ملامح وسمات أهل المسئولية
أيها الأحبة! الذين يتحملون المسئولية هم نوادر، وأنتم أيها الصالحون ندرة بين الفساق، الأبرار ندرة بين الفجار، الأخيار ندرة بين الأشرار، أهل العلم ندرة بين الجهلة، أهل الإصلاح ندرة بين المفسدين، فما هي ملامح أولئك الذين هم أهل المسئولية وأهل التحمل، لهذا أسأل الله أن نكون وإياكم منهم.(220/9)
احترام الوقت
من ملامح وسمات الرجل الذي تراه كفؤاً لتحمل المسئولية تجاه نفسه وتجاه أمته أن تجده يحترم الزمن، يحترم الوقت، لا تجده يجود بوقته في أي رصيف أو في أي مجلس، أو في أي غدوة، أو في أي روحة، أو في أي طريق، أو في أي مكان أبداً، وإنما يسأل نفسه: إلى أين؟ ومن أجل من؟ وما هي النتيجة والثمرة؟ فإذا رأيت الرجل يحترم وقته ويحترم عمره؛ فاعلم أنه رجل جدير بالمسئولية.
أما الذين يضيعون أوقاتهم، فأولئك ما قاموا بمسئوليات أنفسهم تجاه أنفسهم فضلاً أن يتحملوا مسئولية إصلاح الأمة، وفاقد الشيء لا يعطيه.(220/10)
الحزم في الأمور
الأمر الآخر من ملامح وسمات الذين هم ذوو جدارة أن يتحملوا المسئولية تجاه أنفسهم وأمتهم، أولئك الذين يأخذون الأمور بحزم وجد، والنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لما سأل ربه، قال: (أسألك العزيمة على الرشد) لم يسأل الله الرشد فقط، وإنما سأل ربه العزيمة على الرشد: (والغنيمة في البر) فكل يعرف الرشد؛ لكن من الذي يأخذ الرشد بعزيمة ويقوم به؟ والله جل وعلا قال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ * خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:62 - 63] ما أكثر الذين سمعوا وحضروا وجلسوا، ولكن منتهى الأمر أن نبيت على الفرش، وقلَّ أن تجد من يقول: ماذا قدمت؟ ماذا أنتجت؟ وماذا قدمت وماذا أخرت؟ الأقل من القليل.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل(220/11)
الناس كإبل مائة
أيها الأحبة: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) واسمحوا لي أن أكون صريحاً معاشر الأحباب! معاشر الأبرار من هذه الأمة! إننا كمثل قوم واسمحوا لي أن أكون قاسياً في المثال يا إخوة! دعونا أنفسنا أيضاً إلى بر ورشد، فوقفنا عند حد معين، الكثير الكثير من أبناء الصحوة المباركة غاية ما عنده أنه يذكر ساعة كان فيها منحرفاً فتاب إلى الله، فأطلق لحيته وقصر ثوبه، ومن نام على الدرب وصل.
نام عند هذه النقطة وما قدم شيئاً أبداً، هل تبنيت برنامجاً في أسرتك، في بيتك، في مجتمعك، في التعليم، في الإرشاد، في الوعي، في التوجيه، في جانب من جوانب الدعوة؟! (الناس كإبل مائة) ولذلك لو تقف عند باب المسجد، وتعد كل مائة على جنب، وأخرجت منهم واحداً.
هل فيكم أيتها المائة من قام بأمر أو مشروع طبقه واستمر به؟ أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، ينفع الله به الأمة، الخير يتوسع، وكما قيل: الوجود الطبيعي له نمو طبيعي، إذا كان هذا المجتمع كما يقول علماؤنا: الأصل في مجتمعنا الخير، والشر طارئ، الأصل السنة، والبدعة طارئة، الأصل الأخذ بالإسلام بجميع جوانبه، والتفريق بين ذلك طارئ، الأصل التوحيد والبدع والوثنية والشركيات -معاذ الله أن تكون لو كانت- طارئة.
يقول العلماء: الوجود الطبيعي له نمو طبيعي، فكون الصحوة مجودة ونشيطة ومتنامية في هذا المجتمع؛ هذا أمر طبيعي جداً جداً، نعم قد نعجب حينما توجد صحوة في اتجاه صحيح نحو التوحيد في بعض البلدان الإسلامية، مع الحماس للإسلام والرغبة والتشجيع نقول: الحمد لله هذا شيء جيد، عليهم أن يتجهوا للتوحيد وأن ينتبهوا للتوحيد، لكن هنا وجود التوحيد أمر طبيعي.
فالشيء الذي له وجود طبيعي، يكون نموه طبيعياً، رجل وزوجته في أسرة بعد خمس سنوات وجدنا عندهم أربعة أولاد هل يعتبر نمو هذه الأسرة من رجل وزوجة إلى وجود أربعة من الذرية امتداداً بدعياً أو يعتبر هذا نمواً طبيعياً؟ في الواقع أن رجلاً وزوجته بعد خمس سنوات عندهم أربعة أطفال هذا نمو طبيعي، فالواقع يفترض عليك أن يكون التزامك طبيعياً، أو أن ظاهرة التزامك أو حقيقة التزامك التي نراها اليوم ونعتبرها أمراً طبيعياً لا بد أن يكون لها -يا أخي الكريم- امتداد طبيعي، بمعنى أن يكون لك دور في أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
وأعجب من هذا وأخطر أن تجد الواحد جبّاراً في الجاهلية خواراً في الإسلام؛ كثير من أبناء الصحوة المباركة أيام فساده لا تسأل عن دهائه ومكره وتخطيطه وفهلوته وألاعيبه وكل أسلوب يطبقه، فإذا التزم أصبح ظبياً جفولاً، وحملاً وديعاً، وحمامة سلام في منقارها غصن الزيتون، أين تلك القوة؟ (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) لا نقول: يوم أن كنت تدمر قبل التزامك، نريدك بعد الالتزام تأخذ لك (ساكتون) وترمي الدش -كما يظن البعض- بطريقة خاطئة فاشلة جاهلة من أولها إلى آخرها، ولا نريدك أن تمد يدك في إنكار منكر أو تغير المنكر بالقوة وباليد، لا، لكن نريد الصبر والعمل والثبات، ولن تبلغ الغاية إلا بطول نفس واستعانة بالله، وكثرة ذكر يعينك على الثبات على ذلك.
والله إني أعجب من شاب يوم أن تسمع عن أخباره إبان انحرافه أو قبل استقامته تجد العجب العجاب! ولما استقام؛ لم يتجاوز خطوات من بيته إلى مسجده، جزاك الله خيراً على هذه الاستقامة، ونحن لا نقول: كل الأمة تفتر، المطلوب شيء والواقع شيء آخر، ولا نقول: إن الأمة من أولها إلى آخرها ما لم يكونوا كلهم دعاة، وكلهم أهل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ فإنها أمة فاشلة، لكن الذين يمثلون صفوة المجتمع، وخيار الأمة في المجتمع يفترض أن يكونوا دعاة وهداة وأهل طاقة حركية، وأهل إنتاج وأهل تفجر، وأهل خير ونور يصل أقصى أماكن الظلام حتى يملأها، ويهزم جحافل الظلام فيها، مجالات الدعوة وتحمل المسئولية كثيرة، فهل نجد من يقول: أنا لها؟(220/12)
أسباب التهرب من المسئولية
إن كثيراً من أحبابنا يتهربون من هذه المسئولية لأسباب عديدة:(220/13)
الخوف سبب للتهرب من مسئولية الدعوة
أولها: الخوف، وكأني ببعضكم في هذا المسجد يقول: ولماذا لا أقدم شيئاً للإسلام؟ لماذا لا أقدم ولو برنامجاً؟ يا أخي الكريم أعطيك مثالاً بسيطاً: عمال النظافة في المساجد، هل فكر أحد أن يربط بهم علاقة، فيعلمهم اللغة العربية، ويحفظهم التوحيد، ويعلمهم بعض الآيات، فإذا عادوا إلى سيلان وسيرلانكا والهند وبنجلادش كانوا أئمة هناك، هل أحد يتحمل هذه المسئولية؟ هل هناك من يقول أنا لها؟ هذا كأبسط مثال! والله في الحقيقة لم نجد إلا النادر، وكما قال صلى الله عليه وسلم (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) تدخل حوشاً فيه مائة ناقة، لكن هذه جرباء، وهذه ضلعاء، وهذه مريضة، وهذه عرجاء، وهذه وهذه، لا تكاد تجد ناقة واحدة بين مائة ناقة، واليوم بكل أسى والله لو وجدنا من كل مائةٍ ملتزماً واحداً صاحب همة دعوية، وحركة عملية، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، والله لوجدنا الخير الكثير.
أنتم تجدون واحداً مثلاً في جدة، أو في الشرقية أو في الغربية، أو في أي مكان حينما ينفع الله به، يكون له أثر عظيم، فما بالك لو كان من بين المئات أفراد وآحاد يقومون بمثل هذا الدور، والبقية أيادي مساندة ومعاونة لنشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أقول: قد يقول بعض الحاضرين، من الآن من الساعة سنبدأ بإذن الله، لماذا الناس تقدر وأنا أعجز؟ الناس تعلم وأنا أجهل؟ الناس تستطيع وأنا لا أستطيع؟ باسم الله، فإذا أراد أن يبدأ بخطوة أولى، جاءه ذلك القرين، كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة:268].
جاءه الشيطان قال: يا مجنون! وأنت من يضمن لك أن عملك هذا تسلم من مغبته وتبعاته؟ من يضمن لك أنك لا تراقب؟ من يضمن لك أنك أنك؟ وهذه من الحيل النفسية، والأوهام والخيوط العنكبوتية التي يقوم الواحد فيقدم يديه للشيطان ويقول: كبلها بخيوط وهمك، ويقدم رجليه ويقول: اجعل عليها قيوداً من حبال توهيمك فلا تجعلني أتحرك، هل يمنعك أحد أن تعلم عمالاً القرآن الكريم؟ هل يمنعك أحد أن تدعو إلى الله جل وعلا؟ لقد انصرفنا -أيها الإخوة- إلى أساليب الدعوة الجماعية وضيعنا الدعوة الفردية، الحضور الآن بالمئات، ولو أن كل واحد يركز على شخص واحد، سواء كان قريباً في أسرته، أو زميلاً في عمله، أو جاراً في حيه، فأخذه وقال: لن أدعه ولن أبرح عاكفاً على متابعته وزيارته، وأخذه والذهاب به، والإياب معه والعمرة به، والحج معه وزيارة العلماء به، وإهدائه الشريط ودعوته إلى الطعام، حتى لا يحول حولٌ إلا ويكون ممن شقوا طريقهم في طلب العلم، وحفظ القرآن والسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لوجدتم أن هذا الخير يتنامى في المجتمع، وتصلح الأمة صلاحاً ذاتياً، يتنامى ويتسارع تسارعاً يقهر أعداءها، لكن دائماً نربط أنفسنا بمشاريع الدعوة الجماعية، كأننا إذا منعنا أو أوقفنا عن سبيل من سبل الدعوة التي فيها نهج أو نوع طريقة جماعية كأن الدعوة أوقفت وانتهت، لا يا أخي الكريم! هذه من الحيل التي تنسجها أنت أو يكبلك الشيطان بها، فتقول: وماذا نفعل!! الشريط الفلاني موقوف، والمحاضرات في المكان الفلاني ممنوعة، إذاً ماذا نعمل؟!! لا يا أخي الكريم! والله لئن كانت مجالات الدعوة مائة، فمنع منها عشرة مثلاً، فعندك تسعين مجالاً مفتوحاً، لكن من أراد أن يعمل فسوف يعمل، وأما الذين يتعللون ويحبون من الإسلام والالتزام: أحبك في الله، أهلاً يا أخي في الله، لا تنسنا من دعواتك، لا تنسنا من الدعاء في الركعة الثالثة عشرة، من هذه الكلمات خذ ما شاء الله، أما أن تريد رجالاً يعملون؛ فما أقل أن نجد هذا! ومصيبة الصحوة أن أبناءها باتوا عالة عليها، بل لا تعجب أن ترى القيل والقال، والزيادة والنقص، وفلان وعلان، وروي وذكر، حتى بات فريق من الشباب لا هم لهم إلا أن ينقلوا منك إلى أخيك بما يكره، وينقلوا من أخيك إليك بما تكره، ولا أستبعد أن تكون هذه الصفوف الطيبة الخيرة يخطط أعداؤها لها، وأن يندس فيها من يزرع العداوة والبغضاء بين دعاتها، ويزرع الشحناء والقطيعة بين رجالها، ويحاول أن يقسمها أقساماً وأحزاباً وجماعات شتى، ولأجل هذا نقولها في الخطب وفي الندوات والمحاضرات: لا مكان للحزبية هنا، لا حلف في الإسلام، لا مكان للتجمع على حزب معين، نعم، تتجمع طائفة للعناية بالضعفاء، بالسجناء، بالمساكين، بالأيتام، بالأرامل، بالمعدمين، بالمعوزين؛ هذه معقولة.
أما حزب معين وما سواه فلا مكان له، فلا، أبداً نحن أمة واحدة فينا الظالم لنفسه بالمعصية، وفينا المقتصد، وفينا السابق بالخيرات، وهذا إطار الأمة أجمع، وإذا قلنا: إن مجموعة فلان وفلان والشباب الفلانيين هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة فماذا نسمي شباب الأرصفة! من الجهمية؟ ماذا نقول لبعض العصاة الذين عندهم منكرات في بيوتهم أهم من المعتزلة؟ ماذا نقول لبعض أهل التقصير؟ من الماتريدية.
ماذا نقول وماذا نقول؟ أيها الإخوة! تقسيم الأمة مصيبة، ثم إن الحكم على الأمة باللوازم أمر أخطر من ذلك، الأمة أمة واحدة، ويدخل في عداد هذه الأمة من جهل أمراً، أي أن تبديع الأمة بالعربي الفصيح الصريح لا يتم إلا إذا عرفنا من رجل بدعةً أعلنها ثم نوصح بها، وأصر على قوله وقال: أقصد كذا، وما قصدت ذاك وأعني ما تخطؤنني فيه، وأراه منهجاً لي؛ فذاك المبتدع الذي تحاربه الأمة.
أما أن نقسم الأمة وننقسم نحن أهل الخير إلى جماعات وأحزاب، فذلك شرٌ نحذركم وأنفسنا منه، ومن أراد أن يخدم هذا الإسلام؛ فليجنب نفسه الحزبية والعصبية، افتح بابك ونفسك وفؤادك وقلبك وجهدك وقدراتك لكل من أراد أن يعمل لهذا الدين؟ أيها الأحبة: كما قلت: من أسباب التهرب من المسئولية الخوف؛ أنا أخشى أن أراقب، أنا أخشى أن ألاحق، ما شاء الله عليك يا زعيم المافيا والألوية الحمراء، ماذا عندك؟! شريط صدر من وزارة الإعلام بالفسح تاريخ رقم، كتاب صدر بالإذن من الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية، وفسح أيضاً من وزارة الإعلام، يعني يفسح وتخشى أن توزعه، يفسح وتخشى أن تدعو به؟! أحد منعك وقال: يُسمح لك أن تأخذ عشرة من الناس فتلعب معهم كرة، وتدور أنت وإياهم في الأسواق والشوارع، ولكن ممنوع أن تأخذ ثلاثة أو أربعة من إخوانك فتزورون عالماً أو تعتمر أو تحج أو تسافر أو تقدم أمراً في سبيل الله؟! لكنها أوهام الشيطان.
لذلك تجد الواحد وهو متكئ إذا فكر أن يدعو؛ رسم منهجاً دعوياً، جاء الشيطان وأنزل عليه جبلاً كـ جبل ثور، ثم جعل يضغط بهذا الجبل من الخوف والوهم والفقر ودنو الأجل؛ حتى يجعل رأسه ينطبق على فخذه، فإذا قال إنسان: مالي وللدعوة، مالي وللأمر، مالي وللمسئولية، تنفس الصعداء ونسف غترته جنباً إلى جنب، وقال: يا أخي! الحياة حلوة وسعيدة وممتازة، لما فكر أن يدعو؛ انطبق رأسه على فخذه من الثقل في جبل حمله من الوهم الذي نزل به الشيطان، ولما فكر أن يلقي الدعوة والعمل والمسئولية، وأن يرمي بها عرض الحائط، أصبح الأمر سهلاً ميسوراً بالنسبة له.(220/14)
التشاؤم والتهرب من المسئولية
مصيبة أخرى تجعل كثيراً من الشباب لا يتحملون المسئولية ويتهربون منها، بعضهم يقول: وماذا تنتظر؟ الأمة ضائعة منحرفة، الأمة تائهة، الأمة في الطوفان، الوحل، الحريق، النار، الغرق، ولا تجد الرجل يرى إلا بعين التشاؤم.
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
هذا مثل الذي يصيح ولم يدقوه بعد ولا دقوه، تجد الإنسان قبل أن يرى مصيبة يصيح ويولول، ويفزع ويهرول ويدعو بالويل والثبور، إذا كان هذا صياحك وولولتك قبل نزول المصيبة، فإذا نزلت المصيبة؛ ماذا ستفعل؟ يا أخي! كن جميلاً ترى الوجود جميلاً، تفاءل، انظر بخير.
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم يفاوض في صلح الحديبية، القضية في ظاهرها هزيمة للمسلمين.
الرسول وصحابته الكرام صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم، يقدمون إلى بيت الله الحرام فيصدون، وتفاوض قريش بعنجهية وكبرياء وخيلاء وعناد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: من الذي قدم؟ قالوا: جاء سهيل بن عمرو قال: (سهل لكم من أمركم) انظر التفاءل.
ثم أيضاً أعط نفسك تصوراً معقولاً في حجم إنتاجك وعملك، تريد أن تلقي كلمة بعد صلاة العشاء أو المغرب في مسجد من المساجد، ضع في حسبانك وأنت تلقي الكلمة أنه سوف يسمع لك فقط خمسة عشر مصلياً، ضع هذا في ذهنك، فإذا قمت ووجدت عشرين مصلياً أمامك، فالحمد لله، الأمة مقبلة على خير، وجد والله شيئاً كثيراً، ووجدت فوق ما تصورت، لكن البعض حينما يريد أن يقوم فيلقي كلمة، فيذهب نصف المسجد، يقول: أهذه أمة فيها خير؟ أنا أقوم وألقي كلمة فيخرج نصفهم.
وإذا ذهب نصفهم ماذا في ذلك؟ سبحان الله العلي العظيم! يا أخي! إذا كان هناك أنبياء يقدمون على الله يوم القيامة، أيدوا بالمعجزات وبالوحي وهم أفضل خلق الله، يأتي النبي منهم يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد، فأنت تريد أن يفتح لك من القبول كما فتح لـ أحمد بن حنبل أو كما فتح لأئمة الإسلام العظام، وتريد هذا بين يوم وليلة.
منذ أيام كنت في مدينة الرياض في أحد المساجد، وكنت مشغولاً، يعني المشغول يصلي ثم يصلي الراتبة مثلاً أو يصليها في بيته وينصرف يمشي، فقام رجل جزاه الله خيراً يلقي كلمة، فلما قام؛ قام العدد الطبيعي من الذين في المسجد عمال، وناس لهم حاجات، وأصحاب أشغال وأعذار، وناس يمكن نساؤهم في السيارات، قال: الحمد لله يقول الله جل وعلا على لسان نبيه موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فموسى يعجل إلى ربه ليرضى الله عنه، ولكن الذين خرجوا يعجلون إلى ماذا؟ إلى منكر يرونه، ومنكر يسمعونه، ومعصية يجلسون عندها.
لماذا هذا الأسلوب يا أخي؟ لماذا تبدأ نفسك بهذه الهزيمة؟ هذا إعلان للهزيمة من البداية، ابدأ بقولك أيها الأحبة في الله! كلمة لمدة خمس دقائق، لمدة عشر دقائق، من كان مشغولاً فلا حرج أن ينصرف، جزاه الله خير الجزاء على حضوره صلاة الجماعة.
إن وجود هؤلاء يحضرون ويصلون معك الصلاة مع الجماعة خير عظيم، أي: إياك أن تنهار أو يصيبك الإحباط والانهيار عند أدنى إنسان يقوم، يا أخي افرض أن أحدهم ذهب يقضي حاجته، تقول: والله أنا إنسان فاشل، وما يضيرك أنك فشلت اليوم والشهر القادم والسنة القادمة، ثم بعد ذلك أصبت الصواب ولله الحمد والمنة.
الحاصل أننا لا نريد أن نهزم نفسياً فلا نُرى إلا بالتشاؤم.
أنا أعجب من بعض الشباب يوم أن تجلس معه يخبرك أن الإسلام محارب.
نعم يا أخي، المسلمون في بعض البلاد يذبحون، المسلمون يقتلون، والمسلمون يصيبهم ما يصيبهم، لكن إلى متى ونحن نردد: ذبحونا قتلونا ضربونا جلدونا، وبعد ذلك!! ألا نوقد شمعة في الظلام، ألا نقدم عملاً إيجابياً، ألا نبدأ بإغاثة جريح، أو إسعاف مريض، لا نعرف إلا أن نجتر المصائب والآلام، ونعتبرها هي قضيتنا الأولى والأخيرة، طبعاً أنا لا أقول: إن الإنسان ينظر إلى مصائب المسلمين نظرة باردة كما يقول الشيخ عائض القرني حفظه الله، يقول: بعضهم حينما تقول له: ما رأيك بما فعل بالمسلمين في حماة؟ أو ما فعل بالمسلمين في البوسنة والهرسك؟ يقول: بعضهم يظن من الاعتدال أن تقول: هذا لا ينبغي والأولى تركه، طبعاً ما نريد هذا البرود في قضايا المسلمين، لكن لا يعني ذلك أنك يوم أن تجد مصيبة قائمة للمسلمين، أنك لن تستطيع أن تفعل شيئاً بل إن مزيداً من الدماء تدعوك إلى مزيد من العمل، ومزيداً من الجراح تدعوك إلى مزيد من السعي {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
العمل مطلوب، لا نجعل هذه المصائب سبباً نتهرب به من هذه المسئولية.(220/15)
وجود الخلاف في الساحة
أكبر دليل على أن كثيراً من الشباب يتخوف من هذه المسئولية ولا يرغب أن يتحملها، أن تجد كثيراً من الشباب الآن يقول: والله الآن نرى واقعاً مختلفاً، وهنا الساحة عليها خلاف، ونحن في حيرة من هذا الخلاف، لأجل ذلك لأن تعض بأصل شجرة خيرٌ لك.
لماذا يا أخي الكريم، إذا كان الخلاف في قضايا جزئية.
شريعة الإسلام دينٌ جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومكث ثلاثة عشر عاماً يؤسس العقيدة في مكة، وعشرة أعوام في المدينة ولا تنظر إلى هذا الدين إلا في القضايا الخلافية فقط.
وأما القضايا المتفق والمجمع عليها لا تعمل بها، من الناس من يقول: نريد أن نعمل لكن حيرونا الآن في الاختلاف الذي في الساحة وهل الخلاف يدعوك أن تترك العمل؟ نقول لك: لا تقتحم ولا تلج مسائل الخلاف، واعمل بالمسائل المتفق عليها، هل أحد يقول: إن تعليم الجاهل للقرآن الكريم مسألة فيها خلاف؟ هل يقول: إن تعليم الذين لا يحسنون الصلاة من المسلمين وما أكثرهم، من مسائل الخلاف؟ يقول أحد: إن تعليم بعض الذين يقدمون إلى هذه البلاد وهم مسلمون على مسمى الإسلام ولا يعرفون من العقيدة شيئاً من مسائل الخلاف؟ لماذا لا تعمل بهذا المضمار، وفي هذا المجال؟ يعني لا تجعل الخلاف الذي تراه سبباً يدعوك إلى ترك المسئولية وعدم تحملها.(220/16)
دعوى ""ليس من اختصاصي""
بعض الشباب يتهرب من المسئولية، بدعوى (ليس من اختصاصي) كما يقال: إن رجلاً من البادية نزل على أحد إخواننا المصريين الطيبين، فقال له: يا أخي الكيك أو الحلاوة الجميلة التي أعطيتنا، كيف صنعتها؟ قال: لا، هذا من اختصاصي، قال: دع أختك صاصي تعلم أختي كيف تصلحها، لا، نحن لا نقصد الأخت صاصي، وإنما نقصد مسئوليتك أنت يا أخي الكريم، اختصاصك مسئوليتك لا بد أن تتحملها، والله هذا جاهل ما هو من اختصاصي، وهذا منكر ما هو من اختصاصي، وهذه مصيبة ما هي من أختك صاصي! ماذا تتحمل أنت وأختك صاصي؟!! مصيبة والله، فلا بد أن تحدد المسئولية، وانظر في أولويات قدراتك وطاقتك ومواهبك وكفاءاتك, فستجد أنك بإذن الله تجيد شيئاً تعمله للإسلام، وكن صريحاً مع نفسك في البداية قل: لقد كنت فيما مضى كسولاً، كنت فيما مضى رُقدة، كنت فيما مضى جثمة، كنت فيما مضى أحب الراحة، كنت فيما مضى أرمي بالمسئولية على الآخرين.(220/17)
دعوى ""لم يحن الوقت بعد""
من السبل التي يتهرب بها كثير من الشباب عن تحمل مسئولياتهم، يقول بعضهم: لم يحن الوقت بعد، حتى الآن لم يأتِ الوقت المناسب حتى أتحرك، ومتى يحين الوقت المناسب حتى تتحرك أطال الله عمرك؟ مثلما قال:
حرب حزيران انتهت
وكل حرب بعدها ونحن طيبون
حتى تغلل اليهود في بلادنا ونحن راجعون
صاروا على مترين من أبوابنا ونحن عائدون
ناموا على فرشنا ونحن راجعون
لم يحن الوقت بعد
كل يوم مصيبة ولم يحن الوقت بعد! مصائب المسلمين تترى ولم يحن الوقت بعد! متى يحين الوقت إذاً؟
قيل انتظار نضوج الكرم ما انتظروا نضج العناقيد لكن قبلها التهبوا
واليوم تسعون بليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنب
جاء المنجمون أيام عمورية وقالوا للقائد: انتظر حتى يكن الكوكب الغربي في الذنب وحتى يقطف العنب، وحينئذٍ يكون طالعك السعد حينما تغزو، فقال المعتصم: لا ننتظر عنباً ولا ذنباً، نغزو وننصر تلك المرأة التي قالت: وامعتصماه.
اليوم صبرنا، وعصر الزيتون والعنب وصار مخللاً وما تحرك ذلك الذي يقول: لم يحن الوقت بعد، لم يحن الوقت بعد، وبالذات أعاتب شباب الجامعات والمدرسين وطلبة المعاهد العليمة وطلبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالذات، والجامعات الإسلامية أمة القرى وجامعة الملك عبد العزيز، والجامعة الإسلامية بـ المدينة، عندكم علم لو عرضتموه على واقع المسلمين لوجدتم أنكم قمة بالنسبة لهم، فماذا قدمتم؟ قوارير عطر مغلقة، نعم يوجد داخل الزجاجة عطر، لكن واحداً لن يشم أريجاً ولو لحظةً واحدة، والسبب مجموعة معلومات وعدم نفع، وعدم نشر، وعدم سعي بهذا العلم، فيا أخي الكريم! بلّغ وانفع من علمك بما أتاك الله سبحانه وتعالى.
الذي يقول: لم يحن الوقت بعد.
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتاء
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى
متى تبدأ بالعلم والدعوة إذا كان هذا حر، وهذا برد، وهذا يمين وهذا يسار؟!! والله جل وعلا بين أن من شأن أولئك المنافقين، الذين قالوا: لا تنفروا في الحر، الوقت غير مناسب: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} [التوبة:81 - 82] قضية التسويف والتأجيل ولم يحن الوقت بعد، والله ما أظن أن وقتاً الأمة الإسلامية بأمس الحاجة إلى أموال أبنائها وجهد أبنائها وفكر أبنائها، وسعي أبنائها ورجالها ونسائها مجتمعين في مثل هذا الزمن الذي باتت العداوة فيه صراحة منكشفة علنية ضد الإسلام وفي مواجهة الإسلام، ولا نحتاج إلى أن نبرهن على هذا كله.
وبعض الشباب يقول: الظرف الآن لا يناسب أو لم يحن الوقت بعد، وكل ظرف بعده ظرف لا يناسب.
وإني أقول لكم: انظر إلى ظرف يوسف عليه السلام وهو أنه في السجن، وما جعل رأسه بين رجليه، ويديه على خديه، وقال: واحسترك يا يوسف! لقد جُعلت عبداً وأنت حر، وألقيت في غيابة الجب وأنت بريء وأنت الحبيب إلى أبيك فصرت قصياً؟ لا، لما دخل السجن التفت يمنة ويسرة؛ فبدأ بالدعوة: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] أي: لا يوجد هناك وقت اسمه وقت دعوة ووقت جلوس عن الدعوة، نعم قد يكون من مصلحة الدعوة عدم طرح بعض المواضيع في فترة معينة، وترك بعض المواضيع قاطبة لفئة من علماء الأمة الكبار، قد يكون هذا من مصلحة الدعوة؛ لكن لا يعني ذلك التوقف عن الدعوة أبداً، ويعقوب عليه السلام والموت يدنو وقد بات وشيكاً منه: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة:133] هذا وقت تنازع فيه الروح، سكرات الموت {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] سبحان الله العلي العظيم! ما قال: والله هذا وقت غرغرة، ما أنا فارغ لأولادي بل قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:133] إلى آخر ما قالوا.
والنبي صلى الله عليه وسلم في اللحظات الأخيرة من سكرات الموت، ويقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت) ولما حانت اللحظة الأخيرة قال: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) أمة لا تعرف التوقف عن الدعوة في أي حال من الأحوال.
وأما صاحبنا الحبيب الذي نقول له: تحرك، ادع، اعمل لهذا الدين، تحمل مسئوليتك، فيقول: الوقت غير مناسب، لم يحن الوقت بعد، لم يحن الوقت بعد.
ابن تيمية مؤلفات كثيرة ألفها في السجن، ما قال: والله هذا مكان لا يناسب فيه التأليف أو الدعوة، لما انقطع به السبيل عن الدعوة باللسان؛ سخر القلم للدعوة إلى الله جل وعلا في السجن، وكذلك الإمام أحمد وغيره.
وبعض أحبابنا تجد له زلة أو زلتين أو هنة أو هنتين، ويقول: إني إذا ذكرت فعلتي تلك لا أستطيع أن أدعو إلى الله، إني إذا ذكرت غلطتي تلك لا أستطيع أن أتحمل مسئولية، وكيف أتحمل مسئولية وأنا قبل ليلة فعلت واجترحت! يا أخي الكريم! لا تجمع مع الذنب ذنباً بترك العمل، وإهمال المسئولية، بل كفِّر ذنوبك بتحمل المسئولية والبذل لأجلها، إن أبا محجن رضي الله عنه مع أنه كان مدمناً للخمر، ما قال: إني مدمن للخمر ولا حاجة ولا داعي أن أخرج للقتال مع سعد بن أبي وقاص في القادسية، وإنما خرج ومن شدة ولعه بالخمر شربها هناك، فكانت عقوبته أن يمنع أن يشهد ساحة المعركة، فيربط في القيد، ولما سمع الصهيل والصليل أخذ يردد أبياته المشهورة:
كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً عليّ وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصارع دوني قد تصم المناديا
وأخذ ينادي سلمى زوجة سعد بن أبي وقاص، ويقول: يا سلمى! فكي قيدي، والله لك علي إن عدت حياً أن أضع نفسي في القيد، ما قال: والله أنا شارب خمر وما فكر بالشهادة في سبيل الله، قال: يا سلمى فكي هذا القيد، يريد أن يقاتل، فتعطيه سلمى البلقاء فرس سعد، وينزل أبو محجن وسعد بن أبي وقاص كان مريضاً، وشهد المعركة عن بعد من المعمعة، لكنه لم يكن في وسط المعركة، ومع ذلك يلام على ذلك وقيل فيه ما قيل:
فعدنا وقد آمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم
أي: سعد بعيد عن المعركة، ما تتأيم واحدة من نسائه، ومع هذا كله ينظر سعد إلى ذلك الفارس الذي يفلق هام الكفار فيقول: [الكر كر البلقاء، والطعن طعن أبي محجن، ولكن أبا محجن في الحبس والبلقاء في القيد]، فيعود وتخبره سلمى وتقول: بلى هي البلقاء وذاك هو أبو محجن، فيعود بعد ذلك ويقول: [والله لا جلدتك بعدها] ثم يقول أبو محجن: [والله لا شربتها بعد اليوم] كنت أشربها حين أطهر منها، أما الآن فو الله لا أشربها أبداً.(220/18)
تحمل المسئولية والعمل للإسلام
أيها الأحبة! نحن إذاً بحاجة أن نتحمل المسئولية وأن نعمل للإسلام، وأنا أعلم يا إخوان أن واقعنا اليوم صير التلميذ أستاذاً، وصير الأستاذ شيخاً، وصير الشيخ علامة، ولكن أيها الأحبة! هذا واقعنا، وزكاة المال من المال، والقوم يؤمهم أمثلهم، فإذا كان أبناؤنا وأحبابنا من جيل الصحوة هم أمثل جيلنا، فلماذا لا يتحمل مسئولياتهم؟! هل ننتظر شركة كورية توجه للدعوة والإصلاح، هل ننتظر عقداً نبرمه مع شركة كندية أو استرالية تقوم بواقعنا الذي عجزنا أن ننهض به، هي مسئولياتنا، وذاك مجتمعنا، وهذا واجبنا فلنقم به كل على قدر ما يستطيع.
أيها الأحبة! إننا نستطيع أن نقدم للدين أموراً كثيرةً جداً، وأقل ذلك أن يوجد الهم والاهتمام للإسلام، أعني إياك أن يستوي عندك أن ترى تسجيلات إسلامية وتسجيلات غنائية، أن يستوي عندك مشروع خيري ومحل فيديو، أن يستوي عندك نصرة للمسلمين ومصيبة على المسلمين.
إن من الناس من أخذ يقتات ويجتر قضايا المسلمين للاستمتاع والأخبار، بل وبعضهم يقول: نحن رأينا في الـ mbc أن المسلمين في كذا صار لهم كذا وكذا، لا يقول هذا الكلام من أجل أن يبين أن المسلمين قد حصل لهم شيء، لكن انظروا عندنا دش.
مصيبة أن الواحد أصبح يفتخر بنقل الأخبار عن المسلمين فقط، وفي نفس الوقت يفتخر بما يسلطه على بيته ونفسه، لا أن يجعل ذلك سبباً في نصرة أو دعم أو عمل أو تأييد، يقول سفيان: إني لأرى المنكر، فلا أستطيع أن أغيره فأبول دماً من شدة المعاناة.
نريد ولو معاناة نفسية، نريد دعوة بظهر الغيب، نريد أن تكف ألسنة الذين يقولون في المجالس ما يقولون، نريد أن تذب عن أعراض إخوانك، نريد أن تدعو لهم بظهر الغيب.
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعف النطق إن لم تسعف الحال
كلمة طيبة، صدقة تنفعك ولا تضرنا يا أخي الكريم، كذلك كما قلت: احذر أن توزع الشريط الممنوع والكتاب الممنوع، بعض الناس في المكتبة الإسلامية يقول: بموجب فهرس تسجيلات التقوى، فإن رقم هذا الشريط (9999) يتكلم على الانتخابات في بعض الدول العربية، ومع ذلك تضيق (9999) فلا يجد فيها شريطاً واحداً يصلح للتوزيع والدعوة، ولا يحلو له إلا أن يوزع شريطاً ممنوعاً، لماذا يا أخي تعرض الدعوة وتعرض نفسك للمهاترات؟ وتعرض المنهج والطريق والعمل لمثل هذه الاختناقات التي لا داعي لها، الأمر يومئذٍ لله، شريط مُنع، الخير في غيره إن شاء الله.
هل الأمة هلكت، ضاقت، غرقت، ماتت إن لم تسمع هذا الشريط؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، البعض لا يجد أمامه إلا مثل هذا، فأحذر أقول: وزع واعمل في شريط وكتاب مفسوح حتى إذا قال لك واحد: تعال يا مطوع ما عندك؟ أنت عندك منشورات وأنت عندك أشرطة، فتقول: تعال يا حبيبي هذا الشريط مفسوح برقم وتاريخ من وزارة الإعلام.
قبل مدة في أحد الأحياء قام مدير فرع أحد البنوك يوزع دعوة للمساهمة والعمل في فرع البنك الذي افتتح في الحي في كل البيوت، وما تجد إلا النادر أو أندر النادر من يقول: لماذا تدخل دعاية للبنك الربوي تحت بيوتنا؟ وتعطي لأطفالنا أو تسلم للغادين والرائحين في حينا، لماذا لم يقل أحد هذا الكلام؟ لكن لو وجدت إنساناً يوزع على جيرانه بعض الأشرطة في أحكام الحج والعمرة، قرب موسم الحج، وقرب موعد الامتحانات التحذير من المخدرات، التحذير من جلساء السوء، التحذير من التبرج والسفور، والله هذا المجتمع غريب فيه أشياء غريبة، لا يا أخي الحبيب! يوم وزعت دعاية عن بنك تهز رأسك، ولما وزع شريط يدفع البلاء والهلاك تعترض قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
يا أخي الكريم! نحن وإياك بهذا العمل نسعى لدفع الهلاك عن الأمة وذلك بإصلاحها، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل عمل تستطيع أن تقدمه، وإذا أهمك الشيء، استطعت أن توجد لنفسك مجالاً تدعو فيه إلى الله، وتتحمل فيه مسئولية.(220/19)
دعوة غير المسلمين إلى الإسلام ودعوة السجناء
من المجالات الحساسة والخطيرة دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
لو وظفنا جميع الحاضرين في هذا المسجد في هذا العمل فإنهم لا يكفون لهذه المهمة، المشكلة أنك تدعو رجلاً كافراً إلى الإسلام فيسلم، يرجع إلى الشركة التي كان يعمل فيها، فيختلط مع المشركين والكفار، فيفتنونه ويغرونه، ويستهزئون به، يرهبونه ويرغبونه، الحل كما قال أحد الدعاة جزاه الله خيراً، قال: الحل في طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في المؤاخاة، كان إذا أسلم أحد المشركين جعله أخاً لواحد من الصحابة، فلو دخل في الدين مسلم جديد؛ قال أحد الشباب: أنا له، أعطوني إياه، رجلي في رجله، أذهب أنا وإياه، أعلمه الفاتحة، أعلمه كيف يصلي، أعلمه الوضوء، أعلمه شيئاً من الكلمات العربية، لن أدعه حتى أجعله يقف على قدميه بإذن الله، حينئذٍ نجد في الأمر إمكانية ونجد في الأمر قدرة.
أيضاً من المواضيع المهمة التي يستطيع الإخوة أن يتحملوا فيها مسئولية وينفعوا بها إخوانهم المسلمين: دعوة السجناء، وهم قد اجتمعوا لك، ولا يستطيعون أن يهربوا من عندك، والجهات الرسمية تشجع وتعين، وربما تعطي مكافئة لمن أرادها في هذا المضمار وهذا المجال، إذاً فإني أدعو كل واحد من إخواننا أن يتحمل جزءاً من المسئولية في مجال يستطيع أن يقدم فيه قليلاً أو كثيراً.(220/20)
عواقب إهمال المسئولية
وختاماً أيها الأحبة! ما الذي يترتب على إهمال المسئولية؟ يترتب على إهمال المسئولية شر مستطير وخطر كبير، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة -أي: ضربوا القرعة على سفينة- فكان لبعضهم أعلاها، وكان لبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفل السفينة، إذا أردوا الماء مروا على من فوقهم، فقال الذين في أسفلها: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن هم أخذوا على أيدهم؛ نجوا ونجوا جميعاً).
إن ترك المسئولية وتعليق المسئولية يمنة ويسرة، وتهربنا من المسئولية من نذر الهلاك في المجتمع، الله جل وعلا قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
فإذا أردنا صلاحاً وبقاءً ونعماً تترى متتابعة على مجتمعنا وفي بلادنا وأمتنا، فعلينا أن نتحمل مسئولياتنا وأدوارنا، أما أن يضيع كلٌ دوره، ويريد أن تمتلئ المخازن بالأغذية، والأسواق بالأطعمة، والبواخر بالنعم، وخيرات البلاد تجبى إلينا من كل جانب وهو يرى منكراً لا ينكر، أو معروفاً يضيع ولا يقوم بواجبه، وغاية ما عنده أن يهز رأسه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا بد أن تتحمل مسئوليتك، وأن تقوم بدورك، واسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعذاب ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم).
أيها الأحبة: انظروا إلى أولئك الفجرة، والحداثيين والعلمانيين والشيوعيين والفسقة وأهل الضلالة، كل منهم قد طوق نفسه، وتوج نفسه تتويج الضلالة لا الهداية بمسئولية تحملها، فتجد ضالاً ضليلاً ينبري لزاوية أدبية، لا يبرحها ولا يدعها قيد أنملة، وتجد آخراً يمسك بجانب، فلا يفتر قائماً عليه أبداً، وتجد الآخر يمسك بقضية معينة، فيوالي فيها العمل والجهد والبذل.
أما مشكلة الكثير من أبنائنا الملتزمين اليوم التذويق، ذواقين يوم نعمل في الجاليات، ويوم نعمل في السجن، ويوم نعمل في الفقراء، ويوم نعمل مع المعوقين، ويوم نعمل نعم هذا عمل خير، ولكن التخصص والصبر والجلد على مجال معين، يعطي الإنتاج فيه بإذن الله تعالى، أخي الكريم انظر إلى همة ذلك الشاعر الذي يقول:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يوم سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
تمرست في الأهوال حتى تركتها تقول أمات الموت أو ذعر الذعر
وأقدمت إقدام الأبي كأن لي سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
فتىً لا يضم القلب همة قلبه ولو ضمها قلب لما ضمه صدر
نريد واحداً يحمل هماً من هموم الأمة، ويتحمل مسئوليةً وينبري لها، ويقول: أنا لها، وقبل ذلك يسأل الله أن يكون سعيه خالصاً لوجه الله الكريم: (القصد القصد تبلغوا، من سار أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا وإن سلعة الله غالية، ألا وإن سلعة الله الجنة).
فيا أحبابنا إذا أردنا أن نمضي على طريق الأنبياء والصالحين من بعدهم والذين اهتدوا بهديهم وساروا على طريقتهم، فالعمل العمل لهذا الدين، مسئوليتنا جميعاً، ولا تجعل العمل وتحمل المسئوليات في المناسبات، منذ الليلة إن كنت جاداً تحسب على هذه الصحوة، فأسأل نفسك أي مسئولية تتحملها، إن شاء الله لو تعلم عامل النظافة الذي في المسجد القرآن وشيئاً من اللغة العربية والعقيدة الصحيحة، تأخذ لك خمسة عمال تكون مسئولاً عنهم، تذهب بهم إلى صلاة الجمعة، تردهم إلى بيوتهم، تعتمر وإياهم، تتفقد أحوالهم، تحل مشاكلهم مع العميل، شاب من جيرانك أو أقاربك تنذر نفسك له في كل الأوقات المناسبة عندك، أن تذهب به وتئوب وتعود معه، تعطيه الكتاب والنصيحة وتزوره، تأكل معه شيئاً، تشرب معه شيئاً، تقضي حاجته، تعينه، حتى بعد مدة تراه في عداد المهتدين، هكذا العمل الذي نريده.
أما الحماس والعواطف، والناس كإبل مائة كما نرى واقعنا اليوم لا نكاد نجد من يتحمل المسئولية، فهذا عيب، وهذا عار علينا، وعيب على أمة الإسلام التي بلغت الآن الألف مليون وستمائة مليون، وهي تجثم على ثروات وخيرات في أفضل المواقع، ومع ذلك ما تجد لهذه الأمة أثراً، لأن الأمة مجموعة أفراد، وكل فرد ضيع مسئوليته.
أحبابنا: نموذج على تحمل المسئولية في العمل، إذا رأيت الشاب المسلم أول من يدخل الدوام وآخر من ينصرف؛ فإنه جدير بالمسئولية، أما لأنك ملتزم تريد أن نعفو عنك، لأنك جئت متأخراً، ولأنك ملتزم؛ تريد أن نسمح بأخطائك في العمل، ولأنك ملتزم تريد أن نغفر خطاياك في واجباتك، لا، يا أخي الكريم! التزامك يحملك مسئولية أضعاف أضعاف ما يتحمل زملاؤك، لا تجعل التزامك وتدينك حجة أو ذريعة لكي ينظر الناس إليك نظرة مميزة مع تقصيرك وتفريطك في واجباتك، ومصيبة الأمة أن ينظر من يتصيد أخطاءها إلى الملتزمين من أبنائها في مواقع التقصير والإخلال بالمسئولية، ومنها جانب العمل، فهذا نموذج أو مجال من مجالات التحدي.
هل تثبت أنك جدير بتحمل المسئولية، حدد ساعة من يوم، ويوماً من أسبوع، وأياماً من شهر، لخدمة هذا الدين في برنامج محدد ومعين، وستنفع بإذن الله جل وعلا، وما سوى ذلك كما يقول القائل:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
لو يقال إن شاباً ملتزماً في مستشفى الثغر يحتاج إلى دم، لذهب كل واحد يتبرع بدمه، لو قيل: إن فلاناً يحتاج إلى كلية، لبحثنا له عن كلية من يمين أو يسار، أي: لما مرض فجعنا به وبذلنا له، لكن لما كان صحيحاً ماذا قدم للإسلام؟ للأسف هذه مصيبة عظيمة.
ثم أحبابنا أختم بخاتمة مهمة ألا وهي أنه ينبغي أن ننظر إلى ما نحن فيه من النعم والخيرات، إن ذكرنا لسيئات مجتمعنا، وأخطاء واقعنا، وزلات ما نحن فيه، لا تجعلنا نغض النظر عن حسنات نرفل فيها ونتربع عليها، فمن واجبنا كما ننكر هذه السيئات أن نلتفت إلى هذه الحسنات، فنثني عليها ونثني على من دعا إليها، ومن قام بها، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، وبهذا نسوق ونقود دفة أمتنا إلى خير في معروف ننميه، ومنكر ننكره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(220/21)
الأسئلة(220/22)
بطاقة الشيخ/ سعد البريك الشخصية
السؤال
البطاقة الشخصية؟
الجواب
لا يهمكم كثيراً هذا، إنما أنا الفقير إلى الله سعد بن عبد الله البريك، محاضر في كلية المعلمين قسم الدراسات الإسلامية، وإمام وخطيب جامع الأمير خالد بن سعود في البديعة رحمه الله، ونتعاون مع أحبابنا في مكتب الجاليات التعاوني لدعوة غير المسلمين في منطقة البديعة، أسأل الله جل وعلا ألا يجعل أعمالنا وإياكم هباءً منثوراً.(220/23)
المناصحة بين الشباب
السؤال
ذكرتم المسئولية ومسئولية كل شاب منا، فما رأيك في أولئك الملتزمين الذين يقولون من الواجب ومن المفروض ومن ومن فماذا قدموا هم للإسلام؟
الجواب
الذي يقول: يجب وينبغي ويلزم نقول له: ماذا قدمت أنت أيضاً؟ نحن لا نقول: تقول لنا يجب، من الواجب أن نتناصح، ولك أن توجب علينا ما أوجبه الله علينا، وأن تلزمنا بما ألزمه ربنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، نقول:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
من السهل استعراض جهود داعية من الدعاة وتشريحه؛ أخطأ زاد نقص، نعم.
فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وعلى الداعية حين ينبه إلى خطأ أن يقول: نعم أخطأت، وأستغفر الله، والذي يقول: أنا لا أخطئ؛ يوشك أن يدعي العصمة، وهذا لا يجوز أبداً، لكن لا نريد أن نحاسب الداعية على فهمنا، ومثال ذلك أنا قلت كلمة أو أحد الإخوان قال كلمة، فيأتي أحدهم يقول: إن كلمة فلان في محاضرة الشباب والمسئولية تعني كذا وكذا، وإذا كنت أنا أعني بها غير ما عنيته أنت، فليس حكمك عليّ بما فهمته من كلامي، لكن بما ذهبت إليه أنا صاحب الكلام، وفي الفقه: أن المقر إذا أقر بإقرار مبهم، فإن المقر أولى الناس بتفسير إقراره، فنحن محاسبون على ما قلنا وعانينا، لا ما على فهمه الآخرون منا.(220/24)
شباب لا يعرفون قيمة أنفسهم
السؤال
بعض الشباب لا يعرف قيمة نفسه كمسلم، ولا يدرك أهمية شبابه فما نصيحتك لهؤلاء؟
الجواب
كثير من الشباب يبالغ في احتقار نفسه احتقاراً عظيماً حتى يظن أن البهيمة أفضل منه، وبعضهم ربما أصابه الغرور حتى يقع في العجب وحبوط العمل ولا حول ولا قوة إلا بالله، فنحن نقول: يا أخي الكريم! إياك أن يصيبك الغرور والعجب، وكما قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: اعلم أن الناس إذا أعجبوا بك، فإنما أعجبوا بجميل ستر الله عليك.
الله الذي جملنا بالستر، ولولا الستر ما اجتمعنا في هذا المسجد، كم في أنفسنا كمتحدثين وسامعين من الذنوب والخطايا، ونستغفر الله ونتوب إليه، ولكن من نعم الله أن سترنا وجملنا بالستر.
أذكر ذات يوم أني أخذت ولدي عبد الله إلى المستشفى لعمل أشعة بالأمواج الصوتية في قلبه -نسأل الله له الشفاء ولأبنائكم جميعاً- فدخلت مع الطبيب، ووضع الأجهزة على قلب الطفل، فظهر في الجهاز البطين والأذين والصمام إلى آخره، قلت: سبحان الله! هذه الأجهزة الدقيقة تكشف كل شيء، ولكنها لا تكشف الخير والشر في النفوس.
الله الذي ستر عباده، وجمّلهم بالستر.
أخي الحبيب! إياك أن تحتقر نفسك، أنت فيك خيرٌ عظيم، وكما قلت يا أخي: والله لن تعجز أن تؤثر في أقاربك أو جيرانك أو أصدقائك أو زملائك، حتى العمال المساكين الذين تراهم حولك بحاجة إلى علمك ومعونتك ومساعدتك، فما أظن أن واحداً يقول: إني لا أصلح لشيء، فتجده يتهرب من المسئولية، أي: يتفنن في التهرب من المسئولية، وهذه مصيبة الأمة أن كل واحد يرمي بالكرة على صاحبه حتى لا تقع في مرماه.(220/25)
دور الشابات
السؤال
قد تكلمت عن دور الشباب فما هو دور الشابات؟
الجواب
الخطاب للرجال والنساء على حد سواء إلا ما يستثني الرجال بخصوصهم والنساء بخصوصهن، أعني أن الفتاة المسلمة أيضاً مسئولة، تجد فتاة مسلمة تقول: التبرج والأسواق والفساد والمجلات الخليعة والموضات وو إلى آخره، أنتِ أيتها الأخت ماذا فعلت؟ هل دعوت صويحباتك إلى البيت مرة في كل أسبوع؟ هل أقمت درساً في المدرسة؟ هل تعاونت مع مدرسة المواد الشرعية؟ هل كان لكِ دور في مناسبات تحضرينها من زواج وحفلات، هل كان لكِ دور في لقاءات عائلية وأسرية؟ إن الواحدة تستطيع أن تقدم خيراً، في الرياض دار تحفيظ قرآن، تخرج منها حافظات للقرآن، بجهود امرأة بعد فضل الله جل وعلا ثم بمساعدة زوجها أيضاً.
من أراد أن يعمل -يا إخوان- سيجد أساليب العمل، لكن الذي يريد الأعذار سيجد ألف عذر وعذر بالكذب والتحايل، والتخلص والتملص من المسئولية، فعلى المرأة مسئولية كما هي على الرجل، ومن أعظم مسئوليات المرأة تجاه زوجها، فإن كثيراً من النساء تتسبب في أن ينظر زوجها في الغاديات والرائحات؛ لأنها ما أعطته حاجته من نفسها وهي آثمة بهذا.
إن كثيراً من النساء لا تتجمل لزوجها، فيكون قلبه شغوفاً بصور المتبرجات، وهي مهملة للتجمل له وحسن التبعل له.
إن كثيراً من النساء عودت أولادها وبناتها على لبس القصير، وعلى الخروج إلى السوق، والكلمات السوقية من الشارع، لإهمالها وعدم تحملها لمسئولية المحافظة على البيت.
كثير من النساء أهملت الأطفال الصغار، فلا تبالي أن تكشف عورته؛ لأن الخادمة خلت به مرات، فوضأته وغسلته وجعلته يستحم، وهي التي تغير ملابسه، ولم تنتبه لحياء ذلك الطفل أو حياء تلك البُنية.
إن على النساء مسئولية عظيمة جداً جداً.(220/26)
السبيل إلى زيادة الإيمان في القلب وترقيقه
السؤال
ما هو السبيل إلى زيادة الإيمان في القلب وترقيق القلوب، لأنه كما نعلم إن زيادة الإيمان من أهم الأسباب التي تجعل الإنسان كفؤاً للمسئولية، وحبذا يا فضيلة الشيخ لو أسمعتنا أبيات ابن القيم في سلعة الرحمن؟
الجواب
من معتقد أهل السنة والجماعة رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فالطاعات من وسائل زيادة الإيمان، والذي يجد قسوة في قلبه، ولا يحضره خشوعه في صلاته، فعليه أن يكثر من الاستغفار والصلاة والأعمال الصالحة عامة؛ فإنها بإذن الله جل وعلا تعينه وتكون سبباً في سعادته.
وأما كلام ابن القيم في النونية المسماة بـ الكافية الشافية، فإننا للأسف -أيها الأحبة- نصف الجنة ولا نتحمس لدخولها، ونعرف وصف النار ولا نأخذ الأهبة والحيطة للبعد والنجاة منها، فالله المستعان برحمته أن ينجينا من عذابه، وأن يدخلنا برحمته في جنته:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنتِ غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
يا سعلة الرحمن كيف تصبَّر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان
حور تزف إلى ضرير مقعد يا محنة الحسناء بالعميان
وروى أبو داود في سنن له ورواه أيضاً أحمد الشيباني
أثراً تضمن أجر خمسين امرئ للعاملين بسنة العدناني
ما ذاك إلا أن تابعهم هم الغرباء ليست غربة الأوطان
إن التمسك بالسنة في زمن الغربة له أجر عظيم بإذن الله جل وعلا.
أحبابنا إن من الأمور التي أغرقنا فيها وتعمقنا فيها ما يسمى بديناميكية الدعوة وميكانيكية الدعوة، حتى أصبح الإنسان يفكر بالدعوة تفكيراً ديناميكياً آلياً بحتاً، وفعلاً غابت عنا الرقائق وغاب عنا التشويق والتخويف، ولذلك تجد رمضان يدنو منا -أسأل الله أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا وإياكم رمضان- فتجد الآيات العظمية التي تهد الجبال {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19].
آيات كثيرة فيها تهديد ووعيد، وتجد الواحد يفتح عينيه، فتطير في السماء، وحينما يأتي القنوت آه آه، قلبك غافل يوم كان كلام الله يتلى، ويوم جاء القنوت أخذت تتصنع البكاء وتتباكى أكثر من اللازم بتكلف؛ أين البكاء والخشية من كلام الله جل وعلا؟ نحن نحتاج أن نراجع النفوس، هل سيكون الدعاء المصفصف والمنمق من قبل أحد الأئمة أدعى إلى بكائك من كلام الله جل وعلا؟ في قلوبنا مرض.
كذلك الآيات التي فيها الكلام عن الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أدنى أهل الجنة منزلة من يملك كملك أهل الأرض عشر مرات، ولكن أيها الأحبة إننا نعلم يقيناً إن كل واحد منا يتيقن أن الجنة والنار حق، ونعيم الجنة حق، وعذاب النار حق، لكن للأسف نحن غير مهتمين، والسبب: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] معصية ونظرة، وكلمة، وغيبة ونميمة وغفلة، وهمز ولمز، فتكون هذه حجب تمنع من التفاعل مع الآيات والأحاديث التي فيها الوعد والوعيد، لذا يا إخواني! وقد قدمنا على الشهر الكريم؛ أحذركم من فوازير رمضان، ومسلسلات بعد العصر في التلفاز.
هذا أحد الشباب يقول: والله ذاك اليوم الذي أحجب بصري عن التلفاز، إنني أخشع مع الإمام، وأتلذذ لذة عظيمة في صلاة التراويح، وأما ذلك اليوم الذي أتساهل فيه؛ فأنظر إلى المسلسل والنكت السخيفة أو الطريفة أو غيرها بعد العصر، والفوازير بعد المغرب، وأدخل إلى الصلاة وكأني أصب ماء على صفوان صلب -حجر يابس- لا يمكن أن تجد فيه أي نعومة أو ليونة، نعم.
إذا أردت الخشوع؛ فتهيأ للخشوع؛ إذا أردت لذة الصلاة؛ فتهيأ لها، وأعظم لذة كما قال ابن المبارك: اترك فضول النظر؛ توفق إلى الخشوع، واترك فضول السماع؛ توفق إلى التلذذ بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
كان الصحابة والسلف ومن قريب الآباء والأجداد، تجد الواحد منهم قد احدودب ظهره، بلغ المائة أو جاوزها، يصلي ويتهجد، وإذا ذكرت الجنة قام يبكي وله نشيج، أحد كبار السن يحدث عن زمن ليس بعيد، وكان قد سمى فلاناً من الأئمة أظنه الشيخ العجيلي رحمه الله قال: يقرأ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] وكان وراءه رجل كبير في السن، وأخذ يبكي ويقول: أسأل الله أن يعيننا على جهيزهن، أي على العمل الصالح، الله أكبر! حينما تذكر الجنة يتخيل الجنة، ويتخيل برحمة الله أنه سيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا أخي! أريدك أن تحلق بخيالك ثم بحقيقة فكرك وقلبك ولبك، تخيل أنك في الجنة، بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما تشتهي قبلة على جبين الحبيب صلى الله عليه وسلم؟! أما تشتهي جلسة مع أبي بكر الصديق؟! أما تشتهي حديثاً من الروح مع عمر بن الخطاب؟! أما تشتهي أن يحدثك الصحابة عن بسالتهم في الجهاد في سبيل الله؟! أما تشتهي الأخت المسلمة أن تجلس مع خديجة وكيف كانت تثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؟ أما تشتهي أمي وأمك، وأختي وأختك، وزوجتي وزوجتك أن تسمع حديث زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؟! للأسف أصبحنا نتكلم عن قضايا الواقع، ومخططات أعداء الإسلام، حلقنا فيها كثيراً كثيراً، ولم تعد الأحاديث عن الجنة تهزنا أو تحدر دمعة من مآقينا على خدودنا.
إن بعض الشباب يقول: فلان ليس عنده إلا المواعظ والترغيب والترهيب، والله جل وعلا قد أثنى على خيرة خلقه أنبيائه ورسله، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] فهل أنت تسارع في الخيرات؟ {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً} [الأنبياء:90] يرغبون في الجنة {وَرَهَباً} [الأنبياء:90] خوفاً من النار {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
الذي ما يطمع في الجنة ويخشى من النار؛ فيه حب الصوفية المسمى بالعشق الإلهي، يقولون: عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك.
أعوذ بالله.
فيا أحبابنا تشوقوا وعلقوا أنفسكم بالجنة ونعيم الجنة.
الذي عنده زوجة دوخته، ينظر في الحور العين التي ترضيه وتهنيه ويسعدها وتسعده، الذي يشكو مرضاً يعلق نفسه بالجنة: (يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً).
لا طيب للعيش مادامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
حياتنا حتى وإن متعنا فيها لا تساوي أول ليلة ينزل فيها الواحد إلى القبر، أنعم أهل الأرض يغمس في النار غمسة فيقال: يا عبدي! هل مر بك نعيم قط؟ يقول: لا يا رب.
إنسان منذ أن وضعته أمه إلى أن مات وهو في نعيم؛ في حرير، في ملذات، في مآكل، في مشارب، في أقل من اللحظة غمسة خفيفة في النار يصرخ منها ويقول: والله ما مر بي نعيم قط {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].
قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة كمثل ما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع).
الآخرة ذلك البحر المتلاطم، والدنيا تلك القطرة التي تعلق بأنملتك حينما تغمس أنملتك في البحر، فمن ذا الذي يبيع هذه الآخرة الغالية بهذه الدنيا التافهة الفانية، نسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من الغفلات: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
الحذر من الغفلة، فليتذكر الإنسان: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف:201] تذكر يا أخي وقرب نفسك دائماً مع الأخيار والأبرار: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28].
لا تغرك المراكب ولا المساكن؛ إذا رأيت نعيماً فاذكر أن في الجنة أفضل منه، وإذا رأيت مصيبة؛ فتذكر أن في النار شراً منها، ففي كل الأحوال ترتبط بالآخرة.(220/27)
نصائح إلى شباب تابوا قريباً
السؤال
هؤلاء مجموعة من الشباب يقولون: الحمد لله هدانا الله سبحانه وتعالى وكنا من قبل نستعمل المخدرات وغيرها، فما هي النصائح التي توجهها لنا، ولنا أسبوع في التوبة؟
الجواب
والله يا أحبابي اسمحوا لي أن أقول: ما أكثر التائبين وما أقل الثابتين! فأحذركم من الحور بعد الكور، ومن الزلل بعد الاستقامة، ومن الانحراف بعد الهداية، ومن الضلالة بعد الهدى، وإني واثق أن الشيطان لن يدعكم، ولن يدعكم شياطين الإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فإذا كنتم حمدتم الله على نعمة الهداية والاستقامة، فلا تتساهل بلحظة، لحظة لو يطرق عليك صاحبك القديم صاحب المخدرات يقول: يا فلان أجلس معك جلسة قبل أن تأخذ بالهداية سنة، فلا تفتح له الباب ولا ير وجهك وجهه، فكم اهتدى كثير من الشباب بالذات من قضية المخدرات، فما كان من جلساء السوء وأولياء الشيطان الذين وسوس بعضهم لبعض، وزخرفوا ذلك الباطل لهم من جديد، قالوا: نجلس معك جلسة نريد أن نعرف كيف اهتديت فنهتدي مثلك، وما كانوا صادقين، ولو كانوا صادقين لزاروه أو لاجتمعوا به عند عالم أو طالب علم أو واعظ أو داعية، ولكن أرادوه على انفراد بدعوى أنهم يريدون أن يتوبوا كما تاب، فما كان منهم إلا أن أخرجوا له ذلك المسحوق الأبيض الذي يتلألأ أو قطعة من المرفين أو الهروين.
أنسيت ذلك الخيال التي ترى فيه أبراج إيفل في باريس، وناطحات السحاب في نيويورك، ومياه النيل وأنت في مكانك.
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
يسكر الواحد أو يحشش في هذه المخدرات والعياذ بالله، فيظن أنه قد حلق، بعضهم يظن أنه يدفع العمود هكذا فيسقط، وإذا صحا وجد أن العمود ضرب رأسه مائة ضربة، لكنه لا يدري.
فيا أخواني الذين اهتدوا نسأل الله لكم الهداية، وما يدريكم أنها خاتمة حسنة، والشيء بالشيء يذكر؛ منذ أسابيع ليست طويلة دخلت المسجد؛ فإذا بجنازة أمامي، فوجئت بها في الحقيقة، وفعلاً هزني ذلك الموقف أن تدخل المسجد وفي ذهنك موضوع الخطبة، فتفتح الباب وإذا بالجنازة أمامك، يوشك أن تسقط عليها فتهتز.
فانتهينا من الخطبة والصلاة وصلينا على ذلك الشاب، وكان أخوه أحد الشباب الصالحين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسألته عن أخيه، قال: هذا أخي ليس له في التزامه إلا ثلاثة أشهر تقريباً، وكان يعمل في البحرية، وقد مر بمجاهدة أعانه الله في نهايتها على الاستقامة، وكان حوله ممن يريدون به الغواية والضلالة من خططوا له ودبروا، ولكن الله أعانه وثبته.
انظروا إلى خاتمته كان حارساً على السفن والزوارق الحربية في مدينة الدمام، في المنطقة الشرقية، فكان يحرس في رباط وقت الفجر، فلما حان وقت الفجر؛ قام وأذن على ظهر السفينة، ثم نزل من السفينة إلى قارب آخر ومعه ماء وتوضأ، ثم عاد من القارب الصغير إلى السفينة، يريد أن ينادي إخوانه، ليصلوا، فزلت به القدم، وضربته حديدة في جبينه، فسقط في البحر، وأخذ ينزف، وفقدوه اليوم الأول، وفي اليوم الثاني وجدوا مجموعة من الأسماك مجتمعة حول منطقة، فجاء الغواصون ووجدوه على تلك الحال، يقول أخوه: والله إني كنت في فزع وفاجعة من الحادثة التي حصلت له، ولكني لما رأيته يغسل وعلى وجهه ابتسامة وخير؛ حمدت الله أن الله توفاه على هذه الحالة.
فالعبرة بالخواتيم، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، ولا يلزم أن تكون التوبة على قصة انقلاب سيارة أو غرق أو هدم أو حريق بعض الناس ينتظر أن تأتي شعلة من النار في فراشه فيقوم تائباً، أو يصفعه أحد بمرزبة على رأسه ثم يقوم تائباً، لا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8].
الواحد مدعو إلى التوبة سواء حصلت له حادثة تحركه وتوقظه من غفلته، أو لم يحصل له، فيكفيه ما يسمع من المواعظ والزواجر والعبر وغيرها.(220/28)
نصيحة فتاة تحب التلفاز
السؤال
إنني فتاة قائمة بحمد الله بجميع واجباتي نحو خالقي، ولكني أحب متابعة التلفاز، وأرى أنه يعرفني ببعض الأعمال السيئة مثل الغيبة والنميمة، وفي يوم من الأيام جاءتني إحدى الأخوات الطيبات، ونصحتني بعدم مشاهدة الأفلام والمسلسلات فلم أستجب لها، فما نصيحتك لي؟ ثم ما نصيحتك لنا جميعاً وشهر رمضان المبارك على الأبواب، ولو وضعت برنامجاً للشباب جزاك الله خيراً؟
الجواب
الله جل وعلا يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] من ذا الذي قام بحقوقه وواجباته تجاه ربه، ليس فينا ذلك الرجل إطلاقاً، بل كلنا ذلك المقصر مهما بلغنا من العمل، ويكفي من التقصير أن تجد الواحدة تمعن النظر إلى التلفاز، وأما معرفة الأحكام في بعض العادات السيئة كالغيبة والنميمة من التلفاز، فنعم قد يوجد في التلفاز بعض البرامج النافعة، فالله جل وعلا ذكر أن في الخمر منافع، ولكن إثمها أكبر من نفعها، واليوم يا أخواني! لو لم يكن في التلفاز بالنسبة للمرأة كيف تنظر إلى المصارعة والرجال عراة لكفى، هذه مصيبة يا إخوان، وكثير من الإخوان يدعي أنه يتحكم، أين التحكم والمرأة تنظر إلى المصارعة، وتنظر إلى الأفلام، وفي كل فلم وحلقة وتمثيلية رسائل متتالية متتابعة، هذه فتاة تكلم خطيبها، وهذه تخرج مع صديقها في الجامعة، هل هذا مجتمعنا؟ لا، هل هذا واقعنا؟ لا، هل هذه الأفلام تحل مشاكلنا؟ لا، هل هذه المسلسلات تحاكي مجتمعاتنا؟ لا.
إذاً لماذا نستورد مشاكل فوق مشاكلنا، ونتعلم منها ما يضرنا ولا ينفعنا؟ فحسبك من شر سماعه، وما بالك برؤيته، وإني أنصح أختي إذا كانت جادة في معرفة أحكام العادات وغيرها أن تأخذها من الكتب النافعة، كتب الحديث من كلام الله جل وعلا، كتب التفسير من الأشرطة النافعة، من الدروس العلمية المسجلة للشيخ ابن عثيمين ولسماحة الشيخ ابن باز، وللشيخ ابن جبرين، علماء أجلاء كبار، الشيخ ابن باز كثيراً ما يوصي بسماع إذاعة القرآن الكريم وفيها خير كثير وبرامج نافعة فعلاً.
أما التلفاز فمشاكله أكثر من منافعه، وإذا قدر أننا نشارك فيه، فنحن نشارك فيه من أجل المزاحمة ولو ساعة، حتى تكون خيراً بلا شر، أي: لا يحتج أحد ويقول: والله إن فلاناً شارك فيه، هذه مشاركة بدلاً من أن يكون بث فيه خطر أو فيه شر لمدة عشر ساعات، تزاحم بساعة، فتكون ساعة خير وتسع ساعات خطأ.
في رمضان أعمال صالحة كثيرة، أحد الفضلاء الذين جئت اليوم بمعيته، ولولا هيبته -وهو من الشعراء- لقلت في أهل جدة قصيدة، مع أني لست بشاعر، لكن أتسور جدار الشعر، لكن لما حضر خشيت أن ينتقدني، فكنت أقول له: يا أخي أنا ألاحظ أن كثيراً منا لا يشكو قلة الحسنات، لكنا نشكو كثرة السيئات، كثرة السيئات مصيبة عظيمة جداً، وفوق هذا أن يفسر ويؤصل بعضنا لبعض الخطيئة، فتجد واحداً يغتاب الآخر يقول: نعم هذا من مصلحة الدعوة تفضل شرح عرض فلان، الله لا يهينك لأنه لمصلحة الدعوة.
اتق الله يا أخي الكريم! {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ورمضان شهر عبادة وقرآن، فاشغل نفسك بقراءة القرآن وحفظه، هيئ نفسك أن تستعد لصلاة القيام خالياً من صورٍ تراها، أو كلمات تكدر عليك صفو خشوعك، ولا تجعل رمضان شهر النوم كما يجعله البعض، خذ برنامجاً، فقد يحوجك شيء من الجوع إلى شيء من الراحة، لا بأس ولا حرج، لكن إياك أن تفسد صيامك، إنسان صائم وعينه مفطرة على النظر إلى الحرام، أي صيام هذا؟! امرأة ساقها وفخذها ظاهر، نحرها عارٍ والرجل صائم! اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت، تضع الفوازير، أهذا تفطر عليه؟ استحي يا أخي الكريم! ما يليق أبداً، وإن العمل الصالح يبنى على التوبة، نظف ساحة نفسك هذه الأيام من الذنوب والمعاصي، وتخلص من عادات قبيحة، وذنوب تصر عليها وتتساهل بها، وتعد أنها من الصغائر، اتركها وتب إلى الله منها، حتى تبني العمل الصالح على قاعدة نظيفة، ما رأينا رجلاً بنى بيتاً أو قصراً على أرض مليئة بالأوساخ والأتربة وكل ما على الأرض من دون تنظيف لها، بل تجده ينظف ويزيل حتى يجد قاعدة صلبة وصخراً مكيناً متيناً فيبني عليه.
إذاً نريدك أن تبني الصيام والقيام والاستغفار وتلاوة القرآن، لذلك اقرأ القرآن، فإذا تعبت من القراءة؛ استرخِ قليلاً، واجعل ذكرك الاستغفار تلك العبادة اللذيذة، من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
استغفر الله يا أخي! أكثر من الاستغفار (إن من خير ما يجد العبد في صحيفته يوم القيامة الاستغفار) أكثروا من هذا يا أخي الكريم.(220/29)
نصائح للخطباء
السؤال
ما هو دور خطباء المساجد وخصوصاً في الأحياء التي يكثر فيها الجهل؟ وكيف يكون الخطيب ناجحاً؟ وما هي المراجع التي ينتفع بها؟
الجواب
يا أخي الحبيب! اليوم قد سهل الله للخطباء كثيراً من مسئولياتهم، فما عليهم إلا أن يأخذوا الأمر بعزم وجدية وقوة، إذا لم يستطع الخطيب أن يحضّر مواضيع جديدة، فعليه أن يأتي إلى التسجيلات الإسلامية ويقول: ماذا عندك من الخطب؟ يعطيه صاحب التسجيلات قائمة بأسماء الخطب، فينظر إلى الخطيب الذي يرتاح لخطبته ويستوعب كلامه وعباراته وأفكاره.
اسمع كثيراً، ولا بأس أن تنسخ الخطبة كما هي، ولا بأس أن تختصر من الخطبة أو تنقل منها وتلقيها.
حدثني أحد الإخوة يقول: في إحدى المدن عندنا خطيب منذ أن جاءنا إلى اليوم وهو يتكلم عن حقوق الجار، قلت: يمكن أنكم ما قمتم بحقوقه، ولذلك يذكركم وما تجدي الآيات والنذر في قوم لا يؤمنون.
ماذا فعلتم له؟ فينبغي للخطيب أن ينوع، وأن يتابع قضايا الساحة وبالذات التوحيد والعقيدة، والترغيب والترهيب والرقائق، وفي هذا خير عظيم وليست مسئولية الخطيب على المنبر، فجيرانك في الحي إذا لم يكن للخطيب هيبة، إذا صارت مشكلة في الحي يُرجع إلى الخطيب.
يا خطيب! أنت يوم الجمعة تتحدث إلى أربعة آلاف أو خمسة آلاف خاطباً فيهم، عندنا رجل مؤذٍ في الحي، إذا لم تتحمل مسئوليته من يتحمله، يأخذ الخطيب مشهد توقيعات من الجيران، يذهب إلى الأمين، يسلم عليه، يقابله، سلمك الله وأمد في عمرك على طاعته، هذا أحد جيراننا نصحناه وقلنا له وقلنا له، وما زال يفحط ويعاكس ويُؤذي، نرجو اتخاذ اللازم، يكون الخطيب له دور، أما خطيب: إن الحمد لله أقول قولي هذا ويكفي، لا يا أخي الكريم! فينبغي أن يتحمل الخطيب مسئوليته كما ينبغي، وأن يوجه وبالذات في المناسبات، فيعطيها حقوقها فهذا أمر واجب.(220/30)
محاربة العادة السرية
السؤال
كثر السؤال عن العادة السرية وعن التوبة ثم الرجوع إلى الذنب فما نصيحتك للشباب؟
الجواب
مثل هذه العادات الباعث عليها لا شك ثورة الشهوة لدى كثير من الشباب، ولكن يدفع لذلك الخيال، كثير من الشباب تجده دائماً يغمض عينه ثم يسرح في خيال امرأة أو جسم أنثى، ثم بعد ذلك يقول: كيف أحارب العادة السرية.
اشغل نفسك بقراءة وسماع وفكرٍ، وجاهد خيالك وخطراتك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فلو زلت منك اليد إلى هذه الفعلة، فاستغفر الله.
من الشباب من يظن أنه يوم أن فعل العادة السرية؛ إذاً لن يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً، ويوم القيامة يؤتي بحسناتك وسيئاتك، وإذا فعلت هذه الفعلة فأعقبها بحسنات {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، اصبر عن المعصية، ففي هذا أجر عظيم والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
انتبه لهذا أخي الحبيب، ومن أوشك على الوقوع في فاحشة الزنا؛ فإن ارتكاب أدنى المفسدتين دفعاً لأعلاهما أمر مشروع أسأل الله أن يرزقنا وإياكم حفظ أبصارنا وأسماعنا وخيالنا وخطراتنا وأفكارنا، وأنصح الشباب بالمبادرة إلى الزواج، حتى وإن لم يصلك دورك في المشروع الخيري للزواج، تسلف من هنا ومن هنا ومن هنا {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
تزوجنا ونحن فقراء، فأصبحنا أغنياء بفضل الله جل وعلا، ما نقيس أنفسنا اليوم كاليوم الذي تزوجنا فيه، وكثير من الشباب كنا نعرفهم ربما تحل له الصدقة قبل أن يتزوج، فلما تزوج أصبح من المتصدقين.(220/31)
توبة عجيبة
السؤال
هذا شاب يقول: أخي وحبيبي في الله، إني شاب تبت إلى الله، ولكن ما زلت مع امرأة، فهل يجوز لي أن أستمر معها بعد التوبة على اتصال تلفوني أو عبر خطابات؟
الجواب
والله هذه التوبة العرجاء، ما شاء الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
تب إلى الله جل وعلا، نعم لا نقول: إنسان عنده أربعة ذنوب واقع فيها، تاب من ثلاثة وبقي الرابع، نقول: لا إما أن تتوب من الرابع وإلا فارجع الثلاثة التي ذهبت، هذا خطأ، لكن نقول: تب إلى الله جل وعلا، وبالذات مثل هذه الذنوب والخطايا المتعلقة بمصائب النساء؛ فإن عواقبها وخيمة.
أسأل الله أن يستر علينا وعليك، وبادر بمجاهدة النفس بالقطيعة، اقطع هذه المكالمة والمراسلة، تزوج حتى تيئس منك، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يصرفها عنك ويصرفك عنها، وألح على الله، واسأل الله أن يصرفها عن نفسك، فإن من ألح على الله ولو في شأن دنياه أجابه، فما بالك بمن يلح على الله بشأن دينه وطاعته لله.(220/32)
دروس الشيخ في جدة غير موجودة
السؤال
لم تجب على موضوع الدرس الأسبوعي أو الشهري في جدة؟
الجواب
هذا ما ينسى، والله يا أخي الكريم لست أهلاً أن ألقي درساً أسبوعياً أو شهرياً، رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، أي: أنا أعطي الدروس والمحاضرات الأسبوعية في الكلية، وإن كان عندي من مقدرة فلأصحاب الحي عندنا في السيرة، وليس بوسعي ولا بمقدوري أن أعطي درساً أسبوعياً في جدة أو شهرياً.
أكرر مرة أخرى لإخواني طلبة جامعة أم القرى في الكليات الشرعية وجامعة الملك عبد العزيز والجامعة الإسلامية وجامعة الإمام محمد: يا إخوان! قرى المملكة وأطرفها وحدودها بأمس الحاجة، فيا أحبابنا المناطق التي فيها خير وفيها دعوة وفيها عمل ينبغي أن ينفر أبناؤها ورجالها للدعوة إلى تلك المواطن، أي: مثلاً لو أن أهل جدة أو الإخوان الذين في جامعة أم القرى ركزوا على المناطق الغربية وما وراء الغربية، فيكون في هذا خير عظيم، قرى كثيرة جداً بعضها لم يأتهم شيخ، وبعضهم ما سمع بمحاضرة، وبعضهم لم يقام عنده درس، وأيضاً إذا زرتموهم هناك فلا تكفي الزيارة أو إلقاء كلمة، انظر أمثلهم طريقة ورتب معه أن يقيم درساً للقرآن أسبوعياً، انظر أحد المدرسين في المدرسة ممن ترى فيه الخير، قل له: لماذا لا تقيم درساً؟ مادة التوحيد التي تدرسها في المتوسطة والثانوية درسها للعوام بعد صلاة المغرب يوماً من الأسبوع، الناس بحاجة ما عندك وفي هذا خير بإذن الله سبحانه وتعالى.
ملحوظة: أود في هذه الفترة أن أنبه الشباب إلى أمر مهم، وهو أننا بحاجة إلى العقل والهدوء والاتزان، ولا تعني النصيحة بهذا أن الشباب مجانين أو شياطين معاذ الله، لكني أقول: ينبغي أن ننظر في واقعنا نظراً جيداً، وأن ننظر ما نحن بحاجة إليه من الهدوء ومن الاتزان ومن إصلاح الأمور خطوة خطوة.
وفوق هذا كله ينبغي أن نعلم جيداً أننا نحن والعلماء والحكام في سفينة واحدة، فغرق السفينة يغرق الجميع، والخلل في السفينة خلل على الجميع، والخطر في السفينة خطر على الجميع، ليس الخطر على فئة دون فئة.
لأجل هذا أدعو أن نستشعر المسئولية الجماعية، وأن ننظر إلى إصلاح واقعنا نظرة عامة شاملة، وإن الرجل اللبيب الذي عنده شيء من اللب حينما يريد أن يصلح جداراً من الطين مثلاً ما تجده يهدم الجدار بالكامل ثم يأتي ليبني لا، مثلاً عندنا بيت من الطين أحد جدرانه قد لعبت به الدود، أصبح نخراً، أصبح طيناً، لو أردنا أن نصلح هذا الجدار، فإننا لو أزلنا الجدار كله؛ سقط الدور الذي فوقه وسقط البيت كله، فإصلاح الجدار يكون على طريقة القدماء يأتون إلى الجدار الطين، فيأخذون خمس بلوكات فقط من الجدار وبقية الجدار الطيني الضعيف قائم، فيصلحونها ثم يأخذون خمس أخرى فيصلحونها، ثم خمس أخرى فيصلحونها وهكذا.
اللبيب بالإشارة يفهم ونحن بأمس الحاجة إلى الإصلاح الهادئ، وأن نضع أيدينا في يد كل غيور ومخلص وناصح، من عالمٍ أو حاكمٍ أو ولي أمرٍ أو داعيةٍ أو مسئول، وأن نمد جسور الصلة على ما نرى، وفوق ما نرى، وفي مواجهة ما نرى، حتى نفوت الفرصة على من يثير الفتنة يبن فئة هذا المجتمع، حتى يقضي على الجميع صغاراً وكباراً.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.(220/33)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة
إن التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في عصرنا تنقسم إلى قسمين: تحديات داخلية وتحديات خارجية، وهذه التحديات لم تكن لتجد لها مكاناً بين المسلمين إلا يوم أن وجدت من بذر لها بذر القبول.
وهنا معالجة لما تواجه المرأة من فتن ومغريات، وتوجيهات مفيدة في هذا المجال.(221/1)
انقسام الناس في النظر إلى المرأة إلى فريقين
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلى هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة: الحديث عن التحديات التي تواجه المرأة وهي في واقعنا المعاصر كثيرة جداً، ولا أخال أنني سأحيط بها أو سأسردها عليكم فضلاً عن التفصيل فيها، ولكن قبل الولوج في صميمها أود أن أعرض مسائل: الأولى: إن كثيراً ينفرون من الحديث عن التحدي والتحديات، ولا يحبون أن يسمعوا نقداً للمجتمع أو الواقع، وهذا أمرٌ لا ينبغي أن يكون؛ لأننا حينما نتكلم عن التحدي في مجالاته أو في ظروفه وصوره فإننا لا نحب ولا نحسن ولا نتسلط بمجتمع ولا نعرض، ولكن الحديث يكون مستحضره خطرٌ داهم أو شرٌ قائم، أو لأخذ العبرة والعظة من مصيبة حلت لإهمالٍ أو تفريطٍ وقع منا، أو لأجل الدعوة إلى الإصلاح كلٌ بقدر واستطاعته.
التحديات التي تواجه المرأة كثيرةٌ جداً، وهي تحديات من الداخل وتحديات من الخارج.
لا يبلغ الأعداء من جاهلٍ ما يبلغ الجاهل من نفسه
ما كان لتلك التحديات أن تجد بين الصفوف مكانة، أو تجد بين البرادع مخيماً، إلا يوم أن وجدت لها بذرة القبول ودعا لها دعوة المحبة، وهيأ في النفوس لها موقعاً ومنزلاً، وحسبكم قول الله جل وعلا في شأن أولئك الأعداء الكفرة الذين يتمنون بالمجتمع كل مصيبة، ويتربصون بهم دوائر التفكك والانقسام، والهزيمة والتبعية، يقول الله جل وعلا: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وتأملوا هذه الآية: هل تظنون أن الذين يتمنون أن نكفر كما كفروا -إن كانوا يروننا دونهم- أنهم يتمنون أن نكون مثلهم، فنكون سواء فنرتفع من الحضيض إلى علو منزلتهم التي هم فيها كما يظنون؟! وإذا رأوا أننا أعلى منهم منزلة فيتمنون كفرنا حتى نكون سواء، فننزل من علو مقامنا إلى حضيض مقامهم، وهذا هو الظاهر البين.
إذاً: فالأعداء مهما بلغوا من الاكتشافات والاختراعات، ومهما هيئوا ألوان الترف وسبل الرفاهية ونافسوا في التمدن فإنهم لا يزالون يرون المسلمين أعلى منهم قدراً.
والسبب في رؤيتهم للمسلمين أنهم أعلى منهم قدراً أنهم يرون الأمة المسلمة لا تزال تتمسك بوحي رباني معصومٍ من الزيادة والتحريف والنقصان، فلا بد أن ينزلوا هذه الأمة المتمسكة بهذا الوحي إلى حضيض مساواتها بالكافرين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإطلاق سهام التفكك والبغضاء، والزهد في الوحي الذي أنزله الله جل وعلا، فالتحديات كثيرة من الداخل والخارج، وعذراً وعفواً من ذا يجمع بحر الكون في قطرة، ومن ذا يختزل حروف العداوة في ذرة، ولكن ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى.
يكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي
وأرغب -أيها الأحبة- أن يكون الحديث عن المرأة، الذي هو عن أمي وأمك، وأختي وأختك، وزوجتي وزوجتك، وابنتي وابنتك حتى نتحدث عن موضوع نتعايش معه، ونتكلم عن خطر يهدد كل واحدٍ منا، ونشمر لكي نذب عن أعراضنا وأنفسنا ومجتمعنا وأمتنا؛ لأن بعض المسلمين وفقهم الله حينما يسمعون حديثاً كهذا يظنون أن المعنيين بهذا قومٌ في الزهرة أو في زحل أو في المريخ أو عطارد، ونحن إنما نصلي على الميت الحاضر، ونتحدث عن واقعنا، وعن مجتمعنا، وعمن يعايشوننا ويساكنوننا ويخالطوننا، فحديثنا عنا وعمن حولنا، وفي البداية يخص هذا الحديث وسطٌ بين فريقين: فريقٌ يرى أن المرأة في مجتمعنا قد أدبرت وولت، وذابت وانحرفت، وسقطت وانتهت، ولا أمل في إصلاحها، والبقية الباقية في طريقها إلى الفساد، والبعض ربما يحمل نفساً متشائمة، ويغلق منافذ الأمل أو نوافذ العمل، ويصاب بالإحباط تجاه كل حركة تسعى إلى الإصلاح والتغيير.
وفريقٌ آخر يرى أن واقعنا أفضل واقعٍ يمكن أن يخطر على بال رجلٍ في هذه البشرية المعاصرة، وليس ذاك بصحيح، وليس هذا بحق (فمن قال: هلك الناس فهو أهلكُهم أو أهلكَهم) ومن قال: لا يمكن أن يوجد واقعٌ أفضل من هذا فذاك عين المداهنة والنفاق، إن في واقعنا من الخير الكثير الكثير، وفي واقعنا من الشر ما لا يعلمه إلا الله، وذاك ميزان العدل عرفناه من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول في صدر خطبته ومستهلها: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا).
فأخبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن للنفس شروراً، وأن في الأعمال سيئات، وذاك في زمنه فضلاً عن القرون التي تلت وجاءت عقب أو بعد القرون المفضلة، بل إن ما نحبه فيه الخير والشر، المال والولد من ذا يكرههما أو يبغضهما ومع ذلك يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] ويقول تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].
إذاً: فليس الخير في النفوس فضلاً عن المجتمعات والدول والأنظمة والمؤسسات والأجهزة، ليس الخير على إطلاقه وليس الشر على إطلاقه، فكل نفسٍ، وكل أسرة، وكل مجتمع، وكل نظام، وكل أمة، وكل دولة فيها خير وشر، بل قال صلى الله عليه وسلم فيما جاء في السنة أن الرجل إذا دنا بامرأة وضع يده على ناصيتها وقال: (اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) فدل أن في الزوجة شراً كما أن فيها خيراً، فالمال فيه خيرٌ وشر، والزوجة فيها خير وشر، والولد فيه خيرٌ وشر، والنفس فيها خيرٌ وشر، فكذلك المجتمعات فيها خير وشر، فلنتأمل هذا جيداً.
أيها الأحبة: وإن التحديات التي تحيط بالمرأة المسلمة في واقعنا المعاصر هي جزءٌ من التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، تحدي المرأة والتحدي بالمرأة، ذلك محور من محاور التحدي الكبير الخطير الذي تواجه به أمة الإسلام في وقتٍ نعجب فيه من جلد الفساق والكفرة وضعف الثقات والأمناء، ذلك هو جزءٌ من التحدي العام في السياسة وفي الاقتصاد وفي التربية والإعلام وفي التعليم وفي مجالات شتى، فليس الحديث عن التحديات التي تواجه المرأة بمعزلٍ عن جملة التحديات التي تحاك وتدبر للأمة من قبل أعدائها في الخارج، أو المنافقين الذين يتربصون بها في الداخل.
وهذه التحديات تظهر في صور شتى، وتلبس لكل زمن لبوساً، ولكل حادثة ما يناسبها، وتنشط تارة، وتظهر تارة، وتصرح تارة، وتلمح تارة، وتقوى تارة، وتضعف تارات.(221/2)
الإعلام وصور من تحدياته
إذا أردت أن تنظر إلى محورٍ أو جانبٍ من الجوانب التي عرضت ألوان هذا التحدي، فتأمل الإعلام بجميع مجالاته وأضربه من جريدة أو مجلة أو شاشة أو إذاعة أو كتابٍ أو نشرة أو دورية أو مطوية، فإنك سترى فيها ألوان التحدي على أوسع نطاقٍ وأوسع صعيد، لذا نحصر حديثنا عن هذه التحديات في التحدي الإعلامي، وذلك لتنوع أساليب دخوله في المجتمعات، فالبيت الذي قد لا يوجد فيه جهازٌ يستخدم البث قد لا يعدم من تلفاز، والبيت الذي يعدم التلفاز لا يخلو من الإذاعة، ولا يخلو من مجلة أو جريدة، ولهذا نختار الحديث عن التحدي الإعلامي؛ لأنه ندر أن يخلو منه بيتٌ من البيوت، بل قال أحد الدعاة في كلمة سمعتها له: إن الذي يذهب إلى الخباز صباحاً ويشتري خبزاً حاراً ربما أعطي جريدة ليضع عليها الخبز فكان في الجريدة مقطوعة أو مقالاً يدخل به التحدي إلى هذا البيت من حيث يشعر أو لا يشعر، ويسوق هذا على سبيل الفكاهة.
ثانياً: إن تحدي الإعلام يخاطب جميع الفئات والطبقات، بل وجميع أفراد الأسرة، فأنت تلاحظ -مثلاً- أن الإعلام يخاطب الطفل والمرأة والأم والزوجة والمراهقة، والشاب والرجل، والكهل والكبير والصغير؛ لأجل ذلك كان هذا التحدي بشمول اتصاله لسائر طبقات المجتمع أخطر من غيره، ويجمع جميع ألوان التحدي ويعرضها في أساليب براقة قشيبة خادعة.
ثالثاً: إننا نلاحظ قوة فاعلية التأثير في هذا الإعلام أكثر من غيره، فإن التحدي الإعلامي أقوى من التحدي الاقتصادي، وأقوى من التحدي الاجتماعي أو غيره من ألوان التحديات، وإن كان التحدي الإعلامي قد يكون وليداً أو -إلى حدٍ ما- له ارتباطٌ قوي بالتحدي الاقتصادي أو غيره، على أية حال لا تظنوا أن ما سنذكره من تحدٍ بات الناس ذات ليلة آمنين مطمئنين فأصبحوا وقد خندقت الفتن حولهم وحاصرت دورهم، وأطلقت سهامها في بيوتهم، وإنما كان ذاك نتيجة مكرٍ وكيدٍ ونفسٍ طويل كما يقال: سياسة الخطوة خطوة {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6].
إننا نعجب من طول نفس العلمنة والعلمانيين الذين ما فتئوا يضربون أسواطاً ويقطعون أشواطاً، ويضربون آمالاً وأبعاداً، يتمنون أن يصلوا فيها إلى أمورٍ عديدة، ولو سمعتم بعض كبار العلمانيين يقول بعضهم لبعض: أبعد هذا المشوار الطويل لا نظهر في هذا المجتمع إلا بأمورٍ لا نجزم أنها في حقنا أو في صالحنا، كان العلمانيون ينتظرون قبل هذه السنوات التي نعيشها أن تسن القوانين التي تنزع وتخلع ولاية الرجل عن المرأة، وكانوا ينتظرون أن تصرع النظم التي لا تجعل للمرأة مكاناً تحت سيطرة الرجل أو قوامته، وكانوا ينتظرون أن يكون لها ما تريده وتشتهيه مما وصل إليه الغرب من ألوان الفساد والانحراف، وإذ بهم يفاجئون أنهم حتى هذه الساعة لا يجدون أنظمة تحميهم، فكل سعيهم إنما هو نشاطٌ واجتهادٌ وافق غفلة أو شهوة أو ضعفاً من الأخيار أو بعض الأبرار.
أيها الأحبة: واعلموا أن لهذه التحديات ظروفها وأسبابها، وربما كانت بعض الأسباب باختلافٍ أورثت غيرها فكانت سبباً ومشكلة في آن واحد، فالرفاهية -مثلاً- والترف الذي حصل لكثيرٍ من البيوت، والعمالة الوافدة من الخدم والمربيات أنتج فراغاً خطراً واستعداداً نفسياً لقبول هذا التحدي وأورث ضعفاً في مواجهته.
ثم تكلم الرويبضة، وتحدث في شأن القوم من لا علاقة له بهم، وأصبح أمر الدين فيما يتعلق بالمرأة حمىً مباحاً، يفتي فيه من يفتي، ويتكلم فيه من تكلم؛ حتى بتنا نرى أن مجلة ساقطة كمجلة " سيدتي " يظهر فيها من يفتي ويقول: لا بأس بقليلٍ من الغناء ولا بأس بالخروج مع الرجل، ولا بأس ولا بأس أي فتوى مرت على حين غفلة من عقول كثيرٍ من الغيورين والمسلمين، ناهيك عن سيلٍ جارف وجد أبواباً مشرعة، فأنت حينما تدخل الآن ما يسمى بالسوبر ماركت أو التموينات أو محلات التسوق تمكث ساعة لتجد مجلة المجتمع، أو الدعوة أو أنصار السنة، أو مجلة الإغاثة أو مجلة إسلامية في خضم عشرات، بل تبلغ المئات في بعض المحلات الكبيرة من المجلات التي كلها صورٌ عارية تثير الغرائز، وتشحن الفتنة، وتدعو إلى الرذيلة، وتهيئ للإجرام والفساد.
ثم وافق ذلك -أيها الأحبة- جهلاً منا بأصول التربية الصحيحة، فمنا من يرى جهلاً أو تأثراً أن فتح الأبواب على مصاريعها للأولاد والبنات أن نجعلهم يمارسون تحقيق الذات كما هي النظرية الغربية في التربية، إن أعلى صور التربية تحقيق الذات، وتحقيق الذات يعني: ألا تقول للطفل: لا.
وألا تنهره، وألا تزجره عن همٍّ همَّ به أو فعلٍ أراده، وآخرون لا يضعون العصا عن عواتقهم، دون استعمالٍ لتدريجٍ يجعلون شيئاً من العصيات أو الضربات الخفيفة هي نهاية المطاف في بعض ألوان الأدب أو بعض ألوان التربية.
يا آباء شغلوا وأمهات لهون!
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همِّ الحياة وخلفاه وحيداً
إن اليتيم من تخلت عنه أمه، وشغل عنه أبوه.
زد على ذلك شيطانٌ يوسوس في النفس ويجري من ابن آدم مجرى الدم، وشهوة متسلطة، ومراهقة مسعورة عند البنات وعند الشباب إلى حدٍ كبير؛ مع بعض المثقفين المنهزمين الذين عاشوا في الغرب ودرسوا سنين طويلة، فما عادوا لنا بشراع وما عادوا لنا باتجاه، وما عادوا بنظرياتٍ نافعة صالحة في توظيف القوى العاطلة في المجتمع، أو تطوير أساليب الإنتاج أو تشغيل عوامل الإنتاج، أو إيجاد معادلات لإصلاح المجتمع وتطوير النزهة إلى معادلات جميع أفراد المجتمع، بل عاد إلينا أقوامٌ لم يعرفوا بعد سفرهم وبعد عيشهم في الخارج إلا أن عادوا ينتقدون كل قديم، وأن بعضهم يجعل فيه الدين، ويجعل فيه التقاليد والعادات، ويعطف بعضها على بعضٍ كأنها مترابطاتٍ، وفرقٌ عظيم بين أمور المعتقد وأمور الدين والتشريع من جانب، وبين السير والعادات والتقاليد التي ربما تغير بعضها تبعاً لتغير الأزمان والأمكنة.
إذاً: الهجمة عامة، والمرأة محورٌ واضحٌ جليٌ في هذه الهجمة، وهذه الهجمة كما قلت تدور حول فتاتنا وأمنا وبنتنا وزوجتنا وأختنا، وهم في ذلك -أيضاً- يحرصون على تغيير البرنامج الذي تفكر به المرأة، ليس فقط عرضاً للمعصية أو الرذيلة عرضاً مباشراً، بل هناك سَبْقٌ وتقدم في المعركة فإنهم حاولوا أن يصلوا إلى طريقة التفكير التي تفكر بها الفتاة ليطلبوا فيها أسلوب التفكير وأسلوب النظر، وأسلوب القناعة والمعالجة.
تلاحظ -مثلاً- ما أكرم به الإسلام المرأة من تشريع المحرم لها في سفرٍ وألا يختلى بها، وألا تخضع في صوتها، وألا تخالط وألا تسأل متاعاً إلا من وراء حجاب، وألا تضرب برجليها حتى لا يسمع ما تخفي من زينتها، يسميه الأعداء تجسساً وسوء ظن ومراقبة، في الوقت الذي يرى الإسلام أن المرأة شخصاً مهماً لا بد له من الحراسة، أرأيتم كيف يحرس الزعماء! أرأيتم كيف يحرس الملوك! أرأيتم كيف يحرس القادة؟ إن الإسلام يجعل المرأة زعيماً وقائداً ورجلاً مهماً خطيراً، لا يمكن أن يمشي وحده بل لا بد أن يعتنى بحراسته، خاصة في السفر ومواقع الخطر.
كذلك -أيها الأحبة- والشيء بالشيء يذكر، يوم أن تمنع المرأة من القيادة، دفعاً لأضربٍ ولألوان كثيرة من الفساد، وسداً لذرائع المعصية والمنكر، ما ذلك إلا لإكرامها ولخدمتها ولحشمتها، فما يقولون: إن هذا الدين عظيم، يجعل المرأة أكرم من أن تقود السيارة التي ربما تعطلت فتعطل أمر المرأة، وتعرضت أن تمال أو تقف في قارعة الطريق لتنظر من يسعفها، الإسلام جعلها في مقام من يخدم، أرأيت من يحتاج إلى العناية به كعاجزٍ يحتاج إلى من يقود به السيارة، أو شخص مهم لا يتفرغ لقيادة سيارته، أو سمِ من شئت فإن الإسلام يقول للمرأة: أنتِ من هؤلاء المهمين الذين تقاد بهم السيارة، وليست هي التي تقود أو تتعرض لمشكلات أو مواقف مفاجئة لها خطرٌ على نفسها، أو فؤادها، لكنهم لا يسمون هذا احتراماً، وإنما يبرمجون -إن صحت العبارة- أو يقولون: إن هذا الدين بما فيه من قيم بالية وتقاليده مهترئة تمنع المرأة أن تمارس حريتها حتى ولو في أبسط الأمور أن تمسك بقطار سيارتها فتقوده بضعة كيلو مترات.(221/3)
إلغاء التخصص وخلط الوظائف
يحرص أولئك على إلغاء التخصص وخلط الوظائف، أنتم تعلمون أن المرأة لها وظيفة لو اجتمع الرجال ليقوموا بها ما استطاعوا، فوظيفة الحمل لا يطيقها الرجال، وكذلك الولادة ومعاناة الحيض والنفاس المرتبطة بإنجاب الذرية، وتربية الأطفال والحدب عليهم، والسهر على شئونهم وأحوالهم.
إن طفلاً صغيراً لو بكى الليل فأودعته عند أربعة رجال لملوا من التناول على هدهدته وتسكيته، كلٌ يدفعه إلى الآخر، وكلٌ يمل من تسكيته ولو بضع دقائق، لكنك تعجب كل العجب يوم أن ترى أماً ترضع وقد تكون حبلى في نفس الوقت، ولديها طفلٌ أكبر من هذا الرضيع فتقوم في وسط الليل وربما لم تفتح عينيها، ولكنها تهيأت لذلك، ومضت وسارت على الفطرة التي خلقت لها، فتجد الطفل يصرخ فتقوم لتسقيه الماء، والآخر يبكي فتلتفت إليه لتغيير ملابسه، والرضيع يصيح فتحضنه إلى صدرها وتلقمه الثدي وتسهر طول الليل ثم تنسى هذا كله في ابتسامة مشرقة يوم أن تراها بادية على محيَّا هذا الطفل الرضيع، أو على ذلك الطفل يوم أن يصبح وهو يضمها أو يلتف حولها أو يرمي برأسه عند رجليها، فتنسى الدنيا وما فيها فضلاً عما لقيت من العناء والتعب والمشقة في العناية بهذا الطفل، هل يطيق الرجال هذا؟ هل يستطيع الرجال هذا؟ لا والله لا يطيقونه ولا يستطيعونه ولله الحكمة؛ لأنهم لا أعدوا له بأي حالٍ من الأحوال.
أولئك الذين يتربصون بالمجتمع الدوائر، ويسعون إلى إخراج المرأة من عفافها وطهرها وحيائها، يريدون للرجل أن يمارس هذا الدور، ويريدون للمرأة أن تمارس الدور الآخر، أن تخرج هي فتخالط من شاءت وتتهيأ وتتزين لمن شاءت، وتعمل في أي مجالٍ شاءت، وما اختارت المرأة لنفسها إلا سعادة لكنهم أفسدوا فطرتها، وخدشوا جبلتها وطبيعتها
ومن يك ذا فم مر مرير يجد مراً به الماء الزلالا
فجر الرجال إلى وظائف النساء، وجرت النساء إلى وظائف الرجال، وصار هناك خلطٌ في الوظائف والمسئوليات، وإني عجبت ذات يوم، يوم أن اتصلت بصديقٍ فقلت له: ماذا تفعل في البيت هل تقرأ أم تكتب؟ فقال: لا.
لكن زوجتي ذهبت إلى السوق وبقيت أحرس الأطفال، فقلت: الحمد لله، تسرح العنز ويجلس التيس، نعم.
هذا من العجائب والغرائب، نحن لا نقول هذا لكي يتأذى الرجال أو ينفروا عن المكوث مع الأطفال بعض الساعات حينما تدخل المرأة مع أخيها أو محرمها أو مع عدد من النسوة لقضاء حاجاتهن المعتادة في أوقاتٍ محددة من غير كثرة خروجٍ أو جعل الخروج من المنزل سمة وسجية، لكن نقول هذا إذا كانت سمة الرجال البقاء في البيوت، وحراسة الأطفال، وسمة النساء السبت في حديقة الحيوان، والأحد في الحي الدبلوماسي، والإثنين في الفندق الفلاني للحفلة الفلانية، والثلاثاء في الزفاف الفلاني، والأربعاء في المكان الفلاني، وتجد الرجل قد قام بمهمة الحراسة على خير وجهٍ بارك الله فيه وسلمه، وجزاه الله خير الجزاء، لا يعاب رجلٌ أن يمكث عند أطفاله فيربيهم ويعلمهم وينصحهم ويوجههم، لكن أين المرأة؟ ولماذا تركت الأطفال؟ ولماذا غفلت عن دورها؟ ولماذا استقلت واستهانت بمسئوليتها؟(221/4)
الدعوة إلى إهمال المسئولية الحقيقية
أيضاً من صور هذا التحدي: الدعوات السافرة إلى إهمال المسئولية الحقيقة وهي: مسئولية الزوج، والاستعداد للزوج، وتربية الأولاد والبنات -كما قلت- أصبحت عبئاً ثقيلاً على كثيرٍ من بناتنا، بل حتى على بعض المتدينات والملتزمات، ويا للأسف يوم أن تقول لامرأة: يا أمة الله! قري في بيتك، وأعدي وأصلحي وهيئي وعطري ونظفي هذا البيت، واجعليه جنة لا يمل الرجل شم جنباتها، ولا يمل من التقلب في أروقتها وغرفها، اعتني بهؤلاء الأطفال بكل لبسٍ جميلٍ رائع، اجعلي والدهم ينظر إليهم دائماً في أبهى حلة وأجمل زينة، إن تزيين الأطفال ليس لكي يراهم الأجانب فيقولوا: ما أبرق وأجمل هؤلاء الأطفال، بل إن الرجل ليسعد كثيراً يوم أن يرى ولده وفلذة كبده في أبهى حلة وأجمل صورة من النظافة واللبس الرائع الجميل.
في المقابل نجد كثيراً من الفتيات لا تريد أن تلتفت لهذا، بل تشترط على الزوج أن يأتي بالخادمة، وفرض على الخادمة أن تتولى حتى الطبخ والإعداد والطهي، وتهيئة الملابس، والاهتمام بالأطفال والبنات، وإنها لمسألة خطيرة تحز في النفس أن يتعود الأطفال امرأة أجنبية تحسر عن عوراتهم، وتقلب عوراتهم في تغسيلٍ أو ملابسٍ ما بين طفلٍ ذكرٍ أو طفلة أنثى.
إذاً: فهناك هجمة دعت إلى إلغاء التخصص وخلط الوظائف، وإهمال المسئولية، وتضييع البيت، والانشغال بغير الزوج، وإسناد مسئولية التربية إلى موظفٍ آخر هو المربي أو المربية، وعموماً فإن المحور الإعلامي يجمع لنا صوراً وألواناً ومشاهد من هذه التحديات نراها في أشكالٍ متعددة، من ذلك ما نراه من صور النساء العاريات الكاسيات على أغلفة ألوانٍ عديدة من المجلات، صور المتبرجات في ثنايا هذه المجلة وإبرازهن وإظهارهن بأنهن سيدات المجتمع االأُول، وأنهن الرائدات في مجال العلم أو التعليم أو التربية أو العمل الاجتماعي أو غير ذلك دعوة إلى الموسيقى والعزف المحرم، ودعوة إلى نبذ كثيرٍ من الأخلاق، بل وإشادة بامرأة وهي تمسك سيجارة في يدها؛ لأنها رجلة أعمال.
كل جار ولى منتبطاً غير جيران بني جبلة
مزقوا ثوب فتاتهم لم يراع حرمة الرجلة
سموها رجلة الأعمال، أو امرأة الأعمال أو سيدة الأعمال وهي تمسك بسيجارتها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تقليدٌ للغرب وانطلاقٌ من الأصالة، وكل هذا سيأتي في صور ومقاطع سأعرضها عليكم الآن.
رفض ونبذ لقوامة الرجل الحديد -مسئولية الرجل تجاه المرأة تسمى القوامة الحديدية- نبذٌ لما أمر به الله وشرعه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] يقول تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ذلك أمر ينبذ في هذا التحدي المعاصر.
دعوة إلى الحرية والتفلت من الأحكام والقيم الشرعية، وتشجيع التمرد من قبل البنات على الأهل والأولياء، دعوة إلى الاختلاط السافر.(221/5)
التحدي بالتعليم
ثم بعد ذلك لا حظ جانباً خطراً من الجوانب التي قل أن يفهم منها بيت، وذاك هو التحدي بالتعليم.
إن الإصرار على أن تتعلم المرأة كل ما يتعلمه الرجل، يعني: الإصرار على اعتبار طبيعة ودور وتكوين المرأة هي طبيعة ودور وتكوين الرجل ذلك، وإني لأعجب ولعل ذلك مما يلتفت إليه المسئولون -وفقهم الله ومنَّ الله علينا وعليهم بالهداية والعناية- إلى مناهج تعليم النساء، ألا يتعلم النساء نفس مناهج الرجال، ليس بالضرورة أن تدرس الفتاة الجيولوجيا كما يدرسه الفتى، أو تدرس الأحياء كما يدرسه الفتى، أو تدرس الفيزياء كما يدرسه الفتى، نعم.
إذا كان ثمة مجال يحتاج فيه إلى عمل المرأة وذاك العمل يتطلب مقرراتٍ ومناهج، وتخص بحالة أولئك النساء اللائي نحتاج إليهن، أما أن يتعلم كل البنات هذا، بل إنك تعجب يوم أن ترى الفتاة المراهقة تدرس في كتاب الأحياء -مثلاً- أجهزة الرجل التناسلية بعينها وربما تقف دراستها عند المرحلة الثانوية أو عند حد معين، ما الحاجة أن تدرس المرأة ما يدرسه الرجل، أو أن يدرس الفتى ما تدرسه الفتاة، بل لا بد أن نعلم أنها تختلف عن طبيعة الرجل، وتكوينها العضوي والنفسي يختلف عن التكوين العضوي والنفسي للرجل، إذاً: لا بد أن تكون مناهج تعليمها تختلف عن مناهج تعليم غيرها.
حاجة المرأة ماسة إلى علومٍ تحفظ حياءها، وتشعرها بعظم دورها وعظيم منزلتها، أما ما يحصل الآن فإنك ترى عبر هذه المجلات الوافدة التي تصور دور المرأة التخريبي هو الدور الذي من أجله خلقت، أما الدور الأول وهو دور الأمومة والزوجية والتربية والرعاية وسكن الزوج؛ هذا هو دور تقليدي قديم متخلف أكل عليه الدهر وشرب، يمكن أن تكون كل هذه الأدوار التقليدية في نظرهم أصيلة، وفي نظر الشرع يمكن أن تسند إلى مربيات وخادمات، أما الأدوار التي يمكن أن تسند إلى الرجال ولا حاجة إلى النساء فيها فتخرج المرأة وتؤز إليها أزاً وتدفع إليها دفعاً، وأنتم ترون هذا الواقع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إذاً: لا بد أن تتعلم المرأة، وأن يوجد لها المنهج الذي يهيئها لإدارة المنزل، ويجعلها تتفنن بالترغيب لزوجها في البيت، وأن تعرف علم نفس الزوج.
إن علماء النفس ومن ألفوا في هذا المضمار، تكلموا عن علم الأجنة وعلم نفس الأطفال، وعلم نفس الرجال والنساء، وعلم نفس المراهقين، لماذا لا تدرس المرأة نفسية الزوج وما يحتاجه بدلاً من أن تدرس ألواناً وأضرباً من أمورٍ لا تحتاج إليها، كيفية التعامل مع الأطفال، علم سلوك الأطفال، نفسية الأطفال هذه من أهم وأبرز الدراسة التي أرى وأقترح أن تكون فرض عين على كل فتاةٍ من المراحل المتوسطة إلى المراحل الثانوية، كيفية التربية، ودراسة مشكلات الأطفال، وأساليب التوجيه والتأثير على الطفل، ليست أساليب التسمين والتجميل، وأنت تلاحظ أن كثيراً من المجلات تعتني بالأكل والملابس والأطفال.
أما كيفية التأثير على الطفل تأثيراً إيجابياً نافعاً فما أندر أن تجده -حتى لا نكون متشائمين فلا نقول: إنه لا يوجد- وأكثر ما ترى تهدئة الطفل بالموسيقى، هدهدة الطفل بأمورٍ أو بأشياء لا تناسبه، ناهيك عن الاهتمام الأول والأخير بتجميل الأطفال وتسمينهم كأننا أفضل صورة نستطيع النظر بها أمام المجتمع المتحضر بأسرة رائعة مناسبة متمثلة في هذا الواقع.
أيضاً كما أن هناك تحدياً في المجال التعليمي فهناك تحدٍ في المجال الإعلامي، وأكرر أننا لا نهجم هجمة حتى لا تنقل نقلاً خاطئاً، نحن لا نهجم هجمة على تعليم البنات في مجتمعنا، فإننا لا نرى صورة رائعة تصلح نموذجاً يحتذى في كثيرٍ من البلدان ولكن نقول: نريد مواجهة التحدي الذي تواجه به الفتاة في مجالاتٍ شتى، أو دعوة إلى أن تتعلم الفتاة أموراً لا تناسبها ولا تحتاج إليها.(221/6)
التحدي في المجال الوظيفي
أيضاً من صور التحدي: التحدي في المجال الوظيفي -التعليم للعمل- الفتاة تتعلم لا للتربية، ولا لخدمة بيت زوجها، ولا لطاعة زوجها وإنما التعليم للوظيفة، ولو قيل للفتاة: إنك بعد هذا المشوار الدراسي لن تجدي رائحة الوظيفة ولن تشمي هذه الوظيفة، قالت: لا حاجة لنا إذاً إلى التعليم، من الذي غرس في ذهن الفتاة أن التعليم لا بد أن يكون للوظيفة، وهل من شرط علم المرأة أن تختمه بالوظيفة أو بالمرتبة الإدارية؟ ذاك جهلٌ عظيم، وتجييرٌ وتضييق لآفاق العلم الواسعة في مجال غيره، إن العلم آفاقٌ عديدة، وأعظم آفاقه أن تنفذ المرأة وتطبق ما شرع لها في حياتها التي خلقت لأجلها وما فيها، فتحجيم التعليم بالوظيفة فيه احتيالٌ أو فيه استهتارٌ وازدراء بعقل الفتاة وعقل المرأة.
إن التعليم -كما قلنا- لرفع الجهل، وتعلم العبادة، ونفع بنات جنسها لا أن يكون لذات الوظيفة، وإنك لتعجب يوم أن تسمع شكاوى كثير من البنات اللائي لا حاجة لهن بالوظيفة، يتأففن منذ خمس سنوات ويقلن: نحن متخرجات ما وجدنا وظيفة، منذ سنتين ما وجدنا وظيفة، تخصصنا اجتماعيات ولم نجد فيه وظيفة، ومن الذي قال: تعلمن من أجل الوظائف؟ تعلمن حتى تعلمن ما ينفعكن في دينكن، وحتى تعلمن ما ينفعكن في أمور حياتكن وأزواجكن، أما التعليم للوظيفة فهذا أمرٌ في منتهى الحماقة وفي منتهى الجهل.
نعم.
إذا احتاج المجتمع إلى المرأة في مجالٍ من المجالات كالطب والتمريض غير المختلط، فحيّ إذاً على هذه الوظيفة التي بها نستغني عن الكافرات، وبها نستغني عن الرجال في أمورٍ لا يصلح أن يطلع عليها إلا النساء، أوليس قلب الواحد منا يتمزق يوم أن تبلغ زوجته حال الولادة وتبدأ آلام الطَّلْقِ والمخاض، تلك الزوجة التي ربيت عفيفة شريفة دينة خيرة ما رأى أحدٌ منها ظفراً ولا يداً ولا أنملة ولا قدماً ولا ساقاً، ثم في حالة الولادة لا نجد خياراً إلا أن نترك المجال للدكتور أن يشرحها ذات اليمين وذات اليسار لينظر إلى أخس عورتها وسوءتها رجلٌ ليس زوجها!! وأخبث من ذلك أن يطلع عليها كافر.
إنه لا يفرح القلب أن تجد استشارياً في أمراض النساء والولادة ويباشر التوليد وهو كافر، أو هندوسي، أو طبيبة هندوسية وهذا من الواقع، ونسوق هذا دعوة لكم أنتم، ودعوة لكل من له قدرة على أن يعين ويشجع الاستغناء عن الكفار، وإحلال المسلمين محلهم، قياماً بالفرض والواجب وليس هذا من باب الأولى.
نجري وراء مسألة الوظيفة رغبة في الوظيفة أياً كان الثمن، وبعد الوظيفة إضاعة للمال في مجالاتٍ لا تنفع أبداً، يا ليت وظيفتها كانت -كما قلت- تمريضاً لبنات جنسها، أو تطبيباً لأخواتها المسلمات وإنما كانت وظيفةً ربما جرتها يوماً من الأيام إلى الاختلاط بالرجال:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
ثم إذا أمسكت الفتاة بوظيفة كأنها أمسكت بسر الحياة الذي لو فارقته فارقت روحها وحياتها، إن كثيراً من البيوت أغلقت، وكثير من الأسر كسرت وهدمت، وكثيرٌ من الأطفال ضاعوا بين الآباء والأمهات بعد انفصام عقد الزوجية وحدوث الطلاق والفراق لأجل الوظيفة.
شابٌ تزوج معلمة وعنده من الدخل ما يكفي، وليس بمحتاجٍ إلى وظيفة زوجته فقال: يا أمة الله! أنا أنفق عليك بما يكفيك بالمعروف وزيادة فلا حاجة للوظيفة، وتفرغي لطفلي وطفلتي، فماذا تقول؟ لا وألف لا، لا للبيت نعم للوظيفة، لا للبقاء في المنزل نعم للذهاب صباحاً مع السائق إلى الوظيفة، ثم يشتد العراك ويبعث حكمٌ من أهله وحكم من أهلها لعلهما أن يصلحا بينهما بعد إرادة التوفيق والإصلاح فيعجزان؛ لأنها ذهبت مشرقة وذهب مغرباً وشتان بين مشرقٍ ومغرب، فليس ثمة أنصاف حلول بين الرجل والمرأة في مثل هذه المشكلة، هي تريد الوظيفة وهو يريد أن تتفرغ للبيت، وإني لأعلم علم اليقين وتعلمون أن بيوتاً أغلقت وأسراً تفرقت، وأطفال ضيعوا بسبب هذا المعنى، إنه كان نتيجة لذلك التحدي السافر الذي كانت المرأة محوراً من محاوره.
ثم نقول لكل مسئول عن عمل المرأة وتعليمها: ما الذي يمنع أن يكون التعليم تخصصاتٍ بحدود معينة، فلو كانت ترغب أن تواصل دراستها في التمريض وفي الطب، وفي كل مجال يخدم حالة المرأة فلا حرج أن يستمر السلم التعليمي بها إلى درجاتٍ عالية وفوق العالية، لكن المرأة تريد أن تتعلم حظاً معيناً من العلم، فما الحاجة أن نجرها إلى عشرين سنة في دراسة، ما الحاجة أن تعرف تاريخ الرومان وتاريخ الإغريق القديم وتاريخ أوروبا المعاصر؟ ما الحاجة أن تعرف وأن تعرف وأن تعرف علماً لا ينفع، في الوقت الذي تجهل فيه كثيراً من أحكام حيضها ونفاسها، وصلاتها وصيامها، وحجابها وكلامها وخطابها، وأحكام اختلاطها بغيرها، علمت كل ما لا تحتاج إليه وجهلت كثيراً مما تحتاج إليه، وما ذاك إلا نتيجة ذلك التحدي الخطر.
ما الذي يمنع أن تكون الخدمة المدنية للمرأة -بدلاً من السنوات المعدودة- أن تكون نصف الخدمة، يعني: أهناك فرض يمنع أن تكون الخدمة المدنية عشر سنوات للمرأة؟ اثنا عشر سنة للمرأة؟ لا.
ليس هناك ما يمنع ذلك، أما أن تكون الخدمة المدنية للمرأة مقاربة للخدمة المدنية للرجل كأننا ننظر إليها بنفس النظرة إلى الرجل، ثم ما الذي يلزمنا أن نجعلها في مسئوليات التعليم خاصة بنفس مسئوليات الرجل، أربعة وعشرون درساً أو أربعة وعشرون حصة أو عشرون أو أقل من ذلك، ما الذي يمنع أن تعمل السبت والأحد وبعضهن الأحد والإثنين، وبعضهن الثلاثاء والأربعاء، يعني: أن تعمل الفتاة في التعليم -مثلاً- يومين في الأسبوع بنصف المرتب، ولا غضاضة في ذلك ولا حرج، ففي هذا تفريغ للمرأة ذاتها حينما تعمل لأحوال أولادها فلا تنشغل عن زوجها وأولادها، وفي نفس الوقت فتح مجالٍ للمحتاجات والراغبات في هذا العمل، وتكون مشاركة المرأة مشاركة حينما نحتاج إليها لا تشغلها عن مهماتها الأصلية.
لقد صاح كثيرٌ من دعاة التحرير أو من يسمون بالتقدميين: إن المرأة ذلك الجزء المعطل من المجتمع، تلك الرئة المعطلة، ذلك العنصر الجامد الذي لا يشارك الرجل في مسئولياته ذلك ذلك إلى آخر ما قيل عنها من أجل إقناعها بأنها مظلومة، وإقناعها بأنها مهدرة القيمة، مهدرة القوى والثروة، فحينئذ تخلق لها قضية وليس ثمة قضية، قضية بلا مضمون، امرأة تريد أن تعمل وتريد أن تتحرر وتريد أن تتفلت -أن تقف أمام الرجل الذي وقف لها عند عتبة بيتها يمنعها من تحقيق ذاتها وممارسة شخصيتها- إلى آخر ما يقولون ويسمون.
وأخطر من هذا كله يوم أن يتحدث أولئك الذين يتحدون المرأة بهذا المضمار حينما يتحدثون عن وظيفتها يقولون: ليس الكلام فقط عن الوظائف التقليدية، وإنما البحث عن آفاق أرحب ومجالات أوسع، وميادين أكثر تجديداً للمرأة، إن عمل المرأة فيما يخدم بنات جنسها بات عملاً تقليدياً، وصدق القائل: إنهم لا يريدون حرية المرأة بل الحاجة عندهم ماسة إلى حرية الوصول إلى المرأة، مهما فتح للمرأة من مجالاتٍ جديدة لاستيعاب تخصصاتها أو أعمالها عند الحاجة إليها فستكون تقليدية وتبقى تقليدية إلى أن تقوم الساعة، حتى يكون المجال في العمل يسمح بالاتصال بين الرجل والمرأة، ويبيح الاختلاط بين الرجل والمرأة، فحينئذٍ ينكسر الطوق التقليدي، وتظهر الحالة الحضارية للعمل.
إذاً: كل عملٍ مهما راعينا فيه احتياجات الأمة والمجتمع فسيظل تقليدياً إلا يوم أن يكون العمل فيه اختلاط سافر واضح صريح، يسمح للرجل أن يكلم المرأة وأن يخالطها، وأن يخلو بها وأن يسرح بها، وأن يذهب بها في أي وقتٍ شاء.
أيها الأحبة: إن عمل المرأة ذلك المجال الذي هو واحدٌ من مجالات التحدي ربما قنع البعض أن في مجتمعنا خاصة من يعدون بنسبة كبيرة أو يمثلون شريحة عريضة يرغبون في هذا، وليس هذا بصحيح، لكن شرذمة قليلة وأقلية مستبدة تتفرد في الزوايا الصحفية وبعض المنابر في المجلات والجرائد لتنشر ما تريد ولا تسمح للآخرين بالمشاركة والمناقشة أو الاعتراض أو التحليل، يظهرون أن كل المجتمع ساخطٌ على هذا الوضع، وأن كل الأسر لا يريدون هذا الوضع الحالي.
وكما يقال: الماء يكذب الغطاس، والتجربة أكبر برهان، أجريت دراسة على أربعمائة أسرة سعودية فكانت نتائج الدراسة الإحصائية بعد جمع البيانات وتحليلها أن (72%) لا يؤيدون عمل المرأة خارج المنزل، (95%) لا يؤيدون عمل المرأة إذا كان دخل الزوج كافياً، إذاً من الذي يطالب بعمل المرأة؟ هم الرجال، أما النساء فلم يرفعن راية يصحن فيها للعمل، والنساء اللائي طالبن بهذا العمل هن أقلية أقل من قليلة، وأندر من نادرة، وأخف من شرذمة، هي التي تدعو إلى عمل المرأة في كل مجالٍ وكل قطاعٍ وفي كل مناسبة، وتقول التجارب: إن الأطفال الذين يعيشون في الأسر يتمتعون بتأثرٍ واستجابةٍ عميقة في هذه الأسر أكثر من غيرهم الذين يعيشون تحت تربية الخادمات والمربيات.
وتقول التجارب أيضاً: إن الطفل لا يخضع لسلطان جماعته كخضوعه لسلطان أسرته.
وتقول التجارب أيضاً: كل طفلٍ يعيش في أسرة منظمة مرتبة فإن هذا الطفل من السهل تشكيله ومن السهل تربيته وإقناعه.
وإنكم لتجدون مصداق هذا أيها الأحبة، إن بعض المجتمعات أو بعض الدول لها منهجها التعليمي، ومن فئات هذا المجتمع فئات تخالف المنهج العام في معتقدها وفي تعليمها وأفكارها وفي توجهها وآمالها، ومع ذلك تجد أن الطفل من تلك الأسرة المخالفة للمجتمع كله يدرس في المدارس والمؤسسات التعليمية في المجتمع فلا يتغير عنده ذرة من أفكاره وثوابته، لماذا؟ لأنه يعيش في أسرة كل صباح تعطيه درساً في معتقده، وكل مساء تغسل دماغه عما تعلم، إذاً: فالأسرة أخطر مؤسسة سواء كانت تعليمية أو اجتماعية أو تربوية أو غيرها، فلا تصدق ما يقول أولئك: إنه بالإمكان تشغيل الخادمة أو الاستفادة منها، وإسناد المهمات التقليدية كالتعليم أو التربية إليها.(221/7)
مجلة (سيدتي) مقالات وآراء مخالفة للشرع
ولننتقل -أيها الأحبة- إلى مقاطع وصور من هذا الفساد والتحدي والتخريب عبر مجلةٍ من المجلات التي أخذت على عاتقها لواء إفساد المجتمع السعودي والأسرة السعودية، تلكم مجلة " سيدتي " إني لا أقول هذا إلا بعد رصدٍ لأكثر من أعداد تزيد على المائة جمعها عدد من الشباب جزاهم الله خيراً، في العدد الفلاني كذا في العدد الفلاني كذا في العدد الفلاني كذا وخذوا واسمعوا شيئاً من هذه العجائب: هذه المجلة تتكلم باسم المرأة السعودية، وهذه المجلة تدعو إلى أن تكون المرأة السعودية المنتظرة القادمة الواهبة الصاعدة هي التي سوف تتسلم قيادة المرأة أو سيدة العالم كما يقال.
في العدد (86) إباحة الحب بين الشباب والشابات في الجامعة، وأنه لا مانع من الزواج بينهما سراً إذا ما اتفقا على ذلك، ولو رفض والد الزواج، بل في العدد نفسه يسوق تحدي البنت لأبيها إذا رفض الأب -وليها- زواجها ممن تحب، يقول المحرر وساق تجربة فتاة في الواقع، يقول: نشوب حب بين شاب وشابةٍ في الجامعة تعاهدا على الزواج، وعندما رفض والد الفتاة هذا الزواج عقدا زواجهما سراً، ولدى إعلان الزواج رفض والد الفتاة تسليم الفتاة لزوجها فتدخلت الشرطة وسلمت الفتاة لزوجها.
ثانياً: زميلان في العمل غاب الاثنان واتفقا على الزواج، وأمام رفض الأب هذا الزواج بالفارق الاجتماعي بين الأسر هددت المرأة والدها برفض الزواج من غير ذلك، ولكنها عقدت زواجها سراً وخرجت مع زوجها.
في عددٍ -أيضاً- شبهت المرأة الكويتية التي تقر في بيتها وتتجنب الاختلاط وليس الكلام عن كل امرأة كويتية ففي كل بلادٍ برٍ وفاجر، في الكويت طاهراتٍ وصالحاتٍ وتقيات نقيات كما في كل مجتمعٍ نحسبهن ولا نزكي على الله أحداً، ولكن في بعض المجتمعات يكثر هذا النوع من الفساد، تشبه الفتاة التي تمنع الاختلاط أو تمانع منه بالسجاجيد العجمية، وتدعو الكاتبة إلى تمرد النساء على الرجال حيث قالت: هذا النوع من النساء لا يستطيع أن يقول: لا.
لا يستطيع أن يتعدى عقلية من هو أكبر منه، وتقول: المرأة لا مكان لها إلا خلف الرومانسية السياسية أو العاطفية، ويجب أن ترمس الرومانسية.
في العدد (171) الدعوة إلى إباحة خروج الخاطب مع مخطوبته من المنزل أو أحد الأماكن العامة، تقول: بعد الخطبة بإمكان العريس أن يصطحب خطيبته إلى منزله وإلى الأماكن العامة.
في نفس العدد إشاعة السفاح بين الفتيات القاصرات ولزومهن إلى التخلص السريع من الحمل تفادياً للفضيحة.
المحرر يبحث في حوار صحفي مع امرأة ويقول: ماذا يكون موقفك فيما لو رغبت إحدى الفتيات المتزوجات التخلص من الجنين أو عرض هذا لقاء مبلغ من المال؟
الجواب
هذا النوع من الفتيات يكون قاصراً في أغلب الأحيان، وحملهن غالباً لا يعرف به الأهل، لذلك يلجأن إلى التخلص السريع منه تفادياً للفضيحة، ولا أعتقد أن إحداهن ترغب الاحتفاظ بجنينها مهما كانت المغريات.
في العدد (433) فكرة إلى عمل الدعوة واختلاطها في الأعمال العامة، تقول هذه المرأة: وأنا أشاركك الرأي؛ لأن تواجد المرأة في الحياة العملية الوظيفية ما زال أقل بمستوى تواجدها الأكاديمي، ولعل مرد ذلك إلى كون دور المرأة المهم والأساسي في المجتمع ما زال يدور حول إنجاب الأطفال وتربيتهم، وقيام المرأة بهذا الدور يكون على طبيعة الحال على حساب مشاركتها في الحياة العملية خارج البيت.
في العدد نفسه إصرار الفتاة العربية على العمل كممرضة والدعوة إلى التمريض بدون ضوابط، ثم تهجم هذه المرأة وتقول: ولماذا الاستسلام لأفكار لا تساعدنا على النمو.
في العدد (103) الدعوة إلى ترسيخ مبدأ عمل المرأة عند الطفل، وتغيير صورة المرأة في ذهن الطفل: أي: ينبغي أن يقال للطفل قولاً يغير صورة ارتباطه بالمرأة سواءً كانت أماً أو وليةً إذا لم تكن الأم موجودة، ينبغي أن يقال للطفل: لا تنتظر من أمك أن تصبحك أو تذكر الله في وجهك، أو تعلمك شيئاً من الأدب أو أو إلى آخره، ينبغي أن يغير موقف ونظر الطفل إلى المرأة.
في العدد (172) تحت عنوان الإذاعة والمرأة: دعوة إلى عمل المرأة في الإذاعة وفيها: المرأة أقدر على الرجل من العمل الوظيفي.
تقول الإذاعة: عمل المرأة والراديو بستانه، ويدخل كل بيت ولا بد أن يكون فيه شيءٌ من الرقة والتسلية تذاب فيه الثقافة، والمرأة أقرب إلى العمل كمذيعة للأسباب التي ذكرناها.
في العدد (172) استهتار بشهر الصيام واستخفاف به، ودعوة للتمثيل، واستحلال سماع الأغاني الرخيصة، فتقول إحداهن: رمضان بالنسبة لي فزورة، وفي رمضان كنت أحرص على تقديم المسلسلات، وأمضيت شهراً أقنع عبد الوهاب بالتمثيل حتى وافق على الاشتراك في مسلسل (شيء من العذاب).
في العدد (105) دعوة إلى العمل العام المختلط والتمرد على الزوج وعصيانه، تقول الدكتورة: نوال السعداوي -وهذه إن كان في العلمانيين من تشد إليه آباط الإبل فتشد إليها- قالت: أنا تزوجت مرتين، وزواجي الأول فشل؛ لأنه كان المطلوب مني أن تقتصر حياتي على المنزل والمطبخ فقط، وأنا عندي أشياء أخرى، قالت: أما زواجي الثاني فتميز بعلاقة ودية وربينا أولادنا على حرية التفكير، ولي ابنة وولدٌ وسيصبح مخرجاً سينمائياً.
لا تلد الحية إلا حية.
في العدد (443) دعوة وتشجيع الحب المتبادل بين المريض والطبيب الذي يعالج -وتراه المرأة- ويعتبر هذا أمراً عادياً تقول الكاتبة: لم يكن لأحدٍ الحق بأن يلومني، فلم يكن الأمر بيدي إذ كنت قد أحببت طبيبي الذي عالجني، فلست أول واحدة تحب طبيبها، وليس هو أول طبيبٍ يحب مريضته.
في العدد (89) الحث على تربية جيل فاقد للعاطفة، تقول: بقيت ابنتي معي حتى اليوم، وهذا نوع من القوة أمارسه كأم، أنا لم أضع أولادي في حضني ولكني وفرت لهم جواً ثقافياً، كان من الممكن أن أجوع سنة حتى أوفر لهم ثمن تذكرة سفر، نحن أسرة مختلفة تماماً، أنا وزوجي إنسانان على قدر واحد من المساواة، وبيننا نوع من المشاركة الفكرية النادرة بصرف النظر عن كونه رجلاً وكوني امرأة، وآخر ما نتذكره أننا زوجٌ وزوجة، وهذه العلاقة تنطبق -أيضاً- على ولدي فهم يعيشان في منتهى الحرية والاستقلال، تقول: ابنتي عاشت في لندن لوحدها وهي تدرس الاقتصاد وتكتب القصة والشعر، وابني سافر وهو في الحادية عشرة من عمره إلى الخارج واستطاع أن يعتمد على نفسه وحده.
دعوة إلى تمرد أو تحرر الزوجة من حقوق الزوج والواجبات تقول: امتلاك زوجتك امتلاك جسدها يعني: أن تقتلها وامتلاك عقلها يعني: أن المرأة تحدو حدوك وهذا مرفوض.
تشجيع الزواج من الأجنبيات المشركات، يقول: ابتعثت إلى بريطانيا لدراسة الطب ودرست هناك ثمان سنوات، ولم تستطع والدتي العثور على زوجة، ومنذ ستة أشهر وجدت ضالتي، فتاة من الجنوب الأسباني فيها كل ما أحلم به في الفتاة.
تربية الناشئة على الإلحاد، يقول المحرر في باب ما نقول لأطفالنا إذا سألوا عن الله، يقول: الأفضل أن نوضح للطفل كيف أن الحياة تمضي تتطلب ميلاد أطفال وهم زهور جديدة، وتتطلب الحياة حيوانات ووجود أشجار، وكذلك فإن الموت هو نهاية كل إنسان وكل نبات وكل حيوان، وإن الموت هو ذهاب الإنسان إلى عالم آخر لا نعرفه نحن أبداً.
هذا خطر داهم حتى في أمور العقيدة والأمور الغيبية، تشويه العقيدة لدى الأطفال يقول المحرر: وهنا نستطيع أن نصل إلى فكرة جديدة هي أن الطفل أو أي إنسان إذا رغب في التعرف على الله أكثر من الاقتراب منه أو الإحساس به، فما عليه إلا أن يتتبع كل ما هو خير؛ لأن الله هو في كل الخير.
تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً؛ وما هكذا يعبر عن الذات الإلهية أو يتكلم عن الله.
في أحد الأعداد تحريض على عمل المرأة في جهاز الشرطة، إذ صورت المجلة صورة النقيب عواطف الفلانية رئيسة الشرطة النسائية في البحرين، وهي تلبس لباس ضابط.
تقول: الشرطة النسائية خير من يتعامل مع قضايا الأحداث والمرأة، والبحرين أول دولة عربية ترحب بالمرأة في مجال الشرطة، ولقد حذت حذوها مصر وإيران -الحمد لله!! دعوة إلى الصداقة غير المشروعة بين الرجال والنساء: صورة لشابة وكتب تحت الصورة: متى أدخل المعهد برفقة محمد؟ دعوة إلى استغناء المرأة عن الرجل ولو كان زوجاً: تقول المرأة: نتربى في وهمٍ غريب -أو تتربى وهي في وهمٍ غريب- تحتاج للرجل لكي يحميها، هي إنسانة يجب أن تنمي قوتها الذاتية لحماية نفسها، يجب أن تعتمد المرأة على نفسها لا تعتمد على الرجل، ولكن عهود التخلف والفترات المظلمة، وانحسار مدة الحضارة العربية والإسلامية أنجبت تراجعاً كبيراً في القيم الإنسانية وفي علاقة المرأة بالرجل.
في العدد (173) تحت عنوان: المراهقات الخليجيات، دعوة إلى إباحة الرسم، والشعر، والموسيقى، والتمثيل كعلاج لمشاكل المراهقة والتكيف مع المجتمع، تقول الدكتورة سمية فهمي أستاذة علم النفس: والتكيف مع المجتمع هو خير طريقة لوقاية المراهقات، وذلك بتهيئة الفرص لهن للتعبير عن وجدانهن وانفعالاتهن بالرسم والشعر والموسيقى والتمثيل.
في العدد (173) دعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة وبدون فروق: تقول سحر: إن الشاب مثل الفتاة لا فرق بينهما، وأعتقد أنهما متساويان في كل شيء، النظرة القديمة للفتاة زالت مع التطور العقلي.
وأخرى تقول: لقد تعلمت في صفوف المدرسة أن الولد أخٌ وزميلٌ يخضع لنفس برامج الدراسة، ومن هنا لا أتصور الولد فارساً مقداماً.
في نفس العدد التلاعب بالنصوص وتحريف الآيات القرآنية، إذ تقول المحررة فوزية سلامة: هذه الآية الكريمة هي أقوى دليل على أن الله سبحانه احترم رأي المرأة وجعل لها حرية المجادلة والمحاورة فيما ترى أنه حق، والدليل قول الله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]-نسأل الله العافية-.
تشويه الحرية الحقيقة ووصف الحرية الحقيقة بأن تتصرف الفتاة كما ترى مع إشاعة صحة اختلاط الشبان بالشابات دون قيود من دين(221/8)
رسالة خاصة إلى الفتاة المسلمة
ختاماً: إنني أقول: إن عدد المنحرفات في المجتمع قلائل، وندرة يسيرة جداً، والفتاة مهما وقع منها من الأخطاء أو الزلات أو حصل منها من الهفوات فلن تبلغ بعد الحد الذي تستنتج أن تكون فيه قائمة بعبوديتها لله أو بحقوقٍ شرعها الله جل وعلا، وجعلها واجباً عليها تجاه أبنائها وزوجها، هذه المجلات التي صبت جام غضبها على المرأة هل أنتجت مواطناً مخلصاً؟ أو رجلاً أميناً؟ أو عالماً عاملاً؟ أو جندياً أو طياراً؟ إنها أنتجت العاطلين والعاطلات والمسعورين والمسعورات والذئاب المتربصين الذين يريدون أن يتلقفوا كل من اغترت بهذه الحبائل، فرسالة إلى كل مسلم أياً كان دوره أو مسئوليته أن يتقي الله جل وعلا فيما تحت يده، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من سن سنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
تذكري قول الله جل وعلا: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] وتذكري قول الله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] وتذكري قول الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] فأين الكتابة؟ وأين المشاركة؟ وأين الرد؟ وأين الاعتراض؟ وأين تكذيب هذا الباطل؟ إن عدداً من الأخوات قد كتبن في بعض المجلات والجرائد فكان لكتاباتهن أثر بل بات كثير من الكتاب الذين يغزون هذا المجتمع من خلال المنابر والجرائد والمجلات بات لديهم قناعة أن بضاعتهم كاسدة في مجتمعنا هذا.
فالله الله نحن نريد أن نثني هذا الحديث بخطواتٍ عملية، لا نريد أن نقول: أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل، ليس مجرد استعراض تجاوزات بعض المجلات على الفتاة السعودية، وإنما هدفنا أن نقول: ينبغي أن نقاطع هذه المجلات وأن نناصح المكتبات والتموينات التي تبيع هذه المجلات، وهذه خطبة للشيخ ابن عثيمين أخطار المجلات وفتن المجلات قال: يحرم شراؤها ويحرم بيعها، ويحرم إهداؤها، ويحرم قبولها، نريد مقاطعة جادة فإن المقاطعة من أقوى الأسلحة الفتاكة.
كذلك التحذير في كل مناسبة، دور الفتاة أن تلقي الكلمة والكلمات في الزواج وفي أي مناسبةٍ تجمعها بأخواتها، ودور المدرسات أن يجمعن الفتيات ويحذرن من هذه المجلات، فإن التحذير ينفع، ونشر الوعي بالكتاب والشريط والتواصي بالوقوف تجاه هذه الحملة المسعورة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(221/9)
الأسئلة(221/10)
طرق نصيحة المرأة
السؤال
السؤال الذي لم أجد له جواباً هو: كيف الوصول إلى المرأة ونحن ندرك أن التحديات تحاصرها من كل جانب، وإقامة درسٍ أو محاضرة في المسجد في نظري لا يؤدي أكثر من فعالية خمسين في المائة، المرأة في المدرسة وفي الكلية وفي العمل وفي السوق كيف الوصول إليها، والمرأة هي هدف الأعداء علمانيين أو غيرهم مستخدمين كل الوسائل الإعلامية بجميع أساليبها، فالبنت في أمس الحاجة إلى مثل هذه الدروس وهذه الأجراس التي تحذرها، كيف يمكن ذلك وما هي أحسن الطرق أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا نتوسع في نهاية المحاضرة -أخي الحبيب- هو من سبل الوصول إلى المرأة وتحريرها قبل أن تكون كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
إننا نستطيع أن ننشر الكتيب النافع في موضوعه، ولقد اطلعت على كتابٍ من أروع وأجمل الكتب، هو كتاب تحملات حول عمل المرأة أو حول هذا العنوان لفضيلة الشيخ عبد الله آل الشيخ، هذا الكتاب رائع جداً جداً، فبوسع كل أحد أن يشتري منه مئات النسخ ويوزع على جميع قريباته، يؤسفنا أن نجعل الاحتفالات موسم تبادل للنصائح، بيوت الأفراح والزواجات ما الذي يمنع أن يوجد فينا نحن الغيورين من يغتنم اجتماع الناس في مثل هذه المناسبات في توزيع الشريط والكتاب، ثم إن المكتبة الإسلامية غنية بالشريط المسموع والكتاب النافع، إذاً لك أن توزع هذا الكتاب بمئات النسخ.
كذلك المعلمة تحرص مع الطيبات من المعلمات على التحذير، وهنا بالمناسبة محور مهم: إن العناية بالفتيات في المرحلة الابتدائية والمتوسطة، يجعلنا نوفر كثيراً من الجهود والنفقات في مواجهة الخطر الذي يحدق بالفتاة في المرحلة الثانوية والجامعة، يعني: وقاية بدرهم خيرٌ من علاج بقنطار، فذاك أمرٌ ميسور، وكل من استطاع أن يصل إلى منبر إعلامي مجلة أو شاشة أو إذاعة وأظن أننا نستطيع أن نحقق خيراً كثيراً.
وأذكرك -يا أخي الكريم- أن المدارس الثانوية والمتوسطة بل وحتى الجامعات، فيها صحوة وخيرٌ واهتمام بالالتزام والوعي والتدين والاستقامة بفضل الله ثم بفضل هذه الجهود، وإن كانت محدودة أو يسيرة أو قليلة، المهم أنا وجدنا في ذلك خيراً كثيراً.(221/11)
النكاح آدابه وأحكامه
إن الله عز وجل قد شرع لنا النكاح رحمة بنا وصيانة لأعراضنا، وحماية من الوقوع في الفاحشة والرذيلة، وحفظاً للأنساب والذرية، وقد جعل له آداباً وشروطاً وأركاناً وآثاراً يجب العلم بها لمن أراد النكاح، وفي هذه المادة تنتفع بمعرفة شيء من ذلك.(222/1)
مأساة كوسوفا المسلمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خير إلا دل أمته عليه، وما علم من سبيل شر إلا وحذر أمته منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله عز وجل بمنه وكرمه، وأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، أن يجعلنا وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأن يكتب لنا ولكم شهادة الملائكة المقربين، أننا اجتمعنا في بيت من بيوته لا نريد إلا وجهه، نثني عليه الخير كله، نعبده وحده لا شريك له ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره، ونرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق.
أيها الأحبة! لئن تعددت وتنوعت وسائل إبلاغ المعلومات والفوائد، ولئن تيسر لكثير منا أن يستدرك ما فات من الخطب والمحاضرات والندوات من خلال الإذاعات والأشرطة والتسجيلات، فإن فضلاً لا يوجد إلا في هذه المساجد، وإن ثواباً لا يتحقق إلا بالاجتماع في هذه الرياض، وإن درجات ونعيماً لا يدركه إلا أنتم وأمثالكم ممن يسعون ليرتعوا في رياض الجنة، ولتحلق أرواحهم في طلب الرحمة، وتسبيح الخالق سبحانه وتعالى في هذه المساجد، لأن فضل حلق الذكر مرتبطٌ بالاجتماع في بيوت الله عز وجل، ولئن تيسر -كما قلت- أن يستدرك العبد ما فات من معلومات إلا أن فضل حلق الذكر يبقى، تختص وتتميز به بيوت الله عز وجل، لذا فإني أوصي نفسي وأحبابي والسامعين أجمعين مهما تباينت مراتبهم في العلم، واختلفت درجاتهم في المعرفة، ألا يحرموا أنفسهم ثواب حلق الذكر، ورياض الجنة؛ حيث تشهد لهم الملائكة، وتتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله في ملئه الأعلى.
أحبتنا في الله! ولئن كان الحديث في سلسة المحاضرات التي نوه عنها فضيلة المقدم جزاه الله خيراً موصولاً بالكلام عن الأسرة المسلمة، إلا أن حديثنا اليوم وإن كان متعلقاً على وجه الخصوص بالحديث عن (النكاح وآدابه وأحكامه) أو بشيء وطرف من ذلك، إذ المقام لا يستوعب أحكام ذلك كله، ولكن هذا أحسبه وأرجو ألا يشغلنا وإياكم عما لا تزال الفاجعة في قلوبنا بسببه، وهي كارثة لم يسبق لها مثيل حلت بالمسلمين الألبان في كوسوفا نستذكرها، ونحمد الله على ما من به علينا من النعم، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يرفع الكربة عن إخواننا، هذه الفاجعة التي ليس لها من دون الله كاشفة، قرابة المليون مسلم من أصل ألباني يهجرون على يد الصرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجمِ
أعراض تنتهك، وأشلاء تتناثر، ودماء بغير حق تسفك، وشعوب تشرد، ونساء ترمل، وأطفال يصبحون يتامى، ونساءٌ يشكين الثكل وفقد الزوج والمعين، والحال لا يصفها لسان، ولا يخطها قلم، فنسأل الله بمنه وكرمه أن يرفع الكربة عن المسلمين هناك، وعن المسلمين أجمعين.
أيها الأحبة! يقول تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] كم مرة تحدثنا وصرخنا ورفعنا أصواتنا، وقلنا: قد فعل الأعداء بنا ما فعلوا، وكم مرة أخذنا نندب الماضي، ونخشى المستقبل، ونخاف من الواقع، ونحن كما قال الأول:
حرب حزيران انتهت وكل حرب بعدها ونحن طيبون
تغلغل اليهود في بلادنا ونحن راجعون
صاروا على مترين من أبوابنا ونحن عائدون
وصوت فيروز من الفردوس يأتي عائدون
وكل ما نملكه إنا إلى الله لراجعون
حرب حزيران انتهت جرائد الصباح ما تغيرت
والصور العارية النكراء ما تغيرت
هذا يقوله القائل وليس من أهل القول؛ ولكنه يبكي على ما حصل في (1967م)، نكبة (67) التي دمر اليهود فيها قوات عربية لا يخفى تاريخها عليه، وكما قال الذي يحاكي أبا تمام:
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
أيها الأحبة! ليست القضية هي ما ينظر إليه بعض المسلمين من جانب الحرب بين الصرب الأرثوذكس، والدوما والكتلة الروسية من جهة، وحلف الناتو من جهة أخرى، الذي يقض مضاجعنا، والذي يؤلمنا غاية الألم، هو حال المسلمين، أما ما سواهم فنسأل الله أن يهلك الظالمين بالظالمين، وأن يخرج أمة محمد من بينهم سالمين، نحن يسرنا ما نراه من ضربات موجعة في الصرب، ولكننا نعلم أن حفنة من الملايين أو قل: مليارات من الدولارات كفيلة بأن تعيد المنشئات الصربية والقواعد العسكرية، وليس هذا من باب التعاطف مع الصرب، بل نسأل الله أن يضاعف عليهم البلاء، وأن يزيد التسلط عليهم، ولكن من الذي يرد المسلمين الذين شردوا؟ إذا هاجر قرابة مليون مسلم، وتقاسمتهم قرابة عشرين دولة أوروبية، ولكل دولة منهم جزءٌ مقسوم، وكل دولة تفرق هؤلاء في مدن شتى، وكل مدينة تشتت المسلمين في أحياء متباينة، ثم اسأل وتعرف بعد خمس سنوات، أو بعد عشر سنوات، هل ترى من المسلمين أحداً؟ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً بعد هذا الانتشار وهذا التناثر، وبعد هذا التطاير؟ هذه هي القضية الكبرى؛ لأن الكفار ليس لهم وزن في ميزان الشرع، ودماؤهم كما علمنا في ديننا ليست بأمر ذي بال، أما دماء المسلمين فلأن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من أن يراق دم مسلم.
المسألة في غاية الخطر، وإن الذي يتابع ما يعرض وينشر من لقاءات وحوارات ومناظرات وتحليلات وكتابات ليعجب من تباين بعض المسلمين في نظراتهم، فهذا لا يزال يؤيد الصرب، وهذا لا يزال يرى أن المسلمين الآن في منتهى النصر والنشوة، أي نشوة وأي نصر لأناس يتفرقون ويشتتون؟! وكما قال الرندي حينما بكى الأندلس:
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواحٌ وأبدانُ
وطفلة ما رأتها الشمس إذ بزغت كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودها العلج للمكروه مكرهةً والعين باكية والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمانُ(222/2)
واجبنا نحو المسلمين في كوسوفا
أيها الأحبة! لا نملك إلا أمرين:(222/3)
واجب الدعاء لهم
الأول: الدعاء: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] وسلاح الدعاء معطل، وحسبك أن المسلمين إلا من رحم الله لا تجد أنه يجري على ألسنتهم ذكر للمسلمين المشردين في كوسوفا، لا دعاء في السجود، ولا في الوتر، ولا في القنوت، ولا في الصلاة، وربما سأل ربه مئات المرات سيارة فارهة أو زوجة حسناء، أما شعب يشرد فلم يتذكر أن يدعو لهم، وتلك من الغفلة وضعف الولاء الذي ذكر الله شأنه بين الكفار فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال:73] إن لم تفعلوا ولاء كولاء الكفار بعضهم بعض: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] والولاء بين الكفار واضح، عملة (اليورو) صورة من صور الولاء الاقتصادي للكفار مع بعضهم، السوق الأوروبية المشتركة صورة من صور الولاء بين الكفار، حلف الناتو صورة من صور الولاء، وأشياء كثيرة جداً، أشياء كثيرة تدل على عمق الولاء بين الكفار، فهل بلغ المسلمون ولاء كهذا الذي بلغه الكفار، سواء على المستوى المدني أو المستوى الاقتصادي أو المستوى العسكري، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين.(222/4)
واجب البذل والعطاء والإنفاق
الأمر الثاني: مسألة البذل والإنفاق والعطاء، لا تملوا، أو يقول قائل: لقد سئمنا من هذه الصيحات والنداءات: أغيثونا! أعطونا! ساعدونا! إلى غير ذلك، نقول: إن هذا ابتلاء من الله لأولئك الذين يصابون، وهو في ذات الوقت ابتلاء لنا، ما الذي نفعله إزاء هذه المصيبة؟ وهل نبخل حتى بحفنة من حطام المال ولا نبذلها سخية بها نفوسنا؟ لئن ابتلي أولئك بجريان الدماء، وتطاير الأشلاء، وانتهاك الأعراض فإننا نبتلى بتكرار ما يقع على المسلمين من المصائب، وبعض المسلمين مسحة طبية صالحة للاستعمال لمرة واحدة فقط، لا يمكن إلا أن يبذل مرة واحدة، ولا يمكن أن يكفل إلا مرة واحدة، ولا يمكن أن يتعاطف إلا مرة واحدة، أما أن يظل الحماس والولاء والشعور والبذل والعطاء بسخاء للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي شتى قضاياهم فذلك أمر عسير، بل إن بعضهم الآن إذا قيل له: أنفق وابذل وأعط لإخوانك المشردين الآن على حدود كوسوفا، في ألبانيا، ومقدونيا، وفي جهات شتى قال: لقد أعطينا ما يكفي في البوسنة، أو لقد أعطينا ما يكفي في أفغانستان، أو لقد تصدقنا بما يكفي في الصومال، وكأنه لا يجب عليه أن يغيث المسلمين في العمر إلا مرة، وكأن الولاء والنخوة والإعانة كالحج لا تجب في العمر إلا مرة، فهو يرى أنه إذا كفل في حياته مرة واحدة يتيماً واحداً اكتفى بذلك، أو إذا بذل أو أعطى مرة واحدة فإن ذلك كاف.
أيها الأحبة! إن من الواجب أن نشارك كل المسلمين في فلسطين وكوسوفا والشيشان وفي كل البقاع بكل ما نستطيعه، ولا أقل من أن يخصص القادرون من دخلهم ولو حفنة يسيرة من المال، دخلك ألف ريال لو خصصت من هذا الدخل ولو عشرة في المائة يعني مائة ريال أو أقل أو أكثر بقدر ما تستطيع فإنك ستجد فضل ذلك في الدنيا والآخرة، والصدقة تقي مصارع السوء، وتطفئ غضب الرب، وتدفع أبواباً من البلاء لا تحصى.
أيها الأحبة! إننا نمشي في حياتنا على ألوانٍ من النكد والكبد: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وربما صار البعض على ألغام وشيكة الانفجار قد يطؤها فلا تنفجر بسبب صدقة تصدقها وهو لا يدري، فأخي الحبيب! لا تتبرم، ولا تتسخط ولا تتضجر يوم أن تدعى إلى النداء: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(222/5)
دلالات انقضاء الأعوام والأعمار
المسألة الثانية: العام الهجري الجديد وما أدراك ما العمر الذي انقضى والعمر الذي بقي:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجلِ
ربما فرح البعض بدنو زواجه في العطلة، وربما فرح البعض بقرب ترقيته في السنة الهجرية الجديدة، وربما فرح البعض برتبة يعلقها بعد دورة عسكرية، ولكن نسينا جميعاً إلا من رحم الله أننا دنونا من المقابر أشهراً وأياماً، أو طوينا صفحة سنة كاملة شاهدة بما عملنا فيها من الحسنات والسيئات، ولكننا في هذا الدين العظيم قد أكرمنا الله بالخلاص من عقد النصارى الذين يظلون يبكون عقد الماضي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا) يعني دع ما مضى وأتبع السيئة الحسنة تمحها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
أما أن يظل البعض يندب الماضي، ويخاف من المستقبل، ويضيع الحاضر فليس هذا من دين الله في شيء:
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسانٍ وأنت حميدُ
إذاً أيها الأحبة لا بد أن نتأمل هذا العام الذي انقضى، ونعلم أن انقضاء العام دال على انقضاء كل شيء: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] إن انقضاء العام دليل على انقضاء الأعمار، وانقضاء الممالك، وانقضاء الملذات، وتبدل الأحوال، اليوم يبدأ ثم ينقضي، والساعة تبدأ ثم تنقضي، واللقاء يبدأ ثم ينقضي، والرحلة تبدأ ثم تنقضي، والحياة تبدأ ثم تنقضي، لكن تمر الحياة على أهل الرخاء والسعادة والنعيم والحبور في لذة، كأنما تصبح الأيام ساعات، والساعات دقائق، وتمر الأيام والحياة على أهل الشقاء والبلاء الساعة كاليوم، واليوم كأسبوع، الأسبوع كشهر، والشهر كسنة:
مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيامُ
ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوامُ
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلامُ
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98] إن من يقرأ كتاب الله، ويتأمل ما ذكره الله في شأن الأمم التي ملكت وسادت، ثم أهلكها الله وبادت: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
أين الملوك ذوي التيجان من يمنٍ وأين منهم أكيال وتيجان
وأين ما ساده شداد في إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
أتى على القوم أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
هكذا انقضت السنة، وقطعنا من عمرنا ورقة شاملة كما تقطع ورقة من التقويم، وقد ولت مدبرة ولا تعلم ما الذي كتب لك فيها، ولكن ما الأحسن في الخاتمة؟! فإنه حري أن يستدرك ما فات لأن الله عز وجل قال في شأن التائبين: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] وبين أيدينا وبالتحديد الإثنين القادم يوم عاشوراء من نعم الله؛ أننا نختم العام بعبادة تكفر ذنوب العام ونبدؤه بعبادة تكفر ذنوب العام، لما سئل صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء فقال: (يكفر السنة الماضية) نعمة عظيمة أن الله شرع لنا في بداية أعوامنا وفي نهايتها وفي أواسطها، وفي أيامنا وأسابيعنا من الفرص الكفيلة بأن تغسل الخطايا، وترفع الحوب والرزايا، وذلك من عظيم فضل الله ورحمته بعباده، إنه جواد غفور حليم رحيم كريم.(222/6)
تعريف النكاح وأهميته
أيها الأحبة! وأعود إلى موضوع هذه المحاضرة ضمن سلسلة الأسرة المسلمة والحديث عن النكاح وآدابه وأحكامه.
النكاح في اللغة يكون بمعنى: عقد التزويج، ويكون بمعنى: وطء الزوجة، فأما ما يدل على أن النكاح يطلق، ويراد به العقد فقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فهنا قال: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49] ثم أتبعها بقوله {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فسمى العقد نكاحاً، ويسمى الوطء نكاحاً حيث دل عليه قول الله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] فمعنى تنكح هنا: يعني حتى تعقد عقداً صحيحاً على زوج آخر ثم يدخل بها ويخلو بها ويجامعها ويطؤها، هذا هو المقصود.
دل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنها تريد أن ترجع إليه بعد أن طلقها رفاعة ثلاث طلقات، وتزوجت بـ عبد الرحمن بن الزبير فقال صلى الله عليه وسلم: لا.
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) يعني: أن يطأها وأن يجامعها، فهنا فائدة أن في النكاح يطلق ويراد به العقد، ويراد به الوطء وهذا جلي واضح.
يقول أبو علي القالي: فرقت العرب فرقاً لطيفاً يعرف به موضع العقد من الوطء، فإذا قالوا: نكح بنت فلان فإنهم يريدون عقد الزواج، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته فإنهم لا يريدون إلا الجماع والوطء.
ومعنى النكاح في الشرع: تعاقد بين رجل وامرأة يقصد به استمتاع كل منهما بالآخر، مع القيام بما يترتب على ذلك من الحقوق والواجبات بينهما.(222/7)
الترغيب والحث على النكاح في الشرع
ومن هنا نعلم أن مقاصد النكاح عديدة، وليست محصورة فقط في الاستمتاع، بل هناك مسئوليات الرعاية، والقوامة، والنفقة والذرية، والتربية وغير ذلك، ومعلوم لدى الجميع أن الشرع الحكيم قد رغب فيه فإن الله عز وجل قال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] ويقول الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] الأيامى جمع أيم، والأيم هو: من لا زوج له ذكراً كان أو أنثى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
وجاء في السنة الحث على الزواج فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) رواه البخاري ومسلم.
وهذا أمر وتوجيه صريح بالمبادرة إلى الزواج، بل إنه من سنن المرسلين كما أخبر سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فعلمنا أن المرسلين كانوا يتزوجون، وأن الزواج من سنن المرسلين، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في معرض رده على أولئك الذين أرادوا التبتل وكأنهم لما سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم تقالوها، فقال أحدهم: (أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الثالث: وأما أنا فأقوم الليل ولا أنام، فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنا فآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) إذاً فبإجماع أهل العلم أن الزواج مشروع استناداً إلى هذه النصوص الواضحة.(222/8)
الزواج سكن للنفوس
وحكمته أيضاً جلية بينة، فمن حكم الزواج أنه سكن للنفوس كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] ومعنى السكن جلي واضح في مقاصد الزواج؛ لأن في نفس الرجل حاجة لا يكملها إلا سكنه وميله إلى المرأة، وفي نفس المرأة حاجة لا يتمها ولا يكملها إلا ميلها وسكنها إلى الرجل، فذلك معلوم واضح، ولذا ذهب كثير من علماء النفس إلى أن كثيراً من المشكلات النفسية ربما كان علاجها الزواج، بل يخبرني الكثير ممن عرفت من الأطباء النفسيين أن مشكلات كثير من الفتيات والشباب كثيراً ما حلت ولله الحمد بإعانتهم على الزواج المشروع، وتنتهي كل تلك العقد أو الأوهام أو الشرود أو الأفكار أو القلق إلى غير ذلك.(222/9)
الزواج سبيل للتكاثر والتناسل
ثم إن الزواج سبيل لتكاثر الجنس الإنساني فوق هذه الأرض، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] وإن عدم الإقبال على الزواج أو عزوف الناس عن الزواج ينعكس بدرجة خطرة على قلة النوع الإنساني، ولذلك يلاحظ أن بعض الدول الأوربية الآن وهي دول هرمة، يعني: يقال: دولة شابة، ودولة هرمة، الدولة الشابة هي التي يكون أكثر من نصف سكانها من الشباب، ولله الحمد والمنة بلادنا هذه تعتبر شابة بالنظر إلى السكان، فإن أكثر من خمسين في المائة من السكان أعمارهم أقل من خمس عشرة سنة كما تقول الإحصائيات.
ولكن ما مستقبل هؤلاء الذين هم نصف السكان، وأعمارهم الآن أقل من خمس عشرة سنة؟! هذا يعتمد على مستوى تعليمهم ووعيهم وإدراكهم، ومستوى تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله، فحينئذٍ يكون شباباً في عز الإسلام والمسلمين، وذلك ما نسأل الله أن يحققه، ونتمناه ونرجوه.
وهناك دول هرمة، وهي التي يكون الغالبية العظمى فيها من العجائز والشيوخ، ويلاحظ ندرة المواليد وكثرة العجائز وكبار السن، ومن هنا لا نعجب يوم أن نلاحظ أن بعض الدول الأوربية لا تتردد في تجنيس ومنح الجنسية لعدد من الجاليات المهاجرة، ليس فقط لتذويب هؤلاء في المجتمعات الغربية، بل وأيضاً من أجل أن يضيفوا إلى السكان شريحة شابة جديدة، خاصة وأنهم يعلمون أنهم من المسلمين الذين همهم ودأبهم العناية بالأسرة، ومن صفاتهم الحرص على التوالد والتناسل، فإذا جنسوا جالية عربية من رجال ونساء وأصبحوا يحملون جنسية تلك البلاد الأوروبية فإن أولادهم لا شك يعيشون ويحملون هذه الجنسية، ثم بعد ذلك لا تسل -إلا من رحم الله منهم- عن حال ذوبانهم وتحويلهم أيضاً إلى عمال مهرة، وخدم يستمرون في خدمة تلك البلاد، وتلك قضية يمكن أن تناقش على حدة، لأن من الأمور الخطرة هي أن النسل المسلم الذي وجد على أرض الغرب من آباء وأمهات مسلمين سرعان ما يذوب في رياح التغيير والمجتمع الغربي، ويتحولون بمكيدة غربية إلى خدم في تلك المجتمعات، يقول واحد من مدراء المدارس الإسلامية في بلجيكا في بروكسل يقول: والله إنا لنلاحظ هؤلاء الغرب كيف يعتنون بأولادنا، ويعطونهم الكثير من وسائل الترفيه والدلال، بل ويعينونهم على النجاح، ولكن بطريقة غير علمية صحيحة، فيمكن من الدراسة في المراحل الأولى والإعدادية، وإذا أوشك أن يبلغ مرحلة الجامعة تُحدي تحدياً واضحاً جلياً؛ حتى يثبت فشله؛ ويخفق في المواجهة، ثم يقولون له: إن مؤهلاتك لا تسمح لك إلا أن تكون عاملاً إما في صيانة أو في بناء أو في تبريد، أو في أي أعمال الخدمات الفنية والمهنية؛ ليظل أبناؤهم وحدهم هم الذين يعرفون أسرار الاختراع والتقنية والابتكار والاكتشاف، وأما أبناء المسلمين فلقد خدموهم إلى الدرجة المناسبة؛ ليكونوا عمالاً مهرة ليضمنوا استمرار إنتاج المصانع الغربية، ولذا من المؤسف أن بعض المسلمين حينما يذهب ليمكث في بلاد الغرب سنتين وثلاث من أجل تحسين مستوى الدخل، ثم العودة إلى بلاده، سرعان ما يغير قراره، ثم يمكث عشر سنوات وعشرين سنة، وينجب أولاداً، فإذا أراد أن يعود إلى بلده الأصلي رفض أبناؤه وقالوا: لن نبرح هذه الأرض، ولن نغادرها بأي حال من الأحوال.(222/10)
أهمية الزواج لرعاية الأولاد
من حكم الزواج: رعاية الأولاد، هذا النشء الذي يتحقق بإذن الله من وجود هذين الزوجين، فإن رعايتهم تكون في ظل أسرة سعيدة قد بنيت على الود والاحترام والمحبة والتكافل، والمرأة قائمة على هذا الدور العظيم الذي لا يعوضه الكثير من دور الحضانة أو الملاجئ أو غير ذلك، ولذا فإن امرأة تحدب ظهرها وتحني صدرها، وتكرس جهدها وحياتها لتربية أولادها، مهما كان العرض المغري في الوظيفة والمرتب فإن ذلك أعظم من أن تشغل نهارها مولعة بوظيفة وتسميها: السلاح! السلاح! السلاح! إن إحصائية قد ظهرت منذ أيام في إحدى الصحف تقول: أكثر العوانس من الموظفات، ولماذا؟ لأن التعلق بهذه الوظيفة والشروط التي تمليها بعض النساء لأن عندها سلاح المال الذي ربما أطغى بعضهن: {كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] وشروط بعض النساء في ظل الوضع المالي الذي تعيش فيه من دخلها أو مرتبها جعلها تملي شروطاً قد لا يقبل بها الكثير من الأزواج، ومن ثم مرت السنون تلو السنين وربما فات بعضهن القطار، وربما أدركت بعضهن الرحلة قبل المرحلة الأخيرة أو قبيلها بقليل، هذه مسألة ينبغي أن تنتبه لها المرأة المسلمة.
تخيل أن أم أولادك عرض لها وظيفة بثمانية آلاف ريال، وفي المقابل عندك خمسة أطفال صغار يحتاجون إلى الرعاية والعناية، أنت لو تتأمل مقدار ما تحتاجه من المال والجهد والوقت لتعطيهم نصف ما تعطيه الأم لهؤلاء، لم تجد ما تنفقه عليهم ولو بلغ عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً، إذاًَ فصرف وقت المرأة زوجة وأماً على أولادها هو في الحقيقة عملية اقتصادية، وعملية تربوية، وتلك أخطر عملية لبناء الرجال، وصناعة الأجيال، من أهم المهمات التي غفل عنها كثير من النساء، وكثير من العاملات اليوم منذ أن تصبح وهي تظل ساعة أمام المرآة في إحسان هندامها، ومظهرها، وهيئتها، وعطرها، أو شيء من ذلك، ثم تتوجه إلى عملها، فالطفل المسكين محضون عند الخادمة، ينمو ويتربى أعجمياً لا يعرف النطق، الأطفال الذين يعيشون مع أمهاتهم ينطقون في السنتين، يبدءون يتكلمون ويرتبون الجمل، وهذا ربما بلغ السنة الثالثة وهو لم يستطع أن يتكلم بعد ولم يرتب جملة؛ لأنه دائماً مع الخادمة التي هي أيضاً مسئولة عنه بماذاً؟ بالغسيل واللباس وحاجات المنزل، وكلما هنالك إذا سمعت صوته جعلت رضاعة الحليب في فمه، وإن كبر قليلاً فإن التوجيهات المبلغة بها سلفاً قبل مغادرة صاحبة السعادة ربة المنزل، قبل توجهها إلى عملها أن إذا قام ضعي الحليب، وأعطيه هذه المأكولات، وجهزي له الفيديو، والشريط جاهز لأفلام الكرتون وأشغليه بذلك، وأدخليه في غرفة الألعاب، ذلك أقصى ما تقدمه الخادمة لهذا الطفل.
لكن الزواج الذي من مقاصده المحافظة على الذرية، المحافظة على الأولاد، وتربيتهم، وتكوينهم، وتنشئتهم، ذلك من أهم المقاصد العظيمة الجليلة التي ينبغي أن نهتم بها، ومهما وجد في مختلف أنحاء العالم من ملاجئ ومحاضن ترعى شئون الأطفال، فإن ساعة من الأم أعظم من أيام خادمة أو مربية.(222/11)
استمتاع الزوجين ببعضهما
كذلك استمتاع الزوجين ببعضهما من المقاصد الواضحة الجلية في هذا، لأن الله سبحانه وتعالى قد خلق في الرجال ميلاً إلى النساء، وخلق في النساء ميلاً إلى الرجال، بل جعل ذلك مما حبب إلى النفس البشرية بطبيعتها الغريزية الفطرية قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] فميل الرجال للنساء، وميل النساء للرجال أمر جبليٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاء عنه أنه قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة).
أيها الأحبة! والزواج قد يكون واجباً وجوباً متعيناً على المستطيع القادر الذي بدونه ربما وقع في المعصية والفاحشة، فمثل هذا آثم بترك الزواج والنكاح، وهذا ملاحظ للأسف عند طائفة من الشباب، ترى الواحد منهم قادراً مستطيعاً، وترى الواحد منهم يعاني من مكابدة ومعالجة شهوة متأججة، ومع ذلك يؤجل هذا النكاح ويؤخره، ولا تسل بين الفينة والأخرى عما يقع فيه من هفوات وزلات وفواحش وآثام يرتكبها بحجة العلاقة، وبحجة الصداقة، فمثل هذا الشاب القادر الذي نفسه راغبة مقبلة، وإمكانيته والباءة مكتملة، من جهته المادية والبدنية فإنه آثم بتأجيل الزواج وتأخيره، بل يجب عليه وجوباً متعيناً أن يبادر به سيما إذا علمنا أن عدم مبادرته سبيل محقق إلى وقوعه في الفاحشة.
ومن أعظم المخاطر التي وقع فيها كثير من الشباب في ظل هذه القنوات الفضائحية -ليست الفضائية بل الفضائحية- حيث لا تسل عن ألوان وحركات وأصوات وطرق وأساليب إغراء الشباب بالفاحشة، من خلال عرض الفتيات الجميلات الكاسيات العاريات، بل بصور في مواقع مؤججة للغريزة، كاسرة للعفة والحياء، ثم يقع بعضهم ضحية هذا المشهد؛ لينفذ ما رأى؛ متأثراً بسماع هذا الغناء المتكسر، أو كما يسمى بالفيديو (كليب) أو فيديو كلب، الحاصل أنه تتأجج غريزته، ويرى هذه الجميلة الحسناء تتكسر، وهذا يلاحقها ويغازلها، وهي تقبل تارة وتدبر، وتغضي تارة وتفضي، إلى غير ذلك ثم لا يجد أمامه إلا أن يفعل الفاحشة مع قدرته على الزواج الذي يحصنه، مثل هذا آثم آثم آثم بتركه الزواج وهو يعلم أن مثله يقع في الفاحشة -سيما كما قلت- والكثير من الشباب لا يزال يجلد بسياط الصوت والصورة والكلمة عبر هذه القنوات الفضائحية.
كذلك من كان قادراً على الزواج ويستطيع القيام بالحقوق، ولكن لا يخشى على نفسه أن يقع في فاحشة لو لم يتزوج فنقول: وهذا يتأكد الزواج في حقه تأكداً واضحاً جلياً، لكن ليس على درجة الوجوب المتعينة على الأول الذي يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة، لماذا؟ لما في الزواج من مصالح ومنافع وحكم ذكرناها، وأما الذي لا يخشى على نفسه وهو في ذات الوقت غير قادر على أن يقوم بحاجات المرأة العامة والخاصة وغير ذلك فمثله لا ينبغي له أن يدخل في دائرة هو ليس في حاجتها، وهو أيضاً عاجز عن القيام بالحقوق والواجبات، بل ربما يغلب على ظنه أن يوقع المرأة في فتنة بسبب ارتباط هذه المرأة برجل لا يقوم بحقوقها ولا واجباتها العامة والخاصة.(222/12)
الخِطبة وآدابها
من آداب النكاح: الخِطبة، وهي بالكسر، والخُطبة بالضم: هي ما يلقى على هذا المنبر من خطبة الجمعة، أما الخِطبة فهي: اختيار المخطوبة أو الزوجة وطلبها من أهلها بقصد الزواج ونكاحها على سنة الله ورسوله.
ومن نعم الله عز وجل أن شرع في هذه الخطبة من الآداب التي تحقق الرضا والاختيار والطمأنينة، وكذلك تؤمن من غائلة عدم الانسجام والاتفاق وغير ذلك.(222/13)
النهي عن الخطبة على الخطبة
لكن هنا آداب حتى في مسألة الخطبة فمنها: ألا يخطب مسلم على خطبة مسلم آخر، فلو علمت أن فلاناً خطب بنت فلان، فلا يجوز لك أن تطرق بابهم لتخبطها حتى تعلم أنهم قد فرغوا من شأنه وردوه وليس لهم في تزويجه رغبة، فحينئذٍ فتح لك الباب في أن تتقدم لتخطبها، أما أن يتقدم أحد إخوانك ليخطب هذه المرأة وإن كانت جميلة أو حسيبة أو نسيبة أو غير ذلك ثم تأتي أنت لتنافس وتقول: أنا أولى، فلان لا يستحق، أو ليس أجدر بذلك إلى غير ذلك، فإن ذلك لا يجوز أبداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه).(222/14)
مشروعية النظر إلى المخطوبة
ثانياً: من آداب الخطبة النظر إلى المخطوبة بما يدعو إلى النكاح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال للمغيرة بن شعبة لما خطب امرأة قال: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) منذ زمن ليس بالبعيد كان الرجل يدخل على زوجته وقد خطبت له من قبل دون أن يراها، وكانت الفتاة لا تعلم بأن زواجها قد دنا إلا عشية ليلة الزواج، يعني: في العصر أو المغرب، وكأنما هي قد جرت لينفذ فيها حكم من الأحكام، ولذلك لا تسل عن حالة الرعب والخوف والقلق الذي يصيب الفتيات فيما مضى، أما الآن فقد تثقف الناس وتعلموا واطلعوا وعرفوا، بل وأصبحوا يطيلون الغناء والأماني بانتظار هذه الساعة لما علموا ولما تيسر لهم من هذه المسائل.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) رواه الإمام أحمد وأبو داود.(222/15)
أهمية اختيار ذات الدين
وينبغي لمن أراد أن يخطب فتاة أن يحرص على أمور أهمها مسألة الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) متفق عليه، وذلك لأن من خطب امرأة لأجل مالها فإن المال قد يذهب، ومن خطبها لأجل جمالها فإن الجمال قد يذبل، ومن خطب امرأة لأجل حسبها فربما انقلب الحسب ترفعاً وأذية وتكبراً من قبلها عليه، ولكن إذا تزوج امرأة ذات دين أولاً، ولا يمنع بعد أن يحرص مع الدين على المال والحسب والجمال، وليس بعيب أن يتزوج رجل فقير امرأة غنية طمعاً أن تنفق عليه، فليس هذا فيه بأس، وليس هذا مما يعير به، لكن نسأل الله أن يعينه على ما سوف تعيره هي به.
وليس عيباً أن يتزوج رجل امرأة طمعاً في جمالها فإنه من مقاصد الرجال ومطالبهم أيضاً في النكاح، ولكن الحرص على ذات الدين أمر مهم؛ لأن دينها بإذن الله عز وجل يحفظها، ويحفظ قلبه عن الشكوك والوساوس حيالها أو بشأنها.
إن من الناس من يتزوج خضراء الدمن، وهي المرأة الحسناء في المنبت السوء، فإذا غاب عنها واتصل على بيته أو رأى سيارة تحوم حول داره، أو رأى رجلاً قد وقف قريباً من بابه اشتعلت نار الشك في بابه، وأخذ يلقي بالاتهامات والشكوك إلى حدٍ ينتهي بحياته معها إلى الطلاق، ولكن إن تزوج ذات الدين على ما يطمع فيه الرجال من الجمال وغير ذلك، فإنه وإن غاب عنها طويلاً فلن يخالجه شكٌ في عفافها، ولن يحوم في نفسه ريبٌ حول طهارتها، ولو انشغل خط هاتفه فلن يقول له الشيطان: إن زوجتك تعاكس، ولو رأى سيارة وقفت بالقرب من الباب فلن يقول كلاماً كهذا، أو حينما يرى رجلاً قريباً من الدار، ذلك من الأمور المهمة في شأن من تزوج امرأة ذات دين.
وبالمناسبة فاحفظ الله يحفظك، من كان حريصاً على حفظ نفسه عن محارم الناس فإن الله يحفظ محارمه عن الناس، أما من ولغ في الأعراض فهو على خطر أن تلغ الكلاب في عرضه، وإن كان هذا لا يتعارض مع قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ولكن في الغالب أنه من حصل منه الجرأة على أعراض الناس، ففي المقابل يقع منه التساهل الذي يفضي بجرأة الناس على محارمه.
من يزن يُزنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ
إن الزنا دينٌ فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلمِ
من قد زنا يوماً بألفي درهمٍ في بيته يزنى بغير الدرهمِ
أي: بالمجان والعياذ بالله، فينبغي أن ينتبه الإنسان، وليحرص على المرأة المعروفة بالدين، وألا يتنازل عن شرط الدين، وشرط العفة والحياء انهياراً أمام قضية الجمال، ذلك أمرٌ مهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) رواه الإمام مسلم وأحمد.(222/16)
الحث على اختيار البكر
ومما يندب للشاب أو الرجل أن يتزوج فتاة بكراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير) رواه ابن ماجة، وليس في هذا تحذير من نكاح الثيبات فإن الله عز وجل قد قال لنبيه: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم:5] إلى قوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5] فذكر الثيبات قبل الأبكار، وللثيبات من المزايا، وللأبكار من المزايا، من أراد أن يطلع عليها مفصلة فليراجع مقامات الحريري البصري، فإنه أودعها في مقامة جميلة لطيفة مفيدة، ونسأل الله للجميع التوفيق.(222/17)
الحرص على المرأة الولود
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم) رواه أبو داود والنسائي.
فأيضاً أن يحرص على امرأة ولود لعل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه منها ذرية، وقد يكون للرجل ذرية ولكنه بحاجة إلى امرأة، أي: قد يكون له ذرية وقد انقطع استمتاعه بها لمرضها ولظروفها ولأحوالها، وهو أيضاً لا يزال يحتاج إلى امرأة يسكن إليها، فحينئذٍ لو وجد امرأة عقيماً يجد سكن نفسه عندها فلا بأس أن يتزوجها، يعني: ليست هذه المواصفات تحذيراً مما سواه، بل ربما يؤجر البعض في زواجه بامرأة ثيبٍ ذات أولاد، أرملة ترعى أيتاماً وله من الأجر العظيم أضعاف أضعاف ما يناله من اختار بكراً عملاً بالحديث: (تزوجوا الأبكار) لأن هذا الذي تزوج أرملة ذات أيتام له أجر كما قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله -وأحسبه قال-: كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر) وذلك من الأمور الجليلة.
قد يوجد بعض الناس عنده من الذرية ما فيه البركة، ولكنه علم أن امرأة أم أيتام، وبقيت منقطعة لا يوجد من يكفلها، ولا يوجد من يرعاها، وقد توفي والدهم فحينئذٍ يؤجر غاية الأجر أن يتزوجها ولو لم يرد منها ذرية، وإنما غاية أنسه بها مع سكنه إليها أن يكفلها ويرعاها، وأن يرعى أيتامها؛ حتى لا يتشرد أولادها في الشوارع، أو أن يستغل أحد الطامعين حاجتهم ليسخرهم في مقاصد بذيئة نتنة خبيثة تحت وطأة حاجتهم، أو أن تذل أمهم بأن تعرض عليها الفاحشة تصريحاً أو تلميحاً في ظل حاجتها، والفقراء اليوم كان الله في عونهم في كل مكان، ذلك أن الفقير تتجدد معاناته إذا حل موعد دفع الإيجار، وتتجدد نفس المعاناة إذا حل موعد دفع القسط الثاني، وتتجدد المعاناة في بداية العام الدراسي حال البحث عن الحقيبة والكراريس والمساطر والأوراق والدفاتر، وتتجدد المعاناة حينما يدنو فرح الناس بأعيادهم، وهؤلاء لا يوجد من يشتري لهم جديداً أو على الأقل يقدم لهم شيئاً يسترهم، ويخفي هذه الثياب والرقاع البالية التي يلبسونها، إذاًَ إذا قصد رجلٌ إلى الزواج بهذا المقصد، قد أكون أنا لا رغبة لي في الولد لكن أرغب أن تسكن نفسي؛ لأن أم أولادي غير قادرة على القيام بحاجاتي وحقوقي الخاصة، وفي نفس الوقت لم يكن أنانياً ليجعل قصده لذة نفسه بل جعل معها مقاصد شريفة من كفالة أرملة وأيتامٍ ورعايتهم، فإنه يكون بإذن الله عز وجل ممن يؤجرون أجراً عظيماً.
على أية حال الحرص على المرأة الصالحة سواءً كانت بكراً، أو كانت ثيباً، أو كانت عقيماً لمن أراد أن تسكن نفسه عندها، أو أراد أن يتزوجها ويتزوج من بعدها، فالضابط في ذلك مسألة الصلاح، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله).(222/18)
شروط عقد النكاح
ثم بعد ذلك إذا انتهت مسألة الخطبة، وزفت البشارة إليك بموافقة أهل هذه العروس، بأنها قد وافقت ورضيت وقبلت، فتبدأ الاستعدادات لعقد النكاح، ولا بد أن نعرف أن عقد النكاح قد سماه الله عز وجل ميثاقاً غليظا، قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21] هذا الميثاق لن يكون إلا بعقد النكاح، ولا ينبغي أن يتهاون بشأنه، ولذا جعل له جلالة وقدراً ومكانة، فيحضره الولي والشهود، وكما سيأتي يكون فيه الإعلان بعد العقد، وتتقدمه خطبتا النكاح والحاجة، كل ذلك مما يؤكد على أهمية هذا الأمر.(222/19)
من شروط عقد النكاح رضا المرأة
ويشترط في هذا العقد الرضا، وهو أمر لا بد منه، فلا يجوز أن يكره الرجل على المرأة، ولا يحوز أن تكره المرأة على الرجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر) تستأمر: يُطلب أمرها، يعني هل نزوجك؟ أتقبلين بفلان زوجاً؟ أو تقول: زوجوني فلاناً، تستأمر يعني يطلب أمرها، يسمع أمرها فتقول: نعم زوجوني فلاناً: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) الأبكار في الغالب يغلب عليهن الحياء، فربما إذا قيل: يا بنية! لقد تقدم لك رجلٌ صالح ومن الأخيار، فسكتت أو هربت أو ذهبت أو غطت وجهها أو غير ذلك فهي من دلائل الرضا، يعني: صمتها دليل على الرضا، لكن لو قلنا للثيب: تقبلين بفلان زوجاً أو نزوجك فلاناً ثم سكتت، فإن سكوت الثيب لا يدل على الرضا، بل لا بد أن تستأمر ولا بد أن تقول: نعم زوجوني فلاناً، أو أقبل به، وذلك أمرٌ جلي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويج المرأة بغير رضاها سواء كانت بكراً أم ثيباً، إلا أن الثيب لا بد من نطقها بالرضا، أما البكر فسكوتها كافٍ لأنها تستحي.(222/20)
من شروط عقد النكاح وجود الولي للمرأة والشهود
من شروط عقد النكاح الرضا، وكذلك لا بد من الولي، فلا يصح النكاح بدون ولي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) فلو زوجت المرأة نفسها بغير ولي فجمهور أهل العلم على أن نكاحها باطل، وكذلك لابد من الشهود لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) وهذا يدل على وجوب الإشهاد والإشهار وأقل ذلك شاهدا عدل، هذه مسألة مهمة، ومسألة المأذونية هي لغرض ترتيب وتوثيق العلاقات، وتوثيق العقود والشهود من أجل التأكد من أنه ليس بين الزوجة والزوج من أمور محرمة للصلة والعلاقة بينهما، فإذا شهدا على ذلك، وعلم أن ليس بينهما من رضاعة أو قرابة نسبٍ مما يمنع من كون أحدهما زوجاً للآخر فلا بد من ذلك، ويصح للإنسان أن يزوج نفسه يعني: ليس المأذون شرطاً في صحة عقد النكاح، فلو أن رجلاً في مجلس قال لك: زوجتك ابنتي، وقلت: قبلت هذا النكاح ورضيت به، وشهد على ذلك شهودٌ فإن النكاح صحيحٌ وينعقد، وتجب به الأحكام المترتبة عليه من التوارث والمحرمية؛ لأن عقد النكاح هو عقد الزوجية الصحيح، وإن لم يحصل وطء ولا خلوة.
فلا بد أن نفهم ذلك وأن نعلمه لأنه في بعض الأحيان ربما الناس يقعون في مشكلة صعبة، ويقولون: الزواج الليلة وما عندنا أحد يملك، ولا عندنا مأذون، مع أن جميع الشروط متوفرة -مثلاً- فليس هناك مشكلات نظامية في التزويج، هذا من نفس البلد أو من نفس القرية أو من نفس القبيلة أو من نفس الأسرة، وربما المأذون تأخر عليهم فيظنون أنهم لا بد أن يؤجلوا ويخسروا نفقات حفلتهم تلك الليلة؛ لأن المأذون لم يأت، والصواب أن يأتي الولي يقول: زوجتك فلانة، ويأتي الزوج ويقول: قبلت نكاحها، ويشهد الشهود على ذلك، وبذلك يكون قد انعقد النكاح، ولو مات أحدهما بعد دقيقة من هذا العقد ورثه ولزم كل الحقوق المترتبة بينهما، وذلك مما يؤكد الميثاق الغليظ في مسألة وشأن الزوجية.
ومن الطرائف التي ذكرت أن أحد الشباب كان مشتاقاً إلى الزواج، وكان في جلسة عقد النكاح، فكان المأذون يقول للولي: يا فلان! قل لهذا الشاب زوجتك بنتي فلانة بنت فلان على مهر قدره كذا ثم التفت المأذون وقال: يا فلان! قل قبلت هذا النكاح ورضيت به، قال: (أوكّي) شيخ، (أوكّي) شيخ، قال: يا حبيبي! قل: قبلت هذا النكاح ورضيت به، يعني: كلمة (أوكي) يا شيخ لا ينعقد بها النكاح، الإجابة والقبول زوجتك، وقبلت، أما (أوكّي) يا شيخ فإن هذا لا يصلح، لا بد أن ننضبط بالألفاظ الدالة على الإيجاب والقبول.(222/21)
من شروط عقد النكاح الصيغة
فلا بد أن نفهم ذلك وأن نعلمه لأنه في بعض الأحيان ربما الناس يقعون في مشكلة صعبة، ويقولون: الزواج الليلة وما عندنا أحد يملك، ولا عندنا مأذون، مع أن جميع الشروط متوفرة -مثلاً- فليس هناك مشكلات نظامية في التزويج، هذا من نفس البلد أو من نفس القرية أو من نفس القبيلة أو من نفس الأسرة، وربما المأذون تأخر عليهم فيظنون أنهم لا بد أن يؤجلوا ويخسروا نفقات حفلتهم تلك الليلة؛ لأن المأذون لم يأت، والصواب أن يأتي الولي يقول: زوجتك فلانة، ويأتي الزوج ويقول: قبلت نكاحها، ويشهد الشهود على ذلك، وبذلك يكون قد انعقد النكاح، ولو مات أحدهما بعد دقيقة من هذا العقد ورثه ولزم كل الحقوق المترتبة بينهما، وذلك مما يؤكد الميثاق الغليظ في مسألة وشأن الزوجية.
ومن الطرائف التي ذكرت أن أحد الشباب كان مشتاقاً إلى الزواج، وكان في جلسة عقد النكاح، فكان المأذون يقول للولي: يا فلان! قل لهذا الشاب زوجتك بنتي فلانة بنت فلان على مهر قدره كذا ثم التفت المأذون وقال: يا فلان! قل قبلت هذا النكاح ورضيت به، قال: (أوكّي) شيخ، (أوكّي) شيخ، قال: يا حبيبي! قل: قبلت هذا النكاح ورضيت به، يعني: كلمة (أوكي) يا شيخ لا ينعقد بها النكاح، الإجابة والقبول زوجتك، وقبلت، أما (أوكّي) يا شيخ فإن هذا لا يصلح، لا بد أن ننضبط بالألفاظ الدالة على الإيجاب والقبول.(222/22)
الآثار المترتبة على النكاح(222/23)
وجوب المهر على الزوج
ويترتب على النكاح آثارٌ كثيرة منها: وجوب المهر فلا بد أن يسمى في العقد، وهذا أفضل حتى لا يطول النزاع بين الزوجين في حالة طلب الفسخ والخلع، ويقال: زوجتك فلانة على مهر قدره عشرة آلاف ريال أو عشرين ألف ريال فهذا طيب، لكن للأسف بعض الناس ما أسهل الدخول معهم، وما أشد وأعسر التخارج والخروج منهم، في الدخول كم المهر؟ ريال وشيمة رجال، طيب يا أخي كم المهر؟ ريال وشيمة رجال، تمر سنة وسنتان فيقع بينهم مشكلة كم المهر؟ والله مهر بنتنا مائة ألف ريال أين شيمة الرجال؟ وأين الكلام الأول؟ وأين الريال؟ وأين السوالف؟ كلها ذهبت لأنهم في البداية لم يحددوا ذلك.
على أية حال إذا اختلف في مهر من لم يسم مهرها ولم يحدد فالمرجع في ذلك إلى مهر المثل، بأن ينظر إلى أمثالها من النساء كم مهرها؟ فإن كان مهر مثلها عشرين ألفاً فيعطى لهذه المرأة قدره عشرون ألف ريال من غير مغالاة ولا بخس، أما أن تبخس أو يغالى في ذلك فلا يجوز، وهذه قاعدة في تحديد ما لم يسم عند التعاقد، لو استأجرت أحداً يبني هذا الجدار، فبنى الجدار وانتهى، ثم قال لك: أعطني أجرتي ألف ريال، قلت له: أجرتك خمسمائة، نحن ما اتفقنا على ألف، وقال هو: نحن ما اتفقنا على خمسمائة، فالمرجع في ذلك إلى أجرة المثل في البناء، كذلك الزواج إذا لم نتفق على المهر فالعبرة بمهر المثل، وقس على ذلك سائر العقود حينما لا يسمى العوض في العقد فالعبرة فيه بسعر المثل.
ومما ينبغي أن نعلمه أن المهر حق للمرأة، خلافاً لما يفعله بعض الآباء هداهم الله، يضع المهر في جيبه ثم يقول: هذا المهر لي أنا، وأنت صلح زوجتك ودبرها، ثم يبدأ هذا المسكين من جديد لينفق فوق ما أنفق على إعداد البيت وتهيئته، لينفق عليها من جديد في اللباس والطيب والذهب والحلي، وأين المهر؟ ذهب المهر للأب الجشع الطماع ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالله عز وجل قد أضاف الصداق إلى النساء إضافة تمليك فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] فأضاف الصداق إلى المرأة، فلا يجوز لأحد أن يأخذ مهرها كما قال تعالى في سورة النساء: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] لنعلم أن الصداق هو من حق الزوج.
أتى هذا الشاب بخمسين ألفاً وقد استدان من الشركات سيارات بالتقسيط، وفعل الأفاعيل حتى يحصن نفسه، ثم بعد ذلك تحفر له خندقاً من الدين والعسر والضيق لا يخرج منه، بل لو كان الولي عاقلاً لأعان زوج بنته، إن من العقلاء من يختار الزوج ويعطيه المهر ويعينه ويحرص على ما يحقق سعادته؛ لأنه يعلم أن ذلك ينعكس على سعادة ابنته معه، أما ما يفعله بعض الجشعين الطماعين فلا يبالي، يقول: ليس من شأني أن يكون سعيداً معها، وإن شاء الله يأتي زوج ثاني ويأتي الله برزق، فهو مستعد أن يمارس العملية مرات ومرات، المرة الأولى: استفاد من هذا سيارة، والمرة الثانية: استفاد من هذا أربع رشاشات، والمرة الخامسة: أخذ من هذا مضاد طائرات، والسابعة: أخذ من هذا مدفعية ميدان خمسة وسبعين، وهلم جراً، يعني: ما عنده مانع أن تطلق مرتين وثلاث؛ لأنه يعلم أنه في كل عقد سوف يبتز الزوج بشيء يخص به، وينحل له وحده دون هذه الفتاة المسكينة، ومن هنا نؤكد على مسألة التحذير من المغالاة في المهور؛ فإنه أمر خطير؛ ويسبب حرمان الفتيان والفتيات من الزواج، كم من الفتيات تود أن تتزوج ولو على ألف ريال، ولكن تكبر أهليها أو غطرستهم، أو نظرتهم إلى الناس باحتقار ودون، منعت من أن يبلغ إليهن الخاطبون والراغبون، وظلت الفتيات محرومات، بل إن بعض الفتيات لما وجدت الزوج الصالح وهي موظفة أرسلت مع ثقة من الثقاة مالاً جمعته من راتبها وقالت: خذ وأعطه هذا المال وقل له: يقدمه مهراً لوالدي، وفيما بعد نحن نتفق على التقسيط والتسديد، وربما تتنازل دفعة واحدة إن صلحت الحال بينهما، إذاً ينبغي أن نحذر من ذلك.
فقلنا: يترتب على النكاح -أيها الأحبة- آثار منها المهر الذي يسميه العوام الجهاز أو الصداق، وكما قلنا ينبغي عدم المغالاة في المهور لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير النكاح أيسره) رواه أبو داود، ومعناه: أقله مؤنة وأسهله؛ لأن التكلف في المهر من أسباب شقاء الزوجين، فشقاء الزوجين في سداد ما جمع من المهر إن كان استدانة، أو استكثاره ما بذل على المرأة، ومن ثم عدم تسامحه ولطفه، وعدم رحمته بالمرأة يجعله يريد منها أن تسدد بكل ذل وخضوع وانكسار لهذا الزوج ما بذله من المال، وكأنه اشتراها، والمهر هو نحلة وهدية وعطاء وليس قيمة للمرأة، يظن البعض أن المهر هو السعر للمرأة، فإذا قيل لبعضهم: والله زوجت ابنتك على صداق كم مقداره؟ قال: والله زوجت ابنتي على عشرة آلاف يقول: أترضى أن تكون قد بعت ابنتك بعشرة آلاف؟ من الذي قال: إن المهر سعر البيع؟ لا المهر بطاقة جمركية، ولا سعر البيع، ولا سعر الجملة، هو شيء من المال للاستمتاع بالمرأة، وما تحتاج إليه في تجهيز نفسها، لكن لا يظن أن هذا المهر في الحقيقة هو قيمة أو عوضٌ عن نفسها.
وتصاعدت المهور، ومغالاة الناس في المهور في هذا الوقت كما قلت من الأسباب التي عطلت الزواج، وعطلت شئون النكاح، والواجب على الجميع أن يتناصحوا في ذلك، وإن ما نراه من تأخر زواج الفتيات والشباب، ووقوع كثير من الشباب في الفواحش والمنكرات، في تغطية وتلبية حاجات النفس البشرية، والغريزة الفطرية، هو المغالاة في المهور ولا حول ولا قوة إلا بالله!(222/24)
النفقة للمرأة على الزوج
كذلك من الآثار المترتبة على النكاح النفقة، فعلى الزوج أن ينفق على زوجته بالمعروف طعاماً وشراباً وكسوة وسكناً، فإن بخل بشيء من الواجب فهو آثم، ولها أن تأخذ من ماله بقدر ما يكفيها ولو استدانت ما يكفيها لزمه الوفاء.(222/25)
ثبوت المحرمية بالمصاهرة
ومن الآثار المترتبة على النكاح: المحرمية، فإن الزوج يكون محرماً لأمهات زوجته، وجداتها وإن علون، ويكون محرماً لبناتها، وبنات أبنائها، وبنات بناتها وإن نزلن، وهذه مسألة نضبطها بهذه القاعدة اليسيرة: مجرد العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات، فلو أن رجلاً عقد على فتاة عقداً ولم يدخل بها فإننا نقول: إن مجرد العقد على هذه الفتاة وإن لم تدخل بها يجعلك محرماً لأمها، وتحرم أمها عليك، ولو أن رجلاً عقد على أم ثم لم يدخل بها، ثم بعد ذلك أراد أن يتزوج ابنتها فنقول: يجوز لك ذلك لأن العقد على الأمهات لا يحرم البنات، لكن لو أن رجلاً تزوج الأم فماذا يكون شأن البنت؟ لا شك أنها تحرم عليه، ويكون محرماً لها، وذلك أمر معلوم.
وكذلك مما يترتب في شأن المحرمية أن الزوجة تكون من محارم آباء الزوج وإن علوا، وأبنائه وإن نزلوا.(222/26)
ثبوت التوارث بين الزوجين
ومن الآثار التي تترتب على النكاح: الإرث، فمتى عقد شخص على امرأة بنكاح صحيح فإنه يجري بينهما التوارث، والله عز وجل قد أخبر بذلك بقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12] وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء:12] طبعاً مع التفريق في حال وجود الفرع الوارث وعدمه.(222/27)
ذم الإسراف في الزواج
من الأشياء المهمة التي ينبغي أن ننتبه لها مسألة الإسراف في حفلات الزواج، نحن نلاحظ اليوم أن هناك تفنناً في الإسراف، فالبطاقات إسراف وأشكال وألوان وخيال، والفساتين والملابس إسراف وأشكال وألوان وخيال، ويحضر فنان أو فنانة، ويؤلفان أغنية أو قصيدة في اسم الزوج واسم الزوجة؛ ليحيوا ليلة من الغناء بمبلغ وقدره في عزف وزمر ولهو وطرب، وضياع للواجبات والفرائض، يسهرون ويضيعون صلاة الفجر إلى غير ذلك، ثم يقولون: سبحان الله! فشل الزواج!! فشل لأنه بدأ بمعصية الله، فشل لأنه بدأ بصفات إخوان الشياطين وهم المبذرون ولا حول ولا قوة بالله! قيمة البطاقات التي بلغت خمسين ألفاً أو أربعين ألفاً عند بعض الأسر كم يتيماً يُكفَل مقابل هذه البطاقات التي زخرفت وزينت؟! ألا يكفي الناس أن ترسل لهم ورق (
الجواب
4) عادي، وتبلغهم برسالة عادية أو على الفاكس أو على أي شيء أن الزواج قد يعقد في اليوم الفلاني، وحيا الله الحضور، وانتهى الأمر؟ ألا يكفي الهاتف؟ لماذا الحرص على إبلاغ الناس كلهم؟ يكفي الأقارب أو المقربون وهذا كاف، لكن للأسف إسراف في البطاقات، وإسراف في صالة الأفراح، تجد بعض الصالات تستأجر بمائة ألف ولو وقف إخوان وقالوا: يا إخوة! لدينا أيتام مساكين ومشردون أعطونا عشرة آلاف نكفل عشرة أيتام سنة كاملة، عشرة أيتام نكفلهم ونحفظهم بإذن الله عن التنصير والفقر والجهل والمرض، وعن الفساد والانحراف، لقال: اذهب يا أخي ما نكد نحن إلا على فقراء، لكن الصالة بمائة ألف لا بأس أن يبذل، أخبرني أحدهم في زواج من الزيجات أحضر الفنان والفنانة بستين ألف ريال في إحدى صالات الفنادق، ولو وقف الفقراء على باب هؤلاء وقالوا: أعطونا ربع هذا المبلغ من أجل أن نسد به حاجة، أو نسد به رمقاً، أو نستر به أسرة لما وجدتهم يبذلون مالاً بنفس سخية، فالإسراف الذي وقع فيه كثير من الناس اليوم في مسائل الزواج كان من أسباب الفشل، فساتين فستان الليلة الأولى بثلاثين ألفاً، وبعشرين ألفاً، والفتاة لا تلبث أن تحمل بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فإذا تغير بدنها لظروف الحبل والولادة بعد ذلك لا يستفاد من هذا الفستان فماذا نفعل بهذا الفستان؟ قال: اتركوه للذكرى، ويعلقونه كأنه (أبو الهول) في الحجرة، والله هذا فستان فرحنا، وعندما يقع بينه وبينها مشكلة يقول: اليوم الذي شفت عليه هذا الفستان هو يوم الشقاء ويوم النكد، الله لا يعيد هذا الفستان ولا من فصَّله، ثم يصبح سبباً لتذكر بعض المآسي أو بعض المصائب أو مما يحقق ذلك.(222/28)
التهنئة مشروعيتها وصيغتها
أخيراً التهنئة بالزواج والدعاء للزوج، يسن أن يهنأ الزوج بما جاءت به السنة أن يقال له: بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، فهذا من الدعاء بالبركة، وهنا مسألة: لماذا اختير هذا الدعاء؟ الشارع لا يختار العبارات جزافاً أو عبثاً، بل يختارها بعناية، لماذا خصت البركة في الدعاء؟ لأن البركة إذا تحققت حصلت المنفعة بإذن الله عز وجل، كم من أناس عندهم أموال طائلة لكن الله لم يبارك لهم فيها، فلم ينتفع بها المسلمون، ولم تكفل بها أيتام، ولا الدعاة ولا الأرامل ولا المساكين، ولا الفقراء ولا الضعفاء، بل هي أموال تئط بها البنوك، تعج بها الأرصدة والمال يولد أموالاً بالربا، ولا يستفيد من ذلك أحد، فليس وجود المال بحد ذاته هو الغاية لكن الغاية هو وجود المال المبارك، لأن المال المبارك هو الذي ينفع في طاعة الله ومرضاته.
ليست المسألة أن تجد زوجة، أو المرأة تجد زوجاً، فالقضية أن تجد الزوج المبارك، وأن تجد أنت الزوجة المباركة، لأنه إذا كتب الله فيها البركة نفع الله بها.
كم بارك الله لقلب فانتفع والله إن بارك في شيء نفع
كم من رجل تمنى أن يكون عنده عشرون ولداً، وصار عنده عشرون ولداً لكن لم يجعل الله في أحدهم بركة، بل إن بعض الناس عنده عدد من الأولاد: اثنان مسجونان في مخدرات، وواحد مسجون في أموال، والثالث مسجون في بلاء، والرابع مسجون في جريمة، ليست القضية كثرة الولد، بل القضية أن يبارك لك في الولد، ليست القضية أن تنال الزوجة، بل أن يبارك لك في الزوجة، ليست المسألة أن تنال هذه الدابة بل أن يبارك لك فيها، ولذلك إذا تأملنا مسألة البركة وجدناها حتى في عباداتنا، إذا أثنيت على الله: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، إذا وضعت يدك في الطعام: باسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، إذا دعوت لمن أضافك قلت: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، إذا هنأت أحداً قلت: بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، مسألة البركة مهمة، ولذا نسأل الله أن يبارك لنا ولكم في أموالنا وأولادنا وأعمالنا وأزواجنا وذرياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، ونجعل ما بقي من الوقت للإجابة على الأسئلة:(222/29)
الأسئلة(222/30)
حكم جلوس العروسين وسط النساء
السؤال
يقول: في هذه المدينة ظاهرة دخول العريس على النساء؛ لزفه مع عروسه في وسط النساء، تحت مظلة الموسيقى والغناء والرقصات الوافدة من الغرب، الرجاء التركيز على هذا الموضوع؟
الجواب
جميل جداً أن ينبه الأخ السائل على هذه القضية، وهي من العادات المستوردة التي نقلت إلينا إما بالمحاكاة أو بالمشابهة أو بما يراه البعض في هذه القنوات الفضائية وفي الأفلام والمسلسلات، لا يجوز في ليلة الزفاف أن تنتهك الحرمات، يأتي رجال يرقصون مع النساء، يأتي الزوج ليجلس مع زوجته على منصة أو على كرسي والفتيات الجميلات يتراقصن أمامه، وأيضاً الوقوع في اللباس العاري عند الفتيات، وبعض الزواجات ليست بحفلات زفاف بل كأنما هي عرض عارٍ للأزياء ولا حول ولا قوة إلا بالله! ويحتجون بمسألة عورة المرأة إلى المرأة من السرة إلى الركبة، يعني ما سوى ذلك فلتخرج المرأة ما شاءت، ليس بصحيح، هذا بيان حكم لكن لا يعني ذلك الإذن بفعل ما تقع به الفتنة بين المرأة والمرأة، لا يظن البعض أن المرأة لا تفتن بالمرأة، بل مما ابتلي به كثير من الفتيات اليوم إلا من رحم الله مسألة العشق والفتنة والولوع والتعلق بأمثالهن من الفتيات، ومن أسباب ذلك لبس هذه الملابس الفاتنة والضيقة التي تصف أحجام الأبدان.(222/31)
حكم تصوير حفلات الأعراس
السؤال
يقع كثير من الناس في حفلاتهم في منكرات عديدة، وقد يقع فيها بعض من فيهم خير من مرتادي المساجد لضغط العادات والأعراف المخالفة للشرع وكذلك ما رأيكم بتصوير حفلات الزواج بالكاميرات الثابتة والمتحركة؟
الجواب
أما تصوير الحفلات فكل عاقل غيور لا ينبغي له أن يأذن بأن تدخل أي كاميرا تصوير في الحفلة، قد يأتي يوم من الأيام وتجد صورة زوجتك أو صورة ابنتك أو صورة فتاة من محارمك في يد فلان وعلان، هذه مسألة خطرة ولا ينبغي التساهل بها، إضافة إلى أن التصوير حصره على المصلحة والحاجة والضرورة ينبغي أن نقف عند هذا، أما التساهل في ذلك فلا حاجة إليه، التساهل في ذلك إذا كان في مصلحة أو حاجة أو ضرورة، لكن ما المصلحة؟ بنتك أو قريبتك تصور في زواج أو في حفلة ثم بعد ذلك تستعرض صورها عند الغادين والرائحين، أحد يرضى بهذا؟ هذه مسألة خطيرة جداً، وما ذكره الأخ في أول السؤال أظن قد أجبته عليه في السؤال الأول.(222/32)
ذم المغالاة والتشدد في اختيار المرأة
السؤال
أنا شاب طموح في اختيار الزوجة الصالحة التي حددت لها شروط؛ أولها الدين ثم الحسب ثم النسب ثم الجمال ثم العلم، وأن تكون في سن الرابعة عشرة، وزملائي وإخواني يقولون: إنك رجل متشدد في الاختيار، وهدفي من وراء ذلك بناء الأسرة الصالحة؟
الجواب
يا أخي الحبيب! لا بأس أن يطلب الإنسان الشيء في الجملة، إذا علم من الفتاة عفافها وصيانتها وتدينها، وعدم الخضوع بالقول، وعدم الاختلاط بالرجال، هذا كافٍ، لا يشترط بتدين الفتاة أن تكون قد حفظت القرآن والصحيحين والكتب الستة، وإلا ما تزوج في البلد كله إلا أربع أو خمس أو عشر، كذلك يعني الجمال مسألة نسبية فإذا حصل القدر الذي قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (التي إذا نظر إليها سرته) يعني تشرح خاطره، بمعنى: ألا تكون إذا نظر إليها كرهها أو أبغضها أو فركها أو شيء من ذلك.
كذلك مسألة الحسب والمغالاة فيه، كذلك مسألة النسب وغير ذلك، يا أخي الحبيب! إذا توفرت القاعدة المتيسرة من هذه الشروط أو من هذه المواصفات فالحمد لله، القدر المتيسر من التدين، القدر المتيسر من الجمال، القدر المتيسر من الحسب، والقدر المتيسر من النسب إلى غير ذلك، هذا كافٍ، أما أن تتشدد وتجعل كل هذه وأن تكون متعلمة، وتحدد العلم، قد تكون جيدة وصالحة وحافظة لكن ليست بجامعية، كل الشروط الأربعة توفرت إلا أنها ليس معها شهادة جامعية، إذاً تعطى مهلة إنذار أربع سنوات لإكمال الشهادة، فليس صحيحاً هذا الكلام، أو كذلك تجد كل الشروط توفرت إلا مقداراً معيناً من الجمال، والله ليست تشبه فلانة الفنانة، ليست تشبه فلانة الراقصة، ليست تشبه فلانة، هذه من شروط بعض الشباب الذين لا يهمهم الدين بل يركزون على الجمال، وكما قال الشاعر:
عراقية العينين نجدية الحشا حجازية الأطراف هندية الشعرِ
يا أخي! أنت تطلب حورية ما نزلت بعد، فينبغي للإنسان حينما يؤكد على مثل هذه المواصفات، أن يكتفي بالقدر المتيسر، وألا يتشدد في ذلك.
تشدد بعض الشباب في مسائل النسب فلا يريد إلا من آل فلان، ومن بيت فلان، ومن بني فلان، ما الذي تعلم في نفسك يا مسكين؟ اعلم أن أبا لهب من أهل النار، وبلالاً الأسود الحبشي من أهل الجنة! بسبب التعلق بهذه العنصرية المقيتة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من رأيتموه يتعزى بعزاء أهل الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) (لينتهين أقوامٌ عن تفاخرهم بأحسابهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان) بعض الناس مسكين أول ما يتكلم في فلان أو علان لا يهمك، فلان ليس من آل فلان، ليس من بني فلان، ليس من القبيلة الفلانية، أرنا مقاييسك أنت؟! ما حظك من العلم؟! ما حظك من الفكر والإنتاج؟ ما حظك من نفع المسلمين؟ ما حظك من نفع الأمة؟ لا.
ليس عندهم شيء إلا أن فلاناً ابن فلان، هذه ما نفعت أبا طالب وما نفعت أبا جهل، وما نفعت الذين هم من صناديد قريش، ومع ذلك لم يكونوا على فوز بما فاز به الصالحون الأبرار من صحبة محمد صلى الله عليه وسلم.(222/33)
عدم طاعة الأهل في ترك الواجب
السؤال
أنا شاب أعيش في جو فاتن من النساء المتبرجات ونحو ذلك؛ لظروف عملي، وأرغب في الزواج رغبة أكيدة، وأموري ولله الحمد متيسرة، ولكن أهلي يريدون تأخير الزواج لأعذار واهية في نظري، فهل أطيعهم وأضيع ديني في الجو الذي أعيشه؟
الجواب
لا.
لا تطعهم، بل تزوج وبادر في الزواج، وتركك الزواج معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(222/34)
نصيحة لشاب تائب
السؤال
لا أريد أن أسألك عن الزواج، بل أريد أن أتوب وأقبل على الله، ولكن أمامي عوائق كثيرة، ولكن يا شيخ! لم أجد من يمد لي يد العون في إخراجي من مستنقعات المعاصي، وأنا في هذه المحاضرة، فأنقذوني قبل أن أغرق مع أصحاب السوء؟
الجواب
أرجو من الأخ أن يعرف نفسه بفضيلة مندوب الدعوة في هذه المنطقة الذي قدم هذه المحاضرة، وبإذن الله عز وجل سيبذل له ما يستحقه وما يحتاجه، ونهنئه بالإقبال على الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] فالحمد لله الذي فسح في أجلك، وأمد في عمرك حتى تبلغ هذه الروضة من رياض الجنة؛ لتضع يدك في يد أهل الخير، وتشق معهم طريقاً لا تخاف دركاً ولا تخشى، وتبلغ بإذن الله جادة الأمان على الثبات والاستقامة بإذن الله عز وجل.(222/35)
الضوابط الشرعية للأفراح والاحتفالات
السؤال
سائلة تقول: أرجو التكلم عن الأفراح الإسلامية؛ لأنها لا تعجب الكثير؟
الجواب
والله أعجبت الكثير أو لم تعجبهم، إذا كان هناك من فرح على شيء لا يتعارض مع الأمور الشرعية، ويكون فيه بعض البنيات الصغيرات ينشدن الأناشيد التي ليس فيها تشبيب بالنساء، وليس فيها كلام فاحش ولا كلام رديء، وفيها الدف الذي شرع للنساء، فهذه من الأفراح التي نؤيدها ونحث عليها، وينبغي أن يجتهد كل من عنده مناسبة زواج أن يجعل ليلة الزفاف عامرة بمثل هذه الأفراح التي لا تخالف الشرع، ومما علمنا أن مثل هذه الأفراح تهدى فيها الكتيبات النافعة والأشرطة المفيدة، ولا يحصل فيها تبرج، ولو دخلها متبرجات فإنهن يكرمن ويعاملن باللين والرقة، والموعظة الحسنة، والنصيحة الطيبة، ويستفدن، أيضاً لا نريد أن تكون الأفراح التي تخلو من المخالفات الشرعية أفراح عداوات، مجموعة فتيات متدينات دخل عليهن بعض الفتيات في لبسٍ مزرٍ، أو غير ساترٍ، ثم أخذن ينتقدنهن بشدةٍ لا، بل يتلطفن بهن ويكرمنهن، ويعتنين بهن، وينصحنهن بكل وسيلة تحقق لهن الاستقامة بإذن الله عز وجل.(222/36)
نصيحة لمن يعزف عن الزواج
السؤال
ما نصيحتك لمن يعزف عن الزواج بحجة تأمين المستقبل؟
الجواب
يا أخي الكريم! المستقبل أنت لا تعرفه، ولا تدري لو أويت إلى فراشك الليلة هل تنهض منه بعد ذلك
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
هذا المستقبل أنت لا تعرف عنه شيئاً، بل إن المبادرة بالزواج قد يكون نعمة، أن تدخل بامرأة فيكتب الله لك منها ولداً صالحاً يحمل لك ذكراً حسناً، ويدعو لك الناس إذا رأوه، وتكون كل أعماله الصالحة في موازين أعمالك، وربما أنت لا تبلغ أن تراه قد شب أو أصبح رجلاً كبيراً، ربما تموت وهو جنين في بطن أمه، ربما تموت وهو لا يزال صغيراً يحبو، أو لا يزال في مراحله الابتدائية، فالمبادرة بالزواج وطلب الولد والذرية من دلائل العقل.(222/37)
جواز الاستدانة لأجل الزواج
السؤال
يقول: هل يجوز أن أتزوج بالدين؟
الجواب
نعم.
سئل الإمام أحمد عن الرجل يستدين لأجل الزواج؟ قال: أرى أن يستدين ويقضي الله عنه بإذنه سبحانه وتعالى.
فالدين ثقيل إلا في الزواج وبناء المسكن المناسب المعقول، فإن من استدان هذا ملاحظ ومشتهر ومعروف بالتجربة والملاحظة؛ أن من استدان لبناء بيت يؤويه وأسرته فإن الله سرعان ما يقضي دينه، أما أن يبني بيتاً آلاف الأمتار بالدين، وأنواع الاكسسوارات، وألوان المفارش والكنب والستائر والرخام، ويأتي بالعجائب والغرائب، ثم بعد ذلك يطلع له صك إعصار بأربعة ملايين، ويقول: لقد تحملت ديناً بسبب البيت، هذا الدين الذي تحملته يكفي لبناء عشرين بيتاً لا بيتاً واحداً، فلا يحل لك أن تأخذ أموال الصدقات والزكوات بحجة أنك بنيت بيتاً وتحملت فيه ديناً.
نعم.
يقضى عنك الدين في بيت تبنيه بالمعروف، بالحد المعقول، أما أن تغالي في البناء، وتريد السداد من أموال الزكوات والصدقات، فيحرم، الفقراء والمساكين الذين لا يجدون أجرة البيت، وربما بعضهم يطرد فلا يجد مأوى، وبعضهم يسكن في الخيام أو في شارع، وأنت تريد أن تبذل أموال الصدقات لذلك، لا، كذلك الشاب حينما يستدين لأجل الزواج، ويكون دينه معقولاً، والزواج ونفقاته معقولة، فإن الله سبحانه وتعالى يقضي عنه.
نقف عند هذا الحد، حيث اتفقنا مع الشيخ على أن تكون الأسئلة في المدة المحددة والمعتادة بين الأذان والإقامة، وما سوى ذلك فلعل الله أن يمن بلقاءٍ مبارك يجمعنا بكم على مرضاته.(222/38)
الوهن وعلاجه في ضوء الإسلام
إنما العزة بالدين، واتباع طريق النبيين، ولا تزال الأمة في عز حتى تترك التمسك بالدين، فتتداعى عليها الأمم ويصيبها الوهن، والعلاج لا يخفى، وهذا هو موضوع هذه المادة.(223/1)
سنة الله في هلاك الأمم
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، الحمد لله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم، الحمد لله الذي الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن والمقدم والمؤخر، وهو على كل شيء قدير.
نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وحديثنا معكم اليوم عن الوهن الذي أصاب أمة المسلمين، وهو السلاح الذي يمكن أن يكون سبباً في هلاكها، وما سواها من الأسلحة والعوامل الخارجية، سواء من التهديد بالقتل أو التدمير أو الاجتياح، أو غير ذلك فإن هذا لا يمكن أن يكون سبباً لهلاك الأمة، وما ذاك إلا لاعتقادنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين، وذكر مما أعطاه ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) فلا يمكن أن تهلك أمة الإسلام بعدو يتسلط عليها، فيستبيح بيضتها، ويسرق أموالها وخيراتها ومدخراتها جملة واحدة أبداً، ما لم يتسلط المسلمون بعضهم على بعض، وما لم تتسلط نفوس المسلمين على ذواتهم، فإن النفس إذا تسلطت على صاحبها كان ذلك بادية الهلاك والوبال والدمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلكم هو أخطر أمر أن تتسلط نفسك عليك، وأن تكون نفسك هي سبب مصيبتك، وأن يكون سعيك هو الذي يقودك إلى هاوية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
إذا لم يحصل استعانة المسلم بربه، واستقامته علىأمر ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن كل جهد وعون وعمل يكون سبباً في هلاك صاحبه، ولا عجب في ذلك، فإن سنة الله لا تحابي أحداً، وإن سنن الله في الكون لا تتعطل ولا تتغير: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
وقول الله جل علا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] إن البلاء والدمار والهلاك والمصيبة، تكون بداية من النفس، إن كان الإنسان تسلط على نفسه بالذنوب والمعاصي، وتسلطت الأمة على مجتمعاتها وبلدانها بالفواحش والمنكرات، عند ذلك لا يبالي الله جل وعلا بأي وادٍ هلكت هذه الأمة، وليست هناك أمة من الأمم معصومة، أو أن بينها وبين الله عهد ألا تُهلك وألا تدمر، فإن لم يقع الهلاك بسبب مصيبة أو قوة بشرية، نزل الهلاك على أمة عصت الله من السماء، ألم يقل الله جل وعلا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41 - 42]؟ ألم يقل الله جل وعلا: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات:46]؟ سلط الله عليهم في معرض ذكره للأمم التي أهلكها بالعذاب، فلا ينبغي أن نظن أن الأمم إن لم تصب بمصيبة عدوان أو اجتياح خارجي، أو من جوار، أنها سلمت من البلاء والهوى والفتك والعقوبة، إذا أن البلاء إنما يوجهه الله جل وعلا بأسباب، فقد يكون البلاء بسبب تسلط أمة على أمة، وقد يكون في صورة بلاء ينزل من السماء، أو ينفجر من الأرض، أو في صورة داهية تجعل الأمة شذر مذر وتمزق كل ممزق.
إن عقول كثير من البشر انحصرت في تصور المصائب، وأنواع البلاء، في عدوان بشري أو في قوة غاشمة مسلحة فتاكة مدمرة، تتسلط على أمة أخرى وليس هذا كل البلاء أو المصيبة، بل إن الله جل وعلا لا يعلم جنوده إلا هو {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] هي ذكرى للأمة أن تعتبر وأن تتعظ، وأن تعلم أن البلاء وإن تخلف على أيدي البشر، فقد يتحقق بمصيبة تخرج من الأرض، أو ببلية تنزل من السماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(223/2)
إصابة الأمة بالوهن
حديثنا عن الوهن، تلكم المصيبة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، والوهن هو: الضعف والخذلان، وما يسمى في اصطلاحات العصر الحاضر تحكم النفوس وانكسارها وضيعة عزتها، وذهاب شموخها، ورضاها بالذلة وقناعتها بالدني والردي والقليل دون الكثير، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] من الضعف، ويقول تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] من الضعف والرضا بالسلم والمصالحة من الأعداء عند أدنى الحظوظ.
فالوهن اصطلاح يدل على الضعف، فكل شيء ضعف فقد وهن، وما أضعفك فقد أوهنك.
جاء بيان هذا الأمر والإخبار بأن الأمة سوف تصاب به في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذ كثير) وأقف لحظة عند الكثرة، لو ضربنا مثلاً بسيطاً جزئياً على مسألة الوهن، ألسنا نحن جميعاً في هذه المظلة وفي هذا المسجد جمع لا بأس به من الكثرة، نعم.
نحن بالنسبة لحجم المسجد جمع كثير لكن أين نفعنا؟ أين بلاؤنا؟ أين سعينا؟ أي عمل نفعنا به أمة الإسلام؟ أي سعي جعلنا به الدعوة إلى الله تنطلق خطوات إلى الأمام؟ إذاً حتى جمعنا الذي نتحدث معه فينا ومن بيننا وهن عظيم، أقول هذا حتى لا نظن أننا نتحدث عن أمة أو كوكب أو جماعة بعيدين عنا، بل نتحدث عن مصيبة تمثلت في طولنا وعرضنا وأجسامنا ولحومنا، مصيبة حلت في نفوسنا، (قالوا: أومن قلة نحن يا رسول؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل؛ يصيبكم الوهن وينزع الله المهابة منكم من صدور أعدائكم، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) بين صلى الله عليه وسلم السمة والعلامة الواضحة الجلية، في أمة تصاب بالوهن، ألا وهي: (حب الدنيا وكراهية الموت) نعم -يا عباد الله- كلنا إلا من رحم الله قد أصبنا بهذه البلية، واجتمع هذا المرض في مجموع أفراد الأمة، فوهنت وضعفت عن مواجهة أعدائها وعن الوقوف بمواقفها التي ينبغي لها أن تكون متسلمة للقيادة فيها.(223/3)
أسباب الوهن
ما أسباب الوهن الذي حل بأمتنا في هذا الزمان؟ اعلموا -أيها الأحبة- أن لذلك أسباباً عظيمة جداً.(223/4)
تسلط الذنوب والمعاصي
فأولها تسلط الذنوب والمعاصي على كثير من أبناء المسلمين ورجالهم، وعدم الخوف والمبالاة من شؤم وعقوبة الذنوب والفواحش، بل أصبح الكثير منهم يردد قول القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
يعني: إذا لم تصبك بلية الذنب فوراً، فإنك قد نجوت من شؤمه وبليته.
لا والله، بل إن هذه الذنوب والفواحش خاصة الآثام والمنكرات الجلية، الظاهرة العلنية، التي هي أعظم سبب في وهن الأمة، وأعظم سبب في هلاكها ودمارها بصريح قول الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
إذا ماتت القلوب وأصيبت بالوهن وتعلقت بالدنيا وخافت وارتجفت من الأجل، فذلك بسبب ذنوبها ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد بين ابن القيم رحمه الله أن للذنوب شؤماً وآثاراً وخيمة ومضرة، وذكر أن أقل ما فيها أن الذنوب تضعف صاحبها وتورثه الذلة والخيبة، وعدم الجرأة إلى غير ذلك من آثار الذنوب، التي من أخطرها أنها تجعل النفس تخون صاحبها في أمس حاجة ولحظة يحتاج إليها.
إذاً فمن أعظم أسباب الوهن الذي حل بأمة الإسلام الذنوب، وحتى لا نتكلم عن كوكب آخر أو جماعة أخرى نتحدث عن أنفسنا وعن واقعنا ومجتمعنا، وعن مجتمعات المسلمين بالتبع، يظن كثير من الناس حينما نحدثه أو يتحدث أحد معه عن الذنوب، يظن أنه قد خلي وسلم من هذه، فإذا رأيت سماعه، فإذا اللهو يملأ آذانه، وإذا رأيت ما ينظر وجدت الأفلام والمسلسلات تشغل جزءاً كبيراً من ليله ونهاره، وإن ذهبت تنظر معاملته وجدت الخيانة أو الرشوة، وأخطر منها الربا الذي هو أخطر حرب تواجه الأمة به ربها، نخاف أن ندخل في حرب مع الأعداء، ولكن نسينا أننا لم نبالِ بحرب دخلناها مع الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279].
هل تحتاج هذه الحرب من الله ورسوله إلى صفارة إنذار؟ هل تحتاج إلى علامات الإنذار الشامل في الأفق؟ هل تحتاج هذه الحرب إلى علامات تسبقها أو اجتماعات؟ لا.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] إذا توعد الله بشيء فإنه يتحقق لا محالة.
أقول -أيها الأحبة-: لما كانت الذنوب والآثام والمعاصي والمنكرات من أسباب الوهن الذي حل بالأمة، فإننا ينبغي أن نسأل أنفسنا -لو نظر كل شخص منا إلى نفسه لوجد عدداً من الذنوب التي يرتكبها يومياً، ومع ذلك تراه كأنه لم يفعل ولم يقع في مخالفة مع الله جل وعلا- ينبغي أن نسأل أنفسنا: من نعصي؟ ومن نخالف؟ إننا نعصي رباً الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، لقد غابت عن الأذهان والعقول عظمة الله جل وعلا، هانت على النفوس المعاصي، ولو قلنا لأحد الناس: يقول فلان بن فلان: ممنوع التجاوز في هذا الشارع، لقال: ومن هو فلان؟ نكرة لا يعرف، فليس حقيق أن يُمتثل لأمره أو يُزدجر عن زجره، أو يُتبع لما أمر به، لكن لو قلنا: قال المسئول الفلاني في الدائرة الفلانية: إن هذا أمر ممنوع لقال: نعم.
لأنه يعرف أن ذلك المسئول رجل في موقع وله مكانة وهيبة، ويتبع من خالفه بالعقوبة.
لو قلت لكم: إن قوة تستطيع أن تجمعكم جميعاً يا من أنتم في هذا المكان في قبضة يدٍ واحدة لقلتم: هذا أمر عجيب! وأي قوة هذه؟ ومن نحن على تعددنا في هذا المكان بالنسبة لسكان المدينة كلها، نحن جزء يسير من سكان المدينة.
وأقول هذا المثال وأردده، وبالمثال يتضح المقال حتى ندرك العظمة، نحن خلق عظيم، ولا يستطيع أعظم الناس أن يجمع خمسة أو ستة منا في يد واحدة، هل نحن فقط من يسكن في مدينة الرياض؟ لا.
بل هناك رجال ونساء وبهائم ونباتات وحيوانات، مليئة بها المدينة، وهل مدينة الرياض كل الكون؟ لا.
هي جزء من المملكة، والمملكة أشبه ما تكون بقارة حفظها الله بالإسلام، هذه القارة مليئة بالجبال والصحاري وعلى حدودها المحيطات والبحار وفيها ملايين البشر، هل نحن كل الكون؟ لا.
المملكة جزء من قارة آسيا، وقارة آسيا فيها مئات الملايين من البشر، وهل قارة آسيا هي العالم كله؟ لا، هناك قارات أخرى -أيضاً- مليئة بالبشر ومن معهم من المخلوقات والجبال والبهائم والنباتات والحيوانات.
إذاً: الكرة الأرضية مجموع مليء بالمحيطات والبحار والأنهار والجبال والبشر إلى غير ذلك اسمعوا قول الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] إذاً نحن نعصي رباً عظيماً، ولو أدركنا سر العظمة لما تجرأنا على الإصرار على الذنوب والمعاصي، لو أدركنا حقيقة العظمة، لما تجرأنا على الذنوب والمعاصي، آخر ما سمعت في عالم مراكز المعلومات أن جهازاً يستطيع أن يتلقى ستين مليون معلومة خلال عشر دقائق، أو أقل من ذلك، ما هذا الجهاز الذي يتلقى ستين مليون معلومة خلال هذه الفترة القصيرة؟! إنه جهاز غريب وعجيب ودقيق.
أين نحن من قول الله جل وعلا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49]؟ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، أما أجهزة المعلومات فتنتهي لو انقطع عنها التيار، وأجهزة المعلومات قد تضيع شيئاً من المعلومات.
إذاً: أين نحن من إدراك سر العظمة؟ إن كلما تكتشفه دول الغرب، وكلما تنتجه أمم التقدم والتكنولوجيا لهو دليل على عظمة الله جل وعلا؛ لأنه ما من أمر عجبنا منه ووقفنا متعجبين متأملين بدهشة وغرابة بسبب الإبداع والتدقيق في تصميمه، إلا ونجد أن عند الله جل وعلا ما هو أعظم منه، وليس هذا بغريب، إذ لا يمكن أن يساوى الخالق بالمخلوق.
حينما نأتي بشاشة تلفزيون الآن أمامكم ومعها سماعة أو لاقطة، ونقول: تستطيع أن تتحدث مع رجل في أمريكا وأنت جالس هنا، تقول: الله أكبر! ما هذه الاختراعات؟! نحن نجلس هنا ونتحدث ونرى من يجلس في أمريكا أو في أبعد القارات، ونعجب من هذا عجباً، ولكننا نمر على قول الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50] أين أصحاب النار؟ في أسفل سافلين، وأين أصحاب الجنة؟ في أعلى عليين، والبعد بينهما أبعد مما بين القارات، ومع ذلك بقدرة الله وأمر الله يجعل أهل الجنة يرون أهل النار: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف:47] أليست هذه من جوانب العظمة الإلهية؟ لقد وقفنا مندهشين متعجبين مستغربين أمام شيء يسير من صناعات البشر، ونقف أمامها بكل احترام، ولا ننظر إلى عظمة الله جل وعلا ودلائلها في الأنفس والكون: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
فيا معاشر المؤمنين! حينما أقول: إن الذنوب سبب الوهن الذي أصاب الأمة وحل بها، وما ذاك إلا أن الأمة مضت واستمرأت واستمرت على فعل الذنوب والمعاصي، دون إدراك لعظمة هذا الرب الذي تعصيه، ودون إدراك لحقيقة هذا الرب الذي تعصيه في عظمته وعلمه سبحانه وتعالى.
فيا معاشر الأحبة: لا شك أن من عصى الله جل وعلا فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، وأن المعاصي هي أعظم أسباب الوهن والضعف.
أليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب له أحد قواده يريد المدد لتدعيم جيش المسلمين قال: انظر جندك، هل فيهم عاصٍ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ إني لا أخشى على الجيش من عدوه، ولكن أخشى على الجيش من ذنوبه.
نعم إن الوهن الذي يصيب الأمة، لا يصيبها من أعدائها وإنما يصيبها من ذات أنفسها: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فتشوا أنفسكم انظروا جرائدكم انظروا إعلامكم انظروا تعليمكم انظروا حياتكم انظروا في مختلف مجالاتكم!! فما رأيتم فيه مخالفة لله ولرسوله فاعلموا أن ذلك سبب الوهن في الأمة.(223/5)
الحملات الإعلامية التي تعظم أعداء الله
الأمر الآخر من أسباب الوهن: الحملات الإعلامية المسعورة التي صنعت من الكفار أبطالاً لا يقهرون أبداً، وصنعت من أسلحة الأعداء سلاحاً لا يرده حتى قدر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله! نعم.
أصبح المسلمون يتعلقون بمقدار ما يملكون من القوة والعدد والعتاد، لا أقول هذا على مستوى عامتهم، بل أقول على مستوى البعض، حتى لا نعمم بشؤم القول، عند ذلك يدل هذا على أن حملة إعلامية وجهت للإعلام المعادي للأمة الإسلامية غرست في قلوبنا أن أعداءنا قوة لا تقهر، وأن سلاحهم مدمر لا يمكن أن يرد أبداً.
ولو كانت العقيدة حاضرة موجودة غير غائبة؛ لعلمنا أن الدعاء يرد مختلف الأسلحة وأدوات التدمير الشامل، لكن لما استحكمت الذنوب والمعاصي في النفوس ووافقت:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وافقت فراغاً وغيبة من حقائق العقيدة وتأملها، أصبحنا نظن أن بوسع أعدائنا أن يهلكونا في أي وقت يشاءون، ونسينا قول الله جل وعلا: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52] ليس من شرط هلكة الأعداء أن تنتهي أسلحتهم كما يظن أكثر البشر أن العدو لا يهلك إلا إذا انتهت أسلحته، بل إن الذي خلق البشر قادر على أن يحييهم وأن يهلكهم وأن يرفعهم، وأن يذلهم ويدمرهم، وقادر على أن يبقيهم، وأن يقلبهم ويخلف أحوالهم: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52].
هذا الأمر لا تعلمونه أنتم ولا أعلمه أنا ولا يعلمه حتى العلماء، عندما تتعلقون بالله يأتي ذلك الأمر.
يوم أن استحكمت هذه الحملة الإعلامية المسعورة من أعدائنا أصبحنا أكثر ضعفاً إلى جانب الضعف الذي بلغناه بما وقعنا فيه من الذنوب والمعاصي، والمصيبة فيما نسمعه من الصواريخ عابرات القارات، ومن أسلحة التدمير الشامل، والرءوس النووية، وتطوير صواريخ أسكود برءوس نووية كيماوية إلى غير ذلك من الحرب النفسية التي تجعل الإنسان حينما يسمع ذلك، يفتح صندوقه ويخرج بندقية صيد ويقول: هل هذه ترد صاروخ أسكود؟ هل هذه ترد أسلحة التدمير الشامل؟ هل هذه ترد؟ فمن شدة الحملة الشعواء على النفسية المسلمة أصبح الإنسان يقارن كلما وصل إليه الأعداء بمجرد ذاته ولا ينظر إلى قوة الله، التي ينبغي أن يتعلق بها، وبهذا استحكم في المسلمين داء عضال ألا وهو الهزيمة النفسية، والله كنا قديماً يوم أن نجلس ونتحدث ونقول: نسأل الله أن يأتي اليوم الذي يجعل شياطين الكفر أسرى في أيدي المسلمين، نسأل الله أن يأتي ذلك اليوم الذي يجعل عمالقة الإلحاد والضلالة أسرى وعبيداً للمسلمين، فيضحك أحدهم ويقول: هذا المجنون لا يملك إلا أربعمائة دبابة ويقول: نقاتل إسرائيل ونقاتل ونقاتل وغير ذلك.
نعم.
لأنه لا ينظر إلا إلى سلاح وسلاح، وبشر وبشر، وقوة بشرية بحتة أمام قوة بشرية بحتة، ولا ينظر إلى قوة الله جل وعلا.
بهذه الهجمة التي تسلطت على نفسية المسلمين، أحدثت الهزيمة والإحباط رغم الخطب والندوات والمحاضرات والكلمات واللقاءات.
يا أمة الإسلام! يا أمة العقيدة! القوة فيكِ، فالقرآن بين يديك، والسنة عندك، كيف تضعفين؟ صيحات القوة والعزة في نفوس الأمة آخر ما تبلغ، يقول بعض الناس: نعم، نحن أقوياء لكن أقنعوا الأعداء أننا أقوياء.
هزيمة نفسية، ومثال هذا يقال: إن هناك رجلاً مجنوناً وليس مجنوناً جنوناً كاملاً بل عنده عقدة نفسية، يظن أن نفسه حبة شعير.
ولذلك لا يرضى أن يدخل في بيته الدجاج والحمام؛ لأن الدجاج يأكل الشعير، ولا يمكن أن يزور أحداً عنده دجاج أو طيور أو حمام، فأخذوا يعالجونه في مصح نفسي لمدة ثلاث سنوات وبعد نهاية العلاج قابلوه قالوا: لعلك أدركت الآن أنك بشر فشفيت من هذه العقدة النفسية؟ قال: نعم.
الآن اقتنعت أنني بشر، لكن أقنعوا الدجاج والحمام.
هي نفس مصيبة المسلم المعاصر الذي يقول اقتنعت أنني قوي لكن أقنعوا الأعداء أنني قوي، إذا اقتنعت بشيء فليس من شرطه أن يقتنع به من يعاديك، هذه الحملة الإعلامية المسعورة التي جعلت أمة الإسلام تقيس قوتها بالمقاييس البشرية البحتة، فضعفت فيها العزة والقوة التي كتبها لها الله جل وعلا، وذلك بما كسبت أيدينا ويعفو ربنا عن كثير.
ولذلك تلاحظ أن أي حوار بين طرفين طرف أوروبي أو غربي وطرف شرقي، تجد الطرف الغربي أو الأوروبي يتحدث معك وأنت تقتنع قبله وتسلم بمعطيات الحديث والنقاش أنك تتحدث مع رجل أقوى منك، في جميع مجالاته، في إعلامه وفي اقتصاده، وفي قوته وفي مختلف إنتاجاته، هذه من أسباب الضعف والوهن الذي حل بأمة المسلمين.(223/6)
ضعف العقيدة في قلوب المسلمين
أيضاً سبب أستطيع أن أقول هو الأول وليس الثالث، ألا وهو: ضعف تمكن العقيدة في قلوب المسلمين، إذا كنا نقول: إن الوهن كما بينه صلى الله عليه وسلم هو حب الدنيا وكراهية الموت، فإن المسلم الذي يتعلق قلبه بالدنيا ويكره الموت، هذا مسلم قد غاب عن نفسه أو عن فكره أن الذي يميت هو الله، وأن الذي يحيي هو الله، وأن الذي يقسم العمر هو الله، وليست الدبابة أو الطائرة أو المدفع هي التي تقتلنا، وليست الرشاشات ولا المدافع ولا أسلحة التدمير الشامل أو الغازات الكيماوية هي التي تقتلنا، وإنما يقتلنا الأجل بأمر الله {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
إن نام عنك فكل طب نافع أو لم ينم فالطب من أذنابه
أخطر حالة حينما يكون الأجل مندفعاً عنها، قد تشفى بغير سبب، وقد تشفى بأدنى علاج، وإذا حضر الأجل ولو لم تكن مريضاً انقطع النفس وانتهت الحياة فوراً.
إذاً أيها الأحبة! لنعلم أن الذي يقتلنا هو الأجل، وليس الذي يقتلنا هو العدو أو السلاح، وأما ما خوفت به أمة الإسلام في هذا الزمان خاصة هذه الأيام.
ويخوفونك بالذين من دونه، وما من سلاح وصلت إليه علوم الحرب، وتقنية الحروب إلا وجرب في أفغانستان، ومع ذلك ما ضر ذلك الشعب ما جمع وألب حوله وضده، أطلقت غازات كيماوية على المجاهدين بـ أفغانستان، يأتي المجاهد الأفغاني البسيط ويبل البطانية ويلفها هكذا ويحمل الرشاش، ويمر بين الغاز حتى يصل إلى الجبهة التي يريد أن يقاتل فيها، لماذا لا يموت هذا الأفغاني؟ لأن أجله لم يحضر، أحد الشباب يخبرني عن رجل من المجاهدين من جزر القمر اسمه أبو زيد القمري، يقول: كان في منطقة من مناطق الجهاد وهي منطقة مكشوفة، والمنطقة المكشوفة تكون نسبة التحرك والحرية فيها صعبة جداً قال: فكان يأتي في الليل ويحفر خندقاً برميلياً -يحفر في الأرض ما يكفي بأن يوضع فيه برميل أو ما يشبه حجم برميل- ويجمع فيه قذائف الآر بي جي التي هي مضادات الدبابات، ويضعها في هذا الخندق، ويقف على ممر طريق الدبابات فإذا دنت الدبابة خرج وقد ركب قذيفة الآر بي جي وأخذ يضرب بها، ويحلفون بالله أن الدبابة تضرب باتجاهه، فتذهب القذائف يميناً ويساراً؛ لأنه لم يحضر أجله، ولذلك لا تصيبه القذيفة، ويبعدها الله عنه، أهذا ضعفٌ في تحديد الهدف بالنسبة لجهاز الرادار في الدبابة؟ لا.
جهاز الرادار يضع الهدف في وسط الصليب، ثم اضرب وإن كنت ملتفتاً يميناً أو شمالاً.
يقول: ذات يوم خرج أبو زيد القمري وإذ بدبابتين، فضرب الأولى، واحتاج وقتاً ثانياً لكي يركب القذيفة، وإذ بالدبابة الثانية توجه فوهتها إلى صدره وبطنه، -أتظننه رجع إلى برميله وخندقه؟ لا.
وإنما أخذ يتلو كلام الله جل وعلا: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]- فضربت الدبابة الضربة الأولى وإذ بها تمر من جواره ولم تصب منه شيئاً، ثم ركب قذيفة الآر بي جي ووجهها على برج الدبابة، فإذا بالدبابة تتفجر وقائدها يموت، لماذا؟ -هذا مثال بسيط عما يحدث لإخواننا في أفغانستان - لأن الآجال هي التي تقتل وليس الدبابة أو الطائرة أو القنابل العنقودية أو قنابل النابالم، أو غير ذلك.
والله إنه لا يقتلك إلا أجلك، فإذا حضر الأجل عند ذلك لو اجتمع أطباء الأرض والسماء، والجن والإنس، وكان بعضهم لبعض ظهيراً، ما استطاعوا أن يؤخروا من أجلك لحظة، لما حضرت شاه إيران الوفاة، حضر ستة وثلاثون طبيباً استشارياً وأحضروا مجموعة من الأجهزة والمغذيات، وأجهزة تنشيط ضربات القلب، وفي هذه الفوضى من الآراء والخلافات والأسباب والإسعافات يأتيه ملك الموت، فيقبض روح هذا الهالك ويدعهم على جثته يختلفون.
إذاً يا أحباب: حينما تغيب هذه المعالم من نفوس الأمة المسلمة عند ذلك يخشون الموت.
الكافر يحب الحياة حباً عظيماً، وهو مستعد أن يتنازل عن كل شيء حتى عن كرامته وعرضه، وعن دينه إن كان له دين أو عقيدة في سبيل أن يبقى حياً، أما المسلم فلا، لأن الله جل وعلا علم أمة الإسلام {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] لماذا أتنازل في لحظة قد تكون لحظة الحياة وليست لحظة الموت، حينما يقف المسلم في مواجهة مع الكافر مواجهة عسكرية ينبغي للمسلم أن يعلم أن هذه المواجهة ليست هي الموت، إنما هي موقف من المواقف التي أمر الله أن نقف فيها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] من مواقف الإعداد والمواجهة والمقابلة، فإذا كان المسلم لا يهاب الموت ويعلم أن الموت بيد الله، ويعلم قول الله جل وعلا في شأن أولئك المنافقين الذين ثبطوا وأرجفوا وقالوا في قتلى أحد: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] كان المنافقون يقولون: لا داعي لأن نخرج لمواجهة الكفار خارج المدينة، والمتحمسون من الصحابة والمجاهدين يقولون: نخرج لملاقاة الأعداء، فكتب الله ما كتب، يقول الله جل وعلا مقرعاً وموبخاً أولئك المنافقين: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي إنسان تكتب له الوفاة، فإنه حتى ولو كان نائماً في بيته فإنه يخرج إلى مصرعه ومكان مهلكه في المعركة فيقف فيه، فتأتي قذيفته أو تأتيه الرصاصة أو الضربة التي تميته، ويوم أن غاب هذا المعلم عن نفوس المسلمين تعلقوا بالدنيا، وظنوا أن بالتعلق فيها الحياة، وخافوا من المواجهة، ومن الجهاد ومن الحرب، وظنوا أن في هذا الموت وليس هذا بصحيح أبداً، فليس الجبناء أطول الناس عمراً، وليس الشجعان أقل الناس عمراً.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
ترددت استبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدما
قال خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة: [والله ما تخلفت عن معركة أو غزوة أو سرية بعد أن آمنت، والله ما في بدني هذا موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، ألا لا نامت أعين الجبناء] لو كان الإقدام والحرب والمعارك هي التي تأتي بالموت، لمات أول الناس خالد بن الوليد؛ لأنه كان أشجع القوم.
فيا أحبتنا! حينما غاب هذا المعلم عن نفوس المسلمين تعلقوا بالدنيا وخافوا من الموت، فأصابهم الوهن الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (حب الدنيا وكراهية الموت).
وماذا عن حب الدنيا -التعلق بالمال- نظن أن الجبن والخوف هو الذي يجعلنا نحافظ على ممتلكاتنا وأموالنا، انظروا على سبيل المثال ما حل بإخواننا في الكويت، أسأل الله أن يعجل عودتهم أعزاء مكرمين إلى بلادهم، ليست الحروب والمواجهات، وليست الشجاعة والإقدام هي التي تجعل المال أو الثروة تهلك، قد يكون هلاك المال والثروة بتسلط عدو خارجي، فجاءوا إلى الأموال وأخذوها من صناديقها وخزائنها ومخازنها.
إذاً: لم يكن هذا البعد ولم يكن ذلك التأخر سبباً في الحفاظ على الثروة والمال، إنما لما كتب الله ما كتب وقعت الواقعة جملة واحدة، وإذا أراد الله أن يتم أمراً سلب ذوي العقول عقولهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يوم أن غابت هذه المعالم وهي أن الرزق والأجل (حب الدنيا وكراهية الموت) - بيد الله وأنها بأمر الله، ولا يقسم منها شيء إلا الله (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
فيا أيها الأحبة! يوم أن غابت نفوسنا عن هذا الأمر أصبح الوهن متحكماً في نفوسنا.(223/7)
ضعف الولاء والبراء
السبب الرابع من أسباب الوهن: وقد ذكرنا من أسباب الوهن: - السبب الأول: الذنوب والمعاصي وعدم المبادرة بالتوبة منها.
- السبب الثاني: الحملة الإعلامية التي انطلت على المسلمين وظنوا أن الأعداء قوة لا تقهر.
السبب الثالث: غيبة معالم جلية من العقيدة ألا وهي الأجل والرزق أنها بيد الله جل وعلا، وهذه النقطة الثالثة، لا يكفيها وقفة ولا تكفيها محاضرات؛ لأن القرآن مليء ببيانها وشأنها.
- السبب الرابع: ضعف الولاء والبراء.
إن أمة من أمم المسلمين قد تدعم أمة أخرى اتقاء شرها، وليس هذا الأمر فيه ولاء أو براء وليس هذا البذل مبنياً على منهج إسلامي قويم واضح وجلي، وعند ذلك تجد الأمة التي تدعمها تنقلب عليك في أي لحظة من اللحظات، أنت تظن أنك تقوى بها فإذا بك تجد الخيانة والإخلاف والغدر من هذه الأمة التي أنت دعمتها.
إذاً فحينما يحصل ذلك لا تجد في نفسك إلا ضعفاً ووهناً، ويوم أن يكون البذل والدعم لله، أن نعطي لله، وأن نمنع لله، وأن ندعم لله، عند ذلك نكون قد أعطينا ومنعنا وبذلنا أمة تقف معنا في كل موقف يرضي الله جل وعلا، وتقف معنا في كل موقف قد يُعتدى فيه على أعراض المسلمين أو حرماتهم، هذه مسألة وليس بعيب أن نطرحها لبيانها وإيضاحها، ولا يفهم البعض أنني أقصد هنا الاستعانة بقوات أجنبية، هذه موضعها آخر، وانتهت وحسمت بقول الثقات والأتقياء، والبررة من علماء الأمة، فإن الذي يخبط أو يتكلم في قضية الاستعانة بالقوات الأجنبية أقول: ليس لكلامه موقع بعد أن حُسم الأمر بكلام هيئة كبار العلماء، ومجلس القضاء الأعلى، فليس هذا مقصد حديثنا، حتى لا تختلط القضية بين مسألتين، أقول: إن من أسباب الوهن أن تعتمد على قوة لا تعضدها أو تدعمها لله وفي الله، خاصة إذا كانت هذه الأمة تقوم على منهج لا يرضي الله جل وعلا.
هذه من أخطر الأمور؛ لأن من تعلق بشيء وكل إليه، فإذا تعلقنا بالله جل وعلا فنعم الوكيل، وإذا تعلقت الأمة بغير الله، فقد تعلقت بضعف وخزي وخيبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعلى أية حال حينما نتحدث عن أمور في مجتمعنا أو في غير مجتمعنا فإنما هو حديث بيان النفس، وما ينبغي لنا أن نتخذه من المواقف الإيجابية، وحسب المؤمن أن يعتبر، وأن يأخذ الدروس والعظات في كل حياته ومواقفه.
أقف عند هذا الحد -أيها الأحبة- فيما يتعلق ببيان بعض أسباب الوهن التي وقعت في الأمة وعلاجها واضح، وهو ترك الذنوب والمعاصي والبراءة منها، والمبادرة بالتوبة إلى الله منها، والإقبال على الله جل وعلا.
أما قضية الحملة الإعلامية المسعورة ضد المسلمين: هذه يمكن أن نستلهم ما يناقضها وأن نفهم ما يفندها من خلال إعلامنا ومن خلال مجالاتنا، ومن خلال مختلف الوسائل التي تبين أن الأعداء وإن اجتمعوا فإنهم لا يقضون علينا بشيء لم يكتبه الله جل وعلا، وإنما يقضى علينا بما كتبه الله.
الأمر الثالث: قضية العقيدة، أن نجدد فهم العقيدة في القلوب.
الأمر الأخير: أن نعرف من هم أصدقاء أمة الإسلام، ومن هم إخواننا في الإسلام، ومن هم أحبابنا في الإسلام الذين يقاتلون في سبيل الله، والذين يقاتلون لإعلاء كلمة الله، والذين يقفون معنا جنباً إلى جنب في أي أمر يصيب أمة الإسلام، أما أن نظن أن كل من يتقى شره قد ينفع، فهذا ليس بقاعدة مطردة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على محمد.(223/8)
الأسئلة(223/9)
شغل الأوقات بمتابعة الأخبار
السؤال
البعض من الناس يشغلون وقتهم كله بتتبع الأخبار والصحف، وقد تشغلهم عن الصلاة أو تؤخرهم عنها، فنرجو من فضيلتكم التذكير بأهمية الصلاة والدعاء، حيث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؟
الجواب
أولئك قد يصدق عليهم شيء من قول الله جل وعلا: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] والله كل هؤلاء الذين اشتروا الراديوهات، وكل الذين سمعوا الأخبار وكل الذين تابعوا التحليلات ما قدموا خطوة ولا أخروا خطوة، لكن استفاد أصحاب الراديوهات، لأن أولئك تعلقوا كثيراً بالتصريحات، ماذا يقول فلان؟ مبادرة خافير بيريز ديكويلار هل تمت أم لا؟ هل نفعت أم لم تنفع؟ قمة بوش وجورباتشوف هل أصلحت شيئاً أم لم تصلح؟ والناس ينتظرون النتيجة أن تحل بأيدي البشر؛ لا والله {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52].
فيا إخواني: بدلاً من أن نصرف في شراء الراديوهات هذه الأموال نتصدق بها؛ لأن الصدقة ترفع البلاء، وتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء، وحاجتنا إلى أوقات ضيعناها، لندن تمدد ساعتين إضافي، ومونت كارلو تمدد، وحاجتنا والله ولو لجزء من هذا الوقت حاجة ضرورية في أن نصرفه في الدعاء والتضرع إلى الله جل وعلا.
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء
والله مصيبة الأمة في هذه الضلالة والجهالة، وإذا لم تتوجه الأمة إلى الله وتبادر بالفزع والضراعة إلى الله فمتى تبادر ومتى تتوجه إلى الله؟!(223/10)
نصيحة للمغرورين بأنفسهم
السؤال
كما ذكرت جزاك الله خيراً يعتقد بعض الناس بأنهم غير مقصودين إذا ذكرت الذنوب والمعاصي، وكما يقول أنه عاشر بعض هؤلاء واقترب منهم ووجدهم يرتكبون الكثير منها، من غيبة وحسد لبعض طلبة العلم وغير ذلك من المعاصي الغير ظاهرة، فنرجو توجيه نصيحة لهؤلاء؟
الجواب
الذنوب تختلف، ولكن هناك ذنوب إذا أصر عليها العبد أصبحت كبائر، وكل ذنب تصر عليه يكون من الكبائر، وكل ذنب تتوب منه فإن التوبة بمن الله تجب ما قبلها، ولكن أقول بالنسبة للغيبة والنميمة، فما رأيت ذنباً أخبث من هذا، نسأل الله أن يجنبني وإياكم منه، تعرفون الغيبة والنميمة ما وضعها؟ رجل عنده صندوق يصلي الفجر مع الجماعة ويضع فيه حسنات، ويصلي الضحى أو يتصدق ويضع فيه حسنات، ويصلي الظهر ويضع فيه حسنات، ويصلي العصر ويضع فيه حسنات، ويضع فيه حسنات صلاة المغرب والعشاء، يعني صندوقه امتلأ بالحسنات التي تحققت له بسبب العبادات والصلوات، وبعد صلاة العشاء يجلس في مجلس فتسمعه يقول: لا تدري ماذا فعل فلان؟ فيه وفيه، كأنما أدخل يده في هذا الصندوق، وحمل وقراً عظيماً وأعطاه مجموعة من حسناته، ثم انتهينا من صفحة فلان، هات فلان الثاني، وكذلك أخذنا مجموعة من الحسنات وأعطيناه إياها، فما قمنا من المجلس إلا والصناديق التي جمعناها وملئت بالحسنات وزعناها وفرقناها على فلان وعلان الذين تكلمنا في أعراضهم ولا حول ولا قوة إلا في الله.(223/11)
دعوة المسلمين للتبرع لإخوانهم الأفغان
السؤال
لقد تأثر الجهاد الأفغاني بالأحداث الأخيرة في الخليج حيث انقطع ما يرد من الكويت وغيرها، وانشغل الناس عن إخوانهم هناك، لذا نرجو من فضيلتكم توجيه دعوة وحث المسلمين للتبرع لإخوانهم ومساعدتهم؟
الجواب
كنا نظن أنه عندما حصلت هذه الواقعة أن يتضاعف دعم المجاهدين لعلنا بدعم المجاهدين -الصدقة والبذل في سبيل الله- يدفع عنا البلاء الذي نحن فيه، وإذ بالنفوس تشح ويصيبها الهلع والفزع، ويقع فيها قول الله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] أصبح الناس لا يرون أمامهم إلا الفقر وانقطاع الأرزاق والأغذية من الأسواق، والذين تعودوا البذل والصدقة في سبيل الله ما عادوا إلا القليل؛ لأن منهم من أخذ أمواله يجمعها ويقول: خل قرشك الأبيض ليومك الأسود، ينتظرون اليوم الأسود، خل القرش الأبيض يدفع عنك اليوم الأسود، والكلام الصحيح أن تتصدق وأن تبذل في سبيل الله لكي يدفع عنك البلاء فالله الله يا إخواني! لا تنسوا المجاهدين، لا تنسوا المجاهدين، والله إن قامت للمجاهدين في أفغانستان دولة مسلمة سنية والجهاد ما قام إلا لأجل هذا، والله إن هذا سيلخبط حسابات العالم، وسيلخبط حسابات الدول الكبرى التي ترسم مخططاتها لضرب المسلمين، والله إذا قامت دولة الإسلام في أفغانستان سيكون هناك كماشة في مفترق الطرق، تكون حجر عثرة أمام أعداء الإسلام، أفغانستان بين ثلاثي، بين المد الشيعي في إيران، والمد الوثني في الهند، والمد الإلحادي الروسي في الاتحاد السوفيتي، وحينما نغرس دولة إسلامية سنية بين ثلاث جوانب وثنية وشيعية وإلحادية، سيكون هناك صمام أمان يحفظ تقدم أي قوة غاشمة من هذه القوى.(223/12)
ظاهرة التأخر عن صلاة الفجر
السؤال
من مظاهر الوهن الذي نلاحظه على البعض التأخر عن صلاة الفجر، فما توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
لا شك أن التأخر عن صلاة الفجر ذنب من الذنوب ومعصية من المعاصي التي من شأنها إحداث الوهن والضعف في حياة المسلم والمسلمين أجمعين.
أقول: من واجبه أن يتقي الله جل وعلا، وأن يبادر بشكر نعم الله سبحانه وتعالى، وألا يضيع فريضة وهو على صحة وعافية، هل أنت مشلول؟ هل أنت معاق؟ هل أنت في مستشفى النقاهة؟ هل أنت لا تستطيع الوصول إلى المسجد؟ ما الذي بك؟ أتقول إن الذي بي هو السهر في الليل، ومشاهدة الأفلام أو سماع الملاهي، أو النوم متأخراً بالحديث والسواليف؟ وتجعلها مبرراً لترك صلاة الفجر، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] لما حدث هذا البأس، كنا نظن أن المساجد سوف تمتلئ وسنكون مثلما نكون في رمضان، فالذي لا تراه في المسجد سوف تراه، والإنسان الذي عنده ذنوب ومعاصٍ سيقلع ويتوب وسوف يغير، وإذ بالناس لم يغيروا شيئاً اللهم إلا أنهم اشتروا الراديوهات فقط، القليل والله يا إخوان بمجموع الأمة هم الذين يمكن أن ترى فيهم نوع تقى، وإلا فالأمور كما هي، لكن نسأل الله أن يمن على ولاة أمرنا بأن يغيروا {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فإننا لا نستطيع أن نغير الخوف والفزع إلا إذا غيرنا من المعاصي إلى الطاعات.(223/13)
الأسباب والمسببات في أقدار الله
السؤال
هناك إشكال: كيف نجمع بين كون الدبابات والصواريخ ليست سبب موت مع أن الموت في الواقع أو المشاهد يقع بسببها؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، الذين يواجهون الصواريخ والدبابات عدد كبير، ومنهم من يموت بأجله ومنهم من يخطئه، أي: لا يموت لأن أجله لم يحضر، فهذا الكلام الذي تقوله ليس بصحيح، والشاهد على ذلك ما أخبرت لك بمثال في أفغانستان، ولما قال عبد الله عزام رحمه الله رحمة واسعة، وجعله في جنات النعيم، وغفر للذين نالوا من عرضه وتكلموا فيه لما كتب كتابه آيات الرحمن في جهاد الأفغان، قالوا: هذه خرافات، وهذا ليس بصحيح، بل كله آيات وكرامات تدل على أن من لم يصبه الأجل، فإن الموت لا يأتيه، عدد من المجاهدين ربما وجه الرشاش عليه وينفض ثيابه والرصاص يسقط منها، يا إخوان! قد يكون غريباً وعجيباً عليكم، لكن الذين يتعاملون مع الله، ومع قدرة الله التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، والله لا يمكن أن يكون هذا غريباً أو صعباً عليهم.(223/14)
الفرق بين حب الدنيا والسعي لتحصيل قدر منها
السؤال
ما وجه الجمع بين قول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (حب الدنيا وكراهية الموت) في تفسير الوهن؟
الجواب
ليس هناك تعارض، الجمع يكون بين أمرين متعارضين، لا يوجد هنا تعارض، الوهن هو: (حب الدنيا وكراهية الموت) وليس قول الله: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ} [القصص:77] يدل على أنك تحب الدنيا، بالعكس بل يدل على أنك تكون قنوعاً تأخذ من الدنيا قدر كفايتك، ولا تتعلق بها، وإن سعيت في جمعها فتجعلها في يدك، ولا تجعلها في قلبك، وتجعلها خادمة لك ولا تكون خادماً لها، وأن تسخرها في طاعة الله، ولا تسخر نفسك لأجلها، فليس هنا أي تعارض أبداً.(223/15)
استمرار الجهاد في فلسطين
السؤال
فضيلة الشيخ: نحن نعلم أن مشكلة فلسطين هي المشكلة الرئيسية، فهل تظن أن سبب ما حل لإخواننا في الكويت وغيرها من المصائب، هي لأننا أدرنا وجوهنا وأقفلنا باب الجهاد في فلسطين؟
الجواب
والله يا أخي! ما أدرنا وجوهنا، ليس بصحيح هذا، والله ما نسينا فلسطين لا بالدعاء ولا بالبذل بما نستطيعه، ولكن شتان بين أفغانستان وفلسطين، فلسطين أخذت زمناً تحت منظمات كافرة، ومنظمات علمانية، ومنظمات وإن انتسبت إلى الإسلام فإنها لم ترفع الجهاد بصدق، إلا ما نراه أخيراً من منظمة حماس، وهي التي يجب أن تدعم، خاصة وأن أغلب الدعم الذي يقدم إلى منظمة حماس من مسلمي الكويت، والآن الكويت ذهبت فمن يدعم حماس؟ الأمل في الله ثم فيكم كبير، لكن أقول: إن عدداً من الناس حاولوا أن يقتاتوا وأن يجمعوا المال باسم فلسطين ولكن حقيقة الأمر أننا لم نعرف في فلسطين جهاداً صادقاً إلا من منظمة حماس، أما منظمة أيلول الأزرق، وأيلول الأحمر والصياح والأغاني والأناشيد فوق التل وتحت التل وجنب التل، ولم نرَ شيئاً، وبعض رجالاتها يتمنى أن يقابل الرئيس الفلاني الكافر، ويترجى أن يقابل الرئيس الفلاني الكافر، ولا أبلغ مما قال سياف رئيس وزراء المجاهدين عندما جاءه أحد المسئولين الفلسطينيين يريد مقابلته من أجل واسطة لحل القضية الأفغانية، قال قولوا له: إني أكره أن أنظر إلى وجهه فضلاً عن أن أقابله.
قالوا: يريد مقابلتك في الفندق، قال: قضيتنا تحل في الخنادق، ولا تحل في الفنادق.
حينما توجهت فلسطين أو هذه المنظمة الأخيرة منظمة حماس للجهاد في سبيل الله، تعلقت بها قلوب المسلمين وتحركت تبرعات المسلمين لها، وأما ما سوى ذلك فلسنا أغبياء، ولا يمكن أن تنطلي علينا الحيل، حتى وإن تكلموا في الإذاعة، فلا يمكن أن نصدق حتى نرى البراهين، لماذا صدقنا الجهاد في أفغانستان؟ لأننا رأينا البراهين، رأينا العزة في أبهى صورها، ورأينا البسالة والتضحية وقيام الليل والصيام والدعاء والقنوت والرباط في سبيل الله والتعلق بالله، براهين قوية على صدق هذا الجهاد.
أما ما يتعلق قديماً بـ فلسطين فشأنها شأن آخر، لكن أقول: بالنسبة لما حدث أخيراً أو مؤخراً من منظمة حماس، فوالله إننا نرجو أن يوفقها الله جل وعلا إلى أن تكون سبباً لتحرير المسجد الأقصى، وأقول: بالمناسبة ليس كل الفلسطينيين أيدوا ما حصل من العراق على الكويت أو ما يسمونه بالحملات الإعلامية ضد السعودية، افهموا هذا جيداً ولذلك فإنني أقول: إننا نرجو من تلك الفئة التي لم تخدع ولم تنطل عليها تلك الشعارات البعثية الزائفة؛ نرجو فيها خيراً كثيراً بعد الله جل وعلا.(223/16)
تخزين المواد الغذائية في المنازل لا ينافي التوكل
السؤال
بعض الناس أو بعض العلماء بالأصح انتقدوا الذين يخزنون المواد الغذائية، فهل هذا ينافي التوكل نرجو التوجيه؟
الجواب
جمع الرز لا ينافي التوكل، ولم نجد في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، باب جمع الرز ينافي التوكل، هذا ما رأيناه، لكن أقول: إن الرازق هو الله، والأمر بيد الله وإلى الله أولاً وأخيراً، وليس عيباً أن تشتري لك كيساً أو كيسين أو ثلاثة؛ لكن العيب الذي حصل من الأمة أنهم بدلاً من أن يفزعوا إلى الله، فزعوا إلى الرز والدولار، فهذا هو العيب الذي لوحظ على كثير من المسلمين.
يا إخوان! كلمة أخيرة أقولها لكم وأوجهها لإخواني الكويتيين: الأمل في الله، ثم في مساعي قادة المسلمين أن يحققوا لها نصراً وأن ترد الكويت إلى أهلها، هذا ما نرجوه ونسأل الله أن يحققه، لكن هل نظن أن المبادرات والاجتماعات وهيئة الأمم ومحكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن سترد الكويت؟ لا.
والله لا ترد الكويت إلا بالجهاد في سبيل الله، وكما يقول سياف: إن الكفار لن يضحوا بأولادهم من أجل أولادكم، ولن يضحوا بأموالهم من أجل أموالكم، وهذا الكلام صحيح، هل نظن أن كافراً يقول الله فيه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] هل نظن أن هذا سوف يضحي بنفسه من أجل أن أحيا أنا أو تحيا أنت؟ لا والله.
إذاً: فلا بد أن نعد للجهاد في سبيل الله، وأقول هذا لإخواني الكويتيين، وأقول لهم أيضاً: إن الشباب المسلم في المملكة العربية السعودية وفي قطر وفي الإمارات ومختلف دول الخليج الذين قتلوا واستشهدوا وماتوا في أفغانستان تلبية لنداء الجهاد، هل سيبخلون أن يجاهدوا في الكويت؟ لا والله، لكن إذا رفعت راية الجهاد منظمة مرتبة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} [النساء:71] جمع ثبه وهي: الفئة الصغيرة المنظمة {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] الكويت تعود لنا بالجهاد في سبيل الله، وإذا قُدر أن القوات المشتركة كان لها دور في عودة الكويت على الأقل نمر رافعي الرأس في مقدمة الركب، ونقول: نحن الذين بادرنا برفع السلاح لتحرير الأرض والبلاد، لكن يوم أن نقعد نكون في أحد أمرين: لو حررت البلاد من قبل القوات المشتركة ما هو وجهي ووجهك ونحن نشعر أن غيري وغيرك جلسوا وغيرهم طهروها من الأعداء، والله ما لك وجه ترفعه، لأنك جلست مكتوف الأيدي وغيرك هو الذي حرر لك بلادك، يعني: لو أن بيتك دخل فيه لص وخرجت من البيت واستدعيت جارك، فمالك أي كرامة وقوة أمام جارك هذا؛ لأن جارك هو الذي أخرج اللص، أنت لم تخرجه، وإنما جارك هو الذي أخرج اللص.
فأقول: إن الكويت لن تعود إلا برفع راية الجهاد في سبيل الله، فعلى الإخوة الكويتيين أن ينتبهوا لهذا الأمر وأن يتصلوا بالشباب الكويتيين في مختلف المدارس والمجمعات، وأن يرتبوا دعوتهم إلى الله، وأن يعتنوا بهم في سماعهم وفي قراءتهم وفي مناهجهم وأن يتعاونوا معهم وأن يحدثوهم بالجهاد {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] وأن يعلموهم فضل الرباط، فضل الشهادة في سبيل الله، وفقه الجهاد وآيات الجهاد وأحاديث الجهاد.
لنا فرس لم تنجب الخيل مثلها فتحنا بها الدنيا يقال لها الردى
حينما نضع الموت على الأكتاف والأكف، ونقابل أقواماً يحبون الحياة، عند ذلك يستعدون أن يقدموا كل ما نريده حتى لا يتفجر الجهاد في المنطقة، فلا سبيل لنا إلا بالجهاد في سبيل الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(223/17)
أيها الشاب! من أنت؟!
أيها الشاب! من أنت؟! موضوع جميل وشيق تناول فيه الشيخ موضوعات متعلقة بالشباب، تشحد الهمم وتوجه العقول، ومن تلك المواضيع: الإرادة تبني الرجال العبادة هي الغاية من الخلق وزن المسلم لا يقدر بمال طريق الجنة ولقاء الأحبة من الرسول وصحبه دور المسلم في هذه الحياة ماذا قدمنا أيها الشاب للإسلام مع مواضيع أخرى تناثرت بين طيات هذا الدرس.(224/1)
الإنسان بين البداية والنهاية
الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعَبَدَ ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! أحمد الله الذي جمعني بكم على اجتماع طاعة ورضوان من الله سبحانه وتعالى في حلقة من حلق الذكر، في بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى، ما الذي جمعكم؟ ما الذي جاء بكم؟ ما الذي أخرجكم من بيوتكم؟ ألستم ترجون رحمة الله؟ ألستم تريدون ثواب الله؟ ألستم تسألون الله العتق من النار؟ ما الذي جاء بكم؟ ألستم تريدون رفعة في درجات الآخرة، وقرباً من النبي صلى الله عليه وسلم يوم تردون على حوضه الشريف صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي جاء بكم؟ ألستم تريدون زيادة من الهدى أو نوراً من اليقين؟ أبشروا فإن الله كريم، والله لو اجتمع نصف هذا الناس عند ملك من الملوك أو غني من الأغنياء أو ثري من الأثرياء يريدونه شيئاً يقدر عليه، ولا ينقص من ماله إلا الشيء اليسير أو نصف اليسير أو أكثر من اليسير لأعطاهم، فما بالكم وأنتم تجتمعون في هذا المكان تريدون وجه الله، تسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، والله جل وعلا لو أعطى كل واحد منكم مسألته، وتاب عليكم، وغفر لكم، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، فأحسنوا الظن بالله، كما في الحديث: (أنا عند ظنِّ عبدي، وأنا مع عبدي إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه).
حديثنا أيها الإخوة عن الشباب، والشباب والله هم نعمة أو نقمة، هم مصيبة أو طامة أو خيرات تتدفق، أو أشجار تزهر وثمرات تعطي عطاءً طيباً في كل زمان ومكان.
الشباب إما بلاء على الأمم وإما دفاع وحصن منيع عن الأمم، وذلك بقدر ما يلتفت إليه الشباب، وبقدر ما يعتني به الشباب، وبحسب ما يتربى عليه الشباب، فإن تربوا على خير وجدت خيراً، وإن تربوا على غفلة وجدت غفلة، وإن تربوا على لهو وجدت لهواً.
أيها الشاب: أخاطب كل واحد فيكم الآن، وليس الشاب هو من كان في العشرين أو في الثلاثين، بل حتى أهل الأربعين، ومن شاب بدنه فإن عقله لا يزال شاباً نشيطاً بإذن الله في طاعة الله سبحانه وتعالى، أقول: أيها الشاب من أنت؟
أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
أبدأ بكم بالمعاد قبل البداية، وبالنهاية قبل الانطلاقة، أيها الشاب من أنت وقت البداية، ومن أنت وقت النهاية؟! كل واحد منكم نزل من بطن أمه وهو يبكي، أم أن أحدكم نزل من بطن أمه وهو يخطب، أو أن أحدكم نزل من بطن أمه وهو يضحك؟ لا، كل واحد منكم نزل من بطن أمه وهو يبكي.
فالسؤال الآن: نزلت من بطن أمك إلى الدنيا وأنت تبكي، فإذا نزلت من بطن الدنيا إلى القبر فهل ستنزل ضاحكاً، أم ستنزل باكياً متأسفاً على المعاصي والمعازف والملاهي والفواحش والسيئات التي اقترفتها وأصررت عليها واستمريت على فعلها؟ أخي أيها الشاب: الله جل وعلا خلقك في أحسن تقويم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين:1 - 2] يقسم الله بهذه جميعاً {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
والله جل وعلا كرمك وجعل لك منزلة تفوق بها سائر البهائم فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70].
والله جل وعلا على لسان نبيه جعل حرمة عظيمة لدمك، وحرمة لعرضك، وحرمة لمالك، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فقال: (ما أعظم حرمتك عند الله! وإن المسلم أعظم حرمة منك عند الله جل وعلا) الكعبة المشرفة أول بيت وضع للناس! حرمتك أيها الشاب ومنزلتك وعصمة دمك ومالك وعرضك بمنزلة تفوق منزلة الكعبة عند الله جل وعلا، لكن متى؟ إذا كنت عبداً لله!! أما إذا كنت عبداً للهوى، وللشيطان، وللأفلام، وللمسلسلات، وللملاهي، وللأغاني، ولسهرات الليل، ولكل معصية فلست كذلك؛ لأن الله جل وعلا ذكر شأن الإنسان في القرآن على أحوال، فتارة يذكر الإنسان بأنه مكرم، وتارة يذكر بأنه عزيز، وتارة يذكر بأنه في منزلة عالية، وتارة يذكر أنه في الحضيض بل أقل درجة من البهائم، قال تعالى في شأن الكفار ومن أعرض عن ذكره: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وقال تعالى في شأن من أعرض عن ذكر الله وترك آيات الله وانسلخ منها: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
فأنت أيها الإنسان إما أن تكون مثلاً لأعلى الأمور وأَجَلَّها وأرفعها منزلة، وإما أن تكون مثلاً لأهونها وأقلها مكانة، أنت إما نعمة أو نقمة:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر(224/2)
الإرادة تبني الرجال
لو أن الإنسان اجتهد أن يكون نافعاً ومؤثراً وقائداً لاستطاع أن يقدم خيراً كثيراً.
أبو بكر الصديق أليس شاباً من الشباب، أليس إنساناً من بني الإنسانية، ومع ذلك انظروا إلى فضله ومنزلته وبركته على دين الإسلام.
عمر بن الخطاب أليس شاباً من الشباب، أليس رجلاً من الرجال، انظروا إلى مكانته ومنزلته.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، محمد بن عبد الوهاب، قادة الإسلام، المصلحون والدعاة أليسوا رجالاً وشباباً، أليسوا مثلكم، لكل واحد منهم عينان، وله أنف واحد، وله أذنان، وله يدان ورجلان، ما تميز عنكم بشيء، ولكن تميزت القلوب؛ فاختلفت الأفعال؛ وتباين السلوك.
إذاً: نحن باستطاعتنا أن نكون كهؤلاء القادة.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، أليس رجلاً من الرجال وفي نشأته كان شاباً من الشباب! انظروا بركة فضله وعلمه على العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً! الشيخ محمد بن صالح العثيمين أليس شاباً من الشباب ورجلاً من الرجال! انظروا بركة علمه وثمار خيره.
الشيخ سلمان العودة أليس شاباً من الشباب! انظروا ثمرة محاضراته ونتيجة علمه وفقهه.
إذاً أيها الإخوة: لا يوجد ماء معين من شربه كان عالماً ومن لم يشربه أصبح جاهلاً.
لا يوجد (بشت) أو (مشلح) معين من لبسه كان عالماً، ومن لم يلبسه فهو من الجهلاء.
لا يوجد طعام معين يأكله فئة فيكونون علماء، وتُحرَمَه أخرى فتكون من الجهلاء، لا.
المسألة مسألة إرادة، أنت أيها الشاب عندك إرادة فإرادتك هذه هي التي تقول لنا: من أنت؟ إرادتك إن كانت في العلم فأنت عالم، وإن كانت في الدعوة فأنت داعية، وإن كانت في الجهاد فأنت مجاهد، وإن كانت في الشفاعة فأنت تقضي حوائج الآخرين، وإن كانت في حب الخير فأنت برٌّ رءوف رحيم، وإن كانت في كل ما يرضي الله، فأنت عبد من عباد الله جل وعلا.
وإرادتك إن كانت في حب الملاهي فأنت مطرب على وتر، وإن كانت في حب المسلسلات فأنت رجل تحفظ ألوان الأفلام ومختلف المسلسلات، وتحفظ نجوم السينما وأسماء الممثلين والممثلات والراقصين والراقصات.
إرادتك إن كانت تفكر في السفر إلى الخارج وتتخيل الراقصين والراقصات في الملاهي الليلية، في النوادي الحمراء، في الخلوات المختلطة، في البارات الممتلئة بالمشروبات المحرمة، فأنت عربيد سكير ماجن لا وزن لك، ولا كرامة لك عند الله ولا عند الخلق أجمعين.
إرادتك هي التي تحدد من أنت، تقول لنا: من أنا؟ نقول لك: أنت ابن إرادتك {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] ما الذي يردك؟ أليس القرآن بين يديك، كيف حفظه الصغار والناشئة، وبقيت سنين طويلة لا تحفظ منه جزأين أو ثلاثة؟ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حفظها الشباب فماذا يردك أن تحفظها؟ كتب العلم أليست حمىً مباحاً لمن أراد أن يصل إليها بفضل الله جل وعلا، فلماذا لا تدخل المكتبات؟ لماذا لا تنطوي في لواء المراكز الصيفية وتستفيد من الأساتذة والمعلمين والمربين؟ لماذا تجعل الشوارع هي منتدى مجالسك؟ لماذا تجعل زوايا الحارات والبيوت هي مجالسك المفضلة؟ لماذا تجعل الأحاديث الساقطة والكلام التافه والقصص البذيئة ورديء الكلام هو غاية ما تحفظ وغاية ما تردد؟ لا تقل لي: من أنا؟ أنت ابن إرادتك، أنت ابن اهتمامك.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
صدام قاتله الله ولعنه، وأسأل الله أن يظهر فيه النقمة للمسلمين أجمعين في الدنيا قبل الآخرة، أليس فرداً واحداً؟ بلى، ومع هذا ماذا فعل بالناس جميعاً؟ لذلك إذا وجدت الإرادة وسخرت في الخير؛ قلبت الدنيا رأساً على عقب، وحينما يسخر الإنسان التخطيط والتدبير والعلوم والصناعات في الشر -وهو إنسان واحد- يكون شؤم عمله على البشرية كلها، والإنسان إذا سخر كل ما لديه من أجل العلم والدعوة ونشر الخير ونفع الناس وتعليم الجاهل وهداية الضال؛ فإنه يستطيع أن يكون من أعظم بوابات التاريخ معرفة وعلماً واطلاعاً.
فيا شباب لا تقولوا: لا نستطيع.
لا تقولوا: نحن على هامش الحياة.
لا تقولوا: نحن لا نستطيع أن نقدم رجلاً أو نؤخر أخرى.
لا تقولوا: نحن من سقط المتاع أو من عامة الرعاع، لا، لا، هذا كلام مرفوض ولا يقبل من شاب أبداً.(224/3)
العبادة هي الغاية من الخلق
أيها الشاب أسألك بالله: خلق الله في عينك آلاف الأجهزة من الشبكية والقرنية والبؤبؤ والحدقة والرمش والعدسة والعصب الذي يوصل الصورة إلى المخ مئات الأجهزة في جارحة واحدة، هل خلقت لك هذه لكي تنظر بها إلى الأفلام والمسلسلات؟ صدرك هذا فيه من الأجهزة التنفسية المعقدة التركيب من الرئة والشعيبات الهوائية وما يتصل بها من الشعيرات الدموية، ودونها الجهاز الهضمي وما يتعلق به من المفرزات والمهضمات والمتجاوزات والتي ترفض والتي تقبل والتي تدفع والتي تنفع بإذن الله جل وعلا، في كل قطعة من بدنك أجهزة معقدة، أتظنون أن الله خلق هذه عبثاً؟! أتظنون أن الله خلقها لتكون سدى؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة:36 - 39] ألم تك نطفة؟ ألم تك علقة؟ ألم تك مضغة؟! ثم صورك الله وزينك وجملك وجعلك في أحسن تقويم، أكل هذا من أجل أن تكون ببغاء تقلد ما يردده الأعداء، أو قرداً يردد ما يفعله الماجنون والفاسقون؟ لا والله ما خلقنا لهذا، يقول الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
الهدف الذي من أجله وجدنا لا يحتاج إلى كثير فلسفة.
اسأل جدتك وجدك: لماذا خلقنا؟ يقولون لك: خلقنا لطاعة الله جل وعلا، والدليل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
يقولون: إن عجوزاً من العجائز كانت في الطريق، فمر رجل ومعه كوكبة من الرجال، فقالت: من هذا؟ قالوا: ألا تعريفنه! هذا هو الرازي الذي أوجد مائة دليل على وجود الله، فقالت العجوز: أخبروه أن عنده مائة شك في وجود الله، فلما بلغه الكلام قال: صدقت.
نهاية إقدام العقول عقال وآخر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية مسعانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
عجوز تعرف دلائل الوحدانية بأبسط أدوات ووسائل الفطرة.
ورجل أعرابي لما سمع قارئ يقرأ قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] صرخ وقال: بعث ورب الكعبة، لا بد للزائر أن يرتحل.
فهكذا القلوب التي صفت بفطرة نقية وسلمت من المؤثرات الخارجية؛ أصبحت قادرة على استنباط حقائق الكون.
يقول الشيخ الزنداني حفظه الله -وهو أستاذ كبير في علم وظائف الأعضاء-: سألت هذا البروفيسور فقلت له: هل يوجد من خلال دراستك وتجاربك المعملية وتشريحك لجسم الإنسان هل وجدتم في الإنسان جزءاً وجد عبثاً؟ قال: لا، كلما شرحنا هذا الإنسان، وأجرينا عليه التجارب، وبحثنا فيه؛ وجدنا اكتشافات جديدة، ووجدنا أن لكل جزء ونقطة وعرق وذرة في جسم هذا الإنسان وجدنا لها وظيفة.
قال الشيخ الزنداني لهذا البروفيسور الكافر: هل الوظائف التي وجدتموها في جسم الإنسان تعمل منفصلة أم مترابطة؟ أي: هل اليد تعمل بمعزل عن العقل، والعقل يعمل بمعزل عن الهضم، والهضم يعمل بمعزل عن التنفس، والتنفس يعمل بمعزل عن الحركة؟ قال: لا، الثابت في علم وظائف الأعضاء أن الإنسان كل عضو وجد فيه وكل جارحة وجدت فيه لها مهمة ولها وظيفة، وكل وظيفة مرتبطة بوظيفة العضو والجزء الآخر.
أي: لا يمكن أن تقول: إن هذه تعمل بمعزل عن الأخرى.
يقول الشيخ الزنداني: هذا كلام جميل، إذاً: هذه الأنملة لها وظيفة ووظيفتها مرتبطة باليد، واليد لها وظيفة ومرتبطة بالجسم، وجهاز التنفس له وظيفة ومرتبط بالعقل، والعقل له وظيفة ومرتبط بالبدن، لكل شيء وظيفة.
قال: نعم.
قال الشيخ الزنداني: فما وظيفة هذا الإنسان الطويل العريض بكامل جسمه؟ قال البروفيسور الأبله: لا أدري.
لا دريت ولا تليت إن شاء الله.
أولئك يعرفون أدق الحقائق والمعلومات في ذرة في جسم الإنسان، ولا يعرفون لماذا وجد هذا الإنسان كله.
مثلما قيل: الرجل الذي يشرب الماء بعينه أليس مجنوناً؟ قلنا: قلنا: بلى؛ لأنه لا يستخدم العين في غير ما خلقت له.
والرجل الذي يشم الطيب بركبته أليس مجنوناً؟ بلى؛ لأنه يستخدم عضواً للشم أصلاً.
إذاً: مجنون من استخدم جارحة لغير ما خلقت له، فما بالك بمن استخدم الجسم كله في غير ما خلق الله، أليس هذا سيد المجانين؟ بلى والله، ولكن جنون الناس في هذا الزمان يسمى بجنون العقلاء، تجد أقواماً يسمون عقلاء وتصرفاتهم تصرفات المجانين.(224/4)
وزن المسلم لا يقدر بمال
أيها الشاب: نريدك أن تعرف أن الله أودع في بدنك أدق الأمور وأخطرها، لا تقل: أنا ليس لي وزن، وليس عندي مال، وليس لي مكانة، ولا قدر.
أولاً: إذا كنت تريد أن تسأل عن مقدار ما تملك من الأموال؟ نقول لك: تعال يا أخي! أنت ليس لديك مال، ولكن أتبيع عيناً من عيونك بنصف مليون؟ يقول: لا، بمليون.
يقول: لا، بمليونين.
يقول: لا، بأربعة ملايين.
يقول: لا، بخسمة ملايين.
يقول: لا.
تبيع يداً من يديك بخمسة ملايين؟ يقول: لا، تبيع رجلاً من رجليك بعشرة ملايين؟ يقول: لا، تبيع رئة من رئتيك بخمسة ملايين؟ يقول: لا.
إذاً كم تملك من الملايين.
تملك شيئاً عظيماً من الأموال الطائلة، ألا وهي في نعمة العافية.
إذاً أيها الشاب وزنك لا يقدر بالمال، وإذا أردت أن تعرف هل الوزن يقدر بالمال، اسأل التجار الذين يملكون السبعين والثمانين والمائة مليون وهم يحرمون من الطعام، أو يحرمون من اللذائد أو الملذات، أو يحرمون من كثير من الأمور، تسألهم ما قيمة هذه الملايين؟ بالعكس والله إن هؤلاء يحترقون، كما قيل عن تاجر ثرى في أرض الحجاز - هذه قصة واقعية - وجد عاملاً من أهل اليمن، اشترى أربع خبزات وكيلو موز، وأخذ يضع الموز وسط الخبز، ثم يلفه على بركة الله، والتاجر ينظر إليه نظراً لا يصرف البصر عنه، فلما انتهى هذا العامل، انقلب على جنبه وتوسد الدرج ونام، فقال التاجر الغني: أتمنى أن أعطي هذا نصف ملكي بل أكثر من ذلك، وآكل مثلما ما يأكل وأشرب مثلما ما يشرب، وأنام مثلما ينام.
إذاً أيها الشاب! أنت لا تنظر إلى نفسك بمقياس الدنيا، فإن عندك خير عظيم، ولا تقارن نفسك بأرباب الأموال؛ فإنك في حال أسعد ثم أسعد ثم أسعد منهم، إلا من سبقك بطاعة الله جل وعلا.
أيها الشاب: آباؤك مسلمون، أمك مسلمة، جدتك مسلمة، جدك مسلم، لست بوذياً ممن يعبدون بوذا، لست من عبدة البقر، اعرف أصلك الذي تنتسب إليه، اعرف شرفك، أنت من أقوام يقومون آناء الليل وآناء النهار يتلون كتاب الله ويتذاكرونه، أنت من أقوام قد أذعنت ودانت لهم الدنيا في ظل لا إله إلا الله، فلا تحاول أن تقلد غربياً أو أمريكياً أو بريطانياً أو إيطالياً أو أسبانياً؛ لأن هؤلاء ليسوا بأولياء لك وليسوا من أهلك ولا ذويك، إنما أولياؤك هم المؤمنون.
أنت من قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، ومما رزقناهم ينفقون، أنت رجل قد أعد الله لك منزلة عظيمة، أنت برحمة الله وفضله وقبوله وتوفيقه لك ممن سترد على الحوض وتقابل النبي صلى الله عليه وسلم، وستحضن وتقبل نبيك صلى الله عليه وسلم، فاحذر أن تكون ممن يردون عن الحوض كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة، فأقول: يا رب أمتي أمتي! فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).(224/5)
الطريق إلى الجنة ولقاء الرسول وصحبه
يا شباب! إذا كنتم تعلقون الآمال الطويلة أن تلتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتلتقوا بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة الكرام وأئمة الإسلام وأبو مسلم الخولاني وإبراهيم الحربي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والحسن البصري والحسن بن علي وسعيد بن جبير وأئمة الإسلام وعلمائهم وابن القيم وابن تيمية إذا كان الأمل والشوق يحدوكم والذكرى تقودكم إلى لقاء هؤلاء، فإن الطريق إليهم لا بالأغاني، ولا يمر بأفلام الفيديو، ولا بالمجلات الساقطة، وإنما يمر بقيام الليل وحفظ القرآن، وبالعناية بالسنة والدعوة إلى الله جل وعلا، وبمجالسة الأخيار، والعناية بحلق الذكر والتسبيح آناء الليل وآناء النهار.
لو قلنا لواحد منكم: سنحجز لك موعداً بعد شهرين مع ملك من الملوك أو عظيم من العظماء؛ لمكثت يَعُدُ الليالي والأيام متى سوف أقابل فلان بن فلان، إذا قلنا لك: أنت ستقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستقابل خير خلق الله وخير من وطئة قدمه الثرى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ستقابل هذا النبي الذي يقول في شجاعته: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) والذي يقول في رحمته: (كل نبي يؤتى دعوته، وأنا ادخرت دعوتي لأمتي يوم القيامة، أقول: يا رب أمتي أمتي) أنت تقابل خير الخلق أجمعين فماذا أعددت لمقابلته؟ بل ستقابل من هو خير من محمد صلى الله عليه وسلم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] ستنظر إلى وجه الله العظيم الجليل، فهل تريد أن تكون ممن قال الله فيهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16]؟ أتريد أن تكون ممن يصرف ويسدل عليه الستار فلا يتلذذ برؤية الله، بل ولا ينظر إليه الله ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم، أولئك الذين أعرضوا عن ذكر الله جل وعلا.
يا شباب الإسلام! إن المرجو فيكم كثير.
أيها الشاب: أنت إما أن تكون من عباد الرحمن: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:63 - 68] أنت من أولئك؟ أم من الذين والعياذ بالله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29].
إما أن تكون من عباد الرحمن وإما أن تكون من عباد الشيطان الذين يقال لهم وفيهم وبهم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:30 - 34] ماذا يعد له؟ {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:35 - 37].
أنت إما أن تكون من السابقين من أصحاب اليمين، وإما أن تكون من أصحاب الشمال من أهل السموم والحميم والزقوم وطعام الأثيم.
فيا أحبابنا أليس الخيار بأيدينا؟ هل نحن أحجار على رقعة شطرنج يأتي من يأخذ برأس الواحد منا ثم يضعه ويقول: أنت اجلس هنا لا تدخل المجلس، اذهب إلى الشيشة الفلانية والمقهى الفلاني والمطعم الفلاني، اذهب إلى السهرة الفلانية من أول الليل إلى آخره؟ هل أتى أحد وأخذ بتلابيبك وقال: قبحاً لك! لست بكفء أن تجلس مع الأبرار، اذهب مع أصحاب المخدرات ذوي الخلاعة والمجون، مع ذوي اللواط والزنا والفواحش والآثام؟ الخيار بيدك قد جعل الله أمامك الطريق، ووضح لك المحجة، فلأجل من بعثت الرسل؟ ولأجل مَن أنزلت الكتب؟ الليل والنهار والأفلاك والنجوم والسموات لأجل مَن؟ من أجل أن تعبد الله وحده، أفتدع كل هذا ثم تنصرف بعد ذلك ضالاً مضلاً غافلاً مضللاً إلى معصية وهوان وخزي بين الخلائق.(224/6)
دور المسلم في هذه الحياة
أخي الشاب: هل أنت على هامش الحياة، أم لك دور مهم؟ هل فكرت يوماً ما أنك ستكون قائداً لجبهة من الجبهات في أفغانستان، أو قائداً من قواد الجهاد في فلسطين؟ هل فكرت يوماً ما أن تكون واحداً من العلماء الذين يجلس إليهم الناس ويتزاحمون بالركب عند حلقاتهم؟ هل فكرت يوماً ما أن تكون ممن ينفعون الإسلام والمسلمين؟ أخي الشاب: أنت إلى من تنتمي: هل تنتمي إلى أمريكا؟ هل تنتمي إلى روسيا؟ هل تنتمي إلى حزب البعث؟ هل تنتمي إلى العلمانيين؟ هل تنتمي إلى القومية العربية الفاشلة؟ هل تنتمي إلى الضلالة المستوردة أم تنتمي إلى دين؟ هل تنتمي إلى دعوة وإلى عقيدة؟ الكل ينتمي إلى عقيدته، لو سألت رجلاً من الذين يتبعون حزب البعث في أي دولة من الدول لقال لك: أنا بعثي ورسالتي رسالة عربية خالدة لأمة عربية واحدة، إن البعثيين يقطع الواحد منهم وهو يقول:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما لها ثان
والأخر يؤذى ويقول:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها افطر ومن أجلها صم
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
هذا بعثي ينتمي إلى البعث يبتلى ويعذب في انتمائه الضال، ويصبر على ذلك ويموت على هذه الضلالة ولا حول ولا وقوة إلا بالله.
شاب من الذين ينتمون إلى الحركة الباطنية الخبيثة، من الذين أفسدوا في الأرض، يقول لي أحد الرجال: لما جيء به ليقتل، قيل له: يا فلان! تب إلى الله واستقم، وجدد التوحيد، وانطق بالشهادتين، قال: فالتفت المجرم وقال: أنا دمي وروحي فداء للخميني.
انظروا أي إصرار وعناد وانتماء وتمسك من شباب أهل الباطل إلى باطلهم وعلماء الباطل وأئمتهم.
فأنتم يا شباب الإسلام أرونا تمسككم، أرونا انتماءكم، نحن أهل عقيدة ودعوة هذا الخير الذي نحن فيه جاء من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقوة الأمير محمد بن سعود طيب الله ثراه، نحن ما أعطتنا أمريكا الاستقلال، وما أعطتنا فرنسا الوحدة، أو منحتنا اتحاداً كنفدرالياً كما يقال، أو دولة فدرالية، لا نحن أمة قامت على دين، قامت على دعوة، فهل شبابنا يفقهون هذا أم أن الواحد منهم يحفظ الأغاني الكثيرة، ويتردد في الملاهي الطويلة، ويضيع الساعات الطوال وهو لا يفقه لأي شيء خلق، ولأي شيء يسير، ينافس البهائم في نومها فينام عن صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ينافس البهائم في أكلها، فيأكل حتى تنشق كرشته، ينافس البهائم في شربها ويتمتع بهذه الملذات التي يتمتع بها الأنعام، بل هو أضل منها سبيلاً؟!! لا نريد شباباً كهؤلاء، هؤلاء إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، الأمة بحاجة إلى شباب أذكياء، بحاجة إلى شباب يجاهدون، بحاجة إلى شباب في الدراسة جد واجتهاد، في طلب العلم: اجتهاد وذكاء وحرص وبلغة وصحبة وملازمة للعلماء، في الدعوة: تضحية وتفان واستمرار على ذلك، في قضاء حوائج الناس: شفاعة للآخرين وتواضع لهم وخفض للجناح ولين للجانب.
في كل مجال تجده مباركاً أينما كان، كما قال عيسى ابن مريم: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31].(224/7)
ماذا قدمت للإسلام أيها الشاب
أيها الشاب أعود فأقول: ماذا قدمت للإسلام؟ كل واحد يسأل نفسه: ماذا قدمتُ للإسلام؟ ماذا قدمت لهذا الدين؟ هذا الدين الذي لا أحد يشك أن الخيرات التي امتلأت بها الأسواق ببركة الدين، وأن الأمن والطمأنينة والنوم الهادئ الوادع الهنيء في الليل لا يكدره فزع ولا لصوص ولا عصابات المافيا ولا الألوية الحمراء ببركة هذا الدين، هذه الخيرات التي تتابعت عليك ببركة هذا الدين، فماذا قدمتَ لهذا الدين؟! أيها الشاب: هل أنت ممن يستهلكون ولا ينتجون؟ أيها الشاب: هل أنت ممن شابهوا البهائم فلا ينفع إلا نفسه فقط، شحيحاً بخيلاً لا يود ولا يتمنى أن ينفع أحداً أبداً؟ أيها الشاب: هل خططت يوماً لكي تعرف ما هي مراحلك في الحياة؟ لو قلنا لشركة من الشركات: تفضلي وابنِ لنا هذا المشروع؟ لقالت الشركة: مما يتكون هذا البناء؟ سوف ننفذه خلال خمس سنوات، في السنة الأولى نبني الطابق الأول والمرافق، وفي السنة الثانية نبني فيها الطوابق الأخرى، وفي السنة الثالثة نعد المكيفات، وفي السنة الرابعة نعد الصيانة وما يلزم، وفي السنة الخامسة نفرشه ويكون جاهزاً للاستعمال.
فنحن نقول أيها الشاب: بعد أن نسألك ماذا قدمت للإسلام؟ ما هي خطتك للوصول إلى جنة الله جل وعلا؟ كل هذه أسئلة شبابنا في غفلة عنها، لأنهم تعودوا الخير ونشأوا عليه وترعرعوا فيه، استظلوا بسماء الأمن وعاشوا على أرض الطمأنينة، وظنوا أن الأمر هكذا، لا، الله جل وعلا قد ربط الخيرات بالطاعة والأمن الرخاء بالإيمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
الخير الذي نحن فيه -يا شباب الإسلام- إذا أردتم أن تتقلبوا فيه، وأردتم أولادكم وبناتكم الصغار يستمروا عليه لا بد أن نحفظه بالدين.
أليس فيكم يا إخوان من يتذكر قول الله جل وعلا: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9]؟ والله إن الإنسان ليجلس أحياناً وأطفاله الصغار وبنياته الصغيرات أمام عينيه ثم يقول: يا رب! ماذا سيكون لهؤلاء الأطفال بعد أربعين سنة أو خمسين سنة أو أقل أو أكثر من ذلك؟ إذا أردت أن تضمن مستقبلاً طيباً مليئاً بالأمن والهدوء، ويستمر ويمتد ظله إلى هؤلاء الأطفال الذين تراهم أمامك: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] ماذا نفعل: نسجلهم في الضمان الاجتماعي؟ نضع لهم مساهمات في البنك؟ {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] عليك بالقول السديد واتق الله جل وعلا، وراقب الله في كل ما تأتي وتذر، وأبشر بأن الله سيتكفل بهؤلاء.
ألا تعرفون قصة موسى مع الخضر لما ركب السفينة معه ثم قال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67] إلى آخر القصة {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:77 - 78] ولما سأله وبين له التفصيل قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] ثم ماذا؟ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فصلاحكم أنتم يضمن السعادة والحياة الطيبة الوارفة الظلال، الهنيئة في المطعم والمشرب والملبس لأولادكم وبناتكم، ومَن سره أن يتكفل الله بذريته فعليه أن يصلح ما بينه وبين الله أولاً.
أيها الشاب: ماذا أعددت لنفسك وماذا أعددت لذريتك؟ يا شباب الإسلام! هل ننتظر أن نكون كالغنم إذا ولدت، وجدت الخير، ومن ثَمَّ أخذت ترعى، وإذا جاء صافر الشر، كل يهرب ويولي؟ لا، نريد أن نربي رجالاً.
رجالاً رقاق إذا ما الدجى زارنا نَصبنا محاريبنا للحزن
وجند شداد إذا رامنا الـ ـبأس رأى أسدنا لا تهن
نريد أن نكون رجالاً في الأمن، دعاة إلى فرح وابتسامة وسرور، وإذا انتهى الأمر أو جاء الجد، جاءت الحرب أو جاء الخوف وجدت الرجال الذين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم.(224/8)
القدوة عند الشباب المسلم
أيها الشاب قدوتك من؟ حينما تجلس مع بعض الشباب في بعض المدارس الثانوية أو المتوسطة، فتقول له: ما هي أمنيتك؟ يقول: أتصور بجانب فلان: ما هو المطرب المفضل؟ فلان.
ما هو تفسيرك للون الأزرق؟ حياة صافية، ما هو تفسيرك لكذا؟ يعطيك من الكلام السخيف المليء من بالجرائد.
أيها الشاب ما خلقت لهذا! أيها الشاب: اعرف وزنك وقدرك، هل أنت تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر} [الأحزاب:21] اجعل قدوتك محمد صلى الله عليه وسلم، ليس كما يفعل بعض الشباب أول موضة تخرج في أمريكا تجده يقلدها هنا، وآخر موضة في اللباس توجد في إيطاليا تجده يقلدها هنا، والمصيبة أن أصحاب الموضات تركوها ونحن لا نزال نقلدها.
يقول لي الفنان فهد بن سعيد الذي تعرفونه وتاب إلى الله جل وعلا، الذي كان يسمى بوحيد الجزيرة، يقول لي: إن هناك شباباً يقولون: لا نصدق أن فهد بن سعيد يتوب، ولماذا؟ {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] هل هو غبي لا يعرف التوبة، أم أن طريق التوبة مغلق على الفنانين وأهل التمثيل والمعاصي؟ لا.
الطريق مفتوح، لكن المصيبة أن من الناس من قلد أصحاب الفن، وتاب أصحاب الفن وهو لا يزال يعزف على وتر أربعة عشر.
أذكر أن رجلاً في سجن المنطقة الشرقية -عندما كنت ألقي فيه محاضرة- قلت له: إن فناناً تاب إلى الله واسمه فهد بن سعيد، قال: أنا لا أصدق.
والله أمر عجيب، يعني أصحاب الأمر تركوه ونحن لا نزال نتحمس له، والشيء بالشيء يذكر، هذه قصة، وإن كانت تروى من باب الطرف.
القصة تقول: إن ثلاثة رجال كانوا في مطعم محطة القطار، وكانوا يأكلون وجبة غداء، وبعد لحظات جاء رجل يصيح، القطار تحرك القطار تحرك، فقاموا يركضون إلى القطار، فاثنين منهم أدركوا القطار وركبوه، والثالث عاد وهو يضحك، قالوا له: لماذا تضحك؟ قال: أنا الذي سأسافر، وهؤلاء إنما جاءوا لوداعي.
فهؤلاء الشباب الذين يقلدون الفنانين الفنان رجع يضحك يقول: أنا تبت إلى الله وعرفت أن الفن غلط، وهؤلاء لا زالوا يلاحقون الفن، هذا جنون وخبال يقع فيه كثير من الشباب.
فمن أصر على الغواية والانحراف، ولم يقبل الدعوة التي تأمره بالاستجابة لله وبترك المعاصي والملاهي، فسيستمر فاشلاً إلى أن يموت، حتى ولو نجح مالياً فهو فاشل في الآخرة، لأنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] في الدنيا معيشته ضنك فاشلة {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] من أُعطي الآيات والمواعظ والهبات والنصائح الطيبة ثم لم يقبلها فحالته خطيرة جداً إن مات على ذلك، ولذلك فإن الله في كثير من الآيات يأمرنا بالتوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].(224/9)
احتقار الشباب لأنفسهم
وأخيراً يا شبابنا: أنتم تستطيعون أن تقدموا دوراً، لا يقل أحدكم: أنا لا أنفع في شيء؛ فإن هذه مصيبة.
الكثير من الشباب عندما تجلس معه، يقول: يا أخي أنتم ما شاء الله تعرفون تتحدثون وأنتم وأنتم وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً، بل أنت تستطيع أن تفعل شيئاً كثيراً.
أذكر مرة كنا في رحلة أيام الدراسة، وكنا ننزل الأغراض من السيارة، ثم جاء أحد الشباب فقال: ماذا أعمل؟ فرد أحدنا قائلاً: أنت هش الذباب، مالك شغل! نحن ليس لدينا شباب يهشون الذباب، عندنا دور لكل شاب، عندنا طريقة لكل شاب، عندنا وظيفة لكل رجل، عندنا مهمة لكل من أراد أن يبذل لهذا الدين، لو أن كل واحد منكم خطط أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي:
هيهات لن تصلح الناس وأنت فاسد هيهات ما أبعد ما تكابد
أي: لا بد للإنسان أن يستعين بالله على ترك المعصية، حتى تكون دعوته بين الناس لها أثر عظيم ينال بها خيراً عظيماً.
وكلنا يعرف قصة ذلك الرجل كبير السن الذي كان كلما وجد شخصاً أخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) هذا الحديث في صحيح البخاري.
كان يدعو إلى الله بهذه الكلمات، فكان إذا دخل عند الخباز يذكر له هذا الحديث (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فيبدأ يتعلمها الخباز، يدخل إلى البقالة فيقول له البقال: ماذا تريد فيقول: أقول لك يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) أينما ذهب يعلم هذه الكلمات، حتى وصل أجله، وفي اللحظات الأخيرة كان على السرير الأبيض في المستشفى، فبلغته سكرات الموت، فأغمي عليه ثم أفاق والطبيب ماسك بيده، فلما استيقظ هذا الرجل العجوز الكبير من تلك السكرة التي شدت عليه نَفَسه لما أفاق منها وجد يده في يد الطبيب، فقام وأمسك يد الطبيب بيده الأخرى وقال: يا دكتور! يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) لا إله إلا الله وفاضت روحه.
فكان سبباً لهداية الطبيب وتوبته واستقامته.
فيا شبابنا! يا رجالنا! يا أبناء أمتنا! كل يستطيع أن يقدم دوراً، لا تقل عندي أشرطة وعندي نسخة أصلية للفنانين، وعندي أفلام ممنوعة أحدهم أتى بها لي بطريق معروفة، وشخص لفها في جريدة وأعطاني إياها، وواحد أتى بها بالطريقة الفلانية، وآخر قال لي: هذه نسخة لا يطلع عليها إلا أنت، لا.
كنا في حلقة تدريس يدرسنا أحد القضاة في الرياض، درس في كتاب العدة شرح العمدة، فقال أحد الطلاب: أنا شاب تبت إلى الله جل وعلا وعندي أفلام خليعة لصديق آخر فهل أكسرها؟ فقال له الشيخ: امسح المادة وأعد الأشرطة.
فإذاً نحن لا نقول لك: ما دام عندك أشرطة لا أمل لك أن تتوب، عندك صور خليعة فلا أمل أن تتوب لو كان عندك خمسين مصيبة، تب إلى الله، يبقى عندك مصيبتان أو ثلاث مصائب تتوب منها إن شاء الله في الأيام القادمة، ولا نريد تكرار خبر الشاب الذي سمعتم قصته في شريط (حاول وأنت الحكم) هذا الذي يقول: عندي فساد وأشرطة وفواحش وصور وعندي وعندي فقلت له: أأنت جاد في التوبة إلى الله؟ قال: نعم.
قلت: صلِّ معي العشاء وأنا أخرج معك إن شاء الله، نسأل الله أن يتوب علينا وعليك ونحرق الأشرطة، قال: لا بالتدريج يا شيخ، ما نتوب كذا، طيب تعال علمني كيف نتوب؟ نقول: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] نمحو ما يقبل المحو منها ونتلف ما ينبغي إتلافه قال: لا بالتدريج.
فأقول لكم يا إخواني: بإمكانكم منذ هذه اللحظة أن تتحولوا إلى دعاة.
ليس بالضرورة أن تتوب من جميع ما عندك من الذنوب مرة واحدة، وإن كان الواجب هو أن تتوب إلى الله من جميع الذنوب، لكن لو قَدَّرنا أن شاباً يقول: أنا تبت إلى الله جل وعلا لكن وقعت في هذه المشكلة غداً، ثم وقعت في مشكلة صغيرة بعد غداً، نقول تب إلى الله منها، واستمر على ما أنت عليه، لأن بعض الشباب يقول: أنا إذا أردت أن أتوب فمعنى هذا أن أنافس جبريل في الطاعة، أي: لا أخطئ أبداً أبداً، هذا ليس بصحيح أبداً، كل البشر يخطئون ويذنبون وعندهم من الخطيئة، لكن الخطأ هو الاستمرار على الخطيئة، عندي صور، مجلات، أفلام، عادات سيئة، أمور خبيثة، تبت منها كلها، وغداً وقعت في واحدة أيهما أفضل: أن أصبح غداً على نفس الخمس أو على واحدة فقط؟ لا.
ربما الذي وقع في واحدة أهون عند الله من الذي وقع في الخمس كلها، لكن نقول لك: افعل واحدة واترك أربعاً، كما تبت بالأمس من الخمس تب اليوم من هذه الواحدة، ولو وقعت بعد غدٍ في غيرها تب إلى الله من غيرها، فكلما أحدثت ذنباً أحدث بعده توبة، وسترى خيراً كثيراً بإذن الله جل وعلا.(224/10)
التوبة التوبة يا شباب!
يا شبابنا ما الذي يمنعكم من التوبة؟ هل تحتاج التوبة إلى برقية عاجلة للإفتاء؟ هل تحتاج التوبة إلى وساطة أحد؟ أبداً والله، توضأ وأحسن وضوءك واسأل الله جل وعلا أن يتوب عليك توبة نصوحاً، وأن يقبل توبتك ثم عُدّ، فما وجدت عندك من الأمور التي لا ترضي الله أبعدها وتجنبها واتركها، ثم ابحث عن الصحبة الطيبة، ابحث عن الجليس الصالح، وعلق نفسك به: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
شاب يريد أن يتوب إلى الله من التدخين والمخدرات، والصور الخليعة والأفلام الماجنة، والأغاني الهابطة، يكسر الأفلام اليوم وينتهي منها، وغداً يذهب مع الشباب يشاهد ويقول: يا حظكم عندكم أفلام وأنا كان عندي أفلام.
لا يصح هذا، ما دمت تبت إلى الله، اترك هذه المجالس، وجالس حلق الذكر وأصحابها، جالس الذين ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله.
أما أن الإنسان يتوب اليوم وغداً يجلس مع الفنان أو مع المطبل فهذا لا يكون، لكن تب إلى الله وبدلاً من جلسات اللهو ابحث عن مجالس البر والخير، فأنت المستفيد {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89] أنت المستفيد الأول، الإسلام غني عنك، الدين ماض بك وبغيرك، بك وبدونك، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
فيا إخواني: لا يظن الواحد أنه يَمُنُّ على الدين يوم أن يلتزم، أو أن هذا الدين متوقف على التزامه، لكن هو مَن يستفيد، لو توفاك الله هذه الليلة ماذا ستفعل؟! يذكر لي أحد الإخوان عن شاب أنه كان مسافراً هو وزوجته وأطفاله، والسفر كان طويلاً، وأثناء الطريق أصاب الطائرة خلل، وقام المضيف يتكلم: يوجد بالمحرك الموجود في المكان الفلاني من الطائرة خلل، والمخارج هي التي ترونها قد أضيئت عليها الإضاءة، وأخذ يشير إلى المخارج.
ماذا فعل الرجل؟ قام يبكي وانتفض وتغير وجهه، حتى إنه ما ذكر، أخذ يبكي يبكي ويلتفت يمنة ويسرة، وأما زوجته فقد أخذت الأطفال بجوارها وضمتهم وهي تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول لي الشاب: بفضل الله جل وعلا صلح العطل ونزلت الطائرة بسلام.
يقول: فقلت له: أما زوجتك فما كانت تخشى من المعاصي، ولذلك عرفت أنها تقدم على الله بمغفرة ورحمة، وإن كان عندها شيء من الذنوب اليسيرة من اللمم وأمر الغفلة -ليس من الغفلات المقصودة، أي من الخطأ والسهو الزلل اليسير- ولذلك ثبتها الله وضمت أولادها حولها، وأخذت تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأما أنت فتذكرت الذي يخزيك ويسوؤك عند الله، وأخذت تبكي وتصيح كالمرأة.
المرأة ما بكت وإنما ضمت الأولاد وأخذت تحوقل وتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لأنها ما ذكرت أموراً بارزت الله بها، أو فعلتها سراً وعصت الله، واختلت في معصية الله بها، وأما أنت فقد تذكرت المصائب، تذكرت ليلة فعلت بها كذا، وتذكرت فيلماً سهرت عليه، وتذكرت مجلة موجودة عندك الآن، وتذكرت شريطاً يوجد في الدرج الفلاني، وتذكرت رقماً يوجد في جيبك، وتذكرت كذا، فأصبحت تبكي، وتنزعج بهذه الطريقة، ماذا قال؟ قال: صدقت والله! نعم يا إخواني: الذي يعمل المعاصي ولا يتوب منها، يخشى من سوء المطلع، والخاتمة، وأما الذي يحرص على الطاعات، ويبتعد عن المعاصي، تجده يقدم على الله، وإن كان يعلم أن عنده بعض الذنوب، لكن يثق أن رحمة الله أوسع من هذا كله، ومن أحسن العمل أحسن الرجاء.
الآن تجد الإنسان الذي يذاكر ويستعد للامتحان، ويقدم مذاكرة طيبة، وعنده أعمال سنة، يقول: إن شاء الله ننجح، وتجده مطمئناً، ونرجو أن ننجح، ونرجو النتيجة تكون طيبة، لكن هذا الذي لم يقدم شيئاً ولم يدرس ويهتم، فطبع على قلبه، وتجده منكسر البال، خائفاً على مستقبله ومصيره الغامض، لأنه ضيعه بما أودع في أيامه ولياليه من الغفلات والشهوات.
فيا أحباب التوبة التوبة، والعودة العودة إلى الله.(224/11)
نظرة الآخرين إلى أبناء الجزيرة
إن الواقع الآن يحتاج منا أن نعود إلى ديننا، إن العلمانية قد أثبتت فشلها، والبعث العربي أثبت فشله، والقومية العربية أثبتت فشلها، كل الشعارات أثبتت فشلها، فإذا أنتم يا أبناء الإسلام، يا أبناء الجزيرة تخليتم عن الدين وما تمسكتم به وتهاونتم: هذه أغاني، وهذه أفلام.
لا بأس بها، وهذه فيها خلاف، وهذه كل الناس يفعلونها، إذا أنتم يا أهل الإسلام يا أهل الجزيرة تركتم هذا فمن الذي يتمسك بالدين إذاً؟! نلوم مسلمي الفلبين أو كوريا، إذا كان أبناء الجزيرة الذين يتكلمون اللغة التي نزل بها القرآن قد تهاونوا بالدين، وجعلوه وراءهم ظهرياً - نسأل الله ألا يكون ذلك - من الذي يقوم بالدين؟! ننتظر مسلمي كوريا أو مسلمي كينيا أو مسلمي القارة الخضراء يقومون به، أنتم أول من يُسأل عن هذا الدين؛ لأنه نزل بلغتكم ونزل بلسانكم، والكعبة في أرضكم، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في بلادكم، فبماذا تفتخرون أو تفاخرون الأمم؟! أحد الشباب يذكر قصة لمجموعة من الشباب سافروا إلى بانكوك، لكن أين سيذهبون؟ أتوجد كعبة في بانكوك سيطفون حولها؟ أيوجد مسجد للرسول يشدون الرحال إليه؟ أيوجد عالم من العلماء يطلب عنده العلم في بانكوك؟ طبعاً معروف إلى أي شيء ذهبوا، قال: فقابلهم شاب مسلم تايلندي - أظن درس في الجامعة الإسلامية أو يعرف بعض الأشياء في المملكة ودرس دراسة لا بأس بها - فلما قابلهم قال: أنتم من السعودية؟ قالوا: نعم.
قال: لماذا تأتون إلينا وتتركون الكعبة؟ تتركون مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وتأتون إلينا، ماذا عندنا؟ عندنا الدعارة والوساخة والعهر والفساد والخنا والزنا واللواط والفواحش ماذا تريدون؟ فأخذ هذا المسلم التايلندي بلغته الركيكة ولسانه الأعجمي يوبخهم حتى استحوا.
نعم نحن -أيها الإخوة- مسئولون أمام البشرية وأمام الله قبل كل شيء عن هذا الدين، إذا قيل: الإسلام في أي دولة من دول العالم؟ فالناس يتبادر إلى أذهانهم السعودية، والآن لو كان هناك مجلس فيه جنسيات مختلفة كثيرة: كوري، فلبيني، مصري، تركي، فرنسي، ألماني، يمني، أردني، هات العالم كله، ثم تقول السعودية، هل يتبادر إلى ذهنك صليب؟ لا، هل يتبادر إلى ذهنك صنم؟ لا، بل يتبادر إلى ذهنك؟ الإسلام.
فالعالم يحسب أن هذا الدين أنتم مسئولون عنه، فإذا كرستم اهتمامكم على ثيابكم وملابسكم وشهواتكم وبطونكم فمن لدين الله جل وعلا؟! من لدين الله يا شباب الجزيرة، يا شباب الإسلام، نعم لو تخليتم عن هذا الدين لا يبالي الله بكم في أي واد تهلكون، قد ينصر الله الإسلام بالأفغانيين، قد ينصر الله الإسلام بالأتراك في يوم ما، قد ينصر الله الإسلام باليمنيين، بالأردنيين، بالسوريين، بأهل الشام، بأهل الجنوب، بأي فئة كانت، ليس الإسلام حكراً عليكم، لكن الناس يعلقون عليكم مسئولية عظيمة تجاه هذا الدين، فإذا كان لشباب الإسلام اهتماماتهم بالتفحيط وتجميل السيارات وسماع الأغاني ومتابعة المسلسلات وتقليد الموضات، إذاً لا نلوم رامبو ولا نلوم الممثلين ولا نلوم أولئك فيما يفعلون إذا كان الإسلام هذا تقليدهم، وهذا فعلهم فلا يلام أولئك:
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
لا يلام أهل الباطل إذا كان أبناء الإسلام ضيعوا الإسلام، فماذا ننتظر من أهل الباطل إلا أن يتآمروا علينا وأن يجهزوا علينا، ويجعلونا أذلة بين الخلائق أجمعين، لكن لنتمسك بهذا الدين ونعتز به، فإنه والله به العزة والنصرة والكرامة والسيادة وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [نحن قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فمهما أردنا العزة بغيره أذلنا الله].
فلا نعتز بالكباري ولا بالبنايات ولا بالطرق ولا بالمنشآت ولا بالمستشفيات ولا بالجامعات ولا بأي شيء، العزة بهذا الدين، إن تمسكنا بالدين فأبشروا بكل خير؛ في الطرق والمواصلات والمستشفيات والجامعات والمحاصيل، وإن تركنا هذا الدين فسوف تنقلب علينا الأمور رأساً على عقب ويقال: كانت المملكة غنية، كانت المملكة ثرية، كانت المملكة دولة نفطية، كانت المملكة هل النفط يخرج لسواد أعيننا؟! هل نضحك للبئر فيفور البترول؟! لا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] الله يسخر كل خيرات الأرض لكي تخرج ما دمنا نتمسك بالدين، فإذا ولينا وتركنا هذا الدين فلو شاء الله أن يكون هذا غائراً أو جامداً، ولا تستطيع وسائلنا أن تصل إليه لكان نفعل، وليس ذلك على الله بعزيز {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] البركة والخير في هذا الدين، يا شباب الإسلام! تمسكوا بهذا الدين فهو والله سبب العزة الرفعة.
أوروبا أصبحت تتجمع في وحدة واحدة هي السوق الأوروبية المشتركة، وهي عبارة عن تكتل اقتصادي أوروبي يحارب منتجات المسلمين ويسوق منتجات الأوروبيين.
كانت ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية دولتين منفصلتين، هدم السور الذي بينهما، فصارتا دولة واحدة، وقريباً ستكون بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ستكون هكذا دولة واحدة، ويخططون بعد عام 2000 أنه ستكون أوروبا دولة واحدة عاصمتها بروكسل التي هي عاصمة بلجيكا الآن.
انظر إلى الغرب كيف يخططون للوحدة المرتقبة العظيمة، وكل أهل ضلالة يتكتلون، وكل أبناء طائفة يتكتل بعضهم مع بعض، فأنتم يا معاشر المسلمين تمسكوا بدينكم، وإذا جاءت المصائب والفتن ما الذي ينجي؟ في حرب الخليج أتظنون لو أننا أرسلنا مائة مطرب والفرقة الماسية والفنانين على الحدود وقلنا لهم: شنوا حرباً على البعث واجعلوا صدام يهزم، هل يعقل هذا؟ لا يعقل هذا، لا ينفع الأمة إلا الرجال، فالعلماء ثبتوا الناس، والجيوش استعانت بالله جل وعلا من المسلمين ومن جاء من أهل المصالح المشتركة المهم أن العملية وقفت لها جهود، انظروا إلى حال الأشياء التي يهتم بها الشباب، هل إذا جاءت الحرب نقول: تعال يا صدام انظر المصور وسيدتي والمجلة الفلانية، هل المجلات ترد عدواً؟! هل الأغاني ترد عدواً؟ أبداً، ما يرد الأعداء إلا الدعاء، لما قام الناس يتهجدون آخر الليل، ويقنتون في جميع الصلوات، وقام العلماء يثبتون الناس ويشجعون الناس على الجهاد، وقام العلماء يبينون خطر المرحلة وما ينبغي أن يكون بين الناس من التوازن وتماسك الجبهة الداخلية والحرص على الأمن الداخلي أثناء الحرب على الحدود، وأن يكون كل مواطن مسلم مخلص يفتح عينيه وينظر ما الذي يدور في البلد؟ من الذي يريد أن يستغل الظروف؟ هكذا نفعت الأمور الطيبة النافعة، لو كانت الأغاني والملاهي والتمثيليات وغيرها تنفع لقلنا: تعالوا يا شباب، كل واحد عنده شريط أغاني يعطينا إياه، كل واحد عنده مجلة يعطينا إياها، كل واحد عنده فيلم فيديو يعطينا إياه، لكن الحقيقة تثبت وتقول: إن هؤلاء لا ينفعون، إنما ينفع الجد والإيمان والدعاء وسلاح العلم والثبات والبصر والبصيرة.(224/12)
القيام بأمانة هذا الدين
ختاماً أيها الإخوة: أمانة ومسئولية على رقابكم، هي في أعناقكم أنتم تقوموا بهذا الدين على العين والرأس، قولوا: يا ربنا نعاهدك أن نموت دون هذا الدين، وأن تراق دماؤنا لأجل هذا الدين، وأن تنتهي مصالحنا لأجل هذا الدين.
يا ربنا أغلى شيء عندنا ديننا، ومن أجل مرضاتك نترك الغناء، نترك اللهو لوجهك سبحانك، نترك المعاصي لوجهك سبحانك، هنا نثبت أننا أمة جادة في استقامتها واستعانتها بالله سبحانه وتعالى.
أما أننا نسمع هذا الكلام يدخل من هذه الأذن ويخرج من هذه الأذن.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكنك تنفخ في رماد
نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لكني أثق أن هذا المسجد المليء لن يخلو إن شاء الله من شباب ورجال قد بلغت إن شاء الله هذه النصيحة في قلوبهم مبلغاً، وعاهدوا الله منذ هذه الليلة من كان على صلاح أن يزداد صلاحاً، ومن كان على معصية أن يودع المعصية وأن يفتح صفحة جديدة لخدمة دين الله، لوجه الله، لإعلاء كلمة الله.
والله يا إخوان إن اجتماعكم هذا يغيظ اليهود في تل أبيب، وأمريكا، وبريطانيا، ويغيظ النصارى في روما وإيطاليا؛ لأنهم يعملون باليل والنهار من أجل إفسادكم وإضلالكم، ومن أجل أن تنزع بناتكم الحجاب، وتعاكس بالهاتف، وتخرج بالتبرج والسفور، وتريد الاختلاط، يريدون أن تجتمعوا في كل اجتماع على لهو، إلا الاجتماع في بيوت الله، بكتوهم واجعلوهم من الأذلين، وخيبوا ظنونهم في إضلالكم، بإذن الله ترضون الله جل وعلا وتفوزون بنصر الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(224/13)
الأسئلة(224/14)
صعوبة ترك الأصحاب السيئين بعد التوبة
السؤال
أحسن الله إليك: إن ترك الأصحاب أمرٌ ليس بالسهل، وإن تركتهم لم يتركوني.
أرجو أن توضح ذلك؟
الجواب
يا أخي هذا سؤال جميل ومن أجمل الأسئلة التي مرت علي، أقول لك يا أخي الحبيب! إذا كنت تترك الأصحاب من أجلي أو من أجل شخص آخر فأظن أن هذا ليس بسهل، لكن ترك الأصحاب لوجه الله جل وعلا لا بد أن يكون سهلاً ميسوراً، ولو لم يكن سهلاً فلا بد أن تجاهد نفسك ليكون سهلاً، ولا بد أن تعصر وتكسر نفسك وتغصب نفسك حتى يكون هذا ميسوراً، نحن ما قلنا لك: اترك هذا الفنان والزم هذا الفنان، اترك هذا الضائع واتبع هذا الضائع، اترك هذا المنحرف واتبع ذاك المنحرف، لا، قلنا: اترك هذا الضال واتبع هذا المهتدي، اترك هذا الجاهل واتبع هذا العالم، اترك هذا المنحرف واتبع هذا المستقيم، وكل هؤلاء لأجل الله جل وعلا، تركت هؤلاء وتبعت هؤلاء لوجه الله سبحانه وتعالى، ما تركت هؤلاء لأجلي ولا لأجل الشيخ فلان أو لأجل رئيس المحكمة أو لكاتب العدل، لا، تركت ذلك لوجه الله جل وعلا {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70] (من ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه) جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] أتريد الهداية ولكن أمر الأصدقاء يشغلك؟ اهتد واستقم واجتهد على أصدقائك ليس لوحدك بل بعون من الدعاة على أصدقائك فليكونوا أصحاب خير لك.
عرفت كثيراً من الشباب كانوا يسافرون إلى بانكوك سوياً، كانوا يذهبون إلى الدار البيضاء سوياً، كانوا يفعلون الفواحش سوياً، فلما تاب أحدهم توبة صادقة عز عليه إخوانه فتقوى بالإيمان وبالجلساء الطيبين، ثم عاد ليغزو جلساءه الأولين، وأخذهم واحداً واحداً حتى أصبحوا جميعاً من أهل الهداية.
مجموعة من الشباب المجاهدين في أفغانستان إذا جلسوا في بعض الأحيان قام بعضهم يذكر الآخر يقول: أتذكر أيام كذا وكذا كم كانت الليالي تضيع! كم كانت الأموال تنفق سدى! كم كانت الاهتمامات تمضي على ما ليس بكفء أن تمضي لأجله! والآن انظر اهتمامنا، فلان ماذا تتمنى؟ يقول أسأل الله الشهادة في سبيل الله، شتان بين هذا وهذا.
إذاً ترك الأصحاب إذا كان منهم إلى مثلهم أو أسوء منهم أظن أن هذا صعب بالنسبة لك، لكن تركهم لوجه الله من الضلالة إلى الهدى، من الانحراف إلى الاستقامة، من الغواية إلى الهداية، هذا سهل وميسور بإذن الله جل وعلا.(224/15)
مشكلة العادة السرية عند الشباب
السؤال
لقد حاولنا ترك الأمر فوجدناه صعباً، ونواجه عجزاً عند بعضنا، وهو ترك العادة السرية؟
الجواب
يا إخواني هذه المسألة كثر السؤال عنها خاصة في صفوف الشباب، ونحن نقول: شيء طبيعي أن الإنسان إذا جلس وأخذ يرسم في مخيلته امرأة واقفة، نائمة، جالسة، متحركة، من الطبيعي أن تثور شهوته ومن ثم تتفجر هذه الغريزة، ويقود نفسه إلى فعل هذه العادة السيئة، لكن أقول: الشاب إذا جلس استمع شريطاً، إذا ركب في السيارة استمع للقرآن أو لنشيد إسلامي، إذا جلس في البيت مسك كتاباً يقرأ فيه، لا يعطي نفسه مجالاً في الاستمرار في التفكر والتخيل لتخلص من هذه المشكلة.
مشكلة كثير من الشباب - وقد أثبتتها الدراسات النفسية - أن الإنسان يتخيل حتى يتفجر، هذا غلط في غلط، لا تسمح لنفسك أن تتخيل، لأن التفكر عبادة، فلا تجلس تتفكر في جسد امرأة أو فاحشة أو معصية، لا، نريدك ألا تدع مجالاً للشيطان أن يتسلل إلى أفكارك، اقرأ، اسمع، جالس، صاحب، هذه مسألة.
المسألة الثانية: بالنسبة لبعض الشباب القادرين على الزواج ماذا يمنعهم أن يتزوجوا؟ تزوجوا يا إخوان! استعينوا بالله جل وعلا، قد يقول قائل: أنا لا أستطيع أن أجمع مهر فتاة بكر، أريد مائة ألف، تزوج أرملة مات زوجها، تزوج مطلقة ليس هناك حرج، تزوج واحدة أكبر منك بخمس سنوات أو ست سنوات ليس هناك حرج، والله لو تزوجت عجوزاً عاقراً لكان أهون عليك من أن تزني أو أن تفعل أموراً خبيثة.
مصيبة كثير من الشباب وهو يريد الزواج أنه وضع في باله أنه لن يتزوج إلا الطويلة الشقراء العنقاء التي وضع فيها من الصفات ما لم توجد في الدنيا، بل هي من حور الجنة، ويجلس حتى يجدها ثم يجمع المال العظيم ويتدين له المبالغ الباهظة.
وفي النهاية يتزوجها ثم يقول: يا ألله أنتِ خسارة علي، وعليك أن تسددي ديوني.
هذه مصيبة.
لا نريد الشباب هكذا، المصيبة التي دخلت إليكم من خلال الأفلام والمسلسلات، كل شاب واضع في ذهنه خطة لو قلت له: أنت تفكر في الزواج؟ لقال لك: أهناك أحد لا يفكر أن يتزوج، أنا أكيد أريد أن أتزوج، طيب لماذا لا تتزوج؟ قال: أولاً لا بد أن أحب التي أتزوجها ولا بد أن تحبني، طيب كيف تحبها؟ قال: لا بد أن تقابلني في الجامعة ثم يقول: حبيتها، هذه هي التي دخلت قلبي، ثم بعد ذلك يجلس، لا يذوق النوم ويظل يفكر فيها وينزل وزنه عشرين كيلو.
فتجد الشاب من خلال تعوده للنظر إلى الأفلام والمسلسلات واضع في باله أنه لن يتزوج حتى يحب، فانغمس في ذهنه، هذا أولاً.
ثانياً: وضع في باله أنه لن يتزوج حتى يجد شقة بدون خلو، ويؤثثها ويفعل، لا يا أخي، أو ما يصح الزواج إلا بغرفة نوم بعشرين ألف وذهب بخمسين ألف وبيت بعشرين ألف، لا يا أخي التمس ولو خاتماً من حديد، نقول: ضيق الله على كل من تسبب في تضييق سبل الزواج على الشباب المسلمين.
والله يا إخوان إن الشباب بإمكانهم أن يتزوجوا، فالفتيات الآن بالأكوام متكدسات والعوانس كثيرات، والمطلقات كثيرات، والأرامل كثيرات، والشباب يعانون من العادة السرية، ويعانون من الشذوذ، ويعانون من الانحراف، نحن الذين خلقنا المصيبة لأنفسنا.
يا أخي! تزوج ما دمت راغباً في الزواج، وبعض الناس ليس له هم في الليل والنهار إلا هذه العادة ولا حول ولا قوة إلا بالله، يا أخي تزوج مطلقة أو أرملة أو من يسر الله لك، وما يدريك، قد تحبها ولو تزوجت بكراً جميلة ما أحببتها، المسألة قسمة يقسمها الله جل وعلا.
هذه تصورات ليس بصحيحة، لكن الشباب تأثروا بكثير من الأفلام والمسلسلات فلا بد أن يقدم شبكة، ويكون الزواج في قصر أفراح، هدية للأم وهدية للأب وهدية لكذا وهلم جرا.
هذا مما شدد به الناس على أنفسهم.
والله لو أن الشاب استعان بالله ورغب في الزواج من أجل غض البصر وإحصان الفرج، لنال خيراً وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم وذكر منهم: الناكح يريد العفاف) الآن لو دخلت على أمير من الأمراء وقلت له: أنا أريد أن أتزوج، قال: أبشر بالعون، تقول الحمد لله الأمير سيعاونني إن شاء الله والمسألة انحلت، طيب ما بالك إذا كان الله حق عليه عونك، أي: يقول الله عز وجل أبشر وأعينك (ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد في سبيل الله).
فيا شبابنا تزوجوا تزوجوا، أبناء الطوائف المنحرفة يتناسلون، يزوجون الطفل والمجنون والكبير والعجوز، وما تركوا أحداً إلا وزوجوه، في جامعة البحرين تقول شابة من الطوائف المنحرفة لفتاة ملتزمة، تقول: أنتِ يا فتاة! يا سنية! يا ملتزمة! تدعين أنك مخلصة للدعوة؟ قالت: نعم.
قالت: تكذبين لأن زوجك لو أراد أن يتزوج مرة أخرى؛ هجرتيه وقاطعيته وتركتيه، وأما أنا فمستعدة أن أخطب له ثلاث، من أجل ماذا؟ قالت: صح أنا أتضايق وعندي غيرة لكن أدوس على مشاعري من أجل تكثير نسل أبناء طائفتنا.
انظر إلى التخطيط والعمل، فنحن نقول: لا نريد ثلاثاً أو أربعاً، نريد الشاب أن يتزوج ولو أكبر منه، لكن لو يتنازل عن المواصفات فهو كأنه يريد سيارة لكسز لا يريد زوجة، مشكلة والله، مثبت سرعة، وزوجة توماتيك وهلم جرا، ما يصلح هذا، تزوج ما يسر الله لك.(224/16)
بر الوالد العاق لوالديه
السؤال
شاب ملتزم، لكن أباه عاق جداً لوالديه فكيف يجمع بين التزامه وبره لوالديه؟
الجواب
هذا كمن يقول:
هذا جناه أبي علي وما جنيته على أحد
أنا أقول: اسأل الهداية لأبيك وأن يكون من البارين وممن يصلون رحمهم، وأنت اجتهد في التزامك واستمر على ذلك، وبر بأبيك، لعل الله أن يري أبيك من برك ما يعينه على بر والديه، ولا تناقض في هذا.(224/17)
حكم بيع الدخان
السؤال
رجل ناقش بعض أصحاب محلات بيع الدخان، لكنهم يجادلونه ويقولون: إنه مكروه.
فما هو توجيهك؟
الجواب
لأول مرة أسمع أن صاحب بقالة ينازع في الأحكام الفقهية! ربما تقول: إن الجبن المثلث أفضل من الكيري، لكن تقول: هذا مكروه أو هذا مستحب هذه مشكلة، وعلى الإنسان أن يعرف حده ولا يتعداه، أنا لا أقول: إن صاحب البقالة ليس بكفء أن يطلب العلم، نعم يطلب العلم، لكن قبل أن يقول: هذا مكروه هل قال: هو مكروه بهوى أو عن بحث وقناعة وعلم ومقارنة للأدلة وتتبع لأقوال العلماء، وبعد ذلك يقول: هذا كذا أو كذا، والأحاديث فيها والآيات صريحة في هذا {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] أي: هل أحد يقول: إن الدخان من الطيبات؟! أبداً.
الدخان من الخبائث، وقد حرمت الشريعة كل ما فيه إتلاف للبدن قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] وهذا فيه قتل للبدن بما يحدثه من الأمراض، وإذا كان العالم الغربي أصبح يحارب الدخان، ولأنهم يعيشون في دول الحرية يقولون: لا نمنع أحداً، فلا يردون دعاية عن الخمر أو الفساد أو الزنا أو الدخان، لكن الدخان يقولون: إن التدخين يضر بصحتك، ننصحك بالامتناع عنه؛ لأن أولئك أدركوا ضرره، لكن مبادئهم التي تقول بالحرية في كل شيء جعلتهم يأذنون بالدعاية له.
فمن يحاجك ويقول: هذا مكروه، قل: جزاك الله خيراً، مكروه من أين؟ من الذي قال لك إنه مكروه؟ عالم من العلماء أو فنان من الفنانين، هات لي كلام أهل العلم مع الدليل.
وبعد ذلك أقول لك: إن كنت تجادل بباطل فهذا لا يقبل، وحري على الذي يجادل بالباطل لكي يدفع به الحق أن يكون والعياذ بالله من أهل الزيغ والضلالة.(224/18)
تعليق الشيخ على مسألة كفالة الأيتام
هناك أمر أريد التعليق عليه وهو ما ذكره الشيخ في مسألة كفالة الأيتام.
إخواني: جاء في الحديث الصحيح: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) والله يا إخوان إن العناية بالأيتام فيها خير عظيم، وأكرر وأوصي وأنصح بأن يحرص كل واحد منا أن يجتهد في أن يجعل من دخله شهرياً أو في كل شهرين أو في كل خمسة عشرة يوماً شيئاً يقدمه في كفالة الأيتام، ففي هذا خير عظيم وحسبكم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) رجل من أكبر أثرياء المدينة المنورة - جزاه الله خيراً - ذهب إلى بيشاور في أفغانستان، وكفل في البداية حوالي عشرين يتيماً، وجعلهم في شقة، تصوروا لما كفلهم؛ فتح الله عليه أموال، والآن عنده مدرسة اسمها مدرسة المدينة فيها ستمائة يتيم يكفلهم هو، فهنيئاً له.
وأبشركم أيضاً أن أحد الأثرياء قد غبطه على ما فعل، وأخذ منه المشروع ليقيم مدرسة أخرى يكفل بها هذا العدد من الأيتام.
فكفالة الأيتام واليتيمات فيها خير عظيم، وأوصي كل واحد منكم إذا شعر بخطأ أو ذنب أو معصية أن يأخذ مبلغاً ويذهب ليتصدق به لمثل هذه الدار أو لمثل هذا المكان وستجد خيراً، وأتبع السيئة الحسنة تمحها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].(224/19)
تلبيس إبليس
إن الدعوة إلى الله هي التجارة الرابحة التي لا يعمل بها إلا القليل؛ وذلك بسبب تلبيس إبليس على كثير من الناس في أمر الدعوة والدعاة، فتارة يشوه الدعاة والملتزمين، وتارة يوهم الملتزم أنه مراقب من قبل الأمن، وتارة يظهر فوارق وهمية بين الدعاة وبين الحكومات الإسلامية فالحذر الحذر من تلبيس الشيطان.(225/1)
كلمة عن الموت
الحمد لله الذي ستر القبيح، وأظهر الجميل، الحمد الله الذي جَمَّلنا بستره، وشرَّفنا بذكره.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: لقد أثنى فضيلة الشيخ -أحسن الله له المثوبة والجزاء فيما قدَّم- وإنه قد ذكر كثيراً مما لستُ بكفءٍ له؛ ولكن كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني فوق ما يظنون] بمنِّه وكرمه.
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني
أيها الأحبة في الله: يا أهل ساجر! ويا أهل المدن المحيطة بها! ويا أهل منطقة السر عامة! أحمد الله إليكم أن جمعنا بكم في روضة من رياض الجنة، ووالله لقد أحببناكم في الله قبل أن نراكم، وازددنا لكم حباًَ بعد لقياكم.
وقبل أن أدخل في موضوع هذه المحاضرة: لقد صلينا -كما ذكر فضيلة الشيخ آنفاً- على جنازة رجل أثني عليه خيراً، ولما سمعتم بشيءٍ من ذكره رفعتم الصوت بالدعاء له، فأسأل الله جلَّ وعَلا أن يجعلنا وإياكم ممن يُثنى عليه بعد موته خيراً.
المرء يفرح بالحياة وطول عيش قد يضرُّه
تفنى بشاشتُه ويبقى بعد حلو العيش مرُّه
وتسوؤه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسرُّه
كم شامتٍ بي إذْ هلكتُ وقائل لله درُّه
أيها الأحبة في الله: والله لقد غبطتُ صاحب الجنازة لما سألتُ أخي/ (مطلق) عنه، فقال: إنه من أهل هذه المنطقة، ومن كبار السن، فهنيئاً له، وأسأل الله أن يتغمده برحمته وأن يجمعنا به في بحبوحة جنته.
أيها الإخوة: من منكم يجد ضماناً أن يُمتَّع بقية عمره على الإسلام ما غيَّر ولا بدَّل؛ لكنكم صليتم على جنازة واحد من إخوانكم أو من آبائكم، هنيئاً له مات على التوحيد، ونحن وإياكم على خطر مواجهة هذه المغريات، وهذه المفسدات، وهذه الملهيات، التي لا يزال كثير من شبابنا وأبنائنا وبناتنا على خطر من الوقوع في مغبة آثامها وشرورها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أيها الأحبة: ما من مشهد إلا والقبر أفظع منه، وما من مصيبة إلا والموت أعلى المصائب فيها:
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرُقْنَ أسحارا
...
تزوَّد من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ!
فكم من عروس زيَّنوها لزوجها وقد نُسجت أكفانها وهي لا تدري!
وكم من صغار يُرتجى طول عمرهمُ وقد أدخلت أجسادُهم ظلمة القبرِ!
وقول الله أبلغ حيث قال جل وعلا: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42].
وقول الله أبلغ حيث قال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
وقول الله أبلغ! {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
واللهِ -أيها الأحبة- ليأتينَّ عليَّ وعليكم يومٌ يُصلى علينا كما صلينا على هذه الجنازة، وليأتينَّ عليَّ وعليكم يومٌ نغسَّل كما غُسلت هذه الجنازة، وليأتينَّ عليَّ وعليكم يوم تُخلع منا ثيابنا وقد لبسناها بأيدينا.
واللهِ ليأتينَّ عليَّ وعليكم يوم نُحمل على أكتاف الرجال، وقد كنا نحمل الجنائز على أكتافنا.
واللهِ ليأتينَّ عليَّ وعليكم يوم نوضَع فيه في القبر، ويُحكم علينا اللحد، ويُسد باللبِن، ويُهال علينا التراب فأين الملجأ وأين المنجى؟! وأين المعين وأين النصير؟! إلا الله جلَّ وعَلا.
فيا عباد الله: الرجوع الرجوع إلى الله، والتوبة التوبة قبل أن نوضع في ظلمة اللحود، وتُحكم السدود، ويُهال التراب، ونفارق الأحباب، ولا نجد أحداً من الأصحاب أبداً.
يا شاباً ما زال يستمع الغناء في لهوه! يا رجلاً ما زال منشغلاً بالربا والحرام! يا رجلاً ما زال مغرقاً في قطيعة رحمه، وعقوق والدَيه! يا رجلاً منتهكاً لحرمات الله، متعدياً على أسرار البيوت، ومنتهكاً لحرماتها وأستارها! اتق الله قبل أن يأتي هذا اليوم الذي لا منجى فيه ولا ملجأ من الله إلا إليه.
يا غافلاً عن العملْ وغرَّه طول الأملْ
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العملْ
وكم من أناس قد رأينا نعيمهم كم من أناس رأينا عبثهم ولهوهم وتبجحهم وعنادهم، وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليسمعوا قوله، وليهتدوا بهديه، وليستنوا بسنته رأيت بعضهم يصد عنك صدوداً، فإذا انصرفت عن بعضهم قال بعضهم لبعضٍ: {مَاذَا قَالَ آنِفاً} [محمد:16]؟! أيها الأحبة في الله: واللهِ إن هذا المصير الذي سنواجهه لن ينفعنا فيه أب حبيب، ولا صديق ولا قريب، ولا محب ولا لبيب، ولن يغني في دفع الموت صيدلي أو طبيب، ولا يدفع عنك الألم إلا رحمة رب السماوات والأرض، ولا يدفع عنك النقم إلا من سجدتَ له، وخضعت له، وتبت لوجهه، وتركت المعصية خوفاً من عذابه وطمعاً في ثوابه.
والآن أنت بالخيار، المهلة بين يديك، أنت لا تزال في زمن المهلة، فإن شئت فانبذ ما عندك من أشرطة اللهو، ومجلات الفساد، وصُحبة السوء، وما زُيِّن لك وزُخرف من المعاصي والملاهي، وإن شئت فامضِ على ما أنت عليه، وقريباً قريباً: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7] قريباً قريباً يمر بالإنسان ما كان يخشاه.
اسألوا أهل السبعين سنة: كيف ينظر إلى ما مضى من عمره؟ كأنها ليلة ماضية.
اسألوا أهل الخمسين عاماً: كيف ينظرون ما مضى من عمرهم؟ كأنها ساعة من نهار.
مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيامُ
ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوامُ
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلامُ
...
أين نمرود وكنعان ومن عَمَرَ الدنيا وولَّى وعزلْ
أتى على الكل أمر لا مردَّ له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
لكل شيء إذا ما تَمَّ نقصانُ فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ
لا تغرنكم المزارع ولا تغرنكم الصوامع ولا تغرنكم البِيَع ولا تغرنكم الضِّياع ولا تغرنكم الأنهار ولا يغرنكم هذا كله، قريباً يُنقل الناس من القصور إلى القبور، ومن النور إلى الظلمة، ومن الأنس إلى الوحشة، ومن الجليس إلى دار ليس بها أنيس.
فاعتبروا! الآن الجنازة تُدفن! الآن الجنازة يُحكم عليها اللبِن! الآن الجنازة توضع في اللحد! وسيأتي عليك يوم يتهلهل التراب على وجهك، وأنت في وسط اللحد وظلمته، وفي وسط القبر وكربته, وفي هول المطلع وشدته.
هاه من الذي يبيت معك في القبر ليلة؟! أين أعز صديق؟!(225/2)
حقارة الدنيا
واللهِ لو كان الناس في الدنيا بعضُهم يغني لبعض شيئاً لبات مع الملوك في قبورهم خادماً، ولبات مع الأثرياء في قبورهم مالاًَ، ولبات مع الذين أمروا ونهوا معهم في قبورهم من يؤانسهم؛ لكن -والله- لو أُتي بأحب الخلق وقيل له: بِتْ مع هذا الحبيب أو الثري أو الأمير أو الوزير أو الحقير أو الملك أو الصغير أو الكبير، بِتْ معه في قبره ليلة، واللهِ لا يبيت معه، لا أبٌ ينفع ولا أم، وأشد من هذا أهوال يوم القيامة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:25 - 37].
يا إخوان! يا أحباب! تفكروا في مصير الدنيا التي أنتم ونحن معكم ربما غفلنا، واغتررنا بها، وركنا إليها.
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراًَ جَلل
انظر إلى أعظم شيء تتمناه، تفكر في خاتمته وآخرته.
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراًَ جَلل
في منتهى: في آخر.
تفكر في الماء العذب الزلال الذي تتمنى شرابه، يتحول إلى بول لا يسرك سماعه.
انظر إلى اللقمة الهنية الشهية اللذيذة التي تأكلها، وتقبل عليها نَهِماً، تقلبها بلسانك، تمضغها بأسنانك! انظر منتهاها كيف يخرج من جوفك برازاًَ وغائطاً وعَذِرة تنصرف بوجهك وأنفك عنها.
انظر إلى الجمال الذي تشتاق إليه! كيف تعبث به السنون، ثم يبقى بعد ذلك شيئاً ذابلاً خاملاً لا نضرة فيه أبداً.
وبعد ذلك هذا البدن الذي تعلق به من تعلق يُدفن في التراب، فيدخل الدود مع العين ويخرج من الأذن، ويعبث باللسان الذي طالما تكلَّم وجادل بالباطل، ويدخل الدود في العين التي طالما سهرت أياماً وليالي على الأفلام والمسلسلات، ويخرج مع الأذن التي طالما سمعت آلات اللهو وأنواع الغناء، ويدخل في كل جوف وجزء وقطعة من شعرك وبدنك.
تأملوا هذه النهاية، وتدبروا هذا المصير! وإذا عرفنا ذلك أدركنا أن الدنيا حقيرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).
إذا تأملنا حقيقة الدنيا، فهي سجن المؤمنين؛ لأن ما ينتظرك -أيها المسلم- فيما عند الله من النعيم بالنسبة لما تراه الآن في الدنيا تعتبر دنياك حبساً، والجنة هي التي تنتقل إليها، والنعيم هو الذي تنتقل إليه، والحرية هي الدار التي تنتقل إليها.
وهذه الدنيا جنة الكافر، حتى وإن أطلق بصره، وأطلق فرجه، وأطلق لسانه، وأطلق سمعه في الحرام؛ لأن دنياه هذه بالنسبة لما ينتظره من العذاب في القبور، ومن العذاب في الآخرة، تعتبر بالنسبة لهم هذه جنةٌ؛ لأن ما ينتظره من بلاء ومصائب أعظم مما يخطر على البال.
في الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ما لا عين رأت من النعيم، ولا أذن سمعت عن النعيم، ولا خطر على قلب بشر من النعيم.
وفي الآخرة ما لا عين رأت من العذاب، ولا أذن سمعت من العذاب، ولا خطر على قلب بشر من العذاب.
فهل نستعد؟! هل نستجيب؟! هل نعود إلى الله؟! هذه الدنيا التي تعلقنا بها: اجتماعنا فيها نهايته الفراق.
وصحتنا فيها يكدرها الآلام والأمراض والأسقام.
والغنى فيها مَخُوف بألوان الفقر.
والعزة فيها كلما سمع الناس صولة دولة على دولة، وجولة باغٍ على آخرين خافت الناس خشية من تحوُّل الأوضاع من عز إلى ذل، ومن أمن إلى فزع، ومن طمأنينة إلى خوف.
إذاً: هذه الدنيا ليست للأبرار مقراً، حتى وليست للفجار مقراً؛ لكن الأبرار يمرون فيها إلى دار النعيم، والفجار يمرون بها إلى مقر الجحيم.
فيا أحبابنا إذا تأملنا ذلك عرفنا أن دنيانا ما هي إلا مزرعة، نزرع فيها الأعمال الصالحة، ونبذر غراس الأعمال النافعة، حتى نجني يوم القيامة.
ومن زرع البذور وما سقاها تأوَّه نادماً يوم الحصاد(225/3)
الدعوة إلى الله تجارة رابحة
أيها الأحبة في الله: ما دام هذا شأن الدنيا، وهذا مصيرها، وهذه أحوالها، وبعدها أهوالها، فإن من خير ما ينفعنا ويسرنا وينجينا أن نجعل الدنيا مزرعةً للدعوة إلى الله جلَّ وعَلا، نريد العمل الذي يعطينا الحسنات الكثيرة في الأيام القصيرة.
لو أن عندك مائة ألف ريال، وأردت أن تستثمرها، فقال لك أحد أصدقائك: أعطني هذا المال وأعطيك أرباحه بعد سنتين، تقول: لا.
السنتان طويلة، وما هي الأرباح؟! (10%) أو (20%)، تقول: لا.
هذا مشروع فاشل، (20%) والأرباح بعد سنتين؟! هذا مشروع فاشل، فإذا قال لك آخر: أرباحه بعد ستة أشهر، والمكسب (100%) تقول: نعم.
أنت المستثمر الناجح، وأنت التاجر الماهر الذي حريٌّ أن نعطيه المال، فيستثمره لنا، وينفعنا باستثماره وتحريكه.
أقول لكم يا تجار الآخرة! أقول لكم يا معاشر الموحدين! أقول لكم يا أحبابنا أجمعين: تعالوا معي لنتعرف على تجارة أرباحها كثيرة، ومدة دورة رأس المال فيها قصيرة، ما هي؟! الدعوة إلى الله جلَّ وعَلا.
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وقال جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
من دعا إلى هدى فله أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة.
لو قام أحدكم الآن وتكلم بيننا، وقال: أيها الناس: تصدقوا، واتقوا، وتقربوا إلى الله، فإن في يوغسلافيا إخواناً لكم محتاجين لمساعدةً؛ لأنهم يُقَتَّلون ويُشَرَّدون على أيدي الصربيين الكفار النصارى الأرثوذكس، فقمتم أنتم وتبرعتم وجمعتم على الأبواب مائة ألف ريال مثلاً، كتب الله في ميزان هذا الذي تكلم أجراً يعادل صدقة مائة ألف ريال، مع أنه ربما لم يتبرع إلا بريال واحد؛ لكنه دعا إلى الخير، فكان له مثل أجره.
ما دامت الدنيا حقيرة، والأيام قصيرة، وبحاجة إلى متاجرة لحسنات كثيرة فإن الدعوة إلى الله من خير ما ينفعنا.
ولكن -أيها الأحباب- وجدتُ من خلال اطلاعٍ وتجربةٍ واستقراءٍ؛ وجدتُ كثيراً من الناس يحبون الدعوة إلى الله، ويحبون الخير، ويحبون الدعاة إلى الله؛ ولكن الشيطان يلبِّس عليهم، الشيطان يخوفهم، وذلك هو: (تلبيس إبليس) الذي هو موضوع محاضرتنا اليوم.(225/4)
مقدمة عن تلبيس إبليس
تلبيس إبليس لنا ولكم في أمر الدعوة إلى الله جلَّ وعَلا.
بماذا يلبِّس الشيطان علينا؟ أولاً: ما هو التلبيس؟ التلبيس هو: التخليط، وخلط قليل من الحق -الذي يُراد به الباطل- مع كثير من الباطل الذي يُراد به الضلالة، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران:71] لماذا تخلطون الحق مع الباطل؟! إذاً: إذا عرفنا هذا التلبيس، الذي يأتي الشيطان فيه، فيعرض عليك قليلاً من الحق الذي يريد به الباطل، وقد لبَّسه ثوباً من الباطل.
أرأيت أصحاب المخدرات الذي يأتي أحدهم بمجموعة من الحبوب، أو مجموعة من النباتات الضارة السامة، ثم يلبِّسها بقليل من أوراق الشجر، أو يلبسها بقليل من السكر، فيظن من رآها أنها حلوة، وهي في باطنها سامة قاتلة.
فكذلك تلبيس إبليس، يلبِّس عليك كثيراً من الباطل بطبقة شفافة رقيقة من الحق الذي أراد به الباطل، ومن ثَمَّ تنصرف عن الدعوة، وتخاف من الدعوة، ويُصيبك الجبن، ويقتلك الذعر، ويصيبك الهلع، ويقيدك الجزع، فترى الخير ولا تدعو إليه، وترى المعروف ولا تشارك فيه، وترى المنكر ولا تنكره؛ لأن الشيطان لبَّس عليك، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] تلبيس من؟ إنه تلبيس إبليس.
من هو إبليس؟ إبليس هو: الشيطان الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
الشيطان الذي نهانا الله عن وسوسته وخطواته، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
الشيطان يلبِّس عليكم، يعِدُكم بالفقر، ويأمركم بالفحشاء، ويخوفكم بالذين من دونه، وإذا همَّ أحدكم بفعل خير، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، جاء الشيطان يخوِّفه, وهذا من تلبيس إبليس، الشيطان يقعد بك عن كل خير، ويفتح لك باب كل شر.
هل رأيتم يوماً من الأيام رجلاً يُجَرُّ في الشارع بحبل، فنقول: هذا الشيطان يجر فلانََ بن فلان؟! لا.
الشيطان ليس معه حبال يجر بها الناس، والشيطان ليس معه عِصِي يضرب بها الناس، وليس عنده مشانق يشنق بها الناس، والشيطان ليس عنده مسدسات يقتل بها الناس.
لكن شأن الشيطان كما قال الله جلَّ وعَلا: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم:22] الشيطان زعيم المجرمين يقف يوم القيامة في جهنم خطيباً يحاضر أولياءه، حزبَ الشيطان، أصحابَ السعير، الذين يدعوهم: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
يقف خطيباً ويقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم:22] يعترف بأن الله وعد عداً حقاًَ، كما قال تعالى في سورة الأعراف: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].
نعم.
الشيطان يعترف بأن وعد الله حق: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم:22] الشيطان يعترف ويقول لجماعته وأتباعه: إني وعدتكم فأخلفتكم.
{وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] أنا دعوتكم فأتيتم، عرضتُ شريط أغنية فسمعتموه، عرضتُ فيلماً فنظرتم إليه، عرضتُ مجلة فقلَّبتموها واقتنيتموها، عرضتُ أسهماً ربوية فبادرتم إليها وساهمتم فيها {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] ما عندي عصا أضربكم بها، ما عندي حبال أشنقكم بها {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
إن أهل الباطل في النار يلعن بعضُهم بعضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] يقول أهل النار: يا رب! أين الذين أضَلُّونا؟! أين دعاة العلمانية؟! أين دعاة الباطل؟! أين دعاة التغريب؟! أين الذين يدعون إلى تبرج المرأة؟! أين الذين دَعَونا إلى اختلاط المرأة في الوظائف والتعليم؟! أين الذين قالوا: إن الربا حلال؟! أين الذين قالوا: إن الملاهي لا حرج فيها؟! أين؟! أين؟! أين؟! {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] حوار، ومخاصمات وشجار، ولِجاج وكلام، ومناظرات طويلة في النار بين أهل النار {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة:166 - 167] وبعد ذلك؟ {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].
هذا شأن أهل الباطل الذين زيَّن لهم الشيطان، ولبَّس عليهم فأطاعوه، وكانوا أعواناً لجنده، وأعوانِ الشيطان من شياطين الجن والإنس.
ويا إخواني يا أحبابي! أخاطب في هذا المسجد المبارك كلَّ واحد فيكم أيَّاً كان عليه ذنبٌ من الذنوب، أو مقصِّراً، أو عابداً، أو تقياً، أو يعلم أن عليه ملاحظات في نفسه، أخاطب كل حبيب من أحبابي، حتى ولو كان عليه علامات التقصير.
أقول: يا أخي الحبيب: إياك أن تجعل الشيطان يحول بين عقلك وقلبك وبين ما أقول لك الآن، صارح نفسك، واسمع الفائدة، واسمع النصيحة، قبل أن يأتي وقت العَتَب، كما يقول الشيطان: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] أي: أنا لا أنقذكم وأنتم لا تنقذونني.(225/5)
من تلبيس إبليس تشويه الدعاة إلى الله
أحبابنا! إخواننا! كيف يلبِّس الشيطان علينا حتى يجعلنا نتقاعس عن الدعوة إلى الله، ونتكاسل عن المشاركة في الأمر بما يرضي الله؟! كيف يلبِّس الشيطان علينا ليدعونا إلى عدم إنكار المنكر، وإلى عدم الأمر بالمعروف؟! بل وأعظم من ذلك: كيف يلبِّس الشيطان علينا ليقول بعضُنا لبعض: انظر إلى هؤلاء المَطاوِعة! انظر إلى هؤلاء الدعاة! انظر إلى هؤلاء الذين؟! هؤلاء الذين ماذا؟! هل نافستهم في روضة المسجد؟! هل نافستهم في حفظ القرآن؟! هل نافستهم في قيام الليل؟! هل نافستهم في صيام الإثنين والخميس؟! هل نافستهم في الخروج، والدعوة إلى الله؟! هل نافستهم؟! لا.
لا يقول لك الشيطان: انظر إلى هؤلاء الذين سبقوك في العبادة والصيام والقيام، والدعوة والإنكار، والأمر المعروف، لا.
وإنما يقول: انظر إلى هؤلاء.
ثم يبدأ تلبيس الشيطان.
يقول لك الشيطان: إن هؤلاء (المَطاوِعة) لهم أهداف.
إن هؤلاء (المَطاوِعة) لهم مقاصد.
إن هؤلاء (المَطاوِعة) يخططون على أشياء بعيدة.
إن هؤلاء (المَطاوِعة) عندهم وعندهم كذا.
أقول: حياك الله! تعال وانظر ما عند (المَطاوِعة) هل يمتلكون طائرةَ ( F 16) في البيت! واضعون طائرة (تُرْنِيدو) دفاعية أو مقاتلة! أو طائرة هجومية! أو في بيت الواحد مدفعية ميدان! أو صاروخ مضاد للطائرات! أو قانص دبابات من طراز أباتشي! أو كاسحة ألغام فرنسية؟! ماذا يوجد عند (المطاوعة) في بيوتهم؟! تعال وادخل بيتهم، ستجد قرآناً كريماً تفسير ابن كثير تفسير الطبري فتح الباري صحيح مسلم كشف الشبهات آداب المشي إلى الصلاة سنن أبي داود تحذير الساجد من اتخاذ البدع والقبور في المساجد، ستجد كتب العلم.
إذاً: إذا جاءك الشيطان ليلبِّس عليك أمراًَ يدعوك من خلاله لأن تكون من القاعدين، أو المتكاسلين، بل يأتيك الشيطان، يا ليته يقول لك: اسكت، مثلما يقول العوام: (انْثَبِر)! لا.
يأتيك الشيطان ويقول: هؤلاء ينبغي أن تحذِّر منهم، هؤلاء ينبغي أن تتابعهم، هؤلاء ينبغي أن تنتبه لهم، أما متابعتهم فحياك الله! أما متابعة أهل الخير فحياك الله، مثلما يقول العوام: (ما يخاف إلا الذي في بطنه نِيْ، والذي في بطنه مِعِيِّن يُوْجِعَه)! أهلاً وسهلاً، تابع من شئتَ، ولاحق من شئتَ، وفتش من شئتَ، ستجد ما يعينك بإذن الله.
مثلما يقولون: إن لصاًَ من اللصوص تسوَّر على بيت رجل من العلماء فسرق صندوقاً لا يدري ما الذي فيه، فلما ذهب إلى البيت وفتح الصندوق وجد كتباً، فقرأها فتاب واهتدى، فنقول: حيا الله من تابع هؤلاء الدعاة، وحيا الله من تابع الإخوان، وحيا الله من تابع أهل الخير، وحيا الله من تابع أهل الإيمان، حياك الله وبياك وبارك فيك، تابعهم، وإني أجزم أن متابعتك لهم ولو كان قصدك شيئاً غير الهداية ستكون نهايتك الهداية، كما في الحديث: (إن لله ملائكة سيَّارين طوَّافين يبتغون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقة من حلق الذكر نادى الملائكةُ بعضُهم بعضاً أن هلموا، فيجتمعون، ثم يسألهم ربهم وهو أعلم بهم، ويقول ربنا: يا ملائكتي) الآن أنتم في هذه الروضة من رياض الجنة، الملائكة تحفكم، والسكينة تغشاكم، والرحمة تتنزل عليكم، والرب جلَّ وعَلا يذكركم في الملأ الأعلى.
واللهِ -يا إخوان- لو قلت لأحدكم: إني البارحة مع الأمير الفلاني أو الوزير الفلاني وذكرنا فلاناً، أو شيخ الفخذ الفلاني، لقال: أسألك بالله، الأمير، الوزير سماني باسمي؟! أعِد لو سمحت! أعِد لو سمحت! ماذا قال عني؟! فيا أخي الحبيب! أقول لك ما قاله الله عنه: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير من ملئه) فأنتم الآن تذكرون الله في هذا المكان، والله يذكركم في الملأ الأعلى.
أحبابنا! أكمِّل الحديث لكم في شأن الذين يوسوس لهم الشيطان، ويقول: هؤلاء عندهم أهداف، هؤلاء المَطاوِعة وراءهم مقاصد وراءهم مَطالب، نقول: سيكون شأن من لاحقهم وتابعهم -وحياه الله، ومكانه العين والرأس- فيكون موقعه كما جاء في الحديث: (يسأل ربنا ملائكته وهو أعلم بهم ويقول: يا ملائكتي! علامَ اجتمع عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: يا ربنا! اجتمعوا يذكرونك، ويشكرونك، ويسألونك، ويستعيذونك، فيقول الله: يا ملائكتي! وماذا يسألونني؟ فتقول الملائكة: يا ربنا! إنهم يسألونك الجنة) الجنة!
يا سلعة الرحمن لستِ رخيصة بل أنت غالية على الكسلانِ
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنانِ
يا سلعة الرحمن كيف تصبَّر الـ ـخُطَّاب عنكِ وهم ذوو إيمانِ
(تقول الملائكة: يا ربنا! يسألونك الجنة، فيقول الله: يا ملائكتي! وهل رأى عبادي هؤلاء جنتي؟ فتقول الملائكة: لا، فيقول الله: وكيف لو رأوا جنتي؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد لها طلباً، فيقول الله جلَّ وعَلا: يا ملائكتي! ومم يستعيذون؟ فتقول الملائكة: يا ربنا! يستعيذون من نارك، فيقول الله: وهل رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: لا.
فيقول الله: وكيف لو رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد منها هرباً، فيقول الله جلَّ وعَلا: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرتُ لهم) وأبشركم وأبشر الحاضرين، من جاء إلى هذه المحاضرة يريد وجه الله، وأخلص النية لله، وسأل الله التوبة والمغفرة، ليخرجنَّ -برحمة الله، ثقةً بالله، تصديقاًَ بكلام رسول الله- ليخرجنَّ مع هذا الباب من المسجد شباب ورجال بدون ذنوب، بإذن الله، تصديقاًَ بوعد الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فيقول الله: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرتُ لهم جميعاً، فتقول الملائكة: يا ربنا! إن فيهم فلان بن فلان إنما جاء لأمر آخر، فيقول الله: وله غفرتُ معهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).(225/6)
الشيطان والتخويف من الملتزمين
أقول لكل واحد منكم: إذا جاءك الشيطان وقال: هؤلاء المطاوعة هؤلاء الدعاة هؤلاء العلماء هؤلاء الذين فيهم ما ليس فيهم، يريدون يخططون يفعلون يدبرون، أقول: يا حبيبي! يا صديقي! يا صاحبي! اتبعهم وتابعهم، وانظر ماذا عندهم، ستجد -بإذن الله- ما يكون سبباً في هدايتك، ويكون سبباً في استقامتك.
إذاً: فلا تكن من الناس الذين إذا قالوا له: يا فلان! انتبه لهؤلاء المَطاوِعة، لا تمش معهم، قال: الله يجزيكم خيراً، هذه نصيحة جيدة! ثم أخذ القطن، ووضع هاهنا قطنة، ووضع هاهنا قطنة، وإذا أعطاه (مُطوِّعٌ) شريطاً، قال: ابتعد هناك، هذه متفجرات، يعطيه أحد الإخوان كتاباً: ابتعد هناك! هذه منشورات، يعطيه أحد الإخوان نصيحة: ابتعد هناك، أنا لا أدري ما هو قصدك في هذه النصيحة؟! أَف منك يا ولد فلان؛ أهكذا يقع منك الأمر؟! شريطٌ يُباع في تسجيلات البشائر الإسلامية، الدوادمي، طريق ماثل، تليفون: [6423745] شريطٌ يُباع في تسجيلات التقوى، شريطٌ يُباع في تسجيلات الكلم الطيب، هذه التسجيلات مصرحة من إسرائيل؟! مصرحة من أمريكا؟! تسجيلات إسلامية مصرحة من وزارة الإعلام داخل بلادك ودولتك، فإذا أعطاك واحدٌ شريطاً، وقال: يا أخي الحبيب! تفضَّل هذا الشريط هدية، مكتوب على الشريط: من التسجيلات الفلانية، ولا يمكن أن يباع الشريط إلا بعد أن يُفتح، يعني: يُسمح بتوزيعه ونسخه من وزارة الإعلام بالفتح، رقمٌ، وتاريخ، إذاً يا أخي الحبيب! ما الذي يخيفك؟! إذا كانت وزارة الإعلام وأجهزة مراقبة المطبوعات -على ما فيها، نسأل الله لأصحابها والقائمين عليها الصلاح والاستقامة- إذا كانت أذنت وسمحت وفتحت هذا الشريط وأذنت بتداوله؛ لأنه ليس فيه شيء ممنوع يخالف السياسة، بل مسموح بتداوله، ما الذي يمنعك أن تأخذ الشريط وتسمعه؟! وما الذي يمنعك أن تستفيد من الشريط وتتعظ به؟! وما الذي يمنعك أن تعطي الشريط لزوجتك وبناتك يستفدنَ منه؟! وما الذي يمنعك أن تنسخ من الشريط نسخةً ونُسَخاًَ فتهديها إلى أقاربك وجيرانك وبني عمك؟!(225/7)
قصة الطفيل بن عمرو الدوسي
ذَكَر أهلُ السير أن الطفيل بن عامر الدوسي لما سمع بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته قال لقومه: [لأذهبن إلى مكة، وأنظر خبر هذا الرجل الذي يذكرونه في قريش، فجاءه قومه قالوا: إن هذا الرجل عنده كلام كالسحر، وإن عنده شيئاً أشد من النثر، وإن عنده شيئاً إذا سمعته استجبتَ له؛ لكن عليك -يا أبا عامر - أن تضع الكُرْفُس في أذنك، فمر الطفيل وقد وضع القطن في أذنيه، ولما دنا من مكة قال: عجباً لي! أما وإني لَمِن أشعر العرب -أنا شاعر- وأعرف رديء الكلام من صحيحه وسقيمه، فلماذا لا أقدم على الرجل، وأسمع من كلامه، فإن كان حقاً قبلتُه، وإن كان باطلاً رددتُه].
فنحن نقول لك -أيها الشاب، أيها الأخ، أيتها الأخت، أيها الصغير، أيها الكبير- اسمع إلى هذا الكلام، فإن كان خيراً فاقبله، وإن كان غير ذلك فرده علينا، البضاعة المباعة مردودة، ما نقول: لا تُسترد، لا.
نقول: حياك الله، إذا وجدتَ خطأ رد علينا، إن تسمع منا خيراً فمن الله ومن كلام الله ورسول الله، وإن تسمع غير ذلك فمن أنفسنا الأمارة بالسوء؛ لكن اسمع حتى لا يلبِّس عليك الشيطان ويقول لك: هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء.
أذكر مرة جلستُ مجلساً فأخذ رجل من الحضور -أسأل الله له الهداية والتوفيق والسداد والصلاح- يتكلم في مجموعة من الدعاة وأهل الخير، قال: فيهم، وفيهم، وفيهم، وعندهم، وعندهم، فبعد أن أكمل الرَّجُلُ كلامه، قلت له: يا أخي! هل جالستَهم؟! هل سافرتَ معهم؟! هل سَمِعتَ لأحدهم شريطاًَ؟! هل قرأتَ لأحدهم كتاباً؟! قال: لا.
لكن يقولون! من هم الذين يقولون؟! هذا ولدٌ أنْجَبَتْه زوجة إبليس اسمه: (يقولون) فإذا قال لك: يقولون، يعني: يقول ولدُ إبليس، هذه حقيقة الأمر.
أما الرجل فما عنده بينة، وما عنده دليل، وأخبث مِن هذا مَن يقول: إني قرأتُ تحليلاً في مجلة نيوزويك أو مجلة اللوفيقارو الفرنسية، أو مجلة التايمز الأمريكية، أو مجلة التايمز اللندنية، أو مجلة كذا الغربية! يا أخي الحبيب: تسمع أخبار لندن في إخوانك؟! وتسمع أخبار مونت كارلو في إخوانك، وتسمع أخبار اليونايتد برس، والآسيوشيتد برس، تسمعها في إخوانك؟! أما تتقي الله؟! وإخوانك بجوارك، ادخل عليهم، اسمع منهم، اقرأ ما عندهم، انظر ما بين أيديهم، فهل ترى شراً أم ترى خيراً؟! ولكن: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56].
بعض الناس يرد الحق قبل أن يسمعه أو يتعرف عليه، ولم يقبله لما عُرض عليه؛ ولكن في صدره الكبر، واعلم أن الكبر هو داءٌ أخرج إبليس من الجنة {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75].
الكبر هو الذي أخرج إبليس من الجنة، وأغرق فرعون في البحر، قال تعالى في شأنه وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوَّاً} [النمل:14] وتكبراً وعناداً، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذاً: أيها الحبيب: إن من تلبيس الشيطان عليك أن يردك عن سماع الخير، أن يقولوا لك: إن في الخير خطراً عليك، وإن في الخير ضرراً عليك، وإن في الخير، ما هو الخطر الذي يأتيك يا أخي الحبيب؟! هل يستطيع أحدٌ من البشر أن يقلل من رزقك الذي كُتب لك وأنت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، وقد أُمر الملك بكتب رزقك، وأجَلك، وشقائك وسعادتك، هل يستطيع أحدٌ أن يغير من مقادير الله فيك شيئاً؟! واللهِ من قال: إني أخشى أن أتبع الهدى، أو أستقيم مع أهل التقى، أو ألتزم على طريق الهداية، فينقص رزقي نقول له: إن اعتقدتَ هذا كفرتَ؛ لأن من اعتقد أن اتباع الهداية يجر له القلة في الرزق، هذا كفر يخرج من الملة.
أخي الحبيب: إن من تلبيس الشيطان أن يقول لك إن رجال الأمن يراقبون الملتزمين ولكن نقول لك: إن من حق الدولة أن تراقب، ومن حق المسئولين أن يراقبوا؛ لكن يراقبون مَن؟! إنهم لا يراقبونك؛ لكن يراقبون العلمانيين الذين لا يعلنون عن اجتماعاتهم.
هل يوماً ما رأيتم اجتماعاً علنياً بين العلمانيين يُسمح لسائر الناس أن يحضروه؟! لا.
لا يجتمع العلمانيون إلا سراً؛ لكن الآن اجتماعنا في أهل الخير، اجتماعنا هنا هل هو سر؟! أم على الباب أحدٌ لا يسمح إلا لصاحب البطاقة؟! الباب مفتوح، والدعوة عامة، يحضرها الصغير والكبير، والعامي والمثقف، والمدرس والتلميذ؛ لأننا ما أتينا بشيء بِدْعٍ من ذوات أنفسنا، وإنما نقول:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفانِ(225/8)
تخويف الشيطان للملتزمين من مراقبة الأمن لهم
يا أخي الحبيب: لا يلبِّس عليك الشيطان ويقول لك كما قال لشاب -وذكرتُ هذا الكلام في محاضرة سبقت- شاب والله يا إخوان إني أعجب منه! قال: يا أخي! أنا أحس أنني مراقَب.
قلت: باسم الله على قلبك! من الذي يراقبك؟! قال: أنا يراقبني أربعة.
ما شاء الله! أحسب أنه مجرم شنيع! أربعة يراقبونك؟! إذاًَ ما بقي للألوية الحمراء والمافيا؟! قلت له: تعال، ماذا عندك حتى يراقبونك؟! قال: أبداً، فقط أنا أشعر إني مراقَب.
وسوسة، وتلبيس من إبليس، وتخويف من الشيطان: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268].
والآن أريدكم أن تتخيلوا معي هذا المثال: اجلس في بيتك، كل واحد منكم يجلس في بيته، ويتكئ على الأريكة ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا فتح الله عليَّ واستفدتُ من هذه المحاضرة التي سمعتُها، وسوف أقوم بعمل إسلامي، سوف أقوم بعمل دعوي: سوف أتعاون مع مندوب الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
سوف أتعاون مع مركز الدعوة في الفيظة، والسر.
سوف أتعاون مع العلماء وطلبة العلم في نشر الشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي.
سوف أوزع الشريط الإسلامي ما استطعتُ على أخواتنا الدارسات والمدرسات.
سوف أوزع الشريط الإسلامي على الشباب في المدارس.
سوف أوزع الشريط الإسلامي على جيراننا.
سوف أوزع الكتيبات النافعة.
إذا قلت هذا الكلام وأنت جالس تشعر أنك كلما فكَّرتَ في الموضوع كلما نَزَلَ على رأسك جبل من الأوهام، جبل الخوف، جبل التشويش، جبل التلبيس الذي يقربه الشيطان لك، وكلما فكرت أخذ الشيطان يجعلك تلتفت يميناً، ثم تلتفت يساراً، وإذا سمعتَ عند الباب أحدٌ ذهبت تُطِلُّ من عين الباب: من الذي جاء؟! يشغلك الشيطان ويوهمك أنك الآن تمارس عملاً ممنوعاً.
فإذا قررتَ في نفس الجلسة، وقلتَ: يا بن الحلال، (خَلِّ الداب وشجرته) وما لي وهذا الكلام، وما لي والذي فيه (سين جيم) أنا والله ما عندي استعداد أن أدخل نفسي، عليَّ هذا المسجد، إذا قال: الله أكبر! أرُوْح لأصلي، وإذا سلم الإمام خرجت إلى البيت، وما عليَّ من أحد، تقول: الحمد لله ارتحنا.
فأنت لما فكرت في الدعوة نزل عليك جبل التلبيس والأوهام، ولما ألغيت قرار الدعوة والنشاط في الدعوة شعرتَ بالراحة، مع أنك ما تحركتَ خطوة واحدة.
بتفكيرك نزل جبل، وبتفكيرك ولَّى الجبل، وأنت لا تزال في مكانك.(225/9)
الشيطان وتفريقه بين الملتزمين وبين الحكومات الإسلامية
إخواني وإن من تلبيس إبليس لنا: أن يقول لك الشيطان: انظر الآن، الدول الأفريقية، والدول الآسيوية، والدول الأخرى، تجد الحكومات في صراع مع الدعاة، والحكومات في صراع مع العلماء، والحكومات في صراع مع الجمعية الفلانية، والجبهة الفلانية.
أقول لك: نعم.
لأن الحكومات أعلنت الكفر، ولأن الكثير من الحكومات قالت: المصدر الرئيسي للتشريع هو: قانون الرومان، أو القانون الفرنسي، المفسَّر برقم وتاريخ، والمعدل برقم وتاريخ.
لكن أنت الآن هل يوماً سمعتم في بلادكم أن مصدر التشريع أو مصدر التحاكم هو الكتاب الأخضر؟! أو أن مصدر التحاكم هو: نظرية البعث العربي الاشتراكي؟! أو أن مصدر التحاكم هو كتب النصيرية؟! أو أن مصدر التحاكم هي كتب الضلالة؟! أم أننا نسمع صباح مساء أن القرآن والسنة والعقيدة هي مصدر وأصل اجتماع وسر عزة وتمكين وهي نعمة؟! اللهم لك الحمد.
إذاً: إذا كانت تلك الدول تصرفاتها صريحة في الكفر، القاتل يُسجن خمس سنوات، والسارق يُسجن سبع سنوات مع الأعمال الشاقة، ولا تُسمع الدعوى في الزنا حالة الرضا إلا إذا كانت على فراش الزوج وبغير إذنه، هذا نص القانون، والزنا مقنَّن بالترخيص رقم وتاريخ، والخمر يُباع بإذن وزارة التجارة في تلك الدولة برقم وتاريخ.
لا نستغرب أن يوجد انقسام في المجتمع، فتكون الحكومة الظالمة الفاسقة الفاجرة أو الكافرة في طرف، ويكون المؤمنون الموحدون المسلمون طرفاًَ آخر.
يأتي الشيطان إلى أحدنا هنا، ويقول: (المَطاوِعة) في طرف والحكومة في طرف، لا.
لا.
من ذا الذي جاء ليفرق بيننا وبين حكامنا؟! من ذا الذي جاء يفرق بيننا وبين علمائنا؟! من ذا الذي جاء يفرق بيننا وبين دعاتنا؟! من ذا الذي جاء يفرق بيننا وبين إخواننا؟! نحن لا نقبل التفريق.
ولذلك فإن من أساليب تلبيسه ووسوسته وتزيين الباطل لكي يجعلك جامداً عاجزاً لا فائدة منك في الدعوة والخير، يقول لك: انتبه! إن صرت مع المََطاوِعة فستكون مع حزب المعارضة للحكومة، إن كنت مع المَطاوِعة ستكون مع الحزب الذي هو ضد الحكومة.
لا يا حبيبي، نحن ما عندنا أحزاب، نحن أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] والآية في أمة الإسلام أجمعين، فلا نقبل من أحد أن يفرق بيننا أبداً.
اعرفوا هذه القضية جيداً، أدركوها جيداًَ، ولا تجعل الشيطان يصور لك القادة والولاة شيئاًَ، ويجعلك من أحزاب المعارضة، أو من أحزاب الضد والعناد.
أخي الحبيب: إذا عرفت أنك في بلاد مسلمة، الناس فيهم خير، حتى الفاسق من أبنائنا فيه خير، ولكنه يحتاج ورقة قطنية ناعمة، وموعظة لذيذة حلوة، ثم يُمسح المنكر الذي على قلبه، ويُزال الأذى الذي على فؤاده، ثم يعود زجاج قلبه برَّاقاً لامعاً، نعم.
كثير من الفساق عندنا قلوبهم زجاج جميل؛ لكن عليه شيء من التلوث والوسخ، لوث المعاصي، ووسخ الذنوب والمنكرات، فالذي يأتي (بصُنْفُرةِ) خشنة يريد أن ينظف القلب الزجاجي الذي تلوث بهذا؛ فإنه إما يكسر القلب أو يخدشه؛ ولكن من جاء بالقطنة الناعمة، والمحلول الذي يحلل هذه الأوساخ، ثم يمسح هذا القلب قليلاً قليلاً تجد بعد ذلك قلباً لامعاً رقيقاً جميلاً.
لا يزال الخير فينا.
فإياك أن يأتي الشيطان ليقول لك: حكومتك طرف، والدعاة طرف، والعلماء طرف، والفساق طرف، لا.
نحن أمة واحدة، كلنا في كف واحدة، فاسقنا، وعالمنا، وصالحنا، وطالحنا، وحاكمنا، وداعيتنا، كلنا في كف واحدة.
تتمة لما ذكرناه -أيها الأحبة- نقول: إن وساوس الشيطان وتلبيسه كثير: وحديثنا عن تلبيس الشيطان على كثير من الناس ومن أحبابنا وإخواننا الذين ربما كانوا سبباً في عون أهل الباطل على أهل الحق، وربما كانوا سبباً في الإرجاف والتثبيط للمؤمنين، وكانوا عوناً للمنافقين وأعداء المؤمنين، بسبب هذه التلبيسات وهذه الظنون السيئة.(225/10)
العلمانيون وخطرهم على الأمة
أيها الأحبة: ينبغي أن ندرك أننا مجتمع واحد، حتى الفاسق فينا فهو داخل دائرتنا، وحينما أقول: دائرتنا لا أقصد: دائرة المتدينين، دائرتنا جميعاً، حكامنا، وعلماؤنا، ودعاتنا، وإخواننا، وأبرارنا، وفجارنا أيضاً، حتى من كان مخطئاً مذنباً من أهل الذنوب من غير بدعة ينتحلها، ويدعو إليها، ويقصد إضلال الناس؛ إذْ أن الضلالة نوعان: هناك من يَضِلُّ ضلالة لهوى، من يَضِلُّ ضلالة لشهوة، ضلالة فساد ومعصية، هذا شأن.
لكن هناك من يَضِلُّ ويُضِلُّ {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] هناك من يقع في المعصية، ويشتهي أن الناس كلهم يفسدون.
يوجد كثير من الناس يذنب؛ لكنه لا يتمنى أن الناس يذنبون، كثير من الناس يدخِّن؛ لكن لا يتمنى أن أولاده والناس أجمعين يدخنون، بعض الناس وقع في معصية؛ لكن لا يتمنى أن الناس كلها تقع في هذه المعصية، ربما بعض الناس شرب الخمر؛ لكن لا يتمنى أن الخمر يصبح يُباع في البقالات كما تباع العصيرات، من الناس من وقع في فاحشة؛ لكن لا يتمنى أن يوجد قانون يحمي الفواحش وأهل الفواحش والفساد.
لكن الطرف الآخر الذين هم أعداء مجتمعنا، العلمانيون الذين يتربصون بنا الدوائر، الذين يريدون أن يقولوا للناس: كونوا فريقين: من أراد أن يصلي فليصلِّ، ومن أراد أن يفسد فليفسد، ولا أحدٌ يتدخل في أحد، هذا ليس أمراً مقبولاً في دين الإسلام، الله جلَّ وعَلا قال: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117].(225/11)
العلمانيون وموقفهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لا يمكن أن يُترك الوضع لكي يقول قائل: من أراد أن يفسد فليفسد، ومن أراد أن يتديَّن فليتديَّن، من أراد أن يفجر فليفجر، ومن أراد أن يطلب العلم فليطلب العلم، لا.
الله جلَّ وعَلا قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] إن مكناهم، حكاماً ومحكومين، أنتم الآن متمكنون في الأرض: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] من يرد عنا العذاب إن جاءنا؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! لا يُقْبَل قول مَن قال: من أراد أن يفسد فليفسد، وكلٌّ ذنبه على جنبه، ومن أراد أن يصْلُح فليصْلُح، لا.
إنما {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] ماذا؟ {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} [الحج:41] بكل معروف تُرِكَ {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] نهوا عن كل منكر فُعِلَ.
هكذا شأن أمة الإسلام، هكذا شأن أمة الإيمان، وواللهِ ما دفع الله عنكم البلاء إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول طاغوت العراق الخنزير النجس/ صدام حسين: إن ندمتُ على شيء فإنما أندم على أمرين: الأمر الأول قال فيه: أنني خالفتُ طارق عزيز.
ومن هو طارق عزيز؟ هذا كهامان بالنسبة لفرعون.
لماذا خالفه؟ قال: لأنه نصحني وقال: إن تقدمت إلى الكويت فلا تقف إلا في آخر الجبيل.
يا إخوان: ما الذي صدَّ عنكم هذا الطاغية وهو يملك أربعمائة وخمسين ألف جندي، منهم: قرابة ثلاثمائة ألف جندي من الحرس الخاص أو البعثيين المدرَّبين المنظَّمين؟! ما الذي دفعَه عنكم؟! الله، الله، الله، نبرأ إلى الله من كل دبابة، ومن كل صاروخ، ومن كل قنبلة، ومن كل جندي، نبدأ بالله، فله الفضل، ثم له الفضل أن نفع بهذه الدبابة، وذلك الصاروخ، وذلك الجندي، وسخر أقواماً لا تعلمونهم، ودفع عنا وعنكم البلاء، بماذا؟ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذلك يا إخوان، لا تترددوا، لا تترددوا في إنكار المنكرات، إن كنت الآن في مزارع، وفي نعم، ورشاشات (ري محوري (8) أبراج ماركة (فالي) ( Faly)، أو من هذه النعم التي تتدفق عليك من كل نوع، أقول لك: إذا أردت هذا الخير يصل إلى أولادك وأولاد أولادك وبناتك وأولاد بناتك، فأؤمُرْ بالمعروف وانْهَ عن المنكر؛ لأن العز والنعم والتقوى بالأمر بالمعروف.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
الله جلَّ وعَلا خزائنه لا تنفذ، الذي يملك مليوناً رب العالمين قادرٌ أن يعطيه مائة مليون، والذي يملك عشر رشاشات رب العالمين قادرٌ أن يعطيه ألف رشاش، والذي عنده كذا رب العالمين قادرٌ على أن يعطيه أكثر.
خزائن الله لا تنفذ؛ لكن بماذا تُفتح الخزائن؟ أتُفتح الخزائن بالمعاصي؟! أتُفتح الخزائن بالملاهي؟! أتُفتح الخزائن بالمنكرات؟! أتُفتح الخزائن بعداوة أولياء الله والدعاة إلى الله؟! تُفتح الخزائن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتُفتح الخزائن بالدعوة إلى الله، ونشر الخير في كل مكان، فإذا انتشر الخير ضاق الناس بالرزق.
في عهد عمر بن عبد العزيز: أرسل الولاة إلى الخليفة الخامس الراشد/ عمر بن عبد العزيز، قالوا: يا أمير المؤمنين! جبينا المال من أهل الذمة -من النصارى- وأعطينا المحتاجين، وصرفناه في جميع مصارف الزكاة -الفقراء، والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، كل هؤلاء أعطيناهم- وبقي عندنا مال كثير ماذا نفعل بهذا المال؟ فقال عمر بن عبد العزيز: انظروا في بلاد المسلمين أيَّ شاب لم يتزوج زوجوه من بيت المال، المال كَثُرَ، الخيرات تدفقت، حتى أرسل الولاة إلى الخليفة يقولون: ماذا نفعل بالمال الباقي؟ فخزائن الله لا تنفذ، وخزائن الله ملأى، والله جلَّ وعَلا لو عصاه العباد ما ضره، ولو أطاعوه ما نفعه، ولو اجتمعوا في صعيد واحد كما جاء في الحديث: (يا عبادي! لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيتُ كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
إذاً: يا أحبابنا! لا يلبِّس علينا الشيطان، فنكون أذناباً للعلمانيين، ونكون أذناباً للذين يفرقون بيننا وبين مجتمعنا وولاة أمرنا ودعاتنا وعلمائنا.
يا أحبابنا إياكم أن تتقاعسوا عن الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً على أنفسكم، بل الخوف، الخوف الحقيقي: أن نقعد ونجمُد عن الأمر بالمعروف، ولذلك قال الله جلَّ وعَلا: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
قال أحد الأنصار: فينا نزلت هذه الآية، لما فتح الله على نبيه قلنا: إن أهل المدينة أهل ضِياع -يعني: أهل مزارع؛ لكن ما عندهم رشاشات رضي الله عنهم- إن أهل المدينة أهل ضِياع، فلو أنَّا عدنا إلى ضِياعنا وبساتيننا، وكأن بعضهم قال: إن الله أعز الإسلام، وما هناك حاجة للنفقة في سبيل الله، فأنزل الله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] إنفاق المال ليس هو سبب التهلكة، بل عدم الإنفاق هو سبب التهلكة.
إذاًَ: فنحن على خطر إن تركنا الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ونحن على خير، ورزق، وأمن، وعزة، وطمأنينة إن اشتركنا وتعاونا واجتهدنا في الدعوة إلى الله, والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.(225/12)
الإسلام عند العلمانيين سبب للمشاكل
ختاماًَ أيها الأحبة: إن المنطق الذي يقول: إن التمسك بالإسلام يسبب مشاكل، كما يقول أحد العلمانيين، يقول: نحن ما الذي ورَّطَنا بـ مكة والمدينة؟! يا ليتها ليست عندنا! يقول هذا الكلام، قبحه الله.
لماذا؟ أقول: لأننا ورطنا في العالم الإسلامي، المملكة هي قائدة العالم الإسلامي، المملكة هي رأس العالم الإسلامي، هذا عز، وهذا فخر، وهذا تمكين، وهذه قوة وقدرة؛ ولكن أعداء الإسلام والمتأثرين بهم من العلمانيين، والمتأثرين بالعلمانيين سواءً كان تأثراً مقصوداً أو تأثر جهل أو قلة علم، ما الذي يحصل منهم؟ المنطق الأول: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص:57] هذا منطق الخوافين الجبناء الذين يخوفون الناس من الدعوة والدعاة، ويخوفون الناس من توزيع الشريط الإسلامي، والكتاب الإسلامي، وجمعية تحفيظ القرآن، وانتشار الخير، الواحد يقول: والله يا أخي، كأن هذا الوقت يخوِّف، اللحى تتكاثر هذه الأيام، سبحان الله! وأنت تريد اللحى تَنْبُت على الحريم؟! اللحى على الرجال زينة.
ومن لم يكن ذا لحية أو كان حليقه، فيا حبيبي! ويا صديقي! ويا أخي! أسأل الله أن يهديك، وأن يكرمك، وإني أعلم أن حلقك للحيتك ما قطع الخير عنك، فيك خير كثير، حتى لو حلقت لحيتك؛ لكن أسأل الله أن يتمم لك الخير باتباع سنة المصطفى ومتابعته، كما قال: (خالفوا المجوس، وفِّروا اللحى، أعفوا اللحى، وأحفوا الشوارب).
نحن ما قطعنا الأمل في أحد أبداً، ونحن ما قلنا: الذي ما له لحية ما فيه خير، وما يدريك؟ ربما تجد إنساناً لا لحية له؛ لكنه يتبرع سنوياً بمائة ألف للمجاهدين، نقول له: كَثَّر الله خيرَك، ما دام أنك تتبرع سنوياً بمائة ألف للمجاهدين نحن نهديك طقم موس حلاقة (جيب)؟! لا.
نقول: أسأل الله الذي فتح عليك وحبَّب إليك الإنفاق في سبيله، أن يحبب إليك اتباع السنة في توفير لحيتك.(225/13)
ولا تزر وازرة وزر أخرى
إن الذي يظن أن الدعاة يهاجمون الناس، ويعادون الناس، هذا من بَنات أفكاره، قد يوجد إنسان جاهل، يوجد إنسان قال عن نفسه: إنه تديَّن كما يقول أو يقال عنه، وأخذ يدعو الناس بطريقة خاطئة، أو أخذ يحارب الناس، أو يقول للناس: اتركوا الدراسة، أو يقول للناس: لا تركبوا السيارات، أو يقول للناس: لا تسمعوا المسجلات في المحاضرات وغيرها، نقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] الخير كثير بإذن الله جلَّ وعَلا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77].
إذا وُجد إنسان أخطأ فليس العيب في الدين، وليس العيب في العلماء، وليس العيب في المتدينين، وليس العيب في الكتاب الإسلامي، ولا الشريط الإسلامي، إنما العيب في ذاك الذي أخطأ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] تجد بعض الناس يجلس في المجلس: والله -يا أخي- هؤلاء (المَطاوِعة) يمسكون كل واحد في الشارع ويقولون له: من هذه المرأة التي معك؟ يقول: هذه زوجتي، يقول: أثبت أنها زوجتك؟! ومن قال لك أن كل (المَطاوِعة) يفعلون ذلك، لو صدَّقنا بأن هذه الرواية صحيحة؟! فما بالك إذا ثبت أنها من بَنات أفكار شيطانه، كما قال أحد الشباب: كدتُ أتقطع ألماً من رجل زار أبي ذات يوم فقال: والله ما عرفنا لهؤلاء رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاتمة، مسكوني في الشارع ومعي زوجتي وحققوا معي وآذوني وأتعبوني، ومسكوني في المركز الفلاني.
يقول الشاب: وأنا جالس أصب القهوة، وأسمع كلام الرجل لأبي، قال: فانسللتُ منهم، وذهبت إلى المركز الذي تكلم عنه، قلتُ: يا إخوان! هل أنتم مسكتم أحداً اسمه: فلان بن فلان؟ قال: نعم.
ليس معه أحد في السوق -والعياذ بالله- يتعبث في عورات النساء، وجئنا به إلى المركز، وكتبنا عليه تعهداً وأطلقنا سراحه.
قلتُ: أعطوني صورة من هذا التعهد.
صوَّروا له التعهد، وأخذه وذهب به للبيت، ثم قال: يا أبي! انظر الذي كان يكلمك، خذ هذا تعهد كتبه بخط يده ألا يتعبث في عورات النساء داخل الأسواق.
فإذا سلَّمنا أنه وُجد مَن أخطأ لا تظن أن كل أهل الخير يخطئون، وإذا وُجد مَن أخطأ فليس الخطأ فقط لرجال الهيئة، يا حبيبي! هل نستغني عن أجهزة المرور لأنه وُجد أحد رجال المرور أخطأ، لا يا أخي، المرور نافع للمجتمع، ولو أخطأ واحد من رجال المرور فليس الحل بإلغاء المرور.
لو أخطأ أحد رجال الأمن هل نلغي جهاز الأمن؟! أو نلعن جهاز الأمن؟! أو نتكلم في سيئات ومثالب ومصائب جهاز الأمن في كل مجلس، ونختلق الروايات والأساطير في كل مجلس؟! لا يا أخي، أخطأ رجل من الأمن يُبْعَد نسأل الله له الهداية، وتنتهي القضية.
طبيب من الأطباء أجرى عملية خطأً، فمات الرجل، أو أصابه شلل، أو وقع به مرض، نقول: نلغي الطب كله؛ لأن ذلك الطبيب أخطأ؟! فكذلك إذا واحد انتسب إلى التديُّن وأخطأ، أو رجل انتسب إلى الهيئة وأخطأ، أو انتحل شخصية الهيئة فأخطأ، هذا لا يعني أن نستغني عن الهيئات، ورجال الهيئات، والدعوة والدعاة.
إذاً: أيها الأحبة! علينا ألا يلبِّس الشيطان على أنفسنا.(225/14)
نداء إلى الآباء أن يحرصوا على أبنائهم
وأوجه ختاماًَ نداءً للآباء، فإن بعض الآباء -سامحهم الله- يضيقون على أبنائهم.
ليلة من ليالي عَشْرِ رمضانَ الأخيرةِ، وقبيل السحور، جاءني رجل من إخواني في الله أحبه وأعرفه.
قلت له: مَن هذا الشاب؟ قال: فلان بن فلان الفلاني.
قلت: تعرفه.
قال: لا والله، وجدتُه في الشارع في ليلة مطيرة -وتذكرون ليالي العشر الأخيرة كانت أمطار- يقول: فركَّبْتُه معي، قلت له: أين تريد؟ قال: أريد مسجد أم الحمام، فقلت له: لماذا؟ قال: يا أخي! أبي طردني من البيت، سامحه الله! سامحه الله! ننظر في وجه الشاب، عليه سيما الخير والصلاح.
تعال يا حبيبي، لماذا أنت هكذا؟ لماذا طردك والدُك؟ قال: يا أخي! إذا أردتُ أن أخرج قال: انتبه! لا تمش مع (المَطاوِعة) انتبه! لا يفعلون بك، انتبه! الا يزينون لك، انتبه! انتبه! إلى آخره، قال: فإذا حصل أن زارنا أحد الضيوف وعنده خطأ من الأخطاء، فنصحتُه قام أبي وطردني، وفي يوم من الأيام غضب عليَّ وبالذات في الليلة الأخيرة، كان عندنا ضيوف، وكلمت أحد الضيوف بنصيحة، وطردني أبي، كله غضباً مني، ولا يريد زملائي أهل الخير يأتون إليَّ، ولا يريدني أن أذهب إلى زملائي.
قلتُ له: انظر يا أخي الحبيب! أنت أخطأت أن تنصح ضيوف والدك في بيتكم، أخطأتَ أن تنصح ضيوف والدك في البيت هذا خطأ، اصبر حتى يخرج الضيف، تعرف على بيته، تزوره يوماً من الأيام، تسلم عليه، وتقبل رأسه، وتقول: أنت صديق والدي، ووالله إنه شرف لي أن أزور صديق والدي؛ ولكن من كلام الشيخ/ ابن باز، أو كلام الشيخ/ ابن عثيمين، إن الكلمة التي ذكرتها ذلك اليوم خطأ أو مخالفة للسنة، وهذا كتاب يبين الصواب، أو هذا شريط يبين لك الهدى والحق، وجزاك الله خير الجزاء، والسلام عليكم ورحمة الله.
هذا هو الأسلوب النافع.
وليس أن تقعد تنصح الناس في مجلس أبيك وعلى ضيافة أبيك، هذا خطأ.
قلنا له هذا الكلام، وليس من حق الدعاة مجرد التعاطف والحمية مع كل مَن تديَّن، لا.
إذا أخطأ المتدين يقال: أخطأتَ؛ ولكن لا نتحامل عليه.
لنتذكر أن ذلك المتديِّن الذي أخطأ ما وقف يفحط بسيارته عند مدارس البنات.
لنتذكر أن ذلك المتديَّن ما وقف يؤذي الناس في عوراتهم في الأسواق.
لنتذكر أنه ما عاكسهم بالهاتف.
لنتذكر أنه ما آذاهم في غش أو سرقة أو اختلاس.
إذاً:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍِ جاءت محاسنه بكل شفيعِ
و (إن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخَبَث).
إذا كثرت محاسن الرجل وأخطأ خطأً واحداً، نقول: أخطأتَ في هذا وعفا الله عنك؛ ولكن هذا لا يلغي خيرك، وما عندك.
أظن أنني أطلتُ، والحديث ذو شجون.
فأسأل الله أن نجتمع بكم مرة أخرى إما في الفيظة، وإما في مكان آخر، نسأل الله جلَّ وعَلا أن يكون قريباً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ونسمع شيئاً من الأسئلة.(225/15)
الأسئلة(225/16)
كلمة موجهة للأخوات المسلمات
السؤال
فضيلة الشيخ! معنا في خلف المسجد أخوات لنا من النساء حضرن المحاضرة، فكلمة توجهها للنساء، ولا شك أن النساء لهنَّ مكانة عظيمة ومركز عظيم، خاصة بين الأسر وبين الأزواج والأولاد، فكلمة قصيرة، جزاك الله خيراً، ولو أنَّا أجهدناك؛ ولكن إن شاء الله في سبيل الخير كل شيء يهون.
الجواب
أولاً: أيها الإخوة! إنه لشرف لأهل هذه المنطقة أن ينتشر الخير في نسائهم كما انتشر في رجالهم، وأن يكثر الوعي والعلم في نسائهم وبناتهم كما كثر في رجالهم وأبنائهم.
وكلمتي أوجهها أيضاً لأخواتنا اللائي هنَّ معنا، إن الشيطان يوسوس لهن، وربما تجد مدرِّسة ما حاولت يوماً ما أن تنصح طالباتها بسماع شريط، أو أهدت لطالباتها شريطاً أو كتيباً، وربما تجد مديرة مدرسة.
وبلَّغني أحدُ الإخوان في منطقة الجنوب، يقول عن أخت له مدرِّسة، يقول: استأذنت المديرةَ أن تهدي بعض الطالبات أشرطة.
قالت: ممنوع، ممنوع، ممنوع.
يا سعادة المديرة، يا مديرة عامة المدرسة، ما الذي يمنع؟ شريط يُباع مُرَخَّص من وزارة الإعلام بالفسح، برقم وتاريخ، يحث البنات على غض البصر، يحث البنات على الستر، يحث البنات على عدم التبرج، وعلى القرار في البيوت، يحث البنات على عدم الخضوع بالقول، والانقياد للمعاكسات والمغازلات.
ما الذي يمنع المديرة أن توافق على ذلك؟! بل -والله- إن هذا واجب المديرة ذاتها أن تحذر الطالبات من هذا الشر؛ حتى لا يقعن فيه قبل أن يعرفنه، إذا المديرة والمدرسات حذرنَ البنات من الشر قبل الوقوع فيه كان خيراً، وإلا فكما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنا
كذلك من خير ما انتشر بين أمهاتنا وأخواتنا قديماً القاعدة المعروفة: إذا جاء الضحى؛ أم فلان أخذت المَزْوَدَة وِقْر بعير؛ كيلوين (فصفص)، وصُرَّتَين كراث، وواحد فجل، وثلاثةً جرجير، وزارت فلانة وفلانة وعلانة، والفواكه والموائد والأسمطة ونحو ذلك.
الآن تغير الأمر بفضل الله؛ تخرج أم فلان ومعها الكيسة فيها نصيحة؛ شريط: تعالوا اسمعوا، مثلما يقول لي أحد الشباب: يقول: عندي أم تقول: الذي يحبني يا أبنائي يأتي لي بأشرطة.
قلنا: خير يا أمي.
قال: فوجدناها جزاها الله خيراً إذا جاء الضحى أخذت الكيس وفيه الأشرطة وزارت صويحباتها ثم بعد ذلك أخرجت؛ حتى يقول: مسجلها معها في الكيس، تخرج المسجل وتقول: اسمعوا؛ تسمعهن موعظة للحماد، ولـ سعيد بن مسفر، وتقعد هؤلاء النساء يَصِحْنَ ويَبْكِيْنَ ويَتَأَثَّرْنَ ويَتُبْنَ، ويستفدن كثيراً.
ثم إذا رأتهن قد تأثَّرن أعطت كل واحدة شريطاً، وخرجت الداعية العجوز إلى بيتها قبل صلاة الظهر.
فيا إخوان! ونقول هذا الكلام للأخوات: نريد من أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا أن يمارسن الدعوة، ليس الكلام موجهاً في الدعوة والعناية بالدعوة إلى الرجال وفي صفوف الرجال والطلاب والأساتذة، بل هو مطلوب أيضاً وموجَّه إلى المدرسات والمديرات والطالبات، وموجَّه إلى ربات البيوت.
يا إخوان! قديماً المرأة إذا تعدت الثلاثين؛ لا يقال لها: شيَّبتِ، لا؛ لكن فيها خير؛ لكن كلما تقدمت بها السنون عَقَلَت، وأصبحت ذات حِلْم وحياء ورزانة وهدوء، وتجدها أقبلت على صيام الإثنين والخميس، وأقبلت على قيام الليل، وأقبلت على الحياء، وأقبلت على مزيد من الستر، الآن بعض النساء تكبر وتَنْهَبِل! نعم.
عجوز تمنت أن تعود صبية وقد ذبل الخدَّان واحدودب الظهرُ
فراحت إلى العطَّار تبغي شبابها وهل يُصْلِح العطار ما أفسد الدهرُ؟!
يوجد عندنا -بفضل الله ما هُنَّ عندكم في جيزان - لكن عندنا في الرياض نساء في الخمسين سنة، يوم السبت في الملاهي، ويوم الأحد في حديقة الألعاب، ويوم الإثنين في الحديقة الفلانية، ويوم الثلاثاء في صالة الأفراح الفلانية، قال واحد من الشباب -جزاه الله خيراً-: عندنا واحدة ما بَزَاها رَجُلُها في بيتها، فيَبْزُونها جيرانها في المدرسة، سجلوها في محو الأمية، وتذهب هي والشغالة، وعندما دخلت عند باب المدرسة، ينزلها السواق، تقول: الحقيني -يا فلانة- بالشنطة.
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده وإن الفتى بعد السفاهة يَحْلُمِ
وإنْ أنتَ لحقتَ جمال الصلاح! بدل أن تتوجهي إلى الله وتقبلي على طاعة الله، وتستعدي أيضاً للقاء الله: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك) فالمرأة عليها مسئولية عظيمة في حفظ زوجها وبيتها.
وأذكِّر النساء، أذكِّر أخواتي وأمهاتي وبناتي وزوجات إخواني في هذا المقام، أذكِّرهنَّ بحديث أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهلية، قالت: (يا رسول الله -وكانوا يسمونها خطيبة النساء من جراءتها وفصاحتها- إن الرجال يغزون معك، ويحضرون مجلسك، ويحجون معك، ويسمعون حديثك، فهل لنا فيك من نصيب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أسماء! يا أسماء! بلِّغي مَن وراءك من النساء: إن حسن تبعُّل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله) إن حسن طاعة المرأة لزوجها وحسن محافظتها على بيته وفراشه، ولا يَدخل البيت من لا يَرضى دخوله، ولا تُكَلِّم من لا يَرضى تكليمه، ولا تخضع بالقول في الهاتف، ولا تكون متساهلة بحقوقه، إذا دعاها إلى حاجته أتت ولو كانت على ظهر قتب، وإذا أراد خدمتها نفعته وقامت، وتعتني بأولاده، فإن ذلك يعدل الحج، والجهاد، وسماع الحديث، والصدقة، والعلم، وكثيراً من الأعمال: (إذا المرأة -هذه بشائر للنساء دون الرجال- إذا المرأة صامت شهرها، وصلَّت فرضها، وأطاعت بعلها قيل لها: ادخلي الجنة من أيِّ أبوابها الثمانية شئت).
فهنيئاً للمرأة المسلمة! هنيئاً للأم المسلمة! ونقول أيضاً: يا معاشر الإخوان! أحسنوا معاشرة أخواتنا، أحسنوا معاشرة بناتنا، أحسنوا معاشرة أمهاتنا.
إن من الناس من عنده النظرية القائلة: المرأة كالحذاء، لا ينفعك إلا إذا دست عليها.
هذه نظرية تَخَلُّف، نظرية بذاءة، نظرية خسة ودناءة، المرأة مخلوق مكرَّم: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195].
فالله سمى الأنثى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] سورة كاملة في شأن النساء؛ لمكانتهنَّ ومنزلتهنَّ.
فيا إخواننا أيضاً: أحسنوا معاشرة الزوجات، وأكرموهنَّ، ومن اتقى الله واقتدى بسنة رسول الله أدرك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
اللهم صلِّ على محمد.(225/17)
طلب الدليل من المفتي
السؤال
فضيلة الشيخ! نرجو إفادتنا على هذا السؤال، وهو: أنَّا نجد بعض المفتين يغضبوا عندما نطلب منهم إثبات الفتوى بالأدلة، أو عندما نورد لهم أدلة، ويقولون: إنكم من الشاذِّين، ونحن نأخذ بقول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ما معناه: بَيِّنوا للناس الدليل، وقول محمد بن عبد الوهاب: تعلموا دين الإسلام بالأدلة! والسؤال هو: هل الشاذ هو الذي يطلب الدليل ويورده؟! أم الذي يغضب عند طلب الدليل منه؟! وجزاك الله خيراً.
الجواب
والله يا أخي الكريم، لا شك أن الذي يغضب عند طلب الدليل جاهل، ولا يمنع إذا كان الإنسان قد حضرته الفتوى، وحضره جواب السؤال ولم يستحضر الدليل على الوجه الأكمل أن يقول: لا يحضرني الآن الدليل، وإنما أَعِدُ ببحث الدليل، أو بإحضار الدليل؛ لكن أن يغضب الإنسان عند طلب الدليل، هذا يوشك أن يقع في دين المقلدين الذين يجعلون الدين بالتقليد والتوارث عن الآباء والأجداد، إنما الدين بالأدلة.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفانِ
فلا بد أن نطلب الدين بالأدلة، وإذا سُئلنا الدليل إن كان واضحاً معلوماً قدَّمناه، وإن كان غائباً بحثناه وبذلناه، وإن كنا لا ندري نقول: لا ندري، وليس في هذا حرج أبداً، ليس في هذا عيب أبداً.
رجل حجَّ من أقاصي البلاد، يريد أن يقابل مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، فسأله عن مسائل كثيرة، فأجاب منها، وقال في ثلاث وستين مسألة، أو قريباً من هذا العدد، قال: لا أدري.
قال: أنت مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، تُضْرَب لك آباط الإبل، أسألك فتقول في ست وثلاثين مسألة: لا أدري.
فقال الإمام مالك: أخبر الناس في اليوم الأكبر، أو في يوم الجمعة، أو في يوم عرفة، أو قال عبارة: في وقت اجتماع الناس، وتحدث في الركبان, وطُف بالبلاد، وقل: إني سألت مالكاً عن ست ثلاثين مسألة، فقال: لا أدري.
ليس عيباً أن تقول: لا أدري.(225/18)
إرشادات لمن أراد أن يتوب
السؤال
أرجو من فضيلتكم الإجابة على هذه الأسئلة: السؤال الأول: إنسان أسرف على نفسه بالمعصية، ويريد أن يتوب، فما هي الإرشادات التي توجهونها إليه؟ وهل يقبل الله توبة هذا الإنسان؟
الجواب
أما التوبة فلا شك أن بابها مفتوح ما لم يغرغر العبد -أي: تصل روحُه الحلقومَ- أو تطلع الشمس من مغربها.
باب التوبة مفتوح، هذا أمر واضح، ومن أرجى الآيات في كتاب الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر:53]: وليس أذنبوا فقط: {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فمن أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، وفتح الله قلبه للتوبة والاستقامة والهداية، فإني أنصحه بمسائل: أولها: تخلص من جميع الذنوب والمعاصي: بعض الناس يتوب من جميع الذنوب، إلا أربعة أشرطة يضعها تحت الفراش، ويتوب من جميع الأفلام، إلا شريطين يضعها فوق الدولاب، ويتوب من جميع المجلات إلا أربع صور يضعها تحت الدرج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ادخل في الإسلام والالتزام كافة، واترك المعاصي جملةً وتفصيلاً:
اعتزل ذكر الأغاني والغَزَلْ وقُلِ الفصل وجانِب مَن هَزَلْ
ودع الذكرى لأيام الصبا فلأيام الصبا نجمٌ أَفَلْ
إن أَهْنا عيشة قضَّيتَها ذهَبَت لذاتُها والإثمُ حَلْ
يا أخي الشاب: يا من تقول: إنك أسرفت على نفسك بالذنوب والمعاصي! تذكَّر ذنوبك ومعاصيك التي عصيت الله بها، هل تجد لذتها الآن؟! لذة المعصية لحظة ثم تزول ويبقى الإثم، لذة المعصية ذهبت، وبقي إثمها.
وأقول لكم: يا معاشر الوجوه النيِّرة الضاحكة المستبشرة! أنتم صليتم صلاة القيام في رمضان، وصليتم التهجد في رمضان، هل تشعرون الآن آلاماً في أقدامكم من طول القيام؟ لا.
ذهب التعب وبقي الأجر.
فهي نعمة عظيمة.
ونقول لكل من تعلق بالذنب: إن لذة الذنب لحظة، وفضيحة الذنب أطول، وخزي الندم أشد، وينتهي كل شيء.
ونقول لمن أطاع الله: تعبتَ ساعة، فنسيتَ التعب، وبقي أجره.
فنقول أولاً: تخلص من جميع ما عندك، بعض الشباب يتوب وتاركٌ له اثنين أو ثلاثة خط رجعة، لا.
تُب وتخلص من جميع الذنوب والمعاصي من: أفلام أشرطة مَلاهٍ مسلسلات حقوق تردها إلى أصحابها.
زيادة على ذلك: بعض الناس يتوب؛ لكن الشلة هي الشلة، السهرة هي السهرة، العبث هو العبث: نعم؛ يقول: أنا بفضل الله، ما في بيتي أفلام فاسدة، ما عندي أغانٍ، ما عندي مجلات؛ لكن الشلة هم الشلة، نجلس معهم، ويجيئون بأفلامهم، ويجيئون بأشرطتهم، ويجيئون بأغانيهم، ويجيئون بلهوهم.
لا يمكن هذا إذا تبت إلى الله، حتى الصحب الذين اقترفت معهم المعصية استبدلهم بأصحاب آخرين، لا أقول لك: العنهم، وسبهم واشتمهم، لا.
نقول: جلساء السوء استبدلهم بجلساء صالحين، واسأل الله لزملائك السابقين الهداية: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94].
يا أخي الكريم: أنا وأنت اهتدينا اليوم، فلماذا نعادي الذين لا يزالون أهل الذنوب؟! لماذا لا ندعو الله لهم؟! ألسنا بالأمس كنا مذنبين فمنَّ الله علينا اليوم؟! فلنسأل الله لهم الهداية لعل الله أن يمن عليهم الليلة أو غداً.
الأمر الثالث: الالتزام بالعواطف لا ينفع: إذا استقمتَ، تخلصتَ من سائر الذنوب والمعاصي، واستبدلت جلساء السوء بأهل الخير، فعليك بطلب العلم، (قل: آمنتُ بالله ثم استقم) عليك بالتوحيد بالعقيدة بحفظ المتون بقراءة القرآن بقراءة الكتب النافعة، هذا ينفعك.
أما بعض الناس يظن أن الالتزام: باسم الله، الإخوان تدَيَّنوا ونريد أن نَتَدَيَّن معهم، نريد أن نَتَدَيَّن مع الإخوان.
وكيف نَتَدَيَّن مع الإخوان؟! نروح نقصِّر ثيابنا، ونوفِّر لحانا.
لا.
هذا ليس هو التديُّن.
التدين: اتباع السنة، عدم الإسبال، توفير اللحى، إكرام اللحى، عدم سماع الملاهي.
وصميم التدين: طلب العلم عبادة الله على بصيرة معرفة التوحيد شروط (لا إله إلا الله) نواقض (لا إله إلا الله) معرفة توحيد الألوهية، معرفة توحيد الأسماء والصفات إلخ.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(225/19)
شباب مشغولون بلا مهمة
إن من المؤسف والمؤلم أن ترى شباباً ضيعوا أوقاتهم فيما لا نفع فيه في الدنيا ولا في الآخرة، بل أعظم من ذلك أن يكون هناك شباب ضيعوا أعمارهم في ممارسة الحرام والفسق والفجور، وتقليد الكفار والإعجاب بهم، ولم يعلموا حال السلف كيف كان إعجابهم بأهل الطاعة والصلاح! ولقد جاءت هذه المادة لتطرح موضوع هؤلاء الشباب، وتحاول علاجه بالقرآن والسنة.(226/1)
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الأحبة في الله: أشكر الله جل وعلا، ثم أشكركم، وأسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء، فالفضل لله ثم لكم، حيث أكرمتموني وشرفتموني بهذه الدعوة وبهذا المقام بين أيديكم، وما ذكره فضيلة الشيخ/ محمد المحيسني في مقدمته أسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، إنما هو حسن ظن، نسأل الله أن نكون خيراً مما تظنون، وأن يغفر لنا ما لا تعلمون.
أحبتنا في الله: حديثنا عن شباب مشغولين بلا مهمة، هذه المشاغل التي أشغلت هذا الشباب أين ظرفها؟ وأين مكانها؟ إنها في الزمان، إنها في الوقت، إنها في العمر، إنها في الحياة، إنها في العصر الذي أقسم الله به: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2] كل هذه المشاغل هي في الساعات، وفي الليالي، وفي النهار: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17].
هذا الزمن -أيها الأحبة- الذي بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد مسئول عنه حيث قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) هذا الزمن الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنامه، والانشغال فيه بما يعود على العبد بمنافع الدنيا والآخرة، حثَّ النبي العباد على الاشتغال بما ينفع، ونادى بعبارة الغنيمة فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس) ولفظ (الغنيمة) فيه إشارة على أن الأمر إن لم تبادره فاتك، ولفظ (الغنيمة) فيه إشارة إلى أنها لا تنال إلا بجهاد ومجاهدة نفس، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، ودنياك قبل آخرتك).
أيها الأحبة في الله: هذا الزمن الذي هو خزينة لأعمالنا، وفي نهاية المطاف نرى الغبن والخسارة في حال من ضيعه ولم يغتنمه، ولم يملأ ساعات أيامه ولياليه بما ينفعه، يقول أحد الحكماء: "سويعاتك طريقك إلى القمة" والصواب: أن السويعات طريق إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن كانت الأعمال شاقة، فأنجزوا كل يوم عملاً واحداً، فبمضي الأيام تنجزون أعمالاً كثيرة.
أيها الأحبة: إن أناساً من شبابنا وأحبابنا وإخواننا لا يدركون أهمية الوقت، ولا يعرفون أهمية الزمن والعمر والحياة، لا يعرفون قيمتها، فكيف يحفظون؟! وكيف يشغلون الزمن بما ينفعهم؟! وكما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله:
الوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع
ولأجل ذا لما كان التغابن عند أقوام وجدوا الفراغ فلم يشغلوه بما ينفعهم، وأنعم عليهم بالصحة فلم يسخروها فيما يعود عليهم بالكرامة في دنياهم وأخراهم، كانوا حقاً من المغبونين: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).(226/2)
النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية
وكلماتي هذه إليكم -أيها الأحبة- وإلى الشباب خاصة إنما هي دعوة للتفكر والتأمل، ولحظة حساب وعتاب ومناقشة، سيما ونحن في بداية عام جديد نرسلها ونهديها إلى كل فتىً وفتاة، وإلى كل رجل وامرأة، وإلى كل ذكر وأنثى، وصغير وكبير، فاعلموا أحبتنا في الله: أن الأصل في المسلم والمسلمة أنه كلما عاش يوماً ازداد علماً وعملاً وفقهاً، ونفعاً للآخرين، ولأجل ذا كان خير الناس من طال عمره، وحسن عمله، لأن في مزيد من الأيام والليالي زيادة بالحسنات، وتكفير للزلات والسيئات.
الأصل والحقيقة -أيها الأحبة- أن حياة المسلم كلها لله جل وعلا، لا يجد فراغاً ينفقه أو يصرفه في معصية الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] الإنسان مشغول لا محالة بطاعة أو بمعصية، ومن ظن أنه يقف في برزخ، أو في مرحلة بين الخير والشر، وفي مقام بين أن يحسن أو يسيء فقد وهم وظن خطأً، يقول ربنا جل وعلا: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:35 - 37] قال بعض السلف: ليس في الأمر توقف، إما تقدم في طاعة، وإما تأخر في معصية، وقال الشافعي رحمه الله: نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فكل نفس مشغولة إما بحق وإما بباطل، فشغل المؤمنين طاعة الله، وعمل فيما لأجله خلقوا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وشغل الضالين سعي في بوار، وإنفاق في هلاك، وقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم: (كل يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).(226/3)
أقسام الشباب في الفراغ والشغل الموهوم(226/4)
شباب شغلوا بالجلوس على الطرقات
أيها الأحبة في الله: كم من شاب حاجة أهله إليه عظيمة، يحتاجون إليه في رعايتهم، وإصلاح شأنهم، وتأمين حاجتهم، وعلاج مريضهم، وصلة ذوي رحمهم، وبر قريبهم، ومع ذلك تجد الأسرة تحتاج إلى السائقين وبعض الخدم، ولدى الأسرة شباب تفيض جهودهم، وتتعدى قدراتهم حجم أعمال بيوتهم، ولكنهم لا يقومون بهذا، لماذا؟ لأنهم مشغولون! ومشغولون بماذا؟ مشغولون بلا مهمة.
وتجد الأسرة تجمع وتستوفد الخادمات والمربيات، ولو وزعت الأعمال بين البنات في الدار؛ لأغنت عن وجود هؤلاء الخادمات، ولعادت بالنفع على البنات؛ لكي يكن طاهيات ماهرات قادرات متحملات مسئولية المنازل، ولكن البنات مشغولات! مشغولات بماذا؟ إنهن مشغولات بلا مهمة.
الشباب والرجال مشغولون أو متشاغلون، بلقاءات، وجلوس، وسهر طويل على الأرصفة، وحديث لا ينقضي، ومواعيد متجددة، والقوم قد جلسوا في الطريق، ولكن البعض منهم ما جلس كما جلس الصحابة في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات! فقالوا: يا رسول الله! ما لنا عنها بد هي مجالسنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنتم فاعلين لا محالة فأعطوا الطريق حقه، فقالوا: وما حق الطريق؟ قال: رد السلام، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
إن أقواماً جلسوا على الطرقات، وربما احتجوا بهذا الحديث على جواز الجلوس على الأرصفة، ولسنا بصدد تحريم أو تحليل الجلوس على قوارع الطرق، ولكننا نقول لمن جلسوا: بماذا أنفقتم وقضيتم وأمضيتم ساعات النهار وساعات الليل؟ ربما جلس البعض إلى ساعات متأخرة من الليل، قد قام فيها العباد في محاريبهم، وقام فيها المتهجدون بين يدي ربهم، وتنزل ربنا جل وعلا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فيقول: (هل من تائب فأتوب عليه؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ وهل من سائل فأعطيه؟ وهل من داع فأجيبه؟) إنها ساعات تجاب فيها الدعوات، وتقال فيها العثرات، وتسكب فيها العبرات، ولكن بعض أحبابنا وشبابنا في تلك الساعة جالسون في الطرقات، ينظرون في الغاديات والرائحات، وينظرون في العابثين والعابثات، جلوس على هذه الطرقات والأرصفة، وناهيك عما يدور في هذه المجالس إن لم يكن غيبة أو نميمة، أو سخرية أو استهزاء أو انشغالاً بالورق والبلوت، ولسنا بصدد تقرير الأحكام الشرعية بهذا، ولكن لقد جلس هؤلاء، ولو قلت لأحدهم: أدعوك الليلة إلى محاضرة، أدعوك إلى حلقة ذكر، أدعوك إلى روضة من رياض الجنة، أدعوك إلى مجلس تغشاه السكينة، وتتنزل عليه الملائكة، ويذكر الله الذاكرين فيه في ملئه الأعلى، لقال: لا وألف لا، إني لمشغول في هذه الليلة، ولو تتبعته لوجدت شغله على الرصيف، على الدائري، على الطريق الأصفر أو الطريق الأحمر والأبيض.
فكل يدعي الشغل، وكل يزعم الانشغال، ولكن في ماذا؟ نحن نعلم أن رجلاً أو صغيراً أو كبيراً لا يرضى أن يقذف أو يوصم بالفراغ فيقال: فلان فارغ، فلان لا حاجة عنده، فلان لا شغل له، فلان لا غاية يرنو إليها، أو يصبو إلى تحقيقها، لا تجد أحداً يرضى، ولو قابلت رجلاً فارغاً من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه فلن يقول لك: إني فارغ، ولكن سيقول لك: إني مشغول.
مشغول بماذا؟ عجب عجاب!(226/5)
شباب أهل ملاهٍ ودخان وشيشة
وطائفة مشغولون بسهر على الدخان والشيشة والنارجيلة، ومكالمات هاتفية، وجلوس بالطرقات، ودوران بالسيارات في الأحياء والشوارع والميادين، وربما كانت هذه الجولات حول الأحداث وقرب المردان، وتجوال للمعاكسات، ورفع أصوات لمزمور الشيطان، وأصوات الغناء، وسهر على شوارع مضاءة، وسهر للعزف والطبل، فترى فئاماً أو جماعات صغيرة من الشباب قد جلسوا وأحدهم بيده الناي، والآخر: العود، والثالث: الطبل، والرابع: الربابة، والخامس: آلة لهو، ثم يجتمعون يجزون هذه الأوتار، ويخاطبون هذه الجلود، وينثرون الآهات على الطريق، وربما سكب بعضهم عبرات شيطانية قد هيج الشيطان أنفاسه، ورفع عواطفه، فسمع صوت أغنية ففاضت عينه من شدة تحكم الهوى والشهوة في نفسه إلى درجة البكاء، ولو ذكر الله لاشمأز ولا حول ولا قوة إلا بالله! بعضهم لو ذكر الله لقست قلوبهم بدلاً من أن تلين وتذعن وتستكين لهذا الخطاب، وصدق ابن القيم رحمه الله فيما ذكر في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، حيث قال عن طائفة من الذين شغفوا وأولعوا بهذا اللهو حتى صرفهم عن ذكر الله والإخبات له قال:
تُلي الكتاب فأطرقت أسماعهم لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تراقصوا والله ما طربوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم
الأمر والنهي، المندوب والمكروه، الواجب، المخاطبة بالأحكام الشرعية التكليفية أصبحت ثقيلة
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامرٍ ونواهي
لأن كلام الله: افعل لا تفعل، امض لا تمض، واذهب لا تذهب، أمر ونهي.
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامرٍ ونواهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن لذاتها يا ذبحها المتناهي
بعضهم من شدة تحكم الهوى في نفسه، يقول: سلني ما بدا لك، واطلبني حاجتك، ومرني بما شئت، إلا اللهو، إلا الغناء، إلا الدف، إلا المزامير، إلا الموسيقى، فهي في دمي ونفسي وروحي، هي نبضة من فؤادي، وخلجة من خلجات نفسي، وقطعة من لحمي، يظن ويؤكد له الشيطان أنه لا يستطيع أن يعيش بدون هذا اللهو وبدون هذا الباطل.(226/6)
شباب اشتغلوا بالشعر والتشبه بالكافرين
وشباب آخرون اهتموا واشتغلوا بتسريحة الشعر التي تشبهوا فيها بالكفار، عجباً رأيت! وربما بعضكم رأى ما رأيت، رأيت شباباً يدورون في أسواق كأن رءوسهم بعض العناكب أو الخنافس أو العقارب، ورأيت شباباً -ولعل بعضكم رأى ما رأيت- تجد في أشكالهم وفي وجوههم أمراً لا تحمده إن لم يفزعك أو يخوفك من منظره، فتسأل عن ماذا؟ سئل أحد الشباب عن شاب كان قد جعل على رأسه قصة شعر معينة فقيل له: ما هذه القصة؟ فكان
الجواب
إنها قصة كلب ديانا زوجة الأمير تشارلز، أصبح الكلب في درجة يتأسى ويقتدى به، لم يقف التأسي والاقتداء بالفجار أو الفساق أو الكفار عند بعض الشباب، بل تجاوز التأسي إلى كلاب الفجار، وما يدريكم! "وعش رجباً ترى عجباً" أن يأتي يوم نسمع بشباب يقلدون قصة قطة تاتشر، أو قصة معينة، ومن عاش سيرى عجبا.(226/7)
شباب همهم تلميع وتلوين السيارات
وأخرون من الشباب تجدونهم قد اهتموا بالسيارات، تلميعاً وتشكيلاً وتلويناً، وأحوالاً عجيبة وغريبة، لأجل ماذا؟ أهي خيول تسرج للجهاد في سبيل الله؟! أم دواب تعد للسفر للدعوة إلى الله جل وعلا، وتعليم الجهلة، والتوحيد، وتحفيظ القرآن، وتعليم الناس الصلاة الصحيحة، والوضوء الصحيح، والعبادة الصحيحة؟! لا وألف لا.
إنما إعداد هذه السيارة ليتسنى الدوران عليها من بعد العصر أو قبيل المغرب حتى ساعات متأخرة من الليل.
إنك والله لتعجب أن تجد هذا الشاب مشغولاً، ولو أغلقت دونه الطريق لحظة وهو في سيارته لأزعجك بمنبه الصوت، وعلق منبه الصوت فوقك، وربما أخرج عنقه ورأسه، ورفع صوته بالسباب والشتيمة: لا تغلق الطريق، لا تشغل الناس، لا تقطع الناس عن أحوالهم، ولكن إلى أين هو ذاهب؟ أين شغله ومشغلته وحاجته وغايته ومهمته؟ مجرد أنك أغلقت الطريق دونه ساعات ربما لأمر لك فيه عذر في إغلاقه، ولكنه لم يتحمل لأنه مشغول، إنه في قرارة نفسه مشغول، ولكن تابعه إلى نهاية المرحلة تجده مشغولاً بلا مهمة.(226/8)
شباب همهم ارتداء الملابس الملونة
وفريق من الشباب أصبح لا هم لهم إلا أن يرتدوا هذه الملابس العجيبة، فانلّة أو فنيلة تجد فيها أربعين لوناً كأنها بيف -البيف الذي تحمل فيه الدلال والأباريق وغيرها في الغالب أنه يجمع وينسج من قطع وألوان متفرقة من فضلات الأقمشة- فبعضهم أصبح همه أن يلبس هذا القميص ذو الألوان الغريبة العجيبة المتعددة، ويكتب فوق هذا القميص عبارات عجيبة وغريبة، فيها من الفحش والبذاءة والدعوة إلى المنكر، والبراءة من الحياء والفضيلة، والجرأة على الرذيلة أصناف وأشكال وألوان، ولكن مساكين قد انشغلوا واشتغلوا بهذا بلا مهمة أو غاية.(226/9)
شباب مشغولون بالرياضة
وفريق من الشباب مشغولون بالرياضة، مشغولون بالكرة وبالدوري وكأس العالم، ودوري الصعود والتصفيات، والمباريات الرباعية، والنهائي، ولا يقف الانشغال عند هذا الحد، قبل المباراة جلسات طويلة: ما رأيك من الذي سيسدد أهداف المباراة اليوم؟ ومن الذي سيفوز اليوم؟ وما هي خطة النادي في الهجوم على الأعداء أصحاب الفريق والآخر؟ وما ظنك أن يكون حظ هذا الفريق من النقاط؟ وهل يتأهل لدوري الصعود؟ وهل ينافس على الكأس؟ ولو سمعتم أو استرقتم السمع على شباب يتحاورون لربما وجدتم بعضهم يحلف بالطلاق، ويقسم بالعتاق، ويقول ألفاظاً عجيبة، وأيماناً غريبة من أجل تحليل وتحكيم وتقرير أحوال هذه المباراة، شغل شاغل، وأصوات مرتفعة، وجواب، وخطاب، وبرهان واعتراض ودليل، وكلام وحجة، والقضية كلها انشغال بلا مهمة، من أجل قطعة جلدية منفوخة تتبادلها الأقدام يمنة ويسرة، والجماهير المسكينة تهتف بأسماء اللاعبين، وتهتف بأسماء هذه الأندية، وبعضهم يشتد نَفَسُه، وتقف زفراته لحظة، خاصة إذا تعادل الفريقان، ولم يفز منهم أحد على الآخر، ثم وصل الأمر إلى درجة التنافس على تسديد الهجمات على الأبواب، رام وحارس يسدد هجمات على الباب، والآخر مثل ذلك، انظر حال الصمت والوجوم، حتى لو رمي بإبرة لسمع صوتها، في شدة هذه اللحظة التي وجمت فيها النفوس، واشرأبت فيها الأعناق، وشخصت فيها الأبصار، فالمسألة غريبة، ولو أن واحداً من هؤلاء المنشغلين بالمشهد يوم يجري اللاعب رويداً رويداً، ذو القدم الذهبية دنت إلى الكرة كقاب قوسين أو أدنى، إلى بوابة هذا المرمى، لو كلمه أحد لضربه وقال: دعنا ننظر النهاية.
مسألة خطيرة، وكأنما هي مُنصَرفة إلى جنة أو إلى نار، انشغال يبلغ حد اللب، والأخذ بالفؤاد والبصر والسمع، ولو سرق ما في جيبه، وسلب منه الشيء الكثير، والله ما علم من شدة انشغاله بهذا الحدث، ولكن ما هي النتيجة؟ انشغال بلا هوية.(226/10)
شباب مشغولون بالغناء
وآخرون من الشباب مشغولون بالأغنية، بالفن، باللحن، بالكلمة، بالطرب، بالنسخة الأصلية، بآخر شريط، بالكرنبان وبالسهرة، وحدث ما شئت، لديه صورة للفنان الفلاني وهو يصعد طائرة، والآخر عنده صورة للفنان الفلاني وهو يدخل بوابة، وآخر عنده صورة قد علقها في حجرته وهو يفعل كذا أو وقع له على فانلّة، أو وقع له على ما يسمونه دفتر الذكريات، اهتمام عجيب، ومع ذلك انشغال بلا مهمة.(226/11)
شباب مشغولون بالأفلام والمسلسلات
وفريق آخر من الشباب مشغولون بالأفلام والمسلسلات، وأغلب الشباب إلا من رحم الله من غير المستقيمين التائبين اليوم لا يقل حجم عدد أشرطة الواحد منهم عن المائة، أفلام، منذ أيام جاء إلى مكتب الجاليات شاب في منطقة البديعة في الرياض وسلم لأحد الإخوة قرابة تسعمائة شريط، قال: كانت مبرمجة مفهرسة مبوبة لا شغل لي إلا أن أتابع من شريط في شريط، ومن فيلم إلى فيلم، ومن مسلسل إلى مسلسل، وهذا غيض من فيض، وعينة من شريحة موجودة، أفلام الحب، أفلام الرعب والغرام والجنس، وحديث عجيب بين الشباب حول بعض المسلسلات والسهرات اليومية، يجلسون في الصباح أو في الظهر، هل رأيت المسلسل البارحة؟ بلى.
ألم تتأثر؟ فيقول لك: إنه خائن، إنه غادر، أبعد هذا الحب يطلقها، أبعد هذا الحب يفارقها؟! وآخر يقول: ماذا تتوقع نهاية المسلسل الفلاني؟ هل يجدون اللص؟ هل يجدون المجرم؟ هل يعثرون على الضالة الضائعة؟ وحوار ونقاش طويل وعريض، وهم يعلمون أن المخرج لو قال للممثل: لا تضحك؛ لم يضحك، ولو قال له: ابك، لبكى، ولو قال له: ارفع رجلك أو يدك لفعل ذلك، إنما هو تمثيل وكذب وأباطيل وهراء، ومع ذلك أخذت اشتغال وانشغال عدد وشريحة من شبابنا حتى أخذت عليهم الليل والنهار.
لو قيل لأحدهم: قم اذهب بأمك إلى مستشفى، أو بأختك إلى مدرسة، أو بأخيك إلى معهد لقال: إني مشغول، وما شغله إلا هذه الأفلام والمسلسلات.(226/12)
شباب مشغولون بالترحال والسفر
وفريق من الشباب مشغولون بالترحال، كأن الواحد منهم مجبور ومكتوب عليه، ومكلف أن يجوب أقطار الدنيا، أمن أجل الدعوة إلى الله؟! من أجل تبليغ دعوة التوحيد؟! من أجل محاربة البدع؟! من أجل نصرة المظلوم؟! من أجل الشفاعة للمحتاجين؟! لا.
من أجل برج على جبل، وبحيرة تحت جبل، وسهل أخضر، وحيوانات غريبة، وحدائق عجيبة، وجسور معلقة، وعمائر شاهقة، وطرق، أحوال وأحوال لشباب لا همَّ لهم إلا السفر والترحال، الأربعاء والخميس والجمعة لا يفوتها، لابد من السفر، فإن لم يستطع السفر إلى بلاد أوروبية أو شرق آسيا كان سفره إلى بلاد خليجية.
وأما الإجازات الرسمية فلا تسل عن إهماله لأولاده، أو إخوانه ومن هم في بيته من أجل أن يقضي هذه الأيام في السفر، والعجب -أيها الأحبة- أن بعض هؤلاء الذين يسافرون يخادعون أنفسهم بدعوى السياحة، ويخادعون أنفسهم بدعوى اكتساب المعرفة وجمع المعلومات، فلا أحد منهم يقول: إني مسافر للخنا والزنا، ولا أحد منهم يقول عن نفسه: إنه مسافر إلى الفساد والفاحشة، بل إن أحد المدرسين بالأمس أخبرني عن واحد من الذين منَّ الله عليهم بالتوبة والاستقامة، وهو يعرف عن نفسه كثرة السفر لأجل الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول: ما تجرأت يوماً لأقول لنفسي في كل سفرة: إني مسافر إلى الزنا أو إلى الفاحشة، قال: وفي طريقي إلى المطار تنتابني شكوك ومخاوف أن تنقلب السيارة، أو أن أصطدم بأخرى، أو أن أصاب بحادث، وحينما تقلع الطائرة تنتابني شكوك ومخاوف أن تسقط الطائرة، فإذا نزلت إلى البلاد وإلى محط عصا الترحال بدأت بفعل ما قد عقدت الفعل عليه، ووقعت فيما حرم علي.
وطائفة قد شغلوا بالمخدرات، وغيبوا عقولهم عن واقعهم باختيارهم.
كل تلك مشاغل، والواحد منهم لو قلت له: اجلس، قال: إني مشغول، ولو دعوته لطعام قال: ألا تفهم إني مشغول.(226/13)
النساء وأشغالهن الموهومة
ثم اسمع العجب العجابعن أحوال النساء! فبنات ونساء مشغولات بالموضة والأزياء وما يسمونها بمجلات البرد، وتقليد صارخ للكافرات الفاجرات، وتشبه بالرجال، وبنات ونساء مشغولات إلى حد الانشغال عما أوجب الله عليهن، وعما تعلقت ذممهن به، انشغلن بزيارة الحدائق، الأحد: حديقة الحيوان، الإثنين: حديقة الدائري، والثلاثاء: صالة الأفراح الفلانية، والأربعاء: زيارة أو مناسبة، والخميس: لا تسل عن سفر أو ذهاب وتجوال، إنا لا نعيب على شاب أو رجل يخرج بزوجته وأهله فيجعلهم يشمون هواءً عليلاً، أو يرون شيئاً مما أباح الله، لكن أن يكون همُّ الفتاة وهمَُ المرأة في طيلة أيام الأسبوع مضي واستمرار في الذهاب والخروج والتجوال في الأسواق، دأب لا يعرف الكلل ولا الملل، فذلك أمر عجيب! وبعضهن مشغولات شغلاً عظيماً بحديث الهاتف الذي فيه مكاشفة للأسرار الزوجية، ماذا فعلتم؟ وماذا حصل البارحة، وما الذي لم يحصل البارحة؟ وحديث آخر: فلانة ذهبت، وفلانة فيها وفلانة ليس فيها، وحديث طويل، ولو أن ابنتها الصغيرة، أو ولدها المسكين جاء يبكي أو يريد طعاماً أو شراباً، لربما رمت به قليلاً، أو صرخت لخادمة كافرة أو مسلمة جاهلة لكي تعد لهذا الطفل حاجته لأنها مشغولة، ولا ينبغي لأحد أن يقطعها، ولا ينبغي لأحد أن يكدر صفو حديثها مع صديقتها، إنها مشغولة بالهاتف.
وهذه الشريحة من النساء بعضهن قد يعلمن أو لا يعلمن أن الله لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وأن خروجهن أمر لا يجوز، والأسواق شر البقاع عند الله، (وأيما امرأة خرجت فاستعطرت لتفتن غيرها؛ فهي زانية) وأنها إن خرجت بغير إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع، وأنها تعلم أن حديثها ونقلها القيل والقال من النميمة والغيبة سبب لحرمانها من دخول الجنة: (لا يدخل الجنة نمام أو قتات).(226/14)
الأطفال وانشغالهم بالمسلسلات والألعاب
أيقف الانشغال بطبقات المجتمع عند من ذكرنا؟ لا.
فهناك شريحة مشغولة أيضاً بلا مهمة، شريحة الأطفال، الكثير منهم مشغول، والعتاب لوالديهم والمربين والأولياء الذين تحملوا ذممهم: (كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته) اشتغل الأطفال برسوم متحركة، وما أصبح الذي يعرض في التلفاز والشاشات كافياً لاستيعاب انشغال الأطفال به، بل إن البعض تعدى ذلك إلى شراء الأفلام والمسلسلات من محلات الفيديو، أفلام خاصة بالأطفال حتى لا يبقى الطفل فارغاً، لابد أن يكون الطفل مشغولاً، ولكن مشغولاً بماذا؟ بهذه الرسوم المتحركة، وهذه الأفلام، واعجبوا من بعض هذه الأفلام.
وإنا ننادي كل من له علاقة بالإعلام، وننصح كل حبيب غيور على هذه الأمة، وعلى فكر ناشئتها، أن ينتبهوا ويلتفتوا إلى خطورة ما يعرض على هؤلاء الأطفال، فيما يسمى بالأفلام المدبلجة والمترجمة، يدور هذا الفيلم المدبلج حول شخصية بارعة جاذبة ذات قوة آسرة، فيتعلق الطفل (بعدنان ولينا) أو (هايدي) أو (الليث الأبيض) أو (جازورا) أو (سنان).
ويقول بعض الأطفال الصغار في برنامج يعرض اسمه: (نساء صغيرات) يقلن هؤلاء الصغيرات في بداية الحديث: "نحن الأطفال الصغار، نبض الحياة، معنى الحياة، لا ندري أين المصير، لا ندري أين المصير" فمشغولون، ولكنهم مشغولون بلا مهمة، بل مشغولون بما يعود بالضرر، وإن ناشئة الأمة وأطفالها هم عماد المستقبل بإذن الله إن اعتني بهم، والخطر كل الخطر أن يتعلق قلب الطفل بنمط حياة الكفرة، وأن يعجب بأسمائهم وتقليدهم وعاداتهم، وليس في هذه الرسوم المدبلجة إشارة إلى نمط حياة المسلمين، فلن تجد في هذا الفلم أو المسلسل المتحرك أو ما يقدم للأطفال، لن تجد في الغالب منارة مسجد، أو مكاناً للصلاة، أو دعوة إلى العبادة، أو تسمية، أو ذكر لله، أو حجاب أو ستر، فلن تجد شيئاً يقرر الحياء والبعد عن الرذيلة.
بعض المسلسلات التي شغل بها الأطفال تجد فيها طفلاً يحضن طفلة فيجهدها، وربما حصل له ما حصل، انشغال لهؤلاء الأطفال بالألعاب (الإلكترونية) وهي لعبة يظن البعض أنها درجة من التطور، نعم، إنها تطور ولكنه في اتجاه آخر، الألعاب (الإلكترونية) ما هي إلا لعبة جيدة لسحب أموال الناس، فخذوا على سبيل المثال ألواناً وأنواعاً من الأفلام والأشرطة التي توجد عبر هذه الألعاب سلبت عقول الصغار، لا يجد الطفل مساحة في عقله لكي يحفظ آيات، أو يحفظ أحاديث، ائت بشباب أشغلت مساءه في غير الإجازة بهذه الأفلام التي تسمى (الإلكترونية) هل سيبقى في قلبه ميل للقرآن أو ميل للسنة، أو ميل للأذكار والأوراد والآداب؟ وإني لأعجب عجباً بالغاً، هناك مسلسل متحرك للأطفال اسمه: (سلاحف نينجا) فهذا لم يقف عند حد الرسوم المتحركة، بل هو أيضاً موجود في الألعاب المتحركة، بل وجدت أحذية باسم: (سلاحف نينجا) وبناطيل، وقمصان، وملابس، وحقائب، ومساطر، وأدوات هندسية، وآلات كتابية، الطفل الذي لا يجد هذا يشعر بشيء من القصور، لأن أنداده وأمثاله من الأطفال يملكون هذا ولا يملكه، وربما أثقل كاهل والديه، وأحرجهم حتى يشتروه له، على حساب التزامات الأب المتعددة من غذاء وسكن وطعام ودواء وغير ذلك.
وفي الجملة فغالب من ذكرنا -أيها الأحبة- قد اشتغلوا بما حرم الله عما أوجب الله، واشتغلوا بما يجر إلى حرام، أو بما يصرف عن طاعة الله، واشتغلوا بما لا يسألون عنه عما سيسألون عنه وسيحاسبون عليه، وتقول القاعدة الفقهية: "الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود".(226/15)
دعوة إلى المصارحة والحوار مع الشباب
فإلى هؤلاء الشباب والشابات، وإلى أحبابنا وإخواننا الذين هم بضعة من مجتمعنا، وخفقة من أفئدتنا، ونبضة من دمائنا، إلى هؤلاء الشباب الذين ضاعت أوقاتهم على الشارع الأصفر، وعلى الطرق الدائرية، وفي الاستراحات إما سهر، أو ورق أو عزف أو قيل وقال أهذا أوانه ودماء المسلمين في البوسنة تسفك؟! أهذا زمانه ورقاب المسلمين في الهند تقطع؟! أهذا زمانه ورقاب المسلمين في مانيلا وكوسباتو والفليبين تقطع وتنحر؟! أو يجوز لعبد أن يشتغل بهذا وللمسلمين أعراض مغتصبة، ودماء سكيبة، ومدن مهدمة مكسوفة، وجلاء جماعي، وقتل عشوائي، وتشريد وتمثيل، واغتصاب حتى للصغيرات والأطفال والعفيفات؟! والله إن الواحد ليعجب! وأذكر ذات مرة كنا في مدينة مع بعض أحبابنا ومشايخنا الدعاة جزاهم الله خيراً، فلما انتهينا من محاضرة كنا في صددها، إذ بنا في تلك المدينة الصغيرة نجد عدداً من الشباب وقوفاً على ما يسمى (بالكاونتر) أو طاولة محل الفيديو، هذا يريد فيلماً هندياً، وهذا يريد فيلم كذا وكانت تلك الزيارة في بداية أحداث البوسنة والهرسك، فكدنا نتقطع ألماً! وما كأن الحدث يعني المسلمين بشيء يا عباد الله! لأن بيننا وبينهم جبال وبحار وأرض وفيافي وقفار لا يهمنا شأنهم، فدخل أحد الإخوة وقال: يا شباب الإسلام! والله لو لم نترك هذا امتثالاً لأمر الله ورسوله فلا أقل من أن نتركه حياءً أن يضحك هؤلاء العمال وربما بعضهم من الكفرة في محل الفيديو وهم يروننا نشتري أفلاماً هندية، فهذا هندي يعلم أن جماعته ينحرون المسلمين في بلاده، أما نستحي أن نشتري هذه الرقصة وهذا الغناء، وهذه الحفلات، والدماء والأعراض والبلاد والديار تهدر وتغتصب وتهدم؟! إن لم يكن خوفاً من الله، فلا أقل من أن نستحي، إذ أن الواقع لا يأذن بهذا، بالأمس خمر وغداً أمر، بالأمس سكرة واليوم وغداً فكرة، لماذا لا تحنكنا التجارب: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126].
فيا شباب الإسلام: هلا فكرتم؟! قل تعالوا إلى كلمة سواء، تعالوا لنتناقش: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46] هذه دعوة إلى الشباب، الذين يظن الواحد منهم أنه قد حلق في الثريا حينما يغلق زجاج سيارته على مكيف دافئ، ونغم هادئ، وصوت رخيم، وتجوال بطيء بين الشوارع، أو يجلس جلسة عزف أو لهو أو حديث أو تجوال في سوق لمعاكسة ونحوها: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46].
تعال يا أخي! لأجلس معك جلسة الصراحة، لأجلس معك أو مع اثنين من أصحابك، وصارحني وأصارحك، قل لي بكل صراحة ما عندك، وأقول لك بكل صراحة ما عندي، إنك لتعجب من بعض الشباب، ذات يوم فيما يسمى بميد، مطعم من المطاعم أو محل من البقالات التي انتشرت، دخلت ذات يوم، فقام أحد الشباب وأشعل سيجارة، ففهمت أنه أشعلها قصداً، فتسوقت ما تسوقت من ذاك المكان وقلت له: أتسمح لي بالحديث معك؟ قال: نعم، تفضل، وكانت سيجارته في يده، فقلت له: اسمك الكريم.
قال: فلان من عائلة فلان.
جدك فلان وأبوك فلان؟ قال: نعم.
قلت: عائلة كريمة، أيليق بشفاه طاهرة تنطق بالشهادتين أن تتنجس بهذا الدخان؟! فاستحى ثم أطفأ سيجارته؟ ثم قال: في الحقيقة يا شيخ! أنا لما رأيتك قصدت إشعال السيجارة.
فقلت: لماذا يا أخي الكريم أشعلتها متقصداً؟ قال: لأن الهيئة بالأمس أخذوني وأنا ما فعلت شيئاً، سبحان الله! تغلط عليك الهيئة وتعاقبني أنا؟! هذا إن سلَّمنا أن الهيئة أخطأت عليك، لكني أريد أن أسألك ما هو الخطأ الذي ارتكبته الهيئة عليك؟ فإذا به يتسكع في الطريق في وقت الصلاة وهو مقيم صحيح لم يدخل المسجد، ولم يقم بالصلاة، فما الذي رده وما الذي منعه أن يدخل المسجد؟! أولما جاءته الهيئة وقادته إلى بيت الله، أو حدثوه بمكبر الصوت جعلها سبة وعاراً لنفسه، وأراد أن ينتقم بها من كل من يرى؟! ثم أخذنا ندور ونجول في الحديث، إلى أن قال لي: أسأل الله أن تكون توبة، ولا يلزم من ذلك أن يكون تائباً، قد يكون قالها أمامي، ولا يلزم أن نسمع هذه القصة فنقول: ما شاء الله! توبة صادقة، أو توبة صحيحة لمجرد كلمة أو كلمتين قف عند هذا.
أخي الحبيب نقول: إن هؤلاء الشباب الذين تسكعوا وجلسوا وانشغلوا بلا مهمة نريد أن نخاطبهم، وأن نكاشفهم، وأن نصارحهم، وأن نسألهم: كم جمعت من المال لزواجك؟ إن لم تكن مشغولاً بالدين وبالدعوة فلنسألك عن حجم اشتغالك بما ينفعك في دنياك، كم جمعت من المال لزواجك؟ كم أعددت، وماذا أعددت لبناء بيتك؟ ماذا فعلت لرفع قدراتك ومواهبك؟ ماذا أعددت لكي تحصل وظيفة مناسبة تنفعك في دينك ودنياك؟ ضياع في الدين والدنيا، خسار وبوار في الدنيا والآخرة بهذا الأمر الذي جعلوه ديدنهم وطبيعتهم وهجيراهم كما قال الشاعر:
وكل امرئ والله بالناس عالم له عادة قامت عليها شمائله
تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمر أوائله
إن بعض الشباب يتسكع ويدور، ويمتهن هذا الفراغ، وهذا الاشتغال في كرة وفن، ولهو وطرب، ورياضة، وجلسات وسهرات، ويقول: إذا جاوزنا الخامسة والعشرين تركناها، أو إذا جاوزنا الثلاثين تركناها، اعجبوا كل العجب من أقوام ادعوا ذلك فلم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً!
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب
أنت -أيها الشاب- قادر على تغيير مسار حياتك ما دامت قواك قوية دفاقة قادرة بإذن الله، وأنت عاجز إذا خارت منك القوى، واستحكمت فيك العادة، وغلبك الشيطان، وتحكمت بك الغفلات.
فإلى إخواننا الأكارم، وإلى شباب الإسلام: أليس في الدعوة إلى الله شغل؟ أليس في صلة الأرحام شغل؟ أليس في بر الوالدين شغل؟ أليس في حفظ الكتاب والسنة شغل؟ أليس في طلب العلم، والكسب الحلال، وحلق العلم، والجد والدراسة والمثابرة، والدورات التدريبية والمهنية، وما يفيدك على اكتساب صنعة نافعة، أليس في هذا شغل؟ بلى.
إذاً فما الذي أشغلك عن خير الدنيا والدين واشتغلت بما يضرك؟ أيها الأحبة: نعم.
إنها دنيا تفتحت علينا، وأموال تدفقت بين أيدينا، وأمور قد كفلت لنا، فما أصبح الشاب يجد عناء إيجاد شربة من ماء؛ لأن الصنابير تتدفق بهذه المياه، وما أصبح الشاب يجد عناء البحث عن الكسوة، ولا يجد عناء البحث عن اللقمة، فتهيأت الدنيا حتى استحكمت وبلغت بنا حد الترف، وهي علامات هلاك الأمم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].(226/16)
دعوة إلى مصارحة ومحاورة النساء
ولبناتنا وزوجاتنا وأخواتنا: أليس لامرأة مسلمة شغل في ذكر الله وحفظ كتابه؟ أليس لها في خدمة بيتها والعناية بأولادها غنية وكفاية عن الاشتغال بالاجتماعات التي امتلأت بتبادل صور المجلات، ومجلات الأزياء؟ وربما اجتمع بعضهن على شريط رقص وأخذن يرقصن عليه، العمر أثمن وأجل من هذا، حتى إن بعض البنات والنساء أصبحت تتأفف من أعمال المنزل، والأسرة، وأعمال الأنوثة، بل إن بعضهن اعترضت فقالت: يا ليت ربي ما خلقني أنثى، يا ليت ربي خلقني ذكراً، من شدة انشغالها في اللهو أو الحرام، وتبرمها بالواجب والمسئولية الملقاة على عواتق بعض الفتيات تتبرم بعضهن من خلقها وتكوينها وما هي عليه، وكأن هذا قدر خاطئ، أو كأنه أمر فيه ظلم لها ولا حول ولا قوة إلا بالله! أليس لفتاة الإسلام القدرة على أن تجعل من بيتها مركزاً دعوياً نشطاً تجمع فيه جاراتها وصويحباتها يقرأن فيه، يسمعن فيه، يتناقشن فيه، يحفظن فيه؟ هل يكون الإسلام همَّ فتياتنا بدرجة أولى؟ ثم هل تكون الدعوة هي الشغل العملي لبناتنا وأخواتنا؟(226/17)
وقفات مع أهل الأشغال المختلفة(226/18)
وقفة مع شباب الرياضة
إن مهمة العمر عظيمة وخطيرة، إن مهمة العمر في زمن قصير، فهو قصير بالأكدار، وقصير بالآجال المفاجئة، وقصير لأن كل لذات الدنيا فانية حقيرة، فمن ذاق طعاماً انقلب غصصاً في جوفه حتى يتخلص منه، ومن ساغ شراباً انقلب حصراً في جوفه حتى يتخلص منه، ومن جلس مجلساً تبرم إذا طال المجلس حتى يقوم منه.
إذاً فلذات الدنيا ذاتها مكدرة إذا طال العبد فيها، فما بالك بحال الدنيا والعبد مفارقها لا محالة، فالعمر قصير، واللذات مكدرة، ولكنا نعود ونقول لأولئك الشباب والفتيات: اسألوا الذين انشغلوا بالفن والطرب واللهو والكرة، اسألوا الذين قطعوا شوطاً بعيداً في كل ما سمعتم، اسأل نجماً رياضياً: هل كانت الرياضة مهمة يأنس إليها، ويركن ويطمئن ويتوكل عليها، ويرجو أن يموت عليها؟ على الرغم من اشتغال الجماهير به، المعجبين حوله، والكاميرات والفلاشات، وآلات التصوير، والصور الملونة في الصفحات الملونة في الجرائد والمجلات، كان ذلك النجم شغلاً شاغلاً للشباب في كراساتهم، وعلى طاولات دراساتهم، وكانت صور هؤلاء النجوم معلقة في حجرهم، وبعضهم تمنى أن تكون له صورة ولو بمكان قريب من ذلك النجم، سعدت تلك الأعين التي رأتك والأعين التي رأت من رآك.
بعضهم لو قيل له: إن فلاناً جالس مع اللاعب أو النجم الفلاني لكبر خمساً تسعاً نسقاً، فكأنما هي مكرمة نالها بالجلوس مع صاحبه هذا، ومن يكون فلان الذي يأتي يوم القيامة وكل نفس بما كسبت رهينة، هل تنفعه أهدافه؟ هل تنفعه جولاته؟ هل تنفعه صولاته؟ اسأل أولئك النجوم وقل: هل ترجون أهدافكم ساعة الاحتضار؟ وهل ترجون مواقفكم وصدكم لهجمات الفريق المعادي لكم، هل ترجونها يوم نزع الروح؟ لا والله.
كل يتبرأ من هذا كله، فلا ينظر أيمن وأشأم منه إلا ما يرجوه من رحمة الله وعمل صالح.(226/19)
وقفة مع شباب الفن
اسألوا الفنانين: هل يرجوا أحدهم أن يلقى الله بمائة أغنية، أو بخمسين لحن؟ اسألوهم رغم ما وجدوا وعبروا في حال غفلة أنهم يعيشون الفن للفن، والطرب للطرب، والأغنية للذوق الرفيع، هل يرجون هذا لله جل وعلا؟ لقد جلس بعضهم ودار الكأس بين يديه -كأس خمر- ورقصت الراقصات أمامه، وطالت السهرة، وبزغ الفجر شاهداً عليه أنه أمضى ليله في معصية الله، قد عصى الله ببصر ولو كان كفيفاً ما استطاع، عصى الله بيد ولو كانت شلاء ما استطاع، عصى الله برجل ولو كان معوقاً ما استطاع، عصى الله بعافية ولو كان سقيماً ما استطاع.
اسألوا التائبات والراقصات والممثلات اللائي يذكرن بكل مرارة سالف عهدهن بما فيه مما يستحى من ذكره، وما كان اشتغالهن بذلك شيئاً يرجى عند الله.
اسألوا من شرب الخمر بأصنافها وأنواعها، معتقة صرفة أو مشوبة، ماذا أغنت عنهم يوم أن دنا الموت منهم؟ ماذا أغنت عن بعضهم يوم أن طعن في سنه معاقراً لها، فغلبته نفسه حتى ضعف عن تركها والتوبة منها؟ إنه لأمر عجيب! نجوم سطعوا ولمعوا ولحقتهم الصحف، وصورت صورهم على غلافات المجلات، وجعل لهم النصيب الأوفى، بل أصبحت صدور بعض النجوم دعاية تعرض بالأموال، فالذي يعلق دعاية مشروب أو غسيل أو صابون أو منتج على صدر اللاعب الفلاني، فإنه يدفع مبلغاً وقدره كذا وكذا ذلك النجم الذي أشغلت به وكالات الأنباء، أو بعض المراسلين في وكالات الأنباء، وشغل به صحفيون ومجلات ولقاءات وزيارات ومراسلات، وهدايا وأرصدة مفتوحة يهدى لهم فيها اسألوهم: ما هي نهاية المطاف؟ إنهم قد عبروا المحيط إلى آخره فما وجدوا إلا ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.
عبروا محيط الفن والرياضة والأفلام، ومحيط الإخراج السينمائي، ومحيط الشهرة والأضواء، فلما تلاطمت أمواج هذا، وسطع كل ما حولهم وجدوا أنهم إلى لا شيء، وفي غير شيء، في سراب وهراء، في رماد تذروه الرياح، في رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، في هباء منثور، في ضياع وضلال وخبال، أليس لشباب الإسلام في هؤلاء عبرة؟ أليس لهم فيهم عبرة وذكرى؟ ثم اعجب بعد ذلك -أخي الكريم- أن تجد بعض هؤلاء النجوم قد ترك كل هذه الانشغالات، وكل هذه النجومية وذلك اللموع، وعاد إلى الله تائباً منكسراً؛ لأنه لم يجد في ذلك كله شيئاً.(226/20)
شباب عرفوا حقيقة الطريق
في سنة من السنوات في شهر رمضان جاء إلي شاب عليه سيماء الصلاح والاستقامة، فتعرفت عليه وقال: أنا كنت مع المطرب الفلاني المشهور، كنت أسافر معه ونحيي السهرات في القاهرة، وذات يوم سافرنا جميعاً، فشرب المطرب الكبير عند قومه وأتباعه ومعجبيه فلم يستطع أن يحيي السهرة تلك الليلة، ثم رشح مكانه ولسان حاله يقول:
خلت الديار فساد غير مسود
فتقدم بين القوم، وأخذ يعزف ويغني، قال: وفي لحظة وأنا أنظر إلى الناس من حولي وأقول: ماذا يغني عني هؤلاء؟ ماذا ينفعني هؤلاء؟ ماذا يقدم لي هؤلاء؟ قال: فاقشعرت نفسي وتوجست خيفة، وأنكرت نفسي من نفسي وحالي من حالي، فضلاً عن إنكاري لمن حولي، قال: فعدت، ومنَّ الله جل وعلا عليه بالهداية.
فأقوام بلغوا قمة الأشواط في الفن والرياضة والنجومية واللموع في أمور شتى فعادوا؛ لأنهم وجدوها أشغالاً بلا مهمة، عادوا وتركوا ذلك كله لأنهم لم يجدوا شيئاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] وجدوا هذا الفن كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً، وجدوا هذا الفن وهذه الشهرة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وأحد النجوم لما أصيبت قدمه، وما عادت رجلاً ذهبية كسالف عهدها في الرياضة، ومحاورة الفرق، ومباراة اللاعبين، رمي في بيته، ولم يعرفه بعد ذلك اليوم إلا من أحبه في الله بعد توبته وداوم على زيارته وصداقته.
أيها الأحبة: هؤلاء بعض الذين عرفوا حقيقة الطريق، اشتغلوا بالفن واللهو، والرياضة، والجلوس، والشرب، والسفر، وأنواع المعاصي، فعادوا مستسلمين قد نكسوا الراية، وألقوا السلاح، وانقادوا إلى الحق، وقالوا: نحن نذرٌ لكم، ونحن نقول: لن تجدوا وراء هذا شيئاً يذكر، إنما هي انشغالات بلا مهمة.
والعجب -أيها الأحبة- وقد صرح بذلك بعضهم، يقول: نحن نتعب ونعد الممثل والممثلة، ونبني لهم المسارح، ونوزع الدعاية، ونحث الجماهير، وندعو الصحفيين، ونعطي الأموال، ونأتي بالخبراء ليضللوا الجماهير، وفي نهاية الأمر نفاجأ أن الممثل يتوب ويترك المسرحية، ونفاجأ بأن الممثلة تتحجب وتترك السهرة، وبأن النجمة الفلانية تابت وتحجبت، وتركت هذا كله، نعدها لتضل الآخرين فإذا بها تهتدي، نعم، قد رأت الحق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
أيها الأحبة في الله: إنها انشغالات مؤلمة أن نجد هؤلاء الشباب مشتغلين، ويقر بنفسه أنه مشغول بلعب كرة القدم، ولو قلت له: تفضل هذه صفارة اشتغل بها، لقال: أنا جاهل تعطيني لعبة أشتغل بها، يرضى أن يشتغل بلعبة، وفي المقابل يناقض نفسه أن يشتغل بلعبة من نوع آخر، لأنه قد غسل دماغه إلى حد ما، فرأى أن هذه لعبة جديرة بأن يُشتغل بها، لسنا بهذا نحرم الرياضة، أو أن يمارس المسلم رياضة أياً كان نوعها ما لم تكن محرمة في ذاتها، أو تفضي إلى حرام بحدودها في ضوابط وقتها وأدائها، ولكن اعلم أنها لعبة، فليست جديرة بأن تأخذ اهتمامك، وما نفعك أو ضرك إن فاز هذا على هذا، أو قتل الحارس في المرمى بضربة بين فكية، أو مات شهيداً -ولا يكون شهيداً- أو مات عند هذه البوابة، القضية بالنسبة لك لا تعني شيئاً، يظن بعض الشباب أن القضية بالنسبة له مؤلمة.
ثم إن الفنان ما خرج له الشريط، أو أنه لم يجد له شريطه، وتجد بعض المتابعين المتشددين لبعض هذه المواقف يضرب أخماساً بأسداس، وربما خبط وضرب ما حوله بيد غليظة من شدة تأثره عندما ضيعت الفرصة.(226/21)
حقيقة الدنيا والآخرة
ومن عجائب تأثر هؤلاء بانشغالات لا تليق، أن واحداً كان مغرماً بلعبة البلوت التي استهلكت وقته، فكان العدد ذات يوم لم يكتمل بعد، الرباعية المخصصة المنتخبة للعبة لم تكتمل، فكان أن كمل العدد وهو ماهر خريت، ذو سهم صائب في لعب الورق، ولكنه يعتبر موظفاً صغيراً عند هذا المدير الكبير، فأخذوا يلعبون، وحمي اللعب، وحمي الوطيس، وعلت الأنفاس، واشرأبت الأعناق واللعب ساخن، إذا بالمدير يغلط وينزل ورقة، كان الواجب أن ينزل ورقة حاسمة كاسبة لو أنه أنزلها، فقال له الموظف الصغير: يا بقرة! معك ولد كذا وما تنزله، بهذه العبارة! قال: عجيب بهذه السهولة، المدير يصبح بقرة في مقابل ورقة! انتهينا من هذه اللعبة.
نعم.
جرأة، لأنها لعبة أدمنوها وأشغلتهم، تابعوها بلا مهمة ولا غاية ولا نتيجة، قادت بعضهم إلى أن سب وشتم بعضاً، وأعاد بعضهم القول السيئ على الآخر.
فيا أحبابنا: لماذا لا نشتغل بالغاية التي من أجلها خلقنا؟ إن مقادير الأخطار التي تحيط بالأمة، وإن قصر العمر المكدر بالأمراض والأسقام والأخطار، وإن هذه الحياة الفانية التافهة، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في وصف الجنة: (والله ما الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع) إن قطرة علقت بيدك يوم أن أدخلت أناملك في البحر، هذه القطرة هي الدنيا، والآخرة هي البحر المتلاطم، كم في البحر وكم في المحيط من قطرة؟! أنضيع الآخرة بسهرة؟ أنضيع الآخرة بأغنية؟ أنضيع الآخرة بلذة فانية زائلة؟ أنضيع الآخرة بهوى وصورة مشوهة محرمة؟ أنضيع الآخرة بلهو وعبث وباطل؟
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان
الجنة معروضة، وأبوابها مشرعة، وداعي الرحمة والتوبة والهدى يصيح صباح مساء: حيَّ على الفلاح مجاناً وبلا مقابل، ومن دنا دنا الله منه، ومن أقبل أقبل الله عليه، ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعا، ومن أتى ربه يمشي أتاه ربه هرولة، ومع ذلك تجد إعراضاً وجفاءً من كثير من الشباب والشابات، أفلا تحبون الله؟! أفلا تحبون رسول الله؟! بلى والله، نحب ربنا ونبينا وديننا وكتاب ربنا، ولكنها محبة ناقصة، محبة ما تحكمت:
جهد الصبابة أن تكون كما أرى عين مسهدة وقلب يخفق
المحبة الحقيقية للدين والإله والرسول أن يكون هواك للدين، همك للدين، اشتغالك بالدين، ميلك للدين، أخبار تتعلق بالدين تجعلك تفرح أو تبقى حزيناً تجاه ما يبشر أو ما يكدر.(226/22)
صناعة الشخصية المسلمة
أيها الإخوة: لماذا لا نشتغل في صناعة الشخصية المسلمة، واكتساب القدرة العلمية والعملية؟ لماذا لا نصنع هذه الشخصية بالاقتداء؟ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لماذا لا نصنع الشخصية ونشتغل بهذه الصناعة بمصاحبة الأخيار؟ {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] صناعة الشخصية بهذا الاقتداء وبهذا الإعداد للدار الآخرة، فإن لم تكن عالي الهمة، وشامخ المطالب فلا أقل من أن تشتغل في مباح، ينفعك أو ينفع أولادك، في تجارة، في رزق حلال يعود عليك، أما أن يترك العبد كل هذا الدين والدنيا الحلال، ثم يشتغل بالحرام فذلك أمر عجيب وغريب.
إن الله قد ذلل هذه الدنيا وما فيها، ذلل الأرض وما عليها: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
إن الذين اخترعوا ما أوجدوا معدوماً وإنما اكتشفوا موجوداً، السمع والبصر والفؤاد وسائر العلم والمعرفة لم تشغل بالضياع ولم تشغل بفساد، لما أُشغلت في أمر معلوم ميسور أنتجت خيراً كثيراً، عقول الكفار التي أنتجت الطائرات والمدمرات، والبارجات والصواريخ، والآلات المختلفة إنما هي عقول فيها الدماء، وفيها العصب واللحم والعظم، وأجسام بنفس الحواس والجوارح التي نجدها، لكنها اشتغلت عقول بعضهم بأمر ميسور ذلله الله، فأنتجت ذلك، يوم أن كانوا يشتغلون بما لا سبيل لهم إليه، كانت أوروبا في القرون الوسطى وعصور الظلام تعيش جهلاً مطبقاً، فلما دعا داعيهم ونادى مناديهم وقال: دعونا نشتغل بهذه الدنيا التي بين أيدينا، طيور تطير كيف نطير مثلها؟ أسماك تغوص كيف نبحر مثلها؟ فأعملوا عقولهم فيما ينفعهم فأنتجت.
أما عقول تضل باللهو وبالفساد، وهمم لا تتعدى الملاعب والفن، والكرة والطرب، والأهواء والشهوات، والسفر في معصية الله، ثم بعد ذلك ننتظر أمة معطاءة، أمة منافسة، نحن أمة على خطر إن لم نتمسك بهذا الدين، لئن كان نصرنا في كثرتنا فإن الأعداء أكثر منا، بل إن أوروبا قد دخلت مرحلة الولاء: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] الولاء بين دول أوروبا قائم الآن، ويسعون إلى توحيد العملة في كافة أنحاء أوروبا، والسوق الأوروبية المشتركة نوع من الولاء الكافر.
فإن كانت بالكثرة فالكفار: أوروبا وحدها أكثر، أمريكا أكثر، البوذ أكثر، الهندوس أكثر، فلئن كانت بالصواريخ والصناعة والإنتاج والمكتشفات والطائرات، فقد تقدمونا بوناً شاسعاً، وبيننا وبينهم فرق واسع، ولئن كانت بالمعتقد فعندنا عقيدة لئن فرطنا فيها لنكونن أهون الأمم على وجه الأرض، ولنكونن أهون عند الله من الجعلان والجنادل والتراب.(226/23)
الشباب وضعف اليقين في قلوبهم
أيها الأحبة: ما الذي أشغلنا بهذه عما خلقنا لأجله؟ إن بعضهم يسوف ويزعم أنه سيعود ويتوب بعد حين، ونقول: يا أخا الإسلام! إنك لا تدري متى يفاجئك الموت:
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
فلا تشتغل بالفساد والحرام والمنكرات ظناً أنك ستعيش:
فكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
لا تكثر التسويف بهذا، وكم عرفتم وعرفنا، ورأيتم ورأينا أقواماً تعودوا التسويف أشهراً وأعواماً وسنوات فردوا إلى بلادهم جنائز محمولة في التوابيت، فكن معتبراً وإياك أن تكون عبرة.
وبعض الشباب أشغله بملذاته وملاهيه ضعف يقينه، كأن الجنة عالم غريب لا يطمع في الدخول والوصول إليه، وكأن النار عالم تخيلي لا يمكن أن يقع فيه أو يزل فيه في يوم من الأيام إن لم يتداركه الله برحمته، الأمر الذي جعل الصحابة يبكون، والسلف يسقطون وخشية، هو سوء الخاتمة، يخافون النار ويرجون الجنة، إنهم يرونها حق اليقين.
كنت في صالة الامتحان، أوزع أوراق الأسئلة فإذا بشاب يلتفت يمنة ويسرة فقلت: من التفت إلى زميلة أثناء توزيع الأسئلة أسحب ورقته، فلما وزعت الأسئلة إذا به يلتفت، فجئت وسحبت ورقته وحرمناه نصف ساعة، فإذ بالدموع تنحدر على خده، لماذا؟ لأن عنده يقيناً أن هذا الموقف الذي وقفه الآن له عاقبة يتيقنها وهي رسوبه في الامتحان، فمن وقع ووقف موقفاً يدرك بكل يقين عاقبته أنها إلى جنة أو نار فإنه يبكي إن فاتته إن كانت إلى الجنة، ويبكي إن وقع فيها إن كان مؤداها إلى معصية الله وسخطه وعذابه.
أصبح الكلام عن الجنة حديثاً للعجائز، وحديثاً لكبار السن، ولطائفة من الناس، أما الشباب فلهم حديث آخر، لا يا أخي الكريم، إن شغلنا وأمنيتنا هي الجنة والنجاة من النار بعد رضا الله، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسئل: كيف تصلي أو كيف تدعو؟ قال: (أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ يا رسول الله، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال صلى الله عليه وسلم: أنا ومعاذ حولها ندندن) بل أفضل خلق الله وهم أنبياء الله ورسله يقول الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] (رغباً) في الجنة (ورهباً) خوفاً من النار.
اليقين بالآخرة، اليقين بأنك ستموت، اليقين إذا رأيت جنازة أنك يوماً ما ستكون مثلها، اليقين إذا رأيت نعشاً أنك ستقلب والماء يرش على بدنك، فتغسل جنازة، إذا رأيت سدراً أو كفناً أو حنوطاً تتيقن أنه سيوضع في مغابنك، اليقين أنك ستوضع في هذا القبر، اليقين بأنك ستبقى وحدك، اليقين أن هذه الإضاءة ستتحول إلى ظلمة في القبر، وهذا الأنس سيتحول إلى وحشة اللحد، وهذا المراح والبراح سوف يتحول إلى لحد أضيق من ضيق، إذا عشت هذا اليقين والله لو دعيت إلى كل لذة، وهيئت لك، وغلقت الأبواب دونها لأنفت منها طمعاً فيما عند الله، وخوفاً أن يفوتك فضل الله وما عنده.(226/24)
خطر الإعجاب بالعصاة والعلاج منه
ثم إن بعض الشباب اشتغلوا بالمعصية إعجاباً بالعصاة، فتجد بعض الشباب يعجب بفنانٍ من الفنانين فيذهب يشتري عوداً، ويعزف ويطرب وينغم، ويجمع حوله من يعجبون بهذا، وينهون وينأون، وينشرون بين أنفسهم شراً وضلالاً.
إذاً: فالعلاج أن نعجب بالصالحين وبالقادة، وبالعلماء، وبالدعاة، وأن نتأسى بسمتهم وهديهم وخطاهم، فإن النظر في سير الصالحين يدعو إلى الاشتغال بسمتهم والتأسي بهم، وإن متابعة سير الفسقة والفاسدين يدعو إلى تقليدهم، تجد بعض الشباب قد ربط على رأسه شريطاً أحمر، ولبس فنيلة معلقة قد أبدت كتفيه، ولبس سروالاً عجيباً مضحكاً، فتقول: ما الذي دعاه إلى هذا؟ ويمر بين الناس والناس يشخصون إليه بأبصارهم، ف
الجواب
لأن الممثل الفلاني، أو النجم الفلاني يفعل هكذا فهو يقلده.
ذات يوم رأينا شاباً عليه رباط أحمر، وقصة كأنها كلب تاتشر أو ديانا، وفانلة معلقة وشيء غريب، فقلت: ما شاء الله، من هذا؟ من كوكب بعيد؟ قال: لا.
هذا يقلد رامبو، مجرد الإعجاب بهذا الكافر جعل هذا الشاب يتأسى خطاه، ويقتدي به ويقلده، فيشتغل بمعصية الله عن طاعته سبحانه وتعالى، فشاب يُعجب بفاجر يقلده، شاب يُعجب بفاسق يقلده، من أجل ذلك الحذر الحذر من أن يكون الفجار والفساق مواقع إعجابنا، بل إذا رأى أطفالنا أو أولادنا فاجراً أو فاسقاً فلنقل: إن هؤلاء في ذلة وهوان وضعف، إن هؤلاء مساكين، إن لم يتوبوا فهم على خطر وهلاك عظيم، فلنعمق في أنفسنا احتقار هؤلاء الذي يصدرون الفساد، ويعدون نجوماً وقادة فيه، هذا أمر ضروري جداً، وإلا سيدخل الإعجاب إلى القلوب ثم يؤثر على الجوارح.(226/25)
شباب اشتغلوا بطاعة الله(226/26)
ثابت البناني وإعجابه بمن أطاع الله
وانظروا إلى من يشتغلون بالطاعة، ويعجبون بمن يشتغل بالطاعة، ذكر أن ثابت البناني رحمه الله خرج إلى بغداد فرأى بساتين جميلة فيها ثمار يانعة وورود مفتحة، وفيها أشجار فناء، ورياض خضراء، فقيل له: يا ثابت! ما الذي أعجبك في هذه البساتين؟ فقال: أعجبني في بستان كذا عجوز رأيتها تصلي الضحى، كان مشغولاً بطاعة الله، معجباً بمن يطيع الله، فأعجبته طاعة الله، وإن بعض المسلمين قد لا يفعل كثيراً من المعاصي، لكنه معجب بمن يقترفون أنواع المعاصي، وإن هذا دليل مرض القلب، أن تكون محباً معجباً بمن كان مشغولاً ماضياً على معصية الله، لأن من أحب قوماً حشر معهم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] من أحب أهل الربا حشر معهم، من أحب أهل اللهو والصد عن ذكر الله حشر معهم، ولما جاء أعرابي قال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: من السائل؟ بعد أن أمضى حديثه قال: هو أنا ذا يا رسول الله! قال: ماذا أعددت للساعة؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل ولكني أحب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت يوم القيامة) وآخر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (المرء يحب القوم ولما يلحق بهم -لم يصل درجتهم، يوشك أن يصل درجتهم- فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب يوم القيامة) وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الهوى فقال: (المرء مع من أحب يوم القيامة) فإن لم تكن صالحاً مصلحاً هادياً مهدياً فلا أقل من أن تحب الصالحين، وتعجب بهم، وترجو وتتمنى أن يكون أبناؤك وبناتك وأقاربك ومن دونك وتحت ولايتك أن يكونوا على هذا السمت الطيب:
إذا أعجبتك صفات امرئ فكنه يكن فيك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
أيها الأحبة: من سير المشتغلين بطاعة الله الذين يرجون الآخرة ورحمة الله، كان أحد السلف لا يقرأ آيات العذاب وأهوال القيامة إلا إذا علم أن ولده ليس معه في مسجده، لما يصيب ولده من الوجل الذي يحصل له بسببه السقم، فصلى ذات يوم ولم يعلم أن ولده وراءه فقرأ آيات من الوعيد وولده معه في المسجد، فسقط الولد مغشياً عليه وعاد إلى البيت سقيماً، نحن لا نطالب الناس جميعاً أن يبكوا، فمن الناس من يعجز عن البكاء، وليس عدم بكاء الإنسان دليل على فجوره أو فسقه، لكن انظروا من اشتغلت نفوسهم بالطاعة تهتز أفئدتهم ولا يملكون دموعهم، ويهتزون خوفاً ورغبة وطمعاً ورغباً ورهباً.(226/27)
الربيع بن خثيم وانشغاله بطاعة الله
هذا الربيع بن خثيم شاب من الشباب، مشغول بطاعة الله جل وعلا كان يبكي وربما لم ينم ليلة أو ليالي متتابعة، فتقول أمه: يا ربيع! لماذا لم تنم؟ فيقول: وكيف ينام من يخاف الموت يا أماه؟! ويبكي بكاء شديداً، فتقول: والله إن من رأى بكاءك يظن بك السوء؛ هل قتلت نفساً أخبرنا، فإن أهل القتيل لو علموا بحالك لعفو عنك رحمة بك، وشفقة لما حل بك؟ قال: نعم يا أمي! لقد قتلت نفساً فلا تخبري أحداً، إني قتلت نفسي بالذنوب.
أقوام اشتغلت أنفسهم بالطاعة فاشتاقوا إلى الآخرة، وعلموا أن الدنيا ممر ومعبر لكي يستقروا في نعيم لا يتكدر أبداً.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه الله عنه عن ذلك الشاب المشتغل بطاعة الله ألا وهو الربيع بن خثيم: [يا ربيع! لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك] شاب يقول له ابن مسعود: [لو رآك النبي لأحبك].(226/28)
ربعي بن حراش يبتسم عند الموت
وهذا ربعي بن حراش قلما رئي هازلاً ضاحكاً، فقيل: لماذا لا تضحك؟ فقال: وكيف يضحك من سيمر على الصراط، فلما مات مات ضاحكاً متبسماً، وغسلوه وهو ضاحك، ودفنوه وهو ضاحك مبتسم، ولسنا بهذا نحرم أو ننكر على أحد الضحك، ولكن نقول: من اشتغل بشيء أشغله، من أولع بشيء شغل قلبه، من اشتغل بالطاعة شغلته واهتم بها، والدار الآخرة مثل حالي أو حال كثير من الناس فيها كحال رجل أعطي أرضاً فلم يحفر بها بئراً، ولم يغرس بها نخلاً، ولم يجعل لها سوراً، فلا يبالي أن ينزل بها الذئاب والكلاب، وأن ترمى بها الأقذار والأوساخ، وآخر أعطي أرضاً، فأنشأ لها سوراً، وغرس بها نخلاً، وحفر بها بئراً، فهل يرضى أن ترمى بها المزابل والأوساخ والسباطات والقذارات؟ لا.
فالشاب الذي يبني الآخرة، يسورها بسور جميل، يشق فيها أنهاراً، يغرس أشجاراً، ويحرثها، فلا يرضى أن يرمى في أرض آخرته المزابل والمعاصي، أما الذي أرض آخرته كلأ مباح للذئاب والبهائم يوضع فيها الروث والسرجين والنجاسات والأوساخ، فلا تعجب ألا يبالي بأمر آخرته، وربما نفع غيره بضر آخرته هو: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية:21].
يا شباب الإسلام! لا تظنوا شاباً إذا رأى امرأة ولو اشتهى النظر إليها عف وغض بصره عنها، كشاب تابعها حتى يواريها مأواها، لا تظنوا شاباً عرض عليه فلم فرمى به وكسره يستوي مع شاب أشغل ليله سهراً في رؤيته ورؤية ما فيه من الحرام.
يا شباب! لا تظنوا شاباً قد جمع آلافاً أو مئات أو عشرات من أشرطة الغناء يستوي مع شاب لا يسمع إلا كلام الله ورسوله، لا تظنوا شاباً يذهب مع الغادين والرائحين ومن هب ودب في الأسواق والمجمعات التي فيها الغث والسمين والضار والنافع يستوي مع شاب لا يرد إلا حلق الذكر، ورياض الجنة، ومجالس العلماء، ومواقع الطاعة بإذن الله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21].(226/29)
وصية لطلاب العلم في ترك النقد
وأخيراً أيها الأحبة: دعوة إلى الطيبين، إلى الصالحين الذين أكرمهم الله بالهداية وبالاستقامة، ثم لم يكن لهم بعد ذلك شغل إلا الجلوس في المجالس، ما رأيك في فلان؟ وما حكمك على فلان؟ وما قولك في فلان؟ وكأنهم أئمة الجرح والتعديل، وكأن الكون لا يدور إلا بآرائهم وأحكامهم، قد اشتغلوا بما لا يسألون عنه عما سيسألون عنه، وفي هذا المقام أنقل لكم وصية الإمام/ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان التفسير المشهور المعروف، كان يقول لولده: يا بني! إن الله لن يسألك يوم القيامة لماذا لم تشتم فرعون، ولكن الله سيحاسبك على عرض كل مسلم زللت فيه، بعض الشباب وإن كانوا من الصالحين مشغولون بالجرح والتعديل في الناس، وليسوا عليهم وكلاء، وليسوا عليهم بحافظين: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] ولن يحاسبوا عنهم، ولكن مشغولون بهم، ولو سألت أحدهم عن نفسه ماذا حفظت؟ ماذا قرأت؟ ماذا استظهرت؟ ماذا أنتجت؟ كم شاباً دعوت؟ كم كافراً دعوت إلى الإسلام؟ لما وجدت حظ الإسلام منه شيء، وكما قال القائل:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
شاب لو صارت له مصيبة لانزعجنا لمصيبته، لو احتاج دماً تبرعنا له من دمائنا، لو احتاج كلية لبحثنا نشتريها أو نتبرع بها، لو حصل له فاقة لجمعنا الأموال بعد عسره، ولكن في حال طمأنينته ما نفعنا وما نفع الدعوة، وما نفع الإسلام بشيء.
فيا أخي الكريم: لا تكن من المشغولين بلا مهمة، لا تكن من الذين ذهبت أيامهم ولياليهم بلا فائدة أبداً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله جل وعلا أن يكون الحديث حجة لنا ولكم، ولا يكون حجة علينا وعليكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(226/30)
الأسئلة(226/31)
الفوضى وضياع الوقت بين الشباب الملتزمين
السؤال
أحد الإخوة يقول: تكلمت عن الشباب الذين لم يرد الله لهم الهداية، فما بال وما شأن شباب الصحوة، حيث أني أعيش مع شباب مهتدين مع الأسف إما في ضياع الوقت والسهر والهامشية والفوضى؟
الجواب
لعلي ذكرت هذا في آخر نقطة، نعم، إن بعض الشباب المسلم يظن أنه قد خدم الإسلام، ونصر البوسنة، وجمع شمل المجاهدين، ورد اليهود من القدس بمجرد التزامه وكفى ووفى، وليس هذا بصحيح، إننا نريد التزاماً وعملاً وجهداً وإنتاجاً، وشاباً لا يجعل لكل سنة مهمة، ولكل شهر جزءاً من المهمة، ولكل أسبوع مرحلة من المهمة أظنه يضيع أيامه ولياليه:
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا(226/32)
أهمية خدمة الإسلام والدين
السؤال
يقول: تكالبت الأعداء علينا من كل حدب وصوب، ما هو دوري وأنا على شفا جرف هار في تيار اليأس والقنوط، وما هو دوري في كوني شاباً مشغولاً بلا مهمة؟
الجواب
يا أخي! نقول لك: إنك كما يقول القائل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
والله يا أخي الكريم! إنك تملك شيئاً كثيراً، والماء العذب الزلال بين يديك، ومن يعينك على الطاعة أمامك ومن خلفك وعن يمينك وشمالك، والأهداف مرسومة، والوسائل ميسرة، ولكنا نريد خطوة إلى الأمام.
يقول لي أحد الإخوة لعلكم تعرفونه، محمود باحاذق، من أوائل الشباب الذين ذهبوا إلى البوسنة، قال: كنت ذات يوم في المركز الإسلامي في زغرب فجاء شاب بوسني ولعله وشيك أو حديث إفاقة من خمر، ومعه مترجم، فقالوا: إن هذا الشاب يسأل يقول: هل يوجد شيخ أريد أن أسأله عن الإسلام؟ قال: فجيء به إلي، فقلت: وكيف أكلم هذا الشاب؟! قالوا: إنه قد أفاق، فأدار المترجم الحوار بيني وبينه، قال: فكان أول حديثه أن قال: إني شاب مسلم بسناوي -مسكين ما يعرف أن الخمر حرام أبداً، انظروا يا إخوان، الجهل والتضليل البليغ العظيم بأبناء المسلمين في أوروبا الشرقية ودول البلقان اثنين وسبعين سنة تحت الشيوعية - قال: إني مسلم، ولأجل أني مسلم، هدمت دارنا، واغتصبت بناتنا، وذبح آباؤنا، وشردنا من بلادنا، مع ذلك أنا لا أعرف من الإسلام إلا شهادة أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمد رسول الله، وأن الخنزير لا يجوز أكله، هذا الذي يعرف من الإسلام، قال: ومع ذلك حملت السلاح وجاهدت الكفار في سبيل هذه المعلومة، فالشاب الأخ الجريح وغيره من الشباب، بل حتى بعض المساجين الآن كم يعرفون عن الإسلام، يعرفون عن الإسلام ما لو سجل من ألسنتهم لبلغ مؤلفات، يعرفون الصلاة، والوضوء، والغسل، وصلاة الكسوف، والخسوف، والجنازة، ويعرفون أشياء كثيرة جداً عن الإسلام، فماذا قدموا للإسلام.
يعني: أنت تعرف عن الإسلام معلومات عديدة ما قدمت للإسلام شيئاً، وذاك البوسنوي لا يعرف عن الإسلام إلا كلمتي الشهادة، تحمل في سبيلها الجهاد والقتل والتضحية والدماء، فالأمر عجيب يا أخي الكريم، تستطيع أن تقدم شيئاً ولكن المسألة مسألة همة:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
بعض الشباب يقول: أتوب وأرجوكم ألا تدخلوني في شيء، ولا تكلفوني شيئاً.
يقال له: هذا شريط توزعه في سبيل الله، كتيب نافع توزعه في سبيل الله، دعوة إلى محاضرة، تعين بريال أو بكفالة يتيم، أو بتجهيز غازٍ، أو أو إلى آخره.
يريد أن يكون ظبياً جفولاً.
فنقول أخي: الزم هؤلاء الصحبة الطيبين الموجودين، وستجد خيراً واستقامة بإذن الله.
بهذا -أيها الأحبة- تنتهي الأسئلة، وأسأل الله جل وعلا أن يعيد هذا اللقاء بيننا وبينكم، وأن يكرمنا بالاجتماع في دار الكرامة، دار الرحمة في جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(226/33)
عظمة الخالق
إن الإنسان إن تحدث عن مخلوق لربما لم يوفه حقه، وربما زاد عن حقه؛ لكنه عندما يتحدث عن خالقه جل وعلا فإنه مهما تحدث ووصف، وأثنى ومجّد ومدح، فإنه في الأخير لَيقول: سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وإن المتأمل في عظم ملكه وقدرته، وأسمائه وصفاته؛ ليزداد بذلك إيماناً يرتفع به إلى مستوى عالٍ من الطاعة والانقياد والاستسلام لمولاه جل وعلا.(227/1)
تجلت قدرة الباري
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه على نعمه وآلائه، وأثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره، وأخلع وأترك من يفجره، أرجو رحمته وأخشى عذابه إن عذابه الجد بالكفار ملحق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: يتحدث الناس عن العظماء، ويتحدث الناس عن الزعماء، ويتحدث الناس عن أولي القوة والسطوة والعز والجبروت، ولكن كثيراً من الناس لا يفقهون ولا يعلمون ولا يدركون ما لله عز وجل من عظمة بالغة هي أولى وأحرى أن تذكر، وهي أولى وأحرى أن تسطر، وهي أجل وأعلى من أن يحيط بها علم عبد، ولكن العباد يتطاولون في هذا المقام؛ فما بلغوا فيها من الثناء على الله عز وجل والإخبات والانقياد والإذعان والتسليم له بمقدار ما أثنوا وأجابوا واستجابوا حمداً ومحمدة ومنزلة عظيمة.
إن الكلام عن عظمة الله -أيها الأحبة- كلام من عباد الله الفقراء عن ربهم الغني، وكلام من عباد الله الأذلاء عن ربهم العزيز، وحديث من عباد الله المساكين عن ربهم الجبار، وحديث من عباد الله أولي المسغبة والمسكنة والمتربة والذلة والفقر والحاجة والانكسار إلى الله عز وجل {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] إلى الله نور السماوات والأرض، إلى الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، إلى الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، إلى الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، إلى الله الذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، إلى الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23 - 24].
هو حديث من الضعفاء والأذلاء والفقراء عن ربهم الغني العزيز القوي الجبار المتكبر له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.(227/2)
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه)
أيها المسلمون: إذا اضطرب البحر، وهاج الموج، وهبت الرياح العواصف، نادى أصحاب السفينة يا ألله! وإذا ضل الحادي في الصحراء، ومال الركب عن الطريق، وحارت القافلة في السير نادوا يا ألله! وإذا وقعت المصيبة، وحلت النكبة، وجثمت الكارثة، نادى المصاب يا ألله! وإذا أوصدت الأبواب، وأسدلت الستور في وجوه السائلين، صاحوا يا ألله! وإذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وانقطعت الحبال، نادوا يا ألله! إليه يصعد الكلم الطيب، والدعاء الخالص، والدمع البريء، والتفجع الواله.
إليه تمد الأكف في الثناء، والأيادي في الحاجات، والأعين في الملمات، والأسئلة في الحوادث! باسمه وحده لا شريك له تشدو الألسن وتستغيث وتلهج وتنادي، وبذكره وحده لا شريك له تطمئن القلوب وتسكن الأرواح وتنادي يا ألله! الله أحسن الأسماء، وأجمل الحروف، وأصدق العبارات، وأطيب الكلمات، هل تعلم له سمياً؟ الله هذا الاسم الكريم على الذات المقدسة التي نؤمن بها، ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا وإليها مصيرنا.
الله أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، أهل الحمد، وأهل التقوى والمغفرة لا نحصي ثناءً عليه، ولا نبلغ حقه توقيراً وإجلالاً، ولا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك يا رب العالمين! لو أن البشر منذ كتب لهم تاريخ وإلى أن تهمد لهم على ظهر الأرض حركة نسوا الله أو كفروا به ما خدش ذلك شيئاً من جلاله، ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كف شعاعاً من نوره، ولا غض بريقاً من كبريائه، فهو سبحانه أغنى بحوله وطَوله وأعظم بذاته وصفاته، وأوسع في ملكوته وجبروته من أن يناله منه وهم واهم أو جهل جاهل.
هذه دعوة للتفكر والتأمل والتدبر في عظمة الله وفي خلق الله، وانظر إلى آثار رحمة الله، أدعوك إليها أخي المسلم لتعيش في آيات الله لتستشعر عظمة الله، في علمه وعظمة الله في قدرته، وعظمة الله في خلقه، وعظمة الله في حلمه، وعظمة الله في رحمته، وعظمة الله في قضائه وقدره، لتقف بنفسك على أسرار الكون وحكمة الله في كل صغير وكبير وتقول: يا سبحان الله!
آيات ربك في الآفاق بينة فانظر إليها وغض الطرف واحتسم
سر في سناها وردد في بدائعها جوى اشتياق بقلب خاشع وفم
تنام عنها وما نامت محاسنها لو كنت تعلم معنى الحسن لم تنم
يا سائراً وهو يلهو في مسالكه إن كنت ترجو لقاء الله فاستقم
إذا ما اتجه الفكر في السماوات حيث انتشرت النجوم في الليل، وإذا ما كل البصر فيما لا نهاية له من الآفاق المظلمة، وإذا ما خشعت النفس من رهبة السكون الشامل وكان ثلث الليل الآخر، تنزل الجبار نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه: يا عبادي! هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأجيبه، وهل من تائب فأتوب عليه، حينئذٍ تبدو الآفاق المظلمة كأنها باسمة مشرقة، يتحول السكون إلى نظرات موحية تنبعث من كل صوب، حينها تتغنى النفس والروح الخاشعة لتقول: سبحان الله! وإذا ما كان المتأمل على شاطئ البحر الخضم ذي الأمواج، وأرسلت الطرف بعيداً حيث اختلطت زرقة السماء بزرقة الأرض، وانحدرت شمس الأصيل رويداً رويداً؛ لتغيب في هذا البحر المالح الأجاج، وحيث تتهادى الفلك ذات الشراع الأبيض في حدود الأفق الملون بألوان الشفق كأنها طائر يسبح في النعيم؛ إذ ذاك يشعر المتأمل بعظمة واسعة دونها عظمة البحر الواسع، وإذ ذاك تقر العين باطمئنان الفلك الجاري على أديم الماء الممهد في رعاية الله الصمد، في رعاية الله صاحب العظمة والكبرياء، عندها تطمئن النفس لرؤية ما تطمئن إليه في منظر جميل، إذ ذاك يخفق الفؤاد ويدق دقات صداها في النفس تقول: يا سبحان الله! وإذا ما اشتد السقم بمن أحاطت به عناية الأطباء، وسهر الأوفياء، ونام بين آمال المخلصين ودعوات المحبين، ثم ضعفت حيلة الطبيب ولم ينفع وفاء الحبيب، واستحال الرجاء إلى بلاء؛ إذ ذاك تتجلى عظمة الله والنفوس جازعة، والنواصي خاشعة، والقلوب واجفة، والأيدي راجفة لتقول: أنا قضيت، ويقول الطبيب والقريب والحبيب: لك الأمر يا ألله فسبحان الله! وإذا بالإنسان ينظر إلى المال فيلقاه فانياً، وإلى الجاه فيلقها ذاوياً، وإلى الأماني فيلقاها زائلة، وإلى الآمال فيجدها باطلة، وإلى الشهوات فيجدها خادعة كاذبة، وإلى المسرات فيجدها آفلة غاربة؛ إذ ذاك يستغني عن الجاه والمال، وتشلُّ في نفسه حركة الآمال بين جاه يدول وأمل يزول؛ عندئذ لا يملأ فراغ النفس إلا ذكره سبحانه، فتقول سبحان الله! سبحان الله فيما يمس النفس من مظاهر العظمة والسعة والرحمة والقدرة والقضاء.
تقول سبحانك اللهم أنت العظيم وأنت الواسع الرحيم، وأنت القادر الدائم، وأنت الجميل والجليل، سبحانك أنت وحدك لا إله إلا أنت.(227/3)
خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس
إن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يخلق أولاده، ولم يخلق الأرض التي يدرج فوقها ولا السماء التي يعيش تحتها، ذلك الذي خلقه كله الله سبحانه وتعالى، فمن المقطوع به أن خلق الخلق وإيجاد الخلق من العدم لم ينتجها لنفسه إنسان ولا حيوان ولا جماد، ومن المقطوع به كذلك أن شيئاً لم يقع صدفة ولم يحدث من تلقاء نفسه، فمن الذي خلق الخلق؟ ومن الذي رفع السماء؟ ومن الذي نصب الجبال؟ من الذي بسط الأرض؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36].
يقول سبحانه: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].
هل فكرت في هذه الكواكب السيارة التي تملأ الفضاء، والتي تلتزم مداراً واحداً لا تنحرف عنه يميناً ولا شمالاً، هذه الكواكب تلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل، ثم نرتقبها في موعدها المحسوب فلا تخالف عنه أبداً.
إن الكرة تنطلق من أقدام اللاعبين ثم لا تلبث أن تهوي بعد تحليق، أما هذه الكرات الكواكب الغليظة الكبيرة الحجم المضيء منها والمعتم هي معلقة في السماء لا تسقط، سائرة لا تقف، كل واحد منها في دائرة لا يعدوها، قد يصطدم المشاة والركبان على الأرض وهم أصحاب بصر وعقل، أما هذه الكواكب التي تزحم الفضاء فإنها لا تزيغ ولا تصطدم {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40].
من الذي هيمن على نظام هذه الكواكب؟ ومن الذي أشرف على مدارها؟ بل من الذي أمسك بأجرامها الهائلة ودفعها تجري بهذه القوة الفائقة؟ {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:41].
أما كلمة الجاذبية وتفسير بعض المتأخرين إذا سألوا عن كوكب أو عن أمر أو عن شيء من بديع صنع الله ومن أسرار خلق الله ومن دقيق إعجاز الله قالوا: إنها الجاذبية، لم يقولوا: إنها قدرة الله، ولم يقولوا: إنها قوة الله، ولم يقولوا: إنها حكمة الله، لكنهم يقولون: إنها الجاذبية.
والجاذبية كلمة دلالتها كدلالة أهل الرياضيات حينما يقولون سين عن المجهول رمز لقوانين يجهلونها، لكن الحقيقة تقول: إن هذه الكواكب رمز لقوانين تصرخ أنها من صنع الله وباسم الله، ولكن الصم لا يسمعون.(227/4)
الله القدير الرقيب!
العالم وما فيه من سكون وحركة أثر لقدرة الله سبحانه، فإذا رأيت البذور تشق التربة وتنمو رويداً رويداً لتستوي على سوقها فذلك بقدرة الله، وإذا رأيت الأمواج تلطم الشُطآن رائحة غادية لا تهدأ حتى تثور فذلك بقدرة الله، وإذا رأيت القاطرات والطائرات تنتهب الفضاء وتطوي الأبعاد وتحمل الأثقال فذاك بقدرة الله، إن كثيراً من الناس يتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الطائرة، ويتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الغواصة والباخرة، ويتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الدبابة والسيارة، ولكنهم لا يعجبون من الخالق الذي خلق هذه العقول التي اكتشفت ما أوجده الله، وهذه العقول ما أنتجت شيئاً من عدم ولكن الله شاء لها أن تكتشف ما أوجده الله وأودعه في هذا الكون.
إذا رأيت البشر يموج بعضهم في بعض، ينفعلون بالحب والبغض والفرح والحزن، ينطلقون عاملين أو يهدءون نائمين فذلك بقدرة الله، وسواء شعرت أم لم تشعر فنبضات قلبك في حناياك، وسريان دمك في عروقك، وكمون الحس في أعصابك، وتجدد الحياة في خلاياك، وانسكاب الإفرازات من غددك، كل ذلك بقدرة الله، لا تحسبن شيئاً في الكون يقدر أو ينهض أو يقوم أو يسير بنفسه، بل كل ذلك بالله وبأمر الله ومن الله وإلى الله، فكما أن الله أبدعه أولاً من عدم فقد أودع فيه من أسرار قدرته وآثارها ما يدل عليه سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44].
الناس حينما يمشون في نفق بين الجبال يقولون: عجباً لهذه العقول التي استطاعت أن تفتت هذه الصخور، وإذا رأوا قطعة من صخر قد أزيحت عن الطريق قالوا: عجباً لهذه الآلات وصانعيها والمعدات وعامليها كيف زحزحت أطراف الجبال عن الأرض، ولكنهم ينسون أن الله عز وجل قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:105 - 107] {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].
إنهم يعجبون يوم أن يروا صخرة أزيحت عن الطريق أو نفقاً شق في جبل، لكنهم لا يعجبون في قول الله عز وجل: {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] ولا يعجبون من قول الله عز وجل: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9].
نعم أيها الأحبة: إننا لنعجب من أمر يسير ثم نضل أو نذهل أو نغفل أو نتغافل عن أمر جليل، إن ثرية من الثريات التي تعلق في أسقف القصور أو الصالات الكبيرة بلغ من طولها وعرضها وضيائها مبلغاً وصفه الواصفون، وتحدث عنه المتحدثون، وإذا بالقنوات الفضائية والجرائد والمجلات والإذاعات ورجال الإعلام يتحدثون عن هذه الغريبة وهذه العجيبة، والشمس تشرق كل صباح عليهم تضيء الدنيا جميعاً، ثم تغيب ويبزغ قمر يطل على الكون كله فقلَّ أن ترى من يتدبر ويتفكر.
يدخل بعضهم ساحة أو صالة في قصر فيراها طويلة عريضة ليس فيها عمد، أو يرى قبة واحدة ليس بها أعمدة فيتحدث ويحدث الناس ويعجب من طول هذه القاعة وعرضها بلا عمد، ويعجب ويستغرب من استدارة هذه القبة بلا أعمدة، وقد نسي أن الله عز وجل رفع السماوات بغير عمد ترونها، فأي هذه أولى وأحق بالتدبر والتفكر.
إن الواحد يقف في مكتب من المكاتب أمام جهاز الحاسوب فيسأله هذا الموظف ما اسمك أو أعطني معلومة عنك إن رقماً أو اسماً أو اسم أم أو اسم أب ثم يودع اسمك أو رقمك في جهاز الحاسوب أو ما يسمى بالكمبيوتر، ثم يخرج عنك معلومات كاملة عن ولادتك ومنشأك ووظيفتك وراتبك وزواجك وطلاقك وعدد أولادك، بل هذا الجهاز يخبرك عن أسماء وآباء ورواتب وأحوال وأبناء ووفيات وأموات ومواليد مدينة بل دولة من الدول ثم تعجب وتقول: حاسب بهذا المقدار وشاشة بهذا الحجم تسرع وتعطينا هذه الأخبار، وتقدم هذه المعلومات، أي عجبٍ نرى، أي دهشة نحن فيها، ولكن الكثير ينسى أو يتناسى أو يجهل قول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] يعجبون من الحاسب إذا قدم معلومات عن خمسة ملايين نسمة، لكنهم لا يتدبرون فيما جعله الله في الصحف والسجلات يوم القيامة، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
يعجب أحدهم ويقول: عجباً لهم لا ينسون، لا يغفلون، لا يفوت عليهم شيء، أراد أن ينقل استمارة سيارته، أراد أن يجدد رخصته، أراد أن ينقل كفالة عامله، فلما وقف عند الحاسب قيل له عليك مخالفة، وعليك غرامة، وعليك رسوم، وعليك كذا وكذا، فيعجب منهم كيف جمعوا هذه المعلومات وكيف أحصوها ولم ينسوها، وقد جهل أو نسي أن الله عز وجل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:64] كل ذلك {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52].(227/5)
الله العليم!
الله تعالى عليم بكل شيء لم يسبق معرفته جهل ولا يجوز على معرفته نسيان.
الله عز وجل صفته العليم، العلم الكامل الذي لم يسبق بجهل ولم يلحقه نسيان.
والله عز وجل الحي القيوم! الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، ولا يمكن أن يكون في علم الله ما يخالف الحقيقة، علم الله محيط بالأمس واليوم والغد بالظاهر والباطن بالدنيا والآخرة، قد يعرف الإنسان شيئاً عن حاضره وقد يذكر طرفاً من ماضيه وما وراء ذلك، ولكن الواحد منا جاهل بمستقبله لا يعلم ما يغيب له بعد دقيقة أو ثانية، لكن الله وحده يحصي أعمالنا الماضية ساعة ساعة، ويسجل أحوال العالم الغابر دولة دولة، وحادثة حادثة، قال: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:51 - 52].
إنه علم يشرق على كل شيء، فيجلي بواطنه وخوافيه، ويكشف بداياته ونهاياته، يحيط بذاته وصفاته، فالشهود والغيب لديه سواء، والقريب والبعيد والقاصي والداني لديه سواء: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت:47] علم الله يشرف على كل شيء إشرافاً تاماً، ويهيمن على أطوار الموجودات ما يحس منها وما يتوهم، كل ذلك بعلم الله عز وجل، فعدد ما في صحاري الأرض من رمال، وما في بحار الدنيا من قطرات، وما في الأشجار من ورقات، وما في الأغصان من ثمار، وما في السنابل من حبوب، وما في الجبال من صخرات، وما في الصخور من ذرات، وما في رءوس البشر وجلودهم من شعر، ثم ما يمكن أن يطرأ على هذه الأعداد الكثيرة من أحوال شتى مما تحتاج إليه في وجودها من قوى متجددة، وما يعتريها من أوصاف متغايرة، كل ذلك يحيط به علم الله سبحانه.
علم الله سبحانه وتعالى الذي لا تبلغ عقولنا منه شيء: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13 - 14] أرواحنا هذه التي في أقفاص صدورنا، هذه التي في جنبات أبداننا، أرواحنا هذه التي نتحرك بها نحن لا نعلم عن كنهها شيئاً {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].(227/6)
الله السميع البصير!
ما من كلام يدور بين الناس، أو حديث يتجاذبون أطرافه إلا سمعه الله عز وجل قبل أي شيء، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثه في جانب البيت وليس بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة إلا الستر في حجرة عائشة، عائشة في باطن الحجرة ثم الستر، ثم المجادلة تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها الذي ظاهر منها تقول: يا رسول الله! هذا أوس قد ظاهر مني وبيني وبينه عيال، إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا، فأنزل الله عز وجل الآيات، تقول عائشة: والله ما سمعت كلامها وأنزل الله آية من فوق سبع سماوات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1].
نعم أيها الأحبة: إنه سمع الله عز وجل الذي لا يخفى عليه شيء {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] سبحانه ما تغيب عنه همسة وسط الضجيج، ولا تشتبه عليه لغة على اختلاف الألسنة، وهناك أصوات وأقوال يسمعها ويحبها (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) وكما يحب الله صوت الوحي تتلوه الألسنة فإن الله يكره صوت الفحش والسوء {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148].
وكما أن الله يسمع كل شيء فهو شهيد على كل شيء، ورؤيته تنظر في أعماق الظلمات فتستشف كوامنها، فليس الله بحاجة إلى ضياء يبصر به الخفي، أو مكبر يعظم به الدقيق، كيف يحتاج وهو الذي خلق الظلمة والضياء، وهو الذي خلق السر والعلانية، وهو الذي خلق القريب والبعيد سبحانه! إذ كنت ثالث ثلاثة فاعلم أن الله عز وجل يبصر ما تفعلون، ويسمع ما تقولون: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7].
عندما أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون توجس موسى وهارون من طغيان فرعون خيفة: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] فقال سبحانه: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] إن الله معهما ومع كل كائن من بدء الخلق إلى قيام الساعة، وما قبل ذلك وما بعد ذلك يسمع ويرى {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] الإحساس بهذه الحقيقة جزء من الدين بل هو قمة من قمم الدين ومرتبة من مراتب الدين والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الله ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
هل يستطيع أحد في العالم، هل يستطيع كيان أو قوة أو دولة أو منظمة أو جيش أو سلطة أن يقدم أو يدعي أو يزعم أنه أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ لا وألف لا، إن الذي أعطى وهدى هو الله عز وجل، بهذا الكلام رد موسى كليم الله على فرعون عدو الله لما سأله فرعون بكل تجبر وطغيان، وهو في قرارة نفسه مؤمن بأن الذي أعطى، وأن الذي هدى، وأن الذي خلق هو الله، لكن كبرياءه وطغيانه وجبروته هي التي صدته أن يقر بذلك {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ولذا قال موسى له: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
إن موسى عليه السلام رد على سؤال فرعون، هذا السؤال الممتلئ جحوداً وتكبراً وإنكاراً لما سأل فرعون من ربكما، ما تعريفه، ما آثاره، ما هي الدلائل القائمة على وحدانيته، ما هي البراهين الساطعة على ألوهيته؟ يريد أن يتجبر، يريد أن يتكبر وهو مخلوق من خلق الله، وهو لا يساوي ذرة في ملكوت الله عز وجل، فرد عليه موسى بما ألهمه الله من وحي فقال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
هذه الآية تشمل عالم النبات والحيوان والإنسان والبر والبحر والأفلاك.
نعم أيها الأحبة! يقول الزمخشري لله دره من
الجواب
قال أحدهم: والله لقد تناوله موسى بصفعه على وجهه يعني: إن هذا الجواب المسكت صار كصفعة من يد موسى على خد فرعون، وتحت كل كلمة من هذا الجواب آيات وآيات ومعجزات باهرات، وتحت كلمة هدى مجلدات ومجلدات من الصور والأحكام.(227/7)
الله هادي كل شيء!
هدى الطفل يوم أن وضعته أمه لا يعرف شيئاً ولا يبصر شيئاً، فهداه إلى ثدي أمه ليجد فيه اللبن، وهدى النملة لتخزن قوتها استعداداً لفصل دون فصل، ولشتاء دون صيف، وهدى النحلة أن تطير آلاف الأميال لتأخذ الرحيق وترجع مرة ثانية إلى خليتها، وهدى الحمام يوم ينقل الرسائل من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد، لا يضيع ولا يضل ولا يزيغ.
يقول كريسي موريسون: إن النحلة لا يمكن أن تهتدي لتعود إلى خليتها ولتعود إلى مكانها بعد أن تطوف مسافات بعيدة لتمص وتمتص رحيق الأزهار، لا يمكن أن تعود إلا وقد استخدمت آلة لتحدد الطريق والاتجاهات.
وسماها إريل، أي يقول: إن هذه النحلة تحتاج إلى إريل لتعلم أين مكانها وإلى أين تتجه.
إنه يقول ذلك لأنه جاهل، ولكن من يعرف الحقيقة يعلم أن الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى هدى النحلة وقد ذهبت مكاناً بعيداً لتعود إلى مملكتها وإلى خليتها.
هل تعلمون أن النحل أول ما يخرج من الخلية نحلة واحدة -إن النحل منظم غاية التنظيم- ثم تبحث، فإذا وجدت حقلاً ومرتعاً يرتع فيه النحل لامتصاص الرحيق من الزهور عاد الرسول وعاد البشير، وعاد هذا المندوب إلى المملكة ليخبر بقية النحل في المملكة أنه يوجد مكان مليء بالأزهار في طريق كذا باتجاه كذا بانحراف كذا في بعد كذا في موقع كذا في ارتفاع كذا في انخفاض كذا، هل تعلمون كيف تتكلم النحلة مع بقية النحل، إن لها رقصة معينة، فترقص رقصة مستديرة ثم رقصة مثلثة ثم رقصة مستطيلة وتتحرك بهيئات وحركات يفهم النحل بهذه الحركات بهذه اللغة بهذه الإشارات بكل دقة أين يكمن وأين يوجد حقل الزهور، فتنطلق أسراب النحل إلى هذا المكان وفقاً للإشارات والرقصات والرسوم والحركات التي صورها ذلك الرسول من رسل النحل إلى مرتع الأزهار ليجدوا أنه ما ضل وما زاد وما بعد وما قصر وما ضل وما تاه أبداً.
من الذي علمه؟ ومن الذي فطره؟ ومن الذي هداه؟ الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجى وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا
بل سائل الأعمى خطى بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ولا مرعى ما الذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا بعد الولادة ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاكا
وإذا رأيت الحي يخرج من حنا يا ميت فاسأله من أحياكا
قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى عن عيون الناس من أخفاك
قل للنبات يجف بعد تعهد ورعاية من بالجفاف رماكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو وحده فاسأله من أرباكا
وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فسأله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبعد كل شيء ما الذي أدناكا
قل للمرير من الثمار من الذي بالمر من دون الثمار غذاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواكا
وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا ترى صخراً تفجر بالمياه فسله من بالماء شق صفاكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال جرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رأيت البحر بالملح الأجا ج طغى فسله من الذي أطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً فاسأله من يا ليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحياً فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا
هذى عجائب طالما أخذت بها عيناك وانفتحت بها أذناكا
يا أيها الماء المهين من الذي في ظلمة الأحشاء قد سواكا
ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي بالله جل جلاله أغراكا
أتراك عيناً والعيون لها مدى ما جاوزته ولا مدى لمداكا
إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء أستبين علاكا
نعم أيها الأحبة.
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
كان السلف يعرفون من قول الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] يعلمون ويظنون أن الأرض تخضر وتثمر وتزهر إذا نزل عليها الماء، ثم تقدم العلم واكتشف أهل علم النبات أن الإنسان إذا وضع الحب في الأرض اليابسة لا ينبت الزرع حتى تهتز الأرض درجة واحدة من درجات جهاز رختر، فتنصدع قشرة الحبة فثبت بإذن الله عز وجل، فالله يخبر بذلك قبل ما اكتشفوه وقبل ما أخبروا به قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.(227/8)
إنه الله جل جلاله
إنها قدرة الله! إنها مشيئة الله! إنها إرادة الله! إنها عظمة الله الذي يتحدث الناس عن عظمة من دونه، ويجهلون ويغفلون ولا يسبحون ولا يحمدون ولا يذكرون ولا يتذكرون عظمة الذي خلقهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:60 - 64].
نعم أيها الأحبة: أإله مع الله؟ أإله مع الله يخلق؟ أإله مع الله يدبر؟ أإله مع الله يأمر؟ أإله مع الله ينهى؟ أإله مع الله يشرع؟ أإله مع الله يخلق من عدم؟ أإله مع الله يعز من يشاء ويذل من يشاء؟ أإله مع الله يعطي الملك ويسلب الملك؟ أإله مع الله يخفض أقواماً ويرفع آخرين؟ أإله مع الله يبسط ويقدر؟ أإله مع الله يحي ويميت؟! لا وألف لا، سبحان الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
لقد عرف السلف قول الله عز وجل: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] قالوا: إن ذلك إشارة إلى أماكن النجوم، ثم تطور العلم وتقدم الإعجاز فاكتشف علماء الفلك أن هناك نجوماً ذهبت من أماكنها، أرسلها الله، سرعتها كسرعة الضوء أو أكثر ولم ترتطم بالأرض إلى اليوم وبقيت مواقعها هناك فقال عز وجل: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] ولم يقل الله فلا أقسم بالنجوم تعظيماً لمواقعها التي قدرها وشاءها ولا تخرج عن مسارها ومدارها ولا تتعدى ما حدد الله لها قيد أُنملة: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
روى البخاري بسنده إلى محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37] لما سمع جبير بن مطعم هذه الآية قال: كاد قلبي أن يطير) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به.
وجبير قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر ليكلم النبي صلى الله عليه وسلم في فداء الأسارى، وكان جبير إذ ذاك مشركاً، فلما سمع هذه الآية كانت سبباً من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام، وقد ذكره ابن كثير أيضاً.(227/9)
حاجة العبد إلى الانكسار أمام ربه
أيها الأحبة: إن عظمة الله لا يحدها لسان ولا يسطرها قلم، ولا يحويها قرص ولا ورق وقمطر، إنها عظمة تعجز الألسنة عن وصفها، وتعجز الأقلام عن كتابتها، وتعجز الأسفار أن تحويها، ولكن الله عز وجل بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلمنا أن ندعو، وأن نتملق، وأن نخضع، وأن نسبح الله عز وجل لنقول: سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:27] لو كل شجرة على وجه الأرض، لو كل شجرة تراها في طريقك في الغابات في أنحاء الدنيا، لو أن كل شجرة أقلام، ولو أن كل بحر حبراً فأخذنا نكتب بهذه الأقلام من مداد هذه البحار لنصف ولنحيط قدرته وعظمته وما يليق به لانتهت هذه الأقلام ولجفت هذه البحار ولم نبلغ شيئاً من بيان عظمة الله وعزته وقدرته {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
نعم أيها الأحبة: إننا لا نحصي ثناءً على الله ولا نحصي على الله أسمائه الحسنى، ولا نحصي على الله صفاته العلا، إنا نقول: اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، وما علمنا هو قليل من كثير وما أوتينا من العلم إلا قليلاً.
إذا أدركنا هذا -أيها الأحبة- زدنا يقيناً وشعوراً بأننا خلق حقير في مقابل عظمة مطلقة لا متناهية، وهي عظمة الله عز وجل، فأنى لعبد أن يصارع أو يكابر أو يدابر، أو يتكبر أو يصعر أو يتجبر ليعرض عن طاعة الله عز وجل.
عجباً لنا معاشر الخلق من أي شيء خلقنا وما الذي نحمله في أجوافنا؟ أليست أعيننا تحمل القذى؟ أليست أنوفنا تحمل المخاط؟ أليست آذاننا تحمل ما تعلمون؟ أليس في أجوافنا البول والغائط؟ أليس في مغابننا من الروائح ما يجل المسجد عن ذكره ووصفه؟ عجباً لنا وقد خلقنا من ماء مهين {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7] {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:20 - 23].
أنى لهذا الإنسان الضعيف المسكين الذي هو من أصل مهين أن يتجبر أو يعرض عن طاعة الله، إن حق كل عبد من عباد الله، والواجب عليه أن يعرف مقدار ذله وحقارته وصغره أمام عظمة الله عز وجل المطلقة التي لا يحدها حد أبداً؛ ومن أدرك ذلك فإن هذا من أعظم أبواب الإقبال على الله عز وجل، أن تعلم أنك إن أطعت فإنما تطيع من يستحق الطاعة، وإن عبدت فإنما تعبد من يستحق العبادة وحده لا شريك له، وإن أذنبت فليس بحقيق لك ولا يجوز لك أن تصر على الذنب وأن تمعن في المعصية، بل واجبك أن تنكسر وأن تفر من الله إلى الله، وأن تهرب من سخط الله إلى رحمة الله، ترجو حلمه وستره ومغفرته.
نعم أيها الأحبة: من أدرك هذا فإنه يزيده بربه إيماناً، ويزيده لخالقه طاعة وانقياداً لوجهه سبحانه، أوليس الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه الإمام مسلم.
نعم أيها الأحبة: إننا بحاجة إلى أن نتفكر ونتدبر كم من الناس ركب سيارة فخمة فنسي أنه خلق من ماء مهين، وكم من الناس مدح بقصيدة فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس نسب إلى قبيلة وإلى شرف وحسب ونسب فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس علق من الرتب ومن النياشين فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس جمع من الأموال والأرصدة فنسي أنه من ماء مهين {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].(227/10)
افتقار العبد إلى غنى ربه
نعم أيها الإنسان: ينبغي أن تعلم أنك في غاية الذلة والافتقار والحاجة والانكسار إلى الله وبين يدي الله عز وجل.
وينبغي -أيها الأحبة- أن نتعود التضرع إلى الله، وأن نتعود الشكوى إلى الله، وأن نتعود اللجوء إلى الله، وأن نتلذذ بأن الواحد يرمي بنفسه من طول قيامه ليكون في حالة السجود، ويمرغ أشرف ما في جسمه وهي جبهته على التراب ذلة لله عز وجل، وأنت لا تقبل أن أحداً يضربك على ناصيتك وهامتك ولو بلمسة فيها أدنى ذلة، لكنك أنت تختار أن تذل وتنحط وتنكسر وتنحني من علو وقوفك إلى قمة ذلتك حال سجودك، لمن؟ لوجه الله عز وجل.
ولا ترضى أن تركع لغيره، ولا ترضى أن تنحني لغيره، ولا ترضى أن تسجد لغيره، بل قد يوضع السيف على الرقبة فتأبى أن تخصع لغير الله، ويوضع السيف على الرقبة فتأبى أن تسجد لغير الله، ويوضع السيف على الرقبة فتأبى أن تنحط خاضعاً منكسراً ذليلاً لغير الله عز وجل.
هكذا الانكسار، وهكذا الانقياد، وهكذا المناجاة في حال السجود، أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم).
ينبغي أن نستشعر الذلة لله عز وجل، وأن نستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى، ما أحلاها من هيئة، ما أجملها من صورة، ما أطيبها من صفة أن تسجد منحطاً ذليلاً منكسراً لعظمة الله، لجبروت الله، لوجه الله، لملكوت الله، وكأنك حلس بالٍ، كأنك جلد قد سلخ ورمي، وأنت منكسر لله عز وجل على هذه الحالة التي أنت تجد قمة اللذة في نهاية الذلة في تمام الانكسار لوجه الله عز وجل، وأنت ونحن فقراء إلى الله.
يا رب أنت المستعان وإننا أبداً لفضلك عالة فقراء
نرجوك في كل الأمور وما لنا في غير منك يا كريم رجاء
أنت الغني وما لجودك منتهى بيديك سر الخلق والأحياء
لولاك ما كنا ولا كانت لنا دنيا ولا عمرت بنا أرجاء
لولاك ما خفقت جوانحنا ولا رعشت بآيات الهدى أضواء
ما اهتز غصن أو ترنم شاعر أو كحلت عين الوجود ذكاء
أو سال قطر أو ترقرق جدول وتلألأت في الروضة الأنداء
لولاك ما كشف الحقيقة عالم أو كان في دنيا الورى حكماء
ما حلقت عبر الفضاء سفينة أو أرسلت ضوء النجوم سماء
أبدعت هذا الكون من عدم وفي يدك التصرف فيه كيف تشاء
ما كان أو سيكون أو هو كائن يفنى وليس لما سواك بقاء
إن كنت في عرض البحار فعربدت هوج الرياح وأرعدت أنواء
أو طرت في رحب الفضاء فخانني حظ وأوشك أن يحين قضاء
أو شفني هم ينوء بحمله ظهري وراشت سهمها الأرزاء
أو كنت مقطوع الأواصر نائياً فلمن يكون تضرع ودعاء
ولمن تخر جباهنا وقلوبنا حتى تزول بعونه البأساء
يا رب أنت المستعان وإننا أبداً إليك جميعنا فقراء
من كان في حفظ الإله وحرزه ذلت له العقبات والأعباء
أنا إن ضللت فمنك نور هدايتي وإذا مرضت ففي رضاك شفاء
وإذا عطشت فمن نعيمك أستقي أو جعت كان بما رزقت غناء
وإذا عريت فأنت وحدك ساتري وجميل عفوك جنة ورداء
وإذا تنكبت الطريق رجعت في ندم إليك ففي حماك نجاء
وسعت مكارمك العباد برحمة وتتابعت من فيضك الآلاء
يا رب خيرك للبرية نازل وإليك يصعد منهم الإيذاء
يا رب حلمك لم يدع لمقصر عذراً فهلا يرعوي السفهاء
لو كان ربك بالعقاب معجلاً لأتى على هذي القرون عفاء
عجباً أيأنف أن يمرغ هامة لله قوم ضلالة تعساء
لكأنها تلك القلوب جلامد وكأنما آذانهم صماء
وإلى متى هذا الكنود تجردي وتعبدي لله يا أهواء(227/11)
سبحانك لا نحصي ثناءً عليك
أيها الأحبة في الله: والله لو تحدثنا منذ خلقنا إلى أن نموت، ولو كتبنا بكل شجرة وأفنينا كل بحر وملأنا كل سفر ما حوينا وما بلغنا وما قلنا ولا وصفنا جانباً من عظمة الله عز وجل، لكن عزءانا فيما بلغنا وأخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم وهو قولنا في مناجاة ربنا وفي تنزيه ربنا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وما ذكرناك حق ذكرك، وما شكرناك حق شكرك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، سبحانك أنت جملتنا وسترتنا وأكرمتنا ورفعتنا وأعطيتنا وهديتنا وآويتنا، سبحانك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك.
اللهم إنا نرجو بتوحيدك، ونرجو برحمتك، ونرجو بمنك وجودك وكرمك أن تستر عيوبنا وأن تغفر به ذنوبنا، وأن ترفع درجاتنا، وأن تمحو زلاتنا، وأن تكفر خطايانا وسيئاتنا.(227/12)
عجباً لمن يترك العظمة إلى اللذة الفانية
أيها الأحبة: وأمام عظمة الله هذه ألا تعجبون من قوم يجعلون بينهم وبين الله واسطة؟! أمام عظمة الله هذه ألا تعجبون من أقوام يدورون بالأضرحة والقبور ويقولون: مدد مدد يا بدوي، مدد مدد يا حسين، هل يحتاج الله إلى جثة رميم هامدة في القبر لتوصل دعاءكم إلى الله عز وجل، أو تتخذونها واسطة إلى الله، أو تجعلونهم شفعاء إلى الله، مع كل عظمة يوصف الله بها وكل عمل يوصف الله به ترى أقواماً يجعلون بينهم وبين الله شفعاء ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
ترى أقواماً يجعلون بينهم وبين الله واسطة، وترون وتبصرون وتسمعون أقواماً بعضهم يذهب للكهنة يظنون أنهم يعلمون من غيب الله الذي لا يعلمه أحد، قال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] تعجب من أقوام يذهبون إلى السحرة والمشعوذين والدجالين والبطلة والممخرقين يريدون منهم حروزاً وتمائم وزناراً يعلقونه على عضدهم وفي رقابهم وعلى بطونهم يقولون: تدفع الضر والبلاء والعين، أيحتاج عبد إلى أحد وهو مرتبط متعلق بالله عز وجل، إن هذا هو الخسران المبين، وهذا هو الضلال المبين، أن ينقطع العبد من التعلق بالله ليتعلق بساحر وأن يصدق كاهناً في غيب ليتردد فيما أخبر الله به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليعرض عن هدي الله ووحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليعمل بنظريات وتجارب وأفكار وآراء عفا عليها الزمن.
وإن زينوها وزخرفوها:
في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير
عجباً لهؤلاء الذين يجهلون أو يتجاهلون عظمة الله، وأعجب من هذا عبد يعلم أن الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، ثم يلجأ إلى غير الله في كشف كربة، أو دفع ضر، أو جلب نفع، أو شفاء سقم، أو دفع بلاء ونقمة، يا سبحان الله! إن أمر التوحيد عظيم ومن حقق التوحيد أدرك عظمة الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا، واسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، اللهم إنا نسألك ونحن نحمدك بكل ما يليق بك، وبكل ما يرضيك، وبكل ما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، نسألك اللهم ألا تدع لنا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا مثقلاً إلا هونته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واختم اللهم بالشهادة والسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، واهدنا واهد بنا، واسترنا ولا تفضحنا، وثبتا وتوفنا على أحسن حال ترضيك يا رب العالمين! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، ومتعهم بالصحة والعافية من كان منهم حياً، ومن كان منهم ميتاً فجازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً يا رب العالمين! اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(227/13)
الأسئلة(227/14)
ما يقتضيه الإيمان من المؤمن
السؤال
بعد أن ذكرت لنا هذه الدلائل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، لجدير بنا أن يزداد إيماننا بالله والارتباط به عز وجل، فماذا ينبغي أن يكون على المسلم لتعظيم هذا الخالق الجليل سبحانه وتعالى أفيدونا مأجورين مشكورين؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله.
وبعد: إن مقتضى الإيمان والعلم والإدراك لعظمة الله عز وجل هي أن ينقاد العبد لله سبحانه وتعالى، وأن يسلم سمعه وبصره وفؤاده وحواسه وجوارحه لله عز وجل، وأن يتعود الانقياد والإذعان والتسليم والاستجابه والمبادرة السريعة الكاملة لأمر الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] هكذا شأن المؤمن الذي يعلم عظمة ربه.
إن الناس إذا هددوا بعظيم أو وعدوا بعظيم إما أن يستجيبوا وإما أن ينزجروا، فالمجرم إذا هدد بعظيم في مكانته أو سطوته أو سلطته أو رتبته، ثم رأى أن ما هدد به من صفة وشخص هذا العظيم، بات أمراً ماثلاً للعيان استسلم وانقاد وتعهد أن لا يعود؛ لأنه علم أنه يهدد بمن له نوع من صفة القوة اللائقة بحجم البشر، وهو بشر مثله ينقاد له، أفلا ننقاد للعظيم الجبار عز وجل؟! وإن الإنسان إذا وعد من قبل من له حظ من مال أو حطام الدنيا وقيل فلان بن فلان سيعطيك قلت: الآن ارتحت لأن فلاناً وعد وهو غني يملك، فهل تثق بما عند الله وبوعد الله وبعطاء الله وتطمئن لجزيل خلف الله عز وجل وما وعدك الله سبحانه وتعالى.
إن الحديث عن عظمة الله في علمه تقودك ألا يراك الله على معصية، وإن الحديث عن عظمة الله في سمعه تقودك ألا تنبس ببنت شفة في معصية، وإن الحديث في عظمة الله في حلمه أن تستحي من الله عز وجل وأنت تتبع الذنب الذنب وتخطئ الخطأ الجم، ولا ترعوي ولا تنتبه ولا تلتفت، وواجبك إذا أذنبت أن تبادر منكسراً ذليلاً خائفاً باذلاً للحسنات الماحية للسيئات، وإن علمك بقدرة الله تجعلك ضابطاً متحكماً في قدرتك ألا تبطش بها على أحد وألا يغرك حسبك أو نسبك أو رتبتك أو جاهك أو مكانتك.
وإن علمك بعظمة الله سبحانه وتعالى في علمه تدعوك ألا تتساهل بعمل يحصى عليك: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] ثم يجتمع فتجد الصحائف في سجلات أعمالك قد سودتها الخطايا والذنوب، هذه هي فائدة الحديث في العظمة، أن تسبح الله وأن تذكره وأن تشكره وأن تطيعه وأن تثني عليه الخير كله، ثم بعد ذلك تنقاد لأمره سبحانه وتعالى وتنزجر وترعوي وتكف وتقلع فوراً عن الإصرار على معصيته سبحانه، أن تثني عليه الخير أيضاً.
إن الناس إذا جلسوا مجلساً وفيه لواء وفريق ونقيب وجندي فجاء صاحب الدار يثني على هذا الجندي ويجعله في أعلى الرتب وينسى هذه الرتب الكبيرة، هذا في المقياس العسكري، قالوا هذا جنون يثني على هذا العريف وهذا الجندي وهنا تاج ومقص ونجمتان وثلاث وغير ذلك ولا يلتفت لها، ما يعرف مقادير الناس ومنازلهم، وهم بشر كالبشر لا يتخلف بعضهم عن بعض في جوارحهم وحواسهم، فما بالك بمن يثني خيره على غير الله، ويثني الشكر على غير الله، ويثنّي الفضل والحمد لغير الله، والله المنعم المتفضل عليك وعلى من حمدته، وعليك وعلى من شكرته، وعليك وعلى من أزجيت له المديح أو الثناء.
إن الحديث عن عظمة الله تجعل الفرد يتأدب مع الله سبحانه وتعالى ويعرف قدر الله، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأدب معه سبحانه لكي نذكره حق ذكره، ولكي نشكره حق شكره، ولكي نقوم بما يرضيه، وإنا وايم الله لعاجزون ولكن رحمة الله التي سبقت غضبه، ورحمة الله التي وسعت كل شيء هي رجاؤنا وهي أملنا وهي متعلقنا أن تستر خلاتنا وزلاتنا وترفع درجاتنا، وتمحو سيئاتنا، وتضاعف حسناتنا، ذلك ما نرجوه أيها الأحبة.(227/15)
الجمع بين قوله (لا تنفذون إلا بسلطان) وبين وصول البشر إلى الفضاء
السؤال
كيف نوافق بين قوله تعالى {لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] وبين وصول البشر إلى القمر والمريخ أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
مسألة الوصول إلى القمر: هب أنني قلت لك الآن إنهم لم يصلوا، هل تغيرت فروض الوضوء؟ هل اختلفت أركان الصلاة؟ هل زادت شروط الطهارة؟ هل تغيرت أحكام الدين؟! وهب أني قلت لك إنهم وصلوا، وكثير من الناس أصبحت قضية وصول القمر عنده محل جدل، والله يا أخي إن كنت آمنت واقتنعت بأدلة تفضي إلى الوصول إلى القمر فقل، هناك من يقول إن سلطان العلم هو الوصول {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] قيل هو سلطان العلم، وما دام العلم بلغ إلى ذلك فيسلم بذلك، وآخر قال: لا.
ما وصلوا القمر.
فأنا أقول: لن أكون عدواً لهذا ولا عدواً لهذا الذي قال بالوصول إلى القمر أو نفى الوصول إلى القمر؛ لأنه لا لك مخطط ولا لك قطعة أرض في القمر، ولا أمل أن تحصل على أرض في القمر من الآن، اعرفها تماماً، والمسألة لا ينبني لك فيها قليل ولا كثير، أهم شيء أن تقول آمنت بكلام الله وبمقتضى كلام الله، إن كان مقتضى كلام الله الوصول إلى القمر فأنا مؤمن بالوصول إليه، وإن كان مقتضى كلام الله عدم الوصول إلى القمر فأنا مؤمن بعدم الوصول إليه.
مثلما يقول الشيخ ابن عثيمين في شرح القواعد والأصول الجليلة في مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، قال: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات يقوم على ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن تثبت ما أثبته الله وأثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أثبته الله لنفسه وأثبته الرسول لربه تثبته والله أمرنا {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].
المسألة الثانية: أن تنفي ما نفاه الله ونفاه رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن الله.
المسألة الثالثة: وأما ما لم يرد فيه نفي ولا إثبات فأنت تتوقف في لفظه وتفصل في معناه، فأما تفصيل المعنى فتقول: إن كان هذا الكلام يدل معناه على أمر يليق بالله وبعظمة الله وجلال الله آمنت به، وإن كان هذا الكلام يتضمن نقصاً ينزه الله عنه فأنا أنفيه وأنزه الله عنه.
وأنا أقول بمثل ذلك، إن كان القول بالوصول إلى القمر يوافق مقتضى ما أراده الله وشرعه وما يليق بكلام الله عز وجل فإنا نؤمن به، وإن كان لا يوافق ولا يمكن أن يقبل، وهذا اجتهاد البشر وأنه لا يمكن أن يسلم بأن سلطان العلم هو السلطان الذي ينفذ من خلاله إلى أقطار السماء لبلوغ القمر أي: أن هذا أمر مستحيل فنقول: اللهم آمنا بك وبما جاء عنك وعن رسولك على مراد رسولك صلى الله عليه وسلم.
أما أن تشغل نفسك بوصلوا وما وصلوا، يا أخي ما ينبني على هذا كثير علم، ونحن أمة دائماً أفكارنا هامشية، وليست في الممكن الذي يمكن أن نحققه ويمكن أن ننافس فيه، ويمكن أن نتحدى به ويمكن أن نغزو به الأمم، لا.
إنما تجد الكثير من الناس يتكلم فيما يعتبر أو يعد من باب: علم لا ينفع أو جهل لا يضر.
أنا لا أقول: إننا نقعد ولا نواكب الأمم والحضارات فيما وصلت إليه وسبقت إليه، لأن هناك من يقول قضية الوصول إلى القمر هي حرب نفسيه وهي من باب التحدي، ومن باب إغراق المسلمين في الهزيمة النفسية، وإننا نحن الغرب وصلنا القمر وأنتم حتى الآن ما صنعتم سيارة، وما صنعتم دبابة فضلاً عن صناعة طائرة، والحقيقة أنهم ما وصلوا إلى القمر، هذه وجهة نظر من يقول ذلك، وهناك من كذب هذه النظرية من الكفار وآخرين قال: بل وصلنا إلى القمر، ومشينا على القمر، وحصل ما حصل إلى آخره فنقول: هذه مسألة لا ينبني عليها أمر في الدين ولا حكم في الشرع، اللهم إلا فيما تعلق بما جاء في كلام الله عز وجل.
فخروجاً من الخلاف واحتياطاً للدين وإبراءً للذمة تقول: اللهم إن كان مقتضى هذه الآية الوصول فإني أؤمن به، وإن كان مقتضى الآية عدم الوصول فإني كافر به وانتهت المسألة، لا تشغل نفسك بقضايا ما ينبني عليها حكم عملي تفصيلي تكليفي في الشريعة.
بعض الناس يشغل نفسه ما العصا التي أخذها موسى، ومن أي شجرة هي؟ من أي شجرة هذه العصا التي اهتزت وأصبحت حية تسعى فصارت تلقف ما يأفكون، أو: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، قال أي هذه الطيور، ما أسماؤها أوز نعام دجاج حمام، ماذا ينبني في مثل هذه المسائل؟ لون كلب أهل الكهف أسود أبيض أحمر أزرق أخضر، ماذا ينبني عليه؟ أي أن هناك مسائل تجد من المسلمين من يغرق نفسه ووقته وهي لا ينبني عليها مزيد أحكام في الدين فلا تشغل نفسك بها.(227/16)
الرد على من تسلسل بالسؤال عن الخلق حتى سأل عن الله سبحانه وتعالى
السؤال
ما هو الرد على من يسأل: من خلق كذا ومن خلق كذا حتى قالوا من خلق الله، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
هذا قد يكون من باب الوسوسة، فإن الشيطان يعمد إلى أحدكم -كما جاء في الحديث- من خلق كذا ومن خلق كذا ومن خلق كذا ثم يقول: من خلق الله، وقد جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوسة الشيطان وتسلطه فقالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليكون الأمر في نفسه مما يود أن يلقي بنفسه من شواهق الجبال ولا يتلفظ به، فقال صلى الله عليه وسلم: (أوجدتم ذلك، ذلك عين الإيمان، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
وأضرب مثالاً بسيطاً جداً: تصور أنك تعيش في قصر محكم منيف وعليه أسوار وأبراج وحراسات محترمة ولا يستطيع أحد يقترب منه، ثم جاء عدو من الأعداء يريد أن ينال منك، فلما دنا منك وجدك محصناً في هذه الأبراج العالية والقصور المشيدة وأخذ حصاة صغيرة ثم رمى سور قصرك، هل يضرك شيء، هذا دليل على ضعف هذا الذي جاء يريد أن ينال منك شيئاً، فوجدك محصناً ثم لم يجد إلا أن يأخذ حصاة صغيرة ويخذفك أو يرميك بها، تضحك وتقول: الحمد لله الذي جعل هذا العدو لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أن يأخذ قطعة صغيرة من الحجر أو الحصى فيرمي بها على هذا السور الذي بيني وبين السور من الأسوار إلى آخره والأماكن والمجالس والضِياع الكثير ولا يمكن أن يصلني شره.
فكذلك الشيطان إذا جاء إلى مؤمن ووجده متمكناً بالإيمان بوحدانية الله وربوبيته، وألهويته وأسمائه وصفاته، متمكناً في الإذعان والتسليم والانقياد لله عز وجل، جاءه الشيطان يرجمه من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول له من خلق الله.
والدليل على أن كيد الشيطان ضعيف أن القضية ما تحتاج أنك تأتي برشاش قال صلى الله عليه وسلم: (فليتفل أحدكم عن يساره، وليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ويتفل في كل مرة، يعني تصور عدو تدفعه بنفثة، مع قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نعم هي نفثة يسيرة دليل على ضعفه وضعف كيده ووسوسته {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وفيها معنى آخر هي قوة اسم الله؛ لأنك لو قلت أعوذ بفلان أو بعلان من الشيطان لتسلط الشيطان عليك زيادة، ولكن لما قلت أعوذ بالله كانت استعاذتك بالله دفعاً لشر الشيطان وإحراقاً له، فهذا معنى ينبغي أن يُطْمَئن إليه، كل ما عليك إذا وسوس لك الشيطان تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم، إذا خشيت أن يدخل عليك الشيطان من باب شرك خفي ونحوه، وإذا جاء يوسوس لك في مثل هذه الأمور فاتفل عن يسارك واستعذ بالله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] الاستعاذة مع اليقين التام تطرده بإذن الله.
وثق أن الشيطان لو استطاع أن يجد منك شيئاً لجرك بأم رأسك إلى منتهى الكفر والضلال والإلحاد والجرائم والفواحش، لكن الشيطان لما جاء ووجدك متمكناً في حصن عظيم ما وجد إلا كما يجد ذاك الذي جاء إليك يريد أن يهاجمك فأخذ حجرة ورجم بها سور بيتك، أو سور قصرك فلا يضرك شيئاً.(227/17)
عندما يختل الأمن
الأمن نعمة من الله يمنَّ بها على من يشاء من عباده، وإن الله قد حثنا على طاعة أولي الأمر حفاظاً على الأمن، كما أوجب على الحكام إقامة الأحكام والحدود الشرعية حفظاً للأمن، فالأمن به تحفظ الأنفس والأموال والأعراض، ويحفظ به دين المرء المسلم؛ لذلك كان حفظه مسئولية جميع المسلمين.(228/1)
نعمة الأمن وبيان ضرورته
الحمد لله الذي جعل الأمن والأمان والطمأنينة للمؤمنين، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] الحمد لله الذي جعل الخوف والذلة والصغار على الكافرين والمنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
معاشر المؤمنين: كان الحديث في الجمعة الماضية عن الأمن وحاجة الأمة إليه، وعن حال أمةٍ من الأمم إذا فقدت الأمن ليلةً أو يوماً من أيامها، وأعظم درجات الأمن: الأمن في الدين الأمن على الملة الأمن على الشريعة الأمن على العبادة، ولأجل ذلك امتن الله جل وعلا على بني إسرائيل يوم أن نجاهم من كيد فرعون وبطشه ومكره، فما كانوا يأمنون على دينهم وأنفسهم، وخذوا مثالاً مما ورد في القرآن على أمةٍ من الأمم لم تجد أمناً في دينها، قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} [يونس:83] لم يجدوا حريةً يستطيعون بها أن يتقدموا بخطىً ثابتةٍ ربيطة الجأش إلى اعتناق هذا الدين، لأجل ذا ما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه على خوف ووجل، وعلى رهبة أن يكتشف فرعون أمرهم فيقتلهم، ولأجل ذلك كانت أوامر الطاغية وأوامر المستبد فرعون أن قال: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25] وكانت منةً من الله أن نجا المستضعفين من كيد فرعون وبأسه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] لقد كان البلاء بتلك الأمة على زمن ذلك الطاغية يجسد صورةً من حالٍ صعبة شديدة يوم أن لم يجد القوم أمناً يأمنون به، فما تجرأ إلا قليلٌ منهم أن يؤمنوا على خوفٍ من الطاغية وملئه، لقد كانت معاناةً صعبة، بل إن ذلك البلاء عاد بأثرٍ رجعي حتى على الأطفال، وحتى على الأجنة، فبات فرعون يقتل أطفال بني إسرائيل عاماً، ويستحي بعضهم عاماً؛ حتى لا تفنى السخرة والخدمة لأجل خدمته وحاجته، ويقتلهم عاماً آخر خشية أن يكون النبي الموعود به من بينهم، أي أمنٍ عاشه أولئك القوم، ولكن لما منَّ الله عليهم وبعث لهم موسى، ورفع به الظلم والضيم عنهم ما كان من بني إسرائيل بعد تلك النعم إلا العناد والمكابرة والإصرار على الضلالة.
أيها الأحبة: لما كانت قضية الأمن في الدين مهمة، جاءت الشريعة بحفظها وتحقيقها، ولأجل ذا كانت من أعظم مهمات الوالي أو الحاكم أو الإمام، كما نص على ذلك الماوردي رحمه الله في الأحكام السلطانية، قال: إن من أوجب واجبات الحاكم والإمام أن يحفظ الدين والملة على أصولها، فلا يأذن ببدعة، ولا يسمح بما يخالف الشريعة، أو يقدح في أصول العقيدة، هذا من كلامه أو بمعناه.(228/2)
حال الأمن عند المسلمين في الاتحاد السوفيتي
أيها الأحبة: وإن شئتم نقلةً يسيرة إلى زمننا وواقعنا المعاصر، انظروا حال إخواننا في الاتحاد السوفيتي، في روسيا وقد جثمت الشيوعية بكلكلها على صدور المسلمين في تلك البلاد اثنين وسبعين عاماً، حتى ظن الظانون أنه لم يبق أحدٌ يعرف لا إله إلا الله، أو يعرف الفاتحة، أو آيةً من كلام الله، أو حديثاً من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] لما تكفل الله بحفظ هذا الذكر وضمن طائفة منصورة على الحق إلى يوم القيامة منتشرةً في أصقاع المعمورة جعل لهذا الدين رجالاً يتربون عليه، وينشئون صغارهم عليه حتى في الأقبية وتحت السراديب.
أخبرنا عددٌ كثيرٌ بل متواتر ممن ذهبوا إلى كازخستان وطاشقند وتركستان، وكثيرٍ من بلاد الاتحاد السوفيتي سابقاً قالوا: وجدنا أمةً مسلمة، ووجدنا عدداً من المسلمين حفظوا القرآن، هل حفظوه في المساجد؟ ليس ثمة مساجد، هل حفظوه في حلق الذكر؟ ليس ثمة حلقة ذكر، فأين حفظوا وأين درسوا اللغة؟ حفظوه في الأقبية وتحت السراديب يقف واحدٌ على فتحةٍ فوق سطح الأرض من فوقها سجادٌ أو خشبٌ أو لوح كأن ليس تحت الأرض شيء، واثنان أو ثلاثة تحت الأرض يقرءون القرآن ويحفظون الآيات ويتدارسون الحديث.
هذا دينٌ محفوظ، هذه ملةٌ ماضية: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)، (ليتمن هذا الأمر حتى لا يبقى بيت مدرٍ ولا حجر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل).
نعم -أيها الأحبة- تلك صورةٌ من صور الخوف على الدين، وعدم الأمن لأولئك الذين أرادوا أن يتمسكوا، وفي المقابل عبرةٌ لنا يوم أن نجد أمة من وجد القرآن عندها فحكمه الإعدام، ومن وجد متلبساً بحلقة أو دراسةٍ شرعية فحكمه الإعدام، وما حول ذلك فحكمه السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة.
نعم.
ما كان هذا الكلام في زمن موسى وفرعون، بل في هذا الزمن القريب، ومع هذا كله ما نفع روسيا رءوسها ولا طائراتها ولا قنابلها: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر:2] ما كنا نظن، بل إن كثيراً ما كانوا يظنون بسقوط روسيا فضلاً عن غيرها: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2] ظن الروس أن ( KjB) أن المخابرات، أن الرءوس النووية، أن عابرات القارات، أن الطائرات، أن أجهزت التصنت، أن كل وسائل ملاحقةٍ أمنية لجريمةٍ أو غيرها ستحفظ هذا الكيان من السقوط: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2] لقد كانت الرادارات حوامة حول حدود تلك القارة، فإذ بالقنبلة تنفجر من تحت صنم لينين، إذ بالهاوية تنفجر من تحت تمثال تروتسكي وفردريك إنجلد وطغاة الشيوعية الذين ذبحوا وعاثوا خلال الديار وقتلوا تقتيلاً.(228/3)
الأمن في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم
أيها الأحبة: لقد كان الناس في زمنٍ مضى وإلى يومنا هذا لا يأمنون على دينهم، فإن كنا في أمنٍ على ديننا كما نرى ونشاهد اليوم فلنحمد الله على هذه النعمة، ولنحافظ عليها، وإن الأمة لا تزال بخير ما دامت عزيزةً بدينها، رافعةً رأسها به، مظهرة لشعائرها، لا تخاف في ذلك أحداً أبداً.
لقد ابتلي بهذا الأمن حتى الصحابة رضوان الله عليهم.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الرجل قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) أخرجه البخاري.
جاء خباب وكان النبي صلى الله عليه وسلم متوسداً بردةً في ظل الكعبة، فجاء خباب وكشف عن ظهره ليري رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار الكي، نفطات من قيح ودمٍ وصديد على جلده، كانت سيدته تعذبه ويشكو إلى رسول الله ما لقي، فقال له صلى الله عليه وسلم هذا: (كان الرجل قبلكم يحفر له في الأرض، فينشر بالمنشار فيشق باثنتين ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) بل لقد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقالوا: يا رسول الله! أحدنا لا ينام إلا وسلاحه تحت رأسه، لا يبول إلا وسلاحه على كتفه، متى نأمن؟ متى نصر الله؟: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
أيها الأحبة: لقد مس النبي وأصحابه البأساء والضراء وزلزلوا زلزالاً شديداً، كانوا على خوف في أمر دينهم، مكثوا زمناً في مكة لا يصلون إلا خفية، ولا يلتقون إلا خفية حتى أعز الله دينه بـ الفاروق، بالإمام الأواب شهيد المحراب عمر بن الخطاب، فلما آمن واعتز بإيمانه الدين ذهب إلى قريش وقال: [يا معشر قريش! أما تعلمون أني آمنت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال أبو جهل: حاشاك ذلك يا بن الخطاب، فقال: بل هو ما سمعت يا عدو الله! ثم عاد إليهم وقال: إني مهاجرٌ هذا اليوم سالك بطن هذا الوادي، فمن أراد أن تثكله أمه فليلحقني وراء هذا الوادي] هجرةٍ علنية وتحدٍ بقوةٍ إيمانية: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير).
أمة الإسلام وخير البرية عاشوا صوراً من الخوف على دينهم وعلى معتقدهم وعلى ملتهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويرفع يديه في غزوة بدر ويلح على الله حتى سقط رداؤه عن عاتقه، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول له: (يا رسول الله! كفاك منشادتك ربك، إن الله منجزك ما وعدك، والرسول يقول والدمع يتحدر على وجنيته الشريفة: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم أبداً).
يا عباد الله: الأمن على الدين الأمن على العبادة الأمن على الملة الأمن على الصلاة الأمن على العقيدة من أعظم صور الأمن ودرجات الأمن، فحافظوا على ذلك وانتبهوا إليه.(228/4)
حرمة النفس المؤمنة
ثم اعلموا -أيها الأحبة- أن الأمن على النفوس من ثمرات الأمن أيضاً، بل إن الشريعة جاءت بحفظ هذا، لذا حرم الله قتل النفوس وإزهاقها: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] وقال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، المهلكات، القاذفات بصاحبها في النار، وذكر منها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) رواه البخاري ومسلم.
إن دم المؤمن عظيمٌ خطير جليل، قال صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم) رواه النسائي والترمذي والحديث حسن.
أيها الأحبة: بل أعظم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة، فنظر إليها نظرة الإكبار والإجلال وتعظيم شعائر الله فقال: (ما أطيبكِ وما أطيب ريحكِ! وما أعظمكِ وما أعظم حرمتكِ! والذي نفس محمدٍ بيده، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتكِ) أخرجه ابن ماجة.
أيها الأحبة: إذا كان هذا شأن دم المؤمن وشأن روحه ونفسه، فتخيلوا أمةً لا أمن فيها، كم من طلقةٍ عشواء على صدرٍ بريء! وكم من سهمٍ طائش على مقلةٍ بريئة! وكم من دمٍ يراق! وكم من جرحٍ ينزف! وكم من قتلى ومشردين ليس لهم ذنبٌ ولا جريرة! أيها الأحبة: ما ظنكم لو أننا عشنا بلا حاكم أو إمام، من الذي يقتص من القاتل؟ من الذي يقوم بالقود لأولياء المقتول؟ من الذي يجيء بالقاتل قد غطيت عيناه وغلت يده إلى كتفه، ثم يجثم به في ساحة العدل وتُسلط إليه فوهة البندقية، أو يسل السيف على رأسه ثم يضرب ضربةً يتدحرج رأسه بعدها والناس ينظرون، وهول المشهد وفجاعة المنظر تقول لكل نفسٍ شاهدة، ولكل أذنٌ سامعة: إن هذا جزاء من اعتدى على دمٍ مسلمٍ أو حرمة ماله ونفسه، أين سيوجد هذا؟ وأين سيكون هذا لو اختل الأمن؟ على مشهدٍ وعلى ملأ في ساحة عدلٍ أمام الناس، هل يوجد هذا عند الأنظمة القانونية؟ محامٍ بارع يجعل القاتل بريئاً، ويجعل البريء متهماً، ويحول القصاص إلى حكم بخمس سنوات، أو بعشرة آلاف من الجنيهات أو الدولارات أو الريالات أو غير ذلك، سم ما شئت من عملة، المهم أنه إن لم يوجد إمام وحاكم تهابه الأمة، إن لم يوجد علماء لهم سلطة على العامة والرعاع، إن لم يوجد قضاة يشتركون في مجالس مشتركة، فيكونون مؤتمنين على كل قطرة دمٍ يحكمون بها ولها وعليها على كل جارحةٍ يقتصون منها فيما اعتدت ضاعت الأمة، لا يوجد قصاصٌ ولا محكمةٌ ولا أمنٌ حينما يختل الأمن ولا ينضبط الناس بإمام أو حاكمٍ:
لا يصلح فوضى لا سراة لهم ولا تراث إذا جهالهم سادوا
تبقى الأمور بأهل الخير ما صلحت وإن تضل فبالأشرار تنقاد
اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرارنا يا رب العالمين.(228/5)
الأمن على الأموال لا يقوم إلا بوجود السلطان
أيها الأحبة: وحينما يوجد الأمن فالناس يأمنون على دينهم وأنفسهم ودمائهم، ويأمنون على أموالهم، ولأجل ذلك حرم الله السرقة، وجعل حد السارق أن تقطع يده، يقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38] تلك اليد العابثة، تلك اليد المختلسة التي فتحت باباً، أو حفرت جداراً لابد من قطعها، لا بد أن يأمن الناس على أموالهم وأمتعتهم، وحينما لا يوجد إمام ولا حاكم، وحينما تضطرب الأمور فلا تدري أمةٌ هل تدافع أعداءها على حدودها في الخارج أم تحفظ أمنها في الداخل؟ من الذي يقطع يد السارق؟ من الذي يقيم حد الحرابة؟ أيها الأحبة: هذا من الأمور التي ينبغي أن يفهمها الكبار والصغار والشباب خاصة، وجيل الصحوة على وجه الأخص، حتى نحفظ المجتمع ونبني أسسه، ونقيم جدرانه بطريقةٍ تحفظ كيانه، ولا تهدم بأي حالٍ من الأحوال أركانه.
أيها الأحبة: إن مسألة الأمن على الأموال مسألة مهمة، نعم.
في القرآن حد السرقة، وفي الحديث حدودٌ أخرى، لكن إذا لم يوجد إمامٌ يقيمها ويقوم بها فمن ذا الذي يقيمها؟ من ذا الذي يحكمها؟ إن القرآن موجود في كل الدول العربية والكافرة والإسلامية وغير الإسلامية، لكن من الذي يقتل القاتل؟ من الذي يقطع يد السارق؟ من الذي يقيم حد الحرابة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] من الذي يقوم بهذه الحدود؟ لا يظن ظانٌ أو يتوهم متوهمٌ أن ذلك لا يكون إلا في أمة لا منكر فيها، لا كبيرة فيها، لا معصية فيها، بل إن هذا كله يقام بحمدٍ من الله ومنة على الرغم من وجود بعض المنكرات، والكبائر والمعاصي شأنها أن يواجهها العلماء والولاة والدعاة بالإنكار وتحذير الناس منها، حتى لا يقولن قائلٌ: هذا كلامٌ جميل في غير محله، إذ أن ذلك لا يكون إلا في مجتمعٍ معصوم، أو في مجتمعٍ لا توجد فيه الكبائر والصغائر، لا وألف لا.
من خللٍ بالفهم أُتينا، من انتكاسٍ بالمفاهيم أُتينا، وإذا اختل الأمن فلا أمن على دينٍ أو معتقدٍ أو مالٍ أو نفسٍ ولا مالٍ أيضاً، لا أمن على الأموال لو اضطربت أحوال الناس في أمنهم، افترض -جدلاً- أن أحوال الناس في يومٍ من الأيام اختلت فجاء غاشمٌ وضالٌ وأحرق سجلاتٍ جمعت وثائق الناس وأملاكها، أصبح الناس يملكون وثائق لا قيمة لها، إذا لم يوجد لدى الوالي والسلطان أو نواب الإمام ما يصدق توثيق هذه الوثائق والصكوك التي في أيديهم.
لو اختل الأمن لجاءك من يخرجك غداً من بيتك بصكٍ عليه ختمٌ مزور، وقال: هذا بيتي، فإذا ذهبت لتنازعه أو تحاكمه أو تجادله ما وجدت سجلاً ترجع إليه لتعرف أن ذلك لك أو له أو أن هذا أصليٌ أو مزور.
ولذا جاءت الشريعة مع العناية بالأمن الديني، وإقامة الأمن في النفوس قبل إقامته على الأرض والمباني، جاءت الشريعة بحفظ حقوق العباد، لا يظن أحد أن شأن الأموال هين، الأموال من غَلَّها جاء يوم القيامة بما غل، من اختلس من بيت المال جاء يوم القيامة بما اختلس، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتينا يوم القيامة وعلى كتفه شاة تيعر، أو بقرةٌ لها خوار، أو بعيرٌ له رغاء، من غل يأتي بما غل يوم القيامة) أرض سجادة بساط سيارة قليل كثير، خذ واستكثر مما شئت، إنما الحساب بين يدي رب العالمين، يوم تبسط السجلات والصحائف ويوضع كتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] الأموال ليست هينة، لأجل ذلك افترض الله فيها الزكاة، وأثنى الله على الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، وأثنى الله على من تصدق ولم يتبع صدقته مناً ولا أذى، وجاءت الآيات بحفظ الحقوق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] إذا قرأت في المحكمة لوحةً تقول: كُتاب العدل، أو كاتب العدل، فذلك تنفيذٌ لهذا المضمون: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] آياتٍ بينات في التوثيق، في الكتابة، ولا يأب الشهداء في الشهادة، سرهم: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283].
أيها الأحبة: شأن الأموال عظيم، فإذا اختل الأمن فما تدري أين سيكون مالك، في بيت فلان أو علان، أو عند ظالمٍ أو لصٍ أو قاطع طريق.
أيها الأحبة: لو اختل الأمن، من الذي يحفظ حقوق الناس؟ من الذي يرد للناس أموالهم؟ من الذي ينصف المظلوم من الظالم؟ من الذي يرد المغصوب إلى صاحبه، ويردع الغاصب عن أموال الناس؟ ولو اختل الأمن لنشرت وأبيحت وظهرت وروجت ألوانٌ من الأمور التي تضلل على العقول والأموال.
إننا هنا نجوب هذه المدينة، ونجوب هذه الجزيرة، ما رأينا -بحمد الله- دكاناً يباع فيه الخمر، وما رأينا حانوتاً يباع فيه ما يسمى بالشراب الروحي، وما رأينا حانةً أو ماخوراً للدعارة، نعم.
يوجد من يشرب الخمر سراً متستراً: (من رأى منكم منكراً) إنما الأمة محاسبةٌ على ما رأت، محاسبةٌ على ما ظهر، محاسبةٌ على ما فشا، أما من عصى الله سراً بينه وبين نفسه لا يعلم الناس به فذلك ذنبه على أم رأسه؛ لأن المعصية إذا اختص بها صاحبها نزل البلاء على أم رأسه، ولكن إذا ظهرت عم البلاء والشؤم بها من حولها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].(228/6)
حفظ الأمن هو حفظ للأعراض
أيها الأحبة: حرم الله جل وعلا كل مسكرٍ وكل خمرٍ وكل قمار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر) رواه الحاكم وصحح سنده.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال، قيل: وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار) عصارة أهل جهنم.
أيها الأحبة: أنتم مع ما ترون من تشديدٍ أمني أو جهود أمنية ترون وجود من يتعاطون المخدرات ويتبايعونها ويروجونها ويهربونها وينشرونها، بل وربما فدَّى أحدهم ذلك بنفسه وروحه، وأطلق النار على رجال الأمن، ويعلم أن النار سوف ترتد على صدره من فوهة أسلحتهم، هذا مع وجود أمنٍ وشرطةٍ ونظام، فما بالك لو اختل هذا؟! والله لو اختل الأمن لوجدت الخمور في الأزقة، ولوجدت المخدرات في العرصات، ولوجدت الفساد والمنكر أشد ما يكون علناً جهاراً نهاراً، وكلٌ يحمي فساده بسلاحه، وكل عصابة تحمي فسادها ومنكرها وخمرها ومخدراتها بقوة سلاحها.
إذاً: انضباط الناس وبقاؤهم في ظل أمنٍ آمن، وطمأنينة مطمئنة وظلٍ وارفٍ وادع يحفظ هذا كله، وحينما يختل الأمن أيضاً فلا تسل عن جرأة المغتصبين على فرش الناس ودورهم، وكم سمعنا في كل بلدٍ، وقد سمعنا حالاتٍ بفضل الله أندر من النادرة عن أناسٍ اغتصبوا أو اختطفوا، ولكن هذا مع وجود سلطةٍ ربما قتلت وأعدمت وأزهقت الروح وسفكت الدم مقابل جريمة الاختطاف والاغتصاب، وربما رجمت وجلدت وغرَّبت حال الزنا، فما بالك لو أن الأمر أصبح هملاً، وأصبح الناس كلٌ يذود عن نفسه بقدرته أو بعصوبته أو بقبيلته أو ببني عمه؛ لعاش الناس شريعة الذئاب والغاب، كلٌ يعدو على من دونه، وكبار الأسماك تأكل صغارها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(228/7)
إقامة الحدود حفظ لأمن الأمة
إن الله جل وعلا قد جعل في هذا القرآن وعلَّق برقبة الإمام تحكيمه في كل أمرٍ ومن بين هذه الأمور أن تحفظ الأنساب وأن تقام الحدود على الزناة، وعلى من تعدى على بيوت الناس وعوراتهم وأستارهم، قال جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] حرم الله جل وعلا الطريق الذي يوصل إلى ذلك، فقال: (ولا تقربوا) وشرع أن يجلد الزاني إن كان بكراً ويُغرب، وشرع المحصن أن يرجم بالحجارة حتى يموت، ونفَّذ صلى الله عليه وسلم حد الرجم بنفسه على مشهدٍ من الصحابة وقد تعجبوا من هذا ولله فيه حكمة، ولعل منها حتى لا يقولن قائلٌ: أيرجم حيٌ بالحجارة حتى الموت؟ هذا من باب التخويف، لكنه وإن تصور عقلاً فإنه ممتنعٌ فعلاً،
الجواب
لا.
بل لقد فعله صلى الله عليه وسلم، وتعرفون قصة المرأة التي جاءت قالت: (يا رسول الله! إني حبلى من الزنا فطهرني، فأعرض عنها، فأقبلت عليه من كل جهة، قال: اذهبي حتى تضعي جنينكِ، فجاءت بالجنين، قالت: وضعت فطهرني، فقال: اذهبي حتى تفطميه -تعريضٌ لها أن تستر على نفسها، وأن تولي ولا تعود- فجاءت وفي فم الصغير الرضيع كسرة خبزٍ دلالة على أنه استغنى بالطعام عن الرضاع، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم وليدها إلى أحد الصحابة يكفله، وأُمر بها فشدت عليها ثيابها وحفرت لها حفرة وجمعت الحجارة فرجمت رضي الله عنها -فلما نال أحد الصحابة بكلمةٍ يوم أن طاش شيءٌٌ من مخها أو دماغ رأسها على ثوبه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.
لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) شهادة كرامة إيمان ودرجة عالية يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء، يبشرها النبي أن الله قد تاب عليها، الله أكبر! بل ليست توبةً بحجم ذنبها، بل بحجم ذنب أهل المدينة كلهم جميعاً.
ومثل ذلك فعل بـ ماعز رضي الله عنه لما رجم بعد أن أعرض النبي عنه صلى الله عليه وسلم يردده: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، لعلك مسست، وما زال ماعز رضي الله عنه يردد بكل حرقةٍ وشوقٍ إلى أن يطهر بدنه.
قال ابن القيم: ولله حكمة أن البدن الذي تلذذ بجميع أجزائه حال المعصية -فإن العقوبة من جنس العمل- أن يقع العذاب على سائر أجزاء البدن.
والله عليم حكيم، وكان من شأن توبته ما كان.
إذاً، جاءت الشريعة بهذا، وقبل سنين ليست قصيرة في هذا العصر ربما قبل ثلاثين سنة تزيد قليلاً، كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز قاضياً، وجيء بامرأةٍ مؤمنةٍ طاهرة تائبة معترفةً بما حصل منها، ولما ثبت عليها الحد الشرعي جيء بها ووقف الشيخ متع الله به، أو وقف والناس يرمونها بالحجارة، ثم مكث متع الله به ساعةً يدعو لها، يقول لي؛ هذا رجلٌ كبيرٌ في السن ممن يعرفون سماحة الشيخ، قال: كانوا يرجمونها والشيخ يدعو لها بالمغفرة والتوبة ويدعو لها بالجنة، ولما حملت مكث متع الله به وجمعنا به في الجنة وغفر له، مكث يدعو لها حتى تفرق الناس ولا زال يدعو لها، حتى قال بعض من له علاقة بها: لفرحتنا بدعاء الشيخ لها على ما كان من إقبالها، وبذلها نفسها لله كان شيئاً كثيراً عظيماً.
أيها الأحبة: نعود إلى أصل موضوعنا، لو اختل الأمن لا تسأل عن حال الناس في باب الزنا، وأنتم ترون مع تعدد وسائل الاتصال والاختلاط، فيا دعاة الاختلاط! والله لو خلي بينكم وبين ما تشتهون في هذا المجتمع لما تركتم صغيرةً ولا كبيرةً إلا عملتموها ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيضاً مما يضمن هذا الأمن ألا يتعدى أحدٌ ولو بكلمة على آخر، فمن قذف مؤمنةً أو مؤمناً فعليه حد القذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] وقال صلى الله عليه وسلم الله: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
أيها الأحبة: ومن ذا الذي يمنع أحداً من أن يظلم أحداً أو يضربه أو يمد يده عليه ولو بلطمةٍ أو لكمةٍ أو قليلٍ أو كثير، جاء الوازع في النفوس قبل القانون والنظام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.
ومع ذلك فإن من سبك أو شتمك فأثبت هذا ببينة -بشاهدي عدل- ثم عليك بالمحكمة المستعجلة إن أبيت إلا أن يقام عليه العقوبة الشرعية ولم ترغب في العفو عنه، أما إن رغبت أن تكون من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فالله يحب المحسنين، وإن رغبت أن تتمثل بقول الله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فلك ذلك، وأنت حينئذٍ منعمٌ متفضلٌ على هذا بذلك، لقد حرم الله هذا الظلم في كل قليلٍ أو كثيرٍ أو قطميرٍ أو صغير، بل إن الله جل وعلا قال كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، (والظلم ظلمات يوم القيامة) كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري عن ابن عمر، بل نهى الحكام والولاة والأمراء ومن تولى سلطةً أن يظلم: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) أخرجه البخاري ومسلم.
هذا الشرع العظيم قد منع الظلم من كل صغيرٍ وكبير، ولو حصل من أحدٍ ظلماً، لو حصل من الوالي أو الأمير أو الحاكم ظلماً فإن ذلك لا يسوغ الخروج عليه، ولا يأذن بخلع بيعته، ولا تأليب الناس ضده، ولا جمع السلاح لحربه، ولا استباحة عرضه، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: (أدوا الذي لهم وسلوا الله الذي لكم).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(228/8)
وجوب حمد الله على نعمة الأمن
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفقيه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: إن من نعم الله جل وعلا أن مكن لنا في هذه البلاد اجتماع شمل، ولو شئتم لعدتم بالذاكرة عقوداً وليست قروناً، عقوداً قريبة لترون كيف كان الناس لا يحجون إلا مجتمعين خشية قطاع الطرق، وربما قتل الرجل يوم أن كان في خرجه قليلٌُ من التمر أو البر أو الشعير، سواءً ظن الباغي أو العادي أن ذلك تمر أو (زكيبة) فيها ذهبٌ أو فضة، الناس لم يكونوا يأمنوا على أنفسهم إلا يوم أن مكن الله هذه الوحدة، وجمع الله هذا الشمل، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يغفر لمؤسس هذه البلاد، وأن يجمعنا به في الجنة، وأن يعفو عنا وعنه، وأن يتجاوز عنا وعنه، وأن يغفر لنا وله، وأن يصلح ذريته، وأن يجمع شمل المسلمين والعلماء والدعاة والحكام من بعده، وأن لا يفرح على أحدٍ عدواً، ولا يشمت بأحدٍ من بعده حاسداً.
والله أيها الأحبة! إنا لننعم في أمرٍ يحاسب عنه غيرنا، فاحمدوا الله على هذه النعمة، وإن الناس كحباتٍ عقدٍ في سلك، تخيل عقداً فيه آلاف الحبات، أو ما يسمى بالسبحة مثلاً، عقدٌ فيه آلاف الحبات وخيطه واحد، إن الولاة والحكام هم ذلك الخيط، وإن الرعية هم ذلك العقد، فإذا لان الخيط أو انقطع انظر كيف تتناثر حبات العقد، أقول هذا، وإني والله لأنظر أمراً يدركه بعضكم، ويفقهه بعضكم:
ويكفي اللبيب إشارةٌ مرموزةٌ وسواه يدعى بالنداء العالي
إن من لم يفهم بالإشارة لا حاجة لنا إلى فهمه.
وإن اللبيب لبالإشارة يفهم
أدركوا هذه المعاني حتى لا يأتين يومٌ نقول فيه كما قال أهل الصومال: يا ليت الأمور تعود على ظلمٍ كنا نشكو منه، والآن عدنا نتمناه:
عتبت على سعدٍ فلما تركته وجربت أقواماً ندمت على سعد
أيها الأحبة: نسأل الله ألا يرينا يوماً نتمنى فيه سابق عهدنا، ونسأل الله أن يصلح أحوالنا، نسأل الله ألا يبقي أحوالنا على ما نحن عليه، بل نسأله أن يزيد الخير فينا، وأن يذهب الشر عنا، وأن يمحق المنكر من بيننا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إن حدود الله لخيرٌ لهذه الأرض من كل ربيعٍ وغيم: (حدٌ يعمل به في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً) حديثٌ حسن، أخرجه ابن ماجة.
أيها الأحبة: إن من واجبنا أن ندرك ذلك، وأن نفهمه، وحينما نتخبط يمنةً ويسرة بحماسٍ وغير حماس، بعاطفةٍ وعاصفة، بعلمٍ وجهل، بفقهٍ وغير فقه، فكأنما نحمل معاول لنهدم بها بيوتنا، فكأنما نأتي بخراطيم المياه على بيوت الطين لتنهار من أساسها، فكأنما نسير بالفتنة ونحن لا نعلم.
أيها الأحبة: إن من يشكك في هذا الكلام، أو ينازع فيه، أدعوه ومتكفلٌ بتذكرته، ومتكفلٌ بنفقات نقله أن يخرج معي أو مع من شاء في جولةٍ على الشريط الحدودي لهذه البلاد، در على خفر السواحل، وتجول مع سلاح الحدود، وانظر ما هي الحدود التي بينك وبين دولٍ عديدة، كم يحدك من الشمال ومن الجنوب، ومن الشرق ومن الغرب؟ أتظن أن ما تنعم به في داخل الوطن، أو في داخل البلاد جاء عبثاً أو هملاً؟ ذلك بفضل الله أولاً، ثم بفاتورة أمنٍ تدفع.
أيها الأحبة: كما رأيت ولا أقول ذلك والله إلا حسبةً لله، تدفع بثمنٍ باهظ، الشريط الحدودي للمملكة على البحر الأحمر كم كيلو؟ الشريط الحدودي المتاخم على حدود العراق والشام والخليج كم؟ الشريط الحدودي المتاخم للجنوب كم؟(228/9)
حفظ الأمن مسئولية الجميع
أيها الأحبة: إن نعمة الأمن ومسئولية الأمن ليست مسئولية الحاكم وحده، ولا سلاح الحدود وحدها، ولا خفر السواحل وحده، ولا مسئولية العالم وحده، بل مسئولية الجميع، والأمن أمانة، ومن رأى أمراً فيه خللٌ في الأمن فسكت عليه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] إياكم أن تظنوا أن مسألة الأمن هينة: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65].
نسأل الله أن لا يلبسنا شيعاً، أسأل الله ألا يذيق بعضنا بأس بعض، أريدها بكل جرأة، وبكل صدق بمن شكك في هذا الكلام أن يركب سيارته إن استطاعت أن تمشي على أحجارٍ ورمال لكي تستعرض الحدود أو جهةً من الحدود، كم بينك وبين من حولك من البلاد التي تربصت بك، وتفرحت بك يوم أزمة الخليج، ودنت فوهات الدبابات عليك، ونصبت الصواريخ على مدنك.
فيا عبد الله! أتريد أن يصبح الحمى مكاناً لكل قبرٍ من دون الله يعبد؟ أو مكاناً لكل ضريحٍ ينحر له؟ أو مكاناً لكل صوفي مخرف يتمسح الناس بدعوى بركته، أو بزعم دفعه للشر أو جلبه للخير، احفظوا ما أنتم به من الخير، واجتهدوا وضعوا أيديكم في أيدي علمائكم وولاة أمركم ودعاتكم، فاحفظوا ما رأيتم من خير وزيدوه، وأنكروا ما رأيتم من شرٍ وأنكروه، وإن الأمن قبل كل شيء هو في النفوس، فمن كان يحمل نفساً آمنة جمع مجتمعاً مؤمناً، ومن كان يحمل نفساً خبيثة جمع مجتمعاً خبيثاً فزعاً، قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فيما يرويه فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (ألا أخبركم بالمؤمن: من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) أخرجه أحمد بإسنادٍ صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه).
أيها الأحبة: لا نظن أن الأمن الذي نحن فيه هو بأسلحتنا أو بعتادنا أو بجنودنا ودباباتنا، فالأمن من عند الله أولاً، وما تلك إلا أسبابٌ قد سنها الله جل وعلا ثانياً، وإذا كثرت الذنوب وفشت المعاصي وظهرت المنكرات، وسكت الغيورون، وقل الآمرون وتباهى الفجار والمفسدون فلا تسل عن الفساد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 9} [الروم:41] ويقول جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره، اللهم عليك بالمرجفين والمنافقين، اللهم من أراد بنا في هذه البلاد فساداً، اللهم من أراد بعلمائنا فتنة، اللهم من أراد بولاة أمرنا مكيدة، اللهم من أراد بشبابنا انحرافاً، اللهم من أراد بالفتيات اختلاطاً في الوظائف والتعليم، اللهم أشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واصرفه عنا، وأبعده عن أرضنا يا رب العالمين.
اللهم ولِّ علينا خيارنا، اللهم ولِّ علينا خيارنا، اللهم ولِّ علينا خيارنا، اللهم اكفنا شرارنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، ربنا لا تشمت بنا عدواً ولا تفرح علينا حاسداً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر المجاهدين، اللهم فرج هم المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفرج عن المسجونين أهل الزنازين واحفظ ذرياتهم وأسرهم يا رب العالمين، وانتقم للمظلومين من الظالمين، وعجِّل نصرتك لعبادك المستضعفين يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، اللهم ارض عن الأربعة الخلفاء؛ الأئمة الحنفاء، وعن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.(228/10)
قبل بدء الرحيل
الرحيل إلى الدار الآخرة لابد منه، ولابد لكل إنسان أن يسكن القبر، وقد أتى الشيخ في هذا الدرس بعدة صور للرحيل المشرق الذي يتمناه كل إنسان مسلم، من تلك الصور: رحيل فاطمة الزهراء ورحيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً.
ثم حذر من سوء الرحيل وسوء خاتمة المرتحل.(229/1)
وقفة مع الدعوة إلى الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، إن دين الله ماض، تقهقر من تقهقر، وانحرف من انحرف، وانقلب من انقلب، وضعف من ضعف، وتشاغل من تشاغل، إنها قافلة ماضية، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة) وهذه الطائفة كما قرر المحققون من أهل العلم، أنها ليست جماعةً معينة، ولا في بلدٍ معين، أو في زمن معين، ولكنهم أتباع الكتاب والسنة، وأتباع السلف الصالح في كل زمانٍ ومكان، فلماذا لا نشرف أنفسنا بالالتحاق والانتساب إلى هذه المسيرة المباركة التي بدأت تاريخها منذ نزل (اقرأ) على نبينا صلى الله عليه وسلم ولم ينته لها تاريخ؛ لأن الحق باقٍ حتى قيام الساعة، بل وبعد قيام الساعة، فإن ذلك دلالةٌ على نصرة الحق وقوة الحق وظهور الحق على من خالفه.
أيها الأحبة في الله أدعوكم ونفسي مرةً ومراراً، وسراً وجهاراً، وعوداً وتكراراً أن يحاسب كل واحدٍ منا نفسه، ماذا قدمنا لهذه الدعوة؟ أليس الناس من حولنا وما بيننا وبينهم شيء، فما الذي كلَّ بألسنتنا عن دعوتهم؟ ألسنا نصرف الريالات والعشرات والمئات والآلاف في شهوات أنفسنا، وملذات ذواتنا، فلماذا إذا ذُكرنا بشراء شريطٍ لنهديه، أو كتابٍ لنقدمه دعوةً وحسبةً إلى الله أصبح الثمن غالياً، وأصبح الأمر شديداً وعلى النفس عظيماً، ولما كان في لذة النفس كان أسهل ما يكون؟ إننا نريد أن نكون من أولئك الذين ينفع الله بهم مباركين أينما كانوا.
في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) فنحن نرى اليوم المئات لا تكاد تجد فيهم من يحتسب، ومن يمضي، ومن يدعو، حتى هذا المتحدث أمامكم أول من تشاغل بنفسه وبخاصة أمره عن دعوة ربه، ووالله إنا نقف وإياكم هذا الموقف مقرين بالذنوب، معترفين بالخطأ، مراجعين لأنفسنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نعوذ بك من غفلتنا عن دعوتنا، نعوذ بك من انشغالنا بأمر أنفسنا واشتغالنا عن ديننا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، ونبوء لك بنعمك علينا، ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.(229/2)
الرحيل مصير لا بد منه
أعود إلى حديثنا أيها الأحبة! فالحديث نداء قبل الرحيل، وقبل النداء ما سمعناه.
ثم -أيها الأحبة- إن مما يدعو إلى الحديث في هذا الأمر: أنك إذا رأيت شيخاً كبيراً قد احدودب ظهره وعشي بصره، فاعلم أنه كان يوماً من الأيام شاباً جلداً نشيطاً قوياً، يرفع الصخر الثقيل، ويتحمل الحمل العظيم، ويمشي المسافات الطويلة، ويكابد المشقة العظيمة، ولكن جلده الليل والنهار بسياط الغروب والإشراق حتى أحدب ظهره وأعشى بصره، وجعله لا يعتمد على قدميه، أضعف بدنه، فانقلبت حاله بعد الصحة سقماً، وانقلب أمره بعد القوة ضعفاً.
وإذا رأيتِ -أيتها الأخت المسلمة- عجوزاً قد ذبل خداها، وقد ذبل جنباها، فاعلمي أنها كانت يوماً من الأيام واحدةً من الصبايا التي ربما تغنى الشباب بجمالها، واشتاق العشاق لوصالها، ولكن جَلَدَها الليل والنهار، ومضت عليها السنون والشهور والأعوام حتى صيَّرت حالها إلى ما ترين.
فيا معاشر الشباب: ويا معاشر الأخوات! إذا رأينا شيخاً كبيراً أو عجوزاً كبيرة، فلنعلم أن مآلنا رحيلٌ إلى حالهم، أو رحيلٌ عن الدنيا، فإن تركنا الموت ما تركنا الكبر، إن تركنا الموت ما تركنا السقم، إن تركنا الموت ما تركنا المرض، إن تركنا الموت ما تركنا الضعف، إن تركنا الموت ما تركنا الفراق، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وصححه الحاكم وغيره: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) أعيد هذا الحديث العظيم الجليل، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فلا بد من الموت مهما عاش الإنسان مائة أو أقل أو أكثر.
سئل الأعشى ميمون بن قيس وقد جاوز المائة ونيف عليها، فقالوا له: كيف وجدت الحياة؟ فقال:
المرء يفرح بالحياة وطول عيشٍ قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوؤه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره
كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائل لله دره
هذه الأيام ماضية، عش ما شئت، مهما طال بك الزمن أو قصر فإن المنايا لا تعرف صغاراً دون كبار، ولا كباراً دون كهول، ولا كهولاً دون أطفال، ولا تعرف المنايا لأحدٍ إلا ما حدد الله لها وآجالاً كتبها الله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
الرحيل الرحيل إذا غربت الشمس، فإنها تقول: الرحيل الرحيل، وإذا يبس النبات فإنه يقول: الرحيل الرحيل، وإذا مرض البدن، فإنه يقول: الرحيل الرحيل، وإذا أفلس التاجر، فإن ذاك يقول له: الرحيل الرحيل، وإذا انتهى الأمر فإنه يقول لك: الرحيل الرحيل.
إذا تم شيءٌ بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم
توقى البدور النقص وهي أهلةٌ ويدركها النقصان وهي كوامل
فإن كنت تبغي العز فابغ توسطاً فعند التناهي يقصر المتطاول
الرحيل الرحيل، قد نودي بها صلى الله عليه وسلم، فقال له ربه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
الرحيل الرحيل، نودي بها المؤمنون: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
الرحيل! الرحيل، نوديت بها الأمة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
الرحيل الرحيل يا عباد الله! فإن هذه الدنيا قد آذنت بصرمٍ وولت حذاءَ ولم يبق فيها إلا صبابةٌ يتصابها صاحبها، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الدنيا قد أدبرت وإن الآخرة قد أقبلت، إن الدنيا فانية مدبرة وإن الآخرة باقية مقبلة.
أيها الأحبة: حديثنا عن الرحيل لا فائدة منه إذا كنا سنستمع لحظة أو نخشع لحظة أو ننكسر لحظة، ثم نعود إلى شهواتنا وملذاتنا ومعاصينا، نقارف المعصية كأننا ما سمعنا خطباً على المنابر، كأننا ما سمعنا مواعظ، كأننا ما قرأنا كلام الله، ولا سمعنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث عن الرحيل -أيها الأحبة- أمرٌ للاستعداد ودعوة للاستعداد، وهل ينفع أن تتحدث الصحف والمجلات والإذاعات والإعلام، هل ينفع أن يتحدث الإعلام مثلاً قائلاً: سيرد على منطقة معينة وباءٌ ومرضٌ معدٍ، ثم يتحدث الناس، ويتناقلون أنباء الوباء، ولا يستعدون للوقاية دونه، ولا يستعدون للاحتياطات من أن يصيبهم شره وبلاؤه، يكون الكلام عن الوباء دون الاستعداد لمقاومته ضربٌ من العبث ولونٌ من الهوس، لكن إذا كان الكلام عن الوباء يعقبه استعدادٌ لمواجهته، فحينئذٍ يكون الكلام نافعاً ومجدياً، وكذلكم الحديث عن الرحيل إذا كان الكلام من أجل أن نستعد فحينئذٍ يكون -بإذن الله- نافعاً يؤثر على هذه النفوس، لا بد من الرحيل.
أين نمرود وكنعان ومن ملك الأرض وولى وعزل
لا بد من الرحيل، أين الأُلى الذين سادوا وشادوا؟ أين شداد وإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ هلك الأمويون فهل أنتم باقون؟ هلك العباسيون فهل أنتم باقون؟ هلك العثمانيون فهل أنتم باقون؟ كل أمةٍ مضت.
يبقى الثناء وتذهب الأموال ولكل عصرٍ دولةٌ ورجال
لكل زمانٍ أهله ورجاله.(229/3)
القبر مسكنٌ لكل حي
أيها الأحبة: ما دام من قبلنا قد مضوا وكانوا أشد منا: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] إن أمماً سبقتنا ومضت قبلنا كانت هي أقوى وأغنى منا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13] أيستعصي على الله شيء؟ أيقف في وجه الله شيء؟ أيعترض قدر الله شيء؟ أيصد أمر الله شيء؟ إن أمر الله ماضٍ لا محالة.
فهذا أيها الأحبة! أمرٌ ونداءٌ واستعداد لهذا الرحيل، فقد مضى قبلنا الأثرياء والملوك والرؤساء، والكبراء والأمراء والوزراء، والفقراء والصعاليك والمساكين، فانتهوا إلى تلك الدار، لا يستوي في شأن القبر واللحد:
إن حله داهيةٌ أو أبلهٌ أو معسرٌ أو من له ملكٌ كملك تبع
فكل يرد على هذا القبر، وحينئذٍ يتساوى الملوك والعامة، ويتساوى الفقراء والأغنياء، والصعاليك والأثرياء، كلهم تحت الثرى، وكلهم في اللحود، وكلهم ينخرهم الدود إلا من أذن له الله برحمةٍ وعنايةٍ وحفظٍ وكرامةٍ تعجل له كرامته في البرزخ لينظر بعدها إلى كرامةٍ أعز وأعظم من ذلك.
أليس الأغنياء لا يأذنون بدخول أحدٍ عليهم إلا بحجُاب وبواب، فأين هم من القطط والكلاب ربضت على قبورهم وبالت على لحودهم دون حاجبٍ ولا مستأذن، ما الذي صيَّر حالهم إلى ذلك؟ إنه الرحيل، إنه الزوال، إنه الفناء، فمن عاش في هذه الدنيا وهو ينظر أنه سيستمر في هذا الضوء ناسياً أن اللحد المظلم ينتظره، فذاك جاهلٌ أحمق، ومن عاش في الدنيا يظن أنه سيتقلب دائماً في السعة ناسياً ضيق القبر، فذاك جاهلٌ أو متجاهل، ومن مضى في هذه الدنيا مستأنساً بهذا الأنس ظاناً أن ذلك سيدوم عليه، ناسياً وحشة القبر وخلوته وانفراده، ناسياً أول ليلةٍ في القبر، وأول وحشةٍ يجدها، وأول ترابٍ يهال على وجهه، وأول حجرٍ يسقط على صدره وبطنه، والناس يحثون عليه الترب في لحده، فذاك غافل.
إذا أردت أن تعصي الله فاذكر ذلك الموقف، وتذكر الرحيل، وإذا أردت أن تقعد عن الصلاة مع الجماعة، فاذكر ذلك الموقف وتذكر الرحيل، وإذا زينت لك نفسك أن تمنع الزكاة فتذكر الرحيل، وإذا دعتك شهوتك إلى الوقوع في الزنا فتذكر الرحيل، وإذا دعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى المتاجرة بالربا فتذكر الرحيل، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) الموت الموت يا عباد الله! ما ذكر في قليلٍ إلا كثره، ولا في كثيرٍ إلا قلله، ولا في بعيدٍ إلا قربه، ولا في قريبٍ إلا بعده، ولا في حبيبٍ إلا فرقه، ولا في لذيذٍ إلا جعله مراً، لا بد أن نتذكر هذا الأمر؛ لأننا قادمون عليه.
إن طائفةً من الناس إذا حدثتهم عن الرحيل، قالوا: ما أسوأ حديثك، ما أشأم حديثك! لا تكلمنا إلا عن المقابر وعن الموت وعن الرحيل، وعن الدود وعن اللحود، هلا حدَّثتنا باللذة؟ هلا حدَّثتنا بالبقاء؟ هلا حدَّثتنا بالأنس؟ صديقك من صدَقك لا من صدَّقك، ولأن تصحب من يخوفك حتى تبلغ مأمنك خيرٌ من أن تصحب من يؤمنك حتى يجعلك في دار المخافة، فلا بد من الرحيل أيها الأحبة.
إننا نفجع بأحبابنا وسنفجع يوماً من الأيام بأنفسنا، ستحمل على نعشٍ والناس يتحدثون وأنت محمولٌ على هذا النعش، فحدث نفسك الآن ماذا تقول لك نفسك والغاسل يغسلك؟ وماذا تقول لك نفسك والغاسل يكفنك؟ ماذا تقول نفسك إذا قدموك في المحراب يصلون عليك؟ ماذا تقول لك نفسك والناس يحملونك على أكتافهم؟ ماذا تقول نفسك وقد دخلت بوابة المقبرة؟ ماذا تقول نفسك وقد أسندوك يبحثون عن قبرٍ مناسبٍ لطولك وعرضك؟ ماذا تقول لنفسك إذا سَلوك في القبر سلاً؟ ماذا تقول لك نفسك إذا أهيل عليك التراب، وأخذوا يحثونه حثواً؟(229/4)
لابد من الاستعداد للرحيل
أيها الأحبة: لا بد أن نستعد، فهذا حديث جبريل العظيم الذي يقول فيه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه) أحبب زوجتك فلابد أن تفارقك أو تفارقها، أحبب مالك فإنك تفارقه أو يفارقك، أحبب وظيفتك فإنك إما تعزل عنها أو تتركها أو تتقاعد منها، أحبب من شئت من ولدٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو منصب أو قريبٍ أو حبيب فلابد من الفراق، وستكون أحوالنا في هذه الدنيا كالأحلام.
مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيامٌ
ثم انثنت أيام هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
والله كأنها أحلام، الواحد منا يتذكر الآن وهو يحمل بحقيبته في السنة الأولى الابتدائية، ويتذكر نفسه وهو يركض بشهادته قد نجح من الرابعة الابتدائية، ويتذكر سنين الطفولة، كيف جلدنا الليل والنهار، ومضى علينا:
منع البقاء تقلب الشمس وخروجها من حيث لا تمسي
وبزوغها صفراء صافية ومغيبها حمراء كالورس
هذا الذي قلَّب الليل والنهار، هو الذي قلَّب أحوالنا، فجعلنا ننتهي إلى ذلك.
(وأحبب من شئت فإنك مفارقه) إلا عملك الصالح: (يموت ابن آدم فيتبعه ثلاثة: ماله وعمله وولده، فيرجع اثنان، يرجع ماله وولده ويبقى عمله) هل سمعتم أن شباباً أو رجالاً، أو ذكوراً وإناثاً جاءوا إلى العلماء فقالوا: إن أبانا صام خمسين رمضاناً، فاقسم هذا الصيام علينا؟ ذاك عمله ولا يدخل معه فيه أحد، أما المال فاقسموه فيما بينكم.
هل سمعتم أن رجالاً ونساءً جاءوا إلى القضاة والعلماء فقالوا: حج أبونا عشرين أو ثلاثين حجة فاقسموا يا أيها العلماء هذا الحج وهذا الاستغفار، وهذه التلاوة، وهذه القراءة، وهذه العبادة، اقسموها علينا، هذا لا يمكن أبداً؛ لأن ذلك عمل، والعمل لصاحبه، أما المال فيقسم بينكم، وأما الولد فيعودونه، فمن ترك ولداً صالحاً فهو من عمله، ومن ترك ولداً ضيعه وأهمله وأسند تربيته إلى الشاشة والأفلام، وأسند تربيته إلى المربيات والخادمات، وأسند تربيته إلى جلساء السوء وإلى قرناء الشارع ليتعلم الألفاظ البذيئة والكلمات التي لا تليق، فحينئذٍ لا يسره أن يكون هذا من عمله أبداً.
إذاً فالرحيل لا بد منه أيها الأحبة، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف صحيح البخاري أصح كتابٍ بعد كلام الله عز وجل كما أجمعت الأمة، كان جالساً في حلقة درسه والطلاب من حوله يستمعون، فجاءه نعي أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي صاحب السنن فأطرق البخاري، ثم نشج ثم بكى حتى انحدر دمعه وبل خده، وسال على لحيته، فرفع رأسه وهو يقول:
إن تبق تفجع بالأحبة كلهم وفناء نفسك لا أبا لك أفجع
فهذا شأننا إن كنا أحياءً فيفجعنا موت أحبابنا، موت آبائنا، موت أمهاتنا، موت إخواننا وأخواتنا، موت علمائنا، موت دعاتنا، موت رجالنا، موت المجاهدين فينا، موت الثابتين الصابرين منا:
إن تبق تفجع بالأحبة كلهم وفناء نفسك لا أبا لك أفجع
فهذه الدنيا يفجع فيها الإنسان وليست بدار لذةٍ أو غفلةٍ دائمة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] لذا قال صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمر آخذاً بمنكبه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) تذكر الرحيل.
إن الله عز وجل قد بيَّن أن هذه الدنيا بما فيها كلها متاع، اسألوا أنفسكم لو جاء مسافرٌ إلى موظف الخطوط مثلاً، أو موظف سكة الحديد مثلاً، أو موظفٍ مسئولٍ عن السفر، فقال الموظف لهذا المسافر: أين متاعك؟ ما تظنون المتاع الذي سوف يأتي به هذا المسافر؟ حقيبةٌ صغيرة وثيابٌ قليلة، وأمورٌ يسيرة جداً، ثم يضعها على الميزان ويقول: هذا متاعي، لم يأتِ أحدٌ ببيته ليقول: هذا متاع سفري، ولم يأتِ أحدٌ بسيارته ليقول: هذا متاع سفره، ولم يأتِ بكل أمواله ليقول: هذا متاع سفري، إنما المتاع بلغةٌ من أجل البلاغ والوصول، اسمعوا قول الله عز وجل:
وإن كلام الله أوثق شافعٍ وأغنى غناءٍ واهباً متفضلاً
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلا
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ليناً وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا
اسمعوا كلام الله، إن أجمل الكلام كلام الله! إن أطيب الكلام كلام الله! إن ألذ الكلام كلام الله! يأتي الواحد يريد أن يلقي محاضرةً جمع فيها من الكتب فيسمع آيةً من كلام الله تنسف وتعصف كل ما جمعه، أبلغ من هذا كله، وأجمل من هذا كله، وأثمن من هذا كله، فسبحان من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد! سبحان من كلامه لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً! أيها الأحبة: يقول الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] كل ذلك {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران:14 - 15] الجنة خيرٌ من هذا كله، النعيم المقيم خيرٌ من كل ما نتقلب فيه، ولو أُوتينا ألذ الملذات وأطيب الطيبات.
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً للقوم ليس لها مصادر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
إذا تأملنا ذلك كله، فإن ذلك أيها الأحبة! يذكرنا برحيلٍ لا بد منه.(229/5)
صور من الرحيل المشرق
والآن أريد أن أعرض عليكم صوراً من رحيل مشرقة، ثم ربما نتطرق إلى بعض صور الرحيل الخطرة، صور الرحيل المخزية، صور الرحيل الموجعة المفجعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا إسماعيل عن يونس عن الحسن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، فقالت عائشة: يا رسول الله! كراهية لقاء الله أن نكره الموت، فوالله إنا لنكرهه، فقال: لا.
ليس بذاك، ولكن المؤمن إذا قضى الله عز وجل قبضه، فرج الله له عما بين يديه من ثواب الله عز وجل وكرامته، فيموت حين يموت وهو يحب لقاء الله، وإن الكافر والمنافق إذا قضى الله عز وجل قبضه، فرج له عما بين يديه من عذاب الله عز وجل وهوانه، فيموت حين يموت وهو يكره لقاء الله، والله يكره لقاءه) هذه مقدمة لمن يحب الرحيل، لمن يستعد للرحيل محباً للقاء الله عز وجل، فإن الله يحب لقاءه، حينما يحب العبد هذا اللقاء؛ لأنه يبشر بروحٍ وريحانٍ، وربٍ راضٍ غير غضبان.(229/6)
رحيل فاطمة بنت رسول الله
روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا أبو النظر، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن أمه سلمى قالت: [اشتكت فاطمة -هذه صورةٌ فيها عبرة عظيمة وفيها حث وتشجيع على الاستعداد واليقين والتهيؤ للرحيل الجميل، وما أخص به الأخوات والنساء، وأخص به في ذلك الزوجات والبنات، الأخوات والأمهات، هذه امرأة صحابية ابنة رسول الله، زوجة صاحب رسول الله، زوجة أحد الخلفاء- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكت شكواها التي قبضت فيها، تقول سلمى: فكنت أُمرضها، فأصبحت فاطمة يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت: وخرج علي بن أبي طالب لبعض حاجته، فقالت فاطمة لـ سلمى: يا أمه! اسكبي لي غسلاً، قالت: فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثم قالت: يا أمه! أعطيني ثيابي الجدد، فأعطيتها، فلبستها، ثم قالت فاطمة: يا أمه! قدمي لي فراشي وسط البيت، قالت: ففعلت، ثم اضطجعت على الفراش واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها ثم قالت: يا أمه! -يعني: يا أماه- إني مقبوضة الآن، إني مقبوضة الآن، وقد تطهرت فلا يكشفني أحدٌ فقبضت مكانها، قالت: فجاء علي فأخبرته بذلك].
الله أكبر! انظروا كيف يستعدون للقاء الله، يتطيبون للرحيل، يلبسون الثياب الجميلة للرحيل، يعدون الغسل الطيب للرحيل، يستقبلون القبلة للرحيل، يضطجعون السنة للرحيل.
الله أكبر! ما أعظم هذه النفوس.(229/7)
رحيل أبي بكر الصديق
رحيل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والحق أن نتحدث قبله عن رحيل محمد صلى الله عليه وسلم:
لو كانت الأعمار تبقى لواحدٍ رأيت رسول الله حياً مخلداً
ولكن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قضيةٌ كاملة، مسألة كاملة، فصولٍ كاملة، أمورٌ كاملة، موعظة تامة، لا يسعها أن نضمنها وسط هذه الكلمة أو المحاضرة، ولعل الله أن ييسر بلقاءٍ نسمع منكم أو نستمع من أحد إخواننا كلاماً عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها من العبر، ومن أجمل السير، ومن أجل الخبر ما يتدكدك له الصخر.
هذا أبو بكر الصديق، صورةٌ من رحيله رضوان الله عليه: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان ذلك اليوم شديد البرودة، فأصابت أبا بكر الحمى، فحمي خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان أبو بكر يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، والناس يدخلون على خليفتهم وإمامهم، يدخلون على صاحب رسول الله، يدخلون على خليفة رسول الله، يعودونه في مرضه، وهو في كل يومٍ أثقل من الذي قبله، فلما اشتد به الأمر قال لـ عائشة وقد كانت تمرضه مرض موته: [أي يومٍ هذا يا عائشة؟! قالت: يوم الإثنين، قال: فأي يومٍ قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -الله أكبر يريد السنة حتى في الوفاة، حتى في اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم- قال: في أي يومٍ قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: قبض يوم الإثنين، قال: فإني أرجو ما بيني وبين الليل- يعني: لا أدري لعلي ألقى الله، أو أرجو أن ألقى الله في هذا اليوم فأموت في اليوم الذي مات فيه حبيبي وصاحبي صلى الله عليه وسلم- وعندما اقترب موته رضي الله عنه دعا أبو بكر رضي الله عنه عائشة الحَصَان الرزان أم المؤمنين رضي الله عنها، فأوصاها قائلاً: يا بنية! إنا وُلينا أمر المسلمين فلم نأخذ ديناراً ولا درهماً، ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليلاً ولا كثيراً إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا متُ فابعثي بها إلى عمر، وانظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبغ فيها، والقطيفة التي كنا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين، فإذا مت -يا عائشة - فردي كل ذلك إلى عمر] فلما مات أبو بكر أرسلت عائشة ما عندهم من مالٍ ومتاع إلى عمر، فلما رأى عمر بن الخطاب ذلك كله انفجر باكياً وأخضل الدمع لحيته، وقال: رحمك الله يا أبا بكر! رحمك الله يا أبا بكر! رحمك الله يا أبا بكر! لقد أتعبت من جاء بعدك، وكانت عائشة رضي الله عنها عند رأس أبيها أبي بكر رضي الله عنه وهو يحتضر وتتمثل بهذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي هكذا يا بنية! ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ثم قال أبو بكر: إذا أنا مت فاغسلي أخلاقي -يعني: ثيابي الخلقة- فاجعليها أكفاناً لي، فقالت عائشة: يا أبتاه! قد رزق الله وأحسن وأعطى خيراً، نكفنك بجديد، فقال: إن الحي أحوج إلى هذا مني، يصون نفسه، إن الحي أحوج من الميت، إنما يصير إلى الصديد وإلى البلى.
وتوفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ عمره عمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ودفن جوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ما أجمل هذا الرحيل! وما أجمل هذا الفراق! وما أجمل هذا الإعداد! وما أطيب هذا الاستعداد! نفوسٌ أيقنت بالموت فاستعدت له.(229/8)
رحيل عمر بن الخطاب
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيلٌ في عبادة رحيلٌ في صلاة رحيلٌ في سجودٍ وخشوعٍ وركوع، لما طعن عمر رضي الله عنه في صلاة الفجر وهو يؤم المسلمين طعنه أبو لؤلؤة المجوسي حمل عمر رضي الله عنه إلى داره، فقال: الصلاة -نعم.
لا حظ لامرئٍ في الإسلام أضاع الصلاة، فصلى والجرح يثعب دماً، فجاء الصحابة بطبيبٍ يداويه، فسقاه لبناً فخرج اللبن أبيضاً من جرحه، فقال الطبيب: لا أراك إلا مودعاً، فأوصِ إن كنت موصياً، وافعل ما كنت فاعلاً، فقالت أم كلثوم: وا عمراه، وكان معها نسوةً فبكين معها، وارتج البيت بكاءً، فقال عمر: والله لو أن لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع.
رحيلٌ في الصلاة، ومع ذلك يخشى من هول المطلع، ومن سوء المفزع، ومن عاقبة الأمر، يخشى من إقباله على الله، وهو عمر الذي بشر بالجنة، عمر الذي ما سلك وادياً إلا سلك الشيطان وادياً آخر، عمر الذي فتح الله به البلدان، ومصر به الأمصار، ونشر به الإسلام، عمر الذي نزل القرآن والوحي موافقاً لقوله ولرأيه، يقول: [والله لو أن لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع]، فكان عمر وهو يحتضر ينادي ولده عبد الله، فقال: [ادن يا عبد الله! اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل: عمر بن الخطاب يقرأ عليك السلام، ولا تقولن: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير، يقول: قل لها: عمر يستأذن ولا تقل له: أمير المؤمنين يستأذن، قال: ثم سلها أن أدفن مع صاحبيَّ -يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر - قالت عائشة: رضي الله عنها لما جاءها عبد الله بن عمر فطرق الباب ودخل عليها، فقال: يا أم المؤمنين! يا أمه! إن عمر بن الخطاب يقرئك السلام، ويقول: إن أذنت لي أدفن مع صاحبيَّ، فقالت عائشة رضي الله عنها: كنت أريده لنفسي -كانت تريد أن تدفن بجوار زوجها، بجوار نبيها، بجوار حبيبها، بجوار أبيها، ولكن هذا هو الإيثار، ولكن هذا هو الكرم، ولكن هذا الإيمان العظيم الذي جعلها تعرف مكانة عمر في دين الإسلام، وتعرف مكانة عمر من رسول الله، وتعرف مكانة عمر من أبيها أبي بكر الصديق - قالت: كنت أريده لنفسي، فوالله لأؤاثرن ابن الخطاب اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله بن عمر راجعاً إلى أبيه عمر، قال له عمر: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع] حي ذاك المضطجع، وحي ذاك المكان، وحي تلك التربة التي ضمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمت صاحبه أبا بكر، وضمت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ما أطهرها وما أطيبها! إلا أنها لا تنفعنا من دون الله، ولا تدفع عنا شيئاً من دون الله، ولا تدفع قدراً من أقدار الله، لكننا نحب ذاك التراب، ونحب أجساداً طيبةً طاهرةً عطرةً من أهل الجنة في ذاك التراب، لكننا لا نعتقد أنها تفرج الكربات، أو تفرج النكبات، أو تجيب الملهوفين، أو تسمع الإغاثات، فذلك توحيدنا الذي أمرنا به حبيبنا، وبقي عليه خليفة رسولنا، وثبت عليه الخلفاء والأئمة بعده.
قال عمر: [ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع، فإذا قبضت فاحملوني، ثم سلموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب -مرة أخرى- فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين] ردوني إلى مقابر المسلمين، يقولها عمر الذي كسر كسرى وقصم قيصر بأمر الله والجهاد، يقول: [إن أذنت فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين].
فولج شابٌ من الأنصار وهذه صورة:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
صورةٌ عظيمة، صورة جليلة، صورةٌ للدعوة، صورةٌ للحسبة، صورةٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عمر بن الخطاب يدعو وينصح ويحتسب ويأمر وينهى وهو على فراش الموت: ولج عليه شابٌ من الأنصار، فقال الشاب: [أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك، لقد كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت، ثم استخلفت فعدلت، ثم شهادةٌ في سبيل الله بعد هذا كله، فقال عمر رضي الله عنه: ليتني -يا بن أخي- أرد على الله كفافاً لا عليَّ ولا ليَّ، فلما أدبر الفتى نظر عمر إلى ثوبه، فرأى إسبالاً في ثوبه، فقال: ردوه عليَّ، فلما عاد، قال عمر بن الخطاب: يا بني! ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك].
وعند خروج روح عمر رضي الله عنه كان رأسه في حجر ولده عبد الله بن عمر، فقال عمر: [ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله بن عمر: يا أبتِ! وهل فخدي والأرض إلا سواء، فقال عمر: ويل عمر إن لم يرحمه ربه، ضع خدي على الأرض لا أم لك في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه رضي الله عنه، فسمعته يقول: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت نفسه وهو يذكر الله ويشهد أن لا إله إلا الله].
الله أكبر! الله أكبر! إقبالٌ على الله واستعدادٌ للرحيل، وإعدادٌ بزادٍ عظيم، ومع ذلك يخشون عاقبة عظيمة.(229/9)
رحيل عثمان بن عفان
وصورةٌ أخرى من صور الرحيل لأولئك الذين يودعون وهم يقرءون كلام الله، يقرءون كتاب الله، فذلك شأن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فقد أصبح عثمان يحدث الناس، يقول عثمان: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أفطر عندنا يا عثمان) فأصبح عثمان صائماً وقتل من يومه، حيث اجتمع أصحاب الفتنة، اجتمع الذين أشعلوا الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه حول بيته يريدون قتله يوم الجمعة، وهو صائم عند صلاة العصر، وهو جالسٌ في بيته يقرأ القرآن فدخلوا عليه وضربه أحدهم (بالمشاقص) فقال عثمان: باسم الله توكلت على الله، فإذا الدم يسيل على وجهه ويسيل على لحيته، والدم يتقاطر على مصحفٍ كان بين يديه يقرأ فيه، فاتكأ من شدة الضربة على شقه الأيسر، وهو يقول: سبحان الله العظيم! وهو يقرأ في المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] فأطبق المصحف ثم حملوا عليه وضربوا عثمان ضربةً واحدة، فمات رضي الله عنه مقتولاً شهيداً كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال النبي فيما مضى يوم أن كان النبي جالساً عند بئره، فدخل أبو بكر وكان أحد الصحابة حارساً، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة، ثم استأذن عمر، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم استأذن عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) وهذه هي البلوى التي ابتلي بها عثمان رضي الله عنه.(229/10)
رحيل علي بن أبي طالب
وتلك صورةٌ خامسة من صور الرحيل الجميل، في صلاة، في عبادة لخليفة من خلفاء الإسلام، ذلكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خرج الإمام علي لأداء صلاة الفجر في المسجد وهو يردد بين نفسه:
شد حيازمك للموت فإن الموت لاقيك
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديك
خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يتمثل بهذا البيت كأنه نبئ أنه سيقتل بعد قليل، وكان في طريقه خارجاً من بيته إلى المسجد، وهو ينادي بين الفينة والأخرى: أيها الناس! الصلاة الصلاة علي بن أبي طالب خرج من بيته يلتفت إلى البيوت يلتفت إلى الأزقة يصيح في الراقدين النائمين: أيها الناس الصلاة الصلاة، ومعه درته يوقظ بها الناس، فجاء ابن ملجم ومعه سيفٌ ومعه صاحبٌ فأقبل تجاه علي فضربه ضربةً في جبهته حتى وصل دماغه، فصاح علي رضي الله عنه: لا يفوتنكم الرجل، فأمسكهما الناس من كل جانب، وأمسك ابن ملجم، فقال علي: [قد ضربني فأحسنوا إليه، وألينوا فراشه، فإن أعش فهضمٌ أو قصاص، وإن أمت فعاجلوه، فإني مخاصمه عند ربي عز وجل] ولما مات كان قبل أن يموت أوصى بنيه ثم نطق بلا إله إلا الله، ومات وتشهد عليها رضوان الله:
عزاءٌ فما يصنع الجازع ودمع الأسى أبداً ضائع
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجع
عرفنا المصائب قبل الوقوع فما زادنا الحادث الواقع
فدل ابن عشرين في قبره وتسعون صاحبها رافع
وللمرء لو كان ينجي الفرار في الأرض مضطربٌ واسع
ومن حتفه بين أضلاعه أينفعه أنه دارع
وكل أبيٍ لداعي الحِمام إن يدعه سامع طائع
يسلم مهجته سانحاً كما مد راحته البائع
ولو أن من حدثٍ سالماً لما خسف القمر الطالع
وكيف يوقى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع
هذا الرحيل يا معاشر المؤمنين! هذا الرحيل أيها الغافلون! واللحود المنازل بعد الترف واللين، والأعمال الأقران، فاعملوا ما يزين، والقيامة تجمعنا وإياكم، وتنصب الموازين، والأهوال العظام، فأين المتفكر الحزين؟!: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] اللهم اجعلنا ممن أفاق لنفسه، وفاق بالتحفظ أبناء جنسه، وأعد عدةً تصلح لرمشه، واستدرك في يومه ما ضيع في أمسه.
أيها الأحبة: الرحيل الرحيل لا بد منه، فأين نحن من الاستعداد لهذا؟!(229/11)
وقفة مع الرحيل المر
ومن الصور المخزية للرحيل المخزي صورٌ لا تحصر ولا تنتهي، من شبابٍ رحلوا إلى الخارج، لأجل ماذا؟ ألكعبةٍ يطوفون بها؟ أم لمسجد رسول الله فيصلوا فيه، ليجدوا أجر ألف صلاة؟ لا والله، سافروا إلى الخارج فعاقروا الخنا ووقعوا في الزنا فعادوا محمولين بالتوابيت، عادوا محمولين موتى، كان آخر عهدهم من الدنيا أن شهدت عليهم جوارحهم بالزنا والمعصية والفاحشة، وكأني بجوارحهم تقول: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
صور عديدة ممن يموتون وقد أعدوا للرحيل عدة يغلون بها في القبور، ويحاسبون عليها، ويقفون بها طويلاً يوم الحشر والنشور، أموالٌ ربوية، أرصدة ربوية، معاملات ربوية، معاملات محرمة، كثيرٌ استعد للرحيل، ولكن بهذه الأموال المحرمة، وآخرون استعدوا للرحيل ولكن بالتجارة المحرمة، وآخرون استعدوا للرحيل ولكن جمعوا في بيوتهم من أشرطة الملاهي، وأشرطة المعازف، والصور الخليعة والأفلام الماجنة، ما لو ماتوا في حينها وهي عندهم، لكان أعظم الخزي والعار، أن يلقوا الله عز وجل وتلك في بيوتهم، أيأمن الواحد على نفسه أن يموت ميتةً ثم ينبش متاعه، ويحرز ما خلفه، ويفتش وينقب عما في بيته، فإذا به يموت وقد ترك تركةً فيها مائة شريط من الغناء، ومائة شريط من أفلام الفيديو، ومائة مجلة من المجلات الخليعة، وله كذا وكذا من أسهم البنوك الربوية، وله كذا وكذا من الحرام، سبحان الله! أين الاستعداد؟ وأين الإعداد لهذا الرحيل؟ نداءٌ قبل الرحيل إلى كل من أكل الربا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه).
نداءٌ قبل الرحيل إلى كل من أكل الربا، فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279].
نداءٌ قبل الرحيل إلى الشباب الذين غرهم ترف الثياب، وغرهم المأكل والمشرب، وغرهم أنهم يصبحون ويمسون في لهوٍ وغفلة، وفي أمنٍ وعافية، نداءٌ لهم: يا معاشر الشباب! عودوا إلى الله لتكونوا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه) حتى نكون -أيها الشباب- ممن ينشئون في ظل الدعوة، وفي ظل الإيمان، وفي ظل القرآن، وفي ظل الإحسان.
نداءٌ قبل الرحيل أن نستعد قبل أن نموت، أن نستعد قبل أن نغسل ونكفن ونحمل.
اللهم اجعلنا ممن يستعدون للرحيل على أحسن حال، اللهم اجعل يوم موتنا وساعة قبض أرواحنا أجل عبادة ترضيك، أنفس عمل يرضيك عنا يا رب العالمين.
اللهم ثبتنا على طاعتك ولا تخزنا بمعصيتك، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم تجاوز عنا واستر ذنوبنا وعيوبنا، واغفر اللهم زللنا وإسرافنا وحوبنا.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(229/12)
الأسئلة(229/13)
الشباب مهددون في عقيدتهم
المقدم: أحد الإخوة يطلب من الشيخ أن يذكره بقصيدة مطلعها: (يا نائم الليل كله) بما فيها من عبر، ولعل الشيخ إن شاء الله ما عنده مانع، لكن قبل هذا بعض الإخوة أرسل لي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرجو منك بعد صلاة العشاء أن تتحدث عن بعض الخطأ في العقيدة وخطر السحرة، نرجو ذلك وجزاك الله خيراً.
الشيخ: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، الحقيقة أنها ليست قصيدة هي مقولة حفظتها من عجوز من العجائز الصالحات وذكرتها في شريط نساء لم يذكرهن التاريخ، وأقول ولا فخر: أسأل الله أن يجعل آباءنا وأمهاتنا وجداتنا وإياكم جميعاً في جنات النعيم، أنها جدة أم لأبي، كانت إذا أيقظتنا لصلاة الفجر، وفي آخر عمرها طبعاً كانت مقعدة تزحف على يدين وركبتين إلى الحمام آخر الليل فتتهجد، وحتى لا يسمع الرجال أو المارة في السوق، البيوت القديمة صوتها كانت تصفق حتى تستيقظ الوالدة ثم يستيقظ الوالد ثم يقوم لصلاة الفجر، فإذا نزلنا بعد الوضوء أول ما نبدأ نسلم عليها قبل أن نخرج إلى المسجد ونقبل رأسها، فتنظر إلينا نظرة كلها عتاب، وتقول: طول الليل وأنتم في نوم ما تستيقظون قبل الفجر بقليلٍ حتى تصلوا ما كتب الله، ثم تردد هذه الكلمات وربما كانت أبياتاً عامية أو نبطية، تقول:
يا نايم الليل كله ترقد ولا فيك عله
لزماً تزور المقابر وترقد الليل والنهار كله
فعلاً هي كلمة مؤثرة، تقول: أنتم تنامون الليل كله ولا فيكم بلاء ولا فيكم علة، ولا فيكم سقم، لكن سيأتي عليكم يوم وبعده تنامون في المقابر ليلاً ونهاراً وليس فيكم أي علةٍ إلا علة الموت العظيم.(229/14)
دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة
السؤال
الأخ يقول: هل لي من كلمةٍ للدعاة أن يدعوا الناس إلى العقيدة الصحيحة والتحذير من كل ما يضادها؟
الجواب
هذا كلامٌ جميل أخي العزيز! ولا فائدة من الوعظ والخطابة والمحاضرات والندوات إن لم تؤسس على معتقدٍ صحيح، وعلى منهجٍ حنيفيٍ جليٍ واضح، حتى لا نكون ممن قال الله فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وإنك لتعجب حينما تزور بلداناً فيها أعمال شركية، وإذا تأملت عقائد القوم وجدتهم يخلطون ويعتقدون أن أصحاب القبور ينفعون أو يدفعون، يعتقدون أن الأولياء يسمعون، يعتقدون أموراً لا ترضي الله عز وجل، يعتقدون أموراً تنافي أو تقدح في كماله، فحقٌ علينا جميعاً وعلى كل طالب علم، وعلى كل رجلٍ وامرأة وفتى وفتاة أن تعتني بأمر التوحيد، ونحن -ولله الحمد والمنة- قد أكرمنا الله بدعوة الإمام المجدد، لكن لا يعني أن ذلك ضمان ألا يقع الشرك في بلادنا، كيف وقد غُزينا غزواً جلياً واضحاً بهذه القنوات والبث الفضائي والأقمار الصناعية بالدعوى الصريحة إلى الشرك بالله عز وجل، في مدينة من المدن المجاورة كنت في أحد الفنادق، فإذا بقناةٍ من القنوات تبث صورة لشاب أو مقطعاً لشاب صغير قد لدغت أخته من قبل حية، فلما لدغت أخت الطفل من هذه الحية هرب الطفل يركض إلى معبد في البيت وأخذ ينحني ويصلي ويدعو وينحني ويصلي، ويقول: إن لم تشف أختي فلن أعود إلى الصلاة لك أبداً، ولن أؤمن بك، ولن أعتقد بك أبداً، ثم عاد مرةً أخرى فوجد أن أخته قد سلمت وقامت تضحك بين الأطفال، وذلك في برنامج أطفال، فعاد الطفل وأخذ ينحني لهذا الصنم ويشكره ويقول: سأبقى ما حييت مصلياً لك، ولا أتركك أبداً.
هذه دعوة صريحة للشرك، اليوم الأطفال يغزون بالشرك، يغزون في عقائدهم، الدعوة إلى الشرك من خلال أفلام كرتون، أن يخيل للطفل أن لله جسماً معيناً، أو شكلاً معيناً، الدعوة إلى عقائد المانوية، القول: بإله النور وإله الظلمة.
الشر كثير يا إخوان، فكما تفضل الشيخ لا يكفي أن نتحدث على المنابر، أيضاً المجالس، كل الحاضرين الآن سوف يفرقون إلى مجالس منها مجالس عائلية، مجالس صداقات وعلاقات، فلماذا لا ننتبه؟ لماذا لا نحصر ما هي الملاحظات التي بدأنا نلاحظها على أطفالنا، فنتناصح بها ونوصي بها المدرسين.
مدرسة من المدارس يقول أحد الأطفال فيها: إن طفلاً تغيب عن المدرسة يومين، فقال المدرس للطالب: أين كنت يا فلان؟ قال: والله مات عمي ومات خالي، فقال المدرس: اقرءوا الفاتحة مرتين، مرة على روح عم زميلكم ومرة على روح خال زميلكم.
يا إخوان! الغزو في الداخل وفي الصميم لا أحد يستطيع أن ينكر هذا الكلام، فلا سبيل إلى علاجه إلا بماذا؟ أنغطي السماء بشراع؟! لا يمكن، الغزو داخل، لكن الحل هو الوعي والتنبيه واليقظة والمناصحة والتتبع، والله -يا إخوان- لو وصل الأمر إلى أن الواحد يأخذ قائمة بالأسئلة المتعلقة بالعقيدة ويسأل أولاده واحداً واحداً، كما كان الأولون كانوا بعد صلاة العصر والفجر ويقولون: تعال نعلمك الدين، من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ بأي شيءٍ تعرف ربك؟ سؤال مفصل وأسئلة جزئية في العقيدة؛ لأن الناس على خطر، وكانوا حديثي عهد في الجاهلية، في جهل، فالآن الجاهلية قد أطبقت عبر أقراص الكمبيوتر، أحد الطلاب جاء إليَّ من فترة في الكلية، فأخرج إليَّ صوراً استخرجها من شاشة الكمبيوتر الذي يعمل به، صور كنيسة، وصور صليب، وصور قداس، وصور شمعدان، وصور وصور كلها متعلقة بالكنائس، فاليوم الغزو يأتيك في قرص ديسك كمبيوتر، الغزو يأتيك من خلال البث الفضائي، يأتيك من مدرس صاحب مدرسة أهلية -سامحه الله- يستقدم ما هب ودب من الذين لا يعرف عن عقائدهم شيئاً، أنا لا أتهم كل من جاء إلى هذه البلاد، فيهم خير عظيم وفيهم غَيرة للدين إن شاء الله، لكن أيضاً ليست القضية أن نبحث عن أرخص مدرس أياً كانت عقيدته، ثم نخليه يدرس أبناءنا، وبعد ذلك يعلمه أموراً تخالف العقيدة.
أيضاً هذه من المداخل الخطرة، ولعل الله عز وجل لو نتعاون مع بعض الشباب ومن يستطيع أن نتعاون وإياه لكي نحصر الملاحظات والمشاهدات التي بدأنا نراها على الأطفال والناس في مسائل العقيدة، حتى يؤلف فيها كتيب ويوزع وينشر، وتلقى في محاضرات ودروس وندوات، من أجل تنبيه الآباء لأبنائهم والأمهات لأبنائهن وبناتهن.(229/15)
حكم تقديم الأجرة عمن يحلق لحيته
السؤال
شخص حضر إلى أناسٍ وهم يحلقون لحاهم، ثم حاسب عنهم (أي: أجرة حلاقة اللحى).
فهل عليه إثمٌ مع أنه لم يرض بذلك؟
الجواب
أعوذ بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! لا بالله يا أخي الكريم، أنت تدفع أجرة الحجام أو الحلاق الذي حلق لحاهم، لا شك أن الذي حلقت لحيته آثم، أسأل الله لنا وله الهداية، لمخالفة صريح أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (وفروا اللحى، اعفوا اللحى، أكرموا اللحى) ولا شك أن الحلاق آثم، ولا شك أن صاحب المحل الذي فتح محل الحلاقة آثم فليتق الله، ولا شك أنك أثمت بهذا سامحك الله وعفا عنك، ولكن تصدق بمثلها فإن الحسنات يذهبن السيئات، وانظر أولاً إلى نفسك فاعف لحيتك بارك الله فيك.(229/16)
حكم الزواج من مال الزكاة
السؤال
شابٌ يريد الزواج ولكن إمكانياته ضعيفة، وعند الذهاب إلى الجمعية الخيرية وجد زكاة أموال.
فهل يجوز أخذ الزكاة من هذه الجمعية؟
الجواب
إذا كان فقيراً يستحق الزكاة يأخذ، وإذا كان غير فقير فلا يأخذ، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله) فلتنظر إلى نفسك إذا لم تستطع.
فكذلك علينا جميعاً أن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للخير والتعاون على البر والتقوى في أن نجتهد من المغالاة في المهور، وأن نبتعد عن البذخ والتبذير، وعن تجهيز البيوت بالأثاث الكبير الفاخر، فإن هذا مما يسبب عرقلة في الزواج، وكثرة العوانس، وقلة المتزوجين، وفي النهاية يؤدي إلى كثرة الشر والفساد نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
(أجاب على السؤال شيخٌ آخر).(229/17)
حث على التبرع للمجاهدين
السؤال
نرجو من فضيلة الشيخ حث الناس على التبرع للمجاهدين؟
الجواب
يا إخوان: أبشركم ببشارةٍ وربما بلغتهم وهي أن معركة حمي وطيسها وأكرم الله بها إخوانكم المجاهدين وخاصةً شباب العرب في البوسنة وقتلوا فيها مائة صربيٍ على بكرة أبيهم، وذلك من فضل الله عز وجل، والمعنويات مرتفعة، والوطيس قد حمي واشتد، والأمر على أشده في مواقع عديدة وليس في مواقع، في جراتزا وفي بنتسا، وفي سربنتشا وفي سراييفوا وفي مستار، وفي بهاتش، وفي مناطق كثيرة، فأدعو إخواني ألا ينسوا قضايا إخوانهم المسلمين، ولعل من بركات هذه المحاضرات والخير الذي نجنيه منها بعد الجلوس والاشتغال بالطاعة عن المعصية وسماع الحق عن الباطل، ورجاء أن تحفنا الملائكة ويذكرنا الله في ملئه الأعلى، وتغشانا السكينة، ولعلنا أن نكون ممن يقال: انصرفوا مغفوراً لكم، من بركات ذلك أن نتعاون على التبرع والدعم والإعانة لإخواننا المجاهدين، وسيقف على أبواب هذا المسجد في جميع الأبواب عدد من الإخوة يجمعون التبرع الذي تجود به النفوس، فإن ذلك مما يذكي الأمر ويجعل الجهاد مستمراً يقول الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14].
يا أخي الكريم لا تبخل ولو بريال واحد، ما يدريك أن الريال هو الرصاصة التي تقتل قائداً من قواد الصرب، أو قائداً من قواد الظلمة والفجرة الذين يتآمرون على الإسلام والمسلمين، فينبغي ألا نكف عن البذل في سبيل الجهاد، وفي سبيل الدعوة، وفي سبيل أن تبقى هذه الشعلة القوية من الإيمان والخير والحماس في دين الله والجهاد مضيئة، الآن أعداء الإسلام يريدون أن يطفئوا روح الجهاد من الناس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، حاولوا بالنظام العالمي الموحد، وحاولوا، وحاولوا، وأصبحت تعتبر جريمة تدخل -كما يسمونها- تدخل في شئون دول أخرى، وإذا استبيح شعب بأكمله كما حصل للشيشان لا أحد يستطيع أن يقول شيئاً؛ لأنها تسمى قضية روسية داخلية، لكن نحن نستطيع أن نفعل شيئاً وهو الدعاء السلاح الخطير، والأمر الثاني هو: البذل والتبرع، فإن الله ينفع بهذا نفعاً عظيماً، وكلنا جرب أثر النفع في أفغانستان يوم أن كانوا يجاهدون، ولما حصل ما حصل من الفتنة، واشتغل القوم بأنفسهم وببعضهم انصرف الناس عنه، وذلك دليل على أنه فيما مضى كانوا فعلاً يجاهدون، يريدون الشيوعية وسحقها وتدميرها، فلما انتهت ولم يكن الأمر بعد جلياً واضحاً نقياً في نفوسهم التفت الناس عنهم وانصرفوا.
يا أحبابنا: أنا أقول أيضاً: لا تنسوا الأرامل واليتامى والمعوقين والمجروحين وستجدون على الأبواب من يجمعون التبرعات لإخوانكم المسلمين في البوسنة، وهذه التبرعات ستكون بواسطتي وأنا عضو مسئول في الهيئة العليا لمسلمي البوسنة مصرح لي بالجمع، حتى لا يقول أحد: من أنت؟ وما هو دورك؟ فلا أحد يخشى من قضية جمع التبرعات، أنا مسئول عنها بمحضر بين ثلاثة توقع وتسلم للهيئة العليا.(229/18)
خطر الفضائيات
السؤال
قصاصة يبدو أنها من جريدة الرياض مجيباً عن زاوية ميادين خطر الفضائيات، يقول: تابع الآلاف من المشاهدين في الخليج خلال أيام العيد وعبر إحدى المحطات الخليجية عرضاً غنائياً هزيلاً لأحد المطربين اللبنانين يدعى علاء زلزلة -زلزل الله رأسه- وقد فوجئ المشاهد من خلال ذلك العرض السيئ وهو منقولٌ كما يبدو من أحد مهرجانات تستورا في لبنان، فوجئ بسابقةٍ غريبة على التقاليد المتبعة والمرعية في أكثر العروض والحفلات العربية، بل إنني لا أبالغ إن قلت إن تلك السابقة تعد شاذةً تتنافى وتتعارض مع القيم والأعراف والعادات والتقاليد العربية، وأظن أن أحداثها المشينة لم تحدث حتى للمطرب الأمريكي المعروف بحركاته الهستيرية الغريبة مايكل جاكسون.
الجواب
أيها الأعزاء إن ما حدث خلال الوصلات الغنائية لذلك المطرب وأكثر الخليجين شاهده على الشاشة التي يصلها إرسال المحطة المذكورة هو قيام عشرات الفتيات بتقبيل المطرب واحتضانه تماماً كما تظهره بعض اللقطات السينمائية المغرقة في إسفافها وإسقاطها السيئ، والغريب في تلك المشاهد المشينة التي نقلها العرض التلفزيوني الخليجي المخجل أن عائلات بأكملها ومعهم عائلهم قد قاموا بنفس العمل دون أي اكتراث لمشاعر المشاهد أو المجتمع العربي المحافظ.
ونقف عند ذلك، طبعاً هذا الكلام يقولون: كلنا مسئولون عن خطر الفضائيات، في زاوية ميادين تناول الزميل فلان موضوع المحطات الفضائية تحت عنوان: خطر الفضائيات، وناقش فيه سلبيات بعض هذه المحطات، وتعقيب الأخ فلان من الجهة الفلانية جاء مجيباً عن كثير من التساؤلات، مؤكداً أن رب الأسرة هو المسئول الأول عن مواجهة أي خطر تربوي يمكن أن يداهم أسرته، هذا ما قالته رسالة الأخ في التعقيب المذكور: المكرم محرر الرأي للجميع المحترم: السلام عليكم، تعقيباً على موضوع خطر الفضائيات قرأت في (الرياض) يوم السبت 21/ 12/1415هـ موضوع ما حدث من إحدى القنوات الفضائية ويعتب كثيراً ويقول: ما ذنبنا وذنب بناتنا ونسائنا؟ فأقول: إن معظم الذي يقع عليك أنت وأنا أو هو، حيث سهلت دخول مثل هذه القنوات إلى بناتك ونسائك، ثم تطلب لأهل الفتن والشر أن يتأدبوا؛ كيف يكون ذلك؟ كلام جميل، ثم إنك وقد شاهدت بنفسك ما يغطي جميع الفضائيات، فبم خرجت من فائدة؟ إلا بمثل ما ذكرت، وأي شيءٍ يكون شره أكثر من خيره، لا ينبغي لعاقل أن يستخدمه فكيف ولعائلته التي هو مسئول عنها؟! ولقد خلق الإنسان لأمرٍ جليل.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فنريد منك ومن أمثالك الغيورين خطوات إيجابية لمواجهة مثل هذا الأمر الذي لا يتطلب منا التنظير الكلامي، بل العمل على إصلاح أنفسنا وبيوتنا ولا نسعى إلى نقل فساد الآخرين إلى منازلنا.
وأقول أيضاً: بل وإخراج هذه الأجهزة أيضاً؛ لأن الإنسان الذي يريد السلامة من الشر لا يقوم بفتح باب النافذة والباب للشر، ثم يقول: لماذا تأتون لنا بهذه الأمور؟ أو تفعلون ما تفعلون، الذي عليك أن تغلق بابك دون الشر وأن تحسن تربية أولادك، ثم بعد ذلك لا أظن أن الإنسان -بإذن الله- إذا اتخذ التدابير اللازمة سوف يقع.
وبالمناسبة لا تظنوا أن من ركب هذا الدش أنه يقع في ذلك، أحمد الله وأبشركم، من فترة برسالة خطية كتبها أحد الشباب إلى رجل كان في بيته دشين فأرسل الدشين إلينا في المسجد كاملةً وأرسل (الرسيفرات) المستقبلات والأجهزة كلها، وقال: كسروها فأنا تائبٌ بريءٌ منها، مع أنه اشتراها بمبالغ فوق ثلاثين ألف ريال، فلا تتصور -يا أخي- أن من وضع دشاً أنه ما عاد هناك أمل أن يتوب ويستغفر، لكن لو أنت كتبت رسالة، يعني: هذه الرسالة التي كانت سبباً في توبته، كان قبلها تسع رسائل مهدت الطريق، فجاءت الضربة القاضية في الرسالة العاشرة التي جعلته يستجيب بإذن الله عز وجل، فلا تتردوا في النصيحة، بالكلمة بالشريط بالرسالة الطيبة، ولعل الله ينفع الجميع.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفينا وإياكم من شر الذنوب والمعاصي.
وفي الختام نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا في هذه المجالس مراراً وتكراراً مع علمائنا ودعاتنا، إنه على كل شيءٍ قدير، واجعلنا من المقبولين.(229/19)
كفى بالموت واعظاً
بدأ الشيخ هذه المادة بذكر قصة الرجل الذي مات في خطبة الجمعة في المسجد الذي كان يخطب فيه، وجعل هذه القصة منطلقاً لوعظ الناس وتذكيرهم بالموت، وأهمية الاستعداد له؛ مدعماً ذلك بآيات من كتاب الله وأبيات من الشعر.(230/1)
قصة الذي مات أثناء خطبة الجمعة
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره، نرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق، له الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، لله الحمد كما هو أهله، لله الحمد والثناء حتى يرضى، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وأوانا، ومن كل خيرٍ سألناه أعطانا، نشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، شهادة نرجو الثبات عليها والممات عليها حتى نلقاه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر الأحبة: القلوب بطبعها ميالة إلى اللهو والعبث، والمرح والغفلة ما لم يكن من الإنسان دافعٌ لمجاهدتها وتذكيرها وتخويفها، والإمساك بزمامها وخطامها:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع فيهما خصماً ولا حكماً فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
أيها الأحبة في الله: لم نجد واعظاً للقلوب كالموت، ولم نذكر زاجراً عن الذنوب كالموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154].
أيها الأحبة في الله: هادم اللذات، مفرق الجماعات، ميتم البنين والبنات: الموت:
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
الموت -يا عباد الله! - ما ذكر في كثيرٍ إلا قلله، ولا في شيء إلا بيَّن حقيقته، ولله الحكمة البالغة.
أيها الأحبة في الله: في الجمعة الماضية أثناء ما كنت أخطبكم على هذا المكان، وأنتم تستمعون في هذا المكان، دخل ملك الموت في هذا المسجد، وتخطى صفاً واحداً واثنين وثلاثة وأربعة حتى بلغ الصف السادس أو السابع من آخر هذا المسجد، وقبض روح عبدٍ من عباد الله كان شاهداً الصلاة والخطبة معنا، الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لو تقدم ملك الموت صفاً واحداً لقبض روحك، ولو تقدم صفوفاً أكثر لقبض روحي، ولو تأخر صفاً واحداً لقبض روح شخصٍ آخر.
استعدوا يا عباد الله! ولمثل هذا فأعدوا، أسأل الله لميتنا الرحمة والغفران، ولذويه الصبر والسلوان، خرج من بيته إلى الجمعة لم يتخط رقبة، متطيباً متهيئاً، حادث أهله واستأنس بأطفاله، ثم اغتسل وخرج إلى المسجد، يقود سيارته بنفسه، وجيء بسيارته إلى البيت لا يقودها هو، لبس ثوبه بنفسه ولم يخلعه بل خلع منه، دخل هذا المسجد بنفسه وخرج محمولاً.
أيها الأحبة: بعد أن دخل الخطيب وأعلن التحية بالسلام مد ميتنا مصحفه إلى من كان بجواره، فأخذ المصحف من يده ووضعه على الرف الذي أمامه، ثم جلس قليلاً يستمع الأذان ثم الخطبة، وما هي إلا لحظة أو أقل من لحظة حتى اتكأ على ظهر كف يده، فظن الذي بجواره أنه ناعسٌ أو نائم، فالتفت إليه وأيقظه، فإذ به يسمع شيئاً أشبه ما يكون بشخير النائم، ثم بعد ذلك استلقى على قفاه، الله أكبر! (من مات يوم الجمعة أمن الفتان) الله أكبر! على هذه الميتة الطيبة في هذا المكان المبارك، في هذه الساعة المباركة، في يوم جمعة خير يومٍ طلعت عليه الشمس، بعد ذلك خرج أحدهم، وكنت أراقب الأحداث وأنا أخطبكم يا عباد الله، ولا أدري هل أركز على ما أقول، أم أنظر إلى ما يدور في آخر المسجد، وما ظننت أنها ميتة، بل توقعت أنه صرعٌ أو إغماء، أو ضعفٌ أو مرضٌ مفاجئ، عند ذلك جيء بقليلٍ من الماء فرش على وجهه فلم يستطع حراكاً، ثم اجتهد الذين من حوله وحملوه على أكتفهم متمدداً هكذا، ثم خرجوا به مع الباب الشرقي، وتوجهوا إلى الإسعاف، وماذا يجدي الإسعاف؟ وماذا يجدي الطبيب إذا حضرت ساعة المنية؟ لا ينفع الطبيب ولا الحبيب.
الموت إن كان بعيداً ينفعك أدنى قليلٍ من الدواء، وإن كان قريباً والله لو اجتمع أطباء الأرض وكان بعضهم لبعضٍ ظهيراً ما استطاعوا أن يردوا لك نفساً واحداً.
الموت!!
إن نام عنك فكل طب نافع وإن لم ينم فالطب من أغنى به
ذهبوا به إلى الإسعاف، فجيء بالطبيب ووضع المنشطات ومنشط نبضات القلب يظن أن الأمر شيء آخر، وبعد أن تحسس ميتنا عليه رحمة الله إذ به يقول لذويه: لقد توفي من دقائق معدودة، فلما حسبوها إذ به وقتها قاعدٌ في هذا المسجد.
الله أكبر يا عباد الله! كفى بالموت واعظاً!! كفى بالموت واعظاً!! كفى بالموت واعظاً!! بارك الله لي ولكم في القرآن الحكيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(230/2)
الاستعداد للموت
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله على مننه وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل، وعن الند والنظير تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: ليس الغريب هو الموت، بل الغريب ألا نستعد للموت! ليس العجيب النهاية، بل العجيب ألا نستعد للنهاية! ليس العجيب هو الفناء بل العجيب ألا نستعد لذلك! ما منا واحدٌ إلا ويعلم أن الموت نهايته، والقبر مكانه، واللحد مصيره، ولكن أين الاعتبار؟ وأين العظة؟ وأين الاستعداد؟ كلنا يعلم ذلك، لكن القليل الذي يستعد لهذا كله.(230/3)
ترك المعاصي
أيها الأحبة: ليس الاستعداد للموت بلزوم المساجد والبكاء فيها وعدم الخروج منها، لا.
ما هكذا نستعد للموت!! ليس الاستعداد للموت أن نقبع في البيوت ونترك أسباب الحياة، ونترك الجهاد والدعوة، ما هكذا الاستعداد للموت!! الاستعداد للموت -يا عباد الله! - بترك المنكرات أولاً، الاستعداد للموت -يا عباد الله! - بترك المعاصي أولاً، الاستعداد للموت برد المظالم إلى أهلها، برد الحقوق إلى أصحابها، كيف يطمئن نائمٌ وهو يعلم أن النوم ميتة: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42]؟ كيف يلتذ نائمٌ بنوم وفي رقبته ديونٌ معلقة، وهو يعلم أن الحقوق يوم القيامة لا تغتفر إلا برضا أصحابها؟ ومن ذا الذي يرضى بحسنة يوم القيامة إذا كنت لا تسمح بحسنة لأمك؟ وإذا كان أبوك لا يسمح بحسنة لك؟ فكيف تظن واحداً من سائر الناس يتنازل أو يرضى بحسنة يتركها أو يدخرها من أعمالك لتضاف إلى كفة ميزانه؟ حقوق الله مبنية على الصفح والمسامحة، وحقوق العباد مبنية على الضيق والمشاحة.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يا رسول الله! أرأيت إن قُتلت في سبيل الله أتغفر ذنوبي؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبرٍ تغفر ذنوبك، ثم ولى الرجل فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية، فقال: كيف قلت؟ قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن قُتلت في سبيل الله أتُغفر ذنوبي؟ قال: نعم إن قتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر تغفر ذنوبك إلا الدين، فإن جبريل أخبرني بذلك آنفا).
فيا عباد الله! الاستعداد للموت بإزالة الشحناء والعداوات والبغضاء من القلوب، الاستعداد للموت برد الحقوق والمظالم إلى أهلها، الاستعداد للموت بترك المعاصي والمنكرات، كيف نكون مستعدين للموت واللهو والطرب في بيوتنا وسياراتنا، نصبح ونمسي عليه، إلا ما شاء ربك من قليلٍ من العباد؟! كيف يكون الاستعداد للموت والكثير لا يعرفون صلاة الفجر مع الجماعة؟! كيف الاستعداد للموت والكثير لا يبالي بأمر الله في حلالٍ أو حرام؟! كيف نستعد للموت والكثير يحمل الحقد والبغضاء والشحناء في قلبه؟!(230/4)
بذل الحسنات والأعمال الصالحات
يا عباد الله: الاستعداد للموت يكون أيضاً ببذل الحسنات، وإعمال الأنفس بالصالحات، فإن هذه الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر، فهنيئاً لمن بنى داراً ينتقل إليها ولو تهاون في دارٍ يعبرها، إن التهاون في أمور الحياة البحتة قد لا يضر ما دام الإنسان يبني داراً باقياً فيها، أما أن نخرب الآخرة ونعمر الدنيا فذاك كما قال أحد السلف لما سئل: لماذا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فتكرهون أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب.
وهذا صحيح:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
كثيرٌ من الناس يكذب ويعق، ويختال ويحتال، ويختلس ويخدع ويخادع، ويتألق ويداهن من أجل عرضٍ من الدنيا أو حظٍ من الفانية، والله إن فعله لا يزيد ما قسم الله له شيئاً، وإن تَرْكَهُ ذلك لا يُنقص مما قسم الله له شيئاً، سيمضي وقد ناله ما قسمه الله له من الرزق، ويقدم على دارٍ قد أفسدها بالكذب والمداهنة، والتملق والنفاق، والمعصية والسكوت على سخط الله.
فيا أيها الأحبة: استعدوا لملاقاة الله، واستعدوا للموت، فإن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، كثيراً ما يتساءل الناس: مات فلان!! هل أصابته جلطة؟ هل أصابته سكتة؟ هل كان مصاباً بالربو؟ هل كان مصاباً بكذا؟ والله يا عباد الله! ليست الأسقام إلا أسباباً، وإذا أراد الله حياة عبدٍ لو اجتمعت عليه الأسقام والأمراض ما نقص ذلك من أجله شيئا:
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة
أكان في صاحبنا الذي قبضه ملك الموت في المسجد علة؟
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
فيا عباد الله: لا يعرف الموت صغيراً ولا كبيراً، لا يعرف الموت إلا من حلت منيته ودنت ساعته وقامت قيامته، عند ذلك تتوفاه ملائكة الموت، فإن كان من أهل الطاعة، إن كان من أهل الرضا، إن كان من الخائفين من الله فهنيئاً له، تخرج روحه كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، هل رأيتم سقاءً ينسكب الماء منه؟ هل تجدون صعوبة في أن ينسكب الماء من شعبة السقاء؟ ليس في ذلك صعوبة، هكذا تخرج روح المؤمن.
وأما الفاجر الكافر؛ فإن روحه تنتزع انتزاعاً كما ينتزع السفود من الصوف المبتل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أعدوا للموت يا عباد الله! استعدوا للخاتمة، استعدوا للآخرة، كم من أناسٍ عرفناهم صغاراً وكباراً فرق بيننا وبينهم الموت، فأعدوا لهذا واستعدوا، اعملوا صالحاً تلقوه، فإن الله يوم القيامة ليس بينه وبين العباد نسب، إنما الارتفاع والانخفاض والقرب والبعد بحسب الأعمال الصالحة.
أيا من تاجر في اللهو والملاهي! أيا من تاجر في الحرام والمحرمات! أترضى أن تفارق الدنيا وتقبض روحك ويلاقيك ملك الموت وأنت ممن ينشر الفساد في الأرض؟ أيا عاقاً! أيقبضك ملك الموت وأنت قاطعٌ لأمك وأبيك؟ أيا قاطعاً رحمه! أتقبضك ملائكة الموت وأنت على قطيعة رحم؟ أيا واقعاً في المعاصي والمنكرات! أيا مدمناً على الملاهي والملهيات! أيا مستهتراً بأمر رب السماوات! ألا تستعد لهذه الخاتمة؟ كفى بالموت واعظاً!! كفى بالموت واعظاً!! كفى بالموت واعظاً!! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم اهد قلبه، اللهم مسكه بكتابك، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم لا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ولا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، اللهم اجمع صفنا وصفهم، ووحد كلمتنا وكلمتهم.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم فجازه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم وحد شملهم، اللهم أهلك المنافقين من حولهم، اللهم إن المنافقين قد فعلوا فيهم فعلاً لم يفعله الروس والعملاء بهم، اللهم فأهلك المنافقين من حولهم، اللهم أهلك المنافقين من بينهم، اللهم طهر صفوفهم من المنافقين والعملاء والدخلاء، اللهم اجمع شملهم، وسدد رصاصهم، ووحد كلمتهم، برحمتك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين في الفليبين، اللهم انصر المجاهدين في جميع الأرض يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(230/5)
كلمة الشباب
في هذا الدرس تحدث الشيخ عن مشكلتين من مشاكل الشباب: الفراغ، واختيار الصديق.
وقد بين السبيل إلى القضاء على الفراغ، وكذلك وضح أهمية القرين الصالح.
وبعد ذلك أجاب عن أسئلة الشباب التي تحتوي على مشكلات يعاني منها أصحابها.(231/1)
الحث على التوبة والاستغفار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد: أيها الإخوة: ما ثم فرق بيني وبينكم فأنا واحد منكم وشاب مثلكم، وفي الحقيقة قد يكون ما عندكم أكثر مما عندي ولم آت بجديد بالنسبة لكم، ولكن من الجميل أن يجتمع الشباب وأن يتذاكروا، وأن يتبادلوا النصيحة ويتباحثوا الفوائد بعضهم مع بعض، ففي بداية هذه الكلمة أحب أن أهنئكم ببلوغكم أواسط هذا الشهر الكريم، وأسأل الله جل وعلا أن يعيننا وإياكم على القيام والصيام، وأن يجعل لنا ولكم أوفر الحظ والنصيب.
كما لا يفوتني أن أذكركم بحديث نبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (يوم أن صعد المنبر ذات يوم، فقال: آمين، آمين، آمين، فعجب الصحابة رضوان الله عليهم من هذا، فقالوا: يا رسول الله! قلت: آمين، ثم آمين، ثم آمين، سألوه عن معنى هذا التأمين، فقال: جاءني جبريل، فقال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم لم تغفر ذنوبه، فقلت: آمين، ورغم أنف امرئ أدرك والديه في الكبر أو أحدهما ولم يدخل الجنة، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصلِّ عليك يا محمد، فقلت: آمين).
فيا معاشر الإخوة: إذا لم تنطلق أرواحنا بالعبادة والتوبة والاستقامة والإخبات والخشوع والتضرع لله سبحانه وتعالى في هذا الشهر المبارك، التي تضاعف فيه الحسنات، وترفع فيه للناس الدرجات، وتصفد فيه الشياطين، وتغل مردة الجن فلا يصلون إلى بني آدم فيما كانوا يصلون إليه سابقاً، إذا لم يتب الإنسان في هذه الفترات الفاضلة والأيام الجميلة، والليالي التي تسمو بأرواح العبادة، فمتى يتوب؟ ومتى يستغفر الله؟ ومتى يستقيم على جادة الخير والصواب؟! أما بالنسبة حول الشباب فإن الشباب؛ بعضهم أدرى بمشاكل بعض، ولا شك أن أهم المشاكل التي تواجه أي شاب من الشباب: أولها: اختيار الصديق.(231/2)
مشكلة الفراغ عند الشباب
وثانيها: الفراغ، لا شك أن الفرغ هو الذي يولد المشكلات ولاشك أن الفراغ كما يقول الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده
فإذا وجد الشباب بحيويته وطاقته التي لم توجه، ووجد الفراغ، وأضيف إلى ذلك شيء من المال فإن الشاب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- قد يقع في حضيض الهاوية، وقد يكون مع الذين لا خلاق لهم في الدنيا أو في الآخرة، ينبغي على كل شاب أن يحدد ما يملأ به فراغه، والشاب الذي لم يحدد هدفاً معيناً في حياته فإن أيامه ولياليه تذهب عليه سدى.
ومن المشاكل التي نواجهها لدى كثير من شبابنا، أنه يصبح يفطر يمسي يأكل ينام يخرج من البيت يدخل، وتدور الليالي والأيام والسنون والأعوام وما حدد هدفاً معيناً يصل إليه ولو كان بعيداً؛ المهم أن يحدد هدفاً، ولا تحقر نفسك أمام شيء، فإن من سار على الدرب وصل غايته، على أية حال أهم الأمور أن يعيش الإنسان لهدف ولغاية، ولا شك أننا بحمد الله جل وعلا مسلمون، وما خلقنا إلا لعبادة رب العالمين، ولكن أمامنا أهداف وغايات، وبين أيدينا وسائل توصلنا إلى هذه الأهداف والغايات، فمن منا حدد غايته في حياته؟! من منا حدد أمنيته وطموحه، وسعى جاداً بوسيلة مناسبة مشروعة ليصل إلى هذه الغاية وإلى هذا الطموح.
للأسف أن البعض أو أن الكثير يعيشون بلا غاية ولذلك لا غرابة أن نجد بعض شبابنا -ولعل من ينتسبون إلى بيوت الشباب أمثالكم ليسوا من أولئك- لا دراسة ولا عمل ولا وظيفة لا برنامج لا دورات تدريبية لا نشاط، لم ينخرط في تجنيد، في عسكرية، أو في أعمال فنية أو تدريبات مهنية، إنما هو عالة وعبء على المجتمع، بالعكس هؤلاء كما تقول التقارير والأبحاث العسكرية أنهم يشكلون النصاب الأعظم بالنسبة للجرائم أياً كان نوعها، تكثر هذه الجرائم مع الذين لا نصيب لهم لا في التعليم ولا في العمل ولا في الدورات التدريبية أو التعليمية أو العسكرية وغيرها.
إذاً: فلابد من تحديد الهدف والغاية، والذي لا غاية له في حياته يا إخوان لا قيمة له، أي: أنت تعيش لتأكل، والبهيمة تعيش ونسمنها لتأكل وإذا جاء وقت الحاجة ذبحناها وأكلناها، فلا فرق بين الإنسان الذي لا هدف له ولا غاية ولا يشعر أنه مسلم، يشعر بعقيدة ويشعر بإسلام ودين يعتز به ويسعى إلى دعوة الناس إليه، فإن هذا قد يكون من رعاع، وكما يقول إبراهيم بن أدهم: حينما حدد أناساً ينبغي أن يكون الإنسان واحداً منهم، يقول:
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتى كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمه
وموت الفارس الضرغام هدم فكم شهدت له بالنصر عزمه
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمه
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الخلق همج رعاعٌ وفيه إيجادهم لله حكمه
لله جل وعلا حكمة فيما ترون من الكثير من الرعاع، ومن الناس الذين لا يدركون حياة ذات هدف يسعون إليه ليشعروا بالحياة الكريمة، ولذلك فالإنسان الذي لا هدف له تجد أنه يشعر بشيء من الخضوع والذلة في نفسه، أنت حينما تأتي إلى إنسان منضبط في الوظيفة فيقول: والله -يا أخي- أنا منضبط بعملي، يشعر بكرامة نفسه وباحترام وقته، لكن إنسان لا عمل له مستعد أن يخرج مع هذا، ويسافر مع هذا، ويذهب مع هذا، ويقبع في البيت يومين ثلاثة مع هذا ولا نتيجة له، وفي يوم من الأيام قد يموت الذي يعوله فيعيش في أكثر المشاكل.(231/3)
بتحديد الهدف والعمل له يقضى على الفراغ
يا إخواني يجب أن نقضي على أهم مشكلة في مشاكل الشباب وهي الفراغ بتحديد الغاية والهدف، وفي نفس الوقت سلوك الوسيلة المناسبة المشروعة إلى ذلك، ولست أحدد هدف الشاب بشيء معين، ينبغي لكل شاب أن يكتشف الجانب الذي تبرز نفسه فيه، والمواهب والطاقات الكامنة في نفسه فيتوجه إليها، قد يحب أن يكون عسكرياً تحب أن تكون طياراً تحب أن تكون قائداً تحب أن تكون جندياً تحب أن تكون مدرساً، طبيباً، مهندساً، مهنياً، أي تخصص ينبغي أن تكتشف مواهبك في البداية، وفي الحقيقة لاَ أمْثلَ من بيوت الشباب والمراكز الصيفية ومراكز الأنشطة الدراسية وغيرها، فهي تكتشف الشباب وتكتشف مواهبهم، وبعد ذلك يستطيعون أن ينموا هذه المواهب فعلى ذلك: النقطة الأولى: تحديد الغاية والهدف، تحديد الوسيلة التي نسلكها، في نفس الوقت ينبغي ألا نلزم أنفسنا، يعني: هل ينبغي أن نكون كلنا علماء شرعيين، أو ينبغي أن نصير كلنا تجاراً، أو كلنا نصير أطباء أو مهندسين؟ لا {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] رب العالمين جل وعلا وزع هذه المواهب والطاقات بين الناس لحكمة، ولو كان من شاء أن يصل إلى أمر معين وصل لم يخدم أحدٌ أحداً ولم ينفع أحدٌ أحداً، كل الناس يبقون في درجة واحدة وتفسد مصالح الحياة، وبعد ذلك لا يبقى سبيل إلى عمارة الأرض، ولذلك جعل ربنا جل وعلا الناس والمواهب والطاقات درجات ليخدم فيها بعضنا بعضاً:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
أكبر إنسان في الدولة وأصغر إنسان فيها لابد أن يكون خادماً لبعض، هذا مدرس، وهذا مسئول، وهذا قائد، وهذا حاكم وهذا قاضٍ، وهذا وهذا، وكلٌ منهم يقدم خدمات للبعض، وبذلك يتكامل البنيان الاجتماعي والبنيان الإنساني في أي مجتمع من المجتمعات سواء كانت صغيرة أو كبيرة.(231/4)
اختيار الرفقاء والأصدقاء
الإنسان كما يقول علماء الاجتماع: اجتماعي بطبعه ولابد له من جلساء، ولابد له من أصدقاء.
وعند ذلك تأتي مشكلة ثانية من مشاكل الشباب، وهي اختيار الجليس والصديق، ولو أردنا أن نسأل أنفسنا الآن من بداية مراحل الدراسة الإعدادية -فلنترك الابتدائية لأنها في الغالب مراحل طفولة- أو بداية مراحل الثانوية إلى الجامعة إلى ما بعد التخرج، كم صديق تعرفنا عليه، والله في الحقيقة لنعجز أن نحصر هؤلاء الأصدقاء، ولكن هل ينطبق عليهم قول القائل: زينة في الرخاء، وعدة عند البلاء.
في الحقيقة النادر والقليل القليل من هؤلاء الذين نجدهم في هذا الزمن.
إذاً: فاختيار الصديق من أهم المشاكل التي تواجه الشاب، وكثيراً ما نجد شباباً وثقوا بأصدقاء وجلساء، وبعد ذلك وجدوا يوماً من الأيام أنهم أصيبوا بخيبة أمل وانتكاسة شعور حينما وجدوا أن هذا الصديق صديق مصلحة، وصديق تجارة وصديق هدف وغاية، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قد تكون هذه الغاية في مرحلة من مراحل العمر دنيئة وسيئة وخبيثة.
إذاً: فلننتبه إلى مسألة الجليس كما يقول الشاعر:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذاً: لابد أن نمتثل قول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] إذا كان هذا خطاب الله جل وعلا لنبيه المعصوم صلى الله عليه وسلم وخاتم الأنبياء والمرسلين وأفضل الخلائق أجمعين، أليس من باب أولى أن نتخذ نحن جلساء صالحين أخياراً، وأريد أن أحدد مقياس الصلاح -والكمال لله جل وعلا- حينما تجد صديقاً كما يقول ابن قدامه في مختصر منهاج القاصدين: وخير الأصدقاء من غلبت حسناته على مساوئه، أهم شيء في هذا الصديق أن يكون صديقاً في الحق لا معيناً على الباطل، أن يذكرك إذا نسيت أمراً من أمور الدنيا والآخرة، وأن يعينك إذا ذكرت هذا الأمر، وبعد ذلك فالزم هذا الصديق وتمسك به فإنه نادر في هذا الزمان، وما كثرة الأصدقاء في هذه الأيام إلا وبال وقد تكون على البعض مصائب، كما يقول القائل:
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
الطعام والشراب الذي هو محبب للنفس كثير من الأمراض هي بسببها، إذاً: فهذا الصديق وكثرة الأصدقاء الذين لم نصاحبهم على أساس وعلى مبدأ معين فإننا في يوم من الأيام سنتأسف لصداقتهم ونعض على أصابع الندم والخيبة والويل لأننا صاحبناهم أو جالسناهم، وكم من صديق كان سبباً في هلاك صديقه.
هناك أناس لم يحددوا ميزان الصداقة وجالسوا أناساً لم يعرفوا حقائق نواياهم، وبعد ذلك وجدوهم في يوم من الأيام أصحاب مصائب وأصحاب أمور محظورة، يعني: ليس بعيداً عنكم أصحاب مخدرات وأصحاب مشاكل، ويوم من الأيام يقبض على هؤلاء ويقبض على من حولهم وكما يقال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
من كان مع الأخيار فله حظ معهم، ومن كان مع الأشرار فينال مما ينالون إما من سوء السمعة، وإما أن يكون شريكاً معهم في العقاب والعذاب عياذاً بالله.
إذاً: علينا -يا معاشر الإخوة- أن نكون دقيقين في تحديد الأصدقاء، ولو أراد الإنسان أن يحدد الصديق الذي يجده عند الحاجة والله إنك لن تجد صديقاً، لو ألمت بك حاجة من حاجات الدنيا اليسيرة وكتبت قائمة بأسماء الذين تعرفهم، تقول: أذهب إلى فلان؟ لا، والله لا آمن عليه، أذهب لفلان؟ ما عنده شيء، أذهب لفلان، ذاك لا يستطيع أن يساعدني، إذاً أين أصدقاؤك الذين تذهب معهم وتسافر معهم، يعني: الأصدقاء معك في حال نعمتك بعيدين عنك في حال حاجتك، ليس والله هؤلاء بأصدقاء، وإنما هم أعداء، وسرعان ما يتكشف لك أن صداقتهم سحابة صيف عن قريب تنقشع، وكما يقول الشاعر:
شيئان ينقشعان أول وهلة شرخ الشباب وخلة الأشرار(231/5)
حديث عن فترة الشباب وأهميتها
والأمر الثالث: فترة الشباب، وهي الفترة الذهبية؛ شباب العقل والقوة شباب الجسم والفهم، كل ذلك في مرحلة الشباب، من استطاع أن يستفيد في مرحلة شبابه فهو بإذن الله جل وعلا يستقيم على جادة سليمة وعلى طريق مستقيم إلى أن يتوفاه الله جل وعلا من هذه الدنيا بعد عمر طويل وأعمال صالحة، لكن الإنسان الذي ما استطاع أن يغلب نفسه في مرحلة القوة وفي مرحلة الشباب هل يستطيع أن يغلب نفسه في مرحلة الضعف؟ إذا قلنا: مرحلة الشباب هي أقوى مرحلة تستطيع أن تتخذ فيها القرار، وتستطيع أن تنفذ وأن تخطط وأن تعد الوسائل لأمنياتك، هذه مرحلة الشباب إذا كنت عاجزاً عن تحقيق أمانيك في مرحلة شبابك، فهل تحققها بعد أن تكون هرماً وبعد أن تكون في الأربعين والخمسين؟ إذاً -يا إخواني- ينبغي أن نستغل مرحلة الشباب، وأنا في الحقيقة أقول: إن الذي خرج من العشرين وصار إلى الثلاثين ولم يحدد هدفه ولم يحدد مركزه الاجتماعي في مجتمعه، ولم يحدد مستواه المالي ولا أقول: المال هو هدف، لا.
وإنما تعيش عيشاً هنيئاً كريماً فإن هذا يعيش خبالاً ووبالاً، أو يعيش كما يعيش كثير من الناس بلا هدف وبلا غاية، من العشرين إلى الثلاثين في الحقيقة ينبغي أن يسخر الشباب أهم نشاطاته ولا يعني أن يهمل المرحلة فيما قبلها.
ومرحلة الشباب هي أفضل مراحل العبادة، وهي أفضل مراحل الإنابة، وهي أفضل مراحل التوبة إلى الله عز وجل، والذي لم يتب إلى الله في شبابه لا يستطيع أن يتوب في المستقبل، لماذا؟ لأن النفس تشب على ما عودتها:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فالطفل لولا تعود أنه ينفطم عن ثديها وعما نسميه بالرضاعة وغيره، قد يكبر ويعيش وهذا الحليب معه في هذه القنينة أو في هذه الزجاجة إلى أن يكبر، ولا يرده إلا الناس، يستحي منهم وإذا عاد إلى بيته استعملها؛ لأن الشاب تعود على ذلك، النفس كالطفل إذا أهملتها شبت على كل ما ترتاح إليه من الخور والكسل والهوان وشهوات النفس، والذي يغلب نفسه هو الذي يفوز بالفلاح والنجاة إن شاء الله، يقول الشاعر:
وكل امرئ والله بالناس عالم له عادة قامت عليها شمائله
تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمر أوائله
علماء السلف في طلب العلم يقولون: من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة، لكن الذي بدايته ضياع هل يجني من الشوك عنباً؟ لا والله ما يجني إلا شوكاً ومراً وغسليناً.
إذاً -يا إخواني- لا أحب أن نكثر الحديث وأحب أن أستفيد، والله إنها لفرصة سعيدة أن ألتقي بكم، وأسأل الله جل وعلا أن ينفع أمتنا بكم، وأن ينفع أمة الإسلام بالشباب.(231/6)
حاجة الأمة إلى شبابها
والله -يا إخوان- نحن في أمس الحاجة إلى شباب أمتنا، ونحن في انتظار اليوم الذي نشهد جميع الميادين يملؤها شباب، ونشهد جميع الميادين العسكرية والمدنية والفنية والاجتماعية والشرعية والتعليمية والقضائية يملؤها شباب، ولا أعني بذلك عصبية لشبابنا دون غيرهم، وإنما أقول: إننا في هذه البلاد -ولله الحمد- قد تيسر لنا ما لم يتيسر لكثير من شباب العالم على الإطلاق، غيرنا لا يعيش شبابه إلا بين النار والبارود والزناد والصاروخ والقنابل وغير ذلك.
وأسأل الله جل وعلا أن يرد بلادهم إليهم وأن ينصرهم، أضرب مثلاً بالشباب الفلسطينيين، والله -يا إخوان- لو أردتم أن تعرفوا أين شباب فلسطين الآن؛ جزء في ألمانيا جزء في تونس جزء في مصر، متفرقون، ومع ذلك وجدت من بينهم شباباً يتنافسون على أرقى المستويات العلمية والتعليمية، ويجتمعون ويجتهدون ولا زالت الآمال تداعب خواطرهم والحقائق تسعى إليهم رويداً رويداً -بإذن الله ثم بجهادهم واستعدادهم وتدربهم- إلى أن يعودوا إلى بلادهم؛ لأن المؤمن منهم والتقي الذي يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله يعلم صدقاً وحقاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود) وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! ورائي يهودي فاقتله) فالمستقبل للمسلمين.
وهذه الدنيا والبداية الحقيقة للدنيا هي يوم بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما قبل ذلك ليست بحياة، فالحياة الحقيقية هي حياة الإسلام الذي نظم تلك الأمم التي كانت تعيش شريعة الغاب، قويها يقتل ضعيفها، والبقاء للأقوى، فقد كان هذا هو مقياس الحياة حينما بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريباً ثم قوي واشتد في صدر الإسلام وتوسعت رقعة الخلافة، ثم انحسر مد الإسلام.
أنتم تعرفون أن مد الإسلام وصل حدود فرنسا، ووصل أماكن كثيرة جداً، ثم انحسر ذلك بسبب ضعف المسلمين، كان للدولة العثمانية أثراً عظيماً في بقاء اسم الخلافة الإسلامية سنين طويلة، وكان لبعض الدويلات التي تلت عصور الطوائف وعصور الأندلس وغيرها كان لها أثراً في بقاء اسم الخلافة الإسلامية، الآن لا نكاد نجد بلاداً تحكم بشريعة الإسلام وتطبقها في أهم أمورها وملزمون بتطبيقها بصغيرها وكبيرها إلا هذه البلاد فقط، أما بقيتها فتطبق القوانين الرومانية والفرنسية، القاتل يسجن حتى يموت إلا إذا كان له محامٍ ذكي، وابتكر طريقة معينة وأخرج بها هذا القاتل يقوى الثاني والثالث والرابع، هاتوا بلاداً القاتل فيها يقتل، والسارق تقطع يده، الذي يقف إلى الناس ويخوفهم في طريقهم يقام عليه حد الحرابة: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] الزاني يجلد والمحصن يرجم.
هذا -يا إخوان- نادر من كثير من بلدان العالم، قد يقول البعض: لا.
لدينا بعض القصور في تطبيق بعض الجوانب، نقول: نحن بشر ولسنا ملائكة، والبشر -إن شاء الله وبعون الله جل وعلا- يسيرون نحو الكمال والتمام.
إذاً: نحن في فرصة لا يعيشها أي فئة وأي طائفة من شباب دول العالم أجمع، تعليم مجاني بجميع مراحله؛ روضة وابتدائي وإعدادي وثانوي، وجامعي وماجستير ودكتوراه وأعلى من ذلك، والدولة تبعث من تجد فيهم الكفاءة والبركة ليحضروا التخصصات التي ليست موجودة ولكي ينفعوا البلاد من جديد.
يا إخوان: ماذا بقي علينا؟! والله ما بقي علينا إلا أن نقدم وننفع ونجود، وأن نعيد ما استفدناه وما تربينا به أو فيه من ظل سماء هذه البلاد الطيبة ومن خيراتها وما فيها؛ لكي نرد شيئاً من الواجب وليس فيه منة، بل المنة لله جل وعلا والفضل لله جل وعلا الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولا أحب أن أطيل وأحب أن أسمع منكم ما تود به نفوسكم أن تقولوه والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(231/7)
الأسئلة(231/8)
حكم الجلوس مع شباب غير ملتزمين
السؤال
أنا شاب أحب الخير وأحب الصالحين الطيبين، ولكني أصاحب أناساً يدخنون وكلامهم غير طيب، وقد يؤخرون الصلاة ويغتابون الناس ولا يشجعونني على الخير، فبماذا تنصحني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: أسأل الله جل وعلا أن يمن على من تصاحبهم بالهداية، وأن يهديهم إلى الانتباه والالتفاف للصلاة مع جماعة المسلمين، والاهتمام بالصلاة بحد ذاتها أولاً وأخيراً، وإلى ترك ما يضرهم من التدخين وغيره من العادات السيئة.
في الحقيقة: الآن الإنسان يعيش أمام جمع كثير من الأصدقاء والجلساء وله أن يضع نفسه في المقياس الذي يريد، الناس اليوم في المجتمع طبقات، فإن شئت أن تضع نفسك مع الطبقة -ما أقول مجتمعنا طبقية اشتراكية، أو طبقية ما يسمونها بروتاريا وطبقية أخرى لا- أي: أن الناس فئات في هذا المجتمع تجد فئة مثقفين نبلاء عقلاء، وتجد فئة لا يهمها في جميع الأحوال إلا اللهو واللعب، وتضييع الأوقات بأي سبيل من السبل وبأي وسيلة من الوسائل، فأنت في البداية أين تريد أن تضع نفسك، تريد أن تكرم نفسك فاصحب خيار القوم كما قال الشاعر:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ثم يا أخي العزيز! خذها قاعدة: الإنسان يتأثر بجليسه قد يقول: لا.
أنا لست أدخن معهم، لا شك أن التدخين ضار ولسنا الآن في صدد بيان مضار التدخين، لكن أقول يا أخي العزيز: جليسك يؤثر عليك تأثيراً نفسياً قبل أن يكون تأثير عادات وتأثير سلوك.
يذكرون أن أحد الملوك أهدي إليه حصان، فاستشار وزيراً فطناً ذا فراسة قال: يا وزيري! ما رأيك في هذا الحصان الذي أهدي إلي، قال: هذا حصان أصيل ومن سلالة عريقة، لكن هذا الحصان قد تربى مع بقر، فاستغرب الملك وقال: كيف عرفت أنه تربى مع البقر؟ قال: لأن من عادة الخيل أن تتنظف بأسنانها وليست تتنظف بلسانها، فهذا دقق النظر في طريقة تنظف هذا الفرس فوجده يتنظف بلسانه، والخيل من عاداتها أن تتنظف بأسنانها، فبهائم طباعها أثرت على بعض فما بالكم بإنسان له عقل وله فؤاد وسمع وبصر ألا يتأثر بطبيعة جلسائه؟ والله ليتأثر.
بعد أيام أهدي إلى هذا الملك صقر فاستدعى وزيره صاحب الفراسة، قال: يا وزيري! ما رأيك بهذا الصقر الذي أهدي إلي؟ قال: والله صقر ما مثله أبداً؛ لكن هذا الصقر تربى مع دجاج -ولعلكم تضحكون- قال: كيف تربى مع دجاج؟ قال: لأن من عادة الصقور أن تحلق في السماء وليس من عادتها أن تخنع بنظرها إلى الأرض، الصقر لا يبحث عن حب في الأرض ويلقطه، لا، الصقر دائماً تكون عيونه إلى السماء يرى فريسة تحوم فينقض عليها ويأتي بها إلى الأرض، لا يلتقط شيئاً من الأرض.
فيا إخوان! ليس غريباً أن يتأثر الإنسان بمن يجالس، ولولا أن الإنسان يقدر صداقات ومودات بينه وبين أحبابه لتمنى أن يجالس من هو أفضل منهم علماً وأدباً ونبلاً وأخلاقاً؛ لأنك يوماً بعد يوم تزداد من صفاتهم وتكسب من أخلاقهم، ويا حبذا أن يكون لك دور ونشاط طيب في أنك تبحث عن جليس أو جلساء صالحين وتترك جلساءك هؤلاء.
يا إخوان: يجب أن نفهم الدين فهماً طيباً، لا يعني حينما نقول: جلساء طيبين، نتكلم باللغة ولو كانت عامية، لا يعني أن يكون شاباً معقداً كما يقول البعض، وحاشا لله أن يكون الشاب مستقيماً يفهم الدين فيكون معقداً، لكن إذا قصر البعض بتطبيق السنة وإذا أساء البعض أسلوب الدعوة إلى الإسلام فينبغي ألا ننسب الدين وألا ننسب التدين إلى كثير من الشباب في هذا الأمر، ينبغي أن نفهم الأمر، البعض يقول: لا.
أنا حينما أكون متديناً يبقى لي ثوب نصف الساق ويبقى لي سواك ما يطيح ولا يطلع من المسجد، يا أخي! أنت بشر والبشر يذنبون ويستغفرون، والصحابة وهم أفضل الخلق بعد رسول الله أذنبوا واستغفروا، أهم حاجة أن نكون على التزام ولا يعني أن الملتزم لا يسقط على الطريق لا قد يسقط ويرجع.
صحابي جاءته امرأة لتشتري منه تمراً -كان تماراً- فأعجب بجمالها فقال: لعل في البيت تمراً أجود من هذا، فلما خلا بها إلى داره كان بينه وبينها ما ينبغي إلا أن يكون ما بين الرجل وزوجته من الضم والتقبيل؛ إلا أنه لم يفعل معها ما يفعل الزوج من جماع زوجته، كما يقولون: من بعيد لبعيد، فندم على ذلك واستغفر وتاب، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره، فأطرق صلى الله عليه وسلم هنيهة حتى تغشاه الوحي ونزل قول الله جل وعلا: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] أكثر من الحسنات وتب من السيئات.
المصيبة إذا وقعت السيئة أن تتبعها سيئة، المهم إذا استطاع الشيطان أن يغلبك فلتعقب ما عمله الشيطان بتوبة واستغفار؛ لأن الله جل وعلا يوم أن وصف المؤمنين في سورة آل عمران، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران:135] ينبغي أن تقلع عن الذنب: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] أولئك: فذكر الله مصيرهم وما أعد الله لهم في الدنيا والآخرة من النعيم والطيبات في الدنيا والآخرة.
إذاً: يا إخواني! المهم أن نفهم حقيقة التدين، وأن نفهم حقيقة الالتزام، أهم أمر أن الإنسان لا يقع من سيئة إلى سيئة، وإن كانت المعاصي بعضها تدعو بعضاً، السيئة تقول: أختي أختي، والحسنة، تقول: أختي أختي، ولكن الإنسان الذي يعصمه الله جل وعلا وإن وقع في معصية فإنه يستغفر ويتوب ويعود إلى الطريق المستقيم، ومع ذلك يبقى مع جلسائه ومع أصدقائه الطيبين وإن كان الشيطان يأتيه يقول له: لا.
أنت منافق تجالس هؤلاء الطيبين وأنت تذنب؟ لا.
اذهب وابحث لك عن شلة فاسدة مثلك حتى تعمل أنت وإياهم كل شيء، ولا تكون معهم أربعاً وعشرين ساعة على هذا المنوال وعلى هذا الخط، لا.
هذا ليس صحيحاً، الشيطان يريد أن يبعدك مرحلة مرحلة حتى تقع في الحضيض والهاوية، لكن إذا أذنب الإنسان قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنا بشر وأخطأت، وباب التوبة مفتوح، وكلكم يعرف قصة رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، هل هناك أعظم من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق بعد الشرك؟ لا أعظم من ذلك، قال رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
يا إخوان! المعصية صار لها آثار على النفس، لها آثار في نفسك، وعلى علمك، وعلى استقامتك، وفي رزقك: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) لكن أهم شيء أنك إذا وقعت في معصية أو في شيء من هذا أن تعود إلى الله.
أسأل الله للجميع التوفيق والاستقامة على دينه.(231/9)
سبب عزوف الشباب عن المحاضرات والدروس
السؤال
فضيلة الشيخ! جزاك الله خيراً، السلام عليكم ورحمة الله، أني أحبك في الله، ما هو رأيك في السبب الرئيسي لعزوف الشباب عن المحاضرات الدينية وعما ينفعهم، ولهوههم في الملاهي المختلفة وإضاعة الوقت؟
الجواب
أولاً: أحبك الله الذي أحبيتني فيه.
ثانياً: أسباب عزوف الشباب عن بعض المحاضرات لها أسباب نفسية، ولها أسباب في الحقيقة تكون من ضعف الإنسان ومن غلبة شيطانه عليه، والذي لا يجاهد نفسه لا يصل إلى معالي الأمور، من يريد أن يصل إلى معالي الأمور يحتاج إلى جهاد:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
الذي نفسه كبيرة وشامخة وعالية وعظيمة يحتاج إلى نمط معين من الحياة، يحتاج إلى أسلوب راقٍ ونظيف ومستقيم ونزيه وكما قلت: لا يعني أنه لا يخطئ، يخطئ ويستغفر، يذنب ويتوب، الناس بشر فأهم شيء أن الشباب قد لا يبذلون جهداً في مجاهدة أنفسهم، وأضرب على ذلك مثالاً: تجد البعض يتكاسل إذا سمع المؤذن أن ينهض من فراشه وأن يقوم إلى الصلاة، دعونا من المحاضرات، نتحدث في الواجبات، الكثير منا قد يسمع الأذان وقد يصلي في بيته، وقد ينام ثم إذا استيقظ صلى، في الحقيقة قد يكون شيطانه ولاشك قد غلبه واستطاع أن يصده عن ذكر الله وعن سبيل الخير، وأشغله بأمر آخر حتى ترك العبادة.
إذاً: ومن أسباب عزوف الشباب عن هذه الأمور نقصان المجاهدة، طريق الجنة كما يقول الرسول محفوف بالمكاره وطريق النار محفوف بالشهوات، يعني: خذ مثالاً واضحاً ولو كان فيه بساطة: طريق الجنة وطريق النار كرجل أطلق سيارة من أعلى جبل، سواءً كانت هذه السيارة تشتغل أو ما تشتغل، فيها بنزين أو ما فيها بنزين، هذه سيارة تنزل في الهاوية أياً كان مستواها، لكن إنسان يريد أن يرحل بدابته أو بسيارته إلى القمة من القاع أو من مستوى الأرض إلى أعلى لا يحتاج إلى جهد، يحتاج إلى قدرة ويحتاج إلى بذل ومجاهدة حتى يصل إلى ذلك، فطريق النار حفت بالشهوات وما تشتهيه الأنفس، وطريق الجنة حفت بالمكاره، والقليل من الناس الذي يصبر على المكاره ويحتسب ما عند الله.
الأمر الثاني: لعل البعض منكم ليس عنده ميول فكرية وثقافية، مشكلة جميع شبابنا في الغالب أننا لا نحب القراءة، النادر الذي يحب القراءة، ولقد تعجب حينما تكون في دولة أوروبية وتجد الطفل أو المرأة أو الإنسان يمشي في الشارع أو في أي مكان عند تذاكر في القطار ومعه الكتاب يقرأ، وفي الحقيقة لا يقرأ عبادة، لكن يعرف أن هذا وقته لابد يعطيه الشيء، وإن كان في كثير منها أمور خسيسة ودنيئة ورذيلة، لكن تعجب من كيفية استفادتهم في الوقت، يعني: هو يكرم نفسه في أن يخرج بنظرات عابثة وضائعة، بدل من أن أنظر في الغادي والرائح آخذ كتاباً وأقرأ.
كثير من الشباب ما عندهم محبة للعلم والمعرفة، والكثير من المحاضرات لو استمعنا إليها وحرصنا عليها لكان للإنسان خلفية وثروة علمية، سواء في الأحكام أو في الثقافة الإسلامية، أو في النظم الإسلامية أو في أي مجال من المجالات.
والخلاصة: أنى أرى سببين رئيسيين، ضعف مجاهدة النفوس، وتصور البعض أن هذه المحاضرات ليس فيها فائدة، والأمر الثالث: عدم الرغبة في القراءة، وهذه أمور ينبغي أن ننتبه لها.(231/10)
تحذير من ترك الدين بسبب ارتكاب الذنوب
السؤال
هناك بعض الشباب إذا وقع في المعصية، يقول: إني أذنبت، فيترك الدين، فنريد منكم نصيحة لهؤلاء الشباب، هناك أسئلة تدور حول هذا الموضوع؟
الجواب
يا إخواني بكل صراحة أنا أحد إخوانكم أي: بفضيلة أو سماحة وإنني أجزم وأتأكد أن من بينكم من هو أفضل -إن شاء الله- مني.
يا أخواني هنا نقطة نناقشها هذا هي الدرجة الأولى، الشيء الثاني: مسألة كون الإنسان إذا أذنب ترك الجلساء الصالحين وسلك سبيل الفاسدين، أو سبيل الخسار والوبال في الدنيا والآخرة لاشك -كما قلت- أن ذلك من غلبة الشيطان عليه، لو تأمل كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لوجد في ذلك خيراً عظيماً.
وحشي بن حرب لما قتل حمزة سيد الشهداء عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان قتله بالنسبة للرسول مصيبة من أعظم المصائب، كان وحشي يقول: ما من توبة، أنا قتلت أحب الناس إلى قلب رسول الله، فنزل قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] يا إخواني! نداء رباني لطيف.
والله قلوبنا في قسوة، إذا قرأنا القرآن نقرأ صفحة واحدة بتأمل وبتدبر أحسن من قراءة جزئين أو ثلاثة بهذٍ ونثر: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والمعاصي: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55].
فالآيات جاءت بدعوة الناس إلى العبادة وإلى التوبة وهي تجب ما قبلها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، وإني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة) الرسول المعصوم صلى الله وسلم عليه الذي هو معصوم عن الذنوب والخطايا يستغفر الله ويتوب إليه، نحن أولى بالاستغفار، كلامنا يقع من الغيبة، نظراتنا شاردة، عباراتنا أحياناً تكون خارجة، يقع منا الزلل كثيراً، نتهاون ببعض الواجبات؛ لكن لا يعني ذلك أننا هلكنا، لا.
لا نعين الشيطان على أنفسنا، لا نترك للشيطان ثغرة على أنفسنا.
يقولون: إن الشيطان سأله أحد الأنبياء السالفين لا أدري من هو، قال له: كيف الناس معك؟ قال: طائفة منهم كالكرة في يد طفل -أي: يعبث به كما يشاء- وطائفة منهم نجتهد في ضلالهم وفسادهم فينقضون ما بيننا وبينهم بقولهم أستغفر الله، وكما في الحديث: (من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً) فلا غرابة -يا إخوان- أن نستغفر، ولا غرابة أن نقع في الغلط، يعني: كون الإنسان يلتزم بجلساء صالحين، فهل يكون عند ذلك ملكاً لا يخطئ أبداً! يا إخوان! هل يترك هواياته التي يحب أن يمارسها من الهوايات التي هي مباحة شرعاً من سباحة أو رياضة أو تنس أو طائرة أو كاراتيه أو غير ذلك؟ لا.
غير صحيح، المهم التزامك بالدين وتقديرك للدين في ذاتك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
فأعظم القربات -يا إخوان- هو إتيان الإنسان بالأمور الواجبة، يعني: لأن يصلي العشاء مع الجماعة أفضل لي من أن تفوتني الصلاة مع الجماعة وأقوم ليلة كاملة من الليالي، لا والله أصلي العشاء مع الجماعة وحينما أسمع داعي الفلاح المؤذن أتهيأ وأستعد للصلاة وأعرف أني بين يدي رب العالمين، وبين دعاء وسؤال واستغفار، وإخبات وخشوع وإنابة، والله هذا أحب إلي من أن أقوم الليلة هذه كلها وأن تفوتني صلاة العشاء، (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله الذي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
يا أخي! الزم الاستغفار وعد إلى الله في كل صغيرة، قال العلماء: وليس بشرط التوبة ألا يعود إليها، من شرط التوبة ألا يعزم الإصرار على المعصية.
فرق في أنك تتوب إلى الله قد تقع ثانياً فيما تبت إلى الله منه، تب إلى الله توبة ثانية، تب إلى الله توبة ثالثة، تب إلى الله في كل يوم يا أخي، قد تخطفك الآجال وأنت لا تدري، شاب يخرج من بيته، فإذا كان يلزم الاستغفار والتوبة إلى الله فهذا شاب -إن شاء الله- يرجى له خير عظيم، إذا صلى كان على الإسلام، مات على شهادة لا إله إلا الله والحمد لله رب العالمين ومات على توبة، ورب العالمين يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، لكن مشكلة الشاب أنه لا يفكر بالتوبة أساساً، ولا فكر بالدين ولا بالالتزام بالواجبات، هذا متى يعود إلى الله؟! من فترة زارني شاب ومعه صديق يعمل في مطار الرياض، قال: شهدنا في مطار الملك خالد جنازة شاب مات في فندق اسمه قريش، كثير من الشباب يعرفون هذا الفندق ولا غرابة لا يضحك أحد يا إخوان، لا غرابة في ذلك فندق اشتهر به شبابنا، وخاصة شباب دول الخليج عامة، هذا الفندق دخل هذا الشاب وذكر من أمور بعض هذا الشاب وهو مريض، قال: والله ثم والله إنه لما تأخرت عليه بغي من البغايا فلما أتت سجد لها.
يا إخوان! هل بعد هذا ضلال؟ هل بعد هذا وباء؟ وهذا الشاب جاءوا به جنازة طرف في الفندق، يعني: يا إخوان! الإنسان يبعث يوم القيامة على ما مات عليه، وأسأل الله أن يتوب عليه، اذكروا محاسن أمواتكم، لكن هذا الشاب -يا إخوان- لو كان مات وفي فمه زجاجة خمر، أو مات في أحضان باغية، أو مات على قمار وميسر، أليس آمل أن يموت وهو في بلاده أن يموت وهو في طريقه، وليس أشرف وأفضل وأنبل أن يموت وهو في عمله، أن يموت وهو في محرابه ساجداً، لكن انظروا يا إخوان ما مات عليه، يقول أحد السلف، قالوا: نراك تخاف من المعاصي والذنوب، قال: نفسي تجاهدني على المعصية، النفس الأمارة بالسوء تريد للإنسان أنه يفعل المعاصي، لكن أخشى أن تفاجئني المنية وأنا على هذه الحال، إنسان تختم لك خاتمة السوء بسبب معصية من المعاصي والعياذ بالله! إذاً فلنلزم الاستغفار ولا تزال ألسنتنا رطبة بذكر الله جل وعلا.
أسأل الله جل وعلا أن يمن على شباب المسلمين بالتوبة والهداية، وأسأل الله أن ينفعنا وأن ينفع الأمة بالشباب.(231/11)
احتجاج بعض الشباب بقضاء الله وقدره في الضلال
السؤال
بعض الشباب الضالين يقول: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فأنا أضلني الله، فأنا يائس، والعياذ بالله؟
الجواب
يا أخي: إن شاء الله أنك ما ضللت، سؤالك هذا يدل على أنك ما ضللت ولله الحمد، إن شاء الله أنت بخير لم تضل، وإن كان السؤال فيه شيء من التحدي يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] رب العالمين يشاء ولك مشيئة، فأنت لو أردت أن تسلك هذا السبيل ما ردك أحد.
إذاً: امتنع عن الأكل والطعام والشراب وقل رب العالمين ما قدر لي أن آكل.
وبعد يومين ثلاثة تنظر كيف سيحركك الجوع لتأكل، لا تقل: مقدر علي هذا، إذا كان مقدراً عليك الجوع بعدم الأكل فمقدر لك الشبع بالأكل اذهب فكل فتجد ذلك مقدوراً، إذا كان مقدراً لك الضلال بعدم استقامتك الزم طريق الخير يقدر لك الخير، اجلس في البرد وقل: رب العالمين مقدر علي البرد هذا إلى أن أموت فيه، يقول لك شخص: يا أخي! مكتوب عليك اجلس، تقول أنت: لا، ثم سترجع إلى البيت لتشغيل المكيف الحار وتأخذ البطانية لتتقي البرد، فأنت عندك إرادة، إذاً: إرادتك أين هي من هذا الباب لماذا لا تقلع؟ أين إرادتك تحملك وتنقلك من المجال السيئ إلى هذا المجال الطيب؟ ليست هذه بحجة.
جاء يهودي إلى باب ابن تيمية يقول ذاك اليهودي:
أيا علماء الدين ذمي دينكم محير ردوه إلى خير شرعة
إذا ما قضى ربي بكفري فهل أنا عاص بتابع مشيئته
إلى آخر ما قال: فرد عليه ابن تيمية بأبيات مفادها أن رب العالمين جعل لك إرادة، وجعل لك مشيئة، ولو ذهبنا لأن نطبق هذه الحجة عليك في جميع أمورك، يعني: قف في شارع واجعل واحداً يضربك بقصد ويقول: أنا مقدر علي أن أضربك، فلا تتحرك ولا تدافع عن نفسك، هذا مقدر، إنك عند ذلك تدافع عن نفسك وتنتقل من هذا الموقف الضعيف إلى موقف قوي، تنتقل بما فرض الله وبما قسم الله لك من المشيئة من سبيل طرق الفساد إلى سلوك طرق الصلاح، واترك سبيل الضالين، واذهب إلى طريق الذين أنعم الله عليهم، فهذه ليست حجة، وأسأل الله جل وعلا لي ولك الهداية، وإذا تكرمت أن أتقابل معك بعد هذه المحاضرة يسعدني ذلك.(231/12)
حكم الموسيقى
السؤال
لماذا تحرم الموسيقى مع أن كثيراً من الخلفاء كانت مدارسهم عامرة بالغناء مع أن العلم أثبت دورها، قصده: في الراحة النفسية؟
الجواب
يا إخوان: مجالس الخلفاء غير مشرع، التشريع من كتاب الله وسنة رسوله، على صحة ما يقال في ذلك، قد ينسب إلى هارون الرشيد أن إسحاق بن إبراهيم الموسمي يجمع المغنين ويجتمع عنده القينات، هذا لا يليق بخليفة من خلفاء المسلمين الذي حج ماشياً، ويحج عاماً ويغزو عاماً، هذا في الحقيقة من الأغاليط التاريخية التي عمرت بها بعض الكتب التي فيها دش مثل كتاب الأغاني لـ أبي فرج الأصفهاني، ومثل هذه الكتب فيها الغث وفيها السمين.
وبالنسبة لتحريم الأغاني أنا في الحقيقة متوقع أن أسأل عن ذلك، أنا بالنسبة لي وهو الشيء الذي أدين الله جل وعلا بأنها محرمة، لأحاديث كثيرة من أهمها ما ورد في صحيح البخاري: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر - الحر يعني: الفروج- والحرير والخمر والمعازف) وفي أحاديث أخرى: (تروح عليهم ساريتهم ثم يرفع عليهم العلم من الجبل فيطبقها عليهم) أحاديث فيها عذاب شديد والآية: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6].
قال بعض المفسرين: أما إنه لا يشتريه وإنما يختاره على غيره، فاختياره الغناء على غيره يدخل في اشتراء لهو الحديث، وبالنسبة لما أثبت الطب فالطب ينتقل يوماً بعد يوم، إذا أثبت الطب يوماً ما أن الأغاني لها دور في الراحة النفسية، فقد أثبت الطب فيما قرأت أن بعض الموسيقى سبب الصمم وضعف العيون، موسيقى الجاز والديسكو وغيره لها أثر فإذا كنت ما قرأت هذا فاقرأ.
ثانياً: إذا كان الطب يثبت هذا بالنسبة لأولي القلوب المريضة والسقيمة، فإن أصحاب القلوب الطاهرة والنقية لا ترتاح إلى ذلك، وإن كان الغناء سحره عجيب للقلب، ولا يتركه إلا من جاهد نفسه، فإذا استمر على هذه المجاهدة تركه وأقلع عنه، وهناك عوض عن الغناء بالحداء والأناشيد الإسلامية، والقصيد النظيف، والقصائد الجميلة فيها عوض عظيم لا شك في ذلك، يقول ابن القيم:
تلي الكتاب فأطرقت أسماعهم لا خيفة لكنه إطراق ساهٍ لاهٍ
لا خيفة أي: ليس خوفاً من الله.
وأتى الغناء فكالحمير تراقصوا والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي
بعض الصوفية يقولون: الغناء فيه عبادة، الجنون فنون، الجنون أنواع يعني: إذا ما سمعت فاسمع وإذا عرفت فاعلم، فأسأل الله تعالى أن يوفق الجميع، وعلى أية حالة: لا يمنع كونك تسمع الأغاني أنك تتوب إلى الله، التوبة من المعاصي درجات، شاب لا يصلي ويدخن ويسمع الأغاني أنا بوجهة نظري أن الله يهديه إلى الصلاة مع جماعة المسلمين وموضوع الأغاني موضوع آخر، فلنكن متدرجين، بعض الشباب يقول: لابد أن تصير متديناً مرة واحدة أو لا، نقول له: ليس صحيحاً يا أخي، الناس بشر، هذا الشاب إذا كان ما بقي في قلبه إلا سماع الأغاني كما يقول عمر بن الخطاب لما قال للرجل: أسلم، قال: لا.
أنتم مسلمون وتجلدون شارب الخمر، قال: يا أخي! أنت أسلم أولاً، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما أخذ مدة جاء إلى عمر وقال: أريد أن أشرب الخمر، قال: لا.
أنت مسلم، ولو شربت الخمر جلدناك.
فيا أخواني: ما استطعنا أن نحصل عليه من الخير من الناس ينبغي أن نأخذه لا نرد شيئاً من الخير، شاب يأتي إلى المسجد بعد أن كان يترك الصلاة، هذه نعمة عظيمة! شاب يلتزم بجلساء طيبين، يأتي يوم من الأيام يتوب الله عليه، يأتي يوم من الأيام يقف مع نفسه وقفة صريحة ويقلع عن هذا، ثم ما هي أكبر الذنوب وأكبر المعاصي؟ يا إخوان! أنا أقول: من أراد أن يلتزم بجلساء صالحين يخالطهم ويجالسهم في بيت الشباب، في مركز صيفي، في نادي رياضي، في مكان معين، ليس معنى ذلك -يا أخي- أنك تصير كاملاً، لا.
خالطهم واجلس معهم إذا الله سبحانه وتعالى منَّ عليك بالهداية وأقلعت عن هذا فهذا خير عظيم، وينبغي أن تعرف أنه محرم، وسوف يأتي يوم من الأيام وتتركها إن شاء الله، الذي يأتي ويسلك سبيل الخير أولاً بأول يأتي اليوم الذي يقلع فيه عن الصغائر قبل الكبائر.
يقولون: أن امرأة كان يراودها رجلٌ، وكان يشغلها ويريدها، قالت: أما إذا أردت ذلك فاشهد الصلاة مع الجماعة أربعين يوماً من حين الأذان إلى حين خروجهم، قال: لا مانع في ذلك أربعين يوماً فقط، فلزم المسجد أربعين يوماً، فمرت هذه المرأة، فقالت: انتهى أربعون يوماً وما جئتنا؟ قال: لا، ذاك أمر تركناه.
لا يمنعك من التوبة شيء من الأمور الصغيرة، أنت التزم بالخير واغنم الخير، واغنم الجلساء الطيبين واترك جلساء السوء، ولا تقل: والله أنا لا أجلس مع هؤلاء؛ غداً يكتشفون أني أسمع الأغاني فيتركوني، لماذا يا أخي؟ أنت أجرمت، سيأتي يوم من الأيام ويتوب الله جل وعلا عليك، ولا أحب أن أطيل.
تعليق من قبل المقدم: أريد أن أنوه كذلك أن العلم الحديث كذلك والطب الحديث اكتشف أن بقراءة القرآن المجودة لها أثر في الراحة النفسية لكثير من المرضى.
ولو أطلنا في هذا الموضوع: أنا قابلت مرة مندوب من الجمعية الطبية الإسلامية في فلورينام في أمريكا، وكنت أتناقش معه في بعض الأبحاث، وكان عندهم أبحاث عن عسل النحل وأبحاث في القرآن، يقول: صوت القرآن كلفظ له على النفوس (نفوس كفار أو مؤمنين) أثر في الراحة النفسية بأجهزة كمبيوتر على نبضات القلب ومقاييس على الأعصاب.(231/13)
قرناء السوء يحجزون الإنسان عن الصالحين
السؤال
أنا شاب أعرف بعض الشباب المستقيمين، لكني كلما عزمت على مصاحبتهم اجتمعت مع أصدقائي منذ طفولتي وهم ليس لهم هدف، فيزينون لي أفعالهم وأنصرف عما عزمت عليه من صحبة المستقيمين، وقد عجزت عن نفسي عجزاً كاملاً، وأشعر أن نفسي هي التي تسيرني على ما تشتهيه لما أفعل.
ماذا أفعل وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
والله يا أخي تأكد:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
هذا يعقل؟ لا يعقل، يعني: أرمي نفسي في البحر وأقول: يا نفس! لا تبتلي بالماء، إذا أردت وكنت عازماً صادقاً أنت فقط ما انطلقت منك الإرادة القوية؛ لأنه لا يمكن أن تعيش في هذا الوسط الفاسد وتقول: أبغي نفسي، يعني: أنت عندما تكون عندك زهرة لا تنمو إلا في تربة معينة، هل تذهب تجعلها في طين مجاري أعزكم الله؟ مؤكد أنها لا تنمو على الإطلاق، تحتاج إلى بيئة وإلى تربة نظيفة حتى تترعرع فيها وتنمو فيها نمواً طيباً نظيفاً.
فأنت حينما تريد أن تصاحب هؤلاء الجلساء الطيبين لا تصاحبهم بأماني اللسان، عاشرهم يا أخي، فليزوروك فلتزرهم، فلتخرج معهم، ولتشاركهم في بيت الشباب، وفي المراكز والنوادي، تكون معهم باستمرار؛ لأن الجليس له أثر كما أسلفنا، أنا أقول: لا تقطع جلساءك مثلما يقولون: نسينا العيش والملح، أو تتنكر عليهم، أو تبدأ أعوذ بالله منكم ومن حالكم ومن مجالستكم، هذا ليس بصحيح، أنت جالس جلساء الخير، اسمع منهم، استفد منهم، اقتدِ بهم في خير ما يفعلون، ويأتي يوم من الأيام وستكون -إن شاء الله- داعياً زملاءك هؤلاء إلى الخير.
لكن أن تكون دائماً مرتبطاً في حلقة مغلقة مع جلسائك السابقين الذين يزينون لك بعض المعاصي، وتقول: نفسي غلبتني، لا شك أن نفسك سوف تغلبك، أنت الذي أسأت على نفسك وأنت الذي جنيت على نفسك؛ لأنك ما انتقلت من الوسط إلى الوسط الآخر، إذا أردت ألا تبتل ثيابك لا تلج اليم، لا تدخل البحر اجعل نفسك في اليابسة وعند ذلك ستجد ذلك:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(231/14)
مأساة الصومال
مآسي المسلمين تترى! وقد جاءت هذه البرقية العاجلة موقعة باسم كل من: اليتامى الذين فقدوا الآباء فلا تسمع إلا صراخهم! الثكالى اللائي أنهكهن المرض فلا ترى إلا دموعهن! الشيوخ والعجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً! الصبايا المحطمات هتكت أعراضهن وحرماتهن! وأما مكان الإرسال فهو: الصومال، بلد إسلامي يئن تحت نير الحملة الصليبية.
وأما الرد، فمنك ننتظره!(232/1)
قوة اللحمة بين إخوة الدين
الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله القائل: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:11 - 16]، الحمد لله القائل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:42 - 45].
والصلاة والسلام على رسوله الأمين القائل: (أيها الناس أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصَلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق لعبادته، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة منهم أو حولهم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أشهد أن لا إله إلا الله كل قدر بعدله وكل قدر بحكمته، ورحمته سبقت غضبه وهو أرحم الراحمين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله جل وعلا في نعم ترفلون فيها، وتتقلبون عليها، وتسبحون في جلباتها، وتأكلون وتلبسون وتشربون منها، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]، {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
معاشر المؤمنين: مآسي المسلمين تترى، وأحوالهم عجيبة وهم جسد واحد، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) فحيثما رحلت وجدت مسلماً، فهو عرق من عروقك، وشلو من بدنك، وطرف من جسمك، ونبضة من قلبك، وخطفة من فؤادك.
وحيثما ذكر اسم الله في بلد أعددت أرجاءه من لب أوطاني
أيها الأحبة! المسلمون في هذا الزمان هم جسد واحد، نعم.
إنهم جسد واجد، ولكنه جسد أحواله غريبة وأطواره شاذة عجيبة، فترى في الجسد جزءاً متخماً يجر نواعم الخز والحرير، وترى فيه طرفاً آخر هزيلاً جائعاً، وثالثاً معوقاً لا حراك به مجروحاً نازفاً.
نعم.
المسلمون جسد لكنه جسد ممزع، ممزق، مفرق، بعضه غافل وبعضه لاه.
آه منا آه ما أجهلنا بعضنا أعمى وبعض يتعامى
نشرب الجوع ونستسقي الظما(232/2)
من وهج المشاعر
أيها الأحبة في الله! وصلتنا برقية عاجلة موقعة باسم اليتامى الذين فقدوا الآباء فلا تسمع إلا صراخهم، ولا ترى إلا دموعاً من يمسحها عن خدودهم؟! ووصلتنا برقية باسم الثكالى اللائي أنهكهن المرض فلا ترى إلا دموعهن ولا تسمع إلا أنينهن! ووصلتنا برقية باسم الشيوخ والعجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
ووصلتنا برقية من الصبايا المحطمات هتكت أعراضهن، وهتكت أنفسهن، وهتكت حرماتهن! إن هذه البرقيات كلها من مسلمي الصومال الذين يموتون الآن ونحن نسمع الخطبة، يموت منهم عدد من الأطفال ومن النساء ومن الرجال، برقية مسلمي الصومال لم تجد أذناً معتصمية أو نخوة عربية، فهل نجدها في هذه البلاد؟ هل نجدها في حكامها؟ هل نجدها في رجالها؟ هل نجدها في شبابها؟ هل نجدها في الطيبات من نسائها؟ أيها الأحبة في الله! الصومال قطعة جميلة في القارة الخضراء في منطقة القرن الإفريقي، أمة مسلمة نسبة المسلمين فيهم مائة بالمائة، لا يوجد فيهم أقليات وثنية أو نصرانية، الصوماليون مسلمون مائة بالمائة.
ولكن الصومال شأنها كشأن غيرها؛ ظلت ترزح تحت نير الاستعمار الذي جثم على صدر الأمة زمناً حتى استقل وتحرر بعد أن قدم أرواح أبنائه وفلذات أكباده وخيرات بلاده، تحرر من الكفر الأجنبي ليستقبل في عصر الخداع التعتيم الإعلامي كفراً محلياً، ودَّع كفراً أجنبيا واستقبل كفراً محلياً، في ظل وعود الشعارات الزائفة والسعادة الموهومة، استقبل كفراً أسوأ ظلماً وتسلطاً وجبروتاً من الذي قبله، وما أن سقط هذا الكفر وسقطت تلك العلمانية حتى ظهر للمسلمين هناك أن قنبلة موقوتة تنفجر بزوال النظام حتى تعيش الأمة حرباً أهلية وقبلية بغيضة متطاحنة.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
شعباً عدده قرابة تسعة ملايين نسمة، عقيدته واحدة من عرق واحد، الصوماليون كما قلت أمة مسلمة عرفوا الإسلام في زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت له في الإسلام والدعوة إليه تاريخ مشرق ومشرف، ولكن ما إن توالت الدهور والعصور حتى اكتفنت بهذا الشعب وأحاطت به إحاطة السوار بالمعصم والعقد بالجيد، أحاطت به شلة وشرذمة نصرانية وعلمانية، وأحكمت نطاق حدوده دولاً نصرانية كافرة، فلا تعجب أن ترى أحوال المسلمين في الصومال أشد مما تسمع وأبلغ مما يروى.
وفوق هذا كله لا تزال جسور الكفرة تمتد إليهم لتغذي الصراع بالسلاح، ولتغذي القبلية والعنصرية عبر الإرساليات البريطانية والإرساليات الفرنسية وأذنابها ممن جاور هؤلاء حول حدودهم وبلادهم، كانت مناطق آمنة فخلف من بعدهم خلف علماني كافر أضاعوا الصلاة، وحكموا القوانين، وأباحوا الزنا، ونشروا الخنا، وأشاعوا الفاحشة، وضاعة تلك الأمة في ظل تلك القيادات الكافرة التي لا هم لأحدهم إلا قول القائل:
إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر
علي وعلى أعدائي، ولينجو ظالم ببطشه وبرصيده وبملكه، لينجو ظالم بأملاكه لا يبالي أن يشرد ويقتل ويضيع من وراءه.(232/3)
ما خلفه الاستعمار النصراني في بلاد الصومال
أيها الأحبة! في فترة مضت وسمعتم وسمعنا هذا: عذب العلماء في الصومال، وأحرق عشرة منهم في ساحة عامة في العاصمة، أحرقوا أحياء بعد أن سكب البنزين عليهم، أما الدعاة فالسجون لها حديث معهم، والزنازين تعرف أسرارهم، والأغلال تشم أنفاسهم، ولكن من يخبر المسلمين بهذا، تعتيم لا نعلمه! أيها الأحبة: ومرت في تلك الفترة محاولات باءت بالفشل، وفي عام (1989م) قامت تلك الأمة المسلمة بانتفاضة تريد التخلص من الجوع، تريد التخلص من الظمأ، تريد التخلص من الكفر، تريد التخلص من الخنا والزنا ولم تعلم أن الخلاص هو ميقات انفجار قنبلة الحرب الأهلية والقبلية البغيضة.
في ظل هذا الوضع انفرط النظام الذي يجمع الناس بالقهر والاستبداد، وسقطت تلك الأمة وأصبحت القبائل حرباً بعضها على بعض.
ولم تترك تلك الأمة لتعالج أوضاعها بنفسها، بل لا زال الكفر الأجنبي يغذي أطراف النزاع لكي يجعلوها لبناناً جديدة، ولكي يجعلوها دولة ذات أحزاب متناحرة، هؤلاء مسلمون وهؤلاء عملاء وهؤلاء دخلاء، وهؤلاء وهؤلاء أحوال لا يعملها إلا الله.
أيها الأحبة في الله! تسلط على هذه البلاد وحكمت بـ الشيوعية زمناً، تحت مطارق العسف ومناجل الإجهاض والذل، ولما تنفس الناس الصعداء، وظنوا بأن الأزمة انفرجت إذ بهم يرون ما يرون.
ولكن ينبغي أن نعلم كما علموا أن ما يدور بينهم ليست فلتة أو صدفة أو مفاجأة، بل هو مخطط نصراني رهيب، يريد أن يمزق هذه الأمة المسلمة، حتى لا تكون منطلقاً لنشر الإسلام في القارة الخضراء، بعد أن سقط ذلك النظام انقسمت القبلية إلى ثلاث فرق كبيرة: إلى قبائل الهوية، وقبائل الذارود، وقبائل الإسحاقيون، هم أول من نزل بما يسمى بـ حزب المؤتمر الصومالي الموحد ثم انقسم تحت قيادة زعيمين، زيادة على ما ذكرناه من تغذية الدول المجاورة لهذه الحرب الداخلية ولأطماع النصارى والمستعمرين المستفيدين من هذا كله.
إنها مأساة غريبة وليست كارثة طبيعية، إنها حرب صليبية تشرد حتى الآن مليوني نسمة، مليونا نسمة تشردوا ومائة ألف وعشرين ألف مسلم راحوا ضحايا، ومن نجا من الأطفال نقل إلى الكنائس في دول الغرب، وإلى إسرائيل لكي يكونوا جنوداً لليهودية أعداء للمسلمين.(232/4)
إهمال الإعلام لحال المسلمين في الصومال
أيها الأحبة! وماذا عن آبائنا وأمهاتنا وعجائزنا وأحبابنا داخل الصومال؟ حدث ولا حرج عن هذه المصائب، وألوان الغارات، والنهب والسلب والجوع؛ إلى حد جعلوا يطبخون معه جلود الحيوانات ويأكلونها لأنهم لم يجدوا شيئاً، وهذا واضح ومستفيض في مدينة جلب ومركة وطربولي، أكثر الناس يطبخون -بعد البحث بعناء شديد- ما يجدونه من جلود الحيوانات ويأكلونها.
لماذا لم يُلتفت إلى أزمة المسلمين في الصومال؟ لماذا لم نسمع بهم؟ لذلك أسباب عديدة، ولا يعفى إعلام المسلمين منها، ولكن واكبة أزمة الخليج والناس مشغلون بحرب الخليج عنها، واعتقد الكثير أنها قضية حزبية داخلية بحتة، وحرصت الدول المجاورة على تعتيم عظيم حول هذه القضية، فأنت تسمع عن أجمل فراشة ولا تقرأ خبراً عن أحوال المسلمين في الصومال، وتسمع عن أجمل قطة، وتقرأ تحقيقاً عن أهدأ كلب ولا تسمع شيئاً عن أحوال المسلمين والمسلمات.
نعم.
إعلامنا الإسلامي عجيب شأنه في هذا الزمان، أن نسمع بالعجائب والغرائب محترفاً واعتزل ولاعباً يدشن الملعب ومصيبة تحل وديانا تطلق زوجها والأمير تشارلز يبكي على هذا الفراق، أما أحوال المسلمين في الصومال وفي كشمير وفي بورما لا تجد لها إلا زاوية صغيرة غريبة.
فإنا نقول لكل من قدر أن ينبئ المسلمين عن أحوال إخوانهم: إنك آثم لو سكت.(232/5)
أحوال اللاجئين واستقبال الصليب لهم
الصومال أيها الأحبة! شأنها في الداخل والخارج حرب همجية شعواء وصل لهيبها وحريقها إلى كل مدينة، بينما الناس يجوبون في الطرقات إذ بهم يفاجئون بقذائف الراجمات وأنواع القنابل؛ فترى الجثث تملأ الأزقة والطرقات، والموت بالمئات في مواقع التجمع والأسواق حتى امتلأت الأرصفة بالجثث، وباتت الجثث غداء وعشاءً للكلاب المسعورة، ومرتعاً للجرذان والقطط والفئران، أشلاء ممزقة، رءوس على جنبات الطريق، وأرجل على أطرافها، وأيدي لا تعرف لأي جسد تتبع.
أما اللاجئون الذين فروا من جحيم الحرب الأهلية بعد سقوط النظام اللاجئون الفارون من جحيم الحرب الأهلية ترى في وجه كل واحد منهم صفحة تقرأ في سطورها وتعبر كلماتها، تقرأ في سطورها مجسماً لكل معاني الفقر والفاقة والحرمان والجوع والبؤس، ولكل مهاجر قصة، ولكل لاجئ حكاية، ولكل أسرة ألف حكاية وحكاية، ولكن إلى أين اللجوء؟ إلى أين الفرار؟ اسألوا هذه القوافل، اسألوا البواخر الفارة، والقوافل الهاربة، إلى أين تذهبون؟ إلى أين تفرون؟ يفرون ولا يعلمون، إلى الموت البطيء، إلى الموت الزاحف، يفرون إلى الجوع، يفرون إلى الوباء، يفرون إلى المرض، يفرون ليفترشوا العراء ويلتحفوا السماء، يفرون إلى الجهل، يفرون إلى لهيب الشمس، وحر الهواجر، وزمهرير الشتاء، وصقيع البرد، هذا شأن الفارين إلى كينيا والحبشة وإريتريا وأثيوبيا وحدود اليمن الجنوبي، هذه نهاية الرحلة ومحطة الوصول.
فمن الذين يستقبلون المسافرين؟ تستقبلهم فيالق السلام، سلام التنصير لا سلام التوحيد، تستقبلهم الجمعيات الصليبية، والمنظمات التنصيرية هي التي تستقبلهم، ولكثرة الزبائن والقادمين والوافدين أصبح النصارى لا يتورعون أن يقولوا البسوا الصليب، وصلي للمسيح، واحمل الإنجيل، نعطيك غذاءً وكساءً ودواءً فإن لم تفعل فاذهب إلى محمد يعطيك لباساً وغذاءً ودواءً.
البس الصليب، احمل الإنجيل، صلي للمسيح، يسوع المخلص؛ نعطيك اللباس والدواء، فإن لم تفعل فاذهب إلى محمد حتى يعطيك لباساً وغذاءً ودواءً، إن عيسى لم ينزل في كينيا ولا إريتريا ولا أثيوبيا ولكن الذين بدلوا دينه وحرفوا ملته جاءوا يزعمون أنهم أتباع عيسى ويقولون للناس: ها نحن فأين أنتم.
أما نحن أتباع محمد الذين لم نحرف ولم نبدل.
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
لعلنا تكاثرنا أن نكون مسلمين موحدين وكفى، لا والله، سنسأل عن أحوال إخواننا، لجأ إلى كينيا أربعمائة ألف شخص والهجرة والرحلة رحلة العذاب والأسى تستمر يومياً في الحدود الكينية بمعدل خمسمائة شخص إلى ملديريا وعين واق وباليسا وإيفوا وليبوي، أما في أثيوبيا ففي سوفتوا وحدها يموت يومياً خمسة وعشرين طفلاً، وكذلك في تولوا ليس الوضع بأحسن حالاً من سوفتوا، ولا تسل عن أحوال الذين هم على أطراف هذه البقعة وتلك البلاد! أيها الأحبة في الله! واقع الصومال أسوأ من البوسنة والهرسك، ولا يعني ذلك أن نرد شبابنا وأموالنا وجمعيات الإغاثة التي ذهبت من قبل بلادنا والمخلصين من أبنائنا وعلمائنا وطلبة العلم، لا.
وإنما نريد مثل هذا في الصومال، نريد أن نضاعف البذل وأن نزيد العطاء حتى يعبد الله وحده، ويهزم الصليب، ويشفى المرضى، ويكسى العراة، ويشرب الظمأى، ويشبع الجياع.
أيها الأحبة في الله! يقول مدير وكالة غوث اللاجئين الدولية -نصراني من النصارى-: لقد عايشت عدداً من الأزمات والكوارث والحروب وما رأيت أزمة كهذه، يعني: مصيبة المسلمين في الصومال.(232/6)
قصص تجليِّ لنا خطورة الوضع
أيها الأحبة في الله! أما القادمون الفارون من الجحيم فتسألهم عن البقية الباقية من أحوال المسلمين هناك فيقول: رأيت جثث الحمير والبشر والآدمين تملأ الأزقة والطرقات، كل فر تلقاء وجهه، إلى أقرب حدود الدولة المجاورة، ولم يبق هناك إلا مشلول لا قدم له تنقله، أو أرملة لا زوج لها، أو عجوز وشيخ لا ولد لهما، أو يتيم لا كافل له.
تفرق الناس وتشتت الأسر فالأم لا تعرف أين مصير أولادها؟ والأب لا يدري عن بناته، والزوج لا يعلم شيئاً عن زوجته، وخذوا صوراً لكي تعيشوا شيئاً يسيراً من المعانة والمأساة: في مقديشو ناقلة تحمل الناس لكي تفر بهم من جحيم الحرب الأهلية وقذائف المدافع العشوائية، فجاءت امرأة معها طفلها تريد اللحاق بهذه القافلة والفرار معها إلى رحلة مجهولة، المهم: أن تفر من هذا المكان، والقافلة تسرع لو وقفت لحوصرت من بعض العصابات واللصوص، فقدمت الأم طفلها فتنالوا طفلها ثم أسرعت القافلة ولم تستطع الأم أن تركب معهم فعاشت وبقيت لتعيش حسرتين: فراق الوليد وجحيم المدينة، هذه صورة لعدد لا يحصى من النساء.
ويا ترى! هل يلتقي الطفل بأمه في مقبرة من المقابر، أم في الآخرة، أم في مخيم من المخيمات؟ وهذه امرأة حبلى قتل زوجها في العاصمة وفرت بجنينها الذي تحمله في أحشائها ومعها أطفالها الثلاثة، ولما وصلت منطقة كسمايوا وضعت جنينها لتحمل أطفالاً أربعة، ودارت رحى الحرب في المنطقة، فهربت الأم ثم فروا إلى كينيا ونزلت الأم مع اللاجئين في العراء حيث الموت بكل صوره ينتظرها وينتظر أطفالها، فمات الأطفال أولهم الجنين حديث الولادة، ثم مات الذي يليه واحداً تلو الآخر، ثم أصيبت الأم بالجنون وأخذت تدور بين الناس وتقول: كان لي أربعة أطفال، كان لي أربعة أطفال كلهم ماتوا هل صحيح أنهم ماتوا؟ تدور الأم مجنونة تقول: كان لي أربعة أطفال كلهم ماتوا، هل صحيح أنهم ماتوا.
ولا تسأل عن انتهاك الأعراض في براوا حيث فرت الفتيات والنساء إلى المسجد وجاء قطاع الطرق واللصوص وناشدوهم ألا يصلوا إلى الأعراض، خذوا الملابس، خذوا المال، خذوا ما تريدون، دعوا الأعراض، فاقتحموا المسجد وفعلت الفاحشة في النساء.
أما قصة حافلة مليئة بالفتيات لما شقت طريقها نزل الظلمة والطغاة الغاشمون بثلاثين فتاة، نزلوا بهن من الأتوبيس وفعلوا بهن الفاحشة على الأرض في العراء، ثم صبوا البنزين عليهن وأحرقوهن وذهبوا، ونجت واحدة بحروقها وآثار النار فيها لتروي مرارة المأساة، وقصة الفاجعة.
فتاة في أحد المخيمات في الحدود الكينية يجرها جندي كيني، فقام له رجل وقال: ماذا تريد منها؟ فقال بكل بجاحة: دعك ولا علاقة لك بها، فسأل الشاب هذه الفتاة التي لم تجاوز ستة عشرة ربيعاً من عمرها قالت: لقد طلبت منه خمسين شلن كيني -أي: ما يعادل خمسة ريالات- لأشتري حليباً لأخي الصغير فلم يقبل إلا بعد أن أوافقه على فعل الفاحشة هذا المساء، وقال: إما أن ترد الخمسين شلن أو تسلم لي نفسها كما وعدت! من ينتصر للأعراض؟! من ينتصر للنساء؟! من ينتصر للضعفاء؟! وتاجر في شاس مايوا يقول: كنت أملك اثنين ألف مليون -يعني: مليارين شلن صومالي- الآن يقول: لا أملك إلا نفسي، وهذا الطفل الصغير، ولا أعلم شيئاً عن أفراد أسرتي.
حدث ولا حرج عن هذه المأساة! أما الذين يفرون باتجاه السواحل والبحار فأولئك يتزاحمون على السفينة وربما آثرت الأم ولدها فرمته في السفينة، تجعله في السفينة وتبقى على أرض المأساة، لأن حمولة السفينة لا تحمل الأطفال والأمهات، فلا بد من الخيار المر، أو تقدم الأم نفسها وجنينها، فإذا ركبوا جميعاً غرقوا، أو أن تبقى الأم تعاني المأساة ويرحل الأطفال رحلة مجهولة، ومنذ مدة أعلنت بعض وكالات الأنباء عن سفينة غرقت وفيها خمسمائة نفس من الصوماليين، تزاحموا على قارب فلما أبحر قليلاً غرق القارب ومن فيه.
أيها الأحبة في الله! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(232/7)
مواجهة ضغط الصليب على المسلمين بالتنصر
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، حكم عدل واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتفكروا وانظروا أحوال إخوانكم هناك، لا توجد جمعيات إسلامية تذكر أو جيوب تخبر، لا يوجد إلا منظمة الصليب الأحمر، ومنظمة كور العناية الكاثوليكية، ومنظمة أطباء بلا حدود الهولندية، ومنظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، ومنظمة إكس فان للإغاثة البريطانية، ومنظمة العون الأمريكي والرأي العالمية، ومنظمة جيكي جك الألمانية، أما الإغاثة الإسلامية فليست بشيء يذكر، وإني أنادي الإغاثة ومنظمة الإغاثة من هذا المكان: والله لتسألون أمام الله إن كان في رصيد الإغاثة ديناراً لا يصرف على هذه الأزمة، نعم الإغاثة تعمل وتبذل ولها جهود ولكن ينبغي ألا تتدخر وسعاً.
أنفق بلالاً ولا تخشى من ذي العرش إقلالا
(اللهم أعط كل منفقاً خلفاً).
لست بهذا أتهم الإغاثة بأنها تسرق الأموال، ولكن أقول: الحال في الصومال ليست على المستوى المطلوب، وجهود الإغاثة مقصرة مقصرة مقصرة، فإما أن تبرهن للناس جهوداً واضحة قوية وتتعاون مع المؤسسات الإسلامية النشطة كـ منظمة مسلمي أفريقيا، أو تقول للمسلمين: إنا نعجز أن نقدم شيئاً في أفريقيا، أو يقولوا: إنا نعجز أن نقدم شيئاً للصومال، حتى نعرف أين تذهب الأموال؟ لست أشكك فيهم، بل أجزم وأقطع بعفتهم، وقد رافقت الإغاثة بنفسي إلى كمبوديا وبكيه وإلى بعض البقاع فرأيت عملاً مشرفاً وجهوداً طيبة لكني أقول: الجهود في الصومال ضعيفة، الوضع في الصومال غير مشرف، سبع منظمات صليبية بعضها يحتكر الغذاء وبعضها يحتكر الدواء، وبعضها يحتكر لا ينبغي أن يوجد منافسة وأن تصب الملايين صباً، وهذه برقية عاجلة إلى مدير هيئة الإغاثة: أخبروا المسلمين ماذا قدمتم للصومال؟ المأساة عظيمة، والإغاثة تعني إغاثة لكل مسلم في أية بقعة كانت.
ومع وجود هذه المنظمات الصليبية التي لا تفتأ أن تنزل مع الدواء أسلحة ومع الغذاء متفجرات، حتى تقول للناس: اعملوا واشتغلوا في هذه الحرب الأهلية، حتى إذا كشفت الحرب عن ساقها ظهر لنا أمر عجيب، وجدنا أن الهدف الأول في الحرب الأهلية هم الدعاة والمتدينون وطلبة العلوم الشرعية، إذاً ليست كارثة وليست مفاجأة، بل حرب صليبية يغذيها النصارى بالسلاح تحت الدواء، وبالمتفجرات تحت الغذاء.
وماذا يقول بعضهم؟ تقول بعض منظمات الإغاثة: إن هؤلاء الأصوليين هم الذين يحولون دون وصولنا إلى كثيراً من المناطق التي نريد أن نصلكم فيها، إن هؤلاء المتشددون الوهابيون المتطرفون هم الذين يمنعون وصولنا إليكم، حتى يثيروا الأحقاد والغدر والعداء في نفوس الفقراء على العلماء وطلبة العلم، فإذا جاءوا يدعونهم أو يحذرونهم من التنصير أو يدعونهم إلى التوحيد قالوا: أنتم أعداؤنا فلا نقبل منكم شيئاً.
ما هي احتياجات المسلمين في الصومال؟ الغذاء، الماء، الدواء، الكساء، الخيمة، هذا الذي يريدونه، يريدون شيئاً يفضل عنا، يريدون شيئاً لا يساوي عُشر ما نصرفه في حفلة زفاف.(232/8)
أضواء على مأساة الصومال(232/9)
مياه الشرب
أما الماء الذي يشربونه فلا أنهار جارية إنما من المستنقعات المليئة بكل ما يسبب البلهارسيا والملاريا والدوسنتاريا المليئة بالجراثيم العجيبة، وربما جفت بعض المستنقعات فرحلت الهياكل العظمية التي كسيت بجلد جاف رقيق بجنين صغير ساعات طوال تبحث عن مستنقع لم يجف بعد تجد فيه قطرة ملوثة مملوءة بكل شيء من ألوان الجراثيم والفيروسات والبكتيريا، وإذا وصلوا إلى مستنقع فيه بقية من ماء ملوث لا بد أن ينتظر الساعات حتى يصل الدور إلى جالونه لأن الناس طوابير على هذا المستنقع.
أما السكن فأغصان من الشجر تغرس في الأرض ويلقى عليها أشنان بالية وخرق ممزقة لا تتجاوز مساحتها خمسة أمتار، وهذه العشيشة هي المطبخ والمجلس والمرقد، وأي: مطبخ، وهل هناك آلة طبخ أو شيء يطبخ؟! أما اللباس فلا عجب أن ترى الأطفال حتى الثامنة ذكوراً وإناثاً عراة ليس عليهم حتى ما يستر عوراتهم المغلظة، أما الرجال والنساء فأكوام من النساء لا يستطعن الخروج لعدم وجود ما تستر به العورة، والرجل لا يجد إلا ما يستر عورته المغلظة.(232/10)
تسارع جنائز الموتى
أما الجنائز والأموات: فموت الرجل أو المرأة يفرج كربة عريان من العراة، فيؤخذ منه لباسه لكي يكسى به حي لا لباس له، وبماذا يكفن هذا الميت؟ ربما دفن عرياناً، وربما كفن بما يوجد من قراطيس وكراتين ونحوها.
أيها الأحبة في الله! أما الدواء: فلا يوجد على الإطلاق، انتشر بينهم مرض اسمه مرض (المرسمس) هذا المرض ينتفخ فيه بطن الطفل انتفاخاً عجيب ويدخل فيه وجهه ورأسه وتضمر عظامه ويبقى في حالة عجيبة، ثم بعد ذلك يصب من جوفه الإسهال كالماء، ثم يصب الدم كالماء، ثم يموت موتاً بطيئاً:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وأن المنايا قد غدون أمانيا
يفرح بعضهم أن يموت من أمامه، يجد الموت فرجاً وفراق الحياة بشارة حتى يرتاح من هذه المعاناة التي يراها.
وكل ما أذكره لكم من تقارير موثقة ومن رجلين صالحين ذهبا بنفسيهما ورأيا بأم عينيهما ما ذكرته لكم أيها الأحبة يقول أحد الشباب: لا تسأل عن هذا المرض الذي انتشر فيهم، والجفاف الذي كسى أبدانهم، يصيب بعضهم أو أكثرهم مرضاً إذا أخذت بجلدة يد أحدهم أو بجلدة من رقبته أو صدره ثم جذبت الجلد وأطلقت يدك عنه يبقى الجلد هكذا من شدة الجفاف حتى ترده من جديد إلى وضعه الطبيعي.
قال الراوي: ورأينا خيمة دخلناها فوجدنا فيها امرأة مضرجة بالدماء من حولها، ينزف الدم من أنفها ومن فمها وأعزكم الله والمسجد والملائكة والسامعين، وينزف الدم من قبلها ودبرها، فسألناهم عنها قلنا: ما هذه المرأة؟ قالوا: إنها مريضة، قلنا: وماذا تنتظرون؟ قالوا: ننتظر حتى تموت لنستفيد من خيمتها وملابسها.
ورأيا رجلاً وزوجته مقطوعة أطرافهما وأطفالهما مصابون بإسهال فسألنا عنهم، فقلنا: ما هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء مرضى وعلى أية حال ربما يموتون بعد خمسة أيام ويستفاد من مكانهم.
أصبح الناس يريدون ويشتهون الموت، يجدون في الموت راحة، في الموت كساءً، في الموت شبعاً، في الموت رياً، في الموت أماناً، في الموت طمأنينة، أما الحياة فمرض وجوع وعري وعطش، سقماً ونهباً وفزعاً وقلقاً وخوفاً.(232/11)
الغذاء
أما الغذاء إذا وصل إلى تلك المناطق فلا يقال لهم لقد جاءكم الغذاء، إنما يقال لهم وصلت حملة طبية معها أدوية، ثم تنصب الخيمة والغذاء فيها، ويدخل المرضى حسب الترتيب الأولوي لأشدهم مرضاً، ثم يعطوا الغذاء بملاعق كأنه يعطى الدواء، لو علم أولئك الناجون أن هذه القافلة القادمة أو السيارة الوافدة تحمل غذاءً لتقاتلوا عليها وتناهبوها ولا يلامون من شدة الجوع.
سلوا أنفسكم: ماذا ستأكلون بعد الصلاة هذا اليوم؟ ما هي أصناف الغداء التي سوف تأكلونها بمشيئة الله بعد الانصراف من الجمعة؟ انظروا إلى أولئك وتذكروا المائدة التي ستنزلون عليها.
إن المقابر أيها الأحبة! ما بين كل عشرة إلى عشرين خيمة تجد قبوراً لخمسة أو ستة، وليس عجيباً أن تقابل رجلاً يقول: مات لي طفل اليوم وبالأمس مات لي طفلان وعندي طفل أو اثنان مريضان، أما النساء الحوامل فثمانون بالمائة من النساء الحوامل يمتن ويفارقن الحياة ويلفظن النفس أثناء الطلق والولادة لعدم وجود العناية والرعاية بهم.(232/12)
دعوة للإنفاق وصون النعم
يا أمة الإسلام! من يشتري جنة بدعوة للتوحيد ومواجهة للتنصير، من يشتري جنة بلقمة تدفع الموت، وبجرعة تبرئ السقم، وبغرفة ماء ترجو الحياة، وبلباس يستر العورة.
أين من أسرف على نفسه بالذنب والمعصية دون شباب عظيم، في الصومال إغاثة اللاجئين تكفر به ذنوبك وخطاياك، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] هل في المسلمين تاجر يهجر مكتبه أو شركته أو شاشة الأسهم وبورصة الإعلانات ليعقد أكبر صفقة رابحة مع الله لإنقاذ عباد الله اللاجئين من الشرك، الفارين من التنصير، الهاربين من المرض والجوع والعطش؟ أيوجد ثري يسافر إلى هناك؟ هل يوجد من يغير خط الرحلة من نيس وكالي وناربيه وجنيف ليجعله إلى سوفتوا وغيرها من المواقع التي تمتلئ بالمساكين الصوماليين، أو من يملك طائرة خاصة يتجول بها أو ينقل بها الضيوف ليحضروا زواج ابنته في لندن، هل يذهب بطائرته إلى هناك لكي ينظر أحوال المسلمين؟ هل يوجد من يسير إلى تلك البقاع؟ هل في شبابنا من يجمعون المال ويسافرون، وينتظمون في سلك الإغاثة، ويقولوا لـ هيئة الإغاثة: أعطونا المال والدواء وجهزوا كل السبل ونحن ننفذ إن لم يوجد عندكم جهاز يكفي للتنفيذ؟ هل فكرنا أن نزور هذه المنطقة؟ أيها الأحبة! منذ مدة وجهت إلينا دعوة لنحضر زفافاً في فندق (الإنتر كنتننتل) فقلت: لا والله لا نحضره وحرام على أهلي الحضور، ولا يجوز لنا أن نحضر، إيجار الصالة في ليلة واحدة (مائة وخمسين ألف ريال) ومنذ مدة حفلة زواج في فندق (الإنتر) قبل الحفلة قدم لمطرب من المطربين (ستون ألف ريال) لكي يغني في العروس والعريس.
إنا لله وإنا إليه راجعون، ألا تخشون أن يصيبنا ما أصابهم، ألا تخشون أن يحل بنا ما حل بهم، ألا تخافون أن يخسف الله بنا، ألا تخافون أن يصيبنا ما أصابهم، قلتها في جمعة ماضية، إناء من عجين يصنع به زخرفة عجين الطعام الذي لا يجدونه يصنع بهذا الإناء زخرفة في أرض في مناسبة من المناسبات.
يا أمة الإسلام! والله إننا نخاف على هذه النعمة، إننا نخاف ونخشى على هذه النعمة، إنا لنخشى على هذه النعمة، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] الناس تموت جوعاً ومرضاً، وغيرنا ومنا وفينا يتسابقون لوضع أكبر دش يستقبل ( m b c) والقاهرة والكويت، وربما استقبل بعضهم ستة وأربعين محطة فضائية، إنهم يستقبلون ماذا؟ يستقبلون الحفلات والرقص والغناء واللهو، وليس في هذه الأقمار الصناعية وهذه المحطات الهوائية ما ينقل لنا أحوال المسلمين.
يا أمة الإسلام كم تبكي عيون بنيك دم
حسبنا الله ونعم والوكيل! إننا من هذا المكان نناشد كل مسئول في الإعلام أن تظهر تقاريرها على الأقل النصف أسبوعية عن المسلمين في الصومال وفلسطين والبوسنة والهرسك وبورما وكشمير وكل البقاع، حتى نبرهن إسلامنا في إعلامنا، حتى نبرهن إسلامنا في تصرفاتنا.
أما أن تمر الشهور ونرى العجائب ولا نرى شيئاً عن أحوال المسلمين، لا بد من إيجاد البرامج والحوارات واللقاءات والتحقيق المصور، حتى يظهر الأمر على حقيقته.
ختاماً أيها الأحبة! لا يزال المسلمون يكرهون النصارى هناك، لا يزال الفقير الجائع العطشان العاري يكره النصارى ويريد لقمة من مسلم ولا يريد طبقاً من كافر، فهل هنا مسلم يذهب؟ نسأل الله جل وعلا أن يدفع البلاء عنا وعنكم.
إخواني: ستجدون على الأبواب من يجمع، وإني لا أعذر أحداً يخرج إلا وقد تبرع، فإن لم يجد فيأتي بالتبرع ويأخذ على عاتقه أن يقدم أسبوعياً مائة ريال فقط، لو أننا في كل جلسة أو زواج أو مناسبة بعد أن نشبع ونهضم ما نملأ به البطن، بعد أن نشبع ونتجشأ من نقول: يا إخوان شبعتم وغيركم جياع ليأتي كل واحد منكم بخمسة ريالات، يجمعها على مدى الأسبوع قدمها لهؤلاء صدقة تدفع عنا البلاء، إن كنت تريد أن تعيش على هذا الوضع آمناً مطمئناً في علاج ودواء وأمن وطرق وخير ودعة وراحة، يمكن تترك أطفالك يعيشون فانتبه لأطفال المسلمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم فرج كربة المسلمين في الصومال، اللهم فرج كربة المسلمين في الصومال، اللهم فرج كربة المسلمين في الصومال، وفي البوسنة والهرسك اللهم أهلك الصربيين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم كن في عون المسلمين في كل مكان، اللهم ارحم المسلمين في تونس والجزائر والصين وكشمير وبورما وسائر الأرض يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم قنا شر الفرقة والخلاف والضياع.
اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا على طاعتك، ربنا لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم زدنا من هذه الخيرات وزدنا شكراً وعبودية لك يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه.(232/13)
مفهوم (لا إله إلا الله)
(لا إله إلا الله) هي العروة الوثقى، وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم عليه السلام باقية في عقبه لعل قومه يرجعون، وهي الكلمة التي إذا نطق بها العبد عُصِم عرضه وماله ودمه، وهي أول ركن من أركان الإسلام، وأعلى شعبة من شعب الإيمان.
وقد ورد لها في الكتاب والسنة ثمار وشروط ونواقض، يجب على العبد معرفتها حتى يبقى في دائرة (لا إله إلا الله).(233/1)
معنى لا إله إلا الله
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير، قدر فهدى، ودفع عنا سائر النقم، وأسبغ علينا ألوان النعم، وما من خير إلا ودلنا عليه في كتابه، وما من شر إلا وحذرنا منه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فله الحمد في الآخرة والأولى، وله الحمد حتى يرضى:
يا رب أنت المستعان وإننا أبداً لجودك عالة فقراء
أنت الغني وما لجودك منتهى بيديك سر الخلق والإحياء
ما كان أو سيكون أو هو كائن يفنى وليس لما سواك بقاء
أبدعت هذا الكون في صنع وفي يدك التصرف فيه كيف تشاء
لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أحبتي في الله: شرف عظيم وأي شرف أن نجتمع سوياً في بيت من بيوت الله، نتلو شيئاً من كلام الله، وطرفاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الملائكة تستغفر لنا وتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم.
اجتمعنا على غير ما صلة ولا قرابة، ولا طمع ولا مصلحة، ولا غاية إلا طلب ما عند الله عز وجل.
فإني أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، إنه سميع مجيب.
هذا الفضل العظيم لا يوجد في أي مقام من مقامات الدنيا إلا في هذه الأماكن، وقد يقول قائل: إن الإنسان لو ألقى محاضرة عبر التلفاز، أو عبر الإنترنت، أو عبر الإذاعة لخاطب ملايين الناس، وهذا حق وصواب، ولكن الخطاب والحديث في كلام الله وسنة رسول الله على وجه التذكر والتعبد والتذلل في بيوت الله عز وجل له مزية لا توجد في سواه، ألا وهي مزية تنزل الملائكة وغشيان الرحمة، وذكر الله عباده في الملأ الأعلى.
أحبتي في الله: المقام لفضيلة الشيخ صالح بن غامد السدلان، ولي موعد تضارب مع هذا الموعد وهو موعد دعوي -أيضاً- في منطقة تبعد عن الأرطاوية كما أخبرني أحسن الله إليه وإليكم، في أمر دعوي -أيضاً- توجه حفظه الله، وطلب مني أن أقوم مقامه وأن أنوب منابه، وقد قال الله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43].
وأهل اللغة يقولون: نائب الفاعل يقوم مقام الفاعل، فلعلي أن أسد شيئاً من مسده وخطابه وكلامه، سائلاً الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
عنوان هذه المحاضرة: (معنى لا إله إلا الله): كلمة التقوى والعروة الوثقى لا إله إلا الله، جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه، لعل قومه يرجعون وبمقتضاها يعملون.
هذه الكلمة العظيمة التي إذا نطقها العبد موقناً بها، دخل في هذا الدين العظيم، قد عصم بذلك عرضه وماله ودمه، وإذا أبى فلا كرامة لعرضه ولا عصمة لدمه ولا لماله.
هذه الكلمة التي أمر صلى الله عليه وسلم أن يعلمها حيث قال عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
هذه الكلمة، أول ركن من أركان الإسلام، وأعلى شعبة من شعب الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).
كلمة لا إله إلا الله، أول واجب على المكلف، وآخر ما يجب على المكلف عند الذكر أن يخرج بها من الدنيا، أن يقولها إذا فارق الحياة أو إذا أوشك أن يفارق الحياة.
هذه الكلمة لا: نفي، إلا الله: إثبات، النفي والإثبات، نفي الألوهية عن غير الله، فحينما نقول: لا إله، معناه: أننا ننفي جميع ما يعبد من دون الله، وقولنا: إلا الله، معناه: حصر العبودية وإثبات العبودية لله وحده لا شريك له، وهذا أسلوب الحصر والقصر، الذي هو في أقطع الدلالة وأبلغ الدلالة على حصر العبادة فيمن أثبتت العبادة له، وحصرت عليه في باب الاقتضاء، قال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا ينسى، هيبة وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاءً وتوكلاً وسؤالاً ودعاءً؛ وكل ذلك لا يصلح إلا لله عز وجل، فمن صرف شيئاً من هذه الأمور، أو أشرك مع الله فيها غيره سبحانه، فقد مرق من الدين وارتكب أمراً من أمور الشرك، إذ أنَّ لا إله إلا الله تقتضي ألا يعبد إلا الله، ولا يذكر إلا الله، ولا يشكر إلا الله، ولا يسأل إلا الله، ولا يدعى إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يستعان إلا بالله، ولا يذبح إلا لوجهه سبحانه وتعالى، ومن خلط في هذه الأمور فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الشرك.
الله علم على ذات الله عز وجل، الله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، الله محيط بكل شيء والناس لا يحيطون به علماً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] الله مستحق أن يوحد في ربوبيته، فهو المدبر المتصرف الرازق الباسط المعطي المانع المحيي المميت، كل شيء بيده له الخلق والأمر، لا مدبر في هذا الكون إلا هو سبحانه، إقرارنا بأنه وحده المتفرد بالتصرف في كل الأمور، هذا توحيد الربوبية الذي لا يجوز لعبد أن ينصرف عنه، ولا يجوز لأحد أن يلتفت عنه.
كانت العرب إذا اشتد بها الخطب لجأت إلى الله في هذا، كانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، كانوا يعبدون من دون الله آلهة أخرى، لكن إذا اشتدت الكربات وتتابعت المدلهمات، نادوا في الظلمات: لا إله إلا الله، أما في الرخاء فيعبدون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ووداً ويغوث وسواعاً ونسراً.
أحبتنا في الله: إن شأن لا إله إلا الله، ومعنى لا إله إلا الله تضيق عن بيانه المجلدات، وتفنى دونه الأقلام، وتكل عنه الألسنة، لا يحصره بمقتضاه ومعناه، وما يجب وما ينبغي وما يليق إلا لله عز وجل؛ لأنها متضمنة الثناء، ومن الذي يحصي على الله الثناء؟! لأنها متضمنة الشكر، ومن الذي يحصي على الله الشكر؟! {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109].
العظمة كل العظمة في هذه الكلمة وفي معناها، ولذا كان أسعد الناس من وفقه الله إلى أن يجعلها ذكراً دائباً دائماً لا ينقطع من لسانه، يجعلها نفساً وشهيقاً وزفيراً، لا إله إلا الله، إنك تستطيع أن تقول: لا إله إلا الله وأنت مع الناس في المجالس، وقد أطبقت شفتك على الأخرى، ولسانك يتحرك بها، دون أن يشعر الحاضرون أنك ذاكر لله عز وجل، فمن جعلها دأبه وذكره، وجعلها أنسه وسعة قلبه ولذة فؤاده أنس بها، يموت عليها، ويبعث عليها، وتشفع له، وتحاج له، وتجادل له عند الله عز وجل يوم القيامة.(233/2)
ثمار لا إله إلا الله
أمر لا إله إلا الله عظيم، جاء صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب، والعم الذي أبى أن يدخل في الإسلام، لكن قدم للإسلام ما قدم من الدعم والحصانة والصيانة، والرعاية للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء صلى الله عليه وسلم وأبو طالب في النزع الأخير وروحه تغرغر، قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أجادل للك بها عند الله عز وجل) لولا أنها تنفعه ما قال صلى الله عليه وسلم قلها عند الموت، لولا أنها تشفع له، ولولا أنها تدخل الجنة، ولولا أنها تخرجه من النار، وتجادل عن صاحبها، لما كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم: قل لا إله إلا الله أحاج لك -أجادل- بها عند الله عز وجل) فائدة.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الغلام اليهودي قد حضره الموت، فدخل عليه صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى لا إله إلا الله، وقد يقول قائل: وماذا تنفع لا إله إلا الله في يهودي آذى نبي الله، وكفر بدين الله، فهل قوله لها قبل فراق الدنيا بلحظات تنفعه؟!
الجواب
نعم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وقال: (يا غلام! قل لا إله إلا الله، فأخذ الغلام ينظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وينظر في وجه أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام اليهودي: لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم فاضت روحه، فأخذ صلى الله عليه وسلم يكبر) فرحه بنطقه بها أنساه فجيعة موته أمام عينه، تهلل وجهه فرحاً كأنه مذهبة، كأن وجهه قطعة ذهب، فرحاً لما نطق بها؛ لأن أمر النطق بها أعظم حتى لو فارقت الأرواح الأبدان، أو فارقت الأنفس الحياة.
كلمة لا إله إلا الله، العروة الوثقى لا انفصام لها {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256].
كلمة لا إله إلا الله، أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، هي العهد العظيم: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] قال ابن عباس: هي شهادة أن لا إله إلا الله.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، والبراءة من الحول والقوة إلا بالله، وألا يرجو إلا الله.
كلمة لا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذنِ رَبِهَا} [إبراهيم:24 - 25].
ثمار لا إله إلا الله، يقول الله: إنها تؤتي أكلها كل حين، لا إله إلا الله لها ثمار حتى ولو تسلط أعداء الإسلام على المسلمين.
لا إله إلا الله لها ثمار حتى ولو انتشرت القنوات الفضائية، بالفسق والفجور والمجون.
لا إله إلا الله لها ثمار حتى ولو استطال الشر وعرض في الشبكات الإلكترونية عبر ما يسمى بالإنترنت.
لا إله إلا الله لها ثمار حتى لو أدبر الناس عن الدين، أو غفلوا عن العبادة، أو أغروا في المعصية؛ لأن الله قال في لا إله إلا الله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم:25].
فمن ذا الذي يقول: أن لا إله إلا الله لا تنفع اليوم في عصر القنوات الفضائية؟! من الذي يقول: أن لا إله إلا الله لا تنفع أمام شبكات الإنترنت؟! من الذي يقول: لا إله إلا الله لا تنفع أمام هذا الجِبل العظيم الذي أضله الشيطان وأغواه، وجعله في المحافل والمنتديات والسهرات واللهوات؟! بلى.
لا إله إلا الله لها أثر، وهذه بشارة، والدعاة العاملون الصادقون متعلقون بهذا الوعد من الله، مادام الله قال: أن لا إله إلا الله لها ثمرة: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] فإننا ينبغي أن نكون ماضين عازمين مستمرين على البلاغ بها، والدعوة إليها، ونشرها، والجهاد بها ولأجلها، ولو مات من مات من الناس دونها؛ لأن الله قال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:25 - 26] هي ضد الكلمة الطيبة، الكلمة الطبية لا إله إلا الله، والكلمة الخبيثة هي الضد لهذا: (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] ما الأمر بين هذا الفريق وهذا الفريق، ما الأمر في هذا الجدال وهذا الجدال، ما الأمر في هذا الخلاف وهذه المطاولة والمصاولة؟! {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
كلمة لا إله إلا الله، شجرة طيبة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24].(233/3)
باب من أبواب الحسنات
لا إله إلا الله هي أفضل الحسنات، قال أبو ذر رضي الله عنه: (يا رسول الله! علمني عملاً يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها، قال: قلت: يا رسول الله! أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ فقال: هي أفضل الحسنات) تخيل كم يكتب لك من الحسنات حينما تجلس في مجلس نصف ساعة أو ساعة وتجعل لسانك مشغولاً بلا إله إلا الله؟ بعض الناس ممن فتح الله عليه باب الذكر تجده في المجلس كأنه لا يذكر الله، لكن إذا دققت وجدته ربما قد وضع يده على فمه، وتحت يده شفة تنبس ولسان يلهج: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والناس لا يسمعونه في المجلس، لكن هو يجمع ثروة، يخزن الكنوز، ويضاعف التجارة، ويربح أرباحاً مضاعفة في الجلسة الواحدة، ربما ذكر الله مائة مرة، فتكتب له مائة حسنة، وكل حسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
لذا فإن أعجز الناس العاجز عن الذكر، وأخسر الناس العاجز عن الذكر، يا سبحان الله! الواحد منا إذا استلم فاتورة الجوال سبعمائة ريال أو ستمائة ريال أو ألف ريال، وبعضهم تبلغ ألفين ثلاثة آلاف، من أين كل هذا الكلام؟ من أين جاءتنا هذه الفواتير؟ من لسانك الذي يثرثر ويتكلم ويلغو، وربما تكلم فيما لا يليق ولا ينفع، ليس عيباً أن تستخدم الهاتف، ولكن انظر كم أحصى عليك الهاتف من المكالمات عبر الدراهم والريالات، فهلا أعنت نفسك على أن تلهج وتحرك لسانك بذكر الله كما يتحرك لسانك بالهاتف الجوال، أو في الحديث مع فلان وعلان.
اعلم أخي أن الخاسر من غفل عنها، والرابح من عود نفسه، ولا تقل: أنا مدخن، كيف أقول لا إله إلا الله؟ قلها ولو كان الباكت في جيبك، اشغل نفسك بلا إله إلا الله ولو كان الباكت في جيبك؛ لأنها بإذن الله ستطهر قلبك من الاستمرار في التدخين، قلها ولو كنت حليقاً، قلها ولو كنت مسبلاً، قلها ولو كنت سماعاً للأغاني، قلها ولو كنت فاعلاً معصية من المعاصي؛ لأنها حسنات، والحسنات معينة على ترك السيئات بإذن الله عز وجل، والله سبحانه يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
إذا أدمنت عليها، وذكرت الله بها، وقلت في قلبك: أني أذكر الله رجاء أن يهديني لترك هذه المعصية، ولفعل هذه الطاعة، والبعد عن هذه المخالفة، أعانك الله ونفعك بها نفعاً عظيماً.(233/4)
سبب لدخول الجنة
لا إله إلا الله سبب دخول الجنة، (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة) كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: (من شهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه البخاري ومسلم.
وروى البخاري ومسلم -أيضاً- من حديث عتبان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).
لا إله إلا الله تعصم دم الإنسان وماله وعرضه، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم الله ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل) رواه الإمام مسلم.
وكلمة لا إلا الله، الكلمة الفاصلة بين الكفر والإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم).(233/5)
شروط لا إله إلا الله
وكلمة لا إله إلا الله هي مفتاح الجنة، والمفتاح لا يفتح إلا بأسنان، وأسنان لا إله إلا الله هي شروطها فأول شروطها:(233/6)
العلم المنافي للجهل واليقين المنافي للشك
العلم المنافي للجهل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] واليقين المنافي للشك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] العلم يقتضي اليقين؛ لأن العلم درجة، أبلغ من النظرية، وأبلغ من المعرفة، وأبلغ من الظن، العلم: هو غاية الإدراك وتمام اليقين.
لذا كان الأول: العلم.
والثاني: اليقين، إذ أن التردد فيها قد يكون سبباً في مروق صاحبها وخروجه من الملة، تردد أقوام من الزنادقة، وأخذوا يشككون، يقول قائلهم:
في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق وذا بمئذنته يصيح
كأنه يشكك في الأمر، هل هم ثلاثة، أم إله، أم أن الله له ولد، أم أن المسيح ابن الله، أم لا إله إلا الله؟!! من كان في هذا الريب وهذا الشك، فهو لم يبلغ فضل وكرامة لا إله إلا الله، لكن الفضل والثواب والكرامة لمن قالها عالماً أن لا إله إلا الله، موقناً يقيناً لا شك فيه أن لا إله إلا الله {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] لو كان مع الله آلهة أخرى لكان الأمر مريجاً، ولكان الأمر مختلطاً، ولكان الأمر في عجب عجاب، لو كان مع الله آلهة، لكان إله يريد أن تشرق الشمس وإله يريد أن تغرب، وإله يريد أن تمطر السماء وإله يمنعها المطر، وإله يريد أن تنبت الأرض وإله يمنعها النبات، وإله يريد للأرحام أن تحمل، وإله يريدها أن تغيض، وإله يريد للأرواح أن تموت وإله يريدها أن تحيا، لا يمكن ولا يعقل ولا يقبل عقلاً وفعلاً وجدلاً وتصوراً وعلماً وحقيقةً ويقيناً، لا يقبل العقل! ولا يطمئن الفؤاد! ولا يصح النقل إلا بلا إله إلا الله.
لا يتصرف في الكون إلا مالك واحد مدبر متصرف هو الله وحده لا شريك له.(233/7)
القبول لما تقتضيه
ومن شروطها: القبول لما اقتضته هذه الكلمة.
يقولون: لا إله إلا الله، فإذا قيل لهم: إنها تقتضي ترك الربا، قالوا: لا أين نستثمر الأموال؟ يقولون: لا إله إلا الله، فإذا قيل لهم تقتضي ترك الزنا، قالوا: وكيف نحرم أنفسنا لذة النساء؟ يقولون: لا إله إلا الله، فإذا قيل: إنها تقتضي ترك الخمور والمسكرات، قالوا: وكيف نترك لذة الشراب؟ يقولون: لا إله إلا الله، فإذا قيل: إنها تقتضي الصدق والأمانة والصلة والبر والخير، قالوا: لا.
هذه أمور تفسد مصالحنا.
لا إله إلا الله مفتاح للجنة، أسنانه الشروط: العلم، واليقين، والقبول لما تقتضيه الكلمة، وإن أقواماً يترددون بين ارتكاب المنكرات المخالفة لها، وبين فعل أمور هي مخرجة لهم من الملة والعياذ بالله.
ولذا فإن أعظم مقتضى للا إله إلا الله الصلاة، أعظم مقتضى للا إله إلا الله الانقياد والخضوع والسجود والركوع والخشوع في كل الأوقات؛ في الغدو والآصال، في دلوك الشمس وغسق الليل.
أعظم مقتضى للا إله إلا الله الصلاة، وهي البرهان الحقيقي، من كان يؤمن أن لا إله إلا الله وجدته حقاً مصلياً، أما تارك الصلاة فقد قرر أهل العلم أنه كافر، ولو قال لا إله إلا الله فهو كافر؛ لأن لا إله إلا الله لها مقتضى، ومن شروطها: أن تقبل الاقتضاء الذي تقتضيه، وتنقاد لما تقتضيه، ومن أعظم مقتضياتها الصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وكما قال الصحابي الجليل: [ما كنا نرى عملاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة] أي: من تركها فقد كفر.
وأمر الصلاة عظيم يا عباد الله، قد ترى الرجل يلهو، وقد ترى الرجل يفعل المعصية، وقد ترى الرجل تقع منه الزلة والغفلة، لكنه يصلي ويحافظ على الصلاة فترجو له خيراً، وترجو أن يعود إلى الطاعة، وأن يتوب من الزلة، وأن يقلع عن الهفوة والغفلة، لكن إذا رأيت الرجل لا يصلي فاغسل يديك منه بالماء والصابون سبع مرات إحداهن بالتراب، لا أمل فيه إلا أن يعود إلى الصلاة، ولا خير فيه إلا أن يعود إلى الصلاة، ولا يقبل منه شيء إلا أن يعود إلى الصلاة، من شروطها: الانقياد والاستسلام: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54].
والصدق المنافي للكذب، والصدق يقتضي التحمل، ويقتضي الصبر على الأذى والبلاء: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].(233/8)
الإخلاص
ومن شروطها: الإخلاص.
لا بد أن يقولها العبد خالصاً لوجه الله، من غير خوف، ولا مجاملة، ولا رغبة ولا رهبة، ولا طمع، فإذا استقرت في قلبه على حال الإخلاص نفعته، نعم رب قوم يدخلون بادئ الأمر بطمع، لكن سرعان ما ينتقل الأمر إلى اليقين والإخلاص والثبات.
فلا إله إلا الله إذا استقرت بالإخلاص نفعت صاحبها بإذن الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه).(233/9)
المحبة لهذه الكلمة
ومن شروطها: المحبة لهذه الكلمة.
حب لا إله إلا الله، يعني: أن تجعلها على لسانك دائماً، حب لا إله إلا الله، إذا سمعت المنادي ينادي بها تركت فراشك اللذيذ، والحضن الدافئ، وكل لذة أنت فيها، لتركع وتسجد وتخشع قياماً بمقتضى لا إله إلا الله، أما أن ندعي المحبة لكن النوم أحب إلينا من لا إله إلا الله، والشهوة أحب من لا إله إلا الله، والمعصية أحب من لا إله إلا الله.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في القياس بديع
لو كنت تصدق حبه لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) رواه البخاري ومسلم.
قال عمر بن الخطاب لما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) اسأل نفسك يا عبد الله: هل الله عز وجل أحب إليك من نفسك ومالك وولدك ووالدك؟ قال عمر: (يا رسول الله! إنك لأحب إليّ من مالي وولدي، فقال صلى الله عليه وسلم: ومن نفسك يا عمر!) وعمر هو ممن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه ونفسه، ولكن هذا سؤال اسمه السؤال التقريري؛ لأن الأسئلة أقسام: فهناك سؤال إخباري، وسؤال إنكاري، وسؤال تقريري، فأما السؤال الإنكاري: أن تسأل عن شيء بصيغة إنكار الجواب، والسؤال الإخباري: أن تسأل وتريد أن يخبر الناس بالجواب، والسؤال التقريري: أن تسأل عن شيء تريد أن يتأكد وأن يتقرر، وأن يتعمق ويتثبت الناس في معنى وصميم وفهم الجواب، فـ عمر رضي الله عنه لا يسأل إنكاراً ولا ينكر معانداً، وإنما يسأل سؤالاً تقريرياً، ليقول صلى الله عليه وسلم: (ومن نفسك يا عمر!) أي: لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليك من نفسك ومالك وولدك ووالدك، فقال عمر: (ومن نفسي، قال: الآن يا عمر!) رضي الله عن عمر.
يقول الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله ناظماً شروط لا إله إلا الله:
العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبه وفقك الله لما أحبه
ونظمها بعضهم بقوله:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها
فهذه سبعة شروط لها، وأضاف بعضهم شرطاً ثامناً وهو الكفر بالطاغوت، في قول الناظم:
وزيد ثامنها الكفران منك بما سوى الإله من الأوثان قد ألها
وشرط الكفر بالطاغوت مأخوذ من قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256].
انظروا في لا إله إلا الله نفي الألوهية ثم إثباتها لله، انظروا في هذه الآية: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة:256] قدم الكفر بالطواغيت ثم جيء بالإيمان بالله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه) رواه الإمام مسلم.(233/10)
نواقض لا إله إلا الله
وكما أن لا إله إلا الله لها من الشروط ما سمعتم، فإن أقواماً يجهلون نواقضها، نعم أنت تقولها، ويقولها بعض الناس ويدعي أو يظن أنه قائم بشروطها، وإذا تأملت حاله وجدته واقع فيما يناقضها، حتى تنفعك لا إله إلا الله، وتنفعك الأحاديث التي جاءت فيها: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه) يقول الشيخ/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، حفيد إمام الدعوة قدس الله روحه في الجنان، قال: ومن شروط قولها: أن يثبت عليها حتى يموت عليها.
يقولها اليوم وبعد سنة يرتد ويكفر، يقول: نفعتني أنا قبل سنتين قلت: لا إله إلا الله، لا.
يقولها ويثبت عليها ويموت عليها، وزيادة على ذلك: ألا يأتي بما يناقضها، فما هي نواقض لا إله إلا الله؟ من قال: لا إله إلا الله وأخذ يطوف بالقبور، فيدعوها ويتوسل إليها، ويسألها ويتبرك بها، ويرجوها أن تدفع الكربات وتغيث اللهفات وتجيب الدعوات، هل تنفعه لا إله إلا الله؟(233/11)
الشرك
لا تنفع لا إله إلا الله إلا إذا سلمت من نواقضها، والشرك أقبح ناقض: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]، وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) الله عز وجل ليس بحاجة إلى عمل عباده، إما أن تعمل العمل خالصاً لله، مائة في المائة، لو كان تسعة وتسعين وتسعة من عشرة لله، وواحد من العشرة لأي أمر آخر ما نفعك العمل، يقول سماحة الشيخ/ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، في برنامج نور على الدرب -كنت أستمع له في البرنامج- قال: لما علق على هذا الحديث: إن الله عز وجل يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري) قال: من الناس من يعمل عملاً يريد وجه الله ويريد سمعة، يريد وجه الله ويريد مصلحته، يريد وجه الله ويريد شيئاً آخر، فإذا اختلطت مصالح النفس بمقاصد التعبد، فسد العمل ولم ينفع صاحبه، لكن أن تعمل العمل لوجه الله، ثم يأتيك من ثوابه العاجل غير ثوابه الآجل مصلحة في الدنيا فإن ذلك لا يضرك، كما قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: (يا رسول الله! أحدنا يعمل العمل فيسمع ثناء الناس عليه فيعجبه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تلك عاجل بشرى المؤمن).
فشتان بين أن يكون لك من المصلحة تبعاً للعمل والعبادة شيء، فهذا لا يفسده ولا يكدره، لأنك لم تقصد العمل لهذا الأمر المصلحي المادي، وبين أن تقول: نحن نجمع بين الاثنتين عبادة ومصلحة، نقول: لا.
لأن الله قال في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) والشرك ظلم عظيم، وهو أقبح القبائح وأكبر الكبائر وأعظم العظائم، وقد ذكره الله عز وجل في وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهم بِظُلْم} [الأنعام:82] اللبس بمعنى الخلط، أي: ولم يخلطوا إيمانهم {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] ما هو الظلم الذي لا يجوز لبسه بالإيمان؟ هو الشرك الذي قال الله عز وجل فيه على لسان لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
قد يتساهل الإنسان ببعض الأمور يظنها لا تؤثر في الديانة، ولا في العقيدة، ولا في الثبات على الملة، فيتهاون بها، يذهب إلى ساحر أو عراف، أو يذهب إلى أحد من أهل الكفر والزندقة، ويقول: الأمر هين، أحضر دجاجة صغيرة جداً، أحضرها لنا واقطع رقبتها في هذا المكان، ولا تسم عند ذبحها، يعني: اذبحها للشياطين وللجن، وللطواغيت، هذه الفرخة الصغيرة كفيلة بأن تخرجك من الملة وتحبط عملك كله، ليس بشرط أن تذبح فيلاً من أجل أن تخرج من الإسلام، أو تنحر ناقة من أجل أن تخرج من الإسلام؟ بل لو أمسكت نملة وقطعتها قسمين وذبحتها تريد أن تقربها لغير الله وهي نملة لا تكاد ترى تكفي أن تخرجك من الملة، لذا جاء في الحديث الصحيح: أن رجلاً دخل النار في ذبابة، وآخر دخل الجنة في ذبابة، فقد مر الرجلان على قوم عاكفين عند صنم لهم -هؤلاء القوم حبسوا الرجلين- قالوا للأول: قرب قال: ليس عندي شيء أقربه، -يريدون منه أن يقرب لصنم من الأصنام، لغير الله عز وجل قال: ليس عندي ما أقرب- قالوا: قرب ولو ذبابة، فقدم ذبابة، أي: مسك ذبابة وفصلها فدخل النار.
بعض الناس يتهاون بالمسألة، يظن أنه إذا لم يملأ الدنيا دماء لغير الله معناه: أن الدعوة ليس فيها شرك، قلت: لو قرب بعوضة، أو قرب تراباً، أو قرب بيضة، أو أي شيء لغير الله على وجه التعبد فإنه يكفي ذلك لإخراجه ومروقه من الملة، وهدر دمه وسقوط عصمة ماله وعرضه.
أما الآخر قالوا له: قرب قال: لا أقدم لأحد غير الله، سواءً وجدت أو لم أجد، الأول قال: ليس عندي ما أقربه، أي: المسألة ممكنة، لو عندنا أبشروا، قالوا: قدم ولو ذباباً، فقدم ذباباً فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، قال: لا أقرب، سواء كان عندي أو ليس عندي لا أقرب إلا لله عز وجل، فضربوا عنقه فأدخله الله الجنة.(233/12)
اعتقاد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه
ومن نواقض لا إله إلا الله: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، وأن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة خطيرة.
بعض الناس يزين له المقام في حوار؛ إما في قناة فضائية، أو في مقابلة، ويبدءون يأخذون رأيه في مسائل قاطعة ثابتة منصوص عليها، محكمة غير منسوخة، مسائل ثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما رأيك؟ ما هو أفضل هذا الأمر أو الأمر الآخر؟ فيخضع ما شرعه الله ورسوله للحوار، ثم ربما فضل ما جاء به أهل الزبالات ونجاسات الأذهان والأفكار على ما جاء به الله ورسوله، فهذا كفيل بإخراجه من الملة وكفره والعياذ بالله، ولذلك جاء في الحديث: (وإن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) تفضيل حكم الطواغيت -القوانين الوضعية- تفضيل أمور تخالف الشريعة على ما جاء به الله ورسوله، هذا من الشرك والعياذ بالله.
الهجمة الخطرة على رجال المسلمين ونسائهم، امرأة قد أفسدها التلفاز والقنوات وهي ترى ما يسمى بالفتيات الراقصات المغنيات المائلات المميلات، تقول: انظروا هذا الجمال أحسن من هذا الحجاب، ماذا يعني ذلك؟ معناه: أن التبرج الذي نهى الله عنه أفضل من الحجاب الذي أمر الله به، والله عز وجل يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] نهى الله عن التبرج، وفي المقابل قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآيات، فحينما تأتي فتاة من بنات المسلمين، مغرورة في سياحة إلى الخارج، أو سفر إلى الخارج، أو دراسة إلى الخارج، أو أثر قنوات فضائية، أو مصائب إعلامية، وتقول: ما أجمل هذا! هذا أحسن من العمعمة والغمغمة في العباية السوداء، ماذا يعني هذا؟ ألا يعني هذا أنها فضلت التبرج الذي نهى الله عنه على الحجاب الذي أمر الله به؟
الجواب
بلى.
الأمر خطير، وقد يفضي إلى الخروج من الملة، لكن لو أن فتاة قالت هذا الكلام، لا نقول لها فوراً: أنتِ كافرة؛ لأن هناك فرقاً بين تكفير النوع وتكفير الشخص المعين، حتى تحكم على الشخص المعين بالكفر، لابد أن تتقين أنه أدرك معنى هذا الكلام وفقه مقتضاه وأبعاده وما ينبني عليه، حتى لا تعجل بتكفيره وإهدار دمه وماله وعرضه، وهذه من الموبقات والمهلكات {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].(233/13)
بغض شيء من الدين
من نواقض لا إله إلا الله -ويفعلها بعض الناس فيرد عمله ويحبط، ولا يقبل منه شيء وهو لا يدري- أن يبغض شيئاً من الدين: (إن الله لا يقبل من عبد عملاً أبغضه) إذا صليت وأنت تكره الصلاة فإن صلاتك لا تنفع، ولو زكيت وأنت كاره للزكاة فلا تنفع الزكاة؛ لأن الله عز وجل قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] فهذا أمر خطير، بل هو من النواقض العظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قس على ذلك بعض الذين إذا جلسوا في المجالس قال: يا أخي! أنا أكره هؤلاء المطاوعة، أنا أكره هؤلاء المتدينين، أنا أكره هذه اللحى، أكره هذه الثياب القصيرة، أنا أكره هؤلاء الذين يصيحون في المنابر أو يتكلمون في المحاضرات، هذه كراهية لمن أوجب الله محبته، والله عز وجل يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] أي: يجب على المؤمنين أن يتحابوا، فلا بد من الولاء، والولاء هو المحبة والنصرة، فإذا تلفظت بكلام يقتضي بغض الصالحين، فأنت تبغض من أوجب الله محبته، لماذا كرهتهم؟ كرهاً لألوانهم؟ لا.
كرهاً لأجسامهم؟ لا.
كرهاً لأنسابهم؟ لا.
إذاً أنت لم تكره إلا ما شرعه الله، شرع الله توفير اللحى فكرهت، وشرع الله عدم الإسبال فكرهت، وشرع الله الالتزام بالطاعة والعبادة فكرهت.
إذاً: الكراهية هنا منصبة إلى ما أوجب الله فعله ومحبته، ومن هنا يكون الخلل الكبير والخطر العظيم الذي يقع فيه كثير من الناس، أو أولئك الذين يفضلون القوانين الوضعية على الأحكام الشرعية، يقول: لو كان عندنا قوانين وضعية لكنا في راحة، ولكنا سالمين من شيء اسمه رجم وقطع وقتل إلى غير ذلك، قالها من تلفظ بها وقد مرق بها من الإسلام إن كان يعرف المقتضى أو يعرف أبعاد ذلك، ولا أظن أحداً يقول: إن القانون الوضعي أفضل من الشريعة، ويرى أن الشريعة متخلفة، أو دون بلوغ مستوى الحضارة والرقي والتمدن والعدل والعدالة، وضبط مصالح الناس وأمورهم، لا يقول ذلك إلا من استقر الكفر في سويداء قلبه؛ لأنه بهذا يفضل كلام البشر على كلام رب البشر، ويفضل كلام الجاهلين على كلام أحكم الحاكمين رب العالمين عز وجل، وهذا أمر في غاية الخطورة، حينما تجد بعضهم يقول: الرجم وحشية، يربط الإنسان ويرجم بالحجارة حتى يموت؛ لأنه زنى وهو محصن، الله أحكم الحاكمين.
تقطع يد إنسان لأنه قد سرق مبلغاً بسيطاً لا يساوي عشرين دولاراً، أو عشرين جنيهاً، الله أحكم الحاكمين، يجلد؟ الله أحكم الحاكمين، ينفى؟! الله أحكم الحاكمين {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] متى كان البشر ذوو العقول الصغيرة أحكم، العقول التي رباها الله شيئاً فشيئاً حتى كبرت؟ {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151] علمها ما كانت تجهل، ثم هذه العقول لا تدوم؛ لأنها ترد إلى أرذل العمر، ليصبح الشخص لا يعلم من بعد علم شيئاً، متى تكون العقول التي بها التحول حاكمة على شرع الله ودينه؟!! الأمر في غاية الخطورة، ولذا حينما يعرض في بعض القنوات الفضائية، طرح بعض مسائل الحدود الشرعية للحوار، فإنه لا يجوز قبول الحوار أصلاً، أضرب لك مثالاً: زيد بن صالح بن سليمان شخص ما، قلنا: نريد أن نجلس معك نتحاور، نثبت هل أنت ولد زنا أو ولد حلال؟ هل هناك أحد يقبل الحوار؟ لا أحد يقبل بهذا الأمر أبداً.
إذا كان هذا شأنك في نسبك، وفي اسمك ووالديك، وفي صلتك بأهلك وذويك، لا تقبل في ذلك، فكيف يجوز أن نقبل الحوار والكلام فيما أثبته الله وأحكمه، وحفظه من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل وغير ذلك؟!! الأمر في غاية الخطورة.(233/14)
الاستهزاء بأمور الدين
كذلك أحبتي في الله: الاستهزاء بأمور الدين، هذا من نواقض لا إله إلا الله، فرب أقوام يقولون: لا إله إلا الله ويستهزئون بمن يطيعون الله عز وجل، ويستهزئون بما شرع الله عز وجل، فيخرجون من الإسلام وتحبط أعمالهم، ويكونون كفرة، وهم لا يشعرون، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66] معلوم أن هذه الآية نزلت في رهط من المنافقين الذين قالوا وهم يتضاحكون ويسخرون ويستهزئون، قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً -أي: بطونهم كبار يحبون الأكل- ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله هذه الآية، فلما علموا أن الوحي قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، جاءوا وناقة النبي صلى الله عليه وسلم تضرب في الأرض، والمنافق ممسك بزمامها والناقة مسرعة والحجارة تنكب قدم هذا المنافق وهو يركض، يريد أن يجاري الناقة، يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! كنا نخوض ونلعب، أحاديث الركب، نستمتع بالسواليف والنكت والطرائف في الطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:66].
فلذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ دينه وأن يحفظ عمله، وكثير من الناس اليوم يعمل عملاً ويضيعه، الناس كثير منهم في جنون، يجمع المال من الفجر إلى غروب الشمس، فإذا أوشكت الشمس أن تغرب أمسك الريالات يحرقها ريالاً تلو الآخر، أمسك الحسنات يحرقها حسنة تلو الأخرى.
يصلي الفجر، ويقرأ القرآن ويتصدق، ويجلس في المسجد، ويأتي بالأذكار، ويستغفر، ويسبح، لكن مشكلته أنه يغتاب، يحرق الحسنات واحدة واحدة، يقول كلاماً يخرجه من الملة، يستهزئ بالمتدينين وباللحى، ويستهزئ بالدين، وبرجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستهزئ بالحسبة، وبالحدود وبالقصاص، وبالحرمات وبالآداب وبالحجاب، وبالعفاف وبالطهر وبالحياء، ويستهزئ بما أوجب الله احترامه ومحبته، فيمرق من الدين وقد جمع من الحسنات ما جمع، فتحبط ويضيع العمل ولا ينفعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فما بالك إذا أضفت على ذلك الصغائر التي يحتقرها العبد، فإذا جاء يوم القيامة وجدها كالجبال، تحرق الأعمال فلا يجدهن.
الحقيقة أن كثيراً من الناس اليوم لا يشكون من قلة الحسنات، ولكنهم يشكون من كثرة السيئات، عندهم حسنات: صلوات، وقراءة قران، وصدقات، وكفالة أيتام، وأعمال خير وجود، لكن يقابل الخير شر أكثر، والموازين يوم القيامة، كفة حسنات وكفة سيئات، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:6 - 11].
لذا كان لزاماً على العبد إذا عمل الصالحات أن يحفظها من لسان تحرقها، ومن ردة تفسدها، ومن شرك يحبطها، ومن غيبة تفنيها، ومن حسد يتلفها، احفظ أعمالك -يا أخي المسلم- فإنها تنفعك بإذن الله عز وجل.
ولا غرابة أن نرى كثيراً من العلمانيين وكثيراً من الذين يقع بعضهم في مثل هذه المهلكات العظيمة، بالاستهزاء والسخرية والعبث.
أحد الشباب يطلعني على قصاصة من مجلة كتب فيها الكاتب -يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك- كان هذا الكاتب متديناً صالحاً -أنا لا أعرفه شخصياً ولكني سألت عنه- قالوا: كان على منهج وعلى خير، ولكن يبدو أنه ابتلي بداء لم يكشفه إلا ذنبه هذا، وهو يريد أن يشتهر، ويريد أن يعرف فلم يعرف، فاتجه إلى الجرأة على القضايا الخطيرة الكبيرة، من كلامه اليوم حول كلام ابن مسعود رضي الله عنه: [إن الغناء ينبت النفاق في القلب] يقول: ولعل الذي قال هذا الكلام كان رجلاً صالحاً من السلف الصالح قد ابتلي بحب الغناء في السر، فعاش انفصاماً وازدواجاً بينه وبين نفسه أورثه أن يقول هذا الكلام.
سبحان الله العلي العظيم! يقال هذا لـ عبد الله بن مسعود الذي قال صلى الله عليه وسلم في ساقه لما ضحك الصحابة من ضعفها ودقتها قال: (أتضحكون من ساقه، فإنها أثقل عند الله يوم القيامة من جبل أحد) هذا الصحابي الذي قرأ سورة ق على سطح الكعبة فضرب، فتحمل الأذى والبلاء في سبيل الله في العهد المكي، هذا الصحابي الجليل يقول عنه هذا الكاتب المسكين: ولعل القائل كان مبتلىً بحب الغناء أو باستماع الغناء سراً، فأورثه ذلك انفصاماً وازدواجية في شخصيته -فأورثه عقدة نفسيه- وقال: [إن الغناء ينبت النفاق].
وفرق بين أن يبتلى الإنسان بمعصية وأن يتطاول بالكلام عمن ينهى عنها وينكرها، بعض الناس قد يبتلى بمعصية كشرب خمر، فعل منكر، ولكن تجده يقر ويستغفر: يا رب اغفر لي، يا رب استر عليّ، يا رب تجاوز عني، اللهم تقبل هذه الصدقة واجعلها كفارة عن هذه المعصية ويقول: يا رب إني تائب، وأرجع عن هذه المعصية ولا أعود، ولو فعل ثانية ذنباً عاد ثالثة ورابعة بالتوبة، فهذا يرجى له التوبة، وباب التوبة مفتوح، لكن المصيبة في إنسان يرتكب ذنباً ثم يحلل للناس فعل الذنب، يقول: من قال إنه حرام، يبتلى بفعله ويتحمل أوزار الناس الذين يفعلونه بجرأته على الكلام فيه، وجرأته على علماء الإسلام الذين حرموه ونهوا عنه، إذا كان الأنبياء وأولو العزم من الرسل يقول الواحد منهم يوم القيامة: (يا رب! سلم سلم، يا رب! سلم سلم، يا رب! سلم سلم) من هول المطلع، وشدة الفزع، وعظم الأمر، والناس في حال عظيم، والعرق يلجم الناس، أو إلى ثديهم، أو إلى ركبهم، أو إلى الكعبين منهم، الأمر عظيم جداً، ويأتي من الناس من يقول: لا.
سجلوا عليه، اسمعوا ما شئتم من الأغاني وعلى حسابي، أنا أفتيكم بها، افعلوا ما شئتم من الربا وسجلوها على حسابي، أنا أفتيكم فيه، ويفتي الرجال ويفتي النساء بالمسائل والأمور والعظائم والجلائل ويقول: قيدوا على حسابي، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] وهذا من الأمر الخطير الجليل.
أقول: الذين يسخرون بالدين وأهله، لا غرابة في شأنهم، فقد أخبر الله عز وجل عنهم من قبل، كما قال في محكم كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33].
أحبتي في الله: نختصر ما تبقى من موضوع كلام هذه الليلة، مؤكداً أن ما يردده الجاهلون والحاقدون والمغرضون من عبارات السخرية والاستهزاء بالصالحين والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ينبغي ألا يفت في عضد العاملين، وألا يجعلهم في ضعف أو شك من أثر الدعوة إلى الله عز وجل، إن أناساً يقولون: ماذا تنفع الخطب والمحاضرات والكلمات، والندوات والأشرطة والكتيبات وهذه اللقاءات، ماذا تنفع أمام القنوات الفضائية التي تخاطب الملايين -ملايين البشر يخاطبون عبر القنوات الفضائية والإنترنت- وأنتم قابعون في هذه المساجد، ونقول: هذه المساجد تهز الجبال هزاً، هذه المساجد تغير وجه الأرض، المساجد هي التي طردت الفرنسيين من الجزائر، المساجد هي التي جعلت أجهزة المخابرات الغربية تحسب ألف حساب لكل مسلم متدين صالح تقي نقي عامل، حلقات تحفيظ القرآن الآن تزعج الغرب إزعاجاً لا يخطر على بال، ليس شرطاً أن يوجد عندنا قنابل نووية بعدد القنابل التي تنام عليها إسرائيل الآن في فلسطين.
ومعلوم أن عبد القدير خان الذي صنع القنبلة النووية في باكستان الذي هدد بالاغتيال قال: يوجد ألف عبد القدير خان مثلي قد علمتهم سر صناعة القنبلة النووية فلا أخشى لو قتلتموني، وتريد دول الغرب أن تنظف المنطقة تماماً من السلاح النووي في الوقت التي تنام إسرائيل على مائة قنبلة نووية، وأكثر من ذلك، لكن والله إن حلقات تحفيظ القرآن، وهذه الندوات والمحاضرات، وخطب المنابر، وهذه الأشرطة، والخطاب الدعوي، والله إنه يقض مضاجعهم، فلا تستهينوا بالسلاح الذي في أيديكم، ولا تتهاونوا بالخير الذي بين يديكم، ولا تظنوا أنكم ضعفاء وقد آتاكم الله من وسائل القوة ما يعجز عنه أولئك، ليست المسألة آلة وجماد وعدة وسلاح، القضية كلمة التوحيد وإثباتها لشيء واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ألوهية وتفرد في الربوبية، فلا تدبير ولا تصرف في كل شأن إلا له وحده سبحانه، ولا عبادة صغرت أو كبرت، جلت أو دقت إلا له وحده لا شريك له، وأتم الصفات وأجمل الأسماء وأكمل السمات لله عز وجل، أكمل الأوصاف وأجل الأسماء لله عز وجل، لا شبيه ولا ند ولا مثيل ولا نظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
لا إله إلا الله، ما أثبته الله نثبته، وما نفاه الله ننفيه عن نفسه، وما أثبت النبي صلى الله عليه وسلم نثبته، وما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ننفيه.
إذا سئلنا عن أمر ليس عندنا فيه دليل فلا نتقول: على الله بغير علم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] إن سئلت عن شيء أثب(233/15)
فقدان الولاء والبراء عند كثير من المسلمين
وهنا مقتضىً عظيم: محبة أهلها الناطقين بها، العاملين بمقتضاها، وهو الولاء والبراء، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
الولاء والبراء يذوب ذوبان الملح بالماء في هذا الزمان، وكثير من المسلمين أصبح لا يقدر للأمر قدره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ما الدليل على أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض؟ ما من دولة كافرة إلا واعترفت بإسرائيل ولها سفارة وتبادل تمثيل، والذين والوها قبلوا ذلك، وجعلوا لهم سفارة في إسرائيل ولإسرائيل سفارة عندهم، وتعامل تجاري، وتعاون عسكري واقتصادي وإعلامي في كل المجالات.
والدليل العملي الحسي المشاهد الذي يقول: إن الكفار بعضهم أولياء بعض أقول لك عنه: هناك اتفاقية اسمها اتفاقية الشنجن، اتفاقية الشنجن هي دليل على أن الكفار بعضهم أولياء بعض، عشر أو إحدى عشرة دولة نصرانية إذا حصلت على فيزة من إحدى هذه الدول، تكفي الفيزة أن تطوف بها كل البلدان، أي: لو أردت أن تسافر إلى لوكسمبورج وهولندا وألمانيا وأسبانيا وفرنسا والنرويج والسويد وغيرها لا يحتاج أن تمر على سبع سفارات، بل تكفي تأشيرة دولة واحدة، وهذه الدولة بتأشيرتها تسمح لك أن تطوف في كل الدول، هذا معنى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73].
ومن معناه: اليورو؛ العملة الأوربية المتحدة، والناتو الحلف العسكري المتحد، والسوق الاقتصادي؛ الأسواق الأوروبية المشتركة، ولاء في جميع المجالات، ولاء سياسي، وولاء اقتصادي، وجغرافي، وإعلامي، ولاء متكامل فيما بينهم، ولذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] أخبر الله أن الكفار يوالي بعضهم بعضاً {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] إذا كان المسلمون لا يسعون لتحقيق ولاء فيما بينهم كولاء الكفار فيما بينهم، فإن الفتنة والفساد يكون كبيراً في الدنيا، هذا ملاحظ الآن: مشاكل المسلمين وانقسامهم وتفرقهم أمر عظيم.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين أجمعين.
كثير من المسلمين لا يعطون الأمر قدره، ولا يلتفتون إلى المسألة بحقيقتها في باب البراء وفي باب الولاء، فتجد الواحد يقع في موالاة الكفار يدري أو لا يدري:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
يتشبه بهم فيما هو من خصائصهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، وفي رواية: (حشر معهم) تجده يقيم في بلادهم، يخرج مسلماً من بلاد الإسلام ليقيم في بلاد الكفار، أولاده يولدون هناك، فلا يعرفون من العربية حرفاً، ولا يقرءون القرآن، ولا يتعلمون الدين، ويعيشون في بلاد الكفر، ولا يقض مضجعه ذلك، وما من مصيبة أعظم على المسلمين الذين عاشوا في بلاد الغرب ولم يدركوا خطورة الأمر والبلاء والفتنة العظيمة التي يقبلون عليها، كفتنة ذوبان وفساد أولادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله! مسلم يبكي لأن ابنته ذهبت تصادق كافراً يزني بها وتتزوجه في الكنيسة رغماً عن أنف أبيها, مسلم يبكي؛ لأن ولده ترك دينه وعلق الصليب وسمى نفسه جرج وديل وغيره، وآخر يرتبط بامرأة سفاحاً وينجب أولاداً، ثم يقول: يا ألله! حلوا مشكلتي، أنا لا أريد أن أضيع هؤلاء الأولاد، من قال لك إنهم أولادك؟ أبناء زنا.
الإقامة في بلاد الكفار إذا لم تكن للحاجة أو الضرورة أو مصلحة فهي شر محض لا تجوز، تجد كثيراً من المسلمين يقع في الولاء مع الكفار وهو لا يدري، يقيم في بلادهم، فينقاد إلى قوانينهم، ولا يستطيع أن ينكر شيئاً، بل حتى في نفسك وأهلك وبيتك لا تستطيع، قانون في بلاد الغرب: إذا كنت تسكن في بلاد الغرب فعليك أن تدرس أولادك إجباري، هل توجد مدارس إسلامية في كل مكان؟!
الجواب
لا.
إذاً أنت مجبر أن تدرس أولادك في المدارس التي يدرس فيها أبناء الكفار، وهذا يعني أن ولدك وبناتك سوف يتعلمون لغة الكفار، ليست القضية لغة، بل عاداتهم، أمر عادي جداً أن يبدي بعضهم لبعض العورات، أو أن يختلطوا، أو أن يشربوا الخمور، أو أن يصادق الفتى الفتاة في الثالثة عشرة والرابعة عشرة من العمر، وأن تكون للبنت الحرية المطلقة في نفسها، إذا بلغت ستة عشر عاماً أو ثمانية عشر عاماً لا يتدخل فيها أبوها، عجائب وغرائب لا تخطر لكم على بال، فما بالكم بمسلم يقيم في بلاد الكفار ليس لوجوده ضرورة، ولا مصلحة، ولا حاجة، اللهم إلا الفتنة بالكفار؟! إذاً ما هو الولاء إن لم يكن هذا هو الولاء؟! ما هو الحب للكفار إن لم يكن هذا هو الحب؟! بعضهم يرضى أن ينتقل إلى بلاد الكفر يقول: أنا في بلدي لا أقبض إلا ثمانمائة دولار وفي بلاد الكفار راتبي ألف دولار، يعني: تبيع الدين والذرية والآخرة بمائتي دولار فرق في الراتب؟!! أمر عجيب وغريب، نسأل الله السلامة والعافية.
كذلك إذا مات أحدهم في بلاد الكفر، وهي غربة في الحياة وغربة في الممات، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97] الذين يموتون في بلاد الكفر، حينما تأتي الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم، يموتون في بلاد الكفر على غير إعزاز لدين الله، أو حاجة تلجئهم، أو ضرورة أو مصلحة تقتضي ذلك: {فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97]؟ ما الذي أجلسكم في بلاد الكفار؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97 - 99].
من موالاة الكافرين: إعانتهم ومناصرتهم والاستعانة بهم والثقة بهم، واسمعوا إلى هذه القصة الجميلة والحوار الشيق بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي موسى الأشعري.
روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لـ عمر رضي الله عنه: [لي كاتب نصراني؟ قال عمر: مالك قاتلك الله! أما سمعت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً؟! قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم وقد أقصاهم الله] انظروا إلى هذا المعنى والفقه الدقيق الجليل من إمام الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وروى الإمام مسلم وأحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة، فقال: إني أردت أن أتبعك وأصيب معك -أي: أذهب أقاتل معك وأحصل من الغنيمة- قال صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا.
قال صلى الله عليه وسلم: ارجع فلن أستعين بمشرك) فالتساهل في شأن الكفار وتقريبهم في أمور لا ضرورة إليها، هذا أمر خطير جداً، ونحن اليوم نرى أن بعض بيوت المسلمين فيها من الخادمات الكافرات التي تتولى رضاعة الطفل وحضانته وتربيته وتغسيله ولباسه وترفيهه، والذهاب به وتولي شأنه، والأم لا ترى الطفل إلا نصف ساعة أو ساعة، والأب مشغول في عمله وتجارته وأصدقائه، وفلذات أكباده المسلمين في يدي الكافرين والكافرات، أيجوز هذا يا عباد الله؟! مسلم يجعل الكافرة تعيش في بيته وتربي أولاده؟! مسلم يجعل الكافر يعيش في بيته ويربي أولاده؟! بعض المسلمين تجد بيته كبيراً، لا تقدر مساحته، وتجد عنده الكافر والبوذي والنصراني والوثني والهندوسي، عشر جنسيات يعيشون في بيته، ولو قلت له: عندنا بيت فيه فقير ويتيم وأرملة وعجوز مسكينة، نريدك أن تصرف عليهم وتعطيهم كل شهر من مالك، وتتولى رعايتهم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، والصائم لا يفطر، والقائم لا يفتر) قال: وهل أنا ضمان اجتماعي؟! وهل أنا وكيل على ذرية آدم؟! انظر الحرمان، البيت على عشر جنسيات من الكفار، ما بين مزارع، وسائق، وخادم وخادمة وغير ذلك، ولكن يصعب على النفس أن تنفق على مسلم حنيف يصلي ويسجد ويركع، هذا حرمان، بل من أعظم البلاء أن تجد البيت مسرحاً ومرتعاً للكفار يعيشون فيه، وبعضهم إذا قلت له قال: لا نأتي بخادمة مسلمة، هذه تسرق، عليك بالنصرانية الأمينة، نسأل الله السلامة والعافية، أين الولاء؟ أين البراء من الكافرين؟ ويزيد الطين بلة إذا رأيت بعض المسلمين يشارك الكفار في أعيادهم، عيد رأس السنة، عيد الكرسمس، عيد هلوين إلى غير ذلك، منذ فترة فوجئ الناس أن السوق نفذت منه الورود الحمراء، والأقمشة الحمراء، والملابس الحمراء، والزينات الحمراء، فعجب الناس، وإذا بنا حيث لا ندري أن فريقاً من أبنائنا وبناتنا يحتفلون بعيد الفلانتيم؛ وهو عيد الحب، وفي هذا العيد يتهادى الناس القلوب الحمرا(233/16)
الأسئلة(233/17)
الرد على من يقول: إن الإيمان قول لا عمل
السؤال
ما رأي فضيلتكم بقول من قال: إن الإيمان بالقلب، ونحن نقول: لا إله إلا الله ويكفي بلا عمل؟
الجواب
هذا ليس بصحيح؛ لأن الإيمان الحق في أمره وشأنه أنه قول واعتقاد وعمل، اعتقاد القلب، ونطق اللسان وعمل الجوارح، أما المعرفة القلبية، فلو قلنا: إن الإيمان هو المعرفة القلبية، لكان إبليس من المؤمنين؛ لأن إبليس يقول: رب بما أغويتني، رب فأنظرني، هو يعرف أن الله رب ويخاطب الله عز وجل بالربوبية ويعرف ذلك، ويقتضي أن أبا طالب من أهل الجنة والنبي يقول: (أشفع فيه فيوضع في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه) أبو طالب يقول: ولقد علمت -وهل هناك أعظم من المعرفة-:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
إذاً: الإيمان معرفة القلب ويقينه واعتقاده، ونطق اللسان باللفظ وأعمال الجوارح.(233/18)
صعوبة النطق بالشهادة عند الموت
السؤال
بعض الناس يقول: إذا جاءني الموت قلت: لا إله إلا الله ودخلت الجنة كما في الحديث، فما تعليقكم على ذلك حفظكم الله؟
الجواب
يظن بعض الناس أنه من السهولة أن يتلفظ بلا إله إلا الله عند الموت، وأنا سوف أخيل لك الأمر: لو كنت تمشي في سكة ظلماء، وفي طريق موحش وأنت في حال من الجوع والتعب والسقم، ثم جاء من ضربك على صدرك ضربةً قال: ما اسمك؟ والله إنك تفزع ولا تعرف ما اسمك الذي تنادى به ليل نهار، حال الموت -يا أخي- حال سكرات، وحال غربة، الذي ينازع سكرات الموت في عالم آخر والناس من حوله لا يدري بهم، في حال عظيم، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] ليس بالسهولة أن الإنسان يقول: لا إله إلا الله عند الموت، إلا من أراد الله به خيراً، ومن عاش على شيء مات عليه، فالذي يعيش على اللهو يموت على اللهو شاء أم أبى، والذي يعيش على الفجور والخنا يموت على الفجور والخنا شاء أم أبى، والذي يعيش على طاعة الله وذكره والصلاة والعبادة، يلهمه الله لا إله إلا الله في حال الكرب والشدة، وفي حال السكرات والنزع، فيقول: لا إله إلا الله، بل إن بعضهم تجده يسمع منه أنين في الداخل: إه إه، وتجده يحرك أصبعه، يا ألله! يستطيع بالأنين أن يقول: لا إله إلا الله، والأصبع يتحرك، فلا تظن المسألة سهلة، سكرات الموت أمر عظيم والإنسان يحال بينه وبين نفسه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:24 - 25] الإنسان يحال بينه وبين قلبه حيلولة عظيمة، فليس بالسهولة أن يقول: لا إله إلا الله إلا إذا كان من أهلها وأهل مقتضاها.(233/19)
من بدع دفن الميت
السؤال
يقول: أحسن الله إليكم، إنني أسكن في قرية، وعندما يحفرون قبر الميت يرددون كلمة: نبينا محمد، حيث يقسمون إلى مجموعتين مجموعة تقول: نبينا والأخرى تقول: محمد، فهل في هذا شيء وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نعم.
في هذا شيء وهو من البدع والمحدثات ولم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن الخلفاء الراشدين هذا، ولا عن سلف الأمة الصالحين الهداة المهديين.
إنما يدعى له بالتثبيت بعد الدفن، فينتظر عند قبره قليلاً ثم يدعى له.(233/20)
ثواب من أدخل كافراً أو أعان على دخوله الإسلام
السؤال
بيننا وفي بلدنا أناس لا يعرفون لا إله إلا الله، أتونا من بلدان قريبة وبعيدة.
فهل من توجيه كلمة للشباب للتعاون مع مكاتب الجاليات والحصول على كتب وأشرطة وتوصيلها لهؤلاء الكفرة، لعل الله أن يهديهم حتى يلتحقون بلا إله إلا الله وبالإسلام، ولا يخفاكم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)؟
الجواب
أنا أشكر هذا السائل على هذه اللفتة الطيبة، وإذا تذكرنا ما مضى في بداية هذه المحاضرة من الفضائل العظيمة والهبات والكرامات الجسيمة، التي تنبني على لا إله إلا الله والعمل بها، فما بالك إذا أكرمك الله وكنت سبباً في رجل كان ساجداً لوثن وصنم، أو مثلثاً عابداً للصليب، أو لبوذا، أو للأوثان، ثم هداه الله وأصبح من أهل لا إله إلا الله بسببك، سواء بسببك مباشرة أنت الذي شرحت له وأقنعته، أو بسببك أنت الذي وصلت إليه الكتاب والشريط الذي سمعه وقرأه فنفع الله به فاهتدى، أو أنت الذي ساهمت في دفع راتب الداعية الذي شرح له لا إله إلا الله ودعاه فأسلم، فتكون قد نلت خيراً عظيماً، وكما جاء في الحديث الذي قرأه الأخ: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
قد يكون الإنسان قليل العبادة، لكن يبلغ بالدعوة منازل عظيمة لم يبلغها العباد، والسبب عدد الذين أسلموا على يده، فكل صلاة وكل حج وصيام وجهاد وذكر ودعاء يكون في موازين أعمالك مثل الذي عملوه، ومن اهتدى بهديهم وتتابع، والعبادة هي التجارة الرابحة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]، (من دل على هدىً فله أجره، ومثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً).(233/21)
كيف يعلم المسلم أن الله ورسوله أحب إليه من نفسه وماله وولده
السؤال
كيف أعرف أن الله ورسوله أحب إليّ من نفسي ومالي وولدي باللسان، أو بالفعل، أو بالنية؟
الجواب
هذا بالقلب، وباللسان، وبالفعل، فإذا جاء داعي الزكاة قلت: لا والله المال أحب إلي من الزكاة، إذا أمرت بالحج قلت: لا والله الراحة أحب إلي من الحج فلن أحج، إذا جاءت الطاعة والصلاة قلت: والله الفراش لذيذ وأنا تعبان أريد أن أنام، وإذا دعيت إلى فاحشة قلت: شهوتي ولذتي مقدمة على طاعة الله ورسوله، هذا معناه أن ذلك دليل على نقص إيمانك، فإن كان ما ارتكبته معصية، فذلك نقص في المحبة ونقص في الإيمان ولا نقول بكفرك، ولكن نقول: إن فضلت ذلك تفضيلاً وعقدت القلب على أن ذلك أفضل فهذا هو الكفر، وإن قلت: أنا ضعيف ومذنب، أنا مقصر ومفرط، والشهوة غلبتني، نقول: هذه من المعصية، ودليل ميلك إلى ذلك أو دليل انصرافك عن الاستحلال والتفضيل إلى الاعتراف بالتقصير والمعصية أنك تتوب وتئوب وترجع، فرق بين من يعمل الذنب ويقول: هذا ذنب، لكنه في الحقيقة يفضل شهواته على طاعة الله ورسوله، وبين من يعمل الذنب وهو يقر بتقصيره وتفريطه ويعزم على العودة والرجوع، الأول لا يبالي بالمعصية ولا تهمه ولا يفكر في التوبة بعد ذلك، وسيان إن أطاع أو عصى، أو أقبل أو أدبر، أو زاد أو نقص، لكن الثاني: تجده ليست المعصية دأباً له ولا من طبيعته ولا من سجيته، فإذا فعلها ندم، وإذا فعلها فعل الصالحات التي تمحوها ويعاهد على التوبة، وقد يقع ثانية أو ثالثة فيعود بالتوبة مرة أخرى، شتان بين هذا وهذا.(233/22)
حكم الدعوة إلى الله في هذا العصر
السؤال
هل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في هذا العصر فرض عين أم فرض كفاية؟
الجواب
الدعوة فرض على عموم الأمة، واجب على عموم الأمة وهي من فروض الكفاية، إذا قام بها من تبرأ به الذمة سقط الإثم على الباقي، واليوم الحاجة ماسة إلى كل من لديه المقدرة على الدعوة أن يساهم؛ لأن الواقع يشهد أن حاجة الناس إلى الدعوة تدل على أننا لو أتينا بعشرة أضعاف الدعاة الموجودين، وعشرة أضعاف مكاتب الدعوة، وعشرة أضعاف الجهود القائمة، لما غطت الحاجة، ولذلك تصبح الدعوة متعلقة برقابنا جميعاً، سواء منا السابق في الخيرات، أو المقتصد، أو الظالم لنفسه، لكن الذي لا يستطيع عليه أن يساهم بالمال، أنت تدعو بمالك، وهذا يدعو بلسانه، وهذا يدعو بجهده، وهذا يدعو بعلمه، وهذا يدعو بتأليفه، فالدعوة على عامة الأمة متحتمة ومتعينة، لا ينبغي التفريط فيها، يقول شخص: الدعوة مسئولية وزارة الشئون الإسلامية، ومسئولية الهيئات، ومسئولية الدعاة والقضاة والعلماء، أنا ليس لي علاقة، نقول: لا.
أنت عليك نصيب تتحمله، النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وأن المسيح ابن الله، يدفعون مبالغ تبرعات للكنائس وتنصير المسلمين، وهم أهل الخمر والزنا والخنا، يتبرعون للمؤسسات الدينية الكنسية، وأنت أيها المسلم المصلي تقول: لا.
الدعوة مسئولية الوزارة والعلماء، إن لم تدع بلسانك ادع بمالك، الدعوة بطباعة الكتب، من أين الأموال؟ صحيح أن هناك أموالاً تنفق، الدولة وفقها الله تنفق، والمسئولون وأهل الخير والأثرياء، لكن لا تزال الحاجة ماسة.
خمسة وتسعون في المائة من المعوقات الدعوية معوقات مالية مادية، ولو أننا فعلاً نخدم الدعوة لجعلنا من رواتبنا شهرياً قسطاً نتبرع به للدعوة، الراتب شهرياً يدفع منه قسط للخادمة، ويدفع منه قسط للترفيه، ويدفع منه لفسحة الأولاد، ويجمع منه قسط لكذا وكذا، لماذا لا نخرج قسطاً للدين والدعوة؟ أم أن الدعوة أرخص وأدون وأقل من الخادمة وفسحة الأولاد والملاهي والترفيه؟!! مصيبة عظيمة أننا لا نعطي الدعوة اهتماماً، تجد الشخص يعطي العطاء والسخاء الكثير على أمور كثيرة، لكن إذا دعي لينفق لدين الله عز وجل بخل: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(233/23)
ترك العمل خوفاً من الرياء
السؤال
أنا شاب أعد من المهتدين، وعندما أستعد لعمل مشروع خيري أو عمل صالح أو طاعة أجد في نفسي شيئاً من العجب والرياء، وأترك هذا العمل خوفاً أن يحسب عليّ يوم القيامة ولا يحسب لي، وخصوصاً أن هذا العمل إن لم أعمله وأقوم به فلن يقوم به أحد.
فأرشدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
يا أخي الحبيب! لا تدع العمل لهذه الشبهة وهذه الوساوس وجرد النية لله عز وجل، قبل أن تقوم بالعمل اسأل نفسك: هذا العمل من الذي يجازيك عليه؟ الله عز وجل، من الذي يكرمك به في حياتك وبعد موتك؟ الله عز وجل، إذا حققت الإخلاص لا مانع، لكن بعض الناس إذا قال لك: يا أبا فلان! أتسافر معنا غداً إلى الدمام تقول: اصبر حتى أشاور نفسي، لا يمنع يا أخي إذا دعاك أحد إلى خير أن تقول له: اصبر، حتى تحقق النية، فقد كان بعض السلف إذا دعي إلى فعل خير، قال: أنظروني ألتمس نية، أي: اتركوني أجمع نيتي حتى لا أجعل فيها هماً لمصلحة أو دنيا أو حطام فان، فإياك أن تدع هذا العمل، بحجة أنك تقول: أخشى أن يصيبني الرياء، وإياك أن تقدم عليه دون أن تجرد النية، وتجريد النية: أن تسائل نفسك، وتحقق الأمر، هذا الأمر ليس فيه مصلحة ولا فيه نفع، والناس إن ذموك أو مدحوك لا يقدمون ولا يؤخرون، اللهم إلا أن الذكر الحسن ينفعك إذا صدقت مع الله عز وجل، فحقق النية وأقدم، ولا يكن الوساوس سبباً في دفعك أو منعك من الخير.(233/24)
كلمة عن الدشوش
السؤال
هل من كلمة حول كثرة الدشوش في هذا الزمان، وخصوصاً الآباء حول هذا الموضوع؟
الجواب
يا أحبابي: لا أحد يستطيع أن يكون رقيباً على كل نفس، أو شرطياً على كل رأس، أو حسيباً على كل إنسان، لكن يبقى شيء واحد وهو: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} [النبأ:31 - 32] {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63].
التقوى: أن تراقب الله في السر كما تراقب الناس في العلانية، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، نربي أنفسنا على الإيمان والتقوى والمجاهدة، وإدراك أن مثل هذه الأمور لا تقدم ولا تؤخر، هذا خير لنا وأحسن تأويلاً، نربي النفوس على ذلك، وأيضاً نقدم النصيحة، سيما في الذين بلوا في هذه الأطباق واستقبلت الأصناف من القنوات، والآن ليست القضية أغنية أو راقصة، الآن أصبح البث المجاني بالأفلام الخليعة، إسرائيل الآن تبث على بلاد المسلمين وقت صلاة الجمعة بثاً خليعاً، لماذا؟ حتى يضل أبناء المسلمين، فمن الذي يرضى أن يكون هو وذريته لجهنم حطباً؟! من الذي يرضى أن يكون ضالاً مضلاً يحمل وزره وأوزار أبنائه؟! الشخص منا يتعب وينفق ويعطي ويعالج ويغذي ويكسو ويعلم، ويقدم كل شيء للأولاد، فإذا جاء أهم شيء وهو والدين والتربية والخلق والعفاف والحياء، قال: لا.
اتركهم يفعلون ما يشاءون، عجب لنا! نبني البيوت ثم نفتح الأبواب للخنازير والكلاب تدخلها، نتعب على تربية الأولاد ثم نفتح الدشوش على قلوبهم وعقولهم تفسدها؟!! هذا من التناقض وهذا من المؤامرة، هل رأيت رجلاً يدب في الليل دبيباً والسكين في يده ليطعن أطفاله، هذا أمر لا يتصور؟! لكن نقول لك: متصور وموجود، من هو؟ هذا الذي يضع الدش والشاشة أمام أولاده، يطعنهم كل يوم طعنة نجلاء في عقولهم وقلوبهم بهذا الدش الذي يضعه، لكن الناس لو تقص لهم قصة، تقول: بالأمس قبضت الشرطة على رجل طعن ولده وابنته، كل يتحدث بالقصة في المجالس، لكن آلاف الذين يطعنون أولادهم وبناتهم بإدخال القنوات الفضائية والأفلام الخليعة فيها، الأمر سيان ولا يعنيهم من الأمر قليل ولا كثير.(233/25)
الشيشان
السؤال
يقول: الشيشان أنسيت أم ماذا؟ ولماذا؟ وهل لكم من كلمة عن أحوالهم وأحوال المسلمين هناك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أسأل الله عز وجل أن ينصرهم بنصره، لا شك أن أحوال المسلمين في كل مكان -وليست في الشيشان فقط- تشكو إلى الله عز وجل، لكن البذل والدعاء والنصرة مطلوبة، ولا شك أن الأخبار الآن ضعفت عما كانت عليه من قبل، وهناك تسلط على مواقعهم حتى في الإنترنت، تدمر بين فترة وأخرى، ولكن يقيننا بأن العاقبة للمتقين، ولعل المجاهدين قد تحيزوا إلى فئة أو جهة، نسأل الله أن يقويهم فيعيدوا الكرّة على هؤلاء الملاحدة وما ذلك على الله بعزيز.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(233/26)
نعيم أهل الجنة
إن الجنة وما فيها من نعيم ولذات، وسرور وحبور، وسعادة واطمئنان، وبلوغ أمنيات وملذات لا نستطيع أن نحصرها، ولكن قد جمع وصفها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ولكن لابد للجنة من أعمال تكون سبباً في دخول صاحبها الجنة، فاقرأ هذه المادة لتطلع على نعيم الجنة وتعمل بما يوجب دخولها.(234/1)
حقيقة الدنيا أمام الآخرة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجا ًوقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، لم يعلم طريق خير إلا ودلنا عليه، وما علم سبيل شرٍ إلا وحذرنا منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة: لابد أن نعلم أن هذه الحياة الدنيا -ونحن فيها على قليلٍ من اللباس، وقليلٍ من الطعام- متاعٌ، وأن الآخرة هي البقاء وهي الدار: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77].
صور النبي صلى الله عليه وسلم نعيم الدنيا بالنسبة إلى نعيم الجنة كما رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب: وصف الجنة، فقال: (مثل هذه الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع).
انظر يوم أن تجلس على ساحل محيطٍ من المحيطات أو بحرٍ من البحار، ثم تضع إصبعك في البحر، ثم تنزع إصبعك مرة أخرى فانظر كم نقص من البحر، هل نقص نصفه أو ربعه أو لتر؟ إن البحر لم ينقص شيئاً، فإن ما علق بأصبعك من قطرة من الماء هي الدنيا، وأما الآخرة فهي البحر كله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الدنيا في الآخرة كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم -وأشار بالسبابة صلى الله عليه وسلم ثم قال-: فلينظر بم يرجع).
أيها الأحبة في الله: لذا إن الله عاتب المؤمنين إذا قعدوا بالدنيا عن الآخرة، واشتغلوا بالفاني عن الباقي، وتعلقوا بالزائل عن الدائم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].
أحبابنا: إن الله عز وجل قد جعل نعيم الجنة أضعافاً مضاعفة، وقد جعل فيه فضلاً لا يحيطه عقلٌ، وحسبك أن موضع سوطٍ في الجنة أعظم وأجَلُّ وأبرك وأطيب من الدنيا وما فيها: (ولقاب قوس أحدكم من الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمس) قاب قوس أي: موضع قوسٍ في الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمس.
لكن اعلموا يا عباد الله! أن هذه الدنيا لئن كانت مكدرة فإن الجنة خالية من الشوائب والكدر، ألا ترى أن طعام أهل الدنيا وشرابهم يتحول إلى الغائط والبول ورائحة كريهة؟! ألا ترى أن نساءنا يقطعهن الحيض والنفاس، ألا ترى أن شيئاً في هذه الدنيا يكدره ما يكدره؟ أما نعيم الجنة فلا يشوبه كدرٌ، بل إنه نعيمٌ باقٍ دائم، ولذلك مثل الله متاع الدنيا كزهرة وورقة خضراء تيبس ثم تذروها الرياح، فكأن لم تكن شيئاً، أما الجنة فهو رزق ما له من نفاد: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] أما الجنة فأُكلها دائم وظلها.
أيها الأحبة في الله: إننا إذا تأملنا هذه الحقائق علمنا أن الفوز الحقيقي هو الفوز بالجنة، وأن الفوز الزائف المؤقت هو تعلق أهل الدنيا بما يحققون.
تذكر حال لاعبٍ قد صفقت له الجماهير، وهتفت وأعطته الهتافات يوم أن سدد برجله ضربةً على تلك الكرة إلى مرمى فريق الخصم، ثم التفت والجماهير وهي تهتف له، ثم أتى أقرانه وأترابه من اللاعبين يقبلونه ويحملونه على رءوسهم، انظروا تلك الفرحة التي تغمره، أو يراها فرحةً غامرة، والله ليس ذلك إلا خداع فرحة، وما ذاك إلا خداع سرورٍ ولو تأمله لوجد أن بعده ما بعده.
وانظر ذلك الذي يناقش رسالةً في الماجستير أو الدكتوراه، فإذا خرجت اللجنة بعد أن تداولت ما قدمه الطالب في رسالته، وأعلنت اللجنة مجتمعة لا بالأغلبية أن هذا الطالب نال الامتياز ومرتبة الشرف، وأوصت بطباعة رسالته، كيف يتهلل وجهه؟! وانظر إلى آخر يسمع قراراً يبشر فيه بمرتبةٍ علية في وظيفةٍ أو في منصبٍ من المناصب كل ذلك نعيمٌ أو متاعٌ أو فرحةٌ أو فوزٌ، ولكنه بين حلال وحرام، وما كان من ذلك كله فاعلم أنه زائلٌ وينتهي عنك.
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها(234/2)
لابد لدخول الجنة من عمل
أيها الأحبة: إن أناساً يقولون: كيف السبيل إلى نعيم الجنة؟ ولا يمكن أن نصل إليه أو أن نسلك سبيله إلا إذا أصبحنا رهباناً، نلبس المسوح، وننقطع عن الناس، ونعتزل عن المجتمع، ونظمئ الأكباد في النهار، ونتعب الأقدام طيلة الليل.
أيها الحبيب! هذا منطق يحتاج إلى تأمل، أما الذين يظنون أن الجنة لا تبلغ إلا بالرهبنة، ولا تبلغ إلا بتحريم نعيم على النفوس نعيماً قد أباحه الله، فذلك ليس بحقٍ أبداً: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] من هذا الذي يظن أنه لا ينال الجنة إلا إذا شدَّد على نفسه أمراً جعل الله له فيه فرجاً؟ من هذا الذي يظن أنه لا ينال نعيم الجنة إلا إذا ضيَّق على نفسه أمراً جعله الله واسعاً؟ من هذا الذي يظن أنه لا ينال نعيم الجنة إلا إذا ترك طيباتٍ قد أحلها الله لعباده المؤمنين وتكون خالصة في الجنة بإذن الله لعباده الصالحين؟ ليس هذا بمنطقٍ وليس هذا بعقل، ولكن الجنة تحتاج إلى عمل، لا تحتاج إلى الأماني، أو التشهي، أو التمني، إن نجمةً يعلقها ضابطٌ من الضباط على كتفه ما نالها إلا بعد سنواتٍ من التدريب الشاق، والامتحانات الصعبة، إن شهادةً ينالها طالبٌ من الطلاب ما نالها إلا بعد سنواتٍ من الكد والجد والمذاكرة والمثابرة، إن تاجراً ما جمع حفنةً من المال إلا بعد سهرٍ طويل، وإن كثيراً من متاع أهل الدنيا أو مناصبهم أو مراتبهم أو انتصاراتهم أو الفوز الذي يعدون أنهم سجلوه ويفتخرون به، ما نالوه بنومٍ ولا بانقطاع عن الجد والكد والاجتهاد وإنما نالوه بتعب، وهو نعيمٌ زائل فان منقض مضمحل، ومع ذلك ما نالوه إلا بتعب.
فمن ذا الذي يريد أن ينال الجنة بإعراضٍ عن طاعة الله، أو يريد أن ينالها بالتمني؟ من ذا الذي يريد أن يبلغ الجنة وهو معرضٌ عن طاعة الله، وعن الصلاة مع الجماعة، وعن بر والديه، وعن صلة رحمه، وعن الإنفاق في سبيل الله، وعن كف لسانه عن الغيبة والنميمة، وعن تصفية قلبه وتنقية فؤاده من الحسد والإحن والغل والبغضاء؟ تريد جنةً بالغل والحقد! تريد جنةً بالحسد والنميمة! تريد جنةً بالغيبة والكراهية! تريد جنةً بصلاةٍ في البيت المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح! تريد جنةً بإمساك المال، والله يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]! تريد جنةً وأنت قاعدٌ وقد سبق السابقون وقد أضمأوا نهارهم وأسهروا ليلهم، تريد جنةً وأنت كسول خمول.
تسألني أم الوليد جملاً يمشي رويداً ويجي أولاً
هذا والله لا يكون أبداً.
إن الجنة تحتاج إلى مخالفة للهوى، إن من أراد الجنة، وأراد أن يختبر نفسه ويمتحن طريقته ويتأكد من سير أقدامه هل هو في طريق الجنة أم لا، فلينظر نفسه إذا اشتهت شيئاً مما حرم الله، إن قال: لا وصبر عن معصية الله، وصبر على طاعة الله، وصبر على أقدار الله، وحزم نفسه وأخذ بزمامها وعسفها وصارعها وأكرهها وروضها إذا فعل ذلك فليعلم أنه على طريق أهل الجنة.
أما من يعطي نفسه هواها فقد خاب من دساها، أما من أراد لها الفلاح فقد أفلح من زكاها، يقول صلى الله عليه وسلم: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) متفق عليه.
وهذا الحديث يقول عنه النووي رحمه الله معلقاً: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: لا وصول إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، فالنار بالشهوات قد حفت، والجنة محفوفةٌ بالمكاره فهما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد بالعبادة والمواظبة عليها، والصبر على المشقة فيها، وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والإحسان والصبر عن الشهوات ونحو ذلك.(234/3)
العمل سبب في دخول الجنة وليس ثمناً لها
إن أهل الجنة يستحقون الجنة برحمة الله لا بأعمالهم العمل سببٌ إلى الجنة وليس ثمناً إلى الجنة، فالجنة شيءٌ عظيم، ومن ناله فإنما ناله برحمة الله لا بعمله، ولا بقوله، ولا بمنزلته، ولا بفعله، ولا باجتهاده إنما ناله برحمة الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يُدخل أحدٌ منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضلٍ منه ورحمة) وهذا أمرٌ مهم، فإن بعض الناس إذا تصدق صدقةً ظن أنه مقابل هذه الصدقة يستحق الفردوس، وإذا كفل يتيماً ظن أنه بهذه الكفالة يستحق عليين، والآخر إذا تهجد ليلةً أو صام يوماً ظن أنه بذلك يستحق كذا، وكأنه في عقد معطاة، هذه مقابل هذه.
اعلم أيها الأخ الحبيب! أن العمل ليس ثمناً للجنة، إنما العمل سبب إلى الجنة، وفرقٌ بين السبب والثمن، أما دخول الجنة فما هو إلا برحمة الله، وأما السبب فهو العمل الصالح الذي ينفع بإذن الله إذا كان خالصاً صواباً، خالصاً لوجه الله صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد تشكل كثير من الآيات والنصوص على كثيرٍ من المسلمين كقول الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، وكقول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ف
الجواب
ألا تعارض بين الآيات، أو ما دل عليه الحديث في صحيح مسلم، فإن الآيات تدل على أن الأعمال سببٌ لدخول الجنة وليست ثمناً لها، والحديث نفى أن تكون الأعمال ثمناً للجنة، وفي هذا يقول ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية يرحمه الله: وإنما ترتيب الجزاء على الأعمال، وقد ضل فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة وله الحمد والمنة، فإن الباء في النفي غير الباء في الإثبات، فالمنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحدٌ بعمله) باء العوض -الباء في الحديث (بعمله) هي باء العوض- وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل الجنة، كما زعمت المعتزلة: أن العامل مستحقٌ لدخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله، والباء في قول الله عز وجل: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]-أو في آياتٍ أخرى- هي باء السبب، أي: بسبب عملكم، والله هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.
ما أجمل فهم السلف! وما أجمل فقه السلف! وما أحوجنا إلى تأمل كلام السلف الصالح رضوان الله عليهم في دقيق هذه المسائل الجليلة.(234/4)
أسباب دخول الجنة
إن الأعمال التي هي سببٌ إلى الجنة لو أردنا أن نستعرضها لطال بنا المقام، وحسبنا في هذا المقام القصير المبارك -بإذن الله- أن نستعرض شيئاً منها:(234/5)
الاستقامة على الدين والصبر عليه
يقول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] الاستقامة على طاعة الله، الثبات على الدين، المضاء، البقاء، القوة على هذا الأمر حتى يلقى العبد ربه، هذا خيرٌ عظيم.
أخي الحبيب: إن كنت في العشرين من عمرك فتخيل نفسك وأنت على استقامةٍ في الأربعين والخمسين والستين إن طالت بك الحياة، إن كنت في الثلاثين فتخيل نفسك في الأربعين والخمسين، لا تنظر إلى استقامتك:
كأنها سحابة صيفٍ عما قريبٍ تقشع
لا تنظر إلى استقامتك وكأنها شيءٌ لا يصلح للاستعمال إلا مرةً واحدة، لا تنظر إلى استقامتك وكأنها قضية عاطفية آنية تزول بزوال مسببها من حدثٍ أو موقف، إنما انظر إلى استقامتك وكأنها نفسك، وكأنها الشهيق والزفير الذي تتنفسه، فصلاة الفجر، والصبر عن المعاصي، والثبات على الحق، والإعراض عن الشهوات، ومجاهدة النفس، ليس لمدة سنة أو سنتين إن طال العمر أو قصر خمسين سنة، ستين سنة، سبعين سنة، يقول أحد السلف ولعله لما بلغته الوفاة، وبكى أحد أولاده، أو بكى أحدٌ ممن حوله، قال: [إني لأرجو رحمة ربي، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام أربعين عاماً] استقامة متابعة جادة صبر وجلد على الطاعة أربعين سنة، قال: [ولي عشرون عاماً ما أذن المؤذن إلا وأنا في المسجد] الله أكبر! من يستطيع هذا؟! نختبر أنفسنا وإياكم إن شئتم من هذه الليلة والذي يسجل الرقم القياسي يبشرنا فندعوا له، ونسأل الله للجميع الثبات.
صحح الألباني وفقه الله حديثاً في كتاب الترغيب والترهيب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك تكبيرة الإحرام خلف الإمام أربعين يوماً كتب له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار) الاستقامة على الطاعة، الصبر على الالتزام أياً تقلبت الأحوال وتغيرت الظروف، فهذا هو المطلوب أيها الأحبة! وحينئذٍ يكون الواحد بإذن الله وبرحمة الله، وبمنه وكرمه من أهل الجنة، والعمل الصالح: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) ابتسامة، سلامٌ، كلمة طيبة، أمرٌ بمعروف، نهيٌ عن منكر، بر والدين، صلة رحم، إماطة أذى، إغاثة ملهوف، نصيحة مسلم، زيارة أخ في الله، اتباع جنازة، الصلاة على جنازة، زيارة مريض، لا تدع خيراً من الأعمال إلا واجتهدت فيه لعلك برحمة الله أن تكون من أهل الجنة بسبب هذا العمل، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة:25].(234/6)
الصبر على شظف العيش
وإن مما تنال به الجنة أيضاً الصبر، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [وجدنا خير عيشنا بالصبر]، ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ومن لا صبر له لا إيمان له] فاصبر ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
الصبر -أيها الأحبة- من الأمور التي ينال بها الجنة بإذن الله عز وجل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:58 - 59].(234/7)
القوة في العبادة والرغبة إلى الله
ومما تنال به الجنة: القوة في العبادة والرغبة إلى الله عز وجل، وقوة الانكسار والخضوع والخشوع لله، إنما الأعمال تتفاضل بحقيقة ما يقوم في قلب القائم بها والعامل لها، ليس بكثرتها ولا بضخامتها ولا بشكلها ولا بصورها (سبق درهمٌ ألف درهم) إن الصحابة مُد أحدهم أعظم من جبلٍ ينفقه أحدنا في هذا الزمان: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17].
الخوف من الله، وما أجمل الخوف من الله، إذا دعيت إلى معصيةٍ فوعدوك بمالٍ عليها، أو زخرفوا لك في ارتكابها، أو وسوسوا لك في قربانها، فقلت: إني أخاف الله: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23].
أيها الأحبة: ينبغي أن يتذكر الواحد نِعم ربه عليه، فلا يتجرأ بهذه النعمة على المعصية، وليكن في قلبك خوفٌ من الله عز وجل، والله إن كثيراً من الناس إذا دس أو أدخل من تحت بابه ورقةً يطالب فيها بالحضور إلى مقر الشرطة صبيحة يومٍ معين احمر واصفر وجهه، وانتقع لونه، وذهبت به الأفكار أخماساً وأسداساً، وتشتت ذهنه انزعاجاً من هذا الأمر، يا ترى ماذا يريدون مني؟ لو قيل لك: إنذارٌ قد وجه لك، أنت مطلوبٌ للتحقيق، أنت مطلوبٌ للمحاسبة، أنت مطلوبٌ للمساءلة، والله لا تدع صديقاً ولا وجيهاً ولا قريباً ولا حسيباً إلا وحاولت أن تجعله وسيلةً أو تجد عنده شفاعةً للاستفسار عن هذا الأمر الذي أهمك، فما بالك والواحد منا ينتظر منيته صباح مساء، ويخبرني الأخ الشيخ/ محمد الغزالي وفقه الله، وبارك في جهوده: أن رجلاً اتصل به على جهاز النداء من مدينة الرياض، فقلت: هذا رقمٌ نعرفه، فانظر لم اتصل صاحبنا هذا، فقال: إن فلاناً قد توفاه الله، سبحان الله! أنا أعرف أن فلاناً هذا لو صارع أقوى رجل فيكم لصرعه، أعرف أن هذا الشاب قوي جلد نشيط، ما يخطر ببالنا أن يموت، لكن جاءته المنية ومات وانتقل إلى رحمة الله، فلا أتكون المنية غداً لي أو لك.
لا بد أن نتخيل هذا، وأن نتصوره، فالواحد أيها الأحبة! لا يخشى من البشر، {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] لا بد أن يكون في القلوب خوفٌ من الله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].(234/8)
تقوى الله عز وجل
لو درست وتأملت كثيراً من الآيات التي وعد الله فيها المؤمنين بالجنة والنعيم، والثواب والرفعة، والكرامة والرزق الواسع لوجدت أن ذلك قد رتب على التقوى.
وتقوى الله خير الزاد ذخراً وعند الله للأتقى مزيد
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
وقول الله أبلغ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54] تجد أغلب وجُلَّ آيات الجنة قد ربطت بتقوى الله عز وجل، وتقوى الله أمرٌ معلوم، أن تعبد الله على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله خشيةً من الله، وخوفاً من عذاب الله.
أيها الأحبة: ليس عجيباً أن نكون أسوياء أمام بعضنا البعض، ليس غريباً أن يكون الواحد أنموذجاً جيداً أمام الآخرين، ولكن التقوى هي صدق هذا النموذج في السر، صدق هذا النموذج يكون إذا أُرخيت الستور، وأُغلقت الأبواب، وأطفئت الأنوار، وخلا الواحد بنفسه، فانظر إن كنت من أهل التقوى أم لا؟ إن التقوى منزلة عظيمة، ولكن جاهد نفسك، فإن المتقين ليسوا قوماً معصومين عن المعصية، وقد ذكر الله عز وجل حال المتقين بقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] من هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ} [آل عمران:134] فالمتقون ينفقون {وَالضَّرَّاءِ} ينفقون في السراء والضراء: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فالمتقون يكظمون غيظهم: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فالمتقون يعفون عن الناس: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] فالمتقون يحسنون: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135] فالمتقون ليسوا بمعصومين أن يقعوا أو أن يزلوا في معصيةٍ أو خطيئة، لكن المتقين إن وقعوا أو زلوا: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ} [آل عمران:135 - 136] انظروا إلى هذا الجزاء العظيم: {مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] هذه التقوى -أيها الأحبة- هي من أعظم الدرجات التي ينال بها العبد جنة الله ورضوانه.(234/9)
القسط والعدل في السلطان
ألا وإن من أسباب الجنة: أن يكون الواحد قاسطاً عادلاً في سلطانه، رحيماً بإخوانه، عفواً عنهم ما استطاع، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسط متصدقٍ، ورجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال).(234/10)
الجنة وما فيها من الراحة والنعيم
أيها الأحبة: إن الجنة هي المطلب والأمنية، إن الجنة هي الغاية، واسأل هذا الذي ينفق أمواله سراً وعلانية، ماذا تريد أموال تجمعها في التجارة ثم تنفقها هكذا؟ يقول: أريد الجنة.
واسأل هذا المجاهد ماذا تريد تسلك طريقاً ينفجر فيه لغمٌ فتفقد طرفاً من أطرافك أو حاسةً من حواسك، ماذا تريد؟ تأتيك رصاصة فتزهق بها روحك، ماذا تريد؟ تقصف من فوقك، أو تغتال من تحتك؟ واسأل هذا العالم ما الذي حبسك عن لذات الدنيا، وقطعك عن ملذاتها وأشغلك بحلق العلم، عالمٌ معلمٌ ورءوف برٌ بتلاميذه؟ اسأل هؤلاء جميعاً يقولون: نريد الجنة، فالجنة مطلبٌ كلٌ يريده، وأمنيةٌ كلٌ يشتاق إليها؛ لأنها راحةٌ لا تعب فيها، وكما قال عبد الله بن الإمام أحمد لوالده، وقد رآه يعذب ويفتن ويبتلى، وقد أصابه ما أصابه من التعذيب الجسدي والنفسي في فتنة القول بخلق القرآن، فقال ولده: يا أبتِ! متى الراحة؟ أنت إمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد كانت تشد إليه الرحال من خراسان ومن بلدان كثيرة يطلب الحديث منه، الإمام أحمد بن حنبل يقول له ولده وهو يراه قد ابتلي بلاءً عظيماً: يا أبتِ! متى الراحة؟ فيقول الإمام: الراحة عند أول قدمٍ نضعها في الجنة.
الذي يدخل الجنة انتهت قضيته، قبل دخول الجنة تكون على خطر عظيم، لكن إذا دخلتها انتهت القضية، خلودٌ لا يكدره موت، نعيمٌ لا يكدره عذاب، عزةٌ لا يكدرها ذلة، أمنٌ لا يكدره خوف.
اسأل نفسك -أيها الحبيب- وأنت تعود إلى بيتك في نهاية عملك كل يوم متعباً مرهقاً مكدوداً وأنت تقول: متى أرتاح من عناء هذا العمل؟ وهل أتعبت جسدك في هموم هذا العمل، وأرهقت أعصابك، وأقلقت نفسك، وأتعبت بالك، ثم تساءلت: متى أضع حداً لهذا العمل؟ وهل توقعت أن ترتاح بعد أن تنتهي من دراستك، وحين أنهيتها بدأت متاعب جديدة؟ وهل أملت أن تظفر بالراحة من تعب حياة ما قبل الزواج، وتقول: متى أتزوج فأرتاح، ثم تزوجت فوجدت متاعب جديدة؟ هل رسمت في ذهنك حياةً مريحة حين تجمع من المال مبلغاً، وحين جمعت هذا المال نشأت لك بعد جمع المال متاعب جديدة، ثم تقول: ومتى أستثمره حتى أرتاح من همه، فإذا دخلت في استثماراته أتعبتك متابعة هذه الاستثمارات؟ إن التعب ملازمٌ لهذه الحياة الدنيا سواء كنت فقيراً أم غنياً، أم أميراً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
من ذا الذي قد نال راحة عمره فيما مضى من عسره أو يسره
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الـ رجل العقيم كمينة في صدره
أوما ترى الملك العظيم بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
فتراه يمشي والهاً في قصره وبنفسه همٌ تضيق به جوانب قصره
ولرب طالب راحة في نومه جاءته أحلامٌ فهام بأمره
ولقد حسدت الطير في أوكارها فرأيت منها ما يصاد بوكره
والحوت يأتي حتفه في بحره والوحش يأتي موته في بره
كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره
ليس في هذه الدنيا راحةٌ مطلقةٌ أبداً، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] يقول ابن كثير: المؤمن يكدح ثم إلى الجنة، والكافر يكدح ثم إلى النار: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
لا يمكن أن تضع حداً لمتاعب هذه الدنيا حتى وإن كنت من كنت في مرتبتك أو منزلتك أو جاهك أو مكانتك أو أموالك، لا بد أن تجد من هذه الدنيا تعباً ونصباً، والناس متفاوتون في ذلك.
أيها الأحبة: إذا أدركنا ذلك فلابد أنه يشوقنا إلى نعيم الجنة، ويجعلنا نأمل نعيماً لا تكدره هذه الأكدار، إن كنت خائفاً لا تجد لمتعةٍ لذة، ولا للذة متعة، ولا تجد للطعام طعماً، ولا للشراب ذوقاً، إذا كنت خائفاً فلا يمكن أن تستمع بكل ما أُتيت من حولك إلا في ظل الأمن والدنيا يكدرها الخوف في كل حال، أما الجنة ففيها الأمن بإذن الله عز وجل.
وإن مما يعذب به أهل الدنيا أن يزول الأمن من نفوسهم وقلوبهم، ثم يزول من أوطانهم إذا هم كفروا بنعم الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] ولماذا قال الله عز وجل: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} [النحل:112]؟ لماذا جعل الجوع والخوف لباساً؟ من عظيم نكد الدنيا وكدرها أن الجوع يفصل كما يفصل اللباس، أكمامٌ على الأيدي، وسرابيل على الأبدان، وقلانس على الرءوس من الخوف والجوع، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لذا كان أهل الجنة هم الآمنون يوم الفزع، قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51]، {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء:103] يقول أهل العلم وهو الصحيح من قولهم: إن أهل الإيمان يستثنون من الفزع الأكبر والخوف يوم القيامة، لا أنه يعم المؤمن والكافر، فإن كنت من أهل الجنة فلن تكون من الذين يفزعون يوم الفزع الأكبر، وإن كنت من أهل الجنة فأنت بعيدٌ عن حسيس النار ولهيبها: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102].(234/11)
الجنة وما فيها من الأمن والسلام
أيها الأحبة: في الجنة ملذات لا يكدرها تخمةٌ ولا أمراضٌ ولا أسقام، أمنٌ وسلام: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] ولا يمكن أن يطيب المقام والسكن والقصر والدار إلا إذا كان العبد فيه آمناً على جميع ما يحذر أو يخاف عليه.
إن أهل الجنة لا يتحولون عنها، نحن في هذه الدنيا بطبيعتنا نِملُّ من مرتبةٍ نبلغها، فالذي جمع طموحه طوال سنين عمره حتى بلغ بدراسته نجاحاً وشهادةٍ جامعية يطمح إلى ما بعد ذلك، فإذا نال شهادةً أعظم يطمح إلى ما بعد ذلك، فإذا عين بالعاشرة يطمح إلى الثانية عشر ثم إلى الرابعة عشر، ثم ليكون وكيل وزارة، ثم ليكون وزيراً، ثم ليكون ثم ليكون لا تقف النفس عن طموحاتٍ وعن مللٍ من الحال التي قد أمسكت بها، وطموحٍ إلى حالٍ بعدها.
أما في الجنة فإن الواحد يطمئن ولا يريد أن يتحول عنها، هل تذكرت حياة عزوبيتك وشوقك إلى الزواج، وتصوراتك الجميلة الحالمة عن عش الزوجية الهانئ؟ ثم حين تزوجت واستقر بك الحال أصبح الزواج عادياً، ولربما أصبحت من الذين ينصرفون أو لا يميلون إلى الجلوس مع زوجاتهم، هل ظننت أو حلمت بثروةٍ طائلة ودخلٍ كبير فإذا تحقق ذلك أتظن أنك تقول: حسبي! حسبي، قط قط! اكتفيت اكتفيت؟! بل تريد مزيداً من ذلك، وفي النفس هلعٌ وجشع وطمع، أما في الجنة فلا تريد عن نعيمها تحولاً أبداً:
تحلت سويد القلب ما أنا باغياً سواها ولا عن حبها أتحول(234/12)
الجنة وما فيها من طيب الكلام والمسكن
في الجنة لا تسمع إلا أطيب الكلام، هل آلمتك ذات يومٍ كلمةٌ صدرت عن مسئولك في العمل، وتركت في نفسك جرحاً وحرجاً لم يندمل إلا بعد أيام؟ هل شعرت بالحزن تجاه صديقٍ وجه إليك كلمةً قاسية لم تكن تتوقع صدورها منه؟ أما ضقت يوماً بمجلسٍ من المجالس كثر فيه اللغو والغيبة وفاحش القول وساقط الكلام؟ كل ذلك ليس في الجنة أبداً، إنما فيها الطيب من القول، قال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] يقول ابن كثير رحمه الله: فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون ويقرعون به.
نعم.
أيها الأحبة: إن طمأنينة النفس حتى من سماع كلامٍ ينغص عيشها ويكدرها أمرٌ مطلوبٌ قد لا تجده في هذه الدنيا, ولا يستطيع الإنسان أن يسلم من الناس.
لو كنت كالقدح في التقويم معتدلاً لقالت الناس هذا غير معتدل
فلا يمكن أن تسلم من سماع كلامٍ يكدر، أو يجعلك تتعثر، ولكن في الجنة لن تسمع إلا طيب القول وأكرم وأجَلَّ وأجمل الكلام.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يسمع ذلك، قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:25 - 26] لا يسمعون كذباً ولا باطلاً، ولا يؤثم بعضهم بعضاً، هم في مساكن طيبة، هم في درجات عظيمة: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72] مساكن طيبة، حسنة البناء، طيبة القرار، فيها نعيمٌ عظيمٌ ومقيم، لبنة من ذهب، ولبنةٌ من فضة، وملاطها المسك، لا يفنى أهلها، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنون، ولا يموتون، بل مخلدون بمنِّ الله وكرمه.(234/13)
الجنة وما فيها من الأماني واللذات المتحققة
اسألوا آباءكم: كيف كانوا في بيوتٍ صغيرةٍ لو قيل لأحدنا اليوم: اجعل هذه الماعز أو هذه البقرة في هذا البيت لقال: حرام عليك أتسكن البهيمة في هذا المكان الضيق؟ إن تلك البيوت القديمة سكنتها أسر كبيرة، وعوائل متعددة، ثم فتح على الناس في هذه البلاد خاصة ألوان من الدنيا، فسكنوا الشقق، والفلل الكبيرة، وبعضهم سكن القصور، ثم بعد ذلك أتمنى أن هذا القصر مساحة عشرة آلاف فخمسة آلاف صغيرة، أتمنى أن هذه الشقة مساحة أربعمائة فمائتين صغيرة، أتمنى أن هذا البيت ألفين فمساحة خمسمائة صغيرة، الإنسان في هذه الدنيا مهما أوتي يملُّ، حتى من داره التي كان يوماً ما يتمنى أن يكملها ويسكنها، أما في الجنة فدورٌ وقصورٌ عظيمة، لا تظن أنك تتمنى في هذه الحياة فقط، بل في الجنة أنت أيضاً تتمنى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف:71] تمنى ما شئت في الجنة فإن الله عز وجل يعطيك الأمنية، إن تتمنى الولد أو تتمنى غير ذلك فإن الله عز وجل يعطيك ذلك.
إن الإنسان في الدنيا تواق إلى كل شيء، إذا رأى شيئاً عند غيره لا يملكه تمنى أن يحوزه ويملكه، وإذا حرم من شيءٍ تمنى أن يرزقه، فهذا يتمنى ملكاً وسلطاناً، وذاك يتمنى شهرةً وصيتاً، وذاك يتمنى زوجةً جميلة، وهذا يتمنى تجارة رابحة، والإنسان حينما يسرح في هذه النعم لا تقف هذه الأماني عند حد، ولكن الأمر في الجنة أنك تتمنى فيحقق الله أمنيتك، ففي الحديث: (إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعةٍ واحدةٍ كما يشتهي).
فالأماني في أهل الجنة مدركةٌ تنال بإذن الله عز وجل ورحمته، هذا واحدٌ من أهل الجنة كما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن ربه في الزرع -يريد أن يزرع في الجنة- فيأذن له، فما يكاد يلقي البذر حتى يضرب بجذوره الأرض، ثم ينمو ويكتمل وينضج في نفس الوقت، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث وعنده رجلٌ من أهل البادية: (إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ -يعني: ما شئت من النعيم وألوان الراحة- قال: بلى، ولكن أحب الزرع، فبذر، فبادر طرف نباته -يعني: نموه أسرع من النظر- واستواءه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم! فإنك لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي الذي كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الحديث: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فإنهم أصحاب زرعٍ يا رسول الله! وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم).(234/14)
الجنة وما فيها من الحور العين
في الجنة حور عين، فقد تكون عازباً لم توفق إلى الزواج بسبب قلة مالك، أو كثرة مسئوليتك تجاه أهلك أو إخوانك، أو لأنك لم تجد فتاةً مناسبةً، أو لأنك تخطب فلا تزوج، أو لأمرٍ من الأمور، أو تشكو من زوجةٍ قد كدرت حياتك، فتعلق بنعيمٍ فيه من الحور ما كمل الله فيه نعيم أهل الجنة.
الأمر في الجنة مختلفٌ جداً، فالحور أجمل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، ويطمئن إليه القلب بعد النظر إلى وجه الله الكريم.
فهل من مشمر لجنةٍ عرضها السماوات والأرض والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(234/15)
هم الآخرة [2]
إننا لو نظرنا إلى حالنا وحال سلفنا الصالح لوجدنا الفرق الشاسع فيما بيننا وبينهم تجاه الآخرة والاهتمام بها، إن الهم الأكبر الذي كان عند الصحابة والتابعين هو النجاة من عذاب الله، وإن الهم الأكبر عندنا في هذه الحياة هو تحصيل المال، والاشتغال بالدنيا، ونسيان الآخرة، وهذا يرجع إلى أسباب ذكرها الشيخ حفظه الله.(235/1)
دلائل الاهتمام بالآخرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
معاشر المؤمنين: كان الحديث في جمعة ماضية حول القصد إلى الدنيا والقصد إلى الآخرة، والاهتمام بالدنيا والاهتمام بالآخرة، والاشتغال بالدنيا والاشتغال بالآخرة، وما المحمود من ذلك والمذموم، وما الصحيح في ذلك وما الخطأ فيه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] ومر بنا ذاك الحديث الجامع من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه ابن ماجة بسند صحيح؛ يقول حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه؛ جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له).
أيها الأحبة في الله: هذا حديث عظيم عجيب، فيه دلائل على أن من اهتم واشتغل بأمر الآخرة فإن الله جل وعلا لن يضيعه ولن ينساه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:64] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] ويقول جل وعلا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت:60] هل رأيتم حشرة معها سلة تجمع في سلتها غذاءها؟ هل رأيتم يرقة معها خزينة تحمل في خزينتها طعامها؟: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت:60] من الذي يرزقها؟ من الذي يعطيها؟ من الذي يسقيها؟ من الذي يحميها؟ من الذي من السقم يعافيها؟ {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].
دخل رجل يقال له بهلول على أحد الخلفاء فقام يحدثه ويعظه؛ فتأثر ذاك الخليفة، وكأنه طمع أن يعطيه وأن يحذيه وأن يمنحه من المال شيئاً، فقال: خذ، فقال: لا حاجة لي به، فقال الخليفة: يا بهلول! من الذي يعطيك طعاماً وشراباً؟ ومن أين تأتي بالمال؟ فالتفت إليه ذلك الذي يظن أنه من المجانين وهو من أعقل العقلاء، التفت إلى الخليفة قائلاً: أتظن أن الذي أعطاك الملك والخلافة ينساني؟(235/2)
التأثر بمواقف الانتقال إلى الآخرة
أيها الأحبة: إن للاهتمام والاشتغال بالآخرة دلائل، وإن من أهمها وأبرز علامتها التي يعرف بها من كان للآخرة في قلبه اهتمام، ومن كان للآخرة في قلبه منزلة ومكانة: أولها: أن ترى المهتم بالآخرة متأثراً بمناظر الأموات، مناظر الجنائز، والقبور، تجده متأثراً يوم أن يرى مريضاً يحتضر، أو يرى ميتاً يغسل على نعشه، أو يرى جنازة محمولة، أو يرى كفناً وحنوطاً وسدراً، أو يرى سوراً للمقبرة، أو يرى مشهداً للقبر أو منظراً للّحد، من إذا رأيته اهتم لذلك وأطرق وأخذ يفكر ويتدبر، لينظر ما قدم وأخر، فاعلم أن في قلبه رجاء اهتمام بالآخرة، وما أكثر الذين يرون الحنوط والأكفان، وما يخطر ببالهم أن سيلفون بها! وما أكثر الذين يرون النعش وما يخطر ببالهم أنهم سيحملون عليه! وما أكثر الذين يرون المقابر وما يخطر ببالهم أن سيدفنون فيها! ما أكثر الذين يرون اللحود وما يخطر ببالهم أن سيودعون في ظلمتها! وما أكثر الذين يرون المرضى ينازعون الخلاص، ينازعون الفراق وما يخطر ببالهم أن واحدهم سوف يمر بمثل ما رأى! أيها الأحبة: إن من علامات الاشتغال والاهتمام بالآخرة أن ترى العبد مطرقاً عند المرض، متدبراً عند المريض، خاشعاً عند القبر، متألماً في رؤية اللحد يتخيل نفسه يوم أن يوضع في لحده أو يغلق اللبن عليه، أو يهيل التراب على قبره أو يشيعوه أو يودعوه، أو يغسلوه أو يحملوه، كم جنازة حملناها! وكم ميت غسلناه! وكم كفن اشتريناه! وكم وكم وما أقل ما نتدبر ونتأثر!(235/3)
الحزن للآخرة والاهتمام بها
أيها الأحبة: إن من دلائل الاهتمام والاشتغال بالآخرة التي يجزي ربنا جل وعلا عليها، ويجزي بها إقبالاً من الدنيا على صاحبها، واجتماعاً لأمره ولو كان متشتتاً، أن يحزن للآخرة ويتذكر الآخرة ويهتم بها، أن يتذكر الآخرة، أن يهتم بالآخرة، أن يكون عمله دءوباً للآخرة، فإذا رأى في الطريق شوكة أو أذى أو قذى أماطه، وقال: لعل بهذه الحسنة ترجح موازين الحسنات على السيئات، وما يدريك بعد رحمة الله أن تكون تلك الحسنة فيصل في حال العبد إما إلى جنة وإما إلى نار.
أن إذا أقبل إلى قوم بش وهش وابتسم إليهم يريد بذلك صدقة تزحزحه عن النار، إذا رأى محتاجاً أغاثه يريد بذلك حسنة ينجو بها من النار، إذا دعي إلى بذل بذله يريد أن ينجو بعد رحمة الله من النار، أن يهتم للآخرة، لا توفر حسنة ولا تدخرها، ولا تتهاون بمعصية ولا تقم عليها:
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
أن تحزن للآخرة أو أن تهتم للآخرة، فإذا أظلم عليك ليل تذكرت ظلمة الآخرة، وإذا أسفر صبح تذكرت أنوار الجنة، وإذا لبست خزاً، إذا لبست ناعماً تذكرت ثياب أهل الجنة، وإذا رأيت خشناً تذكرت سرابيل أهل النار، أن تحزن للآخرة وأن تهتم بها وأن تحاسب نفسك أولاً بأول؛ يقول عز وجل: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2] ومر معنا كلام الحسن أنها نفس المؤمن، تلومه إن قصر في حسنة عاتبها على التقصير، وإن فرط في معصية حاسبها على التفريط.(235/4)
الأسباب الحائلة بيننا وبين الاهتمام بالآخرة
أيها الأحبة: إن من واجبنا أن نتعود محاسبة النفس، والحزن من أجل الآخرة، فإن القلوب إذا خلت من الاشتغال والاهتمام والحزن لأمر الآخرة باتت يباباً خراباً يسكنها البوم، وتنعق فيها الغربان، ومن ثم تأوي إليها الهوام من ألوان الشهوات والشبهات، أما إذا ساكن القلب الحزن للآخرة فإن ذاك النوع من الحزن يطرد ألوان الهوام المختلفة بشبهاتها وشهواتها، إننا مرضى ولسنا بصحاح، لكن الواحد منا يبصر أسقام بدنه ولا يدرك أمراض قلبه، فيا ترى ما الذي يحول بيننا وبين تذكر الآخرة والاهتمام بها؟(235/5)
الاشتغال بالدنيا عن الآخرة
نعم.
يحول بيننا وبينها أمور كلنا وقع فيها إلا من رحم الله، وقليل ما هم، فأول هذه الأمور: طلب الدنيا والاشتغال بها، والتكالب عليها حتى أشغلتنا عن الآخرة، أليس الله جل وعلا يحذرنا من حطام الدنيا ومتاعها الزائل يوم أن يكون صارفاً عن طاعته: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
طلبوا الدنيا لذات الدنيا، طلبوا المال لجمع المال، طلبوا المنصب لأجل المنصب، طلبوا الرياسة لذات الرياسة، طلبوا المتاع لأجل المتاع أمر مذموم، أما من طلب الريال ليفرج به كربة ويفك به أسيراً، ويكفل به غازياً، ويجهز به داعية، ويحفظ به يتيماً، فحينئذ يا حبذا ذاك الشغل ما لم يخرج به عن الاهتمام بما أوجب الله عليه، ما أحد ولا أحد ينكر الثراء في المال، كان عثمان بن عفان من أثرى الأثرياء، وكان الزبير من الأثرياء، وكان عبد الرحمن بن عوف من الأثرياء.
مرت قافلة داخلة المدينة، فسمع أهل المدينة للأرض وجفة ورجفاً وهزاً؛ حتى تساءل الناس ما الذي حل بالأرض؟ فقالوا: قافلة لـ عثمان بن عفان قدمت من الشام بألوان التجارات والملابس والقماش، فجاء التجار يهرعون إلى عثمان بن عفان، قالوا شرينا شرينا يا عثمان، فقال: إني بعت، فقالوا: شرينا، فقال: كم تعطونني؟ قالوا: نعطيك في الدرهم اثنين، قال: قد أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك في الدرهم ثلاثة، قال: قد أعطيت أكثر، فما زالوا به حتى أعطوه في الدرهم سبعة، فقال: لقد أعطيت فيه عشرة، فقالوا: ما صدقت يا عثمان! من الذي يعطيك عشرة ونحن تجار المدينة ولا ينافسنا أحد؟ فقال: إن ربي عز وجل قد أعطاني في الدرهم عشرة، إن الحسنة بعشر أمثالها.
كانوا تجاراً تجارتهم ترجف بالأرض، كانوا أثرياء ثراؤهم لو قسم على أهل المدينة لربما وسعهم، ومع ذلك ما كانت ثروتهم تشغلهم عن قيام الليل وعن التهجد، ولما تلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] قال: [ذاك عثمان بن عفان] الذي يتهجد بالقرآن يرجو رحمة ربه، ويحذر الآخرة، ما منعه الثراء من الجهاد والغزو والبذل والإنفاق في سبيل الله، أما الاشتغال بالدنيا على سبيل الكذب في تحصيلها، والخداع في نوالها، والغش في جمعها، فذاك أمر من أعجب العجب، واعلموا أن الدنيا من عند الله والآخرة من عند الله، فلا ينال ما عند الله إلا برضا الله، ومن استعجل شيئاً حراماً فربما كتب له من الحلال.
قال رجل لأحد العلماء: أرأيت فلاناً سرق مالاً؟ قال: استعجله حراماً، ولو تعفف لبلغه رزقه حلالاً، استعجله حراماً، ولو تعفف وصبر لبلغه الرزق بإذن الله حلالاً.(235/6)
عدم تدبر آيات القرآن الكريم
الأمر الآخر الذي يحول بيننا وبين الاهتمام والاشتغال بالآخرة: أننا نقرأ آيات الوعد وآيات الوعيد خاصة فلا نتدبر ولا نتذكر، وعجباً لأحوالنا، بل إن من الناس من ربما رأيته ينتقد قائماً متكلماً بعد الفريضة أو في مناسبة أو في اجتماع وليمة أو عرس أو عقيرة أو وكيرة، ينتقد فلاناً يوم أن يتكلم عن الجنة والنار وما حاجتنا بهذه الدنيا لولا رضا الله ثم طلب الجنة والنار؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله كيف تدعو؟ فقال: لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا ومعاذ حولها ندندن)؟ بل الله جل وعلا يصف خيرة خلقه وهم أنبياؤه ورسله بقوله عز من قائل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] رغباً في الجنة، ورهباً من النار، إننا قل أن نتذكر الآخرة، ولو مرت بنا أحوال الآخرة، وأهوال القيامة لقل أن نتدبرها أو نتخيل أحوالنا فيها، انظر إلى الذين يتخيلونها تماما، تقول عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً الرجال والنساء، وا سوأة النساء! وا فضيحة النساء! فقال صلى الله عليه وسلم: الأمر أعظم من ذلك يا عائشة!) الأمر أعظم من أن يسترق رجل نظرة إلى عورة امرأة، أو أن تخطف امرأة نظرة إلى سوأة رجل، ولكن الأمر أعظم من ذلك.
وإني لا أزال متذكراً مكرراً يوم أن حصل لبعض الحجاج ازدحاماً في نفق المعيصم خرج بعضهم عرياناً، خرج بعض الحجاج عارياً لا إزار عليه ولا رداء، يمشي يريد أن يتنفس ذرة من الهواء بعد تخلصه من الزحام والناس يحلقونه من حوله ويرمون عليه إزاراً يستر سوأته، هذا نفق صغير ضيق في زحام من زحامات الدنيا خرج المزحوم فيه ذاهلاً عن سوأته لم ينتبه لها ولم يغطها، فما بالك بأهوال القيامة ترى رجلاً سوف ينظر إلى عورة امرأة أو امرأة تنظر إلى عورة رجل.
مر الحسن البصري برجل يضحك ويقهقه ويستغرق في الضحك لاهياً غافلاً، فقال الحسن: [يا بن أخي! هل جزت الصراط؟ قال: لا.
قال: هل علمت إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا.
قال: ففيم الضحك؟] نعم.
إننا لا ننكر صفة خلقها الله فينا، ولا نريد بهذا أن نكون مقطبين لا نبتسم ولا نضحك أبداً فقد ضحك صلى الله عليه وسلم، وربنا عز وجل خلق فينا صفة فكيف ينكرها قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] الله أضحكنا، الله الذي خلق فينا هذه الصفة بهذه الكيفية والهيئة، ولكن أن يكون الضحك باستغراق وغفلة حال كثير من الناس لا يروي لك إلا ما يضحك، ولا يسمع إلا ما يضحك، ولا يقرأ إلا ما يضحك، ولا يشاهد إلا ما يضحك، فويل ثم ويل لمضحك القوم! قال الحسن البصري: [فضح الموت الدنيا فما أبقى لحي لذة، وما ترك لذي لب فرحاً] حسبنا في هذه الدنيا أننا لا نتلذذ بها إلا حال غفلة، ولو أن الواحد تذكر أحوال الآخرة والفراق لما استطاع أن يتلذذ بطعام ولا شراب، ولا فراش ولا قليل ولا كثير.(235/7)
الاغترار بالصحة والعافية
أيها الأحبة: ومما يحول بيننا وبين الاشتغال والاهتمام بأمر الآخرة أننا نغتر بالصحة، أن الواحد ربما حمل أثقالاً على رأسه، وحمل على يديه أوزاناً ثقيلة، وتنافس مع القوم في مصارعة ومطارحة مغتراً بعافية بدنه، وما علم أن العافية عارية ربما أخذت ولا يزال الروح باق في البدن، كم من أناس كانوا يهزون الأرض حينما يعدون، وكانوا يسابقون الخيل حينما يستبقون، وكانوا يأكلون ويشربون وينكحون، أتاهم من أقدار الله ما جعلهم معوقين لا يتحركون، فالعاقل لا يغتر بصحته: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7].
إن الله جل وعلا قادر أن يسلب هذه الصحة ويبقي البدن؛ ليتدبر الإنسان بنفسه من نفسه، وبقلبه من حاله، وبفكره من مآله، حتى ينظر في أي شيء يغتر الواحد:
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
أيها الأحبة في الله! العاقل لا يغتر بما عنده ولا بما أوتي ولا بما بين يديه:
إذا الرجال ولدت أولادها وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها تيك زروع قد دنا حصادها
إذا الرجل أنجب أولاده، وأصبح جداً بعد أن كان أباً، ثم بات جسده بالياً أو أوشك أن يبلى، وأصبحت الأسقام تعاوده، فليعلم أنه زرع قد دنا حصاده، ولأجل ذلك قال أحد السلف: يا أهل الستين! قد أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره، ويا أهل السبعين! زرع قد دنا حصاده: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يجاوز ذلك) ويا أهل الأربعين! علام الانتظار والأجل قد دنا: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} [الأحقاف:15]؟ العاقل يدرك -أيها الأحبة- أن ما مضى من أيام الغفلة لا يلتفت إليه، وما بقي من أيام العمر لا يعلم ما الله صانع به.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(235/8)
السلف واهتمامهم بالآخرة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضو بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).(235/9)
عمر وخشوعه عند قراءة القرآن
أيها الأحبة في الله: لو نظرنا إلى سير الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين كيف كان اهتمامهم واشتغالهم بأمر الآخرة لوجدنا عجباً عجاباً، قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالناس صلاة الفجر، فقرأ قول الله جل وعلا: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10] فسقط رضي الله عنه، وظل الناس يعودونه في بيته أسبوعاً.(235/10)
ابن مسعود وتذكره نار الآخرة
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يربط ما يرى في الدنيا بأحوال الآخرة، مر ذات يوم على أقوام ينفخون في الكير، فأخذ ينظر إلى النار والحديد فبصر بحديدة قد أحميت؛ فجعل ينظر إليها وهو يبكي، وهذا مما يؤيد قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن أصحاب محمد في جباههم أمثال ركب المعزة من السجود، ويراوحون بين أقدامهم من طول قيام الليل، فإذا ذكرت النار ماجوا واضطربوا كأنما خلقوا لها ولم تخلق لغيرهم] مع أن فيهم من بشره الله بالجنة، ومن بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
ونحن أدرى بعيوبنا وذنوبنا، وزلاتنا وأخطائنا وسيئاتنا، ونعلم أن السيئة سيئة لا محالة، ونعلم أن الحسنة لا ندري هل أخلصناها لله، وهل عملناها على مقتضى سنة رسول الله، وهل قبلت منا أم لا، فترى الواحد يفاخر ويكابر وإذ قيل له: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، انتفخ صدره ورأسه، وكأنما زوال الملة بزواله وبقاء الدين ببقائه، وما علم أن الله غني عنه وعن ملايين من أمثاله.(235/11)
الحسن البصري يترك الطعام صائماً لأجل آية
أيها الأحبة: وهذا الحسن البصري من التابعين، وهو من تلاميذ الصحابة، حياته كلها تعلق بالآخرة، ويروي صالح بن حسان قال: أمسى الحسن البصري صائماً، فجئناه بالطعام عند فطره، فلما قرب إليه الطعام تلا رجل عنده هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:12 - 13] قال: فقلصت يده عن الطعام فقال: ارفعوه، قال: فأصبح صائماً إذ في ليتله تلك كان يتفكر في أمر الآية، فلما أراد أن يفطر في اليوم الآخر تذكر الآية فأعرض عن الطعام، فلما كان اليوم الثالث انطلق ولده إلى ثابت البناني ويحيى البكاء وأناس من أصحاب الحسن فقال: أدركوا أبي فإنه لم يذق طعاماً منذ ثلاثة أيام، كلما قربنا إليه إفطاره تذكر قول الله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:12 - 13] قال: فأتوه فلم يزالوا به حتى أسقوه شربة من سويق، كل ذلك فزعاً وجزعاً من أمر الآخرة، لقد أشغلهم الأمر وأهمهم حتى باتوا لا يلتفتون إلى الطعام والشراب.(235/12)
سفيان الثوري وتذكره للموت
وهذا سفيان الثوري يقول الإمام الذهبي عنه: سفيان الثوري، شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمنه، كان سفيان رضي الله عنه لشدة تعلقه بالآخرة، واستيلاء هَم الآخرة على فكره كأنه جاء من الآخرة، يحدث الناس عن الآخرة كأنما رآها رأي العين، ويقول أبو نعيم: كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع بالطعام والشراب أياماً، ويقول ابن مهدي: كنا نكون عند سفيان فكأنما وقف للحساب بين يدي الله جل وعلا، ويروي أحد أتباعه يوسف بن أسباط عن مدى تعلق سفيان بالآخرة قال: قال لي سفيان وقد صلينا العشاء الآخرة: ناولني المطهرة، أي: إداوة أو إناء فيه ماء يتوضأ منه، قال: فناولته المطهرة فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، قال: فنمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر، فنظرت إلى سفيان والمطهرة بيمينه ويده اليسرى على خده فقلت: يا أبا عبد الله! هذا الفجر قد طلع فقال: لم أزل منذ ناولتني هذه المطهرة أتفكر في أمر الآخرة حتى الساعة.
وهذا عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت في الناس رجلاً أرق من سفيان، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي النار النار! شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم لحاجتي غير معلم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي! إن الجزع قد أرقني وذلك من نعمك السابغة علي، إلهي! لو كان لي عذر في الخلوة ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يقبل على صلاته وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى يقول عبد الرحمن بن مهدي: إن كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه، وما كنت أقدر أنظر إليه استحياءً وهيبة منه، وإنما أرمقه ببصري رمقاً.
وهذا الحسن البصري يتقلب ويخشى عند فراق روحه البدن، لما بكى بكاءً شديداً قالوا له: أو لست الإمام العالم الزاهد المحدث؟ فقال: أخشى أن يطرحني في النار ولا يبالي، ويرددون عليه فيقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
أما نحن -أيها الأحبة- فإننا قد يبدو لنا ما نحسبه ونحتسبه، وقد يبدو لنا ما نعرفه عن أنفسنا وزلاتنا وهفواتنا وأخطائنا.
كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها
في غفلة أطعتها لشهوة ومطمع
نحن أدرى بعيوبنا وذنوبنا وما أقل ما نذكر الآخرة، وإذا مرت الآخرة علينا مرت مرور الكرام.
فيا أيها الأحباب: تذكروا واستعدوا وأعدوا وكما قال عمر بن الخطاب: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا] وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
أيها الأحبة: ما عذرنا أمام ربنا؟ أولم يجعل لنا بصراً فلماذا نظرنا إلى الحرام؟ أولم يجعل لنا سمعاً؛ فلماذا سمعنا الحرام؟ أولم يجعل لنا أقداماً؛ فلماذا مشينا إلى الحرام؟ أو لم يجعل لنا قلوباً وألباباً وأفئدة؛ فلماذا نفكر بالحرام؟ هل من توبة؟ هل من عودة؟ هل من رجعة؟ هل من مبادرة إلى التوبة قبل أن يحل بنا الأجل؟ قبل أن تخطفنا سهام المنون؟
صادفن منها غرة فأصبنها إن المنايا لا تطيش سهامها(235/13)
دعوة إلى استغلال الإجازة الصيفية
أيها الأحبة: وقبل ختام هذه الخطبة أوصيكم ونفسي بتقوى الله في الإجازة التي نحن قادمون عليها، إن كثيراً من الناس قد أعدوا وتجهزوا لقضاء وقت الإجازة، فإن كان في مباح فلينووا بذلك المباح أن يكون عوداً ونشاطاً وقوة من جديد لطاعة الله سبحانه وتعالى، وإن كانوا قد أعدوا إلى سفر لا يرضي الله، فليتقوا الله ولينزجروا ولينتهوا؛ فإن الله جل وعلا سيحاسبهم على وقتهم وعمرهم وشبابهم: (ولن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع).
أيها الأحبة في الله: أوصيكم ونفسي باستغلال واغتنام هذه الإجازة فيما ينفع، والحذر والحذر أن تكون بوابة إلى معصية الله والوقوع في الغفلة، كما أوصي الذين يتنزهون في البرية والخلاء أن ينتبهوا لنسائهم، وأن يحفظوا عوراتهم، وأن يستروا بناتهم وزوجاتهم؛ فإن مما يلاحظ على كثير من الناس أنهم إذا خرجوا في الإجازات ونصبوا المخيمات تنزهاً بالخلاء والبرية؛ أن تجدهم ربما أهملوا بناتهم وأولادهم، وذئاب تحوم حول مخيماتهم، ذئاب من الشباب الفاسدين أصلحهم الله وهداهم، يرمقون النساء بمقربات الرؤية بما يسمى بالمنظار أو الدربيل، يرمقون النساء حتى إن بعضهم من خسته ودناءته ليتتبع المرأة حال بعدها لقضاء حاجتها.
فالعاقل ينتبه لأهله، وليعد مكاناً طيباً، وليحفظ به أولاده وأهله، ولسنا بذا نحرم أن يخرج أحد بذريته ليتنزه، ولكن إذا خرجت فاحفظ نفسك، واحفظ بيتك وأهلك، وأما أناس جعلوا من البرية سهراً بالطبول إلى آخر الليل ونوماً عن صلاة الفجر، فوالله ليأتين يوم يندمون على سفرهم هذا وخروجهم.
اللهم اهدهم وردهم ونفسي وإياكم إلى الحق رداً جميلاً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم أصلح ذات بين المسلمين في أفغانستان، اللهم من كان باغياً فاقطعه، وأرح المسلمين من شره وتسلطه، اللهم احفظ عوراتهم وآمن روعاتهم، واستر ذرياتهم، وعجل وحدتهم، وأقم على الكتاب والسنة دولتهم، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك وفي طاجكستان وفي البورما وأرامو والفليبين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين واخذل اليهود أعداء الدين، يا رب العالمين! ربنا لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عيباً إلا سترته، ولا حاجة إلا قضيتها، بمنك وكرمك يا رب العالمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمامنا وأصلح بطانته وقرب له من علمت فيه خيراً له، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له، واجمع شمله وإخوانه وأعوانه والعلماء والدعاة على ما يرضيك يا رب العالمين! إن الله وملائكته يصلون على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(235/14)
وداع عام واستقبال عام
كل لحظة تمر هي جزء من حياتنا ومن أعمارنا، فعلى المسلم أن يحاسب نفسه على ما مضى من عمره: هل كان في خير أم في شر؟ وهل كان في طاعة أم في معصية؟ وعليه أن يحمد الله إذا ودَّع عاماً من الأعوام أن الله لم يقبضه فيه، بل ترك له فرصة أخرى؛ ليكثر فيها من الأعمال الصالحة ويندم على ما مضى منه في العام الماضي، وهنا يذكر الشيخ بضرورة المسارعة في الخيرات قبل فوات الأوان.(236/1)
وقفة محاسبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال في محكم كتابه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
أشهد أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه.
أشهد أن الله أحيانا ويميتنا، ويبعثنا ويحشرنا، ويحاسبنا وبالعدل يحكم بيننا.
أشهد أن لا إله إلا الله: واحد في ربوبيته، فهو المدبر وهو المتصرف والمالك، وهو المعز والمذل، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، كل خير بيده، ولا يدفع بلاء إلا بمنة منه وحده.
أشهد أن لا إله إلا الله: فالركوع له، والسجود له، والحلف به، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف من عذابه، والطمع في ثوابه.
أشهد أن لا إله إلا الله: له الأسماء الحسنى والصفات العلى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من وطئت قدمه الثرى، بعثه الله إلى الجن والإنس بشيراً ونذيراً، قال صلى الله عليه وسلم: (قد أعذر الله إلى امرئ بلَّغه الستين من عمره) فمن بلغ فليعتبر، ومن دنا فليستعد، ومن انتصف فلينظر ما قدم وما أخر.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، كان نبينا بنا براً رءوفاً رحيماً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
هذا النبي الرءوف الرحيم ما ادخر شفاعته لآل محمد، أو لآل البيت، أو لمن دنا نسبه وسببه منه، رءوف رحيم، بل جعل شفاعته للعصاة من أمته، أن يخرجوا من النار فيدخلوا الجنة، بعد أن يأذن الله له: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] والنبي من المرضيين.
أيها الأحبة في الله: منذ يومين أو أقل أو أكثر ودَّعَنا لا نقول: ودَّعْنا نحن، بل ودَّعَنا؛ لأن المودِّع لو كان قادراً على الخيار في أن يودع أو يمكث لقلنا نحن المودعين، لكن العام ودَّعَنا، ولا خيار لنا في وداعه، ولا خيار لنا في فراقه؛ لأن الله أمر هذا العام بأشهره، وأيامه، ولياليه أن تودعنا.
أيها الناس: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا.
في الغابرين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً للناس ليس لها مصادر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
هذا من كلام قس بن ساعدة، وهي خطبة بليغة في التفكر والتدبر، في فراق الدنيا، ورحيل الأيام والأعوام.
إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أسلماه للبلا
منع البقاء تقلب الشمس وخروجها من حيث لا تمس
وبزوغها صفراء صافية ومغيبها حمراء كالورس
أيها الأحبة في الله: ولَّى هذا العام لينزع من غابة عمرك، شجرة لينزع من غابة العمر شجرة هي سنة بأغصانها، أشهرها وأوراقها الأيام والليالي.
وكان لعامنا المنصرم بداية، ورأينا مصرع العام، ونهاية العام، ورحيل العام، وسيشهد عام مصرعنا، وسيشهد عام ما سيشهد رحيلنا وفراقنا، سيشهدنا يوماً نُحمل فيه على الأكتاف، على النعش نغسل ونكفن وندفن ونودع.
وليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنا في هذا العام نودع أمواتاً -أيضاً- هم على قيد الحياة، وسنودع أمواتاً ينقلون إلى المقابر، وكما شهدنا وداعه، سيشهد عام قادم وداعنا وفراقنا ورحيلنا، وتصرم شجرة عمرنا.
أيها الأحبة: وسيكون لهذا العام الذي دخلناه نهاية، فمن ينتهي أولاً، هل ننتهي نحن أم ينتهي العام أولاً؟! وهب أننا شهدنا نهايته، فهل نشهد نهاية أعوام قادمة أم لا بد أن يكون فيها عام يشهد مصرعنا، ورحيلنا، وسكراتنا، وتغرغر الروح فينا، وبكاء الأقارب حولنا، وضعفنا ونحن على الأسرة والفرش نعالج السكرات ونرى الكربات، ونرى الأقارب لا يدفعون ولا يقدمون ولا يقربون.(236/2)
لذة تزول وإثم يبقى
أيها الأحبة في الله: لقد زال ذاك العام قبل يومين ولى ومضى لكنه زال وزالت كل لذة فيه.
فأما لذات أهل المعاصي، من سهر ليلة على أضواء حمراء خافتة، والغيد والوصيفات مقبلات مدبرات، ربما شهد بعض القوم ليلة كهذه، ولكن تلك الليلة ولت ومضت وانقضت لذتها وذهبت، وبقي إثمها، ولى العام باللذات وبقيت حسرات المعصية، وشؤم الفاحشة، وبلاء المخالفة، إن هذا الرحيل عجيب، وإن هذا الفراق غريب! كم أناس عصوا ربهم في الليالي الماضية المنصرمة، واسألوا من بقي حياً: يا عبد الله! يا فلان ابن فلان! ليلتك التي عشتها، بما فيها من كأس وغانية، ومسلسل ومجلة، ومعصية وفاحشة، هل تذكر الآن من لذاتها شيئاً؟! هل تحس لمشهد من مشاهدها ركزاً؟! هل ترد لذة إلى حاسة من حواسك؟! لا والله، لقد انقضت اللذة وبقي الإثم، وبقي شؤم المعصية، وبقيت الحسرة.
وأقولها: لا تغرنك سلامة تراها في بدنك، إن للمعاصي شؤماً ولو بعد حين، إن من الناس من إذا ارتكب الفاحشة، وتقحم المعصية، على بصيرة وعلم، فمضى يوم أو يومان أو ثلاثة، ولم ير خسفاً أو مسخاً أو غرقاً أو هدماً أو حريقاً، يظن أن تلك المعصية مرَّت ولا ضرَّت، وانتهت ولا عاقبة لها، وعلى حد زعم القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
لا.
إن شؤم المعاصي ولو بعد حين، ومن شر شؤم المعاصي ذاك الشؤم الذي يأتي يوم أن تبلغ الروح الحلقوم، شؤم معصية يغيب عنك طيلة عمرك ولا يحضرك إلا حالة النزع ومعالجة السكرات، تريد أن تقول: لا إله إلا الله فتصرف عنها، تريد أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله فتعجز عنها، تريد أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله فتذكر غيرها.
وقيل لشاب حضرته سكرات الموت وحوله رجل فيه خير يلقنه، ويعرض الشهادة عليه، ويقول: يا فلان! قل لا إله إلا الله، فيقول الفتى: هل رأى الحب سكارى مثلنا.
ما رأى الموت سكارى مثلكم، ما رأى الموت سكارى في غفلة عن القبر والموت والضنك واللحد والحشر والنشر والصراط والحساب والعذاب، ما رأى سكارى مثل هؤلاء، أسأل الله أن يتجاوز عن الجميع وأن يتغمدنا برحمته.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، وعافنا واعف عنا وعن إخواننا، ولا تبتلينا يا رب العالمين.
ومضى هذا العام وولى وانقضى، وقد شهد الصالحون فيها ساعات يراوحون بين الأقدام من قيام الليل، ويجعلون الأكف على البطون من آلام جوع الصيام، ويسترخون قليلاً من تعبٍ قد ينالهم وهم يتقلبون بين تلاوة أو ذكر أو عبادة، ونسألهم اليوم: يا معاشر الطائعين! هل تشعرون بآلام عبادة في عام مضى؟ هل تشعرون بشيء من التعب الذي نالك إبان العبادة في عام مضى؟ لا والله.
لقد نسيت الألم والجوع والتعب، ولكن بقي الأجر، بقي الثواب، بقي الوعد الجزيل، بقي الجزاء العظيم، بقي الخير العميم الذي ينتظرك من أعمال صالحة قدمتها فتقبلها الله بيمينه جل وعلا، وتراها يوم القيامة كالجبال.
فهنيئاً لمن مضى عمره وانقضى عامه على طاعة لله جل وعلا.
ومضى العام عليَّ وعليكم، بلذات عاقرناها، وتلذذنا بها، وانتهت اللذات وأعقب اللذة تعب.
كنا نجد لذات الأكل ولا نزال، ونجد لذات الشرب ولا نزال، ولكن اللذة في أطيب طعام نشتهيه ثوانٍ توضع فيها اللقمة على اللسان، فإذا انتقلت اللقمة إلى الجوف استوى الذين علفوا البرسيم والذين أكلوا أطيب الطعام، استقر في الجوف ولو رد ما أكلناه، ورأيناه مرة أخرى لانصرفنا وتقززنا عن رؤيته أو سماعه والنظر إليه.
إذاً: فحتى لذاتنا لذات اللحظات، لذات الثواني والدقائق، لذة الطعام أثناء وضع اللقمة على طرف اللسان، ثم بعد ذلك تنتهي إلى الجوف، وحينئذٍ يستوي طعام الفقراء والأغنياء، والملوك والعالة والصعاليك، والمدراء والوزراء، وكل غني وفقير يستوي طعامه بعد أن يتجاوز ثوان مر فيها الطعام على لسانه.
أيها الأحبة: هل هذه حياة، ودنيا يتعلق بها الإنسان في لذة لا يجدها إلا ثوان معدودة على طرف اللسان، وهل ينتهي الأمر عند هذا؟ لا وألف لا.
إذا استقر كل طعام شهي، وكل شراب مري في هذا الجوف انقلب عذاباً، وحسرة، ومرضاًَ، وسقماً، حتى نخرجه من بطوننا، فهذه لذاتنا في الدنيا، وهذه ملذاتنا في أعمارنا فهل خلقنا لهذا؟!!(236/3)
حقيقة اللذة في الدنيا
لنعلم أن اللذة في طاعة الله، وفي الأنس بالله وذكر الله، ولذلك قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} [الرعد:28] غاية السعادة بالطمأنينة، وأين الطمأنينة؟ هل هي في الفرش أو الأكل والشرب، أم في الجاه، والمنصب، أم في الحسب والوظيفة؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] هذا هو أنس الدنيا وهذه لذاتها.
وبهذا نعلم -أيضاً- أن النعيم نعيم السعداء، وليس نعيم المترفين في الدنيا، النعيم نعيم السعداء الذين علقت وتعلقت قلوبهم بذكر الله، ولهجت ألسنتهم بكلام الله، واشتاقت أرواحهم إلى ما عند الله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود:108] السعداء: هم أهل السعادة الحقيقية في الآخرة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108].
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:108] من يخرجهم؟ من يكدر عليهم؟ هل يخشون دولة تعتدي على حدودهم في الجنة؟ هل يخشون عدواً يتسور بيوتهم؟ هل يخشون لصاً يتسلل عبر نوافذهم؟ هل يخشون بلاءً من فوقهم أو من تحتهم؟ ولم يخشون، وهم في الأمن والطمأنينة عند مالك الملك رب الأرضين والسماوات؟ {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108].
من ذا الذي يقطع نعيماً أعطاكه الله جل وعلا، أما لذتك في المنصب فأنت مهدد بالعزل عنها، وأما لذتك بالصحة فأنت مهدد بزوالها، وأما لذتك باجتماع الأحباب فأنت مهدد بفراقك عنهم أو فراقهم عنك أو بلية تشتت شملكم، وأما لذتك بالغنى فالفقر لا تدري من أي الأسباب يأتي، وأما لذتك بكل شيء فإنها مهددة مخطورة بأدنى شيء يخطر أو لا يخطر على بالك، أما لذات الآخرة فكما قال الله جل وعلا: ((خَالِدِينَ فِيهَا)) [هود:108]، (يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت).
نعيم الجنة خلود أبدي، وعجبنا لمن يركن ويطمئن ويغفل في هذه الدنيا وهو يعلم أن أمواله ستقسَّم من بعده، سيقتسمها الورثة، مقاسمة الشريك الشحيح لشريكه، بل إن بعض الورثة لا يرضى الإجمال في القسمة؛ بل لا بد أن يأتي بالمحاسب القانوني الذي يدقق كل صغيرة وكبيرة، وكل مدخل ومخرج، نسيناك يا ميتنا، نسيناك يا مورثنا، نسيناك يا صاحب المال، الشأن شأن التركة، أما أنت فقد انتهيت.
إذاً، فدنياك: مالك يقسم بعدك، وزوجتك ضجيعة الفراش طالما سمعت عبارات الود والصفاء -وليس هذا بإثم ولا عيب- ستتزوج بعدك، وتمنح الذي يليك ما منحتك، ودارك سيسكنها أجنبي سواك، وقد يطرد أولادك منها، ويسكنها رجل آخر مع أبناء آخرين.
هذه الدنيا: لا تبك على عمر منصرم؛ إلا إذا انصرم في معصية أو انصرم في غفلة عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله: هكذا فلنعلم أن شأننا في هذه الدنيا شأن المودع لا محالة، أرأيت رجلاً دخل صالة المغادرة في المطار فجاء وجلس ونصب خيمة، أو بنى داراً، وأعد طعاماً، وافترش فراشاً وطلب لذة، لا.
تجده يتقلب وينتظر الإقلاع والرحيل، فكن هكذا، كن هكذا، كن كأنك غريب أو عابر سبيل، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن نفسك لنفسك، ومن شبابك لهرمك، ومن صحتك لسقمك، فبادر هل تنتظر إلا هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو فقراً مطغياً، أو غنىً ملهياً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر.
معاشر المؤمنين: الدهر قُلَّب، والأيام دول، ماذا كان شأن المسلمين في البوسنة والهرسك قبل عام مضى؟ كانوا على حال لا نقول حال السعداء، لكنها لا تقارب بأحوالهم الآن.
وأحوال المسلمين في بورما وكشمير، تتقلب الأيام والأعوام عليهم، وقد عاشوا عاماً أو أعواماً مضت في طمأنينة، فانقلب عليهم الأعداء، وخذوا مثالاً على البلاء، قال مسلم من كشمير في سجون الهندوس -عبدة الأبقار- قال: طلبت ماءً لما بلغ بي العطش مبلغاً، فجاء جندي من السيخ، وأجبرني بعض الجنود على فتح فمي، فبال الهندوسي في فم المسلم.
أحوال وأمور أسأل الله ألا يغير علينا، أسأل الله ألا يفتننا، أسأل الله ألا يبتلينا.
إن هذه النعم لو رأيت ما يقدمه كثير من الناس اليوم في مقابلتها، لما رأيت إلا أفلاماً يتبادلونها ويسهرون عليها، وغفلات عن صلاة الجماعة، وإعراضاً عن الانقياد والاتباع، واشتغالاً بالمال من أي طريق.
ولما دعي من دعي للاكتتاب في بنوك الربا، توافد الكثير من الأقوياء الذين قد لا يخشون أن يمسخ الله عافيتهم، يقولون: شكر النعمة اكتتاب في الربا، وشكر الطمأنينة أسهم في الحرام، وشكر هذه الآذان معصية لله جل وعلا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
فما دام أن العمر منقضٍ، فانتظر ما يأتيك واستعد، فإن عامك الذي مضى قد مرض فيه أصحاء، وصح فيه سقماء، وعز فيه أذلاء، وذل فيه أعزاء، وتفرق فيه مجتمعون، واجتمع فيه متفرقون، ومات فيه أحياء، وولد فيه أجنة، فالحمد لله على كل حال الذي لا تشغله حال عن حال.
أيها الأحبة: ولى العام وانقضى، فماذا قدمتم لعام تستقبلونه؟ وماذا قلَّبتم في عام تودعونه؟ أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المعتدلين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(236/4)
لكل شيء نهاية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
معاشر الأحبة: نهاية العام فيها بشارة أيضاً، بشارة لكل مريض أن المرض له نهاية، فيه بشارة لكل معتقل أن الاعتقال له نهاية، بشارة لكل مبتلاً أن البلاء له نهاية، بشارة لكل مظلوم أن للظلم نهاية.
وانتظر الفرج، فلن يغلب عسر يسرين: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6].
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
فلكل شيء نهاية فللظلم نهاية وللطواغيت نهاية وللجبروت نهاية و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
للظلم نهاية قال مظلوم لظالم كان يتغطرس ويتفنن ويتلذذ في ألوان إيقاع الظلم والأذى فيه.
قال له: افعل ما بدا لك اظلم ما شئت أوليس الموت عن هذه الدار ينقلنا؟ أوليس القبر يضمنا؟ أوليس المحشر يجمعنا؟ أوليس الله يفصل بيننا؟ افعل ما بدا لك.
هذا أمر عجيب، إن في زوال الأيام والأعوام بشارة لزوال كل ظلم وكفر وبغي وعدوان، ولكن أين من يصبر؟ أين من يعرف ويعلم أن شيئاً من البلاء في ظرف من الزمن آية يبتلي الله فيها عبادة؟ {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] حتى ساعات الظلم بعدها فرج عظيم، وآيات الله في العباد كثيرة لا تحصى.
في دولة من الدول التي تنتسب إلى الإسلام، وتزعم أنها مسلمة، كان الدعاة فيها في الزنازين، والأئمة في السجون، والعلماء في غياهب السجون، فجاء زعيم من زعماء السجون -سجون التعذيب- ليأخذ واحداً من الدعاة المظلومين، فأخذ يلطمه ويركله، فقال ذلك المسكين: يا الله! فقال الطاغية الظالم: والله لو نزل ربك لسجنته في زنزانة انفرادية.
ما أحلم الله على عبادة، الله عظيم وحلمه عظيم أيضاً، ومرت الأيام، ويخرج ذلك المظلوم من سجنه، وينتقل ذلك الظالم المتفنن في تعذيب المظلومين والمساكين، فخرج ذات يوم يتنزه في ضيعة من ضياعه، وبينما هو في الطريق، إذ بجرار زراعي -الذي نسميه دركتل أو الشيول- إذ به يقطع الطريق عليه فجأة، فتلتحم شوكات هذا الجرار الزراعي وسط سيارة ذلك الظالم، ويختلط لحم وعظم الظالم بين الحديد وبين شوكة الجرار الزراعي.
فجاء رجال الأمن ومن يهمهم الأمر، فلم يجدوا حيلة أن يخرجوا هذه الحالة أو صاحب هذا الحادث إلا بتقطيع جسمه قطعة قطعة، وإخراجه من بين شوكة الجرار وحديد السيارة، فيا لله!! من سجن من من حبس من من أودع من لا إله إلا الله.
وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سَيُبلى بأظلم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم(236/5)
الاستعداد للموت
أيها الأحبة: هذه الحياة بأيامها مرت سراعاً عجالاً على السعداء، وتمطت بكلكلها، ونأت بأعجازها على المبتلين، لكن الزمن هو الزمن على السعيد والشقي:
مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
فكل شيء ماض.
أيها الناس: إن لكم غاية فانتهوا إلى غاياتكم، وإن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن الواحد منكم بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه.
فأعدوا واستعدوا، وفي نهاية العام تذكروا نهاية الأعمار: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
ولكن أيها الأحبة: نتيجة الخوف من الموت هي الاستعداد للموت، والذي يخاف من الحريق يعد لإطفاء الحريق، ويعد مادة أو يستعمل مواداً غير قابلة للاحتراق، ويعد أشياء في بناء بيته تعزل انتقال الحريق، هذا هو الخوف الطبيعي، يتترجم إلى استعداد ومواجهة، أما رجل يخاف من النار وهو ينظر إليها ويصطلي بلظاها، أو رجل يخاف من الجوع وهو ينظر الطعام ولا يأكله، أو رجل يخاف من البرد وهو يرى اللباس ولا يلبسه.
الخوف من الموت هو ألا تبكي وتنشغل أو تسهر، كما يخبرني بعض الشباب أن خوفهم من الموت بلغ بهم حداً أن الواحد منهم يضع يده على خده، أو يده على ناصيته، ويجعل رأسه بين رجليه، فتارة في شرود ذهن، وتارة في قلق فكر، وتارة في عذاب ضمير، ما بك يا أُخيَّ، خائف من الموت، هذا ليس بخوف.
الخوف من الموت تخافه الحشرات، لو لحقت حشرة هربت؛ لأنها تخاف من الموت، اجعل خوفك من الموت مترجماً محولاً إلى أن تسجد، من كان يخاف الموت فلا ينم إلا وقد صفى قلبه على عباد الله، وأدى حقوق الله في نفسه وماله وبيته، من كان يخاف الموت فليستعد له بالوصية، من كان يخاف الموت فليكثر من الركوع والسجود، والعمل الصالح الذي يؤنسه في قبره، نهاية العام تذكير بفناء ونهاية العمر.
لكن نريد استعداداً ونريد أهبة، فإن الزاد قليل والسفر طويل، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يا دنيا غري غيري تزينتي قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها]، وقال غيره: [لقد أدركنا رجالاً من صحب محمد صلى الله عليه وسلم في جباههم أمثال ركب المعز من السجود، ويراوحون الليل والنهار -يراوحون بين أقدامهم من طول القيام والعبادة في الليل والنهار- وإذا ذكرت النار اضطربوا وماجوا وخافوا كأنها لم تخلق إلا لهم] أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم، وبشرهم واختارهم لهذه الصحبة إذا ذُكرت النار اضطربوا كأنها لم تخلق إلا لهم، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169].
من أحسن الرجاء أحسن العمل، ومن ابتغى الولد ورجى الولد تزوج، ومن ابتغى الثمرة زرع، ومن ابتغى البيت سعى في البناء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً وبولاة أمرنا فتنة، وبعلمائنا مكيدة، وبالدعاة فرقة وضلالة، اللهم فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم من سعى في أعراضهم بالفرقة والنميمة والوشاية اللهم أخرس لسانه، وعطل أركانه، وأرنا فيه عجائب قدرتك، واخزه اللهم بين العباد أجمعين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في الجزائر وتونس وبورما وفلسطين والبوسنة والهرسك وأفغانستان وكشمير وأرميوا وفي كل بلاد وبقاع الأرض يا رب العالمين.
اللهم ما علمت من داعية أو عالم صالح أو مخلص، اللهم فانصره وأيده وثبته ووفقه يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ولي علينا خيارنا واكفنا شرارنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم لا تفرِّح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم سخر لنا ولعلمائنا ولولاة أمرنا ودعاتنا ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، واجعل اللهم ذلك في طاعتك ومرضاتك، يا رب العالمين.
معاشر المؤمنين: لا تنسوا إخوانكم المضطهدين المشردين المقتلين المبتلين في البوسنة والهرسك، وستجدون على الأبواب من يجمع تبرعاتكم.
وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(236/6)
واقعنا بين الأمس واليوم [2،1]
استعرض الشيخ حفظه الله في حديثه هذا حال المسلمين بالأمس، مبيناً كيف كان اعتزازهم برفعة الإسلام وأهله، وأن ذلك أدى إلى أنهم ساسوا الدنيا ومن عليها، ولما اختلفت عقيدتهم انهدمت تلك العقيدة القائلة بوجوب سيادة المسلمين، فأدى ذلك إلى حال يرثى لها.(237/1)
فائدة الحديث عن الماضي والحاضر
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، الحمد لله ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله الذي جمعنا وألف بين قلوبنا، ولو أُنفِق ما في الأرض جميعاً ما ألف بين قلوبنا إلا بفضله ومنته ورحمته، الحمد لله الذي خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي لهم ولا مؤوي، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأحبة في الله! أحييكم بتحية الإسلام: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وخير ما أبدأ به كلمتي هذه أن أتوجه إلى الله بدعاء وأنتم تؤتمنون عليه: وأسأل الله أن يكون هذا الدعاء مستجاباً لنا جميعاً؛ لأنه ما جاء بنا إلا ابتغاء رحمته، وما جمعنا إلا ابتغاء مرضاته وجنته، فنسأله أن لا يردنا خائبين ولا محرومين.
اللهم إنا نسألك أن تكفينا بحلالك عن حرامك، اللهم بارك لنا فيما أبحت لنا، وحبب إلينا ما شرعت لنا، وبغض إلى نفوسنا ما حرمت علينا، اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا لكل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، ونسألك اللهم الوفاة على التوحيد شهداء، والحياة على الإسلام سعداء، والحشر يوم المحشر مع الأنبياء، اللهم إنا نسألك أن تتوفانا وأنت راضٍ عنا، راكعين ساجدين هداة مهديين راضين مرضيين، ونسألك اللهم ألا تفاجئنا ملائكة الموت ونحن على معصية.
أيها الأحبة في الله! حديثنا اليوم إليكم بعنوان: "واقعنا بين الأمس واليوم".
أيها الأحبة! ماذا نستفيد إذا حدثناكم عن الأمس، وماذا نجني لو حدثناكم عن اليوم، هل الفائدة أن نسرد عليكم الأقاصيص والروايات؟ لا والله.
إن حديثنا عن الأمس مقارنة باليوم، إن حديثنا عن واقعنا وأمسنا وإن تأملنا في مستقبلنا أمر ضروري، والله جل وعلا في كتابه الكريم ذكر آيات دلت على ذلك، فينبغي أن نعلم أن من أهم الأمور التي نستفيدها من دراستنا لأمسنا وليومنا أن نعلم أموراً مهمة عديدة:(237/2)
أن لله سنناً كونية لا تتغير
أولها: أن السنن الكونية التي أودعها الله في عباده وجعلها في هذا الكوكب من مخلوقاته التي هي بالأمس لا تزال هي باليوم، السنن الكونية التي كانت قبل ألف وأربعمائة سنة لا تزال هي السنن في زمننا؛ لأن سنن الله باقية، وسنن الله ثابتة، وسنن الله لا تتبدل ولا تتغير، سنة الله في الذين خلوا من قبل {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
فحينما نتحدث عن الأمس واليوم فإننا نتحدث في إطار سنن ثابتة لا تتغير أبداً، وإن من أهم السنن التي هي ثابتة لا تتغير ويهمنا أن نتناولها في موضوعنا اليوم: أن نعلم عداوة الكافرين للمؤمنين، والفاسقين للصالحين أنها عداوة باقية وعداوة أبدية.
يقول الله جل وعلا: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105].
سنة العداوة من الكافرين لنا معاشر المؤمنين سنة باقية، إن أعداءنا الكفار الذين عادوا رسول الله، وعادوا صحابة نبيه، وعادوا خلفاءه الراشدون، وعادوا أئمة الإسلام وعلمائه لا يزالون هم الأعداء إلى هذا الزمان.
العداوة باقية وإن اختلفت أساليبها وتلونت أشكالها وتنوع وتغير رجالها وأبطالها، المهم أن نعلم أن حديثنا بين الأمس واليوم لا يلغي السنن، السنن باقية، فمنها هذه العداوة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] ويقول جل وعلا: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119].
فيا معاشر المؤمنين! إن أعداء الدين الذين كانوا فيما مضى من الأزمنة هم على مدار الأزمنة والأمكنة موجودون، وهذه سنة التدافع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].
فحديثنا عن الأمس أو حديثنا عن اليوم هو حديث عن الظواهر، أما السنن فهي لا تزال سنن باقية.(237/3)
أن الزمان لا يتغير ولكن نحن نتغير
كذلك أيها الأحبة نعلم أن حديثنا عن الأمس واليوم لا يتناول الزمان:
والليل فاعلم والنهار كلاهما أرواحنا فيها تعد وتحسب
الليل والنهار منذ زمن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أربعة وعشرون ساعة، واليوم يتراوح طوله وقصره بين الليل والنهار، هل زاد النهار في هذا الزمان وقصر في ذلك الزمان؟ لا، الزمان هو هو كما كان.
واعلموا كذلك أن صفات أهل الزمان الخلقية الأصلية كما كانت في ذلك الزمان هي موجودة أيضاً في هذا الزمان؛ كي تقوم الحجة علينا.
إن الصحابة كان لهم عينان وأنف واحد ويدان ورجلان، ولكل واحد منكم عينان ويدان ورجلان وأنف واحد لم يتميز ذلك التاريخ السابق، أو الأمس الذي نتحدث عنه، لم يتميز بأن أصحابه كانوا أولو عشرات الأعين ونحن ليس لنا إلا عينين فقط، لا، بل اتفقنا معهم أعيننا كأعينهم، وأنوفنا كأنوفهم، وأبصارنا كأبصارهم، وأقدامنا كأقدامهم، وأيدينا كأيديهم.
إذاً ما الخلاف؟ اختلفت البصائر: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
والذين حينما تحدثهم عن واقعهم، أو انحراف أو تساهل أو ضعف في سلوكهم وتمسكهم بدينهم، وتهاون بالغيرة في حرمات الله وأوامر الله ومناهي الله جل وعلا، قام يحدثك ويقلب لك الأمر ويفرقع الأصابع: ذاك زمان مضى وهذا زمان اختلف، لا.
أرى حللاً تصان على أناس وأخلاقاً تداس فلا تصان
يقولون الزمان به فساد وهم فسدوا وما فسد الزمان
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا
فيا أحبتي في الله! ينبغي أن نعلم أننا يوم أن نتحدث عن الأمس واليوم، أننا نتحدث عما جنت واجترحت وفعلت واكتسبت أنفسنا وجوارحنا، أما السنن فإنها لم تتغير أبداً.
هذا الكلام أقوله لكي لا يزداد بعدنا عن الزمان الأول وإغراقنا في الزمان الآخر، ولكي نتمسك بما كان عليه الصدر الأول: (أفلا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).
مهما كانت البشرية في القرن الخامس عشر الهجري أو العشرين -بعد أيام قليلة ندخل في عام ألف وأربعمائة وأحد عشر- أو لو بلغنا عام ألف وتسعمائة أو ألفين للهجرة فإن عام ألفين للهجرة لا يعني أن نتهاون بحرف واحد من كتاب الله جل وعلا، مهما تقدمنا وتطورنا ومضت بنا العصور والأزمنة فإن ذلك لا يغنينا ولا يجعلنا في غنىً عن آية واحدة من كتاب الله، فضلاً عن كتاب الله كله، لماذا؟ لأن السنة واحدة، والسنة باقية، وسنة الله في هذا الكون لا تتبدل ولا تتحول، أراد الله لهذا الدين أن يكون خاتماً ومهيمناً على سائر الأديان والرسالات إلى يوم القيامة، فكانت معجزة الدين خاتمة ومهيمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(237/4)
منفعة الحديث عن الماضي
ثم اعلموا أيها الأحبة! أنه ينبغي قبل أن نفصل عن الحديث عن الأمس واليوم أن نسأل: ماذا ينفعنا الحديث عن الماضي؟ ينفعنا الحديث عن الماضي أن نتأسى وأن نتثبت، وإذا ابتلينا بواقعة في زمننا، تأملنا تاريخنا، وتاريخ أسلافنا، بل وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، لنعلم أن فيها عظة وعبرة، ودواء وعلاجاً، وشفاءً ومنهجاً وترياقاً، وتجربة صادقة من تمسك بها نال الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، هكذا حينما ندرس الماضي، لا لكي نقرأ كان يوم كان، أو لكي نعرف الحكايات الممتعة، والبطولات المتنوعة، لا، إنما ندرس الماضي لكي نستلهم العبر، ولكي نفتش ولكي نقلب الأحرف والأسطر من التاريخ والسيرة، عند ذلك نجد أن لكل واقعة جديدة علاقة بحدث قديم، لو استطعنا أن نستنبط وأن ندقق وأن نعرف الطريق الصحيح إلى الفهم والاستيعاب.
كذلك في هذا القرآن ما يدل على ذلك، إن الله جل وعلا قد جمع لنبيه أخباراً عن الأولين السابقين السالفين، نحن الآن نتكلم عن الماضي، ونتكلم عن اليوم والله جل وعلا قد قص على نبيه أحداث وأخبار وأنباء أقوام كانوا في الماضي، وأخبره عن كيد قومه في زمنه، لماذا يا ربنا قصصت على نبينا على أخبار أقوام مضوا وسلفوا، لماذا؟ {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]، {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120].
فإذاً: الله جل وعلا قد ذكر لنبيه وبيَّن أن أقواماً غير من قصصنا عليك لهم أخبار ولهم أحداث وشأن مع أنبيائهم، إلا أن الله جمع لنبيه فيمن لم يفصل له قصتهم وأنباءهم جمع له شأنهم فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وفي القرآن تفصيل وإيجاز وبيان وتوضيح لأخبار من سلف من الأنبياء والرسل لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، يضير قلبك، يجرح خاطرك، يحز في فؤادك أن قومك يستهزئون بك، يسخرون بك، يستهزئون من دعوتك، يسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول صناديد الكفر والشر: أيكم يأتي بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر هذا الصابئ، فيقوم أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، ثم يأخذ سلا الجزور -وهو بقايا الناقة بعد نتاجها- ويضعه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه فيها عبرة يا إخواني لكل داعية ولكل تائب إلى الله يوم أن نجد الاستهزاء والسخرية، تضيق وتتبرم وتنزعج وتتكدر يوم أن تجد من يستهزئ ويسخر بك؛ لأنك التزمت وتبت إلى الله واستقمت على نهج الله، لن تكون أفضل من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، الذي هو أفضل من وطئت قدمه الثرى، ومع ذلك وضع نجاسة وبول ودم الناقة على ظهره صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أوذيت فتذكر من قبلك، وإذا ابتليت فتذكر من قبلك، من هنا يكون حديثك عن الأمس فائدة لك في اليوم، أما أن يكون الحديث مجرداً من دون فائدة ولا عبرة ولا تثبيت للفؤاد، فلا فائدة في كان يوم كان، أو فُعل أو حصل أو قيل أو قال.(237/5)
كيف ننتفع بحديثنا عن الواقع
كذلك أيها الأحبة! ينبغي أن نعلم أن حديثنا عن الواقع لا ينفعنا بشيء ما لم يكن حديثاً مبنياً على خطوات علمية.
تكلمنا عن الأمس بإيجاز، ونتكلم عن فوائد الكلام في اليوم بإيجاز.
حينما نتحدث عن واقعنا من دون ثمرة عملية للواقع ماذا نستفيد؟ أحدثكم عن الواقع، أحدثكم عن غفلة الناس عن ذكر الله، أحدثكم عن بعد بعض الناس عن طاعة الله، أحدثكم عن إهمال بعض الآباء لأبنائهم في التربية على منهج الله، أحدثكم عن ضيعة من تولوا مسئولية البيوت والأسر والبنات والزوجات، ضيعوا ما ولاهم واسترعاهم الله، ثم ماذا؟ أطيل الحديث لكم، وأنبئكم بأشجان ومصائب، وما يحز في قلبي مما أرى في واقعي ثم ماذا بعد ذلك؟ لو حدثتكم عشر ساعات، ثم أخذتم تبكون وتنشجون، وتصيحون وتهزون الرءوس، هذا لا فائدة منه، هذا شأن النساء وليس شأن الرجال، إن شأن الرجال يوم أن يتحدثوا عن واقعهم يتحدثون عن الواقع لكي يفعلوا أمام الواقع أمراً يصلحه، هل تنتهي مهمة مراجعتك للمستشفى بمجرد دخولك على الطبيب وتصف له الواقع، أيها الطبيب عندي قلة شهية واضطراب في الأمعاء، وصداع في الرأس، وخمول في المفاصل، ووجع في الأعصاب، ثم يقول الطبيب: لا حول ولا قوة إلا بالله، وتخرج من باب المستشفى؟! هل سمعتم أن هذا طب، أو أن هذا عقل، أو أن هذا علاج؟ لا، هذا جزء بسيط أن تصف الأعراض، أن تصف الحالة، لكن أنت جئت واصفاً لحالتك من أجل أن تنال الدواء والعلاج، من أجل أن يقول لك الطبيب: اترك كذا، وافعل كذا، واجتنب كذا، وتجنب مصاحبة كذا، واحرص على أداء كذا، وعند ذلك يكون وصفك لحالتك مجدياً أمام جواب نافع، أما أن نصف الواقع بدون فعل وبدون عمل، فهذا لا ينفعنا بشيء أبداً.
وقديماً قالت العرب في أمثالها: أوسعتهم سباً وأوردو بالإبل.
أنا أخبركم بقصة هذا المثل: راعٍ من الرعاة، استودعوه أذواداً -جمع ذود من الإبل- يرعاها، فغزا قوم المرعى، فاستاقوا الإبل وضربوا الراعي، وأخذ الراعي يرفع يديه ويلعنهم ويشتمهم ويسبهم وهم يسوقون الإبل هاربين غانمين بها، فلما جاء أصحاب الأباعر قالوا: أين النوق؟ قال: والله غزانا بنو فلان فأخذوا النوق والأباعر، قالوا: وأنت أين كنت؟ قال: والله كنت أشتمهم وأسبهم وألعنهم، هل هذا يكفي؟ لا.
أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل فهذا شأننا إن كنا نتحدث عن واقعنا اليوم بدون عمل، فنحن أوسعناهم شتماً وساروا بالإبل.
لو انطفأ النور في هذا المسجد الآن، كلكم يقول: انقطع التيار الكهربائي؟ فماذا نفعل؟ انطفأت الأنوار، انطفأت الأنوار، ثم نردد هذه العبارة، ماذا استفدنا؟ يعثر بعضنا في بعض، يطأ بعضنا بعضاً، يموت بعضنا بسبب تدافع بعض بدون فائدة؛ لأننا لم نزد على أن وصفنا الواقع، لكن لو قام واحد ذكي واشترى شمعة بنصف ريال وأشعلها لرأينا جميعاً، فهنا استفدنا بعد ذكر الواقع أن نوقد شمعة، وكما قال: لأن نوقد شمعة في الظلام خير من أن نلعن الظلام ألف مرة.
إخواني! واقع كثير من الصالحين أو الطيبين أو المستقيمين أو الدعاة -فضلاً عن سائر إخواننا الذين نسأل الله أن يمن عليهم بالهداية، وأن يذيقهم لذة الاستقامة- أنهم يحسنون وصف الأشياء ولا نعرف كيف نتعامل بعد ذلك، فأمثالنا أمثال من وقفوا في تقاطع الطريق، والسيارات ذاهبة غادية رائحة، واحد يجلس في الطريق، ويقول: هذه (التريلة) قربت وصلت فسوف تدعسنا دعستنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهل ينفع الوصف؟ لكن ينفع أن نبتعد عن طريق (التريلة) قليلاً حتى نسلم وتمر هذه السيارة أو الشاحنة بسلام.
إذاً: وصف الواقع من الأساليب التي اجتهد الأعداء أن يشغلونا بها.(237/6)
نجيد وصف الواقع ولا نجيد الحلول له
عشنا فترة من الزمن ما كنا نعرف واقعنا، ما كنا نعرف حقيقة ما يراد بنا، ما كنا نعلم المخططات اليهودية والاستعمارية والشيوعية الحاقدة التي حسدتنا على خيرات نحن فيها، أخذنا زمناً طويلاً ونحن نجهلها، فلما بدأنا نتنور وبدأنا نعرف هذه المخططات وتلك الحروب الفكرية والعلمية والميدانية، حينما بدأنا نعرفها أشغلنا الأعداء بحسن وصفها، ويقف جهدنا عند هذا الأمر، نقف عند وصف مخططات الأعداء.
مثلاً: أنا أصلي جمعة في مسجد فيقول الخطيب: يا معاشر المؤمنين! إن مخططات أعداء اليهود قد نفذت في هذا الزمان حرفاً حرفاً، وإن برتوكولات حكماء صهيون قد نفذ منها البرتوكول السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر على التوالي والمصلين يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وماذا بعد ذلك؟ نفذوا السابع عشر أو السابع والعشرين، ما دام أن ليس عندنا إلا هز الرءوس، فمعنى ذلك: أن لا فائدة، لكن لو قلنا: ماذا قدمنا؟ لكي نقف بالمرصاد أمام البرتوكول الأول من مخططات حكماء صهيون؟ عند ذلك نقف وقفة المحاسبة، ووقفة المراجعة، ووقفة التأمل مع أنفسنا لنعلم إلى أي درجة نحن نفهم هذا الواقع.
أيها الأحبة! نحن نعيش في مواجهة عدو تمرس في مختلف الأساليب النفسية، والفكرية، والتجريبية، والعلمية، والفنية وفي شتى المجالات، نحن نواجه عدواً ذكياً يستطيع أن يشغل الكثير من شبابنا من حيث لا يشعر.
لذلك أيها الأحبة! أقول: إن من أهم واجباتنا فيما يتعلق بذكر واقعنا: أن نعرف قاعدة قبل أن نتكلم عن الواقع، ماذا سنفعل بعد أن نعرف الواقع؟ أيها الأحبة! حديثنا عن واقعنا وأمسنا نقسمه إلى ثلاثة جوانب: واقعنا الاقتصادي وماضينا الاقتصادي، واقعنا السياسي وماضينا السياسي، واقعنا الاجتماعي وماضينا الاجتماعي، وأرجو أن لا تخافوا من كلمة السياسة؛ لأني سأتحدث عن نظريات.(237/7)
واقعنا السياسي وماضينا السياسي
اعلموا أيها الأحبة أن ماضينا من الناحية السياسية؛ كان المسلمون يعتقدون فيه أن لا غلبة ولا حياة ولا نفس للهواء إلا بسلطان المسلمين على سائر الأمم أجمع، كل مسلم في ذلك الزمان الماضي كان يرى أن المسلم ينبغي أن يكون المهيمن والحاكم والمسيطر على هذه الدنيا بأكملها، من خليجها إلى محيطها، هكذا كان فكر المسلم، وهكذا كان فكر خلفاء الإسلام، أن الإسلام لا بد أن يسيطر على جميع جوانب وأجزاء المعمورة أجمع، ولا يمكن أن نتنازل عن شبر فضلاً عن مترٍ، أو كيلو، أو بلدان، أو بقاع، أو أراضي للمسلمين أجمعين.
هذا فيما مضى، كل مسلم حتى وإن كان خبازاً، أو حائكاً، أو بناءً، أو فلاحاً، هو في عمله، لكن يعتقد أن العزة للمسلمين، ولا يمكن أبداً أن يكون لكافر على مسلم سلطان أبداً، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
نظريتنا السياسية في العهد القديم: أنه لا يمكن أنه يوجد كافر يستعلي على مسلم، هكذا كانوا يفهمون وهكذا كانوا يتعاملون، ولذلك فلا يرضون أن يكون للكفار أدنى رفعة أو أدنى علو أو زهو أو مكانة أبداً هكذا عقيدتهم، هكذا تربوا، وهكذا شربوا ورضعوا.
أما واقعنا اليوم عندكم أنتم وعندي أنا وعند كثير من المسلمين في هذا الزمان: أن الأرض فرصة متساوية لطوائف من البشر يمكن أن يستعلي فيها من يستعلي، وأن يعيش فيها من يعيش.
نحن لا نحرم الناس حق العيش، أرجو أن لا أفهم فهماً خاطئاً، إن الإسلام جاء بحفظ كرامة الذميين من اليهود والنصارى، إن الإسلام جاء بحفظ حقوقهم، إن الإسلام جاء بحقوق وواجبات لهم وعليهم، لكن بشرط أن يكون الإسلام هو الأعلى.
أما في هذا الزمان فأين المسلم الذي إذا زار الأندلس قال: كيف أصبحت هذه الأرض بأيدي الكفار؛ لأن النظرية السياسية انتكست، تجد الكثير من المسلمين يزور برشلونا، وبهو السباع، قصر الحمراء، غرناطة، وهو يتمتع بهذه المظاهر الجميلة، لكن أن تجده يحترق فلا؛ لأن النظرية انعكست بدلاً من أن يكون المسلمون هم على هذه الأرض، أصبح النصارى يجعلون صورة الصليب والعذراء والمسيح على مداخل المساجد في تلك المناطق، لا، هذه الدنيا فرص، وهذه الآن فرصة الأسبان أن يعيشوا على هذه الأرض لا أقل ولا أكثر.
من هنا انتكس مفهوم النظرية السياسية، ففي القديم كان المسلم لا يرضى أبداً أن يتملك كافر شبراً من أراضي المسلمين، لكن في زماننا هذا صار هَمُّ كل مسلم أن ينال قطعة أرض على شارعين، وسيارة لا بأس بها، إما نقداً أو بالتقسيط المريح، وزوجة على المواصفات المطلوبة حسب الإمكان، ومستقبل مادي لا بأس به، هنا يعيش حد وفكر كثير من المسلمين، وأنا لا ألومهم أيها الإخوة لأن النفوس درجات، من الناس من لا يقنع إلا بدرجة أولى، ومن الناس من لا يقنع إلا بطيران خاص، ومن الناس من يقنع بالقطار المسمكر، كل يضع نفسه حيث شاء، فمن المسلمين الذين تنسموا وتنفسوا روائح العزة لا يرضون بل لا يطيقون أن يروا كفاراً على معقل من معاقل المسلمين.
هذا فيما يتعلق بالنظرية السياسية أو بالواقع السياسي بين الأمس واليوم.(237/8)
السلام العالمي المزعوم
إن الذي تتبع منكم العام الماضي بالذات ما يتعلق بالصحف والمجلات والجرائد الأجنبية كلها، والإذاعات الأجنبية كلها، ماذا تقول؟ عام السلام الدولي، عام الطمأنينة، عام الأمن والأمان، يغرسون في القلوب أنه يجب أن يعيش الناس مرحلة إلقاء السلاح ومرحلة هدوء تام، ورضى كل بما حصل له، المهم ألا تفكر بأكثر مما عندك وهذا مبدأ يريد الأعداء من خلال أبواقهم ووسائلهم، أن يقرروه في نفوس المسلمين، أن يقولوا لكل مسلم: لا تتحرك أكثر من كذا لا يمكن، حتى بلغ بالمسلمين من الهوان والضعف ما بلغ.
يقول لي أحد الدعاة وهو ألماني الجنسية مصري الأصل قال: كنت في زيارة لأهلي في مدينة المنصورة فسألت جارة لنا، تعيش في بيت خرب للغاية، مصر التي كانت تصدر للدنيا خيرات عظيمة، وكانت شوارعها تغسل بالصابون، القاهرة كانت تغسل بالصابون، ماذا حصل؟ كيف الحال يا أم سيد؟ وهي تعيش في بيت خرب أوشك على السقوط، وتطلب من جارتها أن تسكن في حضيرة الفراخ، فيقول لها: يا أم سيد كيف الحال؟ فتقول: يا بني لو أحسن من كذا (حتبوز) أي: لو وجد أحسن من البيت الخربان وحضيرة الفراخ فستخرب، أين همة المسلمين؟ أين الهمم التي لا ترضى إلا بالأعالي؟ أين الأم المجاهدة التي كانت تقول: لا تدخل هذا البيت حتى تأتيني برأس عدو الله؟ أصيب المسلمون بما يسمى بالتطبيع والهدوء، وعام السلام وعام الأمن وعام الطمأنينة، ينبغي لكل أن يقنع بهذا، وكما يقول الفاجر قباني:
بالسلم قانعون بالحرب قانعون
بالحر قانعون بالبرد قانعون
وكل ما نملكه إنا إلى الله لراجعون
يصف ويستهزئ وهو من النصارى، شهد شاهد من أهلها، يصف حال أمته ومن حوله، يقول: إنهم قنعوا بما أراد الأعداء.
والله -يا إخوان- حينما ترى، ويتفاءل الرئيسان العظيمان بعد الخروج من قمة مالطا للحد من الأسلحة طويلة المدى، ونزع الصواريخ متوسطة المدى، والاتفاق بين حلف الناتو والأطلسي وو إلى أن يكون هذا العام عاماً جديراً بالسلام الدولي والأمني.
ما هذا السلام؟ سلام وفلسطين عند اليهود؟! سلام وأفغانستان عند الشيوعية؟! سلام وبورما تسيل من دماء المسلمين؟! سلام وأثيوبيا ستة آلاف امرأة يزنى بهن في السجون؟! سلام والفليبين يذبح المسلم فيها كما تذبح الشاه، وفي مانيلا وفي منديناو؟ كيف تطوف اللعبة على المسلمين، لأن النظرية السياسية والواقع السياسي اختلف، كنا بالأمس لا نرى راحة ولا طمأنينة حتى نتربع على الأرض من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
أما الآن فغاية الطمأنينة عندنا أن نملك قطعة من الأرض على شارع أو اثنين، وسيارة صغيرة وزوجة صغيرة، إلى آخر ذلك.
لا يا إخوان! حينما نعرف الموال والعزف الموسيقي على وتر السلام فلنعرف ما هو السلام، سيحدثونك يا بني عن السلام: لكن ما هو هذا السلام الذي يتحدثون عنه، سلام يعيش فيه المسلمون أعزاء كرماء؟! سلام ينال به المسلمون أبسط حقوقهم كبشر؟! والله لقد عاملوا إخوانكم في أفغانستان وفي جنوب السودان وفي إريتريا وفي الفليبين وفي كثير من مواقع الأرض التي كانت السلطة والدولة والقوة فيها للمسلمين، عاملوهم أقل مما يعاملون البهائم والكلاب والدواب والحشرات، هل سمعتم بالإبادات الجماعية، والأسلحة الكيماوية؟! لا والله يا معاشر المؤمنين، أي سلام هذا الذي يراد أو يتحدث عنه، والمسلمون هكذا دماؤهم رخيصة، فحينما تسمعون العزف على وتر السلام اسألوا: ما هو السلام؟ أكلت يوم أكل الثور الأبيض، كانت فلسطين لا يتربع فيها إلا الفلسطينيون، وكذلك كل دولة من دول الإسلام، وأفغانستان لا يتربع فيها إلا الأفغان، كان أهل سجستان فيها، وأهل ترمذ فيها، وأهل بخارى فيها، وأهل طشقند فيها، وأهل جوزجان فيها، وأهل دوشمبي، وأهل طاجكستان كل أمة متمتعة، لكن جاء الدب الروسي الملحد فنهب قطعة من الأرض، فقال الذي بجواره: الحمد لله، ما دمت سليماً فالمسألة سهلة، فجاء الدب الروسي الشيوعي الملحد فنهب القطعة الثانية فقال الثالث: الحمد لله أنا سليم، فأخذ الثالثة، قال الرابع: أنا سليم، فأخذ الخامسة قال السادس: أنا سليم، حتى أكلت أراضي المسلمين وبلدانهم، بسبب التخلف في النظرية السياسية والانتكاس لماذا؟ أصبحنا فكرياً فضلاً عن عملياً نوافق أن يكون للكفار قائمة، وأن يكون للكفار دولة، وأن يكون للكفار أمة.(237/9)
ما خلفته دعوى السلام من أثر علينا
قد يقول بعضكم: ما هذا التحمس العاطفي، يريد أن يقول: هكذا بـ أمريكا وهكذا بـ روسيا، ويضرب رأسهما ببعض؟ لا، أقول: وإن كان الواقع يدل على أن للكفار دولة، وعلى أن للكفار أمة، فينبغي أن العقول والقلوب ترفض هذا الواقع، إن المسلمين في عصور أذلوا فيها على أيدي المغول والتتار، مع ذلك كانوا يقولون: أنت كافر ذليل، والمسلم يقتل ويقول: أنت كافر ذليل، يعني: الواقع يشهد أن المغولي والتتري يذبح المسلم لكن الفكر الإسلامي كان نظيفاً، كان يحمل سياسة تقول: إن الكافر خسيس ذليل لا يمكن أن يتربع على مسلم حتى ولو مسك السيف وقطع رقبة المسلم، لكن الآن لا.
ولذلك لاحظوا كم عدد الذين يتمنون أن تنتهي قضية أفغانستان بالحل السلمي وسنفونية الأمن والأمان والسلام؟ ليس لدينا مانع، والكثير يردد أن تنتهي القضية الأفغانية من خلال مسلكين: منظمة الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي، تتولى منظمة الأمم المتحدة الانتخابات في المناطق التي يسيطر عليها الشيوعيون، ومنظمة المؤتمر الإسلامي تتولى الانتخابات في مناطق المهاجرين، والمناطق التي يسيطر عليها المسلمون، هذا المبدأ تقترحه الدول الكافرة.
نحن لا نتهم الآن منظمة المؤتمر الإسلامي أو نقول هي عميلة أو دخيلة، لا تفهموا خطأً أو تنقلوا خطأً، لكن أقول هكذا يفكر الأعداء أن ينهوا القضية، وللأسف بفكر ومنطلق ومفهوم الأعداء في إنهاء القضية وحسمها على هذا الواقع المرير يوجد آلاف بل مئات الآلاف من المسلمين، بل ملايين يريدون أن تنتهي القضية، تنتهي على ماذا؟ بعد مليون وستمائة ألف رقبة وروح أزهقت، وثمانمائة ألف يتيم، دموعهم تزرع الأشجار الباسقة، ما مسحت أبداً، بعد قرابة المليون معوق، يد، رجل، عين، وجه، جذع أنف، إعاقة، شلل ثلاثي أو رباعي أو نصفي، بعد هذا كله نجد مسلماً يوافق أن تكون الدولة والحكومة للشيوعيين مشتركة مع المسلمين بهذا الاقتراح الذي يقترحه الأعداء والعملاء؟! لا.
فيا معاشر الأحبة! أعلموا أنه ينبغي أن نعتقد أنه كما لنا في هذه المملكة الطبية وهذه الجزيرة المباركة، كما أن للمسلمين فيها ولولاة أمرهم السلطة والقوة والدولة والغلبة، فينبغي أن تكون الدولة والسلطة والغلبة للمسلمين في كل بقاع الأرض، لا أن تقول: الحمد لله نحن بخير، ولا نبالي بأي مسلم في أي وادٍ هلك، هذا من الجهل ومن الخطر ومن الاتكالية القاتلة.(237/10)
واقعنا العسكري وماضينا العسكري
كذلك أيها الأحبة! واقعنا العسكري بين الأمس واليوم: كنت أسمع محاضرة لمن يسمي نفسه دكتوراً، عن واقع إسرائيل مع دول المواجهة، يقول: إننا لم نبلغ الحد الذي نستطيع أن نقابل إسرائيل حتى الآن، فمن واجبنا، معنى كلامه: أن نجتهد في أنفسنا وأن نفعل وأن نقدم وأن نؤخر، المهم أنه يتحاشى الدخول مع اليهود في معركة، من خلال فكره وكلامه، لماذا؟ لأننا لا نملك ما تملكه إسرائيل، وإن إسرائيل تملك جيشاً احتياطياً مجنداً عدده مليون، هذا احتياطي كل يعرف ثنكنته وقائدة ورئيسه ومهمته عند صفارة الإنذار وناقوس الخطر، ويقول: إن إسرائيل تملك قنابل تقارب المائة قنبلة نووية، وإن إسرائيل، وإن إسرائيل، وإن دول المواجهة لو دخلت مع دول إسرائيل في حرب فستكون خاسرة لا محالة، هذا بمنطق من؟ هذا بمنطق المقاييس المادية البحتة، رصاصتان أكثر من رصاصة، دبابة أكبر من رشاش، صاروخ أقوى من راجمة، لكن كان المنطلق العسكري والنظرية العسكرية في الأمس: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45] النظرية العسكرية القرآنية فيما مضى كانت لا تجيز لمسلم أن يفر أمام عشرة: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} [الأنفال:65]، وبعد التخفيف لا يجوز لمسلم أن يفر من اثنين وإلا يعتبر مرتكباً لكبيرة الفرار من الزحف، هذا مستوى النظرية العسكرية في الماضي، أما واقعنا اليوم فيشهد أن النظرية العسكرية عند الذين لم يعرفوا النظرية القرآنية الحقة، ولم يتعاملوا مع كتاب الله معاملة مباشرة، يقولون: ماذا نفعل؟ الله جل وعلا قال: انصروا، أو قال: عليك الفوز؟ قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ} [الحج:40] ما من آية ربطت النصر بالبشر، النصر كله بالله جل وعلا، انظروا الآيات التي تتحدث عن النصر والفوز والغلبة، كلها جاءت لتقرر أن النصر والفوز والغلبة بيد الله، إذاً ما الذي بأيدينا؟ الذي علينا العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:218].
الآيات تأمرنا بالعمل ولم تأمرنا بالنصر، لماذا؟ لأن النصر من عند الله.(237/11)
وما النصر إلا من عند الله
أيها الأحبة! لما أوقد لإبراهيم عليه السلام نار عظيمة ثم أهوي به فيها من المنجنيق، جاءه جبريل في تلك اللحظة: يا خليل الله إبراهيم، هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، التوكل القوي على الله، وعلم أن النصر بيد الله، إن الذي خلق النار قال لها: كوني برداً وسلاماً، إن الذي جعل العوامل والعناصر الفلزية واللافلزية والكيماوية وغيرها تتفاعل حتى تنفجر على نمط ننوي معين هو الذي خلقها، فالله قادر أن يعطل هذه القنابل النووية.
نحن علينا أن نأخذ بالأسباب فقط، ولا أحصي لكم عدد الأخبار التي أخذتها بنفسي من مجاهدين، وممن نقلوها عن قادة المجاهدين يقولون: لا نحصي عدد القنابل والقذائف التي تنزل بالقرب منا ولا تنفجر، لماذا؟ لأن الموت لم تحن ساعته، ليست هذه رصاصتك التي تميتك، إن الرصاصة التي سوف تقتلك لم تصنع بعد، أما صندوق الرصاص، الذي فرغ في وجهك، هذا كله تخطاك يمين يسار ("1سم" فوق، "1سم" تحت، "1سم" يمين، "1سم" يسار) وربما ضرب في ثوبك ونفضته، لماذا يا أخي؟ لأنك تعلم أن الموت بيد الله، وأن الأمر بيد الله، وأن القوانين والسنن الكونية بيد الله، فالذي خلق العقول يعميها ويهديها، والذي سخر الرصاص يبطل كيده ومفعوله.
هذا ما ينبغي أن نعلمه في مستوى النظرية العسكرية.
إننا إن كنا نريد أن نقابل أعداءنا بقوة تساوي قوتهم العسكرية، فقد نحتاج إلى أزمنة طويلة، ولن ندخل معهم ساعة الحسم والمواجهة، ولكن يوم أن نعلم أن الله جل وعلا هو الذي خلقنا وخلقهم، كما قال أهل البادية حين خوفوهم بالطيارات قالوا: الطيارات فوق الله أو تحت الله؟ قالوا: تحت الله، قالوا: أجل نحن وإياهم تحت الله، الطيارات والذي على الأرض كلنا تحت الله، فهكذا تنتصر الأمم بهذه العقائد، إننا لا ننتصر بذواتنا ولا بأسلحتنا، ولكن ننتصر بعقيدتنا أيها الإخوة، والعقيدة شأنها عظيم،
شعب بغير عقيدة ورق تذريه الرياح
من خان حي على الصلاة خان حي على الكفاح(237/12)
الانهزامية التي تعانيها الأمة
فيا معاشر الأحبة! واقعنا في النظرية العسكرية بين الأمس واليوم.
يقول عمر بن الخطاب: [والله إني لا أخشى على الجيش من عدوه، ولكن أخشى على الجيش من ذنوبه].
واقعنا اليوم يختلف، حتى أصبح المسلمون في واقعهم العسكري قد تعودوا نغم الهزائم والحروب والمصائب، يقول الشاعر:
حرب حزيران انتهت
وكل حرب بعدها ونحن طيبون
عندنا استعداد لأن نتقبل مزيداً من الحروب والمصائب لماذا؟ لمستوى النظرية العسكرية الجوفاء، ليس بالتكبير والتهليل وتربية النفس، وأننا نقاتل القوم بعقيدة.
حرب حزيران انتهت
وكل حرب بعدها ونحن طيبون
تغلغل اليهود في بلادنا ونحن عائدون
ناموا على فراشنا
صاروا على مترين من ديارنا ونحن راجعون
ناموا على فرشانا ونحن عائدون
وكل ما نملكه إنا إلى الله لراجعون
حرب حزيران انتهت
جرائد الصباح ما تغيرت
الصور العارية الحمراء ما تغيرت
كلفنا ارتحالنا خمسين ألف خيمة جديدة
تعودنا أن نبني مخيمات، أن نتعامل مع لاجئين، مع مهجرين لا أقل ولا أكثر، ولكن أن نتعلم من أين أصبنا؟ لا، هذا مفهوم حرص الأعداء أن يبعدوه عنا، والله جل وعلا قد علم الأمة درساً في ثاني معركة، بداية بناء الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، بداية خطيرة، الهزيمة تعني السحق للطائفة المسلمة، ومع ذلك حصلت الهزيمة ويقتل سبعون من صحابة رسول الله، وتدخل حلقتان من حلقة المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشج جبهته صلى الله عليه وسلم وتكسر رباعيته، والله جل وعلا يقول والوحي يتنزل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] من أين جاءت الهزيمة؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] من أنفسكم أنتم، أتيتم من أنفسكم.
فوالله يا معاشر المسلمين! والله لو اجتمع المسلمون في هذا الزمان وتدارسوا مواقع الخلل ومواطن النقص في أنفسهم لكانوا أعظم قوة على أعدائهم، ولكن من أين للمسلمين صف واحد يتحدون حوله إلا بمنّ الله وفضله، ثم بشباب الإسلام الصادقين ودعاته المخلصين وولاته المسلمين.(237/13)
إنما نقاتل عدونا بعقيدة لا بعدد
هكذا ينبغي أن نعلم أن طريقنا إلى جيل جديد يحتاج إلى تغيير المفاهيم.
يا شباب الإسلام! الأرض لكم، الأمة لكم، يا شباب الإسلام! المسلمون مهيمنون، المسلمون مسيطرون، وفكر المسلم على المستوى السياسي يوافق أن الكفار يكون لهم غلبة، وفكرك على المستوى العسكري لا تقتنع أن تدخل معركة إلا إذا كان عدد سلاحك ورصاصك أكثر منهم، لا، وإن كان شكلك مسلماً أو ملتزماً، فإن فكرك يحتاج إلى تغسيل، غيِّر هذه النظريات الموجودة عندك، ورأيت بأم عيني آيات من آيات الله، وآخر خبر بلغني أن واحداً من الشباب الذين رأوه في أحداث منطقة خوست، قال: ضربنا طائرة وشيكة الهبوط في مطار خوست محملة بالذخائر، وشيكة الهبوط على مستودع الذخيرة والأسلحة في المطار، بقاذفة بي إم، تكلف مبلغاً بسيطاً، فتضرب بها الطائرة فتصيب في الطائرة مقتلاً فجر سلاحها ويتفجر المستودع وتلتف الطائرة في المطار بحركة عشوائية تدمر ثمان طائرات.
أين الذين يتحدثون عن الموازنة العسكرية والمساواة في العدد والعدد والأفراد والقواد إلى آخره؟! لا، القضية تحتاج إلى إخلاص: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
جاء فريق من الأمريكان إلى عبد رب الرسول سياف قالوا: أعندكم سنجر؟ كيف تضربونه؟ قال: اذهبوا به إلى سزنور، قائد أفغاني نحيل، فذهبوا إلى أحد المواقع وحمل سزنور صاروخ السنجر الذي جعل الأمريكان له مواصفات في حمله، ومواصفات درجة الحرارة في تخزينه، ومواصفات معينة في وضعه، ومواصفات في كيفية إطلاقه وتهيئة القاعدة له، نظم وبرامج ومخططات، حمله هذا الأعرابي على كتفه ثم نشن على طائرة هيلوكبتر ثم تكلم بكلام ما علموه وأطلق، فجاء الأمريكان يقيسون كم مسافة بعد الصاروخ عن أذنه؟ كم مسافته عن كتفه؟ كم حجم ذراعه يمشي عليها التيس وإلا لا؟ يأخذون مواصفات ومقاييس، قالوا: طيب هناك كلام أنت قلته قبل أن تطلق ما هو؟ فضحك وقال: ما تعرفونه؟ قالوا: لا نريده، فأخبر المترجم قال: إني قلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ثم أطلقت، فلما ترجم المترجم للخبير الأمريكي قال: هذا نحتاج إلى سنين حتى نعلم الجيش الأمريكي هذا الكلام.
فنحن على مستوى النظرية العسكرية نحتاج إلى فهم دقيق، أننا لن نغلب الأعداء بعددنا ولا بعددنا وإنما نغلبهم بقوة العقيدة، إن أعداءنا يحملون عقيدة، ونحن نحمل عقيدة، فإن كانت عقيدتنا التي نحملها أقوى نحملها حملاً فعلياً، أنا لا أشك أن عقيدة المسلم حتى الفاسق عنده عقيدة، يقول: أنا عندي عقيدة نعم، عقيدتك صحيحة لكن أين أثر العقيدة في سلوكك؟ إذا كان شيوعيو المليشيا المتطوعون يجدهم المجاهدون ومعهم الأكفان، عقيدة لا إله والحياة مادة، لا يمكن أن يعترف بدين ولا بإله ولا بغير ذلك، جاء متطوعاً لكي يسحق الإسلام والمسلمين والثوار، يسميهم الثوار المخربين، يقاتل عن صرح الشيوعية فداء لروح لينين وكارل ماركس وإنجلز وغيره ومعه كفنه، هذا عنده عقيدة فاسدة لكنه يحملها بحق وصدق، والمسلم عنده عقيدة حقة لكنه لا يتعامل معها، عقيدة المسلم أن الموت لا يتقدم ولا يتأخر ومع ذلك ينفر من الموت، عقيدته أن الرزق لا يزيد ولا ينقص ومع ذلك يظن أن الكذب والاحتيال يزيد في رزقه، وأن الغش يزيد من فرص الرزق له، وأن إلى آخره يزيد من حظه من الدنيا أو ينقصها.
إذاً معاشر الأحبة! نحن في بون شاسع في النظرية السياسية والعسكرية فيما مضى وفي عصرنا الحاضر.(237/14)
واقعنا الاقتصادي وماضينا الاقتصادي
كذلك أيها الأحبة! واقعنا الاقتصادي؛ فيما مضى مشت أمورنا وأمور المسلمين أجمع بدون نظام ربوي أبداً، أما الآن فيا للأسف! يعتقد بعض من يعد من رجال الفكر والعلم أنه لا يمكن أن توجد قوة اقتصادية إلا بقوة نقدية، ولا يمكن أن توجد قوة نقدية إلا بقوة بنكية، ولا يمكن أن توجد بنوك إلا بفوائد.
يهمني أن نعلم أننا نستطيع أن نعيش بدون الفائدة والربا، نستطيع أن نلغي اللعنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] نحن نتعامل مع كلام الله جل وعلا، الله ينهانا عن الربا ويأتي من يقول: لا يمكن أن توجد قوة اقتصادية إلا بقوة نقدية، ولا قوة نقدية إلا ببنكية، ولا بنوك إلا بفوائد، ما هذا الكلام؟ أن نقول: والله هذا ذنبنا، وهذا خطأ، عندنا بنوك، عندنا فوائد، هذا شيء، لكن أن نقول: لا يمكن أن نعيش إلا بالربا هذا شيء آخر، وأنا لست في مجال مناقشة الوضع الأول، قضية وجود بنوك وفوائد لا أناقشه الآن، لكن أناقش الفكرة التي تريد أن تعمق في رأسي ورأسك أنه لا يمكن أن نعيش إلا بالفائدة والربا، لا وألف لا، نستطيع أن نعيش على نظام اقتصادي إسلامي غني عن الفائدة والربا، فيا معاشر المؤمنين! هاتان نظريتان بين القديم والحديث، عاشت ملايين البشر على مستوى من الثراء والتجارة والغنى، والمنشئات والمشاريع، والحضارة والتمدن والبناء وما عرفت هذا كله.
إذاً: فلنعرف كيف نغزى في عقولنا، إننا قبل أن يحل بنا أو يفعل بنا فعلة يسبقها تمهيد فكري في النظرية، فإذا اعتقدنا بالنظرية الفكرية، عند ذلك سهل التطبيق.
بالنسبة للمستوى العملي كيف كان واقعنا بالأمس وواقعنا اليوم؟ فيما مضى كان الناس قد شغلوا بأمور معاشهم، ومهما اشتغلوا بأمور معاشهم فما كانت الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم، وما كانت تطغيهم عن أمر آخرتهم، بل إن دنياهم كان دعماً ومدداً وعوناً لدينهم ولجهادهم ولإعلاء كلمة ربهم.
أما في زمننا هذا فشغل الناس بالدنيا حتى أصبح الواحد يجمع جمعاً كأنما سيعيش ألف سنة في منطقة نائية عن البشر ليس له محي ولا مغيث إلا رصيده وماله، ولذلك تجد أناساً -سبحان الله العظيم! - يلهث الواحد منهم وراء الدنيا لهثاً، مع أن المسكين يجهل أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص ولا طمع طامع، ولا يرده حسد حاسد.
نحن لا نقول: هيا إلى أفغانستان، أو أن نكون خطباء أو معلمين، لا، نقول: نريد كلاً يعمل في أفضل جانب يخدم فيه الإسلام، سواء كنت مهندساً، معلماً، ضابطاً، نجاراً، خبازاً، أياً كانت وظيفتك وعمليتك، أفضل موقع يقربك إلى الله جل وعلا تعمل فيه، ولكن اجعل جزءاً من عملك خدمة لدينك، فمثلاً أنا موظف عندي راتب من أجل ماذا؟ من أجل أذهب عند مؤسسة الراجحي لأشتري فيستفيد وحده؟ لا، حتى أقبض من هذا الراتب وأحرق الشيوعية بنار هذا الراتب، لكن هذا يوم أن يكون الهم في المستوى العملي وأمور المعيشة مرتبطاً بالجهاد وبعقيدة.
أما الآن لا والله همومنا: الذي عنده سيارة ينتظر متى يشترى طراداً، والذي عنده طراد ينتظر متى يشتري شالية، والذي عنده شالية ينتظر متى يشتري قصراً، والذي عند قصر ينتظر متى يفعل فقط: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] من الذي حرم زينة الله؟ ما أحد يستطيع يمنعك أن تشتري طراداً وتصيد في البحر وتغوص، ما أحد منعك أن تشتري وتصلح، لكن لا تنس دينك، ولا تنس عقيدتك، ولا يكون جمعك للمال ملهياً لك عن أمر عقيدتك، أنا أسألكم بالله يوم أن يخرج الزاني السكير الشاذ المنحرف الخبيث المعتوه من البار أو الحانة، أو النيت كلوب، أو النادي الليلي، أو أي مكان، ثم يجد صندوق (هلتوريد جروف) ساعدوا الصليب الأحمر، ويخرج ما بقي من الدولارات ويضعها، سكير عربيد ومع ذلك ما نسي أن ينتسب إلى النصرانية التي يجتاح مزيداً من البقاع وتحتاج إلى دعم في التنصير، لكن المسلم لا يمكن أن تجد إلا القليل من المسلمين من يجعل العمل للإسلام هماً يومياً وعملاً يومياً، من هو في بيته صندوق كهذا مثلاً إذا جئت البيت انفض الريالات، الريال الزايد هاه بسم الله تضع الريال، وفي نهاية الشهر أذهب به واجعله كفالة ليتيم ولو لمدة أسبوع، أو قيمة عشر رصاصات، أو قيمة قذيفة، أو قيمة أي شيء مما ينفع المسلمين.
كم عدد المسلمين في العالم، مليار مسلم:
يا ألف مليون أين هم إذا دعت الجراح
النزيف والدم الإسلامي الرخيص الذي جرى على الأرض لم يلتفت له أحد.
يا ألف مليون أين هم إذا دعت الجراح
هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
من كل ألف واحداً نغزو بهم في كل ساح
هل نجد من كل ألف مسلم مسلماً؟!! العالم الإسلامي مليار، لو أخرجنا من كل ألف واحداً لاستطعنا أن نجد مليون مسلم على قلب واحد، ولكن هذا حتى الآن لم يوجد.
نادت الصليبية بمشروع المائة مليون، فغطي مشروع الصليبية الحاقدة (مشروع المائة مليون) في شهر واحد، فقام أحد الدعاة إلى الله وقال: نريد مائة مليون دولار في ثلاثة أشهر، فمضت ثلاث سنوات لم يجمع مشروع المائة مليون، لماذا؟ لأنك تجد الواحد يسرف على نفسه في اللذائذ والملذات ما الله به عليم، وإذا دعي إلى الدعم وإلى مراد الله وأمر الله ودين الله وجدته بخيلاً {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
اعلموا أننا بحاجة إلى الدين، بحاجة إلى الجهاد، بحاجة إلى العزة، وإلا فأمر الله ماض: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد38] {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فهل نكون منهم يا أحبابي؟ هل نكون وإياكم من القوم الذين أحبهم الله ويحبون الله، أم نكون من الذين أحبوا شهواتهم فنسوا الله فنسيهم الله؟ {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19].(237/15)
واقعنا الاجتماعي وماضينا الاجتماعي
ثم يا معاشر الأحبة! لماذا هذا البون الشاسع والمساحة الواسعة بين الماضي واليوم فيما يتعلق بالهم على مستوى المعيشة والحياة؟! أقول لكم: إننا خفنا على أمرين اثنين: خفنا على الحياة، على الروح مثل ما يقال: (يا روح ما بعدك روح) خفنا على الحياة، وخفنا على المال، ونسينا أن الآجال لا تتقدم ولا تتأخر {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
الخوف على الروح، الخوف على الحياة، بعض الناس بلغت به الوسوسة أن يظن أن كل خطوة يعملها للإسلام أنه يقتل بها من قال لك هذا الكلام؟ وسوس الشيطان في ذهنك وزين لك، وإني أعجب أن نرى -ولله الحمد والمنّة- في بلادنا مجالات عديدة للعمل الإسلامي، كالشمس في رابعة النهار، ما تريد لها في الليل، تقول هذا عمل ممنوع أو سري، مجالات عديدة للعمل الإسلامي التطوعي مفتوحة، ومع ذلك تجد الواحد يتخفى كأنه يريد أن يبيع كيلو (هروين) وإلا (كوكايين) فيتلفت يخاف أن يراه أحد، لماذا هذا الخوف؟ لماذا هذا الذعر والهلع والخوف؟ يقولون: إن رجلاً كان في منطقة من مناطق نجد وأصله أفغاني كما يقال، يسمونه (درويش) قالوا له: إن أمير المنطقة سوف يقتلك، اهرب، كان ذلك قبل الحكم الحالي، أمير المنطقة سوف يقتلك، وكان لا يحسن العربية فقال: أنا ما أهرب، إذا الله يقول: درويش يموت أنا أموت، إذا الله يقول درويش ما يموت أنا ما أموت يا مجنون اهرب، الرجال يريد أن يذبحك، قال: ما في، فلما جاء الليل إذ بالناعي ينعى والصائح يصيح: إن الأمير مات في فراشه البارحة، فلما جاءوا الفجر وإذا به جائي إلى المسجد الذي يصلي على جنازته يصلي معه.
قالوا: ما الذي أتى بك؟ قال: جئت من أجل أن أقول بعد أن أكبر الرابعة: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
فيا إخوان الأجل بيد الله.
أقول لها وقد طارت شعاعاً.
تنتفض خوفاً.
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم عن الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع
والله يا إخوان ما أحد يتجاوز يوماً واحداً، الأخ عبد الهادي التونسي أسأل الله أن يجعله من الشهداء، جلس أسيراً في السجن الشيوعي، بولى شرخى في كابول سجن، كما أخبر عنه من حدث به، قال: من شدة البلاء فيه، زنزانات يجتمع فيها دورات المياه مكشوفة على المجلس، فإذا أراد أحد المساجين أن يقضي حاجته إخوانه يولون وجوههم للجدار وهو يقضي حاجته هناك ويسمعون ضراطه ويشمون رائحته، من شدة العذاب، خرج من السجن بعد مدة، بعد سنوات، ما كتب له أن يموت، ولما خرج يركب سيارة من سيارات المجاهدين، ويقول سياف: لا تتعدوا هذه المنطقة، فينسى السائق أو يغفل، فيتعداها فيقع في الأسر من جديد ويقتل في تلك اللحظة.
أسره بعض الشيوعيين وقتله بسرعة، سنوات في الأسر ما قتل فيها، وبعد الخروج والحرية حانت اللحظة والساعة فمات.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
الخوف على الحياة هو الذي قتلنا وذبحنا، الواحد يخاف الحياة حلوة، حياة زينة، رضينا بها، اطمأننا بالحياة الدنيا، لكن أسألكم بالله يا إخوان: الحياة ما هي؟ لو كان أحدنا عطشان ثم شرب شربة الماء يتلذذ بها، أو إنسان عطشان يوشك أن يموت من العطش، فعند الرمق الأخير من الحياة والعذاب وتقطع البدن، من معاناة ألم العطش وجد شربة الماء، فشاء الله أن ينحبس الماء في جوفه ولا يتبول، فإنه يتعذب، حتى يخرج هذا الشيء الذي كان أشد ما يتمنى، فالحياة ألذ ما تتمناه أحب ما تفارقه، ألذ طعام يزرع في بلاد ويجنى ويصدر ويجفف، ويحضر إليك، ويحضر له الغاز، وتضع المقادير وتطبخه، ثم تأكله بنهم وشراهة وأكل ولذة، ألذ طعام تشتهيه مر بمرحلة طويلة حتى وصل إلى فمك، فترة اللذة على اللسان فقط، ثم إذا دخل الجوف والله إن أكلت علفاً أو أكلت غيره ما تختلف، إذا وصلت الجوف انتهت العملية، لكن ألذ طعام بعد هذه المرحلة إذا أكلته لو احتبس في بطنك تمنيت عملية جراحية لإخراج الغائط من بطنك، ما هذه الحياة؟ حياة لا نضمن فيها البقاء، هل وجدتم أحداً عمره مائتين أو ثلاثمائة سنة؟!!
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن ولو عمرت ما عمر نوح
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح
حيث إن الذنوب مالها روائح وإلا ما اجتمعنا في هذا المسجد.
ما هذه الحياة؟ حياة قوة، شباب، عنفوان، مرض وفراش، ثم يغسل ميتاً، والعقل الجبار، العقل الذي تعامل مع برامج الكمبيوتر، العقل الذي يدير أدق العمليات الجراحية، مآله إلى التراب، ما الحياة؟ ما الحياة؟ اجتماع بعده افتراق، صحة بعدها مرض وسقم، لذة بعدها كدر، إن لم تخرج بولاً وغائطاً، ما الحياة؟ الحياة:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ما الحياة التي نتعلق بها؟! ما هي الدنيا التي نخاف عليها؟! وهي السبب في حال المسلمين من الضعف والخور والجبن، وعين كلام النبي صلى الله عليه وسلم بدأ جلياً واضحاً فينا اليوم: (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها؟ قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يصيبكم الوهن، وينزع الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) فعلاً أيها الأحبة! هكذا أحببنا الدنيا، ولو تأملنا حقيقة الدنيا لما وجدنا أنا كم رأيت أناساً والله يكدون كد الحمير وهم أفقر عباد الله، ورأيت أقواماً بأدنى سبب تفتح لهم به الأموال والأرصدة والأرزاق.
يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد جاءني جبريل ونفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها) الذي يشتغل فترتين أو ثلاث، والذي يشتغل أربع ساعات كل منهم لن يموت حتى تقول الملائكة: لقد أكل آخر لقمة، وشرب آخر شربة، واستهلك آخر ريال، وقبض آخر درهم.
ستموت بعدما ما تستوفي جميع حقوقك من التقاعد، وخارج الدوام والراتب الرئيسي وبدل النقل، لن يبقى لك شيء أبداً.
كما يقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) أي: ابذل السبب للرزق لكن لا تجعل الدنيا أكبر همك.(237/16)
غرض الغزو الفكري من شباب الإسلام
أيها الأحبة! إلى جانب غفلتنا في واقعنا اليوم وخوفنا من الموت، وخوفنا على الرزق الذي جعل كثيراً من الناس يجبنون عن المشاركة في فعل الخير، أو القول بالخير ونحو ذلك، إلى جانب ذلك نجد حملة مسعورة من أعداء الإسلام على شباب الإسلام، وهذه الحملة اتخذت طابعين: التبشير، والاستشراق، والغزو الفكري، حملات تنصيرية لإخراج المسلمين عن دينهم، وتشكيك المسلمين في القرآن، وتشكيكهم في السنة، وفي أعلام التاريخ.(237/17)
التشكيك في التاريخ الإسلامي وتشويه أعلامه
من هو خالد بن الوليد؟ يقول جورجي زيدان عنه كذا، صلاح الدين يقول قسطنطين زريق عنه كذا، محمود بن سبكتكين الغزنوي يقول عنه جرجي سلامة كذا أي: أصبح الشباب يقرءون سير أعلام الإسلام من خلال كتابات النصارى وأعداء الإسلام، أو المسلمين العملاء، فلا يبقى للمسلم رمز ينتخي به أو ينتسب إليه من الأباء والأجداد والقادة، ثم ماذا بعد ذلك؟ سيل وافر ومنهمر مما يخدر العواطف ويوجه السلوك، أسأل شبانا كم تحفظ من شعر طلال بن سعيد؟ يعد لك الكثير، ما أدري فهد بن سعيد أو طلال بن سعيد والثاني والثالث يحفظ لك الكثير، (يا ونيت ونيتها من خوى الرأس) وهات من هذه القصيدة وجلسة كاملة كلها قصيدة، لكن أريد سورة من كتاب الله ما أجد، سبحان الله! حينما توضع في القبر، فيقول لك الملكان ماذا قلت؟ طلال بن سعيد، فهد بن سعيد ماذا يصلح لك هؤلاء؟ وربما بعضهم تاب إلى الله، فالمصيبة أن الشباب استغلت عواطفهم، بدل ما تكون حرارة العواطف موجهه للجهاد؟ أو في الشفقة على أيتام المسلمين وأراملهم وجهت إلى القصائد، والنظم والنثر والشعر في وصف حلال المسلمين، مما يثير همم البقية، فهل ذلك لنخوتهم ولمساعدتهم؟ لا، لكن العواطف الساخنة وجهت في أشعار الحب، ورباعيات الخيام، وألف ليلة وليلة(237/18)
التخدير بالمعاصي
وماذا بعد ذلك الجانب القوي والنخوة والنجدة والشيمة في نفس المسلم؟ تحذير بالغزل الجنسي، تجد فيلماً يباع في أي محل من محلات الفيديو، أو يصدر من الدول الفاجرة، تجد فيلماً لا هو بخليع ولا بمحتشم، كي يحرق أعصابك، تظل تتابع متى تجد الموقف الذي يثيرك، وطول الليل وأنت تتابع هذا الفيلم نعم العواطف مستهلكة لمتابعة آخر حدث، ماذا يصير؟ إذاً أنا أقول لك قبل أن تشتري الفيلم: هذا فيلم فيه فاجر فعل الزنا في فاجرة، انتهينا منه، ماذا قدمنا للإسلام؟ لكن لا، أسلوب عرض شيق، صدفة، مقابلة، حادث، أصبح في نار عجيب وحوار شيق، حتى يجرك إلى الحدث، وربما بعضهم يصيح إذا رأى فيلماً هندياً ما هذه العاطفة، وما هذا الخيال الفارسي، تلقاه يتقطع، ثم ماذا؟ يغلق التلفزيون ويذهب ينام، هذه قوة بدلاً من أن تكون راجمة صواريخ، بدلاً من أن تكون كاسحة ألغام، بدلاً من أن تكون حرباً على أعداء الله، بدلاً من أن تكون قوة بناءة، جعلوها قوة آهات وأنات، وجنس وعادة سرية، وفواحش وزنا إلى غير ذلك.
ولذلك هاتوا لي شاباً من أفسق شباب المسلمين الآن، واربطه بيديه ورجليه بالحديد، وأقول: اسمع لا تدخل المسجد ولا تصلي، تفرج على التلفزيون وتفرج على الأفلام والفيديو وكذا وكذا، لكن إياك أن تعبد الله أو تصلي، هذا الفاسق الفاجر يقول: أما تخسأ، أنا أترك الصلاة ديني ودين آبائي وأجدادي؟ ثم تتحرك العقيدة والحمية ويتمرد على هذا القيد، ويكسر الحديد وربما يدخل إلى المسجد ويكون من حمام المسجد وأئمته.
لكن بالأسلوب الثاني، أسلوب الغزو الفكري تعال يا أخي المسجد كم له من باب، أربعة أبواب، نحن نتبرع بفتح بابين زيادة، كي تصير أبواب المسجد ستة، ولكن تفضل هذا (رامبوا) رقم اثنين ورقم ثلاثة وآخر ما أنتجته أفلام هوليود إذا كنت تتابع أو تسمع، فيأخذ الفيلم وينظر إليه، ويؤذن المؤذن، والمسجد فاتح أبوابه، يقول: يا رجال سنلحق وقت الصلاة، لكن الفيلم سيفوت.
انظر في المرة الأولى ربطناه وواجهناه بالعداوة، فلم يرض وأبى إلا أن يدخل المسجد، لكن في المرة الثانية قلنا المسجد مفتوح ونحن ما نردك عن المسجد؛ لكن تفضل هذا فيلم فيديو، فيشتريه وينظر ويحترق، وربما رأى صورة امرأة فيقول: لابد أن أدبر حجزاً وأسافر وألقاها على الأقل أتصور بجانبها، كما حصل من بعض الشباب.(237/19)
صرف العواطف إلى الملاهي
انظروا إلى أي درجة أصبح واقعنا، صرفت فيه عواطف الشباب إلى الأمور التافهة، وإلى ساقط الأوضاع حتى لا يمكن أن يكون من بين هؤلاء الشباب مجاهداً يهدد أعداء الله، وأنا دائما أردد مثلاً من الأمثلة التي رأيتها بعيني، وزارني في مسجدي في الرياض، يمني أنحل واحد فيكم أسمن منه، أي: نحيف، وأقصر واحد فيكم أطول منه أي: قصير، أبو عتيق اليمني كهربائي، لما منّ الله عليه وأراد به عزة ورفعة، وليس في الكهرباء عيب بل هي أشرف من الكسب الملتوي والغش والخداع، لكن لما أراد الله له سماء العزة الجهاد، ذهب إلى أفغانستان وأصبح مساعداً للحاج شير علم، ويهدد نجيباً، يقول: أترجى حاج شير علم، أقول يا شير علم، أمهلنا ست ساعات، وبعدها نمطر كابول بطوفان، ويقول الحاج شير علم: الذي وصلهم يكفيهم.
هذا من كهربائي، ربما (يا أبو يمن) ما عرفت تصلح، خربت الفيش، لكن أصبح يهدد نجيب ويخرج نجيب على الشاشة ويقول: إن كابول قد أغرقت بطوفان من الصواريخ، من هددك يا نجيب يا عميل الشيوعية؟! أما علمت أن الذي هددك أبو عتيق اليمني، كان كهربائياً، من أجل هذا وجهت عواطف الشباب، حتى لا يكون النجار قنبلة، حتى لا يكون الحداد قاذفة، حتى لا يكون المعلم قائداً، حتى لا يكون الشاب رمحاً في نحور الأعداء، حتى يتفادى أعداؤنا هذه الصور الإيمانية المتفجرة المتأججة القوية، فشغلوا شبابنا بألوان الفكر والفن والطرب وبرامج السياحة، وبرج إيفل، وشواطئ الأنهار وفولردا وميامي وجزر كذا إلى آخره؛ حتى لا يتوجه الشباب إلى دين الله، وإلى عزة الله سبحانه وتعالى.(237/20)
العمل للإسلام مسئولية الجميع
فيا معاشر المؤمنين! هذا واقعنا يحتاج إلى رجعة، وأنا أقول أيها الأحبة! وصف الواقع لا يكفي بل أنتقل إلى العمل وأقول: هاأنا وصفت لكم واقعنا وواقع شبابنا، والانحراف والغسيل الفكري، الذي أحدثته مختلف الوسائل في عصرنا في عقول المسلمين، فما أنتم فاعلون؟ كل واحد في هذا المسجد: أبو عقال والذي ما عليه عقال، والملتحي والذي ما له لحية، واللاعب الرياضي والذي ما يلعب رياضة، والذي يفعل والذي ما يفعل، أسأل كل واحد منكم: ماذا قدمت للإسلام؟ ماذا قدمت للإسلام؟ ليس من شرط العمل للإسلام ألا يخدمه إلا أولو اللحى، أو لا يخدمه إلا أولو المشالح، كل واحد مسئول، إن وجد تقصير في سلوكك فأنت مؤاخذ بتقصيرك ولكن لا تجمع مع التقصير في السلوك إهمال للعمل للإسلام.
ماذا قدمتم أيها الإخوة! أسألكم بالله يوم أن تحمل جنازتي وجنازتكم على الأكتاف، وبعد تحضر الملائكة وتنزع الروح من الجسد، ونحن نتذكر ومن حولنا يبكون علينا، ونحن نقول: ماذا قدمنا للإسلام؟ هل ربينا الأولاد تربية طيبة، أم أخذنا نحضر لهم مختلف الأفلام والمسلسلات؟! هل اعتنينا بالزوجات والبنات؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
ماذا قدمتم للإسلام أيها الإخوة؟! إن الإسلام للجميع، والعمل للإسلام مسئولية الجميع، ليس مسئولية الخطباء أو الدعاة أو حملة الشرعية، فالمكنيكي مسئول عن الإسلام، والمطافئ مسئول، ومنقب الزيت مسئول، وسواق التاكسي مسئول، والحارس مسئول، وأكبر وأصغر واحد مسئول عن هذا الدين، فماذا قدمتم؟! اسألوا أنفسكم يا إخواني: ماذا قدمتم؟ قدمتم لبطونكم.
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] أين المسلم الذي يكون مباركاً أينما كان؟ نعم نحن مباركون لكن في حظوظنا الأنانية، حينما نعيش لذواتنا فحسب، حينما نعيش لأنفسنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة تبدأ من حيث بدأنا وتنتهي حيث ننتهي.
وحينما نعيش لفكرة، حينما نعيش لغاية، حينما نعيش للدين نبدأ قبل أن نولد لأننا بدأنا مع الحق، ونستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها حتى نرى ثمار الحق، ذلك يوم أن نعيش للإسلام.
مسئولية كل واحد منكم أن يكون عيناً حارسةً لأمنه ووطنه وبلاده خاصة، وبلاد المسلمين عامة، مسئولية كل واحد منكم أن يكون يداً معطاءة لمشاريع الخير، للعمل الإسلامي، الجبهات مفتوحة الآن، العالم الإسلامي مطعون طعنات عديدة.
إذا كنا مللنا قضية أفغانستان، فعندنا قضية جديدة اسمها قضية السودان، والجهاد في جنوب السودان بدأ، والجهاد في إريتريا بدأ، والجهاد في الفليبين على أشده، لكن ماذا نعرف؟ نعرف أن المدرب العجوز الكاميروني قاد الكاميرون إلى دور الأربعة، ودخلت في مباريات كأس العالم.
كيف استطاع ذلك العجوز المعجزة أن يقود كأس العالم؟ نعم عرفنا هذا، لكن هل عرفنا أن هناك جهاد؟! هل عرفنا أن في سجون أثيوبيا آلاف المسلمات ولدن سفاحاً من الزنا من قبل جنود الشيوعية؟! ما هو واجبنا؟ واجبنا أن نجعل العالم الإسلامي كالفطور والغداء والعشاء، كيف؟ الدعم والتبرع، اجعل صندوقاً في بيتك، فاتتك الصلاة فقل: أستغفر الله وأتوب إليه، إن الحسنات يذهبن السيئات، وهذه في الصندوق، سببت أحداً أستغفر الله وأتوب إليه، إن الحسنات يذهبن السيئات وهذه في الصندوق، جاءك رزق من الراتب، فباسم الله طهارة ونماء للمال وهذه في الصندوق، كل بيت فيه صندوق في نهاية الشهر نجمع الكثير ثم نتوجه به، لنحرق أعداء الإسلام؛ لأننا نرجو ما لا يرجون {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104].
إذا كنا نتألم من عداوة الأعداء وحرب الأعداء لنا، فإنهم يتألمون أيضاً من ضرباتنا، ولكن نحن نرجو ما لا يرجون، ولذلك في غزوة أحد لما تكلم أبو سفيان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يجيب الكافر؟ قالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) فنحن نرجو ما لا ترجون يا أعداء الله! نحن يوم أن نستمر ونصبر ونصابر نعلم أن هذا الدين دين جهاد.(237/21)
حقيقة العمل الإسلامي
ثم نقول يا إخواني: في خضم العمل الإسلامي اليومي للإسلام لا يكون الواحد عابساً لا يضحك ولا يبتسم بل أضحك وأنا أعمل للإسلام، وأمازح إخواني وأنا أحمل هم القضية الإسلامية، وأتنزه مع أسرتي وأولادي، أعرف كيف أكون مسلماً طبيعياً مع حملي لهموم الإسلام.
الكثير من المسلمين يقول: وأنا يا أخي أعيش معقداً، فقط: أظل أتنفس الصعداء وهموم المسلمين، أنا أريد أن أضحك مثل الناس تقول: اضحك يا أخي، وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنعه جهاده الكفار أن يمازح صحابته؟ لا.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] الذي خلقك أضحكك وأبكاك، فلا يمكن أن ربك ينكر عليك الضحك والمرح وسعة الصدر، ولا يمنع أن توسع صدرك، ولكن الجهاد والعمل للإسلام لا يمنع أن تضحك وأن تمازح، وأنت ترد المنكر والشر عن بيتك، هذا إن كنا نصدق مع الله أيها الإخوة، هذا إن كنا ننظر أن الموت أجل مغيب.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
ينبغي أن نعلم أيضاً مع هذا كله أننا نحشر فرادى، وأن الإنسان لا ينفعه قريب ولا بعيد ولا ينفعه إلا عمله، حتى أمك وأبوك، الشلة التي تسهر معها، وزع يا أبا صالح، وابغ لنا الرابع يكمل الشلة الليلة، هؤلاء إذا كان أبوك وأمك ما نفعوك يا أبا صالح كيف بأبي عزيز الذي كلمك أو شرح لك أو أعطاك الحكم، هل هذا نفعك عند الله؟ لا، اعلموا يا إخواني! {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] أبي أمي، ما أحد ينفعك، نفسي نفسي.
في حادثة النفق كنت حاجاً، ورأيت الناس ممن ليس عليه إزار ولا رداء ولا سروال ولا شيء، إزاره ورداؤه طائح وما يدري، يريد أن يتنفس هواء، ذهل أن عورته ظهرت وأن رداءه سقط، قلت: سبحان الله! في زحمة نفق غفل عن نفسه وما درى عن عورته، فما بالكم إذا ازدحم الخلائق في المحشر! وقبل يومين كنا في سجن الشرقية نحدث بعض إخواننا السجناء، نسأل الله أن يمن عليهم بالهداية، ما في مكيفات، مراوح شغالة، فلما ازدادت الرطوبة والحر والأنفاس، قام مجموعة من المساجين يصيحون صياحاً شديداً، قلت: سبحان الله! مراوح ومفروش ومظلل والعالم قامت تصيح من القهر: افتحوا لنا، هلكنا من الرطوبة والحر، سبحان الله! وأين الناس يوم تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ عرقه إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ عرقه إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ترقوته وثدييه، ومنهم من يلجمه العرق، فيا إخواني: إلا من؟ إلا (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم: شاب نشأ في طاعة الله) هذا ما يجد العرق والشر والشمس هذه كلها، (وشابان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، وإمام عادل، ورجل معلق قلبه بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
يا أحبتي نحن بحاجة إلى أن نفهم الدين، حينما نناقش بعض أحبابنا وإخواننا الشباب عن الالتزام والتدين والاستقامة والتقوى والعبادة، والسعادة، يقول: أفهم والله أن فلاناً دين، ما معنى: فلان دين؟ أي: صار يضع الغترة كذا، ويطلع اللحية بالشكل ذا، وقصر ثوبه إلى ركبته، أهذا هو مفهوم التدين؟ لا.
ليس هذا مفهوم التدين، الشيطان يصور لنا أن التدين هكذا، حقيقة التدين أن تعرف مصلحة نفسك، أن تعرف أنك يوماً ما تؤاخذ وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ويدنيك الله جل وعلا ويقررك بذنوبك ذنباً واحداً واحداً.
يا إخواني! لو قلت لكم: اذكروا ذنوبكم التي تستحون منها، فكل واحد يعرف ذنوبه، يعدها ويراها مضيئة، ولا يشك فيها، بل يعرف متى وقعت؛ في الوقت الفلاني، في اللحظة الفلانية، في الساعة الفلانية، في السيارة الفلانية {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] ولو قلت له: عد حسناتك التي ترجو بها لقاء الله؟ قال: والله ماذا أفعل! ما أحضر الصلاة مع الجماعة، وإذا صليت ما أدري عن هذا الوضوء، وإذا ركعت أو سجدت فلا أخشع، ولا أدري ماذا أقول، ولا أتدبر، وحالي ما يعلمه إلا الله، وتقصير في السلوك، وتساهل بالمعاصي، وأمور يأمر الرسول بها وأنا مقصر فيها، أي: يكاد يقطع يديه أمامك وما يذكر حسنة قدمها يدخرها عند الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (يا بلال! إني سمعت دف نعليك في الجنة، فماذا تفعل؟ قال: إني ما توضأت إلا صليت بعدها ركعتين) أي: عمل مستمر مع القيام بالواجبات وترك المنهيات، نحن ما عندنا عمل نرجو أن نلقى الله به، لكن ذنوب نذكرها كما نعد هذا اللمبات في السطح.
ويا إخواني أسألكم بالله: هل فيكم من يكره الله؟ حاشا، كل واحد منكم يحب الله، فلو طرق ملك الموت الباب، وقال: الذي يحب الله يأتي معي يقابل الله، من يقوم منا.
كنت أخطب الجمعة في الرياض مرتجلاً، فإذا برجل كان أمامي، يتقلب فجأة هكذا، وفجأة هكذا، ثم أخذوا ماء ورشوا عليه ما تحرك، أخذوه إلى مستشفى الأمير سلمان، قالوا: هذا مات منذ ثنتي عشرة دقيقة، جاء ملك الموت في المسجد وقبض روحه وانتهى.
فيا إخوان أنا أقول وأنتم تقولون: لا نكره الله، ما فينا من يكره الله، لو جاء ملك الموت الآن وقال: يا إخوان! نريد واحداً يقابل الله؟ كل واحد يقول: انظر الذي بجانبي، اذهب إلى الثاني، أين الذي يحب الله؟ لأننا خربنا الآخرة وعمرنا الدنيا، فكرهنا أن ننتقل من العمار إلى الخراب، فاعمروا آخرتكم، وإنها فرصة وتوبة إلى الله جل وعلا.
يا أحباب! يا شباب! يا شيب! يا رجال! ومن يسمع هذا النداء والخطاب عبر الشريط من الفتيات والنساء، اسمعوا هذه النصيحة: أعدوا لأنفسكم وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
أسأل الله جل وعلا أن يجعل ما سمعتموه حجة لنا ولكم، وأن لا يكون حجة علينا ولا عليكم، وأسأله أن يكون دفعة لنا في أن نفهم ماذا تحتاج أمتنا وما يحتاج واقعنا لنعمله، وكما قلت: لأن وصف الأمس ووصف اليوم لا يجدي شيئاً ما لم نعمل، العمل، التوبة، إصلاح النفس، فاقد الشيء لا يعطيه، نصلح أنفسنا ثم نستطيع أن نقدم الصلاح، ونستقيم على أمر الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(237/22)
الأسئلة(237/23)
نصيحة إلى النساء بحسن معاملة الأزواج
السؤال
نرجو منكم تقديم نصيحة للنساء المتواجدات هنا؟
الجواب
يخبرني أخي الحبيب يقول: إن مجموعة من النساء موجودات، وليس عندي نصيحة لهن إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم يوم جاءت أسماء بنت يزيد بن السكن الأشهلية الأنصارية، قالت: (يا رسول الله! إن الرجال يجاهدون معك، ويسمعون حديثك، ويجالسونك، ويذهبون بالأجر ونحن ليس لنا منك شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أسماء! يا أسماء! يا أسماء! أخبري من وراءك: إن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله) ما تبعل المرأة لزوجها؟ لطفها، رقتها، عذوبتها، تعطرها لزوجها، وعدم تعطرها للأجانب، تجملها لزوجها وعدم تجملها للأجانب، استعدادها لزوجها، الصبر معه على شظف العيش، الشكر له إذا قدم هدية، القناعة وحسن المعاملة، محاولة نصيحته، محاولة التأثير عليه، لأني عرفت شباباً ما استقاموا إلا بسبب زوجاتهم: (إن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله).
فالأخت المسلمة يوم أن تكون مطيعة لزوجها، حافظة عرضها، حافظة نفسها، حافظة بيتها، الأخت المسلمة يوم أن تكون عنصراً نافعاً يكون لها ذلك الأجر.
عندنا أحد الإخوان في الرياض، عنده أم عجوز لكنها والله أبرك من بعض الإخوان في هذا الزمان، أبرك من بعض الطيبين، منّ الله على قلبها بالهداية، عمرها تسعون سنة أو أقل من التسعين، لكن التزمت وهي كبيرة فقالت: الذي يحبني يا عيالي يأتي لي بأشرطة، قالوا: خيراً ما تريدي يا أمنا! وصار كل واحد يأتيها بأشرطة، فالذي يأتي لها بعشرين شريطاً للقرني، والذي يأتي لها بأشرطة لـ سعيد بن مسفر والذي يأتي لها وتأخذ من هذه الأشرطة، وتقوم الصباح على الجيران: تعالي يا أم فلان، وتشغل المسجل وتسمعهم مقطعاً يبكيهم، وتخوفهم بالله، وتعطيهم الشريط.
فأقول للأخوات المسلمات: لا تكن هذه العجوز خيراً منكن وأنتن متعلمات، حتى التي لم تتعلم تفهم ما يقال بحمد الله، فما الذي يمنع الأخت المسلمة أن تكون داعية إلى الله بالشريط والرسالة والكتاب النافع، أن تكون متحجبة، أن تكون سبباً في نشر الخير والبر والفضيلة.(237/24)
وليد السيف واحتسابه حادثة الحريق لله
أحد الإخوان يقول: لو ذكرت لهم قصة وليد السيف.
الجواب
هو أحد الشباب المجاهدين صار له حادث حريق، وزوجته حافظة للقرآن مجودة مدرسة، في تلك الليلة في تمام العاشرة والنصف تقريباً كانت تتدارس معه قول الله كما يخبر وليد {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] كانت تتناقش معه وتشرح له هذه الآيات، وناموا على بركة الله، ووسط الليل الواحدة والنصف شب حريق في البيت، فبداية اختناق فتح الباب فإذا بالصالة محترقة، فأخذ ابنته، وزوجته أخذت ابنته الثانية عمرها أربع سنوات، حملها ومر على الحريق، والحريق مشتعل في الموكيت -والرجل في مستشفى الحمادي زرته غرفة ألف ومائة وستة وثلاثين الدور الأول- يريد أن يفتح باب الصالة فعجز، فعاد ودخل المطبخ هو ابنته، زوجته خرجت وحملت الطفلة الصغيرة فعثرت في الحريق، فسقطت ولما أوشكت على ملامسة الأرض ظنت أن باب الصالة مفتوح فقذفت البنت على الباب فارتطمت الطفلة بالباب وعادت الطفلة في الحريق، فالتهمها الحريق، وأما هي فلما انتهت المطافي من العملية إذ بها لم يحترق فيها قطعة واحدة، حفظت القرآن فحفظها الله من النار، بل وجدوا تحتها بقعة من الماء، كيف يجتمع العنصر المائي والعنصر الناري، والرجل التهم الحريق أطراف قدمه ومكث في المستشفى مدة.
والحوار الذي دار بيني وبينه طويل، تجدونه في شريط قصص وعبر في محاضرة ألقيتها أمس، لما قابلته قال: يا أخ سعد أنا بنعمة لست بكفء لها، لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وهو يتبسم، من يصبر يا إخوان ويكون يقينه بالله ورضاه بقدر الله إلى هذا المستوى، لكن علمه الجهاد الصبر، علمه الجهاد أن يحمل إخوانه من الشهداء ومن الجرحى ومن الأشلاء ويحتسبهم عند الله، فاحتسب زوجته وطفلته عند الله، ويقول: إذا عادت حالتي الصحية سأعود إلى الجهاد مرة أخرى، فلما أخبرني أمس أحد الإخوان، اتصلت لكي أطمئن على الأخ وليد، هاتفياً قال: يريد أن يذهب إلى أفغانستان بعدما تحسن حاله، قلت: هذا والله أراد الله به خيراً، وأغلب الظن أن يكرمه الله بالشهادة في سبيل الله.
هكذا تكون الزوجة المؤمنة الصالحة، ويكون المجاهد الصابر المؤمن، يكون الشاب المسلم الذي له أثر في الحياة، كم عدد الذين يعيشون في الدنيا، لكن الذين يعدون خمسة، إما داعية، وإما مجاهد، وإما رجل كريم بالدعوة إلى الله، سخي في البذل إلى الله، أو حاكم عادل، أو عالم تقي، هؤلاء هم الذين يبقون، وأكرر أبيات ابن أدهم الجميلة التي لا أمل تردادها:
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتىً كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمه
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمه
وموت الفارس الضرغام هدم فكم شهدت له بالنصر عزمه
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الخلق همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمه
إخواني: هل أنتم من الرعاع أم من الخمسة الذين يبكون إذا فقدوا؟! والله تستطيعون أن تصنعوا من أنفسكم تاريخاً وسجلاً مجيداً، يوم أن تتمسكوا بهذا الدين, تلتزموا به، تفهموه حق الفهم، وإذا فهمتموه عرفتم أن الدين ليس مجموعة معقدين ولحى، وثياب مقصرة، وثياب متلفقة، الدين أكبر وأعظم من ذلك، افهموا دينكم جيداً تعيشوا قادة سادة، علماء أتقياء، كرماء سعداء في أي لحظة وفي أي حال.(237/25)
سبب عدم وجود الجهاد في فلسطين
السؤال
لماذا نجاهد في أفغانستان مع ما فيها من المسلمين، واليهود يستولون على المسجد الأقصى وهم أحق بالجهاد؟
الجواب
افتح لي الطريق إلى فلسطين وانظر من الذي يمتنع، والله لو يفتح الباب إلى فلسطين فلن يبقى لليهود سن يأكلونه، نملأ فلسطين إن شاء الله؛ لكن افتحوا الطريق.(237/26)
الجهاد مهم على كل أرض
السؤال
بعض الناس يقول أيهما أهم: الجهاد في أفغانستان أم في فلسطين؟ نرجو التوضيح؟
الجواب
الجهاد في كل أرض ينبغي أن نعتني به، في فلسطين في أفغانستان في الفليبين في إريتريا في كشمير في جنوب السودان في كل محل، ينبغي أن ندعم الجهاد، المسلمون ليسوا قلة، كم عدد المسلمين؟ مليار أي: ألف مليون، لو أن عُشر الألف مليون الذين هم مائة مليون امتنعوا عن شرب البيبسي يوماً واحداً استطاعوا أن يقدموا مائة مليون ريال.
المسلمين ليسوا بقليل، لكن الغثاء في المسلمين، الغثاء الذي نعيشه في واقع المسلمين.(237/27)
وجود أماكن تدريب في أفغانستان
السؤال
هل هناك في أفغانستان مكان للتدريب وخاصة في هذه الفترة؟
الجواب
توجد أماكن كثيرة ومراكز كثيرة للتدريب على الجهاد في سبيل الله.(237/28)
فضل الجهاد على غيره من الأعمال
السؤال
نرجو أن تعلمنا فضل الجهاد، وكيف يكون خالصاً لوجه الله؟
الجواب
يكفيك فضل للجهاد أنه ذروة سنام الدين، الأركان الخمسة: الشهادتان والصلاة والزكاة والحج والصوم ذروة الأمر الذي يحرسها ويحفظها ويهيمن عليها، الجهاد في سبيل الله، فحسبك أن الجهاد ذروة سنام الأمر، وأنا أقول يا إخوان: الجهاد منزلة عالية، لا يقدر عليها ولا ينالها كل واحد، فهي منزلة عظيمة جداً جداً، لا تعجبوا من قلة المجاهدين، أو من قلة الذين يذهبون إلى الجهاد، لماذا؟ لأن ما وجد كفأ أن ينال المنازل الرفيعة، لكن أقل الأحوال إذا لم تكن في الملحمة في مواجهة الصفوف، في الميمنة، في الساقة، في الميسرة، فلا أقل من أن تكون حمالاً للجهاد، أن تكون جامعاً للتبرعات للجهاد، أن تكون داعية إلى الجهاد، أن يكون دعاؤك بالليل والنهار للجهاد والمجاهدين.(237/29)
(من تتبع الصيد غفل)
السؤال
أنا وزملائي نذهب إلى البر في أثناء الربيع للقنص، ونظل عشرة أيام ولا يوجد عندنا ما نشرب ونأكل منه، وبعض أوقات الصلاة لا نتوضأ، فهل يكفي التيمم؟
الجواب
أولاً بالمناسبة هناك قنص ممتاز في أفغانستان أنصحكم به.
نقول: إذا عدم الماء جاز التيمم، وإذا لم يبق معك من الماء إلا ما تشربه فالماء الذي تشربه تنقذ به حياتك ويجوز لك أن تتيمم ولكن أذكر الحديث: (من تتبع الصيد غفل، ومن سكن البادية جفا) من تتبع الصيد غفل أي: القنص فعلاً ملهاة، يلهي الواحد، لا يدري عن نفسه إلا والصلاة تلو صلاة، ووقت تلو وقت يذهب كله، وربما تنفذ ذخيرتك كلها، والميزانية مائلة.
انتبهوا جيداً في هذه المسألة، بعض الناس فتن بالقنص فتنة أهلكت ماله، وقطعته عن عياله، وضيع كثيراً من العبادات.(237/30)
حقيقة القتال الدائر في أفغانستان
السؤال
نرجو توجيه كلمة للذين يقولون: الجهاد في أفغانستان ليس إسلامياً وإنما هم أفغان يحررون أرضهم ويقاتل بعضهم بعضاً؟
الجواب
النبي قاتل أبو لهب وأبو جهل وهم أعمامه، قرشياً يقاتل قرشي، أفخر العرب وأطيب العرب يقاتلون أفخر العرب وأطيب العرب نسباً، لكن ليست الأنساب هي التي تقرب.
لقد عز بالإسلام سلمان فارس وقد ذل بالشرك النسيب أبو لهب
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
وبعد ذلك من يقول لك: إن هؤلاء يقاتل بعضهم بعضاً، هؤلاء يقاتلون ويقولون: لا إله إلا الله، وهؤلاء يقولون: لا إله والحياة مادة، الضابط على رأسه المطرقة والمنجل شعار لينين واستالين، والحزام -القايش- عليه المطرقة والمنجل، وكتبهم وأماكنهم كلها شيوعية، فهل يعقل أن يقال: إن مثل هذا الذي يسجد لله كالذي يقول: لا يوجد إله؟! الذي يصلي لله كالذي يقول لا يوجد إله؟! الذي يقول هذا الجبل خلقه الله كالذي يقول هذا خلقته الصدفة والطبيعة؟! أيوجد فرق بين هذا وهذا؟!! أبسط الأحوال.
فيا إخواني!
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعف النطق أن لم تسعد الحال
إذا ما استطعت أن تكون مجاهداً، أو جامعاً للتبرعات، أو باذلاً للمجاهدين فقل خيراً أو اصمت.(237/31)
جواز الجهاد إن لم يضع الأهل
السؤال
أنا شاب أريد الذهاب إلى الجهاد في العطلة ولي والدة تقول: لا تذهب لخوفها، وما الحل ونحن نسمع التضحيات من الصحابة؟
الجواب
أنا أقول احرص على الجهاد ولا تعق أمك، يعني: إن كان لك عدد من الإخوان يستطيعون القيام بخدمة الأهل فإن شاء الله تستطيع بالأسلوب الطيب أن تقنع والدتك وتذهب، وإن كنت أنت الوحيد الذي تقوم بمسئولية أهلك وتعولهم وتقوم على أمرهم فأذكر لك قصة واحد من شبابنا في الرياض أراد الجهاد، قال له أهله: لا نسمح لك أن تجاهد وتتركنا، قال: لو ذهبت إلى الجهاد لأخذ الجهاد مني ليلي ونهاري، لكن سأعطي الجهاد العصر صار يشتري ثياب الدفة بالجملة ويبيعها بالحراج بالقطاعي والمكسب للمجاهدين، هذا الذي صادق في الذهاب إلى الجهاد، ويقول: فعلاً ما ردني عن الذهاب إلا والدي.(237/32)
توضيح صورة الجهاد لأجل الدعم
السؤال
عند حلول قرب استلام الراتب لموظفي شركة الزيت قام أحد زملائنا بتذكير إخوانه المسلمين بالتبرع لـ أفغانستان بما تجود به أنفسهم، ولكنا فوجئنا بأن أتى لزميلنا إنذار خطي من إدارة الشركة بعدم عمل هذا الفعل، فما رأيك بهذا الموضوع؟
الجواب
أرجو أن يتم التفاهم مع إدارة الشركة لبيان وجهة النظر الإسلامية الطيبة النافعة، لأننا نعلم ولله الحمد والمنّة أن هيئة الإغاثة الإسلامية هيئة رسمية تحت إمرة الدولة ورعاية الدولة وتدعمها الدولة، ومشاريعها جبارة وواضحة وقوية في جميع مجالات الجهاد، ومشاريع الإغاثة، وكفالة الأيتام، وأيضاً من نعرف من الثقات، أي: لو جاءك واحد وأعطاك أمانة، وقال: يا أخي تفضل، أنت ذاهب إلى أفغانستان، فخذها أنت وسلمها من يدك إلى يد سياف، أو من يدك إلى يد حكمتيار، أو من يدك اشتر بها ألف صاروخ وأدخلها، إذا كنت قادراً على حمل الأمانة فنقول: جزاك الله خيراً، وإن أتيت وسلمتها لـ هيئة الإغاثة فهي جهة موثوقة ومعروفة لا نشك فيها.(237/33)
كل عمل يبدأ صغيراً ثم يكبر
السؤال
تحقيق النصر الذي تنشده لا يتحقق إلا بوجود دولة إسلامية واحدة لها قائدة واحد؟
الجواب
الأمر الأول: هذا مثل الذي يجد آلام الجوع ويقول: والله ما أنا بقائم آكل إلا إذا أزالوا القصدير عن (المفطح) لكن الذي فعلاً يريد أن يشبع يقوم ويولع النار، ويقرب المحماة ويحمي القهوة، ويذبح الميسور أو يطبخ الميسور ويأكل، فنحن نقول: أولاً هذا كلام العاجزين.
الأمر الثاني: لله الحمد والمنّة توجد مؤسسات وهيئات وجهات ونشاطات إسلامية قوية، لكن من أراد العمل عرف كيف يعمل، ومن أراد الكلام فالكلام لا ينتهي أبداً.
هذا صك إعسار يا إخوان.(237/34)
تهكم العلمانيين على شباب الصحوة
السؤال
إني أحبك في الله، قرأت في جريدة الشرق الأوسط موضوعاً خطيراً وتهجماً بعض أذناب العلمانية على شباب الصحوة حيث يقول: هذه المجموعات في مختلف مواقع البلاد تعتمد مظهراً واحداً، يتمثل إطالة شعر اللحية بشكل غير منظم وغير نظيف، وكأن الشعر أصبح مقدساً لا يجوز المساس به، ويقول: تتعمد هذه المجموعات تقصير الثياب بشكل ملفت للنظر يُظِهر جزءاً كبير من السيقان، فيصبح منظر الواحد منهم لا يتناسق ولا يتناسب مع ثياب فضفاضة وقصير مع سيقان عارية -لكن ما رأى سيقان الحريم هذا الذي كتب، مسكين إي والله لما رأى السنة شرق بريقه، ولما رأى المنكر جمد بباطله- ويقول: إنهم يلتزمون السلبية في المجتمع فلا يجالسون غير جماعتهم، ويقول: هذا التصرف لا ينم عن روح الدين الإسلامي الذي رضعناه مع حليب أمهاتنا -والله ما أدري ما رضع هذا- ونشأنا عليه.
ويقول: هل هذه صورة المسلم الصحيح.
وبعد السؤال عن الشخص وعن أحواله وجد أن حاله مغايرة للمسلم الذي يتكلم عنه، فهو مسبل أو حليق وضيق للغاية، ولا يشهد الصلاة مع الجماعة ولا الجمعة ولا العيدين.
فما هو الحكم؟
الجواب
اسمع يا أخي الكريم! أولاً: هذه الحالة التي ترونها في جميع أنحاء العالم الإسلامي والمملكة ولله الحمد والمنّة ليس غريباً عليها، دولة إسلامية أهل فطرة وأهل عقيدة، الصحوة الإسلامية ليست غريبة عليها في المملكة ولله الحمد، لأنهم هم أهل الفطرة، فكل مسلم له فطرة، وأرض تجديد العقيدة وأرض مهبط الرسالة من عندهم.
هذه مسألة.
ثانياً: هذه الصحوة قد شرق بها ومات بدخانها بعض العلمانيين القذرين الذين أصبحوا يتهجمون على الصحوة، يقول: ما معنى هذا يقصر ثيابه؟! وتجده عنده مؤلفات طويلة عن الحرية، الحرية ذلك المظهر الرائع من المجتمعات الغربية المتمدنة التي تتيح لكل فرد أنماطاً وأساليب في الحياة كيفما يحلو له، حرية مطلقة، لكن واحد يصير حر في لحيته يربيها، لا، ينبغي أن تحلق، أين الحرية؟ البس ما شئت، شارلستون، جنز، قصير، طويل لكن إذا اتبع المسلم السنة قالوا: ما هذا؟ فإذاً أنت تتكلم عن الحرية، أتركه حراً في تطبيق السنة.
ثم أنا أقول لأحبابي الشباب، وأرجو منهم أن يفهموني جيداً: إن المسلم يسعه أن يكون قريباً لزي مجتمعه، (إزرة المؤمن إلى نصف ساقه)، (وما أسفل من الكعبين ففي النار) لكن لو زدت فوق الكعب بمقدار واحد سنتي رفعت الثوب عن الكعب واحد سنتي أقبل رأسك وجبينك، أقول: كثر الله خيرك، سلمت من الإسبال وحققت جزءاً من السنة، وإن أردت غاية السنة فثوبك إلى نصف ساقك ولا أحد يدخل في خصوصياتك، لكن أنا وجهت نظري أن الداعية يكون قريباً من الناس بأن يكون زيه قريباً من زيهم، ولا أعترض على السنة.
كذلك ينبغي للداعية والمسلم الملتزم أن يكون باشاً مبتسماً ضحوكاً مرحاً حبيباً حتى لا يقول الناس: إن الإنسان إذا التزم يصير معقداً، مثل ما يقول لي واحد من الشباب أبوه في هيئة كبار العلماء، يقول: كنا نخرج نلعب كرة، شباب ملتزمون صالحون ولله الحمد يلعبون كرة ويضحكون ويمرحون، يقول: طلع معنا شاب ما كان يظن أن أهل الخير بهذه الصفة، يظن الواحد والله من أول ما يدخل البيت حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وصك السند وهات المتن وحول وحاء.
يقول: طلع معنا إلى البر وكان من عادتنا أننا إذا خرجنا نقرأ حتى تغرب الشمس، نقرأ صفحة أو صفحتين من كتاب رياض الصالحين، أو تفسير آية، ثم إذا انتهينا منها لبسنا السراويل وأخذنا نلعب حتى يؤذن المغرب فنصلي قال: خرج معنا هذا الشاب وكنا مصيفين، قلنا: ما في وقت نقعد نقرأ، نفرق بسرعة قبل أن يذهب الوقت، فرقنا ونزلنا الكرة وكل واحد لبس، يقول: جاء ومسكني ويقول: أنتم مطاوعة تلعبون كرة؟ قال: نعم، من الذي قال لك إن الكرة حرام، قال: أنا أحسبكم تطلعون وكل واحد يمسك كفر ويصيح عنده، فعلاً أنا أعجب من بعض الشباب يستغرب، ما يصدق أن الشيخ يضحك، سبحان الله العلي العظيم، ولذلك أنا أقول: احذروا أيها الإخوة جميعاً يا من في هذا المسجد، الصحوة الإسلامية الآن مهددة بأمرين: الأمر الأول: يؤتى إلى أحد علماء الصحوة يقال: هذا صاحب معاكسات، هذا رجل لوطي، هذا صاحب مخدرات، ثم يبدأ الشباب يتشككون فيه، هذه من أساليب ضرب الصحوة، وهذا الرجل تقي نقي داعية مسلم مخلص.
الأسلوب الثاني لضرب الصحوة: أن يوجد أناس فجار فساق إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، تجده مجرماً؛ لكن يحاول أن يبالغ في مظاهر معينة وفي زي وشكل معين، ويدعي أنه ممن ينتسبون إلى الصحوة، وتجده يستلف من هذا ويسرق من هذا، وتجده يغتصب هذا ويفعل مع هذا، ويصلح مع هذا حتى يقول الناس: انظروا يا إخوان، هؤلاء المتدينون، فما هو ذنب المتدينين! عندما يوجد رجل ينتحل زي رجل الأمن، وأخذ فلوسك ولعب عليك، وثبت أن هذا الرجل لص ليس برجل الأمن، نقعد نسب رجال الأمن كلهم، أو نقول نستغني عن جهاز الأمن كله؟! هذا ليس بصحيح، لماذا؟ لأن هذا رجل دخيل في سلك الأمن.
لو جاء طبيب دجال ولعب على الناس وأخذ فلوسهم وصار يعطي أدوية، وأكل الناس، نقول: كل الأطباء دجالون ونستغني عن الطب؟ لا، نقول: هذا الدخيل على الطب دجال.
فكذلك إذا جاء رجل دخيل على الصحوة الإسلامية وعلى الشباب الطيبين، وأخذ ظاهرهم وفعل أفعالاً تخالف مقتضى الالتزام والسلوك الإسلامي، فلا نقول: كل الشباب الملتزم فجار أو فساق أو مخادعون أو خونة، بل نقول: هذا المنتحل هو الذي يحارب، وأما البقية فمكانهم على العين والرأس.(237/35)
الشيخ يدفع عن نفسه شبهة أنه حليق
السؤال
بعض الأسئلة يقولون: أنت يا شيخ حالق لحيتك؟
الجواب
أنا أقول الذي عنده لحية للبيع يعطيني إياها، قيس بن سعد بن عبادة يقول: لولا الإسلام -كان ذكياً، ذكي جداً، كان نحيلاً ذكياً- يقول: والله لولا الإسلام لمكرت مكراً لا تعرفه الجاهلية.
وكان قومه يقولون: والله لو بيعت اللحى لاشتريناها له، فأنا عندي هذه الشعرات، الذي يقطع منها ثلاث يدفع الدية، وأما أنا فهذا حد ما عندي والحمد لله على هذه النعمة، لكن لا يظن البعض أنني حليق، وأسأل الله لكل حليق أن يمن عليه بالاقتناع والفهم والالتزام بأن اللحى سنة، ليست سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل سنة واجبة وجوباً، يعني حكم إعفاؤها واجب، أسأل الله أن يمن عليهم وأن يفتح على قلوبهم.(237/36)
حث على التبرع للأفغان
السؤال
الشباب في الخارج عندهم صناديق لجمع التبرعات للمجاهدين الأفغان نرجو كلمة قصيرة تحث على التبرع؟
الجواب
يا إخوان: الذي ليس في قلبه واعظ لا تنفعه المواعظ، إن شاء الله إننا وإياكم سمعنا ونسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، ما يكفي أن ندرك حال إخواننا، وأن نتبرع باستمرار بالقليل، ما قلت الواحد يحط خمسمائة وكذا، إذا أذنبت ذنباً فقدم كفارة، حاول أن تتقرب إلى الله، لحظة صفاء، لحظة قرب من الله، لكن حينما تدعى في كل موقف لا تتردد أن تدفع ولو بريالاً واحداً، وجزاكم الله خير الجزاء.(237/37)
الجور بالقول [1]
العدل غريب في هذه الدنيا، لكننا نجد تمام العدل والإنصاف في كتاب الله، وقد ذكر الشيخ هنا أسباب الجور في الحكم وقلة الإنصاف، ثم عرج إلى الأدلة الشرعية في الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات مع بيان حال السلف في ذلك.
وبعد ذلك بيّن عواقب انعدام التوازن في منهجية الحكم على الآخرين، كما ركز على أهمية التعاون في تنمية الخير والتناصح لإزالة الشر وإصلاحه.
وفي الأخير تطرق إلى موضوع مهم، وهو خطر ترك أقوال العلماء الكبار المشهود لهم بالخير والصلاح والعلم عند وقوع النوازل والخطوب والأخذ بأقوال غيرهم.(238/1)
واقع العدل والإنصاف
الحمد لله القائل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين إن العدل والإنصاف في هذا الزمان بات عزيز المنال لدى الكثيرين إلا من رحم الله وقليل ما هم، فالمسلم مأمور أن ينصف من نفسه ومأمور أن يعدل في قوله وحكمه وفعله، لا أن تأخذه الحمية أو العاطفة، أو يغلبه التقليد والتبعية، أن يرى ما يراه الآخرون، أو يصدق ما ينقله الناقلون من غير دليل وبرهان فيكون كما قال القائل:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
بل الواجب العدل في كل حال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل، الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم يشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الدين من خلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة.
وفي هذا الزمان -أيها المسلمون- الذي عز فيه العدل والإنصاف، يحتاج المسلم إلى الرجوع إلى منهج السلف، ليقيس الأمور بمقياس الكتاب والسنة، حيث أصبحت الأهواء هي التي تتحكم بآراء الناس وأقوالهم، حتى أن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحب مهما كانت كبيرة، بل يبررها، بل تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن ويجعل محبوبه في أعلى المنازل، ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة، وفي المقابل ترى بعض الناس إذا أبغض أحداً لهوى في نفسه أو تقليداً لغيره، جرده من كل فضائله، ولم ينظر إلى حسناته، أما زلاته فيفخمها وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بينة، وليس هذا غريباً، وليس غريباً أن توجد العداوات من أهل الأهواء والضلالة، قال ابن الوردي رحمه الله:
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
وقال الآخر:
لو كنت كالقدح في التقويم معتدلاً لقالت الناس هذا غير معتدل
وقال الثالث:
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
لكن المسلم الذي يحاسب نفسه يزن بميزان الشرع ويحكم بالقسط، إن سيئات الفرد لا تمنع ذكر حسناته، إن سيئات المجتمع لا تمنع ذكر حسناته، إن سيئات الدولة لا تمنع ذكر حسناتها، وإن حسنات الفرد أو المجتمع أو الدولة لا تمنع من إصلاح سيئاتها، إذا كان سياقها لمصلحة على وجه النصيحة لا التعيير، وعلى وجه الإرشاد لا الشماتة، ما لم يبلغ الفساد والخلل حد الكفر، فليس بعد الكفر ذنب ولا ينفع مع الكفر حسنة.(238/2)
العدل والإنصاف في القرآن
أيها المسلمون إن المتأمل لكلام الله جل وعلا يجد تمام العدل في الحكم، وكمال الإنصاف في القول، فهؤلاء النصارى على الرغم من ضلالهم المبين في مسألة التوحيد، إلا أن الله سبحانه بين أن منهم من يؤدي الأمانة قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] وعلى الرغم من الآيات التي جاءت بقتال الكفار، إلا أن الله شرع الكف عمن لم يقاتل، ولم يشرد أو يتسبب في تشريد الآمنين، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].(238/3)
السرعة في إطلاق الأحكام
أيها الأحبة العجب كل العجب مما نراه اليوم ونسمعه من التسرع في إطلاق الأحكام، من التسرع في الحكم على الأمور قبل بحثها وإدراك أبعادها ومضامينها، وأسوء من هذا خوض الصغار في المعضلات، وخوض الجهلة في المشكلات، خوض الكثير في المعضلات بغير علم، فتجد النازلة المحيرة التي تتزاحم فيها المفاسد والمصالح وتتقابل، وتنوء بها عقول الجهابذة من العلماء، سرعان ما ترى صغيراً أو قليل علم يتحدث فيها برأي أو هوى، وأسوء من هذا أن يعيب الجاهل العالم، أو ينتقد القاصر الوافر بحكمته وتجربته، قاصر قليل التجربة ينتقد عالماً وافراً في حكمته وتجربته، فترى صوراً من التطاول وألواناً من التقدم بين يدي العلماء، ناهيك عن الخوض في أعراضهم، فيا سبحان الله! كيف يتجرأ صغير على كبير، وجاهل على عالم؟!
إذا عير الطائي بالبخل مادرٌ وعير قساً بالفهاهة باقل
وطاولت السحب السماء سفاهة وفاخرت الأرض الحصى والجنادل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة وقال الدجى يا صبح لونك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
وأسوء من هذا أن تجد الفئام من الطغام، يردون الوحل والسبخات، ويتركون الأنهار العذبة الزلالة من علمائهم الذين لا يشك في ورعهم وصلاحهم وتقواهم، فهل يجد هؤلاء الطغام غناءً عند أولئك الجهلة؟
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإنّ ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من أقسى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا(238/4)
أسباب الجور في القول والتسرع في الحكم
لو تأملنا هذه المسألة حق تأملها وهي الجور في القول والتسرع في الحكم بلا علم ولا حلم وحكمة وتجربة لوجدنا لهذا أسباباً(238/5)
تفلت اللسان والعجلة بالقبول والرد
أولها: تفلت اللسان والعجلة بالقبول والرد، وقد نسي ذلك المتسرع قول الله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ونسي قول الله: {وَلا تَقْفُ} أي: لا تتبع ولا تتبع {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وإسناده صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، كان مع النبي صلى الله عليه وسلم -إلى أن قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله! فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا.
فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم أو مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم) ولأجل ذا كان حفظ اللسان من ضمان دخول الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
عباد الله إن فقدان الورع في القول وإطلاق اللسان والبلية بالعجلة سبب الهلاك ومظنة العطب، والعاقل يدرك أن ما قيل لا يرد ولا يستدرك فيكف وقد قيل؟ وأما ما لم يقله المرء، فهو مخير بين إمساكه وإطلاقه.
فكم ندمت على ما كنت قلت به وما ندمت على ما لم أكن أقل
يقول الإمام الجهبذ العلامة ابن قيم الجوزية مشيراً إلى فائدة عجيبة قال فيها: من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يرى الرجل قد يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم لسانه يفري أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول! وتزداد الخطورة -أيها الأحبة- ويعظم الذنب إذا كان الكلام والتطاول والقدح والتناول في أعراض العلماء وأعراض الدعاة، فهم سادة الأمة وقادتها ونورها، ولا خير في قوم لا يعرفون لعلمائهم قدرهم، قال ابن عساكر: "لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب".
فأعراض المسلمين حفرة من حفر النار، ومن وضع قدمه في عرض مسلم، أو في أعراض المسلمين فقد وضعها على شفا جرف هار، يخشى أن ينهار به في نار جهنم، وكما قال الشاعر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه وعثرته في الرجل تبرا على مهل
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(238/6)
عدم التجرد والسلامة من الهوى
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة.
أيها الأحبة إذا تقرر ما سبق علمنا وجوب الإنصاف والعدل في الحكم على الفرد والمجتمع، والحاكم والمحكوم، والقريب والبعيد، وهذا يحتاج إلى شرط مهم، وهو: التجرد والسلامة من الهوى، يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] فالهوى مرض يجعل صاحبه يرى الصحيح سقيماً والعليل سليماً؛ ولهذا حذر الله منه، وأوصى نبيه داود بالحذر منه فقال جل وعلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
وحينما يبتلى المرء بداء الهوى، والميل والتجافي والمحاباة، فلن يعرف إلا ما يهوى، ولن يحب إلا ما يهوى، ولن يرى إلا ما يهوى، ولن يعتد إلا بمن يهوى، ولن يسمع إلا لمن يهوى، حتى يعميه الهوى ويصمه، وآية ذلك الإعراض عن الحق؛ فترى صاحب الهوى مائلاً إلى قول من اتبعه، معرضاً عن الدليل من كلام الله وكلام رسوله، وصدق الله جل وعلا حيث قال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] وقال سبحانه: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150].
والعجب كل العجب أن ترى صاحب الهوى يستدل بأهل الأهواء أمثاله، أو يستدل بمن تابعه على ميله وهواه، فإذا علمت أيها المسلم أن الحق لا يستدل عليه بإقبال الطغام وإدبارهم عنه، وإنما يستدل على الحق بموافقة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من المعلوم أن مجرد نفور النافرين أو محبة الموافقين لا تدل على صحة قول ولا فسادة، إلا إذا كان ذلك بهدي من الله، بل الاستدلال بذلك استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله، فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه، بلا هدى من الله.
وقال ابن تيمية أيضاً: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين، أن الذي يرضى له ويغضب له أنه هو السنة وأنه الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، ولم يكن قصده أن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه أو طائفته، أو الرياء، أو ليعظم ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا، فذلك لا يكون لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة، هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة.
وبهذا يتبين أن التجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال والمجتمعات والهيئات والذوات، حتى لو كان رأي الإنسان صحيحاً لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى، ثم النصح للمسلمين، فإن عمله مردود غير مقبول، وهو مأزور غير مأجور، إذا لم يتجاوز عنه ربه قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] وقال شيخ الإسلام فيما معناه: حتى أن الرد على أهل البدع إذا لم يكن لأجل عبادة الله وإخضاع الناس لطاعة الله، وإنما كان الرد لسلاطة اللسان، أو للانتقام، أو لبيان البراعة وقوة الحجة، فإن هذا لا يكون في موازين قائله، إذ شرط كل عمل أن يقصد به وجه الله جل وعلا.
إن الهوى وعدم التجرد لله ورسوله، سبب الفساد في الأرض وباب حبوط العمل، حتى ولو كان ظاهره صواباً لفوات مقصده وهو صلاح النية، بل غاية ما في هذا أن يجعل الحق تابعاً للهوى، وهذا -وايم الله- الشر كل الشر والفساد كل الفساد، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71] فالعلم والعدل أصل كل خير، والظلم والجهل أصل كل شر، والله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15] فعلى المسلم أن يتقي الله ويخشاه، وأن يراقبه وأن يشعر بمعية الله له، وأن يوقن بأن الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم عليه أن يفتش في قلبه وأن يطهره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في وضع الناس ووزنهم بمقاييس الهوى، وقبل أن يبدأ في التعديل والجرح في الذوات والهيئات، لكي يكون متزن الرأي منصفاً بعيداً عن الجور والظلم المذموم شرعاً.
وقد قال الإمام الفذ ابن ناصر الدين الدمشقي قال: هيهات هيهات إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم والوزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك، لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك، وقديماً كان سلفنا الكرام رضوان الله عليهم يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.(238/7)
التقليد والتبعية والمحاكاة
معاشر المؤمنين ربما كان الجور في الحكم وفوت العدل ووضوح الميل، بسبب التقليد والتبعية والمحاكاة، وهذا مرض أخبث من الذي قبله، إذ فيه تعطيل آلات العلم وتقديم الآراء والأهواء على الحجج الواضحات والبراهين الساطعات، ولا تعجب يوم أن ترى كثيراً من الناس يرى رأياً أو يقول قولاً لأن فلاناً قاله أو رآه، وأعظم من هذا تعصبه له وإصراره، ألا يفكر بعقله وألا يعمل عقله في قول من قلده وحاكاه، وقد يكون لدى المقلد عقل لا بأس به لو أعمله وتدبر به ونظر ببصيرته لتبين له خطأ من اتبعه، وتبين له خلاف ما ذهب إليه ورآه من التقليد، ناهيك عما فيه من تقديم عقول الرجال وآرائهم على العدل الذي شرعه الله ورسوله.
وأدهى من هذا وأمر، أن تجد بعض الجائرين في القول والرأي والحكم والنظر إذا دعوته للمناقشة أو للمناظرة، أو إذا دعوته لمناقشة ومناظرة قائده وسيده الذي علمه هذا القول، جبن ورجع القهقرى وعاد خائفاً وقد امتقع لونه، ثم بعد ذلك يقول: أويعقل أن أناقش فلاناً؟! أويعقل أن أتكلم مع فلان؟! وهذا دليل الضلال إذ أن صاحب الحق والدليل لا يتورع عن طلب الحق، فإن كان على ضلالة تبين خطأ نفسه وسلك الحق، وإن كان الذي يقابله على الضلال والخطأ أقام له الحجة وأبان له المحجة، ثم دعاه إلى ترك ما ذهب إليه بهواه وأمره باتباعه.
والعجب أيها الأحبة أن من الناس من إذا ناقشته في رأي أو في قول قال لك من يقلد ويتبع: سبحان الله أيشك في فلان؟! أيشك في علان؟! إن المناظر لا يشكك ولا يسيء الظن ولكن يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111] {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] ائتوني بأثارة من علم أو كتاب أو حجة أو بينة، ولو رد عليهم المناظر بقوله: وماذا يضير فلان لو حاورته وناظرته، فإن كان على صواب زادني صواباً، وإن كان على ضلال بسطت له من لآلئ الحجة ما يضيء له المحجة، ولكن قل أن ترى شجاعاً ينبذ التقليد والمتابعة.
إن الجبن ليس في الخوف من الإقدام في المعارك، بل إن شجعاناً على الإقدام في المعارك تراهم جبناء لا يقدمون على السؤال وعلى البحث والمناظرة وإقامة الحجة، ولكن قل أن ترى شجاعاً ينبذ التقليد والمتابعة، ويسأل ويناقش ويستفسر بصريح الخطاب والعبارة عن الغاية والوسيلة والنهاية، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر].
وقال سفيان بن عيينة: [اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند قادتهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا].
وقال أحمد بن حنبل: [من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال -وقال أيضاً- لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا] وهذا واضح، إذ أن من أصر على التبعية والتقليد والمتابعة بغير سؤال أو جواب، أو طلب للدليل كالذي يقول: إني أتبع معصوماً لا يزل.
ومن استنكف أو انزعج أو بدا قلقاً يوم أن طلب منه الحوار والمناظرة لمن قلده واتبع هواه فكأنه يقول: اتبعه بلا دليل، وإن من الثابت أن صاحب الدليل لا يتورع عن بيان ما استند إليه.
هذا هو المنهج الذي سار عليه أئمة الإسلام وعلماؤه الكرام بصفائه ونقائه، والعجيب كل العجب أنه مع وضوح هذه المسألة وتواترها عن علماء الأمة إلا أنك ترى طائفة ليست هينة تعاني من داء التقليد والمتابعة على التخليط في أمور بعضها جلي، وبعضها خفي، وبعضها واضح، وأكثرها غامض، وفي هذا يقول الغزالي رحمه الله: وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق.
والعاقل يقتدي بسيد العقلاء، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: [لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله].
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من المتجردين لمرضاته، وفي الحديث الذي يروى: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) لهذا الموضوع بقية نبسطها في الجمعة القادمة.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اجمع شملنا وحكامنا ودعاتنا وعلماءنا، ولا تجعل فينا دخيلاً ولا عميلاً ولا فاجراً يريد بنا سوءاً، اللهم من أراد بهذا الجمع فرقة، وأراد بهذه الطمأنينة فزعاً، وأراد بهذا الأمن خوفاً، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم سخر لنا ولعلمائنا ووالدينا وحكامنا ودعاتنا ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك، واجعل اللهم ذلك في طاعتك واتباع كتابك وسنة نبيك، وباباً إلى الخضوع والاهتداء بهديك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم اهزم النصارى، اللهم اهزم الكفار والمشركين والشيوعيين والوثنيين، وأقم علم الإسلام، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والزيغ والعناد، اللهم فرج هم المهمومين، اللهم فرج هم المهمومين في السجون، ونفس كرب المكروبين في الزنازين، وفك أسر المأسورين في الحبوس يا حي يا قيوم، اللهم فرج لهم، اللهم فرج لهم، اللهم فرج لهم، اللهم إن أنينهم لا يخفى عليك، وصرخاتهم لا تعزب عن علمك، اللهم فرج لهم ما هم فيه، واجعل العاقبة لهم يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان ميتاً فاجمعنا اللهم به في جنتك، وجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، ربنا لا تدع لنا في هذا المقام الشريف ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا مدمناً للمخدرات إلا عافيته منها وشفيته منها، وبغضتها إلى نفسه يا رب العالمين، لنا ولأحبابنا ولجميع إخواننا المسلمين.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.(238/8)
الجور بالقول [2]
أقام الله السماوات والأرض على العدل، ومكّن للناس في الأرض، وسيقضي بينهم يوم القيامة بالعدل.
ومن آثار ضياع العدل التحيز إلى فرد حتى يعتقد أنه لا يخطئ، كما أنه قد يجحف بحق آخر، وقد وضع الإسلام موازين منضبطة تعطي كلاً حقه، وتؤدي إلى نماء الخير وزوال الشر، وفي هذه المادة تجد فوائد عظيمة في هذا الموضوع.(239/1)
افتراض العصمة وعدم الخطأ في الفرد والمجتمع
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين تحدثنا في الخطبة قبل الماضية عن العدل والإنصاف في النظر والحكم على الأشخاص والمجتمعات والهيئات والذوات، ومر بنا الحديث عن خطورة العجلة وإطلاق اللسان في الأمور قبل إدراكها وسبر أغوارها، وأن السلامة من الهوى مظنة الحكم بالعدل والحق، وإذا أعمل الرجل عقله ولبه ونبذ تقليد الرجال بغير دليل وبات جريئاً في السؤال لإدراك أبعاد الأمور دون هز الرءوس عند أدنى المسلمات، والاكتفاء بذلك عن التحقيق والتنقيب للوصول إلى حقائق الأمور وجوهرها.
والكلام اليوم بعون الله تعالى في تتمة هذا الأمر، فاعلموا يا عباد الله أن من أسباب الجور في الحكم ومن أسباب قلة التوفيق إلى العدل: أن يفترض الناظر العصمة في مجتمعه وأفراده ومن حوله، والهيئات والمؤسسات العاملة فيه، وبمعنى آخر: ألا يتصور حدوث الخطأ والزلل من قبيله وقرينه ومن حوله، متناسياً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ولو صح أن العصمة موجودة في البشر، وأن من حولك لا يخطئون، وأن من صلح لا يمكن أن يحدث منه الزلل والخطيئة، لو صح ذلك، فما منزلة ومكانة آيات التوبة والمغفرة والأحاديث الواردة في ذلك؟ أليس ورود هذه الآيات دليل صريح على أن في المؤمنين من يعصي ويستغفر، ويزل ويتوب، ويخطئ وينيب؟ أيها الأحبة فأما الزلة والخطيئة فمعفو عنها بالتوبة والاستغفار، ومعفو عنها بالحسنات الماحية للسيئات، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وأما الخطأ الصادر عن اجتهاد أراد صاحبه الحق فلم يوفق إليه؛ فذاك معفو عنه، وأما من عرف خطأه وضلاله، لفساد منهجه وخبث طويته وإصراره على ذلك؛ فذاك الذي ينبغي مناصحته وأمره ونهيه بالسبل والوسائل الشرعية المفضية إلى تحصيل المقصود بالمعروف دون حدوث المنكر، أو زيادة في حجم المنكر، وبالجملة فإن قليل السيئات مغفور مع كثير الحسنات، وحسبك ألا معصوم إلا نبي فيما يبلغ عن ربه، وكفى المرء نبلاً أن تعد زلاته، وصدق القائل:
إذا أنت لم تصبر مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة أو مجانبه
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
قال ابن الأثير الجزري رحمه الله: وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء.
ويقول ابن القيم رحمه الله: وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؟ لكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته.
واعلموا أيها الأحبة أن مما يوقع في الجور وسوء الحكم والفهم أن ينظر الواحد بعين لا ترى إلا المساوئ دون المحاسن
شر الورى بمساوئ الناس مشتغل مثل الذباب يراعي موقع الخلل
إن من لا يرى إلا المساوئ دون المحاسن إن ذلك مما يوقع في الجور وسوء الفهم، وإن مما يوقع في المداهنة والنفاق وفساد التصور، ألا يرى الواحد إلا المحاسن دون المساوئ، وكل هذين خطأ:
فلا تكن فيها مفرطاً أو مفرَّطاً كلا طرفي قصد الأمور ذميم
فإما أن ترى راضين مُسلِّمين لا يظنون أن في الإمكان خيراً مما كان أو مما يرون أو يسمعون، أو ترى ساخطين لا يرون أن فيما يرون ويسمعون شيئاً من الخير أو الصواب، ولو رأوا خيراً أولوه، ولو رأوا صواباً على شر حملوه، وهم كما قال القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا(239/2)
أدلة الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات
والصواب والحق في هذا -أيها الإخوة- أن الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات أمر مطلوب، وإليك النصوص والأدلة الواضحة من القرآن والسنة التي تدل على أن العدل كل العدل في كلام الله ورسوله الذي يقرر هذه الموازنة ويذكر الحسنات والسيئات(239/3)
العدل مع أهل الكتاب
قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم اليهود والنصارى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75] فهؤلاء اليهود الذين تعلمون ما كان منهم، فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].
أيها الأحبة هؤلاء الذين تجرءوا على ذات الله إن ذلك كله لم يمنع من العدل الإلهي أن يذكر فيهم طائفة إذا ائتمنوا بقنطار -بجبل من الذهب- أدوه، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، فالله جل وعلا يذم اليهود من حيث العموم، ونحن نقرأ في الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فاليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون، ولكنه في الوقت ذاته يبين ربنا جل وعلا بأن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أي: بغضاء وكراهية قوم {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] واسمعوا هذه الصحاح التي نقلت عن بني إسرائيل، الذين ذكر من شأنهم ما ذكر من تركهم الأمر والنهي والتلاهي، وذكر ما ذكر فيهم من اللعنة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] فهم بالعموم وبالجملة قد ذكروا في معرض الذم والتثريب على سوء فعلهم، ولكن لا يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر أن فيهم من إذا اؤتمن أدى الأمانة، ومن إذا اقترض أدى ما عليه، ورد في صحيح البخاري حديث طويل في رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل، وأراد ذلك الرجل أن يؤدي القرض ويؤدي الدين، التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ورمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو يلتمس مراراً مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركباً قد جاء بماله -أي أن الذي أقرض ذلك الرجل خرج ينتظر غريمه، لعله يأتي بالدين- فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به.
قال الآخر: فإن الله قد أدى عنك، بعثت بالخشب، فانصرف بالألف دينار راشداً.
وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة قد لا توجد في بعض المنتسبين إلى الإسلام كما قال تعالى في الآية التي ذكرناها آنفاً: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75].(239/4)
موازنة الشرع بين الحسنات والسيئات
والدليل الثاني: قوله الله جل وعلا في شأن الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأن ما ترى من شر، لا يمنع أن تذكر الخير فيما ترى، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فالله سبحانه أثبت النفع في الخمر والميسر، ولكنه حرمها لغلبة المفاسد على المحاسن، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن في الخير الذي عندهم، فالعبرة بكثرة المحاسن.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد الله، وكان يلقب "حماراً" وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) فهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه زلت قدمه وتكرر شرب الخمر منه، ولكن هذا لا يعني فساده بالكلية، بل فيه من الصفات الحميدة الأخرى ما يوجب محبته وموالاته، فيعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف.
ولا يجوز بحال أن يغلب جانب النظر إلى المعصية دون النظر إلى بقية الحسنات والفضائل، وهذا حد فاصل بين أهل السنة والخوارج، إذ أن أهل السنة يحبون الرجل من وجه ويبغضونه من وجوه، أو يحبونه من وجوه ويبغضونه من وجه، وقد يجتمع في الواحد حب وبغض في آن واحد، قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه لما جاءه الشيطان يحثو ويسرق من مال الصدقة وذكره وعلمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان قال: (أما إنه صدقك وهو كذوب) فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الصدق للشيطان، الذي ديدنه الكذب في تلك الحالة، فلم يمنع ذلك من تقبل الخير الذي دل عليه.(239/5)
حال السلف مع العدل والأنصاف
وقد أكد السلف الصالح رضي الله عنهم على أهمية هذا التوازن وضرورة العدل، وسطروا لنا أروع الأمثلة في هذا الباب، فمن أقوالهم الجميلة: قال سعيد بن المسيب: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، لكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال محمد بن سيرين: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوء ما تعلم وتكتم خيره.
وقال عبد الله بن الزبير الحميدي: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بـ مكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة، فقلت له: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي.
وكان أحمد قد جالسه بـ العراق، فلم يزل بي حتى اجترني إليه، وكان الشافعي قبالة الميزاب، فجلسنا إليه ودارت مسائل، فلما قمنا؛ قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت الرجل؟ فجعلت أتتبع ما أخطأ فيه وكان ذلك مني بالقرشية -أي من الحسد- فقال لي أحمد بن حنبل: فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان -أو نحو هذا القول-؟ تمر مائة مسألة يخطئ خمساً أو عشراً، اترك ما أخطأ وخذ ما أصاب؟ فإذا ظهر هذا وتبين لكم أيها الأحبة علمنا أن تصيد الأخطاء وتتبع العثرات والبحث عن الهفوات، كل ذلك مع التغافل عن الحسنات، دليل على فساد القصد وسوء الطوية، ورحم الله الشعبي إذ يقول: لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسعة والتسعين!(239/6)
الاعتدال في منهج الحكم على الآخرين
أيها الأحبة إن الاعتدال في المنهج يفضي إلى العدل في القول، وإلى العدل في النظر والتصور والحكم، وما يقال في هذا على الأفراد يقال على المجتمع وعلى الحكام وعلى الدولة، فمن نظر إلى أخطاء مجتمعه دون حسناته قاده ذلك إلى الفشل والإحباط والتوتر في نفسه ومشاعره، ومن ثم انعكس ذلك على علاقاته وتعامله مع مجتمعه، وإن الذي يعمل في مجتمعه وفق منهج عدل، حينما ننظر إلى العدل والصواب، والحسنات والسيئات، فإن ذلك يدعو من رأى الصواب إلى العمل والمبادرة والتفاؤل والتنمية، ويحفزه ذلك إلى مزيد من الصواب الذي رأى، مع طمأنينته أن في الأمة خيراً يدعو إلى السعي والإصلاح (ومن قال هلك الناس فهو أهلكُهم أو أهلَكهم).
وإن من ينظر بعين الاعتدال، يدعوه اعتداله إذا رأى الخطأ ألا يقنط ولا ييئس من الإصلاح، بل يتوجه لما يرى من الاستجابة ويدأب في العمل للإصلاح إلى جانب ما رآه من الخير والصواب.(239/7)
عواقب انعدام التوازن في منهج الحكم على الآخرين
معاشر إخواننا، معاشر أحبابنا، معاشر الشبيبة المسلمة إن مغبة انعدام التوازن في المنهج الذي به ننظر ونحكم على الأفراد والهيئات والذوات يفضي إلى خطر كبير وشر مستطير، ولقد رأيت من صور هذا الخطر في ظل غيبة التوازن في المنهج أن تنطلق ألسنة الصغار في الكبار، والجهال في العلماء، والعوام في الحكام، الأمر الذي يفضي إلى سقوط هيبة قادات الأمة، ممثلةً في حكامها وعلمائها، ولو دام ذلك واستمر فلا شك في سوء عاقبته، وما يفضي إليه من ضياع مصالح العباد والبلاد في أموالهم وأعراضهم وأمنهم ومصالحهم وهذا يفهمه ويعقله أولو النهى وأرباب الحجى
يكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي
فيا أحبابنا إن بلادنا بلاد عقيدة وفكرة، وهي وليدة منهج ودعوة، تلكم دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وتبناها وعاضده فيها المؤسس الأول محمد بن سعود رحمه الله، فإذا كانت تلك الدعوة السلفية قد أنتجت دولة وجمعت شمل أمة؛ أفترون تلك الدعوة السلفية عقيمة لا تلد منهج إصلاح للدعوة أو توجيه للأمة؟ أم ترون أننا بحاجة إلى استيراد مناهج الدعوة يميناً ويساراً من البلاد المجاورة؟ ألا لست بهذا وفي هذا المقام أنتقد مناهج الدعوة في البلاد الأخرى، ومع ذلك لا أدعي لها الكمال والعصمة، بل لها وعليها، وفينا ما لنا وما علينا، وفينا على اختلاف مستوياتنا أخطاء وإصابات وسيئات وحسنات، ولكن لا يستطيع أحد أن يلزمنا بالدعوة على طريقة تلك المناهج الدعوية الموجودة في البلاد المجاورة وهذه المسألة مهمة جداً.
وإني والله أقول هذا الكلام، وأدين الله جل وعلا به، وما قلته تملقاً ولا تقرباً لأحد، لكني تأملت سيرة ذلك الإمام الجهبذ العلامة، الذي اجتمعت عليه قلوب الأمة شرقاً ومغرباً، وما علمت مبغضاً له إلا هو أقرب إلى الشر من الخير سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رأيت رجلاً لم تستطع جماعة أن تحتويه، ولم يستطع منهج أن يجعله تحت ظله، ومع ذلك لم تستغن جماعة من الجماعات عن علمه ورأيه وفتواه وفكره، وطول خبرته وبصير علمه.
فيا معاشر المؤمنين إذا أدركنا ذلك وجدنا أننا بحاجة إلى التوازن، وبحاجة إلى الهدوء، وقد يفهم البعض أن الكلام عن الحكمة والتوازن أن نطأطئ الرءوس عن المنكرات، وأن نسكت عن الخطيئات لا والله، ليس هذا من الحكمة وليس هذا من التوازن، إن التوازن: أن ترى الخير فتذكره وتشكره، وأن ترى الشر فتنكره، ولكن بالأسلوب الذي لا يفضي إلى منكر أكبر أو يفوت معروفاً موجوداً.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(239/8)
تنمية الخير وإزالة الشر
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة إننا نعلم أن من الناس من لا يعجبه مثل هذا القول، ولكن لنعلم جيداً أن الله جل وعلا قد جعل وظيفة الأنبياء ومن ورثهم أن يقودوا الناس إلى الهدى، لا أن يسمعوا الناس ما يشتهون، فتجد من الناس من يقول: نسمع من فلان ما نشتهي، ونسمع من فلان كذا، ونسمع من فلان كذا، وفلان على حظه من الخير إن وفق إلى الخير، وعلى حظه من الأجر إن اجتهد فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب خيراً فله أجران، وعلى حظه من الإثم إن أراد شيئاً ظاهره أمر وباطنه غيره.
أيها الأحبة في الله إن من واجبات العدل في مجتمعنا أن ننظر إلى ما نحن فيه من خير فننميه، وأن نتأمل ما نحن فيه من شر أو خطأ أو نقيصة فنتعاون ونتناصح على إزالته وعلى إصلاحه، وأن يكون هذا دأبنا وديدننا وحرصنا، كما نحرص على أرزاقنا وأنفسنا وأموالنا وذرياتنا، وإني أعجب -أيها الإخوة- من أناس يوم أن يروا حسنة من الحسنات من أناس قد ضل منهجهم أو غاب الوضوح في رأيهم، وجدتهم يطنطنون بها ويذكرونها، وشكراً لهم على ذكر الحسنة في مكانها، ولكن ينبغي ألا تكون الحسنة بمعزل عن ذكر تلك الخطيئة والسيئة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى غيره، فتجد من ينظر بعين فيها هوىً وميل، يحرص أن يئول كل زلة، وأن يستر كل خطيئة، وأن يبعد عن مناقشة كل أمر، فلا تراه يذكر إلا ما يشتهي الناس، أو ما تشتهي الأمة.
إن الله جل وعلا قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:105] فالدليل والنص والآية والحديث تجر الناس إلى التصور الصحيح وإلى الفهم السليم، لا أن يسمع الناس ما يشتهون، لا أن يقولوا ما يريدون، وقد حصل لي في أزمة الخليج محاورات كثيرة مع أناس منهم من رفع الصوت، ومنهم من خفضه، ومنهم من اغتاب، ومنهم من ذكر، والله إني أسأل الله أن يغفر لهم، ولكني قلت: لن أقول ما يشتهي الناس، وإنما أقول ما بلغه عقلي بعد اهتداء بهدي من الله وكلام رسول الله، وبعد إدراك لما رآه علماء الأمة، فإن كانت الآية والحديث دلالتها قطعية، فالصغار والكبار لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها قيد أنملة، وإن كانت دلالة الدليل ظنية فليس اجتهاد فلان بأولى من علان، وإذا وضعت اجتهادين: اجتهاد من عاصر أمماً عديدة وعاصر دولاً عدة وسبر الأمور، وشابت شيبته في الإسلام، وعرف عنه الهدى والتقى والصلاح والعفاف والبعد عن مصالح الدنيا، أفترون من العقل أن أترك اجتهاده لعلمه وحلمه وورعه وصلاحه لاجتهاد غيره؟ حينئذ إذا اتبعت الحق بما شرح صدرك إليه فلا يضيرك من خالفك، صغيراً كان أم كبيراً، المهم أن يكون قصدك ما يرضي الله جل وعلا، المهم إذا وقفت يوم القيامة بين يدي الله وقيل لك: لماذا قلت كذا وكذا؟ تقول: هذا خير يا رب شرح صدري إليه، أو شرحت صدري إليه على دليل من الكتاب والسنة وفهم علماء الأمة الذين أرشد الله إليهم {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وقول الله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء:83].(239/9)
عجباً من مواقف بعض الشباب!!
إني أعجب من شبيبة -أسأل الله لي ولهم الصلاح والهداية- يوم أن تقع نازلة، أو تحل مسألة، فإذا سمعت قول كبار العلماء، وإذا التفت إلى اجتهادهم، أبطول تجربة وعمق بصر وبصيرة، وفهم وإحاطة شاملة للنصوص والأدلة، أخذت قولهم ورأيت رأيهم واتبعت منهجهم، فرأيت من يخالف ومن يلوم من يخالف وهم ينهون عنه وينأون عنه، فإن كان ولابد، فلا أقل من أن تأخذ ما وقفت عليه، ولتعلم أنك متبع للهوى في ذلك، ما معنى أن تعمل بقول ابن باز وقول ابن عثيمين في كثير من المسائل فإذا جاءت مسألة معينة قلت: لا، هذا قول لا أقبله، وهذا قول لا أتبعه.
أو قول من قال: إن المشايخ لا يفهمون، إن العلماء لا يدركون ومتى غاب عنهم شيء فتح عليك؟ ومتى جهلوا شيئاً علمته؟ ومتى عضلت عليهم مسألة فهمتها أنت؟ فيا سبحان الله!
ومن يثني الأصاغر عن مراد إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإنّ ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من أقسى البلايا
إن العدل كل العدل في منهج نعيشه أن نرد الأمور صغيرها وكبيرها إلى علمائنا الأجلاء، وكبار علمائنا الصالحين ممثلين في سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ومحمد بن صالح بن عثيمين، ومن وافقهم ونهج نهجهم، والجميع على هدي من النبي صلى الله عليه وسلم، نحسبهم كذلك ونسأل الله لهم ذلك.
وأما ما سوى ذلك أيها الأحبة، فدعونا من بنيات الطرق، وإن الحجة واضحة، والمحجة بينة
عطاينا سحائب مرسلات ولكن ما وجدنا السائلينا
وكل طريقنا نور ونور ولكن ما رأينا السالكينا
أيها الإخوة عجبت ذات يوم وكنت حينها في باكستان، أيام الجهاد في بيشاور، فجلست مع شبيبة أخذوا يتكلمون، لا حديث لهم إلا في الحكام وفي الذوات وفي العلماء، فقلت: يا عباد الله ألا تدعوننا ننام هذه الليلة سلمنا من غيبة أعراض وهيئات وذوات.
فتطاول البعض منهم إلى حد التكفير، وقال: فلان كافر، وفلان فيه، وفلان كفر.
فقلت: يا سبحان الله! إنك يوم القيامة إن لم تتكلم في واحد من هؤلاء لن يسألك الله عنهم، ولن يحاسبك الله لماذا لم تتكلم في فلان وعلان، لكن إن تكلمت في أعراضهم فزللت في ذواتهم وهيئاتهم ستحاسب عن كل صغيرة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
المهم أنهم تكلموا وتحدثوا وهاجوا وماجوا، واضطرب الحديث واختلف حتى باتوا في حيص بيص، فقلت لهم -وهم من أجناس مختلفة- قلت: يا إخواننا مثلاً لو قلت لك في مصر، أو سوريا أو في تونس أو في الجزائر لو قلت لك: إن هيئة أنشئت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلت لك: إن قراراً صدر بفصل البنين عن البنات، وقلت لك: إن الدكاكين والحوانيت تغلق وقت الصلاة، وقلت لك: إن القاتل يقتل والسارق تقطع يده، والزاني المحصن يرجم، وقاطع الطريق يقتل، وإن هناك محاكم شرعية، وقلت لك أيضاً: لا تجد باراً مرخصاً أو حانوتاً للزنا مقنناً، وقلت لك وقلت لك من هذه الأمور، أنها عادت إلى بلادك وحكم بها ألا ترى في تصورك أو ظنك أنها خلافة راشدة عادت من جديد؟ قال بعضهم: والله بلى.
قلت: إذاً فما بالكم تسلطتم علينا في مجتمعنا، ولا هم لكم إلا بلادنا، أنتم كذا وأنتم أذناب، وأنتم عملاء، وأنتم منافقون، وأنتم مداهنون؛ والمصيبة -أيها الأحبة- أن هذه الشنشنة الأخزمية نسمعها لا أقول في كثير من الأحيان، بل في بعض الأحيان من أناس لم يخبروا حقيقة الأمر، بل في زغرد أيام مؤتمر حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك قابلت رجلاً من المشهورين، وأخذت أتحدث معه فقليلاً حتى نزل في مجتمعنا وأصبح لا يتكلم عنا إلا بالسيئات، فقلت له: هل يوجد في بلادكم كذا؟ هل يوجد كذا؟ هل يوجد مثل ذلك؟ فقال: لا.
قلت: يا أخي الحبيب إن كان ولابد فانظر إلى مجتمعنا بالحسنات والسيئات، ثم إني أسألك الآن عن البلاد التي سميت الآن بلاداً إسلامية، أو وصل الإسلاميون فيها إلى الحكم سددهم الله وأعانهم وثبتهم، هل هدموا القبور والأضرحة؟ هل منعوا التوسل بالأولياء؟ هل منعت المزارات؟ هل ألغي الشرك الأكبر الذي هو أكبر من الربا الذي تحدثني عنه؟ نعم والله ما مررت ببنك إلا وأنا بدلاً من أقرأ بنك كذا، إلا أقرأ في المقابل لوحة اسمها لعنة الله ورسوله على كذا وكذا؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) نعم ننظر إلى مجتمعنا بحسناته وسيئاته، بأخطائه وصوابه، بما فيه من الخير وما فيه من الشر، ولكن أن نعطي العقول غيرنا ثم ننصب من أنفسنا أعداءً لحكامنا، أو أن نرى أننا نخالف كبار العلماء منا، فإذا جاءت المسألة الفلانية قلنا: قال ابن باز وقال ابن عثيمين، وإذا جاءت الأخرى قلنا: لا، قال فلان وعلان؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] أفنسمع لهذا تارة ونترك ذاك تارة، أم جعل العلماء للحيض والنفاس والصوم والصلاة والزكاة، وجعل غيرهم لأمور السياسة والاقتصاد وغيرها؟ إن العلماء هم العلماء، في السياسة والاقتصاد والطهارة والحج والصلاة والزكاة، وإن التفريق الذي نراه من البعض إنما هو شر ونذير شؤم وخطر على الأمة، وإن نهايته أن يفترق الناس إلى مدارات ثلاثة: مدار الحكام، ومدار العلماء، ومدار الدعاة.
وهذا خطر عظيم، لا نسمح ولا نرضى ولا يجوز شرعاً أن يوجد، بل لا حلف في الإسلام، ولا يجوز أن يقوم هذا ليكون نواةً لمجموعات أو أحزاب، إذ أن البلاد أمة، والمجتمع أمة، هي أمة واحدة، منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، فمن أحب هذا ورضيه وسأل عنه وناقش العلماء فيه؛ فإنه على خير، ومن أعرض عنه ولم ير إلا ما يشتهي أو ما ردد؛ فله من ذلك ماله وعليه من ذلك ما عليه.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب كل شيء ومليكه، فاطر السماوات والأرض، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أسأل الله أن يجمعنا وإياكم في الجنة، وأن يصلح لنا ولكم النية والذرية، وأن يعصمنا من الهوى والنفاق والرياء، ونسأله سبحانه أن يصلح شبابنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا، وأن يجمع شملنا.
يا حي يا قيوم اللهم صل على محمد وآله وصحبه.
وأقم الصلاة.(239/10)
الخوف من الله
الخوف من الله لا يكون من أصحاب الذنوب والخطايا فقط، بل لابد أن يكون حتى من الصالحين، فالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يخافون من الله عز وجل، وكذلك الأنبياء عليهم السلام، ولقد وردت كثير من الأقوال عن السلف رضوان الله عليهم تبيّن شدة خوفهم من الله عز وجل مع طاعتهم له، فالخوف والرجاء كالجناحين للمؤمن يطير بهما إلى الجنة.(240/1)
أهمية اجتماع الخوف والرجاء
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن حسن الظن والرجاء بمغفرة الله ومثوبته، ينبغي أن يكون لعبدٍ أخلص النية وأحسن العمل واجتهد في العبادة، أما العصاة المصرون على الذنوب المستهترون بفعلها، والمقيمون على الفواحش، فأي عملٍ صالحٍ يرجونه ويحسنون الظن به -يا عباد الله- فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
أيها الأحبة في الله! إن كثيراً من أبنائنا، وكثيراً من شبابنا، وبعض المسلمين هداهم الله، ليتساهلون بالذنوب والمعاصي إلى حد الإصرار المقيم، والعمل المديم على المعاصي والفواحش والسيئات، دون تفكيرٍ أن يتوبوا أو أن يقلعوا أو أن ينيبوا إلى الله منها، فأولئك لو حادثت بعضهم وهو مصرٌ مقيمٌ على معصية الله، قال: إني أحسن الظن بالله، والله لو أحسن الظن لأحسن العمل.
إن المقيم على الذنب والمصر على المعصية، لفي أشد الحاجة إلى ما يخوفه ويزجره عن التمادي، ويردعه عن الوقوع في الغفلة والشهوات المحرمة، فمن كملت معرفته لربه وظهر خوفه من الله، وفاض أثر ذلك على قلبه، ثم انعكس على جوارحه بكفها عن المعاصي وإلزامها بالطاعات، تكفيراً لما سلف، واستعداداً لما سيأتي، وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة) ولكن اعلموا -يا عباد الله- أن البكاء وحده ليس دليلاً على الخوف من الله، لكن حقيقة الخوف ترك العبد ما حرم ربه مع قدرته عليه، وإذا بلغ الخوف بالمؤمن هذه الدرجة انقمعت شهوته، وتكدرت لذته، فتصير المعصية المحبوبة إلى النفس مكروهةً يبغضها القلب، وتكف عنها الجوارح، وكلما تمكن الخوف من الله في قلب المؤمن زادت مراقبة العبد ومحاسبته لنفسه.
عباد الله! إن كثيراً من المسلمين لا يخافون من الله حق خوفه، ولا يخشونه حق خشيته، أيغرهم إمهاله لهم، أم يظنون أن الله غافلٌ عما يعملون سبحانه جل شأنه؟ وبعضهم إذا وقع في معصية ولم تصبه عقوبتها، ولم ير أثرها في الحال، يظن أن المعصية بعد ذلك لا تضره، وهو بفعله هذا على حد قول القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وقد نسي ذلك المسكين أن بعض الذنوب ولا حول ولا قوة إلا بالله لا يرى العبد أثرها وشؤمها إلا بعد عشر سنين، أو عشرين سنة، أو أربعين سنة، ترى بعضاً منهم لا يخشى ولا يخاف العاقبة السيئة وما اقترف من الخطيئة، والبعض يتقلب في لهوه وغفلته كأنما ضمنت له الجنة وقدمت بين يديه الرحمة والمغفرة، فأين هو من جيل الصحابة والسلف الصالحين؟ أين هو من جيل الصحابة الراشدين والسلف الصالحين الذين بلغوا أعلى مراتب الخوف والخشية من ربهم، وما ذاك إلا لكمال معرفتهم بخالقهم.(240/2)
شدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
معاشر المؤمنين! تأملوا كتاب الله، تعلمون كيف كان الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، كيف كانوا يخافون من الله، كيف كانوا يخافون من خالقهم، يقول الله جل وعلا في وصفهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] أما نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الذي غُُُُُُُُُُُُُُُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسم وكان إذا رأى غيماً وريحاً عُرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرفت الكراهة في وجهك، فقال: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا) أخرجاه في الصحيحين.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أما والله لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تندبون أنفسكم وتجأرون إلى الله) أما الصحابة رضوان الله عليهم وفيهم من شهد له الرسول بالجنة، وهو بالجملة من أثنى الله عليهم في كتابه، فخوفهم من جلال ربهم، لقد كان أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه يقول: [يا ليتني كنت شجرةً تعضد ثم تؤكل] وكان رضي الله عنه يقول: [وددت أن أقدم على الله يوم القيامة لا لي ولا عليَّ] وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هل عدني رسول الله من المنافقين؟] وكان عمر رضي الله عنه يسمع الآية فيمرض فيعاد أياماً، وقرأ ذاتٍ يومٍ في صلاة الفجر: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] فبكى ونشج نشيجاً عجيباً، فعاده الصحابة أياماً في بيته من شدة ما أصابه من خشية الله وخوفه، وكان عمر رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان من البكاء.
وقال أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه: [وددت أن كنت كبشاً فذبحني أهلي فأكلوا لحمي وحشوا مرقي] وقال عمران بن حصين: [يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح] ويقول علي بن أبي طالب: [والله لقد رأيت أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزة، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، إذا طال القيام سجدوا، وإذا طال السجود قاموا، فإذا أصبحوا ذكروا الله عز وجل، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين].
أما التابعون لهم بإحسان والسلف الصالح فلهم من خشية الله وخوف عقابه ما تهتز لذكره القلوب، وتهتز له الأفئدة.(240/3)
الخوف عند السلف والخلف
كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلةً فأبكى أهل الدار معه، فلما تفلت العبرة عنهم، قالت زوجه فاطمة: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين! مم بكيت؟ فقال عمر: بكيت من صرف القوم من بين يدي الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] ثم صرخ فغشي عليه، والحسن البصري رضي الله عنه بكى بكاءً شديداً وسألوه، فتلا عليهم قول الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:3] وتلا أيضاً: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
فهذا خوف الملائكة، وذلك خوف الأنبياء، وهذا خوف الصحابة والتابعين، ومنهم المعصوم ومنهم من شُهد له بالجنة، فنحن أجدر وأولى بالخوف منهم، فاخشوا الله حق خشيته، وتذكروا سطوته وأليم عقابه، واصحبوا -يا عباد الله- من يخوفونكم حتى تأمنوا، ولا تصحبوا من يؤمنونكم حتى تخافوا.
معاشر المسلمين! إن منزلة الخوف من الله جل وعلا قد تقهقرت في النفوس وتراجعت في الأفئدة إلى حدٍ عجيب عجيب جداً، ترى كثيراً من الناس يدفنون موتاهم بأيديهم، ثم يخرجون من أبواب المقابر ضاحكين، وترى كثيراً من الناس يرون ما أحل بالخلائق حولهم، وتراهم في أكلهم وشربهم لاهين غافلين، أفأمنوا مكر الله؟ أفأمنوا عقوبة الله؟ أفأمنوا سخط الله؟ إن أمةً من الأمم التي سلفت قد عُذبت بذنبٍ واحد من الذنوب، فكيف بهذه الأمة التي فيها أناس قد استجمعوا ذنوباً عظيمة، استجمعوا أكل الربا والسكوت على المنكرات، وبيع آلات اللهو والطرب، والتجارة بإفساد العقول والأفئدة، والسكوت عن كلمة الحق، وأمورٌ كثيرة، نسأل الله جل وعلا ألا يعذبنا بذنوبنا وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(240/4)
حقيقة الخوف والرجاء
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله.
أيها الأحبة! اعلموا أن المؤمن كما أن خوفه من الله عظيم فله رجاءٌ في الله كبير، فالرجاء والخوف جناحان يطير بهما عباد الله إلى منازل الخلود والنعيم والآخرة، والرجاء هو: اطمئنان وراحة في انتظار ما يحبه العبد ويشتاق إليه مع قيام العبد بتحليل أسبابه، والمانع أن المؤمن يرجو النعيم في قبره، والأمن في محشره، والجنة دار المقيم له برحمة ربه مع بذله أسباب الفوز والفلاح وفعل ما يرضي الله وتجنب ما يسخطه؛ لأن الرجاء مرتبطٌ بالعمل، أما الرجاء الذي لا يصحبه عملٌ صالح، ولا يقترن به عبادة مخلصة، فهو تمنٍ مجرد، وما ظنكم -معاشر المؤمنين- برجلٍ يقول: أرجو أن يوهب لي ولدٌ صالح ولم يتزوج؟ أو يقول: أرجو أن تنبت هذه الأرض عنباً ورماناً وهو لم يحرث ولم يبذرها ولم يبذل أي سببٍ في إصلاحها؟ فلا شك أنكم تقولون: هذا مجنون لا عقل له.
إذاً: فما تقولون في رجالٍ لا يشهدون الصلاة مع الجماعة غافلين عن ذكر ربهم وعبادة خالقهم في ملهاة بالغناء والطرب والمعاصي واللهو منشغلين بذلك عن كل خيرٍ ومعروف مجترئين بذلك على حدود الله ومحرماته، ولو كلمه أحدكم وقال: أي عملٍ قدمت بين يديك؟ لرد عليه قائلاً: إني أرجو الجنة وأرجو رحمة ربي، وهو مصرٌ على المعصية، مقيمٌ على الفاحشة، فهل يسمى قوله هذا رجاء؟ لا والله، بل هذا هو التمني رأس عنوان المثل الذي يصدر من العاجزين، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، ورحم الله القائل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وعلى ذلك فالرجاء الصادق ينطبق على انتظار الجزاء والثواب بعد تمهيد أسبابه المرتبطة بفعل الطاعة وتجنب المعصية، وبعد ذلك ينتظر العبد التوفيق والهداية والقبول من الله سبحانه وتعالى، لقد ذم الله جل شأنه أقواماً هذا شأنهم أقواماً يرجون بلا عمل، فقال سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] وقال سبحانه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف:35 - 36] وتأملوا قول الله جل شأنه في وصف عباده الراجين رحمته بصدق: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] فجعل الرجاء بعد الإيمان، وبعد الهجرة والجهاد، واعلموا -يا عباد الله- أن الرجاء محمودٌ ومطلوبٌ من العبد؛ لأنه دائبٌ على العمل، ومعينٌ على تحسينه بخلاف اليأس الذي هو مذموم وصارفٌ عن العمل.(240/5)
سعة رحمة الله مدعاة للرجاء
عباد الله! ينبغي لكل مسلمٍ أن يحسن العمل والرجاء والظن، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي) وفي رواية: (فليظن بي ما شاء) وروى مسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) واعلموا -يا عباد الله- أن العبد المذنب إذا تاب وأقلع عن الذنوب والمعاصي، فإنه يكون بأمس الحاجة إلى رجاء رحمة ربه وعفوه وغفرانه، إذ أن بعض العصاة والمذنبين يردهم اليأس والقنوط عن التوبة والإنابة، ولاشك أن هذا من كيد الشيطان ووسوسته حينما يأتي الشيطان يلعب به، فيقول له: أذنبت، وعصيت وفعلت ما حرم الله عليك، فأنى لك بالتوبة؟ وكيف تدرك التوبة وقد فعلت ما فعلت؟ ولا يزال الشيطان بالعبد يجعله يائساً من رحمة الله، ويقنطه من مغفرة ربه، حتى يصل به إلى اليأس والقنوط، بل إن بعضهم قد يصل به الأمر مع الشيطان أن يقول له: اكفر بالله، ثم أسلم؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ويمحو ما قبله، ومن يضمن للعبد المسكين أن يعيش بعد كفره إلى أن يجدد إسلامه، وأنى للعبد في هذه المرحلة وفي هذه المعركة الرهيبة مع الشيطان إلا أن يجدد رجاءه وعزمه بالله.
وعلى ذلك فالواجب على كل مسلمٍ مهما كثرت ذنوبه وكثرت معاصيه أن يتوب إلى الله توبةً صادقةً نصوحاً، ثم يكثر من الحسنات الماحيات للسيئات، ثم يحسن رجاءه لربه، ويحسن ظنه بخالقه، وليتذكر قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] وقول الله أيضاً: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:6] وقول الله جل وعلا: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] وقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقول الله أيضاً: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] وقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على سعة رحمة الله ومغفرته لعباده التائبين الأوابين المقلعين عن الذنوب، النادمين على ما سلف، الكارهين أن يعودوا إلى المعصية كما يكره المرء أن يقذف في النار.
وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يُدخِل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! قم فابعث بعث النار، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون كلهم في النار إلا واحد، فحينئذٍ يشيب المولود: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟ -من يكون ذلك الواحد بين الألف- فقال صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، فقال الناس: الله أكبر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة! والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة! والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة؛ فكبر الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم يومئذٍ في النار إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ليغفر الله عز وجل يوم القيامة مغفرةً لم تخطر على قلب بشر].
وفي السيرة في قصة سبي هوازن أن امرأة جاءت تسعى بين السبي، فوجدت وليداً لها فأخذته فضمته إلى صدرها ثم ألقمته ثديها، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر والصحابة ينظرون، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتظنون أن هذه تلقي بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها) وفي الحديث: (أن الله جل وعلا خلق مائة رحمة، أنزل رحمةً واحدة في الأرض فبها يتراحم الناس والوحش والسباع والطير والبهائم، وادخر تسعة وتسعين رحمةً لعباده يوم القيام).
فأقبلوا على الله يا عباد الله! وأبشروا بمغفرة الله إن صدقتم العدل والعهد والوعد مع الله، أقبلوا إلى الله وجددوا التوبة، واستغفروا الله كثيراً، أنيبوا إلى ربكم قبل أن يأتي يومٌ لا مرد له، بادروا إلى أوبة قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، عودوا إلى الله يا شباب الإسلام! يا شباباً سلف منه ما سلف، يا شباباً مضى منه ما مضى، يا شباباً فعل في سفره ما فعل، يا شباباً اجترح في خلوته ما اجترح، أبشر بقول الله في آياته: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] فأنيبوا إلى الله، ربكم رحيم غني كريم، وهو غني عنكم يتودد إليكم، يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] إن رحمة الله لا يستعصي عليها ذنب، ولا تعجزها معصية، فأين العبد التائب؟ وأين العبد الأواب؟ أين العبد البكاء على خطيئته؟ أين العبد الأواه المنيب؟ عودوا إلى الله يا شباب الإسلام! إن طريق الإسلام كله سعادة، وكله لذة وراحة وطمأنينة، إن الاستقامة والالتزام، والارتباط بالصالحين، وحسن العلاقة بالطيبين الصالحين لمن أسهل الأمور وأهونها، ومن أعظم الأسباب الميسرة للحياة السعيدة، خلافاً للفواحش وحياة الآثام وحياة الكبائر كلها، قلقٌ ونكد وحسرة.
إن أحلى عيشةٍ قضَّيتها ذهبت لذاتها والإثم حل(240/6)
الحث على التوبة والرجوع إلى الله
فيا شباب الإسلام، ويا أمة الإسلام! عودوا إلى الله الذي هو غنيٌ عنكم ويتودد إليكم، ويتقرب إليكم، يقول الله جل وعلا: (إذا تقرب إلي عبدي ذراعاً؛ تقربت إليه باعاً، وإن جاءني العبد يمشي؛ أتيته هرولة، وإن لقيني بقراب الأرض خطايا ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً؛ لقيته بقرابها مغفرة) ذلك فيما سلف والله يعفو عنه، ذلك فيما مضى والله يتجاوز عنه.
فعاهدوا الله من هذا المكان، في هذه الساعة، وفي هذه اللحظة، عاهدوا الله جل وعلا، عاهدوا الله على ترك الذنوب والإقلاع وترك الإصرار على المعصية، فإن الله غفور رحيم، وهنيئاً لعبدٍ تاب إلى الله، في الحديث: (أن الله جل وعلا يجزي عبداً من عباده يوم القيامة والخلائق في الحشر واقفون، والناس ينظرون فيدليه الله جل وعلا ثم يكشف له سجله يقول الله: عبدي أتذكر ذنب كذا في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: إي يا ربِّ والله أذكر، فيقول: أيا عبدي! أتذكر كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: إي والله أذكر، فيقول الله جل وعلا: يا عبدي! -تغمده الله برحمته، وأدركته التوبة- فيقول: يا عبدي إني غفرتها، وجعلتها حسنات، فيقول العبد: يا ربِّ إن لي ذنوباً ما رأيتها، أين هي؟ طمع العبد أن يراها حتى تجعل مع حسناته، وحتى تقلب من سيئاتٍ إلى حسنات، عند ذلك يبتسم الجبار جل وعلا، وعند ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم) أو كما جاء في الحديث.
فيا عباد الله! توبوا إلى الله، الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) فالجنة قريبة إليكم يا عباد الله! والجنة سهلة ميسرة.
يا سلعة الرحمن لستِ رخيصةً بل أنتِ غاليةٌ على الكسلان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الخطاب عنكِ وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضتِ بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ بين الأرامل ثكلة الحيوان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
فكونوا من خطابها عند الله، كونوا من أهل الشراء للجنة، كونوا ممن ينالون سلعة الله (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) وثمنها التوبة والإنابة، والإقلاع والاستغفار، وكثرة المداومة على الصالحات، والبعد عن السيئات، بعد فعل الواجبات وترك المحرمات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} [الكهف:58].
أسأل الله العلي العظيم أن يمن علي وعليكم بالتوبة الصادقة النصوح، اللهم اهد شبابنا، اللهم اهد شبابنا، اللهم اهد شبابنا، وردهم إلى الحق رداً جميلاً، اللهم أصلح أفئدتهم واهد قلوبهم، واحفظ جوارحهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الملحدين، اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم احفظ إمام المسلمين، وارفع اللهم إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم لا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً.
اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم اقمع أعداء دينك أعداء الدين، اللهم ثبتنا على ما يرضيك إلى أن نلقاك، اللهم جنبنا أسباب سخطك، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(240/7)
الركون إلى الدنيا
الدنيا مزرعة الآخرة، ولقد أمرنا الله ألا نركن إلى هذه الدنيا، فإنما هي متاع، والآخرة هي دار البقاء والقرار، كما حثنا على التزود من الطاعات والأعمال الصالحة، وتحيُّن أوقات مضاعفة الثواب والأجر، وقد بيّن لنا أن من هذه الأوقات شهر رمضان، بما فيه من صيام وقيام وذكر وتلاوة للقرآن، عن هذه الغنائم كان محور خطبة الشيخ وكلامه.(241/1)
حالة العبد في الحياة الدنيا
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وصحبه، ومن اتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول جل من قائلٍ عليماً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
عباد الله: اعلموا رحمكم الله أن الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمضي سريعاً وتنقضي جميعاً، والذي أوجدها وخص مواسمها بالفضائل، واحدٌ أحدٌ فردٌ صمد، هو الله سبحانه وتعالى الذي أوجب في كل يومٍ من الأيام وظيفةً من وظائف طاعاته، ولطيفةً من لطائف رحمته ونفحاته، ويوفق لاغتنامها كل كيسٍ فطن، ويغفل عنها كل محرومٍ شقي.
أيها الأحباب في الله: إن كل شهرٍ يستهله الإنسان يدنيه من أجله، ويقربه إلى آخرته، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشرار الناس من طال عمره وساء عمله، فما بين العبد والانتقال إلى دار المثوبة على الإحسان أو العقوبة على العصيان إلا أن يقال فلانٌ مات وانتقل، وولى ورحل، وهل هذه الدنيا إلا طريق العبور بعد الابتلاء والامتحان إلى دار القرار بعد الممات: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:39 - 40].
فتأملوا واعتبروا كيف سمى الله هذه الدنيا متاعاً، وهو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه، أو ما يتزود به المسافر حال ضعنه إلى أن يصل دار إقامته واستقراره، فهل ترضون يا عباد الله! بالقليل من الدنيا نصيباً لكم في الآخرة؟ {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] وما هو متاع الدنيا؟ إنه صفوٌ بعده الكدر، واجتماع بعده الفراق، ولذةٌ سرعان ما تزول، تقلبٌ بين الفقر والغنى، بين العز والذل، بين الصحة والمرض، وختام ذلك كله دار الضيق التي لا أنيس فيها ولا صديق، إنها القبور، أعاذنا الله وإياكم من وحشتها، وجعلها علينا وعليكم روضةً من رياض الجنان، وباباً إلى رحمة الكريم المنان.(241/2)
حال أهل الدنيا في الآخرة
عباد الله: انظروا إلى حال من جمعوا في هذه الدنيا بين لذيذ المآكل والمشارب، وأرقى المساكن والمراكب، وغفلوا عن حظهم في الآخرة، أترون ما هم فيه يعدل ذرةً من نعيم الآخرة، إن أردتم حقيقة ذلك، وحقيقة ما هم فيه، فاسمعوا وأنصتوا إلى حالهم ومآلهم: حيث يؤتى يوم القيامة بأطول الناس أعماراً في الدنيا من المترفين التاركين للطاعات المرتكبين للمنكرات، فيصبغ أحدهم في النار صبغة، ثم يقال له: هل رأيت في الدنيا خيراً قط، هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا يا رب! ما مر بي نعيمٌ ولا رأيت خيراً قط، فينسى نعيم الدنيا عند أول مسٍ من العذاب، يقال له: كم لبثت في الدنيا؟ يقول: لبثت يوماً أو بعض يوم، يقال له: بئس ما اتجرت في يومٍ أو بعض يوم.
هؤلاء الذين صرفوا عقولهم وأعمالهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات البطون والفروج، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر الآخرة، ولم يزل ذلك دأبهم حتى خرجوا من الدنيا مذمومين مدحورين، مفلسين من الحسنات والأعمال الصالحات، قد تكالبت عليهم سكرات الموت وحسرات الفوز، وهول المطلع، وملائكة العذاب، فيندم أحدهم على تفريطه حين لا ينفع الندم: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:24 - 26] خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.(241/3)
الإقبال على الموت والتزود للآخرة
معاشر المؤمنين! ما قيمة العمر، وما لذة الحياة إن لم تنل النفوس نصيبها وافراً من طاعة الله، والصلة به، والانكسار بين يديه، والبكاء من خشيته، واللجوء إلى جنابه، ومجالسة أوليائه وأحبابه، فإن خلت الحياة من هذا فلا مرحباً بطول العمر، ويا حبذا الموت قبل الغفلة والوقوع في المعاصي.
لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة وكان صائماً قال لجاريته: انظري هل غربت الشمس؟ فلما أخبرته أنها قد غربت تناول شيئاً يسيراً أفطر عليه، ثم قال: [مرحباً بالموت، مرحباً بحبيب جاء على فاقة] لا أفلح والله من ندم على الدنيا.
يقول معاذ بن جبل: [اللهم إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، وإنما أحببت البقاء فيها لقيام الليل وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، آهٍ إلى ذلك] ثم مضى وفاضت روحه رضي الله عنه.
عباد الله: إن هذا الموت الذي نخافه، ونفزع منه، ليس هو الفناء الأبدي، ولكنه الانتقال من النعيم الشقاء العاجل الزائل إلى دار الخلود في النعيم أو العذاب المقيم، فما خلقت يا عبد الله! إلا لعبادة ربك، وما سخر لك ما فيها إلا لنفس الغاية التي من أجلها وجدت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ولا تنسى قول رب العالمين: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالدنيا دار الابتلاء والامتحان، دار الزراعة والبذر، حفت بالنكد والأكدار، والشرور والأضرار، حلالها حساب، وحرامها عقاب، فلا عيش والله إلا عيش الآخرة، يوم يقول المؤمنون في جنة ربهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35].
اللهم اجعلنا ممن يقولها في دار النعيم، اللهم اجعلنا ممن يقولها في دار الخلود، برحمتك يا أرحم الراحمين.
فما دارنا هذه بدار إقامةٍ ولكنها دار ابتلا وتزود
أمَا جاءنا من ربنا وتزودوا فما عذر من وافاه غير مزود
ينادي لسان الحال جدوا لترحلوا عن المنزل الغث الكثير التنكد
أتاك نذير الشيب بالسقم مخبراً بأنك تتلو القوم في اليوم أو غد
عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعظ رجلاً ويقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبلك هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(241/4)
حال الناس مع رمضان
الحمد لله الواحد بلا شريك، والعزيز بلا نصير، والقوي العليم بلا ظهير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الند، وعن الشبيه، وعن المثيل، وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله! بعد أيامٍ قليلة نستقبل شهراً كريماً، وموسماً رابحاً، طوبى لمن شمر واستعد، طوبى لمن اجتهد وجد، فإنه موسمٌ عظيم، يا حسرة المغبون والمحروم من خيره، ويا مصيبة الغافل من اغتنام فرصه، وهنيئاً للمجدين المشمرين المستعدين للعبادة فيه.
عباد الله: أقبل هذا الشهر الكريم والناس تجاهه على ثلاثة أصناف؛ طائفة من الناس يسألون الله بلوغه وتمامه، يسألون الله الإعانة على صيامه وقيامه، والقبول في كل عملٍ فيه، يسألون الله المضاعفة والمغفرة والرحمة، وأن يمضي الشهر عليهم بأوفر نصيب وأطيب حظ، وأولئك الذين تمنوا هذا الشهر واستعدوا له، منهم من حرص على جمع شرف المكان والزمان، فرغب أن يصومه في مكة المكرمة، ليجمع بذلك بين شرف الزمان في رمضان، وشرف المكان في مكة، وشرف الصلاة في المسجد الحرام، الصلاة الواحدة فيه بمائة ألف صلاة، فهنيئاً لأولئك، نسأل الله جل وعلا أن يجعل نياتنا وإياهم خالصةً لوجهه.
وطائفة من الناس استعدوا لهذا الشهر بالمأكل والمشرب، وطول النوم والكسل، والتهاون عن الصلاة في النهار بحجة أنهم صائمون، ولا نصيب لأولئك أن غفلوا عن الصلاة وهم صيام، بل الذي ينبغي لهم أن يحتسبوا وأن يدركوا أنه موسمٌ عظيم، ما هو بموسم أكلٍ ولا شرب، وإنما هو موسم صومٍ وإمساك حسيٍ ومعنوي، إنما هو موسم صلاح وعبادةٍ وتوبةٍ صادقة، إمساكٌ عن المحرمات، وعن الغيبة والنميمة، وعن الملهيات، والمصائب والمشغلات، إمساكٌ عن كل ما يغضب الله، والتفاتٌ إلى العبادة والطاعة.
وطائفة ثالثة من الناس يعدون الأهبة للهروب من هذا الشهر على شواطئ البلاد الأوروبية بعيداً عن فريضة الصيام، وبعيداً عن هذه الفريضة المباركة، فيا حسرتهم ويا ويلهم، ولا تقولوا: هذه مبالغة، بل إن من الناس من يفر إلى ذلك هرباً من الصوم، لما قيل لأحدهم عياذاً بالله من حاله: قد أقبل شهر رمضان، قال: لأشتتن شمله في الأسفار، أي: يسافر من هنا إلى هنا، ليترخص بذلك في الفطر، وليتهاون بذلك في العبادة، فهذا على خطرٍ عظيم إن مات على ذلك، نسأل الله جل وعلا أن يبلغنا وإياكم هذا الشهر على أحسن حال من الصحة والعافية، والتوبة الصادقة النصوح.(241/5)
رمضان موسم العبادة والتزود بالأعمال الصالحة
معاشر المؤمنين: استعدوا لهذا الشهر، واجتهدوا واعزموا على العمل الصالح فيه، فإنه موسمٌ من مواسم الجنة، موسمٌ من مواسم التجارة الرابحة، يقول ابن قيم الجوزية: يا سلعة الرحمن -يريد الجنة-
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضتِ بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
ولا عجب يا عباد الله! أن يغفل الغافلون وهم يجهلون سلعة الرحمن، وهم يجهلون عذاب الله، ما داموا يجهلون الوعد والوعيد، والعقوبة والنعيم، ما داموا في غفلةٍ وجهلٍ عن ذلك، فلا غرابة أن تكون السلعة بين أيديهم ثمينة، ولا يشترونها بأيسر الأثمان، إلى أن قال رحمه الله:
شمسٌ لعنينٍ تزف إليه ماذا حيلة العنين في الغشيان
خوذٌ تزف إلى ضريرٍ مقعدٍ يا محنة الحسناء بالعميان
الذين لا يعرفون الجد والتشمير في هذه الدنيا، وأنها موسم العبادة والزرع، وأن التحصيل غداً، هم الذين يغفلون ويجهلون عن ذلك، فاجتهدوا وأعدوا واستعدوا لهذا الموسم المبارك؛ من الأعمال الصالحة، والتوبة الصادقة النصوح، والبذل في جميع وجوه البر والخير، بالنفقة والصدقة على المساكين والأقارب، والعناية ببيوت الله جل وعلا، والالتفات إلى مصالح المسلمين فيها، فإن من قدم خيراً يكون منفعته لجمعٍ من المسلمين، فإن أجره يعظم ومثوبته تزداد بقدر ما زاد، وبقدر ما بذل في هذا الأمر الذي نفعه ومصلحته عائدةٌ إلى جمعٍ كبير من المسلمين، ألا وإن من ذلك العناية بالمساجد، والالتفات إليها، وفعل كل ما يصلح شأنها، وفعل كل ما يريح المصلين فيها ويجعلهم يأنسون ويرغبون ويطمئنون للجلوس فيها، متقلبين بين ذكر الله، وتلاوة القرآن، والعكوف فيه، فهذا من أعظم الأعمال.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من المحسنين، وأن يجعلنا وإياكم من التائبين التوبة الصادقة النصوح.
اللهم تقبل منا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فابتدأنا.
اللهم يا مفرج هم المكروبين! يا نصير المستضعفين! يا إله الأولين والآخرين! نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، أن تجعلنا من التائبين الذين تتوب عليهم بقدوم هذا الشهر المبارك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمة، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم انصرهم بالإسلام، وانصر الإسلام بهم، اللهم ارفعهم بكتابك وسنة نبيك، اللهم ما علمت في أحدٍ خيراً لهم فقربه منهم، وما علمت في أحدٍ شراً لهم فأبعده عنهم، وأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم من أراد بهم سوءاً وأراد بعلمائنا فتنة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء، اللهم أذهب سمعه وعقله وبصره، اللهم من أراد بهم سوءاً فمزق شمله، اللهم ففرق جمعه، اللهم من أراد بهم سوءاً اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم اجعلنا على حوض نبيك من الواردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين، وآتنا صحفنا باليمين، واجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين! إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، نبيك محمدٍ وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(241/6)
القبوريون
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سيحيا بعده سيرى اختلافاً كثيراً، وسيلقى أثرة، وهذا ما نلحظه في هذا الزمان بعد اختلاط المفاهيم، وانتكاس الفطر، وإهمال العقيدة، وتعظيم القبور! وقد كان تعظيم القبور هو الموضوع الأساس لهذه المادة، حيث رد الشيخ حفظه الله على الاعتقادات الباطلة في نزلاء القبور، مع ذكر تحذيرات من تعظيم القبور، وأهمية تسوية القبور وطمس التماثيل.
وفي ختام هذه المادة أشار إلى منزلق خطير، وقع فيه أحد الكتّاب، محذراً من مثل هذه الظواهر.(242/1)
زمن انتكاس الفطرة والاختلاف الكثير
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين! في هذا الزمان اختلطت كثير من المفاهيم، وانتكست كثير من الفطر، وانقلبت كثير من التصورات فأصبح الكبير صغيراً، وأصبح الحقير عظيماً، وأصبح شيء من المعروف منكراً، وأصبحت أنواع من المنكر معروفة، وكما قال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: (وعظنا نبينا صلى الله عليه وسلم ذات يوم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع! -كأنك تودعنا، كأنك تشير إلى فراقنا، أو إلى قرب رحيلك عنا- فأوصنا، فقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ -إلى أن قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-: فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً).
وما أعظم الهوة بين عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين واقع المسلمين في هذا الزمان، بل لو خرج صحابي أو تابعي ورأى ما عليه المسلمون اليوم لأنكر ما يراه من كثير من المسلمين، صدق صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستلقون بعدي أثرة -أي: اختصاصاً بالمشاء والمباح- فقال الصحابة: ما نصنع يا رسول الله؟! فوجههم وأرشدهم بالثبات إلى أن يلقوه على الحوض) صلى الله عليه وسلم.(242/2)
إهمال التوحيد في هذا الزمان
أيها الأحبة! في هذا الزمن نرى تعتيماً للحقائق الشريعة، وتضليلاً للمقاصد النبوية والقرآنية، وما ذاك إلا من دعاة الضلالة أو دعاة الجهالة؛ لأن التوحيد الصحيح في هذا الزمان غريب غريب جداً؛ لأن المعتقد النقي أصبح في هذا الزمان -بين المسلمين أنفسهم- أصبح نادراً قليلاً، وأعظم من هذا وأخطر منه يوم أن يدور الحديث حول مسائل العقيدة وأصول التوحيد ترى بعض المسلمين هداهم الله يقول لك: ليست هذه من المهمات، ومن الحكمة عدم طرحها في هذا الزمان، أليس من الحكمة بناء الدين على أصل صحيح لكي يكون بنيان الأعمال بعدها على أساس متين؟! أم من الحكمة الاهتمام بالمسائل الفرعية وترك الجمل والحقائق الأصولية؟! عباد الله! أسوق هذا لأني رأيت تبايناً واختلافاً في كثير من المفاهيم والأطروحات في هذا الزمان، ولأجل ذلك ترى العقيدة النقية نادرة غريبة فريدة جداً، وإن كنا قد من الله علينا بفضل منه ورحمة وعناية ونعمة أن ظهر في أرضنا إمام الدعوة المجدد محمد بن عبد الوهاب نور الله ضريحه، فرأى الناس وما هم عليه من عبادة للقبور وتعظيم لها وتجصيص لها وإيقاف الأوقاف عليها وتحبيس الأوقاف عليها، ورأى أيضاً اعتقاد كثير من الجهلة والضلال بركة أصحاب القبور أو بركة العبادة عند القبور فأنكر هذا وحاربه ووقف في مواجهته وانقلبت عليه كثير من القبائل، ووقفت في طريق دعوته أمم شتى ومع ذلك فمن كان برهانه كتاب الله ومن كان دليله سنة رسول الله فهو على الحق ولو كان وحده، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه: [الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك].(242/3)
تعظيم القبور صورة لأهمال التوحيد
وفي هذا الزمان بل في هذه الأيام نرى تساهلاً عند كثير من المسلمين في كثير من البقاع بأوضاع القبور وأوضاع العقيدة عامة ومنها: مسألة القبور، فترى في كثير من البقاع قبوراً توضع في محاريب المساجد، وتجد في كثير من البلدان قبوراً توضع في نواحي المسجد عن يمنته أو يساره أو في مؤخرة المسجد أو في مقدمته، وكل هذا لا يجوز أبداً، بل لا تصح الصلاة في مثل هذه الأماكن، ولا يجوز للمسلم أن يغشاها أو يرتادها إلا أن يكون البناء قديماً والمسجد حديثاً وحيل بين المسجد وبين القبر بحائط أو مانع يدل دلالة واضحة على عدم انصراف نية المتعبد إليه كما يراعى في ذلك الفتنة أو يراعى في ذلك حصول المفسدة العظيمة.
أيها الأحبة في الله! مسألة القبور شأنها عظيم جداً، وقد يقول قائل: في هذا الوقت الذي سهرت فيه كثير من وكالات التلفاز لنقل أخبار رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وسهرت لأجلها إلى الثالثة ليلاً إلى الثامنة صباحاً، في هذا الوقت الذي تناقلت وكالات الأنباء ووكالات التلفزة والأقمار الصناعية وقلوبها تبلغ حناجرها وأفئدتها مضطربة لتنقل أحوال الانتخابات، في هذا الوقت تأتي لتحدثنا عن القبور ورفعها، وحرمة التشييد والبناء حولها.
أقول: والله ما قادنا إلى ذلك إلا غفلتنا عن أصول العقيدة، وجهلنا بحقائقها ومهماتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(242/4)
اعتقادات باطلة في نزلاء القبور
أيها الأحبة في الله! مسألة القبور شأنها عظيم وأخبث ما فيها أن وجد بين المسلمين الآن من يعتقد أن الصالحين من نزلاء القبور، وساكني اللحود، يدفعون البلاء، ويجلبون النعم، ويجيبون الدعوة، ويكشفون الكربة، ويسهلون المستحيل، ويشفون السقام؛ وكل هذا والله بالجهل والضلالة في أعظم أصول الدين وهي مسائل العقيدة.(242/5)
كلام الشوكاني عن بداية الانحراف
واسمحوا لي بأن أنتقل بكم إلى إمام جليل من أئمة الإسلام الموحدين وهو الإمام الشوكاني رحمه الله، في رسالة عظيمة ألفها فيما مضى، وكأنه يرى أحوال الناس ومنها نبذ جليلة طاهرة من الكتاب والسنة في مسألة تعظيم القبور وتشييدها والبناء عليها، يقول رحمه الله وينقل هذا عمن كان قبله من السلف: كان أول ذلك -يعني: بناء القبور وتعظيمها، وعبادة الأصنام والعناية بها- في قوم نوح حيث قالوا كما قال الله جل وعلا: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:21 - 23] كانوا قوماً صالحين، قوم نوح جعلوا من هؤلاء من ود ويغوث وسواع ويعوق ونسر، جعلوا من هؤلاء الصالحين جعلوهم قادة لهم يقتدون بهم وجعلوهم قادة يتبعونهم، وكان الذي ظهر فيهم هذا الأمر في بداية أمرهم كانوا من صالحي بني آدم، ولكن الصالحين الذين عظموا ماتوا، فقال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم، بدأ الشرك بالتصوير، لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا مات ذلك الجيل الأول الذي صور الصالحين لا لعبادتهم ولكن للتشوق إلى العبادة حال رأيت صورهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم ثم عبدتهم العرب بعد ذلك، وقد حكي معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.(242/6)
أحاديث نبوية تحذر من تعظيم القبور
وقال قوم من السلف: إن هؤلاء كانوا قوماً صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت أم سلمة للنبي ما رأت في الكنيسة من الصور، فقال صلى الله عليه وسلم: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قال: اللات كان يلت السويق للحاج فعكفوا على قبره.
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل الموت برسول الله صلى الله عليه وسلم وحل الأجل ووصلت لحظة الفراق بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل أو طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا.
انظروا أيها الأحبة: أي نصيحة وأي وصية تحتاجها الأمة ونبيها وإمامها وقائدها يعالج سكرات الموت وفي ساعة الأجل وفي ساعة الفراق لم ينبهم إلى الاقتصاد ولم يتكلم في تلك الساعة عن أمر من الأمور إلا عن أهم الأمور وهي مسألة التوحيد ومسألة العقيدة وتحقيق العبودية والتوجه إلى الله، فقال: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا، أي: حتى لا يجعل قبره صلى الله عليه وسلم مسجداً فيعبده المسلمون، أو يطوفوا به، أو يتوسلوا به، أو يتعلقوا به، أو يتعلقوا بجاهه، أو يرجوا بركة ضريح القبر ومكانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعبد العباد لربه، ولأجل ذلك وجه الأمة إلى ما يحقق هذه العبودية.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مثل ذلك، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قال الراوي أو المعلق: ولولا ذلك لأبرز قبره صلى الله عليه وسلم، ولكنه خشي أن يكون مسجداً.
فأين هذا من طاغوت الصوفية ومنحرف الضلالة ذلك الذي يزعم أن بقعة قبر النبي أفضل من بقعة الكعبة، وذلك الذي يزعم أن ليلة المولد أفضل من ليلة القدر، وذلك الذي يزعم أن التبرك بقبر النبي والدعاء والتمسح والتوسل عنده من مظنات الإجابة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد)، وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)، وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي الهياج وغيره قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالاً ألا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) وفي صحيح مسلم عن ثمامة نحو ذلك.(242/7)
أهمية تسوية القبور وطمس التماثيل
أيها الأحبة في الله! إن طمس التماثيل، وتسوية القبور، كل ذلك إما أن يكون لدفع حصول الشرك، أو لقطع ذرائع الشرك؛ لأن هذه الأصنام التي تصور في تقاطعات الطرق وفي الممرات وفي أماكن شتى، والتي كثيراً ما ترونها ونراها في كثير من البلدان التي عصت الله ورسوله، في البلدان التي استوحت فنونها وثقافتها من عقائدها الوثنية فزين لهم الشيطان نحت الأصنام ونصب التماثيل في الممرات والتقاطعات، كل ذلك راجع إلى لوثة الشرك والوثنية، ولا حول ولا قوة إلا بالله! بل والله إن الموحد الذي يرى ويدرك صفاء التوحيد في قلبه من إذا رأى وثناً انقبضت نفسه وتغير وجهه وتكدر حاله وأصابه من الرعب وأصابه من الخوف داخل نفسه ما يمقت به هذه الصورة المنحوتة؛ كل ذلك لأن فيها شركاً صراحاً، أو فيها ما ينافي كمال التوحيد ويكون ذريعة إلى الشرك.
أيها الأحبة! بهذه النصوص التي سمعتموها أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث إذا ارتفع القبر عن الحد المشروع فإن تسويته واجبة متحتمة، ومن إشراف القبور وارتفاعها أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد فإن ذلك من المنهي عنه بلا شك ولا شبهة، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعثه وانتدبه وأرسله لهذه المهمة وقال: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تدع تمثالاً إلا طمسته).
ثم إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أيضاً عمل بما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل أبا الهياج الأسدي في أيام خلافة علي قال: [ألا أبعثك على ما بعثني عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟] فكان الجواب الحالي: أن نعم، وأتشرف بهذه المهمة، فأرسله وندبه إلى هذا.
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه النسائي وابن حبان من حديث جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، أو يبنى عليه، أو يوطأ) وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن مسلم زادوا: (أو يكتب عليه) قال الحاكم: النهي عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة.
ويدخل في هذا أيضاً البناء على جنبات القبر.
أيها الأحبة! إني يوم أن أسوق هذا بحمد الله ما رأيت في بلادنا هذه قبراً يعبد، وما رأيت ضريحاً يطاف به، ولكني أخشى أن يتساهل الناس بأمر المقابر، بل وربما تناقل البعض أن بعض العامة جهلاً وبعض المنحرفة فساداً ربما بدءوا رويداً رويداً بجعل ألواح من الرخام فينقشون عليها اسم الميت وتاريخ وفاته وشيئاً من أمره، وربما جاء بعد ذلك جيل يكبرون لوحة الرخام فينقشون عليها شيئاً من مناقبه ومآثره، وربما جاء بعد ذلك من جاء ليكتب حتى يصبح الأمر طريقاً وذريعة إلى البناء المحرم والمنهي عنه.
وإن هذا -أيها الأحبة- من أعظم الأمور؛ لأن من شرب الخمر أو زنى وهو يعلم أنه في معصية يعلم أنه في مخالفة لأمر الله وفي عصيان لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلبث أن يعود، لكن الذي ينقش على الرخام عند القبور ويزينها ويهتم بها ربما تعلق واقتنع واستحسن فعله هذا، وربما تعبد الله بهذا، ولأجل ذلك فإن من واجبنا أن نهتم بهذه المسألة وألا نتساهل بها، بل من واجب الشباب؛ ومن واجب الأغيار؛ ومن واجب العلماء؛ ومن واجب طلبة العلم، أن يبعثوا الثقات والمخلصين بين الفينة والفينة ليروا أحوال المقابر فما رأوا فيها من قبر منقوش عليه أزالوه، وما رأوا فيها من قبر مشرف إلا وسووه، وما رأوا فيها بدعة أو بلية من أصناف هذا الأمر إلا بلغوا بها وكان لهم ولهم بإذن الله سلطان على إزالتها، في أي بقعة وفي أي مكان.
وإني أردد وأقول: لعل من أعظم أسباب سلامة هذه البقعة سلامتها من الشرك سلامتها من الوثنية سلامتها من شرك القبور سلامتها من شرك الأضرحة سلامتها من شرك الأصنام، فإن تساهلنا في ذلك والله ثم والله لا فرق بيننا وبين سائر الأمم التي حل بها الخسف، وحل بها البلاء والعقوبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(242/8)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تعظيم قبره
معاشر المؤمنين! اعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم توافرت وتواترت عنه النصوص في هذا الأمر تواتراً طيباً مباركاً صحيحاً وكل ذلك لأجل أهمية هذا الأمر، فتارة ترى النبي صلى الله عليه وسلم لعن من رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها، لعن فاعله تارة، وتارة قال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فدعا عليهم بشديد غضب الله بما فعلوا، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدم هذه، وتارة جعل ذلك من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: (لا تتخذوا قبري وثناً)، وتارة قال: (لا تتخذوا قبري عيداً) أي: لا تجعلوه موسماً يجتمع فيه كما صار يفعله كثيراً من عباد القبور يجعلون لمن يعتقدون من الأموات أوقاتاً معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم ينسكون لها المناسك ويعكفون عليها كما يعرف ذلك آحاد كثيرة من الناس، ويعرف ذلك من فعل هؤلاء المخذولين الذين تركوا عبادة الله، هذا الخذلان العظيم، وهذا الحرمان العظيم أن يترك الإنسان عبادة الرب الذي خلقه والذي رزقه والذي يميته والذي يحيه ترك هذا كله وعبد عبداً من عباد الله لعب الدود بأنفه وعينه، وبليت عظامه، وتحرق جسمه، واختلط التراب ببدنه، أتترك عبادة الله ويعبد هذا الأسير في لحده الرهين في قبره الذي لا يملك لنفسه دفعاً ولا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ذلك الذي لا يستطيع أن يدفع عن نفسه القليل والكثير، بل إن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال عن نفسه: {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الأعراف:188] فانظر وهو سيد البشر، وهو خير من وطأت قدمه الأرض، يقول: إني {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الأعراف:188] فما حال من هو من العصاة؟ أو من هو من المشركين؟ أو من المقصرين الذين عرف عنهم الضلال أو الخبال؟ أو كان عبداً صالحاً من الصالحين، لكنه لا يملك لنفسه قليلاً ولا كثيراً.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يجد من نفسه بعد موته لأحد من البشر نفعاً أو ضراً لنفع بذلك حبيبته فاطمة ابنته رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً) ولو كان يغني عنها من الله شيئاً لقال: يا فاطمة! إذا نزلت بك النازلة، أو حلت بك البلية، فاستغيثي بي أو توسلي بي أو اسأليني أو استشفعي بي أو تعلقي بي فإني أنفعك في قبري، وأنفعك بعد موتي، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يتبرأ من نفعه لنفسه فيقول: (لا أملك لنفسي نفعاً) يقوله صلى الله عليه وسلم، يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الأعراف:188] ويقول لابنته سيدة نساء أهل الجنة يقول لها: (لا أملك لك من الله شيئاً) فإذا كان هذا قوله صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي أخص قرابته فما ظنك بسائر الأموات الذين لم يكونوا أنبياء معصومين ولا رسلاً مرسلين، بل غاية ما عند أحدهم أنه فرد من أفراد هذه الأمة وواحد من أفراد هذه الملة الإسلامية فهو أعجز وأعجز من أن ينفع أو يدفع عن نفسه الضرر، وكيف لا يعجز عن شيء عجز عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أمته بذلك كما أخبر الله عنه، وأمره الله أن يقول لأمته: إني {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الأعراف:188] حتى تتعلق الأمة بالله، حتى يتحقق التوحيد لله، حتى يتجرد القصد لوجه الله، حتى لا تكون في النفس أدنى وشيجة أو أدنى صغيرة يتعلق فيها العبد بواسطة بشر من البشر في طريق توجهه إلى الله.
فيا عجباً كيف يصنع من له أدنى نصيب من علم أو أقل حظ من عرفان حتى ينفعه أو يضره فرد من أفراد أمة النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه لا أنفع، ويقول لابنته: (لا أملك لك من الله شيئاً).
والحال -أيها الأحبة- إذا علمت هذا كله أدركت ضلال أولئك الذين وقعوا في ذلك، بل هل سمعت بضلال عقول أكبر من هذا الضلال؟! وهل سمعت بجهل أعظم من هذا الجهل؟!(242/9)
السبب الأعظم لنشأة الاعتقاد في الأموات
أيها الأحبة! إذا تقرر ذلك فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس رويداً رويداً تدريجياً، من رفع القبور، ثم وضع الستر عليها، ثم تجصيصها، ثم تزيينها بأبلغ زينة وتحسينها بأكمل جمال فإن الجاهل إذا دخل مقبرة ورأى قبراً فيه ألواح الرخام أو نقش عليها ما نقش، ثم جاء جيل ووضع عليها شيئاً من الستر أو زين القبر بطريقة معينة، ثم لو رأى الجاهل قبة جعلت على القبر، ثم نظر إلى السرج المتلألئة والمجامر الساطعة التي عبق وفاح منها الطيب وهو طيب النجاسة في مواقع الشرك أو ذرائع الشرك والله، ما ظنك بجاهل يرى هذا كله لا شك ولا ريب أن قلبه يمتلئ تعظيماً لهذا القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من منزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرعه الشيطان في نفسه ويغرسه في قلبه من العطاء بالفاسدة التي هي أعظم وسيلة له، وأشد الوسائل إلى الضلال حتى يتزلزل عن الإسلام رويداً رويداً، ثم لا يلبث أن يطلب من صاحب القبر أموراً لا يقدر عليها إلا الله، ثم يكون في عداد المشركين وهو لا يعلم، وصدق الله العظيم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] وكما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
أيها الأحبة! إن أولئك الذين يترددون على القبور ويزورون هذه الأضرحة ويتبركون بها أو يعتقدون ببركة أصحابها يقع ويحصل الشرك لأحدهم لأول وهلة رأى فيها ذلك القبر على صورة من الجمال والتزيين، بل عند أول زيارة إذ أنه يخطر بباله أن صاحب هذا القبر ترجى منه فوائد دنيوية أو فوائد أخروية، ثم بعد ذلك يكمل هذا الأمر ويبهرج هذا الباطل ويزخرف هذا الخداع والشرك سدنة الأضرحة وخدام القبور الذين يأتون ويخدعون العامة فيقولون: إن صاحب القبر قد جرت له من الكرامة ما كان لفلان الذي كان أعمى أو كان كفيفاً لا يبصر، فجاء ثم نحر قربانه عند القبر ثم سأل مخلصاً صاحب القبر فما خرج من هذا الضريح إلا وقد رد عليه بصره، ويكذبون ويفترون الأكاذيب والأباطيل وما أكثر ما سمع هذا عند كثير من الجهلة بل وفي كثير من بلدان المسلمين، إنا لله وإنا إليه راجعون.
واعلموا -أيها الأحبة- أن هذه طريقة خبيثة بل حيل ومكر وتقليب من أجل تحقيق أمرين: الأمر الأول المكابرة والعناد والإمعان في تحقيق الكفر والشرك، الأمر الثاني: خداع العوام والجهلة.(242/10)
انحرافات البريلوية
البريلوية من طوائف القبوريين المشركين الذين نشأ باطلهم في منطقة بريلي في الهند ما الذي يحصل منهم؟ وهل سمعتم بهم؟ يعظمون القبور ويسمون زيارتها بالأعراس، ومن تخلف عن الأعراس فهذا ضال جاهل جهلاً عظيماً بل يكفرونه ويسمونه وهابياً ويعدونه من اتباع ابن تيمية ومن أتباع محمد عبد الوهاب رحمه الله، وما الذي جاء في معتقداتهم؟ بعيني قرأت شيئاً مما ينقل عنهم ومما يعتقدونه، يقولون: إذا تيسر لزائر القبر أن يحضر معه الحليب والأرز والطعام والفواكه وشيئاً من المأكولات التي تقدم للأطفال قالوا: إذا تيسر لزائر القبر أن يحضرها معه ثم يضعها فإن في هذا خيراً وفي هذا بركة ترجى، إن البريلوية وقادة هذه الملة المنحرفة لا شك في شركهم وجهلهم، ولكنهم ما دعوا الناس بإحضار الطعام الشهي والأصناف التي لا يجدها الإنسان في بيته أو في مجتمعه، ما دعوا الناس لإحضار هذه إلى المقابر إلا لأجل أن تصبح المقابر مطاعم فاخرة من الدرجة الأولى لا ينقطع زوارها، وبهذا إذا جاء زائر ضال أو مضلل فرأى الناس ذاهبين آيبين وغادين رائحين هؤلاء يمدون الموائد، وهؤلاء يقربون القرابين وهؤلاء يعطرون المكان اشتعل في نفس الزائر وتحقق في نفسه تعظيم هذه الأضرحة، ثم بعد ذلك ظنوا أن تستمر الزيارة وأن يستمر التواصل ولا يخلو الضريح من الزوار ليلاً أو نهاراً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولأجل ذلك ترى في بعض البقاع يوم أن ترى موقعاً من مواقع الأضرحة مدخلاً بزخرفة وأشكال مهيبة وغريبة، ثم على اليمين من يستلم القرابين ويأخذها وعلى اليسار من يأخذ النذور والأوقاف والصدقات، وفي المقدمة مطوف يطوف بالزائر عند القبر وفي المؤخر من يحدثك بدموع التماسيح والبكاء للزائر، ثم يكلمك عن كرامات هذا القبر، فيخرج الزائر وقد أشرك وكفر بالله من حيث يدري أو لا يدري، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(242/11)
دليل على تعذيب أصحاب تلك القبور
بل إن بعضهم حصل له من الضلالة وحصل له من الجهل ما يحصل يوم أن رأى نوقاً وأبقاراً وخيلاً جيء بها وهي هزيلة إلى بعض مواقع هذه الأضرحة فكان منها أن سمع رغاءها أو خوارها أو صهيلها ثم قال له: انظر كانت خيلاً وإبلاً وأبقاراً هزيلة فلما دخلنا بها الضريح دبت فيها الحياة من جديد.
تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا فقال: إن أولئك الجهلة لا يعلمون أن أصحاب القبور فيهم من يعذب عذاباً لا يسمعه الثقلان الجن والأنس، ويسمعه غيرهم من الدواب والبهائم، فإذا جاءوا بالدواب إلى مقام يعذب صاحبه سمع لها الصهيل والرغاء والخوار فظنوا أن حركتها من بركة صاحب هذا القبر، والصحيح أنها سمعت من عذاب صاحب القبر ما خفي وما لم يدركه أولئك الجهلة.
فانظروا أنواع التضليل وأنواع الزيف والخداع، بل ومن المؤسف حقاً أن تجد من الأثرياء وأرباب الأموال الطائلة من يوقف الأوقاف العظيمة ويجعلها ريعاً على هذا القبر وعلى سدنته وعلى خدامه، ومع ذلك تجد أولئك يسمون أنفسهم ويعدون أنفسهم في عداد الدول الإسلامية {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] أقوام تمكنوا من رقاب العباد، ومن خيرات البلاد، ثم يقرون القبور والأضرحة، ويسكتون عليها ويرونها تعبد من دون الله، فأي ضلال أعظم من هذا، نعوذ بالله من الخذلان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(242/12)
محاربة العقيدة بين القبوريين والكتاب المعاصرين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.(242/13)
إنكار بشرية الأنبياء والأولياء
يقول محقق رسالة شرح الصدور بتحريم رفع القبور الشيخ العلامة محمد بن حامد الفقي رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، يقول: وإن من أنواع الإفك وباطل أهل القبور الذي يخدعون بها الطغام يزعمون أن ذوات الأنبياء والأولياء ليست من جنس ذوات بقية البشر، إذ أنهم بهذا يدعون بهذا إفكاً عظيماً أن الأنبياء والأولياء هم النور الذي انبثق وفاض من الله سبحانه وتعالى، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وعلى ذلك يقول أولئك الضلال: إن ذوات الأنبياء وذوات الأولياء اكتسبت خصائصها المضيئة وصفاتها من الحياة الدائمة التي لا يعتريها ما يعتري بقية الخلق من الفناء والبلاء، وهم يزعمون أن الأنبياء والأولياء ما ماتوا كموت البشر بل انتقلوا انتقالا، وأنهم أحياء يسمعون ويبصرون ويقدرون ويعطون كل ما يطلب منهم ويقضون حاجات السائلين ويستجيبون دعاء الراغبين وأنهم بذلك النور الذي فاض من الرب بزعمهم الفاجر وباكتساب هذه الخصائص والصفات الذاتية أصبحوا وسطاء بين الله وبين خلقه، أصبحوا واسطاً بين البشرية والربوبية، فمن ثم اتخذوهم وسطاء بينهم وبين ربهم، أو على زعمهم واعتقادهم الفاسد بينهم وبين أبيهم الذي انبثق نورهم منه، فهم بذلك يعتقدون أن الأنبياء والأولياء بعد موتهم يتصرفون أو في حياتهم يتصرفون في ملك الرب، ويتصرفون بما يشاء من خفض ورفع وقبض وبسط وإعطاء ومنع وإجابة أمور لا يقدر عليها إلا الله.
بل هناك أمور لا يسألها بعضهم من الله بل يسألها من صاحب القبر في ظنه أن مثل هذه لا يقدر عليها إلا صاحب القبر وربما أن الله لا يقدر عليها! تعالى الله عما يقول الظالمون! بل يقول الشعراني وهو من طواغيت الصوفية من طواغيت الحلولية من طواغيت الاتحاد، يقول الشعراني: إنهم يتحكمون في الرب ويقهرونه.
تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وهذه عقيدة الصوفية الوثنية في كل أوليائهم من الجاهلية الأولى والثانية يسميها لهم الشيطان في كل وقت بأسماء يخدعهم بها ويروجها عليهم لأنهم مقلدون تقليداً أعمى {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(242/14)
الاستهزاء بالذات الإلهية في أحد الكتب
أيها الأحبة في الله: إني أسوق هذا والفؤاد يقطر دماً أو ألماً يوم أن عثرت وقدمت لفضيلة الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيدان قدمت له في درسه في واحد من الأسابيع الماضية نسخة من كتاب عنوانه: السخرية السياسية العربية لمؤلف اسمه خالد القشطين وهذا الكاتب يكتب في جريدة الشرق الأوسط وما كنت أود أن أتحدث إلا بعد أن أطلع على الكتاب وأن أسمع وأقرأ وحاولت أن أتصل بالكاتب في لندن مراراً بدون جدوى، لا أدري أخوفاً من الجواب أم إدراكاً للباطل الذي فعله؟! مراراً حاولت الاتصال هناك لأتحقق من مقامه وموطنه، المهم أن هذا الكتاب كتاب السخرية السياسية العربية يقول في مقدمته: إني لا أستطيع أن أكتب أفكاري باللغة العربية؛ لأن يد الرقيب وعين الرقيب تلاحقني وتطاردني، لأجل ذلك فإني أكتب أفكاري باللغة الإنجليزية.
والمصيبة أنه يتحدث ليزعم أن في سياسات العرب وأن في رجالات العرب من النكتة ومن الطرافة ومن ومن، الأمر الذي جرأه على الله، فقال في واحدة من صفحات الكتاب، يروى ويسوق هذا استهزاء وسخرية بالله، ولو قيل له: أكتب حكاية ملك من الملوك، أو اكتب رواية عن رئيس من الرؤساء أو اكتب قصة ضاحكة طريفة فيها سخرية بوزير من الوزراء لمات في مكانه وارتعدت فرائصه ولكنه يروي نكتة عن من؟ عن الله جل وعلا، عن الله رب العالمين الذي خلقنا من العدم، أيليق هذا؟ أيطبع هذا؟ أيدخل هذا الكتاب؟ إني لا أفترض أن الرقيب شمس مشرقة تطلع على كل شيء ولكني أقول الآن تقوم الحجة وقد وقع الكتاب في أيدينا وعرفنا مؤلفه أن يصادر الكتاب من الأسواق وأن يمنع المؤلف من الكتابة في كافة الجرائد والصحف والمجلات، وأن يدفع أو يرد منه كل شيء يقدمه إلى هذه البلاد عبر أي وسيلة، والله إني أتردد في سياق هذا وذكره يقول الخبيث: إن جبريل عليه السلام جاء مع رؤساء الدول العربية وأخذ يعرفهم على الله واحداً واحداً، أهذا يقال عن الله؟! هل تخفى على الله خافية؟! ربنا الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء يسخر هذا الكاتب ويقول: إن جبريل جاء بالرؤساء يعرفهم على الله واحداً واحداً، ثم يقول: إن الله يقوم عن عرشه ويصافح هؤلاء الرؤساء! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! يا رب! يا رب! إنا نبرأ إليك مما قالوا ونبرأ إليك مما فعلوا، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
يقول: ولما جاء دور الرئيس جمال عبد الناصر ليصافح الله قعد الله على عرشه ولم يصافحه، فهمس جبريل في أذن الله وقال: أما تعلم أن هذا زعيم الرؤساء فلماذا لم تقم له؟ فزعم أن الله قال: خشيت أن يأخذ عرشي مني.
والله إن الكتاب موجود، وإن هذا موجود يا عباد الله، سبحانك هذا بهتان عظيم، سبحانك هذا بهتان عظيم، سبحانك هذا بهتان عظيم.
أيها الأحبة! إن أمور العقيدة في خطر، إن التساهل في أمور العقيدة خطير جداً، فلا بد أن نكون على غيرة لذات الله سبحانه وتعالى، أيسب خالقنا؟ أيهزأ بربنا؟ أيسخر بمولانا؟ أيقال هذا في بلادنا؟ أينشر هذا في كتاب يدخل عندنا؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! إنا لله وإنا إليه راجعون! إنا لله وإنا إليه راجعون! وإني أيها الأحبة أسوق هذا وكلي أمل ولا عذر لمسئول يسمع هذا ثم يقصر عن إجراء أقصى عقوبة يستطيعها؛ لأن الكاتب عراقي الأصل وليس من أهل هذه البلاد، ويسكن في لندن.
فواجبنا أيها الأحبة أن نلتفت إلى أمر العقيدة وأن نهتم لأمر العقيدة، في الدعايات تقول دعاية من الدعايات: كما تغلف الطبيعة هذه الثمرة فإننا نغلف هذه المادة الغذائية الطبيعة تغلف الطبيعة تعطي الجماد يخلق عدماً!! هذا من التساهل، وهذا من التهاون، وإن كنا نقبل عذر مسئول الرقابة الإعلامية حيث يقول: إني لست ملكاً أو عيناً ظافرة على كل صغيرة وكبيرة.
أقول: إذا بلغك هذا فلا يسعك إلا أن تعتذر، وليس عيباً أن نعتذر عن الخطأ.
أيها الأحبة في الله! للحديث بقية، والمقام لا يسمح بذكرها ألا وهي التوسل والوسيلة، فأجعلها للجمعة القادمة.
أسأل الله جل وعلا ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، أسأل الله ألا يهلكنا بذنوب غيرنا، أسأل الله ألا يسخط علينا، ولولا أن الله ذكر في كتابه مقالة اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، ولولا أن الله ذكر في الكتاب: {قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] لو لم يرد هذا في القرآن من بيان عرض الباطل وجرأته على الله، وجرأتهم على ربهم لو لم يرد ذكر هذا في القرآن ما ذكرت هذه القصة التي وردت في كتاب السخرية السياسية العربية.
وقصة أخرى لا أود أن أفجعكم بها، ولكني أكتفي بالإشارة إلى ما سمعته وأختم هذا برسالة إلى كل مسلم لا أخص بالحديث من تعين في الرقابة على المواد الإعلامية، أو الرقابة على الصحف، أو الرقابة على المجلات، أو الرقابة على التلفاز، بل أخصكم بهذا يا معاشر المؤمنين! بأن تكونوا عيناً باصرة لكل صغير وكبير يكتب بهذه الجرائد وهذه المجلات أصبحنا نتعامل مع كثير من الذين يتكلمون بلغتنا ويعدون من بني جلدتنا ويلهجون بمثل ما تلهج به ألسنتنا من نوع اللغة، أصبحنا نحذرهم ونخشاهم، فإليك الملجأ اللهم وأنت المستعان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم لا تفرح علينا ولا على الدعاة أو العلماء أو الولاة عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، واجمع شملنا اللهم على مرضاتك، واجعل ذلك في طاعتك، وسخر لنا ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك.
يا أمة الإسلام! أنتم المسئولون أن توجد الغيرة في قلوبكم وفي أنفسكم وتعلمونها أبناءكم حتى لا يمس الدين بسوء، والله إذا نزل بلاء من الله، وإذا حل سخط وعقوبة، والله لن تنفع الأمم جيوش، ولن تنفع الأمم رجال، ولن ينفع الأمم إلا الله جل وعلا، فمن كان مع الله في الرخاء كان معه الله في الشدة، واحفظ الله يحفظك في كل حال.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم ارحم المستضعفين في البوسنة والهرسك، اللهم أهلك الشيوعيين، اللهم أهلك البعثيين، اللهم أهلك العلمانيين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم اخزهم، اللهم إن هذا الفاجر العلماني الذي كتب هذه الكتابة باللغة الإنجليزية ثم ترجم الكتاب إلى العربية وهذا باطله ظهر وهذا زيفه انكشف وهذا خداعه بات جلياً، اللهم إنا نسألك أن تهلكه وأن تهلك من وافقه ومن فعل فعله ومن أيده ومن ساعده ومن نشر له بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم ادفع عنا البلاء والربا، والزنا والزلازل والمحن، والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم صلّ على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(242/15)
لماذا حد الحرابة؟
شرع الله الشرع لمصلحة العباد، وضمن لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم، وجعل للمفسدين في الأرض جزاء يوافق جريمتهم، ويحد من خطرهم، حيث إنهم يصيرون في المجتمع كالعضو المريض الذي لابد من بتره، حتى لا يسري المرض إلى غيره، حول هذا الموضوع يتحدث الشيخ في هذه المادة(243/1)
سبب تشريع الله للحدود
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا لله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: تعلمون أن جميع بني البشرية يرغبون العيش في مجتمعات تملؤها السعادة والطمأنينة، والأمن والطمأنينة اللتان تُحَقِّقا السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بتحكيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ذلك المنهج الرباني الشامل الضامن لسعادة البشرية، الذي لا يطرأ عليه زيادة ولا نقص، ولا يمكن أن تتخلف حكمه في أي زمان أو مكان.
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
أيها الأحبة في الله: وسعادة البشرية حينما ترتبط بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتطبيقها في شتى مجالات الحياة، ومن بينها وأهمها: مجال الأمن والأمان والطمأنينة، مجال الحدود والقصاص والمعاملات، فإن الله جل وعلا يوم أن شرع ذلك لم يشرعه عبثاً، وإنما شرعه لعباد هو الذي خلقهم، وهو أدرى بما يزجرهم، وهو أدرى بما ينفعهم، وجعل هذا أمراً مشروعاً، بل جعله من أعظم المنن عليهم، وجعل قيامهم به سبباً لرفاهيتهم ونعيمهم، وتدفق النعم عليهم من سائر الأنحاء والبلدان.
أيها الأحبة في الله: إن مجتمعاً تملؤه العقيدة ويعلم أفراده أن الجزاء في الدنيا, وبعده الجزاء في الآخرة، لكافٍ في أن يرتدع أفراده عن أن يعتدي بعضُهم على بعض.
إن مجتمعاً تملؤه العقيدة يعلم أفراده أن الخير لا يضيع، وأن البر لا يُنسى، وأن الحسنة بعشر أمثالها، وأن من عمل صالحاً فلنفسه، ويبارك الله له فيما عمل من الصالحات، ليتنافس أفراد هذا المجتمع، في المسابقة إلى الطاعات والخيرات، وبر بعضهم لبعض، ونفع بعضهم بعضاً، هذا يكون في مجتمعات العقيدة.
أما المجتمعات التي تحكمها القوانين الوضعية والأنظمة البشرية فهي كما قال القائل:
كلما أنبت الزمانُ قناةً ركَّب المرء للقناة سناناً
لا يدع أفراد مجتمع تحكمه القوانين فرصة للاحتيال على الأنظمة أو التشريعات إلا وثبوا عليها، واستغلوها، وانتهزوها؛ لتحقيق مطامعهم ومآربهم، ولو كان في ذلك إزهاق الأرواح، وسفك الدماء، وإثارة القلق، وقلب الأمور إلى الفوضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نختصر هذا الكلام -أيها الإخوة- لنقول: إن الله جل وعلا شرع القصاص والحدود والعقوبات على جرائم معينة محددة؛ لضمان سلامة أفراد المجتمع، ولضمان سعادتهم، ولبقاء علاقاتهم على حد من الثقة والأمانة، ولولا ذلك ما باع أحدٌ ولا اشترى، وما سافر ضاعن ولا ارتحل، وما تحرك مقيم ولا سكن؛ لكن يوم أن يعلم الناس أن الله رقيب على العباد، وأن العباد يخشون الله فيما يفعلون، وبعد هذا شرع الله عقوبات لتردع كل ظالم، ولتخوف كل من تسول له نفسه، عند ذلك يطمئن أفراد المجتمع إلى هذا.
يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].
ويقول الله جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179].
الله أكبر -يا عباد الله- تأملوا هذه الآية، جعل الله حياة الأرواح في القتل {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179] وتقول العرب قبل ورود البعثة النبوية عليهم: القتل أنفى للقتل.
فكلام الله أبلغ وأسمى وأجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
نعم -أيها الأحبة في الله- إذا قُتل القاتل، قُطع دابرُ القتل، وإذا عوقب المعتدي قُطع دابرُ الإفساد، أما إذا تُرك الأمرُ على علاته، وأُطلق الحبلُ على غاربه، عند ذلك هذا يقتل، وهذا ينتقم، ثم يسري القتل كما تسري النار في الهشيم اليابس، ولا يبقى على الأرض مطمئن، ولا متلذذ بأمن أو دعة، ولذلك شرع الله القصاص، وجعله عقوبة للقتل في ألوان من الجرائم والعقوبات.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، والثيب الزاني).
ويقول صلى الله عليه وسلم في جعل القتل عقوبة مشددة فوق العقوبة المشروعة في حد الزنا: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه).(243/2)
جملة من مقاصد الشريعة في الحدود
والله جل وعلا قد شرع لولاة الأمر أن يجعلوا القتل من باب السياسة الشرعية لقطع دابر الفساد والمفسدين.
أيها الأحبة في الله: جاءت الشريعة لتحفظ المجتمع بضوابط معينة، وبعد ذلك وُجدت العقوبات لمن تعدى هذه الضوابط، جاءت الشريعة برجم الزاني المحصن، وبجلد الزاني البكر، بعد ماذا؟ بعد نهي النساء عن التبرج، وبعد أمر الناس بغض أبصارهم، وأمر النساء بغض أبصارهن، وبعد أمر البنات والنساء بالقرار في البيوت، فمن تعدى هذه الدائرة من القيم، ومن تعدى هذه الدائرة من التشريعات والمبادئ السامية، عند ذلك كانت العقوبات حداً واقفاً في نحره.
من هنا -أيها الأحبة- نعلم أن نعمة الله علينا في هذه البلاد عظيمة، يوم أن نرى السيف يجز رقبة القاتل، فيتدحرج رأسه أمام البشر، وتسيل الدماء من عروقه وبدنه، لكي يرتدع من تسول له نفسه القتل، ولكي يحمد الله من رأى ذلك على نعمة الأمن والطمأنينة.
إن من نعم الله أن نجد يد السارق معلقة مقطوعة ليراها الناس فيزدجروا، ويرتدعوا عن أخذ أموال الناس بالباطل، والاعتداء على حروز منازلهم وأموالهم، أو أخذها بالقتل، والنهب، والسرقة.
إنها لمن نعم الله أن نرى شارب الخمر يُجلد، لكي يرتدع عن التمادي فيها، حتى لا يجره ذلك إلى الوقوع في ألوان من الآثام والعقوبات.
إنها لمن نعم الله، أن يُرجم الزاني المحصن، وأن يُجلد الزاني البكر، فإنها لمن أعظم نعم الله التي نحمد الله عليها.
ووالله ثم والله ثم والله ما نعمتم بأمن في مجتمعكم إلا بتطبيق الشريعة، وعلى أهم جوانبها جانب الأمن والحدود والعقوبات، ولولا ذلك لعجز بعضكم أن يذهب بماله من المصرف إلى بيته، ولخشي بعضكم أن يخرج في هزيع الليل، ولخاف بعضكم أن يترك بابه مفتوحاً، ولو للحظة واحدة، ولكن يوم أن ثبت الله سلطان الشريعة، وهيبتها في القلوب على كثير من البشر، ارتدع كل ظالم عن ظلمه، أو من تسول له نفسه، وبقيت شرذمة فاجرة قليلة، لا تزال رجال الأمن تتعقبها بما حقق الله لهم من سلطان الكتاب والسنة، وبما أوجب عليهم من واجب حفظ الأمن في المجتمعات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(243/3)
دليل حد الحرابة في كتاب الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، فإن أجسامكم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خيرَ الكلام كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة في الدين ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: قد يقول قائل: إن الله جل وعلا شرع ألواناً من الحدود ردعاً لكثير من الجرائم، وهيأ ألواناً من العقوبات دفعاً لكثير من المصائب.
فالقتل بالقتل في القصاص.
والرجم والجلد في الزنا.
والجلد في قذف المحصنات، وقذف المؤمنين.
والجلد في شرب الخمور.
وكذلك القتل بأبشع طريقة في جوانب اللواط، وجريمة الشذوذ.
ولكن هناك ألوان من الجرائم تشيطن فيها طائفة من البشر، وتفننوا في الوقوع فيها، حتى لا يقعوا في تطبيق أركان الحدود عليهم، ويلتمس بعضهم في ذلك أن يُفلتوا من الحد إلى العقوبات التي هي دون الحدود.
نقول: اعلموا -أيها الإخوة- أن الله يوم أن شرع القصاص في القتل، وشرع الرجم، والجلد وكثيراً من العقوبات، إن الله جل وعلا شرع باباً عظيماً وبوابة كبيرة في ردع الفساد والمفسدين، ألا هو حد الحرابة، وباب السياسة الشرعية.
أما حد الحرابة فهو الذي يدل عليه قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
فمن عُرف منه الفسادُ والإفساد في أي لون من ألوان التخريب والتدمير، أو إثارة القلق وزعزعة أمن المجتمع، فإن الله جل وعلا قد شرع لولاة الأمر أن يوقعوا عقوبة تبدأ بغرامة الدينار، ثم إلى الجلد بالسوط، وتنتهي إلى قطع الرقبة، حتى لا يقال: إن مجتمعاً من المجتمعات قتل نفساً لم يرد في القرآن دليل على قتلها، بل إن دليل قتلها وإزهاقها إذا كانت مُفسدة، لفي محكم آيات القرآن الكريم، وأي شيء أبلغ من هذه الآية؟! أن يجعل الله حد الحرابة والقتل وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، لردع الفساد والمفسدين.
كذلك -أيها الأخوة- قد تقطع يد السارق في سرقةٍ من حرز، ولو كانت في مال يسير، فيقول قائل: وما بال من يسرق أموال المؤمنين؟! وما بال من يسرق أموال المسلمين؟! نقول: إن الله جل وعلا قد شرع باباً واسعاً في السياسة الشرعية، لا يقف عند قطع اليد من الكوع، بل قد ينتهي إلى قطع اليد عند الكتف، أو إلى قتل النفس وإزهاقها بالكلية، حفاظاً على المجتمع، وقد قرر الفقهاء فيما مضى أن لولاة الأمر إذا رأوا الفساد منتشراً في مجتمع من المجتمعات أن يقتلوا ثلثي المجتمع إذا ضمنوا صلاح الثلث الباقي.
فيا عباد الله: اعلموا أن المجتمع إذا طُبقت فيه الشريعة، وسادت فيه الحدود والعقوبات الشرعية، فإن الله جل وعلا يحفظ رجاله وأبناءه، وجميع أفراده، أما إذا تساهل الناس أو تساهل ولاة الأمور، أو تساهل الحكام في تطبيق الشريعة، فإن ذلك يفتح باباً من الفساد وزعزعة الأمن والقلق والتخريب بقدر ما تُرك من تطبيق الحدود والعقوبات.
وهذا واضح، والميزان متناسب عكسياً، فمتى قل نصيب الأخذ بتطبيق الشريعة، زاد نصيب المجتمع من الجرائم والاعتداء والإفساد.
فهذا أمر واضح جلي.
نسأل الله جل وعلا أن يديم نعمة تطبيق الحدود، وأن يتمم نعمة تحكيم الشريعة على هذا المجتمع في شتى مجالاته وألوان حياته.(243/4)
حرمة الشفاعات في الحدود
أيها الأحبة في الله: وإن هذه الشريعة الربانية التي قررت هذا لتحذر من أن تدخل الشفاعات أو الواسطات أو الواجهات أو المحسوبيات في تطبيق الحدود والشريعة، وجعل ذلك من باب الخيانة العظمى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
إذا جار الأمير وكاتباه وخانوا في الحكومة والقضاءِ
فويل ثم ويل ثم ويلٌ لقاضي الأرض من قاضي السماءِ
يوم أن تدخل المحسوبية، أو الواسطة، أو الوجاهة، أو الشفاعة في حدود الله جل وعلا فإن ذلك نذير شؤم، ومؤشر بلاء على المجتمع.
سرقت امرأة من بني مخزوم وهي شريفة من شريفات قومها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورُفع شأنها إلى النبي، فحكم صلى الله عليه وسلم بما شرع له ربه، وبما أنزل عليه في كتابه، أن تُقطع يدُ المرأة المخزومية الشريفة، أن تُقطع يدُ هذه المرأة عالية النسب في مجتمعها، فأهم قريشاً أمرها، وخاضوا في شأنها، وقالوا: من يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرها، فقالوا: لا نجد إلا حِب رسول الله وابن حِب رسول الله أسامة بن زيد بن حارثة، فجاء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها، فتمعَّر وجه النبي، واحمرَّت وجناته، وانتفخت أوداجُه، ثم قال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وخطب الناس، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه: أيها الناس! إنما أهلكَ من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم القوي تركوه، وايم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها).
وحاشاها وهي الزهراء، وهي الحرم المصون، وحاشاها وهي الجانب الرفيع أن تسرق، ومع ذلك يعظم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الشفاعة في الحدود: (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها).
ومثل هذا وارد في زجر المؤمنين بأبلغ الخطاب.
الله جل وعلا يقول لنبيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
فهل يمكن أن يشرك الرسول؟! لكن لبيان خطر الشرك.
ويقول الله جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
وهل تخضع زوجات النبي بالقول؟! حاشا وكلا؛ ولكن من باب تشديد الأمر، والتغليظ والزجر في بابه وشأنه.
فكذلك -يا عباد الله- حذارِ حذارِ من أن تشفعوا أو تتوسطوا أو تتدخلوا فيمن وجب عليه حكم الله بكتاب الله، تطبيقاً لشريعة الله.
إن من أعظم المصائب أن ترى رجلاً يشفع في شاب قد هرَّب المخدرات، أو ترى رجلاً يشفع في أحد أسرته، أو قبيلته -والله- لو كان فيه من الخير ما يسعد به مجتمعه وأمته ما شفع في حد من حدود الله، ولا توسط في تخريب قد يُراد به أمن المجتمع والأمة.
فيا عباد الله: إياكم والشفاعة في الحدود، إياكم والوساطة، واعلموا أن من قدم رجلاً وفي المسلمين من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، فإن في ذلك خطر أن يُرَجَّع أو يُرَدَّ من وجبت عليه العقوبة، سواءً كانت حداً أو تعزيراً، وبهذا تستقر الأمور، وتثبت المجتمعات، وفي المراوغة في تطبيق الأحكام، وتطبيق بعضها وترك بعضها يقع الفساد, والله جل وعلا قد عاتب بني إسرائيل يوم أن قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85].
فمعاذ الله أن تكون خاتمة الأمة أو أن خاتمة المجتمع المسلم تنتهي إلى هذا! بل الرضا بالقضاء، بل الرضا بما شرع الله في كتابه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
أسأل الله جل وعلا أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يديم الأمن والطمأنينة على هذا المجتمع.
اللهم لك الحمد أولاً وآخراً على ما شرعت من إلقاء القبض، وهيأت من أسبابه على الطُّغْمة المفسدة الحاقدة، من أبناء الشيعة الرافضة، الذين أرادوا التفجير في بيتك الحرام، اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد حمداً لا يتناهى، ملء السماء وملء الأرض.
اللهم لك الحمد كما يرضيك، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطان.
وإن المسلمين جميعاً ليهنئون ولاة الأمر ورجال الأمن على هذه النعمة، ويدعون لهم بالسداد والثبات والتوفيق، ويطلبون مزيداً من الضرب بأيدٍ من النار والحديد على من زاغ عن طريق الأمن وصراط الله المستقيم، فبهذا تنعم المجتمعات بالطمأنينة.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازِه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم من كان منهم محسناً فزد له في حسناته، ومن كان منهم مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، يا خير من تجاوز وعفا، ربنا عاملنا وعاملهم بعفوك، وما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى والمغفرة.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيِّماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك، يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم أحسن بطانته، اللهم قرب منه من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، واجمع اللهم شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وما يرضيك يا رب العالمين! اللهم لا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ولا تفرِّح علينا ولا عليهم عدواً.
وسخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، يا رب العالمين! اللهم أحسن خاتمتنا، اللهم أحسن ختامنا، ويَمِّن كتابنا.
اللهم اجعل خير أيامنا يوم نلقاك، وخير أعمالنا خواتهما.
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.
اللهم انصر المجاهدين، واهلك المنافقين بينهم، اللهم اهلك المرجفين في صفوفهم، اللهم اهلك الشامتين بهم.
اللهم انصر المجاهدين، وأقم دولتهم، وثبت أقدامهم، ووحد صفهم، واجمع كلمتهم، وسدد رصاصهم برحمتك يا رب العالمين! اللهم رد المسجد الأقصى إلى أيدي المسلمين، اللهم عليك باليهود، أبناء القردة والخنازير، اللهم اجعلهم غنيمة المسلمين، اللهم اجعل الدائرة على رءوسهم، اللهم إنهم عاثوا في رقاب إخواننا، وفي أعراض أخواتنا، وفي أموالهم وبيوتهم وأطفالهم فساداً واستباحة وانتهاكاً، اللهم عجل صاعقة الهلاك عليهم، وأوقد أبواب الشر في بيوتهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك، يا رب العالمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(243/5)
أحوال المسلمين في كوسوفا [2]
جرح الأمة ينزف في كوسوفا دماً، لكن الأمة أغفلت عن جرحها، وألهيت عن قضيتها؛ حتى ضعف الولاء، وقلّ التناصر، فهذا بيان لحال المسلمين هناك، ودعوة للمسلمين في العالم لينظروا في قضيتهم؛ ليعلموا كيف يداوون مصيبتهم.(244/1)
قضية كوسوفا
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين! في الآونة الأخيرة لا يكاد يمر عامٌ أو عامان إلا وتُفتن أمة الإسلام بفتنةٍ جديدة في بقعةٍ جديدة، تُظهر حال الذل والهوان الذي يعيشه كثيرٌ من المسلمين اليوم، وتكشف مستوى الولاء بين المسلمين قوةً أو ضعفاً، وقضية المسلمين في كوسوفا واحدةٌ من سلسلة القضايا التي أغنت الصور فيها، عن كثيرٍ من مفردات قواميس البلاء والتشرد والقتل والإبادة والتصفية العرقية.
إنها قضية شغلت العالم بأسره شرقه وغربه، مسلمه وكافره، وحسبكم بحال المسلمين فيها أن يُعلن اليهود استعدادهم لإيواء بعض اللاجئين أو إرسال بعض المعونات إلى المسلمين، واليهود -كما تعلمون- لم تجف دماء إخواننا بسبب مذابحهم واغتيالاتهم في فلسطين على الأرض المباركة، في الأسابيع الماضية صار الموتُ قبل ورود العار أمنية، وصار التشرد والرحلة إلى المصير المجهول أغنية:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وأن المنايا قد غدون أمانياً
أيها المسلمون! قلنا في الجمعة الماضية إن الحرب الدائرة الآن ينتصب الصرب الأرثوذكس في أحد طرفيها، وهم المعروفون بالحقد المقيت ليس على المسلمين وحدهم، بل حتى على إخوانهم الكاثوليك، والتاريخ شاهدٌ على ذلك، وليست هذه الإبادة هي الأولى من نوعها لإخواننا المسلمين على يد الصرب، بل سبقها حلقاتٌ في مسلسل الإبادة والتصفية العرقية.
لقد كان المسلمون في كوسوفا 95% والخمسة الباقية من السكان بين الصرب الأرثوذكس والكاثوليك، ومع ذلك وباستمرار مسلسل التطهير والإبادة أصبح المسلمون قلةً بالنسبة لهؤلاء، ومع ذلك لم يشفع للمسلمين جهل كثيرٍ منهم بالإسلام، أو مشابهة كثيرٍ من المسلمين للنصارى في عاداتهم وتقاليدهم وأمور حياتهم، لأن المسلمين ارتكبوا ذنباً لا ينساه الصرب أبداً.
وهو أن أجداد هؤلاء المسلمين اعتنقوا الإسلام ودانوا به، يوم دخل السلطان مراد العثماني تلك البقعة ونشر الإسلام فيها قبل أكثر من (600) سنة في معركةٍ حاسمة بين الإسلام والنصرانية في أوروبا، فكان لابد أن يدفع المسلمون ثمن إسلام الأجداد غاليةً كما دفعه أهل البوسنة قبل سنواتٍ قليلة: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
إننا لا ندري أين الطريق التي ستتحرك منها قوافل الفتح لفتح أوروبا، ولفتح روما، كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لتفتحن القسطنطينية وروما فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش، فقال الصحابة: وأي المدينتين تفتح يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل أولاً) يعني بها: القسطنطينية، وقد فتحت من قبل وجثمت العلمانية عليها الآن، وبقيت روما لم تفتح، فلا ندري هل ما دار في البلقان على أرض البوسنة، أو يدور الآن على أرض كوسوفا إرهاصٌ لحربٍ تكون نهايةً لهذه الأمم الكافرة؟ أيها الأحبة! القضية التي يتحدث عنها كثيرٌ من الناس: هي الحرب بين الناتو من جهة والصرب والدوما من جهةٍ أخرى، وتلك وإن كانت مسألة كبيرة وخطيرة، إلا أنها كما قلنا: لا تساوي شيئاً أمام تهجير المسلمين وتشريدهم وتنصير أطفالهم، بعد أن تتقاسمهم الأديرة والكنائس ليتربوا هناك، في ملاجئ ومهاجر ومحاضن الكفار المنتشرة في أنحاء أوروبا، وهل يبقى بعد ذلك انتماء، أو تصمد هوية؟! هذا هو الوجه الأخطر للحرب القائمة، وأما الدمار للمنشآت الصربية، وأما الحرق للمباني الصربية، فهو وإن كان قرحاً يسرنا ما نراه فيهم، وما نراه من ضرباتٍ عسكرية متتابعةٍ من الناتو، وإن كان يسرنا أن يُسلط الله كافراً على كافر، لكن بيقين أن حفنةً من ملايين الدولارات تعيد البناء أحسن مما كان، فضلاً عن قلة المتضررين بشرياً من الصرب، لكن مصيبتنا العظمى هي جيل المهاجرين من كوسوفا إلى دولٍ أوروبية، في كل دولةٍ منهم جزءاً، وكل مدينةٍ تتقاسمهم في أحياء وكل حيٍ يذوبون فيه ويختلطون كما يذوب الملح في الماء، وما أهداف وأبعاد معركة الصرب هذه إلا من أجل أن يذوب المسلمون في المجتمعات الأوروبية، لأن تجمعاً وتكتلاً بشرياً على رقعة واحدة منذرٌ بخطر على هؤلاء، أن تقوم دولةٌ إسلاميةٌ هناك.
أيها الأحبة في الله! هذا الجيل المهاجر هذا الجيل المشرد هذا الجيل التائه الهائم على وجهه، من يعيده؟ ومن يبنيه؟ ومن يحفظ عليه دينه وهويته؟ اللهم إنك أنت المستعان، وأنت حسبنا وحسبهم ونعم الوكيل.(244/2)
مصير الشباب والشابات في كوسوفا
أيها المسلمون! شردت الكنيسة الأرثوذكسية، قرابة المليون نفس، جُلهم من الأطفال والشيوخ والنساء، أما الشباب فكانت المقابر جماعية تنتظرهم على موعد الدفن وهم أحياء، وآخرون في السجون والمعتقلات، ولعل المتأمل والمشاهد لهذه الصور التي تعرضها وسائل الإعلام لقوافل المهاجرين والمشردين لا يظهر فيها إلا الشيوخ والعجائز والأطفال والنساء، الحال في كوسوفا مشهدٌ يُترجم مفردات الألم والحسرة والذل والمعاناة التي يمر بها المسلمون هناك، والحال في كوسوفا مشهدٌ يترجم مفردات الحقد والبغض والعداوة الدينية التي بلغت حد القتل والاغتصاب والتشريد.
أسألكم أيها المسلمون! هل تأملتم الصور التي تعرضها الشاشات للمهاجرين؟ ألا ترون فيها أمراً عجباً! لا يظهر فيها صنفان من البشر إلا قليلاً ممن نجح في الهرب والفرار بنفسه، الشباب والشابات هؤلاء نفقدهم في مشاهد الهجرة وصور اللاجئين، والجواب تعرفونه، بل أخبرنا به من هم الآن يعيشون على فوهة الصراع هناك، الشابات الجميلات على وجه الخصوص، ينتزعن من القافلة عند أول الرحيل ليكن مرتعاً لتفنن جنود الصرب في ألوان اغتصابهن، في ثكنات جنود الصرب وملاهيهم.
وأما الشباب فالغالب منهم كما قلت: على موعدٍ مع مقابر جماعية حيث الجرافات الكبيرة تنتظرهم، مستعدةً لأن يهال التراب عازل الصوت والصراخ والأنين وعازل الهواء والأكسجين، واسأل من اكتشف مواقع دفنهم جماعياً؟! واسأل من سيكتشف مواقع دفنهم جماعياً؟!(244/3)
حال المسلمين في ألبانيا
أيها المسلمون! ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم؟! ألم يأن لكم أن تلين أفئدتكم؟! أفئدة من حجر! ألا يكلف المرء نفسه تحريك جفنيه وفتح عينيه، ليرى صرعى البؤس والتشريد وضحايا الظلم والعدوان والفاقة ماثلين أمامه في غير ما سبيل، ألا يرى ذلك فتأخذه بهم رحمة الإنسان؟ كيف يستطيع أن يهنأ صاحب الترف واللذات بطعامه وشرابه؟! بل كيف يُدلل صبيانه وبناته؟! وكيف يضاحك عياله؟! ويمازح أهله؟! وهو يرى في كوسوفا صبيةً مثل عياله أبرياء ما جنوا ذنباً، أطهارٌ ما كسبت أيديهم إثماً، أفيكون من العدل أو من الإخوة ألا تبالي بهم! وألا تذكر حالهم عند نومك أو يقظتك أو طعامك أو شرابك أو اجتماعك بأهلك وأولادك؟!! يبكون من الحيف ويتلمظون من الجوع! أفلا يهزنا ما نسمعه عن نساءٍ وصبايا في ألبانيا كاللآلئ المكنونة والدرر المصونة، ولغت فيها الكلاب الصربية الآثمة، وطالتها الأيادي المجرمة، أولا ينظر المرء إلى بلاد إخوانه في الديانة، تحت سيطرة الصرب والنصارى الحاقدين:
وطفلة ما رأتها الشمس إذ بزغت كأنما هي ياقوتُ ومرجانُ
يقودها العلج للمكروه مكرهةً والعين باكيةٌ والقلبُ حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
قالها الرندي لما سقطت الأندلس وأعيد قولها فيما فعله الشيوعيون في أفغانستان، وفيما فعله الروس في كثيرٍ من البلدان، وفيما فعله الصرب في البوسنة، ونرددها الآن فيما يفعله الصرب في أرض البلقان، وفي كوسوفا على وجه الخصوص، لقد سالت حممٌ من القنابل والشظايا، وامتلأت بلادهم جثثاً وغدت أباطح، وتهجر المسلمون من منازلهم وعيشهم إلى هجرةٍ نحو الحدود وسفوح الجبال.
أولا ينظر المسلمُ إلى كوسوفا ومن خرج منها من ساكنيها فراراً حيث لم تعد دوراً ولا منازل، وإنما صارت جيفاً وأشلاء، يقف المسلم الألباني أمامها مشدوداً، لسان حاله يقول:
سقوف بيوتي صرنَ أرضاً أدوسها وحيطان داري ركعٌ وسجودُ
تصور أخي المسلم! تخيل أنك مكان هذا الأب المفجوع بأهله، وأن زوجتك مكان هذه الألبانية في معسكرات الصرب والاعتقال، أو مع اللاجئين والمشردين، تخيل نفسك مكانهم، تخيل أولادك وذريتك المكسورة الجناح تنهشهم أفاعي البشر، وتفتك بهم ذئاب الكفر، هل تطيق أن تتخيل أن تدور عليهم رحى الأيام والأيام قُلّب! فيصبحون لا حول لهم ولا قوة، يطمع فيهم الطامع، وما من نصيرٍ لهم ولا مدافع إلا من رحم الله، فما بالك بمن يعيش هذا البلاء كله، الذي أنت لا تطيق أن تتخيله، وهم يعيشونه ويرونه عين اليقين وعلموا به علم اليقين، ويعيشونه حق اليقين!! أخي المسلم! وتأمل حال هؤلاء المهاجرين، امرأةٌ حُبلى تضع ولدها في طريق الفرار، وطفلٌ يئن لا يجدون له قطرة حليب، ورجلٌ عجوزٌ شيخٌ كبير لا تستطيع رجلاه أن تحمله فيبقى في جحيم المأساة، جحيم الهرب وجحيم الرصاص والنار، ثم إذا تجمعوا على أرضٍ هي الفراش، وتحت سماءٍ هي الغطاء، وأخذوا يتناهشون خبزةً أو لقمةً أو كساءً أو غطاءً.
البرد لا يزال قارساً هناك، والظروف في غاية الصعوبة، وأصبحوا لا ترى على عيونهم إلا دموعاً يسحونها من مآقيهم على خدودهم:
ضج الأنين من الأنين وطغت تباريح السنين
وازْوّر وجه الحق يخـ ـجل من نواح المسلمين
والأم تعصر ثديها ألماً على هذا الجنين
والزوجة الثكلى ترقرق دمعها دمعاً حزين
والشيخ ملَّ الانتظارَ على طوابير الطحين
جاء المنصر والمبشر لا يمل ولا يلين
ويباع أطفال العقيدة في المزاد بكل حين
ونظل نلهو لا نبالي أن نكون العابثين
ما الذي يحدث لإخواننا؟! وما الذي يجري الآن على تلك الحدود في تلك المنطقة؟! ما الذي أصابنا وما الذي حل بنا من موت الشعور وانعدام الإحساس؟! أيها الأحبة! إن الواجب الذي أمر الله به وشرعه رسوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] و (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) إن هذا الواجب يملي علينا وجوباً لا خيار فيه، وفرضاً لا تردد فيه، أن نُقدم كل ما نملكه من مساعدةٍ ومعونةٍ بالدعاء أولاً وبالمال والنقد والجهد والفكر والاقتراح والسعي وبكل ما استطعنا ثانياً.
إننا أيها الأحبة! على خطرٍ إن ظللنا نتفرج على مآسي المسلمين هكذا، إن الذين يتفرجون على كربات المسلمين وهم قادرون أن يغيثوهم والله سيدفعون الغرامة ضعفين، إما عاجلاً أو آجلاً، وإننا مأمورون أن نبذل حتى لا يحل البلاء بساحتنا أو قريباً منا، فتُكسر البيضة ويضيع الأمن والأمان فسنة الله الكونية ومطارقه الربانية لا تجامل أحداً.
أيها الأحبة في الله! كلنا شركاء في هذا الهم، وكلنا إخوة تجمعنا هذه العقيدة الواحدة، وعلينا أيها الأحبة! أن ننهض من هذه الغفلة وكثير من شبابنا اليوم لا زال في غفلته ولهوه، وكثيرٌ من النساء لا زلن في غفلاتهن، وإننا نقولها بصراحة: لا يكفي الحسبلة والحوقلة فقط، وهي وإن كانت دعاءً من أول الأدعية فإن الله قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} [الأنفال:60] نريد أن يتعدى الأمر إلى أكبر من ذلك، إلى العمل والتحرك لعمل ما يمكن عمله، من الدعم والنصرة المادية.
فيا أيها الأحبة! يقول تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] والله وبالله وتالله! لو أنفق المسلمون على إخوانهم المهاجرين واللاجئين والمستضعفين في كوسوفا ربع ما سينفقونه في رحلات الصيف والسياحة في أوروبا، لحققوا كثيراً، واليوم يومٌ مبارك، فأروا الله من أنفسكم خيراً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(244/4)
الحث على دعم المسلمين في كوسوفا
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ في الدين بدعة، وكل بدعةٍ في دين الله ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! أنتم اليوم في يوم الجمعة، هو آخر يومٍ في الأسبوع وهو آخر يومٍ في عامنا هذا، نحن في اليوم الثلاثين من الشهر الثاني عشر لعام (1419هـ) نودع هذا العام، في ذكر هذه المصيبة، وفي ذكر هذه الكارثة، فهل نودعه بتوبة، وهل نودعه بصدقة، وهل نودعه بنجدة، وهل نودعه ببذلٍ وعطاء، ودعاءٍ بسخاء للمسلمين في كوسوفا؟! أيها الأحبة! تداركوا سويعات بقيت من يومكم هذا، وألحوا على الله في ساعة الإجابة في آخر هذا اليوم، أن ينصر الله إخوانكم في كوسوفا، وأن يجعل لهم من كربتهم وضيقهم فرجاً ومخرجاً، وأن يحيل شتاتهم دولة، وأن يجعل تفرقهم تجمعاً، وأن يجعل الدائرة على أعدائهم: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
ألحوا على الله يا عباد الله! ألحوا على الله يا عباد الله! ألحوا على الله يا عباد الله، فإنها قاصمةٌ ليس لها من دون الله كاشفة، إن هذه المصيبة ثقتنا بأن الدعاء يرفعها وما نبذله إنما هو سبب، إن أمماً ودولاً قد أنفقت لأجل هذه المصيبة، لأجل أن تحيق بالمسلمين هذه الدائرة، وإن فتات الجيوب وإن فتات القوت والموائد قد لا يرفع ذلك إلا بسببٍ مباركٍ يرفعه ويقبله، وهو العمل الصالح والدعاء والعبادة، فألحوا على الله يا عباد الله، واجتهدوا وألحوا على ربكم أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن ينصرهم في كوسوفا خاصة، وكما قلنا في الجمعة الماضية، ستجدون على الأبواب من يجمع اليوم ما تجود به أنفسكم، ومن جاء بتبرعٍ ولو في أي يومٍ من أيام الأسبوع فليسلمه إلى مؤذن وإمام هذا المسجد جزاه الله خيراً.
وليتحقق من أن ما يضعه هو في يد المؤذن ذاته، وهنا نداء نداءٌ إلى كل شاب، وإلى كل امرأة، وإلى كل فتىً وفتاة، وإلى كل ثريٍ وتاجر، وإلى كل غني أن يقدموا ما يستطيعونه، وألا يترددوا في أن يبذلوا ما يستطيعونه ويجدونه، من بذلٍ وعطاءٍ وفكرٍ ورأيٍ واقتراح، ومن أراد أن يتصل بمكتب رابطة العالم الإسلامي في الرياض، فليتصل بها، فإنها الهيئة المكلفة من قبل ولاة الأمر بأمرٍ سامٍ لتتولى الوقوف مع المسلمين في هذه الكارثة.
نسأل الله أن يجعل ما يبذله ولاة أمرنا لإخواننا هناك سبباً في دفع البلاء عنا وعنهم، وسبباً في استقرار الأمن في أرضنا، ونسأله سبحانه ألا يكلنا إلى أنفسنا، ونسأله سبحانه أن يرفع البلاء عنا وعنهم، وألا يجعل ما نحن فيه من نعمٍ استدراجاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك بمنك وأسمائك وصفاتك أن تُحسن خاتمتنا، وأن تجعل ميتتنا على أحسن حالٍ ترضيك، وأن تجعل خير أيامنا يوم لقاك، وأن تثبتنا على طاعتك وعلى مرضاتك يا حي يا قويم.
اللهم انصر من نصر إخواننا المسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في كوسوفا، اللهم انصر المسلمين في كوسوفا، اللهم انصر المسلمين في كوسوفا، اللهم ارحم أيامامم وثكالاهم وأطفالهم وشيوخهم وعجائزهم، اللهم إنهم جياعٌ فأطعمهم، وظمأى فاسقهم، وعراةٌ فاكسهم، ومشردون فآوهم، اللهم تلطف بهم يا رب العالمين، واجعل الدائرة والبطش على أعدائهم، يا من لا يعجزه شيء، يا ودود، يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد.
نسألك اللهم أن تنزل بهم شديد بأسك وعظيم سخطك، اللهم أنزل شديد بأسك، وعظيم سخطك على اليهود والصرب ومن أعانهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم إنا نشكو إليك، اللهم إنا نشكو إليك، ضعف المسلمين أمام هذا الأمر، اللهم فلا ناصر ولا معين إلا أنت، أنت حسبنا ونعم الوكيل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174].
اللهم إنا نسألك بمنك وكرمك أن تنصرهم نصراً مؤزراً عاجلاً غير آجل، وأن تجعل ما أصابهم سبباً في عودةٍ صادقة إلى التمسك بالكتاب والسنة، وليعرفوا حقيقة دينهم الذي عاداهم لأجله، وتكالب عليهم لأجله دول الشرق والغرب من الروس ومن الصرب ومن أعانهم، اللهم عجل نصرهم، وأقم دولتهم وأرنا في اليهود وفي الصرب عاجل بطشك يا حي يا قيوم، يا جبار السماوات والأرض.
اللهم صلِّ وسلم على محمد، اللهم صلِّ وسلم على محمد، اللهم صلِّ وسلم على محمد، اللهم صلّ وسلم على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن بقية العشرة وآل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك، يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(244/5)