أخذ فرعون ثم نبذه، ألقاه في اليم غير مأسوف عليه، (وهو مليم) آت بما يلام عليه ويعاقب عليه، فتصور حال هذا الطاغية، أمس يخطب في الجماهير ويرعد، ويزبد، ويرغي (َ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51-52] واليوم (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] قال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] فيقذفه البحر على الساحل جثة هامدة، هذا إلهكم الذي كنتم تعبدون! وفي الحديث الصحيح أن جبريل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في المسند وغيره {يا محمد! كيف لو رأيتني وأنا آخذ من خبال البحر -يعني طين البحر الأسود المغرب- فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة} .
لما قال: آمنت، خاف جبريل أن تدركه الرحمة، لما يعلم من سعة رحمة الله تعالى، فكان يأخذ من طين البحر ويملأ بها فم فرعون، سبحان الله! {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] ذلك الإنسان الذي استكبر في الأرض، وطغى وتجبر، ماذا بقي الآن من فرعون، وهامان وقارون والنمرود وبختنصر وأبي جهل، وأبي لهب، والطغاة عبر العصور، ماذا بقي منهم؟ ما بقي منهم شيء إلا الذكر: وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى(14/28)
وقفة مع قوم عاد
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] وقد ذكر الله تعالى تفصيل قصتهم في مواضع، اقتصر هنا على نوع العقوبة وهي الريح العقيم، أي: التي لا تثمر ولا تنبت، لأن من الرياح ما يلقح، ومنها ما يسوق السحاب، ومنها خير، أما هذه فهي ريح عقيم، لا تأتي إلا بالعذاب، قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات:42] يعني مما تدمره الريح، إلا دمرته قال تعالى: ((ِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] وهذه الريح التي أرسلها الله تعالى على قوم عاد اسمها الدَّبوُر.
ريح الدبور.
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث ابن عباس {نُصِرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} فالريح من جنود الله تعالى.(14/29)
وقفة مع قوم ثمود
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} [الذاريات:46] يعني قبل هذا كله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات:46] .
إذاً: ذكر في هذا السياق عدداً من الأخبار، وعدداً من الأمم التي أهلكت، فذكر قوم لوط، وأنهم أهلكوا، بأن الله تعالى قلب قراهم، ثم أرسل عليهم حجارة من سجيل منضود، ثم ذكر الله تعالى فرعون وأن الله تعالى أخذه وقومه بالغرق، ثم ذكر الله تعالى عاداً، وأن الله تعالى أرسل عليهم الريح، ثم ذكر الله تعالى ثمود، وأن الله تعالى أرسل عليهم الصيحة، ثم ذكر قوم نوح، وأن الله تعالى أهلكهم بالغرق، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] هذه بعض جنود الله، الماء بعض جنود الله، والصيحة بعض جنوده، والريح بعض جنوده، والمرض بعض جنوده، والغرق بعض جنوده، والطوفان بعض جنوده، والزلازل بعض جنوده، والملائكة من جنوده، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فليطمئن بالاً المؤمنون المستضعفون المعذبون في كل مكان، فإن الدائرة لهم على عدوهم، ولا يغترن أقوام مد الله تعالى لهم في الأجل، وبسط لهم في الرزق، ومكَّن لهم في الأرض، فطغوا على عباد الله، فإن عقاب الله تعالى لهم بالمرصاد، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] نسأل الله تعالى أن نكون من المعتبرين.
قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:47-60](14/30)
وقفة مع آيات الله الكونية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(14/31)
الاستغفار مع وجود المعصية
وهنا
السؤال
لو استغفر من قلب صادق وهو مقيم على المعصية، هل ينفعه ذلك؟ الاستغفار باللسان إذا كان من قلب صادق، يرجى أن ينفع صاحبه ولو كان مقيماً على المعصية، لأن الاستغفار من الأعمال الصالحة ولا شك، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] لكن لا يلزم أن يكون الاستغفار ماحياً للذنب بالكلية في هذه الحالة، مثل التوبة إذا تحققت شروطها، ولكن الاستغفار يخفف بإذن الله تعالى من حرارة الذنوب وشدتها، ويقاوم بعض ما يصدر منها، ولهذا على العبد أن يستغفر، ولا يترك الاستغفار لأنه مقيم على المعصية أو الذنب، فلابد إذاً من الاستغفار، ومع الاستغفار فإن الفرار إلى الله تعالى يكون أيضاً بأمر آخر، وهو الإقلاع عن الذنب، خاصة فيما يتعلق بالمصائب العامة.
مثلاً أمر الله تعالى بترك الربا، فإذا ابتليت الأمة بالمصائب بسبب وقوعها في الربا، لا يقال لها: العلاج هو أن تستغفروا الله تعالى، فيقوم الناس في المساجد يصرخون ويبكون، فإذا خرجوا من المسجد ذهب كل واحد منهم إلى بنك ربوي يتعامل فيه بمعاملة تسخط الله تعالى! هذا لا يكون على مستوى الأمة، فإن استغفار الأمة في مجموعها هو بترك المعصية، وفرق بين الذنوب الفردية، والذنوب العامة التي تصبح ظاهرات ملموسة في المجتمع.
مثلٌ آخر: أصيبت الأمة بهزائم عسكرية -مثلاً- وفرت من ميدان المعركة بسبب أنها ما أعدت جنودها الإعداد الصحيح، لم تبن الرجال العقائديين الذين يخوضون المعارك، ولم تصنع السلاح الذي يواجهون به خصومهم، ولم تستعد الاستعداد الكافي لمواجهة عدوها، ففرت من ميدان المعركة، فهل يكفي في ذلك أن تلجأ إلى المساجد وتقرأ القرآن؟ هذا لا يكفي، بل لابد أن يكون استغفارها حينئذٍ بفعل الأسباب، والطاعة لله تعالى، بإعداد العدة، سواء كانت عدة بتربية الرجال وإعدادهم، أو بإعداد السلاح، أو باتخاذ كافة الأسباب الداخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] .
إذاً قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] يومئ إلى القاعدة القرآنية العظيمة، وهي: أن ما أصاب الناس في دينهم أو دنياهم، فإنما هو بسبب أنفسهم، وأن المخرج من ذلك كله، هو بالفرار إلى الله تعالى، باستغفاره باللسان والقلب أولاً، وبتغيير الحال إلى ما يرضي الله جل وعلا.(14/32)
إثبات الزوجية لدى المخلوقات
قال تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] من الإنسان، والحيوان، والطير، وغير ذلك، بل إن بعض العلماء المعاصرين عمموا لفظ كل شيء مطلقاً، فقالوا: حتى الجمادات قائمة على أساس قاعدة الزوجية، وخرجوا من هذا إلى بيان أن الله تعالى تفرَّد بالوحدانية، وجعل من صفات خلقه الزوجية، فما من مخلوق من إنسان، أو حيوان، أو طير، أو جماد، إلا وفيه مبدأ الزوجية، أما الله تعالى فهو الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ما اتخذ صاحبة ولا ولداً.(14/33)
قل هو من عند أنفسكم
إذاً: هذه الآيات الثلاث هي تطويف بالإنسان في ملكوت السماوات والأرض، وفي كل شيء، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] ثم عقَّب على ذلك بقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الذاريات:50-51] وفي هاتين الآيتين، خاصة الآية الأولى منها إشارة إلى قاعدة مهمة هي واضحة، ولكنها تغيب عن الأذهان كثيراً، وهي أن كل ما يصيب الإنسان في نفسه، أو بدنه، أو أهله، أو ماله، أو ولده، إنما هو بسبب نفسه، ولا نجاة له مما أصابه إلا بإصلاح حاله، ولذلك قال هنا: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] قال بعض أهل العلم: كل شيء خفته فإنك تفر منه، إلا الله تعالى فإنك إذا خفته فررت إليه، والفرار إلى الله عز وجل يعني: الفرار إلى دينه، وطاعته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والتخلص من أسباب العقوبات، وهذا أمر يصدق على الفرد والجماعة، والدولة والأمة، وهي قاعدة قرآنية جليلة قرَّرها الله تعالى في غير موضع، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وهذا الكلام يصدق على المصائب الدينية، والمصائب الدنيوية، والله أعلم.
فأما المصائب الدنيوية، فأمرها واضح، مثل ما يصيب الناس من الكوارث العامة، كالقحط، والجوع، والخوف، وتسليط الأعداء، والتفرق، والقتال، والزلازل، وغيرها، فهي بسبب مصائب الأمة الدينية ومعاصيها، ومخالفتها لأمر الله عز وجل.
وكذلك المصائب الدينية، فالوقوع في معصية ربما يكون عقوبة على معصية أخرى قبلها، كما أن الطاعة تكون سبباً في الطاعة بعدها، ولهذا قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وفي سورة البقرة، قال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] وفي الحديث القدسي {من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة} .
إذاً: الطاعة ثمرتها الطاعة بعدها، والمعصية ثمرتها المعصية بعدها، وبناءً عليه فكل ما يصيب الإنسان فهو بسبب ذنوبه، والمخرج من كل بلاء، هو حسب التعبير المذكور في الآية نفسها، المخرج من كل بلاء هو الفرار إلى الله، الفرار إلى الله بترك الذنوب والمعاصي، والاستغفار أيضاً من الذنب والمعصية، فلابد أولاً من الاستغفار، سواء اللفظ باللسان، "أستغفر الله" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من أن يقول: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي} لقول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] وكان يحسب له في المجلس الواحد مائة مرة أستغفر الله وأتوب إليه، لكن لا يليق أن يستغفر العبد وهو مقيم على المعصية لا يفارقها، ولهذا ينبغي أن يشفع الاستغفار بالإقلاع عن الذنب.(14/34)
وقفة مع قوله تعالى: (بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)
المقطع السابق من السورة كان موضوعه قصص الأنبياء السابقين مع أممهم عليهم الصلاة والسلام، أما في هذه الآيات فهي دروس متعددة في الكون، وفي النفس، وفي التاريخ، تُطَوِّف بالإنسان في هذه الآفاق، وتبدأ بموضوع يتكرر كثيراً خاصة في الآيات المكية، وهو موضوع النظر في آيات الله تعالى الكونية، من السماء، والأرض، وما بينهما، وغير ذلك، فالله تعالى يذكر السماء، وأنه بناها، وكثيراً ما يعبر في السماء بلفظ البناء، البناء الدال على القوة والدقة، والإتقان، والصَنْعَةِ، بل قال سبحانه: {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] والأيد: معناها القوة، يعني: السماء بنيناها بقوة، تقول: فلان رجل أيِّد، يعني قوي، وليس المقصود -والله تعالى أعلم- الأيدي في هذا الموضع، مع أن الله تعالى ذكر في مواضع لفظ الأيدي، إثبات الأيدي له، كما في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً) [يس:71] وذكرها بلفظ التثنية أيضاً في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وأيضاً بلفظ التثنية: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وذكرها بلفظ الإفراد كما في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] وأيضاً {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وأيضاً {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يد الله ملأى لا تغيضها نفقة} لكن المقصود بهذا الموضع في سورة الذاريات، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] يعني: بنيناها بقوة، الأيد: هو القوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47](14/35)
ابتلاء الإنسان سببه الإيمان أم الذنوب
السؤال
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم {أن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وأن الرجل يبتلى على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه قوة وصلابة، زيد في بلاءه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه البلاء فكيف نجمع بين هذا الحديث الذي ظاهره أن الابتلاء يكون بحسب قوة الإيمان، وبين هذه الآيات التي سردنا شيئاً منها، والتي تدل على أن الابتلاء يكون بسبب الذنوب والمعاصي؟ كيف نجمع بين هذا وهذا؟
الجواب
إن المصائب نوعان:(14/36)
المصائب الفردية
النوع الأول: مصائب فردية، مثل المرض لفلان من الناس، أو وجود مصيبة اجتاحت ماله، أو موت ابنه، أو حصول الهم والغم في قلبه، مصائب ذاتية شخصية، فهذه منها ما يكون بسبب ذنب أو معصية، فيكون تنبيهاً لصاحبها، أو تكفيراً لذنبه، ومنها ما يكون رفعاً لدرجته، كالذي يصيب الأنبياء، ولهذا لما أصيب أيوب عليه السلام بما أصيب به من المرض والضر، قال له قائل: والله ما أصابه الذي أصابه إلا بذنب فعله، فقال عليه الصلاة والسلام: {والله لا أدري ما تقولون! غير أني أمرُّ فأسمع الرجل يحلف بغير حق، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنه، كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في خير} .
فالذنوب الفردية منها ما يكون لرفع الدرجات، كما هي الحال بالنسبة للأنبياء والصالحين، وأقوياء الإيمان، ومنها ما يكون عقوبة على ذنب، فيكون في ذلك تنبيه للإنسان.
مثل شخص مواقع للذنوب والمعاصي، وكانت معظم ذنوبه ومعاصيه في شأن المال، فهو يأخذ المال من الحرام، ويسرق، ويغش، ويخدع، ويأكل الربا، ثم جمع هذا المال واشترى به سيارة -مثلاً- فلما أخذ السيارة مشى بها بضعة أمتار، فإذا بسيارة أخرى تأتي فتضربها ضربة لم تبق منها ولم تذر، فتجد هذا الإنسان تلقائياً يشعر بأن هذا الجزاء جزاءً وفاقاً لعمله.
ومثله إنسان يعصي الله تعالى بعضو من أعضائه، فيجد أن الله تعالى سلَّط على هذا العضو داءً وبلاءً، فيشعر بأن الذنب مناسب للمعصية.
هذا النوع الأول وهو المصائب الفردية، وهي أنواع، منها ما يكون لرفع الدرجات، ومنها ما يكون لتكفير السيئات.(14/37)
المصائب العامة
النوع الثاني: المصائب العامة، وهذه كلها بسبب الذنوب والمعاصي، وهي التي وردت في القرآن الكريم، المصائب العامة ليست مصيبة فرد، بل مصائب الأمة، مثل فشل الأمة العسكري أمام عدوها، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] ومثل الموت العام، ومثل الآفات المنتشرة، ومثل القحط والجدب والسنين، ومثل تسليط الحكام وما أشبه ذلك، فهذه كلها أسبابها الذنوب والمعاصي، ولهذا قال بعض السلف: [[أعمالكم عُمالكُم]] أي: أن الله تعالى يقيض لكم من الحكام والولاة والأمراء بحسب أعمالكم، فإن كانت الأعمال صالحة قيض الله للأمة رجالاً صالحين، وإن كان الأمراء بضد ذلك قيض لبها رجالاً أشراراً، كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] .
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] أي: اهربوا إليه، والجأوا إليه، من معصيته إلى طاعته، ومن مخالفته إلى امتثال أمره.(14/38)
أعداء الرسل عبر القرون
الموضع الثاني: قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52-53] وفيه إشارة إلى أن مواقف الأمم المعاندة لا يتغير من وقت لآخر، فهو موقف ثابت عبر العصور، كل أمة جاءها رسول فكذبته، قالوا له ساحر أو مجنون، فمنهم من قال إنه ساحر وذلك لما يرون من قوة تأثير كلامه ووقعه في النفوس، ومنهم من قال مجنون إشارة إلى أنه بما هو مخالف وغير مألوف، ولهذا قال الله تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] ؟ هل أوصى بعضهم بعضاً بهذه الكلمات، فيرددها الأولون والآخرون؟ فهؤلاء يقولون: إن به سفاهة، وأولئك يقولون: به ضلالة! وهؤلاء يقولون: مجنون! وهؤلاء يقولون: اعتراه بعض آلهتنا بسوء، وهؤلاء وهؤلاء، هل أوصى بعضهم بعضاً بهذه الكلمات؟!! لا، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] .
إذاً: الدوافع واحدة والأسباب واحدة، فكانت النتيجة واحدة، جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم، ولم تعتد آذانهم سماعه، ولم تألف حياتهم هذه الأوامر والنواهي، فردوها ورفضوها وعيروا النبي بأنه ساحر أو مجنون، بسبب الطغيان الذي قام في نفوسهم، والطغيان: هو مجاوزة الحد، والله تعالى وصف أعداء دينه بالطغيان، في مواضع كثيرة، منها هذا الموضع {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] وفي ذلك إشارة إلى أن أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام على نوعين:-(14/39)
الشعوب والعامة من الناس
أما الفئة الثانية: فهي الشعوب أو الرعاع أو الدهماء أو العامة من الناس، وهؤلاء أيضاً يكون منهم طغيان بطغيان سادتهم، فمثلاً هذا الإنسان الأعزل الذي لا يملك شيئاً من الدنيا، وليس لديه علم ولا عقل، ولكنه مع ذلك يقوم في الإذاعة أو التليفزيون أو في الصحافة، أو على المنابر فيتكلم بالحط من شأن الدعاة إلى الله تعالى، واتهامهم بما هم منه براء، والتشكيك في نياتهم، وفي مقاصدهم، وفي أهدافهم، وفي أعمالهم، وفي مستقبلهم، وغير ذلك، هذا العمل الذي يقوم هو طغيان لاشك، لكن من أين استمد هذا الإنسان طغيانه؟ من الكبراء والسادة، لأنه يأوي في زعمه إلى ركن شديد، فهو يتكلم وهو يشعر بأن وراءه ظهراً يسنده ويشده ويؤازره، ولهذا عقَّب الله تعالى على هذا كله بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] أي: أعرض عنهم واستمر على دعوتك، وليس بضروري أن ترد على كل ما يقال في شأنك، فإذا قالوا: اليوم ساحر ليس بلازم أن النبي أو الرسول يأتي بأدلة أنه ليس بساحر والدليل أنه كذا وكذا، ولهذا لا نقول إن الرسول عليه السلام أجاب على دعواهم بأنه ساحر أو أجاب عليها، الله تعالى تولى الدفاع عنه أنه ليس بساحر، قالوا: شاعر أجاب عنه بأنه ليس بشاعر، قالوا: مجنون أجاب عنه بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] فقط نفى تكذيب لهذا الخبر، لكن هل نقل أنه جعل له رد ويأتي بالحجج والبينات إنه ليس بساحر، أو ليس بمجنون، ماذا يمكن أن يقول إنسان وصف بأنه مجنون؟ فكيف يثبت أنه ليس بمجنون، يأتي بأدلة يقول: أنا عندي كذا وأنا شأني كذا وأنا صفتي كذا، لا داعي، لماذا؟ لأن الذين أطلقوا عليه هذه الفرية، هم أعلم الناس بكذبها، وأنها اختلاق وأنها مجرد تشويش.
إذاً: فالحل هو الإعراض، ولهذا أمره الله بالإعراض في مواضع كثيرة، منها هذا الموضع {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] أعرض عنهم فيما ألصقوه بك من التهم؛ السحر والشعر والجنون وغيرها، ولا تلتفت إلى ذلك، واستمر في الدعوة، من أين أخذنا واستمر في الدعوة؟ من قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] أي: هؤلاء وإن أعرضوا، وحاربوا، وأجلبوا، واتهموا، وكذبوا، إلا أنهم لن يضروا إلا أنفسهم، أما من أراد الله تعالى له الهداية والقبول فإنه سوف تصله كلمة الحق مهما شوشوا في وجهها وأجلبوا، فاستمر في دعوتك وذكِّر واستمر على تذكيرك، وسينتفع بتذكيرك من أراد الله تعالى لهم أن يهتدوا ويؤمنوا.(14/40)
أهل المناصب والرياسات
النوع الأول: الكبرياء والسادة، أهل المناصب والرياسات والسياسات، فهؤلاء دائماً هم أول من يحارب الرسل والأنبياء، لأن دعوة الرسل والأنبياء خطرٌ يهددهم فعلاً، فهذا السيد المطاع الذي لا يخلف له أمر ولا إشارة، لأنه تعزز عليهم بأمر من أمور الدنيا، فإذا أطاع الناس الأنبياء افتضح هذا الإنسان وبان عوراه، ولهذا أبو جهل وأبو لهب ردوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الناس حين يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، سيكون أبو جهل وأبو لهب مجرد أتباع مثل غيرهم من الناس، ولن يكونوا سادة، وعبد الله بن أبي بن سلول في المدينة كان ينظم له الخرز حتى يملك على الناس، فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام قطع الطريق على هذه الرياسة الجاهلية الدنيوية، ولهذا غصَّ بالإسلام ولم يقبله بحال من الأحوال، حتى الصحابة أدركوا ذلك منه وقال بعضهم: يا رسول الله! ارفق به لقد أكرمنا الله بك وإنا لننظم الخرز له لنملكه علينا، فهو يرى أنك قد سلبته ملكاً كاد أن يبلغه، وقل مثل ذلك بالنسبة لفرعون وهامان وقارون، ولهذا ذكر الله تعالى في مواضع، أن الرسالة موجهة إلى هؤلاء أولاً قبل غيرهم، فمثلا موسى، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:24] موسى ما أرسل إلا إلى هؤلاء الثلاثة فقط؟ كلا، موسى أرسل إلى الناس، إلى بني إسرائيل كلهم وغيرهم، ولكن المقصود أن هؤلاء الثلاثة هم الرؤساء والسادة الذين جروا الأمة ورائهم إلى الضلال، ولهذا قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:18] .
إذاً: الدعوة توجه للكبراء وعلية القوم في هذه الآيات؛ لأنهم هم الذين يقودون أممهم، وهؤلاء غالباً هم أعداء الرسل، وهم الذين إذا رفضوا الدعوة بدءوا يحشدون العداوة لها، ويؤلبون الناس وضدها، هذا في الواقع ملموس جداً، الأمم الغربية الكافرة اليوم، هذا مثال لا يلزم أن تجد كل نصراني أو يهودي لو باحثته وحادثته وجدت عنده كراهية للإسلام وحقداً على الإسلام، قد يكون الكثير منهم لا يعرف الإسلام أصلاً ولا يدري عنه شيئاً، ولكن مع ذلك نحن نعلم يقيناً وقطعاً أن هذه الأمم الغربية هي التي سوف تحارب الإسلام والمسلمين، سواء في ميادين الحرب والمعركة أو في ميادين السلام، لماذا؟ لأن لهم زعماء وقادة يحرضونهم ويؤلبونهم، وإذا احتاج الأمر إلى تحريك هذه العداوات حركوها، مثل ما كان من قوم نوح، يقولون للشعوب: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] فيحركون العداواة عند الشعب ضد هذا الداعي.
إذاً الفئة الأولى: فئة الكبراء أو الأكابر أصحاب النفوذ والسلطان، وهؤلاء طغيانهم ظاهر لأن بأيديهم القوة التي يتسلطون على الناس.(14/41)
الغاية من خلق العباد
الوقفة الثالثة: في قوله جل وعز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وهذه من الآيات العظيمة، التي ذكر الله تعالى أن الخلق إنما خلقوا لأمر واحد، وهو أن يعبدوه تعالى ويوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، لم يخلقهم جل وعلا ليتكثر بهم من قلة ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليستغني بهم، فهو سبحانه الغني له ما في السماوات وما في الأرض، إنما خلقهم ليعبدوه وهو أيضاً خلق الخلق، الذين أراد أن يعبدوه، وخلقهم على نوعين:(14/42)
خلق الله الخلق على نوعين
النوع الأول: خلقوا للعبادة وجبلوا عليها، وهم الملائكة، ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)) [الانبياء:20] والملائكة كثرة، سبع سماوات ملأى بالملائكة، {أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك، واضع جبهته له تعالى أو راكع أو ساجد} وقد جاء في بعض الآثار أن أهل السماء الدنيا يقولون: {سبحان ذي الملك والملكوت} وأهل السماء الثانية يقولون: {سبحان ذي العزة والجبروت} وأهل السماء الثالثة يقولون: {سبحان الحي الذي لا يموت} ذكره محمد بن نصر المروزي وغيره، المهم أنهم يسبحون، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم البيت المعمور، {وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة} فاحسب كم عدد الملائكة، كل يوم منذ خلقت الدنيا إلى قيام الساعة يدخل البيت المعمور سبعون ألف ملك، ما يأتيهم الدور مرة أخرى إلى يوم القيامة.
إذاً عند الله تعالى عوالم من الملائكة، التي لا همَّ لها إلا التسبيح والطاعة للرب تبارك وتعالى، فهذا الصنف الأول.
النوع الثاني: هم الذين خلقوا للعبادة، وأعطوا الاختيار، وهم الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وهذا السر سر التخيير هو سر الجزاء، ولهذا قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} [الكهف:29] ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:31] وقال هنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] .(14/43)
أنواع العبادة
والعبادة أنواع: النوع الأول منها: الشعائر والقرب المحضة، مثل الصلاة، والصيام والحج الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير في الحج والعمرة مثلاً، هذه وأمثالها هي شعائر محضة، وقرب محضة، لا يلابسها شيء آخر، فالعبد لا يصلي لأن الصلاة تكون سبباً لجمع المال مثلاً أو يصلي لأن الصلاة قوة للبدن، كلا، بل يصلي لأن الله تعالى أمر بالصلاة، ولهذا يصلي الظهر أربعاً، ويصلي الفجر ركعتين، ويصلي المغرب ثلاثاً، ويبدأ صلاته بالقيام ثم يركع ثم يسجد ثم يقعد ثم يسلم، يبدأ بهذا الترتيب وبهذه الصفة التي شرعها الله تعالى، لأنها عبادة إذا قال لك: قم تقوم، وإذا قال: اقعد تقعد، وإذا قال: اسجد تسجد، وإذا قال: التفت تلتفت، وإذا قال: لا تلتفت لا تلتفت، ولهذا تجد في موضوع العبادة والقربة المحضة إبراز جانب العبودية، وأن هناك رباً يطاع وعبداً ينفذ، مثلاً في الصيام لا تأكل ولا تشرب ولا تجامع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لكن إذا غربت الشمس يكون فيه أمر لك بأن تأكل أو تشرب، لأن وقت التعبد انتهى في هذه اللحظة، وانتقلت العبادة من عبادة بالصوم إلى عبادة بالفطر.
ومثله في الإحرام مثلاً فالإنسان عند الإحرام ممنوع أن يلبس ثيابه، إنما يلبس ثياب الإحرام بالذات، ويمتنع من محظورات الإحرام التي منها: حلق الرأس مثلاً، ومنها: الطيب وتقليم الأظافر، إلى غير ذلك، فإذا انتهى من إحرامه كان مأموراً أن يحلق رأسه -مثلاً- أو يلبس المخيط، ويتنظف وغير ذلك، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ففيه معنى التعبد بغض النظر عن الفائدة الدنيوية المهم أنه فيه أمر تنفذه، ولهذا لا داعي أننا ندخل في موضوع التعبد المصالح العاجلة، يعني لا معنى في نظري أننا نأتي للصلاة، ونقول: الصلاة رياضة للأبدان، وفيها صحة وعافية وتنشيط، هذا الكلام لا فائدة منه، لأن هذا وإن قاله أحد لكن يبقى أن الصلاة عبادة أمر الله بها فتنفذها، أفادتك في الدنيا أم لم تقد، حتى لو ضرت تؤديها، لأن الله أمر بها والله تعالى لا يأمر بما يضر، ولكن جدلاً.
أما النوع الثاني: مما يدخل في معنى العبادة العام: هو القيام بما يحتاجه الإنسان في أموره الدنيا بنية صالحة، مثل: النكاح، والأكل والشرب، والنوم، والبيع، والشراء، وألوان التجارات، والعلوم الدنيوية، وتحصيل الصناعات وغيرها، فهذه الأشياء من الواضح أن هذه الأمور ليست من القرب المحضة والعبادات المحضة ولكن من الواضح أن الأمة تحتاجها وفي مجملها لابد للناس منها، ولهذا جاء الأمر بها، كما في قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] وغير ذلك إجمالاً فإذا استحضر العبد فيها النية الصالحة أُجِرَ على ذلك.(14/44)
الوعيد والعقوبة للذين ظلموا
الوقفة الأخيرة في قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:60] هذه الآية وعيد يؤكد أن العقاب الإلهي الذي نزل على الأمم السابقة، التي ذُكِرَت فيما مضى ينتظر كل من ساروا على الطريق نفسه، فكما أنهم اتفقوا في معارضة دعوة الأنبياء، وخاطبوا الأنبياء بعبارات واحدة ساحر أو مجنون، واتفقوا في الطغيان الذي أملى عليهم هذه المواقف، فكذلك العقوبة التي تنتظرهم واحدة، فلهم ذنوب مثل ذنوب أصحابهم، ولا يضير أنهم أمهلوا بعض الوقت حتى اغتروا، وقالوا أين العقاب، هانحن ممكنون معزون لم يصبنا شيء، استعجلوا العقوبة، فالله تعالى يقول: لا يستعجلون، فإن لهم ذنوباً وعقوبة مثل عقوبة من قبلهم، وويل لهم من يومهم الذي يوعدون، عقوبة دنيوية: مثل ما نزل بالأمم السابقة من الزلازل، والصيحات، والغرق، والطوفان وغير ذلك، وعقوبة أخروية: حينما يلقون الله تعالى.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ على محمد وعلى أصحابه أجمعين.(14/45)
نداء الفطرة بين الرجل والمرأة
الفطرة هي ما جبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة.
وقد ذكر الشيخ حفظه الله جوانب الفطرة الإنسانية وأشكالها لدى الإنسان؛ وأكد ارتباط الدين بها كإقرارها وموافقتها وتنظيمها وتزكيتها، مبيناً تعرض الفطرة للمسخ والتغيير والإلغاء في عدة أشكال وحالات؛ وأن الشيطان له دور في ذلك وكذلك دور الجاهلية القديمة والحديثة.(15/1)
حديث شريف عن الفطرة الإنسانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السماء جاءه جبريل عليه السلام بإناءين: في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل له: اختر أحدهما، فأخذ صلى الله عليه وسلم الإناء الذي فيه اللبن فشربه، فقال له جبريل عليه السلام: هُديت الفطرة} وفي لفظ: {أصبت! أصاب الله بك، أمتك على الفطرة} وهذا الحديث العظيم المتفق عليه هو حديثنا في هذه الليلة.(15/2)
فوائد من الحديث
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاث فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: أن الإنسان مفطور على أشياء كثيرة، خُلق عليها وجبل عليها، وهي ما تسمى بـ"الفطرة".
والفطرة: هي ما جُبل الإنسان عليه في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة، تلك الأشياء التي هي من مُقتضى الإنسانية، والتي يكون الإخلال بها أو مخالفتها خروجًا عن الإنسانية، إما خروجاً كلياً أو خروجاً جزئياً.
هذه هي الفطرة على أصح أقوال أهل العلم.
وهذا هو المعنى الذي اختاره عدد من العلماء: كـ ابن دقيق العيد، وابن القيم، والسيوطي، وغيرهم.
الفائدة الثانية: أن الإسلام بل الرسالات السماوية كلها جاءت موافقةً للفطرة، ومؤيدةً لها، ومنطلقةً منها؛ ولذلك كان الإسلام دين الفطرة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِينُ القَيّم} [الروم:30] وهكذا الرسالات السماوية الأخرى كلها جاءت موافقة للفطرة في الظاهر وفي الباطن.
الفائدة الثالثة: إن هناك وسائل ومناهج أخرى يمكن أن يسلكها الإنسان وهي معارضة للفطرة ومخالفة لها؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام أُتي بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر.
فالإناء الذي فيه اللبن: هو رمزٌ لإشباع الفطرة وتوجيهها بالطريقة الصحيحة التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام.
والإناء الآخر فيه خمر، وهو إشارة أو رمز إلى من يوجهون الفطرة توجيهاً منحرفاً، ويستغلون هذه الأشياء التي جبل عليها الإنسان استغلالاً سيئاً.
ولذلك سيكون حديثي في هذه الليلة في ثلاث نقاط: أولاها: ذكر الفطرة، والأشياء التي فُطر عليها الإنسان.
والثانية: هي ذكر موقف الإسلام من الفطرة.
والثالثة: هي ذكر موقف الجاهلية أو المناهج المنحرفة من هذه الفطرة.(15/3)
الفطرة الإنسانية -حقيقتها- أشكالها
فمن المعلوم أن الإنسان مفطورٌ على أشياء كثيرة: فالإنسان مفطورٌ على حب الحياة، والتعلق بالبقاء؛ ولذلك تجد أن الطفل -مثلاً- وهو صبي صغير، لو هددته بأن تسقطه من فوق جدار أو في بئر، أو ترمي به من سيارة؛ فإنه يرتعد ويبكي خوفًا من الموت والفناء، وهذه فطرة لا يحتاج الطفل إلى أن يتعلمها؛ بل هي مخلوقة معه.
ولذلك: تجدون أيضاً أن الصحف والإحصائيات في كثيرٍ من الأحيان تتحدث عن نسبة الانتحار في العالم، وأن نسبة الانتحار مثلاً، في أمريكا كذا، ونسبة الانتحار في بريطانيا كذا، ونسبة الانتحار في روسيا كذا، وأن أعلى نسبة للانتحار هي في البلد الفلاني.
ويعتبرون الانتحار مسألة شاذة، بغض النظر عن أضرارها أو آثارها، فهم ينظرون إليها على أنها مسألة شاذة وتدل على انحراف في تربية هذا المجتمع، ولو كان أي مجتمع، لماذا؟ لأن حب البقاء وحب الحياة، أمرٌ فطري غريزي مركب في أصل طبيعة الإنسان.
فمن الفطرة: أن الإنسان يحب الحياة.
ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الوطن، يحب الأرض التي نشأ فيها بطبيعته.
ومن الفطرة: أن الإنسان الذكر يميل إلى الأنثى أي يميل إلى المرأة، والمرأة تميل إلى الرجل.
ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الولد.
ومن الفطرة: أن الإنسان يحب المال.
ومن الفطرة: أن الإنسان يميل إلى العبودية.
فالإنسان -بطبيعته- ضعيف يحتاج إلى أن يُكّمل ضعفه، أو يتوجه بضعفه إلى شيئٍ يعبده؛ أيَّاً كان هذا المعبود، سواء كان بحق أم بباطل لكن الإنسان مفطور على العبودية.
من الفطرة: أن الإنسان يميل إلى التستر، وألا ينكشف أو يتّعرى أمام الناس؛ ولذلك فالعلماء الذين يتحدثون عن المجتمعات القديمة، ويتكلمون عن مجتمع الغابة؛ يصفونه بأنه مجتمع متعرٍ، متهتك، ليس فيه حجاب ولا لباس، فقضية التستر هي قضية فطرية غريزية مركبة مع الإنسان.
والطفل - منذ صغره - تجد أنه يحس شيئًا فشيئًا بالخجل من ظهور سوءته أو عورته أمام الآخرين.
وهكذا تجد أن هناك أشياء كثيرة جداً الإنسان مفطور عليها، صحيح أنها تنمو مع نمو الإنسان، ومع تربيته، ومع معايشته للمجتمع؛ لكن هذه الأشياء موجودة في أصل الإنسان حتى لو لم يوجد شيءٌ يُنمي هذه الأمور، ولا شيء يعارضها ويدمرها فإذا نشأ الإنسان، نشأ عليها، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة} والحديث -أيضاً- متفق عليه، وفي لفظ: {ما من مولود إلا يولد على الفطرة} .(15/4)
موقف الإسلام من الفطرة
إذا كان من البدهيات في حس كل مسلم ومسلمة أن خالق هذه الفطرة هو مُنَزِّل الأديان، هو مُنَزِّل القرآن، وهو الله تعالى؛ فمن الطبيعي أن نعلم يقينًا: أن هذا الدين وهذا القرآن لابد أن يكون موافقًا للفطرة؛ لأن خالق الإنسان هو منزل القرآن، فيستحيل أن يكون في دين الله، أو شرعه أمرٌ يعارض هذه الفطرة أو يخالفها؛ ولذلك قال الله عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فالخالق سبحانه هو أعلم بمن خلق؛ ولذلك أنزل الأديان الملائمة لهذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان فما أنزل الدين للملائكة -مثلاً- ولا نزل الدين للشياطين! وإنما نزل للإنسان فكان الدين يعالج قضية الفطرة معالجة صحيحة.
والكلام في هذه النقطة يمكن أن يلخص في عدة أمور:(15/5)
تزكية الدين للفطرة
إن الإسلام لم يكتفِ بالاعتراف بالفطرة فقط، ولا بالموافقة لها فحسب، ولا بتنظيمها؛ بل أضاف إلى ذلك كله، الأمر الرابع، وهو تزكية الدين للفطرة.
انظر إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] .
لقد اعترف الإسلام بأن الإنسان بطبعه قد يحب ولده، أو زوجه، أو ماله، أو مسكنه، أو وطنه أو غير ذلك.
لكن أن يصل ذلك إلى حد أن يفضل الإنسان هذه الأشياء على حب الله ورسوله، وجهاد في سبيله؛ فهو حينئذ إنسان فاسق يتوعده الله عزوجل بالوعيد الشديد: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ] التوبة:24] ولما ذكر الله تزيين الشهوات للإنسان: من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ عقَّب بقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:14-15] .
إذاً: هذه الفطرة يجب أن توجه في الطريق الصحيح، ويجب أن تُزكّى بحيث تكون دافعاً إلى الخير، مصروفةً في سبيل الله، وألا تحول بين الإنسان وبين مرضاة الله عز وجل، وبين الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
انظر أيها المسلم إلى المسلمين الأوائل الذين صنعهم الإسلام! وكيف كان موقفهم وتعاملهم مع هذه الأشياء التي فطروا عليها!! فطروا على حُب الحياة كغيرهم من البشر! ولكنهم كانوا يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل الله عز وجل، وكان الواحد منهم يحمل روحه على راحته، ويُلقي بها في مهاوي الردى، مقاتلاً في سبيل الله عز وجل! يفرح بالموت في سبيل الله ويسعى إليه! كما يفرح أهل الدنيا وأهل الحياة بالبقاء والسلامة!! ولعلّ من أبلغ من يصور مواقفهم تلك: الشاعر والشعر عند العرب هو المترجم عن حقائق ما في نفوسهم؛ فهو ديوانهم، وسجل حياتهم يقول الطرماح بن حكيم، معبراً عن حبه أن يقتل في سبيل الله، وأن يلقى الموت شهيداً في ميدان المعارك، يقول: وإني لمقتادٌ جوادي فقاذف به وبنفسي العامَ إحدى المقاذف فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن على شَرْجعٍ يُعلى بخُضْرِ المَطارفِ ولكن أحن يومي سعيدًا بعصبةٍ يصابون في فجٍّ من الأرض خائفِ يسأل الله أن يكون موته موت شهادة على عصابة من المؤمنين يصابون ويقتلون في فج من فجاج الأرض: عصائب من شيبان ألَّف بينهم تُقى الله، نزَّالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهُمُ فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف يفارقون الدنيا فيفارقون ما فيها من الأذى والحياة لا بد فيها من الأذى، فيفارقون هذا الأذى ويصيرون إلى موعود ما في القرآن الكريم.
فأُقتل قعصًا ثم يُرمى بأعظمي كضغث الخلا بين الرياح العواصفِويصبح قبري بطن نسرٍ مقيله بجو السماء، في نسورٍ عواكفِ أي إن الموت في سبيل الله مع هذه العصابة من فوارس بني شيبان الشجعان المغاوير، ممن تحابوا في ذات الله وألَّف بينهم تقى الله هو أقصى ما يتمناه؛ إذ هذه الميتة تعني مفارقة هذه الدنيا المليئة بالأذى والكدر، وتعني الوصول إلى جنات الله التي وعدها المتقين والشهداء، ولا يضير الشهيد أن يُقتل قتلاً سريعًا، ثم تُرمى عظامه في الصحراء لتتنازعها تلك النسور العواكف العوائف.
وهذا الوعد الموعود هو: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:15] .
فإذا كان الإنسان يحب البقاء، فلا بد له في الدنيا من الموت، وإنما البقاء الأبدي الذي لا يكدره خوف الموت، ولا يكدره حلول الأجل؛ هو البقاء في الجنة.(15/6)
توجيه الدين للفطرة
وإذا كان الإنسان يحب الزوجة في هذه الدنيا، والزوجة تحب زوجها في هذه الدنيا، فإن المحبة بينهما مع ذلك يكدرها وينغصها أشياء كثيرة: من اختلاف الطبيعة بين البشر، من كون الإنسان يرى في زوجته ما لا يرضى، أو الزوجة ترى في زوجها ما لا ترضى، إلى منغصاتٍ أخرى كثيرة.
وإنما اللقاء الذي فيه كمال السرور والتنعم واللذة هو في الجنة، ولذلك قال الله عز وجل: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:15] .
فكلُّ ما يرغبه الإنسان في هذه الدنيا يجده في الدار الآخرة، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يوجه هذه الأشياء التي فُطر عليها توجيهاً سليماً، وإذا كان -أيضاً- حب الإنسان للمال أمراً فطرياً، فإن الإسلام يوجه الإنسان إلى النفقة في سبيل الله، والاستعلاء على هذا الحب للمال، بحيث أن يكون حب الله ورسوله والجهاد في سبيله أعظم في نفسه من حب المال؛ ولذلك تنفق هذا المال في سبيل الله عز وجل وفي الحديث الصحيح: {لما أنزل الله قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] جاء أحد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن أحب ماله إليه -بيرحاء- وهي بئرٌ ومزارع في، المدينة فقال: إنها أحب مالي إلي، وإني أشهدك أنها صدقةٌ لله ولرسوله، فيستعلي الإنسان على ما يحب، فإذا أحب شيئاً، أنفقه في سبيل الله عز وجل، وأدرك أن هذا المال، إذا أراد أن يكون مالاً رايحاً أو رابحاً} كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث السابق؛ فليقدمه أمامه ليوم الحساب.
وإذا كان الإنسان يحب المتعة والبقاء في قرب زوجته وأولاده، ويكره الخروج للدعوة، أو الخروج للجهاد -مثلاً- فإنك تجد أن أحد المسلمين الأوائل، وهو النابغة، أراد أن يخرج في سبيل الله عز وجل، فأمسكت به زوجته وهي تبكي وتسائله: كيف تخرج وتتركني؟ فولى وهو يقول لها: يا بنت عمي! كتاب الله أخرجني كُرهًا وهل أمنعنّ الله ما فعلا؟ فإن رجعت فربُّ الكون يرجعني وإن لحقت بربي فابتغي بدلا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذُرني أو ضارعًا من ضنىً لم يستطع حولا أي: أنا رجلٌ قادر مستطيع، أسمع نداء الجهاد، فلا يمكن أن أترك الجهاد في سبيل الله عز وجل رغبةً في البقاء إلى جوار زوجة.
ومن الطريف في هذا المقام ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير عن فروة بن عمرو الجذامي، وهو ملك عرب الروم، وكان هذا الرجل قد أسلم ودان بدين الإسلام، فَعلِمَ به الروم، فأمسكوا به وحبسوه وأرادوه على الردة عن دين الإسلام، فأبى وأصّر على دينه، فصلبوه إلى خشبه، وفوقوا إليه السهام، وهم يهددونه إن لم يرتد عن الإسلام أن يقتلوه؛ وهذا موقف صعب ولكن أصر هذا الرجل على دينه، فأبى أن يخرج منه، وكان يتمثل بأبياتٍ من الشعر في هذا الموقف، أو قال أبياتاً من الشعر في هذا الموقف.
فتأمل وانظر! ما هي المشاعر التي جالت في نفسه، بطبيعة الحال أن هذا الرجل بشر، وإن كان مسلماً، فالإسلام يخاطب فطرة الإنسان -كما سبق- ولا يخرج الإنسان عن بشريته، بل يزكي هذه البشرية، ويقويها وينميها، فهذا الرجل يتذكر أولاً إخوانه المسلمين الموافقين له على الدين، فيقول: بلِّغ سراة المسلمين بأنني سلمٌ لربي أعظمي ومقامي ومعنى سراه: أي كبراء المسملين وهأنا الآن أموت مسلمًا لله، لحمي وعظمي، وعصبي ومخي قد خشع لله عز وجل هذا شعور عظيم عند رجل كهذا الرجل.
ثم يتذكر زوجته وحب الزوجة - كما سبق- هو فطرة، فيقول: ألا هل أتى سلمى بِأن حليلها على ماء عفرا، فوق إحدى الرواحل هل علمت بأن الرجل الذي أحلها الله له وهو حليلها قد صلب الآن على ماء في فلسطين يقال له: ماء عفراء، فوق إحدى الرواحل وقد شبهها بالخشبة التي صلب عليها بالناقة أو الراحلة.
على ناقةٍ لم يطرق الفحل أمها مشذبةٍ أطرافها بالمناجل إذاً: هذه الفطرة التي فُطِر عليها الإنسان، من حب المال من حب الحياة من حب الملكية من حب الزوجة أو الزوج من حب الولد؛ جاء الإسلام معترفاً بها؛ موافقاً لها؛ مُنظماً لها؛ مزكياً لها.
وكان المسلمون الأولون الذين ربَّاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه من بعده، كانوا صورةً صحيحة لمن يسلك المسلك الصحيح، فتكون هذه الفطرة بشأنه موجهةً الوجهة الصحيحة، وليست عائقاً يحول دون الجهاد في سبيل الله، أو دون البذل، أو دون الإنفاق، أو غير ذلك من الأشياء التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها.(15/7)
موافقة الدين للفطرة
وجاء الدين موافقًا لهذه الفطرة، فشرع الزواج الذي يلبي فطرةً غريزيةً عند الإنسان، وهي إشباع لا أقول الغريزة الجنسية فحسب؛ بل إشباع الظمأ العاطفي الموجود عند الرجل تجاه المرأة، والموجود عند المرأة تجاه الرجل، والذي إن لم يشبع بالحلال أشبع بالحرام.
وجاء الدين آذناً بالكسب الحلال -مثلاً- وشرع تشريعات كثيرة، موافقة لهذه الفطرة، ولا يمكن -وهذه قاعدة لا يختلف فيها اثنان، لا يمكن- أن يوجد في الدين أي تشريع مخالف لفطرة فُطِِرَ عليها الإنسان، وإذا سبق إلى وهمك أو ظنك، أن هناك أمراً من أمور الشرع مخالفاً للفطرة؛ فيجب أن تعلم أن الحالة حينئذٍ لا تخلو إما أن يكون هذا الأمر غير مشروع ولكن الناس توهموا أنه مشروع، وهناك أشياء كثيرة ينسبها الناس إلى الدين جهلاً منهم، وفي الواقع أنها ليست من الدين، وحينئذٍ هذه الأشياء يمكن أن تكون مخالفة للفطرة في بعض الأحيان.
وإما أن يكون هذا الأمر من الدين فعلاً، ولكنك توهمت أنه مخالف للفطرة، والواقع أنه موافق للفطرة، ومخالفته للفطرة وهمٌ عندك.
والاحتمال الثاني: أن يوجد أمر مشروع فعلاً، ومخالف للفطرة، فهذا مستحيل! فالدين جاء موافقاً للفطرة.(15/8)
تنظيم الدين للفطرة
أن الدين جاء منظماً للفطرة أي: شرع لها الطرق المشروعة التي تلبي هذه الفطرة وتوافقها؛ فشرع مثلاً طرق الكسب الحلال؛ ليستغني بها الإنسان عن طرق الكسب الحرام.
ولذلك جمع الله تعالى بينهما، فقال: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] أي: أن أمام الفطرة كما سبق طريقان للإشباع: الطريق الحلال والطريق الحرام فالإسلام فتح طريق الحلال ونظّّمه لإشباع الفطرة، وأغلق الطريق الحرام؛ فأحّل الله البيع وحرّم الربا، فالإنسان يُلَبِّي الرغبة في التملك، والتي هي رغبة فطرية وغريزة موجودة حتى لدى الأطفال، يلبيها عن طريق الكسب الحلال، وليس عن طريق الربا المحرم.
وكذلك أحل الإسلام الزواج؛ بل أمر الإسلام بالزواج، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج} .
فأمر الإسلام بالزواج؛ ولذلك كان الزواج على المستطيع الذي يشعر بالحاجة إليه واجباً على الصحيح من أقوال أهل العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج} فهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وفي مقابل ذلك: حرّم الزنا، وهكذا أباح الإسلام الطريق الحلال وحرم الطريق الآخر.(15/9)
إقرار الدين للفطرة
الأمر الأول: أن الدين جاء مقراً بالفطرة معترفاً بوجودها، وإقرار الدين بالفطرة هو أمرٌ طبعي، ولكن يؤكد لنا ما عرفه الناس وعلموه من واقع الحياة.
فمثلاً:- حب الحياة الذي هو فطرة مركوزة عند الإنسان، جاء في القرآن ما يدل على ذلك، يقول الله عز وجل عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:196] تأمل قوله تعالى: (أَحْرَصَ) واحرص كما يقول علماء اللغة أفعل تفضيل، أي: أشد الناس حرصاً فكأن معنى الآية أن الله عز وجل يقول: إن اليهود أشد الناس حرصاً على الحياة معنى ذلك: أن الناس كلهم حريصون على الحياة، لكن اليهود هم أشد الناس حرصاً.
فمن هذه الآية عرفنا أن الإسلام يبين أن غريزة حب البقاء فعلاً غريزة فطر الإنسان عليها.
مثلاً:- غريزة حب الزوجة، حب المال، وحب الولد جاء الدين مقراً لذلك، قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] .
وهذا السياق لا يدل على مدح ولا ذم؛ إنما إشارة إلى أن هذه الأشياء عبارة عن فطرة فُطر عليها الإنسان، وغريزة رُكِّبت فيه، ويأتي بعد ذلك ذكر: متى تكون هذه الأشياء محمودة؟ ومتى تكون مذمومة؟ المهم أن هذه الأشياء أمور من حيث الأصل لا يلام عليها الإنسان.
انظر أيضاً إلى قوله الله عزوجل في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:29-30] ثم عقب على هذا السياق بقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] ليتأمل الإنسان قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] يجد أشياء عجيبة فعلاً! فإنهم غير ملومين لا يلامون على هذا الأمر، فالقضية من حيث الأصل ليست قضية يحمد أو يذم عليها؛ إنما الإنسان لا يلام فيها.
قد يكون في قضية الزواج والنكاح أمور قد يستقذرها الإنسان لو تأمل فيها بطبيعته، خاصةً الإنسان الذي فيه سمو وترقّ، وكمال وحياء، قد يستقذر قضايا من قضايا النكاح والزواج، ولذلك جاء النص القرآني: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] أي: أن هذه قضية خارجة عن إرادة الإنسان، فالله عز وجل ركبها في الإنسان.
حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم كغيرهم في هذا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] فالقضية قضية فطرة.
ومن الطريف ما رواه أهل السير ورواه أيضاً النسائي في سننه -وهو في سنن ابن ماجة -عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وكان زوجها مصعب بن عمير رضي الله عنه: {فقُتل مصعب في أحد شهيداً في سبيل الله وقتل أخوها عبد الله بن جحش شهيداً أيضاً، فقيل لـ حمنة: قُتل أخوك، عبد الله بن جحش، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل لها: قُتل زوجك مصعب بن عمير، فبكت وولولت وقالت: واحزناه!، هذا الموقف يدل فعلاً على مكانة الزوج عند زوجته، والعكس بالعكس، وأن القضية في الأصل قضية فطرية، وعقب الرسول عليه الصلاة والسلام، كما تقول هذه الرواية بقوله: {إن للرجل لشعبة لدى المرأة ليست لأحد} مكانة الرجل عند المرأة في أصل الفطرة ليست لأحدٍ غيره.
وهكذا تجد أن الدين جاء مقراً بهذه الفطرة، معترفاً بوجودها، لا ينكرها، وهذا أمر طبعي -كما ذكرت- لأنه يستحيل أن يأتي الدين مخبراً بخلاف الواقع فما دام الإنسان مفطوراً على أشياء معينة؛ فلا بد أن يكون الدين -حين يأتي- مقراً بهذه الأشياء، معترفاً بها هذا الأمر الأول، في موقف الإسلام من الفطرة.(15/10)
موقف الجاهلية من الفطرة
أما النقطة الثالثة والأخيرة في هذا الموضوع فهي إشارة إلى موقف الجاهليات والمناهج المنحرفة من هذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان، وألخص موقف الجاهليات في هذه الفطرة في أحد موقعين: الموقع الأول: هو مسخ الفطرة؛ وأعني بمسخ الفطرة: أن الشيطان وجنوده وأولياءه، يستغلون هذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان، ليوجهوها وجهةً منحرفة، ويحاولون بكل وسيلة أن يناقضوا ما أمر الله ورسوله به، فيفتحوا -مااستطاعوا- الباب المحرم لإشباع الفطرة، ويغلقوا ماستطاعوا الباب المشروع لإشباع الفطرة.
انظر إلى الحديث الذي رواه النسائي وأحمد وابن حبان وغيرهم، وهو حديث حسن الإسناد، كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة، إسناده حسن، عن سبرة بن الفاكة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه أي: أن الشيطان قعد للإنسان في طريقه قاطع طريق, يمكن أن نقول: إن الطريق ها هُنا هو الفطرة فقعد له بطريق الإسلام، فقال له: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! قال صلى الله عليه وسلم: فعصاه فأسلم} .
فالإنسان في هذه الحال -يفترض أنه إنسان مشرك أو كافر- دُعي إلى الإسلام، فلما هم أن يسلم، جاءه الشيطان، وقال له: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟!(15/11)
حب المعرفة والاستطلاع
من صور مسخ الشيطان للفطرة: أن الإنسان مفطور على حب المعرفة، فبدلاً من أن يسلك الوسيلة الشرعية عن طريق طلب العلم وتحصيله، وعن طريق توقع النتائج المستقبلية من خلال معرفة الأسباب وربط النتائج بها، وأسبابها ومقدماتها، وعن طريق الروئ التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنها من المبشرات، وأنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، عن طريق الاستخارة، بدلاً من ذلك يسلك الشيطان بالإنسان في محاولة الاطلاع وخاصة الاطلاع على الغيبيات، يسلك به الطريق المنحرف، عن طريق الكهانة، وإثبات الكهانة، وكثير من الناس يسافرون إليهم من أماكن بعيدة، عن طريق ما يسمى قراءة الفنجان، وعن طريق كثير من الخرافات التي شاعت في هذا العصر وذاعت وانتشرت حتى بين المسلمين، والأمثلة كثيرة.
ومنها: زيارة الكهان والعرافين والمنجمين وقارئ الكف وقارئة الفنجان، وحظك هذا اليوم إلخ وهذا كله شيء من حيل الشيطان في مسخ الفطرة، وهو الشق الأول من كيده لتغيير خلق الله.(15/12)
حب الجنس الآخر
ومن صور مسخ الإنسان للفطرة: أن الإنسان مفطور على الميل للجنس الآخر، فالرجل مفطور على المرأة، والمرأة كذلك، والرجل يكمل المرأة، والمرأة تكمل المرأة.
وهذه قضية بحد ذاتها فطرية غريزية لا يلام عليها الإنسان -وقد سبقت إشارة عابرة إلى موقف الإسلام منها، وهو أنه شرع الزواج وأمر بتيسير أسبابه وحث عليه- لكن انظر إلى موقف الجاهليات والمناهج المنحرفة من هذا الأمر! ستجد لو تأملت -أيضاً- في هذا الأمر عجباً! فالجاهلية في كل عصر -وفي هذا العصر خاصة- تحاول أن تجعل من هذا الميل الغريزي الموجود لدى كل جنس نحو الجنس الآخر؛ تحاول أن تجعل منه خنجراً تطعن فيه الإسلام والمسلمين، وتفعل ما يلي:- العمل بكل وسيلة على تهييج الغريزة الجنسية وإثارتها.
سد الأبواب المشروعة للإشباع الفطري.
ففي الوقت الذي يشحذ فيه الشيطان غريزة الإنسان، فإنه يقوم بعمل آخر متزامن مع هذا العمل: وهو سد الأبواب المشروعة للإشباع الفطري؛ وذلك بوضع العراقيل والعقبات الحقيقية والوهمية في هذا السبيل، ويختلق عوائق اجتماعية ونفسية وعقلية واقتصادية؛ للتأثير على الشباب والشابات بمؤثرات كثيرة، تقنعهم بأن قضية الزواج مسألة صعبة يجب عدم التفكير فيها الآن لأسباب عديدة، منها: مواصلة الدراسة، والعمل على تأمين المستقبل، وعدم توفر الإمكانات اللازمة، والظروف البيتية، وانصراف النفس أصلاً عن التفكير في هذا الموضوع وعدم التهيؤ له؛ بسبب مؤثرات تظهر بصمات إبليس في معظمها وقد جند آلاف الصفحات والمطابع، والمحررين، والأجهزة المختلفة لتحقيق هذا المطلب، وتضخيم هذه العقبات.
أما الفتاة فهي لا تريد الزواج الآن؛ لأنها ما زالت طالبة في الجامعة، ويتقدم الأَكْفاء، فترفضهم بهذه الحجة، فلا تتخرج إلا وعمرها ثنتان وعشرون سنة -على أقل تقدير- فترغب أن تعمل لعدد من السنوات قبل الزواج؛ لأن من غير المعقول أن تتسلّم الشهادة الجامعية وتعلقها في المطبخ -هكذا تقول- ثم تبدأ في فترة متأخرة تفكر في الزواج، وهي تحتفظ بشروطها العسيرة في من ترضاه شريكًا لحياتها فالفتاة من شروطها وأقوالها: بأنها تريد إنساناً بصفاتٍ معينة، فحتى بعد سن الأربعة والعشرين -مثلاً- يتقدم واحدٌ وثاني وثالث فترفضهم! ويتقدم بها السن، بعد ذلك تريد أن تتنازل قليلاً عن شروطها؛ لكن الزوج الذي تريده ذهب إلى غيرها، وتقدم تنازلاً آخر، ولكن بعد فوات الأوان؛ إلى حد أنها قد تتنازل عن كثير من شروطها، فلا يتقدم لها من تريد، فقد يصل بها الحال إلى أن ترغب أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة، فلا تجد من يوافقها على ذلك.
وهناك في الواقع -الآن- كثير من الفتيات بلغت سن الثلاثين، بل تعدت هذا السن بمحض اختيارها، دعك ممن يعضلها أهلها، ودعك ممن لا تريد الزواج أصلاً، لأنها لا تريد هذا الأمر، وتشعر بأنها غير سوية في هذا المجال؛ لكن ممن يرغبن في الزواج -وهن غالب النساء- هناك من جاوزت هذا السن وبكثير؛ بل ولا زالت تشترط، تشترط شاباً بصفات معينة، ولا زالت الأحلام تدور برأسها!!.
هذه صورة مما يحدث من كيد الشيطان في إيجاد العوائق والعقبات الكثيرة في الواقع وفي نفس المرأة، أو في نفس الرجل عن الزواج، وبالمقابل: انظر إلى الطرف الآخر! هل غريزة الإنسان ذكراً أو أنثى، خلال هذه المدة؛ هل هذه الغريزة نائمة؟ كلا.
بل هذه الغريزة يقظة؛ والشيطان كما يسعى في الطرف الأول إلى محاولة إيجاد العوائق والعقبات الكثيرة، أمام الإشباع الصحيح للغريزة؛ يسعى في الطرف الثاني إلى فتح الباب على مصراعيه للإشباع المحرم، عن طريق الإغراءات الكثيرة عن طريق المجلات التي هي بالمئات؛ بل لا أبالغ إذا قلت: أنها بالآلاف، من مجلات الأزياء، مجلات الفن، مجلات السينما، مجلات الرياضة، مجلات الجمال، مجلات الجنس الخ.
فمن مختلف البلدان تجبى إلى هذه البلاد ثمرات كل دارٍ من دور النشر المنحرفة؛ وتجد في بلاد الإسلام، مرتعاً خصباً، حيث الغنى والمال؛ ويشتريها المسلمون بأغلى الأثمان، من أجل ماذا؟! من أجل الصور الجميلة من أجل الأزياء، من خلال القصص المثيرة للجنس، المحركة للعاطفة وفي البقالات تباع هذه القصص، فضلاً عن المكتبات، وقد رأيت في البقالات، كثيراً منها روايات وقصص يسمونها روايات عبير!.
ولله الحمد ما قرأت شيئاً منها؛ ولكن يكفي لتعلموا مدى سوء هذه الروايات، وإثارتها للغريزة الجنسية؛ أن بعض صحفنا السعودية كتبت تنتقد هذه الروايات، وتنتقد بيعها وتقول: إنها روايات تتاجر في الغريزة الجنسية، أو كما قالت إحدى الصحف.
فما بالك بما تنتقده هذه الصحيفة، أو بالمادة التي تنتقدها هذه الصحيفة أي: لا بد أنها بلغت مبلغاً عظيماً في الإثارة الجنسية، ومعظم الروايات تدور حول الجنس قصص دواوين شعر لا أقول بالمرأة، فالمرأة ثياب متكاملة، المرأة عواطف، المرأة خلق، تتاجر بالجنس فحسب، وكأن الحياة كلها شهوة، أفلام الفيديو التي أصبحت محلاتها كثيرة جداً، والأفلام المسموح بها كثيرٌ منها يخجل الإنسان من سماع ما فيها فضلاً عن مشاهدتها، فضلاً عن الأفلام الممنوعة والتي أصبحت، تتداول بشكل غريب بين كثير من الشباب! أفلام تصل إلى حد عرض الجريمة الخلقية، على مرأى ومشهد من الشباب والشابات.
فما بالكم أيها الإخوة بشاب غير متزوج، أو فتاة غير متزوجة، فيه غريزية وفطرة مركوزة أصلاً؛ باب الزواج المشروع، مغلق أو وضعت أمامه عقبات وعراقيل كثيرة؛ ثم يشاهد مثل هذه الأشياء أو بعضها، ما الذي يحدث؟! يحدث اشتعال لهذه الغريزة تحرك شديد انفعال غير طبيعي؛ فيركض الإنسان للطريق المباح إن كان يخاف الله عز وجل؛ فيجده مغلقاً، ولذلك يتجه للطريق الآخر، -الطريق المحرم- وهذا ما يريده الشيطان؛ يريد أن يسوق الإنسان بالقوة إلى هذا الطريق الحرام؛ ولذلك يشيع -مثلاً- في كثير من الأوساط: الكلام في الحب، والغزل، وتبادل الرسائل، والمعاكسات مع الشباب، والمعاكسات الهاتفية، وغير ذلك ومن الغريب جداً أن تجد أولياء الشيطان من أصحاب تلك الصحف، والمجلات، والمسرحيات، والتمثيليات، والكتب يطالبون بفتح المجال لمثل هذه الأشياء، بالعلاقة بين الشباب، بالاختلاط -كما يسمونه الاختلاط البريء- في العلاقات المباحة البعيدة الخ.
فيا سبحان الله! {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] .
فكثير من الناس يوقع نفسه في هذا الموقع، فيجره الشيطان إلى الآخر؛ إذا مشى خطوة، جره الشيطان عشر خطوات، فيأتي يبكي على نفسه! ولسان حاله يقول كما قال الشاعر: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماءِ وقد حدثني أحد الإخوة الثقات: أن بعض الشباب، في بلدانٍ منحرفة، كانوا يجلسون في مكانٍ مع بعض الساقطات العاهرات، ثم يخرجون إلى مكانٍ آخر والدموع تنهمر من عيونهم خوفاً من الله عز وجل!! فيا سبحان الله! ما الذي جاء بك أصلاً إلى هذا المكان؟! الإنسان إذا أسلم قياده للشيطان بخطوة، قد يجره الشيطان خطوات، وقد يصعب عليه أن يرفض الخطوة الثانية.(15/13)
حب الراحة
ثم يقول عليه الصلاة والسلام، في المرحلة الثالثة: {ثم قعد له في طريق الجهاد} أي أن الشيطان قعد للإنسان بطريق الجهاد هو الآن أسلم أولاً، ثم هاجر ثانياً، ثم أراد أن يجاهد.
فالشيطان يقف للمرة الثالثة، وهو لا ييئس، فيقول له: {أين تريد أن تذهب؟ تجاهد! كيف تجاهد؟! أتدري ما الجهاد؟! الجهاد هو جهد النفس والمال} أي: إتعاب النفس والمال، إتعاب النفس معروف بالجهد الذي يبذله الإنسان؛ أما إتعاب المال فقد يكون مجازياً بمعنى إنفاق المال في الجهاد في سبيل الله، وقد يكون حقيقياً بمعنى أن الإنسان يتعب ماله، يتعب الخيل والإبل، يتعب العبيد الأرقاء تعباً حقيقياً بالجهاد في سبيل الله، هو جهد النفس والمال.
فمالك وللجهد والتعب؟! الراحة والسكون أمر مطلوب، وأكثرنا يميل إلى الراحة والسكون حتى ولو كان يتطلع ويتمنى الخير ولله در الشاعر الذي يقول، -وما أجمل ما يقول-: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتالُ كل الناس بودهم أن يكونوا أبطالاً، وبودهم أن يكونوا شجعاناً، وبودهم أن يكونوا كرماء، وبودهم أن يكونوا ممن يشار إليهم بالبنان، وبودهم أن يكونوا في الدرجات العليا في الجنة؛ لكن الفرق ليس في الود والرغبة القضية قضية الاستطاعة، استطاعة الإنسان التغلب على حب هذه الأشياء؛ ولذلك يقول: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتَّالُ فالشيطان يدعو الإنسان ويثير غريزة حب الراحة {الجهاد هو جهد النفس والمال، فتقاتل، فتقتل!! فتنكح الزوجة ويقسم المال} فالحقيقة أن الإنسان لو -فعلاً- شد أحزمته، وركب راحلته، ويمم شطر ميادين الجهاد فعلاً، ماذا تتوقعون أن يثور في نفس الإنسان من المشاعر؟! يتذكر الإنسان في مثل تلك الحال، أنه مُقِدَم على ميدان القتال، وهناك احتمال كبير جداً أن يقتل؛ والإنسان دائماً يضع الاحتمالات في نفسه، واحتمال القتل يغلب في مثل هذه الحال في نفس الإنسان فأنت ستقتل الآن ماذا سيجري بعد قتلك؟ ستفقد الحياة، وغريزة حب الحياة: غريزة موجودة عند الإنسان.(15/14)
حب الحياة والبقاء
يستغل الشيطان حب الإنسان للحياة والبقاء؛ ليثنيه به عن الجهاد في سبيل الله خوفًا من نيل الشهادة! وهكذا يجيء للابن من الناحية التي كَادَ فيها للأب، فقد خاطب الشيطان أبانا آدم فيها في الجنة، وقال: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] .
فلأن الإنسان يحب الحياة والبقاء، فالشيطان يقول له: ستقتل فتفقد الحياة!! أيضاً: الإنسان يحب أن يستمتع بزوجته فتنكح الزوجة من بعده، والإنسان يحب ماله فيقسم ماله من بعده، وكذلك ييتم أولادك، إذاً لا داعي للجهاد.
قال صلى الله عليه وسلم: {فعصاه فجاهد} ؛ ومن الملاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام، في المواقف الثلاثه يذكر النتيجة الإيجابية، في الموقف الأول: {فعصاه فأسلم} في الثاني: {فعصاه فهاجر} في الثالث، {فعصاه فجاهد} .
وبعدما ذكر كيد الشيطان وموقف الإنسان المسلم قال: {فإن فعل ذلك فمات؛ كان حقاً على الله أن يرضيه، أو قتل؛ كان حقاً على الله أن يرضيه، أو وقصته دابته؛ كان حقاً على الله أن يرضيه، وإن غرق كان حقاً على الله أن يرضيه} .
فإذا صحت نية الإنسان، أرضاه الله تبارك وتعالى، ولو لم يبلغ ما سعى إليه من الشهادة!!(15/15)
حب الوطن
حب الوطن أمر فطري غريزي.
لا يلام الإنسان عليه؛ إنما إن كان هذا الحب صرف في مرضاة الله، فدافع الإنسان عن وطن الإسلام وحماه من الكفار، ومن أعداء الإسلام الذين يريدون أن يحتلونه بالسلاح؛ أو الذين يريدون أن يفرضوا عليه الفساد والانحلال؛ فهذا محمود، وإن كان حب الوطن يدعو الإنسان إلى ترك الهجرة، وإلى ترك الجهاد، وإلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى ترك الدعوة؛ فهذا مذموم.
فحب الوطن بذاته غريزة، والشيطان يستثمر هذه الغريزة، فيحاول أن يحرك هذه الغريزة في نفس الإنسان؛ ليمنعه بها من أعمال الخير؛ بل ليجعل الوطن وثناً يعبد من دون الله عز وجل.
أحد الشعراء المنحرفين واسمه صلاح بن عبد الصبور، من شعراء مصر، يتغنى بوطنه ويقول: الشمس أجمل في بلادي حتى السماء هناك أجمل أي أن الشمس في بلده أجمل من الشمس في أي بلد آخر! والسماء في بلده، أجمل من السماء في بلدٍ آخر! والأمر هو هو؛ لكنه يشير أو يريد أن يقول: إن حبه لوطنه جعل الأشياء كلها الموجودة في وطنه أحب إليه من الأشياء نفسها حين تكون موجودة في بلد آخر.
شاعر آخر: وهو خير الدين الزركلي من شعراء أهل الشام، وهي قصيدة كانت تُغنى وتذاع في وسائل الإعلام، فيما أخبرني بعض الإخوة الثقات، يقول: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا أي أنه مستعد أن يقبل هذا الوثن ما دام هو الوطن.
إذاً: الوطنية هي في كثير من الأحيان وثنية، ومن العجيب جداً أن شاعراً هو أحمد شوقي الشاعر المشهور _أيضاً_ وكل هؤلاء مع الأسف شعراء من المنتسبين إلى الإسلام! ذاك من شعراء النصرانية الذي يقول قائلهم: هبو لي دينًا يجعل العُرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم ألا حبذا كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ دعك من هؤلاء فهم كفارٌ نصارى؛ لكن المصيبة أن يكون المسلم ضحية هذه الوثنية التي يسمونها الآن الوطنية!! أحمد شوقي يقول مخاطباً بلاده بعد سفراً طويل: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشباباأدير إليك قبل البيت وجهي إذا فُهت الشهادة والمتابا! يا للعجب!! رجل يتفوه بالشهادتين وبالتوبة وأي توبة هذه لمن يقول: أدير إليك قبل البيت وجهي؟!! وليس المقصود الحديث عن فلان أو فلان، فهؤلاء قدموا لما عملوا، ولعلهم تابوا من هذه الأشياء، ولعل الله ختم لهم أو لبعضهم بخير، فالله أعلم، وليس المقصود الحكم على فلان، أو على علان، إنما المقصود الإشارة إلى أن الشيطان وجنده، والمناهج الجاهلية تستغل محبة الوطن الغريزية الموجودة عند الإنسان لتجعلها وثنية؛ بحيث يقدس الإنسان هذا الوطن ويصلي ويسجد إليه، ويضحي بأشياء كثيرة مطلوبة في الشرع محافظةً على هذا الوطن، وحباً له.
وهذا الأمر -مع الآسف- أصبح اليوم نغمة يكثر الصحفيون والإعلاميون والكُتَّاب وغيرهم من الطرق عليها؛ ويعتبرون قضية الوطنية والوطن -في كثير من الأحيان- قضيةً أعظم حتى من قضية الدين.
فمن الواجب -فعلاً- أن ننتبه إلى أن هذا مزلق يستغله كثيرٌ من أعداء الإسلام، لصرف عبودية المسلم من عبوديته لله عز وجل إلى العبودية لهذا الوثن، الذي يسمى الوطن؛ مع أن القضية ظاهرة فحب الوطن بحد ذاته أمرٌ لا يحمد ولا يذم، إن كان فيه خير فهو محمود، وإن كان فيه شر فهو مذموم كحب المال، كحب الزوجة، والولد {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] .
فالشيطان يأتي للإنسان الذي يريد أن يهاجر، ويقول له: تهاجر، وتذر أرضك وسماءك! ويستمر الشيطان في الحديث والإغراء، فيقول لهذا الإنسان: وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، أي: مثل الفرس المربوط بالحبل الطول هو الحبل: فأنت إذا هاجرت تهاجر إلى بلد لا تعرفه، وإلى ناس لا تعرفهم، ليس لك أقارب، القبيلة مختلفة، ليس لديك وسائل لكسب المال؛ فأنت تصبح مربوطاً هناك، لا تستطيع أن تذهب ولا أن تأتي؛ فاترك الهجرة وابقَ في وطنك، قال صلى الله عليه وسلم: {فعصاه فهاجر} .(15/16)
حب تقليد الآباء
فالشيطان يستغل حينئذ كثرة موجودة عند الإنسان وهي حب التقليد حب الوفاء للآباء والأجداد، ونحن نجد أن هذه الغريزة يستغلها الشيطان في كثير من الأحيان، كم من إنسان يعرف الحق ويقول: بينه وبين أتباعه أنه وجد أمه وأباه وأقاربه على خلافه! ولذلك لما أسلم " بجير بن كعب " أخو " كعب بن مالك " الصحابي لما أسلم أرسل إليه أخوه كعب بن مالك يعاتبه على الإسلام، ويقول له: ألا بلِّغا عني بجيراً رسالة فهل لك فيما قلت؟! ويحك هل لكا؟ فبيِّن لنا إن كنتَ لست بفاعل على أي شيء غير ذلك دلَّكا؟ على خلق لم تلف أمًا ولا أبًا عليه ولم تترك عليه أخًا لكا يعاتبه: كيف تدخل في دين ما وجدت عليه أمك ولا أباك ولا أخاك؟! والمشركون كانوا يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؛ والآن: كثيرٌ من الناس يضربون على هذا الوتر فإذا دعوا إلى الله ورسوله، قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، حتى ولو كانوا من المسلمين! إذا دعوا إلى أمرٍ من أمور الدين، المجتمع قد تعوّد على خلافه، سنة مهجورة، بل أحياناً قد يكون أمراً واجباً، ولكن الناس قد تركوه وعملوا بخلافه، وجدت كثيراً من الناس يرفضون هذا الأمر، ويقولون: هذا أمرٌ ما عرفناه! بل بعضهم يقول: هذا دينٌ جديد! وبعض كبار السن إذا رأى أمراً لم يعتده، قال: منذ تسعين سنة ما رأيت مثل هذا الأمر، ولا سمعت به!! ولكن ماذا إذا كنت ما رأيت ولا سمعت؟!! الإنسان لا يزال متعلماً حتى يموت! إذاً في كثير من الأحيان الشيطان يحرك في الإنسان غريزة معينة، وهي غريزة حب التقليد، غريزة الوفاء للتقاليد والعادات التي وجد عليها الإنسان آباءه وأجداده ومجتمعه، فيحاول أن يحول بين الإنسان وبين التزام الخير، بتحريك هذه الغريزة وإثارتها وأنتم تجدون الشيطان في الحديث المذكور، يقول للإنسان: تسلم وتذر دينك ودين آبائك ودين آباء أبيك! ولله در الإمام الجليل العز بن عبد السلام! حين قال له تلاميذه: يا إمام! إنَّ في مكان كذا وكذا في القاهرة مكاناً أو حانةً يباع فيها الخمر، فذهب فنظر فوجد الأمر كما أُخبر فوقف في طريق السلطان، وكان قادماً في أحد الشوارع بأبهته وصولجانه، فلما قرب السلطان من هذا الإمام الذي كان يسمى سلطان العلماء لقوته وشدة بأسه وشجاعته في الحق، قال له العز بن عبد السلام: يا فلان -باسمه المجرد- إن في مكان كذا وكذا حانةً يُباع فيها الخمر، فقال السلطان للعز بن عبد السلام: يا سيدي! هذه الحانة من عهد أبي، أي هذه من قبل أن أتولى السلطة وهي موجودة فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: أنت من الذين يقولون: إنَّا وجدنا آباءنا على أمة، وإناَّ على آثارهم مقتدون، قال: أعوذ بالله! أعوذ بالله! وأمر بالحانة فأزيلت من ساعتها.
فالإنسان المؤمن القوي يعتبر أنه يتقرب إلى الله عز وجل بمخالفة المألوف الذي وجد عليه الآباء والأجداد متى كان هذا المألوف مخالفاً لشريعة الله عز وجل.
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثم قعد له -أي الشيطان قعد للإنسان -بطريق الهجرة-، هو الآن أسلم، في بلد شرك يريد أن يهاجر فقال له: تهاجر وتذر أرضك وسماءك؟! وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول} .
كيف تهاجر فتذر أرضك وسماءك؟! الأرض والسماء هي أرض وسماء في أي مكان, لكن الإنسان بطبيعته -كما سبق- مفطورٌ ومجبول على حب البلد الذي نشأ فيه، وهذه بحد ذاتها لا تحمد ولا تذم.(15/17)
نسخ الجاهلية للفطرة
أي محاولة إلغائها بالكلية.
فالشيطان مثلاً قد يغري بعض الإنسان بالرهبانية، لأنه إنسان غير قابل للصلاح، غير قابل للانحراف، فيريد الصلاح فيقربه بالرهبانية التي تتنكر للفطرة الموجودة عند الإنسان؛ وقد وجد في هذا العصر أنظمة كالشيوعية تتنكر للفطرة، فتلغي مثلاً الملكية الفردية، وتحرم على الإنسان أن يملك أي شيء، حتى القلم أو الثوب أو الحذاء الذي يلبسه هو ملك للدولة، وإنما تعطيك إياه الدولة لتستخدمه، ولا يملك الإنسان أدنى شيء، وإنما هي ملك للدولة.
غريزة -مثلاً- حب الولد يحاولون أن يلغوها عن طريق كون الولد هو الآخر ليس لرجل من امرأةٍ خاصةٍ له؛ وإنما هو من أية امرأة، والدولة تستلم هذا الولد، وتضعه في محضن، وتربيه، ثم تتجه به إلى المصنع، وليس لأبيه به من علاقة.
في دول أوروبا وأمريكا: نسخت الفطرة، حتى أن الزوج يفتخر أن تتعرى امرأته أمام الناس، وهذا هو نظام شريعة الغاب الذي ذكره العلماء عن المجتمعات القديمة غير المتحضرة، عاد الناس إليه اليوم في المجتمع الذي يصفونه بأنه المجتمع المتحضر.
والله عزوجل يريد من عباده أن يسلكوا بهذه الفطرة المسلك الصحيح، فالإسلام هو دين الفطرة، والشيطان يريد أن يغلق أمام الناس الطريق الصحيح لإشباع هذه الفطرة؛ ليسلك بهم الطريق الآخر المنحرف.
والله عز وجل جعل للإنسان إمكانية أن يسلك هذا الطريق أو ذاك، فقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] .
اللهم اهدنا الصراط المستقيم؛ اللهم أصلحنا واصلح لنا واصلح بنا، اللهم ثبتنا بالقول الثابت وفي الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ اللهم احمنا من شر أنفسنا، ومن شر الشيطان وشركه، اللهم وفقنا لما تحب وترضى؛ اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك، وآخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راضٍ عنا؛ اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(15/18)
الأسئلة(15/19)
الغيرة والانتحار من آثار قوة الفطرة أو ضعفها
السؤال
الأمم السابقة تولد على الفطرة، وهل الغيرة من الفطرة؟ وكيف يكون المسلم غيوراً وهو لا يقيم بعض الصلوات ويفعل بعض المعاصي؟ وهل الانتحار يكون من فقد بعض الفطرة؟
الجواب
أما الغيرة في الأصل فالغيرة من الفطرة في الجملة على أشياء معينة؛ فالإنسان يغار على أمور معينة -فمثلاً- المرأة تغار، وهذه فطرة موجودة في المرأة، لكن يهذبها الإسلام، والرجل كذلك يغار، والإنسان المسلم يغار من انتهاك حرمة الله عز وجل؛ لأنه يحب ما أحبه الله ورسوله؛ أما الذي يترك الصلوات ويفعل المعاصي، فَقَدْ فَقَدَ الغيرة أو كثيراً منها؛ لأنه كيف يغار وقد وقع هو فيما يُغارُ منه.
أما الانتحار: فيكون من فقد أو ضعف فطرة معينة وهي حب البقاء، ويكون بالمقابل من وجود سبب؛ ولكن ضعفت الفطرة، في نفس هذا المنتحر.(15/20)
حكم قضاء الصوم للحائض
السؤال
إذا رأت المرأة الحيض في النصف الأول من رمضان، لأول مرة، ولم تصم الأيام الأولى من رمضان، هل عليها قضاء هذه الأيام؟
الجواب
ليس عليها قضاء، الأيام التي حصلت منها قبل الحيض، بل تقضي الأيام التي تحيض فيها، ثم تصوم البقية.(15/21)
حكم لبس القفازات
السؤال
هل يجوز لبس القفازات السود، لغرض تغطيه اليدين عن الرجال، لأن البعض يقول: لا يجوز تغطية اليدين لئلا تكون مُلفتة للنظر؟
الجواب
بل يجوز وأنا أرى أن هذا العمل طيب ومبارك ومن كمال تستر المرأة المسلمة، واعتزازها بأنوثتها ودينها أن تلبس المرأة المسلمة القفازين؛ بشرط ألا يكون ذلك بغرض الإثارة؛ لأن بعض الألوان من الملابس حتى حجاب الوجه؛ من الظاهر جداً أن بعض النساء تلبسه للإثارة، لأنها تلبس حجاباً قليلاً، إذا التفتت يميناً أو يساراً؛ أظهر جزءاً من وجهها، أو أظهر جزءً من رقبتها، أو أظهر نحرها فغطت بعض وجهها وأظهرت بعضه؛ من باب كل ممنوع مرغوب، فعلى المرأة أن تتستر تستراً صحيحاً، بعيداً عن الإثارة.(15/22)
حكم المزاح بالكذب
السؤال
ما حكم المزاح في الكذب؟
الجواب
الكذب لا يحوز في كل حال، إلا في حالة مستثناة، معروفة ليس المزاح من بينها.(15/23)
خلوة النساء بالسائق
السؤال
ما حكم الذهاب مع السائق، إذا كان يوجد أكثر من امرأة للضرورة؟
الجواب
ما معنى الضرورة؟ وما هي الضرورة؟ للضرورة معنىً آخر غير المعنى الصحيح، فأما إذا كان هناك ضرورة، مثل مريض -مثلاً- لابد من أن يُوَصل المستشفى، ولا حل إلا بهذا؛ فهذا لا بد منه.(15/24)
حكم مطالعة المجلات المنحرفة
السؤال
ما حكم مطالعة المجلات، ووجودها في المنزل؟
الجواب
المجلات السيئة المنحرفة -كما سبق- على المسلمين جميعاً أن يقاطعوها، وألا يقتنوها، ولا يجوز وجودها في البيت ولا مطالعتها.(15/25)
الإسلام هو دين جميع الأنبياء
السؤال
قلتم في أول المحاضرة: الأديان فهل هناك دين غير الإسلام، كما أني سمعت اليهودية، والنصرانية بدعة؟
الجواب
أما الأديان؛ فدين الإسلام: هو الدين الذي نزل على جميع الرسل؛ فجميع الرسل دينهم الإسلام، وكلهم جاءوا بدينٍ واحد وهو الإسلام، بمعنى أن العقيدة التي جاءوا بها واحدة، لكن الشرائع مختلفة؛ فكل نبيٍ جاء بشريعة غير الشريعة التي جاء بها غيره، لكن جمع دين على أديان، كلمة دارجة مستعملة، وكان العلماء القدماء يقولون: إن هذا طبيب أديان، وهذا طبيب أبدان، ولا بأس من استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى.(15/26)
حالات جواز الكذب
السؤال
ما أوجه الكذب التي يجوز فيها الكذب بالتفصيل، مع ذكر الأمثلة على ذلك في واقع الحياة اليومية؟
الجواب
الكذب لا يجوز بل هو من كبائر الذنوب، متى يجوز الكذب؟ يجوز في حالات معينة: يجوز الكذب في حال الحرب؛ ويجوز الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فتنمي خيراً وتشيع بينهم أن فلاناً ندم، وفلان قال فيك كذا، وأثنى عليك؛ ويجوز الكذب من الزوج على زوجته؛ والذي يظهر لي مما يتعلق بكذب الزوج على زوجته هو فيما ليس بالكذب الصريح، بل هو نوع من وصف شيء معين، لا بد منه لاستمرار الحياة الزوجية، فمثلاً قد يخبر الزوج زوجته أنه يحبها؛ والواقع أنه يحبها فعلاً لكن حبه لها قليل، فهو قد يشعرها بأن محبتها في قلبه أكثر مما هي في الواقع؛ رغبة في استمرار الحياة الزوجية؛ فهذا النوع إن أمكن تسميته كذباً؛ جائز، لأنه يساعد على استمرار الحياة الزوجية، وهو نوع من جبر خاطر المرأة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يرى الزوج أن فيها مصلحة لاستمرار العلاقة بينهما كذلك لو كان عند المرأة طمع في أشياء معينة، والزوج يصعب عليه أن يحقق هذه الأشياء، ويرى أن العلاقة الزوجية قد قامت الآن، ولا يمكن أن ينفصل عن هذه المرأة؛ فيضطر إلى أن يتعامل معها بأسلوب معين، قد يُعَّمي عليها بعض الأشياء، وقد يُبالغ في بعض الأمور تحقيقاً لهذا المطلب عند المرأة، مع أنه يبقى الأصل أن الكذب محرم.(15/27)
الزوج التارك للصلاة
السؤال
ما واجب المسلمة إذا كان زوجها لا يصلي؟
الجواب
إذا كان لا يصلي بالكلية، فعليها أن تنصحه، ثم تنصحه، ثم تنصحه؛ فإن لم ينتصح؛ فيحرم عليها أن تبقى في عصمته، بل يجب أن تبذل الأسباب لمفارقته، ويحرُم عليها أن تمكنه من نفسها؛ لأنه إذا كان مصراً على ترك الصلاة بالكلية؛ فهو كافر وكذلك تنصح المسلمة قريباتها، ممن تعلم هذا من أزواجهن.(15/28)
كفارة اليمين
السؤال
سائلة تقول: حلفتُ بالله ألا أدرس في المرحلة الثانوية؛ ولكنني كنتُ مترددة؛ فقطعتُ يميني ودرست وأنا الآن في ثاني ثانوي أجيبوني جزاكم الله خيراً، هل عليَّ أن أصوم أم ماذا؟
الجواب
عليها كفارة يمين، ذكره الله عز وجل بقوله: {فَكَفَّارَتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فعليها أن تُطعم عشرة مساكين، أو تكسوهم؛ والإطعام يعادل -كما ذكر بعض المشايخ- أن تطعمهم نحو ستة كيلو من الأرز، توزعه عليهم.(15/29)
حكم مشاهدة التلفزيون
السؤال
ما حكم مشاهدة التلفزيون؟
الجواب
مشاهدة البرامج التي تحتوي على مادة محرمة لا تجوز، فمشاهدة أو تلذذ الرجل بالنظر للمرأة، أو تلذذ المرأة بالرجل -بالنظر إلى الرجل- والشهوة في ذلك، سماع الغناء، سماع الموسيقى لا يجوز، اقتناء هذه الأجهزة التي قد تستخدم في البيت بغير موافقة المسئول عن البيت، استخداماً محرماً! إذا علم أن ذلك يحصل فهذا لا يجوز أيضاً.(15/30)
التحذير من خروج المرأة في الأسواق
السؤال
ما رأيكم في ظاهرة كثرة وهي خروج المرأة إلى الأسواق وخاصةً يوم الجمعة، الذي اعتادت النساء الخروج فيه من غير داعٍ لذلك ولا ضرورة؟
الجواب
أدب الله عز وجل أفضل النساء -زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم، الطاهرات- بقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فالمسلمة مطالبة بالقرار في بيتها؛ وأعجب أشد العجب، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزوجاته بعد أن حج بهن: {هذه، ثم لزوم الحُصر} أي أنه بعد الحج، المرأة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تلزم بيتها.
فالمسلمة مملكتها البيت، لا تخرج إلا لحاجة، وإذا خرجت فتخرج متسترة، غير متطيبة ولا متزينة؛ فالمرأة تفتن وتفتتن، والرجل إذا نظر إلى المرأة؛ تصيبه الفتنة والتأثر قل أو كثر، حتى إن كثيراً من الرجال يتحدثون، أن أحدهم قد يرى زوجته؛ وهو يعلم أنها زوجته، فلا يلتفت إليها، ولا يأبه بها؛ لكن إذا لبست ثيابها، وتنكرت، ورآها من دون أن يعلم أنها زوجته ثارت في نفسه مشاعر شديدة وقوية، فالمرأة تفتن من رآها وقد تفتتن هي، وخاصةً إذا كانت متجملة متطيبة، وهي شابة، كما هو واقع كثيراً ممن يخرجن للأسواق، فلتتقِ الله المرأة المسلمة في نفسها، ولتتقِ الله في إخوانها المسلمين، وعليها إن اضطرت للخروج أو احتاجت إليه أن تخرج بثيابٍ متبذلة وهي تفلةٌ كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: من تخرج للمسجد، وأن تُخفي جميع محاسنها، تُخفي وجهها، تُخفي نحرها تُخفي ذراعيها تُخفي قدميها؛ فإن هذا كله من كمال التستر… ولا شك أن الرجل حين يرى المرأة وقد غطت ذراعيها وكفيها وقدميها؛ يشعر أنه أمام امرأة مؤمنة متدينة صالحة، خرجت لغرض؛ فيشعر بالإكبار والإجلال لهذه المرأة؛ ولا يفكر أو يهم بالنظر إليها، وهذا شعور من المؤكد أنه يثور لدى كثيرٍ من الناس، حتى لَدى الفُساق.(15/31)
نصائح مهمة للمرأة
السؤال
ما هي نصيحتك للمرأة المسلمة في هذه الأيام؟ وما هي الكتب التي تنصح بها المرأة المسلمة؟ ما حكم مجلات الأزياء التي تحمل صور النساء؟ وما حكم مخطابة المرأة للخياط الأجنبي الهندي أو غيره عند الخياطة، وكذلك لأصحاب المحلات؟
الجواب
أما النصيحة للمرأة فالكلام فيها كثير، فإن المرأة يجب أن تنتبه لفطرتها، ولا تعارض هذه الفطرةح والمرأة خلقت بفطرة معينة متميزة عن الرجل، فعلى المرأة أن تُدرك أن من كمال دينها ومن كمال سعادتها أن تسعى إلى معرفة فطرتها، والتجاوب مع هذه الفطرة، يقول الشاعر: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول المرأة غير الرجل كما قال تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] فالمرأة حين تحاول أن تسترجل؛ هي كالرجل حين يحاول أن يتأنث! وما عجبُُ أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيبُ يقول الشاعر: فالذين يطالبون مثلاً بخروج المرأة للعمل بالاختلاط بكون المرأة تشتغل في الهندسة؛ تشتغل مهندسة جسور، تشتغل سكرتيرة؛ تشتغل كذا؛ تشتغل كذا، يريدون أن يستمتعوا بالمرأة في قارعة الطريق، ويريدون أن يُخرِجُوا المرأة عن فطرتها فكمالك يا أختي المسلمة! هو في معرفتك بفطرتك التي فطرك الله عليها، وتزكية هذه الفطرة والتجاوب معها؛ فعلى المرأة أن تسعى إلى تحقيق فطرتها عن طريق الزواج المشروع؛ لأنه يُحقق للمرأة جانباً مهماً جداً، وعن طريق الإنجاب الذي يحقق -أيضاً- جانب مهم جداً عند المرأة، فالمرأة هي أُم، ومن أعظم مشاعر المرأة مشاعر الأمومة، والحنو على الولد، وتربية الأجيال الذين يخرجون على يديها، والشاعر -وأظنه حافظ ابراهيم - يقول: الأم مدرسةُُ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ.
والآخر يقول عن أعداء الإسلام: وقديماً يئسوا من قهرنا حينما أعياهم لمح خيالك غير أن الذل قد دمرنا منذُ أن خضت بنا تلك المسالك فإذا انحرفت المرأة انحرفت الأجيال، وإذا صلحت المرأة صلحت الأجيال.
نصيحتي للمرأة المسلمة أن تحرص على الوعي بالإسلام، والوعي بالمخططات الرهيبة التي يديرها أعداء الإسلام، وخاصةً اليهود لإفساد المرأة، وإفساد المسلمين بالمرأة.
نصيحتي للمرأة المسلمة: أن تكون داعية، لا تقتصر على إصلاح نفسها؛ بل تحرص على إصلاح من حولها في البيت وفي المدرسة، وفي المجتمعات النسائية، والذي أنصح المرأة المسلمة به بعد كتاب الله، وبعد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: إصلاح العقيدة من خلال الكتب الصحيحة، ككتاب التوحيد، العقيدة الطحاوية، العقيدة الواسطية، ومعرفة الأحكام المتعلقة بالمرأة في كتب الفقه، ككتاب فقه السنة -مثلاً- ومعرفة أحكام المرأة وما يتعلق بها من خلال المؤلفات والكتب المؤلفة في المرأة، وهي كثيرة جداً، منها كتاب عمر الأشقر، ومنها كتاب عبد العزيز المقبل، ومنها كتاب نعمة صدقي: خطر التبرج والإختلاط، ومنها كتاب مصطفى السباعي، المرأة بين الفقه والقانون، وكُتب كثيرة لا تحضرني.
وأما مجلات الأزياء التي تحمل صور النساء فأرى من الواجب على المسلمين ذكوراً وإناثاً مقاطعتها، وشن حرب عليها، حتى تكسد سوقها، ويضطر مصدروها إلى التوقف أمَّا الرسم الذي بدون صور، أي رسم أزياء بدون صور فهذا لا بأس فيه، وأما مخاطبة المرأة للرجل إذا كان ذلك لحاجة، فهو جائز.(15/32)
الزواج وعوائقه
السؤال
إن الفطرة تجذب الرجل للمرأة وبالعكس، ولا يوجد من طريقٍ حلال إلا الزواج لإشباع هذا الميل، ونحن معشر الشباب الصالح إن شاء الله، نحرص على سلوك هذا السبيل؛ لكن ما قولكم فيمن يضع العراقيل في هذا السبيل كإكمال الدراسة الجامعية، أو تأمين المستقبل كما يقوله البعض، كأنهم لم يثقوا بوعد الله؟
الجواب
يقول الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] فالزواج من أسباب الغِنى، وهذا أمرٌ مجرب، فالله عز وجل وعد الفقير إذا نكح بقصد الإعفاف أن يغنيه، وهذا أمرُ مشاهد؛ ومن أسباب الغنى: أن الرجل بعد الزواج يشعر بالمسئولية، وأنه أصبح رب أسرة، ولابد أن يعتمد بعد الله على نفسه، فيجد ويجتهد في تحصيل الاستغناء المالي.
الأمر الآخر: أن الإنسان يجب أن يحرص على ترتيب الأولويات، فأغنى شيء على الإنسان دينه، كثيرٌ جداً من الشباب يشتكون من قضية ما يسمى بالعادة السرية، ويتكلمون كلام الإنسان اليائس، الذي يشعر بأنه تاب ثم وقع، تاب ثم وقع، حتى إن بعضهم ينذر على نفسه أن يقلع فلا يقلع، وبعضهم يقع في أشياء مُتعبة جداً، بسبب تكرر حصول هذا الأمر منه؛ لأنه ما أشبع هذه الغريزة الفطرية.
فدينك أيها الشاب أغلى عليك من كل شيء، وعليك أن تفكر جدياً في حماية دينك، ولو على حساب أشياء أخرى؛ ولله در ذلك الصحابي الذي كان بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأةٌ فأهدت نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، فصوب إليها النظر، فكأنها لم تعجبه، فقال الرجل: {يا رسول الله! زوجني إياها إن لم تكن إليك بها حاجة، فقال له: أصدقها، ذهب يبحث فما وجد، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فما وجد، قال للرسول: إزاري هذا قال: إن أعطيت لها إزارك، بقيت ولا إزار لك ثم سأله إن كان يحفظ شيئاً من القرآن، فقال: زوجتك بما معك من القرآن} أي أن تعلمها شيئاً من القرآن.
فذلك رجل يدرك أن قضية الزواج مهمة، إلى درجة أنه مستعد أن يخلع إزاره ليكون مهراً للمرأة؛ وآخر تزوجها بنعليه، طبعاً ذلك المجتمع كان فيه فقر؛ لكن المقصود أن أولئك كان يدركون أن قضية الزواج قضية أساسية، ويجب العمل على إزالة العوائق.(15/33)
حكم بعض البلدان
السؤال
أنت تقول أن حب البلد فطرة توجد في الإنسان يوجد بعض الشباب، إذا ذكرت له البلد الفلاني، يقول بأعلى صوته: أعوذ بالله من هذا البلد؟!
الجواب
قد يعوذ بالله من الانحراف والفساد الموجود في ذلك البلد، وقد يعوذ بالله من تقديم هذا البلد على محبة الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وهذا صحيح.
أما بغض البلاد بذاتها؛ فليس بمشروع، إلاَّ لو وجد بلد ورد في الشرع ما يدُل على سوئه؛ فإن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار الله بلداناً وفضلها وأثنى عليها، وذكر {أن الإسلام يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} ولمكة وللمدينة فضل ليس لغيرهما، ولجزيرة العرب فضل، ولبلاد اليمن فضل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن} وقال: {آتاكم أهل اليمن} ولبلاد الشام فضل {وإذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} إلى غير ذلك.(15/34)
تزويج الشاب المنحرف
السؤال
يوجد شاب يشرب الدخان، ومسبل لثوبه، وحالقٌ لحيته، ولم أشهد عليه الصلاة مع الجماعة فهل يجوز للمرأة أن تتزوج مثل هذا الشاب؟
الجواب
لا ينبغي للإنسان أن يُفرط في موليته؛ بل يجب عليه أن يختار لها الرجل المناسب، وكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر من يبحث عن زوجة بأن يظفر بذات الدين؛ فإن الولي وكذلك المرأة مأموران بالبحث عن ذي الدين، فينبغي للمرأة ألا تقبل بزوجٍ إلا أن يكون زوجاً صالحاً يعينها على طاعة الله، وكذلك يجب على الولي ألاَّ يُزوج من يعلم منه تقصيراً في دينه أو فسقاً أو انحرافاً.
ثم بعد ذلك انظر إلى حال المرأة، فإن كانت المرأة متدينة صالحة، فلا تزوجها إلاَّ المتدين الصالح الذي يزيد من دينها؛ وإن كانت امرأة عادية كغيرها من الناس، فزوجها من هو من جنسها، إلا أن يتقدم لها من هو أفضل؛ فحبذا!.(15/35)
الحث على الزواج من الشاب المناسب (صاحب الدين)
السؤال
أنا فتاةُُ لم أتزوج، وكلما تقدم لي خاطب أرفضه بدون سبب، فما رأي الدين في هذا؟ وهل عليَّ وِزْرُُ؟ وما هي النصيحة لي ولأمثالي جزاكم الله خيرا؟
الجواب
إذا كانت هذه الفتاة وأمثالها ممن تشعر بالرغبة الأصلية في تكميل دينها بالزواج، وهذا هو الغالب على جنس الإنسان ذكر وأنثى، فعليها وزر في رد الخاطب المناسب بدون سبب، ولا يجوز لها أن ترفضه، وتؤخر زواجها؛ لأنه قد لا يتقدم لها بعد ذلك من تريد وترغب فيه، فيجب على الفتاة أن تَفرح بقدوم الشاب الذي فيه صلاح، ولو كان فيه بعض النقائص.
فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نُبلاً أن تُعد معايبهُ إذا كانت هذه النقائص في أمر الدنيا، كأن يكون وضعه المادي، متوسطاً -مثلاً- أو تكون هيئته عادية، أو يكون عليه بعض الملحوظات اليسيرة؛ فيجب على الشابة أو الفتاة أن تقبل بذلك، وأن تفرح به وَلِمَ تفرح؟ لأن الفتاة حين لا يتقدم لها من تريد، لا تستطيع أن تبحث هي؛ فالمرأة مطلوبة وليست طالبة، ومن العجب أن يتقدم لها رجل طيب وترفضه! وربما يكون عند المرأة -أحياناً- تهيب من موضوع الزواج، وحياء أو خجل منه؛ فعليها أن تدرك أن هذا أمرُُ فطري جبل الله عليه بنات آدم، ولا بد لها منه عاجلاً أو آجلاً، فأن تتزوج الآن بشاب مناسب خيرُُ من أن تُؤخر الأمر وترفضه بدون سبب؛ فقد لا تجد يوماً من الأيام من يتقدم لها، وقد تتنازل عن بعض ما تريد من الشروط، لكن بعد فوات الأوان.(15/36)
حقيقة الفطرة
السؤال
ما مدى صحة من قال: بأن الفطرة التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم: هي البحث عن معبود؟
الجواب
هذا من الفطرة، فالفطرة -كما لعلي أشرت- فطرة ظاهرة، وفطرة باطنة: أما الفطرة الظاهرة: يمثلها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عشر من الفطرة -كما في الحديث الذي رواه مسلم، وذكر الختان، والاستحداد، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء، والمضمضة، وإعفاء اللحية، وقص الشارب} .
فهذه من الفطرة الظاهرة، التي الإنسان بأصل فطرته يميل إليها؛ لأنها من كمال الإنسان ومما يحبب إلى الناس، ويجعل الألفة بينهم قائمة على أساسٍ سليم والشرائع كلها جاءت بتكميل هذه الفطرة، ورسم المنهج الصحيح لها.
والفطرة الثانية: هي الفطرة الباطنة: وهي ميل القلب إلى معبود كما أشرت، وهذا أمرُُ فطري، والله عز وجل يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] .
فالإنسان لابد عابد، إما للشيطان أو للرحمن، يقول الله عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ويقول: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] .
فالإنسان عابد بلا شك، ولو تُرك الإنسان وفطرته لاهتدى إلى الله عز وجل، والشرائع، والديانات السماوية جاءت لتزكي هذه المعرفة تُزكي معرفة الإنسان بالله عز وجل؛ فتجعله يؤمن بالله، ويعرف الله حق المعرفة، ويعبد الله حق العبادة؛ والشيطان والمجتمع المنحرف يحاول أن يصرف الإنسان عن هذه الفطرة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} .
ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: أن في القلب شعثاً لا يلومه إلا الإقبال على الله، وفقراً لا يغنيه إلا التوجه إلى الله عز وجل؛ وأن العبد إذا لم يُقبل على الله تبارك وتعالى؛ فإن قلبه يتشعب في أودية الدنيا وفجاجها، فلا يبالي الله به في أي وادٍ هلك؛ ولذلك الإنسان إذا ترك دينه؛ أصابه من الأمراض النفسية مالا يعرفه بها إلا من عاشره!! نسأل الله السلامة، وأشد الناس شقاءً وتعاسة في الدنيا، هما الملحدون، والعياذ بالله.(15/37)
سلوكيات خاطئة في الأذان
تحدث الشيخ حفظه الله عن السلوكيات الخاطئة التي يقع فيها المؤذنون في أنحاء العالم الإسلامي، وقسمها الى قسمين أساسيين: أخطاء في جانب القصد والإرادة، وأخطاء في جانب المتابعة والموافقة للسنة.
فكان من القسم الأول: طلب الأجرة والدنيا عن طريق الأذان، والرياء والسمعة به، وكان من القسم الثاني التمطيط وزيادة حروف وإبدال بعضها ببعض في كلمات الأذان، والجهر بالصلاة على النبي بعد الأذان وزيادة ما لم يشرع مثل (حي على خير العمل) (أشهد أن علياًَ ولي الله) كما تعرض لبعض الأحاديث الموضوعة في فضل الأذان والمؤذنين.(16/1)
أخطاء الناس في نية الأذان
الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تعلمون بارك الله فيكم أنني ابتدأت في هذا المسجد درساً آخر كما كنا اتفقنا في أول الفصل السابق من أول العام الهجري وأن هذا الدرس هو درس علمي عام غير مخصص في موضوع معين؛ بل سيتناول موضوعات عدة، في جميع ألوان العلوم والفنون التي يحتاجها الناس، ولذلك فإن ذلك الوقت الذي بين الأذان والإقامة في درس بلوغ المرام، سوف أجعله غالباً للحديث عن بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس، فيما يتعلق بالباب الذي أشرحه من كتاب بلوغ المرام، فإذا كنت الآن أشرح -مثلاً- باب الأذان من كتاب الصلاة، فسأجعل ما بعد الأذان للتنبيه على بعض الأخطاء والأغلاط التي يقع فيها الناس في شأن الأذان، مما لا يتسع المجال لبسطه في الدرس نفسه، لضيق الوقت وكثرة الأحاديث التي تحتاج إلى شرح وبيان وبسط وإيضاح.
فسأجعل هذا الوقت القصير بين الأذان والإقامة للحديث عن بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في أي باب من الأبواب التي تشرح من بلوغ المرام، وفي ذلك توفيق بين كون الدرس بين الأذان والإقامة ليس في صلب بلوغ المرام بحيث يفوت على الإخوة الذين يخرجون، وكذلك ليس بعيداً عنه بحيث أن الإخوة الذين يستفيدون فائدة تتعلق بالموضوع نفسه.
فيما يتعلق بالأذان هناك في الواقع في الأمصار الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها بدع وانحرافات وأخطاء كثيرة تحتاج إلى بيان، وسأذكر شيئاً منها في هذه الجلسة، وأكمل ما تبقَّى في جلسات قادمة إن شاء الله تعالى.
وأول ما يتبادر إلى الذهن في موضوع الأذان وغيره موضوع النية في الأذان.
فإن الأذان عبادة بلا شك، بل هو من أجّل العبادات، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ذكر كثير من أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في المؤذنين، وهذا ليس على ظاهره، إنما المعنى أن المؤذنيين داخلون في هذه الآية، فهم ممن دعا إلى الله؛ لأنهم يدعون إلى شعيرة من أعظم الشعائر وهي الصلاة، ينادون إليها في اليوم والليلة خمس مرات، فهم داخلون متى ما أخلصوا وصدقوا مع ربهم في دلالة هذه الآية مبشرون بما بشّر إليه تعالى به أهلها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] .
وورد في فضله أحاديث كثيرة سبق ذكر شي منها، وإنما يكون الفضل لمن أخلص في عمله، فإنه -كما هو معلوم- لابد في العمل الصالح من شرطين:- أولهما: الإخلاص في القلب في نيته وإرادته وجه الله تعالى والدار الآخرة.
والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يزيد الإنسان وينقص على الهدي الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم.
وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إن أخطاء الناس في الأذان تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالشرط الأول من شروط صلاح العمل وهو الإخلاص.
والقسم الثاني: يتعلق بالشرط الثاني من شروط قبول العمل وهو المتابعة، فيخلون بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذانهم.(16/2)
أخذ الأجرة على الأذان وأثره على الإخلاص
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص أن يتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، كما سيأتي في حديثه: {واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} والمقصود أن هذا أقرب إلى الإخلاص، وليس أخذ الأجر على الأذان مانعاً من الإخلاص فيه.
فإن الإنسان قد يكون مخلصاً في أذانه يريد ما عند الله تعالى، ولكن جاءه أجر فأخذه، ولو فاته أجر مادي أو راتب أو وظيفة أو ما أشبه ذلك، لما ترك الأذان لفواتها، بل لاستمر على ما هو عليه.
إذاً لا بد من الإخلاص وإرادة وجه الله تعالى في الأذان، فالأذان عبادة يشترط فيها الإخلاص، كما يشترط الإخلاص في الصلاة وفي غيرها من العبادات.
وفي هذا يقع كثير من الناس في أخطاء، فإن من الناس من يريد الدنيا بعمله، فيؤذن من أجل وظيفة -مثلاً- أو من أجل وجود بيت في المسجد يسكن فيه، ويكون هذا غرضه بحيث لو فاته هذا الأمر الدنيوي لما أذن، وهذا لا شك أنه آثم بنيته وفعله، لأنه أراد الدنيا بالدين -يأخذ الدنيا بالدين- وقد قال الله عز وجل في محكم تنزيله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن عمر رضى الله عنه: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه} .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر النية في الهجرة، وهي عمل من أعظم العبادات، وفيها تجشّم المشاق والصعاب وترك البلد والأهل والولد والمال إلى بلد لا يعرفه الإنسان وإلى قوم غرباء عنه في سبيل الله، الظاهر إذا كان مثل هذا العمل تشترط فيه النية، فغيره كذلك، بل قد يكون غيره أولى من ذلك.
فكل عمل لابد فيه من النية الصالحة، فمن أراد الدنيا بعمله الذي عمل -شرعي أو تعبد- فهو آثم بهذه النية والإرادة، وتركه لهذا العمل خير له عند الله تعالى، فإن الدنيا لا يجوز أن تطلب بالدين هذا من كان قصده الدنيا محضاً، أي: لا يريد من الأذان إلا كما أسلفت، إما الراتب أو الوظيفة وإما البيت الذي يكون تابعاً للمسجد، في بعض المساجد لا في كلها، إن كان هذا مراده فحسب فهو آثم، ويجب عليه ترك هذا العمل إذا لم يصحح نيته.(16/3)
المراءاة وحب المدح
الحال الثاني: أن بعض الناس قد يؤذن رياءً أو سمعةً، وكيف يؤذن رياءً وسمعةً؟ يؤذن حتى يمدح بذلك أو يعرف، فإذا سمع الناس أنحاء البلد صوته، سُرَّ بذلك وأُعجِبَ ونظر في عطفيه، ورأى أنه قد عمل شيئاً عظيماً، وهذا أيضاً من الرياء، والرياء إذا خالط عملاً؛ فإنه حابط غير مقبول عند الله تعالى، والرياء شرك بل صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يسير الرياء شرك} وفيما يتعلق بالصلاة قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصلينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] فتوعد المصلي إذا كان مرائياً في صلاته، فغير المصلي أيضاً متوعد إذا كان قصده بالعمل الرياء والسمعة وهذا أيضاً صنف من الناس.(16/4)
من تلبيسات إبليس على المؤذنين
الصنف الثالث: من الناس من يكون قصده بالأذان وجه الله تعالى، يؤذن ليدعو الناس إلى الصلاة، يؤذن بقصد الأجر والمثوبة، يؤذن طلباً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يسمع صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شجر ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة} وموعوده صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر الذي قال فيه: {إن المؤذن يُغفر له مدى صوته} وفي بعض الأحاديث: {من حافظ على الأذان اثنتي عشرة سنة -وورد أقل من ذلك- فإنه يكتب له براءة من النار} والحديث صححه جماعة من أهل العلم، فيؤذن طلباً لهذا الموعود الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذنين.
ولكن تأتي الأشياء الأخرى تبعاً، فقضية الوظيفة والراتب والمسكن وغيرها أمور ليست مقصودة له ابتداءً، إنما هي تأتي تبعاً، وهذا ولاشك أنه مأجور عند الله تعالى على آذانه ومثاب، وله الوعد الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، ولا يضيره كونه أخذ شيئاً من لعاعة الدنيا ما دام ليس مقصود له في الأصل لا يضيره ذلك، لأن الأعمال كما سبق بالنيات.
وهانحن نرى أن المجاهد يخرج إلى المعركة فيقاتل فيها، يبتغي ما عند الله، ويبتغي إعزاز الإسلام وإذلال الكفر، ثم تكون الغنائم فيأخذ منها، فلا يضيره ذلك، وإن كان قد ينقص من أجره، لكن لا يضره ذلك من حيث أنه يحبط عمله، كلا! بل أجره له، وبعضهم يقول: ينقص أجره بقدر ما أخذ، كما في الحديث الذي ذكر فيه {ألا تعجلوا ثلثي أجرهم} كما ورد.
لكن على كل حال مادام قصده ما عند الله، فلا يضره أن تجيء الدنيا تبعاً لذلك، وهاهم الفقهاء يذكرون -أيضا- الحج فيقولون: إن من حج بقصد أداء الحج، وفي نيته أيضاً أن يشتغل بالتجارة في الحج، فهذا لا يضره بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك وأنه جائز، يعني الإنسان إذا ذهب إلى بيت الله الحرام للحج، وفي نيته التجارة -أيضاً- فحج وتاجر هناك، فقد نقل بعض العلماء الإجماع على أن هذا جائز لا بأس به، وصح عن ابن عباس أنه في مثل هذا نزل قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] فالآية نزلت في الحج وفيها: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: بالتجارة، لكن هؤلاء لم يكن غرضهم التجارة فقط لا! كان غرضه الحج والتجارة مع الحج أيضاً، فهذا جائز كما ذكرت، وإن كان ينقص أجره.
إنما بعض الناس إذا حَدَثَ عنده هذا الأمر، ورأى أن في عمله الديني التعبدي الحصول على مكسب من مكاسب الدنيا، فإنه يترك هذا العمل ويُعرِضُ عنه.
فقد يترك الإمامة في المسجد، أو يترك الأذان، أو يترك الدراسة وطلب العلم، أو يترك غيرها من المقاصد الشرعية، بحجة أن هذا العمل يجلب لي شيئاً من الدنيا، وأخشى أن تكون نيتي قد دخلها شيء، وأقول: إن الإنسان ينبغي أن يدرك أن الترك والفعل كل واحد منهما يحتاج إلى تأمل وفيه مدخل للشيطان، وقد ذكر أهل العلم كـ ابن حزم وغيره أن الشيطان يأتي أحياناً من جهة تشكيكه في نيته ليترك العمل، ونقل عن عياض أنه كان يقول: [[العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس شرك]] فإن الإنسان لا ينبغي له أن يعمل من أجل الناس، ولا أن يترك من أجل الناس وينبغي أن يدرك أن الشيطان أحياناً يأتي من جهة تشكيكه في صلاح نيته ليترك العمل الصالح، وعلى الإنسان حينئذ أن يدفع هذا الوارد أو الخاطر الذي خطر له، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويعمل على تصحيح نيته ما استطاع، ويستمر على عمله.(16/5)
الفرق بين المخلص والمرائي
والدليل على أن الإنسان الذي قصده الدنيا -وهذا ضابط جيد في نظري في كثير من الأمور- الإنسان الذي قصده الدنيا لا يبالي بالدين، فإذا كان الإنسان قصده الدنيا في عمل من الأعمال في دراسة أو في إمامة أو في تعليم أو في أذان أو في غيرها، الدليل أن قصده الدنيا أنه لا يعبأ بما تضرر به في دينه من وراء هذا العمل، فهو يقول بينه وبين نفسه: أنا قصدي الدنيا بهذا العمل، وقد حصلت الدنيا ولا يضيق صدره لذلك، ولا يكترث له، لأنه قصد الدنيا كما ذكرت.
أما الإنسان الذي يضيق صدره، ويخاف من سوء النية، ويخاف من حبوط العمل، وتكثر عنده هذه الواردات، وهذه الهواجس والوساوس والخواطر، فهو الإنسان الذي يوجد عنده في قلبه إخلاص ورغبة في العمل الصالح لوجه الله، فيخشى أن يتأثر هذا العمل بنيةٍ غير حسنة، أو بإرادة دنيوية، ومثل هذا لا ينبغي أن يتساهل معه في ترك الأعمال؛ لأنه لوكل من ورد عنده هذا الوارد ترك العمل الصالح الذي يقوم عليه لما قام الإنسان بعمل صالح، فالشيطان يوسوس في الصلاة، في الزكاة، في الصوم، في الحج، في العمرة، في الإقامة، في الأذان في التعليم، وفي الوعظ، وغيرها، حتى تترك الأعمال كلها، ومن جهة أخرى لاضطرب أمر الناس؛ لأنه لوكل إنسان استجاب لهذا الوسواس، فمن يؤم الناس؟! ومن يؤذن لهم؟! ومن يعلمهم؟! ومن يعظهم؟! ومن يرشدهم؟! ومن يحسن إليهم؟! ومن؟! ومن؟! ربما لم يكد يوجد من يعمل ذلك؛ ولهذا كان السلف يقولون عن النفاق كما نقل عن الحسن البصري وغيره يقولون: [[ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن]] والمعنى أن المؤمن الذي دائماً يحاسب نفسه على أعماله ماذا قصدت؟ ماذا أردت؟ هل أردت وجه الله أم أردت الدنيا؟ هذا عنده أصل الإيمان، وعنده الوازع الديني؛ ولهذا يحاسب نفسه ويلومها: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2] فهو مؤمن.
لكن المنافق هو يعلم في قرارة نفسه أنه منافق، وقد واطأ نفسه على هذا الأمر، ورضي به وأقره فلا يكترث؛ لأنه يعرف في حقيقة نفسه أنه منافق، وهو يريد النفاق واختاره والعياذ بالله طريقاً له ومنهجاً له في الحياة، فقد أمن الأمر فهذا ظاهر.
ولذلك ليس من الحسن ولا من الجيد أن بعض طلاب العلم -بل وبعض الدعاة والمصلحين أحياناً- يصل بهم الخوف من النفاق أو الخوف من الرياء في الأعمال إلى حد أن منهم من يقول عبارات مخيفة موحشة في هذا الباب، حتى إني سمعت أحدهم، وهو يتكلم في مناسبة عامة، ويتحدث عن النفاق والمنافقين فيقول: وإنه -يعني- نفسه -والله- وأقسم بالله على ما أراد أن يقول- من الراسخين في النفاق! وهو يعني أنه يتهم نفسه بالنفاق بل وبالرسوخ فيه، هذا لا يجوز أن يقال.
بل هو غلط كبير، واستجابة لوساوس الشيطان، وإلقاءاته على نفس الإنسان الضعيفة، والمؤمن ينبغي أن يتقي ذلك ويتجنبه، كما أنه لا ينبغي للإنسان ولا يصح له أن يستجيب لهذه الوساوس في ترك العمل الصالح، إلا من صح عنده العزم على إرادة الدنيا كما ذكرت في أول حديثي، فهذا يطلب منه أن يترك العمل، فقد ذكرت في أول الحديث أن من عرف من نفسه معرفة جازمة لا إشكال فيها ولا شك أنه لا يريد وجه الله، ولا يريد الخير، ولا الأجر، ولا المغفرة، ولا يريد أن يشهد له كل شيء، وإنما يريد الدنيا، فمثل هذا يقال له: يجب عليه أن يصحح نيته وقصده، فإن كان لا يفعل، فإنه يجب عليه أن يترك هذا العمل؛ لأنه آثم به، ويَدَعَه لغيره ممن يظن فيهم الإخلاص.
إذاً: هذا كلام عام عن مراتب الناس ومقاصدهم ونياتهم في موضوع الأذان وفي غيره.(16/6)
التهوين من شأن الأذان
والخطأ الثاني: الذي يقع فيه الناس كثيراً هو أن كثيراً من الناس يتساهلون في شأن الأذان، ويقللون من أهميته، بل إن في بعض البيئات وفي بعض البلاد يعتبرون الأذان والعياذ بالله نوعاً من المسبة ويُعيَّرون به، وهذا من الانحراف عن دين الله، بل يوشك أن يكون هذا ردة عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65-66] .
إذاً الأذان شريعة الله، شريعة رب العالمين، وهو الفارق بين الأمم المسلمة والأمم الكافرة، وورد في فضله كيت وكيت من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فلا يُتصور من مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وٌيصِّدق بما جاء عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يهوِّنَ من شأن الأذان، أو يقلل من قيمته، أو يعتبر أنه لا يتولى هذا العمل إلا إنسان فيه وفيه، أو يعير أحداً بذلك أو يسبه والعياذ بالله! هذا لا يتصور من مؤمن مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحدث منه، وكيف يحدث من مسلم هذا؟! وهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الخليفة الراشد الثاني الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والدين والجنة، يقول كما روى سعيد بن منصور والبيهقي وغيرهما بسند صحيح [[لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت]] فكان يتمنى أن يكون عنده وقت واستطاعة أن يتولى الأذان مع الخلافة، ولكنه ابتلى بهذه الخلافة فلا يطيق معها أن يؤذن.
فكل مسلم يتمنى أن يكون من أهل هذه الشعيرة العظيمة والقائمين بها، مع إخلاص النية والقصد ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها.(16/7)
الإخلال بوقت الأذان
الخطأ الثالث: الذي يقع فيه بعض الناس هو ما يتعلق بوقت الأذان، فإن الأذان في غالبه إعلام بدخول وقت الصلاة ودعاء ونداء إلى فريضة الله، لا يخرج عن ذلك إلا الأذان الأول في الفجر الذي يكون قبل الوقت كما سبق مراراً، فإنه أذان لإيقاظ النائم، وتنبيه القائم الذي يصلي، حتى يخفف من صلاته لُيدرك السحور قبل طلوع الفجر في رمضان وما أشبه ذلك من المقاصد، وكذلك الأذان الأول يوم الجمعة الذي فعله عثمان رضي الله عنه على مشهد ومرأى ومسمع من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فأقروه كافتهم وعامتهم على ذلك، وصار شريعةً باقيهً في هذه الأمة، فإنه يكون قبل وقت الجمعة على المشهور في تحديد وقتها، أما فيما عدا ذلك فإن الأذان هو إعلام بدخول الوقت، والناس يعرفون أنه كذلك، فيلتزمون به في إقامة الصلاة وأدائها، وفي الإمساك في رمضان في أذان الفجر، وكذلك في الإفطار في رمضان في أذان المغرب، وما أشبه ذلك من الأمور المبنية على معرفة دخول الوقت وهي أمور كثيرة جداً لعلة عرف بعضها أو كثير منها في باب المواقيت الذي سبق وأن شرحته.
فإن المواقيت يترتب على دخولها أشياء كثيرة جداً لا تكاد تحصر بيسر، سواء في موضوع الطهارات، أو في موضوع أصحاب الأعذار، أو في غيرها من الأحكام، فالأذان هو في عمومه إعلام بدخول الوقت، وقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، فقال: {أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن} فالمؤذن مؤتمن على الوقت ويجب عليه أن يراقب الله تعالى في تحديد الوقت، فلا يؤذن قبل الوقت ولا يتأخر عن الوقت في المساجد العامة.
فمن الناس من يؤذن قبل الوقت وخاصة في رمضان، يؤذن بعضهم أذان الفجر الثاني قبل الوقت، فإذا قلت له: لماذا؟ قال لك: أذان على سبيل الاحتياط، حتى يُمسِك الناس عن الأكل والسحور، وهذا الاحتياط غلط، بل لا مجال للاحتياط في هذا الباب.(16/8)
مفاسد الإخلال بوقت أذان الفجر بدعوى الاحتياط
هذا من الأنواع والأبواب التي ليس هناك مجال فيها للاحتياط، بل يترتب على أذانه قبل الوقت مفاسد عديدة وعظيمة منها: أولاً: أن هناك نساء في دورهن وأناساً في أماكن بعيدة إذا سمعوا أذان الفجر أقاموا الصلاة وصلوا، ظنوا أن الوقت قد دخل، فيكون هذا الذي احتاط بزعمه للصيام، قد فرّط في أمر أعظم، وهو أمر الصلاة، وباء بإثم أولئك القوم من الرجال والنساء الذين صلوا قبل الوقت اغتراراً بأذانه، فهذا ضرر.
الضرر الثاني: أن كثيراً من الناس إذا سمعوا الأذان أمسكوا عن السحور، ومن المعلوم أن من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام تأخير السحور، كما ورد في الصحيحين من حديث جماعة من الصحابة: {ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور} فتأخير السحور مشروع ومستحب وسنة، فيترتب على تعجيل بعضهم بالأذان - أذان الفجر الثاني- أن يمتنع الناس من السحور ويتوقفوا قبل خروج الوقت، فيفرط بسنة.
الضرر الثالث: من الناس من لا يستيقظ إلا متأخراً، فإذا سمع الأذان لم يتسحر، وربما صام طاوياً في ذلك اليوم، ولا شك أن الذي تسبب له في ذلك يتحمل الوزر، فالتبكير بالأذان هذه بعض مضاره.(16/9)
مفاسد تأخير الأذان واختلاف المؤذنين
وآخرون يؤخرون الأذان عن الوقت، وقد يؤخرونه تأخيراً ظاهراً يترتب عليه تفريط الناس في الصلاة، وتأخرهم عن المجيء إلى المساجد، وكثيراً ما نكون نحن قد أحرمنا بالصلاة -مثلاً- دخلنا في الصلاة أي صلاة- فبعدما ينتصف الأمام في الصلاة وأحياناً بعد السلام تسمع مؤذناً يؤذن للصلاة، وهذا أيضاً فيه ضرر عظيم؛ لأن كون الناس في البلد الواحد يصلون في وقت واحد، أو في وقت متقارب فيه مصالح كثيرة من أهمها: مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تفاوت المساجد يجعلك لا تستطيع أن تأمر أحداً أو تنهاه، فإذا قلت له قال: صليت في المسجد الفلاني! بل إن هذا يحدث فقد أتيت يوماً من الأيام على جماعة، قد فتحوا دكاكينهم يبيعون فسألتهم، فقالوا: إننا قد صلينا في المسجد وأشاروا إلى مسجد، فذهبت فوجدت الناس قد صلوا فعلاً، وذهبت إلى مسجد آخر، فإذا به لم يقم الصلاة بعد، فَكَون وقت الأذان ووقت الصلاة في البلد الواحد يكون متقارباً في الجملة فيه مصالح عظيمة، ومن أهمها: مصلحة انضباط موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه مصالح أخرى كثيرة، هذا وللحديث بقية والله تبارك أعلى وأعلم وصلى الله على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك ونشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(16/10)
بدع الأذان
الحمد لله رب العالمين؛ اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: كنت تكلمت في المجلس السابق عن بعض أخطاء الناس في الأذان، وخاصة ما يتعلق بالنية، ثم انتقلت إلى ما يتعلق بضبط الوقت وتقديم بعضهم للأذان أو تأخيرهم له وما يترتب على ذلك من الأضرار والمخالفات، وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للمؤذن أن يؤذن قبل الوقت بحال من الأحوال، إلا أذان الفجر الأول كما هو معروف، وكما سبق التنويه به، فأواصل الآن الحديث عن بعض الأخطاء والمخالفات التي يقع فيها الناس في الأذان.
وحين أقول: يقع فيها الناس ينبغي أن يعلم أنني أقصد الناس في العالم الإسلامي كله، أي أن هناك أخطاء كثيرة -ولله الحمد- لا توجد في هذه البلاد، بسبب أن الله تعالى مَنّ على أهل هذه البلاد بعلماء ومصلحين، حفظوا لهذه الأمة في هذه الجزيرة كثيراً من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نجد في هذه البلاد كثيراً من البدع العملية والأخطاء التي قد نجدها في بلدان أخرى، وقد تكلم جماعة من أهل العلم في بدع الناس وأخطائهم في الأذان، كما تكلم فيه الشيخ علي محفوظ والشيخ جمال الدين القاسمي وغيرهما من العلماء المصنفين، فذكروا أخطاء الناس وبدعهم في الأذان، وسوف أشير إلى أمور، منها ما ذكروها، ومنها ما لا يذكرونها، ولكني لاحظته من واقع ملاحظتي للناس:(16/11)
الأذان المُسَجَّل
فمن الأخطاء أن بعض الناس -وسوف أركز الآن على الأخطاء في ألفاظ الأذان وأدائه- أن كثيراً من الناس يستغنون عن مباشرة الأذان باستخدام أجهزة التسجيل، فيأتون بأذان مسجل لأشخاص معروفين مقرئين أو غيرهم، ويضعونه في مكبر الصوت! وهذا يحدث في كثير من الأحيان، وأحياناً نسمعه بالميكروفون من مسافات بعيدة ولا شك أن هذا فيه خسارة كبيرة؛ فكيف يَسْتَبْدِلُ الإنسانُ الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويُفوت على نفسه الخير الكثير الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن: {أنه لا يسمع مدى صوته جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له به عند الله تعالى يوم القيامة} فهذا من الأمور التي ينبغي تجنبها، وينبغي للعبد المؤمن أن يباشر الأذان بنفسه، ويحتسب الأجر في ذلك عند الله تعالى.(16/12)
المبالغة في التمطيط وإبدال بعض الحروف ببعض
ومن ذلك أن بعض المؤذنين يبالغون في تمطيط أصواتهم بالأذان مبالغةً ممقوتةً ممجوجةً، فإذا قال مثلاً: "لا إله " مده مداً طويلاً قد يزيد على عشر حركات أو اثنتي عشرة حركه أو أكثر، وكذلك قوله: (الله) (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) يمدونه مداً زائداً شديداً يخرج بالأذان عن شرعيته وحكمته، وهذا لا أعتقد أنه يكون أذاناً مشروعاً صحيحاً، لأن الإنسان إذا مد مداً مبالغاً فيه خرج اللفظ عن اعتباره اللغوي ووضعه اللغوي.
ولذلك أذكر أن أحد الإخوة من الذين يمططون الأذان ويبالغون في ذلك، وكان في أحد المساجد في الرياض فأذن، وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حاضراً لإلقاء محاضرة في ذلك المسجد، فلما انتهى من الأذان قام الشيخ -حفظه الله وبارك في عمره- وبين أن هذا ليس آذانا شرعياً، وبيّن الأذان، ثم أذن بنفسه حتى يُعلم غيره تعليماً عملياً، ولعله -والله تعالى أعلم- قصد إلى أمر آخر، وهو كأنه رأى أن الأذان الأول لا يكفي، فأذن عوضاً عنه، وهذا مجرد التماس مني، وقد يكون كذلك أو لا يكون، وبعض الناس يمدون الأذان مداً في غير محله، فمثلاً بعضهم يمدون بعد الهمزة يضعون ألفاً (آلله) فيقول: (آلله أكبر) مثلاً، وهذا لا يجوز، لأنه هنا كأنه أوجد عدة همزات، وكأنه صار استفهاماً، كما في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] فبدلاً من أن يكون خبراً أصبح استفهاماً، وهذا ولا شك أنه لحن يحيل المعنى، ولا يجوز.
وبعضهم يمدون الباء في قوله "أكبر" فيقول: أكبار! وهذا أيضاً لا يجوز، وقد ذكر أهل العلم أن هذا اللحن يحيل المعنى، وأن (أكبار) هذا له معنى آخر لا يليق ذكره بهذه المناسبة، ولا يليق أن يلحن الإنسان هذا اللحن الملبس، الذي فيه سوء أدب.
ومن أخطائهم: أن بعضهم إذا نطق باسم الرسول صلى الله عليه وسلم يضع مداً في غير محله، إما يضع واواً بعد الميم فيقول مثلاً: "موحمداً " أو يمد الحاء بعضهم فيقول " محامدا " فيضع بعد الحاء ألفاً وهذا كله كما سبق، يعتبر لحناً ومداً في غير محله، ومثله المد بعد الحاء في قوله: "حي" فبعضهم يضع بعد الحاء ألفا " حايّ " وكذلك في (اشهد) قد يضع بعد الدال واواً يشبع الضمه حتى يتولد منها واو فيقول " أشهدو أن "، ومثله أن بعضهم يشبع الكسرة في (إله) ، فيتولد منها ياء، فيقول "لا إيله إلا الله "، وكل هذه ناتجة عن الجهل، والعجمة، وعدم التعلم، وإن بعضهم قد يبالغ في تمطيط الأذان وتحسينه بصورة غير مشروعة.
وأحياناً أحدهم يبدل حرفاً بآخر، ومن أشهر الأشياء الموجودة عندنا -مثلاً- أن بعض الناس يقول: (وكبر) (الله وكبر) ، ولا شك أن هذا لحن ومحيل للمعنى أيضاً، فإن المعنى الصحيح (الله أكبر) وأكبر أفعل تفضيل مبدوء بالهمزة فبعضهم يبدلون الهمزة واواً فيقولون: " الله وكبر "، وكذلك بعضهم يبدلون الحاء هاء في قوله " حي " فيقول " هي " وبعضهم يبدلون العين، أو يحذفون العين فبدل من أن يقول: "حي على الصلاة" تسمع بعض المؤذنين وخاصة من العوام يقولون: "حي لها الصلاة " وهو معبر عنها بمعنى عندهم، ولكن اللفظ الوارد عن الرسول عليه الصلاة والسلام هو بعلى "حي على الصلاة " وبعضهم قد يبدلون الهاء حاء فيقولون: "حي على الصلاح " وهم لا يشعرون بذلك؛ فهذه كلها وأمثالها كثير من الأخطاء التي يقع فيها بعض المؤذنين إما من العامة وإما ممن أسلفت ممن يبالغون في تمطيط أصواتهم بالأذان وتحسينه بصورة ليست مشروعة.(16/13)
تسييد اسم الرسول في الأذان
ومن الأخطاء التي يقع فيها الناس في الأذان، أن بعضهم يضيفون إلى لفظ اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، لفظ سيدنا فبعضهم يقول: " أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله " ونحن بلا شك نعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن ذكر لفظ السيادة في الأذان أو في غيرها من الأذكار الشرعية، يعتبر زيادة لم يأذن بها الله، مثلما لو قال الإنسان مثلاً في التشهد " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم " فنحن نقول هؤلاء سادة وأنبياء لا شك، لكن لم يرد لفظ (سيد) في لفظ من الأذكار الشرعية، لا في الأذان، ولا في الإقامة، ولا في التشهد الأول، ولا في التشهد الأخير، ولا في غيرها من الأذكار، ولعلكم تستغربون إذا قلت لكم: إن أحد الإخوة كان إذا قرأ اسم الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن يقدم بين يديه بلفظ سيدنا! وهذا جهل عظيم وضلال مفرط.
فمثلاً: إذا أراد أن يقرأ آخر سورة "الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] لا يقول محمد رسول الله والذين معه، يقول: سيدنا محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار! والعياذ بالله لأنه أدخل كلام المخلوق في كلام الخالق؛ لأن القرآن كلام الله وهو قد أدخل كلامه الذي يقول فيه: إن سيدنا محمداً رسول الله، أدخله في كلام الله عز وجل، وهذا لا شك -كما أسلفت- ضلال عظيم، وبعضهم يدخله في الأذان أو في الإقامة وهذا أيضاً لا يجوز.(16/14)
الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان
وكذلك بعض المؤذنين في عدد من الأمصار الإسلامية يختمون الأذان أو الإقامة بالصلاة على رسول الله بصوت مرتفع يشبه الأذان، فإذا قال: " لا إله إلا الله " منتهياً من الأذان، قال: اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وما أشبه ذلك من التواشيح والألفاظ والأهازيج والأناشيد التي يقولونها ويقحموها في العبادات، دون أن يوجد من يأمرهم أو ينهاهم أو يعلمهم أن هذا مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(16/15)
بدعة التثويب
ومن البدع المحدثة المضافة في الأذان بدعة التثويب، وقد أشرت إليها، وما زالت موجودة، بل قد انتقلت عدواها إلى بعض هذه البلاد، وأعنى بالتثويب: أنه ينادى ببعض ألفاظ الأذان بين الأذان والإقامة، فإذا استبطأ الناس بعض الشيء أو بقي على الإقامة سبع دقائق أو نحوها؛ قام المؤذن: فقال: حي على الصلاة حي على الفلاح، وقد يقولون ألفاظاً أخرى: الصلاة رحمكم الله أو هلموا إلى الصلاة أو يخاطب أشخاصاً معينين أو ما أشبه ذلك، وهذه من البدع المحدثة حتى إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه دخل مسجداً، فلما ثوب فيه المؤذن بين الأذان والإقامة خرج غاضباً، وقال: أخرجتني البدعة!(16/16)
الزيادة في دعاء الوسيلة بألفاظ غير واردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم
ومن الأشياء التي يفعلها ويقولها الناس فيما يتعلق بالأذان ولا أصل لها، أن بعضهم إذا سمعوا الأذان قالوا: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وهذا الدعاء مشروع ولكن بدون قول " الدرجة العالية الرفيعة " فأن هذا اللفظ لا أصل له في السنة، بل الثابت من أذكار الأذان -كما ستمر الإشارة إلى شيء منه الثابت أن الإنسان يقول كما يقول المؤذن هذا أولاً.
وثانياً: إذا انتهى المؤذن من قول أشهد أن محمداً رسول الله قال الذي يتابعه: "رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً " وقد ثبت هذا في صحيح مسلم وفي مسند أبي عوانة بسند صحيح أنه يقال بعد الشهادتين.
ثالثاً: أنه إذا انتهى المؤذن من أذانه يُصلي المتابع للمؤذن على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته " هذا الثابت من أدعية الأذان.
أما قول بعضهم وهذا كثيراً ما يُسمع من المذيعين وغيرهم، يقولون: آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، فلفظ "والدرجة العالية الرفيعة" لا أصل له فيما أعلم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحسن بالإنسان أن يقوله أو يحافظ عليه.
وبعضهم -أيضاً- يضيف في آخر هذا الدعاء " إنك لا تخلف الميعاد " {وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد} وهذه اللفظة قد اختلف أهل العلم فيها، وذلك لأنها جاءت في حديث رواه البيهقي، وقال شيخنا عبد العزيز بن باز: إسناده صحيح، وكذلك جاءت في إحدى نسخ البخاري، ويدل على ذلك أن الإمام الحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتاب التوسل والوسيلة ذكر أنه رواه البخاري، وذكر هذه الزيادة فيه، وبالتحري تبين أنها موجودة في إحدى روايات البخاري لكنها يبدو غير ثابتة في الصحيح، وقد رجّح جماعة من أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين أن زيادة {إنك لا تخلف الميعاد} زيادة شاذة لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرون من أهل العلم من علمائنا، حتى من المعاصرين قالوا: حتى على فرض عدم ثبوتها فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى عن المؤمنين ودعائهمك: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194] فقالوا: لا بأس أن يدعو بها أو يذكرها في آخر الدعاء.
والذي أميل إليه ألا يقولها الإنسان، وإن قالها فلا يحافظ عليها، بل يقولها حيناً، ويدعها حيناً حتى يميز بين السنة الثابتة بلفظها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أمر ورد واختلف العلماء في صحته أو عدم صحته، اللهم إلا أن يقول الإنسان: أنا مقلد لفلان من الناس من العلماء الذين صححوا هذا الحديث، فحينئذٍ لا بأس أن يتابعه في قول هذه الكلمة.(16/17)
أخطاء في الإقامة
أما فيما يتعلق بالإقامة فإن من الأشياء التي يخطئ الناس فيها، أولاً: كما سبق في بعض ألفاظ الأذان أن بعض الناس يخطئون في ألفاظ الإقامة، وفي قولهم: "قد قامت الصلاة" بعضهم يفتحون التاء وبعضهم يضمونها فيقول بعضهم: "قد قامتَ الصلاة" وبعضهم يقولون: "قد قامتُ الصلاة"، والصواب بالكسر "قد قامتِ الصلاة" "قد قامتِ الصلاة".
وأما بالنسبة للأدعية والأذكار الواردة في أثناء الإقامة فإن بعضهم إذا سمعوا قوله: "قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة " يقولون: أقامها الله وأدامها -أو وأدامه على لغة العامة- اللهم قنا شر الحسرة والندامة، وهذه لا تصلح إلا أن تكون عامية "أقامها الله وأدامه، اللهم قنا شر الحسرة والندامة " أما لو أردت أن تعرِّبها تخرِّبها إذا قلت أقامها الله وأدامها ذهب السجع، وعلى كل حال هذه الكلمة، لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنها وردت في حديث ضعيف جداً فيه ِ شهر بن حوشب وهو متكلم فيه، وفيه رجل مبهم مجهول لا يدري من هو، فالحديث إسناده ضعيف فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول: {أقامها الله وأدامها} عند قول: "قد قامت الصلاة" فلذلك فإن ما ذكره بعض طلاب العلم من أنه يشرع أن تقال عن قد قامت الصلاة: {قد قامت الصلاة} -والله تعالى أعلم- ضعيف، لأن الشرعية لا تثبت إلا بدليل صحيح، وكوننا نأمر الناس أن يلتزموا بذكر هذه الكلمة وهذا الذكر عند هذا الموضع لابد أن يكون بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما "اللهم قنا الحسرة والندامة" التي يقولها العامة أيضاً، فإنه لا أصل لها في السنة مطلقاً فيما أعلم، ولا شك أن الدعاء بأن يقي الله العبد شر الحسرة وشر الندامة، الدعاء هذا بحد ذاته دعاء جيد وحسن، لكن ذكره في هذا الموضع مذموم، لأنه قد يترتب عليه أن يظن الإنسان أو يظن غيره أنه سنة، وفي الواقع أن المحافظة عليه أقرب إلى البدعة منها إلى السنة.
وإن كنت في الواقع لست ممن يشددون في هذه الألفاظ ما دامت صحيحة بنفسها، لكن ينبغي أن ننهى الناس عن التزام هذه الألفاظ والمداومة عليها، حتى لو أن إنساناً قالها مرة نقول له: هذه الكلمة معناها صحيح؛ ولكن كونك تقولها في هذا الحيز -في هذا المكان- بهذه المناسبة وتحافظ عليه هذا غير مشروع، لأن المحافظة إنما تكون على السنن الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الأسبوع القادم إن شاء الله نواصل ونذكر أموراً أخرى تتعلق بالآذان والإقامة وأخطاء الناس فيهما، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلَِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(16/18)
أحاديث في فضل الأذان
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصّلَّى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين.(16/19)
فضائل بلال رضي الله عنه
ومن جهة أخرى فإن أول من أذّن من هذه الأمة هو بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وهو من أفاضل الصحابة وأكابرهم، حتى إن عمر رضي الله عنه كان يقول: [[أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا]] يعني بلال بن رباح رضي الله عنه، ويكفي في فضل هذا الرجل الصابر المجاهد ما ورد في الصحيح أنه كان أحد سبعة، هم أول من أظهروا الإسلام فضايقتهم قريش، حتى لم يكن منهم أحد إلا وقد جاراهم في بعض ما يريدون، إلا بلال رضي الله عنه؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله عز وجل، فكانوا يجرونه في صحراء مكة ورمضائها، ويضعون الحصى على صدره، ويقولون: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد فيقول: أَحَدٌ أَحَدْ، أَحَدٌ أَحَدْ.
وقد ورد في روايات أنه كان يقول: [[والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه الكلمة لقلتها]] .
هكذا رواه ابن إسحاق في السيرة.
وصبر رضي الله عنه وأرضاه ويكفي في فضل هذا العبد الصابر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشّره بالجنة، كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعتُ دف نعليك أمامي في الجنة! فقال: يا رسول الله! ما تطهّرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بهذا الطهور ما كتب الله لي} فكفاه فضلاً وفخراً أن يكون من الثابتين الصابرين على الإسلام، ثم أن يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الختام، وبجنات ونهر: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] .
وليس الصحابي الجليل بلال بن رباح بحاجة أيضاً إلى أن توضع أحاديث في فضله ومكانته وحسن أدائه وما أشبه ذلك، ولكن أعداء الله يفترون على الله وعلى رسوله، ويضعون الأحاديث التي فيها السخرية والتي تثير الاشمئزاز، ربما لتنفير الناس أحياناً من بعض الأعمال وبعض الشرائع وبعض الأحكام.
وأذكر بعض هذه الأحاديث، وما ذكره العلماء في شأنها، فمن هذه الأحاديث:(16/20)
مما صح في فضل الأذان
في هذه الليلة سنتحدث عن بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي وردت في فضل الأذان، وبعضها مشهور عند بعض الكُتّاب والمصنفين وغيرهم، وأود أن أقول في البداية: إن فضل الأذان ورد فيه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، فهو لا يحتاج إلى أن توضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضله.
- فقد سبق معنا حديث أبي سعيد الخدري: {لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة} .
- وسبق حديث معاوية في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة} .
- وكذلك جاء في حديث أبي هريرة: {يغفر له مدى صوته} .
وفي كتاب الله تعالى قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] جاء عن جماعة من السلف أن هذه الآية نزلت في المؤذنين، روى ذلك عبد بن حميد وابن مردويه وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ} [فصلت:33] قالت: المؤذن.
وعمل صالحاً، قالت: صلى ركعتين.
وهذا من باب التفسير بالمثال كما هو مشهور عند السلف، يفسرون الآية بالمثال، وليس المقصود حصر الآية في المؤذنين، ولا حصر العمل الصالح في الصلاة ركعتين، بل الآية عامة في كل دعوة وفي كل عمل صالح، لكن عائشة رضي الله عنها فسرتها بمثال وهو المؤذن، ومثل ذلك أيضاً جاء عن قيس بن أبي حازم رواه الخطيب البغدادي في تاريخه أنه قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33] دعا إلى الله، قال: المؤذن.
وجاء عن جماعة من الصحابة الإشادة بفضل الأذان ومكانته، أذكر منها بل ومن أعظمها وأجملها الكلمة التي سبقت عن عمر رضي الله عنه، والتي رواها سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي وسندها صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[والله لو كنت أطيق الأذان مع الخليفى لأذنت]] ويقصد بالخليفى: الخلافة التي وليها، وفي لفظ: [[لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت]] .
ومثله جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال لرجل: ما عملك؟ قال: الأذان.
قال: [[نعم ما تعمل! يشهد لك كل شيء]] والأثر هذا رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: [[لأن أؤذن -أو لأن أقوى على الأذان- أحب إليَّ من أن أحج وأعتمر وأجاهد في سبيل الله]] .
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: [[لوددت أني أؤذن وأن لا أحج ولا أعتمر]] فدل على أن الأذان عندهم من أفضل الأعمال، حتى إنهم قد يفضلونه على نوافل العبادات من الحج والعمرة ونحوها، فالآذان له فضلٌ كبير في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي آثار الصحابة والتابعين هذا من جهة.(16/21)
أحاديث موضوعة في فضل الأذان
1- ما ورد {أن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم، المؤذن يؤذن، والملبي يلبي، وأن المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد كل حجر أو شجر أو جن أو إنس، أو مدر ويكتب له بعدد صلاة من صلى معه بعدد أجورهم حسنات} وهو حديث طويل جداً فيه فضائل كثيرة للمؤذنين لا تثبت ولا تصح.
أما ما سبق فبعضه صحيح.
فأما كونه {يغفر له مدى صوته} فهذا صحيح وسبق، وأما كونه {يشهد له كل شيء} فهو صحيح وسبق.
وأما كونه يخرج من قبره وهو يؤذن، فنقول: إن مات وهو يؤذن؛ فإنه يمكن أن يقال: إنه يبعث مؤذناً؛ كما ورد في الصحيحين في قصة الرجل الذي وقصته ناقته، وكان عليها في يوم عرفة؛ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بأن يكفنوه في ثوبين، ولا يمسوه طيباً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ومن مات على شيء بعث عليه} .
وأما بقية الحديث والذي فيه مبالغات في فضائل المؤذنين، وأنه له ألف ألف حسنة ويحط عنه… إلى آخره، فهذا الحديث حديث موضوع ساقه ابن شاهين وفي إسناده سلام الطويل عن عباد بن أبي كثير وهما يرويان الأكاذيب، قال بعض أهل العلم أحدهما وضعه، إما سلام الطويل أو عباد بن أبي كثير.
2- والحديث الآخر يقول الحليجي: {إذا كان يوم القيامة جيء بكرسي من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وعليها قباب من نور، ثم يُنادَى: أين المؤذنون؟ فيجلسون على هذه الكراسي} وهذا الحديث ذكره الخطيب البغدادي عن أبي سعيد الخدري وقال الخطيب: حديث غريب جداً تفرد به إسماعيل بن أبي يحيى، وهو ضعيف سيئ الحال جداً، فالحديث أيضاً حديث موضوع لا يصح بحال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ومن الأحاديث الموضوعة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر قال: {يجيء بلال يوم القيامة على راحلة رحلها من ذهب، وزمامها من در وياقوت، ويتبعه المؤذنون حتى يدخل أو يدخلهم الجنة} وهذا الحديث أيضاً حديث موضوع فيه خالد بن إسماعيل، وكان يضع الأحاديث ويلصقها عن الثقات، ويدخلها في حديثه، فهو كذاب وضاع وأحاديثه كلها موضوعة.
4- ومن الأحاديث الموضوعة في شأن الأذان أنه: {ما من مدينة يكثر مؤذنوها أو يكثر آذانها إلا قل بردها} والحديث ذكره الأزدي عن علي رضي الله عنه وفي إسناده رجل اسمه عمرو بن جميع وهو المتهم بوضع هذا الحديث.
5- ومن الأحاديث الموضوعة: {من قال حين يسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله من قال: مرحباً بحبيبي وقرة عيني محمد، ثم يقبل إبهاميه، ويضعهما على عينيه، لم يَعْمَ ولم يرمد أبداً} أي: لا يصيبه العمى ولا الرمد أبداً، وهذا الحديث -أيضاً- موضوع ذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة وغيره، والواقع أن هذا الحديث إنما اختلقه بعض المتصوفة ونسبوه إلى الخضر عليه الصلاة والسلام، وهو بسند منقطع فيه مجاهيل، وبينهم وبين الخضر أزمنة متطاولة فمن منهم رأى الخضر؛ حتى ينقل عنه هذه الرواية المختلقة الموضوعة المكذوبة؟! وجميع الروايات عن الخضر روايات مكذوبة ملفقة لا أصل لها، وهذا أحدها.
6- ومن أشهر القصص الموضوعة في شأن الآذان، قصة بلال رضي الله عنه والتي جاءت من طريق أنس ومن أقدم من رأيته ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق ذكر في ترجمة إبراهيم بن محمد والذي جده أبو الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، وفي هذه القصة أن بلال لما ذهب إلى الشام -كان ذهب إلى الغزو- نام ذات ليلة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال ما هذه الجفوة - كان بلال أبطأ عن زيارة المدينة- فاستيقظ بلال فزعاً مذعوراً خائفاً وذهب إلى المدينة من ليلته.
قال: فلما دخل على المسجد جاء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - هكذا تقول الرواية المكذوبة - دخل على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكب عليه يلثم تربه ويقبله ثم جاءه الحسن والحسين، فقام إليهما يقبلهما ويبكي، فقالا له: يا بلال! أذن لنا كما كنت تؤذن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فلما كان عند السحر صعد بلال في المسجد في الموضع الذي كان يؤذن فيه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر فلما وصل إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا الله ارتفع الضجيج والبكاء وارتجت المدينة به، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله لم يبق أحد إلا صاح وبكى حتى خرجت العواتق من خدورهن، وخرج الناس يقولون: هل بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما رئي يومئذ أكثر باكياً ولا باكية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومئذٍ.
وهذه القصة على أنها قصة عاطفية ومثيرة إلا أنها قصة موضوعة، وفي إسنادها محمد بن أبي الفيض ولذلك قال الشوكاني في الفوائد المجموعة عن هذا الحديث: لا أصل له، وقبله قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: هذا الحديث بين الوضع وهو ظاهر جداً أنه مكذوب ملفق من وجوه عديدة: أولاً: قضية أن بلالاً يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيقبله ويلثمه، حاشاه من ذلك! لم يكن هذا الأمر من دأب الصحابة ولا من دأب الجيل الأول، بل كانوا على شدة محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتقون كل أمر أو فعل يمكن أن يؤدي إلى الشرك، وإنما هذا حدث في المتأخرين من الرافضة والمتصوفة وأمثالهم، هم الذين كانوا يعكفون على القبور، ويطوفون حولها، ويتمسحون بها، ويلثمون تربها، أما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا منزهين عن ذلك، وكانوا أكثر الناس تجريداً وتوحيداً وأبعد الناس عن الشرك ومظانه.
ثانياً: أنه لا يحفظ الأثر والنقل إلا من هذا الطريق الذي فيه هذا الراوي الضعيف جداً وهو محمد بن أبي الفيض ولا عبرة بروايته.
ثالثاً: أن بلالاً رضي الله عنه نقل كثير من أهل السير، كالحافظ ابن حجر في الإصابة وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما ممن ترجموا له، وكذلك ابن أبي شيبة في مصنفه ذكر مجموعة من الآثار، في بعضها أن بلالاً رضي الله عنه لم يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر أراد بلال أن يذهب إلى الشام، ليجاهد مع المؤمنين هناك فقال له أبو بكر: بل تبقى وتكون عندي، فقال بلال لـ أبي بكر رضي الله عنهما: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لوجه الله فدعني أذهب للجهاد في سبيل الله، فخلى أبو بكر رضي الله عنه سبيله ثم خرج إلى الجهاد.
ويقال: إن عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الشام وذهب إلى بيت المقدس، لقي الصحابة وفيهم بلال، وطلب عمر من بلال أن يؤذن، فأذن بالشام حتى بكى عمر وبكى المسلمون جميعاً، وتذكروا الحالة التي كانوا عليها زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصحيح أن بلال خرج إلى الشام للغزو والجهاد، وظل هناك حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وكان موته سنة عشرين تقريباً، وقال بعضهم: وكان بطاعون عمواس، وطاعون عمواس كان في السنة الثامنة عشرة، المهم أنه كان في سنة عشرين تقريباً، ودفن بالشام إما بداريا أو بـ دمشق أو بما حولهما.
فالمهم: أن بلالاً خرج إلى الشام في الغزو، وظل هناك حتى مات رضي الله عنه ودفن بها، فهذه القصة المروية عن بلال لا تصح ولا تثبت بوجه من الوجوه.
هذا والله تبارك أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
الليلة سوف نختم بإذن الله تعالى الكلام على بعض البدع المتعلقة بالأذان وفي الأسابيع القادمة سأتكلم بإذنه تعالى عن الآداب المشروعة للمؤذن مما لا يرد في بلوغ المرام وقد أخصص درساً للإجابة على أسئلة الإخوة عموماً حول الأذان.(16/22)
الأصل في العبادات التوقيف
وفي هذه الليلة أود أن أقف عند قضية أساسية في العبادات جميعاً وهي قاعدة معروفة عند أهل العلم، " أن الأصل في العبادات التوقيف " كما "أن الأصل في المعاملات والعقود الإباحة"، وهذه قاعدة نفيسة ومهمة جداً ونافعة للإنسان، فبالنسبة للعبادات لا يجوز للإنسان أن يخترع من نفسه عبادةً لم يأذن بها الله عز وجل، بل لو فعل لكان قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، فلم يكن لأحدٍ أن يتصرف في شأن الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج زيادة أو نقصاً أو تقديماً أو تأخيراً أو غير ذلك، ليس لأحد أن يفعل هذا، بل هذه الأمور إنما تتلقى عن الشارع، ولا يلزم لها تعليل، بل هي كما يقول الأصوليون: غير معقولة المعنى، أو تعبدية، بمعنى أنه ليس في عقولنا نحن ما يبين لماذا كانت الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والفجر ركعتين، ليس عندنا ما يدل على ذلك إلا أننا آمنا بالله جل وعلا، وصدّقنا رسوله صلى الله عليه وسلم، فجاءنا بهذا فقبلناه، هذا هو طريق معرفة العقائد وطريق معرفة العبادات، فمبناها على التوقيف والسمع والنقل لا غير، بخلاف المعاملات والعقود ونحوها، فإن الأصل فيها الإباحة والإذن إلا إذا ورد دليل على المنع منها، فلو فرض مثلاً أن الناس اخترعوا طريقة جديدة في المعاملة في البيع والشراء عقداً جديداً لم يكن موجوداً في عهد النبوة، وهذا العقد ليس فيه منع، ليس فيه رباً ولا غرر ولا جهالة ولا ظلم ولا شيء يتعارض مع أصول الشريعة، فحينئذٍ نقول: هذا العقد مباح؛ كما ذكر الفقهاء ذلك في عقود كثيرة، فنقول: الأصل في العبادات التوقيف، والأصل في المعاملات والعقود ونحوها الإباحة والإذن.(16/23)
التوقيف في صفة العبادة
العبادة توقيفية في كل شيء، توقيفية في صفتها -في صفة العبادة- فلا يجوز لأحد أن يزيد أو ينقص، كأن يسجد قبل أن يركع مثلاً أو يجلس قبل أن يسجد، أو يجلس للتشهد في غير محل الجلوس، فهيئة العبادة توقيفية منقولة عن الشارع.(16/24)
التوقيف في زمن العبادة
زمان العبادة توقيفي -أيضاً- فلا يجوز لأحد أن يخترع زماناً للعبادة لم ترد، مثل أن يقول مثلاً: الليلة ليلة الإسراء والمعراج أو الليلة ليلة النصف من شعبان سوف أخترع عبادة معينة أو أزيد أو أنقص في العبادة من غير دليل، بل لا بد أن يكون زمان العبادة منقولاً أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يمكن أن نسميه زمان ويمكن أن نسميه سبب العبادة، فلابد أن يكون السبب مشروعاً، أما لو أدّى عبادة لسبب غير مشروع كأن قال: ليلة الإسراء والمعراج أو ليلة المولد النبوي أو ما أشبه ذلك يكون في ذلك مبتدعاً.
وبالنسبة للزمان يمكن أن تقول: كصيام رمضان والوقوف بعرفة فإنه في زمان معلوم لا يجوز أن يتقدم أو يتأخر، ومثله مواقيت الصلوات لا يجوز أن يصلى قبل دخول الوقت أو بعد خروج الوقت، فلابد أن يصلى في الوقت.(16/25)
التوقيف في نوع العبادة
كذلك لابد أن تكون العبادة مشروعة في نوعها، وأعني بنوعها أن يكون جنس العبادة مشروعاً، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأمر لم يشرع أصلاً، مثل من يتعبدون بالوقوف في الشمس، أو يحفر لنفسه في الأرض ويدفن بعض جسده ويقول: أريد أن أهذب وأربي وأروض نفسي مثلاً، فهذه بدعة! ومثله لو أن الإنسان مثلاً ضحى أو تقرب إلى الله تعالى بقربان لم يشرع، ولم يرد في النصوص ما يدل على شرعيته.(16/26)
التوقيف في مكان العبادة
كذلك مكان العبادة لابد أن يكون مشروعاً، فلا يجوز للإنسان أن يتعبد عبادة في غير مكانها، فلو وقف الإنسان -مثلاً- يوم عرفة بالمزدلفة فلا يكون حجاً أو وقف بمنى، أو بات ليلة المزدلفة بعرفة، أو بات ليالي منى بالمزدلفة أو بعرفة، فإنه لا يكون أدّى ما يجب عليه، بل يجب أن يلتزم بالمكان الذي حدده الشارع إلى غير ذلك.
فالعبادة باختصار لابد أن تكون توقيفية في كل شيء، ومن ذلك الأذان، فهو عبادة لاشك في هذا، عبادة متلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت شرعيتها بالرؤيا، لكن أقر النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا وأمر بها، وكان الناس يؤذنون حتى قبضه الله تعالى، ثم صار المسلمون يؤذنون في كل مكان من عهده عليه الصلاة والسلام إلى يوم الناس هذا، أذاناً معروفاً يتلقاه الأصاغر عن الأكابر، ويتلقاه الأحفاد عن الأجداد، ولذلك فإنه ليس من حق أحد أن يتصرف في الأذان بغير ما شرع الله.(16/27)
من بدع المؤذنين
وأذكر بعض ما وقع فيه الناس مما يخالف هذه القاعدة الثابتة المستقرة الوطيدة، فمن ذلك:(16/28)
زيادة " أشهد أن علياً ولي الله "
ومثل ذلك وهي الزيادة الثالثة التي أضافوها أنهم يضيفون في أذانهم: أشهد أن علياً ولي الله! وهذا نسمعه كثيراً في أذانهم في مناسبات عديدة، والغريب أيها الإخوة أنهم في هذا العصر صار النداء بهذه الكلمة من شأن الرافضة في كل مكان، يتميزون به عن أهل السنة، مع أن هذا الأذان كان القدماء من شيوخهم ينكرونه ويحاربونه، وقد نقلت لكم نصاً بحروفه تقريباً عن ابن بابويه القمي، وهو أحد كبار مجتهديهم في القرن الثالث من كتابه من لا يحضره الفقيه، وذلك في الجزء الأول (ص: 203) حيث تكلم عن الأذان بأشهد أن علياً ولي الله وما أشبه ذلك.
فقال وهذا نصه قال: " المفوضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان محمد وآله خير البرية مرتين " وفي بعض رواياتهم بعد الشهادة: " أشهد أن علياً ولي الله " مرتين، ومنهم من يرويه" علي أمير المؤمنين حقاً " مرتين، قال: " ولا شك أن علياً ولي الله وأنه أمير المؤمنين حقاً وأن محمداً صلى الله عليه وسلم وآله هم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذكرت هذا ليُعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض المدلسون أنفسهم من جملتنا ".
فقد تبرأ هذا الشيعي المحترق الهالك تبرأ من " أشهد أن علياً ولي الله " وبين أنه ليس أصلاً ومع ذلك هاهم قومه وأتباعه الآن يقولونها في أذانهم، وما قصدهم في ذلك إلا مخالفة أهل السنة ومخالفة ما ورد في الكتاب والسنة، فنسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين وأعداء الدين من المبتدعين والملحدين وغيرهم.(16/29)
تكرار " لا إله إلا الله "
بعضهم أيضاً يزيدون في آخر الأذان الشهادة مرتين، فيقولون: لا إله إلا الله لا إله إلا الله، وهذا لا أصل له، بل ومخالف لإجماع العلماء، فإنهم قد أجمعوا على أن الشهادة في آخر الأذان مرة واحدة كما نقل إجماعهم الحافظ ابن حجر وغيره، وسبق أن سقته، وكذلك جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيها ذكر التهليل في آخر الأذان إلا مرة واحدة، وبذلك يعلم أن هذه كلها من الزيادات التي أحدثها الناس في دين الله، وفي الأذان المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأجدر بالمسلم الوقوف عند الحد الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزيد عليه ولا ينقص منه.
جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وآله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(16/30)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري بعد الآذان
إن بعض المسلمين مع الأسف -وهذا أسلفته ولكن أعيده الآن للمناسبة- يصلون على النبي عليه الصلاة والسلام بصوت جهوري بعد الأذان، وكأنها جزء من الأذان، فإذا انتهى المؤذن من قول لا إله إلا الله، قال بنفس الصوت وبنفس القوة: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، حتى اعتقد كثير من العوام والجهال أن هذا من الأذان، فلو تركه لاستنكروا ذلك واستغربوا وتعجبوا، فهذا من الزيادة في الشرع وفي الدين بما لم يأذن به الله، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك إلا أن يُصلي ويسلم الإنسان على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سراً مرة أو عشر مرات، ورد {ثم صلوا علي فإنه من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا} فأمر بالصلاة عليه دون تحديد بعدد قل أو كثر.
المهم أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يتحقق بأن تصلى عليه مرة واحدة، وما زاد فهو فضل، وهو خير لك، على أي حال، هذه الصلاة للمؤذن وغيره والمشروع فيها الإخفات والسر، وليس الجهر والإعلان.(16/31)
قول: حي على خير العمل
الثانية: مما زاده الناس في الأذان وليس منه (حي على خير العمل) وهذه زيادة وجدت عند الرافضة في كافة طوائفهم من الإمامية والزيدية وغيرها يضيفون في أذانهم بعد حي على الفلاح "حي على خير العمل" حي على خير العمل وهذه الزيادة أيضاً لا تثبت في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال، والأحاديث الواردة في حي على خير العمل والآثار تنقسم إلى ثلاثة أقسام:- القسم الأول: منها أحاديث صريحة، لكنها مكذوبة ملفقة لا أصل لها، وذلك كالحديث الذي رُوي عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {إذا أذنت فاجعل في آخر الأذان حي على خير العمل حي على خير العمل} وهذا الحديث في سنده أبو بكر أحمد بن محمد بن السري، قال فيه الذهبي: رافضي كذاب غير ثقة، ونقل عنه جماعة من العلماء من الكفر والفجور ما يدل على أنه لا خير فيه قبحه الله، قالوا: إن هذا الرجل كان يقول في تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة:9] أنه يفسر هذه بـ عمر رضي الله عنه قال: وجاء فرعون فذكر أمير المؤمنين ومن قبله فذكر الخليفة الراشد الأول، والمؤتفكات فذكر أمهات المؤمنين عائشة وحفصة فلعنة الله عليه وجزاه الله تعالى بما يستحق على هذا البهت والفجور والإفك العظيم.
وهذا ليس بغريب على أعداء الله الرافضة؛ فإنهم في الواقع أشد كفراً من كثير من أعداء الإسلام، وأكثر حقداً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم، ولذلك فإنما نسمعه في هذا العصر من كلام من يسمى ب سلمان رشدي وغيره في الصحابة إنما هو غيض من فيض مما تقوله الرافضة في كتبها، ومع ذلك يُصدرون الفتاوى بقتله وإعدامه، ولو عرفوا لأعدموا من علّمه هذه النغمة الجائرة الظالمة قبل، المقصود أن هذا الرجل أبو بكر أحمد بن محمد بن السري كذاب لا يقبل له حديث، ومع ذلك فقد روى هذا الحديث عن يحيى الحماني، وخالفه في ذلك غيره، فروه الحديث عنه، وفيه أنه قال: {واجعل في آخر الأذان الصلاة خير من النوم} مع أن يحيى نفسه غير مستقيم الرواية، وقد وقع فيه جماعة من أهل العلم حتى رماه الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه بالكذب ورماه غيره، فهو أيضاً غير ثقة والحديث موضوع مختلق مكذوب لا حجة فيه.
من النصوص والآثار: الواردة في "حي على خير العمل" نصوص صريحة، وقد لا تكون ضعيفة جداً؛ ولكنها ليست بحجة، لأن الحجة كما سلف في كلام الله تعالى أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف الأصوليون في كلام الصحابة إذا لم يعارض نصاً هل يكون حجة أو لا؟ على قولين، لكنهم لم يختلفوا أبداً في أن قول الصحابي إذا عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بحجة، كما أنهم لم يختلفوا أبداً في أن أقوال التابعين ليست بحجة في الدين، إنما يحتج بقال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان أما قال فلان قال علان، خاصة إذا كان مخالفاً لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه.
فالنوع الثاني: آثار موقوفة على بعض التابعين، أو قد تكون مقطوعة إلى بعض التابعين، أو قد تكون موقوفة على بعض الصحابة، وأشهرها أثران: أولهما: أثر مروي عن علي بن الحسين بن علي المعروف بـ زين العابدين، وهذا الأثر فيه أن علي بن الحسين: حي على خير العمل، يقول: هذا هو الأذان الأول، والأثر رواه البيهقي في سننه وفي سنده ضعف.
ولكن على فرض أنه حسن فقد حسنه بعض أهل العلم فإنه مقطوع من علي بن الحسين، فبين علي بن الحسين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، فلا حجة في قوله.
الأثر الثاني: ما رواه البيهقي وعبد الرازق وغيرهما أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يُؤذن بها في السفر، وسندها إلى ابن عمر لا بأس به جيد، والجواب على ما نقل عن ابن عمر من وجوه: الوجه الأول: ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى، قال: " إن بعض الصحابة كانوا ينادون بها في حال معينة، لتحريض الناس على الصلاة، وليست من الأذان " أي: ليس يدخلها في الأذان إنما ينادي بها هكذا من عند نفسه، ليست داخلة في صلب الآذان.
الجواب الثاني: أن يقال: إنه من الثابت أن ابن عمر رضي الله عنه كان لا يرى الأذان في السفر، وهذا رأي خاص له، ذكره عنه البيهقي بأسانيد جيدة وهو رأي مرجوح على كل حال، والصحيح خلافه، لكن هذا رأيه رضي الله عنه كان لا يرى الأذان في السفر إنما يشرع للمقيم فحسب، وإذا لم يكن ابن عمر أصلاً يؤذن في السفر إنما كان ينادي، فإذا جاء وقت الصلاة، قد يقول: حي على الصلاة وقد يقول: حي على الفلاح وقد يقول: حي على خير العمل وقد يقول: حي على عمود الإسلام، وقد يقول أي كلمة يقصد فيها دعوة الناس إلى الصلاة، إلا في صلاة الفجر، فإنه كان يؤذن لها؛ لأن الناس يحتاجون إلى الأذان، ولو كان في سفر، فهذا هو الجواب عما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه.
النوع الثالث: الذي يستدل بها بعضهم على لفظة "حي على خير العمل" نصوص صحيحة، لكنها لا تتعلق بالأذان لا من قريب ولا من بعيد، تذكر أن الصلاة هي خير العمل، لكن لم تقل قولوا في الأذان هذا الكلام، كلا! مثل حديث ابن مسعود، وقد سبق معنا في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها} .
فالحديث نص على أن الصلاة على وقتها أفضل الأعمال، لكن هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم اجعلوا هذا في الأذان؟ كلا! وهل كلما صح شيء نجعله في الأذان؟ كلا، فالصلاة خير العمل هذا لا شك فيه، خير العمل بعد الشهادتين، بل ورد في حديث ثوبان والذي رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه البيهقي وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} .
فالحديث نص على أن الصلاة هي خير الأعمال، والمقصود لا شك خير الأعمال البدنية، وإلا فإن الشهادتين هما أفضل الأعمال مطلقاً.
فالصلاة أفضل الأعمال وآكد الأركان بعد الشهادتين، فلا شك أن الصلاة هي خير الأعمال؛ لكن قول هذا في الأذان بدعة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولذلك نص العلماء على منعها، قال الإمام البيهقي بعدما عقد الباب في النداء للصلاة بحي على خير العمل، قال: " ولا يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نكره الزيادة على ما ثبت عنه وبالله تعالى التوفيق ".
ومثله قال الإمام النووي في المجموع: " يكره النداء بحي على خير العمل " وأقول ما قاله النووي ومن قبله البيهقي من كراهية ذلك والله تعالى أعلم، ليس مقصودهم فيه أنه يكره كراهية تنزيه، بل مقصودهم أنه يكره تحريماً، أي: يحرم، وهذا هو الصحيح بلا شك أنه يحرم أن ينادي أحدهم بحي على خير العمل، لأن هذه اللفظة لم ترد والآذان توقيفي لم تنقل لا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا عن أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عن غيرهم من الصحابة، إلا أن ابن عمر كان يقولها في غير الأذان، ولا حجة في فعل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً هذه أيضاً من البدع التي أحدثها الرافضة في دين الله وما أكثر ما أحدثوا!(16/32)
جهاد المرأة
إن المرأة المسلمة لها مكانتها في الإسلام لذلك فقد جعل الإسلام المرأة شقيقة الرجل في التكاليف والواجبات، من ذلك الجهاد في سبيل الله، فكما أن على الرجل أن يجاهد بنفسه وماله، كذلك على المرأة أن تجاهد بمالها، إن كان لها مال.
لذلك فقد تحدث الشيخ حفظه الله عن جهاد المرأة، وبين أن عليها أن تنفق في سبيل الله؛ إن كانت تملك مالاً، وذكر الشيخ صوراً من معاناة المسلمين في الهند وفي البوسنة والهرسك حتى تتحمس المرأة المسلمة للإنفاق في سبيل الله.(17/1)
الدعوة إلى الخير والإنفاق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.
هذه الليلة الثانية ضمن حديثي عن بعض الموضوعات التي تمس المرأة من قريب أو من بعيد، وهي في هذه الليلة ليلة الجمعة الخامس من شهر رمضان من عام (1413هـ) .
أيها الأحبة أستهل حديثي بذكر طرفة وقعت في الأمس، فقد جاءني أحد الإخوة الشباب ومعه طفل له ولم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، ومع هذا الطفل ما يزيد على ألف ريال، قال: هذه للمسلمين في البوسنة وبعضها لصالح مشروع تفطير صائم، وقد كان هذا الطفل المبارك -إن شاء الله تعالى- يواصلني بين حين وآخر بمبالغ طيبة من المال، جمعها من المحسنين لصالح إخوانه المسلمين، وقال لي والده وهو يبتسم: إنني أربي ولدي على أن يكون شحاذاً للمسلمين، نعم! شحاذ ولكن للمسلمين، وشتان شتان بين هذا وبين غيره.(17/2)
النهي عن سؤال الإنسان
لقد جاءت النصوص النبوية الكثيرة -أيها الإخوة أيتها الأخوات- تنهى عن أن يسأل الإنسان الناس لنفسه، حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {أن المسألة تأتي يوم القيامة، وهي خموش أو خدوش في وجه الإنسان الذي يسال تكثراً} يسأل وعنده ما يكفيه ويغنيه، فتأتي مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً في وجهه، حتى إن منهم من يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، فهؤلاء الذين يسألون تكثراً، ويسألون إلحافاً وإلحاحاً، ويسألون وعندهم ما يغنيهم، إنهم على أحسن الأحوال، يعرضون على الناس همومهم الخاصة، وحاجاتهم الشخصية ومتطلباتهم الذاتية.(17/3)
سؤال من أجل المسلمين
شتان بين هؤلاء، وبين من يطلبون من الناس لا لأنفسهم ولا لذواتهم، بل هم عن ذلك كله بمعزل، وإنما يسألون الناس لإخوانهم المسلمين، فهم أدلاء على الخير، دعاة إلى أبوابه، يعملون على هداية الناس إلى ما ينفعهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء} .
فهؤلاء الذين يدعون الناس إلى الخير وإلى مشاريع الخير وإلى أعمال البر؛ إن لهم من الأجر مثل أجور أولئك الذين انتفعوا بدعوتهم واستجابوا لندائهم، وشاركوا في أعمال الخير بسببهم، بل إنني أقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بشخصه الكريم بمثل هذا العمل النبيل الجليل، ففي صحيح مسلم، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: {أن قوماً من مضر جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم متقلدي السيوف والعباءة، مجتابي النمار، فقراء جياع، حتى تمعَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم، وقام على المنبر، فقال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل من ديناره من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة، فجاء رجل بصرة كادت يده تعجز عنها، بل قد عجزت، وجاء آخر بصاع تمر، وجاء آخر بصاع بر، حتى رأى الصحابي رضي الله عنه أكواماً من الطعام، ورأى خيراً كثيراً من الذهب والفضة، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء} .
فطوبى لك أيها الأخ المسلم، ولك أيتها الأخت المسلمة، إذا كنتم مفاتيح للخير، سارعتم إلى الإنفاق، وأعلنتم بالصدقة؛ فامتثل الناس وأسرعوا، وسننتم بذلك سنة حسنة، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] طوبى لكم إن كنتم دعاة إلى الخير، تفتحون للناس أبوابه، وتحرضونهم عليه، وتحثونهم على فعله، فيفعل الناس؛ فلكم أجركم وأجر من عمل بذلك بسببكم.(17/4)
وتجارة لن تبور
أيتها الأخت الآتية إلى بيت من مساجد بيوت الله، الجالسة تستمعين ذكر الله، نحن نعرف ظروفك، فأنت أم لمجموعة من الشباب الموظفين رواتبهم كثيرة طيبة وهم أهل بر وإحسان، فكل واحد منهم يسارع أن يسبق الآخرين إلى تحصيل رضاك، وفي مطلع كل شهر هم يأتونك بمبالغ طيبة من المال، يمسحون بها خاطرك، ويبحثون بها عن مرضاتك، فتأخذين هذا المال وتحتفظين به، ثم إنك ربما سمحت به خواطر بعض الأطفال؛ فتشترين لهم بعض الحلوى، وبعض المبالغ اليسيرة، وبعض أنواع المأكولات، تعطينها لهؤلاء الأطفال، حتى تحضي منهم بابتسامة أو بدعوة، أو بكلمة جزاك الله خيراً، أو برضا أهليهم ولا حرج عليك في ذلك، ولكن ينبغي أن تدركي -أيضاً- أن هناك من هو أحوج إلى أن يسمح خاطره، وتطيب نفسه ويزال ما يعاني من الهم والفقر اللأواء والجوع.
ونعرف أن أختكِ التي تجلس إلى جوارك في هذا المسجد المبارك، أنها هي الأخرى أرملة لفلان بن فلان الغني الكبير الذي مات عنها وترك أموالاً طائلة؛ فورثت بعده هذا المال أو جزءاً منه، وهي لا تدري فيما تنفق هذا المال، وربما صرفته في غير وجوهه، أو على أحسن الأحوال، ادخرته لنفسها، فهل تظنين أن لك عمراً آخر سوف تنفقين فيه هذا المال؟ كلا.
إن مالك هو ما قدمت ومال وارثك ما أخرت.
أما أختك الثالثة، تلك التي تقبع وراءً، فنحن -أيضاً- نعرف طرقها فهي مدرسة تستلم في نهاية كل شهر ما يزيد على عشرة آلاف ريال، ونعلم أنها تغير أثاث منزلها كل سنة، وأنها تخرج أحياناً إلى السوق في شهر رمضان وفي غيره، فتشتري ألواناً من الملابس والفساتين، وبعض متطلبات المنزل، وبعض الأواني، ثم تُهدي ما كان عندها من الأشياء إلى جيرانها وأقاربها ومعارفها ونعلم أن أهون شيء عليها؛ أن تشتري فستاناً بألف ريال أو ألفي ريال ثم تكتشف بعدما تعود إلى المنزل؛ أنه طويل أو قصير أو ضيق أو لونه غير مناسب، ثم لا ترجعه إلى صاحب الدكان، وإنما ترمي به وتقول الأمر هين والخطب يسير، وبدله غيره.
لماذا؟ لأن عندها هذا المال الكثير، الذي لا تكلف بإنفاق شيء منه.
إن زوجها مطالب شرعاً حتى بتأمين الطعام الذي تأكله، واللباس الذي تلبسه، والشراب الذي تحتاجه، والحذاء الذي تنتعله، وكذلك ما يتعلق بأطفالها وأولادها، ولذلك كان هذا المال الكثير الذي تستلمه، كان زيادة لا تدري كيف تصرفه.
وأحسن من هذا تلك الأخت الأخرى، التي تحتفظ بالمال، أو تنفقه في وجوه مباحة، أو تعمل على أن تزيد المال من خلال المضاربات التجارية والمساهمات المباحة.
ونقول لهذه الأخت وتلك وللثالثة: أمامكن ذلك المجال الخصب العظيم: للإنفاق في سبيل الله، إن هذا المال مهما ربي، فإنه يكسب (100%) على أحسن الأحوال، ولكن أمام الأخوات جميعاً تلك المساهمة الكبيرة العظيمة الريال بسبعمائة ريال، إنه في سبيل الخير، وإنها المسابقة في الطاعات، إنها المتاجرة مع الله: {َمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] .
إنه الربح العظيم، والتجارة التي لا تبور، وإذا كانت مشاركتكن -أيتها الأخوات- في أعمال الدنيا قد تخسر وقد تربح، فإن المشاركة والمتاجرة مع رب العالمين ربح مضمون، وليس فيه شائبة ربا ولكنه حلال وأجر وبر وذخر، عند من لا يضيع عنده شيء، فأين المتسابقون والمتسابقات؟ وأين المتنافسون والمتنافسات؟ أيتها الأخوات الكريمات، أقلكن من تملك مقداراً من المال، ومن تدَّخرُ شيئاً منه لمقبلات الأيام، فلماذا لا تسرع الأخت بالإنفاق، وتدرك أن رزق اليوم يأتي به الله عز وجل، ورزق غدٍ يأتي معه؟ كل يوم له رزقه الخاص، وعلى العبد ألاَّ يحمل هم غد تقول سكينة بنت الحسين: سهرت أعين ونامت عيون لأمور تكون أو لا تكون إن رباً كفاك ما كان بالأمس سيكفيك ما غداً سيكون(17/5)
الأمل في النساء للإنفاق في سبيل الله
أيتها الأخوات، لقد جربنا حظنا مع أولئك الرجال؛ فوجدنا أن منهم المنفق والقابض يده بالصدقة، ووجدنا أن الواحد منهم كلما زاد ماله، زادت همومه وشئونه، وكثرت مشاريعه، وقال: اليوم أريد أن أبني العمارة، وغداً المزرعة، وبعد غدٍ المضاربة وبعد ذلك عليه ديون، وأخيراً ما عنده سيولة، ثم هو يلتمس المعاذير ويخرج منا يميناً وشمالاً.
جربنا حظنا مع أولئك الرجال؛ فاليوم نريد أن نجرب حظنا مع الأخوات الكريمات من النساء، ليس في هذا اليوم فحسب، بل وفي كل يوم، أن يكنَّ من المسارعات في سد الخلة، وإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وكسوة العاري، وتطبيب المريض والعائل، ودفن الميت.
أيتها الأخوات الكريمات؛ كل ذلك يحتاج إلى المساهمة والمسارعة، وقد ذكرت لكن بالأمس نماذجاً حرصت على أن تكون من معاناة أخواتكم من النساء سواء في كشمير أو في الهند أو في البوسنة والهرسك، أو في غيرها من البلاد، وذلك حتى تدرك المرأة؛ أن أخواتها وبنات جنسها يعانين مثل هذه الآلام، وأنهن بحاجة إلى الريال قبل العشرة، والعشرة قبل المائة، والمائة قبل الألف مما تملكه الأخت الكريمة.(17/6)
صور من معاناة المسلمين (مشاركة شعرية)
لقد ذكرت لكم أمس، جزءاً من معاناة المسلمين الصعبة العسيرة، الموجودة في كثير من البلاد، هأنا اليوم أنقل هذه المعاناة بصورة أخرى، عبر كلمات منظومة شعرية، جادت به قريحة أحد الشعراء وهو الدكتور محمد بن ظافر الشهري، تعقيباً على مصاب المسلمات والمسلمين، الذي ذكرت بالأمس طرفاً منه: يقولان رفقاً بجسمي الرقيق فعيناك تهمي وفي الصدر ضيق وتحيا أسيراً لِحرِّ الأسى وإن كنت تبدو كحر طليق وقالا دع الهم أو بعضه ولم يعلما أنني لا أطيق فكيف السبيل إلى ضحكة وليس يقهقه صدر الخليق أنضحك والهدم في البابري ومن قبل في القدس شب الحريق وفي طاجكستان قتل لنا على القتل في سراييفو يفوق قتل المسلمون في طاجكستان، أكثر من مائة ألف مسلم قتيل، وعندي صورهم، ولولا حرمة المسجد؛ لأحضرتها لكم، مائة ألف مسلم قتلوا خلال أقل من شهر على يد الشيوعيين الذين تدخلوا في طاجكستان، كما تدخلوا في أفغانستان، وحاربوا المسلمين وألقوا بجثثهم في نهر جيحون، حتى صر النهر ماءً أحمراً من دماء المسلمين، وأما الذين هربوا إلى الأدغال والغابات فقد أنزلوا عليهم إنزالا مظلياً، ولاحقوهم وتتبعوهم بالرصاص، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة.
أما الذين هربوا من هذه النيران والحروب، فهم يزيدون على ثلاثمائة ألف مسلم بين الرجال والأطفال والنساء وكثير منهم ذهبوا إلى أفغانستان، المشغولة بهمومها، المنهمكة في مشاكلها الخاصة.
وفي طاجكستان قتل لنا على القتل في سراييفو يفوق ويذبح راموس إخواننا على أرض مورو وما من شفيق في الفلبين هجمات شرسة من جيشهم على المسلمين في المناطق الجنوبية: وفي مقديشو تسال الدماء ليصنع منها لسان الغبوق وبث الصليب رجالاته برغم الخلافات عند الرفيق وفي إرتيريا وجاراتها ليخنقنا سام عند المضيق وكشمير والهند لا تسألا عن الهتك فيها لشعب عتيق فكم حرة مزقوا ثوبها ووالدها مثخن والشقيق ألم تسمعا أهل أبخازيا عشية نادوا نداء الزعيق أيا عرب السان فلتنفروا فإن التواني بكم لا يليق فما بعث القوم منا سوى غطيط فهم في سبات عميق وماذا يؤمل من ملأٍ أضلوا وضلوا سواء الطريق ومنهم مولون شطر الغروب ومنهم مولون شطر الشروق ويرجم فينا دعاة الهدى ويكرم فينا دعاة الفسوق ومتهمٌ كل ذي لحية من العرب بل والتقي الخليق فأي الفريقين أأبخازيا أم العرب أولى بعون المطيق هما كالغريقين في لجة فكيف يعين الغريق الغريق خليلي حل بإخواننا من الظلم ما لا يسر الصديق أذيقوا من الذل ألوانه فهل نتضاحك حتى نذوق وحتام نسفل في همنا وأعداؤنا همهم في سبوق ونشرب من قيء أعدائنا وإسلامنا فيه أحلى رحيق وتبقى هتافات أبنائنا تعيش النجوم يعيش الفريق هذه همومنا لا تتجاوز الكرة أو الفن.
وتبقى هتافات أبنائنا تعيش النجوم يعيش الفريق وتبقى وسائل إعلامنا لنشر الرذيلة والزور بوق ونغمس في الفن أولادنا لتخرج معشوقة أو عشيق إذا زرع الفسق في نسلنا فهل نتوقع غير العقوق ومن كان عبداً لأهوائه ستهوي به في مكان سحيق عجبت لمن سار نحو الهوى كسير الفراشات نحو البريق وإسلامنا فيه تمكيننا وفيه ننال جميع الحقوق فؤادي يخفق من حبه فتسري محبته في العروق فهيا نحيي به أنفساً وإن لم يشأ كل نذلٍ صفيق نجادل بالحق كل الورى ولا نرم من أسلموا بالمروق خليلي سيرا على منهجي على منهجٍ سلفي عريق وكفا عن اللوم ولتحملا معي الهم أو فاتركاني أفيق أيها الإخوة والأخوات؛ إننا لا نتحدث في مثل هذه القضايا؛ لمجرد أن نثير الهموم والأحزان، ولا أن نزجي وقت الفراغ، فإن الوقت ثمين وخاصة في هذا الشهر الكريم، ولكنني أشعر أننا وأنكم جميعاً بأمس الحاجة إلى من يحرك ساكن قلوبكم، وقلوبكن -أيتها الأخوات- بشكل خاص؛ لتتعاطفوا مع مصاب إخوانكم المسلمين وأخواتكم المسلمات.(17/7)
فضل الصدقة
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب النساء كما في الصحيحين، من حديث ابن عباس: فوعظهن وذكرهن وقال: {يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن؛ فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة منهن سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط} ففي هذا الحديث، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمات بالصدقة {تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن} فإذا لم تجد المرأة ما تتصدق به فلتخرج من حليها، من حليها الذي في يدها أو على صدرها، أو قرطها الذي في أذنها، أو خلخالها الذي في رجلها، أو محزمها أو من حليها الذي تحتفظ به في بيتها.
فإن هذه الصدقة من أعظم وأهم أسباب النجاة من عذاب النار، ولهذا قال: {تصدقن فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم} فدل على أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار، ومن أهم أسباب النجاة من السعير، ومن أهم أسباب دخول الجنة، والمرء في ظل صدقته يوم القيامة ذكراً كان أو أنثى.
فعلى المرأة المسلمة أن تساهم في الصدقة، وإنني أسأل الله تعالى لكل أخت مسلمة، جادت يدها بما تستطيع، أن يجعل الله تعالى ما جادت به رفعة في درجاتها، وطولاً في عمرها، وصحة في بدنها، وسعادة في قلبها، وصلاحاً في ولدها، وعافية لها، ورفعة في درجاتها عند الله تعالى يوم القيامة، ونجاة لها من عذاب السعير، اللهم آمين اللهم آمين.(17/8)
دعوة للرجال إلى الإنفاق في سبيل الله
وإذا كنت أقول هذا للأخوات المؤمنات؛ فإني أقوله لكم أنتم أيها الرجال، يا أصحاب الأموال، يا أصحاب الأرصدة في البنوك، يا أصحاب المرتبات، أقوله لكم: أنتم بالذات، يعرف الواحد منكم كيف يوفر المال، ونحن ندري أن الواحد منا يعطي طفله في المدرسة الابتدائية يومياً، خمسة ريالات -أي في الأسبوع ما يزيد على خمسة وثلاثين ريالاً- فإذا كان عندك أربعة أطفال، فإنك تعطيهم أسبوعياً مائة وخمسين ريالاً، هذا للمقصف المدرسي فقط، أما لملابس المدرسة والملابس الرياضية، والأحذية، والأدوات المدرسية، والحاجيات والترفيه والمناسبات والأعياد والأسفار، فهذا شيء كثير، فلماذا ما تأتي إلى الحسابات إلا إذا طالبناك بالصدقة والإنفاق والبذل؟! لا يا أخي، نحن لا نطالبك بمالك، لكن نطالبك بمال الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] نحن نعلم أنك تعبت أنت تعبت في جمعه وفي تحصيله، وبحمد الله هو من حلال ولله الحمد والمنة ولا نلومك على حبه فالله تعالى يقول: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] لا نلومك على ذلك، لكن إنفاقك لهذا المال هو معيار صدقك وإخلاصك، ودليل إيمانك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي مالك الأشعري وهو في صحيح مسلم {والصدقة برهان} إن إنفاقك للمال دليل على استعلائك عن الدنيا، وعلى حب المال، وعلى أن الإيمان بالله، والرجاء فيما عنده، والأمل في الدار الآخرة؛ أقوى في قلبك من محبة المال، وأقوى في قلبك من وسوسة الشيطان قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فأنفق يا أخي ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.(17/9)