لا يجدي تعداد الأخطاء ولكن علاجها
إن مهمتنا في الدعوة تعبيد الناس لله سبحانه وتعالى، وإن وظيفة الأنبياء هي تعبيد الناس لله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وليعلم كثيرٌ من الشباب أنه ما ضره ولن يضره أن يعرف الكثير أو القليل عن أخطاء الحكام والحكومات، ولن يضره أن يجهل الكثير أو القليل عن المخالفات في أي مجال من المجالات المتعلقة بفلان أو علان، ولكن سينفعه -بإذن الله- اشتغاله بالدعوة إلى الله، اشتغاله بتعبيد الفرد لله، وتعبيد الفتاة لله، اشتغاله بتطويع السمع والبصر واليد والرجل والحواس لله سبحانه وتعالى، اشتغاله بأن يعبد الله على بصيرة، أن تؤدى الصلاة كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يشتغل العبد بطاعة الله وتطبيق أوامر الله، ولن يضره لو جهل أخطاءً من حكام، أو حكومات، أو مسئولين، أو مؤسسات، أو هيئات.
من المؤسف أن تجد قليلاً يرى أن الدعوة هي اشتغال في المجالس بأخطاء فلان وعلان، وزلات فلان وعلان، والهيئة الفلانية، والمؤسسة الفلانية، والرجل الفلاني، والمسئول الفلاني، وقس وألحق ما شئت من الألقاب والهيئات بعد هذا، ولكن اعلم أن هذا لن يكون في موازينك يوم القيامة.
لو أخذت عشرةً أو عشرين من الشباب، وأعلمتهم باختلاس مالي، وأخبرتهم عن سرقة، وحدثتهم عن تلاعب، وأشغلتهم بأي أمر من هذه الأمور وأضرابها وأصنافها، فإن ذلك لن يؤثر في سلوكهم في حياتهم.
لكن لو امتلأت قلوبهم حباً في الجنة، وخوفاً من النار، لانعكس هذا على صلاح سلوكهم، وانعكس هذا على بيان البصيرة والطريقة الصحيحة في دعوة أولئك المخطئين أو المختلسين أو الواقعين في المنكرات، كثيرٌ من الناس يظن أن الدعوة اشتغال بأخطاء الأشخاص والهيئات والمؤسسات، وليس هذا بصحيح، الدعوة تعبيد الناس لله، الدعوة تطويع الناس لله، الدعوة تسخير النعم في طاعة الله سبحانه وتعالى، هذا هو المهم والخطير الجليل الذي سوف ينفعنا وينفكم بإذن الله.
يقول الإمام الجهبذ العلامة رحمه الله رحمةً واسعةً محمد الأمين الجَكني الشنقيطي صاحب" أضواء البيان " والكتب المعروفة، يقول لولده: يا بني إن الله لن يسألك يوم القيامة لماذا لم تشتم فرعون -هل يوجد طاغية أشد طغياناً منه، وأضل ضلالاً منه؟ - ولكن الله سيحاسبك على عرض كل مسلم زللت فيه.
وهذه مسألة مهمة.
إذاً: فالتربية والدعوة الفردية حينما نتحدث عنها هي دعوة إلى التربية بمعناها الحقيقي، دعوة إلى تعميق التقوى والمراقبة والمحاسبة والخوف من الله جل وعلا.
أما أن تعلم الشباب بما ظهر من ألوان وأصناف الفضائح والجرائم والمنكرات سواء في مجلات أجنبية، أو بما يتناقله الناس إن صدقاً، وإن كذباً، لكن ثم ماذا؟ تجد واحداً يتحدث عن تلك الفضيحة الفلانية، وهو يشعل سيجارته ويتعاطى شرب الدخان، وما أثر ذلك على سلوكه، ويرى زوجته تنظر في صور الرجال الممكيجين الذين تجملوا بالمكياج ومساحيق التجميل ولا يغار عليها، وهو يعلم ويعرف عن كثير من الأخطاء، ولكن ما أثر ذلك في سلوكه، ويرى ابنته تخرج إلى السوق ويكثر خروجها وما أثر في سلوكه، والشاب يرى هذا من أخته ولا يغار أو ينكر عليها، هذه هي الدعوة التي لا تؤثر في النفوس أي شيء؟ إذاً: الدعوة الحقيقة التخويف بالنار، والترغيب بالجنة، وتعبيد الخلق لله، وتسخير الجوارح في طاعة الله، وتعميق المراقبة لله، تعميق التقوى في النفوس بحيث إذا ازدانت، وازدهرت، وتزخرفت المعصية، وغلقت الأبواب، وحضرت الشهوة، وقام الشيطان، ودعي المسلم إلى المعصية، قال: إني أخاف الله، قال: معاذ الله، قال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] هذه ثمار الدعوة.
أما أن نظن أن من أهم وأصول الدعوة بيان الأخطاء، والفضائح، والمشكلات، ونظنها وقوداً وزاداً نربي به الجيل والأمة، فثقوا -والله- وأدين لله بهذا الكلام، أقوله تعبداً: أنك لو أخذت شاباً عمره من العشرين إلى الثلاثين، وأنت تبين له فضائح الأنظمة، وأخطاء الحكام، ومصائب الهيئات، وأفعال المؤسسات والمعارف حتى بلغ الثلاثين من عمره، فلن يؤثر هذا في سلوكه شيئاً، سيمتلئ قلبه غيظاً وحقداً وكمداً وحسداً وبغضاً، ولن يؤثر في واقعه شيئاً، اللهم إلا نشر الحسد، والتشاؤم، والإحباط، وعدم التفاؤل في صلاح الأمة.
أما لو أشغلته بحفظ القرآن والسنة، وتعبيد جوارحه لله، ومراقبة الله، وفعل مرضاة الله، ولا يمنع ذلك إن علم، أو إن رأى خبراً، أو سمع أمراً، فله أن يحكم عليه، إن رأى أمراً، أو سمع به في شاشة، أو مجلة، أو جريدة، لا يعني ذلك أن يسكت عنه، ويقول: ليس من المصلحة أن نحكم عليه بأنه حلال أو حرام، إذا رأى ما يخالف شرع الله فسئل عنه، أو أراد أن يبين حكمه لنفسه، أو من حوله، يقول: هذا لا يرضي الله، هذا لا يجوز، هذا يسخط الله، هذا كبيرة من الكبائر، هذا أمر خطر، هذا يسبب الهلاك والفساد، ويقف عند هذا الحد، ولا يجعل شغله الشاغل الكلام عن الآخرين، لا يجعل شغله الشاغل في تربية من حوله، ودعوة أبنائه، أو إخوانه، هذه القضية، ففي هذا أمرٌ مهمٌ جداً جداً.
أسأل الله أن يسددنا وإياكم إلى الوسيلة والطريقة النافعة في الدعوة إلى الله، وأسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا لمعرفة أسباب مرضاته، ولزومها، وتنجب أسباب سخطه والبعد عنها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في الفلبين، وكشمير، وأركان، وطاجكستان، اللهم اجمع شملهم في أفغانستان، وانصر المجاهدين في فلسطين، وإريتريا وأرومو، وسائر البقاع يا رب العالمين.
اللهم أهلك أعداء المسلمين، اللهم عليك بالهندوس والصربيين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، وقسم دولهم، واجعلهم غنيمةً للمسلمين يا رب العالمين.
ربنا لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً إلا زوجته.
اللهم اجمع شملنا وحكامنا وعلمائنا ودعاتنا على طاعتك، وسخر لنا ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأراضين بقدرتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(182/7)
كيف تقضي الإجازة؟
أيها الأحبة: الإجازة تقدم علينا في كل عام، وهي قطعة من أوقاتنا وأعمارنا، تحتاج إلى برامج عملية جادة، وإلا فستعود على أصحابها بما لا جدوى فيه ولا طائل تحته، والناس في قضاء هذه الإجازة أصناف، وفي هذه المادة تقفون وقفات مع أصناف الناس في الإجازة والسياحة.(183/1)
أصناف الناس أمام الوقت
الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة يوم القيامة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصَح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتَرَكَنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: بعد أيام قليلة أو أقل من قليلة يستقبل كثير من الشباب والطلاب، وربما رتَّب بعضُ الموظفين حساباته من أجل أن يوافقهم في استقبال إجازة طويلة تحتاج برنامج عملي جاد وتطبيق نافع، وإلا فستعود على أصحابها بالوبال وضياع أوقاتهم فيما لا جدوى فيه ولا طائل تحته.
أيها الإخوة: الناس أمام الوقت أصناف: فمنهم من يرى الوقت محنة؛ يبحث ويقلِّب في ألوان السبل للقضاء عليه ولقتله والتخلص من بياض نهاره وسواد ليله، فتراه يبحث عن مواقع اللهو ومواطن السياحة التي لم يفقه أو لم يعبأ أو لم يكترث بمآلها وعواقبها.
وآخرون ينظرون إلى الوقت غنيمة بكل ما تعنيه الغنيمة من معنى، فتحتاج إلى المبادرة بالاستفادة، وإلى الإعداد قبل الدخول فيها.
وأقوام تمر عليهم الأوقات يستوي فيها ليلها ونهارها، وجدها وهزلها، ونافعها وضارها، فهم كما قال القائل:
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سَبَهْلَلا
أيها الأحبة في الله: إن هذه الإجازة هي قطعة من العمر، هي قطعة من الحياة والزمن، وكل يوم يمضي منها فهو مقرِّب إلى القبر والموت واللحد والنهاية والآخرة، فالعاقل ينظر إلى هذه الإجازة أنها مطايا تحثه وتسير به إلى آخرته؛ نعم قد يُسَرُّ البعض بحلول هلال شهره، وزوال بدر شهره، وهو كما قال القائل أيضاً:
يَسُرُّ المرء ما ذهب الليالي وإن ذهابَهن له ذهابا
أيها الأحبة في الله: إن المتأمِّل في هذه الإجازة بعين البصيرة، وبمنطق الدليل، وهُدى الوحي من الكتاب والسنة، ليراها قطعة من عمره، وقطعة من حياته تقربه إلى الآخرة، فما تُراه صانعاً بقطعة من عمره؟! أيقتل قطعة من عمره؟! أيفني أياماً وليالي من حياته؟! أيتخلص من فرصة قد أوتيها ليعمل فيها ويزرعها ويغتنمها؟! أيتخلص منها حتى تنتهي بلا فائدة؟! إن ذاك والله هو الغبن الفاحش الواضح البيِّن، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).
ومن تأمل حال المرضى والمشغولين، وَجَدَ الأصحاء والفارغين في نعمة، إما أنهم يستفيدوا منها أو يُغْبَنوا فيها.
انظر صحيحاً لم يجعل من صحته حظاً للصيام، ولم يجعل من قوته مكاناً للقيام والتهجُّد، ولم يجعل من عافيته سبباً لنفع الآخرين أو قضاء حاجاتهم، أو السعي إلى حِلَق الذكر ورياض الجنة، أو الجد في طلب العلم والدعوة إلى الله جل وعلا، أين مضى عُمُرُه؟ وأين ذهبت عافيتُه؟ وانظر إلى آخر لا شغل له؛ أيامه ولياليه مليئة بالساعات الفارغة فلم يصرف شيئاً منها فيما ينفعه في دينه أو دنياه، أو ينفع غيره بأي وجه من سبل النفع ومساعدة الآخرين: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).
ولذا جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتَنِمْ خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وخذ من نفسك لنفسك، ومن دنياك لآخرتك).
الفراغ الذي يقدم عليه كثير من الشباب والبنات والرجال والنساء وغيرهم إن لم يُعد له برامج ومشاريع لتملأه وإلا فستمضي بلا فائدة من أعمارهم.
لذا أيها الأحبة حري بكل واحد منا أن ينظر فيما يملؤ وقته وفيما يشغل فراغه، ولينظر ما هو البرنامج الذي اختاره، هل ينفعه في دينه؟ أو ينفعه في دنياه؟ أو ينفعه في الدنيا والآخرة؟(183/2)
أصناف الناس في السياحة
بعد هذه المقدمة اليسيرة ننتقل إلى طائفة قد ربطوا أمتعة السفر وتهيئوا بحجز وتذاكر إلى دول مختلفة لقضاء إجازة نهاية العام، وهم على أصناف: فمنهم من لا برنامج له في السياحة إلا رؤية شلالٍ هادر، أو بحيرة واسعة، أو جبل تكسوه الخضرة، أو برج شاهق، أو بناية تنطح السحاب، أو مدنية متقدمة، وحضارة معاصرة، فلا حظ له من سياحته إلا هذا، فذاك -أيها الأحبة- الواقع والعقل والمنطق شهود عليه أنه يخسر أكثر مما يربح، إذ أن كثيراً من البلاد التي توجد بها تلك المشاهد، وتقع بها تلك المواقع الغالب على كثير منها الإباحية والانحلال والتبرج والسفور، وسبل الخنا متاحة، وأبواب الدعارة مُشْرَعَة، والأزقة العامة مليئة بمن يتاجرون بلحوم الفساد والعياذ بالله.
وطائفة يسافرون: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] يقولون: نسافر للسياحة، وهم أقرب إلى الوقوع في الفساد من السيل إلى منحدره، يقولون بألسنتهم: نسافر لأجل السياحة، فإذا خلوا في فنادق الدرجة الأولى أو الشقق المفروشة أو الأماكن المشهورة التي يعرفها بعضهم أو كثير منهم لم يتمالك نفسه أمام عَرض رخيص، أو فتنة بشعة، أو بين يدي مشهد يهز مشاعر الفساد في النفس، ويدعو النفس إلى الوقوع في الفاحشة، والله جل وعلا يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14].
اسأل بعض الذين ذهبوا وسافروا وطاروا وارتحلوا، قل لواحد منهم -إن أعطاك لحظة من الصراحة معك-: لماذا تسافر؟ فهل قال: سافرت لأجل الزنا؟! أو قال: سافرت لأجل الخنا؟! أو قال: سافرت لأجل اللحوم العارية؟! لا، وإنما قال: سافرت للسياحة، سافرت للاستطلاع، سافرت لرؤية كذا وكذا.
ووالله لو أن عبداً من عباد الله لم يعرف عن الأبراج حرفاً، ولم يعرف عن الشلالات كلمة، ولم يعرف عن البحيرات جملة، ولم يعرف عن الجبال نثراً، ولم يعرف عن الطبيعة شعراً، ما ضره ذلك يوم يلقى الله جل وعلا، ولن يحاسبه الله أو يقال له: يا عبد الله، لماذا لم تعرف جزر هاواي، أو الشلالات الهادرة، أو البحيرات الواسعة، أو الجبال المكسية بالخضرة، ولكن: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فِيْمَ أفناه؟ وعن شبابه فِيْمَ أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفِيْمَ أنفقه؟).(183/3)
حقيقة السياحة إلى بلاد الكفار
السياحة تلك الكلمة التي هي نوع فسادٍ يتربع الجرائد والمجلات فلا يستطيع البعض أن ينكره! السياحة بوابة من بوابات الخنا! السياحة بوابة من بوابات الدعارة! السياحة بوابة من بوابات إثراء الاقتصاد الغربي، ودعم الدول التي تؤذي المسلمين وتضطهدهم! السياحة بوابة من بوابات تضييع أوقات المسلمين وأبنائهم! وليست السياحة بجميع جوانبها، بل السياحة في ذاك النوع الذي تحدثنا عنه آنفاً.
نعم أيها الأحبة، إن كثيراً ينفقون تحت دعوى السياحة مئات الآلاف أو عشراتها! ويقال لأحدهم: إن مرضعة صومالية ورضيعاً أشبه بالهيكل العظمي، عَظْمٌ يتربع على عظم أمه ويمص ثدياً لا قطرة من الحليب فيه، فيقال لأحدهم: ائتِ أو أعطِ أو ابذل من أموال سياحتك لهؤلاء الفقراء، فيقول: لا، هكذا قدر الله عليهم.
قد يمعن الله بالبلوى وإن عَظُمَتْ ويبتلي الله بعض القوم بالنِّعَمِ
أما يخشون الله؟! أما يخافون الله؟! أما يعلمون أن الليالي دول والدهر قُلَّب؟! {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ينفق أحدهم على علبة المشروبات الغازية خمسة ريالات في الوقت الذي لا تساوي فيه ريالاً واحداً، ولو قيل له: ابذلوا قيمة هذا لمرضعاتٍ وأطفال رُضَّع قد بلغوا من الجوع والعطش مبلغاً؛ لم يبالِ ولم يكترث، وما موت البهائم على قارعة الطريق وموت إخوانه في أرض المجاعة إلا بميزان واحدٍ أو مقياس واحد.
وآخر يقال له: آلافك هذه تكفل مئات الدعاة في الفليبين، أو في القارة الخضراء في أفريقيا، الداعية يُكْفَل في السنة الواحدة بألف ومائتي ريال.
فلأَنْ تبذل هذا المال لوجه الله جل وعلا بدلاً من أن يُبْذل المال لفنادق يهودية أو شركات سياحية تعود ملكياتها إلى علمانيين فجرة أو غربيين كفرة، تجده متردداً! تهون الآلاف في الفنادق وفي البرامج السياحية لكنها صعبة شديدة عظيمة ثقيلة يوم أن يقال له: ابذل بعض هذه الآلاف لكفالة الدعاة إلى الله جل وعلا.
وهذا مثال، واللبيب بالإشارة يفهم، وعلى هذا فقِس، ولا تعييك المسائل لكثرة الشواهد والوقائع فيما تراه من واقعك.
أيها الأحبة: نقول لأولئك الذين يهمون بالسفر وقولوا لهم أنتم أيضاً: أنتم أدرى بأنفسكم: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] وما يعرف صراحة الإنسان أحد كمعرفته صراحة نفسه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:15] حتى لو أظهر أو أعذر أو صنع أو لفق أو جَمَّع من الأعذار والأقوال، هو أدرى بنفسه؛ هل سافر لأجل أفلام خليعة، أو لمناظر مجردة؟! هو أدرى بنفسه.
من كان هذا همه فليتذكر أن أناساً سافروا أشداء أقوياء وعادوا جنائز في التوابيت، وليتذكروا أن بعضهم سافر مبصراً وعاد كفيفاً، وبعضهم سافر نشيطاً وعاد معوقاً مشلولاً، وبعضهم عاد بكثير من الذنوب والأوزار والسيئات مريضاً، وربما كانت نهايته في سوء خاتمته وسوء مآله وغايته ولا حول ولا قوة إلا بالله! وليتذكر أن عليه من الشهود ما لا يحصى، فأرض وطئها تشهد عليه، وملائكة كرام كاتبون يشهدون عليه، وجارحة عصى الله بها تشهد عليه، والخلق شهود عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد عليه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] وقبل ذلك وبعده شاهد عليه مَن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] شاهد عليه مَن يعلم كل دقيق وجليل، من يعلم ويسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
قولوا هذا لمن علمتموه تعود السفر للتبذير وصرف المال هناك بلا فائدة، وبلا غاية وحاجة.(183/4)
قولوا لمن علمتموه تعود السفر بلا غاية وحاجة:
أيها الأحبة: نقول لأولئك الذين يهمون بالسفر وقولوا لهم أنتم أيضاً: أنتم أدرى بأنفسكم: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] وما يعرف الإنسان صراحة أحد كمعرفته صراحة نفسه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:15] حتى لو أظهر أو أعذر أو صنع أو لفق أو جَمَّع من الأعذار والأقوال، هو أدرى بنفسه؛ هل سافر لأجل أفلام خليعة، أو لحوم رقيعة، أو لمناظر مجردة؟! هو أدرى بنفسه، من كان هذا همه فليتذكر أن أناساً سافروا أشداء أقوياء وعادوا جنائز في التوابيت، وليتذكروا أن بعضهم سافر مبصراً وعاد كفيفاً، وبعضهم سافر نشيطاً وعاد معوقاً مشلولاً، وبعضهم عاد بكثير من الذنوب والأوزار والسيئات مريضاً، وربما كانت نهايته في سوء خاتمته وسوء مآله وغايته ولا حول ولا قوة إلا بالله! وليتذكر أن عليه من الشهود ما لا يحصى، فأرض وطئها تشهد عليه، وملائكة كرام كاتبون يشهدون عليه، وجارحة عصى الله بها تشهد عليه، والخلق شهود عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد عليه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] وقبل ذلك وبعده شاهد عليه: مَن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء، شاهد عليه: مَن {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] شاهد عليه: مَن يعلم كل دقيق وجليل، من يعلم ويسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
قولوا هذا لمن علمتموه تعود السفر للتبذير وصرف المال هناك بلا فائدة، وبلا غاية وحاجة.(183/5)
كيف يهنأ لمسلم سياحة
كيف يهنأ لمسلم مُنْتَجَع؟! وكيف يهنأ لمسلم سياحة وهو يعلم أن الأعراض في البوسنة تُنْتَهَك، يتعاقب الصرب على فرج الفتاة العذراء الصغيرة؟! وكيف تهنأ السياحة والجياع يموتون في الصومال جوعاً؟! وكيف تهنأ السياحة والمسلمون في الفليبين الآن في كتباتو وفي مراوي يواجهون حرباً شعواء ضروساً من النصراني راموس؟! السياحة كيف تهنأ بها والفتن محيطة حتى ببلادنا هنا؟!
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
من كان يقول: إن واقعنا اليوم كواقعنا قبل سنتين فقط فلا حظ له من الفهم والوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي: (انتهى وقت النوم يا خديجة).
قال امرؤ القيس لما قُتل أبوه: اليوم خمر وغداًَ أمر.
انتهى هذا العبث، وانتهى ذاك اللهو، وقد آن لنا أن نعمل، وآن لنا أن نجد، وآن لأفعالنا أن تنطق ولو سكتت ألسنتنا.
صامت لو تكلما لفظ النار والدما
وأخو الحزم لم يزل يده تسبق الفما
لا تلوموه قد رأى منهج الحق أظلما
وبلاداً أحبها ركنُها قد تهدما
وطغاةً ببغيهم ضجت الأرض والسما
كيف تهنأ السياحة والأبرار الأحرار، الأتقياء الأوفياء الأصفياء خلف القضبان في السجون والزنازين في بلاد تدَّعي الإسلام وقد ملئت سجونها بعشرات الآلاف من المسلمين.
أيها الأحبة: إن القضية والمأساة والأزمة إنما هي في القلوب، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
(إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم).
فإلى أولئك الذين قد أعدوا عدة السفر نقول: أحبابنا! اتقوا الله، إخواننا! راقبوا الله، إخواننا! أربعوا على أنفسكم ففينا وفيكم من الذنوب والعيوب والزلات والهفوات ما الله به عليم، فلا حاجة أن تطفح الموازين بمزيد من الذنوب والمعاصي.
نقول لأولئك الذين جمعوا ريالاً مع آخر، وديناراً مع آخر: اصرفوها وابتغوا بها وجه الله تنفعكم: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
وما نهاية عبدٍ جوَّال؟! ما من شلال إلا وتمتع بالنظر إليه، أو جبل إلا وأكل وجبة على سفحه، أو سهل إلا وتناول شراباً على خضرائه، أو بحيرة إلا وتناول الشاي على أطرافها، أو بحر إلا وأبحر بزورق في أمواجه، ما هي نهايته؟ نهايته اللحد كنهاية مَن لم يعرف في السياحة ألفاً ولا باءً، مادامت النهاية هي اللحود فاعمل لدار البقاء.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
ابنِ ما شئت، واشترِ ما شئت، وعَمِّر ما شئت، فليست تلك بدورك، وليست بقصورك، وليست بمنازلك، إنما منزلك البرزخي لحد طوله متران وعرضه شبران، هذا هو بيتك، وهذا هو مآلك، وهذا هو مصيرك، ولو كنت ضابطاً مرموقاً فلن يُدفن جندي معك، ولو كنت رئيساً عظيماً فلن يُدفن خادم معك، ولو كنت ثرياً كريماً فلن يُدفن دينار معك، ولو كنتَ مَن كنتَ فلن يُدفن معك ولن يؤنِّسك إلا عملُك الصالح.
بعد هذه الجولة الطويلة في الدنيا بأبعادها وجنباتها يموت ابن آدم، وفي نهاية الرحلة يودعه ويشيعه ثلاثة: عمله، وماله، وولده، فيرجع ماله وولده ويبقى عمله، فاعمل لنفسك.(183/6)
همسة صراحة وعتاب
وكلمة مودة وعتاب، وهمسة صراحة نقولها لأولئك الذين يسافرون بالنساء والبنات، بالزوجات والأمهات، والصغيرات والكبيرات، ويرون أن هذا صورة من صور التقدم والوعي والمدنية والحضارة: ما ضَرَّ أَمَةً من إماء الله عفيفة شريفة حيية متحجبة تغض طرفها، لا تخضع بصوتها ما ضرها أنها لم تعرف شيئاً عن تلك البلدان، ولكن ضَرَّ فتاة من إماء الله أن رأت مشهداً احتقرت به زوجها، أو رأت صورة أبغضت فيه بلادها، أو جلست مجلساً كرهت فيه دينها، أو ارتكبت ما حرم الله عليها، أو عادت إلى بلادها وكأنها تعود من حرية السماء إلى سجن الأرض.
إن كثيراً من الناس يجنون على بناتهم ونسائهم، ولا تقولوا: لن يقع فقد وقع، والشواهد كثيرة، أناس ينهون عن الحق وينأون عنه، لا يكتفون في سياحتهم بفساد أنفسهم بل يسافر الواحد منهم ثم تنتهي الرحلة مع الأهل والزوجة والأسرة في مطار لندن أو باريس، ثم يشق طريقاً منفرداً له، وتشق الأسرة طريقاً آخر منفرداً لها، فلا تسأل عما يفعل، ولا تسل عما يفعلون أو يُفعَل بهم! أيها الأحبة! نقولها وقلوبنا يعتصرها الأسى غيرةً وحباً وشفقةً لإخواننا الذين ضاقت بلاد التوحيد بأطرافها أن تستوعب مراح قلوبهم وفساح أفئدتهم؛ لكي يبحثوا عن السياحة في بلدان أخرى، فلنكن صرحاء: إن كانت السياحة بحراً؛ ففي بلادنا بحار.
وإن كانت السياحة جبلاً؛ ففي بلادنا جبال.
وإن كانت السياحة رملاً؛ ففي بلادنا رمال.
وإن كانت السياحة هواءً عليلاً ومواقع في جبال شاهقة؛ ففي بلادنا كذلك.
وإن كانت السياحة خلاعة تُعْرَض، أو خموراً يؤذن بها، أو دعارةً مقننة، أو سينما يحميها النظام والقانون؛ فهذا هو بيت القصيد! والآن جاءت المسألة! من أراد السياحة فليسأل نفسه؛ إن كان جاداً يريد أن يغير شيئاً من مكانه فسيجد بنصف تكلفة سفره داخل بلاده إن شاء في الشمال أو في الجنوب وإن شاء في الشرق أو الغرب؛ لكن لن يرى صليباً يُعْبَد، ولن ينقطع الأذان عن مسمعه، ولن يرى فواحش جهاراً نهاراً، أو كبائر إلا الربا، فأقول: خير لك أن تقضي سياحة إجازتك أو إجازة سياحتك في حدود بلدك، ففيها إثراء للقوة الاقتصادية في الداخل، وفيها حفظ لدينك ولدنياك، وحفظ لأهلك ولزوجتك، ولعل إقدام الكثيرين على السياحة داخل بلادهم يجعل المسئولين يعملون جادين في تطوير برامج السياحة في الداخل بما لا يحدث فتنة أو ينشر فساداً.(183/7)
لكل قوم سياحة
وأنتقل بعد ذلك إلى السائحين الراكعين العابدين؛ فريق لهم في الإجازة سياحة، ولكنها سياحة الجهاد والدعوة، يخرجون في سبيل الله ولوجه الله، ابتغاء مرضاة الله؛ فيبحثون عن المساجد التي لم يُلتفت لها فيعطون أهل المساجد وعُمَّارها ما جمعوه طيلة هذه الأشهر، ويعلِّمونهم القرآن، ويعلِّمونهم أحكام الصلاة، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويدعونهم إلى كل فضيلة، ويحذرونهم من كل رذيلة، إن وجدوا قبراً أنكروه ولا زالوا بأصحابه حتى ينقلوه أو يهدموه، إن وجدوا بدعة اجتهدوا في بيان مخالفتها للسنة، إن وجدوا منكراً تلطفوا في إزالته حتى يثبِّتوا إخوانهم في تلك البلاد.
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
نقول: هنيئاً لهم ما فعلوه ويفعلون، ونقول: (إن الأقربين أولى بالمعروف).
فما الذي يمنع أيضاً أن تكون السياحة أو حظ السياحة بحدود بلدك التي رأينا وتعلمون أن فيها أناساً بعضهم لا يحسن الفاتحة، فما الذي يضير شباب الإسلام الذين يحبون التجوال والتطواف والتسيار أن يخرجوا فئاماً وجماعات صغيرة ينطلقون إلى حدود مملكتهم وحدود بلادهم فيخيموا في كل منطقة يحلون بها خمسة أيام يتعرفون على أهل الحي عبر المسجد، يتعرفون على الإمام يعطونه الكتب والأشرطة، وعلى المؤذن، ويتجولون في القرى والهِجَر، وفي تلك المواطن والمضارب، يجمعون الناس ويذكرونهم بالجنة، ويخوفونهم من النار، ويخبرونهم عن مخططات أعداء الإسلام، فإن بلادنا بحاجة كما أن تلك المراكز والمساجد الإسلامية البعيدة بحاجة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(183/8)
السياحة طريق إلى فاحشة الزنا
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208].
معاشر المؤمنين: إن السياحة قد تكون بداية للرذيلة عند بعض الناس وطائفة منهم، وكم جاء في هذا المسجد وتحت هذا المنبر وعند ذلك الباب شباب يقولون: سافرنا لأجل السياحة فعدنا بفاحشة الزنا، والواحد منهم لو قيل له في البداية: يا عبد الله! لا تسافر إلى بلادٍ الدعارةُ فيها مُصَرَّحة، والخنا أبوابه مفتوحة، ودعاة الرذيلة على أبوابه في كل طريق، لا تسافر وأنت شاب غرير مسكين بين هوى مطاع، وشح متبع، ونفس أمارة، وشيطان يوسوس؛ لقال: معاذ الله، ما ذهبت لأجل الزنا ولا يزال الشيطان به لحظة لحظة حتى يعود وقد سجل في عداد الزناة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا عبد الله: اتقِ الله جل وعلا، فإن كان قد مضى مثلها فالحمد لله على ما ستر وغفر، وأمامك امتحان فيما بقي، وإن كانت الأولى فاحرص على صفاء صفحتك، فاحرص على صفاء سجلك، وليكن خالياً من فاحشة الزنا.
أحد الشباب لما حضر موعد زفافه، وفي ليلة زواجه الأول بكى! فقيل: ما يبكيك؟ فقال: أبكي فرحاً وشكراً، وحمداً وثناءً على الله أنني أدخل بزوجتي الليلة ولم أعرف الحرام لحظة.
تلكم الشهادة، وتلكم العفة، وتلكم الطهارة يا عباد الله.
ومن العجب أنك قد تجد بعضهم من عصمة الله له أنه لا يقدر على السفر، فيأتيه من يقول: سافر معنا، فالتذكرة مجاناً، والسكنى على حسابنا، والتنقلات هدية منا، فما يزالون به حتى يضاف في عدادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيا عبد الله: ما دمت نظيفاً فاحرص على نظافتك، وما دمت نزيهاً فاحرص على نزاهتك، وما دمت عفيفاً فاحفظ عفتك، وليعلم أولئك الذين يدعون أنها نوع ذكاء أو شطارة كما يسمونها، أو تدبير بصمت، ليعلموا أنهم بهذا يفتحون الشر على بيوتهم، قال الشافعي:
من يزنِ يُزْنَ به ولو بجداره إن كنتَ يا هذا لبيباً فافهمِ
إن الزنا دَين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلمِ
من قد زنا يوماً بألفي درهم في بيته يُزْنى بغير الدرهمِ
يقول صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) أتريد حفظ بيتك؟ احفظ نفسك (احفظ الله يحفظك) ابنِ أسواراً منيعة من التقوى ومراقبة الله بينك وبين حدود الله، يُبْنَ لبيتك ولأهلك أسوارٌ منيعة فلا يتسلق مجرم أو صاحب فاحشة على أهلك وبيتك.
ثم إن طائفة من الشباب لا ينظرون إلا إلى ذات الفاحشة؛ فوالله لو استنطقت هذه البقعة تحت المنبر لو أراد الله أن يُنْطِقها لنطقت؛ أن شاباً جاء متألماً من ارتكاب فاحشة الزنا، وكان الأمر أن سافر إلى بلاد ليست بعيدة فكلَّمه مَن كلَّمه من داخل الفندق وعَرَض عليه فأرسل له والعياذ بالله، ثم إنها لذة وهمية في لحظة قصيرة، ثم عاد يضرب أخماس أسداس، ويعض أصابع الندم، يعيش قلقاً وشروداً وشتاتاً في الذهن والتفكير مع ما يتبع ذلك من قسوة القلب، والوحشة مع الرب، والخوف من الخلق، وتكدر الأحوال عليه، وتقلب أموره بين يديه بسبب تلك المعصية، وإن لم يتُب فحسابه عند الله عسير، قال صلى الله عليه وسلم: (ومررت بأناس -ليلة أسري به صلى الله عليه وسلم- عراة، ويُجلدون بسياط من نار، وتحت أرجلهم لهب يمس فروجهم، فإذا علا الذهب ضَوْضَوا -أي: صاحوا وارتفع صياحهم- فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الزناة، وأقوام يشربون من عصارة أهل النار، من ردغة الخبال وهم أهل الخمر والمسكرات).
وبعد هذا وقبله شاب يُغَرَّر به، فيزني بفتاة في لحظة غاب فيها عقله، وحضر شيطانه، وغَرَّر به زملاؤه، ثم واقع فتاةً فحمل فيروس الإيدز، والإيدز لا يظهر ظهوراً واضحاً فيمن يصاب به إلا بعد ست أو سبع سنوات، فلربما حمل الفيروس وعاد إلى بلاده، وحيّاه من حياه، فخطب منهم وزوجوه، فنقل الفيروس إلى فتاة عفيفة شريفة، فأصيبت بالإيدز، ونقل الفيروس إلى جنينه، فيصاب به كذلك، وصدق الله العظيم حيث قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].
ثم أولئك الذين قد اشتعلت غرائز الجنس في أبدانهم ما الذي يردهم أن يتزوجوا؟! إن وجدوا ما يريدون ويرغبون من البنات في مواصفاتهم، والبعض قد ضيعه وقاده إلى الشهوة والفاحشة شدة تفصيله وشروطه في مواصفات زوجته، فتأخر عن الحلال وأقدم وأسرع في الحرام، فما الذي يضيره لو تزوج أرملة أو مطلقة أو امرأة أكبر منه سناً فإنه ينظر نفسه يوم أن يقضي وطره وينتهي مِمَّا في نفسه، ولكن مجتمعٌ بلسان سليط وأبصارٍ حادة يوم أن يتزوج شابٌّ بكرٌ فتاةً أرملة أو فتاةً مطلقة، ومجتمعٌ سليطٌ يوم أن يتزوج شابٌّ بثانية أو ثالثة أو رابعة، ومجتمعٌ سليطٌ يوم أن يتزوج شابٌ بامرأة أكبر منه ولو بعشرين سنة، ولكنه مجتمع جبان يوم أن يُعْلَم أن فلاناً قد سافر وزنا، أو سافر وتكرر سفره لغير تجارة أو علم أو دعوة أو فائدة، فعند ذلك يُغَضُّ الطرف وتَصْمُتُ الألسنة! مصيبة من أعظم المصائب! وإن أولئك الذين تساهلوا بالزنا تحت دعوى السياحة، موضة الشباب شرق آسيا، موضة الشباب غرب أفريقيا، موضة الشباب البلاد الفلانية!(183/9)
تصوير رائع لحقيقة الزنا
اسمع كلاماً جميلاً لواحد من دعاة الإسلام يقول فيه: إن أولئك الذين يسافرون إلى بلاد الغرب أو الخارج لأجل الزنا ينظرون امرأة متبرجة قد أخذ بألبابهم وأبصارهم أصباغُ وجهها، وتبرجُ أطرافها، وجمالُ لباسها، إن المرأة في ذلك المجتمع ما هي إلا كالحمَّام، كالمرحاض، كدورة المياه المنصوبة على قارعة الطريق، فيأتي شاب يدخل ذلك المرحاض وذلك الحمَّام الذي يعجَب ببلاطه ورخامه وأدواته الصحية ولكن ما حقيقة ما يوضع في الحمَّام؟ هو فضلات البشر.
فذلك مثل المرأة المتبرجة التي يقصدها أهل الزنا والدعارة، يرون شكلاً جميلاً كجمال شكل الحمَّام وظاهره؛ ولكن حقيقة تلك الفتاة التي تعرض نفسها للبغاء أو توافق على هذه الفاحشة كحقيقة ما يوضع في الحمَّامات، فمن ذا الذي يرضى أن يكون الغائط حضناً له، والبول فراشاً له، والنَّفَس عطراً يشمه؟! ولو أن كل شاب سافر إلى بلاد الغرب وفي نفسه أن يفعل ما يفعل، فرأى فتاة مهما أعجبه جمالها أو عُرِي أطرافها أو رائحة عطرها فتذكر أن جمالها الخارجي كجمال دورات المياه الخارجية من بلاط أو سيراميك أو قطع صحية لتذكر أن تحت الثياب البول والغائط، والنجاسة والنَّتَن، والقذر والوسخ، فمن ذا الذي يفتش حتى يصل إلى النجاسة وإلى النَّتَن وإلى القذارة فيجعلها حضناً له؟! هذا تصوير رائع لحقيقة الزنا، وتقريب جميل لهذه الفاحشة التي قد استسهلها كثير من الشباب ووقعوا فيها.
وبعضهم لا يبالي ولا يخشى ولا يخاف، وأشد منهم من ينتهي من تلك ليبحث عن غيرها، فلو أن مَن وقع أناب وتاب ورجع وثاب إلى رشده لكان حرياً أن يغفر الله له والله يغفر لمن يشاء.
أما أولئك الذين يصرون على هذه الفواحش فإنا نخشى عليهم أن يموتوا على خاتمة السوء، وعند ابن القيم كلام جميل يقول فيه: إن الإصرار على المعصية بريد الموت على الكفر.
ليس بريداً إلى سوء الخاتمة، بل هو بريد الموت على الكفر.
شاب ذهب برفقة بعض الشباب إلى بلد ليست بعيدة قال: فلما حللنا مشارف تلك المدينة والعاصمة التي يحجها ويقصدها كثير من الشباب، وقف لنا رجل من أهلها عليه سيما الوقار والصلاح فقال: يا عباد الله، أيها الشباب! ما الذي جاء بكم إلى هذه البلاد، وأنتم قد تركتم مكة خلف أظهركم، والمدينة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أظهركم؟! هل في بلادنا كعبة يُحَجُّ إليها، أو مسجد يُشَدُّ الرحل إليه، أو حلق علم كما هي في بلادكم؟! أنصحكم وهذه بلادي وأنا أدرى بها: عودوا إلى بلادكم خيراً لكم، عودوا إلى بلادكم خيراً لكم، عودوا إلى بلادكم خيراً لكم.(183/10)
دعوة إلى اغتنام الإجازة في المراكز الصيفية
وختام الحديث أيها الأحبة دعوة للشباب الحضور، ودعوة لكم: أن تدعوا الشباب ومن تعرفون أن يغتنموا الإجازة في المراكز الصيفية فإن فيها من الأنشطة النافعة الثقافية، والعلمية الشرعية والخطابية والترويحية والمهنية والعلمية وغيرها الكثير الكثير، فجزى الله من دعا إليها كل خير، وجزى الله أساتذة وشباباً ودعاةً بذلوا من أوقاتهم مقابل ثواب يرجونه من عند الله، ولو أعطوا من المال ما أعطوا فليس ذاك بثمن تضحياتهم وجهودهم، فلهم بعد الله الشكر الجزيل، ونسأل الله أن يثبتهم على صبرهم على الناشئة، وعلى تلطفهم بأخطائهم، وجلدهم في معاناة تربية الشباب المراهقين ومَن فوقهم، فإن المراكز الصيفية جِدُّ جميلة، وأروع من رائعة لكثير من الشباب الذين لا يدرون أين يقضون أوقات فراغهم، فوجهوا الشباب إليها.
وإلى كل معلم ومدرس وقائد دعوة: أن يشارك وأن يبذل ما في وسعه لإنجاح هذه المراكز التي تحفظ عشرات الآلاف من الشباب.
وأدعو الشباب قبل هذا وبعده إلى الدروس والحلق العلمية، ففي بعض المساجد حلقات عبارة عن دورات تعليمية لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، مَن حضرها من أولها إلى آخرها أقول: جدير وحقيق بشهادةٍ في ذلك الفن الذي حضره؛ لأنها علمية أُرِيْدَ بها وجه الله، قام بها وبذلها وأداها علماء وطلبة علم أفاضل ففيها خير، وهي مرتع لمن أراد أن يقضي إجازته فيما ينفعه.
كذلكم المكتبات الخيرية ففيها نفع عظيم جداً، ونوصي أهل الأحياء بمساعدة ودعم روادها والقائمين عليها.
كما ندعو الشباب أيضاً ونحثهم على الصف في الأسواق والبيع والشراء وتعاطي التجارة، لو أن الشاب صلى الفجر وذهب إلى السوق الكبيرة، سواءً سوق جنوب الرياض أو شرق الرياض إنك لتجد أرباحاً طائلة يغفل عنها كثير من الشباب، سيارة بكاملها فيها من البطيخ أو الطماطم أو الخضراوات أو الفواكه تباع السيارة بكاملها بألف ريال، فمن اشتراها وصبر عليها سحابة النهار باعها مجزأة بثلاثة آلاف، أو بألفين وخمسمائة، أو بألفين؛ لكن أين الشباب الذين ينامون في الليل مبكِّرين ويستيقظون بعد الفجر كما يستيقظ امرؤ القيس:
وقد اغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل
من الشباب من ترى فيه الجدية يخرج قبل الفجر أو مع الفجر مباشرة، ومنهم من لا يعرف اليقظة إلا بعد الظهر وأما الليل فقد سهره وأقامه فيما لا ينفعه ولا طائل تحته.
أو ابحث لك عن وظيفة والتجارة خير من الوظيفة في دخلها وفي راتبها وفي كل شيء، إلا من احتسب أن ينفع المسلمين بوظيفته، فيها خير كثير وربح وفير ولكن الشباب عن هذا غافلون، قال صلى الله عليه وسلم: (بُورِك لأمتي في بكورها).
فأين اغتنام البكور يا شباب الإسلام؟ اغتنموا هذا الصباح، ففيه من الأرزاق الخيرات والأرباح والبركات شيء كثير.
أسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته.
أسأله سبحانه أن يجعل هذه الإجازة القادمة وفيرة علينا بالصحة والعافية، والعمل الصالح والدعوة إلى الله، ونفع المسلمين، وكسب الحلال، وبر الوالدين وصلة الأرحام.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم دمر أعداء الدين.
اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم انصر المجاهدين في الفليبين.
اللهم انصر المجاهدين في البوسنة والهرسك.
اللهم اجمع شمل المسلمين في أفغانستان.
اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، وكشمير، وإريتريا، وأرومو، وفي سائر البقاع يا رب العالمين.
اللهم عليك بالصربيين.
اللهم أحصهم عدداً، واجعلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، واجعلهم غنيمة للمسلمين.
اللهم إنك تعلم أن المسلمين لن يستطيعوا أن يقدموا لإخوانهم في البوسنة والهرسك شيئاً يُذكر، اللهم فلا تَكِلْ إخواننا إلى المسلمين وكِلْهُم إلى وجهك الكريم وعزتك التي لا تضام، وركنك الذي لا يرام، وقدرتك التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، انصرهم بنصرك، واجمع شملهم، وعجل نصرهم، وأقم دولتهم، واقمع أعداءهم بقدرتك يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اهدِ أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اهدِ علماءنا، وثبت دعاتنا، وأصلح شبابنا، واهدِ نساءنا، واجمع شملنا، ولا تفرِّح علينا عدواً، ولا تُشْمِت بنا حاسداً.
اللهم اهدِ إمام المسلمين، وأصلح بطانته، وقرِّب له مَن علمتَ فيه خيراً له، وأبْعِد عنه مَن علمتَ فيه شراً له ولأمته برحمتك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا، وأمهاتنا، وأجدادنا، وجداتنا، ولنا، وأحبابنا وإخواننا المسلمين.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(183/11)
لا إله إلا الله منهج وحياة
لا إله إلا الله كلمة لابد من توضيح معناها وبيان مقتضياتها وآثارها، وذكر فضلها وشروطها وحقوقها وكل ما يتعلق بها، ومن أجل ذلك جاءت هذه المادة شارحة لما سبق؛ لأن كلمة التوحيد هي الأمر كله، من قالها نجا ومن استعصم بها عصم.(184/1)
فضل لا إله إلا الله
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم نلقاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله عز وجل أن يجعل لي ولكم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، اللهم إنا نسألك بصفاتك وأسمائك ألا تردنا في هذا اللقاء خائبين، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا تائباً إلا قبلته، اللهم إنك تعلم ولا يعزب عن علمك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء أن هذه الوجوه ما اجتمعت إلا ترجو رضاك وجنتك، وتخاف سخطك ونارك، اللهم فأعطنا ما سألناك، وأمِّنِّا مما منه خفنا بمنك وكرمك يا رب العالمين! أيها الأحبة في الله: الحديث اليوم عن قضية القضايا، عن قضية الدنيا والآخرة، عن الأمر كله، عن أوله وآخره، إنها: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) إنها (محمد عبده ورسوله).
هذه الكلمة لأجلها نزلت الكتب، ولأجلها بعث الرسل، ولأجلها طيبت الجنة للأبرار، وأعدت النار للأشرار، لأجل هذه الكلمة مد الصراط؛ أحد من السيف، وأدق من الشعرة.
لأجل كلمة (لا إله إلا الله) تطايرت الصحف: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8] وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يصرخ ويصيح فائزاً من ثمار لا إله إلا الله: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق:10 - 12] ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25 - 28].
من أجل (لا إله إلا الله) أعد الله كل نعيم للأبرار، وأعد كل جحيم للفجار والأشرار.
إن الذين خالفوا لا إله إلا الله نزل بهم عذاب الله في مواضع شتى، وفي سور شتى، لقد دكدكت الأرض وزلزلت خمس مرات، زلزلت بالطوفان وبالصيحة وبالخسف وبالحاصب وبالريح الصرصر عقوبات حسوماً على أقوام خرجوا عن لا إله إلا الله.
(لا إله إلا الله) شأنها عظيم، في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! فقال معاذ: لبيك يا رسول الله! وسعديك، فقال: يا معاذ! فقال معاذ: لبيك يا رسول الله! وسعديك، فقال صلى الله عليه وسلم الثالثة: يا معاذ! فقال معاذ: لبيك يا رسول الله! وسعديك، فقال صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار) الله أكبر! هذا الفضل العظيم لأجل هذه الكلمة العظيمة.
وفي حديث عتبان عند الشيخين رحمهما الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) متفق عليه.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل) متفق عليه.
إن الأمان والأمن والطمأنينة في هذه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله) قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] الأمن في الدنيا والآخرة، والهداية إلى صراط الله المستقيم.
(لا إله إلا الله) هي العروة الوثقى (لا إله إلا الله) هي القول الثابت: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] وفي الحديث أن موسى رسول الله صلى الله عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء قال: (يا رب! علمني دعاء أسألك وأدعوك به، فقال الله عز وجل: يا موسى! قل: لا إله إلا الله، فقال موسى عليه السلام: يا رب! كل عبادك يقولون: لا إله إلا الله، فقال الله عز وجل: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله).
الله أكبر! ما أعظم هذه الكلمة في لفظها ومعناها ومدلولها، وفضلها وأنسها وسعادة من لهج بها، وسرور من رددها ومن عاش لأجلها ومن مات عليها! (لا إله إلا الله) يأتي عبد يوم القيامة فيحاسبه الله عز وجل، فيقال له: (يا عبد الله! -الله عز وجل يقرره بذنوبه- هل لك من حسنات؟ هل لك من أعمال؟ فيقول: يا رب! غير ما تعلم، فيقول يا رب! ليس عندي إلا ما تعلمه، فيقول الله عز وجل: إنك لا تُظلم عندنا اليوم، ثم يخرج له بطاقة فتوضع في كفة، ويوضع ذلك الرجل بأعماله في كفة، فترجح لا إله إلا الله) وضع الرجل بذنوبه، بسيئاته، بأخطائه، بمنكراته في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة، فرجحت بهن لا إله إلا الله.
والمعنى في هذه الأحاديث العظيمة التي جاءت في فضل لا إله إلا الله، ومنها ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ ذات يوم ثم قال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أني رسول الله لا يلقى بهما عبد ربه غير شاك إلا أدخله الله الجنة)، وكذلك حديث: (من قال: لا إله إلا الله صدقاً من قلبه إلا أدخله الله الجنة)، وكذلك حديث: (من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله؛ أدخله الله الجنة)، وفي بعض الأحاديث: (حرمه الله على النار) فإن هذا مما يدل على أن شأن لا إله إلا الله عظيم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ إلا كتب له بذلك ألف حسنة، ومحيت عنه ألف سيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان، وكأنما أعتق عشر رقاب من ولد آدم).
أين الذين يخافون من الأعداء؟ أين الذين يخافون من تسلط الجن والشياطين؟ نقول لهم: عليكم بلا إله إلا الله، فإنها تعصم الدماء، وتحفظ الحقوق، لما قال أسامة مخبراً النبي صلى الله عليه وسلم برجل من العدو قابله، فلما رفع أسامة سيفه، وبهر ذلك المشرك شعاع السيف قال: لا إله إلا الله، فأهوى أسامة بالسيف عليه، حتى جعله فرقين، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (أقتلته بعد أن قالها؟! أقتلته بعد أن قالها؟! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! وكيف بك إذا جاءت لا إله إلا الله تحاج له عند الله يوم القيامة؟!)، ورجل يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أو يسأل فيقول: (يا رسول الله! أرأيت لو أن رجلاً من المشركين ضربني حتى قطع يدي بسيفه، ودمي يشخب من عروقي، ثم رفعت عليه السيف لأقتله فقال: لا إله إلا الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنك إن قتلته كنت بمنزلته قبل أن يقولها، وكان بمنزلتك قبل أن تفعل ذلك).(184/2)
شروط لا إله إلا الله
إن (لا إله إلا الله) شأنها عظيم، وخطرها وأهميتها في حياة المسلمين عظيمة لو أنهم وعوا هذه الكلمة ومعناها وأبعادها، ولكن افهموا واعلموا وأخبروا من وراءكم أيها الأحبة، يقول الشيخ/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما معناه: قد يقول قائل: إذا نطق العبد بهذه الكلمة نال كل هذه الفضائل، ونجا من العذاب، وليس له بعد ذلك من خطر يخافه أو يهابه، الجواب فيما يقوله الشيخ: لا، إن هذه الكلمة من يقولها لابد أن يأتي بشروطها وحقوقها وواجباتها، إذ لولا ذلك لردَّدها كل مردد، وتلفظ بها كل متلفظ، ولقال: يكفيني هذه الكلمة.
مع تركه ما أوجب الله، وارتكابه ما يخرجه من الملة، ألا وإن لا إله إلا الله لها شروط وحقوق وواجبات، ولمخالفتها تبعات.
ومن شروطها حتى ينال الإنسان فضلها: ألا يرتكب ما ينقضها، وألا يقع فيما يخالفها، وألا يقصر في حقوقها وواجباتها، أتظنون أن لا إله إلا الله تنفع طغاة العلمانية الذين يعتقدون عدم صلاحية الدين للاقتصاد والإعلام، والاجتماع والتربية! أتظنون أن لا إله إلا الله تنفع طغاة التغريب والضلالة الذين يريدون أن يحصروا الدين في المساجد والمحاريب والأقبية والخلوات، ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ أتظنون أن لا إله إلا الله تنفع أولئك الذين يريدون أن يدخلوا في رءوس الأمة ألا مجال للدين إلا في التسبيح فقط، وما سوى ذلك فليس للدين فيه أمر ولا نهي؟! إن لا إله إلا الله تنفع من عمل بها، ومن علمها وتيقن أنها في شئون حياته كلها، نعم وإن ارتكب شيئاً من المعاصي، أو وقع في شيء من الكبائر، فإن أهل السنة والجماعة مخالفون لمذهب الخوارج والمعتزلة الوعيدية الذين منهم من يكفر بارتكاب الكبيرة، ومنهم من يجعل صاحب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، ليس مخلداً في النار ولكن من أهل الجنة، نعم إن أهل السنة والجماعة يرون أن من قال: لا إله إلا الله وارتكب ذنباً يقر أنه ذنب، ووقع في خطيئة يقر أنها خطيئة، ويعترف أنه في تقصير، فذلك شأنه شأن المذنبين في الصغائر والكبائر.
أما الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم يقررون تقريراً، ويعتقدون اعتقاداً، ويدينون لطواغيتهم ديانةً ألا دخل للدين إلا في الأحوال الشخصية؛ في زواج وطلاق، وفي محاريب وتسابيح، وما سوى ذلك فلا علاقة للا إله إلا الله بها، إن ذلك تحجير للكون كله في زاوية ضيقة، ذلك تحجير لأمر عظيم في مجال ضيق، لذا فلنعلم هذه الكلمة وخطورتها وشأنها.
(لا إله إلا الله) نفي وإثبات، (لا إله) لا يوجد إله، لا يتصور إله إلا إله واحد هو الله وحده الذي يستحق العبادة.
(لا إله إلا الله) نفي وإثبات، نفي لهذه الألوهية ونفي لهذه العبودية عن كل موجود وكل مدع إلا لمن يستحقها وهو الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، الذي تألهه القلوب، وتفزع إليه، الذي تتضرع إليه، الذي تنكسر إليه، لا إله إلا الله الذي تألهه النفوس، البهائم تجأر إلى ربها، والصغار يجأرون إلى ربهم، وكل ما في الكون ساجد مطمئن مسلم لله عز وجل.
(لا إله إلا الله) شأنها عظيم أيها الأحبة! وشروطها: أن يعلم العبد هذه الكلمة: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) [محمد:19]، شروط لا إله إلا الله أن تعلم بها علم اليقين: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] تأكيد، وإثبات وبيان، وتوضيح وشهادة، قل أي شيء أكبر شهادة من الله؟ أي شيء أعظم من شهادة الله على وحدانيته؟ ثم رضي شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم.
ومن شروطها: القبول المنافي للرد، فمن قال: لا إله إلا الله فليقبل شرع الله، وليذعن للا إله إلا الله، وليسلم لأمر الله، من كان يقول: أنا أقول لا إله إلا الله، وأقر بلا إله إلا الله، فإذا قيل له: إن الله حكم بهذا.
عليه أن يقول: سمعنا وأطعنا، من يقول: لا إله إلا الله ويريد ثوابها، إذا خوف بالله وبأمره، وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبزجره فليقل: سمعنا وأطعنا، ألا إن قبولها أمر لابد منه، فمن ادعاها ورد مقتضاها فذلك متناقض في نفسه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
ومن شروط لا إله إلا الله: الإخلاص، وضده الرياء، فيجب أن تخلص لهذه الكلمة، أن تقولها حباً في الله وطاعة لله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، إخلاص بمحبة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
ولابد لهذه الكلمة من صدق يمنع من الاعتراض: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] ومن حقق ذلك في لا إله إلا الله وجد لذة الانقياد لها، يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].(184/3)
حقوق لا إله إلا الله
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر:22 - 24].
تتكرر الأسماء وتتعدد وتتنوع، وتتضمن هذه الصفات، وكلها كمال مع كمال، وبهاء مع جلال، قال الشيخ/ محمد بن عثيمين في رسالته القيمة النفيسة، التي أنصح كل شاب وكل طالب علم أن يعتني بها؛ دراسةً وفهماً وفقهاً، المسماة: القواعد المثلى في أسماء الله وصفاته الحسنى: إن من القواعد الثابتة في أسماء الله وصفاته أن دلالة أسماء الله على صفاته دلالة بالمطابقة والتضمن والالتزام، فإن كلمة لا إله إلا الله تتضمن كافة أسمائه، وكافة صفاته، وضرب لذلك مثلاً -مناسباً أن نطرحه- ألا وهو قول الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] ففي أول الآية الله عز وجل يبين أنه الخالق، وهذا اسم من أسمائه، ويقتضي هذا الاسم أن يكون الخلق والإيجاد من العدم، وإبراء النسمة والخلق من العدم هو من صفات الله عز وجل، فالاسم الخالق، والصفة الخلق، ويقتضي ذلك صفات بالتضمن والالتزام: أن يكون قادراً على ما يخلق، عليماً بما يخلق، حكيماً فيما يخلق، فكذلك لا إله إلا الله، الله اسم علمٌ على الله يتضمن هذا الاسم أسماء الرحمة وكل اسم فيه الرحمة وفيه المغفرة، وفيه الخلق، وفيه الرزق، وفيه كل ما يليق بالله عز وجل من أسمائه الحسنى، وكل ما يليق بالله عز وجل من صفاته العلى.
إن كلمة لا إله إلا الله تتضمن كل شيء، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين لمن أراد أن يسأل ربه بالرزق، وهذا ما يسمى بتوحيد المسألة؛ أن تسأل الله باسم يناسب سؤالك، فإن كنت تريد رزقاً فقل: يا رزاق! ارزقني، وإن كنت تريد رحمة فقل: يا رحمان! ارحمني، وإن كنت تريد قوة فقل: يا قوي! قوني.
إن كلمة لا إله إلا الله تضمنت كل أسماء الله وصفاته، فمن أراد رزقاً فالله هو الرزاق، ومن أراد فضلاً فالله ذو الفضل العظيم، ومن أراد ذرية فالله هو الذي يهب الذرية: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] ومن أراد العزة فالله هو المعز، ومن أراد النصرة فالله هو الناصر، ومن أراد العون فالله هو المعين، ومن أراد التيسير فالله هو الميسر، ومن أراد البركة والطمأنينة ألا إنها في ذكر الله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
(لا إله إلا الله) كلمة سعد بها من نطق بها وقام بحقها، وشقي وضل من جحدها، لقد أنكر هذه الكلمة أقوام فعاشوا عيشة الضنك والحسرة، يجزعون لكل مصيبة ولو تافهة، ولا يؤجرون على ما فاتهم من حظ، ولا يؤجرون على ما حل بهم من أسى، يتخوفون من المستقبل وعاقبتهم إلى النار، عبدوا بجحودهم دنياهم فأوردهم ذلك شقاء، فتعبوا وانتكسوا يحبون أن يجنوا لزوالها أو نقصها، ويتقاتلون على تحصيلها، ولا يحتسبون ثواباً فيما أنفقوا ولو على أنفسهم وأهليهم منها، لماذا؟ لأنهم لم يقوموا بلا إله إلا الله.
ألا وإن من واجبنا أن نفهم هذه الكلمة بكل معانيها، وأن نظل دائماً داعين إليها.
(لا إله إلا الله) الركن الأعظم قبل كل شيء، وكل عمل يبنى عليها، وبدونها لا يقبل عمل ولو كثر أو تعاظم؛ لأجل ذلك أيها الأحبة! نالت قضية التوحيد قدراً عظيماً وحيزاً كبيراً من الاهتمام والمقام في كلام الله وكلام رسوله.
وقد يقول قائل: إن لا إله إلا الله فقط نالت اهتماماً في بداية الدعوة، وفي صدر الدعوة، وفي السور المكية، ولما قامت دولة الإسلام في المدينة، ولما أمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بدولته في مهاجره في المدينة لم يعد الأمر كما كان في التنويه والتنبيه والإشارة إلى عظم لا إله إلا الله.
وليس هذا بصحيح، فإن كلمة لا إله إلا الله لم يُخاطَب بها المشركون وحدهم، بل خوطب بها المؤمنون أيضا تذكيراً وتثبيتاً، وكما خوطب بالدعوة إليها الكفار في كثير من السور والآيات المكية، خوطب بها المؤمنون في كثير من الآيات والسور المدنية.
أيها الأحبة: اسمعوا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء:136] أوليس ربنا عز وجل ينادي عباده ويدعوهم باسم الإيمان ثم يقول: آمنوا بالله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء:136]؟ إن الحياة لا تقوم إلا على الحقيقة -الحق كله في لا إله إلا الله- وأعظم حقيقة هي لا إله إلا الله، فهذه الكلمة وما تضمنته حق وما سواها باطل، لا إله إلا الله تحجب التأله عن كل شيء إلا لله وحده، ومن لم يكن الله الرحمن الرحيم الحي القيوم إلهه فإلهه الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] من لم يكن الله إلهه فإلهه شهوته في منصبه أو ماله، فيما يريد أو فيما يذر، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).
نعم، إن لا إله إلا الله من كانت قضيته فأذعن لها صار عبداً لله عز وجل، ومن ضيعها وجهلها وصرف عنها شقاءً وضلالاً ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنك لا تحصي كم يتخبطه من الآلهة من شهواته، ومن ملذاته، وممن يهابهم ويرهبهم ويخافهم، وممن يخشاهم على نفسه ورزقه وحياته.(184/4)
عمومية لا إله إلا الله
أيها الأحبة: كلمة لا إله إلا الله، لماذا وقفت الأمم السالفة -وليست قريشاً وحدها- منها موقف التحدي والعناد موقفاً واحداً؟ إن جميع هؤلاء الأقوام وقفوا من أنبيائهم موقف عداوة، فهذه ثمود، وهؤلاء قوم نوح، ومدين، وعاد، والمؤتفكات، كلهم وقفوا من لا إله إلا الله موقف التحدي والعناد، والمصارعة وعدم التسليم، لماذا؟ وحق لنا أن نسأل عن ذلك.
نعم أيها الأحبة: إنهم يدركون ما تعنيه هذه الكلمة، واسمعوا قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:25 - 27] هذا موقفهم من لا إله إلا الله، لما قال لهم: اعبدوا الله مالكم من إله غيره.
وأما عاد لما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ * قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود:52 - 53].
وأما ثمود لما دعاهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] ثم ذكرهم بنعم الله عليهم التي تدعوهم إلى توحيده، قال لهم: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:61 - 62].
وهذه من أساليب أهل الضلالة؛ إذا دعاهم داع إلى الهدى، قالوا: كنا نظن أن لك عقلاً راجحاً، كنا نظنك عاقلاً، كنا نظنك فقيهاً، كنا نظنك فاهماً، أفتدعونا إلى مثل هذا الكلام وتقوله؟ إلى غير ذلك مما ورد وكان من الأنبياء مع أقوامهم يوم أن وقفوا في مواجهة لا إله إلا الله.
أيها الأحبة: لعل من أخطر القضايا التي جعلت هؤلاء يقفون في مواجهة لا إله إلا الله هو منهج العلمانية القديمة والحديثة، إن العلمانية المعاصرة هي فرع وامتداد لذلك الضلال القديم، الذي جعل أمم الأنبياء تقف في وجوه الأنبياء لترد هذا الهدى، ولتجعل الأصابع في الآذان، ولتستغشي الثياب، ولتصر على عنادها بعداً عما يدعون إليه، إن تلك الأقوام الجاهلية قد استنكرت من رسلها أن يتدخل الدين في شئون الحياة، إن تلك الأمم يخيل لهم أن الدين فقط في حرية شخصية، وأن الدين فقط في محراب وخلوة، في مسبحة وسجادة، ولما جاء من يدعوهم ليقول: إن الدين يشمل جميع نواحي الحياة وقفوا في ذلك، وهم يعلمون معنى لا إله إلا الله؛ ألا يكون في الحياة دقيق ولا جليل، صغير ولا كبير، كثير ولا قطمير إلا للا إله إلا الله فيه أمر وتوجيه.
نعم! لقد عاش أولئك الطواغيت الذين واجهوا الأنبياء ومن تابعهم على منهجهم يحللون كيف ما يشتهون، ويحرمون كيف ما يريدون، ويفعلون ما يحلو لهم، لا يجدون من يردهم إلى لا إله إلا الله، فعلموا أن هذه الكلمة وأن الدين جاء ليقطع عليهم لذَّاتهم، وينغص شهواتهم، ويغير عليهم أمورهم، فقالوا: لا.
لا نقبل هذه.
وأبرز نموذج لهذه القضية: اعتراض قوم شعيب على رسولهم، قال الله عز وجل عنهم: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85] ثم لا إله إلا الله أخذت تفصل وتوجه حتى في أدق القضايا الاجتماعية والاقتصادية: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:84 - 85] لو كانت مجرد لا إله إلا الله كل يقولها ويمضي أولئك في غشهم وفي تطفيفهم في موازينهم، وفي شهواتهم ولهواتهم وما اعترضوا عليه، ولكن لما جاء لتتدخل لا إله إلا الله في أدق شئون حياتهم اعترضوا اعتراضاً عظيماً، إنهم لم يعترضوا فقط على الجانب العقدي من هذه الكلمة حين دعاهم رسولهم إلى نبذ كل آلهة تعبد دون الله، وإنما اعترضوا أيضاً بروح علمانية: كيف يدخل الدين في حياتنا، فقالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87].
إذاً العداوة والعناد هل هي من أجل هذه الكلمة لفظاً ونطقاً، أم من أجل مقتضاها ومعناها؟ لو كان العناد من أجل هذه الكلمة نطقاً لما كان لقريش أن تزج بفلذات أكبادها وأجمل شبابها في مواجهات مع النبي صلى الله عليه وسلم، لتطير الرءوس، ولتسيل الدماء، ولتتناثر الأشلاء في معسكر الإيمان ومعسكر الشيطان اللذين يتواجهان ويتجابهان ويتصارعان.
العداوة من أجل الكلمة ومقتضاها، لو كانت كلمة فقط لكان كل يسعد بها ويقولها غير آبه بما تقتضيه وما تلتزمه، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إليها قال: (يا معشر قريش! قولوا: لا إله إلا الله كلمة واحدة تدين لكم بها العرب، وتدفع لكم بها الجزية العجم، فقال أبو جهل: نعطيك عشراً يا محمد -أي نعطيك عشر كلمات لا كلمة واحدة تجعلنا بها سادة للعرب، وملوكاً على العجم يدفعون لنا الجزية- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله، فقال شيطانهم، وقائد ضلالهم وكبيرهم الذي علمهم العناد: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]).
نعم أيها الأحبة! لا يتصور من قريش أن تقف موقف العناد كله، ولا يتصور من قريش أن تقف هذا الصراع العظيم إلا لأنها تعلم أن لا إله إلا الله سوف تغير حياتها، إن قريشاً كانت تفخر وتفتخر وتفاخر أن يوجد فيها شاعر كـ النابغة الجعدي، أو أن يوجد فيها شاعرة كـ الخنساء، أو يوجد فيها نابغ في مجال من المجالات، لماذا لم تفتخر قريش وهذا نبي يخرج فيها؟ نعم، كان في ظنها أن تفتخر لو كان هذا النبي لا يتدخل في سلطتها، وفي زعاماتها ورياساتها، وفيما تفرضه على الناس من حولها، ولكن لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله، وأدركوا مضمونها، وكانوا يفتخرون بكل من ينسب أو يلفت أنظار قبائل الأمة من حولهم إليهم، يفتخرون به، ويتوجونه رياسة لكي ينال بذلك زعامة وفخراً وسؤدداً بين قبائل العرب والعجم، لما قال محمد وقد ظهر فيهم نبياً، وكان الواجب أن يفتخروا به، وقفوا في معاداته وعداوته، لأنه جاء بما لا يشتهون، جاء بما ينغص عليهم حياتهم.
إن لا إله إلا الله لم تأتِ فقط لتزيل الأصنام، وإنما جاءت لتحطم وتهدم كل انقياد لغير الله، وكل إذعان لغير الله، وكل تحاكم لغير الله عز وجل، جاءت لكي تلغي وتنسف هذه المرافق التي بنيت على أساس عرقي عصبي قبلي، ولتقرر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
جاءت لتحد الناس على ميزان الحق، وصراط القسطاس المستقيم، فلا يبغي أحد على أحد: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
جاءت لا إله إلا الله لترد النفوس عما ولغت وذلت وانحدرت فيه، ولترفعها إلى ما يرضي الله عز وجل، إن الذين يظنون أن لا إله إلا الله فقط لإزالة صنم يعبد على صورة وثن أو غيره فأولئك فهمهم قاصر.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ عدي بن حاتم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء، فقال: من لشدتك وكربك؟ فقال: الذي في السماء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]-أي: واتخذوا المسيح رباً من دون الله- فقال عدي: يا محمد! إنهم ما عبدوهم -يعني ما سجدوا لهؤلاء الرهبان، وما سألوا الرهبان تفريج الكربات وإغاثة اللفهات- فقال صلى الله عليه وسلم: أوليسوا يحرمون عليهم الحلال فيحرمونه؟ قال: بلى، قال: أوليسوا يحللون لهم الحرام فيستحلونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم إذاً) إن العبادة ليست سجوداً للأصنام، بل إن من أطاع غير الله معتقداًَ أن له حق التشريع والطاعة فذلك شرك وضلال مخرج من الملة، نعوذ بالله من الخذلان.
إن لا إله إلا الله لما خالطت شغاف القلوب، وباتت دماء تضخها هذه القلوب، وخفقات تنبض بها الأفئدة، وزاداً للأرواح قبل الأبدان، ونسمات تتعللها الأنفاس في الصدور، إن لا إله إلا الله لما خالطت شغاف النفوس هجرت الأعين نومها، وهجرت الأبدان راحتها، فأصبحت النفوس كباراً.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
لما خالطت هذه النفوس لا إله إلا الله فسالت الدماء لأجلها، وطارت الرءوس، وأخرج مكنوز الأموال، وكل تبرأ من ماله ومن كل ما يثقله ويبعده عن مرضاة الله عز وجل.
أما في هذا الزمان كم الذين يقولون: لا إله إلا الله؟ أين الذين يقولون: لا إله إلا الله؟ مليار ونصف المليار.
يا ألف مليون وأين همُ إذا(184/5)
مفهوم لا إله إلا الله
أيها الأحبة: إن لا إله إلا الله -كما قلت- لا تنحصر في مجال معين، ولو فهمها المسلمون هذا الفهم وقاموا بها هذا القيام لما وجدت حالنا اليوم كما نحن عليه الآن: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] هذه لا إله إلا الله من الحياة إلى الممات، من البداية إلى النهاية، من الظاهر إلى غاية الباطن؛ في الشكل والمضمون، وفي القلب والقالب، في الصورة والحقيقة، في العبارة والمعنى، ينبغي أن نفهم لا إله إلا الله، إننا لا نستطيع أن نزعم أننا وفينا لا إله إلا الله وإن اعتقدنا إننا لا نستطيع أن نزعم ونحن نقول: لا إله إلا الله، لا نستطيع أن ندعي أننا وفيناها حقها، وإن اعتقدنا الاعتقاد الصحيح، وإن نجونا من الوقوع في شرك العبادة وإن وإن إلى آخره، فإن حق لا إله إلا الله بحذافيره وأطرافه وكل مستلزماته أمر عظيم، لكن علينا أن نجتهد ما استطعنا، وأن نجاهد أنفسنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
إنني أعلم أن ممن يقولون: لا إله إلا الله ولا يفهمون أبعادها ومعناها، يقولون: إلى متى ونحن نظل نتحدث عن لا إله إلا الله، أما آن لنا أن نطرح الطروح العملية؟ أما آن لنا أن نخرج إلى البرنامج التطبيقي؟ أما آن لنا أن ندع الكلام في لا إله إلا الله لنتحدث عن المرحلة القادمة؟ نقول لأولئك: أيها الأحبة! إن لا إله إلا الله ليست شيئاً قائماً بذاته والدين أو نواحي الحياة أمراً مستقلاً آخر، بل إن لا إله إلا الله صميم الحياة، والحياة في صميم لا إله إلا الله، ومن ثم فحديثنا عن كل صغير وكبير يربطنا بلا إله إلا الله، إن كنا عباداً لله عز وجل نفتخر ونتشرف بهذه العبودية، لنتوجه إلى لا إله إلا الله، وليكن قولنا، وسرنا وجهرنا، ونهينا واحتسابنا في لا إله إلا الله وفي مقتضاها، حتى لا نخرج عن هذه المسألة؛ لأن لا إله إلا الله هي الأمر كله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:16].
لقد غلب على عقل كثير من الناس في واقعنا المعاصر أن قضايا العلم، والحضارة والتكنولوجيا، والأدب والفكر، والاجتماع والسياسة هي قضايا موضوعية بحتة أو فنية بحتة، أو قضايا علمانية لا بد أن تخرج عن إطار الدين، وهذه القضايا يستوي فيها المؤمنون والكافرون، وأن سعي الأمة إلى حيازة التقدم يجب أن يكون موضوعياً بحتاً لا علاقة له بالعقيدة، وإنما ينطلق من واجب إزالة التخلف، واللحاق بركب الحضارة، والسعي إلى إيجاد المجتمعات الحديثة، ومعايشة العصر الذي نعيش فيه، نقول: هذا خطأ ووبال وضلال، إن هذا التخلف العقدي الذي ابتليت به بعض شعوب المسلمين في قصر مفهومها، وضيق مفهومها للا إله إلا الله، أخرج من هذه المفاهيم فروض الكفاية، أو شيئاً من الواجبات التي لا ينبغي للمسلمين بصفة خاصة أن يقعوا فيها، أو يتضجروا من الحديث عنها، لأنها شاملة لكل نواحي الحياة، حتى نرى الحياة كلها من صغيرها وكبيرها مرتبطة بلا إله إلا الله في إصلاح شامل، ودعوة مستمرة، وجهاد لا يلين، حتى يعبد الله وحده لا شريك له؟ (لا إله إلا الله) هي الروح والنور، وهل رأيتم حياة في شخص لا روح له؟ (لا إله إلا الله) هي الروح والنور، وهل رأيتم رجلاً لا نور له إلا ويتخبط في الظلمات، ويسقط في المهاوي والدركات؟ إن معرفة الله بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بالدينونة توجهاً شاملاً، والأخذ بمنهجه الذي أنزله في محكم كتابه؟ وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم هو الدواء الشافي لأوجاع البشرية وآلامها، وهو الروح لأرواحنا، والنور لنفوسنا، وبغير لا إله إلا الله وهي الروح والنور لا حياة ولا ضياء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] نعم سمى الله هذه الكلمة وما تشتمله من الوحي المنزل روحاً ونوراً، فهو للأرواح نور، يمدها بالحياة الحقة، والإنسان بغير الروح يعيش حياة بهيمية؛ أو يموت وإن كان يتحرك بين الناس، يعيش عيشة بهيمية يأكل ويشرب وإلى غير ذلك ولكنه كما قال الله عز وجل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
وبدون (لا إله إلا الله) فإننا أموات، وإن أكلنا وشربنا، وعلى الأرض مشينا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} [الأنعام:122] لقد علمنا ديننا كيف نعيش مع لا إله إلا الله، كما أن لا إله إلا الله في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع والإعلام وما سوى ذلك فهي أيضاً في زواجنا وطلاقنا، ونفقاتنا مع زوجاتنا، ومع الحضانة والإيلاء والظهار، ولا إله إلا الله في الخطبة والنكاح، وفي الوليمة والضيافة والجوار، ولا إله إلا الله هي في العلاقات والأُخُوَّة، والبيع والشراء والإجارة، والمساقاة والمزارعة والوكالة والضمان، لا إله إلا الله هي في كل هذه الأمور جميعاً، لأننا نرقب فيها ما يرضي الله فندنو إليه، ونرقب فيها ما لا يرضيه فنبتعد عنه، علمنا هذا الدين كيف نرتبط بلا إله إلا الله.
إن مما يدلنا على أن الأديان غير الإسلام محرفة، وأن الشرائع غير الإسلام مبدلة أنك لا تجد في غير الإسلام ديناً يبين لك أدق تفاصيل حياتك، حتى في أول مراحل الحياة يوم أن توضع النطفة في رحم المرأة، للإسلام في ذلك توجيه، وللإسلام في خروج الجنين توجيه، وفي تسميته توجيه، وفي رضاعته توجيه، وفي حضانته ونفقته توجيه، وفي تربيته وتسميته توجيه، وفي معاملته توجيه، وفي علاقاته بمن حوله توجيه، إنك لا تجد هذه الدقائق إلا في دين الإسلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، لا تجد هذا إلا في كتاب قال الله فيه عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
إن هذا الشمول للا إله إلا الله، وهذا الكمال للا إله إلا الله يدلنا حقاً على أن هذا هو دين من عند الله، وما سوى ذلك فليس بدين ثابت أو سليم من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل وغير ذلك.
علمنا ديننا كيف نعيش مع لا إله إلا الله إذا أصبحنا: (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) علمنا كيف نمسي: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا، وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير) علمنا كيف نستغفر، وكيف نقر، وكيف نتقرب إلى الله بسيد الاستغفار، وكيف ندنو من الله عز وجل رتباً ومراتب تقربنا من مرضاته عز وجل: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت -حتى في الاستغفار عودة إلى لا إله إلا الله- خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) أي: أعترف بذنبي، أقر بذنبي، وبهذه المناسبة فإن كثيراً من الذين يذنبون لا يحسنون الاستغفار، تعلموا سيد الاستغفار، وتعلموا الإقرار بين يدي الله عز وجل، إذا سجدت فاعترف بذنبك لله: اللهم يا من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء! ما خفي عليك مقامي، ولم يعزب عنك شأني وأمري، في تلك الليلة، في ذلك اليوم، في تلك اللحظة فعلت كذا، أذنبت كذا، حصل كذا، انظروا كيف يعترف الجاني على المجني عليه، انظروا كيف يعترف المقصر في حق من ظلمه أو نال منه، يعترف اعترافاً تفصيلياً دقيقاً، ولله المثل الأعلى وهو الغني عنا، ينبغي أن نتذلل لله عز وجل، وأن نلظ بكل ما يرضي الله عز وجل بمناداتنا له بأسمائه وصفاته.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلنا ومالنا، هذا من الدعاء وأسوقه بلفظ الجمع لعله أن يستجاب لنا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
سبحان الله العلي العظيم! هذا الدين علمنا أن نعيش مع لا إله إلا الله في كل حال، حتى إذا لبسنا ثوباً جديداً، حتى إذا دخلنا المسجد، حتى ولو خرجنا من المسجد، حتى وإن أصابتنا المصيبة، إذا نزلت الطامة المدلهمة لا فرج إلا بلا إله إلا الله كما ثبت في البخاري أن دعاء الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن في شخصيته قدوة سامية جلية، كيف يحيا الإنسان في معية الله، وكيف يكون في كنف لا إله إلا الله صابراً إن أصابه ضر، شاكراً إن أصابه ضير، متطلعاً إلى الله عز وجل، لاجئاً إلى الله، مستعيناً مستغفراً، مسلماً بقضائه وقدره، هذه حال لا إله إلا الله: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191].
إذاً فيا أيها الأحبة: إن لا إله إلا الله لم تنزل لتكون كلمة تنطق بها الألسنة، وإنما جاءت ومن أجلها تقاتلت هذه الأمم مع أنبيائها، ومن أجلها وجدت الجنة والنار، حتى تقيم مجتمعاً وكياناً متكاملاً على ما يرضي الله عز وجل، لا إله إلا الله جاءت ليتشكل الواقع البشري وفق كتاب الله، وسنة رسوله، فمن حقق خيراً فليستزد، ومن وقع في إثم أو خطيئة فليستغفر الله، وليعد وليؤوب إلى الله عاجلاً غير آجل.(184/6)
اقتران لا إله إلا الله بأنواع التوحيد الثلاثة
إن لا إله إلا الله تعني عبادة الله وحده لا شريك له، لئن كانت لا إله إلا الله بياناً للربوبية، وأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر الذي يقبض ويبسط، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، يمنع ويخفض ويرفع، إن كانت هذه من معاني لا إله إلا الله في باب الربوبية، ولئن كان الكفار يقرون بذلك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [لقمان:25] فإن هذا وحده لا يكفي، لا نفهم من أن لا إله إلا الله تعني أن نعترف بأن الله هو المدبر الخالق، الاقرار بتوحيد الربوبية لا يعصم الرقاب ولا يحفظ الحقوق والأموال، بل لابد مع توحيد الربوبية من توحيد الألوهية وهو صرف العبادة بكل أنواعها بكل أشكالها لله عز وجل، فلا إله إلا الله عبادة لله وحده لا شريك له، ولا يجوز أن يشرك معه غيره، قال الله عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
ولا إله إلا الله كما أنها إقرار بالربوبية وإفراد بالعبادة، هي أيضاً وحدانية في الأسماء والصفات، لا إله إلا الله في أسمائه، فلا يسمى إلا بما سمى به نفسه، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يوصف ربنا إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان من نقص، وما كان من وصف لا يليق إلا وينفى عن الله عز وجل بمقتضى لا إله إلا الله، وبمعنى لا إله إلا الله.(184/7)
مقتضيات لا إله إلا الله
لهذه الكلمة العظيمة مقتضيات عدة: فمقتضاها الإيماني: أن من فقد هذه الكلمة فهو يتخبط خبط عشواء، والذين أعرضوا عن ذكر الله في ظلمات لا نهاية لها، إن الذين لا يفهمون لا إله إلا الله يرون أن الحياة من أجل أن يقضوا أوطارهم في شهواتهم وملذاتهم، لا وألف لا، وكيف تكون حياة بدون لا إله إلا الله والله يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] خلقتم من أجل لا إله إلا الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]، من فهم لا إله إلا الله يدرك أن كل ما في الكون لم يخلق إلا لأجل الله ولمرضاة الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] نعم ذلك ظن الذين كفروا، يظنون أن في هذا الكون شيئاً خلق باطلاً، أو شيئاً وجد عبثاً، أو شيئاً قد وجد سدى، أما الذين يفهمون لا إله إلا الله يعلمون أن النفوس لم تخلق عبثاً، ولم تترك سدى، ولم يوجد من هذا شيء باطل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27 - 28] الذين يعلمون لا إله إلا الله يعلمون أن هذا معناها ومقتضاها.
أما ذلك الضال المضل -وهو مثال لمن لم يفهموا معنى هذه الحقيقة- يوم أن قال:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري
أولئك لم يفهموا لا إله إلا الله، ولم يعرفوها، ولم ينالوا شرف الانتساب إليها، فإلى أي درك يهبط هذا الإنسان إذا لم يعرف معنى وجوده، إلى أي هاوية تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق يوم أن يجهل لا إله إلا الله، إن الإيمان بالله وحده هو حق لله على عباده، في وقتٍ الله عز وجل غني عن عباده، يقول الله عز وجل وهو الغني عن العباد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
إننا ندعى إلى لا إله إلا الله ليس لحاجة ربنا إلينا، وليس من أجل أن يستكثر بنا ربنا من قلة، أو يستظهر بنا من قلة علم {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] لا إله إلا هو وحده لا شريك له، والله لا يزيد في ملكه شيء أن يعبده الناس على قلب رجل واحد، أو أن يكونوا على أفجر قلب رجل واحد منهم كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) إذاً فنحن المحتاجون والله هو الغني عنا، ونحن الفقراء والله الغني، وإن نشكر فالله يرضى لنا، وإن نكفر فإن الله غني حميد: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:15]، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6].
إن الفساد الذي يسري في الأرض حين يهبط الإنسان عن الإيمان بما لا تدركه الحواس، فيفقد الإيمان بالله واليوم الآخر، ويفقد معنى لا إله إلا الله يعني ألواناً شتى لا تحصيها أقلام ولا مجلدات من الضلال والضياع، لأن النفوس إذا ضاعت وزلت وتاهت عن طريق لا إله إلا الله، فلا تسل عن هلكاتها، في أدنى أدنى وأصغر أصغر أمور حياتها، ومن زار الكفار أو عاش معهم فترة أو قرأ أحوالهم عرف إلى أي درجة يتخبط أولئك.
أيها الأحبة: إن بعض المسلمين يقول: هؤلاء الكفار عندهم من المخترعات، وعندهم من زخرف الحياة، وعندهم من الملذات والشهوات، ما يظهرون به في غاية السعادة، مع أنهم لم يعرفوا لا إله إلا الله، فلماذا أنتم تكررونها وتزيدون وتعيدون فيها؟ نقول: أيها الأحبة! إن أولئك كما قال الله عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] والله عز وجل يبتلي عباده المؤمنين ويبتلي الكافرين: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] ليبتلي الإنسان هل يثبت وهل يبقى على يقينه وإيمانه؟ لأن أناساً لما رأوا سعادة وهمية في حياة الكفار، وابتسامات زائفة على وجوه الكافرين، وشيئاً من الرخاء في بعض حياتهم أو حياة أممهم، قال: هؤلاء عاشوا وبدون هذه الكلمات التي تدعون إليها وتكررونها، نقول: هذا من البلاء، وهذا من الفتنة، إذ لو تأملت أحوال بقية الكفار لوجدت فيهم من الضلال والخبال، والبؤس والشقاء ما الله به عليم، ولكن إن لله سنناً من أخذ بها نال شيئاً ولو حظاً من الدنيا، فبعضهم الذين أخذوا بشيء من سنن الدنيا نالوا حظاً في الدنيا مع شقاء في نفوسهم وأرواحهم، والآخرون من الكفار لم ينالوا حظاً لا من الدنيا ولا من السعادة أبداً، فيُبتلى المؤمنون بهذا.
إن أخذنا بالعمل والجد، والصبر والمثابرة، والتعلم والكفاح والمنافسة؛ فإننا أيضاً ننافس هذه الأمم الغربية الكافرة، حتى لا يقول أحد: إن ديننا فقط هو ذكر وعبادة دون أن ننافس في تجارة وصناعة، وسياسة وإعلام واقتصاد وغير ذلك، إنها سنن لو أن أمماً بوذية ويهودية وغربية وشرقية في قضية من قضايا الأمور الدنيوية أخذت بأسباب الدنيا، بعوامل الإنتاج، بنظرية الإنتاج على الطريقة التي تنتج بها ما توده وما تحتاج إليه لأنتجت، وهذه من سنن الله أن من صبر على أمر من أمور الدنيا ناله، لكن المؤمن يصبر فيؤجر على صبره، ويظفر فيثاب على ظفره، ويثاب فيما قدم وعمل، وأما أولئك فليس لهم عند الله قليل ولا كثير من سعيهم، وإنما تعجل لهم ملذاتهم وما يحلو لهم حال دنياهم.(184/8)
آثار لا إله إلا الله في الدنيا
إن لا إله إلا الله -أيها الأحبة! - لابد أن يكون لها أثر في حياتنا، فمن آثارها: أن يتحرر الإنسان من كل طاغوت، والطواغيت: من يعبدون بتجاوز وتعد من دون الله عز وجل، وحسب مؤمن يعظم لا إله إلا الله فيشعر أنه عبد لله، لا تنحني هامته إلا لله وحده، ولا يطأطئ رأسه وأنفه إلا لله وحده، ولا يمرغ أنفه وجبينه إلا لله وحده، وبدون ذلك ولغير ذلك فإن إراقة الدماء أهون عليه من أن يسجد لغير الله، أو أن ينقاد لغير الله عز وجل، هذه آثار لا إله إلا الله، يقولها من لم يدرس في الجامعات، ولم يؤلف المطولات، ولم يقرأ في المختصرات، صحابي من الصحابة لما قابل قائداً من قواد المشركين، يجيبه على سؤاله الذي قال فيه: ما الذي جاء بكم؟ فقال: [إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فإن أجبتم لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإن أبيتم ناجزناكم بأقوام يحبون الموت كما تحبون الحياة] إن هذا من مقتضى كلمة لا إله إلا الله، أن يتحرر الإنسان فيها، أن يجد عزة وغنى: (استغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره) فلا إله إلا الله تغنيك عن كل ما سوى الله عز وجل، ألا لو أننا تعلقنا بها، وتوكلنا بمعناها على الله حق التوكل لرزقنا كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً.
أيها الأحبة: ومن آثار لا إله إلا الله: أنها تحرر هذه النفوس فيما جبلت عليه من غرائز جبلية، جبلت النفس على حب المال، وجبلت النفس على حب الشهوة، وجبلت النفس على كثير من الغرائز، لكن من تعلق بلا إله إلا الله واستحكمت في حياته فإنها تجعله منفقاً لهذا المال الذي يتقاتل الناس على جمعه، تجعله متعففاً عن هذه الشهوة التي يحتال الكثير من أجل الوصول إليها، تجعله سامياً يرمق ما عند الله في وقت يتنافس فيه الناس على الريال والريالين، إن لا إله إلا الله تجعل أماني المسلم أماني عظيمة، ولذلك لما قال أحد السلاطين في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنك تريد ملكي وما عندي وسلطاني، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أنا أريد ملكك؟! إن من يطمع في جنة عرضها السماوات والأرض ليس له حاجة فيما عندك.
المسلم الذي يرغب جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا يفكر أن يطمع في أشياء دنيوية، أو أمور سخيفة تافهة، فالعاقل -أيها الأحبة! - يدرك أن لا إله إلا الله تحرر النفس، وتجعل الإنسان يرثي لحال هؤلاء الذين يتقاطعون ويتدابرون، ويكذبون ويتشاتمون، ويتهاجرون ويتسابون من أجل مصالح الدنيا، لأنه إن رآهم يتقاتلون على ريال أو ريالين أو مليون أو أكثر فإنه يرغب فيما عند الله عز وجل، إن هذا أيضاً مما تقتضيه لا إله إلا الله ومن آثارها.
فواجبنا أيها الأحبة أن نعتني بها، وأن ندركها تمام الإدراك، وأن نكون دعاة إليها، ندعو إلى لا إله إلا الله حتى آخر لحظة في حياتنا، وحتى آخر لحظة في حياة من ندعوهم، أما آخر لحظة في حياة الداعي: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] هو الآن يعالج سكرات الموت، ويدعو إلى لا إله إلا الله، فيقول: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] فيقولون: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
وندعو إلى لا إله إلا الله حتى آخر لحظة في حياة من ندعوهم: لما قام صلى الله عليه وسلم يدعو عمه أبا طالب، وهو يعلم أنه في آخر اللحظات، لا يستطيع أبو طالب أن يحمل سيفاً للجهاد، ولا أن يقوم ليركع، ولا أن ينحني ليسجد، ولا أن يمد لينفق، ولكنه يدعو إليها حتى ولو في النزع الأخير: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) فيقول أبو جهل وصناديد قريش الذين كانوا من حوله: أتترك دين الآباء والأجداد؟ والنبي يدعوه إليها وأولئك يصدونه عنها حتى مات وهو يقول: على ملة عبد المطلب.
ندعوهم حتى آخر لحظة من حياتهم، خرج صلى الله عليه وسلم يزور يهودياً وولده مريض، فلما جاءه وجد الشاب المريض ينازع في سكرات الموت، فقال صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى ولد جاره اليهودي: (يا فتى! قل: لا إله إلا الله -دعوة حتى في النزع الأخير من الحياة- فينظر الصبي وعينه تغرغر بالدمع إلى والده، فيقول أبوه: أطع أبا القاسم، فيقول الصبي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فتفيض روحه، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم يكبر يتهلل وجهه وهو يقول: الحمد الله الذي أنقذه بي من النار).
ندعو إلى لا إله إلا الله غير المسلمين لكي يعرفوا حلاوة الإيمان، ولننقلهم من السجود والخضوع والتعظيم لغير الله، من العبودية للأحجار والأصنام وغيرها إلى شرف التوحيد والوحدانية لله، وندعو المسلمين أنفسهم الذين ينطقون لا إله إلا الله أن يقوموا بحقها وواجبها، ندعو من يقول: لا إله إلا الله أن تحركه لا إله إلا الله لتسابق خطوه نفسه في صلاة الفجر ليكون أول الصافين مع الجماعة، ندعو الناطقين بلا إله إلا الله أن يكفوا عن أكل الحرام، ندعو الناطقين بلا إله إلا الله ألا يعطوا ولا يأخذوا الرشوة والربا، ندعو الناطقين بلا إله إلا الله أن يقوموا بهذا الواجب بسمعهم وأبصارهم وفروجهم وبطونهم وكل ما آتاهم الله.
أسأل الله أن يجعل قولي وقولكم حجة لنا لا حجة علينا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(184/9)
الأسئلة(184/10)
أنواع المرجئة والرد عليهم
السؤال
جزاكم الله خير الجزاء، ونسأل الله لنا ولكم الأجر في كل حرف مما ذكرتموه، يقول المرجئة اليوم: الإيمان بكلمة التوحيد والإقرار بها في القلب وحده ملزم لدخول الجنة، وإن ترك الرجل الصلاة وامتنع عن الزكاة، فما هو رد فضيلتكم على هذه المقولة؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، لا شك أن هذه مقولة ضالة خاطئة، والمرجئة بالمناسبة إذا أطلقوا فهناك إطلاقان: مرجئة الفقهاء المتقدمين الأوائل، هم الذين يقال لهم: مرجئة الفقهاء الذين أرجئوا القول فيما كان بين الصحابة وفيما كان بين علي ومعاوية، وأحياناً قد تسمع عنهم في ترجمة بعض الثقات أو العدول: فلان من مرجئة الفقهاء، فلا يعني ذلك أنه من الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، أما المرجئة الذين ضلوا ضلالاً بعيداً فهم الذين ينطقون بهذا، وهم ضد الوعيدية من فـ الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة وسط بين طرفين، الخوارج والمعتزلة يقولون: من ارتكب الكبيرة الخوارج يخلدونه في النار، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، والمرجئة يقولون: من كان مؤمناً فلا يضره شيء أبداً ما دام أنه يدعي الإيمان، بل إن أبا الحسن الصالحي من القدرية، وبعض من وافقه من الطوائف قالوا: إن مجرد المعرفة كافٍ ليكون الإنسان مؤمناً، وبعض طوائف الضلالة من الكرامية قالوا: إذا قال الإنسان: أنا مؤمن فقط بلسانه هذا في حد ذاته كافٍ، وهذه أقوال فاسدة.
يلزم من القول الأول أن يكون إبليس وأبو طالب والضُّلاَّل والجهَّال الذين يعرفون الله ولم يستجيبوا له ولم يعبدوه أن يكونوا مؤمنين، ويلزم من القول الثاني: أن يكون المنافقون مؤمنين، وضلال أمر المرجئة واضح جداً لأن النصوص في القرآن والسنة جاءت فيها آيات الوعد والوعيد، فكما أن الله عز وجل رتب الثواب الجزيل على من قام بالإيمان، رتب أيضاً العقاب الأليم على من خالف، والصلاة بحد ذاتها أخطر أمور العبادة وشرائع الدين وأركان الإسلام، من تركها فقد كفر، نعم من ترك الزكاة لا يكفر، من ترك الحج والصوم لا يكفر يعتبر عاصياً مرتكب كبيرة جداً، لكن الراجح وكما سئل سماحة الشيخ/ ابن باز وأفتى، قال: من ترك الصلاة فقد كفر: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دعاه المسور بن مخرمة على إثر طعنة طعن فيها يوم كان في المحراب رضي الله عنه فقال عمر: [نعم.
ألا إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة] فقام عمر يصلي وجرحه يثعب دماً، فأولئك الذين يقولون: مجرد الإيمان في القلب أو مجرد التلفظ وحده كافٍ مع عدم السلامة من النواقض، وعدم القيام بالشروط والحقوق فإن لكل شيء حقوقه وشروطه وواجباته، وهذه مبينة مفصلة من كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(184/11)
حكم من قال: لا إله إلا الله وهو واقع في المعاصي
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أقول لا إله إلا الله ولكن في بعض الأحيان أفعل المعاصي، فهل اعتبر من الذين لا يعملون بمقتضاها أم ماذا؟
الجواب
من قال لا إله إلا الله وارتكب من الذنوب والمعاصي ما ارتكب فهو مقصر في حقوق لا إله إلا الله بقدر ما ارتكب، لكن أخطر ما هنالك أن يأتي الإنسان بما يناقضها أو يضيع شروطها، فإذا ضيع من شروطها أو ارتكب ما يناقضها مما يخرج من الملة فهذا الخطر العظيم، أما من ارتكب ذنباً فإن الكل يقول: لا إله إلا الله، لكن نور لا إله إلا الله في النفوس يختلف، هناك من يقول: لا إله إلا الله فيبكي، وتغرورق عينه بالدموع، ويسمع له البكاء والأنين والنحيب، وهناك من يقول: لا إله إلا الله وهو خارج مدبر بعيد عن الفريضة وعن الطاعة، فهذا مرتكب كبيرة عظيمة، وذاك في قلبه من حق لا إله إلا الله الشيء العظيم جداً، لكن ينبغي أن نفهم حتى لا نكفر الناس، ولا يفهمنا أحد فهماً خاطئاً أن من عصى الله فقد ارتكب ما يناقض لا إله إلا الله، لا.
المعاصي ليست من نواقض لا إله إلا الله.
من نواقض لا إله إلا الله السخرية بالدين والاستهزاء، من نواقض لا إله إلا الله ترك الصلاة، من نواقض لا إله إلا الله كراهة العبادة، كراهية شيء مما جاء به الله ورسوله إلى آخر ما تعلمون، لكن من وقع في الذنب وفي المعصية فإن نور لا إله إلا الله، وحقوق لا إله إلا الله بشمولها ومعناها لم تكتمل في نفسه، فعليه التوبة والمبادرة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.(184/12)
من أسباب زيادة الإيمان ونقصانه
السؤال
أرجو من الشيخ أن يذكر لنا بعض أسباب زيادة الإيمان وأسباب نقصانه؟
الجواب
لا شك في معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول واعتقاد وعمل؛ قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
مما يزيد الإيمان في النفوس: مثل هذه المجالس، يجد الإنسان في نفسه -السامع والمتكلم- حباً للخير، وإقبالاً على الطاعة، وحماساً إلى الدعوة إلى الله عز وجل؛ حماساً في الصلاة وفي العبادة.
وكذلك مما يقوي الإيمان: العناية في هجر المنكرات وتركها وعدم التساهل بها، إن الذي يربي نفسه على الحساسية تجاه المنكرات يجد أن أدنى أدنى منكر يجعله يتأثر، ويحس بنفسه ما يجعله يتألم أكثر من لذته فيما فعل من المعصية، فمن أراد زيادة الإيمان فعليه بالأعمال الصالحة جملة، ومن أهمها: تلاوة كلام الله عز وجل وتدبره، العناية بحلق الذكر ورياض الجنة: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا) العناية بعبادة السر، بمعنى أن يكون لك حظ من قيام الليل، أن يكون لك حظ من صدقات لا يعلم بها أحد، أن يكون لك حظ من عمل معين، تجد مثلاً بعض الناس يسرق نفسه خلسة لا يعلم به أحد فيعتمر ويعود ما درى به أحد، بعض الناس يأخذ نفسه خلسة مع المقابر والجنائز لا يعرفه أحد، كلما كانت العبادة أو كان للإنسان حظ من عبادة السر بينه وبين الله لا يعلم بها أحد فإن ذلك مما يعظم هذا الجانب في النفس.(184/13)
وصايا لتائب
السؤال
قد منَّ الله علي بالهداية، ولكن شباب الحي والمدرسة لم يتركوني في حالي، وإني أقول لك يا حضرة الشيخ: أريد منك بعض النصائح التي تبعدني عن مثل هؤلاء؟ وما هي شروط لا إله إلا الله (تذكيراً ببعضها)؟
الجواب
لا يظن الإنسان أن الهداية إذا نال العبد شرفها وكرامة منزلتها أنه سيجدها ماءً عذباً زلالاً من دون شيء من الابتلاء قال تعالى: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2].
وقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10].
وقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29].
يا أخي الحبيب: ليس غريباً أن تجد أهل الشر والمنكر والباطل والمعاصي يسخرون، لأنهم يحسدونك على ما أنت عليه من الهداية، ويرون أنك بعد أن كنت معهم في حضيض معاصيهم ودنس منكراتهم قد ارتفعت عليهم، فأنت كنت كمن يمشي معهم حافياً في الشوك والشمس والحر والهاجرة، وإذا بك فجأة تركب أطيب المراكب وألينها وأعلاها وأشرفها، فحسدوك فيما أنت فيه، ولكن المسلم ينظر إلى هؤلاء بالرحمة والعطف: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] لأن بعض الذين يهتدون يرجع ينظر إلى هؤلاء بعين العداوة والتصدي والحقد والتدبير، لا.
كما من الله عليك بالهداية فابذل لهم من أسباب الهداية إذا تمكنت من الصلاح، وتمكنت من الاستقامة، فإن شئت ألا يفوتك أجر هدايتهم، أو أحببت أن تبادر في دعوتهم فاستعن بالله ثم بمن يعينك على ذلك ممن ثبتت قدمه في الدعوة والعلم.
ونوصي هذا الأخ حديث العهد بالتوبة والاستقامة: أولاً: أن يطهر نفسه من كل معصية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] لأن بعض الشباب هداهم الله يتوبون إلا من شريطين وثلاثة، ويستقيمون إلا من أربع مجلات، ويرجعون إلا من ثلاث نقاط، فتجد الواحد توباته كأنها شركات تقسيط، أو ربما عنده شيء يقبله وشيء يرفضه، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ما دام أن الله من عليك بالهداية لا تدع شيئاً تحت السرير أو فوق النافذة، أو عند الدولاب أو في شنطة السيارة، كل ما عندك مما يدعو إلى معصية الله أخرجه وأتلفه ولا تبق من ذلك شيئاً.
الأمر الثاني: التمس البديل عن أصحابك، والبديل عن سماعك، والبديل عن مطالعاتك، فالإنسان بطبعة اجتماعي، يحب الاختلاط والحديث والأنس والألفة، فإن كنت من قبل مختلطاً بهؤلاء الذين يعصون الله ويعينونك على المعصية فعليك بثلة وصحبة طيبة، واذهب وابحث، سلمان الفارسي تعلمون قصة إسلامه بحثاً عمن يهديه ويدله إلى الاستقامة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل إني أعرف شاباً ابتلي بقرناء سوء في مدينة تبعد عن الرياض حوالي ستمائة كيلو متر فنقل دراسته، ونقل سكنه خوفاً على استقامته والتزامه، لما فعلاً أحس أنهم قد أحاطوا به، والسبب أن قرناء السوء في تلك المنطقة قد أخذوا عليه مستمسكاً يهددونه ويفضحونه به، فلم يجد بداً للمحافظة على استقامته والسلامة من فضائحهم إلا أن يهاجر فاراً بتوبته واستقامته معرضاً عن كل ما يغرونه أو يهددونه به.
البديل الآخر: ألا وهو المطالعة والقراءة، تجد بعض الشباب في ضلاله؛ مجلات وأشرطة وملاهي إلى غير ذلك من المطالعات السيئة والرديئة، فأبدل هذا بمادة نافعة، كتب، طلب علم، عناية بالقرآن، اشتغال بالسنة، سماع المحاضرات، الخطب، الفوائد، القصائد، النثر والشعر الطيب النافع، هذا فيه خير بإذن الله.
أما ما يتعلق بما مر ذكره في المحاضرة من شروط لا إله إلا الله فهي: العلم المنافي للجهل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18].
اليقين المنافي للشك.
المحبة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
الإخلاص: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].
الانقياد: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وهي واضحة وجلية.
وأوصي الشباب بالعناية برسائل الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب الموجزة المختصرة الطيبة التي تبني أصول الإيمان، مثل: كتاب التوحيد، والمسائل الثلاث، وكشف الشبهات إلى غير ذلك.(184/14)
وصايا للمرأة المسلمة
السؤال
هل من كلمة للنساء حول ما يخصهن من مقتضيات لا إله إلا الله؟
الجواب
الخطاب للرجل كالخطاب للمرأة، الخطاب للذكر كالخطاب للأنثى، لا يفرق المرأة عن الرجل ولا الرجل عن المرأة إلا ما خص أحدهما بدليل، وما سوى ذلك فالمرأة والرجل على حد سواء في الخطاب، إلا أننا نوصي المرأة فيما هو من خصائصها: أن تتقي الله عز وجل، وأن تجعل لا إله إلا الله انقياداً واتباعاً وإخلاصاً وخشية من الله في خروجها، فلا تخرج إلا لحاجة ومع ذي محرم، وبقدر حاجتها، غير متبرجة ولا متعطرة ولا متزينة.
في علاقاتها: فلا تصاحب إلا من تخشى الله من صويحباتها.
وتتقيه في كلامها: فإياها أن تُملأ بالغيبة والنميمة فتكون كمن جمعت من الحسنات في صلاتها ونوافلها، ثم ضيعت هذه الحسنات في سماعة الهاتف.
ما أكثر النساء اللائي يصمن الإثنين والخميس، ويتهجدن الليل، ويضيعن آلاف الحسنات على سماعة الهاتف في الحديث عن فلانة وعلانة، أو يضيعن الحسنات في كثير من الذنوب والمعاصي! فالعاقل الذي مَنَّ الله عليه بجمع الحسنات يحرص على تمام المنة بالمحافظة عليها وعدم ضياعها.
كذلك على هذه المرأة: أن تعلم أنها مستهدفة في حظها من لا إله إلا الله من قبل العلمانيين ودعاة التغريب والضلالة، الذين نقلوا للأمة كل ألوان الفجور والفساد، اليوم المرأة مستهدفة، مجلة الأزياء مستهدفة، عرض الأزياء مستهدفة، دعاوى الاختلاط مستهدفة فيها؛ اختلاط في الوظيفة، اختلاط في التعليم، اختلاط في أمور كثيرة: المرأة نصف معطل، المرأة حبيسة الدار، المرأة مظلومة المرأة المرأة، وفعلاً في بلادنا هذه بالذات المرأة مستهدفة، ولن يقر للعلمانيين قرار، ويهدأ لهم بال حتى يروها تجوب الشوارع بسيارتها، وتخادن من تشاء، وتصاحب من تشاء، وتخرج متى شاءت، وتلبس ما شاءت، وتتبرج كيفما شاءت، وتتحدى بوجهها مقبلة مدبرة الرجال وغيرهم، فالمرأة العاقلة تقول: أنا أدرى بما أكرمني الله عز وجل به، فلا أريد حضيضاً مما عند هؤلاء العلمانيين الذين يَدَّعون أنهم أوصياء على المرأة، وكما يقول أحد المفكرين: هؤلاء والله لا يريدون تحرير المرأة وإنما يريدون حرية الوصول إلى المرأة.
نعم في المجتمع المسلم ونحسب أن بلادنا بلاد إسلامية، ومجتمعنا مجتمع إسلامي، على ما فينا من الذنوب والخطأ والتقصير، في بلادنا هذه من الصعوبة أن الإنسان يدخل على المرأة هكذا مباشرة، كيف؟ هل رأيتم إنساناً يمسك امرأة في الشارع يتحدث معها، أو سيجدها موظفة وسوف يتعامل معها، أو يجدها معه في طاولة الدراسة أو جنبه في الوظيفة أو عند إشارة المرور، بين الرجل وبين المرأة في هذه البلاد حواجز كثيرة، دعوني من الذين يتسللون لواذاً ويعملون خلف الكواليس، فمن ستر الله عليه فإن الله ستير يحب الستر، ونحن لا نتكلم عن الحالات الشاذة، لكن في عامة شأن الأمة الوصول إلى المرأة في المجتمع أمر صعب، ولأجل ذلك هم يريدون أن يخرجوا المرأة من هذه الحصون المنيعة حتى يسهل الاتصال بها، من الصعب أن يأتي واحد من هؤلاء، بل دونه الدماء، لو واحداً يطرق الباب يقول: أريد أن أكلم امرأة، أو يدخل عليها في مدرسة، أو يهتك ستراً من أستار وجودها، أو حصناً من حصون بقائها، ولذلك لابد أن نخرج هذه المرأة.
هل سمعتم علمانياً يقول: أخرجوها نزني بها، أخرجوها نستمتع بها، أخرجوها نتمتع بجمالها؟ لا.
أخرجوا هذه المظلومة، أخرجوا هذه المسكينة، أعطوها حقها، دعوها تعمل مع الرجل، دعوها تشارك في الإنتاج، اتركو الدخل القومي يزيد، اتركوا ودعوى وهلم جراً إلى الصيحات الضالة، ولو كانوا جادين ويريدون أن تستفيد هذه المرأة، بدلاً من دعاوى التحرر ليفكروا كيف يوجدوا للمرأة مصانع نسائية مستقلة، كيف يوجدوا للمرأة قنوات نسائية بحتة، إن الإسلام لم يحرم على المرأة أن تعمل حينما تحتاج أو إذا رغبت في الضوابط الشرعية دون أن يفتتن بها الرجال، ودون تعطيل الوظيفة التي خلقت لأجلها وهي: الإنجاب والرعاية بالأبناء والزوج، فإذا وجد هذا فلا حرج، لكن أولئك تجد الذين يتكلمون كثيراً عن المرأة لا يطرحون قضية توظيف المرأة في المجال النسائي المستقل، لا.
بل: لماذا لا تسوق السيارة؟ لماذا لا تشارك الرجل؟ لماذا لا تقف في المصنع؟ لماذا لا تعمل كذا؟ وهؤلاء بإذن الله خابوا وخسروا ما دام في الأمة أغيار من علمائها ورجالها وولاتها بإذن الله عز وجل.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(184/15)
لا تنسوا فلسطين
إن فلسطين المحتلة هي جرح واحد من عشرات الجراح في هذه الأمة، ولغفلة بعض المسلمين وبعدهم عن دينهم وإقبالهم على دنياهم نسي كثير منهم قضية فلسطين واليهود المحتلين، الذين وصفهم الله عز وجل في كتابه بأوصاف يستحقونها، وقد ذكر الشيخ في المحاضرة بعضاً من معتقداتهم وأقوالهم.(185/1)
من عقائد اليهود
الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه, قال في محكم كتابه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, خلقنا وخلق البشر أجمعين, والذي خلق هو أعلم بما ينفع ويضر, وهو أعلم بما تنطوي عليه سرائر العباد, والذي خلقنا وخلق أعداءنا هو الذي يعلم ما نكن في صدورنا وما نعلن, ويعلم ما يكن أعداؤنا في صدورهم وما يعلنون: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده, بعث بالسيف إلى يوم القيامة, ونصر بالرعب، وجعل رزقه تحت ظل رمحه, وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى, تمسكوا بشريعة الإسلام, وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى, واعلموا أن لله سنناً لا تتبدل ولا تتحول قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء:77].
ومن سنن الله: أن من تمسك بدينه وتوكَّل عليه وأناب إليه في السراء والضراء, فالله ناصره, ولو كان لا يملك قليلاً أو كثيراً.
ومن سنن الله: أن من بعد عن دين الله فإن الله خاذله ومذله, ولو تدجج بالسلاح وأحاطت به القوى إحاطة السوار بالمعصم.
معاشر المؤمنين! يقول الله جلَّ وعلا: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119] وهذا في شأن أهل الكتاب, ويقول الله جلّ وعلا في شأنهم أيضاً: ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ)) [المائدة:82] اليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] اليهود الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] اليهود الذين قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام؛ فتعب فاستراح في اليوم السابع! فأنزل الله رداً عليهم وتبكيتاً لهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق:38 - 39].
والله لا سبيل إلى العزة والاستعلاء والكرامة, ومضاء السنة والعقيدة إلا بالصبر, والتسبيح ليلاً ونهاراً قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39 - 40].
اليهود -يا عباد الله- الذين هم أكَّالون للسحت اليهود الذين يقتلون الأنبياء بغير حق اليهود الذين يسعون في الأرض فساداً قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:64] اليهود الذين لا يرون لبشر منزلة, ولا مكانة, ولا مقام أبداً.
وإذا شئتم أن تعرفوا عقائد اليهود, ورأي اليهود فيكم؛ فاسمعوا إلى نصوص مترجمة من التلمود, وإلى نصوص مترجمة من كتبهم وكتب عقائدهم! أيها الأحبة في الله: إن اليهود يقولون: إن الله تعالى يدرس التلمود منتصباً على قدميه! قبحهم الله, يرون أن التلمود أعظم من الله, وأن الله يقف جاثياً على قدميه يدرس التلمود -يدرس كتابهم- تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! اليهود يقولون: إن التلمود وجد قبل الخليقة, ولولا التلمود لزال الكون, ومن يخالف حرفاً من التلمود يمت.
واليهود يقولون: إذا احتدم خلاف بين الله والحاخامات فالحق مع الحاخامات.
ويقولون: إن اليهود يعتبرون عند الله أفضل من الملائكة؛ فإذا ضرب واحد من الناس يهودياً فكأنما ضرب العزة الإلهية! ويقول كتابهم: لو لم يخلق اليهود لانعدمت البركة من الأرض, ولما خلقت الأمطار.
ويقول كتابهم: الفرق بين الحيوان والإنسان كالفرق بين الأمم واليهود.
ويقول كتابهم: مصرح لليهودي أن يطعم الكلاب, وغير مصرح له أن يطعم الأجانب لحماً, بل يعطيه للكلاب؛ لأنها أفضل منهم، والأمم الخارجة عن دين اليهود ليسوا كلاباً فحسب بل حمير أيضاً.
وتقول كتبهم وبرتوكولاتهم: خلق الناس باستثناء اليهود من نطفة حصان, وخلق الله الأجنبي على هيئة إنسان ليكون لائقاً لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا من أجلهم! وتقول كتبهم: لا يجوز لليهودي أن يشفق على غير اليهود من الأمميين.
وتقول كتبهم: يحق لليهودي أن يغش الكافر, وأن ينافق معه عند اللزوم.
وتقول كتبهم: إذا كان اليهودي قاضياً بين يهودي وأجنبي؛ فواجب عليه أن يعمل جهده ولو بالغش والخداع ليظهر الحق بجانب اليهودي ويحكم له.
وتقول كتبهم: مصرح لليهودي أن يجامل الأجنبي ظاهراً ليتقي شره على أن يضمر له الشر.
وتقول كتبهم: لا يغفر إله اليهود ذنب اليهودي الذي يرد مالاً مفقوداً إلى الأجانب.
وتقول كتبهم: غير مصرح لليهودي إقراض الأجنبي إلا بالربا, والربا محرم تعاطيه بين اليهود.
وقال الحاخام ليفي بن جرسون: إن حياة الأجنبي ملك يد اليهودي فكيف بأمواله.
وتقول كتبهم: يجب قتل الصالحين من غير اليهود, ومحرم على اليهودي أن ينجي أحداً من باقي الأمم من هلاك, أو يخرجه من حفرة, بل يجب أن يسد الحفرة الذي وقع بها الوثني.
وتقول كتبهم: كل من يقتل أجنبياً يقرب قرباناً إلى الله.
وتقول كتبهم: إذا قتل يهودي يهودياً آخر خطأ وكان قصده أن يقتل أجنبياً فخطيئته مغفورة؛ لأنه كان يهدف إلى قتل الأجنبي.
وتقول كتبهم: الذي يقتل أجنبياً يكافأ بالخلود في الفردوس, والذي يرتد عن دينه من اليهود يعامل كالأجنبي إلا إذا فعل ذلك تقية, أو من أجل غش الأمميين.
ويقول اليهود: الزنا بغير اليهود سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً مباحٌ لا عقاب عليه أبداً.
وتقول كتبهم: اليمين الذي يؤديه اليهودي للأجنبي لا قيمة له, ولا يلزم اليهودي بشيء؛ لأنه لا أيمان بين اليهود والحيوان.
وتقول كتبهم: مباح لليهودي أن يؤدي عشرين يميناً كاذبة يومياً، وتمحى ذنوب هذه الأيمان في اجتماعات الغفران التي يعقدها الحاخامات لشطب حساب الأيمان الكاذبة.
وبعد فهذا قليل من كثير من التعاليم التلمودية الحاقدة!!(185/2)
خسة أفعال اليهود عبر التاريخ
معاشر المؤمنين! اليهود هم الذين سعوا لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الجدار, تمالئوا أن يلقوا عليه حجرة عظيمة فأتاه الوحي وأخبره.
واليهودية هي التي سمَّت الفخذ للرسول صلى الله عليه وسلم في شاة وقال صلى الله عليه وسلم: (ما زال سُم تلك اللحمة التي من الشاة مؤثراً في بدني).
وسُحِر رسول الله صلى الله عليه وسلم, سَحَرهُ لبيد بن الأعصم في جف طلعة نخل ذكر, فكان صلى الله عليه وسلم من شدة السِّحر يخيل إليه أنه أتى نساءه ولم يأتهن, حتى جاء ملكان وقالا: ما بالرجل؟ فقال مطبوب: سحره لبيد بن الأعصم اليهودي, فبحثا عن السحر وأخرجاه.
واليهود هم الذين قتلوا عمر بن الخطاب.
واليهود هم الذين أججوا الفتنة واجتمع الناس على بيت عثمان , وهو الخليفة وإمام المسلمين, وتسوروا الجدار, وأغروا ناقصي العقول حتى جثم أحدهم على صدر عثمان واحتز رقبته بالسكين, بعد أن أمسك بلحيته وجز رقبته عن بدنه.
واليهود هم الذين سعوا بالفتن في صفين , وفي الجمل بين علي ومعاوية , وبين عائشة وعلي.
واليهود هم الذي قتلوا علي بن أبي طالب.
واليهود هم الذين لا زالوا يسعون في بلاد المسلمين خراباً ودماراً يتنفذون ولا يدعون فرصة إلا ويثبون إليها, ويستحكمون فيها, وينشرون ما يخدم أفكارهم, ويخدم نظامهم, ويخدم عقيدتهم, هذا فيما مضى.
واقفزوا مع التاريخ قفزة عظيمة, اسألوا الحرائر كم قتل في دير ياسين؟ كم قتل في تل الزعتر؟ كم قتل في صبرا وشاتيلا؟ كم قتل في سيرلانكا على يد نمور التاميل بأموال يدفعها اليهود؟ وكم قتل في سينجار بـ كشمير بأموال يدفعها اليهود؟ وكم قتل من المسلمين على أيدي البابيين والبهائيين, وعلى أيدي القاديين, بأموال يدفعها اليهود؟ والله ما من شر إلا واليهود وراءه.
فيا معاشر المؤمنين! إن كنتم تجهلون حقيقة اليهود فاعرفوا حقيقتهم, فإن الله جل وعلا قد قرب حقيقة اليهود لكم في كل يوم سبعة عشر مرة, فأنتم تسبونهم وتلعنونهم في صلاتكم, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1 - 7] المغضوب عليهم هم: اليهود, والضالين: النصارى, إن اليهود مغضوب عليهم, والنصارى ضالون, ومن غضب الله عليه فهو ملعون.
فيا معاشر المؤمنين! اعرفوا حقيقة أعدائكم, إن الذي لا يعرف حقيقة عدوه, لا يميز بين القريب والبعيد, والدخيل والعميل, والصادق والمنافق, والمخلص والمتنفذ.(185/3)
سبب احتلال اليهود لأرض فلسطين
عباد الله! أسألكم سؤالاً: لماذا اختار اليهود فلسطين أرضاً يجعلونها خنجراً يطعنون بها وحدة المسلمين لكي يقيموا عليها دولة لهم, أليس اليهود أغنى أمم الأرض؟! بلى والله! ألا يوجد على سطح هذه الكرة الأرضية من الصحاري والقفار, والبيداء الشاسعة والأراضي ما يكفي لإقامة وطن لليهود, يبنونه بأموالهم على أحسن طراز وأحدث تقدم؟ لا يعجزهم ذلك من قلة المال أبداً, لا يشكون قلة المال حتى يقيموا بلداً في صحراء نيفادا , أو يقيموها في مكان بعيد, ولو طلبوا من دولة غربية أو شرقية أو من النصارى أو من وافقهم رقعة تقام عليها بلادهم أو لو سعوا إلى ذلك لوجدوا إليه سبيلاً.
فلماذا يأتون إلى هذه الرقعة؟! ولماذا يقيمون وطنهم في هذه الرقعة؟! لأن كتابهم يقول: " إن فلسطين أرض الميعاد.
إذاً: فاليهود يعملون بعقيدتهم, وبدينهم, وبتوراتهم, وبتلمودهم.
معاشر المؤمنين! نحن أولى أن نعمل بشريعة ماضية من أولئك الذين يعملون بشريعة منسوخة, ونحن أولى أن نعمل بقرآن محكم من أولئك الذين يعملون بتوراة محرفة, ونحن أولى أن نكون أقرب إلى تعاليم ديننا وعقيدتنا.
معاشر المسلمين! إن اليهود لن يرضوا ولن يقفوا عند حد معين, ولكنها سنة الله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء:104] لعل هذا أوان اقتراب مذبحتهم وملحمتهم ونهايتهم وما ذلك على الله ببعيد.
وإن كان يجرح فؤادي أن أسمع إذاعة بصوت عربي أو أقرأ جريدة بحرف عربي تقول: إن عند اليهود ثلاثمائة رأس نووي, {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] هل يخوف المسلمين في العالم الإسلامي بثلاثمائة رأس نووي؟! من الذي خلق اليهود؟ الله، من الذي خلق عقولهم؟ الله، من الذي سخَّر لهم هذه المادة الذرية؟ الله, من الذي جعل هذه الصواريخ تنطلق على نظام وسنة عملية؟ الله, أليس الذي قدر على ذلك كله قادر على أن يغير شيئاً من هذا كرامة لعباده المؤمنين؟ أليس الذي جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم قادر على أن يجعل الصواريخ تعود إلى قلوب اليهود؟! بلى والله, قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل:50] فكان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم أجمعين, ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15 - 17] ويقول الله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46].
نعم.
إن لهم كيد, وإن لهم مكر, وإن لهم تخطيط بعيد المدى, أول ما فكر اليهود في إقامة هذا الوطن الذي يجمع شتات اليهود في أولى القبلتين, أول ما فكر اليهود في هذا كان عام (1848م) أي: قبل وعد بلفور بمائة عام, ومضى العمل على قدم وساق, مضى العمل جاداً من خلال بعض المفكرين والأساتذة والإرساليات والمنظمات والشركات, لكي يكتبوا تقريراً, ويستقرئوا الواقع عن إمكانية غرس هذا العضو الغريب بين المسلمين، فقالوا: لا يمكن أن يغرس عضو غريب في بدن صحيح إلا إذا خففت المناعة في هذا البدن, فسعوا إلى ذلك ونشروا الرذيلة وروجوا الدعارة, وأنتجوا كل ما من شأنه أن يقطع الأواصر وأن يكسر العلاقات, ويهدم الحياء, ويخرج المرأة, وينبت الفاحشة؛ حتى أصبح مجتمع المسلمين مخدراً.
وحينئذٍ أمكن زرع عضو غريب في بلاد المسلمين, وبعد مائة عام من التخطيط والتفكير ظهر أول حرف يقول في وعد بلفور: " بوطن قومي لليهود في فلسطين "! وماذا بعد ذلك؟ لا زال العمل على قدم وساق ومضت الأمة في مراحل دامية من المذابح والقتل والمواجهات العسكرية, ودخلتها الخيانات والعمالة, ودخلها ما دخلها مما فضحه التاريخ.
ولا تستر الشمس بالبراقع! حتى بلغ الحال إلى أن أصبح إخواننا الفلسطينيين يشردون في الأرض -يا عباد الله- والله ما سافرت دولة إلا ووجدت واحداً من الفلسطينيين هناك, أين أرضكم يا إخواننا؟ أين بلادكم يا إخواننا؟ في الصين الشيوعية وجدت فلسطينيين! في كمبوديا وجدت فلسطينيين! في مختلف بقاع العالم وجدت الفلسطينيين! أيتام على مائدة اللئام! أين الولاء والبراء؟ أين قوة الإيمان؟ أين دم التوحيد الذي يسري في القلوب.
يا أمة الإسلام! كم من فتاة بقر بطنها وهي حامل! وكم من مسلمة انتهك عرضها أمام والديها في السجون؟ وكم من صغير قتل بأفتك ألوان التعذيب أمام والديه؟ وكم من رجل رأيناه يموت غيظاً, ويموت كمداً, ويموت من قلة الحيلة، وهوانه على الناس، وغفلة إخوانه المسلمين.
يا معاشر المسلمين! أين إيماننا؟ أين توحيدنا؟ أين عقيدتنا؟ أمسلمون بالكلام, أم بالتوابع, أم بالجنسيات؟ هذا نداء للعالم الإسلامي كله: " لا تنسوا فلسطين ".
إن الله جل وعلا وعدنا بأن تعود فلسطين من جديد, إن الله وعدنا أن نذبح اليهود شر مذبحة في فلسطين حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! ورائي يهودي تعال فاقتله.
يا أخي الكريم! ما شعورك لو أن لصوصاً طردوك من بيتك وأخذوا يتفاوضون على بيع دارك, وأنت تنظر إليهم, هل يبقى في عروقك دم يسيل أو يجري؟ هل يبقى لقلبك خفقة أو نبضة؟ هل يبقى لعقلك مساحة للتفكير؟ هل يبقى في قدمك جهد لتتحرك به؟ يا أمة الإسلام! لا تنسوا فلسطين , ولا تنسوا الجهاد في فلسطين؛ فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة, إن الذي جعل من الأفغان الحفاة العراة العزل واجهوا روسيا بخيلها وهلمانها وصواريخها ودباباتها وطائراتها وفرق التدخل السريع منها والصاعقة والكمندوز الذين نزلوا بهم في أرض أفغانستان , وإن الله جل وعلا يوم نصر الأفغان على هذه الدولة الظالمة الباغية وتحطمت فذلك بيان لوعد الله وذلك تحقيق لوعد الله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) عادوا أولياء الله في أفغانستان , فانقلبت الدائرة على رءوسهم بانقسام بلادهم وذوبان نظريتهم وذوبانهم وسيرهم تحت معسكر آخر, إن الذي نصر أولئك ليس عاجزاً بل هو القادر جل وعلا على أن ينصر أطفال الحجارة, وعلى أن ينصر المسلمين, وعلى أن ينصر الفلسطينيين, وعلى أن ينصر الشباب الصغار, إن الله جل وعلا قادر على أن يجعل هؤلاء خنجراً في قلب اليهود.
اللهم ارحم الفلسطينيين في كل مكان، اللهم ارحم إخواننا الفلسطينيين، اللهم إنك تعلم أن بلادهم تباع وهم يشردون، اللهم إنا نسألك نصراً من نصرك, ونسألك اللهم نفحة تقويهم بها, وتثبتهم بها، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحّد جهودهم صفوفهم, وسدد رصاصهم, اللهم بك وحدك لا شريك لك، اللهم أنت المستعان وإليك المآب وعليك التكلان لا يكمل قدر إلا منك, وما قدرت إلا بتمام حكمة لأنك لا تقدر عبثاً, وقدرت بتمام العدل لأنك لا تقدر ظلماً, ورحمتك سبقت غضبك, ووسعت كل شيء.
اللهم ارحم إخواننا في فلسطين , وارحم الفلسطينيين في كل مكان، اللهم اهد شبابهم واجمع كلمتهم, ووحد شملهم، اللهم ردهم إلى أرضهم وأسكنهم في بلادهم, وأقم كتابك وسنة نبيك على أرضهم يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(185/4)
فقدان فلسطين مكانها بين قلوب المسلمين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى, وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى, واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار, وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة, ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من النار.
معاشر المؤمنين! إننا لم نبلغ حقيقة الإيمان إلا بشعورنا بالولاء والبراء, إننا لم نبلغ لذة الإيمان إلا بالموالاة في الله والمعاداة في الله, والله جل وعلا يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] إن لم نحقق هذا الولاء بيننا تكن فتنة عظيمة جداً, وإن ما نعيشه اليوم هو إفرازات ماضياً ضاعت فيه الأمة, وضاعت فيه مقدساتها, وضاع فيه القدس , وضاعت فيه القبلة الأولى, وضاعت فيه أرض المعراج والإسراء منذ تاريخه القديم.
ويوم تسمعوا هذه الكلمات لست أعني الحركة الانتحارية، ولكن أقول: حركة عملية ألا تنسوا فلسطين , وأن تكون فلسطين في دمائكم, إن كثيراً من أطفالنا نشئوا وقد نسوا شيئاً اسمه فلسطين , وسمعوا بشيء اسمه إسرائيل, ولقد كنا صغاراً في المدارس نتسابق إلى مدير المدرسة نقدم عشرة ريالات مكتوب عليها: ادفع ريالاً تنقذ عربياً, وإن كان في حقيقة قلوبنا أننا نريد أن ننقذ مسلماً, لأننا رأينا في العرب البعثيين, ورأينا في العرب اليهود, ورأينا في العرب من هم أخبث من اليهود, ورأينا في العرب من هم ألعن وأسوأ وأخبث تخطيطاً وتدبيراً للكيد والمؤامرات من الأعداء, وليس هذا بغريب وليس هذا بعجيب! ولكن الواجب -أيها الأحبة- وأنا أخاطبكم فيما تستطيعون, وكل مخاطب فيما يقدر عليه, وأول ما أخاطبكم به ألا تنسوا فلسطين في كل صلاة بدعوة واحدة: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:10 - 11] إن أبواب السماء تشققت كأفواه القرب, وأصبحت الأرض طوفاناً لا يملك لها قراراً, بدعوة واحدة, فلعل الله جل وعلا أن يرحم إخواننا وأن يهلك أعداءنا بدعوات مجتمعة.
أيها المسلمون! عودوا إلى خريطة التاريخ, واشرحوا لأطفالكم وأبنائكم خريطة فلسطين , وقولوا: هذه فلسطين يحدها من الشمال كذا, ومن الجنوب كذا, ومن الشرق كذا؛ ومن الغرب كذا, وقولوا لهم: في عام كذا دخل اليهود أرض إخوانكم, وتمكنوا فيها, وقولوا لهم: إن كتاب الله يقول: إن هؤلاء الذين دخلوا هذه الأرض سوف نقاتلهم في آخر الزمان -ونحن في آخر الزمان- وسوف تشترك الأشجار والأحجار في المعركة, حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله ورائي يهودي تعال فاقتله.
ابعثوا قضية فلسطين ولا تشاركوا في دفنها ولا تشاركوا بوأدها, ولا تنسوا فلسطين من قلوبكم, ولا تنسوا فلسطين من دمائكم, إن المسلم الذي لا يعرف من الإسلام والمسلمين إلا حدوده الجغرافية, كما أكل المسلمون خارج حدوده, سيؤكل هو ويتفرج المسلمون عليه كما تفرج هو.
ومع إفرازات التاريخ من قريب وبعيد جعلنا نتفرج على كثير من بلدان المسلمين وهي تشكو الفقر والحاجة, وتشكو الذلة والمسكنة, وتشكو المذابح والإعدامات, وتشكو المشانق والزنازين, ونسأل الله ألا يؤاخذنا, ونسأل الله ألا يهلكنا, ونسأل الله أن يستجيب دعاءنا لإخواننا وأن يفرج كرباتهم.
معاشر المؤمنين! قد يقول قائل: إن هذه الخطبة قد تغير شيئاً في مجرى ما يدور؟ ولكني أقول: لا.
لن يغير في مجرى ما يدور إلا دعاؤكم أنتم, لن يغير مجرى الأحداث إلا دعاؤكم أنتم، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] وقال جَلَّ جَلالُهُ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186].
إن إخواننا في فلسطين وفي أولى القبلتين وأرض الإسراء والمعراج لفي حاجة إلى الدعاء, وإن المجاهدين داخل فلسطين لفي حاجة إلى الدعم وإلى العطاء والزكوات والصدقات والوقوف معهم, حتى لا يقر يهودي بنومه, وحتى لا يتلذذ يهودي بلقمة, ولا يتلذذ يهودي بشربة، ولا ينام يهودي قريراً, ولا يمشي يهودي مطمئناً, وهم والله الآن في رعب, ربنا جل وعلا قال فيهم: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر:14].
إن اليهود بينهم من الخلاف والنزاع والافتراق ما الله به عليم، قال جَلَّ وعلا: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فما الذي جعلهم مجتمعين في أعيينا؟! إن فرقتنا -معاشر المسلمين- هي التي جعلتنا ننظر إليهم مجتمعين, ولو كنا مجتمعين لنظرنا إليهم متفرقين: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، جبناء: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:22] خوافون جبناء.
من الذي يصمد لهم؟ تصمد لهم حقيقة الإسلام.(185/5)
أثر العقيدة في توجيه أصحابها
لو أن أسداً محشواً بالليف, محنطاً بالقطن, وقف في وسط هذا المسجد ما تحرك أحد خوفاً منه, ولربما رأيت الأطفال يجعلون أناملهم الطرية بين أنيابه الحادة, لأنها صورة أسد, ولو أن نمراً صغيراً انطلق لوجدت الناس يهربون منه يمنة ويسرة, لماذا يهرب الناس من نمر صغير ولا يخافون من أسد كبير؟ لأن الأسد صورة, والنمر حقيقة.
فنحن لا نريد أن نحمل صورة الإسلام, إن اليهود يحملون شيئاً من حقيقة معتقدهم, ولأجل ذلك خافهم الناس, أما إن كنا نحمل حقيقة معتقداتنا فوالله لا وزن لهم ولا كرامة, ولا هيبة لهم ولا مهابة, ولكن -يا عباد الله- كيف ننمي هذه الحقيقة الدينية؟ وكيف ننمي حقيقة العقيدة؟ شباب الإسلام! قد آن لكم أن تنفضوا النوم عنكم, يا شاباً ما زال يغرق في المعاكسة! يا شاباً ما زال مغرقاً في الهوى والحب والغرام! يا شاباً ما زال يبيع أفلام اللهو والطرب! يا شاباً ما زال يتعامل بالربا! يا رجلاً ما زال وراء شهواته وملذاته! يا رجلاً غافلاً في سكراته! يا مسلماً ضيعت نفسك وضيعت بيتك وأسرتك! إخوانك يتخطفون, وأبناؤهم يباعون, وزوجاتهم وأعراضهم ينتهكون, وثكالاهم يصرخون, وشيوخهم يشردون, وأنت على سماعة الهاتف تنتظر حبيبتك أن ترد عليك: صباح الخير أو مساء الخير؟! أهذه أمة الإسلام؟! أقوم يعذبون ويقتلون وشباب لا زالوا على الغرام ومصارعة النساء وأفلام الفديو والرقصات الحمراء والليالي الغنائية المطربة؟! أهذا شأن شباب المسلمين؟! إن شبابنا المسلمين الذين سافروا إلى بانكوك ومانيلا وكازبلانكا وكثير من البلاد إن أفجر واحد منهم يستطيع أن يمد خطوته ساعتين إلى أولان باتور في منغوليا أو إلى فلمبيا في كمبوديا ويعلم المسلمين الوضوء والفاتحة والصلاة, المسلم شيء كثير لكنه أسد ربط في قفص, وتربى مع البقر فلا يفقه إلا الخوار ولا يعرف الزئير أبداً.
إن الشباب الذين تنقلوا إلى بلاد الفساد والعهر من أنحاء العالم الإسلامي لكي يفجروا ويزنوا ويفسدوا, إنهم يحملون في قلوبهم خيراً عظيماً لو تابوا إلى الله, ولو تابوا إلى الله وسابقوا إلى الاتحاد السوفيتي لكي يجمعوا المسلمين أحفاد البخاري وأبو داود السجستاني ومسلم بن الحجاج النيسابوري وأحفاد الترمذي لو عادوا إليهم وأعادوهم إلى الإسلام وعلموهم العقيدة، إن أولئك الذين يفعلون الفاحشة لو تابوا إلى الله وبدلاً من الذهاب إلى بانكوك أو مانيلا أضافوا ساعتين حتى يصلوا إلى بلاد المسلمين فيعلموهم العقيدة؛ لاستطعنا حينما يغضب مسلم فينا أن يغضب له مليار مسلم.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي هل لكِ بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تبقى دولة في حمى الحق وظل الحرم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
لقد تركنا إخواننا فلا عجب أن يرعاهم اليهود, لقد تركنا إخواننا ونسيناهم, مَن منا يفكر في فلسطين صباح مساء؟ أو أفغانستان؟ أو أثيوبيا؟ أو المسلمين في سيرلانكا؟ أما قرأتم جريدة المسلمون، أما اطلعتم في العدد الماضي على صورة شاب قد قطعت رقبته كما تقطع رقبة البهيمة؟ وتعلقت رقبة طفل بقطعة لحم تتدلى؟ أرأيت الذبيحة يوم أن تذبحها ولا تستطيع أن تقطع الوريد والمريء والأوداج ويبقى شيء من الحياة ونزع من الموت, أرأيت كيف ترفس الذبيحة؟ رأيت صوراً لإخواننا المسلمين في مسجد من مساجد سيرلانكا قد ذبحوا والمسلم يرفس على الجدار وعلى ما حول الجدار والدم يتناثر يمنة ويسرة!! أين المسلمون؟! ضع صندوقاً في بيتك وصندوقاً عند بابك واكتب على هذا الصندوق: فلسطين وأفغانستان وكشمير وأثيوبيا وإريتريا وآسام , اكتب عليه هذه الأسماء لكي تراها بعينك فإذا دخلت ضع خمسة ريالات وإذا خرجت ضع مثلها, وإذا أذنبت فكفر بهذه الصدقات, ثم اجمعها إلى رابطة العالم الإسلامي , إلى الندوة العالمية للشباب الإسلامي وقل: هذا من أجل المسلمين, والله لو رفع شعار يقول: قاتلوا المسلمين لتبرع أعداؤكم بالمليارات, ولو رفع شعار يقول: قاتلوا اليهود والنصارى لعجزنا أن نجمع شيئاً.
أحد الدعاة يقول: أردنا أن نجمع لمشروع مائة مليون من أجل المسلمين، رفعه النصارى فجمعوا في خلال ثلاثة أشهر فقط مائة مليون دولار, ونحن لنا ثلاث سنوات نجمع مائة مليون بعملتنا حتى الآن! وكثير من المسلمين أغنياء ولكن أين من يتفاعل مع قضايا المسلمين؟! أسأل الله جل وعلا ألا نكون على كرب إخواننا من المتفرجين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين أجمعين، اللهم آمنا في دورنا, وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته واجمع شمله وأعوانه وإخوانه على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم بصرهم بكتابك وسنة نبيك، اللهم مسكهم بالحق المبين، اللهم ما علمت في أحد خيراً لهم فقربه منهم، وما علمت في أحد شراً لهم ولأمتهم فأبعده عنهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم ولي علينا خيارنا واكفنا شرارنا، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وولاة أمرنا ولا تشمت بنا حاسداً ولا تفرح علينا عدواً بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين, يا أكرم الأكرمين! اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته, ولا هماً إلا فرجته, ولا ديناً إلا قضيته, ولا مبتلىً إلا عافيته, ولا مريضاً إلا شفيته, ولا حيران إلا دللته, ولا غائباً إلا رددته, ولا أيماً إلا زوجته وأسعدته, ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته, بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم استرنا بسترك واكلأنا برعايتك, ولا ترفع عنا يد رحمتك, بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم أكرمنا ولا تحرمنا، اللهم أعطنا ولا تهنا, وأعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، اللهم رد فلسطين إلى المسلمين، اللهم رد المسلمين إلى المسلمين، اللهم اقتل اليهود في فلسطين، اللهم جمد الدماء في عروقهم، اللهم اقتلهم شر قتلة، اللهم مزقهم شر ممزق، ربنا إنه لا يعلم جنودك إلا أنت {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(185/6)
لحظة قبل فوات الأوان
جمعت هذا المادة عدة مواعظ للشيخ، فقد احتوت على تنبيه للغافلين المسيئين، مع بيان أن الموت حقيقة لا مفر منها، ثم عقب ذلك بذكر قصتين: الأولى لرجل مات وهو ساجد لعاهرة، والقصة الثانية عن رجل مات في المسجد والشيخ نفسه يخطب الجمعة، فشتان ما بين الميتتين.(186/1)
أيها المسيء احذر!!
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والند والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! معاشر الأحبة: كثيراً ما نواجه ويواجه كل واحدٍ منكم طوائف من الشباب ومن كبار السن من اللاهين العابثين الغافلين عن الآخرة، العابثين في دنياهم، اللامبالين بأي مصيرٍ يئولون إليه وينتهون عنده، إن قدمت شريطاً فيه موعظة لا يسمعونه، وإن قدمت رسالة فيها كلامٌ جميل لا يقبلونه، وإن قدمت نصيحة لا يرعوون لها، وإن تلطفت مع طائفة منهم يظنونه ذلاً واحتقاراً، وإن أخلصت النصيحة لأحدهم ظنوه استعلاءً وتكبراً، والله إن العقل والفكر ليحارا، ويصبح الحليم حيران أمام طائفة من أولئك اللاهين العابثين، الذين لا يعرفون المساجد إلا نزراً يسيراً، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولهم في بلاد الغرب مع البغايا والفاجرات صولات وجولات، كيف الطريق إلى قلوب هؤلاء؟ كيف يُدعون إلى الله؟ كيف يُنادَون إلى كتاب الله؟ هل نيأس منهم؟ {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] هل نحكم عليهم بالشقاء؟ كلا لأن المسلم ليس مسئولاً أن يحكم على الناس في نهاياتهم أن يكونوا من أهل الجنة أو أهل النار، وعقائد أهل السنة جميعاً ناطقةٌ بأنهم جميعاً لا يشهدون لأحدٍ بجنة أو نار، لكن يخشون على المسيء العقاب، ويرجون للمحسن الثواب، هل يعتبرون من سقط المتاع أو على هامش الحياة؟ لا والله يا عباد الله! هناك مدخل رئيس، وهناك حقيقة لا بد من طرحها، وقضية لا بد من مواجهتها؛ قضية لا بد أن نواجهها نحن، لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد، ولا بد أن يواجهها كل مسلم وكافر، كل بعيدٍ وقريب، كل ذليل ٍوحقير، كل عزيزٍ وأمير، كل صعلوكٍ ووزير، هي حقيقة الموت، هي نهاية المطاف، هي خاتمة الدنيا.
إن كل البشرية تشهد وتعلم وتنطق أن نهايتها هي الموت، وأن منتهى الطريق بالنسبة لها هي الانقطاع عن هذه الدنيا؛ انقطاع النفس والروح، وانقطاع الجوارح؛ فالعين لا تبصر، واليد لا تتحرك، والأذن لا تسمع، والنفس لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايين لا تنبض، إنها النهاية الأخيرة التي يواجهها ويقف أمامها كل صغيرٍ وكبير، كل بعيدٍ وقريب.(186/2)
مات وهو ساجد لعاهرة
شابٌ من مدة ليست بالقريبة حدثني عن أحد الشباب فيما تسمى بـ (بانكوك) قال: لقد كان في ضلالة، في بلاء، في أمرٍ لا يفيق منه بسبب المخدرات أو الشراب وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات، وفي لحظة من سكرٍ وشوقٍ إلى عهرٍ تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، وقد كاد يُجن من تأخرها، فما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه، فلما رآها خر ساجداً تعظيماً لها، خر ساجداً لها وما الذي تنتظرونه؟ إنها السجدة الأخيرة، هي النهاية، والله ما قام من سجدته بل أقاموه في تابوته، وأرسلوه بطائرته ودفنوه مع سائر الموتى.(186/3)
مات وهو يسمع خطبة الجمعة
أيها الأحبة في الله! في الجمعة الماضية أثناء ما كنت أخطبكم على هذا المكان، وأنتم تستمعون في هذا المكان، دخل ملك الموت في هذا المسجد وتخطى صفاً واحداً واثنين وثلاثة وأربعة حتى بلغ الصف السادس أو السابع من آخر هذا المسجد، فقبض روح عبدٍ من عباد الله كان شاهداً الصلاة والخطبة معنا.
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لو تقدم ملك الموت صفاً واحداً لقبض روحك، ولو تقدم صفوفاً أكثر لقبض روحي، ولو تأخر صفاً واحداً لقبض روح شخصٍ آخر.
استعدوا يا عباد الله! ولمثل هذا فأعدوا، أسأل الله لميتنا الرحمة والغفران، ولذويه الصبر والسلوان، خرج من بيته إلى الجمعة لم يتخط رقبة، متطيباً متهيئاً، حادث أهله واستأنس بأطفاله، ثم اغتسل وخرج إلى المسجد، يقود سيارته بنفسه، وجيء بسيارته إلى البيت لا يقودها هو، لبس ثوبه بنفسه ولم يخلعه بل خلع منه، دخل هذا المسجد بنفسه وخرج محمولاً.
أيها الأحبة! بعد أن دخل الخطيب وأعلن التحية للسلام مد ميتنا مصحفه إلى من كان بجواره، فأخذ المصحف من يده ووضعه على الرف الذي أمامه، ثم جلس قليلاً يستمع الأذان ثم الخطبة، بعد الشروع فيها، وما هي إلا لحظة أو أقل من لحظة حتى اتكأ على ظهر كف يده، فظن الذي بجواره أنه ناعسٌ أو نائم، فالتفت إليه وأيقظه، فإذ به يسمع شيئاً أشبه ما يكون بشخير النائم، ثم بعد ذلك استلقى على قفاه، الله أكبر! (من مات يوم الجمعة أمن الفتان) الله أكبر! على هذه الميتة الطيبة في هذا المكان المبارك، في هذه الساعة المباركة، في يوم الجمعة خير يومٍ طلعت عليه الشمس.(186/4)
لقد كان في قصصهم عبرة [1]
في هذه الخطبة عرض موجز لقصة رسول من أولي العزم مع أشهر طاغية عرفه الزمان: إنها قصة موسى عليه السلام مع فرعون، ففيها عبرة عظيمة جداً، وهي: أن الليل مهما طال بالطغيان فلابد أن يأتي الفجر لينشر نوره بنصر الله وتأييد جنده: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ)).(187/1)
قصة موسى عليه السلام(187/2)
بداية نشأة موسى
الحمد لله القائل في محكم كتابه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالعاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في محكم كتابه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:51].
معاشر المؤمنين: ذكر الله قصة موسى مع فرعون في سور كثيرةٍ من القرآن الكريم، وقصة هذا النبي الكريم -عليه وعلى نبينا أتم الصلاة والتسليم- مع فرعون الطاغية العنيد تتكرر وتبرز في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وحين، لأنها تصور حقيقةً واقعةً، إنها تصور الصراع بين الحق والباطل، إنها تصور الصراع بين أولياء الرحمن وجند الشيطان منذ فجر الوجود وميلاد البشرية.
ولد موسى عليه السلام في عهد الطاغية الأكبر فرعون الذي ادعى الربوبية وأعلن التمرد والعصيان، وزعم أن لا إله ولا رب سواه، وذاق بنو إسرائيل من أذى فرعون ومن شره ما لم يذوقوه من قبل ولا من بعد {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
لقد رأى فرعون في منامه رؤيا أفزعته، فاهتم لها واغتم بها، رأى ناراً قد أقبلت من بيت المقدس حتى وصلت إلى بلاد مصر وأحاطت بدورها وبيوتها، فأحرقتها وأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل دون أذى، فدعا فرعون الكهنة والسحرة والمنجمين، وسألهم عن هذه الرؤيا، فعبروها قائلين: إنه سيولد في بني إسرائيل غلام يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، ويكون ذهاب ملكك يا فرعون على يديه، وسيخرجك وقومك من بلدك، ويبدل دينك، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه.
عند ذلك طار صواب فرعون، وجُنَّ جنونه، فأمر بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، أما الإناث فلم يأمر بقتلهن، بل أمر بتركهن لأجل الخدمة والتسخير؛ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
وفي أثناء شدة هذا العذاب ولد موسى عليه السلام، كانت ولادته خطباً أليماً بالنسبة لأمه، ولما قرب وقت الوضع، وبدأت آلام المخاض، حزنت أمه حُزناً شديداً، واشتد همها وغمها، وأوحى الله إليها إلهاماً ألا تخاف ولا تحزن، لما سبق في علم الله أن هذا المولود سيكون له شأن عظيم، فولدته أمه خفية عن القابلات، وقذف الله في قلبها السكينة، وأمرها أن ترضعه حتى إذا خافت عليه فلتصنع له تابوتاً من الخشب، ثم تضعه فيه، وتربط التابوت بحبل لئلَّا تذهب به الأمواج، ثم تلقيه في البحر، وفعلت ذلك ثقةً بوحي الله وإلهامه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
وفي ذات يوم انفلت رباط التابوت، فذهب الماء بالتابوت، وفيه الوليد الرضيع الرقيق موسى عليه السلام، ذهبت الأمواج بالتابوت، تُرى إلى أي مكان سترحل الأمواج بهذا الرضيع وهذا الوليد؟ سترحل به إلى من هو أشد الناس بغضاً لبني إسرائيل، وأشدهم كراهيةً لأبنائهم، ذهب التابوت بموسى إلى بيت فرعون في ساعة كان الجواري يغتسلن ويستقين فيها، فأبصرن هذا التابوت، فأخذنه من الماء، وظنن أن فيه مالاً، فحملنه على عادتهن، وذهبن به إلى سيدتهن آسية زوجة فرعون، فلما فتحت التابوت، وجدت فيه هذا الغلام، فلما رأته، ألقى الله محبته في قلبها.
فلما جاء فرعون ورأى الغلام طار عقله وأراد قتله، وطلب الذباحين ليذبحوه، فالتمست آسية زوج فرعون منه أن يتركه لها، لأنها لا تلد: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص:9] فقال لها فرعون: بل هو قرت عين لك أنت، أما أنا فلا حاجة لي فيه.(187/3)
حياة موسى في بيت فرعون
عاش موسى في بيت فرعون عند آسية، واجتهدت في البحث له عن مرضعة لتكون له ظئراً وتربيه، لكن الوليد الرضيع يأبى المراضع، ولا يقبل ثدي واحدة منهن حتى اشتد به الجوع، واشتد به البكاء، وهو لا يقبل ثدياً.
وما زالت آسية زوجة فرعون تبحث له عن مرضع حتى رأته أخت موسى، وقد كانت ترقبه من بعيد، فجاءت إلى آسية امرأة فرعون، وعرضت عليها أن تأتي بامرأة مرضعة أمينة ناصحة تتعهد بهذا الرضيع، وتعتني به مقابل أجرة لها، فقالت لها امرأة فرعون: ائتيني بها، فإن قبل ثديها أكرمتها بأي مال أرادت، فانطلقت أخت الرضيع إلى أمه، وأخبرتها الخبر، فلما رأت ولدها كادت أن تبدي به، أي: كادت أن تقول: هذا ولدي، لولا أن ثبتها الله حتى لا يشعر آل فرعون بأن هذه هي أمه، فلما وضعته في حجرها، التقم ثديها، وأخذ يرضع بنهم ولذة حتى ارتوى وملأ جنبيه.
ففرحت آسية فرحاً عظيماً، وطلبت من أم موسى -وهي لا تعلم أنها أمه- أن تمكث في القصر عندها لترضع هذا الغلام، ووعدتها بأن تعطيها أنواع المال والهدايا، وأن تكرمها بأنواع الإكرام، فأظهرت أم موسى العفة، وقالت: إن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي، وأتعهده بالعطف والرعاية كما أتعهد ولدي، وأنا لا أستطيع أن أدع بيتي وأولادي من أجل هذا الغلام، تقول أم موسى وهي تعلم أنه ولدها: لا أستطيع أن أدع بيتي وأولادي من أجل هذا الغلام، فرضيت آسية أن تدفعه إليها على أن تأتي به في كل فترة لتراه وترضعه عندها.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} [القصص:11 - 13] بعد أن أمرت أن تلقيه في البحر: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13].(187/4)
فرار موسى إلى مدين
شب موسى وترعرع في بيت فرعون معززاً ومكرماً، حتى إذا دخل المدينة ذات يوم على حين غفلة في أهلها وجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من شيعته أي: من بني إسرائيل، والآخر من عدوه أي: من القبط، فاستغاثه الذي من شيعته على القبطي، فضربه موسى، فمات القبطي من فوره.
ثم أصبح موسى خائفاً يترقب، فجاءه رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، فأخبر موسى الخبر، وأمره أن يخرج من أرض مصر، لأن القوم يبحثون عنه، ويريدون قتله، فخرج موسى وتوجه إلى أرض مدين، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين.
وفي أرض مدين أقام موسى، وتزوج بابنة شعيب عليه السلام، ورعى له الغنم فيها عشر سنين، وبعد ذلك حنَّ قلب موسى إلى أرض مصر، وفي طريقه إليها في ليلة مظلمة باردة تاه موسى عن الطريق: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:10 - 14] وهكذا نبئ موسى وكلمه ربه، وتوجه إلى فرعون بأمر ربه {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:17 - 25].(187/5)
تمكين الله لموسى في الأرض
اشتد الأمر بين موسى وفرعون، وتمادى فرعون في طغيانه وعناده، وأراد أن يكذب بنبوة موسى، وقال: إن هو إلا ساحر جاء بأخيه معه، وجمع فرعون السحرة أجمعين، وأراد بذلك أن يضل الناس عن النبوءة والدعوة، ولكن الله جل وعلا أبطل كيده وأبطل سحره: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
وبعد مضي هذه المدة وموسى يدعو فرعون ويخاطبه بخطابٍ لين، ويدعوه بدعوة وموعظة رقيقة إلا أنه لم يستجب، حتى إذا اشتد الأمر وبلغ أشده، ووصل الأمر بينهم إلى القتل والقتال، لما رأى فشل سحرته، ولما رأى فشل تدجيله وتطبيله، لما رأى فشل ذلك كله، لم يجد إلا أسلوب الجبابرة والطواغيت المعاندين، أسلوب القتل، أسلوب التشريد والإبعاد، فأتبعوهم مشرقين {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لما ذهبوا ولم يبق من أمامهم إلا البحر، وفرعون وقومه من خلفهم {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:61 - 63] وعبر عليه موسى ومن معه من بني إسرائيل {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء:64 - 66] لما رأى فرعون ومن معه أن البحر أصبح يبساً، وعبر عليه موسى ومن معه لحقوا بهم يريدون أن يعبروا على البحر، لكنها سنة الله جل وعلا، يريد الله أن يغيرها، وأن يبدلها، وأن يعكس قانونها ونظامها لأوليائه وعباده وأنبيائه، أما الكافرون الجاحدون الظالمون فليسوا بأهل أن تغير لأجلهم سنة واحدة، أو أدنى ظاهرة في هذا الكون، فلما عبر موسى ومن معه، عاد البحر كما كان أمواجاً تتلاطم، ومياه تغرق من عليها، ثم أدرك فرعون الغرق: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] لم يقل آمنت أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، انظروا العناد والجبروت والتجبر والطغيان حتى في آخر ساعات العذاب، وفي آخر ساعات الهلاك لم يقل آمنت أنه لا إله إلا الله، بل قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} [يونس:90 - 91] ليس ينفعك الإيمان في هذه اللحظة، ولا ينفعك قولك في هذه اللحظة وأنت من المفسدين الضالين المتجبرين المعاندين.(187/6)
نجاة موسى في يوم عاشوراء
وكان اليوم الذي نجى الله فيه موسى وأعوانه وجنده، وأهلك الله فيه فرعون ومن معه، هو يوم عاشوراء، لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم رأى اليهود في المدينة يصومونه، فسأل عن ذلك، فقيل له: هذا يوم نجى الله فيه موسى ومن معه، وأهلك فيه فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم) فصامه وأمر بصيامه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه) متفق عليه.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (يكفر السنة الماضية) رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع والعاشر) رواه مسلم.
معاشر المؤمنين: هذه قصة طويلة نهايتها في اليوم المبارك الذي هو يوم عاشوراء، أعز الله فيه عباده، وأعز فيه دعاة دينه، وأعز فيه جنده المخلصين، وأهلك فيه الطغاة والمعاندين والمتجبرين، ذلك يوم عظيم، وهو يوافق يوم الخميس من الأسبوع القادم، فصوموا هذا اليوم يا عباد الله، ومروا أبناءكم ومن دونكم بصيامه، واشكروا نعمة الله جل وعلا، وتذكروا فضل الله عليكم وعلى عباده المسلمين أجمعين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(187/7)
العبر من قصة موسى عليه السلام
الحمد لله الواحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار؛ عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: لو تأملنا هذه القصة الجليلة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في مواضع متعددة من كتابه الكريم، لوجدنا فيها جملة لا تعد ولا تحصى من الدروس والمواعظ والآيات والعبر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
هذه القصة لو لم يأت فيها إلا البشارة للدعاة المخلصين، لو لم يكن فيها إلا البشرى للذين يقومون بالدعوة إلى الله في كل مكان، وأن الله سبحانه وتعالى ينصرهم مهما أظلم الليل، ومهما ادلهمت الخطوب، ومهما تكالبت قوى الطغيان، ومهما تجمع أعوان الشر، فإن الله سبحانه وتعالى ينصر دعاة دينه، وينصر المصلحين المخلصين العاملين بكتابه وسنة نبيه {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] النصر للدعاة المخلصين المصلحين في الدنيا والآخرة، والفوز لهم في الدنيا والآخرة، والفلاح لهم في الدنيا والآخرة.
تأملوا وتدبروا هذه العبرة العظيمة: ذلك الطاغية الذي أمر القابلات أن يخبرنه بأي مولود يولد في بني إسرائيل حتى يقتله، وحتى لا يبقى في بني إسرائيل باقية من الذكور، يأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يتربى ويترعرع وينشأ نبيه الكريم في بيت الطاغية فرعون، ينشأ الداعية في بيت الطاغية ويترعرع ويمشي في أرض قصره وجنانه وحدائقه، ثم بعد ذلك يأمره الله سبحانه وتعالى، ويكلفه بنبوءته، ثم يعود إلى فرعون شامخ الرأس معتزاً، رافعاً رأسه بما أوحى الله إليه، آمراً إياه بما أمره الله ببلاغه أن يهتدي، وأن يؤمن، وأن يخلي بينه وبين بني إسرائيل، وبين الناس أجمعين أن يلحقوه وأن يتبعوا دينه، لكن ذلك الطاغية يأبى ويعاند، فيأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يجعل هلاكه في أعظم آية للناس أجمعين، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
إنها لآية عظيمة في فرعون، إنه لدرس عظيم لجميع الدعاة أمام الطغاة.
إذاً يا عباد الله: إنها لبشارة لجميع المسلمين في كل مكان، إنها لبشارة للدعاة في كثير من الدول المجاورة والبعيدة، الذين يلقون ألوان الأسى والعذاب والتشريد، يرون الإهانة في زوجاتهم، وفي بناتهم، ويرون القتل في أبنائهم، ويرون المضايقة والتشريد عن بلدانهم، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ولا حاكمية، ولا قيادة، ولا أمر، ولا نصر، ولا عزة، ولا انقياد إلا لله، ولا تطبيق إلا لحكم الله، ولا انقياد إلا لشريعة الله، هذه كلمة لا تعرف إلا في هذه البلاد، وهذا نظام لا يعرف إلا في هذه البلاد الطيبة.
نسأل الله أن يديمه علينا، وأن يديم العز لنا ولولاة أمورنا وعلمائنا، كي نبقى سعداء راضين بما قسم الله لنا، شاكرين له على ما أنعم به علينا من هذا العز والتمكين.
إنها لعبرة عظيمة، إن حفظ الله جل وعلا لعظيم.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمانُ
أي عناية أعظم من أن يوضع طفل لا يملك شيئاً في تابوت صغير، ثم يلقى في البحر، فيحفظه الله بحفظه، ويكلؤه برعايته، تذهب به الأمواج المتلاطمة في البحار المليئة بالحيتان، والمليئة بكل شر وأذى حتى يصل إلى بيت الطغاة، فيترعرع وينشأ فيه، ويقذف الله تلك المحبة في قلب زوجة فرعون لهذا النبي الكريم؟! معاشر المؤمنين: إن الله لينصر الذين ينصرون دينه، وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل، إذا علم الله منا إخلاصاً، وعلم منا انقياداً، وعلم منا إرادةً لوجهه الكريم، ولم يكن في نياتنا أدنى طمع في مال، أو منصب، أو جاه.
إن الله سبحانه وتعالى لينصر كل قائم لله بحق، ويجعل القلوب تفتح أبوابها لكلامه، ويجعل الأفئدة والجوارح تتطاير وتبادر لكي تنفذ ما أراد.
إنا -معاشر المؤمنين- أتينا من إخلاصنا، وبلينا من ذات أنفسنا، فقدنا الإخلاص وفقدنا إرادة وجه الله خالصاً في كل دقيق وجليل، ومن أجل ذلك فعلى قدر إخلاصنا تأتي النتائج في الدعوة، على قدر إرادتنا وجه الله تأتي النتائج وتأتي الثمرات في كل عمل نعمله.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المخلصين الذين يريدون وجهه الكريم، اللهم سخر لنا ولولاة أمرنا ولإمام المسلمين ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد نساءنا بتبرج وسفور، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك.
اللهم عليك بالشعوبيين الفرس الذين لا يؤمنون بكتابك كاملاً، ولا يصدقون بنبوة نبيك، ويسبون صحابته، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واهلكهم بدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم أهلك زروعهم وضروعهم، اللهم اجعلهم غنيمةً باردةً للمسلمين، اللهم قرب هلاكهم، اللهم قرب هلاكهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا من أمرك بين الكاف والنون! اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم ارزقنا توبةً قبل الموت، وراحةً عند الموت، ولذةً وأنساً ونعيماً في القبور بعد الموت، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا غائباً إلا رددته.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم جنبنا ما يسخطك، واعصمنا مما يغضبك، اللهم خذ بأيدينا إلى مرضاتك.
ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، اللهم عليك توكلنا، وإليك أنبنا، ولك أسلمنا، وبك خاصمنا، ولك توجهنا، فلا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى ما عندنا، وبارك لنا فيما آتيتنا.
اللهم ارزقنا الاستدراك قبل الفوات، والاستعداد قبل الممات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم افسح لهم اللحود مد أبصارهم، اللهم افتح لهم أبواباً إلى النعيم والجنان.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه التي لا تستطيعون شكرها، واشكروه على آلائه التي لا تقدرون حصرها يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(187/8)
لقد كان في قصصهم عبرة [2]
تحدث الشيخ -حفظه الله- عن الظروف التي اكتنفت ولادة موسى عليه السلام وكيف أن الله رده إلى أمه لترضعه بثمن على ذلك.
وقد استعرض شيئاً من عبر هذه القصة، مبيناً أن الله لا يعجزه شيء، وأن نصره لجنده لا يتخلف، وأن الحق مهما عُذِّب أهله فإنهم ينصرون نصراً يذل الله به كل أعدائهم ومناوئيهم.(188/1)
ولادة موسى ونشأته عند فرعون
الحمد لله معز المؤمنين، ومذل الطغاة والمتجبرين، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، هو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ومنَّ علينا بالتوحيد، وفضلنا على كثيرٍ من الأمم تفضيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، أنتم اليوم في يوم مبارك من شهر الله المحرم، وهذا الشهر من الأشهر المخصوصة بالفضائل التي امتنَّ الله بها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث أضاف الله هذا الشهر إلى نفسه، يقول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل) فأضافه على نفسه بقوله: (شهر الله المحرم) وهذه الإضافة لا تكون إلا لخاصة مخلوقات الله لشرفها وعلو منزلتها، فهذا الشهر مفتاح السنة، وفيه نصر الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام على إمام الكفر وقائد الإلحاد فرعون الذي طغى وعلا في الأرض، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] والذي تجبر وأدبر وتولى عن آيات الله وحجج الأنبياء، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4] وما أكثر الفراعنة في هذا الزمان! وكان الذي يحمله على تعذيب بني إسرائيل وإهلاكهم، واستحياء -أي: استبقاء- نسائهم، وإهلاك الذكور منهم هو علمه بأنه سيخرج من ذرية إبراهيم عليه السلام غلامٌ سيكون هلاك مُلْك مصر ومَلِكِها على يديه، وشاع هذا وانتشر بين القبط، وتحدث به بنو إسرائيل، وعند ذلك فزع فرعون، وطاش ذعراً وخوفاً، وأمر بقتل أبناء بني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام بينهم، وأنى له ذلك، ولن يغني حذرٌ من قدر.
لما حملت أم موسى به خافت أن يعلم بحملها، ولم تكن تظهر عليها علامات الحمل، فيا عجباً من آيات الله ومعجزاته، ولكن أكثر الناس عن تدبر آيات الله غافلون، علامةٌ عجيبةٌ لا يظهر عليها علامات الحمل، فلما ولدت به ضاقت به ذرعاً، فألهمها الله أن تتخذ له تابوتاً، وكانت دارها على نهر النيل، وكانت ترضع ابنها، فإذا خشيت من أحد وضعته في التابوت فأرسلته إلى البحر، وفي التابوت حبل تمسكه به، فأرسلته ذات يوم، وقضت إرادة الله أن يذهب التابوت ولا يعود، وذهب فيه ولدها مع النيل، فمر على دار فرعون، فالتقطه آل فرعون، الذين يذبحون الأبناء، التقطه الذين يقتلون كل ذكر من أبناء بني إسرائيل، فلما جاءوا به ووضعوه بين يدي امرأة فرعون، وفتحت هذا التابوت، رأت وجهاً يتلألأ نوراً، فوقع حبه في قلبها.
فلما جاء فرعون ورآه أمر بذبحه، وقال: اذبحوه، أو اقتلوه، فدافعت عنه تلك المرأة، فقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [القصص:9] ولقد نفع الله زوجة فرعون به، وحقق الله ما رجته من النفع، فهداها الله به وأسكنها جنته بسببه.
فلما أرادوا الغذاء لهذا الرضيع والوليد، وقد حرم الله عليه المراضع من قبل، وجدوه لا يقبل ثدياً، فحاروا في أمره حيرةً عظيمةً، فأرسلوه إلى السوق يبحثون له عن مرضعة يقبل ثديها، فرأته أخته ولم تظهر أنها تعرفه، بل قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فذهبوا به إلى منزلهم، فأخذته أمه، فلما أرضعته التقم ثديها، وأقبل على درها، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وأجروا لها أجرة من النفقة والكسوة، وجمع الله شملها بولدها بقوله جل وعلا: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:13].(188/2)
إرسال موسى ومحاجته لفرعون
ثم نشأ موسى عليه السلام في كنف الله ورعايته في بيت فرعون يتغذى أحسن الغذاء، ويلبس أطيب اللباس، ولما بلغ أشده واستوى، آتاه الله النبوة، وقدر أنه رأى ذات يوم رجلين أحدهما من شيعته والآخر من أعدائه القبط، فاستغاث الذي هو من بني إسرائيل بموسى، فنصره على عدوه بضربة مات القبطي على إثرها، وعند ذلك أدرك موسى أنه أساء، فاستغفر ربه، فغفر له، ثم خاف من فرعون وملئه بعد حادثة القبطي هذه، فخرج من مصر إلى مدين، فوصل إليها وتزوج فيها، ثم سار بأهله إلى أرض مصر، وبينما هو في الطريق أكرمه الله برسالته، وبعثه إلى فرعون، فبلغه رسالة ربه، ولكنه عصى وتكبر وعاند، فأقام موسى عليه الحجج والبراهين، ولكنه لم يقبل شيئاً من ذلك، بل أنكر واستنكر قائلاً: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] وقال لأهل مصر: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].(188/3)
فرار موسى ومن معه
بعد أن عدل فرعون إلى استعمال القوة لصد الدعوة، وصد صوت الحق، أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يخرج بمن معه من المسلمين إلى بلاد الشام، فخرج بهم ليلاً، فلما علم فرعون بخروجهم، غضب وجمع جنوده، وسار في طلبهم، فأدركهم عند طلوع الشمس، وقد انتهوا إلى البحر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لأن العدو خلفهم والبحر أمامهم، والجبال عن يمينهم وشمالهم وهي شاهقة عالية، فقال لهم موسى عليه السلام، قال لهم الرسول الصادق: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وتقدم إلى البحر وأمواجه تتلاطم، وهو يقول: هاهنا أمرت، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فلما ضربه انفلق وصار اثني عشر طريقاً، فانفلق وصار كل فرق كالطود العظيم، على عدد أسباط بني إسرائيل، وصار البحر يبساً لا ماء فيه، فسلكه موسى بمن معه، فلما جاوزوه وخرج آخر رجل من رجال موسى دخله فرعون وجنوده، وعندما تكاملوا أوحى الله إلى هذه الأمواج أن تتلاطم، وإلى هذا الماء أن يعلو، وإلى ذلك اليابس أن يتفتت سائلاً، فأطبق الله عليهم البحر بما فيه، وأغرقهم أجمعين، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم، هكذا نصر الله رسوله وكليمه ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه من الكافرين، هذا حدث عظيم من أعظم أحداث التاريخ التي ثبتت وجاءت في شرعنا، ونقلت إلينا نقلاً صحيحاً، لم يتعرضها تحريف ولا تبديل، فيها العجب والعبرة والذكرى، ولكن أين المعتبرون؟!(188/4)
سنة الله فيمن ينصره
عباد الله: تأملوا هذه الواقعة العظيمة، وتأملوا هذه المعجزة الإلهية الكريمة؛ يوم أن تخلفت أسباب الحياة وامتنعت الأمور المادية أجرى الله خوارق العادات، وقلب القوانين على رأسها لتسخر لهذا النبي وأتباعه، وإنها سنة الله جل وعلا الذي شرع الشريعة وأرسل الرسول، وأنزل الكتاب، وأمر بالدين الحنيف، إن الله هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي أوجد ما فيه من اليابسات والكائنات، والسائلات والجمادات، فهو الذي يصرفها لعباده المؤمنين، وهو الذي خلقهم وأمرهم بالجهاد، فسخر لهم هذه الأمور.
إن الذي جعل النار المحرقة برداً وسلاماً على إبراهيم هو الذي جعل هذا الماء يابساً لموسى، فاعتبروا من ذلك يا عباد الله، واعلموا أن الله جل وعلا لا يعجزه شيء، وأن نصره لا يتخلف عن جنوده المؤمنين، فالله جل وعلا وعدهم بالنصر بقوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(188/5)
السنة في صيام عاشوراء
معاشر المؤمنين: هذا اليوم العظيم الذي وقع فيه ذلك الحدث في اليوم العاشر من شهر محرم، وهو يوم عاشوراء، قد صامه موسى شكراً لله عز وجل، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومونه، فقال لهم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى وأولى بموسى منكم فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه) رواه البخاري ومسلم.
ويستحب صيام يوم قبله، أو بعده لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام عاشوراء، قيل له: إن اليهود والنصارى يعظمون هذا اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان العام المقبل، صمنا اليوم العاشر والتاسع إن شاء الله)، وفي مسند أحمد رضي الله عنه وأرضاه: (صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده).
وصيام هذا اليوم بساعاته القليلة، بلحظاته المحدودة فيه أجر عظيم، فلقد روى الإمام مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (يكفر السنة الماضية) فمن يبخل على نفسه بتبييض صفحاته، وتبييض صحائف أعماله؟ من يبخل على نفسه أن يعود سجل أعماله أبيض باستهلال عام جديد، وبداية عام مشرق، أن يكون بذلك اليوم الذي يصومه قد كفر صغائر الذنوب والسيئات التي اقترفها في العام الماضي، وليعلم العباد أن صيام يوم عاشوراء يكفر الصغائر من الذنوب، أما الكبائر- مع فضل الله وسعة رحمته- فإنها تحتاج إلى توبة.
عباد الله: لو تأملنا يوم عاشوراء، لوجدنا الناس على مذاهب شتى فيه، أما الرافضة -عليهم من الله ما يستحقون- فهم يقضون ليلته ضرباً في أبدانهم، وجلداً بالسياط على أنفسهم، ما هذا الذي يفعلونه؟! وأي شريعة شرعت لهم ذلك؟ إنما هو من ذوات أنفسهم، فهم يتقربون إلى الله بغير ما شرع، فإن ذلك مردود عليهم، وإن كانوا يعدونه عملاً صالحاً، فسيجدونه هباءً منثوراً.
عجباً لأولئك الذين يبكون ويتباكون، يضربون أنفسهم لمقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن صحابة نبيه أجمعين، يقول أحد الصحابة: [عجباً لكم يا أهل العراق تقتلون الحسين، وتبكون ليلة قتله!] وجاء إلى ابن عمر رجل يسأله عن دم البعوضة إذا وقع على الثوب هل ينجسه، قال: ويحكم ألا ينجسكم دم الحسين وتسألون عن دم البعوضة ونجاسته.
إن أولئك الذين يعظمون هذا اليوم بأمور لم يشرعها الله، ولم يسنها رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هم في ضلال ووبال عظيم، فالحمد لله الذي هدانا وقد ضل كثيرٌ من العالمين، واليهود وغيرهم فيمن يتمسك منهم قد يعظمون هذا اليوم، ولكن هذا اليوم بدليله وببقائه وثباته لدليل وشاهد على تكذيبهم وتحريفهم، إذ أن الشرائع جاءت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلِمَ لا يؤمنون؟ وإذا كانوا يقولون إنهم على دين موسى، فدين موسى هو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما وجد في يد عمر بن الخطاب قطعة من التوراة مكتوباً في ورق، غضب وقال: (والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) فيا عجباً من أولئك المصرين على العناد والإلحاد، فالحمد لله الذي فضلنا على كثيرٍ من خلقه تفضيلاً، وهدانا إلى أمورٍ ضل عنها كثيرٌ من العالمين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(188/6)
درس للدعاة من قصة موسى عليه السلام
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] كل ذلك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
عباد الله: إن المتأمل لقصة موسى مع فرعون، إن المتأمل لقصة نبي الله الكليم مع فرعون الطاغية الجبار الأثيم، ليرى فيها دروساً ومواعظ وعبراً للدعاة، الذين يتأملون ويستذكرون ويعلمون أن الله جل وعلا يوم أن شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وشرف العباد بالدين الحنيف، وأكرمهم بالدعوة إليه, والمجاهدة والصبر على الأذى فيه، يعلمون أن في هذه القصة أملاً يرتجى، وبشارة عظيمة للذين يدعون إلى الله على بصيرة، ذلك أن الله جل وعلا يسخر الأمور ويدبرها حينما يجد دعاة صادقين ربانيين متجردين عن المطامع والأهواء والشهوات.
وإننا لنعجب عجباً عظيماً يوم أن كان الطاغية فرعون يبحث عن أبناء بني إسرائيل يقتلهم، وتقدر مشيئة الله جل وعلا أن ينشأ النبي في قعر بيت فرعون، أعجوبةٌ عظيمةٌ ذلك الذي رآه فرعون في منامه، وسمع به، وترددت الأقاويل في زمانه أن ذلك الغلام الذي سيخرج، وسيكون على يده هلاك ملك مصر وملكها، ينشأ ذلك الغلام في بيت فرعون، ويتغذى في بيته، ويترعرع في داره، ويستظل بسماء قصره، ومع ذلك يكرمه الله جل وعلا بالنبوة والرسالة، وهل بعد حفظ الله حفظ؟ يوم أن يوحي إلى أمه {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه:39] أي شيء بعد الهلاك في البحار، بعد الأمواج المتلاطمة، ومع ذلك يحفظه الله جل وعلا بهذا التابوت، ويذهب به بقدر الله ومشيئته إلى بيت الطاغية، ويتربى وينشأ فيه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمانُ
اتق الله يا بن آدم، ونم في أي مكان شئت بين السماء والأرض، من يحفظه الله فلن يتعرض له أحد بسوء.
هذه معجزةٌ ربانيةٌ من الله، ودرسٌ للدعاة، إذ مهما عظم الباطل، وعلا هديره، فإن الله جل وعلا لا بد أن يجعل هذا الباطل جفاء، ويبقى ما ينفع الناس، فالله جل وعلا قد ضرب ذلك مثلاً وعبرةً للدعاة المؤمنين الصادقين ألا يخافوا، وألا يهابوا من كيد الجبابرة والطواغيت، وأنتم الآن يا عباد الله ترون في معظم أصقاع المعمورة أن المسلمين يعذبون، وأن المسلمين يقتلون، وأن الدعاة يعذبون ويشردون وينفون ويطردون، ومع ذلك فإن الله جل وعلا ناصر دينه، أما كيد البشر، فهو كيد ضعيف لا يستطيعون بجميع ما أوتوا أن يصلوا إلى قلب مؤمن في إيمانه ويقينه، يقول أحدهم يوم أن عذبوه وجلدوه، لما أن أكرهوه على الفواحش، وأرادوا به كل سوء ومكروه، لا لشيء إلا لأنه دعا إلى الله على بصيرة، قال:
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ برُّ يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكينِ
لن تستطيع حصار فكري ساعةً أو رد إيماني وصد يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني
إن من استقام على دينٍ صحيح ودعوة إلى الله صادقة متجردة عن الأهواء والمطامع والشهوات، لا بد أن ينصره الله جل وعلا كما نصر موسى، ونصر الأنبياء، وأهلك أعداء الأنبياء بالريح العقيم، والضفادع والطوفان، والجراد والقمل والدم، آيات الله جل وعلا وجنوده لا يعلمها إلا هو {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ولكن أين المؤمنون؟ أين الدعاة الصادقون الذين من أجلهم تخرق العادات، وتتخلف القوانين ويحقق الله على أيديهم النصر العظيم؟ نسأل الله جل وعلا أن يكون إشراق نور الإسلام من جديد في أرض المعمورة من قلب هذه البلاد التي أشرقت فيها أنوار النبوة، ولمعت فيها بروق تجديد العقيدة، نسأل الله جل وعلا أن يعود لها هذا العز دائماً أبداً، وأن يحفظها من كل سوء ومكروه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بولاة أمورنا سوءاً، وأراد بعلمائنا فتنةً، وأراد بشبابنا ضلالاً، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا واعف عنا واغفر لنا وارحمنا.
اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا أيماً إلا زوجته، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق إمام المسلمين لما تحب وترضى، اللهم قرب له من علمت به خيراً له ولأمته، وأبعد واطرد عنه من علمت به شراً له ولأمته، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم وسع لهم في قبورهم، اللهم افسح لهم مد أبصارهم، اللهم افتح لهم أبواباً إلى الجنان والنعيم.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(188/7)
لقد كان في قصصهم عبرة [3]
استعرض الشيخ شيئاً من المواقف بين يوسف وإخوته من جهة، وبين يوسف والملك من جهة أخرى عندما مكنه من خزائن الأرض، وأوضح الشيخ في ثنايا الكلام عِظم أخلاق هذا النبي الكريم في تعامله مع إخوانه رغم ما فعلوا به، ثم أنهى خطبته ببعض الفوائد من هذه القصة.(189/1)
بداية تمكين الله ليوسف في الأرض
الحمد لله، الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه، وعن المثيل، وعن الند، وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بلَّغ دين ربه أتم البلاغ، وأوصل رسالة ربه أتم الإبلاغ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المؤمنين: أرسل الملك رسولاً في طلب يوسف وإخراجه من السجن، فلما جاء الرسول إلى يوسف وأخبره بذلك، وبشره بالخروج، قال: لن أخرج حتى ترجع أيها الرسول إلى الملك، ثم تسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ يريد يوسف بذلك أن يتحقق الملك ورعيته من نزاهة عرضه وبراءة ساحته فيما ينسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأخرجت يوسف عليهن، فقال الملك: ما خطبكن وشأنكن إذ راودتن يوسف عن نفسه يوم أن أخرج عليكن؟ فقلن: حاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وما هو بمتهم، وعند ذلك ظهر وتحقق ما أرداه يوسف من إعلان براءته على لسان من كاد به، ونطقت امرأة العزيز قائلة: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51] أي: يوم أن قال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26] وتقول امرأة العزيز: وأعترف بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في فعل فاحشة، وإنما راودته مراودة فامتنع، ولست أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من عصم الله ورحمه، وهذا القول هو الأشهر والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام.
وبعد أن تحقق الملك براءة يوسف عليه السلام، ونزاهة عرضه فيما نسب إليه، قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، وأجعله من خاصتي وأهل مشورتي، فلما كلمه الملك وعرف فضله وعلمه وبراعته، قال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] أي: لك عندنا مكانة وأمانة، فقال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].(189/2)
قصة يوسف مع إخوته
ثم مكن الله ليوسف في أرض مصر بعد أن جعل على خزائنها يتبوأ ويتصرف ويتنقل فيها حيث شاء بعد ذلك الحصر والحبس والضيق رحمةً له من الله جزاء ما صبر عليه من الأذى من إخوته، والحبس من امرأة العزيز، وليس جزاء الصبر والاحتساب هذا العز والتمكين فحسب، بل إن له في الآخرة أعظم وأكثر من ذلك، وبعد مضي تلك السنين المخصبة وحلول السنين المجدبة عم القحط بلاد مصر بكاملها، ووصل إلى البلاد المجاورة حتى إلى أرض كنعان التي كان فيها يعقوب والد يوسف عليهما الصلاة والسلام، حينئذٍ احتاط يوسف عليه السلام للناس في غلاتهم، وورد عليه الناس من سائر البلدان يطلبون الميرة والقوت لأنفسهم وأولادهم، فكان إخوة يوسف من جملة من ورد إلى مصر حيث بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه، فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاماً، وركبوا عشرة نفر، وبقي يعقوب عليه السلام ومعه ابنه بنيامين شقيق يوسف، ولما وصل إخوة يوسف أرض مصر، جاءوا إليه فرأوه في أبهته ورياسته، فعرفهم يوسف، ولم يعرفوه لتغير حاله بعد أن فارقوه صغيراً، ولم يخطر على بالهم أن يصل أخوهم يوسف إلى ما وصل إليه مما رأوه من العزة والسيادة.(189/3)
قدوم إخوة يوسف إلى مصر لأخذ الميرة
الحاصل أنهم قدموا على يوسف وهم لا يعرفونه، وذكروا أنهم قدموا إليه للميرة، وأنهم إخوة عددهم اثني عشر، هلك أصغرهم في البرية، وبقي شقيقه عند أبيهم يعقوب ليتسلى به، ثم أمر يوسف بتجهيزهم وتوفية الكيل لهم، وحمل أحمالهم، ثم قال: ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم أنه عند أبيكم، ائتوني به لأعلم صدقكم فيما ذكرتم، ثم رغبهم في الرجوع إليه، واصطحاب أخيهم معهم قائلاً: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف:59] ثم رهبهم قائلاً: فإن لم تأتوني بأخيكم هذا، ولم تقدموا به معكم في المرة الثانية، فليس لكم عندي ميرة ولا تقربون، ثم همس يوسف لفتيانه وغلمانه قائلاً: اجعلوا بضاعتهم التي قدموا بها ليمتاروا عوضاً عنها، اجعلوها في رحالهم وأمتعتهم لعلهم يرجعون.
فلما رجع الإخوة إلى أبيهم، قالوا: يا أبانا منع منا الكيل بعد هذه المرة إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63] وسنرجع به إليك، فقال يعقوب عليه السلام: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:64] وهل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه يوسف من قبل، تغيبونه عني وتحولون بيني وبينه: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] بكبر سني وضعفي وحزني على يوسف.
ولما فتح إخوة يوسف متاعهم، وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، فقالوا: يا أبانا ما نبغي؟ أي: وماذا نريد بعد هذا؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا، وأتينا بالميرة إلى أهلنا، وزيد لنا في الكيل، وكل ذلك لنا إن أرسلت أخانا معنا، وسنحفظه ونزداد به حمل بعير، فقال يعقوب: لن أرسله معكم حتى تأتوني موثقاً من الله وتحلفون لتأتنني به إلا أن يحاط بكم وتغلبوا جميعاً، فلا تقدرون على تخليصه، فآتوه العهود والمواثيق، فأكدها يعقوب عليهم بقوله: {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] فوافق بعد ذلك على تجهيز بنيامين معهم، ثم أوصاهم، وقال: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] قال ابن عباس وغيره: [خشي عليهم العين؛ لما كانوا عليه من جمال الهيئة وحسن المنظر وبهاء الطلعة] ثم قال يعقوب: وما يغني هذا الاحتراز والاحتياط في رد قدر الله شيئاً.(189/4)
أسلوب أخذ يوسف لبنيامين
ولما دخل إخوة يوسف عليه ومعهم أخوهم بنيامين، أدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته، ثم خلا بأخيه وأخبره بشأنه، وما فعل إخوانه به، وقال له: لا تبتئس، ولا تأسف، أو تظهر جزعاً مما صنعوه بي، واكتمه عنهم، وتواطأ يوسف مع أخيه على حيلة يبقيه عنده معززاً مكرماً، فلما جهزهم وحمل أحمالهم، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية في متاع بنيامين، وهي إناء من فضة، وقيل: من ذهب يكيل للناس به.
فلما أوشكوا على الرحيل، أذن مؤذن ونادى مناد: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] فالتفت إخوة يوسف إلى المنادي، وقالوا: {مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف:71] قالوا: نفقد صواع الملك، وهي السقاية التي جعلها يوسف في رحل بنيامين، ولمن جاء بهذه الصواع حمل بعير، وتكفل المنادي بذلك قائلاً: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] فقال إخوة يوسف: ما جئنا هنا سارقين، ولا مفسدين، فقال الفتيان: فما جزاء السارق إن كان فيكم من أخذ صواع الملك؟ فقال إخوة يوسف: جزاء من وجد في رحله فهو جزاؤه، وكان في شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه، وهذا هو ما أراده يوسف عليه السلام، فبدءوا يفتشون أوعيتهم قبل وعاء بنيامين، كأنه لا يعرف من الذي سرق، إذ لو بدأ بتفتيش وعاء بنيامين قبلهم ووجدها فيه، لقال إخوة يوسف: هذا أمر قضي بليل، أو دبر بخفاء، فلما فتش الفتيان وعاء بنيامين وجدوا السقاية فيها، فأخذوا بنيامين منهم بحكم اعتقادهم وإلزامهم بما يعتقدونه، في أن من سرق يدفع إلى المسروق، فقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] يعنون يوسف عليه السلام يوم أن أخذ صنماً لجده أبي أمه فكسره، فأسرَّ يوسف في نفسه قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] ثم قال إخوة يوسف: يا أيها العزيز! إن له أباً شيخاً كبيراً يحبه حباً شديداً، خذ أحدنا مكانه، أو بدلاً منه إنا نراك من المحسنين المنصفين، فقال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:79].
فعند ذلك يئس إخوة يوسف من تخليص أخيهم بنيامين، ثم انفردوا عن الناس يتناجون فيما بينهم، فقال كبيرهم وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر بدلاً من قتله: ألم تعلموا أنكم أعطيتم أباكم العهود والمواثيق من الله لتردن يوسف إليه، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم، ومن قبل ذلك تفريطكم في شقيقه يوسف، فلن أبرح هذه البلدة حتى يأذن لي أبي في الرجوع إليه راضياً عني، أو يحكم الله لي بأخذ أخي، ثم قال أخوهم الأكبر: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف:81] وإن كنت لم تصدقنا، اسأل القرية التي كنا فيها، والعير التي أقبلنا فيها، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به من سرقته.(189/5)
موقف يعقوب من أولاده في فقدهم لبنيامين
فلما جاءوا إلى أبيهم عليه السلام، قال لهم مثلما قال يوم أن جاءوا بدم كذب على قميص يوسف، قال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} [يوسف:83] إن الله عليم بحالي، حكيم في قضائه وقدره في أولادي، ثم تولى يعقوب وأعرض عنهم، وذكرته هذه الحادثة بفقده يوسف، فقال {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] ساكت حزين كئيب لا يشكو أمره إلى مخلوق، وهذا ملاحظ مشهود إذ قد يقع للإنسان من المصائب والآلام ما يجعله كئيباً ساكتاً لا ينطق بشيء من شدة حزنه وآلامه.
فقال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85] إن استمر بك هذا الحال، فقال يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] يريد بذلك تحقيق رؤيا يوسف وظهورها.
ثم التفت يعقوب إلى أبنائه وقال: اذهبوا وتحسسوا من يوسف وأخيه، لا تيأسوا من روح الله، فذهبوا إلى مصر، ودخلوا على يوسف، وقالوا له: يا أيها العزيز! مسنا وأهلنا الضر والجدب والقحط، وجئنا ببضاعة مزجاة، ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره وهو قليل، فأوف لنا الكيل، وتصدق علينا برد أخينا إلينا، واقبض هذه البضاعة المزجاة منا، إن الله يجزي المتصدقين، ولما ذكروا له ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام، وما أصاب والدهم من الحزن لفقد أولاده، رق قلب يوسف لهم، وقال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] فعرفوه عند ذلك، وقالوا: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] فقال إخوته: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:91] وإنا لمخطئون فيما فعلناه في حقك، فقال يوسف: لا تثريب ولا تأنيب ولا عتاب عليكم، ثم دعا لهم بقوله: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].(189/6)
مجيء يعقوب وأهله وبنيه إلى أرض مصر
ثم قال يوسف: اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على وجه والدي الذي عمي من كثرة البكاء يأت بصيراً، وائتوني بجميع بني يعقوب، ولما فصلت العير خارجة من أرض مصر، قال يعقوب وهو في بلاد كنعان، قال يعقوب لمن كان عنده من بنيه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] لولا أن تقولوا: إنك كبرت وهرمت.
فقالوا له: (تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] في حب يوسف لا تنساه ولا تصبر عنه، فلما أن جاء البشير الذي يحمل قميص يوسف، وكان هو بعينه الذي جاء بالقميص الذي لطخ بالدم الكذب، فألقى القميص على أبيه، عاد يعقوب بصيراً يرى ما حوله، ثم قال: ألم أقل لكم إني أعلم من الله أنه سيرده إلي.
فعند ذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:98] أرجأ الدعوة لهم بالمغفرة إلى وقت السحر، ثم تجهز يعقوب عليه السلام مع بنيه وأهله ورحل من بلاد كنعان إلى أرض مصر، ولما أخبر يوسف بقدومهم وقرب وصولهم، خرج لتلقيهم، وخرج الملك، وأمر أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب عليه السلام، فلما رآه أبوه وأمه وإخوته، خروا له سجداً، وكان السجود للكبير جائزاً في شريعتهم، لكن حرم في شريعة الإسلام.
ثم قال يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] لأنهم كانوا أهل ماشية وبادية {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف:100] إذا أراد أمراً قيض أسبابه ويسره وهو العليم بمصالح عباده، الحكيم في أفعاله وأقواله وقضائه وقدره، وبعد أن استقر يوسف بإخوانه ووالديه، سأل ربه مبتهلاً حسن الختام قائلاً: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(189/7)
بعض الدروس المستفادة من قصة يوسف
الحمد لله الواحد بلا شريك، القوي العزيز بلا نصير، والعليم بلا ظهير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
معاشر المؤمنين: لا شك أن هذه السورة العظيمة والقصص الكريم الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قد احتوى جملةً من الدروس والعظات والعبر والفوائد التي لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى، وإن تعرضنا لشيء منها فما أوتينا من العلم إلا قليلاً.
لقد اشتمل هذا الطرف الذي ذكرناه في آخر قصة يوسف على جملة من الدروس من أهمها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من الصفات الكاملة من العلم وغيره إذا كان في ذلك مصلحة، وسلم من الكذب، ولم يقصد به الرياء، لقول يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
- ومن الفوائد أيضاً: أن الولاية لا تذم إذا كان المتولي لها يقوم بما يقدر عليه من إقامة الشرع وإيصال الحقوق إلى أهلها، ولا بأس بطلب الولاية إذا علم الإنسان أنه أهل لها، وأعظم كفاءة من غيره.
- ومنها: أن جباية الأرزاق إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحق بهم فلا بأس بذلك، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة في السنين المخصبات للاستعداد به للسنين المجدبات، وقد حصل بذلك خير عظيم.
- ومنها: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم، فإن يعقوب قال لأولاده: (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64] وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف:18].
- ومنها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين وغيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها غير ممنوع، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء الله وقدره، والأسباب من القضاء والقدر، وذلك من قول يعقوب: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67].
- ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره بأمر لا يحب بيانه أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف حينما ألقى الصواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه ليوهم أنه سارق، وليس في ذلك تصريح بالسرقة، وإنما استعمل المعاريض، ومثل هذا قوله: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:79] ولم يقل: سرق متاعنا.
ومنها: أنه لا يجوز للمسلم أن يشهد إلا بما علمه وتحققه برؤية، أو سماع لقولهم: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81].
ومنها: أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، وذلك في قول يعقوب لما اشتد عليه ألم فراق يوسف، وتلاه فراق بنيامين، وابيضت عيناه من الحزن، فقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86].
ومنها: أن قرب الفرج مع شدة الكرب، فإنه لما تراكمت الشدائد، وتنوعت المصائب على يعقوب، رجع إلى فارج الهم كاشف الغم مجيب دعوة المضطرين، وهذه عوائده الجميلة خصوصاً لأوليائه وأصفيائه ليكون لذلك الوقع الأكبر والمحل الأعظم، وليجعل من المعرفة بالله والمحبة له ما يعادل ويرجح بما جرى على العبد بلا نسبة.
ومنها: جواز إخبار العبد بما يجد، وما هو فيه من فقر أو مرض، أو غيرهما على غير وجه التسخط، لقول يعقوب: ((يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)) [يوسف: 84] وقول إخوة يوسف: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88].
ومنها: فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خير في الدنيا والآخرة من آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة المتقين أحسن العواقب لقوله تعالى: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلح دائماً على ربه في تثبيت إيمانه، وأن يحسن له الخاتمة لقول يوسف وهو نبي كريم: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
ومنها: ما ورد في هذه السورة من الأصل الدال على مشروعية الجعالة والكفالة في قول يوسف: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف:72] فهذه هي الجعالة، وقوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] فهذا دليل على مشروعية الكفالة.
معاشر المؤمنين: كتاب الله جل وعلا مليء بالفوائد والآيات والعظات والعبر، ولكننا نخشى أن نكون قد وقع فينا قول الله سبحانه وتعالى على لسان النبي: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
إن كتاب الله جل وعلا لمليء بالآيات والعظات والعبر:
وإن كتاب الله أوثق شافع وأغنى غناءٍ واسعاً متفضلاً
إن كتاب الله جل وعلا فيه دواء القلوب، وفيه دواء الأمراض، وفيه الفوائد، وفيه كل شيء من القصص التي ذكرها الله لنبيه، ذكرها لكي يطيب نفسه، وذكرها لكي يهون عليه ما رآه من قومه حينما يذكر قصص الأقوام السالفين مع أنبيائهم، وما يلقى النبي من إخوانه، وما يلقى النبي من أقرب الأقربين إليه، يكون في ذلك شيء عظيم في تطييب نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وتهوين ما يلقاه من قومه.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم لكتاب الله من التالين المتدبرين، وأن يجعلنا في فوائده ودروسه من المستفيدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرد بولاة أمرنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشباب المسلمين سوءاً، وأراد نساءهم باختلاط أو تبرج أو سفور، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره، اللهم أدر عليه دائرة السوء.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم ارزقه بطانة صالحة، وجنبه بطانة السوء، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه، اللهم قرب لهم من علمت فيه خيراً لهم، وأبعد عنهم من علمت فيه شراً لهم ولأمتهم.
اللهم توفنا على الإسلام شهداء، وأحينا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم إنا نسألك توبة وإنابة قبل الموت، وراحة وشهادة للوحدانية عند الموت، ولذة ونعيماً في القبور بعد الموت.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا غائباً إلا رددته، ولا باغياً إلا قطعته برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا على حوض نبينا واردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، اللهم بيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين.
اللهم أدخلنا الجنة بسلام آمنين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، اللهم اغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم يا عظيم السماوات والأرض! اللهم يا جبار السماوات والأرض! اللهم إنا نسألك أن ترينا عجائب قدرتك في الشعوبيين الفرس، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم اجزهم شر ما تجزي به طاغياً في طغيانه، ومتكبراً في كبره، وفاسقاً في فسقه، ومجرماً في إجرامه، وطاغوتاً في طغيانه بقوتك وقدرتك يا قيوم السماء والأرض! فإنهم لا يؤمنون بكتابك، ويسبون صحابة نبيك، ويخونون ملائكتك المطهرين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عجل زوالهم، اللهم عجل زوالهم، اللهم عجل زوالهم، اللهم أشعل الفتنة بينهم، اللهم أهلك بعضهم ببعض، اللهم اهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمد من بينهم سالمين، اللهم عجل زوالهم، ربنا إنك لا يعجزك شيء، ربنا يا من أمرك بين الكاف والنون، اللهم إنهم لا يرون لمسلم حرمة، ولا يرون لمسلم ذمة، ولا يرون لكتابك قدراً، اللهم عجل زوالهم، اللهم عجل زوالهم، اللهم عجل هلكتهم، اللهم أرنا هلكتهم على رءوس الخلائق بقدرتك يا جبار السماوات والأرض! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعو(189/8)
ماذا أعددنا لاستقبال رمضان؟
رمضان موسم عظيم للطاعات، وتكثير الحسنات وتكفير السيئات، وتزداد أهمية الوقت في رمضان بشكل كبير لتعدد الطاعات وزيادة الأجور، لكن هناك من الناس من يتذمر لقدومه، فحاله فيه حال الغافل اللاهي الأكثر بعداً عن طاعة الله.
وفي هذه الخطبة بيان لفضل شهر رمضان وأحوال الناس فيه، إضافة إلى ذكر بعض المحاذير التي يقع فيها كثير من الناس في رمضان.(190/1)
فضل شهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها صيام هذا الشهر الكريم، فصومه ركن من أركان الدين.
أيها الأحبة: لم تبق إلا أيام قليلة، ويهل علينا بهلاله، ونسعد بإطلاله، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن أُكرم ببلوغه والعمل فيه، والتمام له والقبول، فذلك شهر عظيم، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيها أبواب النيران، وتسلسل الشياطين، ذلك شهر كله مدرسة عظيمة، منذ تربت فيه الأجيال بأمر الله عز وجل بصيامه إلى يومنا الحاضر، بل وإلى أن تقوم الساعة.
ولكن الناس في هذا الزمان بين مد وجزر في استفادتهم من هذا الشهر العظيم، والأمر في استفادة الناس ليس إلى الشهر، فالشهر يبلغ بقدر الله عز وجل، ويحل بأمر الله عز وجل، ولكن الأمر إلى الناس، فمن زكى نفسه وجاهدها؛ فقد أفاد من هذا الشهر خيراً عظيماً، ومن دساها وأتبعها هواها، وتمنى على الله الأماني؛ فقد خسر خسراناً عظيماً، إذاً فالأمر فينا وليس في الشهر.
من كتب الله له أن يدرك هذا الشهر؛ فهو مدركه لا محالة، ولكن الذين يدركون الشهر تتباين نتائجهم في ختامه، فمنهم الرابح فيه، ومنهم الناجح، ومنهم الفائز فوزاً عظيماً، ومنهم الخاسر خسراناً مبيناً.
إنه شهر الصبر واليقين، وبذلك تُنال الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] ففيه عبادة الصوم، وهي عبادة جليلة، يقول الله عز وجل فيها في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) رواه البخاري ومسلم.
أيها الأحبة: إن إدراك هذا الشهر وصيامه سبب لتكفير الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة يستجن بها العبد من النار) أخرجه الإمام أحمد.
فمن كان مذنباً أو مفرطاً أو مضيعاً، فأدرك هذا الشهر، فيا هنيئاً له إذ بلغ شهراً يكون له جُنَّة ووقاية من عذاب الله، ويكون سبباً في تكفير ذنوبه، ومباعدة وجهه عن النار سبعين خريفاً، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) وهو حسنة من الحسنات، بل من أعظم الحسنات وأشرفها وأزكاها، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] أما الذين لا يتذكرون، أما الغافلون، أما اللاهون والجاهلون، أما الضائعون والسابحون في غفلاتهم ولهوهم، فليس لهم في ذلك حظ من الذكرى.
والله إنها لفرحة عظيمة، أن يهل علينا شهر يكون لنا جُنَّة من النار، وتكفر فيه ذنوبنا، وترفع فيه درجاتنا، وتفتح لنا فيه أبواب الجنة، وتغلق دوننا أبواب النيران، وتصفد وتسلسل الشياطين التي طالما تسلطت علينا وأغرتنا بالمعاصي وأغرت المعاصي بنا.
يقول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة) رواه البخاري ومسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم.
فمن ودع الشهر الماضي في العام الماضي، ثم استقبل هذا الشهر في هذا العام، وقد سلم من الكبائر، فهي بشارة له وهدية وتحية، نقول له: قد كفرت ذنوبك كلها، ومحيت سيئاتك وأنت تستقبل صفحة جديدة بيضاء نقية.
إن من صام هذا الشهر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، فالصالحون في هذه الأمة يحرصون على الخير، وكانوا أحرص الناس عليه، لذا تراهم قبل دخول الشهر يراجعون أنفسهم قبل أن يراجعوا خزائن الطعام، ويستعدون بأرواحهم قبل أن يستعدوا لأصناف المآكل والمشارب، ويزكون أفئدتهم قبل أن يقلبوا النظر فيما يأكلون ويشربون.
إن من أقبل عليه هذا الشهر فقدم عليه وهو في اشتياق ولهفة وحنين إليه، حنين إلى الصوم حنين إلى القيام حنين إلى التهجد حنين إلى الركوع والسجود والوقوف بين يدي الله عز وجل رجاءً ورغبة، عسى أن يغفر الله لنا ولهم كل ما سلف من الذنوب، وعسى أن نكون في عداد العتقاء من النار، فأولئك تراهم يفرحون فرحاً عظيماً لا يقارن بفرحهم سواءً كان بزوجة حسناء، أو بولد يولد، أو بمال يوهب، أو بشيء من حطام الدنيا.(190/2)
حال كثير من الناس مع قدوم رمضان
إن كثيراً من الناس يقدم عليهم الشهر فيستسلمون للأمر الواقع، غير فرحين بقدومه، غير آبهين بإهلاله، غير سعداء بإطلاله، فأولئك نخشى عليهم أن يكونوا ممن قال الله عز وجل فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
إن من لم يأبه بهذا الشهر ويفرح به، وحصل في نفسه ضد ذلك، وهو الألم من انقطاعه عن الملذات والمآكل والمشارب، وألمه في أنه سوف يترك كثيراً مما تعوده من أوهامه التي ينسجها بقدوم الشهر، فهذا على خطرٍ عظيم أن يحبط عمله، وأن يرد صيامه ولو صام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن كثيراً من الناس اليوم مما تأسف له القلوب حزناً، وتزداد النفوس في أحوالهم ألماً وحسرة، أن ترى بعضهم إذا قدم رمضان كأنهم في ضيق وشدة، وكأن الشهر ضيف ثقيل، ينوء بكلكله عليهم، فيقطع عنهم لذاتهم، فتراهم تتحشرج أرواحهم في صدورهم لم كل هذا؟! لأن رمضان في نظرهم يحجب عنهم ما تعودوه من الذهاب والإياب، والسعي الدءوب، والكدح الذي لا يعرف الملل، في أمور قد فرغت وقسمها الله عز وجل.
هذا في المباح فضلاً عما يقترفه بعضهم من الملذات الوهمية المحرمة، فترى الذين تعودوا الخمر والفساد، وتعودوا الخنا والزنا، وتعودوا المعاصي والآثام، يعدون الساعات والأيام، يعدون عداً تنازلياً متى ينقضي هذا الشهر، ويفرحون بانقضاء أيامه ولياليه، فهم على مرور أيام السنة ولياليها غارقون في الملذات والشهوات والمباحات والمحرمات، فإذا أتى رمضان في نظرهم، حرمهم من هذا ومن غيره، ورأوا أنه يقيدهم يقطعهم عما كانوا يشتهونه.
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن لذاتها يا ذبحها المتناهي
عباد الله: لأجل ذا كان من واجبنا أن نتميز عن استقبال الغافلين للشهر، وأن نتميز عن استقبال اللاهين للشهر بأن نستقبله بكل فرح، وبكل شكر ودعاء، وبكل خضوع وسعادة أن بلَّغنا الله هذا الشهر، وكم من نفس تدفن في ليلة حلوله! وكم من نفس تبلغ أوله ولا تدرك آخره! وكم من نفس أعدت الطعام والمتاع لبلوغه ولأجل صيامه وقيامه! فكان الطعام لورثتها من بعدها، وأما هي فلم تدرك منها شيئاً.(190/3)
ضياع الأوقات في رمضان
عباد الله: إن بعض المسلمين هداهم الله إذا جاء رمضان بحثوا يقلبون وينظرون ويفكرون كيف يضيعون الأوقات في هذا الشهر العظيم، وإن قضية الزمن ليست من مصائب الغافلين وحدهم في هذا الشهر، بل هي قضية ومصيبة الأمة.
إن التفنن الذي تعيشه أمتنا في تضييع أوقاتها على الصعيد العام والخاص؛ أدى بأن يمضي العالم وأن يسبقنا إلى المستقبل، وصرنا أيتاماً للتاريخ، وصرنا أشباحاً وأوهاماً وأطلالاً للتاريخ، ذلك بتضييعنا الأوقات عامة، والأوقات في شهر رمضان خاصة.
فإن لم يتحول إلى فن في استغلال الأوقات واغتنامها، وإعمارها على الوجه الصحيح، فسنبقى أمة في دبر الزمان وفي ذيل القافلة.
أيها الأحبة في الله: كم نغبن غبناً عظيماً في ضياع الأيام والليالي والشهور والأعوام دون أن نستفيد منها، فما بالك بأشد الغبن حينما تمر مواسم التجارة وفرص الربح العظيم، ثم تولي ولم نأبه ولم نستفد منها، وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
فكم غبنا في أشهر ماضية، وكم غبنا في ليالٍ عديدة وأيام مديدة، ضاعت فيها فرص لنا فيها قدرة أن نبلغ أعلى الدرجات، وأن نسابق الأمم إلى مدارج الرقي والكمال، ولكننا ضيعنا تلك الغنائم التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالعناية بها إذ قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) رواه الحاكم وصححه.
نعم أيها الأحبة: كم ضاع من أيامنا في طوال أيام السنة ولياليها؟ وكم ضاعت منا الفرص في عشر ذي الحجة، وفي شهر رمضان، وفي الهجيع الأخير من الليل، وفي ساعات الإجابة يوم الجمع، وفي مناسبات عديدة نستطيع أن ندرك بها أجوراً وثواب أيام وليالٍ عديدة؟ ولكن لغفلتنا واشتغالنا وضياع أوقاتنا بما يضرنا فرطنا وضيعنا وأصبحنا من المغبونين: الحذر الحذر -أيها الأحبة- من أن تلهينا الدنيا عن العمل للآخرة في زمن شريف كهذا الشهر العظيم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
ففي الآية تحريض ودعوة وترغيب إلى المسارعة في اغتنام هذه الأوقات وعدم ضياعها، أو الاشتغال بأمور قد قسمها الله ونحن أجنة في بطون أمهاتنا.
الحذر من أن تلهينا الدنيا، ثم نقبل ظالمين أنفسنا، ثم نصبح في غمرات الموت، أو نمسي نادمين على ما فرطنا من الليالي والأيام، إذ العاقل -أيها الأحبة- يتدارك أيامه وشريف الزمان قبل أن يقول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] قبل أن يقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] قبل أن يقال له: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
أين ضاعت الأعمار؟ وأين مضت الشهور؟ وأين ولت الدهور؟ وفيم قضيت الليالي والأيام؟
يا نفس كُفِّي فطول العمر في قصر وما أرى فيك للتوبيخ من أثر
يا نفس قضيت عمري في الذنوب وقد دنا الممات ولم أقض من الوطر
يا نفس غرك من دنياك زخرفها ولم تكوني بهول الموت تعتبري
يا نفس بالغت بالعصيان غاوية ولم تبالي بتحذير ومزدجر(190/4)
حال السمع والبصر واللسان في رمضان
العاقل -أيها الأحبة- يعصم سمعه ولسانه وبصره: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
فكم من رجل يدرك هذا الشهر، فيصوم بفمه عن الطعام والشراب، ولا يصوم لسانه عن القيل والقال، ولا يصوم عن الغيبة والنميمة، يتسحر ويفطر ليهدي أجر صومه إن ثبت له أجر الصوم، ليهديه إلى الذين يغتابهم، وإلى الذين يتكلم في أعراضهم، وكثير من الناس بهذا يقعون وفي هذا يشتغلون.
فالعاقل يعصم لسانه وبصره، فما أكثر الذين يصومون عن المأكل والمشرب والمنكح، ولكن آذانهم لا تصوم عن سماع اللهو، ولكن أعينهم لا تصوم عن النظر إلى الحرام! وتراهم حتى في شهر الصيام يشترون لهو الحديث، ويضلون أنفسهم، ويضلون من دونهم بغير علم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
إن كثيراً من الناس ربما تراه في نهار رمضان صائماً، ثم ينظر إلى قناة من القنوات، تلك التي يستقبلها جهاز الدش أو المستقبل، ثم يرى شيئاً يُستهزئ فيه بكلام الله، ويُستهزئ فيه بسنة رسول الله، ويسمع فيه ما يناقض العقيدة والشريعة، فتراه لا يزيد أن يقلِّب يداً على الأخرى، أو يضع رجلاً على رجل وقد نسي قول الله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء:140].
فما أكثر المسلمين اليوم الذين يرون عبر هذه القنوات أموراً فيها استهزاءً بآيات الله أو بشريعة الله أو بسنة رسول الله، ولكنهم لا يقومون ولا يتحركون ولا يتجافون أو يبرحون هذا المكان! وإنما تراهم على منكرهم يقعدون ويمكثون، فأولئك والله على خطر عظيم، أن ينالهم نفس الوزر الذي يناله الفاعلون؛ لأن من رضي وسكت وأقر فيما يسمع ويرى من غير أن يقوم وينكر بقلبه على الأقل؛ فربما كان وشيكاً أو حقيقاً بأن يدخل في هذا الوزر العظيم.
أما كثير من المسلمين الذين لا يتورعون عن سماع اللهو والغناء، سواءً في رمضان خاصة وفي غيره عامة، فنقول لهم: يا عباد الله! أبهذا يستقبل الشهر؟ أبهذا يتقضى العمر؟ أبهذا يقضي المسلم سحابة يومه؟ يسمع الأغاني الماجنة والأغنيات الخليعة والدندنة والطنطنة التي تشغل عن ذكر الله والتي تصد عن استماع كلام الله؟ ورحم الله القائل: فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حر أصبح بالغناء عبداً للصبيان والصبايا! وكم من غيور تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا! وكم من ذي غنىً وثروة أصبح بسبب اللهو على الأرض بعد المطارب والحشايا! وكم من معافى تعرض لهذا اللهو فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا! وكم أهدي للمشغوف من أشجان وأحزان فلم يجد بداً من قبول تلك الهدايا! وكم جرع من غصة! وأزال من نعمة! وجلب من نقمة! وذلك منه إحدى العطايا! وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة! نعم يا عباد الله! إن اللهو وسماعه، والحرام والنظر إليه، والمعصية والاشتغال بها، تورث ذلك كله، فالعاقل يصون صومه، ويصون جوارحه في صيامه: (فمن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).(190/5)
كيف نستقبل شهر رمضان
عباد الله: الواجب علينا أن نستقبل الشهر بترك الذنوب الواجب علينا أن نستقبل الشهر بالتوبة إلى الله عز وجل؛ إذ إن كثيراً من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، ولكنهم لم يفهموا هذا الأمر فهماً جيداً، فضيعوا أمر الله احتجاجاً برحمته، ووقعوا في الكبائر والفواحش احتجاجاً بلطفه، ونسوا أن الله شديد العقاب، كما أنه غفور رحيم، وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على عفو الله مع إصراره على معصية الله فهو كالمعاند.
قال بعض السلف: رجاءك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق.
وقال بعض الناس للحسن: نراك طويل البكاء، قال: [أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي].
فهذا الحسن البصري من العلماء العباد والزهاد والمحدثين، هذا عظيم خوفه وجليل إشفاقه من الله عز وجل، مع أنه لم يقترف من الذنوب ما اقترفه السفهاء، ولم يقع في المعاصي كما وقع فيه الأغبياء والجهلاء، بل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بُشر بالجنة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان إذا رأى في السماء لوناً أو تغيراً؛ تغيَّر وجهه واصفر لونه صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً).
وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر؛ ظهر صلى الله عليه وسلم من حجرته يجر رداءه خوفاً ووجلاً وإخباتاً وخشوعاً وخشيةً من الله عز وجل أن يحل بالخلق ما يحل بهم، فما بالنا نحن معاشر الذين جمعنا مع الذنوب أملاً عظيماً ومع التفريط رجاءً واسعاً؟ فنعوذ بالله أن نكون من الذين يقع فيهم أو يحل فيهم أمر الله وقوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
سأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد! كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تنقطع؟ فقال: [والله لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً، خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه -أي: يعطي العبد ما يحب- فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]).
فالعاقل -يا عباد الله- يحاسب نفسه وينتبه ويعد للأمر عدته، ويحذر أن تكون هذه المعاصي قد جعلت على قلبه طبقة من الران، فأصبح كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(190/6)
محاذير تقع في رمضان
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.(190/7)
الترف والإسراف
أيها الأحبة في الله: إن كثيراً من المسلمين هداهم الله، يقعون في محاذير ينبغي السلامة منها في هذا الشهر العظيم خاصة، فمن أهمها: الترف الذي يحصل والإسراف الذي يقع في المآكل والمشارب على موائد الإفطار والعشاء، فإن هذا شهر عبادة وليس شهر مهرجان للطعام والشراب، وليس شهر منافسات أو مسابقات لاختيار الأذواق والأطعمة، إنما هو شهر عبادة (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) وكثير من المسلمين يتفننون في هذه الأطعمة، إننا لا نحرم أن يطهي الإنسان ما يحب ويشتهي، ولكن نقول: الحذر الحذر من أن يبلغ الأمر إلى حد الإسراف والتبذير.
فكم من مسلم مر بزبالة فرأى فيها ألوان الطعام والشراب قد اختلطت بالنجاسات وغيرها، أفهذا من شكر نعم الله؟ أفهذا من حمد الله أن بلغنا الشهر، ونحن أعزة، وغيرنا في مذلة! ونحن في أمن وغيرنا في مخافة! ونحن في نعيم وغيرنا في مجاعة! ونحن في اجتماع وشمل وغيرنا في تفرق وتمزق! ونحن في منعة وغيرنا تتخطفهم السهام من كل جانب! {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
فيا عباد الله: الواجب علينا القصد في المعيشة كلها، لأن المقصود من الأكل عند الإنسان أن يكون الطعام والشراب بلغة إلى الآخرة ومعيناً على عبادة الله.
نعم إن الحيوان والبهيمة نهمته ورغبته إشباع غريزة الأكل التي خلقت فيه، ليسمن ثم ينحر ليأكله أهله وأصحابه.
أما الإنسان فما يأكل ليسمن كما تسمن البهائم، وإنما يأكل ويشرب من أجل أن يكون الطعام بلغة إلى طاعة الله عز وجل.
فينبغي أن نفهم المقاصد في كل ما شرع لنا، وفي كل ما أوتيناه من نعم الله عز وجل، والحذر الحذر من أن يكون همنا الرغبة في الدنيا بكل ما فيها.
إن طائفة من البشر لا هم لهم إلا الملذات ولا غير الشهوات ولا غير رغبات النفوس ولا غير شهوات النفوس ولا غير المهم اللذة في المأكل والمشرب والفراش والغدو والرواح المهم اللذة سواءً وافقت طاعة أو معصية وذلك من الإعراض عن رحمة الله ورجاء ما عند الله، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].
فنحن أيها الأحبة: نأكل ونرجو رحمة الله، ونشرب ونرجو رحمة الله، ونغدو ونروح نرجو رحمة الله، وننام ونستيقظ نرجو رحمة الله، ينبغي ألا يفارقنا رجاء لقاء الله، ورجاء رحمة الله عز وجل.(190/8)
التهاون في أمر السحور
إن من المحاذير التي ينبغي السلامة والحذر من الوقوع فيها من كل مسلم هو أن نعتني بأمر السحور؛ فإنه سنة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة).
إن في السحور بركة، هدية عظيمة وبركة عميمة، يقولها النبي صلى الله عليه وسلم، ينطق بها عن وحي يوحى، وما هو من الهوى.
وكثير من المسلمين اليوم جعلوا طعام منتصف الليل هو مائدة طويلة عريضة، ويجعلونها هي خاتمة المطاف ثم ينام الكثير نومة يدع فيها لقمة السحور، ولو أن المسلم تفطن لذلك؛ لوجد أن في اليقظة للسحور سر ومعنى وبركة، فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وليكون من الذين قال الله فيهم: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
أن تنال الشرف بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ نص أمره صلى الله عليه وسلم، مع ما ينالك من التسبيح والاستغفار في لحظات السحر لتكون من الذاكرين الله كثيراً، إن هذا أمر عظيم ينبغي أن ننتبه إليه.(190/9)
التهاون في صلاة التراويح
كذلك أيها الأحبة: الله الله في صلاة التراويح، فإن كثيراً من الناس لا يبرح أن يسلم التسليمة الثانية عن يساره بعد صلاة العشاء، ثم يطلق ساقيه للريح، يخشى أن يكون زبوناً قد سبقه أو سبق إلى دكان جاره، وكلها نصف ساعة، ما بين ركوع وسجود وقنوت وقيام، ينال فيها العبد إجابة دعوة، وتعظيماً وتسبيحاً، وقبولاً ورحمة، في ركوع وسجود ووتر وقنوت.
فالله الله لا تضيعوا صلاة التراويح، فقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الناس بصلاته، ثم صلاها وفعلوا مثل ذلك، ثم احتبس في بيته ولم يخرج لهم، فقالوا: يا رسول الله! هلا نفلتنا بقية شهرنا، فقال وهو الرءوف البر الرحيم بأمته: (خشيت أن تفرض عليكم) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
الرسول صلى الله عليه وسلم شرعها لنا وصلاها وصلى الصحابة بصلاته، ثم عاد إلى بيته يصليها خشية أن تفرض على الأمة، فيكون ذلك من المشقة، وما المشقة -أيها الأحبة- على القادر المستطيع عليها؟ إنها تشريع لكي نتسابق فيه، وإنها رحمة من النبي صلى الله عليه وسلم فقد خاف أن تفرض على الأمة.(190/10)
التسابق إلى المساجد على حساب الفريضة
ومن المحاذير التي يقع فيها كثير من الشباب والمسلمين هداهم الله، أنهم يتسابقون إلى المساجد يتذوقون الأصوات، ولا حرج ولا بأس، ويا حبذا الصوت الجميل بكلام الله عز وجل، ولكن ليس على حساب الفريضة.
تجد أناساً يقضون العشاء ويصلون العشاء وقد فاتتهم، وقد خرجوا من أماكن بعيدة، ليدركوا صلاة التراويح في مسجد من المساجد، فيضيعون الصلاة مع الجماعة.
الصلاة الصلاة يا عباد الله، فضل تكبيرة الإحرام مع الجماعة الأولى، وفضل إدراك الجماعة يعدل التراويح كلها، فلا تضيِّع أمراً جليلاً ولا تضيع أمراً فاضلاً بأمر مفضول، فالحذر من الوقوع في هذا الأمر.
كذلك أيها الأحبة: من الجميل جداً، والطيب جداً ما نراه في أن كثيراً من المسلمين قد جعلوا جوار كل مسجد مكاناً يفطر فيه الصائمون، خاصة إخواننا وأحبابنا العمال الذين يشتغلون بالعمل، والسعي لأجل لقمة العيش وهنيئاً لهم إنهم يمسون ويبيتون بإذن الله ورحمته مغفوراً لهم: (من أمسى كالاً من عمل يده، أمسى مغفوراً له).
فحقهم علينا -وإكرام المسلمين واجب- أن نعد لهم طعاماً وشراباً وعشاءً، لكي يأووا إلى هذه الأماكن، فيجدوا الرحمة والتكافل والمحبة والمودة والمؤاخاة بين المسلمين.
وإنها سنة حسنة قد انتشرت في كثير من المساجد، فينبغي لكل مسلم إذا رأى أن مسجدهم ليس حوله من هذا الأمر الحسن شيء؛ فعليه أن يدعو جماعته أن يعدوا تفطيراً لجائع وإكراماً لمسلم: (ومن فطر صائماً؛ فله مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئاً).
إن في تفطير الصائم -أيها الأحبة- وإطعام الطعام سبب لدخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).(190/11)
التساهل في الكلام والنظر إلى الحرام
أيها الأحبة: من كان يريد أن يتلذذ بكلام الله عز وجل، من كان يريد حلاوة القرآن في سمعه وحلاوة القرآن في قلبه؛ فعليه أن يترك فضول الكلام وفضول النظر.
إن بعض المسلمين هداهم الله تجده بعد أن قضى سحابة نهار طويل في النوم، وقام وقد فاتته الفريضة في الظهر والعصر، ثم يجلس أمام التلفاز ليشاهد أفلاماً ضاحكة ساخرة وسخيفة ومشاهداً ليست مما يليق بأمر شهر الصيام، ثم بعد ذلك يأوي إلى الصلاة يريد أن يبكي من آية الوعد والوعيد، يريد أن يخشع، هيهات هيهات! وأنى له الخشوع والبكاء! وهو حينما يريد أن يكبر ليدخل في الفريضة والتراويح، يعود الشريط بالذاكرة ليعرض أمام عينيه ما رآه عصر يومه، أو ظهر يومه، أو مغرب يومه، من أفلام ساخرة أو ضاحكة أو سخيفة.
إن العاقل إذا أراد أن يحتفظ ويتلذذ بالخشوع فعليه أن يغض طرفه، ويحفظ سمعه، ويحفظ لسانه.
اترك فضول الكلام؛ توفق إلى الحكمة، واترك فضول النظر؛ توفق إلى الخشوع.
فمن أراد الخشوع وكان يشكو قسوة القلب، ويرى الناس من حوله لصدورهم أزيز ونحيب وبكاء، وهو يرى قسوة لنفسه ولقلبه من بينهم، نقول: قلِّب الأمر في بصرك، وقلِّب الأمر في سمعك، فلعلك تنظر في هذه الأمور وهذه الملهيات مما يحجبك عن لذة الخشوع والإنابة والخضوع.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم عليك بمن سعى في إيذاء أوليائك، اللهم عليك بمن آذى المسلمين في كل مكان.
اللهم عليك بالصرب والروس واليهود، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك.
اللهم من صد عن دينك، اللهم من صد عن سنة نبيك، وصد عن صحابة نبيك، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم مزقه كل ممزق، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم اجعل كل ذلك في طاعتك يا رب العالمين.
اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في البوسنة والشيشان وفي كل مكان، واجمع شملهم في أفغانستان، وانصرهم في طاجكستان يا رب العالمين.
اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وظمأى فاسقهم، وحفاة فاحملهم، ومتفرقين فاجمع شملهم، اللهم أقم على الحق والشريعة دولتهم، اللهم انتقم لهم ممن ظلمهم، اللهم عجل بطشك بمن عاداهم يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولأمهاتنا وآبائنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم جاز الجميع بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وأعنا على قيامه وصيامه، اللهم حبب إلينا الطاعة فيه وفي كل شهر، اللهم بغِّض إلى نفوسنا المعصية فيه وفي كل شهر يا رب العالمين، واجعل حظنا منه القبول يا حي يا قيوم.
اللهم صلِّ على نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.(190/12)
ماذا يحدث على أرض الشيشان؟
إن لنا إخواناً في بلاد شتى يعانون الجوع والخوف والفقر، وينتظرون الموت في كل لحظة، ومن هذه البلدان الشيشان، وهي البلاد التي عانت الأمَرَّين من الروس الشيوعيين والنصارى الحاقدين الذين يريدون إبادة الإسلام وأهله، وقد قاموا بذلك مراراً وتكراراً، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر جنده ويخذل أعداءه ولو كره الكافرون.(191/1)
غمط المسلمين وحقوقهم
الحمد لله وحده لا شريك له، الحمد لله القائل: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] والقائل عز شأنه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] والصلاة والسلام على رسوله وسيد أنبيائه ورسله وخلقه، محمد بن عبد الله القائل: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) والقائل صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا).
أحمد الله سبحانه حمداً يليق بجلاله، وأثني عليه الخير كله، وأزكى الصلوات والتسليمات الطيبات المتتابعات، على نبي الرحمة وإمام الهدى.
ثم أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
معاشر المؤمنين: في هذا العصر تتكشف أقنعة الممثلين والمزورين، الذين يدعون الوقوف إلى جانب العدل والحرية، ولكن شرط انكشاف الحقيقة أن تكون القضية متعلقة بالمسلمين، فإن كان الأمر متعلقاً باليهود أو بالنصارى أو بأعداء المسلمين على أي ملة أو فرقة، وفي أي موقع وجهة، فلك أن ترى العدل والمساواة والحرية وحقوق الإنسان، وأما إذا تعلقت القضية بالمسلمين، الذين يقولون: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويشهدون أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ ستنكشف الحقيقة، ويظهر لك تزوير العدالة، وتعتيم الحقيقة، وتضليل المساواة، وهراء دعوى حقوق الإنسان.
أيها الأحبة: في هذه الفترة يقطع المسلمون بيقين أن الأعداء من اليهود والنصارى ومن تابعهم وشايعهم ووافقهم، لا يكفيهم من المسلمين ولا يرضيهم إلا أن يروا المسلمين قطعاناً مسخرة في أرض الكفر، مستعبدين لا يعترضون على جور، ولا يطالبون بحق {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
واسمحوا لي أن أنقلكم نقلة إلى أرض ملتهبة على سطح جليدي بارد، حيث الجمهوريات الإسلامية، وما أمرها عنكم بخفي، لقد طالبت جمهوريات المسلمين باستقلالها وطالب غيرهم، فنالت لتوانيا وغيرها، وكل جمهورية نصرانية أو ملحدة أو وثنية نالت استقلالها فوراً، وعلى ترحيب سريع ومبادرة واتفاق لم تطلق في سبيل ذلك طلقة، ولم يعجم لذلك فم، ولم يكتم في ذلك نفس، وإنما نال الكفار حقوقهم بمجرد الطلب، بل بالإشارة.
لقد طالبت جمهوريات المسلمين باستقلالها، بعد تهلهل الاتحاد السوفيتي وبعد سقوطه، وبقي الاتحاد الروسي فنال كل نصراني حقه، وتبوأ كل يهودي موقعة، بكل قناعة وعدالة ديمقراطية نسبية، لكن هذه الديمقراطية الفضفاضة لم تتسع للمسلمين، بل ضاقت جنباتها، وشرغ حلقها بنفس المسلمين وريقهم.
لقد ضاقت هذه الديمقراطية بحق أدنى مسلم، أو أصغر مسلم يريد أن يبني مسجداً يركع ويسجد لله فيه، وضاقت جنباتها على كل مسلم يلتمس مصحفاً يتدبر فيه كلام الله، أو يربي ولده على هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وضاقت جنباتها بكل المسلمين، أو بأي جماعة من المسلمين حينما يريدون أن يحكم حياتهم شريعة ربهم عز وجل.
ولا أخالكم الآن تفكرون إلا في قضية الشيشان والبوسنة والهرسك بالتبع، ويلحقها قضايا المسلمين الأخرى في كل مكان، لماذا يرفض الغربيون الكذب والخداع، وتظهر الفضائح في وكالات الإعلام الغربية لكل من خادع الشعوب الغربية؟ يرفض الغربيون الكذب والخداع في إطار مصالحهم، ويشنع إعلامهم وتنبح صحافتهم على كل من خدعهم، في استراتيجياتهم ومستقبل مصالحهم، لكن هذا الإعلام النابح لا يتردد عن أن يعتم عن الحقائق ويضلل المعلومات حينما تمت إلى المسلمين بأدنى صلة.(191/2)
شدة عداوة الروس للمسلمين
لقد أعلن الروس أنهم لا يعادون الإسلام والمسلمين، في وقت كانت الدبابات تسحق أطفال المسلمين، والمجنزرات تطوي أبدان العجائز والشيوخ بين جنباتها، والطائرات تقصف بيوتهم في أرجون وقروزني، ولم يكف الزعيم الروسي عن الدجل والكذب، مدعياً أنه أصدر أوامره بوقف القصف والزحف على الشيشان، في الوقت ذاته كانت المحطات الفضائية تبث مشاهد المذبحة والاجتياح الشرس.
قد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هي
لقد مرت الإبادة القيصرية والماركسية وقهرت المسلمين في أذربيجان وطاجكستان، بمساعدة الأرمن النصارى، والشيوعيين واليهود، وانتهت بسقوط الاتحاد السوفيتي، ولن يعي الأغبياء في الاتحاد الروسي تلك النهاية الناطقة بوحدانية الله وقدرته، حيث ظن المسلمون واستبعدوا سقوط الاتحاد السوفيتي، وظن الشيوعيون أن حصونهم وسلاح الدمار الشامل، وكل ما ادخروه لمواجهة حلف الأطلسي، ظنوا أن ذلك يمنعهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، ورأى المسلمون فيهم آية من أعظم الآيات.
سقطت الشيوعية بأيدي رجالها، وتحطم الصنم وهوى تمثال لينين، وبالت فوقه الكلاب والقطط، إن الاتحاد الروسي لم يع هذا الدرس، ولم يعتبر بتلك النهاية، فعاد يدعم الصرب المعتدين بالسلاح والجند جهاراً نهاراً، غير مبال بأي قرار دولي يحضر السلاح في المنطقة، وغير خاف على كل متتبع لأخبار المسلمين، أن آخر هدية قدمها الروس لإخوانهم الصرب أربعة آلاف عربة قطار، مملوءة بالذخائر والأسلحة والعتاد، ناهيك عن الطائرات التي نقلت الجند لأجل حصار بيهاتش، ونزعها من يد المسلمين بعد أن حررها المسلمون.
لم يقف أولئك الظلمة على هذا الحد، بل جندوا كل المرتزقة في حرب المسلمين في الشيشان، ومنذ أيام قليلة وقف العالم بأسره ليشاهد الفصل الأخير للنهاية الشيشانية، ظناً من الغرب ويقيناً من الروس، وجزعاً من المسلمين، أن الهجوم الشامل على الشيشان، والتعبئة العامة في مواجهة المسلمين لن تدع لهم بعد ذلك عيناً تطرف، ولن تدع لهم فرصة للمواجهة، سواء بضع ساعات، وكما يسمونها رقصة الديك أو حركة الانتحار.
ففوجئ الروس أن صوتاً إسلامياً صادقاً، ونزعة جهادية طالما اشتاقت لمواجهة الكافرين في ساحة من ساحات الجهاد، قد انبعثت بين ذرات الهواء ونسمات الأفئدة، وتحركت من تحت أنقاض المدن المقصوفة، وإذا بزعيم يخرج للحرب لابساً كفنه، والجيش من ورائه قد لبسوا الأكفان، وهذا هو الذي وقع قبل أيام على حدود قروزني العاصمة الشيشانية، خرج القائد متكفناً لا يريد إلا الموت، وخرج الجند وراءه بالأكفان، لا يريدون إلا الموت، مع تكبير يرجف الأرض رجفاً، ويدوي بين الجبال.
وإذا بكتيبة من عملة المجاهدين الصعبة الشباب العرب قد انضمت إليهم بين عشية وضحاها، تسللت ولاذت وتحركت من طاجكستان ومن البوسنة ومن كل أرض فيها نفوس أبية تتمنى الموت في سبيل الله، فراع هؤلاء الكفار ذلك التكبير والنشيد، نشيد الغرام والحب والشوق إلى الموت والشهادة في سبيل الله، يقول قائلهم ويرددون وراءه:
لبيك إسلام البطولة كلنا نفدي الحمى لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما
لبيك إن عطش اللواء سكب الشباب له الدماء
لبيك لبيك لبيك.
في هذه الأيام تقدم الروس إلى العاصمة الشيشانية، وكأنهم يرددون ما قاله أبو جهل يوم بدر: لنقاتلن محمداً وصحبه، فلنقتلهم ولننحرن الجزور بأرضهم، فتغني القيان، وتسقينا الخمر، وتسمع بنا العرب، فلا تزال تهابنا الدهر أبداً، خرج الروس إلى الشيشان ينفقون أموالاً {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] خرجوا بطراً ورئاء الناس، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولما تقدموا خطوات إلى العاصمة الشيشانية قروزني راعهم وهالهم جيش حداؤه التكبير، وأمنيته الشهادة، وحل بالروس ما لم يكن في حسبانهم، وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون.
حل بالروس مذبحة طالما اشتقناها لتشفى صدورنا -يا عباد الله- طالما اشتقنا في الكفار ذبحاً وقتلاً، ودماء ونزيفاً يشفي صدورنا من كل عرض اغتصب، ومن كل طفلة انتهكت، ومن كل امرأة تعاقب عليها الكفار في عفتها، ومن كل مسلم طردوه من بيته، وأحرقوا زرعه وسلبوا ماشيته، من كل شاب عفيف فعلت به الفاحشة، طالما اشتقنا إلى مذبحة، يشفي بها الله صدورنا وقلوبنا من هؤلاء الكفار.
حل بالروس مذبحة لن تبلغ وكالات الإعلام الدولية نصف وصفها بل ولا ربعها، ثم طفق المسلمون الشيشان مسحاً بالسوق والأعناق في رقاب الروس وأقدامهم، وانضمت كتائب العرب يرسلون من كل حدب إلى الشيشان، ورأى الروس نار المعركة فظنوا أنهم مواقعوها، ولم يجدوا عنها مصرفا، وفي تلك اللحظات يفيق الروس لحظة من سكر التسلط والقهر، ليسمعوا من يهودي يدعى كيسنجر قوله: إن المضي في هذا الهجوم قد يسقط الرئاسة الحالية.
ولو شاء لقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] إن المضي في هذا الهجوم يثير حفيظة المسلمين من جديد.
إن احتدام النار في جوف الثرى أمر يثير حفيظة البركان
ثم امتنع ستة من الجنرالات عن مواصلة المعركة، وتدخل خنزير نجس من الغرب لينصح الروس بعدم المضي في هذا الطريق، الذي يفجر الجهاد ويستثير حمية المسلمين كلهم، وربما اندلعت عدوى الجهاد إلى الأنقوش والقوقاز وإلى كل مكان، نصح ذلك الخنزير قومه وأولياءه بعدم المضي في هذا الطريق، الذي يفجر على الأرض موقعاً جديداً.
أيها المسلمون: بشروا القاتل بالقتل ولو بعد حين، لقد تفرج الطواغيت على رحلة الهروب وهم يضحكون، تفرجوا على رحلة الهروب من الجحيم إلى الموت، هروب العجائز والشيوخ والأطفال والنساء، ووقفوا يقهقهون على صور النائحات والثكالى على أبنائهم، تحت أنقاض المنازل بعد القصف، وما هي إلا أيام ثم دارت رحى الحرب من جديد.
وفي القتلى لأقوام حياة وفي الأسرى فدى لهم ورق
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(191/3)
الحث على الدعاء للمسلمين في الشيشان والبوسنة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها.
معاشر المؤمنين: قد يقول قائل: ليس الحدث بجديد، فلماذا تسوقه؟ فأجيبه: نسوق هذا الحدث حتى نبذل أقوى وأشد وأفتك سلاح نملكه وهو الدعاء {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
أسوق حدثاً ربما فيكم من هو أدرى به مني، من أجل أن نطالبكم ونناشدكم ونسألكم دعوة واحدة في كل سجدة لإخوانكم المسلمين في الشيشان وفي البوسنة وفي كل مكان، فلن تعدم الأمة من شخص تجاب دعوته، نسوق هذا الحدث حتى نزداد قناعة باليأس، ونزداد يقيناً بالتشاؤم من كل نظام لا يحكم بالإسلام.
فلا ترج السماحة من خبيث فما في النار لضمآن ماء
القلوب والتشاؤم ندعو إليه من كل نظام لا يحكم بالإسلام، فليس للإسلام والمسلمين رحمة ولا عدالة، ولو ادعى العدل والحرية {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران:119] تلك الأنظمة: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] تلك الأنظمة: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105] تلك الأنظمة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109].(191/4)
شتان بين الفريقين
نسوق هذه الحادثة لنعلم أن فجر المسلمين قادم، ولكن من أين؟ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] لنعلم أن فجر الإسلام قادم، وأن ساعة الصفر باتت وشيكة، وأن أمة الإسلام تتجاذبها سنن الله من كل جانب، حتى يلتقي الماء على أمر قد قدر، إن فجر الإسلام قادم، فقد يكون من مهبط الرسالة، وقد يكون من أرض الأعاجم، وقد يكون في أرض الزنج، وقد يكون في أفريقيا {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
وليس بين بلاد وبين الله نسب إلا بالتقوى، وشرفنا وعزنا وأمنيتنا أن نكون أهل هذا الشرف، قادة الركب وهداة الأمة ولكن {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ليست المسألة بالأماني وإنما هي لمن أمهرها أرواحاً وعقولاً وأموالاً ودماء، وإن نتولى أو ننكص على أعقابنا، أو نرجع القهقرى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
ونسوق هذه الحادثة، لنعلم أن الإسلام إذا دخل المعركة تغيرت الموازين واختلفت الحسابات.
إن المخططين العسكريين، والحسابات العسكرية، مبنية على تصور معركة بين فريقين أو فرق، كل فريق ينافح ويناضل ويقاتل من أجل الحياة، أما إذا دخل الإسلام المعركة، فإن الحسابات تتبدل وتتغير؛ لأنها حسابات لفريقين، أحدهما يتمنى الموت ويشتاق للشهادة، كما ودع الصحابة من خرجوا لغزو الروم، فقال أحدهم لـ عبد الله بن رواحة: ردكم الله سالمين، فقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
وضربة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جسدي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
الحسابات حينما يدخل الإسلام المعركة، فإنها بين فريقين: فريق يريد الحياة بنعيمها الزائل، وشبابها المنتهي بالهرم، وصحتها التي يعقبها السقم، وعزها الذي يكدره الذل، وغناها الذي يشوبه الفقر، في مواجهة فريق يدخل المعركة، وهو يريد جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يريد جنة فيها خلود ولا موت، يريد جنة لا يجدون فيها ظمأ ولا سقماً ولا ألماً ولا هرماً.
نسوق هذا هدية لكل شاب نشيده:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن أحن يومي شهيداً بفتية يصابون في فج من الأرض خائف
عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
أيها الأحبة في الله: إن الشيوعية ولت، وبقي أذنابها في أخاديد من الأرض، فسلط الله عليها من سلط حتى انتهت، إن الشيوعية أرض بلا سماء، ويوم بلا غد، إنها الشيوعية {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39]، إنها الشيوعية: سعي بلا غاية، وعمل بلا نتيجة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم يا ودود يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد! اللهم يا منزل الكتاب، ويا هازم الأحزاب، ويا منشئ السحاب، أسألك اللهم أن تنزل بأسك وبطشك وعقابك وعذابك وأليم بأسك بالصرب والروس واليهود ومن شايعهم، بقدرتك التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم أنزل بهم بأسك وعجل هلاكهم، اللهم أهلكهم بريح صرصر عاتية، وأهلكهم بالطاغية، ولا تجعل لهم باقية.
اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم غاية، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا قوي يا عزيز.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(191/5)
معاكسة البنات
أضحت معاكسة البنات عند كثير من الشباب الفارغين اللاهين، هي ما يقضون فيه وقت فراغهم، وكانت النتيجة هي أن ضحت الفتاة بعرضها وجلبت العار لأهلها.
فهذه الخطبة نصيحة إلى كل من تخاف العار وإلى كل من يخشى الخزي والشنار في الدنيا قبل الآخرة من أولياء الأمور، وهي نصيحة إلى كل شاب ما زال في قلبه خشية لله، ويعلم أنه موقوف مسئول بين يدي الله.(192/1)
أثر مشكلة المعاكسة على الطرفين
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: يا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالتقوى سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، واعلموا أن الاستفادة والاعتبار من تجارب المجتمعات السابقة والتأمل في واقع المجتمع اليوم لمن أهم الأمور التي تهدي الناس إلى الرشاد وتمنعهم من الزلل والضلال، إِنْ همْ جعلوا المقياس في نجاح تجربتهم وفشلها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(192/2)
السبب في انحراف الشباب إلى هذا الطريق
والذي نريد أن نصل إليه في هذا اليوم: أن نقف على مشكلة من مشاكلنا الاجتماعية والتي تعاني منها كثير من الأسر، أما المشكلة فهي معاكسة البنات والنساء في بيوتهن ومدارسهن وطرقاتهن، وأما الوسيلة المستخدمة في هذه المشكلة أو في تلك الجريمة فهي أجهزة الهاتف أو ما يسمى بالتلفون، والسيارات الملمعة التي قضى أصحابها ساعات طويلة تحت عجلاتها وحديدها تنظيفاً وتلميعاً ليتباهوا بها عند البنات والنساء حول المدارس والأسواق.
وأبطال هذه المشكلة -وليسوا أبطالاً بل هم أنذال إن لم يتوبوا إلى الله جل وعلا- هم بعض الشباب الفارغون الذين يعيشون عبئاً على كاهل المجتمع، من الذين يستهلكون ولا ينتجون، يأكلون ولا ينفعون، بأي عمل منضبط أو عمل منتظم يستفيدون ويفيدون به أمتهم ومجتمعهم، والكثير منهم قد اعتمد على جهد أبيه قليلاً كان أو كثيراً.
وأما ضحية هذه المشكلة فهي من الفتيات الجاهلات بسوء المصير، وخبث المؤامرة حينما يدخلن بداية الطريق في هذه المشكلة عن جرس الهاتف، أو التقاط رسالة رمي بها على سائق الأسرة أو أي سبيل آخر.(192/3)
بداية الوقوع في هذا الانحراف
معاشر الأحبة: لا شك أن الكثير منكم سمع بهذه المشكلة، وقد يكون البعض ممن طاله الأذى، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر وقد يلجأ البعض إلى إبعاد الهاتف من منزله طلباً للسلامة من هذا ثم يغلق على نفسه باباً من أسباب الراحة في الاتصال، وهذا ليس بحل جذري ناجح، بل الحل وصواب القول في هذه المشكلة يبدأ من المسئول عن الأسرة أباً كان أو أخاً أو ولياً ليجلس مع فتياته في بيته، وليبين لهن أن هذه المشكلة تبدأ من حب إشباع فضول النفس والانسياق مع رغباتها قليلاً؛ مما يجعل البنت لا تمانع الاستمرار في حديث هاتفي قصده المعاكسة، ومادته الحب العفن الذي تعلمه صاحبه من الأفلام والمسلسلات.
وكثيراً ما حدث لبعض الفتيات أن تبدي رغبتها في قطع هذا الحديث الهاتفي طالما أن المتصل أو أن الاتصال لا طائل من ورائه، ولا علاقة لهذا المتصل بالأسرة، فترونه يعاود الاتصال مرة وأخرى متوجلاً تلك الفتاة أن تكلمه وأن تسمع له ولو قليلاً ليقص عليها مشكلة خاصة أو ليبدي لها مشاعر كاذبة دنيئة لتقع في شباك علاقة هاتفية معه، وبعد مدة يسيرة لا يتردد في إبداء رغبته بمراسلتها وإعجابه بأفكارها وآرائها، وبهذا يكون قد سجل عبر جهاز التسجيل مكالمات هاتفية معها، وعبر رسائلها التي بخط يدها يكون في حوزته وثائق يهدد بها تلك البنت المسكينة حينما ترفض الخروج معه أو مواعدته خارج المنزل في السوق أو في أي مكان آخر.
وقد تكون تلك الفتاة غبية لدرجة تجعلها توافق على الخروج أو المقابلة خوفاً من التهديد لها بوسائل المواصلات وأشرطة الاتصال، وبعد ذلك تقع المسكينة في فخ الجريمة والفاحشة، وإن لم يكن ذلك فعلى أقل الأحوال أن يكون قد عبث بمشاعرها أياماً وليالي فتعيش مضطربة قلقة خوفاً من سوء مصير ما وقعت فيه.
بداية هذا الأمر جرس رنان مكالمة لطيفة أو صوت فيه تكسر وحسرة! وبعد أن نعلم فتياتنا هذا الدرس وأن المشكلة تقع من شباب عابثين لاهين ليسوا بأهل للأمانة والمسئولية مهما ألانوا القول وبذلوا الوعود بإنهاء حسم البداية الهاتفية بالزواج؛ لا سيما وأن كثيراً من العابثين يظهر لتلك المسكينة التي يخاطبها أنه من أسرة غنية، وقد يستعير سيارة أو يستأجرها لترى صدق ما يقول، وقد يكذب في مستوى وظيفته أو تعليمه ويدعي بما هو ليس بأهل له.
ثم إذا جاء وخطب البنت من أهلها وتحقق وليها بأنه ليس بكفء لابنته أو أخته ثم رده رداً جميلاً، انقلب صارخاً في وجهه: إني أحبها وهي تحبني، وبيني وبينها مكالمات ومراسلات، والوثائق موجودة بخط يدها، وأشرطة التسجيل بين يديك إن شئت أن تسمع صوتها وبعد ذلك يضطر الولي لتزويجها منه ليستر نفسه من هذه الفضيحة وخشية من العار، ثم تدفع تلك المسكينة ثمن جرأتها على الأدب والحياء وتعاليم الإسلام في ذلك لتكون زوجة لرجل عابث فاشل استطاع صيدها في شباك سماعة الهاتف أو التلفون.
وفي بعض الأحايين قد تكون معلومات هذا الشاب صحيحة فيما يقوله للبنت أو من يحدثها سراً عن أهلها بالهاتف، ولكن في نهاية المطاف إذا تقدم لخطبتها رفض وليها واعتذر لسبب من الأسباب -وما أكثر هذه الأسباب- وبعد ذلك يعيش الشاب كمجنون ليلى هراءً وسفهاً بما جنت يداه، وتعيش تلك الفتاة عذاب الضمير وحسرة البال، وبالأخص لو تقدم لخطبتها رجل آخر وقد وقر في قلبها حب أحد غيره، وقد تتزوج غيره والأول ما زال في خيالها وأحلامها.
إذاً فالتفتوا معاشر الآباء، والتفتوا معاشر الأولياء، ولا بأس بأخذ الحيطة والتوجس ريبة من المكالمات الطويلة أو انشغال الهاتف في منتصف الليل، ولو كانت بين فتاة وأخرى فقد تكون الفتاة الأخرى وسيطاً أو سمساراً بين الطرفين توقعهم في البلاء وترميهم بتوسطها إلى الشقاء.(192/4)
على من تقع مسئولية المشكلة
وأما الذين يؤذون بنات المسلمين في الأسواق التجارية وغيرها، فالمسئولية في هذا ذات شقين: المسئولية الأولى: على أولياء أولئك النساء: كيف يرضون بخروجهن متعطرات متبرجات بملابس رقيقة، وطريقة فاتنة، ومن رضي بهذا الوضع في خروج نسائه وبناته ولو كان معهن فلن يسلم من إثم من نظروا إليهن وقلبوا النظر في مفاتنهن ومحاسنهن.
والمسئولية الثانية على أنذال الجريمة الذين يتسابقون على مواقف السيارات قرب الأسواق، ويتجولون غادين رائحين متشبهين بالنساء في كلامهم وطريقة مشيهم، وإن كان رجال الأمن والهيئة ومن ولوا مراقبتهم بالمرصاد لمثل أولئك أعانهم الله وسدد خطاهم.
فالمسئولية معاشر الأحبة هي مسئولية الأولياء، ولسنا بحاجة إلى أن نذكر وقائع حدثت، ولسنا بحاجة إلى أن نبين أن بنت فلان من الناس وقعت ضحية مكالمة هاتفية، أو أن فلانة من الناس قد ارتبطت بحب انتهى إلى الزواج بشاب ما، وبعد ذلك قبل الدخول بها، وبعد العقد عليها في بيت أهلها وقبل الدخول بها وإعلان الزواج أخذها لينظر ما تشتهيه من مفارشها وملابسها، وإذ به يأوي بها شقة من شقق زوجاته وتصرفه هذا شرعي لا نقول إنه حرام لأنه قد عقد عليها وعقد الزوجة كافٍ بالخلوة بالمرأة ووطئها، ولكن المصيبة ما بعد ذلك يوم أن قضى وطره منها بعد أن أعيتها الحيلة منه وأجبرها بالقوة بعد ذلك ردها إلى أهلها وقال لأهلها لا أريد ابنتكم إن شئتم أن تردوا عليَّ مهري وإلا فهي معلقة في داركم، تلك أسرة مستورة مسكينة، أسرة في أمس الحاجة إلى الدينار والريال فجمع مهر ذلك الخبيث من المحسنين ورد عليه نتيجة هذا الحب الذي بدأ بمكالمة هاتفية.
لذا معاشر الأحباب! فإني أحذركم وأرغب منكم أن تحذروا بناتكم وفتياتكم ومن ولاكم الله مسئوليتهن، وأن تبينوا أن هذا خطر عظيم.(192/5)
تنبيه إلى كل غيور على فتياته
وينبغي معاشر الأحباب أن نلتفت إلى تربية بناتنا على الحياء منذ الصغر، والحياء شيء يسري في العروق وفي الدماء، ولا ينفع إيجاده في البنت بعد كبرها وبعد مضيها من العمر دهراً إن لم يكن ذلك الحياء زرع وغرس في نفسها منذ طفولتها، والآن فإن الكثير لا يبالي بحياء الفتاة في صغرها فترى الكثير يلبس ابنته ملابس قصيرة جداً تبدي ساقها وفخذها وإن كانت طفلة لا نقول: إن هذا مما تشتهيه النفوس ولكن نقول: إن هذه الفتاة تتربى في صغرها رويداً رويداً على هذا النوع من اللباس، فإذا كبرت لا ترى بأساً ولا ترى حرجاً لو بدا ساقها أو شيء من فخذها.
إذاً فانتبهوا لذلك يا عباد الله، واغرسوا الحياء في صغاركم وأطفالكم منذ الصغر، وعلموهم الستر والحياء في طفولتهم، وعلموا البنات خاصة أن يلجأن إلى البيوت، ولا تعودوهن كثرة الخروج بهن والاختلاط بغيرهن لأن الحياء شيء يسري في الدماء، ولأن الحياء أمر مهم، فإذا نزع الحياء فلا إيمان، ولا فائدة في امرأة لا حياء لها.
فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
والآخر يقول:
ربوا البنات على الفضيلة إنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
فالحياء تربية منذ الصغر، والحياء مسئولية على الأولياء والآباء، من استطاع أن ينجح في غرس هذا الزرع في بناته وأطفاله فإنه في مستقبل الأمر بإذن الله يجني شباباً وفتياتٍ صالحين وصالحات، ويرى منهم خيراً بفضل الله جل وعلا، وللجميع أسوة في نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان أشد حياءً من العذراء في خدرها صلى الله عليه وسلم بآبائنا هو وأمهاتنا.
فالحياء مسئولية علينا، وإن الكثير من الفتيات اللائي وقعن في شباك هذه السماعات إنما وقعن لجرأتهن على الحياء، وإنما وقعن غريزة حب استطلاع لما يدور في نفوس بعض الشباب، وإنما وقعن لرؤيتهن أفلاماً فيها شاب يبدأ حبه بمكالمة هاتفية، وبعد ذلك اتصال في أي وقت، وبعد ذلك خروج في أي مكان وبدون استئذان وفي أي مناسبة، وبعد ذلك تعيش المسكينة بعد أن تحطم جدار الحياء في قلبها، ما بال تلك تذهب حيثما شاءت وأنا حبيسة الجدران لا أخرج إلى هنا ولا إلى هناك، وبعد ذلك تقع فريسة أولئك الشباب العابثين.
أسأل الله جل وعلا أن يستر علينا وعليكم، اللهم استر على بناتنا، اللهم استر على محارمنا، اللهم لا تفضح لنا عورة ولا تهتك لنا ستراً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(192/6)
إلى كل من سئم من هذا الطريق
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير كل ذلك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى أزوجه وآله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
معاشر المؤمنين معاشر الشباب: الزموا جماعة المسلمين بالصلاة معهم جماعة، الزموا جماعة المسلمين بالصلاة معهم جماعة.
أيها الأحبة في الله: إنكم سمعتم أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلمتم وهذا ثابت: (أنه صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها) ولكم في نبينا وإخوانه من الأنبياء سلفاً صالحاً.
وإن كنا قد عالجنا المشكلة الآنفة الذكر في جانب البنات، فإن للشباب مسئولية عظيمة، وإن على الشباب دوراً عظيماً في اتصالاتهم، وفي مقابلاتهم، وفي مواقع أعمالهم ومسئولياتهم؛ لأن الإنسان إذا اتصل ببيت من البيوت وقد أرخى القول وكسره، ولين الكلام وأخبثه، فإن المرأة ناقصة عقل ودين سرعان ما تقع في شباك ذلك الصوت الدافئ، وبعد ذلك قد تكون الجاهلة المسكينة هي التي ترغب في مداومة الاتصال.
إذاً: فيا معاشر الأحباب ينبغي لنا إذا اتصلنا باتصالات لغير أقارب أو لغير محارم أو لغيرهم، ينبغي أن نكون جادين في الحديث، وأن يكون اتصالنا لحاجة معينة، كأن يكون فلان موجود أم لا؟ وينتهي الكلام بعد ذلك، أو أخبروه أن فلاناً اتصل عليه فقط، أما أن يتكسر الكلام، وأما أن يلين القول بأصوات وعبارات مضحكة وقد يكون فيها خبث ودهاء، فإن الإنسان قد يجر بذلك البلاء والفضيحة على غيره من المسلمين، وقد يكون من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا عياذاً بالله من هذا الأمر.
وينبغي للشباب أن يعلموا أنها مسئولية لهم، وأن الله جل وعلا يبتليهم، وطوبى لشاب ترك هذا النوع من الحديث الذي يجره إلى البلاء، ليكون أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إن البعض قد يسير في حديث هاتفي مع بعض البنات حتى يصل الأمر بهن إلى أن الواحدة منهن تدعوه إلى نفسها، ولكن البعض يقف عند ذلك، والواجب أن يقف في أول الطريق في أول المكالمة، ومن وقف عند ذلك فهو إن شاء الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، يوم أن ذكر واحداً منهم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
وكلكم يعرف قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فانحدرت صخرة من الجبل فسدت ذلك الغار عليهم، فقال أحدهم: إنه لن ينجيكم إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم، فقام منهم رجل وقال: اللهم إنك تعلم أن لي ابنة عم أحبها حباً شديداً، وكثيراً ما راودتها عن نفسها، حتى إذا احتاجت في سنة جدب وقحط ثم جاءت إلي واحتاجت قلت لها: لا أعطيك حتى تمكنيني من نفسك، فوافقت تحت ضغط الحاجة والفقر، وبعد ذلك يقول: يوم أن وقف منها موقف الرجل من زوجته، وجلس منها مجلس الرجل من زوجته، دمعت عينه بعد أن قالت له: يا هذا اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها وانصرف، فانفرجت الصخرة عن ذلك الغار بأعمالهم الصالحة بعد رحمة الله وتجاوزه عنهم.
ولكم في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الذي كان عند امرأة العزيز: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] قالت له: تهيأت لك، أرادته إلى المعصية: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] وليتها وقفت عند هذا الأمر، بل إنها قالت: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] فماذا قال ذلك الشاب الوسيم الجميل؟ ماذا قال ذلك النبي الجليل؟ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] أين الذي يقول هذا الكلام في هذا الزمان؟ وأي إيمان يتزعزع أو يتحرك عندما يقع في فتنة كهذه {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
اللهم اصرف عنا كيد أهل السوء، اللهم اصرف عنا كيد أهل السوء، اللهم اصرف عنا وعن بناتنا وعن نسائنا كيد أهل السوء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بفتياتنا وبناتنا ونسائنا سوءاً، اللهم فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء بقدرتك يا جبار السماوات والأرض! اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ضلالاً، اللهم فأدر عليه دائرة السوء، اللهم فأرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم بطانة صالحة وجنبهم بطانة السوء، اللهم ما علمت في أحد لولاة أمورنا خيراً فقربه منهم، وما علمت في أحدٍ لولاة أمورنا شراً فأبعده واطرده عنهم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اهد أئمتنا لكتابك ولسنة نبيك، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله بإخوانه، اللهم لا تشمت بهم حاسداً، ولا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، اللهم سخر لهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك.
اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اجعل لشباب المسلمين من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، ومن كل فاحشة أمناً، اللهم فارحمهم واهدهم وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى الجنة مصيرنا ومآلنا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(192/7)
مفاهيم غائبة
ترتبط القضايا الدعوية بالهمة والاهتمام، ويحتاج القائم بالدعوة إلى خبرة وتأهيل ومتابعة، واختيار مجال مناسب له من مجالات الدعوة الكثيرة.
لكن قد تنشأ في مسيرة الدعوة كثير من الأخطاء الناتجة عن غياب بعض المفاهيم التي لا غنى عنها.
وفي هذه المحاضرة بيان لبعض تلك المفاهيم، وللأخطاء الناتجة عن غيابها، والمتعلقة بآداب الاختلاف، ومن هو القائم بالدعوة، وضوابط الجهاد، وغير ذلك.(193/1)
خطأ حصر وتحديد مجالات الدعوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنها لمناسبةٌ سعيدةٌ، وموقفٌ مشرفٌ أن يقف الأخ بين يدي إخوانه، وفيهم من هم خيرٌ منه وأعلم وأتقى لله منه؛ لأجل التواصي وسماع الموعظة والذكرى، وإن الإنسان ليملُّ الانتظار والإطالة إلا في عبادة، أو في انتظار عبادة، وإن الإنسان ليكره الزحام إلا في طاعة ولسماع ذكرى، وإن الواحد ليحمد الله عز وجل أن تمضي هذه الساعة من عمره ودهره وحياته وهي شاهدةً له بأنه ما قضاها أمام ملهاة أو معصية، ولا في سماع باطلٍ أو ساخطٍ من القول، وإنما قضاها بعد عبادةٍ في ذكرٍ ينتظر بعدها عبادة، وإن ذلك -كما في الحديث- مما يرفع الدرجات، ويمحو الله به الخطايا، ذلكم هو الرباط كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: كثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
أيها الأحبة! إنها نعمة عظيمة أن نجتمع وإياكم في طاعة، ولسماع طاعة، ولنحقق طاعة، ولنعمل في طاعة، ونحن نعلم أن الكثير من عباد الله في معصية، وإلى معصية، وعلى معصية، أو في تحقيق معصية، أن تكون من المصطفين الذين أكرمهم الله بهذه الهداية، ومنَّ عليهم بهذه الاستقامة، إنها لنعمةٌ وأي نعمةٍ، بل وأعظم بها من نعمة.
أحبتنا في الله! حديثنا اليوم محصلة موجزة، وتجربة قصيرة متواضعة من خلال زيارات ولقاءات وكلمات، أو محاورات بين بعض الإخوة ومع كثير من الأحبة، تبين لي أن ما تسمعون الليلة وإن كان معلوماً لدى الكثيرين بحمد الله، إلا أن الكثير أيضاً يغيب عن أذهانهم الكثير مما نسمعه اليوم، وبعضهم لا يتصورونه بوضوح كامل، أو بأفق واسع، ولأجل هذا سميناه بـ (المفاهيم الغائبة) وليس هذا من باب الاستغراق، ولكن لعل في الإشارة ما يغني عن التفصيل في كل العبارة، وكفى من القلادة ما أحاط بالعنق.
أيها الأحبة! التعبير بالمفاهيم لأجل التواصي والتذكير بدلاً من النقد والانتقاد مع اعتقادنا جميعاً أن النقد الذاتي مطلوبٌ، ولَأن ننتقد أنفسنا خيرٌ من أن يقع أعداؤنا على مواقع الضعف فينا، ولَأن نبادر إلى التواصي بيننا خيرٌ من أن يجدها الأعداء مسبة، أو مثلبة يتشمتون بنا فيها، وهذا الذكر لهذه المفاهيم مع احترام العمل القائم والجهد المبذول، والحديث سهل والعمل عسير، وليس بيسير إلا على من يسره الله عليه.
أقِّلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أيها الأحبة! طرح هذه المفاهيم أراها تصحيحاً لتصور خاطئ، أو توسيعاً في مجال ضيق، أو تذكيراً بأمر غائب، وبالجملة فالموضوع لا يخرج عن إطار التواصي الذي هو من صفات المؤمنين كما أخبر سبحانه عز وجل بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
وطرح هذه المفاهيم من باب التذكير بها لا يخرج عن إطار الذكرى لقول الله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
وأبدأ في سرد هذه المفاهيم، وربما لا تأتي مرتبةً، ولكن لعل ذلك من التشويق والتنويع، فمن ذلك: أنني رأيت كثيراً من الأحبة والفضلاء والغيورين والمتحمسين يتصورون حصر الجهد في الدعوة في مجالات محدودة معدودة، وإذا لم يتحقق النشاط، أو النماء، أو الامتداد، أو الحركة، أو العمل في هذه المجالات المحدودة، يرى أنه لا مقام، ولا مكان، ولا سبيل إلى الدعوة إلى الله عز وجل.
وأرى أن ذلك تحجير لواسع، بعضهم يرى أن الدعوة فقط في المحاضرة والندوة وتوزيع الشريط والكتاب، وفي الحقيقة أن هذا حصرٌ، ومن يرى أن الدعوة فقط في هذه المجالات فهو كمن يجعل البحار في قِرَب، أو يجعل المحيطات في أنهار، الدعوة محيطٌ متدفقٌ واسعٌ، وبحرٌ أمواج خيره وبره ونفعه متلاطمةٌ تجيء بالخير بإذن الله عز وجل، وليس محصورةً في هذه المجالات فحسب.(193/2)
أهمية خطبة الجمعة ودورها في الدعوة
فعلى سبيل المثال لا الحصر: هناك خطبة الجمعة، وما أدراك ما خطبة الجمعة؟ إنها من أجل وأرقى وأعلى وأسمى وأهم مجالات الدعوة إلى الله عز وجل، ولو أننا تواصينا مع خطبائنا، ومع الذين يعتلون المنابر في مجتمعاتنا بالعناية بها، بتقديم الفائدة، واقتراح الموضوع، وتحديد العناصر، وتقريب الكلمة، والمعنى والقضية، واقترحنا عليهم ما يهم، لكان في ذلك خيرٌ عظيمٌ.
إن خطبة الجمعة حضورها واجبٌ، والإنصات لها واجب، ويحضرها من لا يحضر الدروس والمحاضرات، ويحضرها من لا يقرأ الكتاب، ولا يسمع الشريط، بل يحضرها من قد لا يصلي الصلوات الخمس مع الجماعة، فأهم جمهور، وأهم المستمعين لمادة الدعوة وقضايا الدعوة هم المصلون يوم الجمعة، فالعناية بهذا الأمر مهمٌ جداً.
وإني لأعجب أن أجد كثيراً من الإخوة ربما يهتم أحدهم بالمحاضرة اهتماماً لا يهتمه لخطبة الجمعة، وأرى أن ذلك من عدم فهم الأولويات وترتيبها، بل لو قال قائل: إنني مشغول بالجمعة، ولا أرى شغلاً بغيرها، قلنا: ليس هذا ببدع، ولا غريب، ولا عجيب، فهي مجال مهم، إنها رسالة إلى جميع الناس في ساعة واحدة في زمن معين، لا تجد ذلك في دين من الأديان، ولا في عقيدة من العقائد، هبوني وأروني واذكروا لي ملة، أو ديانة، أوحزباً، أو مذهباً، أو طائفة تستطيع أن تجمع أتباعها وأنصارها ومؤيديها ومعتنقيها في ساعة على وجه الأرض أو المعمورة، لا تجد ذلك، لكن في هذا الدين تجد ذلك.
خذ على سبيل المثال: ترى في هذه البلاد في المملكة العربية السعودية من الشمال في أقصى طريف والقريات إلى الجنوب في آخر شرورة ونجران وما وراءها، ستجد أنه من الساعة الثانية عشر إلا ربع مثلاً إلى الساعة الواحدة إلا ربع الناس كلهم في المسجد، هذا مؤتمر خطير، واجتماع خطير، وهذه مسألة مهمة، وهذا حشد لا يمكن أن يحققه الإنسان بالإعلانات على المحاضرات، ولا بالدعوة إليه عبر الإذاعة، أو عبر وسائل الإعلام، لكنه يتحقق بحي على الصلاة حي على الفلاح، فيتحقق هذا الاجتماع العظيم الكبير، ثم لا نجد كثيراً من إخواننا يهتم بهذا الاجتماع ويعطيه حقه، أو يوفيه قدره، أو ينزله مكانته التي ينبغي أن يُنزل إياها.
قد يقول أحدكم الآن: لو كان الحضور من خطباء الجمع لكان هذا سائغاً.
أقول: نعم يا أخي الحبيب.
في الحضور من هم من الخطباء، وأنتم ممن يصلون مع الخطباء، فإذا كنا جميعاً نعتني بهذه الخطبة، ونعين الخطيب على تحضيرها وإعدادها وأدائها، وتقديم الأفكار والعناصر، واقتراح الموضوعات المناسبة، وتقريب ما يعينك في الخطبة، القضية الواحدة التي تطرح في الخطبة تحتاج إلى الأدلة من القرآن والسنة، وإلى الكلام من سير السلف والصالحين، وإلى القصص الواقعة الحادثة في هذا الصدد، وإلى شيء من العناية بسبك العبارة والأسلوب، فلو أننا اعتنينا واعتنت كل مجموعة منا بخطيب حيهم وإمام حارتهم مثلاً، وأعانوه على إعداد هذه الخطبة؛ لكُنا نحن وهذا الخطيب شركاء في الأجر العظيم حينما يقول خطبة تربوية نافعة تدعو العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتدعو العباد إلى نبذ الغفلة والضلالة والهوى، والعودة إلى الاستقامة والجد والاجتهاد في الطاعة، نشترك معه في الأجر والثواب، ولا أظن أن عاقلاً يأنف أو يستنكف أن يقبل نصيحةً تأتيه من أحد إخوانه، بل علينا أن نعلن وأن نفتح هذا الباب لمن كان عنده نصيحة في أمر ينفع المسلمين.
والخطيب مسئول عن هذه الكلمة، ومحاسبٌ عليها في الدنيا والأخرى، لكن هذا لا يمنع من أن نعينه وأن نقدم له الأفكار المهمة سواءً بالعناصر المحررة، أو بالأرقام والحسابات والإحصائيات، كل ذلك أيها الأحبة نافع ومهم، ويحول هذا الاجتماع الأسبوعي في ساعة واحدة على مستوى هذه المملكة بكاملها إلى اجتماع يطرح قضايا مهمة وعالية وجيدة جداً، أنا لا أقول: جميع الذين يخطبون لا يعتنون بذلك حاشا وكلا، بل الكثير والكثير من إخواننا ومشايخنا وخطبائنا يعتنون، لكن هذا أيضاً لا يعني أنه لا يوجد من لا يبالي، أو لا يعتني، أو لا يهتم، فواجبنا أن نهتم بهذا الموضوع، وأن نعتني به غاية العناية، فهو من أكبر وأضخم وأهم، بل وأخطر مجالات الدعوة هي خطبة الجمعة، فألا من مشمرٍ ومهتمٍ ومعتنٍ بهذه القضية.(193/3)
وجود مجالات دعوية تناسب الجميع
كذلك أيها الأخ الحبيب حينما أتحدث إليك، أو أحاورك في أمورٍ ومجالاتٍ دعوية ربما تسمع من بعض الإخوة القول بأنه لا يحسن هذا المجال، ولا يحسن هذا المجال، وهل كانت الدعوة محصورة فقط في مجال تحسنه؟! لا أظنك عيياً عاجزاً أخرقاً لا تستطيع أن تحسن مجالاً من مجالات الدعوة، وأقلها مجال المراسلة سواء كانت مراسلة في الداخل أو في الخارج.
إن كثيراً من الذين ضلوا ومنهم من أضلوا عن سواء السبيل عادوا إلى المحجة، وإلى الطريق البين، وإلى البرهان الواضح، وآبوا من الزيغ إلى الهداية، ومن الانحراف إلى الاستقامة برسائل متتابعة طرقت أسماعهم عبر شريط، وطرقت قلوبهم عبر أحرف مكتوبة، ملؤها المحبة، عبقة بالأخوة والرأفة والرحمة والحنان، فيا أيها الأحبة، ليس من الضروري أن نكون خطباء حتى نقوم بالدعوة، على الخطباء مسئولية، ومن لا يحسن الخطابة أظنه يحسن الرسالة، ومن لا يحسن الرسالة أظنه يحسن القراءة، فيختار رسالة معدة في هذا الأمر، أو يستشير، أو يسأل {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] كيف ينصح ضالاً واقعاً في هذا الإثم، أو من زل ووقع في هذا الذنب العظيم؟ فيأتيه التوجيه: عليك بالرسالة الفلانية، الكتيب الفلاني، انقل من الشريط الفلاني، قدم من هذا الشيء الفلاني، وابعث به مع هدية متواضعة، أو بدون هدية، ستجد أن ذلك بإذن الله من أسباب الفلاح والنجاح في الدعوة، ولا تظن أن كل رسالة سوف تأتيك برجل ملتزم ومهتد، اجعل في بالك أنك ربما ترسل مائة رسالة، فلا يستجيب إلا واحد، وألف رسالة، فلا يستجيب إلا اثنين، أو ثلاثة، ولن تكون أفضل من رسل وأنبياء هم صفوة الله من خلقه وخيرة خلق الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (ورأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهط والرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد).
إذاً: اليوم قضايانا الدعوية مرتبطة بالهمة والاهتمام، ولا أظنها ترتبط ارتباطاً كلياً تاماً ببعضها البعض، نعم الإجادة والقدرة أمر مهم، لكن ليس ذلك هو كل شيء، لأنك إن عجزت عن هذا المجال ستقدر في مجال آخر، لكن إذا وجد الاهتمام فإنك بإذن الله عز وجل ستجد المجال المناسب بحجم قدراتك وظروفك.
على سبيل المثال: الكثير بلا حصر من الشباب يرغبون في الزواج، لكن ليس كل هؤلاء الشباب يستطيعون أن يتزوجوا الفتاة الحسيبة النسيبة، المتعلمة الجميلة، الفاخرة الراقية إلى آخره، لكن مع ذلك يتزوج الإنسان بقدر ظروفه، وبقدر إمكاناته، ويحقق الهدف الذي يصبو إليه، لما كانت رغبة شخصية وفطرة غريزية، ونداء قائماً في البدن والروح والجسم استطاع الإنسان أن يصل إليه، وإن لم يصل إليه بكل المواصفات والمقاييس التي يريدها، لكنه حقق ذلك، لأن الرغبة مستمرة وملحة وقائمة، فكذلك إذا كانت الرغبة في الدعوة إلى الله عز وجل ملحة وقائمة تصبحك وتمسيك وهي همك، وتراها في المنام، وتتمناها، ومرتبطة بشعرك وقصيدتك وقراءتك، وتتألم لما يؤلم المسلمين؛ حينئذٍ ستجد مجالات كثيرة في الدعوة إلى الله عز وجل، والمقام يضيق بذكر مجالات عديدة للدعوة، وأحيل إلى شريط سبق أن ألقي منذ زمن لا بأس به بعنوان"مجالات جديدة للدعوة" انظر هذه المجالات فستجد أنك لن تعجز عن واحد أو آحاد من هذه المجالات.(193/4)
تعدي القيام بالدعوة إلى غير البشر
أيها الأحبة! إني أقول لإخواني الشباب الذين فيهم الخير والصلاح والاستقامة والغيرة على الإسلام والمسلمين، أقول لهم: لماذا وقف الالتزام إلى حد الأمور الشخصية فقط؟ لماذا لا يكون الواحد إيجابياً وداعياً ومتحركاً؟ إن الجن وهم الجن لما سمعوا الوحي تحركوا ودعوا أقوامهم، والله عز وجل يقول: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] فهم حضروا، وأنصتوا ليتدبروا ويفهموا مقاصد الخطاب، وما فيه من الأمر والنهي والحكم، ثم ماذا بعد ذلك؟ {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31] فأفادوا أنهم سمعوا وحياً وخيراً وهدى، ثم دعوا قومهم إلى الاستجابة: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31].
ثم ماذا بعد ذلك؟ قالوا لقومهم: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} [الأحقاف:32] هؤلاء وهم جن لما سمعوا الوحي أنصتوا وتدبروا وولوا إلى قومهم منذرين.
لا يكن الهدهد خيراً منك، فقد نصح وتكلم ودعا وسعى، وكانت نصيحة هذا الطائر سبباً في إسلام مملكة كاملة كانوا يسجدون للشمس من دون الله، سليمان عليه السلام لما تفقد الهدهد، وتفقد الطير، فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ فلما بحث عن هذا الهدد أين كان؟ أين ذهب؟ فجاء إلى سليمان عليه السلام الملك النبي، وقال: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:22 - 24] هذا هدهد يدعو وينكر منكراً، وأكبر المنكرات هو الشرك بالله عز وجل: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} [النمل:24] إلى أن قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل:25] ويستدل بأفعال الرب على استحقاق الخالق للعبادة عز وجل.(193/5)
مقترح في الدعم المادي للدعوة
أيها الأحبة! هذه من القضايا المهمة، لأننا نجد فتوراً وكسلاً في أمر الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن ينبغي أن نتواصى، وأن نهتم سيما والدعوة هي أمر الله لنبيه للمؤمنين من بعده: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33] (من دعا إلى هدىً، فله أجره وأجور من تبعه إلى يوم القيامة) (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النعم).
فيا أحبابنا! الدعوة مسئولية مهمة، لكن أنا أقول لك: متى تصبح الدعوة قضية مهمة؟ حينما تجعل للدعوة اهتماماً شهرياً في ميزانيتك، وذلك فرع عن الاهتمام القلبي في شخصيتك وروحك ستجد أن الدعوة مهمة، الواحد يخصص من دخله للكهرباء وللماء، ويخصص من دخله لراتب الخادمة لصيانة سيارته، فهل تخصص من دخلك للدعوة إلى الله عز وجل؟ هل فعلاً شهرياً إذا قبضت راتبك، أو الدخل الذي يأتيك تقول: هذا للدعوة إلى الله عز وجل، أكفل به داعية في أي مكان خارج البلاد، أو أشتري به شريطاً نافعاً أوزعه على الشباب، أو كتيباً، أو رسالةً، أو أفكر كيف أشغل هذا الجزء اليسير من الدخل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وما يدريك لعل الله أن يهدي بهذا أقواماً أنت لا تعرفهم، ويهدي بذلك آخرين من ورائهم لا تعرفهم تلقاهم يوم القيامة هم وأعمالهم ومن هدى الله على أيديهم في موازين أعمالك الصالحة، والدعوة- كما تعلمون- هي خيرٌ ينفع العبد بإذن الله عز وجل، لأنها أعظم أجراً في أقصر زمنٍ وأقل مدة، فأسأل الله ألا يحرمنا وإياكم هذا الأجر العظيم.(193/6)
آداب الخلاف في فقه النوازل
أيها الأحبة! من المفاهيم الغائبة عند كثير من شبابنا اليوم: أنه حينما تقع في هذا الواقع نوازل، أو تحدث أمور ليس فيها حكم قطعي بنص قطعي الدلالة والثبوت حينما تقع مثل هذه الأحداث أو الوقائع لا شك أن الناس تتباين آراؤهم وأقوالهم، بل وربما تباينت آراء وأقوال أهل العلم فيها، فيقع شيء من الاختلاف في وجهات النظر، فتعجب من وجود بعض الشباب يتحمس إلى أقصى اليمين لبعض الآراء، وتجد آخرين يتحمسون إلى أقصى اليسار لبعض الآراء، ولا يمكن أن تكون بينهم مسافات للتقارب، أو قناعات أنني على صواب ورأيي يحتمل الخطأ، وأنك على خطأ ورأيك يحتمل الصواب، لا أبداً.
لا يرى الحق والقول والصدق إلا عنده، وما سوى ذلك وكل ما عند غيره فهو باطل، وعلى مبدأ ضال، وإن لم تكن معي فأنت ضدي.
وهذا لا ينطبق خاصة إلا في المسائل التي تجِد في الواقع، ولا تكون فيها أحكام قطعية ثابتة.
أما المسائل التي أحكامها قطعية بدلالة قطعية بثبوت قطعي فلا يختلف فيها أحدٌ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، لكن هناك نوازلاً ومواقفاً وأحداثاً وأموراً عجيبة غريبة تقع في واقع المسلمين اليوم بالتأكيد سيختلف فيها المسلمون، وتتعدد فيها الآراء، لكن إذا تنوعت هذه الآراء هل من حقنا أن نلزم الناس جميعاً أن يكونوا معنا على رأي واحد؟
الجواب
لا.
وهذا ليس بصحيح ما لم يكن الخلاف في هذا الأمر يفضي إلى فتنة، فحينئذٍ الذي يجمع الناس على أمرٍ عامٍ، به يتعاملون، وإليه يختصمون، أو يحتكمون هو الحاكم أو المفتي الذي يعينه هذا الحاكم، وكما في القواعد الفقهية والشرعية: حكم الحاكم يرفع الخلاف، فله أن يلزم الناس في المسائل الاجتهادية برأي يجتمع الناس عليه دفعاً للفتنة، ولا حاجة إلى الإنكار الشديد.
أعود إلى قضية الخلاف في المسائل: لا حاجة إلى الإنكار الشديد في مسائل الخلاف، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: ومسائل الخلاف لا ينكر فيها باليد، ومعنى كلامه: لا يلزمك أن تجمع الناس فيها على رأيك، وإنما كلٌ يورد ما عنده بالأدلة، ونحن على يقين بين القطبين، وبين الطرفين، وبين النقطتين مسافة طويلة يمكن تصور وجود الخطأ الكبير والصواب القليل فيها، ووجود الصواب الكبير والخطأ القليل فيها، فواجبنا حينئذٍ أن نقرب هوة الخلاف ولا نوسعه.(193/7)
تجاوز الاختلاف المشروع إلى التدابر والقطيعة
العجيب الذي يقع: أن ترى من بعض الشباب حينما يقع الخلاف أنهم يتدابرون ويتقاطعون، ويغتاب بعضهم بعضاً، ويتكلم بعضهم في عرض بعض، وربما أصبح هذا البر الطيب المبارك الخير يتكلم في عرض آخر مثله، وله مثل هذه الصفات، ولا يتكلم في عرض فاسق أو فاجر، وليست هذه دعوة إلى الكلام بأعراض الفساق والفجار أبداً، إنما هي دعوة إلى العمل، الكلام يا أحباب لا ينتج ولا يقدم شيئاً، نريد عملاً جاداً يفضي إلى تحقيق نتائج ترد عباد الله إلى عبادة الله وحده لا شريك له، إن الله عز وجل قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119] لكن الله سبحانه وتعالى نهى عن التفرق، فالخلاف ممكن، والتفرق ممنوع {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] فالخلاف وارد، ولا يمكن في مسألة اجتهادية أني ألزمك برأيي، ولا يمكنك أنت أنك تلزمني برأيك، إذا كان الخلاف سائغاً، وفي مسائل لا ترتبط بمصير أمة، أو بمصلحة مجتمع بالكامل، أما إذا كانت هذه المسألة التي اختلف فيها المختلفون مرتبطة بمصير أمة، أو بقضية استراتيجية كقضية أمن، فحينئذٍ نرجع إلى عالم قد تعلقت الأمة برقبته، وأصبح قوله وفتواه بمنزلة حكم الحاكم الذي يرفع الخلاف، وإذا أمر ولي الأمر بلزوم قول هذا المفتي، لزمنا جميعاً أن نعمل به، وكلٌ يحمل في قلبه ما يعتقد.(193/8)
أهمية الحفاظ على الأخوة مع المخالفين
أيها الأحبة! يقول يونس بن عبد الأعلى المصري الشافعي رحمه الله: ما رأيت أعقل من محمد بن إدريس الشافعي -الإمام الشافعي رحمه الله- اختلفت معه في مسائل كثيرة فتفرقنا، يعني: ما اتفقنا عليها، فلقيني ذات يوم وأخذ بيدي وقال: يا أبا عبد الله ألا يستقيم أن نكون إخوة وإن لم نتفق في مسألة.
اليوم الواقع في الحقيقة يندى له الجبين، أن تجد هذا ملتحياً، وهذا ملتحياً، وهذا يتبع السنة، وهذا يتبع السنة، وهذا على خير، وهذا على خير، وربما بينهم من الفرقة والخلاف ما يجعل بعضهم لا يلقي السلام على صاحبه، ولا يشمِّته، ولا يعوده في مرضه، وربما لا يتبع جنازته، وربما أسقط حقوقه وأهدر واجبات له، وربما احتقره (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) ولم هذا كله؟ لأنه اختلف معه، وهل الخلاف مبرر لأن نقع في هذا الأمر؟ هل هذا مبرر لَأن أغمطك حقك، ولا أنزلك قدرك؟ أستغفر الله وأتوب إليه.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، إمام أهل السنة عن إسحاق بن راهويه وهو إمام من أئمة الحديث، فلما سئل عنه قال الإمام أحمد -مع أنه بين الإمام أحمد وبين إسحاق بن راهويه خلاف في مسائل- قال: لن يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً.
فيا أحبابنا! هل نجد في أنفسنا هذه الروح؟ هل نجد في أنفسنا هذه السعة لتحمل شخصية ورأي المخالف؟ هذا للأسف يكاد أن يكون نادراً، ويصبح الاعتدال بين كثير من القضايا المتلاطمة ذات الأطراف المتباينة أمراً عسيراً حينما نحمل مثل هذه النفسية.
أيها الأحبة! إن هذه القضية: وهي عدم تصور الوفاق والاجتماع حتى مع الخلاف في بعض الآراء الاجتهادية والمسائل؛ جعل بعض شبابنا لا يبالي بإخوانه، ولا بقدرهم، ولا بمنزلتهم، ولا بمكانتهم، ولا يغار على أعراضهم، وهذا أمرٌ خطير، فالذي يتقي الله عز وجل، ربما تراه يخالف هذا الشخص، أو هؤلاء الأشخاص في آرائهم، في أفكارهم، لكنه يتقي الله في أعراضهم، ويتقي الله فيهم إذا غابوا، فيذب عنهم إذا حضر مجلساً، ولا يسمح أن يتهموا، أو أن يقال فيهم ما يقال، بسبب ماذا؟ لأن الخلاف ليس بينه وبينهم في عداوة شخصية، بل إنما الأمر يعود إلى دليل واجتماع وفكر ورأي يراه مدعماً، ويرى الآخرين يختلفون فيه، ولكنه لا يوافقهم على ذلك، فخلافه لا يبيح أعراضهم ولا يسقط حقوقهم.
ثم أيها الأحبة قد كثر الخلاف في آخر الزمان، وفي الآونة الأخيرة كثرت المسائل التي اختلف فيها فلان مع فلان، وفلان قال كذا، وفلان قال كذا، ثم أي شرخ من تصدعات الخلاف يفتح علينا شروخاً عديدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والعجيب أننا نرى دولاً تحاربت وتصارعت، ثم اصطلحت واتفقت وتصالحت! فيا أيها الأحبة! إذا كان هذا على مستوى الدول والأنظمة تقاتلت وتحاربت، ثم تصالحت وانتهت، لأجل ماذا؟ لأجل المصالح، أو لأجل القناعة بعدم جدوى العداوة، أفلا يليق بنا أن نصلح ذات بيننا، وأن نضيق هوة الخلاف؟ نعم والله أيها الأحبة، فتجد بعض الشباب يختلفون على قضية ما، ومنشأ خلافهم هو بسبب اختلاف أناس أكبر منهم فيها، اختلاف أنظمة، أو دول، أو فقهاء، وسمها ما شئت، فبعد ذلك يصطلح هؤلاء المختلفون ولا يزال هؤلاء المساكين على شجار وشقاق بينهم.
سبحان الله! أصحاب القضية اتفقوا وانتهوا، وأنت لا تزال ترفع راية الخلاف والنزاع والشجار، هذا يذكر بالطرفة التي تسمعون بها، أو تعرفونها: الرجل الذي كان في محطة القطار، ومعه ثلاثة أو أربعة يأكلون وجبة، ولما سمعوا صوت منبه القطار أخذوا يتراكضون، فركبوا جميعاً إلا واحداً رجع وهو يضحك، قالوا: لماذا تضحك؟ قال: أنا المسافر وهؤلاء أتوا ليودعوني، فالذي جاء يودع ركب القطار وذهب به، وصاحب القضية لا يزال قائماً، يعني: اقلب هذه الطرفة على هذا الواقع وستجد أصحاب القضايا الكبار الذين اختلفوا قد اتفقوا، وانتهى الخلاف فيما بينهم، لكن الذين ورثوا الخلاف لا زالوا يجترونه، ولا يدرون هل اتفق من فوقهم أم لم يتفقوا.
والسبب أن الواحد لا يفكر بعقله وإنما يفكر بعقل غيره، وقد نسي أنه يوم القيامة لن يسأل غيره عنه إلا بما أغواه فيه، أو أضله به، لكن أيضاً المسئولية والمحاسبة فردية، فنسأل الله لنا ولكم البصيرة.
ومن الأمور التي تعين أيها الأحبة: أن يلتفت الواحد إلى الدعاء والإلحاح على الله أن يهديه إلى الحق فيما يختلف فيه الناس، إن النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح دعاء القيام: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل فاطر السماوات والأرض، رب كل شيءٍ ومليكه، اهدني لما اختلف فيه من الحق، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون).(193/9)
عدم إلزام الناس بما تراه
إن هذه المسائل التي يختلف فيها الناس لن يسألك الله عز وجل عنها، لماذا لم تتبن هذا الرأي؟ بل بوسعك أن تعرض عن هذا الاختلاف كله، ولن يسألك الله يوم القيامة: لماذا لم تأخذ بهذا الرأي، لا سيما إذا كان لا يتطرق إليك الأمر مباشرةً؟ فالآن تجد بعض الناس يقول: ما رأيك في فلان وعلان؟ تقول: يا أخي! لن يسألني الله عنه يوم القيامة، إن كان صالحاً فالله وليه، وإن كان غير ذلك فحسابه على الله عز وجل، أنا لست ملزماً أن أحمل راية عداوة، أو راية موالاة أو معاداة، يعني: لست مسئولاً أن تعرض عليك قائمة، فيقال: ما رأيك في كل من: 1، 2، 3، 4، 5، 6، يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله فيما يذكره الدكتور/ عبد الله الأمين عن سيرة والده في شريط أكرر النصيحة بسماعه اسمه/ العقد الثمين في سيرة الشيخ الأمين، يقول: كان رحمه الله يقول: يا ولدي إن الله لن يسألك يوم القيامة لماذا لم تشتم فرعون؟ فكذلك بعض الشباب ما رأيك في طالبان؟ ما رأيك في رباني؟ ما رأيك في حكمتيار؟ ما رأيك في فلان؟ يا أخي افرض أني ما أعطيت رأياً في هؤلاء جميعاً، لن أمدح هذا، ولن أشتم هذا، ما شققت عن قلوبهم ولا عندي شيء، قد يكونوا قالوا شيئاً يوجب مدحهم أو قدحهم، لكن ما بلغني، أنا غير مسئول عن ذلك.
فيا أخي الحبيب! عليك بما ينفعك، والحذر من المبادرة والمعاجلة بالقول، تجد البعض- سامحه الله وهاده- إذا حصلت نازلة، أو وقعت واقعة تتعلق بآراء وأشخاص وقضايا معينة، لا بد أن يجمع الناس ويلزمهم برأيه، والمسألة فيها سعة عريضة، أنا جذيلها المحكك، وأنا عذيقها المرجب، وأنا ابن بجدتها، وأنا فارس ميدانها، وأنا حذام
وإذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
ويريد أن يجمع الناس على رأيه، هذا ليس من حقك يا أخي، الناس لديهم عقول، وتتباين عقولهم في الفهم، والاستنباط، والدلالة، ولولا ذلك ما اختلف أئمة الإسلام، ولما تباينت أحكامهم في ثبوت النصوص والأدلة، ولما تباينت أحكامهم في فهم الدلالات من النصوص والأدلة، فكذلك الاستنتاجات من البشر في قضايا ربما لا تصل إلى أمور العقيدة من حق الناس أن يختلفوا فيها، وإن وقع الخلاف فالحذر أن يكون سبباً في الفراق، الخلاف وارد، لكن أن يكون الخلاف سبباً في السب، أو الشتم، أو الغيبة، أو النميمة، أو إسقاط الحقوق، والتجرؤ على الأعراض، فإن ذلك أمرٌ خطيرٌ أيها الأحبة.(193/10)
أهمية سؤال أهل العلم عند الالتباس
حينما تجد نفسك ملزماً بأن تقول قولاً وليست لديك الآلة والقدرة والتجربة والمعلومات الكافية، حينئذٍ مثل ما قال الشيخ/ ابن عثيمين: هذا صنفٌ يلزمه السؤال {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] وبعد ذلك إذا رأيت أهل الذكر مختلفين وأنت تقول: أنا لا أدري أميل مع من، أو أقول بقول من، أقول: اعرض هذا الرأي على أقوال أهل الذكر وأحكامهم فهذه مسألة اجتهادية.
أعطيك مثالاً: عرضت مسألة من مسائل سمها ما شئت مثلاً مسألة التأمين، أو مسألة معينة، فأقول لك: رأي هيئة كبار العلماء الشيخ/ ابن باز، الشيخ/ ابن عثيمين، الشيخ/ ابن فوزان، والشيخ/ ابن غديان، والشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، والشيخ فلان، والشيخ فلان، ورأي المجمع الفقهي، ورأي كثير من علماء الإسلام أن ذلك ممنوع لما فيه من غرر ورهان، أو مقامرة، أو جهالة، ويأتي اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، عشرة من العلماء المشهود لهم بالعلم، فيقولون: لا، هذا أمر جائز، تقول: والله أنا عامي أصدق من؟ أقول بقول من؟ أقول: انظر إلى هذا الفريق والجمهور الكبير من العلماء والأئمة والمجتهدين، أظن أن النفس تطمئن إلى الميل إلى قولهم وفتواهم.
وقس على ذلك أي قضية وأي نازلة، إذا كنت مضطراً للكلام فيها، فانظر إلى الجمع الغفير والكم الهائل من العلماء وأئمة الإسلام، فإذا نظرت قولهم في هذه المسألة معيناً، فاتبع ذلك القول المعين، وستجد أنك بإذن الله عز وجل أمام الله بمعذرة، لأنك نظرت إلى هذه المسألة فلم تستطع أن تقول فيها بقول أو باجتهاد من عندك، لأنك قاصر عن الاجتهاد، ثم نظرت إلى من حولك، فوجدت مائة يقولون بهذا القول، وخمسة أو عشرة يقولون بالقول الآخر، فقل بقول هؤلاء المائة، ولا يضيرك عند الله أن تقول: قلت بقول هؤلاء، بل هذا في أمور الدنيا، الآن الواحد لو أراد أن يستشير في علاج أو دواء معين، وقال: ما رأيكم؟ يسأل هيئة استشارية طبية، ويقول: ما رأيكم في استعمال هذا الدواء؟ فتقول له هذه الهيئة: مائة طبيب ينصحونك بعدم تناوله، وخمسة أطباء ينصحونك بتناوله، فهل من العقل أنك سترمي بقول مائة طبيب عرض الحائط، ثم تأخذ بقول هؤلاء الخمسة؟ هذا في بدنك وصحتك، ستأخذ بقول من توافرت عقولهم وأقوالهم بهذا، فكذلك من باب أولى في دينك ودنياك ومعادك.
مسألةٌ تتفرع عن هذه القضية -وهي من المفاهيم الخاطئة-: يظن بعض من يسمع بمثل هذه القضايا أن من واجبه أن يتحيز لأحد الفريقين، وأن يتعصب، لا أبداً هذه مسألة لن يسألك الله عز وجل عنها يوم القيامة، أنت ما تتفرج على حلبة مصارعة، يلزمك أن تشجع فلاناً ضد فلان، وفلاناً ضد فلان، ولا يمكن أن تضرب هذه القضايا الخلافية بحلبات المصارعة، بل إذا أردت أن تتدخل في هذه القضية فليكن تدخلك من منطلق قول الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] إذا وجدت هذا الخلاف قد أفسد ذات البين، وأردت أن تتكلم، فلا تزد النار وقوداً، وإنما اجعل كلامك باباً للتوفيق والتقريب في إصلاح ذات البين بإذن الله عز وجل.
فلا يلزمك حينما تسمع بفرقة، أو فتنة، أو اختلاف أن تتحيز لأحد أطرافه إلا إذا رأيت أن الحق الواضح البين مع فريق قد ذهب جمهور العلماء والثقات والأثبات والكبار إليه، فحينئذٍ لك أن تميل، وأن تطمئن إلى هذا القول، وأن تعمل به، وليس ذلك بغريب بإذن الله عز وجل.(193/11)
كيفية اختيار مجالات العلم والدعوة
مسألة أخرى: ستجد حينما تقع مثل هذه القضايا ردوداً ومرادات ونحو ذلك، تجد بعض الشباب لا شغل له إلا دراسة الردود والقيل والقال، حسناً اسأله أولاً عن تأسيس علمه، كيف أسس علمه في الفقه؟ كيف أسس علمه في المصطلح؟ كيف أسس علمه في العقيدة؟ كيف أسس علمه في اللغة؟ كيف أسس علمه في القواعد الشرعية الفقهية وأصول الفقه؟ لا تجد عنده تأسيساً، لكنه يريد أن يشتغل برد فلان على فلان، وقال فلان على فلان، وأشغل حياته بذلك، مع أن نقل الردود ما يسعف عن الله عز وجل، ولئن تلقى الله يوم القيامة وأنت لا تعرف رداً على هؤلاء المختلفين، أو لم تسق رداً بينهم، لن يحاسبك الله على ذلك، لكن ينفعك عند الله عز وجل أن تكون قد أسست علماً رصيناً متيناً مكيناً في العقيدة، والتوحيد، والعبادة، والفقه، واللغة، والمصطلح.
فأسأل الله عز وجل أن يؤلف قلوبنا، وأن يهدينا إلى الصواب.
كذلك من المفاهيم التي أدركتها ولاحظتها وربما يقع بعض الشباب فيها: التهوين من شأن بعض المجالات، وعدم الالتفات إليها، والقول بالتركيز على مجالات معينة.
هذا ليس بصحيح، أنا لا أحسن إلا هذا المجال، فلماذا تهون من شأنه، تريد أن تثبطني حتى أتركه، فلا أعمل، أنا لا أحسن إلا هذا المجال، قد تكون أنت قادراً على مجالات عديدة في الدعوة مثلاً، لكنني أنا لا أستطيع أن أحسن من الدعوة إلا مجالاً واحداً، فلماذا تهون من شأنه؟ بل إذا وجدتني على ثغرة قد عضضت بالنواجذ عليها، فأعني وثبتني واشكرني وأيدني، فإن لم يكن ذلك عندك.
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ فليسعف النطق إن لم تسعد الحالُ
إذا لم تستطع أن تدعمني وتؤيدني على هذا المجال الذي أنا فيه بكلمة طيبة، فإن بخلت وعجزت بكلمة طيبة (فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
أنا أضرب مثالاً من الواقع: شاب يقول لآخر: لماذا تعمل في مكاتب هذه الجالية؟ ليسوا غير هنود رائحين وهنود قادمين وطالعين ونازلين! وهل دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أمر هين؟ مثلاً بعض الشباب يرى في باله أنه لو استطاع أن يكبس أو يكتشف أو يداهم شبكة دعارة أن ذلك هو أخطر وأهم وأكبر مجال يستطيع أن ينصر فيه الدعوة إلى الله جل وعلا، لكن أن يسلم على يده هندي، أو هندوسي، أو بوذي، أو وثني، أو نصراني، أو يهودي، هذا مسألة لا تقوم ولا تقعد عنده، لا يا أخي هؤلاء على ضلالهم ودعارتهم على سبيل المثال لا يزالون مسلمين، وهم فساق وعصاة ومرتكبو كبيرة، لكن هذا ترك الكفر إلى الإسلام، كان يسجد للصليب، فأصبح يسجد لله، كان يخضع للأوثان، فأصبح يخضع لله عز وجل، فلماذا تهون من هذا المجال؟ يعني: لا بد أن نؤمن بقدرات وإمكانيات وتخصصات كل في مجاله، بل هذا يدعو إلى النظر في فقه الأولويات والاهتمام به، هل يستطع أحد أن يقول: إن الاهتمام بإنكار منكر أعظم وأجلّ وأعلى قدراً من دخول كافرٍ في الإسلام؟ طبعاً لا، لكن هذا لا يعني أن الذي يعمل في الجاليات يثرب على أهل الهيئات والحسبة الذين يطاردون أهل الكبائر والمنكرات، بل أولئك على ثغر، وأنت على ثغر، وهذا الذي يتربى عند العلماء في حلق العلم على ثغر، وهذا الذي يعمل في الأعمال الخيرية على ثغر، وهذا الذي يعمل في كفالة الأيتام على ثغر، وهذا الذي يدعو في السجون على ثغر، وهذا الذي يخالط الشباب ويدعوهم ويكلمهم ويدعوهم بلغتهم والمستوى الذي يفهمونه على ثغر، وكلٌ على ثغر، فإياك أن تهون من شأن مجال يعمل فيه واحد من إخوانك.
ليس هذا- كما قلت- بدعوة إلى أن يجتمع الناس في مجلس واحد، وهو أيضاً تحذيرٌ من أن يهون بعضنا من مجال يشتغل فيه البعض الآخر، إنما من واجبا أن نحترم القدرات والمهارات، وأن نوظف الطاقات كلٌ في المجال الذي يصلح له بإذن الله سبحانه وتعالى.(193/12)
انصراف الناس عن العمل والدعوة
أيها الأحبة! أعود لأقول مذكراً بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة).
أذكر كما علمت أن أحد الإخوة خطب خطبة جمعة، وبعد الجمعة قال: أيها الأحبة -في مسجد لا يقل عدد المصلين فيه عن ثلاثة آلاف مصلٍّ أغلبهم من الشباب- إننا نفتح مجال المشاركة والمساهمة معنا في مكتب الدعوة وتوعية الجاليات في شعبة متابعة المسلم الجديد، فنريد من يعمل أو يتابع معنا، فلم يتقدم إلا ثلاثة من ثلاثة آلاف، نحلل هذه الظاهرة: إما أن يكون الجميع مشغولين بالدعوة كل واحد منهم في مجال آخر، هذا يعمل في تحفيظ القرآن، وهذا تجويد، وإما أن يكون هؤلاء الثلاثة الآلاف بعد أن نخرج منهم ألفاً هم كبار في السن، ويبقى ألفان إما أن يكونوا مشغولين فعلاً بمجالات الدعوة، ليس لديهم وقت فراغ يعملون، أو أن يكون هؤلاء لم يهتموا بالعمل في الدعوة إلى الله عز وجل، وهذه مسألة خطيرة! لو كان الثلاثة الآلاف هؤلاء كلهم يعملون في الدعوة، لرأيت أمراً آخر.
إذاً الواقع أيها الأحبة: لم تعد عندنا تلك الحرقة، وذاك الحماس، وتلك الإيجابية، وذلك التعاون والتخطيط والترتيب، وتلك المتابعة من أجل تحقيق عمل دعوي، أعرف في حي من الأحياء أحد الإخوة على ثغر دعوي، جندي مجهول، ماذا عنده؟ يعلم أطفالاً كتاب الله عز وجل و (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ويأخذهم في كل أسبوع في رحلة يقرأ عليهم من الأحاديث، ويشرح لهم، ويلعب معهم الكرة، ويعطيهم الجوائز، وهو على هذا العمل سنين مستمر عليه، يا ليت كل واحد يأخذ له مجالاً دعوياً، ويعمل فيه! لكن للأسف إلى الآن ما تحركت هذه القضية في قلوبنا الحركة المناسبة، أو بالقدر المطلوب.(193/13)
خطأ حصر القيام بالدعوة على فئة معينة
كذلك أيها الأحبة من الملاحظات: أن تجد من يرى حصر انتفاع الإسلام والدعوة في فئة معينة، يعني: يتصور أنه يمكن يخدم الإسلام فقط أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء، أو القضاة الأكابر، أو أو إلى آخره، يعني: لا يتصور أنه يمكن أن يخدم الإسلام من جميع البشر الذين أمامه.
أيها الأحبة! أنا إذا تصورت أنني لا أستطيع أن أوظف جهود الحاضرين لخدمة الإسلام والدعوة إلا من خلال مواصفات معينة، فمن تنطبق عليهم هذه المواصفات هم الذين سيخدمون، والبقية لن يعملوا شيئاً أبداً، وإذا تصورت أن جميع الحاضرين بإمكاني أن أوظف جهودهم، فأنا أستطيع أن أوظف جهوداً ضخمة وخطيرة وجبارة في خدمة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، إذاً من أين ينشأ الخلل؟ ينشأ من أنك تتصور أن خدمة الإسلام ونفع الدعوة لا يمكن أن تحصل إلا من عدد محدود، أو من طائفة معينة، والبقية لا، وبعبارة أوضح وأشمل: ينبغي أن تتصور أن الفاسق يمكن أن يخدم الإسلام، والفاسق يمكن أن يعينك في أمر ترجوه عند الله سبحانه وتعالى، ففسقه له وحسناته لله عز وجل، لكن تنفعه بإذن الله سبحانه وتعالى، {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102].
لماذا لا نتصور أن الإنسان إذا كانت عنده معاص، أو منكرات أو فسق أنه لا يمكن أن يكون عنده عمل صالح؟ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] بل إن بعض الذين عليهم سمات الفسق الظاهر، أو شيء من هذا تستطيع أنك تكلمه أحياناً، وتشعره بأنه يستطيع أن يتبنى قضايا دعوية، أو أموراً مهمة، فتجد فيه إيجابية، إذاً لماذا نعجب؟(193/14)
إسلام نصراني على يد فاسق
في مدينة الرياض رجل يشرب الخمر (سكير) لكن فيه خيراً وهو حبيب لطيف، لكنه يشرب الخمر دائماً، فشرب ذات يوم، واتصلت زوجته بأحد الإخوة متضايقة من حاله، فجاء إليهم، فوجد هذا الرجل، ووجد معه السائق -وكان نصرانياً- وجد الرجل جالساً مع السائق يتحدث معه، فعجب كيف يتحدث وهو سكران؟ فإذ به يدعوه إلى الإسلام -والذي لا إله إلا هو أيها الأحبة إن هذه قصة حقيقية- وهو ليس لديه تلك الحقائق عن الإسلام، لكن يقول: اسمه راجو، وراجو هذا أسلم في مكتب الدعوة وتوعية الجاليات في البديعة، ومحضر وشهادة إسلامه موجودة، فيقول: يا راجو! لابد أن تسلم! الرجل في حالة سكر، ليس في حالة طبيعية، طبعاً هو كان يدعوه قبل سكره، يعني: ما جاء الفتح بالدعوة يوم سكر، لا يأتي أحد الناس يقول: أنا عجزت أن أدعو! لا بد أن أشرب كأساً!!! لا، الرجل كان يدعو هذا النصراني في أوقات صحوته، كلما رآه قال: يا راجو أسلم، يا راجو أنت لماذا لم تسلم؟ يا راجو لابد أن تسلم! المهم سكر ذاك اليوم، وجلس يكلمه ويكلمه، ولما جاء الأخ ودخل عليه وجد هذا الأخ راجو متهيئاً تماماً للإسلام، فأخذه وأكمل له اللازم وأنطقه الشهادتين، وأحاله إلى مكتب الجاليات، كيف أسلم؟ والله ما أتته رسالة ولا أعطي كتاباً، لكن هذا الفاسق الذي يشرب الخمر كان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يده.
إذاً أيها الأحبة! لا نتصور أن من يفعل المعصية لا يمكن أن يفعل الطاعة، لا نحرم المسلمين من نفعه وخيره، ألم يكن الصحابي يجلد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أحد الصحابة: [أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في الخمر] فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) ما قال لهم: يستاهل، وما حفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم طرده عن مجلسه، وما حفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ منه، وما حفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنت صحابي معنا وفي الخلف تشرب خمر؟ سبحان الله العلي العظيم!(193/15)
إمكان وقوع الخير من جميع فئات المسلمين
لماذا لا نتعامل مع المجتمع من حولنا بكل إمكانية وطاقة ومقدرة ونستثمر الجوانب الخيرة فيه، قد يكون عنده تقصير في جوانب، لكن عنده جوانب إيجابية هل تحسسناها؟ هل بحثنا عنها؟ هل التمسناها؟ فإذا حركت هذا الخير في نفسه، طبعاً هذا لا يعني أنك لا تنكر عليه، لا يفهمنا أحد فهماً خاطئاً، بأنك خلاص تقول: والله ما دام هذا الرجل عاصياً أو فاسقاً وحصل منه خير، إذاً لا تنكر عليه المعصية، لا.
إنما استثمر ما عنده من الخير أولاً، ابدأه بالخير الذي عنده، وانظر كيف تنكر هذا المنكر الذي وقع فيه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن في ذلك خيراً عظيماً أيها الأحبة.
خلاصة الأمر: أن البعض لا يتصور خدمة الإسلام، أو نفع المسلمين، أو إمكان نفع الدعوة، أو فعل الخير إلا من رجل صالح، لا.
بل يمكن أن يقع الخير من صالح سابق بالخيرات، ومن ظالم لنفسه، ومن مقتصد، وهذا في نفس الوقت يجعلنا نخاف، لأننا لا نتكلم وننظر إلى الآخرين، النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر) فخف على نفسك أنت أن تكون ذاك الفاجر الذي ينصر به الدين، الله عز وجل يقول في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] لماذا لا تخاف على نفسك، وتخشى الله أن تكون ذلك المنافق الذي إذا تكلم سمع له الناس؟ وفيك نفاق قد تأصل وأنت لا تدري، هذا الكلام ليس حكماً على الآخرين فقط، بل هو أيضاً خوفٌ على نفسك، ورغبة في إصلاح الآخرين، والاستفادة من الخيرات الموجودة فيهم بإذن الله عز وجل.(193/16)
عموم خطاب القرآن للأمة بالإيمان
إن الأمة كل الأمة تخاطب بالقرآن العظيم"يا أيها الذين آمنوا" وهل كل الأمة على درجة الإيمان الكامل بأركان الإيمان وأحكامه وآدابه وشرائعه؟ لا.
ومع ذلك خوطبت الأمة بالعموم تغليباً، خوطبت بالجانب الخير فيها، دخل في هذا الخطاب الفساق أهل المعاصي الذنوب، وينادون باسم الإيمان، لماذا؟ تغليباً في الخطاب للجانب الخيّر فيهم، فلماذا لا نغلب في خطابنا واستثمار الطاقات الموجودة في مجتمعنا، أن نغلب الجوانب الخيرة في الناس، فإن ذلك خيرٌ عظيمٌ بإذن الله عز وجل.
أقول: إذا فهمت هذه القضية، فإن ذلك يجعلك تستثمر أكبر عدد ممكن من الناس، إذا كان عندك في العمل مائة زميل من زملائك في العمل فيهم عشرة متدينين إن كنت تنظر أنه لا يمكن خدمة الإسلام إلا من خلال هؤلاء المتدينين، فأنت تستثمر عشرة، وإن كنت ترى أنه يمكن أن تستثمر جميع الطاقات الموجودة في هؤلاء، فأنت تستثمر هؤلاء العشرة بدرجة ثمانين في المائة، وتستثمر التسعين بدرجة عشرين أو ثلاثين أو أربعين في المائة بمقدار الخير الموجود فيهم، لكن انظر من أي جانب تدخل، قد يكون هذا الشخص الذي لا تعده متديناً لا يحب الشريط، ولا الكتاب، لكن يمكن أن يكفل داعية، قد لا يحب شيئاً اسمه الكفالات، يمكن أن يهدي شريطاً أو ينسخ شريطاً، أو يعطيك آلة تسجيل ترسلها إلى بلدة مسلمة محتاجة، المهم أنك ستجد أن هناك مجالات خيرة تستفيد فيها بإذن الله سبحانه وتعالى.(193/17)
دعوة الأفراد ودعوة الجماعات
أيضاً من المفاهيم الغريبة والعجيبة، وهذه لاحظتها في الخارج كثيراً: أن يتصور البعض أنه لا يمكن أن تتم الدعوة إلى الله إلا من خلال جماعة، أو حزب منظم، فيتصور البعض أنه لا يمكن أن يدعو إلى الله، أو يشارك في الجهود الدعوية إلا بعد أن ينخرط في سلك الجماعة، وأن يلتزم بأحكامها وأوامرها، ونقول: هذا ليس بصحيح.
بل هناك أشخاص نراهم أكبر من أفكار الجماعات، ونراهم أوسع آفاقاً من أفكار هذه الجماعات، بعض الأشخاص الله سبحانه وتعالى أعطاه فكراً كبحر يتدفق، والجماعة قوالب معينة، فكيف تريد أن تجر هذا البحر وهذا الفكر، وهذه الفتوحات، وتجعله في قالب جماعة، أو حزب، أو مجموعة منظمة معينة؟
الجواب
يمكن أن تدعو إلى الله جل وعلا من خلال هذه الجماعة ومن خارجها، والأدلة والشواهد على ذلك في تاريخ الإسلام كثيرة، أنا أقول هذا أيها الأحبة لماذا؟ لأن بعضهم في ريبة من أخطاء جماعته، أو أخطاء حزبه، يريد أن يترك هذا الحزب، أو أن يترك هذه الجماعة مثلاً، ولكن يظن أنه إذا تركهم فلن يستطيع أن يدعو، أو يؤثر، أو يعمل، لا،
الجواب
أنه يمكن أن يعمل، وأن يلتزم، بل بعضهم يظن أنه لو ترك هذه الجماعة، لم يعد أمامه خيار آخر إلا أن ينحرف، وأن يضل ضلالاً بعيداً، هذا ليس بصحيح، بل الشريعة والعبادة والدين واضح وجلي بحمد الله عز وجل، ومجالات الدعوة- كما قلنا- متاحة، وتستطيع أن تدعو إلى الله سبحانه وتعالى دون الانخراط في هذا الحزب أو في هذه الجماعة، وهذا ليس من باب الحرب على الجماعات، بل في الجماعات حسنات وسيئات، وعندها صواب وخطأ، والحق مقبول، والخطأ مردود، ولكن المقصود بيان إمكان العمل بسهولة تامة، وتأثير بالغ دون أن يرتبط الإنسان بهذه الجماعة.
أما فيما يتعلق ببلادنا في هذه المملكة الطيبة المباركة الذي أراه أننا في بلاد لا يسوغ لنا أن نعمل في ظل جماعات منظمة أو أحزاب، هذا طبعاً كما أعلم غير موجود ولله الحمد، ليس هذا اتهاماً، لكن لو أراد أن يقول ذلك، نقول: لماذا نكون جماعة؟ نحن بلاد مسلمة، ودولة مسلمة، وعندنا خير، وأخطاء، وحسنات، وسيئات، وسيئاتنا وأخطاؤنا لا تخرجنا عن صفة الإسلام، والحسنات الموجودة عندنا تستطيع أن تستثمر جهودك من خلالها، أومن خلال قنواتها، فأنت على خير عظيم بإذن الله عز وجل، فينبغي أن ننتبه لهذا، وحينما أقول ذلك، أدعو حتى لا يقع أحد في أمر جهل منه.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
ربما شاب غرير يسافر إلى الخارج، ثم يلقى جماعة يقولون له: تعال معنا نريد أن نكون جماعة، تعال بايعنا عندنا أمير، ومسئول، ونقيب، وقل له: يا أخي الحبيب! أنا في بلد مسلمة لا أحتاج إلى ذلك، اسألهم.
قل: هذه الجماعة من أجل ماذا؟ يقولون: من أجل إقامة دولة مسلمة، قل: الآن أعيش في دولة مسلمة، الجهود التي تريدني أن أفعلها في إقامة دولة مسلمة هي موجودة، جهودي أوجهها في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف، وإصلاح الخطأ، وتكثير الخير، وتقليل الشر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، لا أن أتصور أنني ينبغي أن أعيش بكيان أو بتنظيم معين داخل هذه الدولة معاذ الله، وعلماؤنا الأفاضل وكبار العلماء قد نهوا عن ذلك، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم: (لا حلف في الإسلام) في عصور الخلافة، في عهد أبي يكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في عهد عمر هل وجدتم بعض الصحابة ذهب يصنع له جماعة من أجل أن ينكر منكراً؟ لا.
ينكر المنكر مباشرة بأساليبه، بأحكامه، بآدابه، بضوابطه، من يوفق إلى الخير يهد إليه، من يحقق الله على يده خيراً فالحمد لله، من يعجز عن ذلك، أو يبتلى، أو يحصل له ما يحصل، يصبر على ما يأتيه، وهذه سنة الله في خلقه.(193/18)
خطأ تعليق العمل للإسلام بالجهاد
كذلك من الغرائب، أو هي من العجائب: تعليق العمل للإسلام بالجهاد، فإذا لم يكن هناك جهاد فلا دعوة، ولا عمل، ولا جهد أو غير ذلك.
وهذا ليس بصحيح، إن الجهاد وسيلة لتبليغ الدعوة، فإذا حصل البلاغ بغيره حصل الخير، وأقول هذا الكلام، لأن كثيراً من الشباب الذين بارك الله فيهم، ونفع بهم، وسدد رصاصهم، وأبلوا بلاءً حسناً في حرب الشيوعيين والروس مثلاً في أفغانستان تجد بعضهم لما رجع من أفغانستان، جلس بدون عمل دعوي، لماذا لا تعمل؟ يعني ما هناك عمل إلا في جانب عسكري وإلا فلا يمكن أن تجد عملاً آخر، لا.
الجهاد مرحلة متقدمة عند تعذر الدعوة، أنت الآن في بلاد فيها مجالات دعوية كثيرة متاحة ومفتوحة، فبادر يا أخي الكريم بالعمل، ولا تجعل هذا الفكر يتسلط عليك، ترصد أو قصف، أو أسرى أو ألغام إذاً لا عمل! لا.
ستجد مجالات للعمل كثيرة بإذن الله.
بل إن هذا الفكر، وهو قول الإنسان: ليس هناك جهاد، إذاً لا أستطيع أن أعمل، ربما يدعوك إلى أنك تذهب تحرض أقواماً عاجزين عن الجهاد، أو هم أقليات في بعض البلاد تذهب وتحرضهم على أن يفعلوا عملاً وهم لا يستطيعون مواجهة هذا العدو الكبير، ثم بعد ذلك ماذا يحصل؟ إذا- لا قدر الله- حصل هذا لأنه إنسان متعلق بالجهاد وانتهى الجهاد، وما هناك عمل جهادي، ولا يريد أن يعمل إلا في ظل الجهاد، وفي غير الجهاد لا يتصور أن هناك عملاً ودعوة، يذهب ويحرض أناساً في أي جهة من الجهات، وبعد ذلك يصدقونه ويتحركون معه، وهو مجموعة أقلية مسلمة فقيرة ضعيفة مريضة ليس لديها أي إمكانيات تبدأ تتحرك وجدوا لهم خمسمائة رشاش، وألف قذيفة، وصاروخين استنجر، هيا باسم الله نبدأ بالجهاد، لا يا أخي الحبيب هذا أمر يحتاج إلى نظر، وتأمل، ودراسة، فلا يلزم من انتهاء الجهاد في أفغانستان، أو البوسنة أن تفجر الجهاد في مكان آخر، وأنت لا تدري عن أوضاعهم وظروفهم، ولا تدرس أحوالهم، ولا تعرف من يمدهم، ولا تعرف من يقف معهم، ولا تعرف هل من بينهم من هو قادر على أن يقيم مثل هذا العمل، أو لا يقيمه، فتزج بهم في معركة غير متوازنة ومشاريع عسكرية غير مدروسة، وهذا أمر خطير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(193/19)
غربة الإسلام المعاصرة
كذلك أيها الأحبة من المفاهيم العجيبة حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).
بعض الإخوة يتصور أن غربة الإسلام غير موجودة، يقول لك: يا أخي انظر هذه محاضرة، وهذا المجتمع كل الناس حاضرين ولله الحمد، والمسجد ممتلئ، وهناك محاضرات، وهناك ندوات، ولماذا الكلام عن غربة لإسلام؟ ولماذا تتكلم عن غربة الإسلام؟ الخطأ يأتي هنا، لا تحكم بغربة الإسلام وعدمها من خلال بيئتك المحافظة، أو الملتزمة، أو التي فيها أعمال دعوية، أو نشاط دعوي معين، انظر إلى غربة الإسلام والمسلمين أحياءً وأمواتاً في كثير من البلدان في الخارج، يعيشون غربةً حقيقيةً لا يستطيع أحدهم أن يأمن على نفسه ودينه، في بعض البلدان أحدهم لو صلى الفجر مرات متوالية لأصبح متهماً، وفي بعض البلدان الفتاة المحجبة تبتلى وتسجن وتؤذى، هذه غربة حقيقة، لا تنظر إلى مجتمعك، وتقول: والله أنا في خير، وما هناك غربة في الإسلام، لا.
الغربة موجودة، لكن لا تنسب الوضع إلى مجتمعك فقط، انظر إلى مجتمع المسلمين عامةً، وانظر إلى حياة المسلمين عامة؛ ستجد الغربة الحقيقية التي ربما جعلت الجيل الثاني، والثالث من أبناء المسلمين يتنصرون، تصوروا في الأرجنتين، وتشيلي، وأمريكا الجنوبية عوائل مسلمة هاجرت، فكانت النتيجة المفجعة المؤلمة أن الجيل الثالث من أبناء هذه العوائل أصبحوا نصارى بأسماء نصارى، وأجدادهم مسلمون بأسماء مسلمين، الغربة موجودة.
البعض عندما تكلمه عن غربة الإسلام، يقول لك: يا أخي نحن بخير والحمد لله، حسناً هل الإسلام كله بلادنا؟ حينما تتكلم عن المسلمين فلا تتكلم عن المسلمين فقط في حدود المملكة، بل تكلم عن المسلمين عموماً، فتتكلم عن غربة المسلمين، نعم في بعض البقاع هم بخير، وفي بقاع كثيرة هم في فتن وبلاء وشر الله به عليم، فينبغي أن ننتبه لهذه القضية.
وأقول: هذا الشعور بعدم الغربة استناداً إلى ما ترى من واقع الخير- ولله الحمد- يجعلك لا تهتم ولا تبالي بأحوال المسلمين، ولا تتألم بآلامهم، بل لا بد أن تستحضر غربة الإسلام في هذا الزمن، وغربة المسلمين في هذا الزمن حتى يتحرك الجسد، أليس المسلمون كما قال صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) نعم.
فهناك أعضاء متألمة من جسد الإسلام والمسلمين اليوم يتألمون ويتأوهون ويبكون ويسكبون العبرات، ويصيحون، ولا يجدون من يغيث، أو ينجد، أو ينصر، ولا أدَل على ذلك من الذي يحدث الآن في فلسطين من حال إخواننا المسلمين اليوم، ولكن {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].(193/20)
الحاجة الدائمة للجهاد
أيها الأحبة! إننا ما كرهنا مجيء من حرشوا على هؤلاء أمنهم وأوطانهم، أو بلادهم حتى تتحرك الغيرة الحقيقية، وأن يعلم المسلمون أن أوهام السلام الدائمة هذه غير واردة إطلاقاً، لا يمكن أن يعتقد مسلم يؤمن بالقرآن والسنة أنه سيتم سلام دائم لا يخدشه حربٌ أبداً، لأن هذا الاعتقاد يناقض الإيمان بالحديث (تقاتلون اليهود، فينصركم الله عليهم، ويقاتل معكم الشجر والحجر، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهوديٌ تعال فاقتله) الذي يتصور أنه يمكن أن تعيش البشرية في ظل سلام إلى أن تقوم الساعة مع اليهود، هذا غير وارد أبداً، وهو مخالف لنصوص الكتاب والسنة، ربما يقع سلام في أزمان معينة، لكن لن يدوم، لن يستمر إطلاقاً، وهذا هو اعتقادنا.
أيها الأحبة! أيضاً من القضايا التي نلاحظها أن بعض المسلمين عنده غيرة، أو اجتهاد، أو نوع من الحركة، ولكن مثل: المسحة الطبية صالح للاستعمال لمرة واحدة فقط، بعض الإنسان عنده غيرة واحدة فقط استهلكها في أفغانستان، ما بقي عنده أي تحمس سواءً للبوسنة، أو للشيشان، أو لـ فلسطين، أو أورونيا، أو آراكان، أو بورما، أو الفليبين، أين الغيرة؟ استهلكناها في أفغانستان، أين العواطف والمشاعر الجياشة؟ ذهبت في قضية أفغانستان، هذا ليس صحيحاً، الغيرة المطلوبة من المسلم ينبغي أن تكون متجددة في كل عصر عاش فيه، في كل زمان عاش فيه، وكذلك في كل قضية من قضايا المسلمين ليحقق هذا التآلف، وهذا الترابط الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.(193/21)
أهمية تحري الدقة في وصف الواقع
من العجائب والغرائب: أن نجد عند بعضنا مبالغةً في وصف الواقع، وتزيّداً واستطراداً في وصف الأحداث ونقلها، والواجب أن نكون أُمناء في الكلمة، وأن نصف الواقع بدقة، وأن ننقل الحدث حينما تدعو الحاجة لنقله بدقة، وألا نبالغ أبداً، صف ما رأيت، وانقل ما سمعت ولا تتجاوز.
إن المبالغة في وصف الأحداث قد تفضي إلى التثبيط والإرجاف والتخويف والإضعاف، وإن التهوين والتساهل في نقل الأحداث، ووصف الواقع قد يفضي إلى عدم أخذ الحيطة الكاملة والأهبة التامة أيضاً، فحينما نكون دقيقين في وصف واقعة معينة، فإن ذلك يجعلنا أمناء في نقل الكلمة، ونجعل الآخرين يأخذون للقضية أو للحدث حقيقتها التي لا زيادة فيها ولا نقصان.
فلو أن واحداً من الناس يقول: يا إخوان! شبَّ حريق في العمارة الفلانية -واشتعلت الأدوار الثلاثة، والأبواب، والنوافذ، فيأتي الإنسان الذي عنده رغبة في إطفاء الحريق، يقول: ماذا بقي؟ القضية انتهت والمبنى انتهى واحترق، إذاً لا حاجة، ما تجد عندك حرقة لأن تبادر، لأن المبنى احترق وانتهى، وفي الحقيقة أنه ما احترق إلا دور واحد، أو دوران فقط، فلو نقلت إليه الحقيقة، لبادر لاستدراك ما يمكن استدراكه من البناء دون أن يحترق، ويأتي آخر، يقول لك: والله إنه حصل حريق، لكنه في نافذتين وباب فقط، ولا أكثر، أو المبنى سليم، فهذا الذي يرغب أن يتحرك للإطفاء، يقول: مجرد نافذتين وباب، لا تحتاج إلى هذا الجهد كله، الناس الذين حوله يستطيعون أن يصلحوه، فانظروا من أين جاء الخلل: لما بالغنا في نقل الحدث أصبح فيه إرجاف وتثبيط ويأس، وعدم تفاؤل وإمكانية، أو غلب على الظن أنه ما عادت هناك إمكانية للسيطرة على هذا الحريق، ولما هونا من شأن الحدث، أصبح الأمر هيناً وكلناه وأسندناه إلى الذين بجواره، لكن إذا نقلنا الحدث بدقة، فإن ذلك يدعو إلى أن كلاً يأخذ أهبته، ويستعمل قدرته، ويشارك بحسب طاقته.
أقول هذا الكلام أيها الأحبة! ونحن نلاحظ أن هناك أحياناً مبالغات في نقل بعض الأحداث، ووصف بعض القضايا والوقائع، والواجب أن نكون دقيقين في نقل الكلام والأحداث، لست بحاجة أن أضرب الأمثلة مثلاً بقضية أفغانستان، فأذكر أن الكثير وأنا كنت واحداً من هؤلاء وهذا ليس والله دعوى أو بدافع كذب -معاذ الله- ولو كذب الإنسان ما كذب في منبر ولا في بيت الله، لكن بدافع الحماس يُحدث الناس على القضايا بما يُتفاءل به، تحدث الناس عن القضايا أنه سيكون كذا، وسيكون كذا، والأمل أن يحدث كذا، والأمل أن يحدث كذا، وأطلنا الحديث في الآمال والتفاؤلات، وما كان الحديث دقيقاً في وصف الواقع، فلما جاءت الغرائب والعجائب، قلنا: كيف حصل هذا؟ لو كنا أيام أفغانستان نسمع وننقل ونتداول الواقع بدقة بحسناته وسيئاته ما كان الذي يحدث اليوم أمراً عجيباً ولا غريباً علينا، لكن كنا نتكلم عن الواقع بنفس فيها تفاؤل، وأنه سيحدث كذا، وسيكون كذا بإذن الله، وهذا يدل على كذا، لم تكن هناك دقة في وصف الواقع، لكن نقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] لن يضيع كل جهد من جهاد، أو حماس، أو تبرع، أو بذل، أو عمل يرجو به الإنسان وجه الله عز وجل، حتى وإن تقاتل المجاهدون، أو اختلفوا، أو قامت بينهم الفتن، نسأل الله أن يصلح أحوالهم بإذن الله عز وجل.(193/22)
القبول بما تيسر من العمل
ومن القضايا والمفاهيم الغائبة: أن البعض يطمح إلى أعلى درجات العمل أو عدم العمل.
يعني: إما أن يركب سيارة شبح (ستمائة إس إي إل) أو يمشي حافياً، وينيت، كرسيدا، بيجو، هذه غير واردة، إما شبح ستمائة أو المشي حافياً، حسناً يا أخي الحبيب أليست هناك درجات في وسائل النقل بين هذه السيارة وبين أن تمشي حافياً؟ إما أن تلبس حريراً أو تتعرى!! هذا ليس بصحيح.
تجد البعض مثلاً تقول له: العمل، الدعوة، النشاط، يقول لك: انظر يا أخي متى ما صارت الأمور كذا وكذا وكذا -وأعطاك مواصفات مثالية متكاملة رائعة لمجتمع لا ينقصه شيء- وإلا فلن أعمل، أساساً لو كان الوضع هكذا ما احتجنا إلى عمل.
فيا أخي الحبيب! عود نفسك أن تعمل في ظل القدرات والظروف والأجواء المتاحة أمامك، أنت الآن تقود سيارة نزل الضباب، تهدئ السرعة، ارتفع الضباب، تستطيع أن تسرع قليلاً، زاد الضباب، تمشي رويداً رويداً، لو تمشي عشرة كيلو متر في الساعة، فدائماً ضع هذا أمامك إمكانياتك المادية، اندفع بقوة إذا ارتفع الضباب، ضباب الفقر وإمكانياتك المادية ضعيفة، اعمل في ظل هذه الإمكانيات المادية لنزول ضباب الفقر مثلاً، وبهذه النفسية يكون عندك استعداداً أن تعمل صيفاً وشتاءً ليلاً ونهاراً في جميع الأجواء والظروف، وتستمر على العمل بإذن الله عز وجل، لأن البعض إما أن يعمل في كل مجال، وفي كل ميدان وبأعلى طاقة، وإما ألا يعمل، وأقول: هذا من المفاهيم الغائبة، وربما هو من وسوسة الشيطان أيضاً {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة:268] فمبدأ:
ونحن أناسٌ لا توسط بيننا لنا القبر بين العالمين أو الصدر
يا إما أعلى قمة، أو القبر، هذا ينبغي أن نزيله في الدعوة إلى الله عز وجل، وأن يكون مبدؤنا في الدعوة: أن تعمل في كل مكان بقدر الإمكانيات والمجالات والظروف المتاحة بإذن الله عز وجل.(193/23)
ترك العجلة ومراعاة عامل الزمن
من الغرائب: العجلة، العجلة (ولكنكم قوم تستعجلون) {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37].
فلا تكن عجلاً في الأمر تطلبه فليس يحمد قبل النضج بحران
ينبغي للإنسان أن يعطي الأمور قدرها، الصغير لا يكبر إلا في ظل زمن، البيت لا يبنى إلا في زمن، الإنسان لا يأخذ الشهادة الجامعية إلا في زمن، ستجد أن الزمن ظرف وعنصر رئيسي في كثير من القضايا، ولا تبلغ الأمور أشدها وتستوي جيداً إلا بمرور الزمن، فكذلك العمل والدعوة والإصلاح وكثير من القضايا تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى زمن، وتحتاج إلى تفاؤل، وعود نفسك على التفاؤل يا أخي، إن تشاءمت فإنك تقتل نفسك، وإن تفاءلت فأنت تدفع نفسك، وتتنفس عبيراً ونسيماً طلقاً بإذن الله عز وجل، تستطيع أن تقول: نصف هذا الكأس فارغ متشائماً، وتستطيع أن تقول متفائلاً: نصف هذا الكأس مملوء، تستطيع أن تقول في العسل:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
ذماً ومدحاً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
تستطيع أن تقول إذا كنت محباً لأبيك: هذا والدي، وتستطيع أن تقول: هذا زوج أمي، القضية واحدة، لكن بحسب ما في نفسك وما في شخصيتك من التفاؤل ينعكس على أسلوبك وعباراتك، وبحسب ما في نفسيتك وشخصيتك من التشاؤم ينعكس أيضاً على أسلوبك وعباراتك.(193/24)
التمسك بالدعوة في جميع المواقف
في الختام ينبغي ألا تجعل ضعف موقفك سبباً في قعودك عن الدعوة إلى الله عز وجل، لا يمنعك من الدعوة ضعف موقفك، أو ضعة موقعك كأن تكون صغيراً بين كبار، أو فقيراً بين أغنياء.
نعم أيها الأحبة! هل تتصورون موقفاً أضعف وأحط من موقف تلك المرأة التي كانت على فراش الزنا بين رجلي الزاني، على حالة من الفقر والضعف، ومع ذلك ماذا قالت؟ كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة من الجبل، فانطبق الغار عليهم بهذه الصخرة، وقالوا: إنه لن ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، الأول توسل إلى الله ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله عز وجل بأنه أعطى الأجير أجره، والثالث توسل إلى الله بأنه كانت له ابنة عم، وكانت على أحسن ما تكون عليه النساء، وأنها كانت تحتاج إليه، فيراودها عن نفسها، فتأبى وتتمنع، وأنها جاءته في سنة قحط أو جدب، فأرادت منه الإعانة أو المال، فقال: لا أعطيك حتى تمكنيني من نفسك، فتحْت ذِلة الحاجة ووطأة الفقر وجدب السنين وقحط الأرض، رمت بنفسها تحت قدميه، فلما تمكن منها، ما كان موقفها الضعيف الذليل صارفاً لها عن الدعوة، بل في تلك اللحظة التي هي في أحط موقف، قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، حتى في اللحظات الأخيرة من الضعف والهوان، فنفعت تلك الرسالة، وتلك الدعوة، وتلك الكلمة، فقام وتركها وترك المال.
إذاً: لا يمنعك ضعف موقفك وموقعك من الدعوة إلى الله عز وجل.
وكما مرَّ بنا: إن موقف الهدهد الطائر أمام الملك النبي سليمان عليه السلام ما منعه من أن يدعو وأن يبين، وموقف النملة تحت جيش جرار يهز الأرض، ما منع النملة أن تنصح قومها {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل:18].(193/25)
أهمية وضوح الموقف
أيها الأحبة وختاماً: وضوح المواقف أمر مهم جداً: إن الكثير من الشباب لا تجده ينطلق في الدعوة، وحياته، وتعامله من مواقف واضحة، على سبيل المثال: وأنا أقول هذا الكلام ديانةً، لأنني أعتقده عقيدة أدين الله عز وجل بها، يعني: ستجد البعض حينما تناقشه في مسألة، تقول: هذا أسلوب لا يليق، أو لا يناسب، لماذا؟، تقول: لأننا في مجتمع فيه حاكم شرعي، وله بيعة، وله سمع وطاعة، وقد اجتمعت الأمة هنا عليه، وأهل الحل والعقد قد بايعوه، فأنت تعتقد أن هذا الأسلوب لا يناسب، ولا يجوز، ولا يرضي، فلا تجده يسلم لك، ولا تجده يفصح عما في نفسه مثلاً، فالغموض واللعب بالمواقف هذا لا يصلح، كن واضحاً وضوحاً جلياً جيداً، عندما يقولون: ما هو موقفك من هذه القضية؟ ترفعها بكل وضوح، موقفك من أهل البدع؟ وموقفي واضح، موقفك من الفاسق، كيف تتعامل في خيره وتنصحه وتتقي شره؟ لا بد أن تكون واضحاً، هذا الوضوح ينعكس أخي الحبيب على أسلوبك.
أذكر- والشيء بالشيء يذكر- أن المارق المسكين هذا الذي اسمه المسعري صاحب لجنة الحقوق جمعني به مجلس قبل أن يفعل فعلته هنا، فأخذ يتكلم حديثاً اشمأززت منه، فقلت له: يا أبا فلان، يا دكتور أنا أوافقك بشرط أن توضح لي الآن موقفك، هل أنت ترى بيعة وسمعاً وطاعةً، وتوافق ما أجمع وأطبق عليه كبار العلماء الأخيار الأبرار الصالحين، أم لا؟ قال: لا، لا، لا، هذه قضية ما لها داعي، ولا تدخلها في حديثنا، قلت له: لا، اطرح هذه القضية أولاً، فإذا اتفقنا عليها، تفرع عنها أسلوبنا في الدعوة، فإن أسلوبك في الدعوة فرع عن موقفك من الوالي، أو الإمام، أو الحاكم، إن كنت ترى بيعته، فأسلوبك يختلف، ويتمشى بحسب أوضاعك، وإن كنت لا ترى ذلك، فأسلوبك يختلف أيضاً، ليس هذا باتهام لأحد، أو بقول على أحد، لكن أنا هذا الحديث الذي دار بيني وبين هذا الرجل، ولا أعممه على أحد أبداً، فأقول: لا بد أن يكون الإنسان واضحاً في مثل هذه القضايا لمصلحة الدعوة إلى الله عز وجل، ولمصلحة استمرارك في العمل الدعوي، وإذا كتب على الإنسان ما كتب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الأحبة! هذا بعض ما جمعت في هذه القضايا أو هذه الأمور التي وجدتها إما مفاهيم غائبة، أو أخطاء يقع فيها الكثير، فأسأل الله عز وجل أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن ينفعنا وإياكم بها، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يرحم المستضعفين في كل مكان، وأن ينصر المجاهدين في فلسطين، وأن ينتقم من اليهود عاجلاً غير آجل، وأن ينصر إخواننا في الشيشان، وفي الفليبين، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لهذه الوجوه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيما إلا زوجته وأسعدته يا رب العالمين، ورزقته ذريةً صالحةً بمنك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا على طاعتك، ولا تفرّح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.(193/26)
أرقام تتحدث عن حال المسلمين في البوسنة
أيها الأحبة قبل الإقامة هذه رسالة كريمة من أخ كريم وهو الشيخ/ عبد الكريم بن سعد المقرم مدير مكتب منطقة مكة المكرمة للهيئة العليا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك، يقول فيها -الخطاب إن شاء الله إلى الجميع-: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد خلفت الحرب الطاحنة التي دارت رحاها أكثر من ثلاث سنوات في جمهورية البوسنة والهرسك الكثير من المآسي والمعاناة التي جفت في ذكرها المحابر، وتكسرت في وصفها الأقلام، وضاقت بحروفها وجملها الدفاتر والأوراق، وإليكم هذه الأرقام الناطقة لتتصوروا معنا فظاعة ما حدث: مائة شخص كانوا يموتون يومياً بسبب الجوع.
مليونان ومائة وثلاثون ألف لاجئ داخل البوسنة وخارجها.
أربعة عشر ألف وثلاثمائة وخمسة وسبعون نوموا في المستشفيات بسبب الأمراض والإصابات.
مائتان وخمسة وسبعون ألف قتيل.
خمسون ألف طفل وشاب معوق.
ألف مسجد تم تدميرها.
خمسة وثلاثون ألف طفل ماتوا برصاص القناصة.
تسعون بالمائة من أطفال البوسنة كانوا يعيشون في خنادق تحت الأرض.
خمسين في المائة من أطفال البوسنة شاهدوا مقتل أقاربهم وجيرانهم.
أربعون في المائة من أبناء البوسنة فقدوا الأب والأم.
نسأل المولى جلت قدرته أن يرفع البلاء، وأن يكشف الهم، وأن يزيل المحن عن المسلمين في كل بقاع الأرض، والهيئة العليا بتوفيق الله، ثم بدعم متواصل من حكومة خادم الحرمين الشريفين أيده الله والمحسنين في هذا البلد تقوم بدور عظيم لدعم صمودهم وتخفيف آلامهم ومواساتهم بما تقدمه هذه الهيئة المباركة من مساعدات إنسانية في مجالات الطب والتغذية والتعليم مع الدعوة إلى الله، وذلك بتبصيرهم بأحكام الدين، وتدريس القرآن في المساجد إلى آخر هذا الخطاب.
يقول: وحيث إن الله تعالى وفق قادة هذه البلاد الكريمة لنصرة قضايا المسلمين في كل مكان، وجعل أبناء هذه الديار كالبلسم الشافي لجراح المسلمين، وهذه نعمة من نعم الله، فعليه نأمل من إخواننا التعاون معنا في تحريك المشاعر الإسلامية والإنفاق في سبيل الله والعناية بالبذل، وتسليم التبرعات لمندوب المكتب علماً بأن الجمع سيكون في صناديق مغلقة، وسيتم فتحها وجردها بإشراف لجنة مختصة في مقر المكتب.
لذا أيها الأحبة أدعوكم ونفسي أن تتبرعوا، وأن تبذلوا ما استطعتم لهذه اللجنة الموفقة المباركة، أسأل الله أن يدفع بذلك البلاء عنا وعنكم، واعلموا أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع أنواع البلاء، وتدفع ميتة السوء، أسأل الله أن يكفينا وإياكم كل شرٍ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(193/27)
من يحقن دماء المسلمين؟
هذه خطبة تتحدث عن مآسي المسلمين في أرض البلقان -البوسنة والهرسك- كما تتعرض لبعض جرائم الصرب في حق إخواننا المسلمين هناك.
ثم هي نداء إلى كل مسلم غيور، من أجل أن يبذل كل ما يستطيع في سبيل نصرة إخواننا في أرض البلقان.
وقد كان هناك تعقيب للشيخ عمر أحمد سيف تحدث فيه عن فضل الجهاد والمجاهدين، وعن الشرك وبعض أقسامه.(194/1)
مآسٍ من أرض البلقان
الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء, وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الخالق من العدم، ومسدي النعم، ودافع النقم، ومبيد العصاة من الأمم، الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله حتى يرضى، والحمد له إذا رضي، والشكر له إذا رضي.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، والفلاح في الدنيا والآخرة، أشهد أن لا إله إلا الله، واحد في ربوبيته، فلا مالك ولا مدبر ولا متصرف ولا محيي إلا هو، واحد في ألوهيته، فلا يعبد ولا يذبح ولا ينذر لغيره، الحمد لله، واحد في أسمائه وصفاته، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، كان بنا براً رءوفاً رحيماً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فلا نجاة -والله- إلا بها، يوم تضيع الأحساب، ولا تنفع الأنساب، وتتطاير الصحف، ولا ينفع خليلٌ خليلاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
عباد الله: يقول الله جل وعلا: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
معاشر المؤمنين: وما تزال أنهار الدماء تجري، وما يزال الجرح النازف صبيباً سكيباً على أرض البوسنة والهرسك، الذي لا يحيط مدى وصفه إلا الله جل وعلا.(194/2)
أين ذهب دعاة حقوق الإنسان
عباد الله: وما تزال جهود الأمم الأوروبية المشتركة، دعاة الديمقراطية، وأساطين حقوق الإنسان، ما زالت تواصل سعيها، حتى أمنت أرواح الكرواتيين، واطمأنت على دماء النصارى، وبعد ذلك لم تبالِ ولن تبالي بأي واد هلك المسلمون، وبأي نهر جرت دماؤهم، ومن ذا ينتظر من العدو رحمة؟ ومن ذا ينتظر من الحاقد براً؟ عباد الله: إخوانكم الذين سمعتم وقرأتم وعلمتم عن أحوالهم، لا تزال الأحوال في ضعف ونقص وهلاك، وقبل يومين أو ثلاثة وصل إلى جدة واحد من الأفاضل الذين زاروهم هناك، وقال: إن دام الأمر على هذه الحال، فتقبلوا العزاء في كل المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك، إذ أن الحرب ضارية، والعداوة مشتعلة، ولا تفرق بين حبلى أو حائل، أو صغير أو كبير، أو عجوز أو فقير، فإنها حرب تمشيط وتصفية، عودة صليبية كما حصل للمسلمين في الأندلس، في الوقت الذي نرى فيه شعارات حقوق الإنسان ترفع، وفي الوقت الذي نرى فيه الهيئات تتخطى ملايين الأميال لكي تعالج قضايا بعيدة معالجة الشطط والحيف والجور والإثم، وتغمض بعين ملؤها الحقد، تغمض عما يدور بجوار منطقة أوروبا أو في وسط دول البلقان.(194/3)
صرخة من سراييفو
معاشر المؤمنين: باختصار وضع البوسنة والهرسك الآن أموال للنهب والسلب، وبيوت للدمار، وصبايا للاغتصاب، وأحداث للفواحش، وشيوخ للهوان، وعجائز للتشرد، ونساء للترمل، وأطفال لليتم.
إن دام هذا ولم يحدث له غيرٌ لم يبكَ ميت ولم يفرح بمولود
معاشر المؤمنين: نشرت إحدى الجرائد، وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير من حقائق ما يدور, أن عروساً دخل عليها الصربيون فلم تجد بعد مذبحة عظيمة, وبعد هتك ما ترك فيها عفة، كفنت أسرتها بثوب زفافها.
وفي سراييفو العاصمة دماء, وخطف, واغتصاب, وتهرب الأم التي تهيأت للمخاض، وتجد آلام الطلق, تخرج هاربة من البيت، فيقعدها المخاض على الأرض، وتخر جاثية، فتلد في الطريق، تتشحط بنزيف ومرض ولا تجد من يغيث، وتترك طفلها بحبل سرته، مرتبط بها، تحت رحمة أقدام الغادين والرائحين!! معاشر المؤمنين: أهذا شيء يخطر بالبال أن يقع بالمسلمين؟!
قل للغفاة عن الجهاد ألم تروا ماذا يراوح دينكم ويغادي
أأموت في كف اللئام وأنتم حولي ولم يهززكم استنجادي
كم واحد منكم وممن سمعوا الصيحات حمل اللواء، وأقام الليل، واجتهد في الدعاء، وقاد حملة التبرعات، وبذل ما يستطيع، أم اكتفينا بخطبة وقتية، ومشاعر آنية، وبعد ذلك كأن شيئاً لم يكن.
أأموت في كف اللئام وأنتم حولي ولم يهززكم استنجادي
صرخات المسلمين في البوسنة والهرسك، تنادي كل مسلم في قلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتقول له:
أأموت في كف اللئام وأنتم حولي ولم يهززكم استنجادي
أأرد عن داري أأقتل صابراً بيد الحقير أتستباح بلادي
يا نائمين على الحرير وما دروا أنا ننام على فراش قتاد
متلفعين دم المعارك ما لنا إلا الحصى في القفر ظهر وساد
نغدو على النيران يذكيها لنا غدر اللئام وخسة الأوغاد
ونبيت لا ندري أنصبح بعدها أم أن عين القتل بالمرصاد
يا نائمين وما دروا أنا هنا لسنا نذوق اليوم طعم رقاد(194/4)
أبناء البوسنة والهرسك في أحضان المنصرين
معاشر المؤمنين: من تنتظرون وما تظنون؟ من تتوقعون أن يعمل في ظل هذه الظروف، إلا من رحم الله من المسلمين؟ بدأت الأميرة اليزابيث مع مطلقة المليونير الأمريكي إيفان ترامب، بدأت بحملة شعبية في لوس أنجلوس لجمع التبرعات لأطفال البوسنة والهرسك، كافرة تقود حملة لإغاثة أطفال المسلمين! وأين أنتم معاشر المسلمين؟! والحملة في برنامجها شراء سيارة لنقل الضحايا، ولماذا الحملة لأجل الأطفال؟ معلوم أنها حملة لجلب الأطفال وتربيتهم في معاهد فيالق السلام، ورسائل الإصلاح، وصوت الأناجيل، ومحاضن التبشير والتنصير، ما كانت حملة رحمة، ولا حملة إنسانية، وإنما حملة لأجل قطف ثمرة ريعان الصبا، وتفتح الطفولة على مبادئ ومعتقد الأرثوذكس والبروتستانت والكاثوليك، وأما الهيئات الإسلامية مع وجودها في الساحة، إلا أن جهدها لا يكاد يذكر بالنسبة لواقع المصيبة، وواقع الحملة الصربية الشعواء.(194/5)
من المسئول عما يحدث في أرض البلقان
معاشر المسلمين: من الملوم؟ من الآثم؟ من الذي يتحمل مسئولية هذا الهدر لأرواح المسلمين، وهذا النزيف لدمائهم، من يتحمل هذا؟! كل مسلم قدر على شيء تجاه هؤلاء فقصَّر أو بخل به، أو قعد عن القيام به، يناله من الإثم بقدر ما تحمل من المسئولية، وبقدر ما قدر عليه من الواجب، لن نعلق المسئولية على أحد بعينه، كل واحد منا يسأل نفسه وليسأل نفسه: ماذا استطعت أن تفعل وبم؟ معاشر المسلمين: لقد كان بوسع الرئيس علي عزت بيقوفتش، والمسلمين في البوسنة والهرسك، لقد كان بوسعهم أن يمدوا يد الخيانة والنفاق، ويد العمالة ويعلنوها دولة الأديان، كما تنادي بعض البلدان على مبادئ البانش سلا، والمبادئ الخمسة، وتعايش الأديان في ظل سلمي، لقد كان بوسعهم أن يعلنوها دولة الأديان، ودولة النصارى، ودولة الإسلام، ودولة العلمانية، ودولة الوثنية، ودولة كل بدعة, وكل ملة، وكل نحلة، ولكنهم أعلنوها فقط دولة إسلامية، فكان جزاؤهم ما ترون، ولو باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، لكان أول من يفادي عنهم حلف الناتو، ودول الكمنولث، وأول ما يدعمهم السوق الأوروبية المشتركة، وتكون قضاياهم على أولويات مقاعد الهيئات الدولية.
ولما اختاروا الإسلام اختير لهم أن يكونوا في إرشيف القضايا، كقضية فلسطين، وإن حركت أوراق الصادر والوارد في القضية، أما صُلب القضية فلا حوار ولا جدال حوله.
معاشر المؤمنين: ومع هذا فثقتنا بالله أن النصر للمؤمنين، وأن العزة للمسلمين: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وثقتنا في الله بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص:5] ألم يستضعفوا؟ بلى.
أليس وعد الله حق؟ بلى.
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
معاشر المؤمنين: والله لو اختار المسلمون في البوسنة والهرسك، أن يعلنوها علمانية، أو يعلنوها دولة الأديان، لتكفل النصارى بأبنائهم، ولتحركت حقوق الإنسان لنجدتهم، ولحسمت قضاياهم في أول قطرة أريقت منهم، أما وقد أرادوا الإسلام فلا سبيل إلى الرحمة والنجدة: {هَاأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ} [آل عمران:119] في المحافل في الهيئات على جدران الصحف وأوراق المجلات: {قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران:119].
وكيف نظن بنصراني حاقد أنه قد رضي عنا، وقول الله أبلغ: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؟!(194/6)
نداء إلى كل مسلم
ولكن يا عباد الله! أين الرجال؟ أين الشباب؟ أين الشابات؟ أين المعلمات؟ أين الصالحات؟ أين الغيورات؟ أين المثقفون؟ أين المتدينون؟ أين المتعلمون؟ أين كل مسلم مهما بلغت ذنوبه، وظهرت معاصيه، وفشا فسقه، أين هو عن هذه النجدة؟! إن المعصية لا تمنع الطاعة، وإن السيئة لا تمنع الحسنة، بل ذلك سبيل إلى محو المعاصي والسيئات.
أين الرجال الذين أسروا ضباط الروس في أفغانستان؟ أين الشباب الذين كسروا فلول الصاعقة، وكانوا سبباً من أسباب انهيار دولة عظمى، ودمروا صنم لينين؟ أين الذين ذبحوا الشيوعيين على الطريقة الإسلامية؟ أين أولئك؟ هل كلت منهم السكاكين؟ أم تثلمت منهم المدى؟ أين أسامة؟ أين الأسد؟ أين أسود الشباب؟ أين أسود الرجال يا عباد الله؟ إنها صرخة ليست لمن في هذا المسجد وحده، بل لمن سمع النداء: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84].
من لإخوانكم يا عباد الله؟!
من للثكالى إذا ناحت نوائحها من للجراح التي استشرت بوادينا
من لليتامى إذا سالت دموعهم على الخدود وقالوا: من يواسينا
من للضحايا إذا ضجت مرددة صدى المنية قل اليوم باكينا
من للسيوف وقد لانت أسنتها أيغمد السيف قهراً في نوادينا
أين السيوف على الأعداء مشرعة بوارق في خضم النقع تهدينا
الله أكبر يا غارات معتصم عودي ففي القلب شوق كاد يفنينا
معاشر المسلمين: لعلها صيحة تبلغ آذان الغيورين، تبلغ آذان الذين دعموا الجهاد في أفغانستان، وشاركوا الجهاد في أفغانستان، أن ينقلوا رحى الحرب إلى دول البلقان، واعلموا أن الحرب لن تكون فقط على البوسنة والهرسك.
فالليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبه
اللهم عليك بالصربيين، اللهم أنزل عليهم طيراً أبابيل، اللهم سلط عليهم جنودك الذي لا يعلمهم إلا أنت، اللهم اقتلهم بدداً، وأحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم ارحم المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم ارحم المستضعفين هناك، اللهم احقن دماءهم، واجبر كسورهم، وفك أسراهم، وارحم ضعفهم، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(194/7)
ابذلوا أموالكم ودعاءكم في نصرة المجاهدين
الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أمة الإسلام: متى نبلغ مرحلة نتجاوز فيها وصف الأحداث، وتحليل الوقائع؟ متى نبلغ مرحلة يكون الحدث إشارة لانطلاق الفعل؟ متى نبلغ مرحلة تكون الواقعة انفجاراً تجاه المطلوب؟ متى نبلغ مرحلة تكون المذابح والمآسي بداية أو انطلاقة لنقدم ما ينبغي، لنبذل ما يجب، لنتفاعل على الوجه الصحيح، أما أن نتقلب في وصف الأحداث، ونخرج من الجوامع والمساجد، قالوا عن اليوغسلافيين كذا، وقالوا عن الألبان كذا، وقالوا عن الأفغان كذا، ثم نعود بعد ذلك كما قال شاعر قوم عاد:
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التنامي
نتقلب على الفرش، وبين الضياع والزوجات.
معاشر المؤمنين: علينا أن ننتقل من مرحلة وصف الأحداث، ليسأل كل واحد منا نفسه: ماذا علي أن أفعل؟ وماذا ينبغي لي؟ فإن سمعت الجواب وإلا فاسأل، حتى تبلغ الجواب.
معاشر المؤمنين: تعودنا في أحداثنا أن نكون كما قيل: أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل، إننا لو لعنا الصربيين من الآن إلى ألف سنة قادمة، هذا لا يغني عن خطوة إيجابية في كفالة يتيم، أو تجهيز مجاهد، أو إرسال سلاح، أو شراء عتاد ينفع إخواننا هناك، أما أن نردد المآسي، وأن نذكر المصائب، فنحن كمن يصف سيارة اتجهت لكي تدهس بيته وأولاده، فأخذ يرقب النافذة، ويقول: السيارة اقتربت، السيارة دنت، السيارة وصلت، إلى أن تدهسه وبيته في مكانه، هذا لا يجدي ولا ينفع.
عادتنا أن نصف الأحداث وننتظر غيرها، كما قال القائل:
حرب حزيران انتهت
وكل حرب بعدها ونحن طيبون
تغلل اليهود في بلادنا ونحن عائدون
ناموا على فراشنا ونحن راجعون
وصوت فيروز من الفردوس يأتي عائدون
حرب حزيران انتهت
جرائد الصباح ما تغيرت
الصور العارية النكراء ما تغيرت
إذا خسرنا الحرب لا غرابه
لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه
بمنطق الطبلة والربابه
إنا نتوق لألسن بكم على أيد فصاح
الكفر جمع شمله فلمَ النزاع والانتطاح
يا ألف مليون وأين هم إذا دعت الجراح
هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
من كل ألف واحداً نغزو بهم في كل ساح
ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في المسند عن ابن عمر: (الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) ولكن قبل أن نفيض في هذا السؤال، وندع لكم الجواب، ولنسأل بهمسة: هل نحن جادون في خدمة الإسلام؟ هل نحن جادون في التضحية للإسلام؟ إن من ادعى الصدق سيسأل: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] إن العمل لا يقبل إلا بإخلاص وصدق، ومن ادعى الصدق فسوف يسأل: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] أسأل الله جل وعلا أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه.
أحبابنا! الدعاء الدعاء في كل سجود في الفرائض، وفي الوتر والنوافل والرواتب، قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] وهل ضرورة واضطرار أعظم من هذه؟ لا والله.
فيا عباد الله: الدعاء الدعاء، والله لأن تجمع أطفالك وصبيانك المميز وغير المميز, والصغير والكبير، ثم ترفع يديك وتدعو وهم يؤمّنون، لهذا مما تبذله وتقدمه لإخوانك في يوغسلافيا.
كذلك -أيها الأحبة- ماذا خصصنا من أموالنا شهرياً حتى تنجلي هذه الغمة؟ مصيبة ليس لها من دون الله كاشفة، ماذا قدمنا؟ نخصص للخادمة كل شهر خمسمائة ريال، ونخصص للسائق كل شهر ألف ريال، فماذا خصصنا للضحايا والأيامى واليتامى الأرامل والمنكوبين والمساكين، مرة واحدة أدخلنا اليد في الجيب، ثم قذفنا بمائة أو أكثر أو أقل وانتهت العهدة، وكأنها شقت عنان السماء.
لا بد أن يستمر البذل، ولأجل ذلك فسنستمر في هذا المسجد في كل شهر جمعتان، الجمعة الماضية وقبل الماضية والجمعة القادمة، وسنستمر بعد كل جمعة، سنجمع لهذه النازلة إلى أن يأذن الله بالفرج، إلى أن نعذر, ولا أدري كيف نعذر ونحن نقدر على ما هو أكبر.
معاشر المؤمنين: هذا أقل ما نفعله، ألا تجتمعون على طعام إلا وقد بذلتم شيئاً من قيمة ما تلذذتم به، لكي يواسى به من جرح هناك، ولا زواج ولا زفاف ولا عقيرة أو تيرة أو وكيرة أو أي مناسبة، إلا وقد بذلتم من الأموال ما تتذكرون به أثناء لذتكم بالطعام والشراب، تتذكرون به من يتضورون جوعاً، ويموتون حفاة عراة، وينبغي أن نستمر.
فينا -معاشر المسلمين- مللٌ من قضايانا، كثير من الناس ملّ قضية فلسطين، وإن جاوزت الستين عاماً، وكثير من الناس بلغ قلبه حنجرته، وظن بالله الظنونا، لما بلغ الجهاد عنق الزجاجة، وتآمرت الهيئات الدولية، وبعد هذا كله أذن الله بفرج من عنده، إذا انقطعت أسباب الأرض، تفتحت أبواب السماء، ولا يبلغ العبد حقيقة التوكل، إلا إذا قطع التعلق والرجاء والطلب من البشر، وتعلق بالله جل وعلا، حينئذٍ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:10 - 11].(194/8)
الابتلاء قد يكون بالسراء أو بالضراء
أيها الأحبة: لنتعلق بالله، ولنعلم أن أسبابنا مما نتعبد به الله، وليست الأسباب هي كل الحدث، أو ما يغير الحدث، لكنها ابتلاء وامتحان من الله لنا، إن الله قادر أن يقتل الصربيين بغاز في السماء يهلكهم، إن الله قادر على أن يفجر بركاناً أو يحرك زلزالاًَ، أليس الذي يجعل الجبال كالعهن المنفوش يوم القيامة قادر على أن يحرك جبلين أو ثلاثة؟ أو يزلزل الأرض من تحت أقدامهم فيهلكوا؟ بلى.
ولكن ليبلوكم.
قد ابتلاهم الله بالضراء، وابتلينا بالسراء، ولكل بلوى فعل، ففعل من ابتلي بالسراء صبر، وفعلنا في السراء شكر، وحقيقة الشكر أن نبذل، ليس شكر اللسان:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فماذا قدمتم يا معاشر المؤمنين؟ اسألوا أنفسكم، واعلموا أن المطاف والمرحلة قادمة على ألبانيا، وستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله، والله بصير بالعباد، إن هذه الحملة ليست حملة على اليوغسلافيين البوسنة والهرسك لأنهم البوسنة والهرسك، بل إنها حملة لأنهم مسلمون، لأنهم يريدون الإسلام، وفي ألبانيا ثلاثة مليون وستمائة ألف مسلم قد ينتظرهم الدور، وفي غيرها من دول البلقان، أترضى أوروبا الصليبية أن تقوم دولة أصولية إسلامية في وسط أوروبا، لا.
لن ترضى أبداً؛ ولأجل ذلك فإذا جاءكم صريخ الألبان يدعوكم إلى النجدة كما جاء صريخ البوسنة والهرسك، فابذلوا وادعموا وأعطوا السلاح والمال، قبل أن تحل المعركة، ليس بإخوانكم في البوسنة والهرسك جبن، بل والله إنهم الآن يقاتلون ببسالة، وقد حمي وطيس القتال، ولكن عزل ليس معهم بندقية أو رشاش، وقيمة الرشاش مائة وخمسين دولار فقط هناك، عجزوا عن تأمين رشاش لكل بيت، حتى يدافع الناس عن أنفسهم وأعراضهم، ومع هذا كله فالقصف ليس في حرب المدن، بل بالراجمات والصواريخ والمدافع الثقيلة.
لا يجدي وصف الأحداث، ولا ينفع كثرة الكلام، نريد عملاً وفعلاً، نريد من كل واحد منكم، وكل من يسمع هذا الكلام أن يقدم ميزانية شهرية للهيئات الإسلامية، التي تبذل وتدعم وتقدم النجدة والفزعة في هذه البلية، هذا ما ننتظره.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فاشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أهلك العلمانيين، اللهم سلطهم على بعضهم، اللهم افضحهم بأقلام بعضهم، اللهم سلطهم على بعضهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم فرج كربتهم، اللهم اكشف الغمة عنهم، اللهم اجبر كسرهم، اللهم تكفل بأيتامهم، اللهم استر نساءهم، اللهم ارحم شيوخهم وعجائزهم.
اللهم عليك بالصربيين، اللهم سلط عليهم جنودك يا رب العالمين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط سلاحهم في جباههم، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم بدل ضعف المسلمين قوة، وشتاتهم دولة، وذلتهم عزة، وفقرهم غنى، وجوعهم شبعا، وعطشهم ريا، بمنك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فجازه اللهم بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفرانا، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم تمم نصرهم، اللهم أقم على الحق دولتهم، اللهم اجمع شمل قادتهم، اللهم اخزِ شيطانهم، اللهم اطرد المنافقين والمفسدين من حولهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم بصرهم، اللهم بين لهم، اللهم اهدهم، اللهم اجمعهم على الهدى يا رب العالمين، اللهم لا تخيب ظنون وآمال المسلمين فيما عندهم من الهدى والخير يا رب العالمين.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، إلهنا اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى الجنة بعد الشهادة مصيرنا ومآلنا بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم أمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم سخر لنا ولأئمتنا ودعاتنا وحكامنا ملائكة السماء بقدرتك، وجنود الأرضين بقدرتك، واجعل ذلك في طاعتك يا رب العالمين، اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرارنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر , وعمر , وعثمان , وعلي، وارضَ اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(194/9)
تعقيب للشيخ: عمر أحمد سيف عن الجهاد وأقسام الشرك
السَّلامُ عَلَيَّكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ الحمد لله, الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض, وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير, يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور, الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38 - 39].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله, أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, وأمره أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] , وأمره كذلك بأن يكون أول من أسلم, وأن ينفذ أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في ذروة سنام الإسلام فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84] صَلَّى اللهُ عليه وعلى آله الأطهار, وأصحابه الأبرار, الذين آمنوا به ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وعمموه ونشروه في الأقطار.(194/10)
فضل الجهاد والمجاهدين
إخواني في الله، أحبابنا في الإيمان! لقد جئت إلى هذا المسجد وأنا أسمع لخطيبنا المسطع, والشاب النبيل المجاهد الأخ: سعد البريك , وفي نفسي وذهني كلمات هيئتها لأقولها, ولكني حينما سمعت هذه الخطبة التي أخذت بمجامع القلوب, ووصلت إلى الأعماق, ولم تترك مقالاً لقائل.
سمعت هذه الخطبة بهذا اللفظ البليغ الوجيه, فسرى في جسمي سرور كما تسري الكهرباء في مسالكها, لشيئين: الأولى: أني وجدت واطمأن قلبي بأن هذه الأمة لا زال بها الخير والحمد لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى, وما دام فينا أمثال هؤلاء الخطباء الذين يحرضوننا على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله, وإحياء سنة الجهاد, هذه السنة والفريضة الغائبة التي يقول فيها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) ويقول فيها صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ: (من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) والعياذ بالله.
سرى في جسمي سرور عظيم, وعلمت أن في الزوايا قضايا, وأن الخير في هذه الأمة -بحمد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لا زال يفيض ولهم آذان، أمثال هؤلاء الشباب الذين يحملون مشاعل العلم, ويقولون كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم فنحن على هدى, ونحن على حق, كثّر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من أمثالهم, وجزى الله خطيبنا خير الجزاء, وبارك الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في علمه وفي عمره, ونفع به وبإخوانه الأجلاء.
إخواني في الله: ماذا أقول؟ لم يترك خطيبنا مقالاً لقائل, وطرق لنا أعلى فريضة في الإسلام التي لا يعادلها شيء بنص قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فربنا يقول: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:95 - 96] فهذا الفرق بين المجاهدين والقاعدين حينما يكون الجهاد فرض عين, أي: يوجد في الأمة من يسد الثغور, ويقص رأس الأعداء, ويقف في وجوههم, في تلك الحالة يكون الجهاد فرض كفاية وربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى يذكر فضل المجاهدين في هذه الحالة ويستثني أولي الضرر ممن قال فيهم: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} [الفتح:17] {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] إذ ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هؤلاء, فالمجاهدون بالفعل يسبقونهم بدرجة, وأما الآخرون من العلماء والحكام والأطباء والمهندسون وغيرهم, فهؤلاء يخدمون، لكن المجاهدين يفضلون عنهم بدرجات عظيمة, بدرجات منه ومغفرة ورحمة.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله).
وجاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح البخاري براوية أبي هريرة رضي الله عنه قال: (دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لن تجده, فلما ولى دعاه, قال: كيف قلت؟ قال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم ولا تفتر, وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال: أما إنك لو فعلت ذلك ما بلغت درجة المجاهد في سبيل الله) وفي رواية ذكرها الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في الجزء السادس, قال: (أما إنك لو فعلت ذلك ما بلغت عشر درجة المجاهد في سبيل الله).
ورضي الله عن الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك حينما كتب إلى الفضيل بن عياض وهو يتعبد في مكة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
ماذا أذكر في فضل الجهاد؟ قد ذكره الشيخ بارك الله فيه, وأطلق وبين, ونادى وأبلغ, وماذا أجد في ذلك؟ ولكنني أقول كما قال الشاعر:
ربَّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
نسأل الله أن يوقظنا من غفلتنا, وأن يلهمنا رشدنا, وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
فالجهاد هو أعلى ذروة سنام الإسلام, ولا يعدله عمل من الأعمال مهما كان ذلك العمل, كيف لا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (والذي نفسي بيده لولا رجال من أمتي لا يستطيعون الخروج معي ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله, ولوددت أن أقتل في سبيل الله, ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل) كررها ثلاثاً صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ يتمنى الشهادة, مع أنه صاحب المقام المحمود, وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وهو الذي قال له: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم:8].(194/11)
الشرك وأقسامه
إخواني في الله: الإسلام أوامر ونواه, وباب النواهي واجتنابها أهم من باب الأوامر, باب الأوامر ذروة سنامها الجهاد في سبيل الله, وقد ذكرني الشيخ -بارك الله فيه, وزاده من علمه- وقد حذر, وأنذر, وبشر, وبين طريق الخلاص- أننا يجب أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وألسنتنا وبكل ما نستطيع.
وباب النواهي أعظمها الذنب الذي لا يغفره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو الشرك بالله, نسأل الله السلامة والعفو والعافية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول في الحديث القدسي: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك ولا أبالي, يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة) اللهم اجعلنا من الموحدين.
وفي علمنا جميعاً ولا أفيدكم أن الشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرك في الاعتقاد, كما تعتقده عباد الشمس والقمر والجن, حيث جعلوا إلهاً للخير وإلهاً للشر كما قال الشاعر:
جعلوا الضياء تخلق الخير وظلمة تخلق الشر
فمن اعتقد أن هناك خالقاً وفاعلاً غير الله تبارك وتعالى فهو كافر مشرك بالله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40] خلقك وحدك, هذا شرك, من ظن أن هناك خالقاً غير الله يقلب الليل والنهار, يسخر الشمس والقمر, يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته, ينزل الأمطار فهو كافر مشرك! نعم.
قد يتسرب إلى قلوب بعض الجهلة أن كثيراً من النصارى اخترعوا اختراعات كثيرة, وأنهم وأنهم ولكننا نقول له:
وكل اختراع جاء منهم فإنه من الله مخلوق فما خلقوا غيرا
ولكنه أوصافه قد تبدلت وخالق أصل خالق كل ما يطرا
وإن أنكروا من غيهم خلق ربنا جميع الذي فيهم وفي غيرهم أجرى
فقولوا لهم فيلخلقوا لي شعيرة ومنهم أصول الخلق أو يخلقوا برا
ومع كونهم بالطب فاقوا وخيلوا بتصوير أمر كونه ذلك الأمرا
لو اجتمعوا من أول الدهر جملة لما اخترعوا روحاً إذا صوروا ذرا
وقد صوروا عيناً لفاقد نورها وما جعلوا نوراًَ فما برحت عورا
والله تبارك وتعالى تحدى البشرية والناس جميعاً فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] هذا الذباب الصغير الحقير الذي تراه يقع تيجان الملوك, وعمائم العظماء, ربنا ضرب به مثلاً: ((لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً)) [الحج:73] نعم.
لو كان هناك مسرح طوله وعرضه آلافاً من الكيلومترات, وأرادوا أن يخلقوا ذباباً أين سيضعون الرأس في ذلك الجسم الصغير؟ أين سيضعون العين؟ أين سيضعون الشرايين التي ستنقل الدم؟ أين سيضعون حاسة السمع؟ أين سيضعون حاسة الدماغ؟ أين سيضعون الرئة والقلب والكليتين والمعدة, الذكر, الأنثى؟ هذه الذبابة الصغيرة لو رأيتها بالميكرسكوب الذي يضخمها خمسين مرة, لرأيت جميع ما فيها من الأعضاء, وهي مصغرة ولها يدان وأربعة أرجل, وهي تمسح في كل مرة عن عينها التي ليس فيه أجزاء, ولهذه الأرجل عظام ولها مفاصل ولها عروق ولها جلد, ولها مخ يسري فيها, فكيف سيضعون كل هذا ويصورون الذبابة الصغيرة في هذه الأعضاء؟! فعجزهم ربنا بهذا الجسم الصغير, بل قال لهم أعظم من ذلك, أنه حينما يكون بجانبك شيء من العسل أو اللبن أو الفاكهة أو الخبز يأتي الذباب فيأخذ منه قطعة صغيرة لا تراها العين, يأخذها ويهرب، فقال لهم سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] فأنت تقدر أن تسحق هذه الذبابة بوسائل كثيرة, ولكن هل تقدر أن تأخذ ذلك الجزء الصغير الذي سلبه منك الذباب وترجعه إلى حيزك وتنتفع به؟! لا.
إنه بمجرد أخذه يضيع في جسمه ويصير مادة أخرى, فقال جل وعلا: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
فالذين لا يعرفون ربنا خسروا الدنيا والآخرة, لا تظن أن الله بعيد منك, ضع يدك على قلبك وانظر هذه النبضات, حياتك أنت متوقفة على جريان الدم والنفس, لو انقطع النفس لانتهيت, ولخرجت من دار الدنيا إلى دار الآخرة, ولو وقف قلبك لحظات من الذي يسير هذا القلب؟ هل هناك فيلسوف أو كافر أو ملحد أو أي مخلوق يقدر أن يقول: إنه يقدر أن يتحكم في نبضات قلبه؟ لا.
إذاً من الذي يسيره؟ اقرأ قول الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] جل الله العظيم.
خلقنا بغير اختيارنا, وسنموت وسنخرج من الدنيا بغير اختيارنا, وسنقف بين يديه تبارك وتعالى في اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال بغير اختيارنا.
الشرك الثاني: شرك الوسيلة, وهو الذي وقع فيه أكثر المشركين, إنهم لا يقولون: إن الملائكة أو النبيين أو الصالحين يخلقون أو يرزقون ولكنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] هذا له مكانة عند الله, ونحن مذنبون لا نقدر أن نعبد الله, ولكننا نتقرب إلى هؤلاء ونعبدهم, وهم يشفعون لنا عند الله تبارك وتعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44] وهؤلاء الذين عُبِدوا من كان منهم عاقلاً سيوقفه الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم الذي يقول الله فيه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:116 - 117] تبرأ منهم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166].
وسيقيم الله الملائكة -لأن جماعة من العرب كانوا يعبدون الملائكة- ويقولون: بنات الله, فالله تبارك وتعالى في ذلك اليوم قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:40 - 42] وبقية المعبودات التي لا تعقل، يقول سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:22 - 24].
ويقول سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99] ليبين الله تبارك وتعالى ذلتهم وخستهم، حتى الشمس والقمر يكوران في النار؛ لأنهما عُبِدا من دون الله تبارك وتعالى.
- الشرك الثالث: شرك الرياء, وهو الذي يجب أن نحذر منه, وشرك الرياء هو أن تتظاهر بالتقرب إلى الله تبارك وتعالى بالأعمال الصالحة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها, وأنت لا تريد التقرب بها إلى الله, بل تتقرب بها إلى الناس لتخدعهم إما ليؤمنوك, وإما ليعطوك مالاً, وإما لأنك تخافهم, فهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9] قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
وقد يكون كثير منهم يتكلم باسم الإسلام, ويدخل المساجد, ويصلي الجمعة, وليس مقصوده بالتقرب إلى الله, ولكن مقصده أن يسمع الخطيب ويتلقف الأخبار التي ينقلها إلى هنا وهناك ليوقع الفتنة ويفرق بين الأمة المحمدية, فهؤلاء المنافقون: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار(194/12)
طرق تؤدي إلى الشرك
وهناك طرق تؤدي إلى الشرك, ويجب أن نحذرها، وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس منا من تطير أو تُطير له, أو تكهن أو تُكهن له, أو سحر أو سُحر له, ومن أتى كاهناً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) من هو الكاهن؟ هو الذي يدعي معرفة الأمور المغيبة, لأسباب ومسببات, فبعضهم يحصد اسم الشخص وأمه, وبعضهم ينظر في وجوههم ويراقبها, وبعضهم ينظر في الكف والذراع, وبعضهم ينظر في الحصى والمسبحة, وبعضهم يدعي أن له صاحباً من الجن وهو يخبره بالمغيبات, والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].
ولو كانت الجن تعلم الغيب لعلمت بموت سليمان عليه السلام, لقد سخرهم الله لسليمان عليه السلام قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] وقال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] فالجن مقبوضون تحت قدرة الله, لا يقدرون على شيء, ولا يملكون شيئاً, ولا يعلمون شيئاً من الغيب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65].
فمن جاء إلى الكاهن وسأله عن شيء؛ عن غائب: متى يرجع؟ أو عن مريض: هل يشفى أو يموت؟ يتزوج هذه الزوجة تكون سعيدة أم تكون شقية؟ وغيرها من الأمور المغيبة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في معنى الحديث-: (فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد, ومن جاءه غير مصدقٍ له لم تقبل له صلاة أربعين ليلة).
قال: ومن الكهان أيضاً رجل يدعي أنه له سراً مع الله, وأن الله تبارك وتعالى أكرمه بعلم الغيب كما أكرم الأنبياء والمرسلين, كما أكرم عيسى بن مريم الذي كان ينبئهم بما يدخرون في بيوتهم, وغالب هؤلاء لا يؤدون الفرائض ولا يجتنبون المحارم, وإنما يجعل هذا وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل, ويحال أن يرزق الله مثل هذا سراً حتى يلج الجمل في سم الخياط, ومن رزقه الله سراً وكانت بينه وبين الله سريرة لا يجعل كرامة الله وسيلة للناس يبتاع ويشتري بها, ليخبرهم بالمغيبات, وليقضي لهم الحوائج ليأخذ بذلك عرضاً من الدنيا قليلاً, نسأل الله السلامة والعفو والعافية.
إخواني وأحبابي: إن أول ما نتواصى به أن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله الكريم, فاعبدوا الله وحده لا شريك له, وأن يكون على منهاج محمدٍ بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه, قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وأنا لا أطيل عليكم, ولكنني أختم بهذه الكلمة بحديث عظيم أخرجه الإمام الترمذي في سننه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فقال لي: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك -في الدنيا في البرزخ في الآخرة- إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأفلام وجفت الصحف).
اللهم اجلعنا من الموحدين, اللهم أجرنا من الشرك الخفي والظاهر, نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه.
وكنت أريد أن أشير إليها ولكن لم يدع الخطيب مقالة لقائل, جاء بالأمر كله واستوعب المقال كله, ونسأل الله أن يوفقنا للعمل بما قال, وأن يجعلنا من الذين يقولون ويفعلون, وألا يجعلنا من الذين يقولون ما لا يفعلون, وأن يجعلنا من الصادقين.
فالفرق بين المؤمن والمنافق في الجهاد يقول الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] وقال سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] ويقول سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
والآخرون قال فيهم: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:20 - 21].
اللهم اجعلنا من الصادقين, ووفقنا لما تحبه وترضى يا رب العالمين.
إخواني وأحبابي: هذا ابتلاء للمؤمنين -كما ذكره الشيخ- أن الله تبارك وتعالى يبتلي المؤمنين حيث قال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وإذ أننا نقرأ في القرآن المجيد قصة أهل الأخدود في نجران الذين أحرقهم ذو نواس بالنار يقول سبحانه وتعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:4 - 8].
وهذا هو مجال الابتلاء, ليتبين الصادق من الكاذب, من الذي يتقهقر؟ نسأل الله أن يجعلنا من الصادقين, وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى, وأن يطيل أعمار علمائنا وشبابنا الذين يدعون إلى الله بهذا الأسلوب الناصع الحاد, نسأل الله أن يكلل أعمالهم بالنجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(194/13)
من يسدد الهدف؟
إن الشباب هم عماد الأمة، وعليهم المعول في رقي الأمة وازدهارها والحفاظ على أمنها واستقرارها، قد توجه الشيخ في هذه المادة إلى الحديث عن الشباب، وقد تركز الحديث على نقطتين أساسيتين: تحديد الغايات، وتسديد الأهداف، ثم أتبعها ببعض صور تخبط الشباب اليوم.(195/1)
أصناف الشباب
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة: إذا مر ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم فصلوا وسلموا عليه، قولوا: اللهم صل وسلم على نبينا محمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى عليّ صلاة واحدةً صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يسرني في هذا اللقاء الذي تجدد بعد لقاء سابق، وكان من الرجاء والدعاء والتوسل إلى الله عز وجل أن يجعله الله نافعاً طيباً ينفع الله به قلوب الشباب، وينفع به المتكلم أيضاً، يسرني أن يتجدد هذا اللقاء مع شبيبة مسلمة مؤمنة لا نزال نرجو فيها خيراً كثيراً، ولا نزال أيضاً نخشى عليها شراً كثيراً.
أيها الأحبة: ما نرجوه منكم بقدر ما نخشاه عليكم، وبقدر ما نخشاه من بعض الشباب على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم، فنحن أمام أصناف من الشباب: شاب نرجوه أن يقدم شيئاً للإسلام والمسلمين، لنفسه ولأسرته ولمجتمعه ولأمته.
نخشى عليه شراً كثيراً وعدواناً يتقصد به عبر مجالات ووسائل عديدة.
وشاب نخشى منه على نفسه ومجتمعه، ونخشى منه على أمته وأسرته أيضاً شراً كثيراً، فالحديث عن الشباب ذو شجون، وفروعه وأقسامه وأنواعه ومجالاته متعددة.
ولا تعجبوا -أيها الأحبة- فهذه قصاصة من جريدة الرياض، تقول هذه القصاصة: إن خمسين في المائة من السعوديين تقل أعمارهم عن خمسة عشر عاماً، معنى ذلك أننا دولة شباب، نحن دولة فتية، لنا الصولة والجولة القادمة، وواقع الشباب اليوم الذين تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والعشرين والخامسة والعشرين، بوسعك أن ترى فيهم مستقبل هذا البلد وهذا المجتمع، بعد عشر سنوات أو بعد خمسة عشرة سنة انظر إلى نصف السكان الذين أعمارهم الآن خمس عشرة سنة بعد عشر سنوات سيكون نصف السكان في الثلاثين أو في الخامسة والعشرين، وحينئذٍ تنظر أي بلاد وأي مجتمع أنت تعيش فيه؟ إذا كان هؤلاء الذين هم في الخامسة عشرة إلى الخامسة والعشرين على مستوى من الجد والتحصيل، والمتابعة والاستقامة، والأخلاق الرفيعة والآداب السامية، والعناية بتزكية النفوس، والابتعاد عن مواقع الرذيلة والانحطاط، والسفالة والفساد، نحن ننتظر أن نرى نصف السكان بعد عشر سنوات على هذا المستوى، وإن أصابهم ما أصابهم من الخمول والكسل والدعة، والانحطاط والسفالة فأي جيل يكون بعد عشر سنوات أو خمس عشرة سنة؟ سوف يكون والعياذ بالله وصمة عار في هذا المجتمع، ووصمة عار في جبين هذه الأمة.(195/2)
الشباب مفخرة الأمة والبلاد
إذاً: لا تلومونا إن تحدثنا عن الشباب وأعدنا الكلام عنه، لأن دولتنا ليست دولة عجزة، ولسنا بلاد عجزة، لو كان الواحد في بلجيكا في بروكسل فتلك الدولة دولة عجزة، أغلب أعمار الناس فيها ما بين الخمسين إلى السبعين والسكان الشباب قلة، ولذلك اضطرت تلك الدولة الأوروبية أن تجنس المغاربة والتونسيين والجزائريين، وتعطيهم الجنسيات؛ من أجل الإكثار من الشباب، أي أمة لا تفتخر أن عندها مليون عجوز، ولا تفتخر أن عندها ملايين من العجزة، إلا نحن نفتخر بالعجائز ونفتخر بالشيوخ الذين عندنا؛ لأنهم هم الركع السجود، لأنهم الصائمون القائمون، لأنهم أهل التوحيد والإيمان، لكن ما سوانا من الدول الغير مسلمة، لا يهمها ولا تحرص ولا تتمنى بل يؤذيها ويقض مضجعها أن يكون أغلب السكان فيها من العجائز والشيوخ؛ لأن العجائز والشيوخ، لا يدخلون في الحروب ولا يسعفون في الكوارث، ولا يستطيعون أن يحسنوا التصرف في أمور الأعاصير والهزات الأرضية.
فالأمم تحتاج إلى شباب.
أيها الإخوة: بقدر ما تكون الغالبية العظمى من أعمار الأمة من الشباب يقال: هذه دولة مقبلة، هذه دولة شابة، هذه بلاد فتية، فنحن وإياكم في بلاد فتية، وفي بلاد قادمة وفي بلاد ننتظر لها الصولة والجولة بإذن الله عز وجل، لكن يحكم هذا كله عناصر عديدة من أهمها: هؤلاء الشباب الذين نتحدث عنهم بأي وضع وبأي حياة يعيشون ويتقلبون؟ أقرأ عليكم هذه القصاصة من الرياض واس، تعرفون ما معنى واس؟ وكالة الأبناء السعودية، اتضح لوزارة الصحة لدى وضعها الخطط الصحية اللازمة؛ من أجل بناء مجتمع صحي وسليم، أن (50%) من عدد السكان في المملكة العربية السعودية، تقل أعمارهم عن الخمسة عشر عاماً، أي: أنتم لستم داخلين في هذا العدد، وأن نسبة الإناث اللواتي هن في سن الإنجاب تبلغ (20%) من عدد النساء، وعلمت وكالة الأنباء من معالي وزير الصحة، الدكتور أسامة عبد المجيد شبكشي، أن خطط الوزارة المرسومة التي تستهدف توفير الخدمات الصحية بشقيها الوقائي والعلاجي لجميع المواطنين، راعت هذه الحقائق، إضافة إلى اهتمام خطط الوزارة بالتوزيع السكاني بجميع مناطق المنطقة، بجميع محافظاتها ومدنها وقراها.
والذي يهمنا في هذا أننا علمنا أن عدد السكان في هذه البلاد نصفهم أقل من الخمسة عشر عاماً، والنصف الثاني وهي شريحة من المجتمع ليست قليلة وهم أنتم الذين ما فوق الخمسة عشر إلى العشرين إلى الخامسة والعشرين إلى الثلاثين وهذا هو محك البحث، وهذه هي قضية النقاش والتي نطرحها هذا اليوم.(195/3)
العاقل من حدد غايته وسدد أهدافه
أيها الأحبة: كل أمة رجالها وشبابها يسددون أهدافاً في حياتهم، ولا أظن عاقلاً يمضي في عمل معين إلا وهو يريد أن يسدد هدفاً.
بل حتى الذين يلعبون والذين يعبثون، يقولون: إنهم يسددون أهدافاً، هذا الذي ينظر ميدان وملعب الرياضة، تجده لا بد أن يكون عالماً وعارفاً ما هو الباب الذي يدافع عنه، وما هو الباب الذي يسدد الأهداف إليه، وإذا كان لا يعرف ما هو الباب الذي يسدد الأهداف إليه، وما هو الباب الذي يذود الأهداف عنه، أو يبعد الضربات عنه، فيسمى مجنوناً غبياً لا يصلح أن يكون لاعباً في ميدان الرياضة، هذا في عرف الرياضة، كذلك الذين يعملون في أي مجال آخر، سواء كان مجالاً فنياً أو تقنياً أو عسكرياً، أو أمنياً أو إدارياً أو تعليمياً أو إعلامياً، لا بد أن تحدد هدفاً معيناً، لأن الذي يسير بلا هدف يحدده، ولا غاية يقصدها، ذلك هو المجنون لا محالة؛ لأن العاقل هو الذي يعرف ماذا يفعل، أما المجنون يمشي خطوة أمام وخطوتين وراء، وخطوتين يسار وخطوة يمين، كأنه يرقص ديسكو أو يرقص رقصات عجيبة جداً، فتقول له ما هذا الذي عندك؟ ما هذه الحركات التي تفعلها؟ يقول لك: لا أدري، لكن الذي يعقل يمشي خطوات متتابعة مهما طالت، يتوقف وقفات طويلة، لماذا أنت متوقف يقول: لي هدف من هذا الوقوف، يجلس جلسات معينة، ما الذي أجلسك طيلة هذا الوقت؟ يقول: أنا أعرف لماذا جلست، فالفرق بين العاقل وبين المجنون، والفرق بين العاقل والجاهل، أن العاقل هو الذي يحدد الغاية ويحدد الهدف والمقصد والنية من جميع تصرفاته، فاسألوا أنفسكم يا معاشر العقلاء، لا أظن بل من المستحيل أن يوجد في هذا المعهد شاب مجنون، بل الكل عقلاء ولله الحمد والمنة، وإلا لو كان من بين الحاضرين مجنون لما قبل في هذا المعهد الذي يحتاج إلى قدرات عقلية واستيعابية كبيرة، ويحتاج أن يعرف تمام المعرفة لماذا يوضع هذا هنا، ولماذا يبعد هذا من هنا، وكيف يوضع هذا في هذا المكان، وكيف تصلح هذه الآلة وكيف يستفاد من هذه القطعة، هذه العمليات تحتاج إلى عقلية دقيقة، وتحتاج إلى فهم كبير.(195/4)
تفاوت العقول في الطاقات والقدرات
ومن هنا أود أن أقول لكم يا معاشر الإخوة! لا تظنوا أن العقلاء هم الأطباء الذين يجرون العمليات الجراحية، ربما الطبيب لو وقف ليدرس الدراسة التي تدرسها ربما كان من الفاشلين، وربما لو جيء بمهندس يخطط أو يعد أو يصمم أطول العمائر وقيل له تعال ادرس هذه الدراسة -التي أنت أفلحت فيها- ربما لا يجيدها، فلا نظن أن العقل والذكاء والقدرة والإنتاج محصور في شهادات الأطباء أو محصور في شهادات المهندسين، أو محصور في شهادات مبرمج الكمبيوتر فقط؟ لا.
حتى الأعمال الدقيقة المهنية، والأعمال الفنية، لكلٍ فيها جهد وعقل وفهم وذكاء ودور، وأكبر دليل على ذلك أنك تستطيع أن تمر على مائة ورشة أو مائة مكان لإعداد الآلات وغيرها، فتقول هذا أفضل من هذا، وهذا أفضل من هذا؛ لأن هذا قد أعطى مزيداً من العقل والفهم والتركيز على ما درس وعلى ما يعمل عليه من الآلات، وعلى ما يصلحه وينتجه، فكان أفضل بكثير من هذا الذي لم يعط هذا الجهد كله، أو يستوعب هذا الجهد كله، وهذا فرق واضح؛ ولذلك بعض الشباب تقول له -مثلاً- في اجتماع من اجتماعات التعارف، يا أخي الكريم! ما الاسم الكريم؟ يقول: فلان بن فلان وينزل رأسه، تقول له: لماذا لا تكمل؟ قل: اسمي فلان بن فلان، أدرس في معهد التدريب الفني والمهني، أو في المعهد المهني، وهذا ليس بعيب؛ لأن هذا المعهد الذي تدرس فيه يتطلب قدرات عقلية وفنية ربما لا يستطعها هذه الطبيب الذي أنت تذهب إليه يعالجك، ولا يستطيعها الذي يصلح أشياء أخرى في أجهزة الكمبيوتر الدقيقة.
إذاً: فلنعلم جميعاً أننا معاشر الشباب على درجة عالية من العقل والفهم فلا نحتقر أنفسنا، وتجد بعض الشباب يقول: أغلقت في وجهي كل مجالات الحياة لم أجد أملاً أو مجالاً إلا أن أتجه إلى المعهد المهني، لا تجعل هذا التصور في ذهنك، بل اجعل التصور الذي يلزم أن يبقى في ذهنك أن لك موهبة، ولديك طاقة، وعندك ميولاً، كما أن غيرك له ميول في الطب، وهذا له ميول في الكمبيوتر، وهذا له ميول في الهندسة، أنت لك ميول في أعمال مهنية، سواء كانت سمكرة، أو هندسة، سواء كانت مكنيكا أو نجارة أو لحام أو تربيط أو غير ذلك.
والمهم أن تعرف أن هذا العقل ليس برخيص، ولا تسمح لأحد أن ينظر إليك بعقلك نظرة الدون، ووالله -يا إخوان- لو جاء أحد يكلمكم بطريقة يحتقر فيها عقولكم فإن أول من يحتقر أنتم، ولو جاء أحد يكلمكم بطريقة يحتقر فيها اهتماماتكم كان أول من يحتقر أنتم، وإذا جاء أحد يقول لكم: إن هذه العقول كما خلقها الله عز وجل وأودع فيها من دقائق الخلق وأسرار التكوين ما يجعلها ذكية فاهمة، لوجدت أن هذا فعلاً هذا هو الذي يخاطبك بحق.(195/5)
العقل مناط التكليف
إذاً: العقل مناط التكليف، فلا تظنن أن الإنسان يكلف أو يشرف بطول جسمه، أو بلون بشرته، أو بنوع شهادته، إنما يكلف بعقله، فإذا وجد العقل حينئذٍ يوجد التكليف والخطاب الشرعي والحلال والحرام، والأمر والنهي، والذي يجوز والذي لا يجوز، وقبل أسابيع بسيطة وأيام معدودة كنا في زيارة لإخوانكم الشباب في معهد الأمل للصم والبكم، مجموعة شباب في معهد الأمل للصم والبكم، حقيقة أحسن شيء في ذلك المجتمع أنه لا يوجد فيه ضجة، ذاك المجتمع ليس فيه ضجة إطلاقاً، نعم هم في معركة كلامية، هذا يتكلم وهذا يعطيك حركات معينة، وعندهم إشارات معينة هي لغة التعامل، فقال لي أحد الأصدقاء جزاه الله خيراً وهو عبد الرحمن الفهيد، وهذا الشاب مثلي مثلكم يتكلم ويسمع وينطق ولكنه يفهم لغة الصم والبكم أكثر من الصم أنفسهم، يفهم لغة الصم والبكم أكثر من الصم والبكم أنفسهم لأن له ستة إخوة من الصم والبكم هم إن شاء الله من المهتدين؛ فتعامله معهم أورثه تعلماً للغتهم، والعجيب أن لهم دقائق لا تتوقعها، والصم هؤلاء لهم حركات بعيدة، ولهم دقائق في الإشارات، أذكر أن واحداً منهم دعاني إلى حفل زواج، فيقول لي: أنت، فسألت الرجل: ما معناه؟ قال: هذه باللغة العامية، حتى الحركات نوعان، حركات عامية، مثلما نتحدث بالكلام العامي، وحركات فصيحة مثلما نتكلم باللغة الفصحى.
قال: هذه باللغة العامية عند الصم، يعني: زواج، أي: أدعوك أنك تحضر الزواج، قلت: إذاً: ما هي اللغة الفصحى عندهم؟ قال: اللغة الفصحى عندهم (إشارات).
ومن الدعابة التي حصلت ونحن في الزواج.
أنني لما حضرت الزواج قابلت أحد الشباب منهم، والحفل لا يوجد فيه أحد يسمع، لكن عندهم سواليف وهذا يتكلم مع هذا، وهذا يتكلم مع مجموعة إلى آخره، فلقيت واحداً منهم أعرفه فقلت له: أنت متى الزواج؟ فقال الذي معي للأبكم بإشارة كذا تحت سيارة، وهي تعني: الزواج، فالشاهد الذي أريد أن أصل إليه أن هؤلاء الصم والبكم بمنّ الله وفضله، فيهم استقامة وصحوة وفيهم غيرة على الدين، ويعتمرون سوياً، ويحجون سوياً، فكان الحديث الذي بيني وبينهم، قلت يا شباب: لا تتوقعون دائماً أن يأتي الشيخ علي العثمان وإلا فلان الفلاني، وإلا الشيخ صالح الحمودي أو أحد المشايخ دائماً يلقي عليكم محاضرة.
بل نريد أن يأتي اليوم الذي يكون واحد منك يقف على منصة المتحدث ومنصة الكلام وهو يلقي محاضرة بالإشارات ويترجمها عبد الرحمن لنا بالكلام؛ لأن الكلام هو نتيجة فكر، الأفكار التي تدور في رأسك تحولها إلى كلمات وتخاطب بها الشخص الذي أمامك، فكذلك نحن نتكلم ونسمع وعندنا أفكار، كذلك الصم والبكم عندهم أفكار وعندهم عقول.
فيا أيها الصم! يا أيها البكم من الشباب: تعالوا وأعطونا ما يدور في رءوسكم من أفكار، حولوها باللغة الدارجة عندكم إلى إشارات يترجمها إلينا المترجم بالكلمات، ولا تظنوا لأنكم صم وبكم لا يمكن أن تخاطبوا بالصلاة والصيام والحج والجهاد والعبادة وعمل الخير، لا.
بل منهم من ذهب وجاهد في سبيل الله، ومنهم من هو نشيط في الدعوة الله سبحانه وتعالى في صفوف إخوانه الصم، تعرفون كيف يطبقون أساليب الدعوة وينشطون إلى الله سبحانه تعالى؟ يأتون إلى محاضرة مسجلة في شريط كاسيت ويسلطون الكاميرا على المتكلم، فجزى الله خيراً الذي يقوم بهذه العملية ومنهم: الأخ عبد الرحمن، يسمع المحاضرة للشيخ الحماد وسم ما شئت من المشايخ والدعاة، والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وغيرهم، فيسمع الكلمات ويحول كلمات المشايخ إلى إشارات، والكاميرا تلتقط صورته، ثم يحول هذا الشريط بالكامل من كلمات إلى إشارات مسجلة على شريط فيديو، والآن ولله الحمد والمنّة، وزعوا آلاف الأشرطة على الصم والبكم في الكويت، وقطر، والبحرين، والإمارات، وهذه العاهة تذكرنا وإياكم بنعمة الله علينا في السمع والبصر.
أيها الأحبة: الشاهد الذي أريد أن أقوله أن النقطة الجزئية التي تجعلنا نخاطبكم وتجعلكم تخاطبوننا ونتخاطب جميعاً هي قضية العقل، فمع وجود العقل سوف نتحدث معك، ونناقشك، ونقنعك أو تقنعنا، وسوف نتحاور معك، ويكون بيننا وبينكم الجدال الطويل حتى يمن الله علينا وعليك بالهداية، أما إذا لم يوجد العقل فكلكم يعرف الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يعقل، والنائم حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ).
أيها الأحبة: نحن نتخاطب مع العقول وهذه العقول من يحترم عقله يحترم الخطاب ويحترم الكلام، ويتفاعل، والذي لا يحترم عقله، هو الذي يقول: أنا لا أفهم ما تقول وليس لدي استعاد أن أفهم ما تقول، ولا أريد أن أفهم ما تتكلم به.
أيها الأحبة: الحياة بدون غاية عبث، وقد تكلمنا عن الغاية آنفاً، والذي يعيش حياة بلا غاية فوجوده كوجود البهائم، حتى وإن كان له قلب فهو قلب لا يفقه به، حتى وإن كان له بصر فبصرٌ لا يبصر به، حتى وإن كان له سمع فسمع لا يسمع به: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179].
إنهم يرون ولكن لا يرون الحقيقة، إنهم يسمعون ولكن لا يسمعون الحق، إنهم يعقلون ولكن لا يعقلون الإيمان والهدى؛ ولذلك قال الله عز وجل عنهم: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] انظر كيف يكون الإنسان كالبهيمة إذا استخدم حواسه فيما لا يليق، وجعل القلب في تدبر أمور لا تليق، وجعل اللسان فيما لا يليق، وقديماً قلنا في محاضرة (حاول وأنت الحكم) للذي سمعها منكم أو حضرها: أن الناس يسمون الذي يستخدم الشيء في غير ما وضع له مجنون، ولو أن واحداً منكم في المعهد قال له المدرس: فك الماكينة هذه وغير الزيت، فأتى بالكأس ووضعه تحت الماكينة؛ ليغير فقال له الأستاذ: تغير الزيت بالكأس يا طبل؟ الكأس للماء وليس لتغيير الزيت، فربما إذا تكررت الحركات التي تستخدم فيها شيئاً لغير ما وضع له، تقول هذا مجنون، أو يأتي واحد ماسك الملعقة يقول: باسم الله، اللهم بارك فيما رزقتنا وقنا عذاب النار.
وأراد أن يضع الطعام في أنفه أو أذنه، نقول هذا مجنون؛ لأنه يستخدم الجوارح في غير ما خلقت لها، الأنف للشم -واحد من المجانين قال له المدرس لماذا الأذن؟ قال: نعلق عليها النظارات- والأذن للسمع، واللسان للتسبيح والنطق بذكر الله عز وجل، لا للنطق بالأغاني والمحرمات، إن الذي يستخدم هذه الجوارح فيما خلقها الله له، فإنه من أعقل العقلاء، لكن إذا استخدمها في غير ما خلقت له يقال عنه: مجنون.
عندما ترى واحداً يستخدم ما خلق الله عز وجل لغير ما خلق له، فتقول: هذا مجنون، فما بالك بمن استخدم الجوارح كلها، أي: الذي يستخدم جارحة واحدة في غير ما خلق الله، في غير الحكمة التي خلقت يقال عنه: مجنون، ولذلك الذي يقعد يشم الهروين ويشم الكوكايين ويشم الشمة، بماذا نحكم عليه؟ فالذي يستخدم جارحة في غير ما خلقت لها يعد مجنوناً، فما بالك بمن استخدم عقله وسمعه، وبصره ولسانه، ويده ورجله وفرجه، وكل شيء في غير ما شرع الله عز وجل، وفي غير ما خلق له، ذاك هو الجنون الكامل، فحياتنا لابد أن تكون حياة العقلاء، ولن نكون عقلاء إلا إذا تصرفنا فيها بمحض ما يتفق مع الحكمة التي خلقها الله، أو التي خلقنا الله لها.
إن الله خلقنا لحكمة عظيمة فما هي الحكمة التي من أجلها خلقنا؟ عبادته سبحانه وتعالى وهذا سؤال تفهمه جدتي وجدتك، ويفهمه الشايب الكبير الذي لم يدرس، ويفهمه أخوك الصغير الذي لم يدخل الابتدائي بعد، وتفهمونه أنتم والذي في الجامعة.(195/6)
الفارق بين المسلم والكافر
أيها الإخوة: إن في الغرب أساتذة ودكاترة، وأطباء ومكتشفين ومخترعين، يطورون قنابل نووية ومفاعلات ذرية، بضخامة مسئولياتها.
والمهم أن القضية وما فيها أن هؤلاء الغربيين برغم ما عندهم من اختراعات ومعلومات واكتشافات لو يأتي واحد منكم يسأله، تعال يا دكتور، تعال يا بروفيسور! تعال يا مكتشف يا مخترع! لماذا خلقك الله؟ لا يجد عنده جواباً، ولا يستطيع أن يجيب، ولا يحسن الجواب أبداً.
إذاً: فحياتهم حتى وإن أوجدوا ما أوجدوا كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ظواهر الحياة يتعاملون معها، ويحاولون أن يكتشفوا أسرارها أيضاً، ولكن هم عن الآخرة هم غافلون، لكن أنتم يا معاشر الشباب! حتى وإن كان الواحد ليس لديه مؤهل أو كفاءة إلا سادس ابتدائي هو عندنا يعادل مائة بروفيسور من هؤلاء؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] هذا المشرك، حتى وإن كان بروفيسوراً أو دكتوراً، حتى وإن كان مخترعاً أو مكتشفاً لا تظن أننا سنحبه أكثر من حبنا لك، أو أننا سنقدمه عليك يا أيها الأخ المحب، حتى وإن كان ما كان منك من ذنوب ومعاصي وزلات، حتى وإن أحدثت ما أحدثت من خطيئات في السر والجهر، في الليل والنهار.
فذنوبك وأخطاؤك ومعاصيك لا تجعلنا نحب الكافر أكثر منك إطلاقاً، بل نستفيد مما أنتجه الكافر، الآلة التي أنتجها الكافر قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] إذا كان كافراً فلا نضيع حقه، ولا نظلمه ولا يمنع أن نتعامل معه بالحسنى، لكن مهما بلغ فنتفة شاب مسلم وقطعة من شاب مسلم أزكى وأحب وأفضل إلينا من هذا الكافر، لأن الله عز وجل قال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] أي: عبد من عباد الله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221].
ولو وقفنا عند هذه الآية دقائق، تجد بعض الشباب يقول: يا روحي يا ماردونا، وماردونا أخزاه الله كما أخزى فرعون، كافر ضال مضل، فاجر، شاذ أخلاقياً، واضع في أذنيه خلاخل وليس هذا أكبر قضية! يفتخر أن عنده ولدين من زوجته التي لم يتزوج بها بعد، وهي صديقته وخدينته وعشيقته، يأتي يتصور هو بجوارها وبجوارهم ولدين، هذا الذي قال الشيخ ابن محفوظ فيه: اللهم امرده مرداً، يقول: وبجواره عشيقته: هؤلاء أولادنا، فمن أين جاءوا؟ هم أولاد زنا والعياذ بالله، ولكن انظر كيف تنطلي على الشباب المسلم فتجده معلقاً في حجرته صورة كبيرة لـ ماردونا وزوجته.(195/7)
تولع الشباب بمشاهير الغرب (الأنجاس)
أيها الأحبة: كافر أمرنا أن نبغضه، أمرنا أن نكرهه، وأن نمقت فعله ودينه، وتجد من شبابنا من يفتخر به ويعلق صورته ويباهي بها، وبعضهم يقول: أنا عندي ألبوم النجوم، أي: المشاهير أول واحد ماردونا، والثاني مايكل جاكسون، وهذا الخبيث مايكل جاكسون رأيت بعض الشباب على ما قال: بريك دنس: يتكسر، فسألته ما هذه الحركة، قال هذه حركة مايكل جاكسون يقول: هذا المغني المعروف الروق ولو قرأتم ما كتبه هذا الماجن، الفاجر الحقير، المسمى مايكل جاكسون قال: لأن أغني للخنازير فتسمعني أحب إلي من أن أغني للعرب فيسمعونني، لكن للأسف يا شباب! نحن أصبنا بداء كما يقال: (القط يحب خناقه) الذي يسبنا ويشتمنا ويستهزئ بنا ويحتقرنا، نعلق صورته على الجدران ونفتخر به ونعتز به، والذي يقدرنا ويحترمنا، ويخاطب عقولنا، ويأمرنا في ديننا، وينهانا عن سخط ربنا نقول: (يا شيخ امش بلا مطاوعة، بلا وجع رأس، صلوا صلوا، افعلوا ردوا هاتوا) لا يا أخي الحبيب: نحن نريد أن تعرف فعلاً من الذي يحبك حباً صادقاً، ومن الذي أنت تحبه وهو لا يراك إلا قطعة من نجاسة.
ومعلوم أن الخنزير نجس، فهذا الخبيث مايكل جاكسون ماذا يقول: لو كنت أعلم أن العرب يسمعون لي ما غنيت، ويقول في عبارة أخرى: لئن أغني لقطعة من الخنازير أحسن من أن أغني للعرب، واسأل شبابنا اليوم ماذا يفعلون، اسأل بعض الشباب ولا أريد أن أضرب كثيراً من الأمثلة سواء فيما يسمونه (النجوس) وليس النجوم (نجوس) من النساء والرجال، شباب مولع بهؤلاء الغربيين.
أي: على سبيل المثال لو تسأل بعض الشباب عن لاعب محترف يوجد في إحدى الفرق الرياضية، وأنا لا أتكلم عن سامي الجابر وماجد وغيرهم، فهؤلاء إخواننا، ونسأل أن الله يهديهم ويثبتهم وينفع بهم، ويردهم إلى الحق رداً جميلاً.
إنما أتكلم عن لاعب كافر في نادٍ من الأندية، ولو سميت لك لاعباً كافراً في نادي الهلال مثلاً، فقلت لك أيهما تحب ماجد عبد الله الذي في نادي النصر أم اللاعب الكافر في نادي الهلال ماذا ستقول؟ لا.
ذلك نصراوي.
لكن القضية لو كان هذا الكافر في فريقك، وسأضرب لك مثالاً: لو أن لاعباً كافراً مثلاً في نادي الهلال وأنت هلالي، وأتيت لك بالمقابلة محيسن الجمعان في نادي النصر، فالبعض لو تقول له: أيهما تحب محيسن الجمعان أم اللاعب الكافر، يقول: يا شيخ بلا هم بلا وجع رأس، عسى الله أن يخلي لنا هذا الرمح الذي يلعب رأس الحربة، هذا دينمو النادي، الله أكبر! كافر أحببته؛ لأنه في نفس الفريق الذي تشجعه، وأبغضت هذا المسلم لأنه في الفريق الآخر.
أيها الأحبة: أعلمتم كيف نحن نضل ضلالاً بعيداً حينما نحب كافراً لأجل الرياضة أو الفن، أو قضية من القضايا؟! إن المسألة لها حدود، حتى ولو كنت قد جن بك الجنون -وكلامنا عن الجنون الرياضي- لو جن بك الجنون في النصر، لا يبلغ بك الحد إلى أن تحب لاعباً كافراً في هذا النادي، وتكره لاعباً مسلماً في نادٍ آخر.
من المأساة والمآسي كثيرة، أن تجد بعض الشباب إذا دخل دورة المياه، كتب على جدرانها: فندق نادي كذا، وهذا مما يعبر به عن كراهيته للنادي، ثم يسمي لك أسماء النادي كلهم ويكتبهم ويحتقرهم ويبغضهم ويكرهم، يكتبهم في باب الحمام وهم مسلمون يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويصلون ويصومون وفيهم خير كثير، وفيهم دين ومع ذلك تجده يكتب أسماءهم ويقول: هذا مكانهم وموقعهم؛ لأنهم في الفريق الذي لا يحبه، لكن تعال في الفريق الذي يشجعه ويحبه، حتى ولو كان فيهم من الكفار، تجده يشخص بهم، ويضعهم في ألبوم النجوم الذي عنده، وربما جعل صورهم في غرفته بالكامل، وربما علق صورة اللاعب الكافر مفتخراً بها مع الفريق، فأين الإيمان؟ أين الولاء والبراء؟ أين حمية المسلم لدينه وغيرته على عقيدته، تلك والله من أعظم المصائب ومن أعظم البلايا ولا حول ولا قوة إلا بالله.(195/8)
الانتحار في الغرب
أقول: إن الغربيين مهما بلغوا من العلم والرقي المادي إلا أنهم من التفاهة والسخافة بدرجة عالية، فهم لا يعرفون الغاية التي من أجلها خلقوا، ولذلك تجد نهاياتهم عجيبة، هذا ينتحر، وهذا يأكل الحبوب حتى يموت، وهذا يمسك بخط موجب من عمود الكهرباء، وعجائب الانتحار في الغرب لا حدود لها، مع أنك تجده متعلماً، وعنده قدرات، ودراسة عالية، وبعد ذلك ينتحر، والانتحار في الغرب لا يوجد في الناس الذين لا يقرءون ولا يكتبون وإنما يقدم على الانتحار الدكاترة والأغنياء، وهذا أحد الذين حاولوا الانتحار، فتداركوه في اللحظات الأخيرة وقالوا له: لماذا تريد أن تنتحر؟ قال: لم يعد في الحياة شيء جديد قالوا: كيف لم تجد في الحياة شيئاً جديداً؟ قال: جمعت الأموال بعد جهد جهيد واستطعت أن أحصل ثروة، ثم ماذا؟ قال: حصلت الثروة من أجل أن أكون سعيداً فلم أجد السعادة، ولن يجد السعادة؛ لأن السعادة في رضا الله وتقواه، فرب شاب فقير مسكين لا يملك في جيبه ريالاً واحداً، أو لا يملك في رصيده عشرة ريالات، من أسعد عباد الله، وآخر عنده ملايين مملينة، وتجده (طفشان زهقان حيران) لا يدري أين يذهب وأين يقبل وأين يدبر.(195/9)
غاية المسلم في الحياة
إذاً: ليست القضية قضية أن الإنسان يعيش بلا غاية، بل القضية أن تعيش لهدف وغاية، والله عز وجل قد بين لنا الغاية التي نحن ننتظرها.
يا أحباب: نحن نصبح ونمسي، إذا قال المؤذن حي على الفلاح وذهبنا نصلي، ووقفنا وركعنا وسجدنا، فالجباه أشرف عضوٍ في الإنسان لو ضرب إنسان على وجهه لجن جنونه؛ لكن هذا الوجه الشريف أشرف ما فيه باختيارك وبرضاك وبطوعك، تأتي وتسقط وتضعه على الأرض: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ترمي هذه الجبهة على الأرض خاضعاً منكسراً، ولا تجد وضعاً تكون فيه في تام الذلة والخضوع والعبودية لله مثل وضع السجود أبداً.
وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد؛ لأنه يكون في غاية الخضوع والذلة والانكسار للخالق، تدعوه وأنت منكسر في سجود؛ لأنك تعلم أن أمامك غاية، وهي أن يرحمك الله رحمة واسعة، وأن يتوفاك على الإسلام، وأن يرضى عنك وأن يدخلك الجنة، وأن ينجيك من النار.
يا شباب: أنتم جميعاً الذي لا يجعل هذه الغايات أمامه صباح مساء مسكين مسكين، ضائع ضائع، ووالله لو جاء مدير المعهد المهني، وقال: يا شباب: من هذه السنة لا يوجد شهادات، هناك دارسة لكن ليس هناك شهادات؛ تجد الطلاب في فوضى، ندرس كل هذه الدارسة ثم نخرج بدون شهادة وبدون فائدة لا نقبل، فأين الغاية وأين الثمرة وأين النتيجة، أنتم حددتم بل الغاية والثمرة والمقصد من مجيئكم يومياً إلى المعهد موجودة في عقولكم وقلوبكم، ولذلك لو جاء المدير يساومكم عليه، يقول: هذه الغاية ألغيناها، قلتم: لا.
نبحث عن معهد آخر يعطينا الشهادات.
إذاً: أنا أسألكم جميعاً الآن، هل تجعلون الغاية من وجودكم وهي عبادة الله عز وجل، هل تجعلونها أمام أعينكم؟ للأسف كثير من الشباب يقول: لا.
والكافر هو الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي
لست أدري
ولماذا لست أدري؟
لست أدري
هذا الكافر لا يعلم لماذا خلق وإلى أين النهاية، لكن أنت أيها الشاب! أنت تعلم ما هي الغاية من وجودك، الغاية أن تعبد الله وحده لا شريك له، أي عمل يخالف مقاصد العبودية لله عز وجل، لا تقبله أبداً، لو جاءك رجل وقال: تعال أريد أن أشغلك طبالاً، نريد أن نشغلك رقاصاً، نريد أن نشغلك رقِّيصاً، تعرفون الفرق بين الرقاص والرقيص؟ الذين يعرفون الحمام يعرفون الفرق بين الرقاص والرقِّيص.
المهم لو قال لك: أتشتغل عندي رقاصاً؟ قلت: لا يا أخي أنا لم يخلقني الله عز وجل لأكون رقاصاً، وإنما خلقني الله لعبادته، هات وظيفة معينة فيها عبودية، أدرس في المعهد المهني وأتخرج على وظيفة معينة، أنفق على أولادي منها عبادة لله، أطعم وآكل بالحلال من دخلي وأتصدق عبادة لله؛ لأن العبادة ليست فقط بالركوع والسجود، بل هي في كل عمل ترجو به وجه الله، لكن لا يأتي أحد يقول أنا أرجو وجه الله بالرقص، أنا أرجو وجه الله بالعزف، أنا أرجو وجه الله بالملاهي، لا.
دف ومزمار ونغمة شادنٍ فمتى رأيت عبادة بملاهي
أيها الأحبة: الغاية من وجودنا هي عبادة الله عز وجل، فلابد أن نجعلها أمام أعيننا، وهذا حديث عليكم أن تحفظوه غاية الحفظ ألا وهو: (من أصبح وهمه الآخرة) يعني: أنت اليوم استيقظت على أذان الفجر، وأصبحت وكل همك: يا ألله ترحمني يا ألله تجعلني من أهل الجنة، وليس بلازم أن يصبح عمرك ستين سنة حتى تقول: يا ألله ارحمني: (من أصبح وهمه الآخرة تكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله ضيعته) يعني جميع الأمور المتشتتة، يجمعها الله له ويهيئ أمره ويسهل عليه أموره: (ومن أصبح وهمه الدنيا فرق الله عليه أمره ولم يؤته من الدنيا إلا ما قسم له).(195/10)
المسلم يختلف عن الكافر في أمور عديدة
يا أحباب! نحن ولله الحمد نختلف عن غيرنا، فعندنا غاية سامية عظيمة، لكن كما قلت لكم: هؤلاء الغربيون ليس عندهم غايات يعيشون من أجلها.
تجد الواحد يمسك الحديقة من أولها إلى آخرها ويركض ويركض، ويسمن هذا الجسم، ولكن مصير هذا الجسم إلى جهنم وساءت مصيراً إن مات على الكفر، ولكن الواحد منا يأكل؛ لكي يتعبد الله عز وجل، يأكل لينشط، فإذا أصبح نشيطاً صار قوياً على طاعة الله وعبادته، لكن هذا يأكل من أجل أن يهدر ويخور كما يخور الثور.
انظر العجائب التي يحققونها، أحدهم يحاول أن يسجل رقماً قياسياً في الأكل، هذا ضرب الرقم القياسي في أكل مائتي بيضة، وقد جاء منافس جديد وحطم الرقم القياسي فأكل مائتي بيضة وواحد بيضة وصفار، وبعد ذلك يأتي واحد ثالث أو امرأة تحطم الرقم القياسي وتأكل مائتين وثلاث بيضات، ويسجل الرقم القياسي في أكل البيض لفلان، ويسجل الرقم القياسي لرفع الأثقال، لكن الفرق بينكم وبين هؤلاء الحمير والبهائم في الغرب أنكم ولله الحمد والمنة الواحد منكم إذا قلنا له افعل كذا يقول: لماذا؟ ما هي الغاية؟ ما هو الهدف ما هو المقصود؟ لكن هؤلاء الغرب يهم الواحد أن يسجل الرقم القياسي.
ومن المضحكات ما قرأت في جريدة أن رجلاً استطاع -أظنه أمريكياً- أن يحطم الرقم القياسي في أطول ساعات الكلام: الذي ضرب الرقم القياسي ثلاث ساعات، والذي تكلم ثلاث ساعات وعشر دقائق هذا جاء وضرب الرقم القياسي وتكلم خمس ساعات أو ست ساعات وحطم الرقم القياسي.
والواحد منكم يا شباب، إذا قال سبحان الله، كتبتها الملائكة له، إذا قال الحمد لله كتبتها الملائكة، إذا قال: الله أكبر كتبها الملائكة، إذا قال: لا إله إلا الله كتبتها الملائكة في موازين أعماله، لكن هذا الذي حطم الرقم القياسي في الكلام يرغي ويزبد، خمس ساعات لا يكتب له شيء؟ ولذلك الفرق كما أقول: وينبغي أن يعرف المسلم قيمته والفرق بينه وبين الكافر، وحتى تعرف قيمتك وقدرك يا أخي! ومشكلتنا يا شباب: أن الشباب المسلم حتى الآن لم يعرفوا قدرهم ووزنهم في الإسلام، وما عرفوا أن عزتهم بالإسلام.
يا أخي: أنت عزيز عزة عظيمة، يكفيك أن الواحد من المسلمين لو أصابه حادث ومات، تدفع ديته كاملة، لكن هذا الكافر تدفع نصف الدية، ولو أن مسلماً قتل كافراً فلا يقتل به حتى ولو كان عمداً وعدواناً، ينبغي أن نعرف قدرنا بالإسلام، بغض النظر عن قيمة الإنسان، نعم الإنسان له قدر في تعليمه وشهادته، وقدر في قوته المالية، وقدر في قوته العقلية، لكن هناك قدر في كونك مسلماً، وكثير من الشباب لا يعرفون قدرهم في الإسلام، بل بالعكس تجد بعضهم ينظر إلى نفسه نظرة هزيمة وضعف واحتقار أمام هذا الكافر، ولكن كما يقول الشاعر:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
أيها الأحبة: المشكلة أن هؤلاء الغربيين الذين احتقرناهم فيما فيه الكفاية، ولكنهم حددوا أهدافاً معينة فوصلوا إليها في أمور دنياهم، هذا دخل المختبر وأغلق على نفسه الباب وقال: لن أخرج حتى أكتشف عقاراً أو مصلاً أو قطرات معينة توضع في فم الأطفال فتمنع -بإذن الله- شلل الأطفال.
وهذا دخل في المعمل وقال: لن أخرج من هذا المعمل حتى اكتشف عقاراً يعوض الأنسولين في الجسم، وهذا دخل المعمل فقال: لا أخرج حتى اكتشف دواء يعالج المرض الفلاني، وحدد هدفاً ووصل إليه، وهذا حدد هدفاً معيناً في هندسة، في تسلح، في أمور عسكرية، في طيران، في تجارة، في تخطيط، في اقتصاد، في إدارة، حددوا أهدافاً فسددوا الضربات إليها، لكن نحن وإياكم يا شباب! نشكو إلى الله عز وجل أن من شبابنا من لم يعرف الغاية التي خلق من أجلها، ومثل هذا كرجل داخل ملعب، مرة يسدد الهدف على فريقه ومرة على الفريق الثاني، لا يدري من أين يسدد؟! ومرة يضرب الحكم بالكرة ومرة يضرب الجمهور بالكرة، ومرة يضرب الذين يتفرجون، ليس عنده ضربات محددة، فهكذا الذين لا يحددون أهدافهم وغاياتهم، ومصيبة أخرى أن بعضهم حدد الهدف لكنه لم يسدد الضربات؛ ولذلك حديثنا اليوم عن نقطتين: أولاً: تحديد الهدف.
الثانية: تسديد الضربات، توجيه الجهود والقوى، الطاقات والإمكانيات وكل ما تستطيع توجيهه إلى هذا الهدف، وربما يسمع بعضكم من بعض، بعض الشباب يقول: (فلان عربجي ما يفهم) لا والله.
هذا الشاب الذي بعضكم يقول عنه عربجي لا يفهم، والله إذا من الله عليه بالهداية سترون منه العجائب والغرائب، بل أعجب العجائب.
أحدهم ممن كان يسمى (عربجي) وهو نصري ناصر (عضلات).
والمهم أنه كان في ضلاله ومضاربه ويدخل على الشاب ويحوسهم ويضربهم، ويدخل على المساكين ويأخذ دراهمهم، فمنّ الله عليه بالهداية، وليست الهداية أمراً بعيداً فأخونا نصري ناصر لما منّ الله عليه بالهداية الآن يحفظ القرآن كاملاً، منّ الله عليه برفع الغشاوة التي على قلبه، وزالت السحابة التي كانت على قلبه وانقشعت، فأبصر الأمور على حقيقتها ولم ينظر إليها بالشهوات والغفلات، فلما نظر إلى الأمور بالحقيقة حدد هدفاً في طاعة الله، وسدد الضربات نحو هدف محدد هو رضى الله في حفظ كتاب الله، اجتهد في حلقات القرآن اجتهد ليل نهار، حتى حفظ القرآن ولله الحمد والمنّة.
والآن أسرته بعد أن كانت تتعوذ منه ويتبرءون منه ويتمنون سيارة تطؤه وتريحهم منه؛ أصبحوا يفتخرون به، فقد ضرب أروع الأمثلة في الاستقامة وفي طاعة الله سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة: كما قلت مشكلة الشباب اليوم مشكلتان الأولى: عدم تحديد الهدف.
الثانية: عدم تسديد الضربات والجهود والطاقات إلى الهدف، مثلاً بعضهم يقول: أنا حددت الهدف، سأجد واجتهد في دراستي في المعهد المهني، هذا الهدف حدده، هل سدد الضربات؟ لا.
تجده على الرصيف، أو في الحراج يميز أنواع السيارات هذه موديل كذا وهذه موديل كذا، فأين تسديد الضربات إلى الهدف الذي حدده، لم يوجه عقله وقلبه وفكره وسمعه وبصره لهذا الهدف حتى ينتجه؛ ولذلك لا يكفي أن تسجل في المعهد المهني في بداية العام، لكن يحتاج مع التسجيل مواظبة وحضور باستمرار، ومداومة ومثابرة واجتهاد حتى تخرج بنتيجة، ولا يكفي أن تقول: أنا أريد أن أتوب إلى الله، لا يكفي أن تقول أنا أريد أن أكون شاباً صالحاً ولا تسدد الضربات نحو الصلاح، لا بد أن تسدد الجهود والضربات نحو الصلاح؛ فتتخلص من وسائل المعاصي وتتجنب مجالسة أهل السوء، وتترك مجالس اللهو والمعصية، وتجد في هذا المجال؛ حتى تكون من المهتدين بإذن الله.(195/11)
تخبط الكافر في هذه الحياة ليس غريباً
أيها الأحبة: ليس عجيباً أن يتخبط الغربيون في حياتهم، لكن الغريب والعجيب أن يتخبط الشباب المسلم الذي يعلم أن له رباً خلقه، وهو يعبد ربه وحده لا شريك له، ويعلم أن له نبياً أسوة وقدوة حسنة، ويعلم أن له ديناً، وقد أنزل الله وحياً وكتاباً معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
ليس غريباً أن يتخبط الذين ليس عندهم من يدلهم، لكن الغريب أن يتخبط الذين عندهم ما يدلهم ويهديهم وعندهم ما ينفعهم، هذا هو الغريب، لو ذهبت سيارتان بـ الدهناء، سيارة فيها دليل، رجل خريت يعرف الطريق، وسيارة ليس فيها دليل، إذا ضاعت السيارة التي بدون دليل فليس بغريب أن تضيع؛ لأنه ليس لديها دليل، ولكن إذا ضاعت السيارة التي فيها الدليل فهذه هي والله المصيبة، معها دليل وتضيع، وكذلك هي مصيبتنا في شباب اليوم، عندنا دليل وهدى، وعندنا رشد وطريق ونور، ومع ذلك نتخبط في الطرق، نتخبط في الظلمات، نتخبط في ألوان وأنواع من المعاصي لا يقف بعض الشباب فيها إلا عند منحنى خطير ولا حول ولا قوة إلا بالله.(195/12)
من صور التخبط عند الشباب(195/13)
الاستهزاء بجناب الربوبية
أيها الأحبة: إن من صور تخبط الشباب اليوم، وانشغالهم عن تسديد الهدف إلى الغاية الصحيحة، بل سددوا الأهداف إلى غايات لا يزال الواقع يثبت يوم بعد يوماً أنها غايات ضالة منحرفة كما قلت آنفاً؛ أنهم سددوا الأهداف بالإعجاب والتقدير، والإكبار والاحترام لأنجاس المجتمع وأوساخه، إن لم يهدهم الله عز وجل.
أيها الإخوة: هذه قصاصة من جريدة تقول هذه القصاصة: بعد تجربة السجن الفنان سعيد صالح يتطلع لتقديم فن هادئ، سعيد صالح كما تعلمون ويعلم الكثير أنه ممثل كوميدي مصري، وليس عيباً أنه من مصر، بل إذا ذكرت مصر نفتخر بها فمنها: ابن شهاب وفيها الليث وفيها أئمة كبار، والإمام الشافعي رحمه الله، له مذهب قديم وجديد، أحدهما في مصر، لكن العيب أن من الشباب من يعطي هؤلاء الفنانين غاية التقدير والاحترام، والقضية ليست قضية عادية، بل هي كما يقول الخبر.
لم يكن يوم السادس عشر من أكتوبر تشرين الأول في العام الماضي يوماً عادياً في حياة الفنان الكوميدي سعيد صالح -أولاً: لا شماتة، قولوا: اللهم لا تجعلنا من الشامتين، ووالله ما أسوق هذا الخبر شماتة، ولا يجوز أن يشمت الإنسان بأحد؛ لكن أقول انظروا أيها الشباب، يا من تعلقت بالفن، أو تعلقت بالفنانين أو تعلقت بالممثلين، انظر من تتعلق به، انظر من تتعلق بهم، وحاشا أن يكون فيكم إن شاء الله من يتعلق بأمثال هؤلاء، لكن هذا من باب التحذير، يقول: لم يكن يوماً عادياً في حياة الفنان سعيد صالح، إنما هو يوم الإفراج والعودة إلى الضوء والنهار، والشارع والأحباب والجمهور بعد غياب دام ثلاثمائة وسبع وستين يوماً وأربع ساعات قضاها خلف جدران سجن الحضرة بقلب الإسكندرية بتهمة تعاطي المخدرات.
الله أكبر! سنة في السجن وفضيحة، أسأل أن يسترنا ولا يفضحنا، ونسأل الله أن لا يهتك علينا أستاره، وأن لا يفضح أسرارنا، وأن يجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، ولا نقول هذا شماتة، لكن نسأل الله إن لم يهدهم أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
أحدهم في تمثيلية من التمثيليات كان يتكلم وهو صديق لهذا الفنان، اسمه سمير غانم كما أخبرني بعض الإخوة، وأراني المشهد يقول: كان يتكلم عن حمار له، ولم يكن الحمار حاضراً في مكان الكلام، كان الظاهر في تمثيلية أو مشهد اسمه (جحا يحكم المدينة) فكان يتكلم عن شخص اسمه عبد الهادي، قال له المحقق الضابط: أين عبد الهادي؟ قام ودخل الحمار وقال هذا عبد الهادي، ليس هذه المشكلة، المشكلة أنه كان يناقش المحقق، يقول: هذا هو عبد الهادي؟ قال: (ده ربنا خلقه لحد ركبته وقال له: كمل أنت الباقي).
يا إخوان: هذه كلمة خطيرة ربما الإنسان يشرب الخمر فيتوب، وربما الإنسان يزني فيتوب، وربما الإنسان يفعل اللواط فيتوب، ولكن تستهتر برب العالمين وتقول إن الله خلق هذا الحمار إلى ركبته وقال له كمل أنت الباقي، فهذا خطره عظيم وعقابه جسيم؟!! فأين الغيرة لله؟! أين الغيرة على تعظيم الله وجلال الله: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] إذا كان تعظيم حرمات الله من تقوى القلوب، فما بالك بتعظيم الله عز وجل، أعظم التقوى تعظيم الله سبحانه وتعالى، نعم قد يخطئ الإنسان لكن لا يبلغ به الأمر إلى أن يسخر ويستهزئ بالله عز وجل.
وأنا لم أصدق هذا حتى رأيته بعيني وسمعت بأذني، وكتبت في هذا كتاباً إلى الجهة المسئولة.
أيها الشاب: يا من تتعلق بمثل هؤلاء الممثلين، أو فنان أو مطرب أو نجم أو أو.
كما قلنا في مايكل أو غيره، هذا يقول: لو كان العرب يسمعون لي ما غنيت، أغني للخنازير ولا أغني للعرب، وهذا يستهتر بربك ويقول: هذا خلق حماراً وقال له: (كمل أنت الباقي) ألا له الخلق والأمر وحده لا شريك له، ليس لأحدٍ أن يخلق ذبابة فضلاً عن أن يخلق أو يكمل الباقي من خلقه، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابة، وهذا يقول: (أنت لا تعرف عبد الهادي، ده ربنا خلقه لحد ركبته وقال له: كمل أنت الباقي) ووالله لو أن رجلاً سخر بأمك واستهزأ بأمك وقال أمك التي هي كذا وكذا، لن تطيق، ولا أحد يطيق أن يسمع أحداً يستهزئ بأمه أو بأبيه، فما بالك وأنت تسمع من يستهزئ بربك؟! ومن الغيرة أن يكون الإنسان غيوراً على حرمات الله وعلى عظمة الله عز وجل.
يقال في بلد من البلدان أن ضابطاً كان يحقق مع رجل في تهمة من التهم فقال المجرم: أنا معترف كذا (وأرجو على شان الله) أن تتركها لي، فقال الضابط: ما هذا ربك، ولو جاء ربك لأسجننه معك، فقام المجرم، وأخذ الخرامة التي كانت على الطاولة وضرب بها وجه الضابط، وقال: انظر يا حيوان! اجلدني اضربني اقتلني واعمل الذي تريد؛ لكن لا تتجرأ على الله، وتتكلم عن ذات الله، تتكلم عن جناب الله عز وجل فيما لا يليق، افعل ما تشاء ولا أسمح لك أن تفعل هذا الشيء.
فيا أحبابنا: نحن لا نريد أن نتمادى بالإعجاب بفن أو لهو أو بمنكر إلى درجة أن يصبح الواحد يسمع هذا الفن أو يسمع هذا العفن الحقيقي، يسمع فيه ما يسمع ثم بعد ذلك يسكت ويضحك، للأسف أن هذه التمثيلية (جحا يحكم المدينة) انتشرت وشاعت وتناقلت، وقل أن تسمع مسلماً يغار، أين الغيرة على حرمات الله وفي ذات الله، وفي جنب الله عز وجل؟ هذا خبر طويل عن سجن هذا الفنان، نسأل الله ولنا ولهم الهداية، وإن كان في علم الله أنهم لا يهتدون، نسأل الله أن يريح المسلمين من شرهم ومن فسادهم.(195/14)
من صور تخبط الشباب: جنون الرياضة
أيها الأحبة: من تخبط الشباب اليوم وانصرافهم عن تسديد الهدف: جنون الرياضة، والجنون فنون، فتجد هذا الشاب إذا شجع فريقاً، يعد لك أسماء الفريق من الكابتن والحارس، والظهير، والدفاع الأيمن، والأيسر، خط الحربة، والهجوم، رأس الحربة، ويسمي الاحتياطيين ويسمي جميع الفريق، ولو قلت له عد لي عشرة من المبشرين بالجنة، أو عد صحابة رسول الله الذي فصل لك كيف تصلي، ونبيك الذي تعلمنا منه صلى الله عليه وسلم أحكام الدين، علمنا بأسماء عشرة من صحابته لم يعرف أسماء خمسة منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
تعرف أسماء لاعبين الكرة وأسماء الفنانين ولا تعرف أسماء العشرة المبشرين بالجنة، لا تعرف أسماء الصحابة، وعلماء الإسلام الأجلاء الذين كتبهم ومصنفاتهم ومؤلفاتهم بين أيدينا، كتب التشريعات المعاصرة، واستنباطات واجتهادات من تراثهم ومن علمهم المستمد من كتاب الله وسنة رسوله، ما نعرفهم ونعرف أسماء الفنانين واللاعبين.
ثم كما أقول لأحد الأقارب وهو شاب صغير عمره ست عشرة سنة من أقاربنا مجنون رياضي، يموت في الرياضة، قلت له: تعال يا ولد أنا ليس لدي سوط أضربك، والإقناع لا بد أن يكون بالحوار، والقوة لا تأتي بنتيجة، ولا ينفع إلا الحوار والنقاش، يا حبيبي أنا أسألك النادي الذي تشجعه إذا رسبت في دراستك هل ينجحونك؟ قال: لا.
قلت: إذا بقي عليك درجتان للنجاح، هل النادي يتوسط لك وتنجح؟ قال: لا.
قلت: هذا النادي إذا تخرجت من الثانوية وأردت أن تدبر لك قبولاً في جامعة من الجامعات هل يدبر لك قبولاً ومستواك ضعيف؟ قال: لا.
قلت: إذا تخرجت بلا شهادة بسبب ضياع وقتك أيام الاختبارات في تشجيع الأندية والنتيجة رسوب ولم يوظفك أحد هل النادي مستعد أن يوظفك؟ قال: لا.
فقلت له: هل النادي يصرف عليك شهرياً؟ قال: لا.
هل يصرف على أمك وأهلك؟ قال: لا.
قلت: لماذا هذا الجنون؟ لماذا كل هذا الجنون والسهر، مسمر عند شاشة التليفزيون: سدد، افعل، سجل، ناوله، ويعض أصابعه ويقرض أظفاره، وفي النهاية تجده إذا وقفت المباراة على (بلنتيات) قام وقلبه يرجف، بعضهم يقول: يا رب، فعلاً إذا جاءت في الثواني الأخيرة وبها (بلنتيات) إذا وقف، قال: هاه! ما أقدر ما أقدر هاه! أخذك الله وأراحنا من أمثالك وأشكالك.
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
شاب محسوب على هؤلاء السكان، تأخذ خدمات أمنية وصحية واجتماعية وتعليمية وتربوية، وجميع الخدمات تستهلكها وإنتاجك يا رب لا يسجل الهدف، هذا الإنتاج الآن.
أعود إلى صاحبنا هذا الولد الله يصلحه، قلت: يا حبيبي: إذا مرضت يشفيك هذا النادي، يعالجك هذا النادي؟ قال: لا.
إذا نزلت بك المنية تقول: يا رب ارحمني خفف علي سكرات الموت هل ينفعك هذا النادي؟ قال: لا.
إذا وقفت بين يدي الله عز وجل وسألك: (لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه) إذا وفقت يوم القيامة وسألك الله ماذا قدمت للآخرة، تقول: يا رب كنت مشجعاً أو في رابطة المشجعين، أو يا رب كنت مخلصاً في التشجيع للنادي الفلاني.
أيها الأحبة: نعم.
ممكن أن يلعب الإنسان الكرة مع زملائه، فلا بأس بها وهي رياضة، ولا بأس أن يستمتع باللعب الجميل مع الزملاء والإخوان، لكن أن تصل إلى درجة أن الواحد يظل أربعاً وعشرين ساعة في لعب الكرة ومتابعتها، وأحدهم أقسم بالله لا يدخل الموز في بيته من أجل لونه الأصفر، لأنه هلالي.
وانظر إلى أي درجة بلغ التعصب بالشباب، أنهم سددوا أهدافاً ولكن إلى غايات لا تنفعهم أبداً.(195/15)
من صور تخبط الشباب التسكع في الشوارع
من الشباب من سدد أهدافاً لكن ليست في العبادة، وليست في طلب العلم، وليست في صنعة نافعة، وليست في تجارة رابحة، وليست في تجربة مفيدة، وإنما سددوا أهدافاً في التسكع في الطرقات والشوارع، ونرجو من الله أن يمن عليهم ويهديهم، فبعض الشباب سدد أهدافاً ولكن في التسكع في الطرقات والشوارع يمنة ويسرة، ثم يأتي بعدها إلى البيت (ثم يخبطها نومة) ويكلم أمه يقول: لا أحد يدق عليّ الباب.
يا أخي! ألا تستحي على وجهك (هذه أمك يا ثور) تكلمها بهذا الأسلوب، قبل يديها ورأسها، بدلاً من أن تقول: لا تشغليني طق طق قم صل، وتلقاه قد رسم له جمجمة وعظمين هكذا، خطر ممنوع الاقتراب، كأنه قرصان سفينة من البحارة، ممنوع الاقتراب، ومتى يقوم؟ يقوم بعد صلاة المغرب، أو قبل صلاة العشاء، إن كان فيه خير صلى بعض الصلوات التي لم يصلهن ثم دخل الحمام وقعد ساعة، يفرك وجهه وأذانه ورقبته، إلى أن يخرج يسأل عن الثوب، ولابد أن يكون الثوب جاهزاً، ويصدر الأوامر على أمه كأنما هي خادمة في البيت، ثم يأتي بتلك الطاقية التي كأنها صاع، على وجه لا تراه، ثم يضع العقال على الطاقية، بضعهم يقلد بدون استقلال في الشخصية.
ثم يخرج هذا الشاب بعد أن يضبط كل شيء يركب السيارة، ويمر على فلان وعلان، ويقضي يومه في دوران في كل شارع، حتى إذا انتهى من شارع الثلاثين، توجه إلى شارع العُلية، وإذا انتهى منه سارع إلى شارع الستين، ثم شارع جرير، وبعضهم زيادة على ذلك يجهز معه كم ورقة لاصقة، ويمر في الشارع، يحط رقم هاتفه، وتأتي البنت تطالع الرقم؛ فإن كانت مسكينة وليس لديها حصانة إيمانية وتقوى وخوف من الله وتربية جيدة، تقول: اتصل وقد جعل تحت الرقم اسم هشام.
وفي هذه اليومين -أيها الأحبة- اتصلت بي فتاة من جدة، قالت: أنت فلان؟ قلت: نعم أنا فلان، قالت: أنا أرجوك حصلت لي مشكلة وأريد أن تنصح من وقع فيها، قلت: ما مشكلتك؟ قالت: كنت أمشي في السوق أنا وأختي وفجأة أحس بلمسة شاب والتفت وإذا الشاب قد وضع رقماً لاصقاً، تقول: فوراً التفت وأخذت الجزمة وضربته في رأسه وصرخت، فجاءوا الناس وضربوه واستهزءوا به، ولم يدع عزة في نفسه، وأخذوه وهذه الورقة، مكتوب فيها الاسم هشام وجعل رقم التلفون في جدة، قالت: أرجوك خذ هذا الرقم وهذا اسمه وانصحه جزاك الله خيراً، فضربت الرقم وقلت: السلام عليكم، فقال من تريد؟ قلت: في نفسي لا بد أن أدخل مدخلاً معيناً، قلت: لو سمحت أين الأخ هشام؟ قال: أي هشام، ولذلك هذه أساليب ملتوية يضع الرقم واسم مستعار ويبدأ يغازل به والعياذ بالله.
أهذه أهداف يسدد فيها الشباب؟ يضيع العمر ويضيع الشباب في تجوال، في إيذاء المسلمات، في إيذاء العفيفات الطيبات الطاهرات، وإلا بعضهم سار يعمل له لوحة كبيرة: (4351234) يقف بجانب نساء يريهن الرقم، إلى أي درجة ضاعت الحياة، أصبحت الحياة تافهة ما عاد عند الإنسان اهتمام إلا أن يوصل رقمه إلى فتاة، هذه آخر أمنيات الشباب اليوم أن الواحد يوصل رقمه إلى بنت.
يا أخي: إذا كان فيك رغبة زواج، اذهب واخطب من المسلمين مثل المسلمين، وانظر إلى هذه الفتاة إن شاء الله تعجبك وتعجبها، أما أن تؤذي بنات المسلمين بهذه الطريقة وتسدد أهدافك إلى إيذاء المسلمات وإيذاء العفيفات وإيذاء الطيبات، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(195/16)
من صور تخبط الشباب: السهر مع المردان والشكشكة
من المآسي أيها الشباب! مأساة السهر أيضاً وسدد كثير من الشباب أمورهم إلى السهر في الاستراحة الفلانية والمخيم الفلاني في المكان الفلاني، وأعجب ما سمعت الشكشكة وما كنت أتوقع هذا الشيء حتى سألت أحد الشباب وقلت: ما هي الشكشكة؟ قال: والله غريب يا شيخ تسأل عن هذه الأشياء؟ قلت: والله أنا سألت بعض الشباب وقلت لهم ما هي الأشياء التي انتشرت بين الشباب المراهقين خاصة؟ لأني عندما أتكلم لا أتكلم عن قضايا في واد والواقع الذي يعيشه بعض الشباب في وادٍ ثانٍ، ولا بد أن أتكلم عن الأشياء الواقعية، قال: يا شيخ الشكشكة: استراحة ومخيم يأتون فيه هؤلاء (الخكاريا وعيال ومردان وخرابيط ورقص وتفيخه) إلى الفجر أو إلى آخر الليل، ثم يخرجون والعياذ بالله، إما أن تفتح عليهم باب اللواط وباب الشذوذ ويسرون مثل البهائم، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونسأل الله أن يعافينا من ذلك، من الذي يطيق أن يجلس في مجمع آثم، ومجتمع وسخ، مجتمع ساقط، مجتمع رذيل، مجتمع اللواط، ومجتمع (الخكارى) ومجتمع المخنثين؟!
فما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
مسألة خطيرة جداً، والواجب أن ننتبه لإنقاذ هؤلاء الشباب، الشاب الفارغ الذي ليس في ذهنه شيء.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فالشاب الذي ليس عنده حصانة وتحذير من هذه الأشياء يقع فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله، والقضية كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] ليس فجأة طلع من المعهد وذهب في شكشكة، لا، القضية: جلسة، لقاء، سجارة، سهر، يمين يسار، تعال اسهر معنا، صيدة قيدة، شكشكة وقلة حياء، وهكذا يضيع العمر حتى إذا قال الزملاء: فلان مات تعالوا صلوا عليه.
وفي ذات مرة شاب من المراهقين حصل له حادث ومات، وأنا أعرف أباه وأسرته، فجئت إلى المقبرة، وجاء زملاؤه ووقفوا عند القبر!! إلى متى التأنث؟ إلى متى؟ فكان الواحد يخاف أن يلمس التراب ثوبه، شمر عن يديك وتعال خذ اللبن والتراب والماء واعجن كي تضع اللبن على صديقك وتدفنه وتودعه لحده، وتعرف أنك كما دفنته ستدفن، كما أهلت عليه التراب سيهال عليك التراب، لماذا لا تحيا القلوب؟ لماذا لا تستيقظ وإلى متى والشاب في غفلة؟ السيارة ملاهي وأغاني وغفلات وإم بي سي، إف إم، ليل نهار، وفي البيت ملاهي وأغاني ودشوش وقلة حياء ووساخة، الليل سهر، الشوارع تسكع، الصلاة لا يعرفها مع الجماعة، متى يريد أن يكون له حظ في الإسلام وهو هكذا: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87].
وقيل في العهد: هو الصلاة (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فإذا جمع الشباب ترك الصلاة وتسكع، وهمم دنيئة ومعاكسات وشكشكة، وقلة أدب وأمور سخيفة أسألكم بالله متى ينفع هؤلاء بلادهم وأسرهم، مثل هذا أسألك بالله أنت يا أخي السامع! يا أخي الشاب! لو عندك أخت هل تزوجها هذا الخكري، يقول: لي اخسأ، صحيح اخسأ ليس بكفء لها، وهذا متى يتزوج ومتى ينجب، وإذا كان مسئولاً عن أمه وأخواته فمتى ينفعهن وكيف يدير شئون حياتهن، هل يصلح أن يكون رب أسرة أو مسئولاً عن مسئولية، للأسف لا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله، وزد على ذلك هذه البرنيطة.
أصبحت البرنيطة هي الشعار السائد، وأنا لا أقول لبس البرنيطة حرام، البس الذي تريد لكن لا تقلد الغربيين ولا تكن مهزوماً، ما لبستها إلا يوم أن لبسها الغربيون، في الأفلام وفي (إم بي سي) وفي الشاشات والقنوات، وفي أمس القريب أنا في مطار جدة، وشاب معه اسكيتنج المتزلج هذا، ولابس برنيطة حمراء، ووالله إني أقسم بالله، أني لم أعرف هو بريطاني أو سعودي، ويوم كنا جالسين منتظرين موعد الإقلاع جلسنا نأكل أنا وزميلي في المطعم، فمر بجانبنا وهو يتكلم بالعربية، قلت: يا دافع البلاء هذا الشكل!! سلسة في اليد، والقبة وفنليته لا أدري ما شكلها كأنها نمر مرقعة، واستكيتنج يتزلج عليها.
واقع الشباب اليوم يعصر قلوبنا، لا يعرفون ماذا يراد بهم، وأعداء الإسلام لا يمكن أن ينجحوا في تدمير أمة، وإفساد أمة وإهلاك أمة إلا إذا دمروا الشباب، إذا دمر الشباب من يدافع عن البلاد؟ من يقف في مواجهه الأعداء؟ شاب ضائع صايع مسكين لا يستطيع أن يواجه، لكن لنا أمل أن من بين هؤلاء الشباب، ليس هؤلاء كلهم شبابنا ولله الحمد، يوجد في شبابنا أبناء الكليات العسكرية والحربية والجوية والبرية وكليات وشباب صالح من مختلف البلاد، لكن أيضاً من شدة غيرتنا لا نريد أن يبقى في مجتمعنا حجم بهذا الكم الموجود الآن من الشباب الضائع أو المتساهل في حياته وشبابه، لا يمكن أن تضيع الحياة بهذه الطريقة.
أيها الأحبة! أقول لكم: واجبنا أن ننتبه وأن نعود ولا طريقة إلى تسديد الهدف إلا بالعودة الصادقة إلى الله عز وجل، لو كان هذا الشباب متديناً مستقيماً صالحاً، لا يقبل على نفسه أن يعاكس أو يكشكش أو يلبس قبعة، أو يتزلج اسكيتنج كما قلت لكم، بعض الأشياء لا أسوقها على وجه الحرمة ولكن أقول إنما وقع الشباب فيها على طريق التقليد، لكن ذلك عيب أمام الناس أن تلوك العلك وبيدك سلسلة، وهذه الأمور للأسف من الأشياء التي لا تليق أبداً.
إن هذه القضايا -أيها الأحبة- قد أوقعت كثيراً من الشباب في هذا الانحراف التي ذكرت لكم، ولم يقف عند حد معين، وكما قلنا في محاضرة (حاول وأنت الحكم) السابقة، كيف يبدأ الشاب بالانحراف أول شيء يتعرف على واحد.
ثانياً: جلسات ولقاءات.
ثالثاً: سجائر، وبعد السجائر سهرة، وفي السهرة حبوب سكنال تدوين، حبة بيضاء، هروين كبتاجول، مخدرات، إبرة، ولا يزال الفساد يجر بعضه بعضاً، ولو أنه في البداية عصم نفسه عن مجالس السوء وجاهد نفسه على طاعة الله، ومن أراد أقرب طريق للاستقامة والهداية أمرين: الأول: اختيار الجليس الصالح.
الثاني: الحفاظ على الصلاة مع الجماعة.
ركز على هاتين القضيتين أكبر تركيز، الصلاة مع الجماعة، من أدرك تكبيرة الإحرام خلف الإمام أربعين يوماً كتبت له براءتان، براءة من النفاق وبراءة من النار، وهذا فضل عظيم؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وجليس صالح يعينك على إبعاد ما عندك من ملاهي ومعاصي، والهداية قريبة بإذن الله عز وجل.(195/17)
فاحشة اللواط ومقدماتها
لقد أصبح خطر الشباب بعضهم على بعض عظيم، وأكبر الخطر لم يعد فقط في القنوات الفضائية، بل هناك خطر عظيم من الشباب بعضهم على بعض، ناهيك أو فضلاً عن بعض الشباب الذين لا يقصرون في قلة الحياء والخساسة، وقد وجدت شاباً في الحي الذي أسكن فيه بعد صلاة المغرب فاستغربت من أين جاء هذا؟ ليس من عيال الحارة ولا من شباب الحي، ما الذي جاء به؟ ومعه سيارة غمارتين وهذا معه سيارة، وهذا معه، وقاعد يكلم له ولد عمره أربع عشرة سنة، تريد دورة؟ الله يجعل الشياطين تدور بك، ومعروف ما وراء الدورة، تريد دورة، يأتون يمسكون الشاب المسكين مولع بسواقة السيارة، تعالى نعطيك دورة، دورتين ثلاث أربع حتى يصبح لوطياً يفعل به اللواط.
شاب آخر مولع بالأشرطة والسماعات والأستريوهات، أنا عندي لك هدية، يعطي له أستريو الذي يعجبه، ثم بعد ذلك والعياذ بالله يوقعه في اللواط، والله يا شباب لا أقول تجاوزاً، جاءتني أشرطة شاب يقولون: ورطنا ورطة، يأتي يقول: أنا عندي مشكلة استحي أن أقولها لك، أقول له: سجل مشكلتك في شريط، وضع رقم تلفونك وأسمع المشكلة وأرد عليك.
فسمعت المشكلة يقول: أنا شاب يقول: ابتليت وتورطت بأن تعرفت على أناس، هدايا، مجاملات، حتى ورطت معهم في اللواط، كيف أستطيع أن أخرج منه؟ وأخبث من هذا أن بعضهم قاتلهم الله أنى يؤفكون على أساس يدفع الهدية لشيء يريده، واحد عمره سبع أو تسع عشرة سنة ويهدي هذه الهدايا لشاب عمره أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، استريو سوني بألف وخمسمائة ريال، لله في لله؟ لا.
وراءها شيء.
ثم يعطي له أستريو ثم غداً هدية، ثم ميدالية، ثم قلماً، ثم يجره، ثم يتفرجون على أفلام حتى يفعل به اللواط، والكاميرا تصور، ثم إذا أراد أن يقلع عن هذا، قالوا: تريد أن تروح تأتي وأنت حيوان، بالأمس كانوا يهدونه هدايا واليوم بالقوة، وانظر هذه صورتك موجودة وهذا فيلم الفيديو موجود، ووالله العظيم لو لم تأت لنفضحنك ونعمل بك كذا وكذا، وهذا الواقع.
فالعاقل إن كان يرى أن حوله من ينسج الخيوط؛ لأجل أن يقتنصه فليكن أسداً يقتنص في خير ولا يقنص في شر.
والأمر الثاني: آخر يقول عن نفسه: إنني ابتليت بشاب فعلت به وفعلت به، والآن أنا طفشان من تصرفاته، صورت وأخذت عليه وأهدده، والآن مسكين متحطم في حياته لا يقدر أن يعلم أهله بالمشكلة، الكبير هذا الذي فعل الفواحش بهذا الصغير، يعني بدأ يراجع نفسه، يقول: لا أدري كيف أتخلص، لا أدري كيف أغفر هذا الذنب، أو أستغفر من هذا الذنب.
أيها الإخوة: انظروا كيف يقود الضياع والفراغ القاتل الشاب إلى هذه الأمور، وهذه قضايا ليس بعيب أن نتكلم فيها، طالما وجد من شبابنا من يقع فيها، كما أن الله تكلم في القرآن عن القتل وتكلم في القرآن عن الزنا، وتكلم في القرآن عن فعل قوم لوط، وتكلم في القرآن عن السرقة، وتكلم في القرآن عن قضايا كثيرة، كذلك نحن نتحدث للتحذير لمثل هذه القضايا.
وختاماً: أقول من يسدد الهدف إلى الاستقامة؟ من يسدد الهدف إلى الهداية؟ من يسدد الهدف إلى مرضاة الله؟ من يسدد الهدف إلى التوبة؟ من يسدد الهدف إلى الطريق المستقيم؟ من يسدد الهدف والطريق إلى الجنة؟ من يسدد الهدف إلى جلساء صالحين ينفعونه بإذن الله؟ من يسدد الهدف إلى الجد والاجتهاد والإنتاج؟ هذا سؤال الرجل فيكم يقول: أنا أسدد الهدف نحو الخير، ومن لم يكن رجلاً فلا غرابة أن يستمر في ضلاله المبين، وحاشا أن يكون فيكم من يقول هذا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، واسمه الأعظم أن يهديني وإياكم لطاعته، وأن يثبتنا وإياكم على مرضاته، قولوا: آمين.
يا شباب أمنوا على الدعاء لعلها ساعة يكتب لنا ولكم فيها قبول ورحمة واستجابة، اللهم اهد هؤلاء الشباب واهدنا معهم يا حي يا قيوم.
اللهم اهدنا بهدايتك، وثبتنا بتثبيتك، وأيدنا بتأييدك.
اللهم لا تفضح أسرارنا، ولا تهتك أستارنا، وثبتنا على ما يرضيك، واقبضنا غير خزايا ولا مفتونين يا رب العالمين! اللهم ارزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وتوفنا وأنت راضٍ عنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وأشكر لكم أيها الشباب هذا الاستماع الجميل، وأسأل الله أن يجمعني بكم في الجنة، وأقول ما قلته في (حاول وأنت الحكم) أنا مستعد لاستقبال أي مكالمة وأي رسالة وأي شريط، وأي قضية وأي شيء عندكم، إنسان يستحي أن يقول شيء، يرسله لي في شريط، يضعه في رسالة صندوق البريد (57594) الرمز (11584) موجود عند الشيخ علي العثمان أو عند الشيخ محمد البرقاوي، من أراد أن يراسلني، يضع عنوانه وأنا أراسله تريد ترسل بشريط أرسله للشيخ، وغلفه واكتب عليه يصل شخصياً ولا يفتح إلا بيد الأخ سعد البريك، تريد أن تكلمني مكالمة هاتفية هذا التلفون الذي أرد عليه (4260277) أي مشكلة عندك دونها في الرسالة وضع اسمك ورقم هاتفك، إذا لم تجدني قل: أنا من شباب المعهد المهني عندي مشكلة الفلانية وهذا رقم هاتفي أرجوك اتصل عليّ، عندي مشكلة أريد أن أتناقش معك فيها: (4260277) في رسالة مسجلة وفي فاكس، الذي عنده فاكس في الورشة يرسله جزاكم الله خيراً (4260277) بارك الله فيكم.(195/18)
منبر الجمعة
لا أحد يسلم من العداوة، حتى الله عز وجل ما سلم من خلقه وعبيده؛ لذا وجب علينا أمة الإسلام أن نحذر من هذه العداوات التي قد تأتي إلينا من أناس يظهرون لنا الولاء وهم يحملون لنا البغض العميق، وهؤلاء هم المنافقون، وهؤلاء المنافقون عانى منهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن نعاني منهم اليوم، وبصور مختلفة وحيل متعددة.(196/1)
قدم العداوة بين الحق والباطل
الحمد لله الذي أعز عباده المؤمنين، ونصر جنده الصادقين، وجعل أعداء دينهم من الصاغرين، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو إله الأولين والآخرين، أحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله، أحمده ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، وأشهد أن لا إله إلا هو جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، عبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين: اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: ما من أحد في هذه الدنيا يسلم من العداوة أو ينجو من الأحقاد والضغينة من قبل الحاسدين أو المبغضين، وإذا كان رب العباد جلَّ شأنه، وعزَّ سلطانه قد ضل وجهل في ذاته وصفاته أحقر خلقه وهم اليهود، فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].
وإذا كان نبيه صلى الله عليه وسلم قد نال من عرضه المنافقون، ونال من سيرته ونبوته الكافرون، فقالوا: ساحر أو مُعَلَّمٌ مجنون، وقالوا: في شأن الوحي الذي يتلى عليه: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5]، ولم ينج صلى الله عليه وسلم وهو النسيب الشريف في قومه لم ينج من أذى المعاندين، وسفاهة الجاهلين، فجعلوا الشوك والقذر في طريقه، وسلا الجزور على ظهره، وتمالؤوا في قتله ليضيع دمه، ولم ينج صحابته الكرام من كيد اللئام، وأذى الرعاء والطَّغام، فثبت الصحابة رضاً لرب الأنام، وأرخصوا الأرواح ليعز دين الإسلام، وبذلوا الدماء ليرتفع الجهل وليحل العدل والنور بين الأنام، وجاء من بعدهم التابعون لهم بإحسان، فحملوا الراية، ونشروا الهداية، وكانوا بحق لهذا الدين آية.
ومع هذا كله مع التضحيات ما نجوا من الأذى والفتنة والابتلاء! وبالجملة: من طلب السلامة من الخلق فقد طلب المستحيل.
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
نصبُ المنصِب أوهى جلدي وعنائي من مداراة السفل
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
ولقد كانت العداوة بين الحق والباطل قديمة قِدم البشرية، واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ليبتلي الله المؤمنين، وليمحص الصادقين، وليكشف الستر عن المفسدين والمنافقين.
إن عداوة الكافرين جلية من قديم الزمان، وحسبكم قول الله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105] ويقول سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] ويقول تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119]، ويقول جل شأنه: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119].
ولما كانت هذه العداوة بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، والهدى والضلالة لما كانت العداوة قديمة قِدم البشرية؛ فقد تلونت وتطورت بألوان البشر وتطورهم، وظهرت تارة سافرة العداوة، وتارة بأشكال قشيبة، وبأساليب غريبة {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
عباد الله: لقد علم أعداء الإسلام علم اليقين أن مواجهة المسلمين في عقائدهم لا تزدهم في الدين إلا صلابة، ولا تزيدهم في الطريق إلا مُضياً.
لقد علم أعداء الإسلام أن المسلم حينما يصادم في عقيدته ودينه وكتاب ربه وسنة نبيه علموا أن هذا الصدام يزيل الغشاوة عن فطرته، فينهض للذب عن ملته، والذود عن أمته، وحينئذٍ لجئوا إلى أثواب الخداع القشيبة، وصور المكر المريبة التي انطلت على السذج والغوغاء، وفطن لها أولوا الفراسة والذكاء؛ فانطلق الصادقون يحذرون أمتهم شفقاً وحباً، يحذرون أمتهم شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، انطلق الصادقون يحذرون أمتهم من خطر هذه الأساليب الملتوية، ويكشفون زيفها وباطلها.(196/2)
أثر النفاق على المجتمع المسلم
عباد الله: إن الذي يظهر لك العداوة سافرة، لا تحتاج إلى أدلة وبراهين لتعرف عداوته، إن الذي يبغضك صراحة لا تحتاج إلى دليل لمعرفة بغضائه وعداوته، ولكن مصيبة الأمة والخطوب المدلهمة إنما هي من أعداء يظهرون المسالمة ويبطنون الضغينة، فهم على حد قول القائل:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وهم كما قال الآخر:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب
فالمنافقون وأهل العداواة المغلفة هم مصيبة الأمة، وسبب النيل منها.
لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقامت دولته، فأصبح الناس معه على فئات ثلاث: مؤمنين وكافرين، وهؤلاء شأنهم واضح، والفئة الثالثة المنافقون، ومن المنافقين نال النبي صلى الله عليه وسلم أذىً عظيماً، فما ترك المنافقون شاردة ولا واردة يقدرون على صرفها لمعاداة النبوة إلا فعلوها، حتى بلغ بهم الأمر أن اتهموا نبيهم صلى الله عليه وسلم في زوجته عائشة بالزنا.
يا عبد الله: لو جاء واحد وقال لك: إن زوجتك زانية، أو أمك باغية، أو أختك فاجرة، ما الذي يصيبك؟ هل تستطيع أن ترقأ بالنوم للحظة؟ هل تستطيع أن تلذ بطعام أو شراب؟ فما بالكم بالنبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزة، تتنزل عليه الملائكة بالوحي، خير من وطئت قدمه الثرى، يقول المنافقون عنه: إن زوجته لزانية.
أي مصيبة تصيب الأمة من المنافقين وأذناب الكافرين، لقد بلغ الأمر بهم أن اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم في زوجته عائشة، وهي العفيفة الحصان الرزان.
أم المؤمنين رضي الله عنها، رموها بالإفك، وقال رأس النفاق ابن أُبي في شأنها ما قال لما عادت متأخرة عن الجيش.
فاتها الجيش -والجيش بالليل سائر- بقيت مكانها، فلما جاء الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السُلمي ورآها عرفها، وكان قد عرفها قبل نزول الحجاب، فما كان منه إلا أن أناخ ناقته، وتنحى عن الناقة بعيداً، حتى تركب أم المؤمنين، وأمسك بزمام الناقة، يقودها حتى بلغ الجيش.
أي عفة؟! وأي غض للبصر؟! وأي احترام لزوج النبوة أعظم من هذا؟! ومع ذلك كله قال ابن أُبي رأس النفاق، الذي نشر حادثة الإفك وتولى إذاعتها ونشرها بين الناس وبين أذناب النفاق في مجتمع المدينة، قال: والله ما سملت منه وما سلم منها.
فَمِن هؤلاء -يا عباد الله- يدخل البلاء في صفوف الأمة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
ولكن اعلموا -يا عباد الله- أن لله في هذا حكمه، وأن أنواع البلاء وتلون الابتلاء لله فيه حكمة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]، {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(196/3)
طعن الأعداء في رموز الأمة
الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: ها أنتم ترون وتعلمون أن العداوة للإسلام والمسلمين سافرة ظاهرة، وأخذت ألواناً قشيبة وأساليب غريبة، فتنطلي على من لا عقل له، ومن لا فؤاد ولا لب له، ويفهمها ويفطن لها الألِباء الأذكياء.
فيا معاشر المؤمنين: اعلموا أنكم مستهدفون، وأن أمتكم مستهدفة، وأن أرضكم مستهدفة، وأن مقدساتكم مستهدفة، وأن ولاة أمركم مستهدفون، وأن علماءكم مستهدفون، فما دمنا نعلم هذه العداوة، فلنأخذ الأهبة والاستعداد، لنشد من ترابطنا، ولنوحد صفوفنا، ولنجمع كلمتنا، ولا نجعل للمجرمين والمنافقين إلى أرضنا وخيراتنا وأمتنا وعلمائنا سبيلا.
معاشر المؤمنين: يئس الكفار أن يحرفوا القرآن بعد محاولات لتحريفه، فعجزوا عن ذلك، وكيف يقدرون والله حفظه، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وحاولوا تشويه السنة، ولكن قيَّض الله لها رجالاً أتقياء أصفياء أقوياء، حفظوا الدين بالإسناد، فبينهم السند الذهبي العالي المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويوم أن أيقن أعداء الدين والملة أن لا سبيل لهم إلى الكتاب والسنة؛ لم يبق أمامهم إلا الرجال، فأخذوا يلفقون الافتراءات والأكاذيب والأقاويل والأباطيل على الرجال.
يقول أحد الرافضة: إننا أبطلنا الناقلة ليبطل المنقول، أي: أن شتمهم للصحابة، ونيلهم من رجال الحديث ليس لعداوة مجردة بينهم وبين رجال الحديث، ولكن الضرب والسبيل والطريق لتشكيك المسلمين في حديث نبيهم، الطريق إلى ذلك أن يشكك الناس في سير الصحابة، ومن قرأ الخطوط العريضة، وجد أقوالهم التي يستحي الواحد أن ينطق بها على هذا المنبر من شناعة قولهم في شأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
يريدون أن يشوهوا صورة الصحابة، ويريدون أن يشوهوا صورة التابعين، حتى إذا قرأت حديثاً في سنده ذلك الصحابي قلت: ومن يضمن لي سلامة الحديث وفيه ذاك الصحابي الذي سمعنا عنها كذا وكذا.
ومعتقد أهل السنة والجماعة: أن الصحابة كلهم عدول، اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه، ونهى النبي عن الوقوع فيهم فقال: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق ملء جبل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) لو تصدق واحد بوزن جبل أحد ذهباً ما كانت صدقته تساوي نصف مُدٍّ، يتصدق به أحد الصحابة، ومع ذلك اجتهد الأعداء في النيل من سير التابعين ومن بعدهم، حتى يتشكك الناس في سير العلماء، وفي سير معالم الدين، ورموز الشريعة، وهيهات هيهات {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
عباد الله: يلجأ الأعداء إلى أسلوب الشائعات والأباطيل والأكاذيب والافتراءات في معالم الدين وعلماء الأمة وولاة الأمور هجوماً وتشويهاً وتشكيكاً؛ ليتفرق الناس عن ولاة الأمر، ولتضعف الثقة في ولاة الأمور، وليتشكك الناس في نزاهة العلماء، وليتصل الناس بالمذاهب والتيارات والملل والنحل والفرق والأباطيل؛ ثم تصبح الأمة تعيش في حيص بيص، لا يجدون معلماً يتعلقون به، أو ثقة ينضوون تحت لوائه، هكذا يريد الأعداء يوم أن يلفقوا الأباطيل والتهم والشائعات على أعداء المسلمين.
أليس أبا جهل هو من كان في مواسم الحج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يسبقه وتارة يلحقه وهو يقول: يا معاشر الحجاج! إن هذا ابننا، ولقد صبأ عن ملتنا، وإنه سفيه فينا ينال من عقله، وينال من سيرته، حتى يتشكك الناس في عدالته، فلا يقبلوا منه صرفاً ولا عدلاً.
وهذا الأسلوب قد فعله شياطين الإنس في هذا الزمان وقبل هذا الزمان، ومنذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا نالت الرافضة من سير الصحابة؛ لكي يشككوا الناس فيهم، ونال النصارى من قادة الإسلام العسكريين، وأخذوا يشككون في دوافعهم إلى الجهاد، ويشككون في أعمالهم وقيادتهم لجيوش الأمة.
واقرءوا ما كتب في سلسلة روايات تاريخ الإسلام، فمن قرأها -ومؤلفها نصراني- يحكم كل الحكم أن القادة وأن الجهاد تسيره آهات العشاق، ويحركه مطامع الأشواق، من قرأ تلك الروايات التي امتلأت تشويهاً وتحريفاً وتشكيكاً بسير قادة الإسلام، يقول: ما حرك الجيش إلا حب تلك الأميرة.
إنهم يوم أن كتبوا عن فتح محمد بن القاسم لبلاد السند، قالوا: وكان يحب الأميرة سيتا بنت الملك ذاهر، ومن أجل ذلك جَيَّش الجيش، وأعَد العُدة، وسار وعبر النهر حتى يلتقي بمحبوبته.
هكذا ينال أعداء الإسلام من الدين، لا يستطيعون أن يسبوا صحابياً، لا يستطيعون أن ينالوا من الدين مباشرة، لكنهم يستطيعون النيل من علماء الدين منذ القديم إلى هذا الزمان، فانتبهوا لذلك يا عباد الله، ولا ينبغي لمسلم أن يفتح أُذنه للشائعة والمقالة: (فبئس مطية الرجل زعموا) كيف والله جل وعلا يظهر براءة أوليائه في الدنيا قبل الآخرة {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].(196/4)
مكيدة أبطال الشموع
معاشر المؤمنين: إن أسلوباً خبيثاً خطيراً يدبر لأمة الإسلام في هذا الزمان، وقبل هذا الزمان، أتدرون ما هو يا عباد الله؟ إنه صناعة الأبطال من الشموع، وتشكيك الثقة في الحقائق.
أما صناعة الأبطال من الشموع فهذه ملموسة واضحة، يوم أن ترى المجلات الأجنبية والوافدة تضفي على رجل ألقاب الثقة، وألقاب العلم، وتجعله علماً ومعلماً وشخصية ومركزاً، ويجعلونه إماماً حتى يتعلق الناس فيه، وتشرئب أعناقهم إلى رؤيته، وتنطلق أبصارهم تتأمله.
وما تزال تلك الوسائل المغرضة للدين وأهله وعلمائه وولاة أمره تصنع من أحقر التافهين بطلاً عظيماً، فإذا لمع وبرز وعرفه الناس جميعاً، أخذوا فصلاً جديداً من تمثيلية أو مسرحية، فينال من قبل الأعداء نيلاً، تجدونهم وهو من أوليائهم، وهو من أذنابهم يظهرون أنهم يؤذونه، ويظهرون أنهم يتابعونه، ويظهرون أنهم ينالون منه، حتى يتأكد الناس أنه صادق وليس بعميل.
ثم بعد ذلك يطلقون سراحه من جديد، فيمسك شأناً من شئون أمة الإسلام، ثم بعد ذلك يعيث في الأرض فساداً، كيف استطاع أن ينال ثقة الجماهير والأمة يوم أن مر بدور مسرحي، وفصل تمثيلي خطير لم يكن شيئاً، ثم أظهر بين الناس، ثم لمع، ثم أصابه نوع في ظاهر الأمر بلاء، وليس في حقيقته بلاء، ثم يعود بعد ذلك مصيبة وويلاً على المسلمين.
هذا اسمه صناعة الأبطال من الشموع! والنوع الآخر والمقابل لهذا: تشكيك الناس في الثقات، يوم أن يبرز عالم من العلماء، أو أن يظهر علماء المسلمين وقادتهم وقادة الجهاد ورجاله، يوم أن يظهرون ويبرزون على الساحة، تجد ألوان التشكيك، المجاهد الفلاني كان ممن يتعاطون المخدرات، القائد الفلاني وصلت إليه سيارة فيها خمور، فلان بن فلان حصل له كذا وكذا، فماذا بعد ذلك يا عباد الله؟ في المقابل تصنع الأبطال من الشموع التي لو عرضت على حرارة الفتنة لذاب الشمع ولم يبق له وجود، وفي الجهة الأخرى الثقة العالم التقي النقي يرمى بمختلف الاتهامات، لماذا؟ حتى يشكك الناس فيه، ولا يثقوا بقوله، ولا ينتصحوا لنصحه، ولا يخلصوا الأمر له ومنه.
فيا عباد الله: اعلموا أن أمتكم مستهدفة، اعلموا أنكم مستهدفون بمختلف الأساليب وألوان الوسائل، فمن الناس من يفهمها، ومن الناس من تنطلي عليه.
يكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي
يا عباد الله: لقد عرفنا في بعض دول العالم الإسلامي رجالاً ممن كانوا من أهل التجارة والربح الحلال، ماذا لفق عنهم؟ ماذا قيل عنهم؟ ماذا نشر عنهم؟ إنهم يتاجرون بالمخدرات، إنهم يفعلون كذا وكذا، حتى يتشكك الناس في سيرهم وسمعتهم، وفي المقابل تخرج الرموز، ويخرج الأبطال الذين صنعوا من الشموع، فتنطلي الحيلة على السذج والغوغاء.
واعلموا -يا عباد الله- أن بلدكم هذا بحمد الله ومنته هي آخر قلعة للإسلام، وهي آخر معقل من معاقله، ويأبى الله أن يدب هذا المرض إلى رجاله أو شبابه أو علمائه أو ولاة أمره، وإن حصل شيء فهذا لا يزيد أبناء المجتمع بولاة أمره إلا تماسكاً، ولا يزيد رجاله بولاة أمره إلا التفافاً، حتى يطرد الدخيل، ويكشف العميل، وتظهر السنة، وتمحى البدعة.
هكذا ينبغي أن يعمل المسلمون يوم أن يصاب المجتمع، أو يدب إلى الأمة بداية مرض من الأمراض، فاعلموا أن هذا لا يجعلنا نفيض في القول والشائعات والتفسير والاقتراحات والآراء، كل يفسر من تلقاء نفسه، لا وألف لا، بل هذا يزيدنا في ولاة أمرنا تمسكاً، وبعلمائنا ثقة، وبمجتمعنا وحدة، حتى لا يدب الضعف إلينا.
وما قتلت أمة إلا يوم أن قتلت من الداخل، وما سلبت أمه إلا يوم أن نهبت من الداخل، وما تسور اللص جداراً إلا يوم أن وجد الأمر هيناً، وما دخل بيتا إلا يوم أن وجد الباب مفتوحاً، فلا تفتحوا ولا تشرعوا أبواب الفتنة والشائعة والقول في ولاة أمركم أو علمائكم، بل احفظوا أنفسكم: {َوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12].
يوم أن نسمع أي مقالة في واحد من ولاة أمورنا، أو علمائنا، أو رجالنا الصادقين المخلصين، فإننا والله لا يزيدنا هذا إلا إيماناً بصدقه وإخلاصه؛ لأنه ابتلي والابتلاء دليل من دلائل الصدق والإخلاص.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، وارفع لواء الدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(196/5)
نساء لم يذكرهنَّ التاريخ
في إطار الهجمة المسعورة ضد المرأة، والحال المزري الذي وصل إليه واقعها، يطير بنا الشيخ في موكب حافل بصور من حياة النساء بداية بأمهات المؤمنين والصحابيات؛ مع ذكر بعض صور الصالحات في زماننا، كما تطرق إلى الأسباب والدواعي التي جعلت كثيراً ممن تجاوز سن الشباب من النساء يقمن بتصرفات المراهقة والتصابي.(197/1)
أسباب الحديث عن المرأة
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: أسأل الله جل وعلا أن يجزيكم خير الجزاء على حضوركم هذه المحاضرة في ليلةٍ شديدة البرودة، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بكم في جنةٍ لا نرى فيها: {شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:13 - 14].
أحبتنا في الله: حديثنا إليكم حديث الأخ المتعلم إلى إخوانه العلماء والأفاضل، ولكن لا بأس أن يذكر بعضنا شيئاً قد يغيب عن أذهان البعض.
أحبتي في الله! عنوان هذه الكلمات: نساءٌ لم يذكرهن التاريخ، نساءٌ لم يذكرهن التاريخ بسوء، نساءٌ لم يذكرهن التاريخ بفاحشة، نساءٌ لم يذكرهن التاريخ بمعصية، نساءٌ سطر التاريخ مآثرهن، وسجل كرامتهن، وسطر مواقفهن التي كانت ولا تزال شمساً مشرقة وقناديل تضيء لأجيال الفتيات والبنات والأمهات طريق السير في معترك الحياة.(197/2)
الهجمة المسعورة على المرأة
أما الحاجة إلى طرح هذا الموضوع: فإنا وإياكم نعلم هذه الهجمة المسعورة، وذلك النعيق والنقيق والصياح والعواء ضد المرأة وتجاهها، ولماذا كل هذا على هذه المرأة المسكينة؟! نعم.
إذا أفسدوها فسد المجتمع، ومن أراد أن يبطل شيئاً؛ فلا بد أن يبطل أركانه، ومن أراد أن يفسد داراً؛ فلا بد أن يعطل أساسها، ومن أراد أن يخرب دولةً؛ فليهدم مجتمعها، وإن مجتمعنا ولله الحمد والمنة لا يزال يشهد تماسكاً وترابطاً، ورعايةً وعناية من الآباء والأمهات، ومكانة الأسرة مرموقة، ومنزلتها معلومة، إلا أن أعداء الإسلام من العلمانيين والمنافقين والمتربصين بنا الدوائر قد شرقوا بريقهم، وأغاظهم هذا الأمر، وحسدونا على ما نحن فيه، وصدق فيهم قول الله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وصدق فيهم قول الله جل وعلا: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105].
إذا لقونا تبسموا بالشفاه، وأظهروا صادق الولاء، وإذا خلوا عضوا علينا الأنامل من الغيظ يريدون أن يروا يوماً أسود، وشتاتاً وفرقة، ومصيبةً وبليةً في هذا المجتمع، ويأبى الله ذلك -بمنه وفضله وكرمه- ورسوله والمؤمنين.(197/3)
إبراز الإعلام للمرأة الكافرة والفاسقة
حاجتنا أيها الأحبة إلى طرح هذا الموضوع؛ لأننا نرى في وسائل الإعلام وفي كثيرٍ من الصحف والمجلات تلميعاً للكافرات، وذكراً وإطالةً وإطناباً، وإشارةً وإلماحاً، وتصريحاً وتلميحاً بشأن الفاسقات.
ونرى من يحرص على أن يبرز المرأة التي تركت بيتها، وأهملت أولادها، وهجرت بيت زوجها.
نرى من يحرص أن يجعلها هي القدوة، وهي المثل الأسمى، وصاحبة القدح المعلى.
نرى من يحرص أن يسجل هذه المرأة المتبرجة التي تسافر وحدها، والتي تخرج وتدخل وتتصل وتهاتف وتكلم وتعِد وتزور وتلقى من تشاء كيفما شاءت، وبأي زيٍ شاءت، وفي أي وقتٍ شاءت.
نرى من يحرص على إبرازها بأنها الفتاة المرموقة، والمرأة المثقفة، وصاحبة الفهم والوعي والإدراك التي استجابت لما يحتاج إليه الواقع، والتي واكبت ظروف العصر، والتي طرحت نفسها في معادلة الرقي الاجتماعي.
هذا والله مما نراه، وتلك شنشنةٌ نعرفها من أخزم! نعرف أن أعداء الإسلام ما أرادوا للمرأة سعادة، ولا أرادوا لها حرية، ولا عفةً وحياءً، ولا ستراً وحجاباً، وإنما أرادوا أن يكون الطريق إليها سهلاً، وأن يكون السبيل إليها مفتوحاً، وكما قال محمد قطب حفظه الله وسائر علماء ومفكري المسلمين، قال: إنهم لا يريدون حرية المرأة ولكنهم يريدون حرية الوصول إلى المرأة.(197/4)
جعل نصيب للمرأة من الخطاب
إن من حاجتنا إلى طرح هذا الموضوع: أن نخاطب المجتمع، وأن يكون نصيب المرأة من الخطاب معلوماً، كما أن الدعاة في شأن هذه الصحوة المباركة خاطبوا الشباب على الأرصفة، وجلسوا على الرصيف وحدثوهم، وخاطبوا الشباب في السجون وفي معاقل المخدرات، وتحدثوا مع الناس في المساجد، وتكلموا مع المراهقين في مدارسهم ودور تعليمهم.
إن من واجب الدعاة إلى الله أن يخاطبوا المرأة وأن يحدثوها، خاصةً تلك المرأة التي أقبلت على الكهولة.
إن الحديث للمرأة عامٌ ولكني أخص اليوم بالذكر فئةً وشريحةً من النساء اللائي جاوزن الخامسة والثلاثين أو الأربعين، وأقبلن في دبر العمر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه في صحيح البخاري أنه قال: (قد أعذر الله إلى امرئٍ بلغه الستين من عمره) وفي الصحيح أيضاً: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليلٌ منهم من يجاوز ذلك) فأيما رجلٍ وامرأة بلغ هذا السن أو جاوزاه؛ فهو والله في دبر العمر، وفي خريف الحياة، فلينظر ماذا قدموا وماذا أخروا.(197/5)
السفه الذي تحياه جملة من النساء
إن مما دعاني وحدا بي إلى الحديث معكم في هذا الموضوع والحديث إلى الأخوات ممن يسمعن ويستمعن إلى الشريط: أنني رأيت وعرفت وعلمت شريحةً كبيرةً من النساء بدلاً من أن تكون الواحدة منهن إذا أقبلت على الأربعين، أو جاوزتها في الخمسين، بدلاً من أن تتجه إلى قيام الليل، وصيام الإثنين والخميس، والصدقة وصيام الأيام البيض، وصلاة الضحى والدأب على الاستغفار، وعلى التسبيح، أراها قد عادت إلى الجنون والسفاهة، وهي كما قال القائل:
عجوزٌ تمنت أن تعود صبيةً وقد ذبل الخدان واحدودب الظهرُ
فراحت إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ
نعم.
إني أعجب أن أرى امرأةً جاوزت الأربعين تتغنى وتتزين وتفاخر أنها ستكون عصر السبت في حديقة الحيوانات، وعصر الأحد في الملاهي، وعشاء الإثنين في حفل الزفاف، واليوم الرابع في النادي الفلاني في حفلةٍ نسائية، أين حظ العبادة من وقتها؟! أين حظ الطاعة من ساعاتها؟! أين حق القيام والتهجد من قيامها ونهارها؟! لا تجد لهذا قليلاً أو كثيراً، إلا من رحم الله منهن، وقليلٌ ما هُنَّ.
إنا لا نقول: حرامٌ على المرأة أن تحضر مناسبةً، أو أن تروح عن نفسها بشيء، ولكن امرأةً جاوزت الشباب، ودخلت في الكهولة، حريٌ بها أن تستحي، حريٌ بها أن تُقْبل نحن ما قلنا: إنها عجوزٌ قد خرفت، أو قلنا إنها قد أدبرت، ولا فائدة لزوجها منها، حاشا وكلا! فكم من امرأةٍ في هذا السن هي خيرٌ من شابةٌ في مقتبل عمرها، ولكن نقول: إن هذه المرحلة تتطلب منها إقبالاً وتوجهاً وحرصاً على العبادة، لكي يعلوها الوقار، وتتزيا بالهيبة، وتقتدي بها بناتها، وتقتدي بها جاراتها، وتقتدي بها زوجات أبنائها، تكون بهذه الحال لا أن تصبح سفيهةً مراهقة:
هَبِ الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيبَ يستهويه شيطانُ(197/6)
دواعي سوء تصرف من جاوزن سن الشباب
أيها الأحبة في الله! إن ما نراه في حال كثير من نساء المسلمين في هذا الزمن، لاسيما اللائي بلغن هذا العمر أو جاوزن الأربعين وقاربن الخمسين، مع إغراق كثيرٍِ منهن في السفاهة والتصابي والمراهقة، إنها والله مراهقةٌ جديدة، إنها والله عودةٌ إلى مراهقة الكهولة، مراهقة الخمسين وما بعد الأربعين، ما الذي يدعوهن إلى ذلك؟ إن الداعي والباعث إلى كثيرٍ من هذه التصرفات: أولاً: الفراغ: فراغ القلوب، وفراغ الوقت.
نعم.
لقد فتح الله علينا أبواباً من الخير كثيرة، وأبواباً من النعم لا تحصى.
كانت المرأة فيما مضى مشغولة بجلب الماء من البئر، وبإعداد الملابس لزوجها، وطهي الطعام، وإعداد شئون أولادها، وترتيب منزلها، لا تجد إلا وقتاً قليلاً للعبادة، ومع هذا كله، فقد عرفنا وعرفتم، ولاحظنا ولاحظتم أن فئةً كبيرةً من النساء اللائي سلفن في عمرٍ مضى مع كثرة مشاغلهن في المنازل كنَّ أقرب إلى الله، وأتقى لله، وأقوم لليل، وأصوم للنهار، وأكثر عبادةً وتهجداً، ولما فتحت علينا شئون الدنيا وأصبح الناس يخدموننا من بلاد الشرق والغرب، أصبحت البيوت مليئة بالخادمات، كان المفترض أن تجتهد -من نالت الفراغ بعد الشغل- في العبادة والطاعة، ولكن من المؤسف حقاً أن نجد أن الوقت أخذ يُملأ بالملاهي وحدائق الحيوانات، وكثير من المناسبات التي لا فائدة فيها، وكثير من اللقاءات التي ربما ملئت بالرقص وسماع الغناء، وربما اجتمعن ورقصن البنات فيها وحصل فيها من المنكرات ما الله به عليم.
أعود وأكرر: إننا لا نثرب أو نحرج أو نحرم على المرأة أن تنال شيئاً من الراحة، أو أن تروح عن نفسها في مناسباتها، ولكن لا يعني ذلك أن تشتغل الليل والنهار وطيلة أيام الأسبوع أو أغلب أيام الأسبوع في مثل هذه المسائل.
ثانياً: بعد الفراغ في الوقت.
فراغ الروح، إن من كان بالله أعرف؛ كان منه أخوف، وإنما العلم الخشية، و {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فمن عرف الله حقاً كان خائفاً منه، ومن أدرك نعم الله قابلها بشكره بعبادته، ولكن كثيراً من النساء ويا للأسف قابلن هذا بفراغ الروح وملئن القلوب باللهو والطرب! إن لكل شيءٍ غذاء ومادةً تناسبه لكي تملأه بها، فلو أن فتاةً أو امرأةً جاءت وقالت: إني عطشى، إني جائعة، نقول لها: اشربي بنزيناً! هل البنزين شرابٌ للعاطشين؟! لا.
إن من كان عطشاناً فإن غذاءه الماء، ومن كان جائعاً هل نلقمه التراب، أو نجعله يعلف الصخرة والحصى؟! لا.
إن من كان جائعاً فغذاؤه الطعام، فما دامت البطون لا يصلح لها إلا ما يناسبها من الطعام، فكذلك القلوب من العبث أن نملأها بغير ذكر الله جل وعلا.
إن كثيراً من الناس جاعوا في قلوبهم وأصابهم العطش، وأقفرت صحاري قلوبهم، وأجدبت ربوع قلوبهم، فذهبوا يستسقون وذهبوا يطلبون الماء والطعام لقلوبهم، فقدموا لهذه القلوب الأغاني لعلها تروى من عطشها، قدموا للقلوب الأفلام لعلها تشبع من جوعها، قدموا للقلوب المجلات الخليعة لعلها تجد شيئاً من حاجتها، قدموا للقلوب السهرات التافهة، والذهاب والإياب، والغدوات والروحات، في غير طاعة الله أو في لهوٍ يفضي إلى معصية الله جل وعلا.
أيها الأحبة! إن الضخ الإعلامي -عبر كثيرٍ من وسائل الإعلام التي كانت المرأة هدفاً رئيساً فيه- حدا بكثيرٍ من النساء أن إلى التنافس، والدليل على ذلك أن تجد جملة وشريحة من النساء ممن أقبلن على الخمسين تنافس وتقلد وتفاخر أن فستانها كفستان الممثلة الفلانية، وأن لباسها كلبس المغنية الفلانية، وأن سهرتها في المكان الذي سهرت فيه الراقصة الفلانية، ووالله إن هذا موجودٌ في مجتمعنا، نسأل الله أن يرد الجميع إليه رداً جميلاً.
ثالثاً: لو كانت المرأة فقيرة لما اشتغلت بهذا.
نعم.
حينما ترى امرأةً سبتها في حديقة الحيوانات، وأحدها في الملاهي، واثنينها في حديقةٍ عامة، وثلاثاؤها في مناسبةٍ سهرة، وأربعاؤها في حديثٍ، وتجد في هذا سهرٌ طويل واشتغالٌ عن طاعة الله، ونومٌ عن صلاة الفجر، ونهارها ضائع والخادمة هي التي تدبر الأطفال وتدير البيت، لو كانت هذه المرأة فقيرة، أو أفغانيةً تستجدي قطعة قماش تستر عورتها وعورة بناتها بها، أو كرديةً لا تدري هل تضع القماش تحت رجلها لكي يقيها من صقيع الجليد والثلج؟ أم تجعله على كتفها؛ لكي يرد عنها شدة البرد والزمهرير لو كانت واحدة من تلك لما فكرت ولما وجدت وقتاً أن تزور حديقة أو ملهاة، ولكن هو شأن بني آدم: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] لما استغنى بالمال وبالوقت وبالعافية؛ أصبح يصرف ويقلب، وأصبح حال كثيرٌ من النساء يصرفن ويقلبن هذه الأوقات في الملاهي والمسارح ومناسباتٍ لا ترضي الله جل وعلا.
والله لو كانت في الصومال التي تشهد مذابح عنيفة، أو كانت إريتريةً فقيرة، أو في بلادٍ فيها قتلٌ وسفكٌ وتشريدٌ وأرامل ويتامى لما وجدت مكاناً ووقتاً لكي تضيع المال والوقت والصحة، أو مريضةً في كل عشرين ساعة تغسل كلاها لفشلٍ كلوي أصابها، لو كانت مريضةً تحتاج أن تستنشق الأكسجين أو البخار لأزماتٍ في تنفسها تنتابها بين الساعة والساعة، لو كانت مريضةً بشريانٍ أو بصمام، أو مشلولةً لا تستطيع أن تتحرك، والله ما وجدت وقتاً لكي تضيعه في الذهاب والإياب إلى هذه الملاهي وإلى تلك الحدائق وغيرها.
وإني لأنصح أخواتي وبناتي، وأنصح الزوجات والأمهات أن يزرن قسم النساء في دار النقاهة، ولهن وحسبهن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من زار مريضاً؛ لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع) فلهن الأجر من الله بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا يا صويحبات أمهاتنا! ألا يا بنات مجتمعاتنا! ألا يا معاشر الزوجات! ألا يا معاشر البنات والأمهات! زوروا دار النقاهة؛ لكي تعرف الواحدة نعمة الله عليها، لكي تعرف أنها إن أرادت حاجتها الخاصة قضتها بنفسها، وأن أختاً لها لا تستطيع قضاء حاجتها إلا بوقوف ثلاث ممرضات، إحداهن على صدرها واثنتين على بطنها، حتى تخرج ما بجوفها!! أفلا تحمد الله؟! أفلا تشكر الله؟! أفلا تسبح وتكبر لله جل وعلا؟! هذا خيرٌ لها، لكن الكثير من الناس لا يستعتب أو يعود أو يؤب إلا إذا مسه الشر، إلا إذا حلت به المصيبة، وكما قال الله جل وعلا، وهذا في شأن الذكر والأنثى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].
فتاةٌ يوم أن كانت مريضة تتلوى تتقلب تتأوه، امرأة يوم أن كانت مريضة لا تطيق أن ترى أحداً، لا تتمنى أن تقابل أحداً، فلما عوفيت وشفيت اذهبوا بنا اليوم إلى الحديقة؛ اذهبوا بنا إلى ذلك المكان، بالأمس كانت تتلوى وتتضور من الجوع والألم، ولما حضرت تلك الحفلة المطربة والمغنية وآلات الموسيقى والأعواد والفرقة الموسيقية أخذت ترقص يمنةً ويسرةً على هذه الأنغام، ونسيت أنها بالأمس كانت تتلوى على السرير الأبيض في المستشفى!! نعم {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} يتلوى على جنب {أَوْ قَاعِداً} لا يستطيع أن يستمر نائماً، تارةً يقعد، وتارةً يقف، وتارةً ينقلب على جنبه، وتارةً على ظهره {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} لما ذاقت تلك المرأة أو الفتاة أو الزوجة أو الأم طعم العافية {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] كأنها لم تصب يوماً بمرض، ولم تذق ألماً وسقماً من الأسقام.(197/7)
نساء من السلف
أيها الأحبة! هذه مقدمة لهذا الموضوع، وأما النساء اللاتي لم يذكرهن التاريخ، وقدواتهن.
بل تيجان رءوسهن: أمهات المؤمنين رضي الله عنهم والصحابيات ومن سرن على هديهن، واقتفى أثرهن وأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحسان إلى يوم الدين.(197/8)
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
فأولهنّ خديجة بنت خويلد: كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يذكرها ويدعو لها؛ تقول عائشة: (قلّ مجلسٌ يجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذكر خديجة بخير) حتى أنه ذات يوم كان عندهم لحمٌ أو طعام، فقال صلى الله عليه وسلم: (أطعموا صويحبات خديجة) فاشتعلت الغيرة في نفس أُمنا عائشة رضي الله عنها، فالتفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: [يا رسول الله! هل كانت خديجة إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها] رضي الله عن أمهات المؤمنين، تضايقت عائشة من كثرة ذكر خديجة، لا كراهية في خديجة، ولكنها غيرة تصيب النساء، فالتفتت وقالت: [وهل كانت خديجة إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها] فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد آمنت بي خديجة لما كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً ولم أرزق من غيرها، قالت عائشة: فقلت في نفسي: والله لا أذكر خديجة بسوءٍ أبداً).(197/9)
فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم
انظروا إلى شأن فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وسلم، بنت النبي، بنت ملك الدولة، بنت رئيس الدولة، بنت إمام الدولة الإسلامية العظمى، قال زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [سنوتُ] أخذت أستخرج الماء من البئر بالسانية، والناس تسني على الأباعر والحمر والثيران وغيرها وعلي يسني بنفسه، قال: [سنوتُ حتى اشتكيت صدري] يخاطب زوجته وصاحبة خدره وفراشه، قال: [سنوتُ حتى شكوت صدري، فاطلبي يا فاطمة من أبيك خادماً، فلقد بلغني أنه قد جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبي] فذهبت فاطمة، ولما وقفت بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم استحت! ما أجمل الحياء! ما أجمل العفاف! ما أجمل هذا الحياء الذي ظهر وأيرق وأشرق وأزهر في بيت النبوة، بعد أن استحت عادة مرةً أخرى، فذهب علي بنفسه رضي الله عنه وقال: [يا رسول الله! سنوتُ حتى اشتكيت صدري، وطحنت فاطمة حتى مجلت يداها] أصابها شيءٌ من آثار القروح من أثر ما تطحنها على الرحى وهي تعلف النوى لفرس علي بن أبي طالب.
قال علي: [يا رسول الله! فهب لنا خادماً] فهل قال صلى الله عليه وسلم: أبشر بسواد عين، فإن ابنتي عندك؟! أو قال: أبشر لعينك يا علي يا بن أبي طالب يا بن عمي؟! لا.
بل قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة -الفقراء المساكين المحتاجين الذين يطوون الحصى على بطونهم من الجوع والفاقة والحاجة- تطوى بطونهم ولا أجد ما أنفق عليهم، لكن أبيع السبيَ؛ فأنفق على أهل الصفة).
ثم ولى علي رضي الله عنه، وفي الليل جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته وزوجها، فوجدهما قد تغطيا بفراشٍ إن غطيا به رأسيهما بدت رجلاهما، وإن غطيا به رجليهما بدا رأسيهما، الله أكبر! فجلس النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، قال علي: والله إني لأجد أثرَ برد قدم الرسول صلى الله عليه وسلم على كبدي، فقال: (أفلا أخبركما بما هو خيرٌ لكما من خادم؟ تسبحان دبر كل صلاةٍ عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً) وهذا في مسند أحمد، وفي صحيح البخاري: (إذا أويتما إلى فراشكما سبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، وكبرا الله أربعاً وثلاثين) قال علي: [فما تركتها، قيل له: ولا ليلة صفين، قال: ولا ليلة صفين].
نساءٌ لم يذكرهن التاريخ بفاحشة ولا بمعصيةٍ ولا بدناءةٍ ولا بخسةٍ ولا بسخافةٍ أبداً، منهن فاطمة رضي الله عنها، أول أهل الرسول لحاقاً به، فقد أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بخبرٍ سارّها به فيما بينه وبينها، وعائشة تنظر إليهما، فبكت فاطمة ثم سارّها مرةً أخرى؛ فضحكت فاطمة، فماذا كان السر الأول المبكي؟ وما هو السر الآخر المضحك الذي بعث على الفرح والابتسامة؟ أما الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتِ أول من يلحق بي من أهل بيتي) فبكت رضي الله عنها وقد توفيت فاطمة بعد رسول الله بستة أشهر.
ثم لما سارها مرةً أخرى، قال: (وأنت يا فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).
يا أمنا! يا أختنا! يا جدتنا! يا زوجةً لإخواننا! يا فتاةً من بناتنا! لو قيل: إن مطربةً فلانية ستحضر النادي الفلاني؛ لتهيأ كثيرٌ من البنات لكي تقف أو تصور أو تجالس أو تظفر بكلمة أو توقيع على ما يسمى بالأتوجراف، أو ورق الذكرى لكي تحتفظ وتفتخر به.
يا أمنا! يا أختنا! يا زوجة أحد إخواننا! ألا يسرك أن تكوني صديقةً ورفيقةً وزوارةً لسيدة نساء أهل الجنة في الجنة؟ بلى والله إن ذلك لهو الفوز العظيم، أن تكوني صديقةً لـ فاطمة، وأن تكوني قريبةً من خديجة، وأن تكوني جليسةً لـ عائشة رضي الله عنها.
ولما حانت منية فاطمة رضي الله عنها ودعها زوجها وغسلها وكفنها وصلى عليها.
هذا نهاية المطاف في الحياة وبداية الانتقال إلى دار برزخية.
عائشة نهايتها الموت، فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أيضاً كانت نهايتها الموت، وكذلك خديجة وغيرها أفأنتِ لن تكون لك مثل هذه النهاية؟ ستموتين وسنموت جميعاً.
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
لو كانت الأعمار تبقى لواحدٍ لكان رسول الله حياً مخلداً
فيا أمنا! يا أختنا! يا زوجة أحد إخواننا! يا امرأة ندعوك بالله وإلى الله ولوجه الله، أفلا تزورين خديجة رضي الله عنها، وهي التي يقرؤها جبريل الرسول الأمين السلام ويبشرها من الله ببشارة، يقول لزوجها محمدٍ صلى الله عليه وسلم: (بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا وصب).
يا أختنا! يا فتاة الإسلام! يا امرأة الإسلام! ألا تريدين أن تكوني زوارة صديقة جليسة أنيسة لـ خديجة؟ بلى والله.(197/10)
عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها
أما عائشة، وما أدراك ما عائشة، ذلك المعلم الشامخ والقمة السامقة من أمهات المؤمنين، أحب النساء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أحب الناس إليَّ عائشة، وأحب الرجال إليَّ أبوها) هل اتكلت عائشة على أن زوجها هو النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك ستكون ضامنة للجنة بأي حال؟ مع أنها مبشرةٌ بالخير العظيم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، التي نزلت براءتها من فوق سبع سماوات في حادثة الإفك المعلومة، التي حفظت للأمة شيئاً عظيماً من أحكام الدين فيما يتعلق بالمعاشرة وخصوصيات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن القاسم قال: [كنتُ إذا غدوت أبدأُ ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يوماً، فإذا عائشة قائمة تسبح وتقرأ القرآن وتقرأ قول الله جل وعلا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: وهي تدعو وتبكي وتردد هذه الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: فلما طال انتظاري قمت وذهبت إلى السوق؛ لعلها تنفتل من صلاتها وتسبيحها، يقول: أطلت انتظارها، وهي لا تزال تقرأ الآية ولم تلتفت ولم تدر أني قد دخلت عليها.
قال: فذهبت إلى السوق ثم رجعت فإذا هي قائمةٌ كما هي تصلي وتبكي.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: إنكم لن تلقوا الله بشيءٍ هو خير لكم من قلة الذنوب] ثم أتبعت تقول: [فمن سره أن يسبق الدائب المجتأب؛ فليكف نفسه عن كثرة الذنوب].
هذه حال عائشة.
ولما حضرتها الوفاة وكان عندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فاستأذن ابن عباس وقد قربت من الموت فقالت: [مالي ولـ ابن عباس؛ فأكب عليها يرجوها ابن أخيها حتى أذنت له، فدخل ابن عباس وأثنى عليها خيراً وقال: أنت الذي أنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، وبركاتك على المؤمنين في كثيرٍ من الأمور، فالتفتت عائشة إليه وقالت: دعني منك يا بن عباس، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنتُ نسياً منسياً].
عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، مبشرة بالخير العظيم، تمدح وتثنى وتذكر مناقبها بين يديها، فتقول: [دعني عنك يا بن عباس؛ فوالله لوددت أني كنتُ نسياً منسياً].
يا أمة الله! يا فتاة الإسلام! يا امرأة تجاوزت الأربعين أو قربت منها! خذي صورةً من صور أمهات المؤمنين واجعليها قدوةً ونبراساً ومثالاً لتتأسي وتقتدي بها، بدلاً من أن تنافسي فلانة في ذهبها، وعلانة في حليها، وفلانة في فستانها، وفلانة في خدمها، وفلانة في أباريقها، وفلانة في زجاجها وما عندها من الأواني والأثاث وغير ذلك، خذي طريقة أمهات المؤمنين واسلكيه؛ تصلين بها إلى جنة، فتُخدَمي في الجنة، وتكوني من المنعمات نعيماً لا ينقطع، أما الحلي والملابس والأباريق والأكواب والأثواب والأثاث وغير ذلك؛ فإنك تنقلين من سعته إلى ضيق قبرك، ومن نور الإضاءة والكريستال والنجف إلى ظلمة القبر، ومن السعة في الفلل والقصور إلى ضيق اللحود، ومن الأنس بالزائرات والصديقات والملاهي والحدائق وغير ذلك إلى دار وحشة حيث لا أنيس فيه إلا عبادة ترجين بها وجه الله جل وعلا.(197/11)
أم شريك رضي الله عنها
خذوا صورةً من صور هؤلاء النساء اللائي لم يذكرهن التاريخ بسوءٍ ولا بشرٍ أبداً.
أم شريك رضي الله عنها، اسمها: غزية بنت جابر بن حكيم السدوسية، قال الأكثرون: هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، وعن ابن عباس قال: [وقع الإسلام في قلب أم شريك رضي الله عنها فأسلمت وهي بـ مكة، وكانت تتردد وتدخل على نساء قريش سراً].
امرأة لما أسلمت وكان الإسلام لم يزل بعدُ سراً خفياً لم تقم له دولة وصولة، هذه المرأة جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى انتشر أمرها في مكة، فأخذوها، وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك، وفعلنا، لكن سنردك إلى قومك.
قالت: [فحملوني على بعيرٍ ليس تحتي منه شيء، ثم تركوني ثلاثة أيام لا يطعمونني ولا يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلاً أوثقوني في الشمس واستظلوا هم عن الشمس، وحبسوني عن الطعام والشراب، فبينما هم كذلك قد نزلوا منزلاً أوثقوني في الشمس في حر الهاجرة، إذا أنا بشيء أجد برده على صدري، فتناولته فإذا هو دلوٌ من ماء -كرامة لـ أم شريك رضي الله عنها- قالت: فشربتُ منه قليلاً قليلاً، ثم نزع مني فرفع عني ثم عاد وتناولته فشربت منه، ثم رفع ثم عاد فتناولت منه، ثم رفع مراراً ثم شربت منه حتى رويت، ثم أفضت سائر ما في هذا الدلو على جسدي وثيابي، فلما استيقظ القوم إذ هم بأثر الماء حولي، ورأوني حسنة الهيئة، قد بَلَّ الماء جسدي وبدني، فلما استيقظوا ورأوها على هذه الحالة؛ قالوا لها: إنك حللت الوثاق فأخذت سقاءنا، وشربت منه، قالت لهم: لا والله، ولكن قد كان من الأمر كذا وكذا، قالوا: لئن كنتِ صادقةً لدينك خيرٌ من ديننا، فلما ذهبوا إلى أسقيتهم وجدوها كما هي ما نقصت منها قطرة، فأسلموا عند ذلك] وكانت سبباً في إسلامهم.
انظروا أيها الإخوة! انظرن واسمعون يا معشر الأخوات! ويا معاشر الأمهات! امرأة تدعو سراً لما تعذر الأمر أن تدعو جهراً.(197/12)
أم أيمن رضي الله عنها
ومن صور الأمهات والنساء اللائي لم يذكرهن التاريخ: أم أيمن، اسمها: بركة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حاضنته.
ورثها صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وكانت رضي الله عنها عابدةً صالحة.
قال أنس رضي الله عنه: [ذهبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أم أيمن -الله أكبر! إمام الدولة الإسلامية العظمى يخرج من بيته ليزور امرأة اسمها أم أيمن - فلما دخلنا عليها قربت للنبي طعاماً أو شراباً، فإما كان صلى الله عليه وسلم صائماً أو لم يرده، فجعلت تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم وتريد منه أن يأكل فهي حاضنته ومولاته، ولها عليه دلالٌ، وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم لها منزلة، قال أنس: فلما توفي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر لـ عمر: مر بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها -انظروا إلى تتبع سنة النبي، كان يزور فلانة، إذاً الصحابة يزورونها- فلما رأتهما أم أيمن -لما رأت أبا بكر وعمر - بكت؛ فقالا لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟ فقالت: إني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار إلى خيرٍ مما كان فيه، ولكني أبكي لانقطاع خبر السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها].
قال الواقدي: حضرت أم أيمن معركة أحد، وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى وشهدت خيبراً وتوفيت في آخر خلافة عثمان.
أمٌ حاضنةٌ داعيةٌ رقيقةٌ بكاءة، من بكائها يبكي أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وليس الأمر عند هذا، بل شهدت أحداً وشهدت خيبراً.(197/13)
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
قد يخرج الله الحي من الميت، وقد يخرج الله الرياض الغناء من الصحاري الجدباء، عقبة بن أبي معيط الذي جاء بسلى الجزور فوضعه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن كان النبي في تلك اللحظة ساجداً له ابنةٌ اسمها أم كلثوم، قالت: كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي، فأقيم بها ثلاثة أيامٍ جهة التنعيم، ثم أرجع إلى أهلي ولا ينكرون ذلك، ثم إني لما أجمعت الهجرة إلى المدينة -بعد أن دخلت في الإسلام، واستقر الإسلام في قلبها- خرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية على عادتي.
ماذا تريد يا إخوان؟ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، تتوقعون إلى أين تذهب؟ هل تزور أحداً تتفكه، تضيع الوقت، تقضي الساعات؟ لا.
تريد أن تهاجر من مكة إلى المدينة، امرأة بنت أشقى القوم تهاجر من مكة إلى المدينة، وهذه دعوة لكل فتاةٍ في أسرةٍ كافرة، أو في أسرةٍ لا تدين بالإسلام الصحيح، أن تهجر قومها وأهلها وأن تفر بنفسها ودينها إلى دين الله، وإلى الإسلام وإلى مرضات الله جل وعلا.
قالت: ثم لما خرجت وأنا أريد اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ برجلٍ من خزاعة قال: أين تريدين؟ فسألته فقلت: مَنْ أنتَ؟ قال: أنا من خزاعة، قالت: فاطمأننت إليه؛ لأني أعلم أن لخزاعة عهدٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي بين النبي وبينهم عهدٌ وميثاق، فليسوا بأعداء له- قالت: فقلت: أنا من قريش وأريد اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار بها وخدمها وأحسن رعايتها، وكان يجعل البعير يبرك لها ويتنحى عنها حتى تركب، ثم إذا استوت وتسترت عليه أخذ بها حتى وصلت المدينة، ثم إنها لما بلغت المدينة، دخلت على أم سلمة، فسألتها أم سلمة رضي الله عنها، قالت: فسألتني أم سلمة، فقلت: أنا فلانة هاجرت إلى الله ورسوله، فقالت أم سلمة: هاجرت إلى الله ورسوله؟!! أهلاً بكِ يا أخية، وأثنت عليها والتزمتها وقبلتها، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل وسأل قالت له أم سلمة: هذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فتكلمت أم كلثوم قالت: إني خائفة أن يردني رسول الله كما رد أبا جندل وأبا بصير؛ لأن بين النبي عهدٌ وميثاق أن من خرج من مكة إلى المدينة أن يرده النبي إلى أهل مكة، فرحب بها النبي صلى الله عليه وسلم، وللقصة بقية شاهدها: امرأة تهاجر فراراً بدينها لوجه الله ولحاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(197/14)
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها
وأما أسماء بنت أبي بكر وما أدراك من أسماء؟ إنها ذات النطاقين، كانت إذا مرضت أعتقت كل مملوكٍ لها، ما أكثر من يمرض من بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا، فإذا مرضت الواحدة منهن أهديت لها المجلات، وهذا شيٌ أراه بعيني وترونه.
تجد بعض الفتيات إذا ما زارت قريبة لها في المستشفى أخذت لها كل المجلات الخبيثة الخليعة التي لا تليق ثم جاءت بها وأهدتها وقدمتها لتلك المريضة، هل يقدم للمريض صورٌ متبرجة؟ هل يقدم للمريض غثاء؟ هل يقدم للمريض كلامٌ يشغل عن الله وعن ذكر الله جل وعلا.
الآن الورود عند المستشفيات تباع الوردة بمائة ريال ومائة وخمسين ريال، والله لو أن الواحدة من أخواتنا إذا زارت صديقةً أو قريبة؛ اشترت المسجل الصغير ومع المسجل عدداً من الأشرطة المناسبة لكان هذا خير لها، فإذا قدمت هذه الهدية لهذه المريضة، جعلت السماعتين على أذنيها وأخذت تسمع كلام الله، تسمع الشفاء {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82] تسمع الهدى والوحي والبصيرة التي تعينها وتعين بدنها على الصحة والعافية.
كانت أسماء إذا مرضت تعتق كل مماليكها وتتصدق بمالٍ كثيرٍ جداً.(197/15)
سمية بنت الخياط رضي الله عنها
وسمية بنت الخياط، ما شأن هذه المرأة؟ إنها أول شهيدةٌ في الإسلام، لما أسلمت جاء أبو جهل يصفعها ويضربها ويركلها ويجرها ويسحبها يريدها أن تترك دين محمد صلى الله عليه وسلم، فكان شأنها أنها كانت ثابتةٌ ثبوت الجبال، صامدةًَ صمود الرواسي، على دين نبينا صلى الله عليه وسلم وملة الإسلام، زوجها يعذب، وعمار يعذب، وأمه سمية تعذب، والنبي يقول: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة).
فلما بلغ الغيظ من أبي جهل مبلغه؛ خرج ذات يوم فوجدها تعذب وقد وكل بها عبيداً له يعذبونها حتى تترك الإسلام، فاغتاظ أبو جهل منها، ورأى عبيده قد مدوها على حر الهاجرة، فانتزع الحربة من يد أحد عبيده ثم رمى بالحربة في فرجها فخرت صريعة شهيدةً في سبيل الله، وكانت أول شهيدةٍ في الإسلام.
أين فتاة الإسلام التي تصر على هذا الدين، وتلتزم وتستقيم على هذا الدين، وتدعو إليه في مدرستها وبين جاراتها وصويحباتها وتمضي وتستمر على هذا؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! قممٌ سامقةٌ وجبال رائدة في الدعوة والتقوى، وشريحةٌ من بناتنا يعالجنَ المعاكسة، والهوى، والحب، والمجلات، والخلائع، وأمورٌ الله أعلم بها، أسأل الله أن يستر على الجميع بستره.(197/16)
فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها
وهذه فاطمة أخت عمر بن الخطاب: دخل عمر بن الخطاب على أخته وزوجها وقد أسلما، فلما طرق الباب وفتحت، ودخل عليها، صفعها صفعةً، وكان معه شيءٌ شج به وجهها، فسال الدم على وجهها -وكان ذلك قبل إسلام العملاق عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام- قالت فاطمة: يا بن الخطاب ما كنتَ صانعاً فاصنعه، فإني قد أسلمت! إن المسألة قد انتهت ولا يمكن أن تعاد القضية للمداولة أو تطرح للحوار، أو ترد للمساومة، قد أسلمت يعني قد أسلمت.(197/17)
أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها
وأم عمارة نسيبة بنت كعب: صحابيةٌ جليلة شهدت أحداً والحديبية وخيبر وحنين وعمرة القضاء، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدت اليمامة في غزو مسيلمة الكذاب، وشاركت في حرب الردة، ورجعت وبها عشر جراحاتٍ من طعنٍ وضرب، قال عمر بن الخطاب: [ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا رأيت أم عمارة تقاتل وقد جرحت اثنتي عشر جرحاً].
ولما نادى منادي رسول الله في أحد: أن الحقوا بالكفار في حمراء الأسد ما استطاعت اللحاق من كثرة نزيف الدم من بدنها، مجاهدة وفينا من يعرض الجهاد على نفسه لو حق الجهاد أن يذهب أو لا يذهب، امرأة قدوة أسوة.
نحن لا نريد من بناتنا أن يذهبن إلى أفغانستان أو كشمير أو بورما وسيلان لكي ينقذن المسلمات من الشيوعيين ونمور التاميل والهندوس وغيرهم! لكن نريد استقامة وتوبة ودعوة، نريد منهن الحرص على تنظيف المجتمع، نريد منهن عناية وبداية بالنفس ثم بالأولاد والزوج، وكم من زوجةٍ إذا صلحت كان بصلاحها صلاح زوجها.
إن فتاةً لما رأت الانحراف في زوجها، أصبحت تعتني بأولادها بطريقةً أصبح الأطفال ينكرون على أبيهم ما يرونه؛ حتى اضطروه أن يخرج الفيديو والأفلام من البيت بحسن تربيتها! فالمرأة نريد منها أن تقوم بهذا الدور، فهي لها دورٌ ينبغي أن تقوم به، وحتى الآن لم نر آثاراً واضحة أو على المستوى المطلوب لفتاةٍ الإسلام، وإن فتاة الإسلام، والمرأة المسلمة، والأم المسلمة، والزوجة المسلمة جديرةٌ وقادرة على أن تقوم بهذا الدور، ولكن الذي حيرها وثبطها هو إرجاف العلمانيين واستهزاء المستهزئين وسخرية الساخرين وتقليد أصحاب الموضات والقردة والببغاوات، إننا ننتظر منها عملاً يكون سبباً في رحمة الله؛ لكي تكون جليسةً لـ أم عمارة وعائشة ورملة وسهلة وأم حبيبة وغيرها.(197/18)
أم حبيب سهلة بنت ملحان رضي الله عنها
أم سليم سهلة بنت ملحان الرميصاء عندما خطبها أبو طلحة قالت: [أما إني فيك لراغبة، ومثلك لا يرد ولكنك كافر!!].
الله أكبر! الله أكبر! انظروا كيف أصبحت المرأة المسلمة، والزوجة المسلمة، والأم المسلمة تعرض دينها ودعوتها بقوةٍ وقدرة، تقلب عقيدة الرجل، الذين يقولون: إن المرأة النصف المعطل، المرأة التي تسلط عليها الرجل، وغسل أفكارها ودماغها، وأصبحت تابعةً له، وأصبحت رقيقةً يملكها.
أم سليم تغسل فكر أبي طلحة وتغير معتقده! بأسلوبٍ جميل وكلماتٍ معدودة: [أما إن مثلك لا يرد! وإني فيك لراغبة، ولكنك كافر وأنا مسلمة، فإن تسلم؛ فإسلامك مهري ولا أريد منك مهراً].
انظروا يا عباد الله: المرأة التي كذبت دعاوى الجاهلية والعلمانيين وأصحاب حركة التغريب والإفساد في المجتمع! الذين يقولون: إنه لا دور لها، والرجل يؤثر عليها، والرجل والرجل نعم يؤثر عليها بطاعة الله، ولكن هذه قلبت عقائد وأفكار وموازين رجل من الجاهلية إلى الإسلام، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الشرك إلى التوحيد.
خرجت أم سليم يوم حنين تداوي الجرحى ومعها خنجر، وكان زوجها أبو طلحة يبتسم لشأنها ويقول: [يا رسول الله! أما ترى أم سليم قد ربطت في بطنها خنجراً] والآن بعض شبابنا لو رأى خنجراً يخاف، ولو سمع طلقة مسدس سقط على الأرض.
فـ أم سليم تخرج وفي بطنها خنجر، فألتفت إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أم سليم! ما تفعلين بهذا الخنجر فقالت: إن دنا كافر يا رسول الله أبقر به بطنه) امرأة تعلم الشجاعة! امرأة قدوة لنساء المسلمين! ولـ أم سليمِ قصةٌ عجيبة: كان لزوجها أبو طلحة بعد أن تزوجها وأسلم ولدٌ مريض عليل، فخرج أبو طلحة ثم اشتد المرض بولدها، فمات وتوفي رحمه الله، فقامت وغسلت ولدها وطيبته وكفنته ووضعته في طرف البيت في حجرةٍ له، فلما جاء زوجها؛ وجدها قد أعدت نفسها وتهيأت له، وأعدت طعامه، فلما أصاب الطعام وبات ونام معها سألها عن ولده، قال: ما شأن ولدي؟ قالت: هو بأهدئ حال وأسكن ما يكون، ثم إنه لما أصبح؛ أخبرته فكان أن وجد أبو طلحة في نفسه عليها شيئاً، فذهب وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى عليها خيراً وقال: (أعرستم البارحة؟ قال: نعم.
فدعا لهما وقال: اللهم بارك لهما فيه) فرزقا أولاداً فيهم بركة وخير.(197/19)
أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها
أما أم حرام بنت ملحان أخت سهلة تقول: (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها فاستيقظ وهو يضحك، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: عرض عليّ ناسٌ من أمتي يركبون ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة من كرامة الله لهم، قالت أم حرام رضي الله عنها: ادع الله أن يجعلني منهم -يركبون على البحر في غزو ومع ذلك تدعو الله أن تكون معهم- فقال: اللهم اجعلها منهم) ثم نام أيضاً فاستيقظ فضحكَ فسألته فقال كما في الأولى: (أناسٌ من أمتي يركبون على ظهر البحر كالملوك على الأسرة فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله! فقال: أنت من الأولين) فخرجت أم حرام رضي الله عنها وغزت مع عبادة بن الصامت وكان زوجها، فوقصتها بغلة لها شهباء فوقعت وماتت وكانت بإذن الله شهيدة {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] فما بالك بمن خرج مجاهداً.(197/20)
صحابية فقدت أبوها وأخوها وزوجها وابنها
وهذه قصة لامرأةٍ من نساء المؤمنين اللائي لم يذكرهن التاريخ بسوءٍ ولا فاحشةٍ ولا منكر، ولا خزيٍ ولا عار، قال أنس رضي الله عنه: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصةً عظيمة، وقالوا: قتل محمد! حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة، فخرجت امرأةٌ من الأنصار ولما خرجت تنظر ما الخبر، إذ بأهل المعركة يقابلونها بأخيها وأبيها وزوجها وابنها! كلهم قتلى في المعركة! قال: لا أدري بأيهم استقبلت أولاً، فلما مرت على آخرهم، من هذا؟ قالوا: هذا أخوك وأبوك وزوجك وابنك.
هل لطمت خداً؟ هل شقت جيباً؟ هل ناحت بدعوى الجاهلية؟ قالت: وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! قالوا: أمامك، فذهبت إلى الرسول فأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: [بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لا أبالي إذا سلمت من عطب!] إذا سلمت أنت يا رسول الله؛ فلا أبالي بمن يهلك ومن يعطب، الله أكبر! فيا أحبابنا! هذه صور أمهاتنا نسائنا، ولولا أن يطول بنا المقام لذكرنا المزيد وهو موجودٌ ميسور لا جهد لي فيه لجمعه، قد جمعه الأسلاف والآباء والأجداد في الكتب، ولكني أريد أن أنتقل بإخواني وأخواتي نقلةً كبيرة إلى واقعنا المعاصر(197/21)
من أخبار الصالحات في عصرنا
هل انتهى الصلاح؟ هل انتهى الخير؟ لا والله، لا زال الخير في هذه الأمة، واسمعوا طرفاً من أخبار الصالحات في مجتمعنا.
امرأة موجودة يقول لها زوجها: يا فلانة! لماذا لا توترين في أول الليل؟ قالت: لا أترك وترَ آخر الليل.
قال: والله لا أذكر أن وترها فاتها آخر الليل متهجدةً عابدة.
وفي حوطة بني تميم امرأةٌ كان زوجها عقيماً، فصبرت عليه، وما تركته وتزوجت غيره، كفيف البصر، كانت تقوم معه في الليل يتهجدان، ولولا عجائز وشيوخ ركع، وبهائم رتع، وأطفالٌ رضع؛ لصب علينا البلاء صباً، ولكن يرحمنا الله بدعائهم.
تقوم الليل مع زوجها الكفيف العقيم إلى آخر الليل، وقُبيل أذان الفجر تأخذ بيده وتذهب به إلى المسجد حتى تجعل يده في باب المسجد وتعود إلى بيتها.
أيها الإخوة! ولا يزال الخير في هذه الأمة، والأمثال الطيبة والصور الرائعة تتجدد في الأمهات وفي الزوجات الصالحات، وما سقنا هذا الحديث إلا ونحن نريد المزيد من التميز هذا المجتمع بصلاح المرأة فيه، بصلاح الزوجة، بصلاح الأم والبنت والفتاة الصغيرة والكبيرة.(197/22)
المرأة الأفغانية
المرأة الأفغانية التي خاض شعبها جهاداً إسلامياً، مع ذلك ما تبرجت وما سفرت وما خرجت وما باعت عرضها، وكل من ذهب إلى أفغانستان، وكل من تتبع أخبار الجهاد يجد أن من أعجب الغرائب والعجائب في تاريخ الجهاد على صلابة المراس، والوطيس الذي حمي فيه وشدة بأس الطرفين فيه، أن المرأة لم تخرج ولم تتبرج ولم تبع عرضها لأجل الحاجة أبداً، بل كان الأفغان أشد الناس غيرةً على نسائهم، وكانت الأفغانية أشد غيرة.
حدثني أحد الإخوة قال: زرت أحد القادة فكان في منطقة مليئة بالشيوعيين، فدخلت فأدخلني في الستر، ثم إذ بي كأني أرى خيمةً تتحرك، فقلت: من؟ قال: هذه ابنتي، قلت: كيف تجعل ابنتك تخرج؟ قال: لا تخشى شيئاً، الرشاش تحت عباءتها.
المرأة الأفغانية صورة من النساء اللائي لم يذكرهن التاريخ، لابد أن يسطرهن التاريخ.
حينما نقول: لم يذكرهن التاريخ نساءٌ لم يذكرن بفاحشة، ونساءٌ قد عرفن وسجلن وسطرن الخير والمآثر والبطولات والتضحيات ولم يؤرخن حتى الآن، أو أرخ شيءٌ قليلٌ من مواقفهنَ وسجايهن.
أخبرني أحد الإخوة عن قصة مجاهد جاء كان كالاً تعباً بعد سنواتٍ طويلة من الجهاد، وقد تعودت الأفغانية أن زوجها يذهب للجهاد خمسة أشهر وستة أشهر ثم يعود، يجلس عندهم عشرين يوماً، يتفقد أحوال أبنائه ثم يعود إلى الجبهات من جديد، قالت: فكأنها لاحظت أن الرجل قد مضى عليه خمسة وعشرون يوماً ما خرج، قالت: ما بالك لا تذهب إلى الجبهة من جديد؟ قال: الجهاد طال والمسألة طالت، قالت: لا حرج، أعطني ثيابك ورشاشك، وأنت البس ثيابي واجلس أنت عند الأطفال، وأنا أذهب أجاهد.
صورة من صور التضحية والفداء، ليست المرأة التي إذا خرج زوجها مع إخوانٍ له في الله في رحلة أو دعوة، أو عمرة تصيح وتئن وتنوح: تركتني لوحدي، سبحان الله العظيم! نعم.
كثير من الشباب الآن يشكو مشكلات بعض زوجاتهم، تريدُ أن يقابلها صباح مساء، ألا تكونين يا أختنا عوناً له على طاعة الله؟! ألا تكونين له عوناً في الدعوة إلى الله؟! ألا تكونين شريكة الأجر معه في أن يسّرت له من وقتك ونفسك وبيتك ما يجعله مفكراً دؤوباً في العمل والتخطيط والتنفيذ للدعوة إلى الله جل وعلا.(197/23)
الحياء المطلوب عند المرأة
خذوا صورةً جديدةً من صور النساء: امرأةٌ تبكي بعد أن أجريت لها عمليةٌ في عينيها، قيل لها: احمدي الله على العافية ما الذي يبكيك يا أم فلان! قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، بعد هذه السنين الطويلة يكشف وجهي رجل، الله أكبر الحياء، العفاف، النقاء، الطهارة، السمو الذي نفتقده، للأسف بعض البنات، والأمهات، لو كان في قدمها جرح كشفت وجهها! وما علاقة الرجل بالوجه، لكن ربما دخلت عليه متساهلةً أو مضطرة، والتي تعرف أنها مضطرة لن تكشف إلا ما دعت الحاجة لكشفه، لكن مصيبتنا أن يقال: هنا طبيبة وهنا طبيب فتذهب إلى الطبيب مباشرةً، ولا تتردد بأن تكشف وجهها، وربما كشفت ما لا حاجة إلى كشفه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أين العفاف؟ أين الحياء؟ أين الطهر؟ أين السمو والنقاء؟ نحن بحاجةٍ إلى هذا، امرأة تبكي بعد أن أفاقت من بنج العملية: ماذا فيك يا أم فلان؟ قالت: الله المستعان، بعد هذا العمر يكشف وجهي رجل؟!! الله المستعان.(197/24)
قصة لعجوز مقعدة عابدة
وأذكرُ لكم قصةً لعجوز أعرفها جيداً لأنها جدتي، أسأل الله أن يتغمدها برحمته؛ تعلمتُ منها شيئاً كثيراً، وقد علمتني شيئاً من الفقه درسته وما فقهته وعلمتني إياه لما تخرجت من المعهد العالي للقضاء، جئت إليها وهي في سجادتها، قلت: يا أماه ادعُ الله لي ألا أكون قاضياً أعرف من نفسي أني لا أصلح لهذا، وأما القضاء فهو منصبٌ خيرٌ طيبٌ مبارك، هنيئاً لإخواننا الذين صبروا وصابروا وثبتوا ورابطوا من أجل نفع الإسلام والمسلمين فيه، فلما قلتُ لها: ادعٌ الله لي ألا أكون كذلك، قالت: يا مجنون! -بهذه العبارة- دراستك طيلة هذه السنين ما نفعتك، استغربت! وقلت: وماذا أنتظر أن تقول؟ قالت: لا أدعو لك بما تريد أسأل الله أن يقسم لك الخيرة المباركة من أمر الدين والدنيا.
سبحان الله العلي العظيم! أريد شيئاً، ولكن خيرة الله هي خيرٌ لي مما أريد، فكانت دعوةً مستجابة، ولله الحمد والمنة.
كانت تلومنا نور الله ضريحها، وقد أقعدت أربع عشرة سنة، تزحف آخر الليل على يديها وركبتيها إلى الحمام وربما غسلت بالماء البارد في الليلة الشاتية لتصلي آخر الليل، وتصلي وتوقظ جدي الذي تجاوز المائة وتوفي من سنواتٍ قليلة، فيتهجدان، ثم تنادي وتصيح: يا فلان يا فلانة وربما تصفق بيديها، فإذا نزلنا وسلمنا عليها تقول: كل الليل تنامون؟ هل أنتم مرضى؟ ثم تردد أبياتاً علينا من الشعر العامي تقول:
يا نايم الليل كله ترقد ولا فيك عله
لزماً تزور المقابر وترقد الليل والنهار كله
نعم.
تنكر علينا أن ننام الليل، تقول: لماذا هذا النوم كله؟ هل أنت مريض؟ هل أنت عليل؟ ستزور المقبرة وتنام ليلاً ونهاراً طويلاً، أسأل الله أن يجمعنا بها وإياكم في الجنة.
لما كنتُ صغيراً أنا وأخي تعطينا المال لكي نشتري بها الكتب، إذا قلنا: نريد مالاً، لا تعطي، لكن نريد نشتري كتباً تخرج المال وتعطينا، وزيادةً على ذلك تقول بالعبارة العامية: "جعل العدو عينك، من يستطيع أن ينفع الناس ويبخل بذلك".
أيها الإخوة! نحن بحاجة أن تتعلم الأمهات اللائي بلغنَ الأربعين والخمسين الدروس والمثل والقيم، وحسن التربية وحسن الأداء والتوجيه، لكي تصنع الرجال، الرجال لا يصنعون في الجامعات والمدارس والمعاهد:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ
أيها الإخوة! أحد الإخوة يقول عن خالةٍ له: كان كفنها عندها تحمله حيثما ذهبت ورحلت وسافرت، ومعه حنوطها، وكل ما يلزم لتكفينها وتغسيلها قال: منذُ عشرين سنة، وهي تدور بكفنها، بأي مكانٍ ذهبت تذهب به استعداداً للموت، ولا يفارق الموت بالها (أكثروا من ذكر هادم اللذات).(197/25)
قصة امرأة متصدقة
إن المجتمع بفضل الله جل وعلا ما خلي من الصالحات، حتى من الفتيات، وأختمُ بهذا قبل أن أفرع من الكبيرات.
أحد الإخوة في مدينة عفيف، رجلٌ فاضل؛ لما ماتت أمه فجع أهل عفيف بها، فعجب من شأنها وما كان يدري أن لأمه هذه المنزلة، فلما سأل عنها؛ عرف أنها كانت إذا هجع الناس في ليلٍ أو هاجرة تخرج إلى بيوت الضعفاء والمساكين، تأخذ من طعام وكساء بيتها وتقسم على الناس وتعطيهم وتواسي مصائبهم، وتتلمس حاجاتهم.(197/26)
فتاة تدعو إلى الله
أما فتياتنا الملتزمات الصالحات نسأل الله أن يثبتهن، فأذكر قصة واحدة لفتاة توفيت منذُ مدة، أسأل الله أن يبدلها بزوجٍ في الجنة، وأن ينور ضريحها وأن يغفر لها، يقول لي أخوها: ما كانت تحضر زواجاً فيه منكر، وإذا حضرت زواجاً لابد أن تقسم الأشرطة والكتيبات وتوزع على جميع البنات، وأما المناسبات والولائم، فكانت تملأ بذكر الله جل وعلا، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، خطبها شابٌ من أهل منطقة القوعية أو قرب تلك الجهة، وحصل حادثٌ لها ولأبيها فماتت في الطريق مع والدها، ومات معهم أيضاً فتاةٌ أو امرأةٌ أخرى، وكانت قد رأت في المنام أنها قد فصلت قميصاً فلم تلبسه، فعبرت رؤياها قرب وفاتها ولم تخبر بذلك، وكتب الله ما كتب أن انتقلت بمنِّ الله ورحمته إلى جوار ربها، نسأل الله أن يغفر لها جوار رحمة ربها جل وعلا.(197/27)
صلاح المرأة صلاح للمجتمع
أيها الإخوة! ينبغي أن نعرف أننا بحاجةٍ إلى إعادة هذه الصور، وينبغي أن نذكِّر المرأة أنها ستموت، وبعد موتها لن تذكر بملابسها، ولن تذكر بحليها ولا بلهوها، بل ستذكرُ بصلاحها، وثمرة هذا الصلاح أن يحفظ الله أولادها {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
يا فتاة! يا أماً! يا زوجةً! يا جدةً! تخشين على الأطفال والذرية.
أصلحي حالك مع الله يتكفل الله بأولادك، اتقي الله حق التقوى؛ فإن الله يحفظهم من بعدك، وثمرة هذا أن يتأدب الأبناء.
تعلمنا الأدب من البيوت أكثر من المدارس، تعلمنا آداباً كثيرة في الصباح والمساء والدخول والخروج والإنصات وغير ذلك من العجائز والأمهات، نسأل الله أن يجزيهم عنا بالجنان ورفعة الدرجات، وتكفير الذنوب والسيئات، فهل الأم والزوجة هذه الأيام قادرة وجديرة بأن تؤدي هذا الدور؟ ثم إن المرأة بصلاحها يكون صلاح صويحباتها، وبخلاف ذلك فإنها تعرض نفسها وبيتها وذريتها لشر عاقبة.
أسأل الله أن يصلح بناتنا وزوجاتنا وأمهاتنا وأن يجمع الجميع على طاعته بدار كرامته، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(197/28)
الأسئلة(197/29)
نصيحة لمتتبعي التلفاز
السؤال
حول مشاهدة التلفاز وقضاء كثير من النساء الأوقات في البيوت في مشاهدة المسلسلات والتمثيليات، سواء المسموعة أو المشاهدة المرئية، فما هي النصيحة لأهل البيوت الذين أدخلوا آلات اللهو في بيوتهم وصارت صادةً لهم عن ذكر الله عز وجل؟
الجواب
المصيبة أيها الإخوة أن كثيراً من البيوت أصبحت الشاشة هي الجلسة الرئيسية وأطول الأوقات استعداداً للجلوس، أقول: استعداداً للجلوس، وهذا والله شرٌ مستطير، نعم قد ترد بعض البرامج النافعة، لكن من يتحكم بدقة، ففي هذا نوع منفعة أو مصلحة، لكن من يهمل الأمر على مصراعيه فذلك والله يضر بنفسه وأهل بيته، وحسبك يا أخي، وحسبك يا أختي أن تعالجي مشاكل نفسك وبيتك ومجتمعك، فضلاً عن أن نستورد مشاكل.
بعض الأمهات قد حارت في مشكلة ابنتها، فتاة مراهقة لها تصرفات غريبة، وأشياء مريبة، وسهر على التلفون، ومع من؟ صديقتي وقريبتي، نعم.
قد تكون تكلم صديقة لكن ليس كل من تكلمت وسهرت على هذا كلمت صديقةً وقريبة، الذين يرمون بهذا الجهاز في كبد الدار، ويجعلونه يوجه الساعات الطوال، يوجه الأطفال بأفلام الكرتون المفسدة للعقائد، وأقولها بملء فمي؛ لأني جلست وتابعت عدداً من الحلقات، ورأيت كيف تفسد العقائد من خلال أفلام الكرتون.
وربما المرأة التي طالما اشتاقت إلى العفاف والحياء وبيت الزوجية جلست مع إخوانها وأبيها تنظر إلى المصارعة الحرة وإذا بالرجال عراة، إلا ما يستر العورة، هذا والله مصيبة عظيمة، ومن الديوثية أن تتقلب عيون الرجال والنساء على هذا الأمر ولا يغار الرجل على زوجته وأهله، والله إنها مصيبة عظيمة جداً، وأعجب أيضاً من امرأةٍ تسمح لزوجها أن يقلب عينيه في ذوات المساحيق والألوان والممثلات والغاديات والرائحات الكاسيات العاريات.
المعروف أن الحب الحقيقي بين الزوجين يدركه غيرة، غيرةً من الرجل على زوجته، وغيرة الزوجة على زوجها، فأين هذا؟ هذا شرٌ مستطير، من لا يحسن التحكم فيه فعليه أن يخرجه، وما أقل وأندر من يتحكم.(197/30)
حكم استقدام الخادمات وخروج النساء للأسواق
السؤال
كثر استقدام الخادمات، وتفرغ النساء لدخول الأسواق والغيبة والنميمة، فما حكم ذلك؟
الجواب
الخادمات مصيبةٌ عمت بها البلوى ولكن نقول: من استطاع أن يسلم فهو في خير؛ لأن السلامة لا يعدلها شيء، أما من وجد أنه في حاجة أو مصيبة أو شيءٌ من ذلك، وربما كان وجود الخادمة أخف نقول: بضوابطها وشروطها ولعل أقل ما في ذلك، أن تكون كبيرةً غير جميلة، لا يطمع فيها الشباب، ونسأل الله أن يعفو، كما يقول أحد المشايخ جزاه الله خيراً، قال: في بيوتنا ذنبٌ نذنبه كل يومٍ ولا نستغفر الله منه، قلت: ما هو؟ قال: وجود الخادمات.
والله صدقت يا أخي! فهي حقيقة ابتلينا بها نسأل الله أن يعيننا على التخلص منها.(197/31)
حكم تعدد الزوجات لمن كان قليل المال
السؤال
هل تنصح بالتعدد لمن كان قليل المال، وهل صحيح أن التعدد باب من أبواب الرزق؟
الجواب
الله جل وعلا قال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32].
عجبت لمن يبتغي الرزق ولا يطلبه بالنكاح، قال الإمام أحمد: أرى أن يتزوج ويستدين، أو أن يستدين ويتزوج، الحاصل يا أخي نقول: من كان كما في الحديث: (من استطاع منكم الباءة) المقدرة المالية والبدنية فلا حرج أن يتزوج، أما ما يفعله كثير من كبار السن، تجد الرجل كبيراً جداً جداً، ويتزوج فتاة ربما يغري أهلها بالمال، فيفتح عليها باب الفتنة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فذلك أمرٌ نحذر منه، وشره وخطره كبير ونقول للكبار:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب والدهر فيه تغيرٌ وتقلب
نشرت ذوائبها التي تزهو بها سوداً ورأسك كالثغامةِ أشيبُ
رجل كبير، تفرغ للعبادة يا أخي، صل المغرب والعشاء في المسجد، قم قبل الفجر بساعة {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} [المزمل:7] تهجد، اشتغل في العبادة، قد مضى ما مضى، ولا حاجة لأن يتصابى الإنسان من جديد.(197/32)
واجب المرأة الملتزمة تجاه صديقاتها المنحرفات
السؤال
ما هو واجب المرأة الملتزمة تجاه صديقاتها اللاتي ابتعدن عن نهج الله عز وجل؟
الجواب
دعوتهن بالحسنى، هذا هو الواجب من خلال المناسبات والزيارات واللقاءات وتوزيع الشريط والكتيب.(197/33)
كثرة محلات الخياطة
السؤال
ما رأيك في كثرة محلات الخياطة، حتى أصبحت الشوارع وأكثر البقالات تتحول إلى محلات للخياطة النسائية، ومع ذلك توجد تماثيل عند باب المحل، مما يدعو إلى وقوف الشباب أمام المحل يتمتع بالمناظر والنظر إلى النساء؟
الجواب
هذه والله فيها فتنة، وقد شكى وذكر لي بعض الشباب أنه حينما يرى تمثالاً قد فصل على هيأة بدن فتاةٍ وقد أصبغ بلباسٍ جميلٍ مطرزٍ منمق، يقف وقفةً يتأمل وما يبقى إلا أن يتخيل صورة الرأس أما صورة الجسم بالكامل فموجود.
نقول: لعل هذا أن يزال بإذن الله جل وعلا، والمحافظة على قلوب الشباب مطلوبة، ما هي النتيجة؟ يفتن هذا الشاب، فيفرغ شهوته إما في لواطٍ أو فسادٍ أو زنا أو أمرٍ لا يرضي الله جل وعلا، أو ابتغاء شيءٍ وراء ما أبيح وشرع له، فأما قضية ملابس الخياطة فلم يقل أحد: إن ملابس الخياطة حرام، لكن لو بدلاً منها تنتشر عندنا الكتب والمكتبات والتسجيلات، انتشار الأمور النافعة، دليل وعيٍ وتقدم حضاري للمجتمع، أما انتشار العطورات، وملابس الخياطة ليس بحرام، لكن ينبغي أن لا يزيد عن حده.(197/34)
حكم معاملة الزوج لزوجته معاملة سيئة
السؤال
حول معاملة الأزواج لزوجاتهن المعاملة التي لا ترضي الله عز وجل، ما رأيك في ذلك؟
الجواب
نقول لكل من أساء معاملة أهله: رسولنا خير الأولين والآخرين، كان ألين الناس لأهله، ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) (خياركم خياركم لنسائهم) (استوصوا بالنساء خيراً) النبي وصى بذلك، قال: (اتقوا الله بالنساء؛ فإنهن عوان) أي: أسيراتٌ عندكم، والمرأة والله مسكينة حينما تقع عند زوجٍ لئيم؛ ومن الرجال من لؤمه يجعله يتفنن في إيذاء المرأة، يا أخي الجبل يتحمل أشياء الكثيرة، وقد تخطئ المرأة خطأً صريحاً واضحاً في تعاملها معك، لكن أين الرجولة؟ أين القوامة؟ أين الحلم؟ أين العلم؟ أين سعة الصدر؟ أين القوة؟ أين سمو الأخلاق؟ أين قوة الرجل؟ هو رجل لكن في حقيقته مرجوج، عند أتفه شيء تجده يلاطخ المرأة ويرد عليها بمثلها، واسكتي وإلا "طخ" وكأنها منصة إطلاق الصواريخ التي في يد ألت سين، وحينما تجد رجلاً أول ما يهدد بالطلاق، فاعرف أنه سخيف، إلا من رحم الله، أو تاب إلى الله من ذلك.
يا أخي الكريم! إن كانت هذه المرأة زوجتك بمثابة من تريد أن تعيش معها، أو بمنزلة من ستعيش معها، ولا تفكر في فراقها، فهي كواحد من أولادك.
إذا أغضبك أحد أولادك هل تقول له: اذهب أنت لست من عيالي؟ لا يمكن، وهذه المرأة هي الأساس، يا أخي عش معها، تحمل منها، تتحمل منك، تحمل عنك، تحمل عنها، وإن من النساء من ضربن أروع الأمثلة، وإن من الرجال من قابل ذلك بأسوأ الأمور.
امرأة زوجها أصيب بحادث، وأصبح معوقاً تغسله وتزيل عنه الأذى، تطيبه، تتحمل منه، ويقابلها بالسباب والشتيمة، وفعلاً بعض الرجال لئيم، ويا أخي الحبيب اذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق).
بعض الناس حينما تقابله يوزع الابتسامات، وإذا جاء عياله عنده لا يجدون منه ابتسامة واحدة.
يا أخي! هب عيالك ابتسامة، نكتة، تجده طول الطريق تنكيت ويجعل إخوانه يموتون من الضحك، وإذا جاء إلى البيت عاد إليه الوقار أشد ما كان، يا أخي! أعطي زوجتك نكتة، أعطي عيالك ضحكة، خليهم ينبسطون معك، امزح، هذا أمرٌ مطلوب، كما قال عمر: [أحمظوا مع النساء في بيوتكم] يقال: أحمظوا للإبل إذا أطالت رعي المرعى فتغيرت بطونها، لكي ترعى الحمض فيتغير شأنها، تنشط من جديد، فالإنسان يقطع هذا الملل والروتينية والرتابة العائلية بشيءٍ من ذلك.(197/35)
حكم حضور مناظرات علمانية
السؤال
هل تنصح بحضور المحاضرات التي ستعقد بـ الجنادرية علماً أن كلها لعلمانيين أو قوميين، أرجو التنبيه على ذلك؟
الجواب
نحن لا نقول: فلان علماني أو هؤلاء علمانيين، لكن نقول: من بدر منه ما يدل على علمانيته فلا كرامة لعرضه، ولكن أن نقول: هؤلاء علمانيين قف عند هذا وتوقف، من بدر منه ما يدل على ذلك دلالةً واضحة، فلا كرامة لعرضهم، الشيء الأخير، ينبغي لمن يحضر أن يفهم ويستفيد، بعض الناس يحضر فقط بدون فائدة، نقول: يا أخي إذا كنت تستفيد فاذهب، أما إذا كنت لا تستفيد احضر محاضرة، درس قرآن تجويد، سيرة وهلم جرا.
يا أخي الكريم! نعم التصفيق لا يليق وغير مقبول لأنه من صفات النساء، لكن لا نقول: بمجرد أي غلطة، أو أي مناقشة الله أكبر الله أكبر، لا يا أخي يوجد في القاعة أناس من الذين فضحوا الحداثيين وعرفوهم، ودرسوا فكر العلمانيين وتتبعوهم ويشمون روائح اتجاهاتهم، فهؤلاء قادرين على النقاش.
وأنصح وأؤكد أن من كان متسماً بالوعي والفهم وإدراك الأبعاد وحقائق الأمور ينبغي أن يحضر، وأنصح أن يحضر من أجل إذا وجد استهتاراً أو تلميحاً فيرد.
حينما تناقش قضية المسرح، يتبجح أحدهم يقول: إن المسرح السعودي لا يزال متخلفاً لفقدانه العنصر المؤثر المشارك ألا وهو المرأة، تستجعد له وتشرقه، تناقشه بعقل، والنقاش وأدب الحوار والإقناع وإلقام الخصم الحجة أمر مطلوب.
أقول: على إخواننا أساتذة الجامعات، أو خريجي الجامعات أو الذين درسوا وفهموا هذا الاتجاه فيما يتعلق بالأدب والحداثة، والاتجاه العلماني والتجديد، وكل من يتقن هذه الأمور ويعرفها ويستوعب أبعادها، عليه أن يحضر ويسجل ملاحظاته، لأنه سيفتح لك باب المداخلة بعد المحاضرة، فكن جريئاً وسجل العبارة: قلت في محاضرتك كذا وكذا وكذا، هي واحدة من اثنتين؛ إما أن تعترض على وحي الله وهدي رسوله، فمن أنت؟ ولا كرامة له، وإما أن تعتذر الآن، وإما أن تبين مقصدك.
لقد استطاع الحداثيون أن يعبثوا فترةً بالصفحات الأدبية من خلال الاحتماء بالرمز والإشارة، حينما تحاججه، يقول: أنا قصدت كذا، إذاً يقال: إن قصدت كذا فهذا مرفوض، وإن قصدت كذا، فلعلك أن تتعلم من العبارة ما يفصح ويوضح مقصودك، نحن بحاجة إلى أن يحضر القادرين على النقاش المستوعبين، أو الذين ينقلون التقارير الجيدة للعلماء وطلبة العلم.
أما أن نحضر هكذا فقط جموع الله أكبر الله أكبر، أنا لا أؤيد هذا والأمور بأدبها وأبوابها مقبولةٌ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(197/36)
مهلاً دعاة التحرير [1، 2]
هذا الدرس وقفات مع دعاة التحرير مع العلمانيين المنافقين، يوضح الشيخ فيه أهدافهم من دعوى تحرير المرأة.
وكذلك بيَّن أسباب ظهور هذه الدعوى في أرض الحرمين، كما يذكر بعض الحيل الخبيثة التي يقوم بها هؤلاء المنافقون.
وفي الأخير: ينادي الشيخ العلماء والقضاة والشباب وولاة الأمر والصالحين والصالحات في بذل أقصى الجهد من أجل القضاء على هؤلاء المنافقين.(198/1)
أهمية الانقياد لشرع الله
الحمد لله ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله على كل حال، الحمد لله على نعم لا تحصى، وعلى آلاء لا تنسى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ربوبيته، فهو المشرع، وهو المدبر والمقدر، وهو المتصرف، ألا له الحكم والأمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحدٌ في ألوهيته، فلا يجوز التعظيم والركوع والسجود والخوف إلا منه وحده لا شريك له، ولا يجوز الذبح والنذر إلا له، ولا الحلف والتعظيم إلا به وله، ولا الخوف إلا من عذابه، ولا الرجاء إلا في ثوابه، أشهد أن لا إله إلا الله واحدٌ في أسمائه وصفاته، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
أشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: أحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بادئ ذي بدء أستحضر وتستحضرون نية الجلوس في مثل هذه المجالس الطيبة، لعل الله جل وعلا أن يمن علينا فتغشانا الرحمة، وتحفنا الملائكة، وتتنزل علينا السكينة، ويذكرنا الله في ملأ عنده، نسأل الله ألا يحرمنا هذا الأجر، وهذا الثواب باجتماعنا بادئ ذي بدء.
أحبتي في الله: وقبل أن أدخل في موضوعي هذا، والله لو علم العلمانيون أن بعض سيارات دارت في الأسواق ستجمعكم هذا الاجتماع، وستؤلف قلوبكم هذه الألفة، وستوحد صفوفكم هذه الوحدة، وستجمع شملكم، وستعينكم على ترتيب عملكم واجتهادكم، لما فعلوا هذا الأمر، رب ضارة نافعة:
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببٌ ما بعده سبب
والله إن تلك الحادثة التي فجرت الأوضاع تفجيراً مزرياً ما زادت الطيبين إلا صلابةً وعودةً ورجوعاً وأوبةً وصدقا ونصحاً، وزادتهم تآلفاً والتفافاً حول علمائهم وولاة أمرهم.
أيها الأحبة في الله: حديثنا اليوم "مهلاً يا دعاة التحرير" وكما قال فضيلة الشيخ المقدم -جزاه الله خير الجزاء- وبكلمات موجزة جمع كثيراً من هذه الأفكار التي سأطرحها بين أيديكم، وعلى أية حال أشاركه ويشاركني فيما نقول.
أحبتنا في الله: قضية المرأة ينبغي أن نتناولها من مبدأ العقيدة، من الذي خلقنا؟ هو الله جل وعلا، وهذا الإله سبحانه عظيم في ذاته، عظيم فيما خلق حكيم عليم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وهذا الإله الحكيم، ما شرع لعباده شيئاً إلا لحكمةٍ يعلمها، وما أمرهم بأمرٍ إلا لحكمةٍ يعلمها، وما نهاهم عن أمرٍ إلا لحكمةٍ يعلمها، تعالى الله أن يأمر أو ينهى عبثاً، والله إن كل حرف في الآيات التي وردت في الحجاب كلها عن حكمة بالغة، لأن الله عليم حكيم، ينبغي أن نربط قضية الحجاب بالعقيدة، لماذا؟ لأننا يوم أن نتناولها من باب العقيدة ندرك أن الإله الحكيم العليم في تدبيره وتقديره؛ لحكمة أرادها أمر المرأة أن تحتجب، وأمرها أن تقر في بيتها، وأمرها ألا تخضع بقولها، وأمرها ألا تضرب برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها، وأمرها إذا سألها الرجال متاعاً ألا يسألوها إلا من وراء حجاب، هل يقدر الله عبثاً؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.(198/2)
دعاة التحرير بين أمرين لا ثالث لهما
نقول: مهلاً يا دعاة التحرير، إما أن تعلنوا أنكم كفار أعراضكم مستباحة -أي: بالسبي- ورقابكم مستباحة -أي: بالقتل- وأموالكم لا عصمة لها، لأننا نبدؤكم أولاً بمسألة مهمة ألا وهي: إما أن تسلموا أن الله حكيم وعليم، وله الخلق والأمر، فحكمته وعلمه وخلقه وأمره اقتضى أن تحتجب المرأة، وأن تلتزم بيتها، وألا تضع خمارها عن وجهها، أو أن تعلنوا أن الله ليس بحكيم، وأن الله ليس بعليم، وأن الله قدر هذا الحجاب عبثاً، وأن الله قدر هذا الحجاب تعنتاً وتضييقاً على خلقه، أو لأمر لا حكمة له ولا طائل تحته، وهذا عين الكفر والإلحاد والزندقة.
ينبغي أن نقف في أعلى الجبل لكي نوجه الراجمات على الذين يعيشون في حضيض الساحة، إننا يوم أن نخاطب العلمانيين، أو دعاة تحرير المرأة لا نخاطبهم بمنطق المدافعة، أو منطق الضعف، وإنما نبدؤهم بالعقيدة وننتهي إلى الفروع، عقيدتنا أن إلهنا حكيم، وأن إلهنا عليم، وأنه سبحانه له وحده الخلق والأمر: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ما لنا خيار، فقهنا أو لم نفقه، أدركنا الحكمة أو لم ندرك.
بادئ ذي بدء مع أن الحكمة واضحة جلية، لكن نقول: لا خيار لنا إذا جاء أمر الله بل سمعنا وأطعنا.(198/3)
دعاة التحرير وهزيمتهم النفسية
المسألة الثانية أيها الأحبة! ينبغي أن ندرك أن دعاة تحرير المرأة الذين نقول لهم: مهلاً قبل أن تستباح رقابكم، وقبل أن تهدر دماؤكم، نقول لهم: إن مكمن الخطر تجاه هذه القضية هو هزيمة نفسية في قلوبكم، لو تأملنا أولئك الذين أرادوا ونعقوا وصاحوا وقلدوا ورددوا خلف كل ناعق يريدون إخراج المرأة، أو يريدون ما يسمى بتحريرها، لوجدناهم من ضعفاء الشخصية، ضعفاء النفوس الذين درسوا في بلاد الغرب، ولا يدل هذا على أن الدراسة في بلاد الغرب حرام، أو أنها لا تجوز، بل التفصيل فيها له مقام غير هذا، ولكن أولئك الذين نعقوا ورددوا وراء الناعقين والببغاوات، ونادوا بإخراج المرأة، أولئك من الذين عاشوا هزيمة نفسية وضعفاً في الإيمان، وجهلاً بالعلوم الشرعية، ثم نزلوا بلاداً أهلها في تمدن وتطور ورقي، ورأوا أفلاماً الابتسامات تعلو رجالها وأبطالها، ورأوا مسلسلات ظاهرها الود والوئام، فظنوا أن الحياة السعيدة هي ما يعيشه أولئك، وظنوا أن سبب السعادة في مجتمع أولئك القوم هو الحرية المطلقة التي يزعمونها، أو هي الإباحية على حقيقة أمرها، ظنوا أن سعادة ذلك المجتمع الموهومة التي تظهر على الشاشة وليست على الحقيقية، لأن ذلك مجتمع شقي، وصدق الله العظيم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] إنهم في ضنك من عيشهم، لكن أولئك الذين لا يعرفون إلا الصور والمشاهد اللامعة البراقة ظنوا أن هذه هي الحياة السعيدة، وظنوا أن سبب السعادة هي الإباحية والانحلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أولئك الذين ضعفت نفوسهم، وهزموا في معركة الذات ومعركة النفس، عادوا ليصيحوا بأعلى صوتهم: أين المرأة المظلومة؟ أين المرأة حبيسة البيت؟ أين رئة المجتمع المعطلة؟ أين النصف المعطل؟ فبدءوا يصيحون ويرددون لكي يخلقوا قضية اسمها قضية المرأة، وليس عندنا في الحقيقة قضية اسمها قضية المرأة؛ لأن القضايا توحي بالمرافعة، وتوحي بالخصومة، وتوحي باللجاج والجدل، وأما مجتمعنا فالمرأة فيه فوق هذا المستوى؛ لأنها آمنة سعيدة مطمئنة، أخذوا يصيحون: أين المرأة؟ لماذا لا تعمل؟ لماذا نصف مجتمعنا معطل؟ لماذا لا تحسب حسابات جهود المرأة في الدخل القومي للمجتمع؟ لماذا تهدر هذه الطاقات الاقتصادية؟ العامل البشري من عوامل الإنتاج نصفه معطل في هذا المتجمع، وأخذوا يرددونها تارةً اسمها قضية الأسبوع في مجلة، وتارةً زاويةٌ في صحيفة، وتارةً عمودٌ في جريدة، وتارةً مقالةٌ في إذاعة، وتارةً مسلسل أو فيلم في شاشة، أو غير ذلك.
من هنا بدءوا يطنطنون ويصيحون لكي يغرسوا في فكر المجتمع أن هناك قضية اسمها قضية المرأة، ثم نقول لهم: يا من أشغلتمونا بالنباح، وعندنا قناعة:
إذا الكلب لم يؤذيك إلا بنبحه فدعه إلى يوم القيامة ينبح
ماذا يضير السحاب نبح الكلاب؟
ما يضير البحر أمسى زاخراً إن رمى فيه غلامٌ بحجر
والله ما كدروا شيئاً، ولا حركوا شيئاً بالنسبة لأولئك الذين إيمانهم بحكمة ربهم عظيمة جليلة وهم واثقون بها، ما هي قضية المرأة في مجتمعنا؟ أيها الأحبة! قضية المرأة في مجتمعنا التي يريدونها ويريدون أن يصنعوا منها شكلاً وحجماً وطولاً وعرضاً، يقولون: نريد للمرأة أن تتعلم، من قال أننا رفضنا تعليم المرأة؟ يريدون للمرأة أن تعمل، من الذي قال برفض عمل المرأة عند الحاجة إليه بضوابطه المشروعة؟ لكن لم يقف عند ذلك، وبعيني قرأت في مجلة من مجلاتنا ذات يوم في تحقيقٍ صحفي متى يأتي ذلك اليوم الذي يظهر فيه مجالات جديدة غير المجالات التقليدية بين قوسين الطب والتعليم؟ متى يظهر للمرأة مجالات جديدة غير هذه المجالات؟ في الحقيقة وبكل صراحة المجالات التي يريدونها مجالات الوظيفة أن يغلق الباب على الرجل والمرأة في مكتب واحد، مجال المضيفة أن تحلق بها الطائرة في السماء، فتسافر الساعات والأيام ويخلو بها من يخلو من الربان والقبطان، وتسكن في الفنادق، ويخلو بها من يخلو بها.
يريدونها في التمريض الذي نسأل الله تعالى أن يمرض قلوبهم به، التمريض الذي أشغلوا المجتمع به، أي تمريض هذا؟ والله لو كان نساء يمرضن نساء، وبنات يمرضن بنات، لقلنا على العين والرأس، ولكن قد أعلنوا باطنهم، وأخرجوا المجلات وفيها صور المتطوعات في التمريض يفرحن وبكل نشاط في مزاولة هذا الأمر، ومريض من الرجال والذكور ويحيط به جمع من الفتيات، هذا التمريض الذي تريدون لبناتنا؟ يريدون بناتنا أن تقلب فرج الرجل وعورته، وهل قل الرجال؟ وهل مات الشباب؟ وهل وظفنا جميع الشباب حتى نقول إننا بحاجة أن نوظف المرأة في مجال التمريض، ولكن الأكليشة المعتادة في حدود الشريعة الإسلامية وفي إطارها ونظامها حتى يأتي نهاية اليوم الذي يزنى فيه على الشريعة الإسلامية، ويشرب الخمر على الشريعة الإسلامية، بهذه الطريقة والنغمة التي أخذوا يعبثون بها على عقول المسلمين.
إن كانوا يقولون: إن قضية المرأة تعلم وتوظيف في مجال مناسب، بضابط مشروع، فليست قضية إذ أن الأمر موجود، ولا حاجة إلى تحصيل حاصل، أما إن كانت القضية غير ذلك، فنقول هنا: مهلاً يا دعاة التحرير.(198/4)
مغالطات يتفوه بها العلمانيون(198/5)
قولهم: الملتزمون يسيئون الظن دائماً
يقول أولئك العلمانيون دعاة التحرير: أنتم يا علماء الدين! أنتم يا معاشر المطوعين! أنتم يا معاشر الملتزمين! أنتم يا من لا تسمحون لبناتكم أن يسهرن الليلة الطويلة في المستشفى مرافقة للطبيب المناوب! يا من لا تسمح لابنتك أن تداوم الدوام الكامل عشر ساعات، أو اثنتي عشرة ساعة مع طبيب، أو مع جمع من الرجال مختلط بالنساء، يقولون: أنتم تسيئون الظن.
لو أن رجلاً قال لآخر: أعطني ابنتك البالغة سن الزواج، وأقفل علينا الباب أنا وإياها أربع ساعات، واتركنا -الله يخليك- أربع ساعات على انفراد، فيقول وليها: لا يمكن، لا يجوز، ماذا تفعل بها؟ أقول: يا أخي! أنت لماذا هكذا تسيء ظنك؟ دعني أعلمها البخاري، دعني أخرج معها البخاري، دعني أقرأ معها التفسير، هل يعقل أن هذا الذي سيخلو ببنتي أو ابنتك، أو أختي أو أختك، أو زوجتي أو زوجتك في ردهات المستشفى ساعات طوال في ليل بهيم، في هجيع الليل، ونيام الناس، وسبات عميق، هل يعقل أنه سيخلو بها يتهجدون يتناوبون الحراسة في سبيل الله؟ ماذا سيفعل بها هذا؟ يا إخوان! نريد أن نقول: مهلاً يا دعاة التحرير، فلا تظنوا أن المجتمع غبي إلى هذه الدرجة، لا تظنوا أن الناس أصبحوا ديوثين، لا تظنوا أن الناس أصبحوا لا يغارون على محارمهم، ولكن كما قلت في الخطب والمحاضرات: ظن دعاة التحرير أن المجتمع انقسم إلى قسمين: قسم يوفر لحيته ويقصر ثوبه، فهذا لن يرضى بتمريض البنات مختلطات مع الرجال، ولن يرضى بقيادة المرأة، ولن يرضى باختلاط المرأة، وقسم آخر من الذين يحلقون لحاهم مثلاً أو يسبلون ثيابهم، أو قد يسمعون شيئاً من الغناء قالوا: هؤلاء الذين يسمعون الغناء أو يحلقون اللحى أو يسبلون الثياب هؤلاء سيوافقوننا بأن نخلو ببناتهم، حاشا وكلا، والله إننا لعلى ثقة بأن الحليق والمسبل، أو من سمع الغناء ما بلغ به ضعف الإيمان إلى درجة أن يصبح ديوثاً، فيرضى أن تقود بنته، أو أن ينفرد بأخته وزوجته ليلة طويلة في مناوبة في مستشفى بدعوى التمريض، أو غير ذلك، يقولون: أنتم تسيئون الظن دائماً، وكلما طرحنا قضية، أول ما يخطر على بالكم -أنتم يا هذا المجتمع السعودي- الفاحشة والجريمة، لماذا يا أخي؟ بإمكاننا أن نوجد العمل في ظل الضوابط الشرعية والشريعة الإسلامية، والقيم والآداب والأخلاق والتقاليد، والله ما عهدنا رجلاً ألقي في الماء فسلمت ثيابه من البلل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
هل يعقل هذا؟ لا.
والله لا يعقل.
إذاً فنحن على ثقة ويقين، ونقول: كذبتم يا دعاة التحرير، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما) قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على المحارم) حتى المحارم نهينا أن ندخل عليهن من غير محرم، فما بالك يوم أن تجعل ابنتك وأختك في وظيفة أو في عمل مختلط، أو في معمل الجامعة أو في مكان لتختلط بالأجنبي، إذا كان المحارم قد نهينا عن الاختلاط بهن: (إياكم والدخول على المحارم، قالوا: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ -أخو الزوج لا يظن أن يقع منه السوء إلا في النادر القليل- فقال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت) فنقول: أنت يا رسول الله ما صدقت، أنت يا رسول الله لا تعرف، أنت تطلق الأحكام على عواهنها، أنت يا رسول الله لا تعرف تطور المجتمع، أنت لا تعرف إلى أي درجة ستتمدن البشرية، ونقول: صدقتم ووفقتم يا دعاة العلمانية، بأنه يمكن للمرأة أن تختلط مع الرجل في الوظيفة، ويغلقان المكتب عليهما، ويمكن أن تختلط مع الفتى في معمل الجامعة، ويمكن أن تختلط بالتمريض مع الممرضين والممرضات، ويمكن ويمكن إلى آخره! نصدق من ونكذب من؟ نكذب نبينا ونصدق القردة والخنازير؟!! حاشا لله، لا والله بل صدق رسول الله، وكذب أولئك المفسدون المجرمون، الحمد لله الذي أظهر باطنهم، وكشف خزيهم، وبين دسيستهم وحقيقتهم.
هذه مغالطة دائماً يأتي بها دعاة التحرير، فنقول لهم: مهلاً هذه مغالطة مرفوضة قولكم: لماذا تسيئون الظن؟ لماذا تتهمون الناس بالجريمة؟ لماذا يتبادر إلى أذهانكم الفاحشة في أول لقاء مختلط، وعلى انفراد بين الرجل والأنثى، وبين الفتى والفتاة؟(198/6)
تجاهل العلمانيين لامتهان المرأة الغربية
المغالطة الثانية مع أن أولئك العلمانيين الذين يدعون إلى تحرير المرأة درسوا في أوروبا، وهم يعرفون ما يسمى بـ (نايتك لبز) بالأندية الليلية، وهم يعرفون ماذا يحصل فيها من امتهان للمرأة، ويعرفون ماذا حصل للمرأة الغربية من احتقار، أنها إن لم تؤجر فرجها مرحاضاً تقضى فيه الحاجة، فلن تجد ما تأكل أو تشرب أو تلبس، يعرفون هذا جيداً، ومع ذلك: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] مع أنهم عرفوا ورأوا ودرسوا هناك، وأدركوا ما حل بالمرأة الغربية إلا أنهم مع إدراكهم ومعرفتهم لهذا يغالطون المجتمع، ويريدون نقل التجربة الغربية إلى بلاد الإسلام، وإلى قلعة الإسلام الصامدة المملكة العربية السعودية، يريدون أن ينقلوا هذه المعركة إلى هذه البلاد، أخزاهم الله وفضحهم.
المسألة الثالثة، وقبل أن أنتقل إليها أذكر كلاماً لـ سيد قطب رحمه الله لما تكلم عن آيات الحجاب، وفي موضع آخر في حديثه عن أدب الإسلام في الدخول على النساء، وفي تنظيم ضوابط المجتمع المسلم في ظل الأسرة المسلمة، قال: إن المرأة في المجتمع الغربي أصبحت كالمرحاض يقضي فيه الغادون والرائحون حوائجهم.
تصوروا -يا إخوان- حمامات -أجلكم الله- على الطريق العام، على الخط الدائري، وكل من حصره بوله -أجل الله المسجد والملائكة والسامعين- أو حقبه غائطه، اضطر أن يقف ليقضي الحاجة في ذلك المرحاض ثم يمضي، إن المرأة في المجتمع الغربي ما هي إلا مرحاضٌ يقضي فيه الغادون والرائحون حوائجهم، فمن ذا الذي يرضى أن ينقل التجربة إلى هذا المجتمع ليجعل نساء المجتمع العفيفات الطاهرات مراحيض يقضي فيها المجرمون والغادون والرائحون حوائجهم؟! من الذي يحفظ هذه المسكينة يوم أن تكون نوبتها الطويلة في الليل ولا رقيب ولا حسيب إلا الله، مع تسلط الهوى، وتحكم الشهوة، وغيبة الضمير، وتسلط الغريزة، وحينئذٍ يخلو بها هذا الممرض، فيقضي حاجته في فرجها، وفي ليلة أخرى ممرض آخر، وفي ليلة أخرى ممرض آخر، ألم تصبح حماماً؟ بلى والله، جعلوها مرحاضاً كل يقضي حاجته فيها.
إننا نعرف أن للمرأة مكانةً ومنزلةً ليس هذا بيان تفصيلها، لكن نقول: مهلاً يا دعاة التحرير إن كنتم تريدون أن نجعل من المرأة مرحاضاً يقضي فيه الغادون والرائحون حوائجهم، فإن هذا لا يمكن أن يكون في مجتمع لا يزال دم الإباء والغيرة، وقبل دم الإباء لا يزال الانقياد لأمر الله في قلوبهم ونفوسهم.(198/7)
قولهم: الهدف من عمل المرأة خدمة الوطن
المغالطة الثالثة: يقولون: إننا يوم أن ندعو للاستفادة من المرأة، ومن تحريك النصف المعطل وإلى آخره، يقولون: هذا من أجل الوطن، هذا من أجل الدفاع عن الوطن، من أجل خير الوطن، من أجل أن نشارك الأمة، إن الأمة قد شاركت في مجالات عديدة، ورغبة منا أن نشارك في وطننا، فلا بد أن نفعل كذا، والذي يؤزونهم إلى الفساد أزاً، ويدفعونهم إلى الهاوية دفعاً، يقولون: من أجل أن تشارك المرأة وتشعر بكيانها وسيادتها على أرض مجتمعها وحدود بلادها، فلا بد أن تشارك في الوطن، وهل هناك مشاركة أعظم مما ذكره فضيلة الشيخ في مقدمته؟ أن تتولى بيتها، وأن تخدم زوجها، وأن ترعى أولادها، وأن تحفظ نفسها: (إذا المرأة أطاعت بعلها، وصلت فرضها، وصامت شهرها -إلى آخر الحديث- قيل لها: ادخلي الجنة من أي باب شئت من أبوابها الثمانية) أي منزلة وأي كرامة للمرأة أعظم من هذا؟! نعم.
لا يريدونها أن تدخل الجنة من واحد مع هذه الأبواب، ولكنهم يريدونها أن تدخل النار مع أي باب يفضي بها إلى الهاوية.
تقول أسماء بنت يزيد بن السكن الأشهلية الأنصارية، وكانت تسمى خطيبة النساء، قالت: (يا رسول الله! إن للرجال فيك حظاً ليس لنا، يحجون معك، يغدون معك، يسمعون كلامك، يجلسون إلى آخر ما قالت، فما لنا منك حظٌ يا رسول الله، أو ما حظنا منك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أسماء! يا أسماء! يا أسماء! بلغي من وراءك أن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله).
والتبعل يعني: الخدمة، والرقة في المعاملة واللطف، والعناية بفراشه، والعناية ببيته وبنفسه، والعناية بطعامه وشرابه، وكل ما فيه خدمة الزوج وطلب رضاه في رضى الله، فإنه يعدل ذلك كله.
أي فضل، وأي أجر، وأي منزلة جعلها الإسلام لك أيتها الأخت المسلمة، أيتها البنت المسلمة، أيتها الأم المسلمة؟! ولكن أولئك يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً، يريدون أن تنحرفوا انحرافاً بيناً.
المهم أيها الأحبة هذه مغالطات ثلاث: المغالطة الأولى: ألا وهي أنتم تسيئون الظن.
المغالطة الثانية: يتجاهلون ما حل بالمرأة في المجتمع الغربي.
المغالطة الثالثة: نريد المرأة أن تخدم الوطن.
وكل هذه مغالطات ودعاوى وشنشنة نعرفها من أخزم، دعاوى باطلة، قيل: أكبر شاهد للثعلب، ما هو؟ فقيل: ذيله، هي ذيول الثعالب التي ظهرت بالمكر والخديعة، فحسبنا الله ونعم الوكيل!.(198/8)
الاختلاط في التعليم متدرج
أيها الأحبة في الله! لا يستطيع أعداء المرأة في مجتمع كهذا، مجتمع لا زالت المآذن تصدح فيه خمس مرات، ولا زال أهله أهل صلاة وعبادة، ولا زال الناس أهل غيرة على فرشهم وعلى محارمهم وعلى أعراضهم لا يستطيعون أن يقولوا: أعطونا بناتكم نخلو بهن، لا.
أعطونا بناتكم نفعل بهن، لا يستطيعون أن يتجرءوا ويقولوا هذا الكلام، إذاً فلا بد من التدرج دعاة التحرير يريدون أن يتدرجوا حتى يحصلوا على ما يريدون، فيبدءون بمختلف الوسائل وشتى المجالات.
يبدءون مثلاً: لماذا لا نستفيد من الفتاة لكي تدرس الشباب الصغار، أو الأطفال الصغار في المرحلة الابتدائية، الطفل في المرحلة الابتدائية أيضاً -يا (مطاوعة) - تشكون في هذا الطفل الذي عمره ست سنوات، لا تريدونه يختلط مع البنية الصغيرة، لا تريدون المدرسة تدرسه، يبدءون من هنا، وما المانع أن تكون المرحلة الأولى الابتدائية والثانية الابتدائية والثالثة الابتدائية؟ ما المانع أن تكون المرأة هي التي تدرس هؤلاء الصغار؟ وما المانع أن يختلط الصغار إناثاً وذكوراً في هذه المراحل؟ هذه بداية من أسفل، وهناك بداية من فوق، يقولون: والله يصعب علينا أن نعد معامل للبنات ومعامل للذكور، فنضطر أن نخلط الرجال والبنات، الشباب والشابات، الفتيان والفتيات في المعامل، يصعب علينا أن ننزل محاضرات معينة في الدائرة المغلقة للبنات ومحاضرات للرجال، لا بأس أن يختلطن، ما الذي يمنع أن نختلط؟ ما الذي يمنع أن نشاهد هذا الدرس العملي، فبدأ الاختلاط من أين؟ من فوق، وبدأ من المراحل الأولى الابتدائية والمرحلة الجامعة، وما يزال هذا الاختلاط ينزل ويرتفع، ينزل ويرتفع حتى يلتقي في قمة الجنون والمراهقة في المراحل المتوسطة والثانوية ويستوي على سوقه في المرحلة الجامعية، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لا يستطيعون من البداية أن يفتحوا ويقولوا: الثانوية المائة والخمسون المختلطة للبنين والبنات، لا.
لا يقدرون على قول هذا، لكن ما الذي يمنع أن يتربى الأولاد مع البنات في الابتدائية إلى السنة الأولى والثانية والثالثة، طيب ما هو الفرق بين الثالثة والرابعة؟ أضيفوا الرابعة، وما هو الفرق بين الرابعة والخامسة؟ أضيفوا الخامسة، ورويداً رويداً حتى يلتقي الاختلاط بين نزول من أعلى وارتفاع من أسفل، فيلتقي في مرحلة زمنية هي قمة الجنون والمراهقة، ويقولون أيضاً: في حدود الشريعة، وفي ظل الضوابط الشرعية إلى آخره.(198/9)
كيف ظلمت المرأة الغربية
وقبل أن نفيض في هذا الموضوع نريد أن نسأل سؤالاً: كيف ظلمت المرأة الغربية وكيف حررت؟ المرأة الغربية؟ أيها الأحبة! كان المجتمع الغربي حتى المجتمع الفرنسي والمجتمع الألماني في عصور غابرة كانوا يشكون هل هي إنسان، أو لا.
وقرروا في زمن ما أنها إنسان، ولكن خلقت لخدمة الرجل، ووافقهم الألمان في هذه الفكرة، ومورست أبشع صور الإقطاع في عصور الإقطاع على المجتمع الأوروبي، ومارس الرهبان والقسس والكاردينلات في تسلطهم عبر الكنيسة أبشع ألوان التسلط على المرأة، ثم بعد ذلك أرغمت المرأة بالعمل الشاق، فأصبحت تعمل في المناجم، وأصبحت تعمل عملاً طويلاً، ومع ذلك لا تنال نفس الأجر الذي يناله الرجل، فأصبحت المرأة تصيح: نريد أن نساوى مع الرجل في الأجر، فبدأت قضية للمرأة، نعم المرأة تعمل عمل الرجل، ولكنها لا تأخذ الأجر ذاته، فتبنى من تبنى هذه القضية، وقامت ثورات لتحرير المرأة ومساواتها مع الرجل في الأجر، فتمت المساواة، ثم بعد ذلك لماذا لا تساوى المرأة مع الرجل في المجالات الأخرى؟ وقالوا: لا حرج، وفتحوا هذا الباب.
إذاً قضية المرأة الأوربية إنما هي بسبب تشريع البشر القاسي الذي لم يراعِ فيها الأنوثة، ولم يراعِ فيها طبيعة التكوين أبداً، فالمرأة تحررت من ظلم، ولكن إلى ظلم أشد منه، ولا حول لا قوة إلا بالله! لكن المرأة في المجتمع المسلم أي ظلم أصابها، إن الظلم الذي يقع الآن على المرأة المسلمة، وعلى الفتاة المسلمة، وعلى الأخت المسلمة هو تسلط عبر الإعلام عبر الشاشة عبر الإذاعة عبر المجلة عبر الجريدة عبر الصحيفة عبر مختلف المجالات، تسلط على هذه المرأة من أجل إبعادها عن المنهج الرباني، لكي يقولوا لها: لا تطيعي هذا الذي خلقك بلسان الحال أو بلسان المقال، وإلا ما معنى مقابلة مع مجموعة من الفتيات والأخوات: كيف وجدت نفسك مع تقاليد المجتمع الذي يرفض هذه الظاهرة؟ تقول: بحمد الله أنا فتاة في مجتمع متحرر وأسرتي مقتنعة، والأخرى تقول: لا.
أمي واجهتني ببعض الصعوبات، ولكن جدتي أقنعتها، وهلم جراً، يعني: محاولة لمسخ الفتاة المسلمة عن التزامها وعن عقيدتها، ومن هنا يوم أن نعرف أن قضية المرأة التي يصيحون بها في المجتمع المسلم هي قضية إبعادها عن المنهج الرباني، وعن شريعة الله جل وعلا، يريدون إبعادها من الحصن الحصين والدرع المكين إلى مسبعة الذئاب، وإلى صحراء الكلاب؛ حينئذٍ نعرف أن عندنا قضية ولكن بلا قضية، قضية امرأة، لكن ما هي القضية؟ في الحقيقة ما عندنا، بالنسبة لنا في نظرنا ما هناك قضية، المرأة كل ما يتعلق بها موجود في كتاب الله، وما عقمت أذهان وعقول علماء الأمة ومفكريها وقضاتها أن يجعلوا لكل أمر جديد ما يناسب هذا الأمر في حدود الضوابط الشرعية، أما أن يحدد الضوابط الشرعية من لم يعرف الصلاة، أو من عاش زمناً طويلاً وعهداً طويلاً في بلاد الغرب، وأشرب حب الغرب وسلوكهم، وهو الذي يقرر المصالح الشرعية، لا.
العلماء قالوا: المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا بإلغاء يقررها المجتهدون والعلماء، فكيف يقرر أولئك الذين هم من مجمعات زبالات أذهان الغرب وحثالات أفكارهم، هل هم الذين يقررون مجال المرأة، أو يقررون عملها وهم لا يعرفون الأصول ولا الضوابط الشرعية التي يقوم عليها مجال المرأة؟ تباً وسحقاً لهم.(198/10)
المفسدون دائماً يتسترون
حينما يراد تخريب وإفساد الأمة في أمر من الأمور، لا بد للمخرب أن يستتر بقضية؛ القضية الخدمة المشاركة الدفاع الوطنية الإخلاص إلى غير ذلك، وخذوا مثالاً، وما أشبه الليلة بالبارحة، وهذا أمرٌ عرفتموه أنتم من خلال الخطب والندوات والمحاضرات وما قرأتم، مثال ذلك: أول مظاهرة في مصر في ميدان قصر النيل أمام ثكنات الجيش الإنجليزي، قامت النساء وهتفت ضد المستعمر الإنجليزي، طيب ما هي علاقة المستعمر الإنجليزي بإزالة الحجاب عن الوجه؟ إذاً لا بد أن يكون لمن أراد أن يفرض على المجتمع أو أن يغزو المجتمع بحدث قذر خطير لا بد أن يلوح بقضية، أو أن يطير بالونة ترتفع الأبصار إليها، وحينئذٍ هو يعمل من تحت، حينما يريد مجرم أن يفسد المجتمع، أو لص من اللصوص حينما يريد أن يسرق بنكاً من البنوك، لا بد أن يسحب في جيبه قنبلة، فيفجر سيارة في الطريق، فينشغل الناس بالسيارة المتفجرة، ثم هو يدخل إلى هذا البنك ويسرق فيه، لا بد أن ترفع قضية وأن تثار إما لإشغال الناس بها، والعمل في غفلة الناس عنها، أو لكي يصبح للمخرب قضية يتستر بها.(198/11)
دعاة التحرير في مصر
عند المرأة المصرية كانت المظاهرة بقيادة هدى شعراوي هتفت في شارع النيل أو في ذلك الميدان ضد الاستعمار الإنجليزي، وأخذت تنزع الحجاب، وتزيله وتميطه عن الوجه، وتهتف ضد المستعمر، وعندنا الذين أرادوا أن يجعلوا من أنسفهم منطلقاً وتاريخاً يؤرخ به تحرير المرأة، أو تخريب المرأة على الصحيح، قالوا: نريد الدفاع عن الوطن، ونريد المشاركة، ونريد ونريد إلى آخره، وحينئذٍ لا بد أن يصنع من ذلك الذي رفع الشعار بطلاً، وفاتني أن أحضر قصاصة أوصلها لي أحد الإخوة جزاه الله خيراً بقلم تافهٍ نزقٍٍ حقيرٍ اسمه/ فهمي هويدي كتب في جريدة الأهرام كتاباً نال فيه من عرض والدنا وحبيبنا سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، نسأل الله أن ينتقم لشيخنا وحبيبنا منه، نسأل الله أن يري هذا الكاتب في نفسه بلاءً ومكروهاً حتى يأتي محمولاً ليتحلل من شيخنا، وليكون آية وعبرة لكل من سولت نفسه أن يهزأ، أو أن ينال من علمائنا وأحبابنا، حينئذٍ لا بد أن يكون هذا المخرب بطلاً، كيف يصنع من المخرب بطلاً؟ اطمئنوا ما على المجرم إلا أن يفجر الحادثة ويتولى بقية المهمة وكالات الأنباء، التغطية الصحفية الـ (السي إن إن) المقالات الكتابات التأييد القصائد التي تفيد بهذا الأمر، فحينئذٍ يصبح المجرم في عرف بعض الساقطين بطلاً، ولكن بحمد الله جل وعلا في مجتمعنا هذا لم يحصل من قام بهذه الجريمة على لقب البطولة، أو لقب يسره، بل نال الدعاء بالويل والثبور إن هو أصر على ضلالته، ولم يرجع، ولم يتب إلى الله، نسأل الله الهداية لجميع المسلمين.
في الحقيقة -أيها الأحبة! - وبالتدريج حينما تثار قضية من القضايا، ويكون لهذه القضية من يتبناها، إما امرأة معينة أو مجموعة من الفتيات شعارنا المشاركة في الوطن، المشاركة في الدفاع، من الذي يصنع منا أبطالاً؟ وكالات الإعلام، ووسائل الإعلام الأجنبية هي التي تلمع هذه الحادثة، بالتدريج نبدأ الدخول في قضايا جديدة.(198/12)
الهدف من محاربة الزواج المبكر
إذاً كانت القضية أولاً: من يعلق الجرس؟ فإذا علق الجرس في هذه الحادثة، بعد ذلك انتقلت المرحلة إلى مجال آخر تتنقل بعد ذلك إلى التعليم، ثم تنتقل بأسلوب مغلف إلى قضية أخرى وهي الزواج، لماذا تزوج الفتاة المسكينة في سن ست عشرة سنة وسبع عشرة سنة؟ لماذا لا يوجد قانون يمنع الفتاة من الزواج في ذلك السن حتى تصبح عاقلة؟ ومن الذي قال لكم إنها مجنونة؟ لماذا تتزوج الفتاة؟ هذا ظلم، هذه مسكينة إلى آخره.
لماذا كل هذا؟ حتى تطول فترة المراهقة، وأثناء هذه الفترة قد تسلطت الجرائد والمجلات والأفلام والمسلسلات التي جعلت من الفتاة سجينةً في قفص بين أربعة أبواب، أتدرون كيف تتصور الفتاة المسكينة أنها سجينة؟ فيلم من الأفلام يخرج أسرة في حدائق غناء، وتلقى الفنانين والمشاركين من أطفر عباد الله، لكن مستأجرين هذا القصر من أجل أن يمثلوا للناس فيه، المهم أسرة في هذا المجتمع والحدائق الغناء، وهذه الفتاة التي تبلغ من العمر سبع عشرة وثمان عشرة سنة تطل من الشرفة إذ بالشاب يمر يضرب لها بوق السيارة، فتنزل تحدثه، ثم تتساطع النظرات، وتتبادل الآهات والأنات، ثم تبدأ قصة الحب، ثم ماذا بعد ذلك؟ تبدأ البنت تحدث أمها: أنا والله تعلقت بفلان، ما المانع أني أخرج معه؟ ولماذا؟ وما له؟ واذهبي معه يا ابنتي، وهلم جرا.
ثم تخرج معه، ورويداً رويداً قارن بين مجتمع الشاشة ومجتمع الأربع جدران، فتاة جالسة في أربع جدران تنظر إلى فتاة تطل في الشرفة، وتقول: أنا لو أطل من على هذه الشرفة فستأتيني لعنة هذا الحين من الشارع، تبدأ تقارن المسكينة في حين غيبة من التربية، وغفلة من الأولياء، وبعد في المناهج عن تأصيل الكرامة، وبيان العزة التي أكرمها الله بها؛ تبدأ تقارن بين نفسها العزيزة الكريمة الأصيلة، تبدأ تقارن نفسها بالحقيرة المبذولة التافهة، وتغبط هذه التافهة على ما هي عليه، تقول: أنا بين أربع جدران، وهذه تخرج في أي وقت، ومع ذلك جعلها تقود السيارة هي وإياه، أنا لو أريد أن أسوق فلن يسمحوا لي أن أسوق، ويحدثها بالهاتف في كل وقت، يرن التلفون وتأخذ التلفون وتنتقل إلى حجرة، وكيف حالك؟ وما رأيناك؟ والجامعة وما الجامعة، وهلم جرا.
مصيبة المصائب! ما معنى أن هذه تتحدث مع صديقها وأنا لا أتحدث مع صديقي؟ من هنا تبدأ قضية المقارنات الغير منضبطة، أو بالأحرى المقارنات التي ليست أصلاً بمحل للمقارنة، وتشعر الفتاة بأنها بحاجة إلى مجتمع غير هذا المجتمع الذي هي فيه، طبعاً الزواج في هذا السن، الفتاة تتحرك غريزتها، يدنو مجتمع الشاشة، أو مجتمع الفيلم والمسلسل يدنو الفتى من الفتاة، ويحدثها حتى لو شئت أن تدخل ورقة بين أنفها وأنفه، ما استطعت، فهما قريبان جداً من بعض، والفتاة هل هي جماد لا تتحرك، وليست بدون مشاعر؟ تتمنى أن لو كانت مكان تلك الفتاة في بعض المشاهد وبعض المواقف، ومن هنا يكون عندها رغبة في الزواج، لكن عيب أن تتزوج وعمرها ست عشرة سنة، أو في نظر المجتمع لو تصارح أهلها بأن لها رغبة في الزواج: يا أبي، يا أمي لو تقدم إلي فتى يريد الزواج مني وافقوه، فيقولون: ما هذه المجنونة التي تموت على الزواج؟ إذاً من خلال زرع بغض تزويج البنات المبكر في نفوس المجتمع تبدأ تتولد الرغبة في الاتصال، هناك ضغطٌ عبر الوسائل الإعلامية وهناك غريزة، فيتدافع الأمران، ماذا يحصل؟ تبدأ العلاقات السرية، من أين؟ من الهاتف، وهي ما تسمى بالمعاكسة والمغازلة، كثير من البنات لما تزوجت انتهت من شيء اسمه المعاكسة.
إذاً ما هي القضية؟ هل هو حب في الانحراف ذاته، أو مجرد غريزة ودوافع ومثيرات وأشياء تؤجج الشهوة والفتنة، وما عندها ما يقضي حاجتها ووطرها؟ إذ تريد أن تتزوج، والأدهى من ذلك يوم أن يأتي البنية نصيب فيقال: اصبري، دعي أختك الكبيرة تتزوج، طيب فلتتزوج وليكن ذلك، لكن تعلمنا أنه عيب تزويج الصغيرة قبل الكبيرة، المسألة قسمة ونصيب، فمن كتب لها النصيب فلتتزوج، لكن من خلال التحقيق الصحفي، من خلال العمود، من خلال المقابلة:
السؤال
ما رأي سعادة الدكتورة الفلانية في الزواج المبكر؟
الجواب
أنا لا أرى الزواج المبكر، لأنه دائماً ينتهي بالفشل.
السؤال: ما رأي المعيدة الفلانية في الزواج المبكر؟
الجواب
الزواج المبكر مصائب لا حدود لها.
السؤال
ما رأي المحاضرة التي تعمل في مركز الخدمة الفلانية؟ الجواب: هذه خطورة، هاوية الأولياء يقذفون بالفتاة المسكينة إليها.
ومن ثم نبدأ نعتقد أنه لا يمكن أن يحصل الزواج إلا في سن متأخرة، والمطلوب ما هو بالضبط؟ إيجاد فترة انحراف وفساد وإباحية قبل الدخول في عقد الزوجية، هذا هو المطلوب بالذات، وذلك مجال أو جبهة من جبهات النزاع في قضية تحرير المرأة، ولا حول لا قوة إلا بالله!(198/13)
الهدف من تعليم المرأة في مجالات لا وظيفة لها عند التخرج
هنا مسألة جديدة، ونقول لدعاة التحرير، ونقول للعلمانية أيضاً: فتح التعليم الجامعي في مختلف المجالات، ونحن نعلم أن هناك مجالات فتح التعليم الجامعي فيها وهي مجالات لا تناسب عمل المرأة، هناك مجالات محدودة وبناءة ومثمرة حينما تتعلمها المرأة، وتنال بها الشهادات، يكون من صالح المجتمع، ومن صالح بني جنسها، ومن صالح المرأة أن تتعلمها، لكن مجالات لا علاقة لها بالمرأة، ما الفائدة من التخصصات فيها؟ عندما يتخرج عندي هذه السنة ألف فتاة إدارة أعمال، وإدارة خاصة، واقتصاد زراعي وهندسة وكيمياء وفيزياء وما يتعلق بذلك، ما الفائدة من هذه التخصصات؟ أليس من الأولى أن أعين الشباب الذين هم بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم لردهم إلى سلك التعليم ببرامج تنشيطية تدريبية، وإعادتهم إلى سلم التعليم سواءً كان مهنياً، أو كان تقنياً، أو أكاديمياً بحتاً، أو في أي مجال من المجالات، أليس الشباب أولى من الفتيات في هذه التخصصات؟ القضية -أيها الإخوة- هي والله نتيجة حتمية لتوظيف المرأة، أو هي مقدمة تفضي حتماً إلى توظيف المرأة، عندما يكون عندي جامعة، وعندي حوالي ألف فتاة في تخصصات، ما عندنا مجال نوظف الفتاة فيها، عندنا الآن مثلاً مجال التعليم ومجال الطب، ونسمع أن هناك دسائس وبعض المكاتب التي ما بين المكتب والمكتب إلا زجاجة، أو فاصل أقل من الزجاج، لكن مجموعة من ذوات الشهادات في مختلف التخصصات ما هناك مجال يناسب تخصصها، طيب ماذا نفعل؟ تتخرج الدفعة الثانية، صار عندي ألفا فتاة، تتخرج الدفعة الثالثة، ثلاثة آلاف فتاة، الدفعة الرابعة، أربعة آلاف فتاة، تبدأ الفتيات اللائي يحملن المؤهل الجامعي في المجالات التي لا وظيفة لها في المجتمع يصرخن بصوت واحد: وظفونا وظفونا، درسنا وعندنا شهادة (ليسنس)، أو بكالوريوس في مختلف التخصصات، لماذا نعطل؟ لماذا نهمل؟ أين مجال العمل؟ وحينئذٍ حتماً ستفتحون توظيف المرأة.
هذا التخطيط الذي فتح مجالات تخصصية في التعليم تخرج شهادات لا مجال وظيفي لها في المجتمع هو في الحقيقة يعني: بناء تراكمي لإيجاد كمية هائلة من الخريجات اللائي يحملن مختلف التخصصات لكي يأتي اليوم الذي ينصاع فيه من ينصاع، لكي توظف المرأة، وهنا نسأل سؤالاً، وليكن هذا السؤال صريحاً، والصراحة صابون القلوب، نقول: هل الفساد في التخطيط والتعليم أم أن هناك أمراً مبيتاً اسمه توظيف المرأة؟ هل الذي خطط لتعليم الفتاة في المجتمع يجهل معنى إيجاد تخصصات لا وجود وظيفي لها في المجتمع، أم أنه يراهن على توظيف المرأة في يومٍ ما؟ ليجب كل واحد منكم على هذا السؤال، وليسأل من يعنيه الأمر في هذه المسألة، هذا أمرٌ لا مفر منه، هي واحدة من اثنتين: الذي خطط لتعليم الفتاة، وجعل هناك مجالات معينة حينما تتخرج الفتاة بعدها لا تجد مجالاً وظيفياً لها، نقول له: إما أنك خططت تخطيطاً عشوائياً، فلا تصلح للتخطيط في التعليم، وإما أنك تريد توظيف المرأة في يوم من الأيام، وكلا الأمرين منبوذ مرفوض.
قد يقول قائل: ونحن نقترح أن ليس من شرط تعليم المرأة وظيفتها، ليس بالضرورة أن كل من تعلمت أن نعطيها المرتبة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، ويوجد عدد من المتعلمات اللائي تعلمن وآثرن البقاء في بيوتهن وتربية أولادهن وخدمة أزواجهن، لكن نقول: هلا إذا كان هذا قصدك الشريف يا من خططت للتعليم، هلا جعلت هذه المجالات مناسبةً فيما يتعلق بفقه النساء، طهارة النساء، أحكام العشرة الزوجية، العناية بالأطفال، رعاية الأطفال، أمور أولية لعناية المرأة بأولادها وزوجها وبيتها، إذا كان المقصود هو أننا نعلم المرأة لنرفع عنها الجهل، ولكي نفيدها في إطار منزلها وأسرتها، فعندنا فنون وعلوم، الفنون يراد بها العلوم، فعندنا مجالات نستطيع أن نجعل دراسة المرأة متخصصة في هذه المجالات التي تخدمها.(198/14)
حرص العلمانيين على توظيف المرأة مضيفة في الطائرة
أيها الإخوة: أنتقل إلى جانب آخر حرص دعاة التحرير على إيقاع المرأة المسلمة فيه، صاحوا يوماً ما: لماذا لا يوجد مضيفات؟ لماذا لا نستبدل العمالة الأجنبية ببنات المجتمع، وفي الحقيقة هذا في إطار الشريعة، ومعروف أن الناس في الطائرة يغضون أبصارهم، والمضيفة إذا أرادت أن تناول أحداً، فلا شك أنها تمد له الفنجان، وتقول: يا أخي! غض بصرك حتى لا تنظر إلي، وقبل أن تمد له الفنجان والقهوة تقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ويعني: لا بد أن يغنوا على مثل هذه الموضة، والمقصود مجال جديد لإشغال الفتاة لكي تخرج إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! مجالات جديدة دخلت فيها العمالة الأجنبية النسائية، قالوا: لماذا لا نستبدلها بمجالات أو لماذا لا نستبدلها بعمالة من أهل المجتمع؟ التمريض كما قلت لكم صاحوا، وقالوا: في إطار الشريعة، وفي حدود الشريعة، ولا بد أن نخدم بها المجتمع إلى آخر ذلك.
أسأل سؤالاً دار في ذهني، وسمعت محاضرة للشيخ/ سفر الحوالي حفظه الله، وأورد أيضاً هذا السؤال، يقول: لو قلنا لأحد من الذين وافقوا على دخول بناتهم في ذلك التمريض الذي اختلط فيه البنات مع البنين، الذكور مع الإناث، الشباب مع الشابات، ودخل فيه الإناث على المرضى شباباً وشيباً وصغاراً وكباراً ذكوراً، ومن أعجب ما رأيت أن تجد الطبيب المترجمة له أنثى، وأن تجد الطبيبة المترجم لها ذكر في بعض المستشفيات، وهذا سؤال يحتاج إلى جواب.
الحاصل لو قلنا لرجل أراد أن يوظف ابنته في التمريض: ما هو رأيك؟ كم يعطونكم في التمريض؟ كم الراتب؟ أربعة آلاف، نقول: تفضل هذه خمسة آلاف ريال، أعطنا ابنتك عندنا عجوز في البيت نريد هذه البنية أن تخدمها، يقول: عجيب وابنتي خدامة عند أبيك، وأنا محتاج فلوسك من أجل تعرض عليَّ خمسة آلاف ريال من أجل ابنتي تخدم عندك، طيب ما هو الفرق بين أن تخدم طابوراً كاملاً كله رجال يمدون أرجلهم، أو أن تخدم جدتي هذه العجوز، ما الفرق بين هذا وهذا؟ بالعكس قد تكون في بيتي، وأنا أكون حريصاً عليها، ولك أن تطمئن -إن شاء الله- فلن أدخل أجنبياً على ابنتك، ولن أجعلها تختلط بأحد، ولن تخدم إلا أنثى مثلها، لكن انظر الأمر كيف يلبس على الناس، لو قلنا: أعطونا البنت تعمل خادمة في البيت بخمسة آلاف ريال، يقولون: لا.
والله ما احتجنا إليك بعد حتى أن ابنتنا تعمل في بيتك، لكن نقول: ثلاثة آلاف ومائتان وستون وتشتغل مضيفة، أو ممرضه، وتخدم طابوراً كاملاً ذاهبة آتية، أوه فلانة موظفة في المستشفى الفلاني إنها ممرضة! وكأن مجالات المرأة ضاقت حتى لا نجد لها مجالاً إلا تمريض الرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمصيبة التي تطرح نفسها حتى الآن على ما عندنا من الخير والأموال والأرزاق والبركات نحمد الله على ذلك لا يوجد عندنا مستشفى طاقمه نسائي بالكامل، والله -يا إخوان- نحن بحاجة، ونقولها لكل غيور، ونقولها لكل مسئول: إن مجتمعنا بحاجة إلى مستشفيات نسائية بحتة، وليكن حينما يرى أن تدخل الرجال لأمر ضروري لا بد منه، وليكن في حدود تنسيق ضيق بقدر الحاجة.(198/15)
افتتاح العلمانيين لأندية للفتيات
أيضاً من المجالات التي أراد بها دعاة التحرير، ونقول لهم: مهلاً وعلى رسلكم، فإن المجتمع يقظٌ منتبهٌ -ولله الحمد والمنة- صيحةٌ مرت في زمن ما تدعو إلى نوادي الفتيات، لماذا لا يوجد للفتيات أندية؟ لماذا لا يوجد للفتيات أنشطة؟ إلى آخر ذلك.
ونحن عندنا أتم العلم وأتم اليقين أن كل ما يراد ممكن، كل مطلب من مطالب الفتيات في إطار الشريعة ممكن في أمرٍ سنسمعه الآن، وليس بجديد عليكم، ولكن نقول: أولئك الذين يصيحون: نريد نوادي الفتيات وما أدراك ما نوادي الفتيات، والنوادي الآن -بالمناسبة- كأني أشم أنه يوجد في المجتمع رائحة نوادي مثال ذلك: شاب ذات يوم قدم إليَّ قائمة أسعار النادي الرياضي في أحد الفنادق، وهذا النادي يمكن أن تأخذ البطاقة فيه امرأة أو رجل، ولا أذكر بالضبط اسم الفندق هل هو شيراتون، أو ما أدري بالضبط، المهم يوجد نوع من أنواع الرقص، الفندق مستعد أن يدرب المشتركة بالبطاقة على نوع من أنواع الرقص.
حمام السباحة الآن مكشوف في أحد الفنادق، كنت في زيارة للشيخ/ جلال الدين حقاني لما جاء إلى الرياض، واستضيف في فندق المنهل، فقال لأحد الساكنين: إن الساكن في الفندق يطل على جنبات المسبح، والمسبح في أوقات معينة للنساء، يوجد في بعض الفنادق تكون غرف الزوار في مختلف الأجنحة والجنبات، فالزائر خاصة إذا كان في الأدوار العلوية بكل سهولة يستطيع أن يفتح ستارة النافذة، وأن يطلع، وأن يرى هؤلاء النساء يتحممن، أو يسبحن في مسبح الفندق، لماذا يكون مسبح الفندق بهذه الطريقة؟ وهناك يوم للرجال ويوم للنساء، يعني: هل المشكلة بأن يوماً للرجال ويوماً للنساء، ولكن الرجال والنساء كلهم ينظرون من النوافذ، يعني: هناك ترتيب وتبييت معين، ولذلك نحن بأمس الحاجة إلى ضبط أوضاعنا، وإلى معالجة أمورنا، ولكن بالحكمة، برفع الأمر إلى العلماء والقضاة وولاة الأمر، وإدراك هذا الأمر، فما كان من الفنادق بهذه الصفة، فلا بد أن يستر المسبح فيه عن أولئك حتى لا نسمح لأنفسنا بالنزول إلى الحضيض والهاوية ونحن في قلعة من قلاع الإسلام بمن الله وفضله.
أنا أدرك -والله يا إخوان- كل الإدراك، وعندي قناعة أن ولاة الأمر لا يرضون هذا، ولكن عندي أيضاً قناعة بأن ولي الأمر ليس شمساً مشرقة تطل على كل شيء، فهو دوركم أنتم ما رأيتم من منكر في نادٍ أو فندق أو في جهة من الجهات إلا أن تكتبوا عنها، وأن تتحروا عنها، وأن تثبتوها، ويا حبذا أن تكون الكتابة واقعية ودقيقة، ومن ثم يأخذ الأمر مجراه لمحاسبة ومساءلة من وقع في هذه المسألة.(198/16)
جامعة خاصة بالبنات هي الحل
العجيب -أيها الإخوة! - أن الذين يدعون إلى تحرير المرأة مستعدون لأن يجربوا كل شيء إلا الإسلام، مستعدون أن يجربوا جميع الحلول والألوان والأطروحات الوضعية البشرية الغربية والشرقية وهلم جراً، مستعدون لتجريبها في كل مجال وفي كل مكان إلا شيئاً اسمه الإسلام.
أحد الإخوة الغيورين -جزاه الله خيراً- يقول: لا تقل: دعاة التحرير، بل قل دعاة التخريب، على أية حال لا مشاحة، وإن كان كما يقولون نسميهم بما يزعمون، ولكن نفند باطلهم بمن الله وفضله، فأولئك -أيها الأحبة- دعاة التخريب مستعدون بأن يطبقوا كل ناعق، وكل صيحة، وكل فن جديد، وكل نوع من أنواع الرقص، وكل نوع من أنواع الموضة والخلاعة والمجون ويفتحوا لها باباً ومجالاً إلى غير ذلك، لكن شيء اسمه الإسلام الصحيح الصريح الذي يسعى وينهض بالمرأة، فليس لديهم الاستعداد لذلك، ومن هنا أقول: يا من تصيحون وتنادون بدعوى تحرير المرأة! هل يوماً ما طرحتم في المجلة أو في التلفاز أو في الإذاعة أو في الجريدة، أو في المكان الذي أنتم فيه، هل طرحتم شيئاً اسمه جامعة البنات؟! هل طرح أولئك الذين يصيحون ويقلبون المساكين ممن صدقوهم في هذه الدعاوى الباطلة على جمر الفتن، قلبوا الناس على جمر الفتن جربوا كل شيء معهم، لكنهم يوم أن يذكر جامعة البنات يخنسون ويسكتون ويقولون: لا.
لا يمكن، تريدون جامعة من البواب إلى العميد إلى المديرة إلى العميدة تريدونها بنات، لا.
لا.
لا يمكن أبداً، لنا استعداد نعمل اختلاط ونفصلهم نضع قسم ذكور وقسم إناث، لكن انظروا يعني يوم أن يأتي يوم الكلام عن جامعة البنات يقولون: لا.
لا يضر أن نضع قسماً للبنات وقسماً للذكور حتى يحاولوا إيجاد الاتصال بعد الهوة التي عملوها شيئاً ما للإيقاع بالمرأة من جديد، فمن هنا -أيها الأحبة- نقول: إن الحل في كل ما يتعلق بحاجة الفتاة، وحاجة المرأة، وتخصصات المرأة التي نحتاجها ويحتاجها المجتمع الحل موجود في جامعة البنات، والمشروع موجود، والمشروع مقدم.
نسأل الله أن يرى النور، ونسأل الله أن يبادر به عاجلاً غير آجل، فنحن لا يعجزنا أن نوجد إذا كان عندنا سبع جامعات للذكور، فلن نعجز أن نوجد خمس جامعات للبنات بمن الله وفضله في مختلف التخصصات التي نريدها نحن لن نقول: فلتبق المرأة جاهلة، أو لا نريد أن نعلم المرأة، لكن نقول: فلندرس حاجة المجتمع، ما هي المجالات التي يحتاج المجتمع إلى وظائف نسائية فيها؟ ثم نقدمها في قوالب مشاريع منهجية ودراسات جامعية تتبناها جامعة البنات.
نريد أن نضع منتدى ثقافياً للفتيات، جامعة البنات مسئولة عن هذا المكان، البنات ما دام أن الجامعة من أولها إلى آخرها، من ألفها إلى يائها كلها بسكنها بتدريسها بمعيداتها بمحاضراتها بأستاذاتها بجميع الإداريات فيه بكل دقيق وجليل فيها من النساء، ولن نعجز في هذا، نقول: إذا كان عند الفتيات أنشطة ثقافية، وأنشطة أدبية، وأنشطة فكرية، طبعاً كلها بفضل الله ومنه فيما يخدم هذه البلاد وفكرها ومجتمعها وأمتها، نقول: يمكن أن يوجد في إطار جامعة البنات، لكن أن نفتح لنا نادياً ونقول: العضوية للسيدات مقبولة.
وبعيني مركز المناهل في الحي الدبلوماسي اطلعت على دليل قبول الراغبات في الانتظام فيه، وما الذي يحدث في هذا المركز؟ هذا أمر نحتاج أن نسأل أولاً هل هو مرخص له أم لا؟ فإذا كان مرخصاً، ننتقل إلى السؤال الثاني: ما الذي يحدث في هذا النادي من الأنشطة؟ وهل كل نشاط نسائي مسموح به؟ يعني: يوم أن يكون عندنا جمعية نسائية مرخصة، أو نادٍ نسائي مرخص، هل يعني ذلك أن نعلم بنات المسلمين الرقص؟ هل يعني ذلك أن نعلم بنات المسلمين البالية على الموسيقى؟ وقد حدث، ونقل من نقل أن بعض الفتيات وحتى بعض الأمهات تخرج الواحدة عليها العباءة، وما دون العباءة الله أعلم به، والسائق ينتظرها لكي ينقلها من النادي إلى غير ذلك، مصائب تحتاج إلى بحث وتأمل.
نقول: ليس عندنا ناد للمرأة! لو فتحنا نادياً للمرأة لم يأت بجديد عن الذي تمارسه الفنادق، ومثل مركز هذا النادي أو غيره من المراكز، إذاً لا بد أن نعرف ما الذي يدور في مجتمعنا، ومن حق كل غيور أن يعرف ماذا يدور في مجتمعه، فإن كان الذي يدور أمراً يكون سبباً في حلول النقمة ونزول البلاء وقرب الهلاك وزوال الأمة، فإن مسلماً لا يرضى بهذا على نفسه وأمته، وإن كان الذي يدور خيراً لا شر فيه، أو أمراً لا تعارضه الشريعة، فنقول: الحمد لله.
ومن الآن أقول: لا يجزع الذين يتسترون خلف هذه المواضيع، إن كان عندكم خير فجزاكم الله خيراً، وإن كان عندكم شر فليخرج الشر من جحره حتى ننظر ماذا يفعل، الآن نحن بفضل الله جل وعلا -وقبل الآن، وليس هذا بأمر جديد- في منتهى الوضوح في هذا المجتمع، فلننتبه ماذا يدور وماذا يدار في ثنايا هذا المجتمع.(198/17)
لا يتولى تعليم المرأة إلا من ولي القضاء
نقول: أيها الإخوة! إن الحل موجودٌ في جامعة البنات، ورحم الله سماحة الشيخ/ محمد بن إبراهيم، ونور الله ضريحه، وجمعنا به في الجنة وعلماء المسلمين أجمعين الذي قال، أو كان يوصي، بل بأوامره وتعليماته ألا يتولى تعليم البنات إلا من ولي القضاء، لماذا؟ لأن تعليم البنات تولياً لأعراض المسلمين، المسئول عن تعليم البنات مسئول عن أعراض المسلمين، فلا بد أن يكون هذا المسئول رجلاً يقدر هذه الأمانة الخطرة التي في عنقه، وحتى الآن بفضل الله ونحن نشهد أنه لا يتعاقب على هذا المكان إلا من عرف عنه الخير، أو ظن به الخير، ولكن أقول: لماذا حرص الشيخ محمد على هذا الأمر رحمه الله؟ ما ذاك إلا لأن تعليم المرأة مسألة مطلوبة، ولكن التساهل في ضبطها وتوجيهها وإدارتها ومناهجها أمرٌ خطيرٌ، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيها الأحبة! اعلموا أننا لسنا في الميدان وحدنا، بل نحن في مجتمع فيه الغالبية العظمى من الذين هم يدينون بالولاء لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وفيهم طائفة من الأعداء الذين ظهرت عداوتهم، وفي هذا المجتمع من المنافقين الذين: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] وأحدهم: {َيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] ولو تولى من أمور المسلمين شيئاً لسعى في الأرض فساداً ليهلك الحرث والنسل، فلسنا في الميدان وحدنا، بل في المجتمع من المخربين والمنافقين والعلمانيين من يتربصون بنا وببناتنا وزوجاتنا وأخواتنا الدوائر، فانتبهوا لذلك.(198/18)
سبب ظهور دعوى تحرير المرأة
أيها الإخوة! الدعوة إلى تخريب المرأة، أو ما يسمى بتحرير المرأة دعوة قديمة، ولكن طال صبرهم، نفذ صبرهم وهم ينتظرون متى يأتي الوقت الذي يعلنون فيه، إلى متى ودعاة تخريب المرأة لا يجدون إلا زاوية أو عموداً أو صفحة، أو مجلة، أو مقطعاً أو شيئاً من ذلك؟ يريدون الصراحة، يريدون أن يعرفوا هل الضم إلى حزبهم -حزب الشيطان- حزب العلمانيين والمنافقين خلق كثير؟ فبدءوا يطرحون أوراقهم سافرةً علنيةً، ولكنهم فوجئوا بأن المجتمع يردهم ويقول: ليس هذا مكان هذه الأطروحات، يمكن أن تطرح هذه الدعاوى في أمستردام، يمكن أن تطرح في هايد بارك، تطرح في واشنطن، أما أن تطرح في مجتمع المسلمين، في أرض تجديد العقيدة، في أرض الحرمين، ليس هذا مكانها أبداً، لكن ما الذي حصل؟ العلمانيون المنافقون لاحظوا أن المجتمع في انتشار، الشريط الإسلامي ينتشر بطريقة أرعبتهم وأزعجتهم الكتاب الإسلامي أصبح في كل بيت، وفي كل سيارة، وفي كل بقالة، الشريط الإسلامي أصبح في كل دكان وفي كل مكان، في كل ليلة عشرات المحاضرات، بل مئات المحاضرات على مستوى المملكة الندوات الخطب تفجر الوعي في نفوس الناس، قالوا: القضية قضية سباق، الوعي يسرع إلى أن يحتوي جميع أفراد المجتمع، فلنطرح أوراقنا بسرعة قبل أن يستكمل الوعي بجميع أفراد المجتمع، فكانت الحركة جنونية، ولذلك الذي يلاحظ حركة قيادة المرأة، وما يتعلق بها فيها نوع تهور، وفيها نوع سرعة يعني: حتى التوقيت ما ضبطوه على مقياسهم هم، لأنهم أدركوا أنهم في صراع مع الزمن، المجتمع يلتزم بالمئات بالآلاف، الوعي ينتشر، الناس وإن وقع بعضهم في بعض الذنوب والمعاصي، لكن لا يمكن أن يتنازلوا عن الخصائص والأركان والمبادئ والعقائد، فما الذي حصل؟ قالوا: لا بد أن نسارع في طرح العملية، ولكن حنثت يمينهم فليكفروا إن كان لهم يمين.
ظن العلمانيون، ظن دعاة التخريب، أو دعاة التحرير عند أنفسهم، ظنوا أن المجتمع يمكن أن يجدي فيه نفس الأسلوب الذي أجدى في مصر، حركة تحرير المرأة التي تمت في مصر، وأنصحكم بقراءة كتاب جميل رائع جداً جداً، وهو فصل من كتاب واقعنا المعاصر لـ محمد قطب اسمه قضية تحرير المرأة كيف كان تحرير المرأة في مصر؟ قصة طويلة، لكن هناك ظرف معين، ما هو؟(198/19)
سبب ظهور دعوى تحرير المرأة في مصر
بدأت الدعوى إلى تحرير المرأة في وقت كانت السلطة المصرية ضعيفة، كانت الحكومة المصرية ضعيفة، والمستعمر الإنجليزي كان جاثماً على الصدور، وكان الصف الإسلامي إلى حد ما قليل، وماذا بعد هذا؟ لم يكن الوعي منتشراً في المجتمع على الوجه الكافي، أولئك العلمانيون المنافقون فاتتهم هذه النقطة، قالوا: سنطبق مثلما فعلت هدى شعراوي أمام ميدان التحرير، أمام ثكنة الجيش الإنجليزي، واحدة تمسك الحجاب وترميه، والأخرى تمزقه وتدوسه، ثم يصيحون لا للرجعية، لا للحجاب، لا.
لا إلى غير ذلك، فطبقت حركة شبيهة بهذا النوع ظناً منهم أن ما سرى هناك يسري هنا، ما أشبه الليلة بالبارحة، لكن إذا كانت السلطة المصرية في ذلك الزمن ضعيفة، فنحن عندنا قناعة وبالعشرة نبصم عليها أن السلطة في مجتمعنا قوية -ولله الحمد والمنة- لماذا؟ لأن السلطة تستمد قوتها من التشريع، والبشر يستمدون الانقياد والولاء والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التشريع، فاجتمعت إرادة الأمة مع إرادة السلطة في كتاب واحد، فكونت قوة واحدة، وإذا كان هناك علماني يشك في هذا، فليخرج على منبر ليناقض مبدأ من مبادئ الدولة، أو ليكذب أمراً من هذه الأمور، ولينظر إن علقت رقبته في ساحة العدل أو لا.
نحن نراهن من الآن، إذا كان العلمانيون تجرءوا على هذه القضية في مصر في ذلك الزمن الذين حرروا أو خربوا المرأة في مصر: قاسم أمين، سعد زغلول، هدى شعراوي إلى غيرهم، إذا كانوا استغلوا وضع ضعف السلطة المصرية وانحسار الوعي الإسلامي في ذلك المجتمع، فإن المجتمع عندنا -ولله الحمد والمنة- يشهد قوة، ويشهد تمكناً، وهذا أمر ثابت لا يحتاج إلى إثبات أو دليل، لكن نقول: إذا كان هناك علماني أو منافق يشك بأن السلطة ضعيفة أو عاجزة فليبرز أنفه، أنا مستعد أراهنه إذا ما تعلقت رقبته بمشيئة الله جل وعلا في ساحة العدل أو لا.
لماذا؟ لأننا عندنا قناعة يوافقنا فيها ولاة الأمر، ويوافقنا فيها العلماء أن هذه البلاد، هذه الدولة قامت على كتاب الله وسنة نبيه، فإذا وجد يوماً ما خطأ أو ظاهرة، نقول: لسنا أمة معصومة، لكن مردنا إلى الكتاب وإلى السنة من جديد.(198/20)
قياس مجتمع مصر على مجتمع السعودية عند العلمانيين
العلمانيون هنا أرادوا أن يسلكوا نفس الطريقة، وأن يضعفوا هيبة العلماء وسلطة العلماء حتى يصبح العالم سخرية في نظر الناس، وحتى يصبح طالب العلم أحد المرتزقة الذين يكفيهم قليل من الدنانير والجنيهات ونحو ذلك، لكن في هذا المجتمع لا.
طالب العلم عزيز، تجده يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليل نهار، ولا يريد مزيداً من الراتب أو المال، أو بل بالساعات أو إضافي أو احتياطي، الناس تخدم هذا الدين بعيونها، تخدم هذه الأمة بمقلها، تخدم هذا المتجمع بأرواحها، فإذا كان وضع المجتمع المصري في زمن اهتزت فيه صورة العلم والعلماء، فإننا الآن -ولله الحمد والمنة- نشهد التفافاً حول العلماء، ووحدة بين العلماء وولاة الأمر ما شهد لها التاريخ مثيلاً بفضل الله جل وعلا، فإذا كنا على هذا الأمر، ونعرف أن هذا من مصادر القوة والعزة والثقة والطمأنينة.(198/21)
عليكم بالوقوف ضد العلمانيين
أوصيكم -يا شباب الصحوة! - أوصيكم يا رجال الصحوة! أوصيكم يا معاشر المسلمين في هذا البلد أن تلتفوا حول علمائكم، الالتفاف حول العلماء هو أكبر سد منيع أمام العلمانيين، لأن الناس إذا طلبوا من العالم وولي الأمر أن يحاكم العلماني الذي خالف، لا يجد العلماني محيداً من أن يقدم رقبته ذليلة أمام المحكمة ليسمع حكم الله عليه.
وأقترح بل وأطالب إذا وجد دكتور -مثلاً- وأخذ يستهتر بالقرآن، أو يقول: القرآن متناقض، أو وجد من يتهجم على السنة الصحيحة، أو وجد من يحاول أن يشكك في الأمة، ما هو المانع من أن تلغى شهادة الدكتوراه؟(198/22)
القضاة ودورهم في الوقوف أمام العلمانيين
إذا كان هناك رجل أنفقت عليه الدولة سنوات طويلة، وأخيراً جاءنا بشهادة يشكك المجتمع في عقائده وخصائصه وأركانه وأصوله، فلا بارك الله في شهادةٍ جاءت بهذا الأمر، الأمر سهل، تلغى هذه الشهادة، ويعمم على هذا الرجل، إلا إذا كان والله يريد أن يلقى له وظيفة في الشيطان الرجيم، أو في أي جهة، يذهب يبحث له عن وظيفة، أما أن يستهزئ بالقرآن، أو يستهزئ بالسنة، لو وجد هذا، أو أن يبدأ ويقول كلاماً فيه استهزاء، أو يشكك في الدين أو في السنة أو في القرآن، فما هو المانع من إلغاء شهادته؟ شهادة لا تصلح بالتدريس، بل بحكم الشهادات التي اشتريت شراءً، لأن العلم ليس شهادات، العلم أمرٌ ينبني على عقيدة، وعلى فكر يثمر سلوكاً، وينتج برنامجاً، ينتج مشروعاً يساهم في حفظ الأمة والمجتمع، وتحقيق أهداف الدولة، هذا معنى الشهادة، أو أن الشهادة مجرد أنك تبدأ تتحدث في كل منبر وتتكلم كيفما يحلو لك، لا.
هذا أمر مرفوض ولا يجوز، وأظن أن هذا ممكن بكل سهولة يوم أن يتجرأ أحد المنافقين أو العلمانيين على أمر من أمور الشريعة، فحينما يطالب الناس من علمائهم وولاة أمرهم أن يحال هذا الذي تعدى على الدين أو على الشريعة أو على القرآن أن يحال إلى المحكمة الشرعية، أظن من حق المحكمة الشريعة أن تحكم بما تراه، إذا كان القاضي له حق التعزير ولو بالقتل، أظنه بكل سهولة يستطيع أن يعزر بإلغاء الشهادة التي حصلت عليها، وإن عشت في متشقن، أو كلورادو، أو في فنزويلا، أو في سان فرانسيسكو عشر سنين من أجل هذه الشهادة، بكل سهولة نستطيع أن نلغي هذه الشهادة بحكم شرعي، ومن هنا أركز على القضاة وأقول: ينبغي أن نعتني بقضاتنا، وأن نلتف حول قضاتنا مع التفافنا بعلمائنا وولاة أمرنا؛ لأن القضاء مسئوليتان: مسئولية قضائية للفصل بين الناس فيما يحصل بينهم من نزاع.
ومسئولية ولائية، يعني: القضاة هم نواب الإمام في ولايات عديدة مثال ذلك: الأموال التي لا وصية عليها، لا يمكن أن يتصرف الوصي بدون نظر القاضي في مشاركته، المرأة التي لا ولي لها يزوجها القاضي، أمور كثيرة القاضي يتولاها، فمصالح المجتمع القضاة من أهم من يعنون بها، وهم مسئولون عنها أمام الله، فينبغي أن نوصل ونبين ونبرز ونعلن ونخبر القضاة بما يحدث، وبما يدور في هذا المجتمع ليتولى كل واحد منهم مسئوليته.
أيها الأحبة! تقول واحدة من اللائي شاركن في تلك المظاهرة: والله لو علمنا أن الأمر سيحدث إلى ما آل إليه، أو أن المجتمع سيضج هذه الضجة ما توجهنا.
إي والله، يعني: ظنوها غضبة ساعة وتنتهي، لكن سبحان الله العلي العظيم!
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببٌ ما بعده سبب
يقول أحد الذين كانوا يخالطون بعض العلمانيين ويعرفونهم بأسمائهم أو بسيماهم، ويعرفون عنهم فيما سبق من حياتهم، يقول: سبحان الله! هؤلاء تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، يجلس ثلاثة يتحدثون، فيقوم واحد، فيبقى اثنان يلعنان الذي خرج، والله يا إخوان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] هؤلاء كيدهم كيد شيطان، وكيد الشيطان ضعيف، هؤلاء أحقر من أن ينالوا المنزلة والمكانة، ولذلك انظروا عدد البرقيات والاحتجاجات التي بلغت حتى المساجين في السجن أبرقوا برقية، ومعهد النور الذي يتكلم فيه المكفوفون الذين ما يرون النساء أبرقوا برقية، ومع ذلك من الذي أبرق تأييداً لهذا الأمر؟ ربما لا يتجاوزون ثلاثة أو أربعة، أما الذين قالوا: خمسين ألف برقية، مائة وسبعين ألف برقية، فكل هذا ليس بصحيح أبداً.
نعم يوجد من أيد، لكن يدخل الحمام ويرفع صوته ويقول: نعم لقيادة المرأة، نعم نعم، ويبرد عن قلبه قليلاً في الحمام ويخرج، لا سبيل له أن يعبر عن رأيه إلا في المنبر الحر الخاص به وهو الحمام، أما غير ذلك لا يستطيع أن يؤيد، يؤيد أين؟ فعلى أية حال -أيها الأحبة- أقول لكم: إن بعض الفتيات من اللائي خرجن أو شاركن -والله- مغررٌ بهن، ومن هنا حينما نسأل الله لهن الهداية، فإننا نسأل الله الهداية اللائي الذي غرر بهن، أولئك الضعيفات المسكينات اللائي ظنن أن الأمر مسألة قيادة سيارة وانتهين، في عدد منهن غرر بهن، وبعض اللاتي يعلمن بهذا الأمر مغررٌ بهن أيضاً، لكن مجموعة شياطين، أو رءوس مدبرة أو مفكرة، هؤلاء إن علم الله فيهم شراً وفساداً على أهلهم وآبائهم وأمهاتهم وذرياتهم ومجتمعهم، فنسأل الله أن يأخذهم عاجلاً غير آجل، وكما قلت لكم: أولئك العلمانيون المندسون المتسللون أولئك أصبح الآن بعضهم يلبس ثوب الإسلام، ويتحدث باسم الإسلام، وبعضهم ظل يحاول أن يثبت أنه يصلي مع الجماعة، وبعضهم يعني: ضربهم الخوف والرعب بفضل الله جل وعلا.
فيا معاشر الشباب: نحمد الله على هذه الحال التي ألفت هذا المجتمع رب ضارة نافعة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
أيها الأحبة! حقاً إن أولئك الذين يسمون دعاة التحرير إنهم لا يريدون حرية المرأة، ولكن يريدون الهاوية والمصيبة والحضيض للمرأة.(198/23)
نداء للشباب من أجل التعاون مع العلماء
قبل أن أختم: أيها الإخوة! من خلال متابعاتي لبعض ما يكتب، وبعض ما ينشر من الكتابات يظهر لي أن بعضاً من العلمانيين يملك سكرتارية متكاملة في الشئون الاقتصادية، وفي الشئون السياسية، وفي الشئون الاجتماعية، فلا يعقل أن رجلاً يستطيع أن يكتب كتابات بهذا العمق وبهذا المستوى من تلقاء نفسه، لا بد أن يكون له سكرتارية تتابع الأخبار أول بأول، وتعد له المعلومات وتحضر كل شيء، وما عليه إلا أن ينزل المقال باسمه سواءً في مجلة أجنبية، أو في إذاعة خارجية، أو غير ذلك.
لكن أقول: أيها الأحبة! نحن بحاجة إلى سكرتارية، علماؤنا بحاجة إلى سكرتارية، وأنتم سكرتارية العلماء، أنتم المكتب الإداري لعلمائكم ولقضاتكم ولولاة أمركم، فأنتم -يا شباب الصحوة- فيكم من عنده الوعي السياسي، والوعي الاقتصادي، والوعي الاجتماعي، ومنكم من يجيد اللغة الإنجليزية، فأرجو من كل واحدٍ منكم أن يعتبر نفسه سكرتيراً أولاً لسماحة الشيخ/ ابن باز متع الله به، ولا أظن واحداً منكم يحرم نفسه هذا الشرف أن يكون خادماً لهذا الشيخ، لا والله، بل إنه غاية الشرف أن نعين سماحة والدنا على ما يمكن أن نقدم له من حصر واستقصاء ورصد ومتابعة بدقة كافية لكي نقدم بين يدي سماحته وبين يدي علمائنا، وكذلك لولاة أمرنا، نحن أيضاً سكرتارية لولاة الأمر، لكي نقدم كل شيء فيما هو خطرٌ قد يخل بأمن المجتمع، ولا حول ولا قوة إلا بالله! المطلوب منكم -أيها الإخوة- أن تتابعوا من يظن فيهم الانحراف الفكري أو من عرفوا بذلك، نريد منكم أن تعتنوا برصد المقالات السابقة، يعني مثلاً: إذا أحد اشترى مجلة كذا، أو جريدة كذا، يشتري مجلداتها، ويتخصص في كتابات الكاتب الفلاني، ويبدأ يتفرغ لها، ويقرأها سطراً سطراً، واجمعوا زلاته من أول ما كتب إلى يومنا هذا، حتى إذا تكلم الأغيار، وقالوا: إن الدكتور الفلاني، أو الاستاذ الفلاني، أو السمكري الفلاني، أو البنشري الفلاني، ما هناك مشكلة، أن فلان بن فلان عنده من الأفكار كذا وكذا، نقول لعلمائنا: وهذه البينة، في مجلة كذا، يوم كذا وكذا نشر هذا المقال، وهذا المقال موجود، الجرائد لا تنسى شيئاً، والمحلات لا تضيع شيئاً.
على أية حال هي سجل يحفظ، وما كانوا يوماً ما يظنون أن كتاباتهم ستشهد عليهم وستدينهم، لذلك أقول: يا شباب! من عرف بعدواته للصحوة، وعداوته للأمة، وحقده على المجتمع، فمن واجبكم البحث، هذا الرجل أين يكتب؟ في أي مجلة؟ والله عرفنا أنه يكتب في مجلة كذا وكذا، فليتقاسم الشباب هذه المجلة، وليطلبوها من المجلدات القديمة، من بداية كتابته في تلك المجلة، أو الجريدة إلى يومنا هذا، وليجمعوا مقالاته مقالاً مقالاً، وليرصدوها وليحللوها، وليقدموا بها تقريراً لأمير المنطقة، لولي الأمر، ولسماحة الوالد الشيخ وللعلماء والقضاة، حينئذٍ -يا إخوان- والله لا يجرأ علماني أن يمسك القلم إلا سقط القلم عشر مرات، يعني: يستأجر عاملاً يمسك القلم في يده من أجل أن يكتب، إذا علم أن وراءه من يرصد الحرف والكتابة.
أكبر دليل على أنهم كانوا يعتقدون أن المجتمع مجتمع غبي وجاهل وساذج كتاباتهم في الحداثة، كتابات الحداثيين التي بلغت حد الشرك والإلحاد، ما كانوا يظنون أن أحداً يوماً ما سيخرجها بأكملها ويعرضها بين يديهم حتى قالوا: يا ويلنا من جمع هذا عنا كله؟ لكن فليعلم العلمانيون أن المجتمع فيه من يرصد هذه الحركة، والعودة إلى سجلات التاريخ من الوثائق والمقالات والبرامج وغيرها التي تخرج أفكارهم جميعاً، هذا واجبكم يا سكرتارية الأمة، يا سكرتارية ولاة الأمر والعلماء، وهذا أمر مطلوب منكم.(198/24)
دور الصالحات في تبيين الهدف من دعوة التحرير
كذلك أقول: وما دامت القضية قضية الأخت المسلمة، وقضية المرأة المسلمة، أقول: لا بد للأخوات المسلمات من مشاركات نشطة وفعالة وجيدة، لا بد أن تتخصص الأخوات الداعيات وبناتنا وزوجاتنا وأمهاتنا وأخواتنا ممن يقدرن على رصد هذا الفكر، والقراءة فيه، والخروج بنتيجة حول هذا الموضوع، لا بد أن تعد الواحدة منهن تقريراً جيداً، ومادة جيدة لتكون محاضرة أو موضوعاً، فتزور هذه الثانوية، وتلقي على البنات ماذا يراد بالمرأة، وتزور الجامعة الفلانية وتلقي، هذه مسئولية الأخوات الداعيات.
لا بد لكل واحدة أن تجتهد، وأن تجمع كتيبات وأشرطة ومقالات فيما يتعلق ببيان فضيحة العلمانيين والمنافقين في دعوى تحرير أو (تخريب) المرأة، وكيف خربت المرأة في مصر، وكيف يراد تخريبها عن طريق الأندية الرياضية مثلاً، أو عن طريق الجمعيات، أو عن طريق مجالات معينة، أو الدخول في أمور لا تليق ولا تناسبها، هذا واجب الأخت المسلمة أن تعتني به، وأن تعرف دورها، وأن تقوم به على أتم وجه وأحسن حال.(198/25)
سبب التحدث عن العلمانيين
ختاماً: لماذا الكلام عن العلمانيين؟ لماذا الكلام عن المنافقين؟ لماذا نصيح ونقول: تباً يا دعاة التحرير؟ تباً يا دعاة التخريب، مهلاً يا دعاة التخريب، لماذا نقول ذلك؟ نقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] كل هذا الأمر من أجل ألا تصيب الأمة فتنة من الفتن، أو غاشية من عذاب الله، أو أن يسلط الله جنداً من جنده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
تقول عائشة: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
-تهلكون وفيكم من يقوم الليل، ومن يصوم الإثنين والخميس، ومن يتصدق-نعم.
إذا كثر الخبث) إذا كثر الخبث تهلكون ويهلك الصالح والطالح، وإذا غرقت سفينة المجتمع، يغرق فيها الأخيار والأشرار والأبرار والفجار: (إذا كثر الخبث) متى يكثر الخبث؟ إذا خرجت المرأة عن طورها، وعن دورها، وعن طبيعتها، وعن مهمتها، وعن مسئوليتها، فسحقاً وتباً وبعداً يا دعاة التخريب لستم دعاة التحرير.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا واسمك الأعظم؛ أن تفضحهم على رءوس الخلائق، اللهم افضحهم على رءوس الخلائق، اللهم افضحهم على رءوس الخلائق، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، اللهم ما علمت فيهم فجراً وحقداً على ولاة أمرنا وعلمائنا وأمتنا ومجتمعنا، اللهم اجعل سلاحهم في صدورهم، واجعل كيدهم في نحورهم، وأدر دائرة السوء على رءوسهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم سلط عليهم جندك يا من لا يعلم جنده إلا هو.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(198/26)
الأسئلة(198/27)
قياس تعليم المرأة على قضية قيادتها للسيارة
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
استبشرنا أخيراً عندما علمنا أن الفاسقات اللاتي خرجن قد فصلن من أعمالهن، إلا أننا وهذا اليوم يوم الأربعاء الموافق 18/ 5 قد فوجئنا بنزول جداول مواد للفصل الدراسي الثاني في جامعة الملك سعود واسم المذكورات موجود أمام مواد سيقمن بتدريسهن لفتياتنا أحببنا إحاطة فضيلتكم للعمل بما تستطيعون به، والله يحفظكم ويرعاكم.
السؤال
في جريدة ما كتب مقال عن قيادة المرأة للسيارة، وأنها سوف تقود السيارة في المستقبل، لأنه سبق أن عرض كل من التليفزيون ودراسة المرأة، وفي الأخير درست المرأة، واشتغلت في التليفزيون وما إلى ذلك، فما هو ردنا على هؤلاء، نرجو توضيح الأمر وفقكم الله؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: أما مسألة أنه نزل أسماء بعض اللائي قمن بإدارة أو تدبير أو المشاركة في هذه المظاهرة، فأعدكم بمن الله أن أبلغ أمير الرياض حفظه الله بهذا، وأن نبلغ سماحة الشيخ بهذا الأمر لمتابعته، ولنا فيهم بعد الله وطيد الثقة والأمل.
وأما ما يتعلق بأن كاتباً ما كتب في جريدة ما بشرق أوسطٍ ما، لأنه المسألة معروفة يعني، كتب وقال: إن قضية قيادة المرأة قضية يحسمها الزمن، مثلها مثل قضية تعليم المرأة، ومثل مسألة البرقية وهلم جراً، الحاصل أيها الإخوة قبل أن نأتي إلى بيت القصيد قضية تعليم المرأة من الذي عارضه في المجتمع؟ عدد محدود وبسيط جداً جداً في مناطق أيضاً محدودة وبسيطة جداً، ولا شك أيضاً أن نوع المعارضة لم يكن على فكرة تنوير المرأة، ورفع الجهل عنها، وإلا كان ربما لعدم وضوح المنهج في تعليم المرأة، فهل تقاس قضية عارض فيها اثنان في المائة بقضية عارض فيها ثمانية وتسعون بالمائة؟ هل يقاس تعليم المرأة بقيادة المرأة؟ هل يقاس رفع الجهل عن المرأة بجر المرأة إلى الهاوية والإباحية والمصيبة؟ لا والله، إذاً فالذين يقولون: القضية قضية زمن، أولئك يبدو أنهم أجهل من أن يقدروا النسب المئوية في الحوادث أو الأحداث، هذه مسألة.
المسألة الثانية: أن سمو وزير الداخلية الأمير/ نايف بن عبد العزيز حفظه الله، قولوا آمين، نسأل الله أن يحفظه وإخوانه وأعوانه، وأن يصلح بطانتهم، وأن يجمع شملهم على كتاب الله وسنة نبيه، صرح تصريحاً رائعاً جميلاً في نادي مكة الأدبي، بأن هذا الحدث مرفوض شرعاً وعقلاً ونظاماً، وبيَّن موقف الدولة -منَّ الله عليها ووفقها- في هذه القضية، (قطعت جهيزة قول كل خطيب) هذا التصريح من مصدر مسئول يقطع الحديث في هذا الموضوع نهائياً، ولكن نفاجأ أن صاحب المقال يقول: إن القضية لم تنته بعد، وإنها قابلة للحوار في المظلة القادمة، فمن هو الذي يتحدث باسم الدولة؟ هل هو سمو الأمير أم هذا الرجل؟ لا شك أنه سمو الأمير حفظه الله.
إذاً نعرف من هنا أن هذا تطاول، ولكن لنا في المسئولين الثقة بعد الله جل وعلا في أن يعالج هذا الأمر، أو يتناول هذا الأمر بالأسلوب الرادع المناسب.(198/28)
قضية التطوع للبنات في التمريض
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ: ما موقفنا تجاه التطوع للبنات في التمريض؟
الجواب
والله يا إخوان لا أحد يعارض أن المرأة تتعلم شيئاً ينفعها وينفع أولادها وبيتها وبناتها إلى غير ذلك، ولكن -يا إخواني- الأمر عجيب جداً جداً جداً! سنوات طويلة والناس تنتظر تجنيد الرجال وتدريب الرجال، وخرج الأمر بعد دراسة طويلة متأنية، وفجأة يدرس وينفذ مسألة التمريض في لحظات ودقائق، فنريد أن نسأل: ما الفارق بين هذا وهذا؟ هذه مسألة.
المسألة الثانية: إذا كان التمريض المطلوب لكي تتعلم المرأة ما يناسب عنايتها ببناتها وأولادها، وزوجها وأهلها، فإن لهذه الدورات مكانها المناسب، لا تقام في مكان يختلط فيه الغادي والرائح والذاهب والآيب، لا يجوز -يا إخوان- بدعوى أن نعلم المرأة كيف تسعف ولدها وبنتها، أن نجعلها تختلط بالرجال في الطوابير وتدخل على المرضى الرجال، فموقفنا من هذه الرفض، ولا نقبلها، ولا يقبلها كل غيور على بنته وزوجته وأهله إلا حينما تقوم مثلاً في ظل جامعة البنات، أو في ظل مستشفى نسائي كامل (100%)، وتكون هناك دورات لتعرف المرأة الإسعاف الأولي لأطفالها وأولادها، والذي يتولى الأمر من بدايته إلى نهايته نساء، ولا ترى الرجال، ولا يراها الرجال، ففي هذا خير عظيم، وما سوى ذلك فالباب مفتوح للعلاقات المشبوهة من خلال هذه القضية.(198/29)
وجود نادٍ فيه اختلاط في المملكة
السؤال
يقول السائل: نعم يوجد نادٍ فيه اختلاط ويوجد فيه أنواع من الرياضة ومنها السباحة والتنس وما إلى ذلك في الحي الدبلوماسي، ماذا يجب علينا وفقكم الله؟
الجواب
في الحقيقة أنا بلغني هذا، وما قلت الكلام لكم عن الحي الدبلوماسي جزافاً، ولكن أقول: أريد مزيداً من المعلومات، وأريد مزيداً من الوثائق والبيانات، حتى حينما نضع أمراً بين يدي المسئولين وولاة الأمر والعلماء حفظهم الله، يكون الأمر موثقاً محققاً متأكداً منه، لأنه بسهولة تسمع الكلام في أي مجلس، والذي بلغني أيضاً ليس فقط بلاغ شخصي مجرد، بل أيضاً وصلني الجدول، أو دليل الاشتراك في هذا النادي، لكن أيضاً أريد مزيداً من الشواهد والأدلة، وهذا واجبكم أن تساعدونا لنحفظ مجتمعنا متعاونين جميعاً في إطار واحد.(198/30)
قيادة المرأة للجمل ليست كقيادتها للسيارة
السؤال
لقد أذاعت إذاعة غربية في صحيفة غربية على لسان كاتب يقول الكاتب: أليست المرأة كانت تقود الجمل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فما المانع في قيادة السيارة لها هذه الأيام، لأن السيارة حلت محل الجمل، نرجو توضيح هذه الشبهة وفقكم الله؟
الجواب
الفرق أن الجمل ما له دركسون والسيارة لها دركسون، يا إخوان أريد أن نفهم وأن نعلم أن القضية ليست ركوب امرأة على مقود قيادة، نريد أن نفقه وأن نعرف أن العلمانيين المنافقين ضعفاء العقول المغرر بهم يظنون أن النزال والنزاع في هذه القضية هو قضية هل يجوز للمرأة أن تدق إشارة وتلف يمين و (تفرمل) و (تعشق) أو لا؟ ليس هذا محل النقاش في القضية، القضية أبعد من هذا كله، يوم أن تركب المرأة السيارة وتقودها خذوا على هذا طرفة: إذا امرأة تخاصمت مع زوجها، والله ما يلحقها في الخط الدائري، لا نزال في بداية المصارعة، في بداية النقاش لحظات والملابس عند الباب: هيا اذهب بي إلى عند أهلي، فما بالك إذا قادت السيارة، أقول هذا على سبيل الدعابة، لكن إذا قادت المرأة وقطعت الإشارة فيصدر تعميم يسمح لكل امرأة أن تقطع الإشارة ولا تحاسب، وإلا فضروري أن يوقفها الشرطي ليسألها: الرخصة الله يصلحك، الاستمارة الله يمتع بك، ما هذا الكلام؟ والمرأة تتأخر عن البيت إلى العصر، أين كنت؟ أين الغداء؟ تقول: والله بنشر الكفر، ما الذي صار؟ والله خبطت، حدوها الشباب وطلعوها على الخط.
يا إخوان! الله جل وعلا الذي شرع بحكمة يعلمها، ولطف قدَّره، وعلم يراه جل وعلا {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] كل هذه الآيات هل توافق قيادة المرأة، وإلا تخالفها؟ لا شك أنها تخالفها، إذاً فهل ننقاد لجر المرأة إلى الهاوية بدعوى أن المرأة كانت تركب البعير، لها أن تركب السيارة، ونحن الذين نذهب بها، ونحن الذين نقضي حاجتها، ونحن الذين نذهب ونجيء لأجل مصلحتها، نجعلها تتسوق بصحبتنا فيما تحتاج إليه، ولا بد من تناوله بيدها وما يتعلق بذلك، لكن إذا قادت السيارة وخرجت لوحدها حتى ينفرد بها من ينفرد في أطراف المدينة، أو يخالطها من يخالطها في أي مكان، من أين يحصل للمرأة العفة والحياء وغض البصر؟ وإلا سوف تسوق السيارة وهي مطأطئة رأسها في غض البصر، لا يمكن أن تعقل هذه المسائل كلها، فالذين يقولون: قياس قيادة المرأة على ركوب الجمل، الجمل قضية ركوب وليست قيادة، الجمل وسيلة لنقل المرأة، فنحن ما منعنا المرأة تركب في السيارة مع محرمها، أو حينما لا تكون الخلوة في قضاء حاجتها، ما هناك مانع أن المرأة تركب، لكن أن تقود هي في مجتمع الأعين فيه شاردة، والنظرات جائعة، والمرأة ضعيفة، والأخطار كامنة، ونقول: المرأة قادت الجمل، فلماذا لا تقود السيارة؟! أظن أن هذا قياس غبي مع الفارق.(198/31)
الجمعيات النسائية قد تكون أوكاراً للفساد
السؤال
نعلم علم اليقين أن الجمعيات النسائية لها دور كبير فيما حصل، ففي الرياض جمعيتان هما: جمعية الوفاء، وجمعية النهضة، فنرجو أن توضحوا ذلك الدور، كذلك ما رأي فضيلتكم في دخول الفتيات المستقيمات فيها ومعرفة ما يدور فيها، نرجو توضيح الأمر وفقكم الله؟
الجواب
أيها الإخوة! الجمعيات النسائية إما أن تكون خيراً، وإما أن تكون شراً، وللأسف إن كان زمام المبادرة في بعضها قد أخذه من لا ينتظر منه الخير، أو من لم يظهر منه الخير حتى الآن، اللهم إلا بعض الأمور التي لا تشجع على الثناء أو الثقة، لكن أنا بالنسبة لي محدود الاطلاع فيما يتعلق بالجمعيات النسائية، وإن كان حد علمي ينتهي إلى أنها أوكار وأماكن لتوجيه بعض النساء في أمور لا توافق ولا تناسب طبيعة هذا المجتمع المسلم بما يخدم اتباعه لكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل فيما لا يعين على التمسك، لكن أرجو ممن عنده معلومات وافية وجيدة عن جمعية النهضة وجمعية الوفاء، جمعية كذا، أرجو أن يعتني بجمع ما يسر الله له، وأن يزودني بهذا فأدعو له، وجزاه الله خير الجزاء.(198/32)
وقفة مع مسرح الطائف، ومع رجل يدرس الطالبات مشافهة دون حاجز
السؤال
هل لك من كلمة حول ما يحصل في مسرح الطائف للتمثيل خاصة وفيه اختلاط، أو ما يشتكين منه طالبات جامعة الملك فيصل بـ الدمام، وهو تدريس الرجل للطالبة مشافهة دون حاجز؟
الجواب
يا إخوان! هذه وقاحة وكسر للحياء، كان الأولى بهذا المدرس أن يكون مأموناً على أعراض بناتنا وأخواتنا، فلا يرضى بهذا، وبإمكانه أن يحقق ما يريد بوسيلة أخرى، وما وقفت مصيبة المجتمع على هذا الفصل أو على هذه المادة حتى نكون أو لا نكون بسبب هذه المادة، ولكن هذا مما يدل على أن هناك إصراراً وتحدياً، ولا يزال أملنا في جامعة البنات حلاً لهذه المشكلة.
لقد سئلت عن هذا الكلام في الأحساء من طالبات جامعة الملك فيصل، وقالوا: إن هناك أحياناً يحصل مدرس، وربما هذا المدرس يتكلم بأمر لا يليق، فقلت: ينبغي للطالبات أن يخرجن من الفصل جميعاً، وأن يذهبن إلى العميدة أو إلى المسئولة، فإن لم يجدوا امرأة مسئولة أو قاضياً أو عالماً من العلماء يرفع إليه الأمر، فليرفعوا مسئوليتهم، أو شكايتهم إلى أمير المنطقة أو إلى وزير الداخلية، أو إلى خادم الحرمين حفظه الله، أما المرأة تجلس والدكتور يكلمها ويشافهها هذا أيضاً أمر غير مقبول، من واجبها أن تترك القاعة لكي يشرح للماسات والكراسي والجدران، وحينئذٍ يشعر المدرس أنه منبوذ، فإن لم يكن في قلبه غيرة لكي يحترم هؤلاء البنات، فإن البنات في أنفسهن غيرة على أعراضهن وأنفسهن، فيخرجن ويتركن له القاعة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.(198/33)
سحب بعض الصلاحيات على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
يقول السائل: -طبعاً ممكن ألا نوافقه على هذا- أحداث الخليج استفاد العلمانيون منها بمشروعهم السخيف وهو تخريب المرأة، وأنتم أيها الدعاة -على حد قوله- لم تستغلوا الوضع وتطالبوا بإزالة أكثر المنكرات الشائعة، بل سحب البساط من تحت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم هذا؟
الجواب
أيها الأحبة! هذا مما نرجو الله جل وعلا أن يسدد خطى العلماء وولاة الأمر فيه، لأنه بدأت فيه خطى طيبة بعد اجتماعات مباركة بمن الله وفضله وتوفيقه، ونحن على أمل قريب أن نسمع باب التطوع في الهيئات قد فتح على مصاريعه، ومن أراد أن يتطوع في الهيئة كما أن التطوع حاصل في التمريض، وكما أن التطوع حاصل في الدفاع المدني، وكما أن التطوع حاصل في الجيش، فيفتح التطوع في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قريباً نحن على أمل أن نخرج هذا المشروع، ولنا ثقة بالله أن يتحقق هذا الأمر قريباً.
وأما مسألة سحب الصلاحيات، ففي الحقيقة والله يا إخوان كانت الهيئة قد وفرت على رجال الأمن وضباط الأمن جهداً كبيراً في وقتهم وفي فكرهم وانشغالهم، يعني: كانت قضية الاختلاء المحرم، وقضية التحقيق في بعض المسائل، وأمور كانت الهيئة تقوم بها، فتجد رجل الأمن أو الضابط مفرغاً لقضايا القتل لقضايا الاختطاف لقضايا الاغتيال لقضايا السرقة تحتاج إلى متابعة وطول نفس، فإذا أشغلنا رجال الأمن بصغار القضايا مع كبارها، ماذا يبقى عندهم؟ ولذلك فإن الحاجة ماسة إلى عودة التحقيق والصلاحيات للهيئات، وهذا ما ننتظره ونطالب به عاجلاً غير آجل.(198/34)
ليس الحكم الشرعي إلغاء شهادة المستهزئ بالدين بل القتل
السؤال
ذكرت في حديثك أن الدكتور إذا نادى أو شكك في القرآن، فتسحب شهادة الدكتوراه منه، وقد يفهم أن هذا الحكم الشرعي؟
الجواب
لا شك أن من شكك في حرف من كلام الله، أو فيما هو ثابت من سنة رسول الله، فهذه ردة، وحكم المرتد أن يقتل، لكن أقول: إلى جانب هذا، ليعرف كل من يجرؤ على الكلام، أو التلميح من قريب أو بعيد في مسائل تتعلق بالشريعة حسمت شرعاً أن الشهادة تسحب منه يوماً من الأيام، ما عاد هناك رخصة عمل، مثل: العامل الذي يبحث له عن عمل.
يقول له: أخرج الرخصة، هل معك رخصة؟ أو هذا الجدار يبنيه غيرك، لا تبنيه أنت، وأما الحد الشرعي، فأنا أوافقك ولم أقصد أن الحد الشرعي مجرد فصله من وظيفته، بل الحد الشرعي في من استهزأ أو شكك في الثابت من القرآن، والثابت من السنة، فلا شك أن هذا حده القتل، لأن هذا الفعل خروج ومروق من الملة وردة تستحق القتل، وكما قلت: إن ظن العلمانيون أن الدولة ضعيفة، فأنا على ثقة أن من حرك أنفه فإن الدولة لن تسمح بتسلط الفوضى في هذا المجتمع، لا سيما ونحن بمن الله جل وعلا يد واحدة من ولاة الأمر والقضاة والعلماء وشباب الصحوة ورجال المجتمع، لأننا نشم أن سيتسلل في صفوف المتحمسين أو في صفوف الطيبين من يظن به الحماس، والحماس لا بد أن يكون معروفاً ومنضبطاً، ولذلك يسرني هذا العنوان الذي سمعته لفضيلة الشيخ/ عبد الوهاب الطريري (الحماس الذي نريده) أقول: يا شباب! فلنركز جيداً على أننا أمة واحدة ومجتمع واحد، ولا نسمح بالتصرفات الفوضوية كما نوهت عن قضية المنشورات كتصرف فردي، وليس الذي كتب المنشور من الطيبين والملتزمين ابتداءً، نعم.
قد يوجد من يظن أنه قد يخدم الإسلام عندما يصور عشر أوراق أو عشرين ورقة، وقلنا: لا.
وليس بدليل شرعي، وليس الاستحسان بدليل على مثل هذا الأمر.
رام نفعاً فضر من غير قصدٍ ومن البر ما يكون عقوقاً
لكن أقول: مع جرأتنا في الحق قوة في الصلة بالولاة والعلماء والقضاة لكيلا نسمح لأحد أن يتنفذ في صفوفنا بأي حال من الأحوال، وأحذركم -يا شباب وانقلوها عني في كل مجلس- أحذركم ممن قد يتزيا بزي يظن أنه رسمي، أو ينتحل شخصية رسمية، ليدعي أنه رجل مفوض، انتبهوا جيداً، إذا طلبت، أو إذا أردت أن تقدم شيئاً، فمبنى الإفتاء ومبنى الإمارة والجهات الرسمية واضحة شامخة، فلا يجرك أحد يقودك إلى أمر لا تعلمه أنت، إذا أردت شيئاً، فاذهب إلى هذه البوابات المفتوحة ليكن عملك صريحاً واضحاً.
يقول ابن مسعود: [إذا رأيت الناس يتسارون في أمر دينهم، فاعلم أنهم على دسيسة] لماذا؟ لأن أمور الدين أمور مبنية على الصدق والجهر بالحق والنطق والصراحة، أخشى من إنسان نظن أن مقاسنا فيه مقياس شكلي أو ظاهري، وقد نرى فيه نوعاً من التهور، أو نوعاً من الغلظة، فنظن أن هذا أخلصنا وأعلمنا، وأحقنا وأغيرنا على مجتمعنا، لا.
لن نسيء الظن بالضرورة، لكن لن ننقاد بما يريد، قبل أن ننفذ شيئاً يراد منا لا بد أن نراجع سماحة الشيخ، نراجع علماءنا، نراجع قضاتنا، نراجع ولاة أمرنا، فنعرف هل نحن في خطىً واضحة بينة، أو لا؟ وأظن الإخوان فهموا ما أقصد جيداً.(198/35)
نبذة عن نشأة العلمانية
السؤال
حبذا لو أعطيتنا فكرة عن العلمانية من حيث المذهب والمكان؟
الجواب
أصل العلمانية والمنشأ، فلا شك أنها نتجت وليدةً، أو بصفتها ثورة على تسلط الكنيسة على المجتمع، حيث إن المجتمع عانى ألواناً من القهر والطغيان الكنسي، صكوك الغفران، التركات للكنيسة فيها نصيب، لا يغفر لأحدٍ ذنبه إلا بإذن الراهب، والراهب لا بد له من أجرة، لا يعقد نكاح إلا وللراهب فيه أجرة، لا يحصل شيء تباركه الكنيسة إلا والكنيسة لها فيه أجرة، وأصبحت المسألة طغيانٌ كنسيٌ، ومنعت الكنيسة الناس من أن يتنوروا بالعلوم التطبيقية والتجريبية، فثار الناس ضدها، وقالوا: لنجعل الكنيسة في جانب معين، ولنجعل أمور الحياة وأمور العلم لكافة مجالات الحياة.
من هنا نشأت العلمانية أي: فصل العلم عن الدين، وفصل الدين عن الحياة، وجعل الدين في طقوس معينة، هذه صفة منشئها، ومن عرف صفة المنشأ، أو كيفية النشوء، أدرك جيداً أن العلمانية تعني ألا يتدخل الدين في أمر الحياة أبداً، حينما نتكلم عن الاقتصاد في الإسلام، يقول لك: ما الاقتصاد في الإسلام؟ أعطني آدم سميث، أعطني بيجو، أعطني فريدريك، أعطني علماء الاقتصاد المعروفين، ولا تدخل الدين في الاقتصاد، لماذا تدخل الدين في الاقتصاد؟ أو تأتي تدخل الدين في السياسة، لماذا تدخل الدين في السياسة؟ الدين تريد أن تصلي أهلاً وسهلاً فالمساجد منورة ومفروشة ومكيفة، والأئمة موجودون وهلم جراً، لكن تريد أن تدخل الدين في الحياة.
ونحن ليس عندنا هذا الفصام النكد بين الدين والحياة؛ لأن الدين هو الحياة، والحياة هي الدين، حياة بدون دين لا تسمى حياة، بل هي حياة البهائم.(198/36)
هل العلماء مقصرون في الوقوف أمام دعاة التحرير؟
السؤال
يقول السائل: لماذا لا يخرج العلماء في وسائل الإعلام للتنديد بقضية حرية المرأة؟
الجواب
أولاً: نرجو ونطالب أحبابنا وإخواننا وشبابنا وقضاتنا وعلماءنا أن يحرصوا على المشاركة، لأن كلمة حق أقولها أن المشاركة ضعيفة في هذا المجال.
الأمر الثاني: عندي شك أنه لو جاء رجل يريد أن يحلل الأحداث تحليلاً من واقع شهادته التي أخذها من جامعة هارفد، أو من جامعة إكسفورد، أو من جامعة اسطنبول ربما يبرز على الشاشة، لكن أن يبرز شيخ من المشايخ يحلل الأحداث عندي في هذا شك، لكن أنا مستعد أن أدير حلقة أو حلقتين أو عشر حلقات في التلفاز مع عدد من المشايخ وطلبة العلم.(198/37)
الاستبداد في الصحافة
السؤال
الهجمة الإعلامية البشعة ممثلة بشكل مركز في الصحافة في مقالات وكتابات من دعاة التخريب، بينما الاختفاء شبه التام للصوت الإسلامي المقابل، فإلى متى هذا الاستبداد في الصحافة؟
الجواب
والله هذا أسلوب جميل جداً استبداد فكري، والله صدقت، دكتاتورية في الصحافة، نعم.
لماذا ينشر لدعاة الضلالة، ولا ينشر للصوت الإسلامي الأصيل؟ يعني: ما هو الضابط في أن مقالك ينشر ومقالي لا ينشر؟ أريد أن أعرف هل لأنك تستدل من مدينة أفلاطون، أو قرية أرسطو، وأنا أستدل من القرآن والسنة؟ لا أدري، لماذا الاستبداد؟ أنا أسأل بعض الشباب، أقول له: هل أرسلت؟ يقول: كتبت وكتبت وكتبت ولم ينشر، لكن أقول لشباب أيضاً: اكتبوا واكتبوا، وكل كتابة صور منها واجعل منها في ملف، وأرسلها وبالبريد المسجل، وخذ عليها واسطة، واستمر على هذا حتى يأتي اليوم الذي تجمع لك عدة رسائل وتدخل بها على مسئول، وتقول: انظر صورة من صور الاستبداد، عدة رسائل ما نزل منها مقال، والكلام التافه والساقط والبذيء قد يكون في كل حال يكتب، أحياناً تقرأ في الصحافة كلاماً، يعني: لو وضعوا مكانه مقالاً من هذه المقالات الطيبة، أو من هذه الأفكار الإسلامية الطيبة النيرة لكان خيراً، لكن لأن يكتب كلامٌ تافه فهو في نظر بعضهم أهون من أن ينزل مقال لأحد طلبة العلم، أو العلماء، يوجد استبداد فكري في الصحافة ما عندي في هذا شك، لكن أقول: واجبنا أن نكتب، ثم نكتب، ثم نكتب، ونأخذ مؤكدات الكتابة بالبريد المسجل حتى نعرف لمن هذه المؤسسة، هل هي لأفراد المجتمع المؤسسة الصحفية، أم هي لفئة معينة يحضر ويمنع منعاً باتاً على غيرهم أن يدخلوها وأن يكتبوا فيها؟.(198/38)
لماذا لا يوقف العلمانيون عند حدهم؟
السؤال
يقول السائل: الصحفيون والكتاب الذين يدعون إلى تخريب المرأة، لماذا لا يوقفون عند حدهم عن طريق العلماء، نرجو توضيح ذلك؟
الجواب
وعلى أية حال هذا مما ذكرته آنفاً، وقلت: إنه حينما يكون هناك رصد قوي، وجمع لكل ما كتبه أولئك الذين يعبثون ويهزءون، أو لا يبالون بما يكتبون، ويهرفون بما لا يعرفون، يوم أن ترصد مقالاتهم وتقدم إلى المدعي العام بدعوى الإخلال بالأمن، وبدعوى مخالفة أمر الله وأمر رسوله، يحال هذا الشخص مع المدعي العام إلى المحكمة، ويحكم فيه القاضي بالحكم الشرعي الذي يراه، هذا أمرٌ مطلوب، وينبغي ألا يتساهل به حينما نعلم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] (ما) عامة في كل شيء، أي أمر حصل فيه خلاف، نحن نعرف أن المسئولين -وفقهم الله- حينما يتنازع اثنان، يقول: هيا أحيلوهما للشرع، بفضل الله نحن مطمئنون لهذا الأمر، فإذا تنازع الأغيار مع صحفي من الصحفيين، حولوهم الشرع، الشرع على العين والرأس، نحن نرضى بالشرع، ومن أحيل على مليء فليحتل.(198/39)
نظرات في حديث (سبعة يظلهم الله)
منزلة عظيمة أن يُظل الله عبداً من عباده في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم سبعة أصناف تكون لهم هذه المنزلة.
فيا ترى: ما هي الأعمال التي أهلت هؤلاء السبعة للوصول إلى هذه الرفعة؟! بيان ذلك تحويه هذه المادة، مع متفرقات أخرى لن يعدم قارؤها الفائدة.(199/1)
مقدمة في حديث (سبعة يظلهم الله)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل، رب كل شيء ومليكه، فاطر السماوات والأرض اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله جل وعلا أن يجزل لكم المثوبة وحسن الجزاء على حضوركم، وأستميح أخي المقدم جزاه الله خير الجزاء على قوله: إن لنا فضلاً عليكم، لا والله، بل الفضل لكم بعد الله جل وعلا، إن الفضل ليس للقائد على جنوده، بل الفضل للجنود الذين جعلوا منه قائداً، وإن الفضل ليس للمدرس وحده أو للعالم وحده على تلاميذه، بل لهم فضلٌ أن اجتمعوا حوله واجتمعوا له حتى جعلوا منه إماماً ومعلماً.
ونحن وإياكم في هذه المحاضرات لعل الله جل وعلا أن يجزل لنا ولكم المثوبة كما أسلفت، لولا حضوركم لما جئنا، ولولا إنصاتكم لما تكلمنا، فنسأل الله جل وعلا أن يجعل الكلام منا والسماع منكم، والمجيء منا والقدوم منكم خالصاً لوجهه الكريم، كما نسأل ألا يجعله هباءً منثوراً، نسأل الله ألا يجعل أعمالنا وإياكم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، نسأل الله جل وعلا ألا يجعل أعمالنا وإياكم كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف.
وأشكر لأخي فضيلة الشيخ/ عبد الله الصميعي إتاحة هذه الفرصة مع مندوب مركز الدعوة والإفتاء والإرشاد في هذه المنطقة لتنظيم هذه المحاضرة، فنحن وإياكم بأمس الحاجة إلى أن نجلس في بيوت الله، والله لو لم يكن من المحاضرات إلا أن تكتب ملائكة الحسنات لنا أنا مكثنا برهة من الزمن في بيوت الله جل وعلا، وغشيتنا الرحمة وحفتنا الملائكة ونزلت علينا السكينة، لكان في هذا خير عظيم، وإن كان هناك مزيد من فائدة أو علم أو حكمة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أيها الأحبة في الله: أما موضوعنا فهو كما تفضل أخونا الشيخ هو نظرات في حديث عظيم جامع اتفق الشيخان على صحته "نظرات في حديث سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" هذا الحديث رواه البخاري في مواضع عدة، ورواه الإمام مسلم، ورواه بعض أهل السنن، ورواه الإمام أحمد، ورواه مالك في الموطأ، وشهرة هذا الحديث أعظم من أن يعرف أو أن يعنون، وحسبكم أن عليه تاج الوقار، وقد جاوز القنطرة، ورواه الشيخان رحمهما الله رحمة واسعة.
في البخاري: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله، قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال -وفي رواية: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال- فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق -في رواية: بصدقة أخفاها- حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
في هذا الحديث العظيم فوائد شتى ومسائل منثورة، ولعلكم تستفيدون من هذا الحديث أكثر مما استفدته من خلال ما بحثت وطالعت (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب مبلغ أوعى من سامع).
أيها الأحبة في الله: قال العلماء: هل الثواب مخصوص لهؤلاء السبعة؟ أي: هل هؤلاء السبعة وحدهم هم الذين يكونون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله؟ أجاب ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه وسفره العظيم الجامع المانع فتح الباري حيث قال: والظاهر أنه لهؤلاء السبعة، وقيل: بل لغيرهم، وقال ابن حجر: وناظرت فلاناً -وسماه- في مجلس أحد الخلفاء، وكان يذكر أنه يحفظ صحيح مسلم، قلت له: هل تحفظ شيئاً يدل على أن غير هؤلاء السبعة يكونون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله؟ فقال: لا.
فبينت له أن الإمام مسلماً رحمه الله روى في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
وابن حجر رحمه الله قال عن نفسه: تتبعت مواضع شتى لمعرفة هل هذا الفضل مخصوص بهؤلاء السبعة، فوجدت هذا الفضل قد أعد لهم وأعد لغيرهم، منه ما هو في أحاديث صحاح، ومنه ما هو في أحاديث بعضها يقوي بعضاً، ومنه ما هو في أحاديث ضعيفة.
قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل ينظم هذا الفضائل التي من شأنها أن يكون فاعلها أو المختص بها من الذين في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله:
وقال النبي المصطفى إن سبعةً يظلهم الله الكريم بظله
محبٌ عفيفٌ ناشئٌ متصدقٌ وباكٍ مصلٍ والإمام بعدله
قال ابن حجر: وزدت على هذه الأبيات ما قلت فيه:
وزد سبعةً إظلال غازٍ وعونه وإنظار ذي عسرٍ وتخفيف حمله
وإرفاق ذي غرمٍ وعون مكاتبٍ وتاجر صدقٍ في المقال وفعله
أيها الأحبة: قال ابن حجر بنص كلامه: وقد تتبعت الأحاديث الواردة في مثل ذلك، فزادت على عشر خصال، وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد، ونظمتها تذييلاً على ما ذكر أبو شامة، وهي التي سمعتموها آنفاً.
قال بعض أهل العلم: ونقله ابن حجر عن الكرماني، وذكر الكرماني ما محصله أن الطاعة أو أن العبادات التي وردت في هذا الحديث إما أن تكون بين العبد وبين الرب، وإما أن تكون بين العبد وبين الخلق، فأما العبادات التي بين العبد وبين الرب فهي عبادة باللسان وهي عبادة الذكر، أو عبادة بالقلب وهي تعلق القلب بالمساجد، أو عبادة بالبدن هو بدن الناشئ في العبادة، وإما أن تكون تلك العبادة مرتبطة بين العبد وبين الخلق وهي في أمر عام في الإمام العادل، وفي أمر خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وذلك جلي في الصدقة، أو في البدن وهذا واضح في العفة.(199/2)
علماء ألفوا في الخصال الموصلة إلى الظلال
أيها الأحبة في الله: ومن عظم شأن هذا الحديث صنف فيه علماء الإسلام والسلف الكرام مصنفات عدة، فقد ألف ابن حجر رحمه الله في هذا جزءاً سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال أي: إلى ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، وألف السيوطي رحمه الله رسالة أخبرني بها فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم القاضي في المحكمة الكبرى حيث سألته: هل هناك من ألف غير ابن حجر مصنفاً أو جزءاً في هذه الفضائل؟ فقال: نعم.
فهناك السيوطي ألف رسالة بعنوان تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش وعليه مختصر بعنوان بزوغ الهلال في الخصال الموجبة للظلال.
ونبدأ في فقه الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
قال بعضهم: الظل هو المنعة والحفاوة والعز والتكريم، ولا شك أن المصير إلى هذا المعنى تأويل، ولا حاجة إلى التأويل في هذه المسألة، فظل كل شيء بحسبه، أما وقد آمنا أن لله عرشاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فإن لهذا العرش ظلاً كما هو لائق بهذا العرش العظيم، فهو ظل حقيقي، أما الكلام في كيفيته والكلام في طوله وعرضه، وهيئته وتفاصيله، فإنا لم نحط بالله علماً: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103].
فالكلام في تفصيل هذه المسألة هو كالكلام في الاستواء، الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، والصفة معلومة والكيفية مجهولة، وهذا خير طريق يسلم به العبد في إثبات صفات الله جل وعلا، أن تثبت لله ما أثبته لنفسه كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] وأن تنفي عن الله ما نفاه الله عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وما من لفظ لم يرد في الشرع له اعتبار أو إلغاء أو نفي أو إثبات، فعلامة الدهر وإمامه، وأحد أئمة العلم في هذا الزمان الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين قد قال: وأما الصفات التي لم يرد فيها نفي ولا إثبات، فإن السلامة أن يتوقف في لفظها وأن يفصل في معناها، فيقال: إن كان المعنى يدل على كمال يليق بالله أثبتناه لله، وإن كان المعنى يدل على نقص ينزه الله عنه، فإننا ننزه الله عنه، ودليلنا على ذلك الشمس المشرقة والآية المحرقة لشبهات المعاندين ألا وهي قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
وهذه لفتة مهمة في هذا الحديث أيها الأحبة: أن نحرص على معرفة منهج السلف رضوان الله عليهم في إثبات العقائد، وخاصة فيما يتعلق بالأسماء والصفات.
نعود إلى الموضوع، ممن ألفوا في الخصال الموجبة لظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام السخاوي وهو من تلاميذ ابن حجر، ألف رسالة بعنوان الاحتفال في جمع أولي الظلال قال: ظفرت بأربع عشرة خصلة زيادة على ما جمعه شيخي أي: ابن حجر، وهذا مما أفادنا به فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن قاسم متع الله به وحفظه، ولا عيب ولا حرج أن يسند الإنسان الفضل والعلم إلى من تعلمه منه
وقل فلان جزاه الله صالحةً علمنيه ودع ذا الكبر والحسد(199/3)
الإمام العادل وسبب تخصيصه في الحديث
أما الخصال التي وردت في هذا الحديث، فأولها: إمام عادل.
وهل تدخل المرأة في هذه الخصلة؟ قال ابن حجر: لا تدخل المرأة، لأن المرأة لا تلي الإمامة العظمى، وقال بعضهم: قد تكون المرأة من أهل هذه الخصلة إذا كانت ذات عيال وعدلت بين أبنائها في المعاملة.
الحاصل أن الإمام العادل في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، وأين الإمام العادل؟ الإمام العادل هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، والإمام العادل هو الذي ما يلي شيئاً من أمور المسلمين إلا وينتهج منتهى العدل فيه، والإمام العادل هو الذي يجعل القوي الأمين في خير مكان يناسبه، والإمام العادل هو من إذا رأى في المسلمين كفؤاً ومن رأى في المسلمين أهلاً أن يولى ولاه ولو كان بعيداً أو قريباً، ولو كان نسيباً أو وضيعاً؛ لأن مصلحة المؤمنين تتعلق بهذا الأمر.
لماذا كان الإمام العادل من الذين خصوا بهذه المنقبة؟ لأن الإمامة فيها السلطة والقدرة، وكثيرٌ ممن يلون السلطات ويقدرون على رقاب الناس، يقع منهم الظلم والعدوان والبغي وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لما كان الإمام والياً وقادراً ومتنفذاً ومتسلطاً وتحت يده ما يشاء من أموال الناس، وما يشاء من الجند والعسكر الذين يأتمرون بأمره فيما يشاء في رعيته أو في من دونه، كان عدله منقبة عظيمة؛ لأن من ترك شيئاً وهو يعجز عنه لا فضل له في ذلك، حينما تقول: هذا رجل ضعيف لا يظلم، فإن كونه متصفاً بعدم الظلم، أو كون هذا الضعيف عادلاً ليست بمنقبة؛ لأنه ضعيف لم يلِ رقاب أحد ولم يلِ أموال أحد حتى يعدل أو لا يعدل أو حتى يظلم أو لا يظلم، ولكن الذي ولي شيئاً وتحت يده المال والسلطان والقوة والجند والعسكر حينئذٍ يكون عدله منقبة ويكون لعدله مزية.
وهذا يذكرنا بما أفاض فيه العلامة الشيخ/ محمد بن عثيمين في رسائل في العقيدة حيث قال: والقاعدة الثانية في مسألة الصفات: نفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم مع إثبات كمال ضده؛ لأن الإنسان قد ينفى عنه الصفة وليس نفي الصفة عنه مدحاً أو كمالاً في جانبه، قال: لماذا؟ لأنه ربما نفيت الصفة عنه لعجزه أو لعدم قابليته أو لامتناع ذلك عليه، كأن تقول: هذا عمود لا يظلم، فكونك تنفي الظلم عن هذا العمود ليس ثناءً عليه وليست منقبةً له؛ لأن العمود لا يمكن أن يصدر منه عدل ولا ظلم، ولكن حينما تقول لمن هو قادر على البطش ومن هو جبار وقوي، ومن بيده المال والسلطة، تقول: هذا قادر ولكنه لا يظلم، حينئذٍ يكون نفي صفة الظلم عنه كمالاً في جانبه.
ولهذا نقول: ننفي ما نفى الله عن نفسه مع ثبوت كمال ضده، فإذا نفينا عن الله صفة الظلم، فإننا نثبت لله كمال ضدها وهو كمال العدل، ومنه قول الشاعر:
قبيلةٌ لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل
فإن هذه ليست مديحة لهذه القبيلة، وليست منة أو مزية لهذا القبيلة، لأنها قبيلة صغيرة، فقوله: لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل، قوله هذا فيهم ليس مدحاً لأنهم عاجزون وضعفاء.
ثم بعد ذلك الإمام العادل من يتفقد رعيته، والإمام العادل من يخشى الله فيهم، والإمام العادل من يراقب الله في كل ما يأتي ويذر، وللإمام على رعيته حقوق: أن يدعى له بظهر الغيب، وأن يدعى له بصلاح البطانة، وأن يدعى له بالسداد في القول والفعل، وأن يدعى له بحسن النية والفعل والمقصد، وأن يحرص على جمع شمل الأمة حوله، وعدم تشجيع الخارجين والبغاة ومن يريدون باستقرار بيضة الأمة انكساراً أو تشتتاً، هذا من حقوق الإمام العادل، إذ أن الإمام العادل له حقوق وعليه واجبات.(199/4)
شاب نشأ في عبادة الله
أما الثاني في أولئك الثلة الذين هم في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: فشاب نشأ في عبادة ربه، أو شاب نشأ في عبادة الله جل وعلا، وفي بعض الروايات: (شاب نشأ في عبادة ربه حتى توفي على ذلك) وفي حديث آخر: (شاب نشأ في عبادة ربه أفنى نشاطه وشبابه في عبادة الله جل وعلا) وهذا شرط مهمٌ حينما يحصل الإنسان فضيلة من الفضائل وعد الشارع عليها بثواب جزيل، فإن من شرط نيل هذا الفضل أن يثبت عليها وألا يأتي بما يناقضها كما يقول شيخ الإسلام/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حفيد إمام الدعوة رحمه الله لما ذكر باباً في فضل لا إله إلا الله: (من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه دخل الجنة) وفي حديث أبي هريرة لما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك إلا أدخله الله الجنة) قال الشيخ سليمان: فهذه الأحاديث التي جاءت في فضل لا إله إلا الله قد قيدت بالقيود الثقال: أولها: الثبات على لا إله إلا الله حتى يلقى الله بها، الثبات على كلمة التوحيد، كلمة الإخلاص والشهادة بالوحدانية والرسالة حتى يلقى الله جل وعلا بها.
الأمر الثاني: ألا يأتي بما يناقضها، وما أكثر الذين يقولون: لا إله إلا الله، وبعضهم يناقضها في كل صباح، أو في كل أسبوع، أو في كل شهر، أو في كل سنة، أو في عمره مرة، عجباً لأولئك الذين يرددون لا إله إلا الله ويصدق فيهم قول الله جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
إن من الناس من يعتقد أنه موحد، وإذا قلبت أمره، وجدت في حقيقة أفعاله ما يخرجه من الملة، فمن ذلك استهزاؤه بالدين، ومن ذلك استهزاؤه بالسنن، ومن ذلك تضايقه أو تبرمه وكراهيته لما شرع الله وشرع رسوله، حتى وإن كان هذا الأمر المشروع بالنسبة له من الأمور التي يفعلها ويطبقها، فإن من فعل عبادة وهو يكرهها متبرماً منها متضجراً من فعلها، فإن هذا لا يقبل منه، بل هذا مظنة كفر وخروج عن الملة كما قال إمام الدعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب: ومن نواقض التوحيد أن يكره العبد شيئاً جاء به الله أو جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل بقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
ومن نواقض التوحيد أيضاً: كل فعل أو قول يفضي إلى الشرك سواءً كان جلياً أو كان خفياً، أو كان ذبحاً أو استعانة أو استغاثة أو اعتقاداً بأن الله جل وعلا معه من تصرف له شيء من العبادة أو معه من يدبر الكون، أو كما فعلت الجهمية والمعطلة الذين نفوا عن الله صفاته وجعلوا إلهاً من العدم سموه إلهاً، ونفوا عنه كل الصفات، وأولئك كما قال الإمام:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشرٍ من العلماء في الأزمان والأوطان
واللالكائي الإمام حكاه عنه بل حكاه عنهم الطبراني
إن أولئك وإن اجتهدوا في العبادة، لكنهم يمرقون في مسائل الصفات إلى حد الخروج بها عما لا يليق بالله جل وعلا من التعطيل أو الإغراق في التشبيه، فأولئك ممن أتوا بنواقض التوحيد ولا حول ولا قوة إلا بالله! نعود إلى أصل موضوعنا: شاب نشأ في عبادة ربه، أين الشباب الذين ينشئون في عبادة ربهم؟ أين الشباب الذين يقدمون مرضاة الله على أهواء أنفسهم؟ أين الشاب الذي إذا وقف أمامه داعيان: داعي الهدى وداعي الردى، داعي الفضيلة وداعي الرذيلة، داعي الغواية وداعي الهداية، داعي الاستقامة وداعي الانحراف، قدم داعي الهدى والهداية والاستقامة وما يرضي الله جل وعلا على ما يخالفه؟ إن كثيراً من شبابنا، إن كثيراً من أحبابناً -نحبهم وندعو لهم بظهر الغيب سراً وعلناً، جهاراً ونهاراً وإعلاناً وإسراراً- ولكننا نعلم -أسأل الله أن يهديهم- أن الواحد منهم إذا خلا بمحارم الله ارتكبها وانتهكها، ونعلم من بعضهم أن الواحد منهم حينما تعرض له شهوة ذاتية أو شهوة شخصية قدم شهواته على ما كان يدعيه أو يقوله بلسانه ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولماذا ذكر الشاب في هؤلاء السبعة؟ لأنه شاب يملك القوة، قوة الفكر وقوة البدن وقوة الغرائز وقوة الحواس، واجتماع هذه القوى مظنة إلى سيره واتجاهه إلى المعصية، فكان من هذا الشاب الذي يعجب ربنا منه ليس له صبوة، يوم أن يكبح جماح نفسه ويوم أن يقهر عنان شهواته، ويوم أن يقود نفسه إلى مرضاة الله جل وعلا، وما يرى من منكر أو فتنة أو دعاية إلى ضلالة أو دعوة إلى انحراف يقول: إني أخاف الله، ويذكر ربه ويقول: معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، يوم أن ينشأ في طاعة الله فلا يرى إلا حلالاً، ولا يسمع إلا حلالاً طيباً، ولا يقرأ إلا كلاماً نافعاً، ولا يمشي إلا إلى حلق الذكر ورياض الجنة، ولا يمد يده إلا بما ينفع ويشفع، ولا يقبض بيده إلا ما كان طيب المطعم، ولا يفكر إلا كيف يزيد من إيمانه، كيف يرفع مستوى إخلاصه، كيف يصل إلى درجات المؤمنين، كيف يبلغ درجات المحسنين، كيف يبلغ درجات الموقنين، كيف يكون من المخلَصين والمخلِصين، يفكر بهذا، أو يفكر كيف يصلح أمه، كيف يصلح زوجته، أو يصلح ابنته، أو أخواته، كيف يدعو والديه أو كيف يدعو جيرانه أو زملاءه في المدرسة.
هذه همومه وهذه أفكاره وهذه اتجاهاته، ليس شاباً همه أن ينتصر الهلال على النصر، أو الاتفاق على الوحدة أو الأهلي على الزمالك أو غيرها من سائر اهتمامات كثير من شبابنا، ليس شاباً يتمنى أن تفوز دولته أو بلاده في دوري الأربعة أو في كأس العالم، ولكنه لا يهمه أن يذبح المسلمون في آسام أو في سنيقار أو في سيريلانكا أو في كمبوديا أو في الصين أو في أي مكان من الأماكن.
من شبابنا من هذه همومه: أن تصل بلاده إلى دوري الأربعة، ولكنه لا يهتم أن تصل أمته إلى أرقى درجات التوجيه والقيادة والريادة في هذا العالم المعاصر، من شبابنا من همومه أن يصل مستوى المسرح الوطني والأغنية الوطنية إلى مستوى منافس للأغنية الخليجية أو الأغنية الغربية أو الفلكلور الغربي ونحو ذلك، لكنه لم يهتم كيف ينقذ إخوانه الضائعين في ماخور البغاء وفي مواقع الرذيلة ومنحدر المخدرات، وفي أوكار الفواحش والزنا واللواط.
إن من الشباب من لا تفكير له إلا في كل سافل من الفكر وكل ساقط من الهمة وكل رديء من الأمان، فأولئك كيف نرجو أن نرفع بهم رأساً؟ شباب هذه اهتماماتهم، اهتمام الواحد منهم أن يملك سيارة مكشوفة، اهتمام الواحد منهم أن يجد صديقة لا تخونه، اهتمام الواحد منهم أن يجد عشيقة لا تفارقه، أبمثل هؤلاء تحرر فلسطين؟ أبمثل هؤلاء تحرر أفغانستان؟ أبمثل هؤلاء ننقذ بنات المسلمين في سجون أرتيريا اللواتي هن حبالى من الزنا، وقد أنجبن ما لا يقل عن ألفي طفل من السفاح والزنا؟ أمثل هؤلاء الشباب نرجو أن تعود أسبانيا إلى سيطرة الإسلام؟ أمثل هؤلاء الشباب ممن نرجو أن يرتفع مستوى الإعلام ليكون إسلامياً على مرضاة الله؟ أن يرتفع مستوى الاقتصاد لتكون المعاملات وعوامل الإنتاج وحركة المال والسياسات النقدية والتجارة الدولية لتكون على أوسع وأحدث نمط وأكثر الأنظمة تقدماً على مرضاة الله جل وعلا؟ نريد شباباً نشئوا في طاعة الله، يفكرون في هموم الإسلام، يفكرون في هموم المسلمين، كيف يدير الإسلام إعلاما، كيف يدير الإسلام اقتصاداً، كيف يدير الإسلام سياسة، كيف يدير الإسلام تعليماً، كيف يدير الإسلام تربية وشباباً، كيف يدير الإسلام هذه الأمور على نحو يحقق مرضاة الله جل وعلا، من نشأ في طاعة الله فهنيئاً له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وكما قلت: خص الشباب لأنهم مظنة الشهوة واجتماع الغرائز والنشاط.
علمت يا مجاشع بن مسعدة
أن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
يا للشباب المرح التصابي روائح الجنة بالشباب
الشباب قوة فإما أن تكون قوة بناء، وإما أن تكون قوة هدم، إما أن يكون الشباب قوة عمار وإما أن يكونوا قوة دمار، أين الشباب الذين ننتظرهم بكل مجال وبكل صعيد أن يكونوا على هذا المستوى؟(199/5)
رجل قلبه معلق بالمساجد
وثالث الثلة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: رجلٌ قلبه معلق بالمساجد، في إحدى الروايات: (ورجل قلبه معلق بالمساجد من حبها) وقيل معلق: أي من العلاقة وهي شدة الحب، والمعنى: أنه طويل ملازمة المسجد يبكر إلى المسجد بعد الأذان أو قبل الأذان ويمكث في المسجد بعد الصلاة، يعتكف في المسجد، يحضر دروس العلم، يحضر المحاضرات يحضر الندوات يحضر الحلقات، يجعل جلوسه في المسجد جلوس طمأنينة وجلوس ارتياح، قلبه غير معلق بالملاعب، وغير معلق بالأرصفة، ولا بصالات التزلج، وغير معلق بأمور الرذيلة، ولا بالإسفاف والإغراق في المباحات أو في أمور اللهو، بل شاب قلبه معلق بالمساجد.
وما أقل الذين تتعلق قلوبهم ببيوت الله جل وعلا.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل
حال المؤمن -أيها الأخوة- أن يكون في المسجد كالسمكة في الماء، وأما المنحرف الفاسق فانظر إليه حينما يدخل المسجد كأنه ضب في الماء، المؤمن كالسمكة في الماء وأما المنحرف الفاسق فكأنه الضب يتقلب بعكرته في الماء، يريد الخروج من المسجد من أول وهلة يسلم الإمام.
على أية حال إن التعلق بالمساجد أمر لا يستطيع الإنسان أن يصفه تمام الوصف، ولكن يدركه تمام الإدراك إذا عود نفسه وجاهدها ودربها على المكث والجلوس في المسجد؛ فبكر إليه وجلس فيه وجعل المسجد جزءاً رئيسياً من يومه وحياته.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يداريها(199/6)
رجلان تحابا في الله
الرابع من الثلة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.
وفي هذا بيان حقيقة المحبة مع الدوام عليها، محبة صادقة خالصة، محبة نشأت لله فتدوم لوجه الله، ومن أحبك لشيء أبغضك عند فقده، ومن لقيك بشيء فارقك عند فقده، فمن أحبك لدنياك كرهك لفقرك، ومن أحبك لوظيفتك فارقك لعزلك، ومن أحبك لمنصبك فارقك عند تغير أحوالك، إذاً فانظر من تحب، وانظر أولئك الذين جمعت أرقامهم وأسماءهم في دليل هاتفك، أسألك: هل استطعت أن تخرج عشرة من هؤلاء تعدهم للنوائب؟ هل تستطيع أن تجمع من مجموع من عرفت وخالطت وجالست وصادقت وخاللت وتعرفت هل تستطيع أن تخرج من هؤلاء خمسة أو عشرة؟ لا والله، أصبح الصديق الوفي في هذا الزمان أشد ندرة من الغول والعنقاء، بل أصبح من عجائب الدنيا السبع أن تجد اثنين على وفاء صادق.
وما أكثر الذين يدعون المحبة! ما أكثر من تلقاه فيقول: أخي، إني أحبك في الله، ولكن لو طلبنا برهان المحبة لوجدناها دعوى.
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء(199/7)
من لوازم المحبة
إن من حقيقة الحب في الله: أن تحفظ عرض أخيك في غيبته، ألا تغتابه، ألا تنم عنه، ألا ترضى فيه بمكروه، ألا يشذب أو يجرح أو ينشر جلده بكل ساقط ورديء في المجلس وأنت ساكت، إن من الحب في الله أن تكون داعياً له بظهر الغيب، وهذه المحبة يؤجر الإنسان عليها يوم أن يحققها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ -عجيب سؤال البدو! عجيب سؤال الأعراب! عجيب سؤال أهل البادية! قال الصحابة: كنا نفرح إذا جاء أعرابي إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسأل العجائب، وهذا ليس بغريب- جاء الأعرابي ذلك البدوي رضي الله عنه، قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟ -هذا جواب الحكيم: أن تصرف السائل إلى إجابة تنفعه- قال صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها؟ فقال: يا رسول الله! ما أعددت كثير عمل، ولكني أحب الله ورسوله ويوم أن قال (أحب) هو يعني هذه الكلمة، ويعرف أبعاد هذه المحبة ويعرف حقيقتها.
جهد الصبابة أن تكون كما أرى عين مسهدة وقلب يخفق
أرق على أرق ومثلي يأرق
عين مسهدة تدعو لإخوانك بظهر الغيب، تتذكر إخوانك في الله، إذا نأوا دعوت لهم بالحفظ، وإذا دنوا دعوت لهم بدوام اجتماع الشمل، قلبك يخفقك عليهم حباً وشوقاً إليهم، هذه المحبة حينما تكون لله، فإنها تزداد حينما ترى من أخيك زيادة في الطاعة، دليل الحب في الله إذا أردت أن تعرف نفسك هل أنت تحب في الله أو لا تحب في الله، وهل دعواك صادقة أنك تحب فلان بن فلان في الله ولله، انظر إلى نفسك فإذا رأيته يزداد في العبادة ازداد حبك له، فهذا دليل المحبة الصادقة في الله، وإذا رأيت انحسار العبادة عنه وضعفه وكسله وابتعاده عن العبادة قلَّتْ محبتك له، فهذا دليل محبتك الصادقة لله وفي الله، لما كانت لله زادت محبتك يوم ازداد في طاعة الله وقلَّتْ محبتك يوم قلت أو انحسرت أو انقطعت عبادته لوجه الله جل وعلا.
أما المحبة التي تزعم في هذا الزمان وهي محبة الجسوم والرسوم، ومحبة الصور والوجوه، وانسجام الناس لأهواء أو لعرق خفي في النفوس لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ويدعي بعضهم محبةً في الله الله أعلم بصدقها فتلك محبة المرضى، تلك محبة السقم، تلك محبة البلاء، تلك محبة بداية الانحراف.
فما في الأرض أشقى من محبٍ وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل وقتٍ مخافة فرقةٍ أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق
هذه محبة الجسوم والرسوم، أما الحب في الله، فإذا فارقت أخاك وقد قتل شهيداً في سبيل الله ازداد حبك له، وتطايرت شوقاً أن تقتل في سبيل الله كما قتل، وإذا سبقك إلى عبادة أو إلى حفظ قرآن أو إلى وعي السنة أو إلى الدعوة إلى الله، تطاير قلبك فرحاً أن أخاك بلغ هذه المنزلة وأدرك هذه المنقبة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وكما في الحديث: (المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء بمجالسهم من الله يوم القيامة، أما إنهم ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكن يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله، قال الصحابة: من هم يا رسول الله؟ قال: المتحابون في الله) والحب في الله عبادة عظيمة.
والله -يا معاشر المؤمنين! يا معاشر الطيبين! يا معاشر الأكرمين! - إنا نحبكم في الله، ونسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بكم في الجنة، وإننا ما نذكر عملاً نرجو أن نلقى الله به إلا توحيده وحده لا شريك له عسى ربنا أن يسلم لنا توحيدنا ما غيرنا وما أشركنا وما بدلنا، ثم محبتكم لله وفي الله ودليلنا وبرهاننا وبينتنا على ذلك أننا نفرح يوم أن قيل فلان بن فلان استقام، أو فلان الذي استقام حسنت استقامته، أو فلان نبشرك أنه حفظ القرآن، أو فلان دعا إلى الله ووفقه الله، أصبح نشيطاً في حيه، أصبح داعية بين زملائه، هدى الله زملاءه في العمل على يده، نفع الله به بين زملائه والموظفين من حوله، حينئذٍ نفرح ونعلم أن فرحنا به دليل محبتنا لله وفي الله.(199/8)
التزاور بين المتحابين في الله
ولا يخفاكم حديث الرجل الذي سافر إلى أخٍ في الله يزوره، انظر يا أخي! تخرج من بيتك، تحرك سيارتك، تمشي ثمانين كيلو متراً أو مائة أو مائتين، فتطرق الباب على أحد إخوانك في الله تزوره في مدينة الخرج أو في عفيف أو الدلم أو في أحد ضواحي شتير أو في القصيم أو في المنطقة الشرقية أو في أبها أو في وادي الدواسر أو في حوطة بني تميم أو في الحريف أو في أي مكان تذهب إليه وتزوره وتجلس معه ساعة أو ساعة إلا ربع لا يحركك من بيتك إلا حبه في الله ولله، ومن ثم تعود من جديد، هذا من الحب في الله، كما في الحديث: (إن رجلاً زار أخاً له في الله، خرج خروجاً بعيداً لزيارة أخ له في الله، فأرسل الله على مدرجته ملكاً -أي: جعل الله ملكاً على طريق هذا الذي ذهب يزور أخاه في الله- وكان هذا الملك على صورة رجل، فقال للزائر: أين طلبك؟ أو ما حاجتك؟ قال: أزور أخي في الله، قال: وهل لك من حاجة تربها؟ قال: لا والله إلا أني أحببته في الله، فقال الملك: إني رسول الله إليك، إن الله أحبك كما أحببته فيه) هنا تظهر المحبة في الله وتظهر الأخوة في الله يوم أن يدعوك إخوانك في الله إلى أمر من الخير فتستجيب، يوم أن يزجروك عن أمر من الشر فتنزجر وترعوي، هذه من دلائل الحب في الله والبغض في الله.
والمحبة في الله شأنها عظيم، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أولئك.(199/9)
رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال
والخامس -أيها الأحبة- من الثلة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، وفي رواية: رجل دعته امرأة إلى نفسها، وفي أخرى: فعرضت نفسها عليه، أي: دعته إلى الفاحشة، قال بعضهم: دعته إلى زواجها، فأبى خشية أن يشتغل بها عن العبادة، أو أبى خشية أن يكون قبوله من الزواج بها سبباً أو طريقاً إلى فعل معصية وفاحشة، وهذا تأويل بعيد، والظاهر الواضح والجلي من الحديث أنه رجل دعته امرأة ذات منصب إلى نفسها، دعته إلى الفاحشة، فقال: إني أخاف الله.
وتدخل المرأة في هذا الباب: لو أن رجلاً ذا منصب وجمال دعاها إلى نفسه فأغراها بالمال، وامتنعت من ذلك، وقالت: إني أخاف الله، قال ابن حجر: فهي تدخل في ظل عرش الله، فهي من السبعة الذين يكونون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.(199/10)
وقفة مع قصة يوسف وامرأة العزيز
أيها الأحبة في الله: إن هذه المسألة من أخطر المسائل ألا وهي فتنة النساء، وإن كثيراً من الناس ربما يصمد أمام المدفعية وربما يصمد أمام الرشاش، وربما يصمد أمام القنابل الدبابات ويصبر على حمم الطائرات ودويها، ولكنه لا يصمد دقائق أمام امرأة ذات منصب أو ذات جمال أو جمعت بين الأمرين جميعاً؛ لأن فتنة النساء عظيمة.
في صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه ضمنت له الجنة) أي: من حفظ فرجه وحفظ لسانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كفيل وضمين وزعيم له بالجنة بإذن الله جل وعلا، ولا تخفاكم قصة يوسف عليه السلام لما غلقت الأبواب امرأة العزيز وقالت: هيت لك، قال: معاذ الله، تذكر ربه، وذكر نعم الله عليه، وذكر ما أنعم الله به عليه فاستعاذ بالله، ومن استعاذ بالله فقد نجا، ومن لجأ إلى الله فقد عصم، ومن توكل على الله فقد كفي، قال: معاذ الله، ولما هددته وبلغ التهديد منه مبلغاً حتى طاردته، ودخل العزيز ذات مرة ورأى شيئاً من الريبة، وألفيا سيدها لدى الباب، فانقلبت عليه فاتهمته بالفاحشة: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] ماذا قال يوسف الذي هو حرٌ قد بيع رقيقاً، وعزيزٌ قد أصبح طريداً شريداً، وأصبح خادماً في بيت السلطان: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26] وظهر البرهان الحسي، البرهان القريب: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف:26] لأنه إذا شق القميص من الأمام من القبل فمعناه أن يوسف عليه السلام -وحاشاه ذلك- أراد أن يندفع إليها فدافعته فانشق قميصه من ذلك: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:27] أي: أن يوسف هو يهرب وهي تلحقه وتجذبه بقميصه فيتشقق قميصه من هذا: {فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:28 - 29] قيل: إن هذا كان قبل إسلام العزيز وإلا فلا يعقل أن رجلاً يجيب على مثل هذا الموقف الذي فيه من خروج امرأته عن حدود العفة والطهارة والحياء وحفظ الفراش وحفظ النفس بهذا الكلام: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29].
لما بلغ الأمر منها مبلغاً وتحدث صويحباتها ونساء المدينة: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} [يوسف:30 - 31] حتى تبين أنها لا تلام في باطلها الذي همت به وإن كانت في الحقيقة قد أسرفت على نفسها بهذا الفعل: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:31 - 32] هل انتهى الأمر؟ لا: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] إما أن يفعل الفاحشة، إما أن يختار الرذيلة، إما أن يجيء إلى الفراش، إما أن يأتي إلى علبة الليل، إما أن تطفأ الأنوار ويحصل الستر وإما أن يسجن.
فماذا قال عليه السلام وهو شابٌ حدثٌ صغيرٌ في قوة شبابه ضعيفٌ أمام زوجة الملك في قصرها في دلالها في جمالها في أبهتها في سلطانها بين وصيفاتها وخدمها وحشمها، تدعوه وتهدده، فماذا يقول؟: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] هل منا من قال ذلك؟ {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].
أين شباب الأسواق العقارية وأسواق الشعلة، وأسواق العامة الذي الواحد منهم يخرج وقد ملأ جيبه بعشرات الأرقام من رقم هاتفه وهاتف أصدقائه ويمشي ويوزع، حتى أن بعضهم يحتال في استخدام بعض الأساليب كي يلصق الرقم بعباءة الفتاة ولا حول ولا قوة إلا بالله! أحد الشباب أحضر لي بطاقة صغيرة مكتوب عليها: نرجو ممن يطلع على هذه البطاقة مساعدة حاملها أو الاتصال بجمعية العشاق والمحبوبين والمجروحين، وفي القلب الاسم: عاشق محتار، مكان اللقاء: أول وهلة حصلت، وأسئلة سخيفة، بكلام لا يليق ذكره، وعبارات عجباً لشباب يحملونها! وصدق من قال: إن الشباب في هذا الزمان، أو إن بعض الشباب في هذا الزمان حتى لا نظلم البقية إذ فيهم خير عظيم، حتى بعض الذين عندهم بعض المعاصي نظن ببعضهم خيراً كثيراً؛ لأن الكثير من الشباب حتى وإن كان في معصية لكن فيه رجولة، لا يتخنث إلى هذا الحد، لا ينهار برجولته إلى هذا الحد، ولعل رجولته وحياءه وعفته التي انبثقت من صلاته وحرصه على العبادة تقوده إلى استكمال ما نقص من نفسه من السنة أو الاستقامة على ما يرضي الله جل وعلا.
أقول أيها الإخوة: إن بعض الشباب هم حقيقة ذكور وليسوا رجالاً، هم ذكور وليسوا رجالاً، وقد قالتها امرأة في مجمع من اللقاءات أو في مكان لما سئلت امرأةٌ من النساء عن قول الله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] وهي في بلاد ليس للرجل فيها منزلة أو مكانة، فقالت وأجابت جواباً صحيحاً: الله جل وعلا قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ} [النساء:34] ولم يقل الذكور قوامون على النساء، لأن الرجولة أمر يتعدى الذكورة، الرجولة وصف كامل بما فيه من الشمم والإباء والحياء والغيرة والخشية والانقياد والاستجابة لأمر الله جل وعلا.
نعود إلى صلب موضوعنا، فهذا يوسف عليه السلام لما دعته وهددته: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] هذا من حصل له مثل هذا أو من ابتعد عن موقف كهذا، فهو من الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.(199/11)
قصة محمد المسكي
ومن الأمور التي سطرها التاريخ أن شاباً وسيماً يقال له: محمد المسكي كان هذا الشاب يأكل من طعام يده، يصنع المراوح التي تعمل باليد، وكان يدور في الأزقة والأسواق ويبيع مراوحه هذه ويأكل من كسب يده، فرأته امرأة وكانت ذات مالٍ فأعجبت به، وترصدت له عند الباب، فلما مر جوار بابها، قالت: هل عندك مراوح غير هذه؟ قال: نعم.
فأرخت له الستر أو فتحت له الباب، وقالت: ادخل لأرى، فلما دخل وكان منصرفاً عنها يظن أنها سترى ما في يده من المراوح، ثم يبيعها أو لا تشتري إن أبت، ثم يخرج، فما دخل قليلاً إلا وجذبته وأدخلته دهليز بيتها وأغلقت الباب دونها ودونه، وقالت: إما أن تفعل بي الفاحشة وإما أصيحن بك بين الناس إن فلان بن فلان اقتحم بيتي وتسور داري ودخل وأراد أن يفعل بي الفاحشة، فأصبح في محنة عظيمة، إن فعل الفاحشة أصبح ممن زنوا، والزنا شأنه خبيث وخطير، والله سماه سوء السبيل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] فيه فحش وفيه سوء السبيل، وإن فضح نفسه فهو في مصيبة عظيمة، فقلب النظر وأدار الفكر، فقال: حسناً: أريد الحمام، فلما خلت بينه وبين الحمام، دخل المكان الذي هو (الحش) وليس الحمام آنذاك كحماماتنا واسعة، بعض الحمامات الآن تعتبر صالة أو حجرة طعام بالنسبة لبعض البيوت، بعض الحمامات تبلع (6×5) بعض الحمامات (10×8) صحيح والله، دخلت بيتاً ذات يوم فرأيت حماماً أكبر من مجلسنا، فعجبت من هذا عجباً عظيماً، قلت: سبحان الله! هل الرجل ينام في هذا المكان؟! أن الحمام آنذاك هو (حش) توضع فيه القذارة والعذرة، مكان كالحفرة يوضع فيه الغائط -وأجل الله بيته والملائكة والسامعين أجمعين- فما كان منه إلا أن نزع الغطاء عن الحش وبيت الغائط، ثم أخذ يغرف من الغائط ويمسح على رأسه وثيابه وأجزاء بدنه، فلما ملأ بدنه بهذا خرج إليها وناداها، فلما رأته بهذه الصورة أخذت تسبه وتشتمه وطردته من بيتها.
انظروا إلى هذا الشاب الذي يدعى إلى الزنا فيأبى ولا يريد الفضيحة على نفسه، فهدي إلى هذه الفكرة الذكية، واختار أن يلطخ نفسه وبدنه بالبول والغائط حفاظاً ألا يطأ مكاناً حرمه الله عليه، ألا يلمس جسداً حرمه الله عليه، ألا يقول كلاماً يحاسب عليه، فلما خرج من بيتها أخذ يدعو ربه أن تصرف الأبصار عنه حتى بلغ بيته وغير ملابسه واغتسل مما هو فيه من النجاسة فما هي إلا لحظات حتى فاح المسك من جميع أجزاء بدنه! أكرمه الله جل وعلا، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120] {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] لقد أحسن العمل فجاءه حسن الجزاء، أصبح ما يحل محلاً إلا والمسك يفوح من طريقه، حتى أصبح معروفاً أن فلان بن فلان مر من هذا الطريق بدليل رائحة المسك، وفلان بن فلان في ذلك المسجد بدليل رائحة المسك، وسمي محمد المسكي نسبة إلى هذه الكرامة التي أكرمه الله جل وعلا بها.(199/12)
الزنا وعواقبه
أين شبابنا الآن في هذا الزمان؟ لعلهم يكفون عنا ويكفون عن بيوت المسلمين أصواتهم وألسنتهم التي تشبه نقيق الضفادع، التي تشبه صوت الغربان، وبعضهم يتكسر بصوته ويظن أنه بهذا يضع الحبال للفتيات لعله أن يأسر فتاة بصوته المميز، مسكين والله هذا! وبعض الفتيات من الضالات المضلات -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ربما تسلطن على بعض الشباب واتصلن عليه، تتصل الفتاة على الشاب، وتريد أن توقعه في الفحشاء، ضاع الحياء وضاعت الفضيلة في بعض البيوت التي اشتغلت واشتهرت وامتلأت بالأفلام، أفلام الفيديو والأفلام الخليعة، والرقص مع المطربين والمطربات، والمصارعات النسائية إلى آخر ما نسمع وما يقال عن أفلام فيها من كل ما يزعج البصر ويقلق السمع ويخبث الفؤاد ويكدر العقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد أحسن بعض الشباب لما قال لي: إن فتاة اتصلت بي ذات مرة وكانت منحرفة، قال: إنها اتصلت بي وقالت: ألم تسمع صوتي قبل هذا اليوم؟ قال: نعم.
سمعت صوتاً قريباً من صوتك في الحمام أو في الغسالة أو في السيفون، قال: فما كان منها إلا أن أغلقت السماعة وقد استحت على وجهها، وجزاه الله خيراً على هذا الجواب، إن من الناس من لا يرده إلا مثل هذه الأساليب ولا حول ولا قوة إلا بالله! والذي أنصح به عامة: إن من ابتلي بمثل هؤلاء الذين يتسلطون على هاتفه:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
السكوت خير جواب للسفيه.
صبراً على فعل السفيه فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تؤكله
وكن -يا أخي الكريم- حريصاً على حفظ بيتك بحفظ نفسك.
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزنِ يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
من يزنِ في بيتٍ بألفي درهم في بيته يزنى بغير الدرهم
يزنى بالمجان ولا حول ولا قوة إلا بالله! الحاصل أن من ترك هذا الأمر خشية لله، ومن ترك ذلك لأجل الله ولوجه الله، ترك مواقع الريبة ومحادثة الفتيات، وإن عرض عليه الأمر، أو عرض على الفتاة أمر الرذيلة، تركت ذلك لوجه الله جل وعلا، فإنه يؤجر أجراً عظيماً.
ومن المؤسف أن في بعض الأماكن تأتي الفتاة بسائقها وتطرق الباب على الشاب ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد علمت بشيء من هذا، وحمدت الله أن حفظ ذلك الشاب الذي تسلطت عليه شيطانة من شياطين الإنس حتى طرقت عليه الباب وأرادت أن توقع به أو تأخذه معها أو أن تواقعه في بيته ولا حول ولا قوة إلا بالله! فمن حفظ نفسه ومن أراد ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، فحري به أن يبعد نفسه عن مواطن الريبة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].(199/13)
رجل تصدق بصدقة فأخفاها
والسادس من الثلة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: رجل تصدق بصدقة، أو تصدق فأخفى -كما في نص حديث البخاري - حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
والمقصود: حتى لا يعلم الناس الذين من حوله، وبعض الناس أو كما ذكر أن بعضهم كان لا يفقه الحديث فكان إذا أراد أن يتصدق أدخل يده اليسرى في جيبه ثم أدخل المال يمده هكذا يظن أن الشمال تنظر إلى اليمين فحينئذ يخبئها في جيبه أو في داخل معطفه أو كوته، وليس هذا هو المقصود، إنما المقصود أن صدقته خفية لا يعلم بها الناس، يتحرى فيها أوقات السر، ولا يريد الإعلان بها خلافاً لما نسمع عن بعض الذين يتصدقون اليوم وغداً، نرى الجرائد قد امتلأت أن فلان بن فلان تصدق بمليون ريال على كذا وعلى كذا وعلى كذا.
إن خير الصدقة ما كان سراً لوجه الله جل وعلا، وإن خير الصدقة ما كان يرجى به وجه الله، هب أن الناس علموا بصدقتك هل يقبلونها منك؟ هل يرفعونها إلى السماء؟ هل يخرجونك من النار؟ هل يدخلونك الجنة؟ وهب أن الناس لا يعلمون إن عدم علم الناس أقرب إلى إخلاصك وأتقى لقلبك، وأقرب منك إلى ربك، وأدعى إلى ثباتك، وأحوط ألا يصيبك العجب فيما أنت فيه، فاحرص على ذلك أخي الكريم.
ولعل كثيراً من الذين يشاهرون ويدعون ويظهرون ما يفعلون من دعوى الصدقات في الجرائد والمجلات وغيرهم، لعل الكثير منهم لا أقول كلهم؛ لعل بعضهم ممن يسرق من هذا ويعطي هذا، نعم.
بعضهم يرابي، والربا من قوت المساكين والضعفاء، بعضهم يرتشي، بعضهم يأخذ أموالاً ليست من حلها ثم يصرفها هنا.
بنى مسجداً لله من غير كسبه فكان بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
وفي مسند أحمد من حديث أنس بسند حسن مرفوعا: (إن الملائكة قالت: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم.
الحديد، قالت: فهل أشد من الحديد؟ قال: نعم.
النار، قالت: فهل أشد من النار؟ قال: نعم.
الماء، قالت: فهل أشد من الماء؟ قال: نعم.
الريح، قالت: فهل أشد من الريح؟ قال: نعم.
ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله) وهذا كلام موصول بالسادس من أولئك الذين يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ألا وهو الذي تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
وقال بعض أهل العلم: يحتمل أن يكون هذا رجل يشتري من فقير وضعيف متكسب فيعطيه أكثر من سلعته، أو يتقصده بالشراء منه لكي يعينه على أسباب الكسب، وهذا جميل جداً، إذ ليس من شرط الصدقة أن تكون هكذا من دون مقابل، مثال ذلك: أنت حينما تعرف رجلاً فقيراً معدماً، أو رجلاً مسكيناً ويبيع سلعة مباركة أو سلعة ميسرة من أدنى السلع ويبيعها بعشرين ريالاً، فتأتي أنت وتشتري منه واحدة من هذه السلع وتعطيه أربعين ريالاً أو تعطيه خمسين ريالاً وتذهب، أنت بهذا تعينه على الاستمرار في الكسب، واشتريت منه إعانة له، وما زاد عن قيمة السلعة هو صدقة، وهذا من أفضل أنواع الصدقة أيضاً، هو من خير ما يتصدق به العبد بإذن الله جل وعلا.
الحاصل: فلنحرص -يا إخواني- على صدقة السر كما في هذا الحديث: إن مما هو أشد من الجبال والحديد والنار والماء والريح وغيرها الصدقة يتصدقها ابن آدم في السر فلا تعلم شماله ما تنفق يمينه.(199/14)
حث على الصدقة وإخفائها
معاشر الأخوة معاشر الشباب هل منا من خرج في الساعة المتأخرة من الليل، أو خرج في غفلة الناس في الضحى وأخذ معه كيساً من الرز، أو ذبيحة من اللحم، أو شيئاً من الدجاج، أو شيئاً من المأكولات فقصد بيتاً من بيوت الفقراء لا يعرف من هو، لا يعرف وجهه، متلثماً مستخفياً متخفياً لا يريد أن يعرف، فطرق الباب وتصدق بهذه الصدقة وذهب؟ هل منا من يفعل ذلك؟ إننا -أيها الإخوة- كما نحن بحاجة إلى أعمال علنية جماعية نتعاون فيها مع بعضنا البعض، فإننا بأمس الحاجة إلى أعمال سرية، أعمالنا السرية صدقة في السر، أن تدخل لوحدك وأن تدعو واحداً من الضلال فيما بينك وبينه لا يعرف بذلك أحد، أن تعرف فلان بن فلان من المنحرفين وأن تجتهد عليه في السر لا يعرف أحد جهودك في دعوته، وجهودك في تقويم انحرافه، فإن هذا من أعظم الأعمال التي تؤجر عليها عند الله.
والله إني لأغبط شباباً لم يعرفوا في المحاضرات، ولم يعرفوا في الندوات، ولم يعرفوا في اللقاءات، ولم يعرفوا في كثير من المنابر، ولكنهم في الدعوة أنشط منا وخير منا، وهم أتقى وأعلم وأنقى لله منا، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، نغبطهم بأن أعمالهم في السر، نغبطهم بأنهم لا يعرفون، نغبطهم بأنهم إذا ذهبوا لم يفقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، فذلك أدعى لإخلاصهم.
نسأل الله ألا يفسد أعمالنا وأعمالكم بالرياء أو السمعة.(199/15)
رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه
والسابع من الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
فاضت عيناه بالدموع، وفي الحديث: (عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله) وفي الحديث: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله جل وعلا) لأن البكاء في السر والبكاء في الوحدة أمره عظيم، ما أكثر الذين حينما يجدون من يبكون يبكون! وكما يقول الشاعر:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابةً بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم
والإنسان حينما يحضر مع قوم يضحكون ليس من الغريب أن يضحك معهم، وحينما يجلس مع قوم يبكون ليس غريباً أن يبكي أو يتباكى معهم، ولكن الخير والفضل وقوة الإيمان وصدق اليقين أن يبكي وحده، أن يبكي ولا يراه إلا الله، أن يبكي وحده في سيارته أن يبكي وحده في حجرته، أن يبكي فيما بينه وبين نفسه، أن يبكي بكاءً لا يعرفه من حوله، تنحدر من عينه قطرات ساخنة ودمع حار متتابع، يسيل على وجنتيه ولا يعرف من بجواره أن فلان بن فلان أبكى، أما الصياح والضجيج والنياح والبكاء ورفع الأصوات والمبالغة في هذا، فمن الناس من بكاؤهم في خير وبكاؤهم في صدق، ومن الناس من ترى فيهم تكلف البكاء أو تكلف التباكي إلى أمر يخرجهم عن حدود مقبولة في الغالب.
يقال: إن الشافعي أو غيره مر برجل يبكي في المسجد، وقال: ما أطيب هذه الدموع ولو كانت وحدك لكانت أطيب.(199/16)
من أسباب البكاء خشية الله
قال القرطبي رحمه الله: والبكاء فيض العين أو دمع العين هو بحسب حال الذاكر، فربما يبكي الإنسان حينما يسمع أوصاف الجلال، فحينما تقرأ في القرآن آيات عظمة الله؛ علمه قوته جبروته أن الله جل وعلا يسير الجبال فتسير، يجعلها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، أن الله يجعل البحار تنسجر، والنجوم تنكدر، والسماء تنفطر، والكواكب تنتثر، حينما تقرأ مثل هذه وحينما تبكي لهذه الأوصاف، فإنك تبكي لأوصاف الجلال والعظمة التي هي من علم الله وقوته وقدرته وجبروته جل وعلا.
وقد يبكي الإنسان حينما يرى أوصاف الجمال، فإذا رأيت بستاناً جميلاً ورأيت وروداً متفتحة ورأيت زهوراً عبقة بالعطر، أخذت تبكي شوقاً إلى الجنة؛ لأن ما ترى في الدنيا هو شيء قليلٌ قليل جداً جداً بالنسبة لما هو موجود في الآخرة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] إذا ذكر نعيم الولدان والأولاد والذرية، ذكرت نعيم الجنة، وإذا ذكرت القصور، ذكرت أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أفشى السلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام، حينما تعلم هذا النعيم المقيم العظيم من الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ} [الواقعة:10 - 14] السابقون أغلبهم في الزمان الماضي، والقليل منهم في الزمن المتأخر: {وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ} [الواقعة:14 - 40] فالبكاء إما أن يكون لأوصاف الجلال وأوصاف عظمة الله جل وعلا، وإما أن يكون لأوصاف الجمال؛ الشوق إلى ما أعد الله جل وعلا.
وقد كنت أحفظ عن جدتي رحمها الله رحمة واسعة وأحفظ عن عجائزنا وشيوخنا الكبار في السن إذا جلسوا في الطعام، قالوا: أسأل الله الكريم من فضله، يا ألله نعيم الجنة، يا ألله الجنة التي لا يتفرق أحبابها ولا يزول نعيمها، أما الآن فتكاد تنعدم سماع مثل هذه الكلمات، رحم الله الآباء والأمهات والأجداد والجدات، كانوا يعلموننا الشوق إلى الجنة، وكانوا يربون في نفوسنا أن ما نرى من النعيم ليس بشيء بالنسبة لما ينتظر المؤمنين عند الله جل وعلا، ولكن في هذا الزمان قل أن تسمع هذا، وقل أن تجد من يربي أولاده على مثل هذه المعاني.
الحاصل أيها الإخوة: أن البكاء من خشية الله أمر عظيم جداً جدا، روى الحاكم من حديث أنس مرفوعاً: (من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة) فأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من عباده الذين يستظلون بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ونسأل الله جل وعلا أن يكرم المؤمنين والمؤمنات بهذا الفضل.
ألا وإن هذه الفضائل ليست للرجال وحدهم دون النساء، وإنما هي لأولئك جميعاً، وذكر ابن حجر رحمه الله: إن مما يخص به الرجال دون النساء في الحديث كقوله ورجل قلبه معلق بالمساجد، قال: لأن صلاة المرأة في بيت زوجها أفضل.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(199/17)
الأسئلة(199/18)
شاب يستقيم تارة ويعوج تارة
السؤال
إنني أعاني من نزاعات نفسية بين الخير والشر، فأجد نفسي ملتزماً من الملتزمين، وبين الفينة والأخرى أرجع إلى بعض المعاصي والمنكرات كالأغاني والأفلام وترك الصلوات، فضيلة الشيخ! أرجو منك أن تدلني على الخير والفضيلة وفقكم الله وسدد خطاكم؟
الجواب
هذا يسميه الإخوان سير الثعالب، سير الثعالب: هو أن تكون تارة في اليمين وبعد فجأة نجدك في أقصى اليسار، وعلى أية حال نسأل الله أن يجعل سيرك سير الجياد الأصيلة، وإذا أردت أن تصدق نفسك، فاعلم أنك يوم أن تجد نفسك واحداً من المقصرين أو المنحرفين ما ذاك إلا لوجودك بينهم، إذ لا يعقل أن تجد نفسك منحرفاً بين إخوانك الطيبين، وحينما يفرط الإنسان في قول الله جل وعلا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] حينما تنصرف عن هؤلاء وتعدو عيناك عنهم إلى غيرهم، وتطيع من أغفل الله قلبه وأخلد إلى الأرض، حينئذٍ ستكون من حزبه ولا حول ولا قوة إلا بالله! والنفس البشرية -يا إخوان- سريعة التأثر
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا من كثير التقلب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجرب
الإنسان يعدَى بمن حوله، فإذا كان الذين يخالطهم في مدارسه في وظيفته في مجالسه في لقاءاته في سهراته من المنحرفين، فإنهم يزينون له الباطل درجة درجة، والله جل وعلا قد نهانا عن خطوات الشيطان، فيه إشارة إلى أن الإنسان لا يضل فجأة، حينما تسأل الآن الذين هم وراء القضبان في سجون المخدرات، أو أصحاب الجرائم ومحترفي الجرائم والعصابات، هل أولئك انحرفوا فجأة لأول وهلة؟ لا.
إنما هي جلسات ولقاءات وخلوات، تعاون فيما بينهم على منكر، درجة درجة حتى بلغوا ذروة سنام المعصية ولا حول ولا قوة إلا بالله! لذا فإني أنصحك وأشدد عليك في النصيحة أن إذا وجدت نفسك فارغاً ووجدت من قلبك ضعفاً وميلاً إلى المعصية فابحث عن مكان يجتمع فيه الأخيار؛ درس محاضرة كلمة ندوة حلقة قرآن مكتبة خيرية اذهب إلى التسجيلات الإسلامية واشترِ شريطاً اذهب إلى المكتبة وتصفح الكتب الموجودة اذهب إلى أي مكان تجد فيه أخياراً وأبراراً، والصادق -يا إخواني- الذي يريد مجاهدة نفسه سيجد في مركز الدعوة وخاصة بالذات في مدينة الرياض سيجد في مركز الدعوة والإفتاء في الرياض جداول لا تكاد أنت تغطي ولا نصفها، هناك دروس الفجر طول الأسبوع دروس بعد العصر طول الأسبوع دروس بعد المغرب دروس بعد العشاء محاضرات ندوات مشاركات.
يا أخي! مراكز الجاليات بحاجة إلى من يشارك في الدعوة إلى الله، دعوة الكفار إلى الإسلام هذه التي ظهرت بنتائج إيجابية ووصلت إلى أرقام طيبة جداً جداً، القائمون على هذه المراكز يصيحون ويضجون يريدون من يتعاون معهم، هيئة الإغاثة الإسلامية تريد من يتعاون معها، رابطة العالم الإسلامي تريد من يتعاون معها، السجون بحاجة إلى من يتعاون معها، الأعمال الخيرية كثيرة، أشغل نفسك بالطاعة تنشغل بذلك عن المعصية إن كنت صادقاً: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68] وكما تفضل الشيخ؛ لو أن الواحد منا يعزم على أن يتبع القول العمل، لوجد نفسه في ثلة مباركة من الأخيار أينما حل.(199/19)
واجبنا نحو إخواننا في البلاد المجروحة
السؤال
قضية المسلمين في خارج هذه الدولة، في دول العالم الخارجي من انتهاك الحرمات ومن سفك الدماء كقضية كشمير وغيرها، نرجو من الشيخ توضيح مسألة كيف نحمل هذه الأمة، وكيف نتحرك من أجل هذا الإسلام؟
الجواب
الذي يحمل هم شيء يتتبع أخباره بادئ ذي بدء، فمن يحمل هم المسلمين في أفغانستان يتتبع أخبارهم، ومن يحمل هم المسلمين في كشمير، في سيريلانكا، في كمبوديا، في منغوليا، في أي مكان، لابد أن يتتبع أخبارهم.
الأمر الثاني: ماذا بعد السماع؟ تحويل هذا السماع والعاطفة المتفاعلة مع هذه الأخبار إلى برنامج عمل، في كشمير يقتلون، بحاجة إلى سلاح، من الذي يشتري لهم السلاح؟ بحاجة إلى طعام، من الذين يؤمن لهم الطعام؟ بحاجة إلى غذاء، من الذين يؤمن الغذاء؟ أيتامهم بحاجة إلى كفالة، من الذي يؤمن لهم كفالة؟ بعض طلابهم بحاجة إلى تعليم، من الذي يتكفل بهؤلاء؟ من الذي يتكفل بإرسال عشرة أو عشرين طالباً من طلاب الجامعات من كشمير إلى مواصلة الطب هنا أو في أي دولة من الدول التي يواصلون فيه دراسات الطب ويصبحون أطباء؟ خدمة الإسلام لا تنحصر في مجال واحد يا إخوان، خدمة الإسلام حتى وإن تعذر عليك أن تخدم المسلمين هنا، لو تعذرت فمن شأنك أن تجمع المال وتأخذ المسلم من كمبوديا وترسله إلى الجامعة الإسلامية في باكستان أو جامعة أخرى وترسله إلى هناك، قد يقول قائل: العدد في الجامعة الإسلامية هنا مكتفٍ، والجامعات امتلأت، ما هناك إمكانية، هل نقف؟ إخواننا بحاجة إلى تعليمهم الفقه، بحاجة إلى تدريسهم القضاء، بحاجة إلى أن يتخرج من أبنائهم أطباء ومهندسون وكيميائيون وفيزيائيون، كيف تستطيع أن تعلم هؤلاء؟ اجمع المال، خذ لهذا الطالب منحة فأنت تخرجه من دولة إلى دولة على حسابك وأنت هنا، هل يشترط في التجارة أن تأخذ البضاعة من اليابان وتأتي بها إلى هنا؟ هناك من أكبر التجار من لا تعرف بضاعته هذه البلاد، يشتري البضاعة من اليابان ويبيعها في قطر، يشتري البضاعة من كمبوديا ويبيعها في تركيا، يشتري البضاعة من اليونان ويبيعها في إيطاليا، فينبغي أن نكون على مستوى تفكير ووعي، وما مع الحب إن أخلصت من سأم، إذا وجد الاهتمام سنجد السبل إلى العمل.
ومثلٌ أضربه ورددته كثيراً: يا إخوان! لو أن واحداً منا يريد الزواج من فتاة ذكر من محاسنها وصفاتها ما تشرئب إليه الأعناق وما تتمناه القلوب، ما الذي يحصل؟ ستجد أن الواحد أولاً يعرف موقع بيتها تماماً، وربما عرف أمتار البيت، ورقم صك حجة الاستحكام الذي خرج فيه ذلك البيت، ثانياً: ستجد أنه يحاول أن يتعرف على أبيها وأصدقاء أبيها، يتعرف على أمها وصديقات أمها، على أخواتها ومدرسات أخواتها ومدرساتها، ستجد أن الرجل يبني أخطبوطاً من العلاقات حتى يصل إلى هذه الفتاة ويخطبها ويحقق النية بالزواج منها.
فمن أحب الدعوة إلى الله وأحب خدمة الإسلام ولو بأقل من حبه لهذا المستوى سيعرف كيف يعمل.(199/20)
هل أكون من الذين يظلهم الله
السؤال
أنا شاب تبتُ إلى الله عز وجل بعد مدة طويلة وبعد عكوف عظيم على كثير من المنكرات، فضيلة الشيخ! هل أكون من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؟
الجواب
يا أخي الكريم! نسأل الله لنا ولك ذلك، التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، أما قضية أننا نحدثك هل أنت في ظل عرش الله أم لست في ظل العرش، من الذي يعلم ذلك؟ يقول العلماء: ولا نشهد لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من شهد له الله ورسوله بالجنة، ولكن نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقاب، حتى أحب أحبابنا وأقرب من نعرفه بالدعوة والصلاح والاستقامة لا يجوز أن نقول هذا من أهل الجنة، نقول: نسأل الله أن يكون من أهل الجنة، وحتى أفجر الناس لا نقول هذا في النار، بعض الناس إذا رأى مجرماً، قال: أما أنت ففي الدور الرابع من قعر جهنم، وهل علمت أنه من أهل النار؟! هل علمت أنه من أسفل سافلين؟! اتق الله! قد يتوب قبل موته، قد يعمل أعمالاً يسبقك أنت يا من تكلمت فيه، ومن الذي يتألى على الله تقول: إن الله لا يغفر لهذا؟ لا يجوز هذا الكلام، إنما نقول: نسأل الله لك ولأنفسنا وإخواننا أجمعين أن نكون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.
ونقول يا أخي: إذا كان العرش عظيماً فما بالك بظله، أيضاً ظل عرش الله عظيم، وظل كل شيء بحسبه، فإذا كنا لا نكيف هذا العرش وعقولنا أصغر من أن تحيط بالعرش وصفاً وعلماً، فكذلك ظل العرش الكلام فيه كالكلام في العرش أصلاً.
نرجو الله أن يتغمدنا وإياك برحمته.
.
نستغل مثل هذه اللقاءات، ولا نريد أن نسميها استغلالاً بل هي في الحقيقة اغتناماً، ولا نريد أن نكلف النفوس أكثر مما تطيق، فهناك مشاريع خيرية، ومن إخوانكم في الله من الشباب الطيبين المحتاجين للمساعدة، ولا أكتمكم أن عدداً منهم شكا إليَّ حاجته ومسكنته وفقره، وقد زكاه فضيلة الشيخ/ سعيد بن مسفر حفظه الله، ووعدت فضيلة الشيخ/ سعيد بن مسفر بن مفرح الداعية الإسلامي المعروف، قلت له: في أقرب محاضرة سوف أحدث الإخوة بجمع بعض التبرعات لمساعدة عدد من هؤلاء الشباب في أمر زواجهم وقضاء شيء من ديونهم.
أرجو من الإخوة أن يتبرعوا ولو بالقليل، نحن لا نريد من مائة شخص أن يدفع على الخمسين ريال، لكن نريد من كل شخص أن يدفع خمسة ريالات إذا تيسر ذلك أو من أغلب الأشخاص، فإن القليل من الكثير يكون كثيراً بإذن الله، كما أرجو أن يقف على الأبواب التي حولكم وبجواركم من الأخوة من يجمع هذا المال ويسلمه للإمام جزاه الله خيراً، ونحن بدورنا نعطيه الشيخ تعاوناً على هذا وجزاكم الله خيراً.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(199/21)
نعمة الأمن
إن الأمن نعمة جليلة من نعم الله، لا يعرف قدرها إلا من فقدها وحرم العيش تحت ظلها، لا من سخرها لغير مرضاة الله وطاعته.
أيها الأحبة: هانحن اليوم نسمع باجتياح الكويت من قبل البعثيين وما حل بهم؛ فما هو واجبنا تجاه ذلك؟ وما هي العبر من ذلك؟ هذا ما ستعرفونه في هذه المادة.(200/1)
الظلم وأنواعه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإنها سبب الطمأنينة والأمن والرزق والرخاء والنِعم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] والظلم في هذه الآية هو الشرك، ويتناول كل ما سواه من أنواع الظلم بالتبع، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الظلم على أنواع ثلاثة: فأولها ظلمٌ لا يقبل من العبد معه عدلاً ولا صرفاً، ولا قليلاً ولا كثيراً، ذلك المعني في قول الله تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فإن من جاء بهذا الظلم الكبير -وهو الشرك- فلا حظ له في الأمن ولا الهداية ولا القبول ولا الفوز والنجاة.
والنوع الثاني من أنواع الظلم: وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً بعدوان بعضهم على حقوق بعض، ودماء وأعراض بعض، وأموال بعضهم البعض، فهذا الظلم معفو عنه برد الحقوق إلى أصحابها والتوبة إلى الله جل وعلا.
والنوع الثالث من الظلم الذي تتناوله الآية: ألا وهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات، والفواحش والخطيئات؛ فهذا الذنب إن كان من الكبائر فلا مغفرة لصحابه إلا بالتوبة الصادقة النصوح، وإن كان من الصغائر على غير إصرار من فاعله فذلك مكفرٌ بقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] وقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] والشاهد كما يقول شيخ الإسلام سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: إن من أتى بنوعٍ من الظلم فقد نقص حظه من الأمن، ومن أتى بالظلم كله فقد فَقَدَ الأمن كله، ومن أقل أو أكثر في الظلم كثر أو قل نصيبه في الأمن بقدر ما فعل.(200/2)
نعمة الأمن وفضلها
أسوق هذا -أيها الأحبة- مقدمةً لأقول: إن الأمن نعمة من نعم الله جل وعلا، وكثيرٌ من النعم لا يعرفها أصحابها إلا عند فقدها، فالصحة نعمةٌ لا يعرف تمام فضلها إلا المرضى، والماء نعمةٌ لا يعرف تمام فضلها إلا العطشى، والطعام نعمة لا يعرف حقيقة فضلها إلا الجياع، والكسوة نعمة لا يعرف حقيقة فضلها إلا من كان عريانا، فكل نعمة تعرف بفقدها وبضدها، نعوذ بالله من ضد النعم، ونعوذ بالله من سائر النقم.
معاشر المؤمنين: إننا في نعمة من أعظم النعم التي تفقدها كثير من الأمم ويغبن فيها كثير من الناس، ويسخرونها لغير مرضاة الله وطاعته.
إن من نال أمناً وطمأنينة فحري به أن يسخر هذه النعمة في الدعوة إلى الله وعبادة الله على بصيرة، وشكر نعم الله جل وعلا، لا أن يكون الأمن سبباً للهو والطرب، والعبث والرقص كما هو شأن كثير من العباد والعياذ بالله.
عباد الله: اعلموا أن البشرية وإن جمعوا أموالاً طائلة، وإن نكحوا عدداً من الزوجات، وإن تقلبوا في مختلف مظاهر المدنية، ما قيمة هذا كله بدون أمن؟! ما قيمة المال إذا كنت خائفاً لا تستطيع أن تجاوز بيتك لتشتري به قليلاً أو كثيراً؟! وما قيمة الحدائق ما دمت خائفاً لا تستطيع أن تنعم بظلالها الوارفة، ما قيمة الطرق وأنت خائفٌ لا تستطيع أن تسير أو تتجول فيها؟! ما قيمة الأسواق وأنت خائفٌ لا تستطيع أن تقضي حوائجك منها؟! ما قيمة كل ما تراه من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وشمالك وأنت مضطرب خائفٌ فزعٌ لا تستطيع أن تنال من هذا شيئاً؟! إذاً: أليست نعمة الأمن مقدمة على نعمة الأموال، وعلى نعمة الثراء، وعلى نعمة المدنية والحضارة، وعلى كل مظاهر النعم التي يتنافس الناس فيها ويحسد أو يغبط بعضهم بعضاً عليها؟ عباد الله: أقول هذا والقلب كله أسى، والكبد مكلوم، والفؤاد مفطورٌ لما حل بإخواننا المسلمين في الكويت من اجتياح بعثي كافر غاشم، على أرض إخواننا المسلمين.
أيها الأحبة: نقول هذا لأننا نعلم أن في البلاد رجالاً ودعاةً وصالحين، وعباد وأتقياء ومؤمنين، نعلم أن كل أولئك يعيشون على هذه الأرض، وأن هذا الأمر الذي حل بهم علم الله أنه أصابنا ما أصابهم وجعلنا نتأسى ونهتم ونغتم لما أصابهم، وهذا واجب كل مسلم، لا أن يقف موقف الشامت أو المتفرح أو الناقد.
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
إذا ما الدهر جر على أناس حوادثه أناخ بآخرينا
إلى الذين يشمتون بمصائب إخوانهم نقول لهم: الأيام دول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فقد يقع بهم كحال مَن شمتوا فيهم، وإن الأيام متقلبة، ولكن المتفرج على كربة أخيه يدفع الغرامة ضعفين، فلا أقل من أن نرفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا أن يرفع عنهم الوباء، وأن يدفع عنهم البلاء، وأن يبعد أولئك الفجرة البعثيين عن أرضهم، ونسأل الله جل وعلا أن يحفظ أعراضهم، نسأل الله أن يحفظ أعراض بناتهم وزوجاتهم ونسائهم، نسأل الله أن يحفظ ذرياتهم، نسأل الله أن يحفظ دماءهم، نسأل الله أن يَمنُّ عليهم بالهداية، وأن يتفضل عليهم بأمن وعفو وعافية وفضلٍ ورعبٍ في قلوب أعدائهم يدفع البلاء عنهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(200/3)
المسلمون هم هدف الحروب الأوروبية الصليبية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: هل سمعتم أن دولة أوروبية اجتاحت دولة أوروبية مثلها، هل سمعتم أن ولاية أمريكية اجتاحت ولاية أمريكية مثلها، هل سمعتم أن أرضاً كافرةً اجتاحت أرضاً كافرة مثلها، حتى ما نراه ونسمعه ونقرأه ونشاهده عبر مختلف الوسائل من أن بلاداً غربية غزت بلاداً غربية أخرى فاعلموا أن حقيقة المغزو فيها هم المسلمون.
إن ما سمعناه ورأينا شيئاً من مشاهده وتابعناه في مصائب ليبيريا من الحكومة القائمة والحكومة المتدخلة التي سطت على أراضيها، واستمرار المذابح على أرض تلك البلاد تشير الإحصائيات أن نسبة الضحايا من المسلمين نالت المرتبة الأولى، حكومة نصرانية تهاجمها جماعة نصرانية والذبح في المسلمين، إنها تمثيلية، إنه مخطط غاشم نحن عنه غافلون.(200/4)
الأمن نعمة يقذفها الله في القلوب نتيجة العبادة
معاشر المؤمنين: اعلموا أن الأمن ليس بكثرة الجنود، ولا بكثرة الأجهزة، واعلموا أن الأمن ليس بتعدد أنواع وسائل النقل أو الأخبار أو الرصد أو غير ذلك، ولكن الأمن في القلوب، الأمن نعمة يقذفها الله جل وعلا في قلوب العباد، وهذه النعمة نتيجة العبودية لله، والقيام بشرعة والدينونة بدينه وتحكيم أوامره، وتطبيق نهجه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة: أليست أمريكا أكثر الدول جيوشاً؟ أليست أكثرها أجهزة للأمن، وأدقها أجهزة لمكافحة الجريمة ومتابعة الجريمة والإنذار المبكر للجريمة؟ مع ذلك في كل دقيقة حادثة اغتصاب، وفي كل ساعة حادثة قتل، وفي كل نصف ساعة حادثة سرقة، وفي كل لحظة من لحظات الزمن يسجل التاريخ جريمةً من الجرائم، مع أنها من أرقى الدول إن لم تكن أرقى دولة في أسباب الأمن ومكافحة الجريمة! إذاً: نعلم من هذا أن الأمن ليس بكثرة الجنود ولا الرجال ولا الأجهزة، وإنما الأمن نتيجة عبادة الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} لم يظلموا أنفسهم بشركٍ، أو بظلم بعضهم بعضا، أو بظلم أنفسهم بالذنوب والمعاصي والسيئات: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وعرف الأمن هنا بـ (أل) التي استغرقت جميع الأمن، الأمن النفسي والعسكري والإغاثي والاجتماعي والاقتصادي، وجميع ما يصدق عليه مسمى الأمن، فإن من عبد ربه من دون وقوع في الظلم فإن له الأمن.(200/5)
الواجب على الأمة تجاه ما حل بالكويت
عباد الله: ما أنتم فاعلون بعد هذا؟ إن كثيراً منا لما سمعوا وتابعوا الأخبار في لندن ورويتر ووكالات الأخبار ما زادوا على ذلك شيئاً، والله -يا عباد الله- إن كنا نعرف حقيقة نذر الله للعباد، وإن كنا نتعامل مع سنن الله في الكون، فإن من واجبنا بعد أن سمعنا هذا الاجتياح الغاشم لإخواننا المسلمين أن ننظف البيوت من المعاصي، نطهر البيوت من السيئات، ونتوب إلى الله من الفواحش والخطيئات، وما دفع البلاء إلا بتوبةٍ صادقة، وما نزلت عقوبة إلا بذنب وما رفعت إلا بتوبة من ذلك.
فيا معاشر المؤمنين: أين التضرع إلى الله، والله إني كنت أقول في نفسي: لتضجن المساجد بالقنوت في صلاة الفجر لتدعوا للمسلمين في الكويت أن يرفع الله عنهم هذا البلاء وهذا العدوان الغاشم، ولكن يا للأسف! لعل الكثير منا لم يدع لهم في ركوعه أو سجوده، لماذا يا عباد الله؟! أهكذا بلغت بنا الأنانية أن نتفرج على الأحداث؟ كم بيننا وبين هذه النار المحرقة؟ كم بيننا وبين هذا العدوان الغاشم؟ إنه عدوان حل بجيراننا ومع ذلك فهل ما نراه يغير في سلوكنا؟ هل يغير في واقعنا؟ هل يجعلنا أشد عودة إلى الله؟ هل يجعلنا أكثر رغبةً فيما عند الله؟ هل يجعلنا أشد تمسكاً بدين الله جل وعلا؟ إن من أعظم المصائب أن الإنسان يبتلى وينذر بالعقوبة أو بما شابهها ثم بعد ذلك هو لا يدري.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم(200/6)
التقوى هي النسب بين الخالق والمخلوق
يا معاشر المؤمنين: اعلموا أننا ولله الحمد والمنة على ما فينا من التقصير والنقص -لأن من بلغ به المدح إلى الإطراء حري أن يحثا في وجهه التراب- فإننا لا نزال بخيرٍ ونعمةٍ في تطبيق حدود الله وتحكيم كتابه، ومع هذا فإننا والله بأمس الحاجة على أن نتتبع كلام الله حرفاً حرفاً وآيةً آية لنطبقه في واقعنا، ونعمل به في مجتمعاتنا، فإن ذلك أول سببٍ يحفظنا الله جل وعلا به، ولن نكون أفضل عند الله من الكويتيين أو من أي دولةٍ من الدول؛ لأننا من أهل نجد أو من أنحاء الجزيرة، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بالتقوى فمن كان أتقاهم لله كان أقربهم منه.
إن بلالاً العبد الحبشي الأسود الذي أكرمه الله بالصحبة لفي أعظم منزل من منازل الملوك والرؤساء وأشراف القبائل، لماذا؟ لأننا نعلم أن هذا الدين كلٌ مكانه فيه بحسب قربه من الله، فإذا كنا نعلم أن الأمن من الله فلا بد أن نتقرب إلى الله بطاعة الله ومرضاته، والبعد عما يسخطه واجتناب ما نهى الله جل وعلا عنه.
فيا معاشر المؤمنين: الخوف الخوف! من العقوبة، والبدار البدار! إلى التوبة، استعدوا وأنيبوا وأسلموا وأخبتوا إلى ربكم، واعملوا أن الأمور وإن كانت تحزُّ في النفس إلا أنه ولله الحمد والمنة -حتى الآن- لم يحصل لأحد إخواننا في الكويت ما ينقل أن بيته اغتصب، أو أن داره دوهمت، أو دخل عليه في عقر داره، لكن هل ننتظر حتى يدخل الفجرة في بيوتهم؟ نعوذ بالله من أن يكون ذلك مما ننتظره أو مما نعده طمأنينة كافية، بل لن نطمئن حتى يخرج إلى أولئك الفجرة من آخر شبر من أراضيهم ويرتدوا على أدبارهم منكسرين.
اللهم لا تجعل ذنوبنا سبباً لما حصل لإخواننا يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر.(200/7)
هل من عودة قبل الموت؟
تكلم الشيخ في بداية هذه المادة عن حقيقة الموت ثم أتبعها بقصص واقعية تبيّن حسن الخاتمة وسوءها، ثم ختمها بالتحذير من المعاصي التي تؤدي إلى سوء الخاتمة.(201/1)
حقيقة الموت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! معاشر الأحبة: هناك مدخل رئيسي، وهناك حقيقة لابد من طرحها، وقضية لابد من مواجهتها، قضية لابد أن نواجهها نحن، لابد أن يواجهها كل واحد في هذا المسجد، ولابد أن يواجهها كل مسلم وكافر، كل بعيد وقريب، كل ذليل وحقير، كل عزيز وأمير، كل صعلوك ووزير، إنها حقيقة الموت.
هي نهاية المطاف، هي خاتمة الدنيا، كل البشرية تشهد وتعلم وتنطق أن نهايتها هي الموت، وأن منتهى الطريق بالنسبة لها هو الانقطاع عن هذه الدنيا، انقطاع النفس، وانقطاع الروح، وانقطاع الجوارح، فالعين لا تبصر، واليد لا تتحرك، والأذن لا تسمع، والنَّفَسُ لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايين لا تنبض.
إنها النهاية الأخيرة التي يواجهها ويقف أمامها كل صغير وكبير، كل بعيد وقريب.
وكثيراً ما سمعنا بشباب كانوا في غفلة وبعد، كانوا في قسوة وجفاء وغلظة، كانوا في قطيعة وعقوق، بعضهم يشهد ويقر على نفسه، يقول: ما ركعتها في المسجد مع الجماعة، وبعضهم يقول: ما جانبت كأس الخمر مرة.
وبعضهم يقول: ما سافرت إلا واقعت الفاحشة.
فإذا به في يوم من الأيام تجده باكياً خاشعاً، ساجداً راكعاً، سبحان مقلب القلوب والأبصار! من الذي غير هذا؟ من الذي بدل أحواله؟ إنه الله جل وعلا، ولكن كيف السبب؟ ما هو السبيل؟ وأي طريقة وصلت إلى قلبه؟ قدر الله على الكثيرين منهم أن يقفوا مشهداً ماثلاً حقيقياً لا محيص ولا مناص عنه، قدر الله للكثير منهم أن يقفوا أمام حقيقة الموت وهم بأم أعينهم وأمهات أبصارهم يشهدون صديقاً أو حبيباً أو قريباً، ولا ينفع طبيبهم، ولا يجدي نحيبهم.(201/2)
قصص متفرقة في حسن وسوء الخاتمة
حدثني أحدهم قال: كنت مسافراً في دراسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان شأني شأن كثير من الشباب الذين يقضون الليل في الملهى، والمساء في المرقص، والعبث الذي تعنيه كلمة العبث بأبعادها ومعانيها، وذات يوم وكنا آيبين من ملهانا وعبثنا، تقدم بعضنا إلى السكن، أما واحد منا فلقد استبطأناه، ثم قلنا: لعله يأتي بعد سويعة، أو بعد ساعة، أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما أتى، فنزلنا نبحث يميناً وشمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لابد أن يكون في موقف السيارات (الكراج) تحت البناء، فدخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة فوجدنا السيارة لا زال محركها يدور، وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة وهو في مكانه، والموسيقى الهادئة لا زالت منذ آخر الليل حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن، فصحنا نادينا، تكلمنا: يا أخانا، يا صاحبنا فإذا به قد انقطع عن الدنيا منذ اللحظة التي وقفت سيارته في ذلك الكراج.
هذه نهاية أشعلت في قلوب الكثير من أولئك الشباب يقظة وغيرة، وعودة وإنابة، وتوبة وخضوعاً إلى الله، فعادوا إلى الله تائبين، ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها، بل أنابوا واستكانوا وعادوا لربهم، أسأل الله أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه، وأن يتجاوز عنا وعنه.
هذه واحدة والأخرى ليس لها إلا أيام قليلة سمعتها من أحد إخواني في الله، يقول: كنت كغيري من سائر الشباب، وفي ليلة من الليالي التي كنت أسهر فيها مع أحبابي وأصدقائي، ومن بينهم واحد من الأحبة هو أعز حبيب إلي، وأعز صديق إلى قلبي، وأقرب قريب إلى فؤادي، بينما أنا وإياه إذا به فجأة يصرخ: فلان! أدركني.
ما الذي بك؟! إني أحس بشيء في قلبي.
قال: فدنوت منه، فإذا هو يتلبط ويتقلب، ويقول: أسرع لي بطبيب!! فناديت واتصلت بمن يحضر لنا طبيباً، وكانت الفترة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة أو عشرين دقيقة ونحن ننتظر وصول الطبيب، وفي تلك الدقائق وكان يقول: إني أحس بالفراق، إنها النهاية، إنها الخاتمة، سأفارق الدنيا، سأترك طفلي، سأترك زوجتي، سأفارقكم، ستضعونني في كذا، ستتركونني وحدي.
وأخذ يمر عليه سجل ذكرياته، وأخذت تتقلب أمامه صحائف أفعاله، قال: وأنا أنظر إليه وكلي وحشة ودهشة، وكلي عجب وغرابة، وأنا أنتفض وهو يحاسب نفسه ويعاتب روحه، وأنا والله أصبره وأنا أشد ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي منه، فأخذت أتقلب في ذلك الموقف وما هي إلا ست عشرة دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحه، وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضع قريبنا وصديقنا وأعز أحبابنا وأجل أقاربنا نضعه في مثواه الأخير، ونواري عليه التراب، أحب الأحباب هو الذي يتقن من اللحد ألا يتسرب منه ذرة هواء أو إشعاع نور، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه في مثواه الأخير، وانصرفنا.
شاب من مدة ليست بالقريبة حدثني عن أحد الشباب بما تسمى بـ بانكوك، قال: لقد كان في ضلالة وبلاء، وقد كان في أمر لا يفيق من جرائه من المخدرات أو الشراب، وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات، وفي لحظة من سكره وشوق إلى عهره تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، وقد كاد يجن من تأخرها، فما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه، فلما رآها خر ساجداً لها تعظيماً، خر ساجداً لها! وما الذي تنتظرونه؟ هي السجدة الأخيرة، هي النهاية، والله ما قام من سجدته، بل أقاموه في تابوته وأرسلوه بطائرته، ودفنوه مع سائر الموتى.
أيها الأحبة: إن هذا الموت هو أخطر وأعظم وأكبر حقيقة يواجهها الشقي والسعيد، الغني والفقير، العزيز والذليل، الرفيع والحقير، ومن أجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) (ألا وإني كنت نهايتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة).
أيها الأحبة: أسوق هذه الأحداث متفرقة مختلفة وكلها تختلف من حيث الخاتمة والنهاية، لكنها في مؤدى واحد وهو الخاتمة، أي خاتمة نواجهها؟ أي نهاية نفضي إليها؟ وأي عمر يمتد بنا؟ وأي شباب نتقلب فيه حتى ننتقل منه إلى الشيخوخة ثم نتوب بعد ذلك هل ضمنا هذه الحياة؟ وهل ضمنا هذه الأعمار؟ بادروا بالتوبة، بادروا بالإنابة قبل أن يخطفكم الموت، ويخطفكم الأمل، وتمضي الملائكة بوديعة الله من أرضه إلى السماء، فتكون في أعلى عليين أو في أسفل سافلين.
إن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة لأمر خطير وعجيب وجليل جداً، جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يجهز جيشاً من الجيوش لمعركة حاسمة مع الكفار، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ كافر، فقال: (يا محمد! أرأيت إن اتبعتك، فما الذي لي وما الذي علي؟ قال: إن شهدت أن لا إله إلا الله وأني رسول الله كان لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم، فقال: ما على هذا أتبعك.
فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن غنموا فأنت معهم في الغنيمة، وإن مت فلك الجنة من الله جل وعلا، فقال ذلك الصحابي: والله ما على هذا اتبعتك -أي: ما اتبعتك لأجل الغنيمة- وإنما اتبعتك على أن أغزو معك فأرمى بسهم من هاهنا، وأشار إلى نحره ويخرج السهم من هاهنا وأشار إلى قفاه) ثم دخل المعركة وقاتل وأبلى بلاء حسناً، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمي بسهم دخل في نحره وخرج من قفاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدق الله فصدقه، بخ بخ! عمل قليلاً ونال كثيراً) دخل الجنة وما سجد لله سجدة.
انظروا الخاتمة، انظروا النهاية، انظروا الخاتمة وتأملوها واعتبروا بها، أسأل الله أن يحسن لي ولكم الخاتمة، وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يتوفانا على التوحيد شهداء.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(201/3)
التحذير من سوء الخاتمة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذارع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) حديث صحيح.
أيها الأحبة في الله: هذا الحديث عمدة في حسن الخاتمة وسوءها، نسأل الله جل وعلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، نسأل الله جل وعلا الثبات على نعمة الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الأنبياء وسيد المرسلين، أول من ينشق عنه القبر، وأول من تفتح له أبواب الجنة، وأول من ينال أعلى منازلها، وهو صاحب المقام المحمود، وهو صاحب الوسيلة والشفاعة العظمى، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كان يطيل قيامه وصيامه، وكان يطيل سجوده وتهجده، ويقول: (يا مقلب القلوب! يا مقلب القلوب! يا مقلب القلوب!).
فيا عباد الله: اسألوا الله جل وعلا بهذا الدعاء، اسألوا الله الذي بيده النواصي، اسألوا الله الذي بيده القلوب وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن التي تليق بجليل وجهه وعظيم سلطانه، اسألوا الله أن يثبت قلوبنا وقلوبكم على الإيمان، وأن يعصمنا من الزيغ والضلالة، ومن الغواية بعد الهداية، ومن الفساد بعد الصلاح.
وأنتم يا شباب المسلمين! إن الكثير من شبابنا يسوفون التوبة ويؤجلون الإنابة، وينشغلون بالعبث ويلهون في الباطل ظناً منهم بأن الحياة أمامهم، وهم في ريعان الشباب، وفي ربيع العمر، وفي زهرة الدنيا يظنون أن الاستقامة تعقيد، وأن الطاعة وسوسة، وأن الإخبات لله تضييق وتشديد لا والله يا عباد الله! إننا نفوت على أنفسنا حظاً عظيماً من السعادة بقدر ما نفوته من الأعمال الصالحة، واعلموا أن الموت ساعة لا تتقدم ولا تتأخر، فمن الذي يضمن خروجه من المسجد؟ ومن ذا الذي يضمن يقظته من فراشه؟ ومن ذا الذي يضمن عودته إلى بيته؟ ومن ذا الذي يضمن وصوله إلى عمله؟ إذا كان هذا شأننا فيا عجباً لقسوة قلوب لا تدري متى تخطف، وهي مع ذلك عابثة لاهية:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
فيا عباد الله: استعدوا للقاء الله، وبادروا بالتوبة، والخضوع والإنابة، إنما هذه الدنيا متاع قليل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] والله إن هذه الدنيا بما فيها من ملذات وشهوات، ومراكب وقصور، ودور وضيعات، وزوجات وجنات، وأموال وذريات لا تعدل غمسة في نار جهنم، وإن الشقاء في هذه الدنيا بما فيه من الفقر والمرض، والسقم والذلة، وضيق الحال لا يساوي غمسة في نعيم الجنة، يوم القيامة يؤتى بألذ أهل الدنيا حالاً وأيسرهم عيشاً ثم يغمس غمسة وهي أقل جزء من أجزاء اللحظة يغمس غمسة في النار فيقال: يا بن آدم! هل رأيت نعيماً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب! ما مر بي نعيم قط.
ينسى نعيم الدنيا كله في غمسة صغيرة دقيقة في النار.
ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً وفقراً ومرضاً فيغمس غمسة واحدة في الجنة فيقال: يا بن آدم! هل مر بك بؤس قط، هل مر بك شقاء قط؟ فيقول: يا رب! ما مر بي شقاء، وما مر بي بؤس.
فلنعد لذلك اليوم وهو يوم لابد أن نَرِدَهُ على صراط أدق من الشعرة وأحد من السيف، الناس يمضون عليه على قدر أعمالهم، وكلاليب جهنم عن يمين ويسار، فمن المؤمنين الذين يسعون ونورهم بين أيديهم مد أبصارهم يمرونه كالبرق الخاطف، ومن المؤمنين من يمرونه كأجاود الخيل، ومنهم من يمره كأسرع الناس عدواً، ومنهم من يحبو على الصراط حبواً، ومنهم من يمضي عليه فتدركه كلاليب جهنم، أدركته أعماله السيئة وتفريطه في حقه، وتضييعه وتقصيره في جنب الله وطاعته.
فلنعد لذلك اليوم، ولنعد لدار سوف نسكنها، سوف نبقى فيها، والله ما نفع أهل الأموال أموالهم: أين الملوك؟ أين الأمراء؟ أين الوزراء؟ أين الرؤساء؟ أين الخلفاء؟ أين الذين ملكوا؟ أين الذين نالوا؟ أين الذين جمعوا؟ أين الأغنياء؟ أين الأثرياء؟ أين الكبراء؟ لقد ودعوهم وودعناهم في حفرة لا فراش فيها ولا خادم، ولا مائدة فيها ولا باب إليها، لا نور يضيئها ولا هواء يهويها، لا شيء فيها إلا خرقة بيضاء يحسدك الدود عليها فينتزعها من جسمك، ولا يتركها لك، كتب الله أن تعود إلى هذه الدنيا في نهاية المطاف وفي خاتمة الأمر كما نزلت عليها، حتى كفنك ينازعك الدود فيه فيقرضه منك خيطاً خيطاً، شعرةً شعرةً، وينتزعه من جسدك، فإن منَّ الله عليك وكنت من الصالحين عوضك الله بهذا الكفن أبواباً إلى الجنان، ونعيماً مقيماً في دار الخلود، فتفتح لك أبواب الجنة ويضاء لك القبر، وتؤنس بعملك الصالح، وتبقى زاهياً متغنياً، تقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة.
وإن كنت من أهل الشقاء، من أهل الضياع الذين ضاعت أموالهم في الربا، وتركوا المساجد، وغفلوا عن الجماعات، وضيعوا حقوق الله، وانتهكوا محارمه، في كل سفر وفي كل ذهاب وإياب، لا يراعون حرمات الله، يواقعون الفواحش لا يبالون، فإنك لا تجني من الشوك العنب، وكل سيلقى عمله أمامه.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
انظروا واجمعوا في صناديقكم، لو زار كل واحد منا قبره في الأسبوع مرة، في نصف الشهر مرة، في الشهر مرة وأنت تنظر: هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي، هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وضياعاً، وحرماناً وحسرة؟؟ أسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، اللهم أبقنا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً الله فجازه بالحسنات إحساناً.(201/4)
هل من وقفة للمحاسبة؟
تأملوا طلوع الشمس من مشرقها مضيئة ثم غروبها واصفرارها، ثم هجوم الظلام ورحيل الضياء، ثم بزوغ فجر جديد يسير بنا نحو الغايات والآجال، بل تأملوا بزوغ تلك الأهلة صغيرة نحيلة، ثم نموها نحو الكمال والجمال، وما بعد ذاك إلا المحاق والزوال، وكذلك أنتم يا عباد الله! تكونون نطفاً في الأرحام ثم علقاً ومضغاً، وتولدون دقاقاً ضعافاً، ثم تكونون شباباً، ثم تبلغون أشدكم ثم تكونون شيوخاً، فمنكم من يرد إلى أرذل العمر ومنكم من تخطفه الآجال، فيا من علمتم أن هذا حالكم ومصيركم! ماذا أعددتم للقاء ربكم؟!(202/1)
أثر مسير الأعوام في الأعمار
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أحمده سبحانه وأُثني عليه الخير كله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله الله سبحانه وتعالى إلى الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه ومن تمسك بسنته وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المؤمنين: بعد يومين أو ثلاثة تطوون صحائف عام كامل مضى وانقضى، وتبدءون عاماً جديداً، ولعلكم تعجبون وتقولون: سرعان ما انقضى ذلك العام، ومرت كالبرق فيه تلك الليالي والأيام.
لا شك -يا عباد الله- أنها مطاياكم تَحث بكم السير إلى نهايتكم، فالليل يسير بكم مرحلة، والنهار يُقدمكم أخرى، وكل يوم تمرون به يباعدكم عن الدنيا ويقربكم إلى الآخرة، أليست -عباد الله- حكمة بالغة وآية واضحة، ودليل فناء وانقضاء؟ معاشر المؤمنين: لا شك أن سرعان مضي الأيام، غالباً يمر على أهل السعادة والصحة والعافية، وإن تباطؤ وثقل تلك الأيام يمر على أهل العلل والمصائب، وإلا فإن الليل والنهار بين السعادة والشقاء، كله أربع وعشرون ساعة، منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى يومنا هذا، لكنه النعيم والوصال، أو البلاء والمصيبة، تجعل بعض الأيام سريعة المضي والانقضاء، وتجعل غيرها بطيئة المضي والانقضاء، وكما يقول القائل:
مرت سنين بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
معاشر المؤمنين: تأملوا طلوع الشمس من مشرقها مشرقة مضيئة، ثم زوالها ثم غروبها مصفرة ضعيفة، ثم هجوم الظلام ورحيل الضياء، ثم بزوغ فجر جديد يطوي بالعباد يوماً بليلة، وستحث بهم الخطى نحو الغايات والآجال.
تأملوا بزوغ الأهلة صغيرة نحيلة، ثم تنمو نحو الكمال وبدور الجمال، وماذا بعدها إلا المحاق والزوال، وأنتم يا بني آدم في الأرحام نطفاً، وتخلقون علقاً ومضغاً، وتولدون رقاقاً ضعافا، ثم تكونون شباباً، ثم تبلغون أشدكم ثم تكونون شيوخا، فمنكم من يرد إلى أرذل العمر، ومنكم من تخطفه الآجال قبل ذلك.
عباد الله: كل شيء في هذا الوجود دليل على الفناء والزوال، وشاهد على بقاء رب العزة والجلال: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور:44].
تأملوا عامكم الذي ودعتم، وتأملوا عامكم الذي ودعكم كم ولد فيه من مولود، وكما مات فيه من حي، وكم عز فيه من ذليل، وكم ذل فيه من عزيز، وكم اغتنى فيه من فقير، وكم افتقر فيه من غني، وكم حصل فيه من اجتماع بعد افتراق، وافتراق بعد اجتماع، كم صح فيه من سقيم، كم اعتل فيه من صحيح، كم وكم وكم.
تقلبٌ وتغيرٌ وتبدلٌ يطوى في الليالي والأيام، وترحل به الشهور والأعوام، فسبحان المتفرد بالبقاء والدوام.(202/2)
من أقوال السلف في مضي الأعمار
قيل لنوح عليه الصلاة والسلام، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: يا أطول الأنبياء عمرا! كيف رأيت هذه الدنيا؟ فقال: رأيتها كداخل من باب وخارج من آخر.
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فقال: (أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت).
وخطب أبو بكر رضي الله عنه، فقال: [إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا].
وقال عمر بن الخطاب في خطبته: [أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]].
عباد الله: فلنحاسب أنفسنا في عامنا المنصرم، ولنجرؤ في السؤال، ولنصدق ب
الجواب
كيف قضينا ساعاته؟ وفيما أمضينا أوقاته؟ نسأل أنفسنا اليوم وسنسأل عن هذا غداً.(202/3)
المحاسبة بين يدي الله عن الأوقات والأعمار
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله ديناراً ديناراً درهماً درهماً، من أين اكتسبه وفيما أنفقه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فيا ليت شعري من أعد منا لهذا السؤال جواباً؟ الناس أمام هذا الأمر مذاهبهم شتى، أجوبتهم متباينة، منهم من أفنى عمره في الدنيار والدرهم الزائل والحطام الفاني، أبلى شبابه في مضاعفة ما جمع بأي سبيل وعبر أي وسيلة، قد أفنى عمره في الغفلة والكسل، واللهو والعبث، قد غره التسويف مع طول الأمل، أما العلم فلم يبال بالعمل بما علمه، أو تعلم ما جهله، بل إن منهم من جعل ذلك وراءه ظهرياً، أما المال فإن الكثيرين لم يألوا جهداً في اكتسابه من أي طريق حل أو حرم، ما دامت البضاعة تزجي لهم ربحاً، وتسح المال عليهم سحاً، فتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، ولم يزل ذلك دأبهم حتى خرجوا من الدنيا مذمومين مدحورين مفلسين من الحسنات والأعمال الصالحات، فاجتمعت عليهم سكرات الموت، وحسرات الفوت، وهول المطلع، فيندم الواحد منهم على تفريطه، يوم لا ينفعه الندم، وبعد أن زلت به إلى الموت القدم: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:24 - 26] ومنهم من ربح عمره وتزود فيه لآخرته، أفنى عمره في طاعة ربه، والتزم بشرائع دينه، وأبلى شبابه في مجاهدة نفسه من دونه، فعلم وعمل وصبر وصابر، واكتسب المال من حله وأنفقه في محله، فهنيئاً له النجاح والفوز والفلاح، يقال له عند ختامه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
أسأل الله أن نكون وإياكم أجمعين من أولئك، ومن كان حاله كذلك فليسأل الله الثبات وليلزم، ومن كان غير ذلك فليبادر إلى التوبة ما استطاع.
وما المرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة بعيداً عن الدنيا بعيداً عن القبر
تأملوا فناء الأعوام، وتجدد الأيام، تأملوا ذلك يا عباد الله، وليكن لكم فيه عبرة.
أشاب الصغير وأفنى الكبير مر الغداة وكر العشي
إذا ليلة أهرمت أختها أتى بعد ذلك يوم فتي
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(202/4)
الحث على التوبة والتشمير في العمل الصالح
الحمد لله منزل الكتاب، وهازم الأحزاب، وخالق الخلق من تراب، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه مآب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: مضى من أعمارنا عام سبقته أعوام، ذلك العام لا تعود منه دقيقة واحدة مهما اجتمعت على ذلك من قوات الإنس والجن والبشرية، لا تستطيع أن ترد دقيقة واحدة منه، ولو أوتيت كل وسيلة من ذلك.
معاشر المؤمنين: اعتبروا في هذا الفوات الذي لا استدراك له إلا بالتوبة والإنابة، ومضاعفة العمل والجد والتشمير في طاعة الله.
جاء في الأثر: [في كل صباح ينادي مناد: يا بن آدم! أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود أبداً] ويقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).(202/5)
الموت هو بداية الحياة فما أعددنا
اعلموا يا عباد الله: أن الموت ليس هو النهاية، بل إن الموت هو بداية الحياة الطويلة، هو بداية الحياة البرزخية، هو بداية الحياة التي يقال فيها للناس بعد ذلك: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت، إذاً: فاستعدوا لما بعد الموت، استعدوا في هذه الأيام ما دمتم في فراغ ولله الحمد والمنة، لم يكونوا منشغلين بفقر أو بمرض أو بسقم أو ببلاء أو بمصيبة، استغلوا شبابكم قبل هرمكم، وجاهدوا أنفسكم قبل أن تغلبكم، وتداركوا أوقاتكم قبل أن تخطفكم الآجال، قبل ألا تنالوا ما تسوفونه وتتمنونه.
أسأل الله جل وعلا أن يمن علي وعليكم بالاستدراك قبل الفوات، والاستعداد قبل الممات:
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلا وأصبحت في يوم عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غد لعل غداً يأتي وأنت فقيد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعود
فتداركوا يا عباد الله! تداركوا الأمور قبل الفوات، واستعدوا قبل الممات، إنها والله يا عباد الله لحظات ثم لا يدري الإنسان ولا يستطيع الإنسان الاستدراك، إن الموت يأتي بغتة، إن الأجل يخطف العبد خطفة.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
اجتهدوا في ملء هذا الصندوق بالأعمال الصالحة، اجتهدوا أن تجدوا أنيساً لكم من أعمالكم يؤانسكم في وحشتكم، ويحادثكم في غربتكم، ويقربكم إلى مغفرة ربكم برحمة خالقكم، اجتهدوا -يا عباد الله- وإنا والله لفي غفلة، وإنا والله لفي شغل عن أمر الآخرة، وإن الكثير من المسلمين لفي إدبار عن دين الله جل وعلا ولا عذر لهم ولا حجة، وقد آتاهم الله جل وعلا من عافية الأبدان، وكثرة الأموال، والبركة في الأرزاق ما لم يؤت أحداً من العالمين، ما جوابهم أمام الله، الكثير منهم يسمع نداء الله، يسمع دعاة الفلاح يؤذنون في كل صباح: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، فلا يهب الكثير منهم، بل يأنسون ويرغبون ويتثاقلون في فرشهم، قد بال الشيطان على نواصي الكثير منهم.
ألا وإن ذلك خطر عظيم، وبلاء على الأمة جسيم.
عباد الله: إن ما نراه ونشاهده في صلاة الفجر خاصة، وهو أن كثيراً من المسلمين لا يشهدون هذه الفريضة مع جماعة المسلمين إنها لمصيبة عظيمة، إنها لبلية كبيرة، ولا تدرون يا عباد الله أن الله جل وعلا قد يحدث عليكم من البلاء والفتن والمصائب بسبب ذنب واحد من الذنوب، فكيف إذا جمعنا على أنفسنا ذنوباً عدة، أليس الكثير منا يتخلف عن الصلاة في جماعة؟ أليس البعض والعياذ بالله لا يعرف الصلاة إلا يوم الجمعة؟ أليس بعض المسلمين يسمع آيات الله تتلى في تحريم أكل المال بالباطل، وأن الله جل وعلا قد آذن آكل المال بالباطل بحرب منه ومن رسوله ومع ذلك يسمونها بغير اسمها، ويأكلون الحرام جهاراً نهارا؟ أفلا يخشون الله؟ أفلا يخافون ربهم الذي خلقهم؟ إن كثيراً من المسلمين قد سخروا نعماً وهبها الله لهم في عصيان الله، ومعاندته ومخالفة أمره، فيا سبحان الحليم العظيم الذي يؤتي العباد آذاناً فيسمعون بها ما يغضبه، ويخلق للعباد أبصاراً فيرون بها ما حرم عليهم، ويؤتيهم من الأيدي والأرجل ما يملكون به بطشاً فيسعون به إلى عصيان الله، سبحان الحليم العظيم، ما أحلم الله على خلقه.
ولكن اعلموا يا عباد الله أن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم ولا يهمله، فإذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر.
نسأل الله جل وعلا أن يتلطف بنا، وأن يمن علينا بالتوبة والاستدراك إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد الإسلام بسوء، وأراد ولاة أمره بفتنة، وأراد علماءه بمكيدة، وأراد شبابه بضلال، وأراد نساءه بتبرج واختلاط وسفور، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بالشعوبيين الفرس، اللهم عليك بهم فإنهم لا يصدقون كتابك، ولا يصدقون بنبوة نبيك، ويسبون صحابة نبيك.
اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أهلكهم جميعا، اللهم أحصهم عددا، وأهلكم بدداً ولا تبق منهم أحداً، اللهم لا ترفع سوط عذابك عنهم، اللهم أهلك زروعهم وضروعهم، اللهم انتقم للمسلمين منهم، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
ربنا إن عبادك يحجون يلبون لك، وإن غيرهم من الشعوبيين يلبون للزعماء والرؤساء، اللهم اجعل تلبيتهم حسرة عليهم، واصبب سوط عذابك عليهم بقدرتك وجبروتك يا رب السماوات والأرض فإنك عزيز وقوي قادر، وأمرك بين الكاف والنون، وإذا أردت شيئاً فإنما تقول له كن فيكون، لا إله إلا أنت ربنا عليك توكلنا ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى قواتنا، ولا إلى جندنا، ولا إلى عتادنا، وكلنا إلى وجهك الكريم، وبارك لنا فيما عندنا من الرجال والسلاح والقادة والعتاد.
اللهم وفقنا لطاعتك، واعصمنا مما يسخطك، اللهم إنا نسألك أن تحيينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم إنا نسألك توبة قبل الموت، وراحة بعد الموت، ونعيماً وجنةً بعد الموت، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم آتنا صحفنا باليمين، واجعلنا على حوض نبينا واردين.
اللهم اجعلنا على الصراط من العابرين، اللهم أدخلنا الجنة بسلام أول الداخلين، اللهم بيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمنافقين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا فرجته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لوالدينا واجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اغفر لهم ولجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله وحده لا شريك له يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(202/6)
هل نحن غثاء؟
أضاع المسلمون مجداً بناه الأجداد، وزادوا عليه بإضاعة أنفسهم، والأمر كما قال عمر: (لقد أعزنا الله بالإسلام؛ فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)، وعليه فمهما تعلقنا بالمبادئ الأرضية فنحن في سفل لا علو.
فيجب أن نعود إلى الله؛ لكي يرحمنا ويرفع ما بنا من ذل وغثائية؛ فنعيد مجد ديننا وكتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.(203/1)
المسلمون لما أصابهم الوهن
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلي آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى في أنفسكم، اتقوا الله تعالى فيما ولاكم الله، اتقوا الله تعالى في إخوانكم المسلمين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطابٍ جمع فيه أصحابه: (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها؟ قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، يصيبكم الوهن وينزع الله المهابة من صدور أعدائكم، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
تعالوا بنا يا عباد الله! لننظر هذا الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، هل تداعت الأكلة على المسلمين؟ هل تداعى الأعداء والشياطين والكفار والمجرمون على المسلمين في هذا الزمان كما تداعى الأكلة إلى قصعتها؟ نعم يا عباد الله! لقد اعتدوا وقتلوا وشردوا ونهبوا وسلبوا، لقد صدق صلى الله عليه وسلم.
ثم تعالوا نسأل سؤالاً آخر: هل نحن قلةٌ في هذا الزمان؟ هل المسلمون قليلٌ في هذا الزمان؟ لا والله، إننا اليوم كثير جداً، إن أعظم تعدادٍ لنسبٍ منتمية إلى دينٍ من الأديان لهو تعداد المسلمين؛ بلغ تعدادهم ألف مليون مسلم (مليار مسلم) وما زال قدسٌ من مقدسات المسلمين يئن تحت وطأت اليهود منذ ثمانين أو سبعين عاماً، وما زالت قطاعٌ ودولٌ وأراضٍ من بلدان المسلمين ترزح تحت نير الاستعمار وسلطة الكفر والطغيان.
نحن الآن كثيرٌ جداً، هل من قلةٍ نحن يا رسول الله؟ قال: (لا.
أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء) فهل نحن غثاءٌ في هذا الزمان؟ نعم والله يا عباد الله! إن طوائف عديدة من أبناء المسلمين ورجالهم غثاءٌ كغثاء السيل لا ينفعون ولا يضرون، لا يقدمون ولا يدفعون لا يعرفون لأنفسهم مصلحةً أو يتخذون تجاه دينهم وعقيدتهم موقفاً، نعم والله إنهم غثاء، ألف مليون مسلم وهم أشد الناس تسلطاً على رقابهم، وهم أشد الناس استضعافاً لأنفسهم بما تركوا من كتاب الله وسنة نبيه: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله مهابتكم من صدور أعدائكم).
هل بعد نزع هذه المهابة نزعٌ يا عباد الله؟ نعم، إن عادت النفوس إلى دينها، انظروا حال المسلمين اليوم يتجرأ الأعداء على النساء والأبرياء والأطفال والصغار، والشيوخ والعجائز! أين شبابنا؟! أين رجالنا؟! أين أمتنا؟! إنهم غثاءٌ كغثاء السيل، قد نُزعت المهابة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي).
أين هذه الأمة التي نُصرت بالرعب مسيرة شهر؟ إنا لا نراها الآن، إن بين كثيرٍ من أمم المسلمين وبين أعدائهم ليس مسيرة شهر بل كيلوا مترات معدودة، لكن أين الخوف من المسلمين وأين الرهبة من المسلمين؟ لقد ضاعت في جوانح الشهوات، لقد ضاعت في ألوان المغريات، لقد ضاعت في جنبات الملهيات، إذن فليس المسلم الذي يهابه العدو هو المسلم الموجود الآن إلا ما ندر من أبناء المسلمين.
نعم هو باقٍ على دينه نحكم له بحكم الإسلام، ويُعطى حقوق المسلمين، وتُأخذ منه واجبات المسلمين، لكن أهو الذي يُهاب؟ أهو المسلم الذي ينصر بالرعب مسيرة شهر؟ أهو المسلم الحري بخرق العادات وسنن الكون؟ لا نظنه ذلك المسلم الذي بلغ تعداده في هذا الزمان مليار مسلم إلا ما ندر وقلّ حتى لا نكون مبالغين أو مجاوزين.
قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت).
نعم يا عباد الله! لقد تعلقنا بالدنيا تعلقاً شديداً؛ لقد تعلقنا بهذا الحطام الفاني تعلقاً شديداً إلى حدٍ أن ألفنا الترف والراحة والدعة والخمول، إلى حدٍ جعلتنا لا نفكر في شأن مسلمٍ يئن ويصيح ويستغيث ويستنجد ويستفزع، لقد بلغ بنا حد الترف وبلغ بنا حد الدعة وبلغ بنا حد الخمول إلى درجة عجيبةٍ جداً.
إننا لنعجب يوم أن نسمع أخباراً عن الجهاد في فلسطين، عن شبابٍ يدفنون أحياء، عن نساء يغتصبن، عن حوامل يجهض حملهن من بطونهن، عن شبابٍ تكسر أيديهم وأرجلهم حتى لا يرفعون سلاحاً، عن أمةٍ شردت في أفغانستان، عن مليوني رأس تطايرت على أرض الجهاد، عن خمسة ملايين مهاجر، عن خمسمائة ألف يدٍ ورجلٍ وشلوٍ مزع وقطع والمسلمون سكارى في خمر شهوتهم، والمسلمون في غفلةٍ عظيمة.
يا زمان استفق! ويا ضمير انتبه! ويا مسلم استيقظ! أين أنت؟ وأين انتسابك لدينك؟ أين نخوتك؟ أين نجدتك؟ أين بذلك؟ أين معونتك؟ أين شهامتك؟ أين كرم الآباء؟ أين نخوة الأجداد؟ الله المستعان على زمانٍ مضى لأمة المسلمين كان لنا فيه عزة، صاحت امرأة قد اعتدي عليها؛ فسُير لها جيشٌ آخره في أرض الخلافة وأوله في عمورية، صاحت امرأة وقالت: وامعتصماه فبلغ الخليفة هذا النبأ فسير لها جيشاً أوله في عمورية وآخره في أرض الخلافة، والآن يا عباد الله! هل سمعتم صيحة نادت وامعتصماه؟ نعم والله سمعناها ولكن!
رب وامعتصماه انطلقت ملئ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
ألإسرائيل تبقى دولةٌ في حمى البيت وظل الحرم(203/2)
أين نحن من ما ضٍ سلف؟
وأين نحن من واقعٍ نعيشه؟! وأين نحن من غفلة وقعنا فيها؟! واستحكمت شهواتها وملذاتها في قلوبنا نحن يا معاشر المسلمين؟ أين عزة الإسلام؟ أين عزة المسلمين في قلوبنا نحن يا معاشر المسلمين؟ أين لواء الإسلام خفاقاً على أرض المعمورة، تمر سحابة فيرفع هارون الرشيد رأسه يخاطب سحابةً تمر يقول لها: [أمطري حيث شئت فيسأتيني خراجك] سيأتي خراج هذه السحابة، سيأتي ما نتج من مطرها إلى أرض الخلافة.
يا معاشر المسلمين:
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها ولصاغ منها الحلي والدينارا
أين هذه العزة التي مشت جبالاً فوق الجبال، وبحاراً فوق البحار، وشُهباً في أعالي السماء، ونجوماً في أعالي الكون؟ أين هذه العزة يا عباد الله؟ إن هذا سؤالٌ يُوجه لكل مسلم: هل نعتز بأحكام ديننا؟ هل نعتز بشريعتنا؟ هل نعتز بأمتنا؟ إن مسلماً لا يعتز بدينه يُطرق حياءً وليس والله حياء، بل هو خنوعٌ وخضوع، إن مسلماً يُطرق خنوعاً وخضوعاً لا يُغير منكراً يراه، كيف نلتمس العزة من هذا المسلم؟! إن مسلماً قد استعبد الشيطان قلبه، إن مسلماً استحكمت الشهوة في بدنه، إن مسلماً سلب المال لبه، كيف نرجو من مسلمٍ كهذا عزة؟ أين المسلم الذي لا يهاب الموت؟ أين المسلم الذي يقول:
ترددت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدما
أين المسلم الذي يقول:
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ كطعم الموت في أمرٍ عظيم
أين المسلم الذي يقول:
إذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تموت جبانا
ذاك مسلمٌ قل وندر في هذا الزمان، ذاك مسلم لا تكاد تجد في الألف إلا واحداً منه.
عباد الله! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يُغلب اثنا عشر ألف من قلة) أعجزت أمة الإسلام أن تنجب اثني عشر ألف مسلمٍ في هذا الزمان، مصيبةٌ من أعظم المصائب، ولا عجب في ذلك يا عباد الله: إن الهوان والذلة والصغار على من ترك الجهاد، على من ترك النخوة، على من ترك النجدة، وسيأتي يومٌ يؤكل فيه كما أُكل إخوانه.
يقول قائد اتحاد المجاهدين: عبد رب الرسول سياف: إننا لنلوم آباءنا وأجدادنا لأنهم سكتوا ولم ينجدوا المسلمين في بخارى وترمذ وسمرقند فأكلتهم الشيوعية، ثم تقدمت الشيوعية نحونا وقديماً قيل: (أُكلت يوم أكل الثور الأبيض) والله من رأى جاره يُؤكل ويقتل فليكونن القتل قريباً إليه.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجرب
عباد الله! لا تعجبوا من ذلة المسلمين، لا تعجبوا من هوانهم على الناس، لا تعجبوا من قلة حيلتهم، لا تعجبوا من ضعفهم، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(203/3)
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! أيكفي أن نطلق خطباً حماسيةً نستلهب فيها المشاعر والعواطف، أيكفي أن نسب العدو صباح مساء، أيكفي أن نلعن الظالمين والغاشمين؟ ليس هذا والله بسلاح، وليس هذا والله بعمل، وليس هذا والله بتدبير، إنما التدبير يا عباد الله! أن نجتهد في العودة إلى ديننا، أن نجتهد في العودة إلى كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أفراداً وأسراً ومجتمعات وحكوماتٍ ودولاً.
إنه لا سبيل للعزة إلا بهذا الأمر، إنه لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام؛ ومهما أردنا العزة بغيره أذلنا الله].
فيا عباد الله! تمسكوا بالنور المبين وسنة سيد المرسلين، فهما والله مصدر العزة، حاربوا المنكرات ولا تجعلوا لها مكاناً ظاهراً في مجتمعكم، تتبعوا الفساد والمفسدين، وليكن كل مسلمٍ حارساً أميناً، وجندياً على ثغرٍ من ثغور الأمة حتى لا يتسلل الفساد أياً كان، إدارياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غير ذلك؛ حتى لا يتسلل الفساد إلى جماعة المسلمين، حتى لا يجد الانحراف مكاناً وموقعاً في صف المسلمين.
أيها الأحبة في الله! ما الذي جعل شباب الأمة في غفلةٍ عما يُراد بهم، ما الذي جعل رجالات الأمة في منأى عما يحاك ضدهم؟ إنه اللهو والترف، إنه الضياع! يا شباب المسلمين! كم رأيتم فلماً من الأفلام؟ كم شاهدتم من المسلسلات؟ هل رأيتم ذات يومٍ فلماً واحداً عن الجهاد في أفغانستان؟ هل رأيتم يوماً فلماً واحداً اسمه الشهادة؟ هل رأيتم يوماً فلماً اسمه حصار قلعة؟ هل رأيتم يوماً واحداً صفحةٍ من صفحات التاريخ المعاصرة التي سجلها الشهداء في أرض الجهاد؟! يا شباب الإسلام! ما الذي عزلكم عن واقع أمتكم، ما الذي جعل كثيراً من شبابنا حينما يخرج من عمله أو من جامعته أو من كليته يتجه إلى حيث قدم اشتراكاً في محلٍ من محلات الفيديو آخر فيلم ساهر، آخر رقصةٍ ماجنة، آخر مسلسلة خليعة، آخر فلم رعبٍ، آخر مسلسلٍ بوليسي، وما رأى والله ذات يومٍ فيلماً واحداً عن الجهاد في أفغانستان، ما رأى يوماً واحداً فيلماً عن الانتفاضة في فلسطين.(203/4)
كره الأعداء لنا ولديننا
كيف يفعل بالأبرياء؟! وكيف يقتل العزل؟! وكيف تهان الكرامة؟! وكيف تجهض الحوامل؟! انظروا ما دمتم رأيتم، انظروا هذه الأفلام، اقلبوا الموجة ولو مرةً واحدة؛ لتدركوا إلى أي مدى إخوانكم يذبحون ذبح الشياه، وينهكون نهك النعاج، أين غيرة شباب المسلمين؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
اقرءوا عن إخوانكم، تتبعوا أحوالهم، إن الناس قد أشغلهم أمر الدينار لما أوشكت الحرب العراقية الإيرانية أن تقف، إن الناس أشغلهم أمر الليرة هل ترتفع أم لا؟ وما أشغلهم يومٌ من الأيام مذبحةٌ من مذابح المسلمين في أي قطرٍ من أقطار المسلمين.
فيا عباد الله! اسمعوا إلى نفثات جريحٍ قالها وهو يتشحط في دماء إخوانه:
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيب
فحقٌ ضائعٌ وحمىً مباحٌ وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيب
فكم من مسلمٍ أمسى سليباً ومسلمةٌ لها حرمٌ سليب
وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوقٌ وتحريق المصاحف فيه طيب
أمورٌ لو تأملهن طفلٌ لطفل في عوارضه المشيب
أما لله والإسلام حقٌ يدافع عنه شبانٌ وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38] {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:38] فمنكم من ينفق، ومنكم يا عباد الله من يتردد، منكم من يحاسب الريال محاسبةً شديدة، منكم من يحدث المبلغ حديثاً ذا شجون، هل يخرجه أم لا؟ فيا عباد الله:
أصون نفسي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
فينبغي أن نصون الأعراض، وأن نرفع الجهاد، وأن نقدم آيات الولاء صادقةً لله ولكتابه وللمجاهدين ولأئمة المسلمين بكل ما أوتينا، بأنفسنا، بأموالنا، بأقلامنا، بصحفنا، بوسائلنا وبكل أمرٍ استطعنا أن نحمله.
يا عباد الله! انتبهوا لما يحاك ويدبر ضد إخوانكم المسلمين، إن الحرب تمشي خطوةً خطوة، تأملوا الحرب التي حلت بإخواننا المسلمين، أياً كان نوعها، عسكريةً وفكرية، والله إن الذي جعلهم يتسلطون على هذه البقعة بعينها ليس هو كره هذه الدولة وحب لبقية الدول من أبناء المسلمين؟ لا وألف لا، لكنهم يريدون المسلمين لقمةً لقمةً، يريدونهم خطوةً خطوةً.
إن من تتبع مناهج الفساد ومظاهره التي تحل بمجتمعات المسلمين، والتفت إلى الوراء قليلاً لينظر كيف حل الفساد بدولٍ إسلامية، انقلبت علمانية أو شيوعية أو اشتراكية، ليرى المخطط يمضي درجةً درجةً، ويمشي خطوةً خطوةً، وما أشبه الليلة بالبارحة.
فيا عباد الله! أفيقوا واستفيقوا، وانتبهوا لما يراد بكم، عودوا إلى الله عوداً حميداً، عودوا إلى الإسلام عوداً جديداً، انبذوا المنكرات، حاربوا المنكر وأهله، ارفعوا بالإسلام رأياً، لا تتركوا المساجد واعمروها بطاعة الله، أزيلوا الضغائن والشحناء بين النفوس، كونوا عباد الله إخواناً واثبتوا صفاً واحداً، والله لا سبيل للأمة إلا بالجماعة، وإن الفرقة لهي شرٌ مستطيرٌ على الأمة، فاتحدوا واستعينوا {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
اللهم أغز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم إنهم يريدون بهذه الجزيرة شراً، اللهم إنهم يريدون بالحرمين سوءاً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
اللهم من أراد بنا سوءاً، وبولاة أمرنا فتنة، وبعلمائنا مكيدة، وبشبابنا ضلالة، وبنسائنا تبرجاً وسفوراً؛ اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم شتت له ما تجمع، اللهم فرق له ما تجمع، اللهم عليك بأعداء دينك، اللهم عليك باليهود والشيوعيين والجعفرية والإثني عشرية، اللهم مزقهم واجعلهم بدداً، اللهم لا تبق منهم أحداً، اللهم اهلك زروعهم وضروعهم، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له وللأمة، وأبعد عنه من عملت فيه شراً له وللأمة، اللهم سخر لنا وله ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم لا تشمت بنا حاسداً ولا تفرح علينا عدواً.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته.
اللهم ادفع عنا البلاء والزنا والزلازل والمحن؛ ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
شباب الإسلام أعود إلى كلمة نسيتها: إن الدعاة منكم، إن الذين أدركوا درجة الوعي ودرجة الفهم وبلغوا مرتبة الدعوة، وبلغوا مرحلة الاستقامة والالتزام، فعليهم واجبٌ أضعاف أضعاف ما على غيرهم من الواجبات: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] إنهم لا يستوون في الدرجات، فكذلك لا يستوون في الواجبات، إن من علم تحمل مسئولية، فيا شباب الإسلام! احفظوا مجتمعكم بالدعوة إلى الله عبر وسائلها المختلفة.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(203/5)
هم الآخرة [1]
الآخرة هي نهاية الدنيا، فمن كانت الآخرة همه فإن الله يجمع له شمله، ويجعل غناه بين عينيه، ومن كانت الدنيا همه فرّق الله عليه شمله، وجعل الفقر بين عينيه، فصاحب هم الآخرة تراه حزيناً دائب العمل للآخرة، سريع التأثر إذا ما رأى جنازة وفي هذه المادة ما يحدوك إلى أن تجعل الآخرة نصب عينيك.(204/1)
شرح حديث من كانت الآخرة همه
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واسمعوا قول ربكم عز وجل في محكم كتابه حيث يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] واسمعوا قول ربكم عز وجل في محكم كتابه حيث يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] واسمعوا قول ربكم عز وجل حيث يقول: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:200 - 202].
معاشر المؤمنين: إن الله جل وعلا خلق هذه الدنيا وأودع فيها من الكنوز والخيرات والثمرات، وحبب إلينا أصنافاً وأنواعاً من نعيمها وطيباتها وملذاتها، فلا يظنن ظان أن الله أباح الطيبات وندب إلى السعي في الدنيا وحبب الناس إلى شيء من لذاتها، ثم بعد ذلك يحرمها عليهم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] أوليس جل وعلا هو الذي قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] أوليس ربنا عز وجل هو الذي قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] ثم بين ربنا عز وجل أن في الآخرة ما هو خير من الدنيا: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17] {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4].
بين ربنا عز وجل بعد ذكر هذه المحببات المزينات إلى النفوس أن هناك ما هو خير منها: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15] ذلك الخير لمن؟ للذين اتقوا.
معاشر المؤمنين: إن المعاتبة والمحاسبة والملامة والمناقشة هذا اليوم ليست مع أقوام أخذوا من الدنيا نصيبهم وبذلوا هذا النصيب فيما يعين ويحقق الغاية التي من أجلها خلقوا، ألا وهي عبادة الله، وإنما الحساب والعتاب مع أحباب لنا، مع إخوان لنا أشغلتهم دنياهم واستعبدتهم، فخدموها بدلاً من أن تخدمهم، وتبعوها بدلاً من أن تتبعهم، وجعلوها غاية بدلاً من أن يجعلوها وسيلة.
معاشر المؤمنين: اسمعوا هذا الحديث من كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، أخرج هذا الحديث ابن ماجة بسند صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له) هذا حديث عجيب! وهو من جوامع الكلم، ووالله إني لأعرف أناساً كانوا متذبذبين حيرى مترددين في قلق عظيم يريدون أن يشتغلوا بالدنيا، ويريدون أن يعملوا للآخرة ويقولون: لو أشغلنا حظنا من جهدنا وفكرنا للآخرة لفات حظنا ونصيبنا من الدنيا، والناس ذئاب يتقاتلون على الدنيا فلن يبقى لنا منها شيء.
يقول قائلهم: ما زال ذاك الهم يقلقني وفي المنام يؤرقني؛ حتى قرأت هذا الحديث فكان كالماء العذب الزلال على قلب الظامئ الصديان، كان هذا الحديث شفاء من سقم تلك الوسوسة، ودواءً من علة ذلك الشك، ولا عجب أن يصيب المؤمن شيء من ذلك، إذ أن الشيطان لا يدع أحداً إلا وسوس له: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] والله جل وعلا بين أن هذا الشيطان يعدنا الفقر ويأمرنا بالفحشاء {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
تعالوا معاشر الشباب! تعالوا معاشر الشيوخ! تعالوا معاشر المسلمين! لنقرأ ولنتدبر هذا الحديث (من كانت الآخرة همه) من هو الذي يهتم للآخرة وبالآخرة وما صفاته؟ أخي الحبيب: إن كانت الآخرة همك فإنك لن يمر بك يوم إلا تذكرت فيه مصيرك ومعادك، إن كانت الآخرة همك فإنك لن ترى شيئاً من الدنيا إلا ربطته لا محالة بالآخرة، إن صعدت جسراً في الطريق تذكرت جسر جهنم، وإن لبست ثوباً تذكرت لباس أهل النار ولباس أهل الجنة، وإن شربت شراباً تذكرت شراب أهل النار وأهل الجنة، وإن أكلت طعاماً تذكرت طعام أهل النار وأهل الجنة، وإن اجتمعت بك حال أو تشتت بك أمر ستتذكر بهذا أحوال أهل النار وأحوال أهل الجنة.
أما الذي ليست الآخرة همه، ولم تشغل باله، وليس لها نصيب من فكره، فسيان إن علا أو هبط، وسيان إن لبس أو نزع، وسيان إن حل وارتحل، وسيان إن جاع أو عطش، وسيان إن نام أو استيقظ، أما من كانت الآخرة همه فإنك تراه يتذكر الآخرة في كل حال وهو يتقلب فيها من الدنيا.
أخي الحبيب: إن كانت الآخرة همك لا شك أنك لن تتحدث بحديث إلا وللآخرة فيه نصيب، فإن كان الكلام في دنيا فإن لآخرتك من دنياك نصيباً، وإن كان الكلام في أمر فإن للآخرة في بدايته أو في وسطه أو ختامه ذكراً، وبالجملة فمن كانت الآخرة همه تجده يرضى لأجل الآخرة، ويحزن لأجل الآخرة، ويغضب لأجل الآخرة، ويفرح لأجل الآخرة، ويسعى لأجل الآخرة، فمن كان كذلك فقد أوتي نعيماً وفضلاً عظيماً، ومن كانت الآخرة همه فبشارته ليست مني ولا من عالم على وجه الدنيا، بل من سيد الأنبياء الذي لا ينطق عن الهوى وحديثه وحي يوحى، من كانت الآخرة همه فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يبشره ويقول له: أبشر أولاً باجتماع شملك.
إن من كانت الآخرة همه يعطى نعمة اجتماع الشمل، فيعطى سكينة وطمأنينة، واجتماع فكر، واجتماع أهل وأحباب وشمل وإخوان، ويجنب الشقاق والقطيعة، وتجتمع دنياه عليه ويكتب له القبول في الأرض، فلا يراه أحد إلا أحبه، وبالجملة يجتمع له وحوله في طاعة الله كلما أراد، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له شمله وآتاه الله غنى في قلبه.(204/2)
حقيقة الغنى
إن الغنى ليس بأصفار على يمين الأرقام في الأرصدة الجامدة أو المتحركة في البنوك، وإن الغنى ليس في الضِيَاع والعقارات المتناثرة يمنة ويسرة، وإن الغنى ليس في المراكب، وكم من رجل أصفاره لا تعد على يمين أرقام حساباته، وكم من رجل لا يحصي صكوكه ووثائق أملاكه، وكم من رجل أوتي من الضِيَاع والضيعات والأموال كثيراً ومع ذلك تجد الريال يؤرقه، والقليل يؤذيه، والدينار يشغله ويحرمه لذة النوم، بل وربما ألوان الطعام لا يتلذذ بها.
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقال
ويقول آخر:
أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الله يأتي بعدها بوصال
وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصل معقب بزوال
تجد ذلك الذي تزاحمت الأرقام في أرصدته لا يهنأ؛ لأنه ربما تذكر ذكرى الحسرة لا ذكرى العبرة، تذكر أنه سيفارق هذا؛ ولأجل ذلك تجد بعضهم بقدر لهثه وسعيه ودأبه وكده في جمع الدنيا على اختلاف أصنافها ومجالاتها لا يتلذذ بها، فكلما تجدد له نوع كسب من الدنيا تجددت له علة جديدة، إما في همه أو في بدنه، أو فيمن حوله.
لذا فإن من كانت الآخرة همه آتاه الله اجتماع الشمل ثم أورثه وأنعم عليه بغنى القلب؛ ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) رواه مسلم.
فتجد هذا الذي جعل الآخرة همه قانعاً راضياً سعيداً باشاً ضحوكاً، طيب القلب لين الجانب، خافض الجناح حسن المعاملة، في كل أمر تراه راضياً مرضياً، غير لحوح في بذل الأسباب للحصول على الدنيا، يعمل بقول نبيه: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) يعني: بذلاً معقولاً مناسباً في الحصول على الدنيا، لا أن يجعل الدنيا همه فتشغله، يبيت عليها، ويرى في المنام أحلاماً حولها، يستيقظ مفكراً فيها، ويمشي خطوات في تحصيلها، ويحزن ساعات على فواتها، ولا يجتمع بأهل لأجلها، ولا يصل رحماً لأجل صلته بها، ولا يبر الوالدين لأجل اشتغاله بها.
هكذا -أيها الأحبة- من كان غناه في عرضه فلن يجد لذة الغنى الحقيقية، إن لذة الغنى هي في القلب، ولأجل ذلك تجد الكريم غنياً في قلبه:
تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبض لم تجبه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
تجد العبد الغني في قلبه لا يتردد ببذل دنياه، إن أدبرت لا يحزن، وإن أقبلت لا يفرح {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] يجد أن من صميم زهده في الدنيا أن ما أقبل منها فلأجل الله، وما أدبر منها فبقدر الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجعل ما أقبل علينا من الدنيا في طاعته، وأن يجعل ما أدبر عنا من الدنيا حراماً يصرف عنا بمنه وكرمه.(204/3)
من كانت الآخرة همه أتته الدنيا وهي راغمة
أيها الأحبة في الله: من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا راغمة، هذه الدنيا شأنها عجيب، إن لحقتها فرت عنك، وإن أعرضت عنها لحقتك، وهذا والله مجرب، واسأل كثيراً من الصالحين أو ممن عملوا في الدين والدنيا، يقولون: إن اشتغلنا بدنيانا أدبرت عنا ولحقناها فأشغلتنا، وتبعناها فضيعت أوقاتنا، فإذا أعرضنا عنها لأمر الآخرة إذ بألوانها وعروضها تحوم حولنا وتتزخرف لنا تتراقص طرباً بين نواظرنا علنا أن نعود إليها من جديد، فالعاقل يقبل إلى الآخرة وستأتيه الدنيا راغمة.
إن الدنيا من الله والآخرة إلى الله، ومن طلب الآخرة فإن الله يبعث له الدنيا ويرسلها، ومن اشتغل بدنياه التي قسمت وفُرِغ من شأنها، وطوي الكتاب في صحائفها، وجف القلم بالزائد والناقص منها، من طلب الدنيا في أمر قد قسم وانتهى فذلك مشغول بما فرغ منه، ومن طلب الآخرة فيما له حظ في كل زيادة يحققه فيها جعل الله الدنيا تابعة لاحقة.
أذكر شخصاً من علماء المسلمين الذين أفضوا إلى ربهم ولا بأس أن أذكره فقد أفضى إلى ربه عز وجل، ذلكم هو الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد الذي كان رئيساً للتمييز وقبله للإفتاء ومن العلماء الأجلاء المعروفين، وله من الكتب والمصنفات شيء كثير، وقد أدركته في آخر حياته، يقول: كنت في بداية عمري فقيراً لا أجد إلا قيمة الحبر والقمطر، لا أجد إلا قيمة القلم واللوح وشيء من البلغة في طلب العلم، قال: وفي يقيني أن الله جل وعلا سيفتح علي من الدنيا ما يزيد عن حاجتي وحاجة أهلي، ثم يحدثني ويقول: وأنا الآن أجد حولي من الدنيا شيئاً كثيراً أضعاف أضعاف ما كان يخطر ببالي، قال: كنت مشغولاً بطلب العلم وكنت مشغولاً مع الإخوان في بيت الإخوان في مدينة الرياض بطلب العلم والتدريس والمناقشة، كنت آنذاك فقيراً، أو قليل ذات اليد، وفي يقيني أن الدنيا ستأتي، قال: فما هي إلا سنوات حتى أتت الدنيا من كل جانب، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، وأن يتغمد روحه وأن يسكنه الجنان بمنه وكرمه.(204/4)
من كانت الدنيا همه شتت الله شمله
أيها الأحبة: إقبال الدنيا ومجيئها لمن اهتم بالآخرة أمر غريب عجيب! قال ابن الجوزي: الدنيا ظل، إن أعرضت عن ظلك لحقك، وإن طلبته تقاصر دونك.
وأما من كانت الدنيا همه -كما في تتمة الحديث- (ومن كانت الدنيا همه فإن الله جل وعلا يشتت عليه ضيعته ولا يأتيه من الدنيا إلا ما قسم له) أي: من كانت الدنيا تفكيره، لأجلها يقدم خطوة، ولأجلها يتقهقر أخرى، من كانت الدنيا سبباً في قربه وبعده، وابتسامته ونطقه وصمته وكلامه، ورضاه وسخطه وحزنه ومعاتبته، فليعلم أنه يعاقب عقوبة عاجلة: أولها: تشتت الشمل، فكل ما حوله متشتت حتى ولو رآهم رأي العين بين يديه، انظر لمن حوى الدنيا بأجمعها، واسأله عن حال قربه بأهله وزوجاته وأبنائه وأولاده، تجد أولاده يتمنون الدقيقة من وقته ليقابلوه، موظفوه يقابلونه أضعاف أضعاف ما يقابله أبناؤه، وخدمه يقابلونه أضعاف أضعاف ما تقابله زوجته، والسبب في ذلك أن الدنيا باتت له هماً ومطلباً، ومغنماً، ولأجل ذلك تشتت شمله حتى وإن كان الأمر بين يديه، وزد على ذلك أن الفقر يلازمه، ولا يعني ذلك أن له صك إعسار ثبت فيه عسره أمام غرمائه، لا وألف لا، بل أرصدته تملأ البنوك، ولكن الفقر بين عينيه، لو طرق الباب سائل يريد لقمة لأعطي اليوم وحرم الغد، ولو طلب أحد جهازاً من اللهو أو شيئاً من المنكر لبذل الكثير في سبيله، تجده مغداقاً منفاقاً بذولاً في الحرام والشبهات والمكروهات، شحيحاً بخيلاً في الطيبات والصدقات، وذاك من أصناف الذين اشتغلوا بالدنيا، فشتت الله شمله وأصبح الفقر لا يفارق عينه حينما يدعى إلى خير، وإذا دعي إلى شر أو حرام بذل الأموال ولم ينس أنه يحاسب، وقد نسي أنه يحاسب على ما بذل.
نعم.
الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء، وهذا والله أمر غريب وعجيب، سمعنا ورأينا وعرفنا أصنافاً من الأثرياء إذا سئل أحدهم كفالة داعية من الدعاة، أو تجهيز غاز من الغزاة، أو كفالة يتيم من الأيتام، أو بناء مسجد من المساجد، أو دار من دور الحضانة والتعليم لأبناء المسلمين؛ أخذ يتعلل بحاجة المال وصرفه وتدويره وتشغيله في صنوف شتى، وأما إذا دعي إلى سفر في جولة لأقطار الدنيا وما فيها من مشاهد محرمة وصور مظلمة، وأحوال لا ترضي الله هان عليه الدرهم والدينار.
فذاك رجل الفقر بين عينيه حينما يدعى إلى الخير والمعروف، ويغيب الفقر عن عينيه حينما يدعى إلى الحرام {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:14].
أيها الأحبة في الله: اسألوا ذلك الذي اهتم بدنياه وخدمها وأتقن حساباتها ولا ينتهي عام إلا والميزانية لمؤسسته وشركته تقدم بين يديه بالهللات والأرقام، ووراء المحاسب مراجع، ووراء المراجع محاسب قانوني، ووراء القانوني مدقق لتقدم نهاية العام كشوف في غاية الدقة والعناية، هل اهتم بأعماله بنصف هذا القدر أو بثلث هذا القدر، أو بربع هذا القدر؟ لا والله، وذلك من الحرمان.
واسأل ذلك الثري الذي أشغلته دنياه عن آخرته: كم لك من دنياك؟ هل تلبس كل ثيابك التي في خزينة ملابسك؟ ليس لك إلا ما يغطي ظهرك، وليس لك من مخازن الأطعمة إلا لقيمات تشبع بطنك، وليس لك من أنهار المياه وبحارها إلا جرعة تملأ جوفك، وليس لك من ملاذ النساء إلا فراشاً في دقائق معدودة بلذة فانية يعقبها التعب وانكسار القوة، الذين جمعوا الأموال هل تلذذوا بلذات مئات الرجال في آن واحد، وهل أكلوا مقدار ما يأكله مئات الرجال في آن واحد، أو شربوا ولبسوا بقدر ما يشربه ويلبسه مئات الرجال في آن واحد، لا وألف لا.
ملك كسرى عنه تغني كسرة وعن البحر اجتزاء بالوشل
القليل ربما أغنى وكفى عن الكثير، وصدق صلى الله عليه وسلم: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) الثري الذي دنياه لدينه وآخرته وإخوانه والمسلمين؛ قاصداً بذلك مرضاة رب العالمين، فنعم المال له! اللهم فزد له وبارك له.
أما الثري الذي أشغلته دنياه عن آخرته، وإن الأثرياء لهم إيمان بالغيب عجيب في شأن الأرصدة، يوقع الثري صفقة بخمسمائة مليون أو بمليار أو بمائة مليون، ويقبل أرقاماً وأصفاراً على ورق، لكنه ما رأى المليار وما رأى الملايين مجتمعة، رأى أرقاماً ووقع على وثيقة فآمن تمام الإيمان أنه يملك المليار، ولو قيل له: تصدق بحائطك، تصدق ببستانك، تصدق بشيء من ثروتك، واعلم أن لك في الجنة أضعافها لتردد يمنة ويسرة، وفكر وقدر، ثم هلك كيف قدر، يؤمنون بالغيب في أرقام حول أرصدة من الدنيا، وأما الإيمان بالغيب فيما أعد الله من نعيم الآخرة فإن الكثير منهم في ضعف وتردد وشك وريب، أين هو من ذلك الصحابي الذي تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، يوم أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: (لك بها سبعون ناقة مخطومة في الجنة) فأخذ يهلل ويكبر، كأنه يرى نوقه في الجنة، كأنه يسوق أذواده في الجنة، كأنه يحتلب ويدور حول نوقه في الجنة، إيمان بغيب.
وهذا صهيب الرومي لما لحقت به قريش، قالوا: جئت صعلوكاً فقيراً فآويناك وأغنيناك، أو بعد ما قويت واغتنيت تهاجر بمالك؟ والله لا ندعك، فقال: [وإن تركت لكم المال؟ قالوا: نخلي عنك، فوصف مكان ماله لهم وفر مهاجراً إلى الله] وما يغني قليل وحفنة ومتاع من الدنيا أمام الهجرة إلى الله ورسوله، إن الهجرة إلى الله ورسوله لهي أضعاف أضعاف لا يمكن أن تقاس، وكما قال صلى الله عليه وسلم -كما ذكره الإمام مسلم في كتاب وصف الجنة-: (مثل هذه الدنيا في الآخرة كمثل ما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع) إن الدنيا قطرة من الماء علقت بسبابتك وأما الآخرة فهي البحار في الدنيا مجتمعة، فمن ذا يبيع بحراً بقطرة، ومن ذا يبيع محيطاً برشفة، ومن ذا يبيع أنهاراً عذبة زلالاً بقربة، إن ذلك هو الخسران المبين.
أيها الأحبة: إن من كانت الدنيا همه فإن الدنيا تدبر عنه ولو جمع الله حوله أرقاماً وضِيَاعاً ومراكب وقصوراً؛ لكنه لا يتلذذ بها، حدثني شاب كان سابقاً يعمل مديراً للإدارة الإقليمية في بنك من البنوك الربوية، وجاء رجل من كبار السن من أهل الودائع الربوية، قال: فجاء الرجل متعكزاً على عصاه وواحدة من ودائعه بالدولار -ستون مليون دولار- قال: فجاء ونفسه مضطرب قد علت أنفاسه وخارت قواه، فقال: يا ولدي كم بلغت الفوائد على الوديعة؟ قال فقلت له: يا والد! يا شيخ! ألك حاجة في السؤال عن فوائد الوديعة وأنت ترى ما أنت فيه من ضعف الصحة وإدبار العافية، وانقطاع النفس والحرمان من كثير من اللذة؟ قال فانقلب إلي قائلاً: وهل عينوك في المكتب واعظاً أو مديراً؟ قال فما لبثت أن سمعت عنه أن انقطع للعلاج في المستشفى على سرير قد لزمه شهرين كاملين قال: فجاء بعد خروجه من المستشفى وقد وضع له جهاز ينظم ضربات قلبه -ما عاد قلبه يسعف نفسه وحاله- ثم جاء مرة أخرى على عكازه وقال: كم بلغت الوديعة؟! أليس ذلك من تشتت الشمل، أليس ذلك من الفقر، أليس ذلك من المحق؟ {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] يمحق الله الربا والمرابي في صحته وفي بدنه وفي عافيته وفي أهله، أولاده حوله لا يتمتعون بالجلوس معه، والدنيا بمتاعها ولذاتها حوله، أما الحلو منها فسكره يمنعه من تناوله، وأما المالح فضغطه يمنعه، وأما الدسم والدهن فضيق شرايينه يمنعه، إن ذلك لمن صور تشتت الشمل، لا يعني تشتت الشمل حالة واحدة فقط، بل ربما رأيت في ظاهر الأمر أن الدنيا اجتمعت لمن اهتم بها وخدمها، ولكنها في الحقيقة بين عينيه ولا يمس منها شيئاً بين يديه، ولا يدخل جوفه منها شيئاً، الدنيا حوله ولا يستمتع بقليل منها.
ومن تأمل -أيها الأحبة- حال أولئك وجد أنهم كالذي يجلس على شاطئ بحر مالح فكلما ازداد شرباً من البحر الذي لا ينفد ازداد عطشاً فعاد مرة أخرى شارباً، تخيل رجلاً قد بلغ به العطش مبلغاً، وقد نصب خيمته بجوار البحر كلما شرب ليروي ظمأه إذا به يزداد عطشاً، والبحر لن ينتهي بشرب ذلك العطشان، والشرب من الماء المالح لن يروي ظمأ ذلك الصديان.
أيها الأحبة: من تأمل حال الفريقين -من كانت الدنيا همه ومن كانت الآخرة همه- وجد أن الفرق بينهما عجيب، وعجب في هذه الدنيا! كلما سعيت في طلبها كلما أدبرت عنك وهربت.
أيها الأحبة: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [هم الدنيا ظلمة في القلب، وهم الآخرة نور في القلب] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(204/5)
صفات أصحاب هم الآخرة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: إن المتأمل لأحوال الخلق يراهم إما من أصحاب هم الآخرة أو من أصحاب هم الدنيا، أو من أصحاب هم الدنيا والآخرة، فهم المخلطون وما أكثرهم في هذا الزمان! نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم أجمعين.
يقول يحيى بن معاذ الناس ثلاثة: رجل شغله معاده عن معاشه فهو من الفائزين، ورجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين، ورجل مشتغل بالمعاش والمعاد فهو من المخاطرين.
أيها الأحبة: لئن سمعنا صفات أهل الآخرة الذين أهمتهم الآخرة، ولئن سمعنا عما أعد الله لهم فلنسأل عن صفاتهم، إن أصحاب هم الآخرة أقوام علموا أن الدنيا وسيلة وجسراً للآخرة، فتصرفوا بالدنيا ولم يجعلوها تتصرف بهم، وشتان بين من جعل الدنيا غاية وبين من جعلها وسيلة، إن من الجنون أن ترى رجلاً قد ركب جسراً ينقل أو يفضي أو يوصل من بلد إلى بلد فلما بلغ منتصف الجسر أناخ رواحله وضرب خيامه ونزل بأهله وقال: ها هنا النهاية، أتظنون أن هذا من العاقلين ولو غره ما على الجسر من المناظر والمطاعم والمآكل والمشارب، أما العاقل فلن يغتر بما يرى على قارعة الطريق؛ لأنه يعلم أن الغاية بعد لم يصل إليها.
إن الذين يجعلون الآخرة همهم لهم صفات عجيبة:(204/6)
الحزن لأجل الآخرة
فأولها: الحزن لأجل الآخرة، فترى الشخص منهم يحزن إن أذنب ذنباً، المؤمن يرى ذنبه كجبل يوشك أن يقع على رأسه، وأما المنافق وأصحاب هم الدنيا فإن الشخص منهم يرى الذنب كذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا، وأشار بيده حول أنفه فطارت، تجد الواحد منهم لا يفرق بين أن يدخل مسجداً أو يخرج إلى ملهاة، إذا وجدت قلبك يستوي عند الدخول في مكان طاعة أو في مكان معصية، وخروج من مكان طاعة وخروج من مكان معصية، فاعلم أن هذا قلب من قلوب الهالكين، ما لم يتداركه الله بتوبة ورحمة.
من صفات أصحاب هم الآخرة الحزن: فيحزن إن فاتته صلاة الفجر، ويجد أثر ذلك في صبيحته وضحاه وسحابة يومه، ويحرص على أن يعوض ما فاته من الفجر في بكور ومبادرة إلى الصلوات الأخرى، بل ربما دخل المسجد قبل الأذان ليعوض ما فات في صلاة الفجر، تجده حزيناً قلقاً، تجده كئيباً، لماذا؟ لأن صلاة الفجر فاتته، أو تجده حزيناً لأنه قارف ذنباً من الذنوب، حتى يأتي بحسنة تمحوه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
قال مالك بن دينار: إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن خرب، وتعلمون أن البيوت التي لا تسكن سرعان ما تأوي إليها الهوام والخشاش، وسرعان ما تخرب بل ربما تعودها الناس مكاناً لقضاء الحاجة ورمي المخلفات، والقلب إذا لم يساكنه حزن على فوات طاعة، وحزن على اقتراف معصية، وحزن على فوات أمر من أمور الخير، فإن ذلك القلب يكون خرباً بقدر ما فاته من الحزن، وبقدر حزنك وهمك للآخرة يتحقق فيك بإذن الله صفة الاهتمام بالآخرة.
تأمل -يا أخي- إذا كانت نفسك لا تحاسبك ولا تلومك ولا تعاتبك في فعل معصية أو زلة أو هفوة، فعالج قلبك وانظر أنك إذا أصابتك علة في رجل أو يد أو حاسة أو جارحة بادرت إلى المستشفى بالكشف والتحليل والإشاعة والتشخيص، ولكن القلب إذا مرض لا تعالجه، أفلا يهمك قلبك كما يهمك بدنك؟! قال ربنا عز وجل: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2] قال الحسن البصري: [هي والله نفس المؤمن] لا ترى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي، ما قصدت بطعامي وشرابي؟ أما الفاجر فلا يحاسب نفسه أبداً.
نعم.
إن القلوب إذا ران عليها الذنوب أصبحت لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام(204/7)
العمل الدائب للآخرة
أيها الأحبة: ومن صفات أهل الآخرة أن ترى عملهم للآخرة دائباً {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} [الأنعام:162] البداية {وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] النهاية {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] هكذا تكون صفات أهل هم الآخرة، العمل الدائب الذي لا ينقطع، وليس للاستقامة والعبادة والعلم والدعوة والتعليم تاريخ صلاحية، أن يقول شاب أو رجل التزم عشر سنوات، أو أطلب العلم عشر سنوات، أو علم عشر سنوات، فينتهي الأمر، بل مع المحبرة إلى المقبرة {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
ومع هذا العمل الدائب وجلٌ وقلقٌ وخوفٌ رجاءَ أن يُقبَل العمل، وخشية أن يرد العمل لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] وجاء في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة حول هذه الآية: (أولئك الذين يصومون ويتصدقون ويقومون الليل وقلوبهم وجلة يخافون ألا يقبل منهم).
أيها الأحبة: إن الحزن الذي هو من علامات وصفات أهل هم الآخرة، ليس الحزن الذي يقبع بهم في السراديب أو ينزوي بهم في الأقبية أو يعزلهم عن الناس، بل هو الحزن على فوات الخير الذي ينقلب تشميراً وجداً في طلب الخير والسعي إليه والدعوة والعبادة، وحينئذ يكون الحزن للآخرة سعادة تنعكس على العبد بإذن الله.(204/8)
التأثر عند رؤية الجنائز
ومن علامات وصفات أهل هم الآخرة أنهم إذا رأوا جنازة أو شهدوها تأثروا بها.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجيه أقرب
أيها الأحبة: إن من شهد جنازة فلم يتأثر، ووقف على شفير قبر فلم يتأثر، فليعلم أن قلبه ليس من قلوب هم الآخرة، فليعالج هذا القلب، وليعلم أنه مريض، بل إن المرض مستحكم فيه، إن الموت عبرة، وإن الموت آية: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] إن الذي لا يعتبر بالموت ولا يتأثر به ليس من أصحاب هم الآخرة.
قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كنا إذا حضرنا جنازة أو سمعنا بميت عرف فينا أياماً؛ لأنا قد عرفنا أنه نزل أمر صيره إلى الجنة أو إلى النار.
فكونوا من أصحاب هم الآخرة يا عباد الله! أسأل الله جل وعلا أن يعز الإسلام والمسلمين، وأسأله سبحانه أن يدمر أعداء الدين، وأسأله سبحانه أن يجعلنا في الآخرة من الحريصين، ولأجلها من الساعين، وبها من المهتمين، وللحديث بقية لعله أن يكون في جمعة قادمة.
نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، واسمك الأعظم ألا تدع لنا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا حاجة إلا قضيتها، ولا عيباً إلا سترته، ولا زللاً إلا غفرته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا مجاهداً إلا نصرته بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم إنا خلق من خلقك، وعبيد من عبيدك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، ولا تحرمنا بمعاصينا رحمتك، اللهم إن عظمت ذنوبنا فإن فضلك أعظم، وإن كثرت معاصينا فإن رحمتك أكبر وأكثر، يا حي يا قيوم! أعطنا ولا تحرمنا، واسقنا وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في طاجكستان، وفي البوسنة وفي كل مكان.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(204/9)
واقدساه!
أنزل الله علينا خير كتبه، وأرسل إلينا خير رسله، وشرع لنا خير شرعه؛ من أجل أن نتحاكم إليه ونحكّمه في كل نواحي الحياة، لا أن نأخذ بعضه ونترك بعضاً.
إن المسلمين لما أخذوا شيئاً من الدين وتركوا باقيه عاقبهم بما يعيشونه اليوم من ذل ومهانة؛ بل إنهم لما رفعوا الشعارات الكفرية ما أفلحوا ولن يفلحوا، ولن تحرر أراضي المسلمين إلا بالجهاد تحت شعار التوحيد لا غير.(205/1)
صور من صور البأس والتسلط
الحمد لله، الحمد لله على عفوه مع قدرته، الحمد لله على ستره وهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الحمد لله على حلمه وهو ممتن على عباده بسائر النعم، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت يا ربنا من شيء بعد، اللهم لك الحمد حتى ترضى، اللهم لك الحمد في كل حال، اللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فلو اتقينا الله جل وعلا لجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، ولكن يا عباد الله لو صدقت القلوب مع ربها لجاء وعد ربها لها صدقاً وحقاً، ولا ينال النصر من عند الله إلا بنصر دين الله.
أيها الأحبة في الله: يقول لله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:4 - 7].
معاشر المؤمنين: في هذه الأيام تظهر صورٌ من صور البأس والتسلط الذي هو دليل من دلالات قرب الملحمة الحاسمة والموقعة الفاصلة بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والجاهلية، بين الشعارات الزائفة والشعارات القرآنية، بين أصوات النفاق والعمالة والخيانة والتدجيل، وأصوات الحق والكرامة والشهادة والبسالة، منذ أيام قليلة ارتكب اليهود مجزرة دامية في اثنين وعشرين من أبناء فلسطين، في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أول قبلة للمسلمين، وذلك يوم أن جاء عدد من اليهود وحاخاماتهم وشياطينهم تساندهم فرق الأمن ورجال الجيش، لوضع حجر الأساس للهيكل المزعوم.
عباد الله: يوم أن بدأ المسلمون في فلسطين يصدون هذا العدوان، فُتحت ألسنة اللهب ونيران الرشاشات على صدور الأبرياء العزل، الذين جاءوا يقفون خضوعاً واحتراماً بين يدي الله في الصلاة، وركوعاً وتعظيماً لله، وسجوداً وانكساراً بين يدي الله، فُتحت ألسنة اللهب ونيران الرشاشات على صدور تلك الفئة المؤمنة فأردتهم قتلى، فهنيئاً لهم بمقعد صدق عند مليك مقتدر، نسأل الله أن يجعلهم من الشهداء، ونسأل الله أن يرفع منازلهم إلى درجات الأنبياء، ونسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بهم في أعلى عليين.
معاشر المؤمنين: ليست المجزرة غريبة، وليست المذبحة عجيبة، فإنا أمةٌ لم تعرف من اليهود إلا حقدها ورميها البهتان والإفك على الله جل وعلا: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] أمةٌ يقتلون النبيين بغير الحق، قتلهم الله شر قتله، أمةٌ قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] أمةٌ قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم تعب فاستراح في اليوم السابع، والله جل وعلا يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38].
أمةٌ ارتكبت هذه المنكرات والطوام العظيمة، ليس عجيباً بعد أن اعتدت على جناب رب العالمين بالقول والبهتان، والله أجلّ، والله أعظم، والله أكبر من أين ينالوا شيئاً في عباده إلا بتقديره، وفي قدر الله للعباد تمام العدل والحكمة والرحمة، أمةٌ كان لها دور في مؤامرات الحقد في الخلافة الراشدة والدولة الأموية والعباسية وممالك الأندلس والخلافة الإسلامية إلى زمننا هذا، أمة لازالت مخططاتها تسري بسفك دماء المسلمين على الترب الطاهرة، في تل الزعتر وفي دير ياسين وفي برج البراجنة وفي صبرا وشاتيلا، دماءٌ من قديم الزمان إلى يومنا هذا، دماءٌ للمسلمين تنزف، أنهارٌ من الدماء تجري، ولازالت أمة الإسلام في غفلة، ولو قتل كلب من كلابهم، أو خنزير من خنازيرهم، لقامت وسائل الإعلام العالمية والصحف والمجلات والمؤتمرات والجلسات الطارئة في هيئة الأمم وفي مجلس الأمن وفي محكمة العدل، وليس ثمة عدل، قامت تلك المؤتمرات لمناقشة هذه الأمور.
قتل شعبٍ كامل مسألة فيها نظر
وقتل كلبٍ واحد جريمةٌ لا تغتفر
هذا هو المقياس الذي يتعامل به اللوبي الصهيوني، أو الضغط الصهيوني على مختلف الحكومات الغربية التي تحمي وتساند وتحفظ دور اليهود في هذه المنطقة.(205/2)
كيف يعيش أهل الإسلام الأحداث
معاشر المؤمنين: وا حرَّ قلباه! وا إسلاماه! وا قدساه! من أمة تنتهك، ومن أبكار يغتصبن، ومن أعراض تنتهك، ومن شباب يؤسرون، ومن أمة غافلة.
مالي وللنجم يرعاني وأرعاه أمسى كلانا يعاف الغمض جفناه
لي فيك يا ليل آهاتٍ أرددها أواه لو أجدت المحزون أواه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يحكمنا شعبٌ حكمناه
في هذه الأيام يا عباد الله! ومآسي المسلمين تتجدد وتتقلب، ومصيبة جديدة تُنسي التي قبلها، وطامةٌ داهية تشغل عن التي سلفت، فيا أمة الإسلام! أي غفلة نحن فيها؟! والله لقد توقعت أن تضج المساجد بالقنوت والتكبير والاستغفار والصدقة، وبذل أسباب النصرة، لكي يُرفع البلاء عن المسلمين، ولكن ما ثَم شيء تغير، محلات الفيديو لا زالت تبيع، ولا زال بيعها رائجاً كما كان، وأشرطة الغناء لا زالت تباع، وسوقها نافقة كما كان، والتبرج والسفور في كثير من بلدان المسلمين لا يزال كما كان، والبعد عن الله والاستنكار والتجهم على كل من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر.
فيا أمة الإسلام! أتريدون أن يغير الله أحوالكم وأنتم لم تغيروا شيئا؟! {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].(205/3)
عزتنا بديننا
معاشر المؤمنين: يوم أن اغتصبت امرأة من المسلمين صاحت وامعتصماه! ثم لبى صيحتها بجيشٍ عرمرم، وخميسٍ يضرب الأرض ضرباً، حتى فتحت تلك الأرض وطرد النصارى، وقام علم الإسلام في تلك البلاد، والآن:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
ألإسرائيل تبقى دولةٌ في حمى الأرض وظل الحرم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدو الغنم
إذا كان الراعي هو عدو الماشية فلا يلام الذئب في عدوانه عليها، والله ما تسلط اليهود وهم الذين قال الله في ضعفهم وفي جبنهم: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] أمةٌ ذليلة: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112].
والله لولا خيانات القيادات العربية المحيطة بتلك البلاد، ما كان لأولئك دورٌ ولا مكانة ولا منزلة ولا دولة، ولكن إذا كانت العراق تحمي هذه الدولة، وإذا كان الأردن يحمي هذه الدولة، وإذا كانت الأنظمة الكافرة تحمي هذه الدولة، ولم يبق في المنطقة إلا دولة واحدة، نسأل الله أن يجمع شملها وأن يثبت خطاها وأن يسدد رأيها، وأن يلم شتاتها وشتات شعبها وقادتها على كلمة الحق بإذنه ومنه وكرمه، كيف تريدون أن يسل ذلك الخنجر من صدر المسلمين الذي طعن فيه؟(205/4)
شعارات رنانة
يا عباد الله! لقد سمعنا قبل الاجتياح العراقي للكويت، أن العراق تلعن أمريكا صباح مساء، وتلعن الإمبريالية والرأسمالية، وتلعن البيت الأبيض، ويلعنون ويسبون ويشتمون، وظن الغوغاء والسذج والبسطاء، وروج البعثيون والحداثيون والعلمانيون، وكل من لا يرفع بهذا الدين رأساً، نوهوا ورددوا ورفعوا هذه القيادة الغاشمة، ومجدوها عبر الصحف والمجلات، حتى قالت كاتبة عاهرة: (أتمنى أن أحلم بـ صدام في المنام ولو لحظة من اللحظات) والآخرون في صحفهم وفي مجلاتهم صفحتين تجدها لقادتهم ولشئون بلادهم، وباقي الصحف كلها تمجيد في بطل الفاو وصدام القادسية، ماذا ننتظر وقد صنعنا بأيدينا صنماً من الشمع، انكشفت حقيقته عن حرارة الفتنة؟ يا عباد الله: أين تلك الصيحات التي تنادي بالعداوة لـ أمريكا والبيت الأبيض؟ أين تلك الصيحات التي هددت إسرائيل بالكيماوي وصواريخ الاسكود المزودة بالرءوس النووية؟ أين المزدوج؟ أين القنابل؟ أين تلك الشعارات وذلك التهديد والدعاء بالويل والثبور، وتريثاً لانتظار المرحلة الحاسمة بين العراق وإسرائيل؟ وبينما الأمة الغافلة الجاهلة الغبية في انتظار لموقعة بين إسرائيل والعراق، إذا هي بمفاجئة باقتحام واجتياح لأرض مسلمة في الكويت.
هكذا يلعب الإعلام ويطبل على الشعوب، هكذا يسخر الإعلام بعقول البشر، هكذا يسخر الإعلام العالمي بالغوغاء والشعوب، يقوم حاكم ثم يلعن الذي قبله، ويقول: لقد ظلمكم وفعل بكم، لقد أذاقكم الجوع، وألبسكم العري، وذوقكم المرض، وأما حكومته المزعومة فيعد بأن تفعل وستفعل، ستوجد فرصاً للعمل، وسوف تعدل ميزان المدفوعات، ولسوف تفعل وتفعل، وإذا جنَّ المساء وجدت الحاكم الجديد ينادم الحاكم القديم في قصر من القصور يعاقرون الخمرة.
والله يا عباد الله! هذا ما يفعل في الدول العربية، كلما دخلت أمة لعنت أختها، ولكن الفرق بينهم أنهم يتلاعنون في النهار، ويتنادمون سوياً ويشربون ويطربون في الليل جميعاً، أهذه حكومات يرجى منها أن ترد للإسلام دولة؟ أهذه حكومات يرجى منها أن تطرد اليهود عن أرض فلسطين؟
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامةٌ تشكو من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس
هذه رسالة من الأقصى أرسلت إلى صلاح الدين الكردي وليس العربي، أو من طنطن من البعثيين والقوميين العرب بهذه الشعارات فما زادوا الأمة إلا خبالاً، وما زادوا الأمة إلا ضعفاً وتشتيتاً.
معاشر المؤمنين: ومع هذا لا تزال آمالنا، ولا تزال آمال المسلمين تتعلق بقادة المسلمين في هذه المملكة، البلاد الوحيدة التي لازالت تحكم الإسلام على ما فينا، والكمال لله، لازالت الآمال تتعلق بهذه الأمة وبقادتها وعلمائها، عسى الله أن يبعث في هذه الأمة أمراً رشيداً يتحرر به الأقصى، وتنقلب به الموازين بمنه وكرمه إنه هو أرحم الراحمين.
معاشر المؤمنين: لقد انشغل العالم الإسلامي انشغالاً عظيماً بأحداث الخليج في وقت اجتاحت فيه تلك الطغمة البعثية الكافرة الحاقدة، في وقت شغلت بذلك الاجتياح أمة الإسلام، والناس لم يصدقوا أو يكذبوا أن ما حصل كذباً أو صدقاً، ولكن الآن نقول: أين المهيب الركن؟ أين الأماجد البعثيين؟ أين الشرفاء البعثيين الذين هددوا إسرائيل سنين طويلة؟ أين المهيب الركن الذي يريد أن يضرب أمريكا والبيت الأبيض، ويريد إن يضرب إسرائيل؟ هل يثأر لمسلمة تغتصب؟ هل يثأر لمجزرة تنتهك في بيت المقدس وفي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن يا عباد الله! إنه مخطط ومؤامرة لتصفية القضية في هذه الظروف، والله لو تأملتم تاريخ إسرائيل وما يدور في أرض المسلمين، إسرائيل كطغمة أو كنظام في الهواء لا وجود له في عقيدتنا، لأن الذي هو زائل لا محالة لا وجود له ولا بقاء، لو تأملنا ما يدور، لوجدنا أن كل ضربة سواءً في الخليج أو أفغانستان أو في أي مكان، يقابلها عمل بصمت وتوطين سريع، وتهجير لليهود من أنحاء العالم في المستوطنات الفلسطينية التي شغل المسلمون عنها وعن متابعتها.
وفي هذا الزمان أصبح الحديث عن فلسطين أمراً مملاً عند كثير من المسلمين، لأنهم منذ ستين سنة وهم يسمعون أن فلسطين ستحرر بالمنظمات والشعارات والقيادات.
فوق التل وتحت التل
وعن يمينه وعن شماله
قادمٌ بدبابة قادمٌ بطائرة وما رأينا ذبابة
ما رأينا شيئاً أبداً، أين الصيحات والشعارات؟ وأين أموال المنظمة التي بلغت المليارات؟ أين أموالها لكي تساند الجهاد في فلسطين؟ لكي تدعم قوة حماس؟ أين تلك الأموال التي ضاعت في تجارات الله أعلم بها؟ ومن هو الذي يثري على حسابها؟ ولكن يا عباد الله إنه النفاق، إنه سكوت الأمة على ما يدور بها، وعلى ما يدبر لها، إنه الوهن وحب الدنيا وكراهية الموت، نسأل الله أن يرفع البلاء عن المسلمين، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر بمنه وقوته وقدرته أعداء الدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم، والتائب من الذنب كما لا ذنب له.(205/5)
تضليل الإعلام وسخريته بالعقول
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: إن أزمة المسلمين في هذا الزمن هي أزمة القيادة التي ترفع لواء الجهاد لتحرير بيت المقدس من اليهود والصهاينة، إن الأمة التي قال الله في شأنها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ في سَبِيلِ الله} [البقرة:246] لقد طلبوا ملكاً وقائداً وقيادة قبل أن يطلبوا جنوداً وسلاحاً، وما ذاك إلا لأن الأزمة هي أزمة القيادة، إن الشعوب التي ترونها فيها خير كثير، ولو تركت الشعوب تتفاعل مع قضاياها لاستطاعت إلى حد كبير أن تحل الكثير منها، ولكن القيادات العميلة والقيادات الخائنة هي التي تستعدي الشعوب بعضها على بعض.
وكلمة حق أقولها: ما إن تسمع إذاعة من الإذاعات إلا وتجد فيها إيغاراً لشعب على شعب، إلا ما سمعناه هنا من تصريحات طيبة، ألا وهي: إن هذه البلاد خيرها للجميع سابق، وسيبقى خيرها بإذن الله لكل وافد وقادم ولكل ضيف بها إذا كان ملتزماً بآداب هذه البلاد، وأحكامها الشرعية، ونظمها العقلية، وجميع أنظمتها الرزينة الحصينة.
فيا عباد الله: إن أجهزة الإعلام لازالت هي التي تسير الشعوب، والله لقد عبث الإعلام البعثي بكثير من عقليات المسلمين، إلى حد أن بعضهم تصوروا أن الأمريكان يطوفون بالكعبة، وتصور بعضهم أن الأمريكان يسعون بين الصفا والمروة، وأولئك بينهم وبين الأراضي المقدسة مسافات بعيدة لمصالح عديدة، ومع ذلك فقد صور الإعلام أن الكعبة لا يطوف حولها إلا الأمريكان، وأن المسعى لا يسعى فيه إلا الأمريكان، وأن الحرم النبوي وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم محاط بالأمريكان، فضجت هذه الشعوب الغافلة البسيطة الغوغاء، وصدقت دعوى الجهاد من الذين لم تجف أيديهم من دماء المسلمين الأكراد في حلبجة، لم تجف أيديهم من دماء المسلمين الصالحين في العراق.
أيصبح فرعون واعظاً؟ أيصدق للماكرين نصح ووعظ؟ ولكن كما تكون تلك الشعوب يولى عليها، (كما تكونوا يولى عليكم) لما رضيت بالذل -ولا أقول كلها بل بعضها- لما رضيت بالذل والهوان، وسكتت عن كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحكمت فيها الأنظمة الفرنسية، والقوانين الرومانية، والقوانين الوضعية، ونحيت الشريعة، ولم يسمع صوتٌ ينادي بتطبيق الشريعة فيها، تسلط الفجار عليها، تسلطوا تسلطاً عجيباً غريباً، فنسأل الله جل وعلا أن يوقظ هذه الشعوب من غفلتها.(205/6)
أمثلة لقادة المسلمين الأوائل
يا معاشر المؤمنين! أقول كما قلت: إن الأزمة هي أزمة القيادة، خذوا مثلاً من الأمثلة في وقت الحروب الصليبية.(205/7)
ألب أرسلان
كان واحدٌ من أمراء المسلمين وقائدٌ من قواد المسلمين يقال له: ألب أرسلان، كان معه خمسة عشر ألف جندي، هدده الروم والصليبيون بمائة ألف وحشدوها وتوجهوا له، ويقول ذلك الصليبي لـ ألب أرسلان: انتظر فإني آت ولن يقف القتال إلا في بيتك وفي عاصمتك.
فقام ألب أرسلان، وأعد جيشاً على رأسه الفقهاء والعلماء والصالحون، ثم لما كان يوم جمعة في رمضان، صلى الجمعة وسار إلى المعركة، فلما سار قليلاً خلع لباسه، ثم لبس كفناً أبيض، ونزل بالسيف يريد المعركة التحاماً، يريد معركة بالسلاح الأبيض، ثم قال: يا أيها الجند! -نادى في خمسة ألف جندي- ما هاهنا سلطان، ما هاهنا قائد، ما هاهنا أمير، فمن أراد أن ينصرف فلينصرف، فإني مجاهد من المجاهدين في سبيل الله، ثم دخل والتحم في الجيش، فما هي إلا ساعات حتى جيء بـ أرمانوس قائد الصليبيين والحملة الصليبية أسيراً بين يدي ألب أرسلان، فأكب يبكي ساجداً شكراً وحمداً وثناءً على الله.(205/8)
صلاح الدين
صلاح الدين الكردي لا العربي، لنعلم أن نصرة الإسلام ليست بالقبائل وليست بالأحزاب والأنساب، وإنما نصرة الإسلام لمن تمسك بهذا الدين وحكمه قلباً وقالباً.
صلاح الدين يقول أحد قضاته بهاء الدين: كان رحمه الله خاشع القلب، غزير الدمع، كثير التعظيم لشعائر الله، يقول: رأيته ذات يوم ساجداً، ودموعه تتقاطر على شيبته وسجادته.
وإذا سمع بعدوٍ نزل بأرض المسلمين خرَّ ساجداً، وهو يقول: إلهي انقطعت أسباب المدد من الأرض، ولم يبق إلا سبب من عندك، بالإخبات إليك، والذل بين يديك، حتى تأتيه بشائر النصر وهو على رأس جيوش المسلمين.
أما قادة الأمة في (48م) و (67م): تجوع يا بحر، قالها طواغيت الأمة، يقولون: تجوع يا حوت، تجوع في البحر، فسنلقي إسرائيل فيك، وما أصاب إسرائيل شيئاً.
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
إن الذي يقتل اليهود هو مسلمٌ مؤمنٌ صادقٌ مجاهد، وليست تلك القيادات الخائنة العميلة.(205/9)
شاب صدق الله فصدقه
معاشر المؤمنين: إن هذه الأمة تحتاج إلى عقيدة وقيادة تستنفر جميع المسلمين: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] نريد أمة مستنفرة، نريد أمة كتلك الأمة التي دعا قائد الجهاد دعوته في المسلمين، فلما جنَّ الليل إذ بامرأة تطرق الباب عليه، وتقول: افتح أيها القائد، وهو يقول: من في الباب؟ فتقول: افتح أيها القائد، فقدمت له شيئاً قد لف في قماش، فقالت: دعوت المسلمين وتلوت قول الله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وأنا امرأة كبيرة طاعنة، وليس عندي إلا شعري هذا حلقته وجدلته، وجعلت منه لجاماً لفرسك عسى أن أكون بذلك قد نصرت مع المسلمين بما بين يدي، فلما فتح هذا القماش وجد فيه ما ذكرت.
ولما كان في الجيش، إذ بشاب صغير من أبناء المسلمين، وإذ به يتقدم الصفوف ومعه قوس وسهام، وكان مسدد السهم والرمي، فكان يرمي فما رمى سهماً إلا نزل في قلب كافر من الكفار، فعجب الكفار من ذا الذي يصوبهم بالرمي والسهام؟! حتى اجتهدوا في تحديد مكانه، فصوبوا عليه، ثم أصابه سهمٌ في قلبه، فسقط، فقام ذلك القائد وأخذ الشاب، ثم دفنه، ثم عاد مرة أخرى يحمل على العدو، فلما كرَّ مرة أخرى إذ بالأرض قد لفظت هذا الصبي، وخرج ذلك الصبي على وجه الأرض، فعاد وقال: لعل شيئاً من السباع جره أو أخرجه، فعاد ودفنه مرة أخرى، ثم التحم مع العدو، فلما كرَّ مرة أخرى، إذ به يرى جثة الصبي فوق الأرض، ثم عاد ودفنه ثالثة، ثم كر، ولما عاد إذ بالصبي حوله عدد من السباع والطيور الجارحة، وكل سبع وطير في فمه قطعت من جسد ذلك الشاب، فكان أمره عجيباً وكان شأنه غريباً.
فلما انتهت المعركة وقد نصره الله، أخذ متاعه ومزادته، وسأل هذه لمن، ولبيت من؟ فعاد بها وإذا بهذه المزادة وهذا المتاع الذي للطفل أمه تلك المرأة التي قدمت ضفيرتها لجاماً لفرس القائد، فقال لها: أسألك بالله يا أمة الله ما الذي كان يصنع ولدك؟ فسألته هل دفنت ولدي؟ قال: دفنته، قالت: ثم ماذا؟ قال: ثم لفظته الأرض، قالت: ودفنته، قال: فدنته ثم لفظته الأرض، أسألك بالله أي أمر هذا؟ قالت: والله إنه استحلفنا ألا نخبر بشأنه إلا إن كتب الله له الشهادة، ثم جاءت بمسوح وصوف وأمور عجيبة وقدمتها بين يدي القائد، قالت: إن هذا الصبي كان إذا جن الليل جعل أغلالاً في رجليه، ولبس هذا الصوف وهذا المسوح وأخذ يتضرع ويبكي ويتهجد، وهو يقول: اللهم احشرني في حواصل الطير وأجواف السباع، قال: والله يا أمة الله ما جئت الكرة الثالثة إلا وفي منقار كل طير، وفي فم كل سبع قطعة من أشلاء ولدك، فقالت: الحمد لله الذي استجاب دعوته عله أن يكون شفيعاً لنا يوم القيامة.
بهذا أيها المسلمون! تنتصر الأمة، لا تنتصر الأمة بالأغاني أو بالمهرجانات أو بالفن أو بالطرب، أو بالتمثيل أو بالمسارح، أو بتلك الأمور التي خدرت المسلمين تخديراً طويلاً، وأولئك يلعنون ويسبون ويشتمون اليهود، وهم أذناب وعملاء لليهود.
إن الأمة في هذا الزمان تريد نفيراً عاماً كلٌ بما يستطيع، بنفسه وبماله، أليست امرأة قدمت ضفيرتها؟ ونحن ماذا قدمنا لـ فلسطين، وأفغانستان، والأكراد في حلبجة؟ ماذا قدمنا لشعوب العالم الإسلامي؟ كثيرٌ وكثيرٌ من المسلمين هم كل واحد منهم أن يملأ بطنه وأن يقر عينه وأن ينام هادئاً، وأن يصبح عادياً لم يغير شيئاً ولم يقدم غيره.(205/10)
النفير النفير
إن أمة الإسلام المستنفرة تحتاج شباباً لا يملئون مدرجات الكرة في المباريات، إن أمة الإسلامية المستنفرة لا تريد تجارة بالأفلام والملاهي، إن أمة الإسلام المستنفرة لا تريد اختلاطاً في دواوينها وتعليمها، إن أمة الإسلام المستنفرة تعني شباباً ولاؤهم لله، ونصرتهم لله، وقلوبهم لوجه الله، وعلى كتاب الله وسنة رسول الله، لا تريد شباباً تعلموا فنون الهوى، وألون المعاكسة، وأصناف المغازلة من التمثيليات والمسلسلات، إن أمة الإسلام تريد شباباً لم تحطمه الليالي، ولم يسلم إلى الخصم العرين، أما أولئك الذي يلعنون اليهود وهم يخدمونهم، أولئك الذين يسبون اليهود وهم يدعمونهم، أولئك الذين يلعنون اليهود وهم يغازلونهم غزلاً بعيداً، أولئك يصدق فيهم قول القائل:
وجوهكم أقنعةٌ بالغة المرونه
إذا لقيتهم يبتسمون
طلاؤها حصافةٌ وقعرها رعونه
صفق إبليس لها مندهشاً وباعكم فنونه
هذا الكلام لتلك القيادات البعثية والعلمانية التي فعلت بالمسلمين هذه الأفاعيل، وفعلت بشعوبهم هذه المآسي، وسلمت فلسطين لليهود.
صفق إبليس لها مندهشاً وباعكم فنونه
وقال: إني راحلٌ ما عاد لي دور هنا
دوري أنا أنتم ستلعبونه
ودارت الأدوار فوق أوجهٍ قاسيةٍ تعدلها من تحتكم ليونه
فكلما نام العدو بينكم رحتم تقرعونه
لكنكم تجرون ألف قرعة لمن ينام دونه
وغاية الخشونه
أن تندبوا: قم يا صلاح الدين
حتى اشتكى مرقده من حوله العفونه
كم مرة في العام توقظونه
كم مرة على جدار الجبن تجلدونه
فيطلب الأحياء من أمواتهم معونه
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه
لأنه لو قام حقاً بينكم فسوف تقتلونه
لو قام صلاح الدين لقتلته تلك القيادات العميلة الخائنة.
فيا معاشر المؤمنين: لا ينبغي أن نقف هكذا مكتوفي الأيدي.
وقد يقول بعضكم: وما شأننا نحن معاشر المصلين بالسياسة؟ أقول: إن السياسة كما يقول الشيخ/ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله، وهو عالم ما عرف قدره إلا يوم أن وُرِيَّ في التراب، كان يقول: لا إله إلا الله من لامها إلى هائها سياسة، ألا له الخلق والأمر، إن الذي نصلي له هو الذي أمرنا أن نحكم بكتابه وأن نتحاكم إلى شرعه، وأن نجري في جميع مجالات أمرنا على شرعه الذي رضيه وحفظه لنا.
فيا معاشر المؤمنين! ما هو دوركم؟ إن كل واحدٍ منا وكل مسلمٍ يسمع هذا الكلام، هذا الزمان أو بعد زمان نموت فيه يحمل كفلاً ووزراً من أوزار الأمة، يوم يعلم دوره ويعرف استهداف أمته، ولا يقدم صغيراً ولا كبيراً، طلقة في سبيل الله، تجهيز غازٍ في سبيل الله، دعوة إلى الله، كفالة يتيم، رعاية المؤمنين، البذل لهم، الجهاد بالأنفس معهم، هذا دورنا فهل نقوم به، نسأل الله جل وعلا ألا نكون من الذين خذلوا دينه وجنده وأولياءه.
فيا معاشر المؤمنين: أعدوا عدتكم، وإن الجبناء لا تطول أعمارهم، وإن الشجعان تدوم بهم الأيام بقدر الله ومنه.
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
ترددت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
تعاملوا مع الله، لا تخشوا أحداً غيره، اعرفوا عظمة الله، فكل عظمة دونه هينة، اعرفوا قدر الله، فكل قدر دونه ذليل، اعرفوا عظمة ربكم وقوة ربكم، وجبروت ربكم، والله لا يضركم كيد الأعداء شيئاً.
اللهم أعز الإسلام المسلمين، والله إننا نستحي أن نرفع أيدينا إلى الله وبيوتنا مليئة بالملاهي، والله إننا نستحي أن نرفع أيدينا إلى الله بأن ينصر الإسلام والمسلمين ونحن أول من يخالف الإسلام، والله إننا نستحي أن نرفع أيدينا إلى الله لكي يحفظنا ويرحمنا ونحن لا نعرف الصلاة في المساجد إلا قليلاً، والله إننا نستحي أن نرفع أكفنا إلى الله وأسواقنا مليئة بالمنكرات، وشوارعنا مليئة بالتبرج والسفور، وانقلابٌ في الموازين، حتى يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخلاً في شئون الآخرين، وتصبح المعصية ضرباً ولوناً من ألوان الحرية في هذا الزمان، لكن الله ذو رحمة واسعة، قال جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
فلن تضيق عنا معاشر المذنبين والعصاة، والله لو أن العقوبات تنزل بمن فعلها جميعاً ما بقي لنا في هذه الأرض عين تطرف، ولكن نسأل الله أن يعاملنا بعفوه، نسأل الله أن يعاملنا بعفوه سبحانه، وبرحمته التي سبقت غضبه، وبرحمته التي وسعت كل شيء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم إن كنت تعلم في حياتنا للإسلام خيراً فأحينا، اللهم إن كنت تعلم أن في بقائنا على الأرض خيراً فأبقنا، اللهم إن كان في موتنا خيراً للإسلام فاقبضنا، اللهم إن كان في موتنا خيراً للإسلام فتوفنا، اللهم لا تجعلنا شؤماً على الإسلام والمسلمين، اللهم لا تجعلنا مصيبة على الإسلام والمسلمين، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اجمع شملنا بولاة أمورنا، اللهم قرب لهم بطانة خيرة صالحة، وجنبهم بطانة السوء يا رب العالمين، اللهم لا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ربنا إنك قلت وقولك الحق: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] اللهم لا تجعل لكافرٍ علينا سبيلاً، اللهم لا تجعل لفاجرٍ علينا سبيلاً، اللهم لا تجعل لمجرمٍ علينا سبيلاً.
اللهم توفنا وأنت راض عنا، اللهم نسألك الشهادة في سبيلك، اللهم أرق دماءنا كرامة لدينك، اللهم اسفك دماءنا كرامة لشرعك، اللهم توفنا وأنت راض عنا، اللهم اقبضنا وأنت راض عنا، اللهم لا تقبضنا على خزي ولا عار ولا معصية يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، اللهم لا تفتنا في ديننا، وإن فتنتنا فثبتنا، ربنا لا تفتنا ولا تفتن بنا ولا تجعلنا فتنة للقوم الكافرين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم لا تدع لنا ذبناً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته.
معاشر المؤمنين: إن الجهاد في أفغانستان قد تعطلت كثير من أموره بسبب الأحداث في الخليج، وذلك لأن الكويت كانت رئة يتنفس منها جانب كبير من جوانب أعمال الإغاثة في الجهاد، فلما تعطلت بقي دوركم أنتم، وإني سائلكم بوجه الله الذي لا يسأل بوجهه إلا الجنة، وإني سائلكم بالله فمن سألكم بالله فأجيبوه، أن تجمعوا ما تستطيعوا بذله في الجمعة القادمة، فإني سأجمع لإخوانكم تبرعات أسأل الله أن يجعلها دفعاً لنا عن البلاء، اللهم ادفع بها البلاء عنا، واجعلها رحمة منك لنا، اللهم نسألك أن تتقبلها في خالص أعمالنا.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(205/11)
واقع الدعوة في المجتمع الغربي
إن الناظر في حال الغرب وتمردهم عن أوامر الله عز وجل ليدب اليأس إلى قلبه أن ينزل الإسلام في ساحة هؤلاء، لكن لو نظرنا إلى المراكز الإسلامية لعجبنا من قوة هذا الدين في انتشاره بين أبناء المجتمع الغربي، ومع ما فيه من إيجابيات إلا أن هناك ملاحظات ينتبه لها، لذلك لابد من دعوة المسلمين إلى الاهتمام بأمر المراكز الإسلامية في المجتمعات الغربية وما تحتاج إليه من مشايخ وطلاب علم، وتبصير في بعض القضايا الشائكة، والاهتمام بأمر المساجد والمراكز وغير ذلك.(206/1)
مقدمات ومسلمات لابد منها في الدعوة
الحمد لله الذي أعز المسلمين بالإسلام، ومهما أرادوا العزة بغيره أذلهم الله، الحمد لله الذي أعز عباده المؤمنين ونصر جنده المجاهدين، وخذل الشرك والمشركين، الحمد لله وحده؛ نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله منشئ السحاب، منزل الكتاب، هازم الأحزاب، لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه مآب، الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو أهل الحمد وله الحمد كله، وإليه الحمد كله، جل ثناؤه، وعز سلطانه، سبحانه وتعالى عما يشركون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، كان بأمته براً رءوفاً رحيماً، لم يعلم طريق خير إلا دل الأمة عليه، ولم يعلم سبيل شر إلا حذر الأمة منه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
معاشر المؤمنين! اتقوا الله تعالى حق التقوى فهي وصية الله لكم وللأولين والآخرين، وهي سفينة النجاة، وهي باب السعادة بين يدي رب العالمين: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المسلمين! كان الحديث في الجمعة الماضية عن نظرة المسلم إلى الكافرين النظرة الشرعية التي ينبغي أن ينظر بها المسلم إلى الكفار، فهي نظرة لا تصل إلى شيء من الإعجاب بحالهم أو مجتمعهم أو طباعهم أو أخلاقهم، بل البراءة والبغضاء والكراهية لمنكرهم وبهتانهم وإفكهم وكفرهم وباطلهم، وهي مع ذلك نظرة منصفة: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
وهي نظرة منصفة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135].
وكذلك -أيها الأحبة- هي نصيحة لكل من أشرب قلبه حب الغرب فأعجب بهم، وأصبح هجيراه وديدنه الحديث عنهم، وتعلق بأفعالهم وطباعهم وسلوكهم، أولئك قوم صدق فيهم قول ربنا عز وجل: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139] ثم جرى الحديث أو جرى الوعد أن يكون الحديث هذه الجمعة عن واقع الدعوة إلى الله في بلاد الغرب أو في البلاد الأمريكية، أو في البلاد الكافرة.
أيها الأحبة في الله! إن من المقدمات والمسلمات أن كل داع أو حريص أن يعمل أو ينشأ أو يؤسس عملاً دعوياً لابد أن يدرس البلاد وأهلها وطبعها وواقعها ومجتمعها، ثم بعد تحديده ماذا سيعمل يفكر كيف يعمل، إذ لا ينبغي لمسلم أن يبدأ بالعمل قبل الفكرة، لا ينبغي لأحد أن يشرع في عمل قبل أن يتفكر في غاية عمله، وباعث عمله، وطريقة عمله، وكيفية تقويم عمله هذا، إذ أن من صفات من لا يحمدون أعمالهم أن الفعل يسبق التفكير، والصواب أن الفكر والتدبر يسبق العمل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] فلابد من التفكر، ولا بد من التدبر، ولابد بعد التفكر من الشروع بعد اختيار الوسيلة.
والأمر الآخر أن العمل مهما كانت مقاصده وغايته لابد أن تكون وسيلته شرعية، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة كما هو الحال عند أرباب المكر والخديعة ممن يسمون أنفسهم بالسياسيين.(206/2)
ترويج الخمر وتأثيرها على المجتمع الغربي
أيها الأحبة في الله! هذا المجتمع الذي نتحدث عن الدعوة إلى الله جل وعلا فيه؛ مجتمع يعج بالخمر صباح مساء، فشربهم للخمور أكثر من شربهم للمياه، بل وإن الذين يتعاطونها ويشربونها هم من الصغار والشباب والذكور والإناث، وحسبكم أنها كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم أم الخبائث، أورثتهم تلك الخمرة حالات الاغتصاب، وحوادث السيارات، والسطو، والاغتيال، والعدوان والجريمة، ويداهم أوكت، وأفواههم نفخت، إذ أنك لا ترى شاشة تلفزيونية أو صحيفة أو مجلة إلا وهي تدعو وتبرز دعاية براقة مشوقة لذوي القلوب السقيمة تدعو إلى تعاطي الخمر، فهم يدعون إليها ويروجونها عبر كل وسيلة إعلامية، ثم بعد ذلك يقبل الصغار والكبار عليها، ثم بعد ذلك يبذلون أسباباً لمكافحة النتائج المختلفة من الجرائم وغيرها على إثر تعاطي الناس لتلك الخمرة.
فهناك واحد من كل ثلاثة سائقين يتسببون في مقتل أشخاص آخرين بسبب تعدي السرعة القانونية، ونصف المتهمين في القضايا الأخلاقية هم من المتعاطين المسرفين للخمور.(206/3)
موت الغيرة والإصابة بمرض الإيدز
ثم قادهم ذلك إلى موت الغيرة وكيف توجد غيرة عند كافر؟! لقد سجلت نسبة الارتفاع بمرض الإيدز هناك نسباً جاوزت المئات، ويتضاعف العدد في كل سنة أضعاف أضعاف ما سبق، وأكثر -بل 90%- من الذين أصيبوا بهذا كان بسبب ما أدت إليه الخمر والمسكرات، حيث أن 90% من مرضى الإيدز كانوا أصيبوا بالإسراف في ذلك والممارسات الجنسية غير المشروعة، وحينما نقول الإسراف فإننا لا نقول: إن التقليل من الخمر لا يسبب، فهي حرام قليلها وكثيرها صغيرها وكبيرها.
والآن أصبح ما يقارب عشرة ملايين نسمة يصابون بفيروس الإيدز وسيصلون إلى أعدادٍ مضاعفة.
وبعد ذلك فإن هذا قادهم إلى الانطلاق والجري الهائج وراء الشهوة الشاذة المسعورة وغيرها، فـ (70%) من النساء اللائي يعملن مع الرجال يتعرضن للابتزاز من قبل رؤسائهن بل واعتدي على الكثير منهن على إثر الاغتصاب الجنسي ولا حول ولا قوة إلا بالله.(206/4)
ارتفاع درجات الاغتصاب
أما الاغتصاب بالتفاصيل فإن المسجد يجل وينزه عن ذكره، ولكن نشير إلى أرقام هي إشارات واللبيب بالإشارة يفهم اغتصب أمريكي 23 فتاة خلال 3 أشهر، والكثير منهم لا يحتاج إلى الاغتصاب لأن كل زاوية وطريق ومقهى وحانة واستراحة ما هي إلا مواعيد لضرب الصداقات وإيقاع الخيانات الزوجية، وفي أمريكا ارتفعت جرائم الاغتصاب بنسبة 124% والأعداد والنسب لا تزال في ازدياد وارتفاع.
بعد ذلك يوم أن انتشر الاغتصاب والإباحة الجنسية في بلادهم ابتلي أو حصل لكثير من النساء الحمل -الحبل الغير شرعي- فأقدموا على الإجهاض والتخلص من الأجنة: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] يحمل من الزنا نسبة تزيد عن 20% من كل 100 امرأة، وحالات كثيرة من الإجهاض أكثر من هذا، مع أنهم تقدموا تقدماً باهراً في اختراع واكتشاف وسائل منع الحمل حتى لا يقعوا في نتائج الزنا والمعاشرات الجنسية.
أيها الأحبة! صدق ربنا عز وجل حيث يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] بل إن كثيراً ممن يسمون أو يدعون برجال الدين والكنيسة عندهم 80% منهم يمارسون الفاحشة والعياذ بالله سواء مع الراهبات أو مع الأحداث وغيرهم.
فإلى الذين يعجبون بالغرب، وإلى المخدوعين ببلاد الغرب ليقرءوا أرقاماً مختصرةً موجزةً عن الخطف والسرقة والعدوان، والاعتداء والبغاء والشذوذ والدعارة، والانتحار وما أدراك ما الانتحار، بل لقد وجد في بعض الجمعيات التي تساعد المنتحرين أو الراغبين في الانتحار أن يصلوا إلى النهاية في أسرع مدة زمنية مرغوبة مقصودة.
نعم لا غرابة أن ينتحروا فليس بين أعينهم نار يخافون منها أو جنة يرغبونها، أو رب يرجون رضوانه جل وعلا؛ حينئذ يكونون كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
إنك يوم أن تريد أن تدعو إلى الله جل وعلا أو تؤسس عملاً إسلامياً في بلاد كهذه، الإباحة ميسرة، والخمور والمخدرات منتشرة، والجريمة مسيطرة فإنك تحار حيرة بالغة عظيمة.(206/5)
قوة انتشار الدين في المجتمعات الأمريكية
أيها الأحبة! على الرغم مما سمعتموه من الأرقام فإن بلاد الغرب وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية بها عدد كبير جداً من المساجد والمراكز الإسلامية، وهذا والله مؤشر على القوة الذاتية الفاعلة البالغة في هذا الدين، فإن انتشار الإسلام لا نعزوه بالدرجة الأولى إلى جهود المسلمين، بل نعزوه إلى القوة العظيمة التي بلغ بها الدين أنحاء الشرق وأنحاء الغرب على الرغم من فقر المسلمين، وقلة ذات أيديهم، وقلة حيلة أبنائه، وحسبك أن تعلم أن أكثر من (80 أو 70 %) من المسلمين هناك قد هاجروا فراراً بأنفسهم أو بحثاً عن لقمة عيش وغير ذلك.(206/6)
جهود المسلمين المهاجرين في نشر الإسلام
أيها الأحبة! وحينما نتكلم عن الإسلام هناك فإنك تتكلم عن جهود المهاجرين من المسلمين إلى تلك البلاد، وإن تسمية الأمر هجرة فيه نظر، فلنقل: عن جهود الذين سافروا إلى تلك البلاد، فمنهم من يأثم بسفره، ومنهم من يغنم ويؤجر بسفره، والبواعث تحدد، والمقاصد تحكم على هذا.
إن كثيراً من المسلمين تركوا بلادهم دولاً وبلداناً عربية؛ خاصة أيام الستينات التي شهدت عسفاً واستبداداً وطغياناً وظلماً وجبروتاً، في تلك الفترة وما بعدها هاجر كثير من المسلمين، منهم من بحث عن لقمة العيش، ومنهم من بحث عن الأمن والطمأنينة، ولا أمن ولا طمأنينة في تلك البلاد أيها الأحبة، وتبع هذا الانتقال أو هذا السفر أن هاجرت عقول إسلامية جبارة عظيمة عجيبة بلغت من الذكاء والعبقرية شأواً بعيداً، بلغت من الذكاء والعبقرية منزلة رفيعة، فأكبر ناطحة للسحاب في شيكاغو قد خططها أو كان المهندس لها مهندساً مسلماً، كذلك أطباء الجراحة وكثير من أطباء الفلك، وكثير من المخترعين والمكتشفين هم مسلمون يعودون إلى آباء مسلمين وأمهات مسلمات، بل وهم مسلمون إلا أن بعضهم قد نسي علاقته بالإسلام البتة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالعمل الإسلامي في بلاد الغرب تارة تراه عبارة عن نشاط مجموعة من جالية مهاجرة، وفي الغالب أن ترى الجالية تتركز في منطقة معينة، ففي كل بلد أو في كل ولاية ومدينة تجد أن مسلمين من بلد عربية أو إسلامية معينة يجتمعون هناك، فينشئون مسجداً ومركزاً إسلامياً يجمعون نفقاته من فتات موائدهم ومن باقي أجورهم على قلة ذات أيديهم، فإذا أسسوا هذا المسجد أو المركز كان مكاناً لتجمعهم، وأغلب هؤلاء يكون أثرهم أو يكون هدفهم المحافظة على كيانهم وخصائصهم واجتماعاتهم حتى لا يذوبوا في المجتمع وهيهات
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء(206/7)
خطر العيش في بلاد الغرب
إن الذي يعيش في بلاد الغرب لعلى خطر عظيم، بل محقق مؤكد ما لم يتداركه الله بأن يشتغل بالطاعة حتى لا يشغل بالمعصية، وأن يشتغل بالدعوة حتى لا يدعى هو، وأن يعتني بأولاده حتى لا يذوبوا في المجتمع الكافر، إن كثيراً من المسلمين ذابوا في المجتمع الغربي كما يذوب الملح في الماء، وإليكم بعض هذه الأدلة والشواهد: في مدينة من المدن قابلت مسلماً لا يعرف أبناؤه شيئاً عن الله جل وعلا، ولا عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الإسلام وأحكامه! وآخر أولاده لا يقرءون الفاتحة، وآخر أبناؤه لا ينطقون بحرف عربي فضلاً عن كلمة عربية؛ والسبب أن الفكرة كانت في البداية مجرد انتقال إلى بلاد الغرب، ولم يأخذوا لها حسابها وحسبانها.
وحينئذ أتذكر وتتذكرون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين) قد يقول قائل خاصة في وقت يكون شغوفاً ولوعاً محباً أن ينتقل إلى تلك البلاد: إن هذا من الرجعية والتشدد والتخلف.
لكن من عاش ونظر وفكر وقدر، وقلب الرأي والبصر، وسأل الغادين والرائحين والمقيمين، بل والمتجنسين بالجنسيات الأمريكية هناك أدرك حقيقة هذا، فهذه مسلمة تستنجد بالمسلمين يوم أن دخل ولدها بصديقته الباغية الداعرة في بيتها، ويحميها القانون والبوليس وتحميها الشرطة من أن تمنع ولدها عن الدخول بزانيته! وآخر له بنت مسلمة تصادق فتىً كافراً ويحميها القانون من غيرة أبيها، ويحميها القانون من أن يمنعها والدها وأهلها من أن يعترض لماذا؟ لأن من شرط الحصول على الجنسية أن يؤدي المتجنس القسم للخضوع والالتزام والتقيد والانضباط بكل ما يمليه النظام والقانون، ولا يخرج ذلك المتجنس عنه أبداً.
لذا فإن كثيراً من المسلمين على الرغم من أن الجنسيات قد قدمت لهم وأغروا بها إغراءً إلا أنهم رفضوا ذلك، وقالوا: نصبر على البلاء والابتلاء؛ حتى يفرج الله أوضاع بلداننا، فنعود إليها قائدين فاتحين منتصرين.(206/8)
ملاحظات على العمل الإسلامي في أمريكا(206/9)
قلة المراكز والأنشطة
أيها الأحبة جزء من العمل الإسلامي أو الدعوة إلى الله تنحصر في نشاط الجاليات، وجزء آخر إنما هو نتيجة لجهود الهيئات والمؤسسات الإسلامية التي فتحت مكاتبها وأرسلت دعاتها، واجتهد مندوبوها في نشر الإسلام مع طباعة الكتب وتوزيع المنشورات والأشرطة وغير ذلك للتعريف بالإسلام، ولكن لا تزال النتائج قليلة، ولست بهذا متشائماً، بل وصف الواقع كما هو أمر مطلوب، ويوم أن نقول: قليلة إن هذا لا يعفينا من البذل في بناء كثير من المراكز والمساجد، وإن هذا لا يجعلنا نجد لأنفسنا مسوغاً أن ننتقدهم في بلاد آمنة مطمئنة، ونحن نتفرج على حاجاتهم وكرباتهم، وليس هذا بمسوغ أن نهزأ أو نسخر أو نقلل من الجهود، ولكن نقول: إن الحاجة ماسة إلى النظر في مناهج العمل.(206/10)
ندرة المنهج الشرعي الصحيح
أيها الأحبة في الله! إننا يوم أن نقول: هي نتيجة قليلة بأن العمل الإسلامي في بلاد الغرب خاصة إذا لم يجد منهجاً دقيقاً منضبطاً إنما هو كخط في البحر، إذاً فالحاجة ماسة جداً إلى أن ننظر إلى المناهج من جديد، إلى أن ننظر إلى المناهج التي يعمل بها في بلاد الغرب، وأقول هذا؛ لأن مما آلمني وجرح فؤادي أن عدداً من المراكز الإسلامية -مع شكرنا وتقديرنا ولا يسعنا في هذا المقام إلا ندعو للقائمين عليها بالسداد والتوفيق- إلا أن كثيراً من المراكز الإسلامية ليست على منهج شرعي صحيح، وإن قلت كثيراً لا أخشى أن أكون بالغت فقل: بعض أو النصف؛ لأن الحاجة ماسة إلى طلبة علم وعلماء وليس ثمة علماء في تلك البلاد، وهذا يحمل الدعاة ويحمل العلماء ويحمل المهتمين بالإسلام، ويحملنا هنا حكومة ووزارة وشعباً، وعلماء وأفراداً مسئولية عظيمة ما دمنا قبلة الإسلام للمسلمين، وما دمنا نحمل الصدارة للمسلمين في العالم.(206/11)
الانشغال بالقضايا السياسية وترك الأهم في الدعوة
أيها الأحبة في الله! إن من الغرائب والعجائب في بعض المراكز الإسلامية أن تجد شغلها الشاغل متابعة القضايا السياسية أولاً بأول، ويلج ويفد إلى المسجد أناس لا يحسنون الوضوء، وأناس لا يعرفون الصلاة، وأناس لا يحسنون الفاتحة، وأناس لا يعرفون قراءة القرآن، المهم أن يعرف الموقف من قضية سياسية قديمة أو حديثة قريبة أو بعيدة، وذات يوم وكنت أخطب الجمعة في مركز من المراكز في أورلاندو بعد نهايتها قام رجل يعلق -جزاه الله خيراً وأصلح شأني وشأنه- إذ به يريد أن ينقض الخطبة من أولها ليلفت المسلمين إلى قضية سياسية معاصرة وغير ذلك، حيث قال: ليس المهم أن نتحدث عن هذا فالناس يعرفون هذا، وما هو الذي ليس بمهم في نظره؟ الكلام عن العقيدة، والكلام عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسئولية المسلمين في المحافظة على أنفسهم وأبنائهم، ومسئولياتهم في الدعوة إلى الله لتوطين الإسلام في المجتمع الذين يعيشون فيه هذا ليس بمهم! أما المهم فهو تكفير الحكومات والحكام، وتكفير النظم والأنظمة، والكلام بكل شاردة وواردة غير منضبطة بضابط شرعي، ثم قلنا: وماذا بعد هذا؟ وفي تلك اللحظة إذ بنا نفاجأ بشاب مغربي من الله عليه بالتوبة والهداية من قبل مجيئنا جاء يريد أن يتعلم الصلاة، فإذا به لا يسمع إلا عراكاً وخصومة وجدالاً بين قضيتين، إن هذه الظاهرة وإن كانت بدأت تقل إلا أنها من مساوئ أو من سيئات وسلبيات بعض المراكز هناك.
المهم أن تعلم ما هي المواقف الساخنة الحديدية من غزة أريحا، أو كامب ديفيد، أو أي قضية سياسية، ونحن نقول ونردد هنا وهناك: ليست مهمة المسلمين أن يمدحوا الظلمة أو يعتذروا عن المخطئين والطواغيت، ولكن ليست -أيضاً- مهمتهم أن يصرفوا عقول وجهد وتفكير أبناء المسلمين -خاصة في تلك البلاد- إلى الانشغال بأخطاء هذه النظم والأنظمة، حاجة الناس أن يعبدوا الله وحده لا شريك له على بصيرة، حاجتهم أن يعرفوا كيف يطبقوا العبادة على متابعة شرعية دقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة لن يضيرهم أنهم ما عرفوا عدداً من أخطاء كثير من الأنظمة، وليس بسبب أن يعذبوا لأنهم جهلوا أحوال كثير من النظم والحكام والحكومات، ولكن من قصر في واجب أوجبه الله عليه من عبادة وفريضة، أو وقع في أمر نهى الله عنه من منكر ومعصية أو فاحشة، فإن ذلك يكون سبباً في عقوبته وعذابه.
هذه من القضايا التي أوصي نفسي وأوصي كثيراً ممن يذهبون إلى بلاد الغرب أن يعتنوا بها، أن يهتموا بأن يسرعوا وأن يشتغلوا مع الناس في تعبيدهم لله، مهمة الأنبياء: ما بعث موسى ليشتم فرعون وقارون وغير ذلك، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليشتم أبا لهب وأبا جهل وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، لكن هذه قضايا ظهرت في الطريق أثناء تبليغ الدعوة، فكان للأنبياء مع الطغاة مواقف وهذا هو الواجب، ولا يسوغ هذا لأحد أن يعتذر عن ظالم أو طاغوت: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:109] لكن باختصار وتأكيد ومزيد منه: إن قضيتنا أن نعبد الناس لله هنا وهناك وفي الشرق والغرب، قضيتنا هي قضية الأنبياء: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ومعنى يعبدون: أي يوحدون، تعميق التوحيد في نفوس المسلمين أمر عظيم، إذ أن مما يؤلمك أيضاً أن ترى قول الله قد تحقق في بعضهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] يقعون في الشرك أو في ذرائعه من حيث لا يشعرون.
ويا أيها الأحباب! إن واحداً من عوام هذا المجتمع الموحد ليفوق كثيراً من المسلمين في بلاد مختلفة، ولست بهذا أسفه أو أجهل أبناء المسلمين فهناك من هو خير منا، وفيهم من هو أقرب وأتقى وأعلم، وكل بحسب درجاته وعلمه وتقواه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولكن أن نعرف ما هي مهماتنا، مهماتنا التي لأجلها نزلت الكتب وشرعت الشرائع، وخلقت الخليقة، ووجدت الجنة والنار، ويقف الناس فيها للخصومة؛ إنما هي قضية التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له.
أيها الأحبة! هذا ما أحببت أن أقوله حتى تعلموا ما هو واقع الإسلام في بلاد الغرب؛ وحتى لا نحكم بالجفاء والتشاؤم الشديد على جهود إخواننا فلهم جهود جزاهم الله خيراً، ولو قال قائل:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
لقلنا: صدقت وكنت من الصادقين، ولكن إن وجود العمل والجهود والأنشطة لا يعني أن نتباعد وأن نقول لك: مسلم أن الإيجابيات كذا وأن السلبيات والأخطاء كذا، من واجبنا أن نعمق مزيداً من الصواب والإيجابيات، وأن نكافح بالعمل والعلم والدعوة وحسن البلاغ، والجدال بالتي هي أحسن تلك السلبيات.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(206/12)
لابد من صرف الجهود في دعوة السود في أمريكا
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! إن قضية من القضايا المهمة والخطيرة في تلك البلاد، ومن الأمور التي ينبغي أن تصرف كثير من جهود الدعاة والغيورين إليها؛ ألا وهي قضية السود في أمريكا هذه طائفة أغلب المسلمين منها، وطائفة قريبة للإسلام، ويسمون أنفسهم بالمسلمين الأفارقة في عودة وبحث جاد عن الجذور، ما الذي جاء بأولئك إلى أمريكا، وقد ألف كتاب اسمه الجذور وكان قد لقي رواجاً عظيماً بينهم، يخبر المسلمين السود هناك بأنهم جاءت بهم السفن والأساطيل والبواخر الغربية إلى بلاد الغرب، وهناك عملوا سخرة وأذلاء واستعبدوا لبناء كثير وإنجاز كثير من خط البنية أو أسس التنمية هناك.
ثم بعد ذلك لا يجدون لأنفسهم مكاناً، بل ويجدون عنصرية واحتقاراً وازدراءً، حتى إن بعض المطاعم مثلاً يكتب عليها "ممنوع دخول الزنوج والكلاب" وبعضهم ربما سمحوا للكلاب ولم يسمحوا لهؤلاء بذلك، فهم يكرهون البيض، الكثير منهم يكرهون البيض.
الأمر الآخر: أنهم يجدون من البيض احتقاراً.
الأمر الثالث: أنهم يريدون أن يلتفوا على كيان واحد واجتماع واحد، كانت هذه القضية قد أشغلت فكر رجل اسمه أليجا محمد، وأصل اسمه: علي جاه محمد، هذا الرجل يقال إنه اعتنق الإسلام، ولكنه خبط وضل ضلالاً بعيداً حتى ادعى النبوة ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم بعد ذلك ظهر من أتباعه رجل اسمه مالكم إكس هذا الرجل حج وزار المملكة منذ سنين، ثم بعد ذلك ظهر له أن قيادة السود تحت ذلك الرجل المسمى أليجا محمد أنها في ضلال وخبال، ونسبت أمور كثيرة ليست من الإسلام إليه، فالذي حصل منه أن انشق عنه وخرج عن خطه وتحسن شيئاً كثيراً.
ثم بعد ذلك استطاع بمنّ من الله وفضل ولدٌ لهذا الرجل الذي اسمه أليجا محمد واسمه وارث الدين محمد هو الذي قاد الحملة ضد أبيه، ومن نعم الله أن من قاد الحملة ضد ذلك الرجل هو ولده إذ لو قادها رجل آخر مثلاً من البيض أو من طائفة أخرى لقالوا: مكيدة أو مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين، فلما بين ذلك الابن ضلال أبيه وفساد منهج أبيه ترك الكثير من السود تلك الضلالات وعادوا إلى إسلام صحيح، هذا الرجل يتبعه قرابة المليون ونصف المليون ممن يهتمون بالإسلام على منهج صحيح، ولكن لقلة الدعاة وقلة العلم وقلة الإمكانيات تجد عندهم أخطاء كثيرة.
وإني أنصح من يهتم بالإسلام في الغرب أن يركز على السود تركيزاً عظيماً فإني أرى أنه سيكون لهم شأن بعد عشرين إلى ثلاثين سنة قادمة، سيكون لهم شأن في نشر الإسلام والدعوة إلى الإسلام هناك؛ لأجل ذلك من واجبنا أن نهتم بهم، لهم في الولايات المتحدة ما يقارب ثلاثمائة مسجد في أنحاء مختلفة بين صغير وكبير، ويلقون دعماً من المسلمين خاصة من هذه البلاد جزى الله من أعان على دعمهم ومن بذل في دعمهم خير الجزاء، ولكن لا يزال الدعم أقل بكثير من احتياجاتهم وكفاياتهم، وإننا يوم أن نقول علينا أن نهتم بالسود لا يعني ذلك أن نناصب البيض العداوة أو لا نلتفت إليهم ففي كثير من المراكز عدد من البيض بل ومنهم علماء، وأعرف عدداً منهم أحدهم كان زميلاً لنا في الجامعة اشتغل بالترجمة وتأليف الكتب عن الإسلام نفع الله به الإسلام والمسلمين، ولكن أولئك السود لهم أهمية بالغة وإقبال سريع، وحماس شديد، واستجابة عجيبة، وطواعية أعجب، حينما تؤثر عليهم وتمسكهم بالمنهج الصحيح من الإسلام فإنك ستجني ثمرة ذلك في توطيد الإسلام.
إن المهاجرين يوم أن يبنوا مركزاً -جزاهم الله خير الجزاء وأثابهم ونفع بهم وسددهم وحفظهم وذرياتهم- سيهاجرون يوماً، ولكن أبناء المجتمع الأمريكي الذين هم الأمريكان أصلاً، الذين يحميهم النظام والقانون في بعض القضايا ربما ضغطوا بقوة جنسياتهم ومواطنتهم على القانون فأجبروا هذه البلاد على المشاركة في تحمل شيء من نفقة المسجد أو تحمل شيء من نفقة المعلم، ومن استطاع أن يفقه قانونهم استطاع أن يصل إلى أحكام قانونية عليهم تجعلهم يخدمون الإسلام شيئاً ما.(206/13)
كيفية دعم الإسلام في أمريكا(206/14)
زيارة المراكز الإسلامية وتفقد شئونها في الدروس والحلقات
أيها الأحبة في الله! خلاصة هذا الكلام: لن تكون هذه الخطبة من أجل التعريف بالإسلام في أمريكا، ولكنك لن تستجيب لتوجيه أو إشارات أو إرشادات في دعم الإسلام إلا بعد أن تتصور واقع تلك البلاد، فكيف ندعم الإسلام هناك؟ الحاجة ماسة إلى زيارات دورية متتابعة لعدد من الدعاة والعلماء، وحينما تكون الزيارة لابد أن يوطن الداعية والعالم نفسه أن يسمع هجوماً، وأن يستمع اتهامات، وأن يسمع عبارات مؤلمة جارحة، في مركز من المراكز قال لي رجل: أنت وأمريكا وإسرائيل سواء، أنتم وأمريكا وإسرائيل سواء.
فكيف تجيب على مثل هذا؟ تجيب عليه بأن تدنيه وتمسح على صدره، وتبتسم بين عينيه، وتناقشه فقرة فقرة ونقطة نقطة حتى تزول الشبهة التي علقت به، إننا ما ذهبنا ملاكمين ولا مصارعين حتى نتهجم عليهم أو نقذفهم بالشتائم والسباب، وإنما الواجب أن تتحمل منهم الخطأ، وأن تترفق بهم، وأن تجادلهم بالتي هي أحسن، ولو اقتضى الأمر أن تصمت في حال لتجيبهم مرة أو تطرح القضية في حال أخرى لكان هذا أمراً حسناً، فحينما يذهب الداعية أو العالم أو طالب علم إلى هناك من واجبه أن يشتغل في الدعوة والتعليم، وأركز على التعليم بإقامة دروس وحلقات، إن محاضرة تلقيها وتمضي أو خطبة تخطبها وتمضي لا بأس بنفعها، ولكن ثبت أن الذي نفع بإذن الله تلك الحلقات والدورات التي أقامتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إذ غيرت كثيراً من أفكار بعض المنتسبين إلى تلك المراكز، وأصبح هم كثير منهم العودة إلى المنهج الصحيح بدلاً من الاشتغال بأشكال أو أمور لم تنفع الإسلام كثيراً وإن نفعت شيئاً قليلاً.(206/15)
ربطهم بالفتيا من العلماء المعتبرين
الأمر الآخر أيها الأحبة! بعد حاجتهم إلى الدروس والحلقات التعليمية حاجتهم إلى الفتيا، وليس الإنسان قادراً أن يفتيهم في كل مسألة حلت في بلادهم (وأجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) لذا كان من ألزم اللوازم أن من ذهب إلى هناك أن يجعل بينه وبين المراكز التي زارها خطاً مباشراً للاتصال المستمر، إذا أشكل عليهم شيء يعدهم بأن يعرضه على العلماء هنا والذين نحسبهم ولا نزكي على الله أحداً من أتقى علماء المسلمين على ظهر الأرض، لماذا نقول: لابد أن نربطهم بالفتيا هنا؟ لأن الفتوى جاهزة في المجتمع الأمريكي، الفتوى التي تعدت حتى المرونة إلى تقطع أجزاء الأحكام.
الأمر الآخر: الفتوى جاهزة في بلدان كثيرة مختلفة، حتى أباحت لبعض النساء أن تجمع بين صلاة الظهر والعصر عند الشاطئ لأن في أداء كل صلاة في وقتها مشقة، والمشقة تجلب التيسير فلا بأس للفتاة المسلمة حينما تسبح على الشاطئ أن تصلي الظهر والعصر جمعاً، ستعجب من ألوان الفتاوى وأشكالها؛ إذاً فمن ذهب إلى هناك فليربطهم بمن يعرف من العلماء الثقات، من العلماء الصالحين الذين يوثق بعلمهم سواءً في مصر أو في سوريا أو في لبنان أو في أي منطقة أو في المملكة خاصة بالدرجة الأولى، المهم نحن لا نتعصب لجنسية العالم بل نتعصب لعلمه وتقواه، فإذا وجد العالم الذي يتقي الله فاحرص أن يكون بينك وبين أولئك سبباً تربطهم به حتى يفتيهم في حاجاتهم وأسئلتهم، ونوازل تحل في أرضهم تحتاج من الفتوى بالدقيقة بل بالساعة وفي كل يوم.
وإنني أقترح أن يوجد لوزارة الشئون الإسلامية خط مجاني مباشر لكل مركز من المراكز الإسلامية، أن المركز من هناك يتصل ونحن الذين ندفع فاتورة الاتصال من أجل الإجابة على أسئلتهم وفتواهم من قبل علمائنا الأجلاء نفع الله بهم وجزاهم خير الجزاء.(206/16)
العناية بالمساجد والمراكز
الأمر الآخر -أيها الأحبة- العناية بالمساجد والمراكز، فحينما تسمع كلمة المسجد والمركز إنها في الغالب لا تعني أكثر من مساحة لا تتجاوز الخمسة أمتار في سبعة أمتار، ويسمى هذا بالمسجد، يجتمعون فيه يومي السبت والأحد، يدرسون أبناءهم جزاهم الله خير الجزاء اللغة العربية وشيئاً من أحكام الإسلام، ويضيق ويعج المسجد بهم حينما تكون خطبة الجمعة أو محاضرة أو ضيف زائر يقابلونه أو يسألونه ويستفيدون منه.
إذاً فالحاجة إلى مساعدتهم من أجل توسيع المساجد والعناية بها، وأهم من بناء المساجد والمراكز: القيادات.
قبل أن تبني مسجداً أو تتبنى مشروعاً في بناء مسجد أو الالتفاف إلى مسجد مهمل اسأل من الذي سيتولى المسجد، ربما بنيت مسجداً فتولاه فاجر يسب الصحابة، ربما بنيت مسجداً فتولاه قادياني مخرف، ربما بنيت مسجداً فتولاه صوفي مخلط، إذاً الحاجة قبل بناء المسجد أو المركز ماسة إلى أن تعرف من الذي سيقوم عليه، ومن الذي سيعتني به، وهناك طريقة جيدة: هي أن تربط المساجد التي تبنى من أموالنا أو بجهودنا أو بتبرعات المسلمين أمثالكم أن نربطها هنا، إما بالشئون الإسلامية بعد الإفتاء، أو أن نربطها بجمعية تسجل رسمياً في القانون أو في الحكومة الأمريكية لهذه الجمعية نظام يخضعها لمجلس الأمناء، هذا المجلس له الحق أن يختار الإمامة ويعزلهم، ويختار المؤذن ويعزله، وله أن يحدد المنهج والطريقة، ويأذن بالمحاضرة أو لا يأذن بها.
إنك تعجب في أن مركزاً من المراكز جاء فاجر يسب الصحابة يخطب في الجمعة، كيف حصل هذا؟! لما فقد ذلك المركز -وهذه نادرة وأندر من نادرة- مجلساً يعتني عناية دقيقة بالمنهج الصحيح سمح لمثل هذا أن يعتلي المنبر، إذاً فالحاجة ماسة ملحة إلى البحث عن الأئمة والقيادات، وإني أعتبر أن التحدي القائم والمواجهة الخطرة في هذه المرحلة خاصة في الدعوة هناك هي: البحث عن القدرات التي تتولى الإمامة والخطابة والتعليم والإفتاء والتدريس في تلك البلاد، وأين من كان يقول يوماً ما: إننا اكتفينا كفاية زادت عن الحد من خريجي المعاهد العلمية والكليات الشرعية وغيرها؟ إن من يسافر إلى بلاد الغرب يجد أننا بحاجة ماسة إلى أضعاف أضعاف الأعداد الموجودة من حملة الشهادات الشرعية والمعاهد العلمية؛ لأن العالم يحتاجنا، العالم يناديكم يا معاشر المسلمين، إن طالباً لا يملك إلا الكفاءة المتوسطة من المعاهد العلمية يصلح ويكون إماماً وخطيباً ومعلماً لكثير من الأحكام، لا تتصور حجم الجهل بالإسلام وأحكام الإسلام هناك، لذا إذا وجد من أبناء المسلمين خاصة ممن طلبوا العلم الشرعي في حلق الذكر عند ركب العلماء واستفادوا فإنهم يؤهلون بإذن الله إلى هناك، والمترجمون بفضل الله على قدرة وإمكانية أن ينقلوا المعلومة بكل سلامة ودقة.(206/17)
الحرص على توطين الإسلام في أهل البلد
الأمر الآخر: إن أولئك يحرصون على توطين الإسلام، بمعنى أن من تولى مركزاً أن يعتني بخمس أسر أمريكية ذات جنسية أمريكية مقيمة أصلاً في البلد فيعتني بها، يدعوها إلى الإسلام، يتكفل بحاجاتها حتى يمسكها بالدين، ثم بعد ذلك لا تسأل عن جهود هؤلاء في نشر الإسلام، يقومون به بإذن الله سبحانه وتعالى، أما أن يكون العمل مجرد جماهيري وخطب وندوات ومحاضرات دون اهتمام موثوقٍ بهم من الأئمة والقيادات في توطين الإسلام وترسيخه بكل منطقة، فإنك تكون كمن يخط في بحر أو يزرع أو يبذر كثيراً من البذور على مسافة طويلة يموت قبل أن يجمع منها رغيف خبز يأكله ليدفع به خطر الجوع.
هذا فيما يتعلق بالمساجد: الحاجة ماسة إلى الأئمة والقيادات، ولا نشترط أن يكون الأئمة سعوديين، من عرفناه بسلامة المنهج وصحة المعتقد فما الذي يمنع أن نتعاقد معه ونرسله إلى هناك ليتولى هذا المركز ويكون عضواً معنا في رئاسة أو تكوين مجلس الأمناء الذي يدير ويوجه هذه المساجد؟ ثم إن الجمعية حينما تسجل بهذه الطريقة في تلك البلاد تكون معفية من الضرائب، وربما وجدت دعماً إلى حد ما، كما لقيت بعض الجمعيات دعماً لأجل نشاطها في السجون الأمريكية وتحذير الناس من المخدرات وغيرها.(206/18)
استيفاد أبناء المسلمين الأمريكان إلى المراكز الإسلامية العربية
وهنا نقطة مهمة في خدمة الإسلام هناك: أن نستقدم من أبناء المسلمين الأمريكان أنفسهم ليدرسوا الشريعة والعلوم الإسلامية هنا، وإن الحاجة ماسة إلى بذل المنح بالآلاف قبل المئات، الحاجة ماسة أن يمنح أولئك منحاً دراسية حتى يدرسوا هنا، فإن لم يتيسر أن يمنحوا هذه المنح بالآلاف والمئات فلن نعجز أن نستقدم واحداً -مثلاً- إذا رأيت أمريكياً صالحاً فيه خير فما الذي يمنعك أن تستقدمه لعقد عمل؟! يقوم بعمل يسير لمدة ساعات محددة ولكن المهمة الرئيسة له أن يحضر دروس العلماء هنا، تقول له: أنا استقدمك وعلى كفالتي إذا لم يجد منحة، إذا لم يجد الأمريكي منحة ليتعلم الإسلام هنا لا نعرف كيف نستقدمه الطريقة سهلة: أن نتفق معه على عقد عمل أن يكون سكرتير أو ناسخ آلة أو وظيفة من الوظائف العادية، ولكن يعلم أيضاً أن من مهمات قدومه أن يدرس الإسلام ويحفظ القرآن ويتقن الشريعة، من خلال برنامج نقدمه نقول: هذا برنامجك وهذا عملك كعملك في وظيفتك أو في مهمتك، في الفجر درس، وفي الصبح عمل، وفي الظهر راحة، وفي العصر درس وفي المغرب درس، يستمر على هذا لمدة سنتين ترده إلى بلاده عالماً يقود جماهير كثيرة من الأمريكان والعرب والمسلمين وغيرهم.
إذاً أيها الأحبة! بوسعنا أن نشارك، ويا ليت المسلمين يجتهدون في هذه القضية، إذ بهذا نوشك أن تتكون بين أيدينا جامعة أهلية، نعم إن ظروف الجامعات ونظمها وما يتعلق بها قد يحكمها في عدد المقبولين والذين يمنحون المنح، لكن ما الذي يمنع أن يكون عدد كبير من أولئك حينما يقدمون يرتبون في برامج معينة علمية ودراسة على المشايخ وتعليم اللغة العربية حتى ولو بجهد شخصي؟! وهذه قضية -أيها الإخوة- نحن فرطنا بها كثيراً خذ على سبيل المثال ولو خرجنا على قضيتنا قليلاً: كم عدد العمال الذين ينظفون المساجد؟ بعدد المساجد الموجودة بـ المملكة يوجد عمال ينظفون المساجد، فلو أن كل جماعة مسجد اهتموا -وهذا ما قصرت فيه أنا أولاً قبل غيري، لا تظنوا أن عاملنا هنا قد حفظ القرآن والسنة- بعاملهم فعلموه اللغة العربية، وزعوا الأدوار بينهم: أنت تعطيه درساً في العربية، وهذا يعطيه درساً في القرآن، وهذا يعطيه درساً في أحكام الإسلام، بعد أن ينتهي عقده والذي يبلغ مدة سنتين يعود إلى الهند أو إلى بنجلادش أو إلى سيلان أو غيرها يعود إماماً وداعية وعالماً ينفع المسلمين هناك هذا لو كان الإسلام يهمنا كثيراً.
أيضاً مما يحتاجه المسلمون هناك أن يفرغ المؤهلون، فإني عجبت من زميل درس معي بالكلية لما وجدته يعمل في وظيفة برمجة الكمبيوتر وهو قادر على أن يتفرغ ويعطي للترجمة والدعوة أمراً كثيراً، فحينما يوجد من أبناء الأمريكان المسلمين سواءً حصلوا هذا بالدراسة هنا أو حصلوه بعلمهم هناك ما الذي يمنع أن يفرغوا إلى أعمال الدعوة وأعمال الترجمة ففي هذا خير عظيم؟(206/19)
نشر الكتب الكبيرة في التعريف عن الإسلام
حاجتهم أيضاً إلى الكتب التي تتحدث عن الإسلام، إن العجب أن تجد مجرد مطويات أو نشرات أو كتيبات تتحدث عن الإسلام، أما المطولات عن الإسلام، كتب كاملة عن الإسلام سواءً في تفسير القرآن العظيم كاملاً، أو في الفقه الشرعي كاملاً، أو في حاجات المسلمين المختلفة كاملة؛ فإن هذا يكون أندر من النادر، وفرحت ذات يوم لما وجدت كتاباً عن الإسلام من أول أحكام الشريعة إلى آخرها فلما قلبت النظر فيه إذ فيه من البدع وفيه من المصائب، وفيه من الأمور التي تفضي -ولا حول ولا قوة إلا بالله- إلى ما لا تحمد عاقبته.
كذلك حاجة الناس عامة هناك إلى أن تصحح معلوماتهم عن الإسلام، الأمريكان لا يعرفون الإسلام إلا أنه اختطاف وقتل وإرهاب وأمور عظيمة صورها الإعلام وصورها الظالمون، فحاجتنا ماسة لإيجاد محطات إسلامية متخصصة للبث عن الإسلام، وهذا ما استبشرت به يوم أن علمت أن واحداً من المسلمين أو من أبناء المسلمين جزاه الله خير الجزاء قد حرص على أن يؤسس عملاً كهذا، يوجد في بعض القنوات برامج في ساعات محددة بالإيجار للتعريف بالإسلام، ولكن حينما تكون محطة كاملة عن الإسلام باللغة التي يفهمها القوم فإن ذلك سيؤثر بإذن الله، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ليتمن الله هذا الأمر، وليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل) حتى لا يقول قائل: إن هذه من الأماني العذبة والأحلام الخيالية لا، بل نتكلم اليوم ونحن على ثقة أن رايات التوحيد سترفرف في كل بقعة من بقاع الأرض أياً كانت يهودية أو نصرانية أو شيوعية أو بوذية.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا وأمراءنا ودعاتنا، ووفقنا جميعاً إلى طاعتك، ربنا لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر المجاهدين في كل مكان، وسدد رصاصهم واجمع شملهم ووحد صفهم، وانصرهم على أعدائهم، ربنا لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا صلاح إلا قضيتها، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وأقم الصلاة.(206/20)
واقع المسلمين اليوم
قد يعيش المرء هانئ البال، مستريح النفس، متمتعاً بالنعم، وقد يعيش على العكس تماماً من ذلك، فيتكدر باله، وتتشتت أموره، وتغتم نفسه.
وما يعيشه المسلمون اليوم إنما هو جزء مما سبق، وخاصة ما يعانيه إخواننا في أراضي الجهاد، والواجب على كل من يؤمن بقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان) أن يبرهن على ذلك بأن يشد من أزر إخوانه هناك مادياً ومعنوياً، أو الدعاء فهو سهام لا تخطئ هدفها.(207/1)
غفلتنا أدت إلى مصائبنا المتلاحقة
الحمد لله مغيث المستغيثين، ونصير الضعفاء والمكروبين، وقاصم الطغاة والمتجبرين.
أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الواحد المتفرد بالكمال والجمال، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه، وعن الند، وعن المثيل، وعن النظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلَّى الله عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من اقتفى أثرهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي سبب غيث القلوب، وهي سبب غيث البلاد والبهائم والعباد، وهي أمر الله جلَّ وعَلا للمؤمنين في مُحكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أما بعد:(207/2)
غفلتنا عن الشرع والتفاتنا إلى النعم
فيا عباد الله: إن المتأمل لأحوال المسلمين في أصقاع المعمورة، والمتدبر لجوانب معايشهم وحياتهم، وتعليمهم واقتصادهم، وعلاقاتهم ومعاملاتهم لَيَجِد أن المسلمين مستضعفون في عامة البلاد إلا في هذه البلاد {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54].
ولكن ما السبب في ذلك يا عباد الله؟! المسلمون في غالب الأحوال مشردون، والمسلمون في غالب الأحيان يُقْتلون، وأطفالُهم ييتمون، ونساؤهم تُرَمَّل، فما السبب في ذلك يا عباد الله؟! أهو أمْرٌ جَنَوه على أنفسهم؟! {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]! أهو أمْرٌ بسبب تقصير المسلمين وتفريطهم في حق إخوانهم؟! أهو عدمُ التفاتٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
نعم هذا واقع يا عباد الله، نحن منشغلون غافلون عن هذا الحديث! أهو عدم التفات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
وشبَّكَ النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه).
نعم، نحن في غفلة في شهواتنا! نحن في غفلة في ألوان ملذاتنا! نحن في غفلة وسكرة من هذه النعم التي بأيدينا! نحن في غفلة في ذلك كله عن هذا الحديث! نحن في غفلة عن الأثر الذي يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أمسى وأصبح غافلاً عن شأن المسلمين فليس منهم).
نحن في غفلة عظيمة، وسكرة كبيرة عن ذلك كله! وما سبب هذه الغفلة؟! ألأَنَّا نستحق النعمة، وغيرنا يستحقون العذاب؟! ألأَنَّا نستحق العزة، وغيرنا يستحقون الذلة؟! لا وربي، لا والله، إنما ابتلى الله بعض العباد وما ابتلى غيرهم.
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
نسأل الله ألا تكون استدراجاً لنا.(207/3)
جملة من مصائب المسلمين بسبب غفلتهم
يا معاشر المسلمين: إن واقع المسلمين في كثير من البلدان يشهد بذلك، ولو أردتُم أن نذكر قليلاً من الأمثلة لوجدنا القتل والتشريد، ورُخْص الدماء، وهُوْن الرقاب على الأنفس في مذابح المسلمين في الهند في آسام.
في مذبحة المسلمين في سوريا، وما نسيها مسلم ولن ننساها، ونقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، لا ينسى مسلم قتل ثلاثين ألف نفس في مذبحة واحدة.
ولا ينسى مسلم مذابح المسلمين في فلسطين؛ في دير ياسين، وفي صبرا وشاتيلا، وبرج البراجمة، وغيرها من المذابح التي استهدفت أرواح المسلمين، خاصة السُّنَّة منهم.
ما السبب في ذلك يا عباد الله؟! تأملوا وتدبروا، وإليكم مزيداً من حوادث المسلمين في ذلهم وضعفهم: في أفغانستان قُتل ما يربو على مليون وثلاثمائة ألف شهيد، يقول زعيم اتحاد المجاهدين/ سياف: لقد بنينا سداً منيعاً من جماجم الشهداء، نعم قدموا أرواحاً، وقدموا نفوساًَ، وشُرِّد أطفال، ورُمِّل نساء، وضُيِّعت منازل، وأحرقت الزروع، وما ذلك إلا كما يقول الله جلَّ وعَلا: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9].
وفي مقابل هذه الأوضاع الحزينة التي تجعل القلوب تبكي دماً نجد كثيراً من المسلمين في غفلة من هذا، يصبحون ويمسون، ويأكلون ويشربون وينكحون، كأنهم ما خلقوا إلا لهذا، وقد نسوا أمر الله جلَّ وعَلا لهم بعبادته، وقد نسوا أمر الله جلَّ وعَلا لهم في التفاتهم، وفي تحملهم المسئولية في شأن إخوانهم المسلمين في كل مكان.
فإذا أردت أن تقارن بين هذين الحالين: أقوام في جحيم، وأقوام في حروب، وأقوام في عذاب، وآخرون في غفلات، وشهوات، ولذات -نسأل الله جلَّ وعَلا أن يرد الجميع إليه رداً جميلاً- يصدق عليهم قول القائل:
قلب يئن ودمعة تترقرقُ ودمٌ ينِزُّ وأمة تتمزقُ
وطنٌ تجوسُ الطائراتُ سماءَه والخمر في ساحاته يتدفقُ
تنبهوا لذلك يا عباد الله، واعلموا أنكم لستم ذوو فضل ومزية على غيركم من المسلمين إلا بتقوى الله، وبطاعته، وبحسن التمسك بالعقيدة، وقد يكون ما لديكم من النعم استدراجاً.
نسأل الله ألا يعذبنا بذنوبنا.(207/4)
واجبنا لدفع غفلتنا
عباد الله: إن واجبنا ألا نعيش عيش البهائم! فإن أردنا أن نأكل طعاماًَ لذيذاً نظيفاً تذكرنا أقواماً يأكلون طعاماً كَدِراًَ! وإن لبسنا ثياباً جميلة جديدة تذكرنا أقواماً وفئات يلبسون ثياباً خَلِقَةً ممزقة! وإن ركبنا مراكب فارهة، وسكنا مساكن عالية؛ فإن الكثير يركبون الدواب، ويمشون حفاة عراة، ولا يجدون إلى راحة العيش سبيلاً! وإن أردنا أن نبيت آمنين مطمئنين تذكرنا أناساً يبيتون تحت قذائف الطائرات، ومدافع الدبابات، وأصوات المتفجرات، لا يهدأ لهم بال، ولا يلذ لهم نوم، ولا يقر لهم قرار! فنحن مسئولون عن إخواننا في كل مكان، مسئولون عن ذلك كله؛ لأنهم إخواننا في الإسلام؛ ولأننا وإياهم كما شبَّهنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضاً.
وشَبَكَ بين أصابعه).
فأين التشبُّك والتلاحم والترابط حتى في أدنى اليسير، وأقل القليل لبذل المعونة وتذكر حالهم، والدعاء لهم.
نسأل الله جلَّ وعَلا أن يرفع المحنة عنهم، وأن يهلك عدونا وعدوهم.
اللهم ثبتهم، اللهم انصرهم على عدوهم، اللهم سدِّد رصاصهم في نحور أعدائهم، بقدرتك يا جبار السماوات والأرض! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، وتوبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً ويرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم.(207/5)
واقع الجهاد على أرض الأفغان
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم وجسومكم على وهج النار لا تقوى.
اعلموا -يرحمكم الله- أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.(207/6)
المجاهدون يلقون الشدائد
عباد الله: إن أردنا أن نخصص واقعة معينة من أشد ما يواجه المسلمين في هذه الأيام، ومنذ أعوام مضت، وجدنا فئة مجاهدة صابرة، قد ابتليت في عقر دارها بعدو ملحد لدود، يملك أقوى الطائرات والمدافع والدبابات، ويناصف القوى العالمية ممالكها وقواها في كل سباق التسلح، وما تطور من أجهزة الحروب.
وجدنا إخواناً لنا في أفغانستان يقاتلون الروس، وهم الذين يُعتبرون من أمهر الجيوش في حروب الشتاء في هذه الأيام.
تتكاثف الوطأة على إخواننا المجاهدين، والروس يخرجون من القلاع المحصنة، ويعدون العدة لضرب المسلمين في هذا البرد القارس، وفي الزمهرير الشديد، يعدون العدة لضربهم على رءوس الجبال، وقمم الثلوج، يعدون العدة لضربهم، وهم لا يملكون عتاداً ولا سلاحاً، إلا ما تيسر من قديم السلاح والعتاد، وما غنموه من نحور أعدائهم.
عباد الله: إن إخوانكم المجاهدين في أفغانستان لفي واقعة من أهم الوقائع التي لا ينبغي لمسلم أن يغفل عنها، ولا ينبغي لمسلم أن ينساها، وينبغي له أن يتذكر كل نعمة في صباحه أو مسائه، في ذهابه أو إيابه، أن يقارنهم بها، وأن يشعر عِظَم حاجتهم إلى ما هو فيه من النعمة، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من بذل المعونة، ومد يد النصرة، واستنفار النفس قليلها وكثيرها لمد العون، ولمساعدتهم هناك.
إنهم يعيشون حرباً شديدة شعواء.
وإن كنا نسمع عن الأخبار الرياضية في مختلف ألوان البلاد، ونسمع عن مسابقات الجمال، ونسمع عن كل المهاترات والسخافات؛ إلا أننا لا نسمع إلا القليل القليل عن أخبار إخواننا المجاهدين، والكثير منا في غفلة عن حالهم، وإلا فمن أراد أن يتتبع حالهم، وأكثر السؤال عنهم، فسيجد الإجابة المحزنة، والإجابة المريرة التي تجعل القلوب تنجرح دماً لما هم فيه من البلاء.(207/7)
جرائم الروس وثبات الأفغان
إن الروس أعداء الله ورسوله يوم أن دخلوا قرية غزنة، وقد فعل المجاهدون فيهم فعلة عظيمة، دخلوا تلك القرية وأخذوا الشيوخ العجائز الكبار، وجرَّدوهم من ثيابهم، وصعدوا بهم في الطائرات، ورموهم على قمم الجبال، وعلى الأرض من بعد سحيق.
انظروا ماذا يفعل أعداء الله وأعداء رسوله بإخوانكم! إنهم إذا دمَّر المجاهدون لهم سرباً من الدبابات، أو شيئاً من الغنيمة غنموه منهم، دخلوا على أقرب قرية للأبرياء العزل، فجردوا الفتيات، واغتصبوهن في أعراضهن، ثم بقروا بطون الحوامل منهن، ثم صعدوا بمن شاءوا في الطائرات، وألقوهم من شواهق الجبال، ثم التفتوا إلى المواشي والزروع، فأحرقوها دماراً وهلاكاً عليهم وعلى المجاهدين.
فحسبنا الله ونعم الوكيل! إن المجاهدين إذا فعلوا بهم فعلة ناجحة قوية دخلوا إلى إحدى القرى وأخذوا يذبحون الناس فيها ذبح الشياه، يُجْرُون السكاكين على رقابهم، والصغار والنساء والكبار لا يملكون إلا أن يرفسوا بأرجلهم كما ترفس البهيمة التي ذاقت ألم الذبح من مُرِّ السكين.
فأي واقع لإخوانكم المسلمين أنتم غافلون عنه؟! نسأل الله جلَّ وعَلا أن يكشف ما بهم، نسأل الله أن يهلك عدوهم.
ومع ذلك فكما أسلفتُ لكم قدَّموا مليوناً من الشهداء وثلاثمائة ألف شهيد، كلهم لقوا ربهم.
نسأل الله أن يجعلهم من الشهداء، وأن يجعل عملهم خالصاً لوجهه، وأن يكونوا سبباً لنصرة إخوانهم مِن بعدِهم.
مع ذلك كله وما قدَّموه فإخوانكم يزدادون صلابة، وإذا اشتد البرد اشتدت نفوسهم للجهاد، وإذا حمي الوطيس حَمَت قلوبهم على الزناد، واشتدوا في حرب أعداء الله ورسوله.
يحدثني أحد الذين جاهدوا هناك، يقول: والله إنهم ليفرحون بالشهادة.
يقول: كنتُ في مدفعية مع اثنين من المجاهدين، وواحدٌ منهم اسمه: نَوَّاب، وكان يطلق قذائف متتالية، أطلق قذيفة أولى وثانية وثالثة، فلم نلبث إلا أن جاءته قذيفة على قلبه، فانطوى على نفسه، من مُرِّ الحادثة وحرها على بدنه، وأخذ يتلوى من شدة الألم؛ ولكنه يقول: والله لا يئن، ويرى ذلك ضَعفاً واستكانة، فلم يقل إلا سبحان الله، الحمد لله، أخذ يرددها حتى فاضت روحه إلى باريها، هذا نموذج من نماذج الثابتين المصرِّين على الجهاد.
نسأل الله جلَّ وعَلا أن يثبتهم، وأن يحتسب لهم ما قدَّموه في الآخرة.
عباد الله: إن أعداء الله الروس الشيوعيين يخططون لحرب طويلة المدى، فلا تنقطعوا عن معونة إخوانكم، إنهم يأخذون الصغار والأطفال الذين لم يميزوا ولم يلتفتوا، فيذهبون بهم هناك، ويدربونهم في معسكرات الجيوش؛ لكي يعودوا حرباً على أمهاتهم وآبائهم وإخوانهم هناك، كل ذلك تخطيطاً لحرب طويلة المدى.
نسأل الله جلَّ وعَلا أن يشفي مرضى المجاهدين، وألا يعذبنا ويعذبهم بسبب ذنوبنا.
ونسأل الله جلَّ وعَلا أن يرفع المحنة عنهم.(207/8)
ما يعانيه الجهاد على أرض الأفغان
أيها الأحبة: إن هناك مصائب عدة يواجهونها بسبب قلة ذات اليد؛ أكلهم قليل، يأكلون اليابس من الخبز، والملابس قليلة خاصة في هذا الشتاء.
بعد هذا المطر الذي أصابكم البارحة توافد الناس إلى الأسواق وجمعوا ما جمعوا من الملابس الصوفية، في داخل أبدانهم وخارجها، وأخذوا يلبسون ويُعِدُّون ويستدفئون! فمن بالدفء لإخوانكم؟! من الذي يقدم لهم ما يستدفئون به؟! ومن يقدم لهم ما يأكلونه ويشربونه؟! ومن يقدم لهم ما يطلقونه رصاصاً في نحور أعدائهم؟! إنهم يواجهون وعورة الطرق، ينقلون العتاد على البهائم، على البغال والحمير، يقول أحدهم: والله لقد رأيتُ بعيراً سقط بحمله الذي عليه؛ لأن الطرق والمسالك الجبلية وعرة ضيقة جداً، فإن أقسى حالات الحرب وأمرها ظروفاً يعيشها إخوانكم المجاهدون، يسيرون على الأقدام أياماً طويلة، ومع ذلك يتقبلون كل ذلك بصدور رحبة.
واعلموا أن أعداء الله ورسوله من الشيوعيين والصليبيين وغيرهم يريدون أن يقضوا على هذه الثلة المجاهدة، ولذلك فإن بعضهم وإن كانوا يتسمون بجمعيات الصليب الأحمر، أو لإنقاذ الغرقى والهدمى وغيرهم، ومن أصيب من المجاهدين، يحاولون أن يفتحوا مستشفيات هناك، فإذا جاء من علموا من حاله ومكانه بين المجاهدين، وفيه جُرح في يده قطعوا يده كلها، أو جُرح في رجله بتروا ساقه كلها، يريدون أن يعيقوا مسيرة الجهاد.
وما وقفوا عند هذا الحد، بل إن الروس أعداء الله والعملاء الخونة والمنافقين الذين يوالونهم قد أرسلوا من أرسلوا ليدخلوا في صفوف المجاهدين، وليشوهوا صورة المجاهدين، وليبينوا للناس أنهم لا يجاهدون لله، وهذا كذب وافتراء وزور وبهتان، ومن تحمل ذلك أو قاله فإنه لا يبالي بملايين الشهداء.
أخذوا يدسُّون العملاء؛ ليعرفوا من هم القادة بين المجاهدين، وليدبروا لاغتيالهم في صفوف الجهاد؛ نظراً لقلة ما في أيدي المجاهدين، واستغلالاً لضعف إيمان أولئك.
إن حاجة إخوانكم منذ زمن طويل وهي مريرة في جهادهم هذا، وفي دخول موسم الشتاء يزداد الألم مرارة، ويزداد الأمر حسرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(207/9)
الأيام دواليك
يا عباد الله! تنبهوا أن الأيام دواليك، فإن لم تفزعوا لنصرتهم ونجدتهم فإن الإنسان مهدد بانقلاب الدائرة عليه، إن لم يشكر نعمة ربه، وإن لم يقم بواجب إخوانه، وإن لم يقم بالواجب الذي فرضه الله عليه تجاه إخوانه من المسلمين، وتذكروا قصيدة أبي البقاء الرندي يوم أن سقطت الأندلس، ودخلها النصارى، وقَتَلوا مَن قَتَلوا فيها، وشَرَّدوا مَن شَرَّدوا فيها، التاريخ يعيد نفسه، ونجد هذه الحادثة تقع على إخواننا المجاهدين في أفغانستان، ويقول فيها: يا غافلاً واسمعوا -معاشر الغافلين- الذين لم يلتفتوا:
يا غافلاً وله في الدهر موعظةٌ إن كنت في سِنَة فالدهر يقظانُ
فجائعُ الدهر أنواعٌ منوعةٌ وللزمان مسراتٌ وأحزانُ
يا ماشياً مرحاً يُلهيه موطنهُ أَبَعْدَ حمص تغرُّ المرءََ أوطانُ؟!
ونحن نقول: أبعد ما فُعل بالمجاهدين! أبعد هذا تغرُّ المرءَ أوطانُ؟!
تلك المصيبة أنست ما تقدَّمها وما لها مع طول الدهر نسيانُ!
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ؟!
ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ وأنتمُ يا عباد الله إخوانُ
ألا نفوسٌ أبِيَّات لها هِمَمٌ؟! أما على الخير أنصارٌ وأعوانُ؟!
يا مَن لِذِلَّة قومٍ بعد عِزِّهمُ أحالَ حالَهمُ جورٌ وطغيانُ
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عُبدانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
فهل في القلوب إسلامٌ وإيمانُ؟! هل في القلوب نجدة لإخوانكم يا معاشر المسلمين؟! هل في القلوب نخوة لإخوانكم؟! هل في القلوب ذرة رحمة لهم؟! يوم أن وقع الزلزال في مكسيكو، وحلَّ البركان في كولومبيا، ثارت الصحافة بأعلى أصواتها، وتحرك الضمير الإنساني لنجدتهم؛ فأين ضميرنا لإخواننا المسلمين؟! هو والله واجب علينا، وفريضة علينا، وحق في مال كل مسلم منا، ولو عرفنا حق المجاهدين، وأدركنا مكان وجوب البذل لهم لأدركنا أن من الواجب على كل مسلم أن يعرف ويقدر قيمة هذا الجهاد، أن يخصص من دخله وماله جزءاً شهرياً لهم، ولو أقل القليل وأدنى اليسير.
فإن القليل مع القليل كثيرُ
هذا واجب لهم علينا، ولا مِنَّة لنا في ذلك ولا فضل، فالله الذي ابتلاهم بهذا، وابتلانا بالنعمة، والله الذي أعطانا، والله الذي أمرنا، فلا قليل ولا كثير منا، بل كل ذلك من فضل الله وحده سبحانه جلَّ وعَلا.
فخافوا الله في أنفسكم وفي إخوانكم معاشر المؤمنين، وابذلوا لهم المعونة، وإن مما يسركم أن يكون معكم اليوم وفي هذه الساعة من مندوبي المجاهدين من سيجمعون تبرعاتكم، وما تجود به أنفسكم لإخوانكم، واجعلوا ذلك دائماً (فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) ولا تستكثروا على الله شيئاً تبذلونه لهم، ولا تستكثروا صدقة صغيرة أو كبيرة، ولا تحتقروا قليلاً أو يسيراً، فإن ذلك محسوب لكم ومُحتسَب في موازين أعمالكم {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88].
وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فهل تتقون النار ببذل الصدقة والمعونة لهم؟! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احم حوزة الدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في أفغانستان، اللهم مكن لهم من نحور أعدائهم، اللهم عليك بالظالمين والمنافقين والمجرمين والخونة يا قوي يا متين! وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(207/10)
وجوب الوحدة ونبذ الفرقة بين المسلمين
لقد جرب أعداء الإسلام وسائل شتى في حرب الإسلام وأهله، بل إنهم جربوا الأسلحة الفتاكة من أجل إبادة المسلمين، ولم ينجحوا في شيء من ذلك؛ لأن الله وعد نبيه أن لا يسلط على أمته عدواً من غيرهم، يستحل بيضتهم، وإنما استطاع الكفار أن يخرقوا صفوف المسلمين بسبب تسلط المسلمين بعضهم على بعض، وشدة اختلافهم فيما بينهم.(208/1)
الأمر بالوحدة وترك الفرقة
الحمد لله الواحد بلا شريك، والقوي بلا نصير، والعزيز بلا ظهير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا هو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! كلنا يعلم أن أعظم سرٍ في رفعة أمة الإسلام وسيادتها وعزتها هو أمر الوحدانية؛ وحدانيتها في عبودية ربها، وتوحدها في اقتدائها بنبيها، وتوحدها في الاتجاه إلى قبلة واحدة، واتحادها مع بعضها البعض على قلبٍ واحد، ولمبدأ واحد، وعلى همةٍ واحدة، وهذا التوحيد والاجتماع لا شك أنه جانبٌ من جوانب القوة، بل أعظم جانب من جوانب العزة والرفعة والكرامة.
أيها الأحبة في الله: من تأمل هذه المسألة أدرك سر الآيات والأحاديث الكثيرة في كتاب الله وسنة نبيه التي تدعو إلى الاعتصام، والتي تدعو إلى التعاون، وإلى إسقاط الخلافات والاجتماع على قلبٍ واحد، يقول الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] ويقول الله جلَّ وعلا: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].(208/2)
سبب تداعي الكفار على المسلمين
أيها الإخوة المؤمنون! لستم بحاجة إلى مزيد من الآيات والأدلة في أن الله أمر المؤمنين بالوحدة ونهاهم عن الفرقة، ولكن لكي نعلم -أيها الأحباب- أن ما أصاب أمة الإسلام في هذا الزمان من هوانٍ على الكفار، ومن ذلة في أعين أعدائهم، ومن تسلط الجبابرة الكفرة على رقاب كثيرٍ من الطوائف منهم، إنما ذلك بسبب تفرق المسلمين، إنما ذلك بسبب عدم اجتماعهم على قلبٍ واحد، نسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين أجمعين.
أيها الأحبة! إن أعداء الأمة يوم أن أدركوا هذا السر العجيب في رفعة الأمة وسيادتها، وهو الوحدة والتعاون والاتحاد، بدءوا يسلطون معاول هدمهم على هذا الركن المتين من أسباب القوة، فمنذ عصر الخلافة الإسلامية والنصارى وأذنابهم وأعوانهم إلى زمننا هذا يسلطون جهودهم لتفريق المسلمين وتأليب بعضهم على بعض، وإثارة الأحقاد والضغائن في نفوس بعضهم على بعض لكي لا تجتمع لهم كلمة، ولكي لا يلتئم لهم صف، ولكي لا ينضموا تحت رايةٍ واحدة، لقد كان لأعداء الإسلام أعظم دورٍ في سقوط كثيرٍ من دويلات الإسلام بسبب تسلطهم على هدم هذا الجانب، وإذا شئتم أقرب الأمثلة، فانظروا تسلطهم في دويلات الأندلس؛ حيث سلطوا بعض المسلمين على بعض، فلما تفرق المسلمون وأصبحوا ملوكاً للطوائف، وصدق فيهم قول القائل:
ألقاب مملكةٍ في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
لما تقسمت بلاد الأندلس في ذلك الزمان وأصبح كلٌ يرفع لواءه بنفسه، بل وصل الأمر ببعضهم أن استعان بالنصارى لكي يكونوا عوناً له في قمع أحد إخوانه المسلمين في دولة من دويلات الطوائف، فلما فرق أعداء الإسلام المسلمين بهذه الطريقة، وهي إثارة الأحقاد والبغضاء وإثارة النزاعات العصبية والقبلية، أصبحوا لقمةً صغيرةً هانئةً صائغةً أمام أعدائهم، فأكلوهم دويلةً دويلةً حتى سقطت غرناطة آخر قلعة من قلاع الإسلام كان يملكها بنو الأحمر، وخرج أميرها وهو يقول: وداعاً يا غرناطة وداعاً لا لقاء بعده، ولأنه عرف وأدرك أن أعداءه قد نجحوا في إثارة الفتنة بين إخوانه المسلمين، ثم أكلوهم لقمةً لقمةً.
ولما تسلط الاستعمار العالمي بجميع اتجاهاته على دول المسلمين، أذاقوا المسلمين ألوان القتل والتشريد وساموهم الهوان وسرقوا مقدراتهم وثرواتهم، ولم يتركوهم هكذا بعد أن بذل المسلمون في تلك الدول أعجب الألوان في دروب الدفاع والقتال لكي يتحرروا من أعداء المسلمين، ولكي يتحرروا من الاستعمار، لم يخرجوا ويتركوا الحرية لهم في بلادهم بل تركوا مشاكل حدودية تجعل المسلمين يتقاتل بعضهم على بعضٍ من أجلها، فجعلوا المسلمين يقتل بعضهم بعضاً، ويحارب بعضهم بعضاً من أجل كيلو متراتٍ معدودة على حدود كل دولة واحدة من أجل أن تستمر البغضاء العداوة، وأن يستمر النزاع والقتال، فتارةً أولئك يتقدمون شبراً، وأولئك يتقدمون متراً، وهكذا دواليك حتى لا تجتمع قلوبهم في يومٍ من الأيام، وإن الواقع يشهد شهادةً صريحةً بذلك.
معاشر المؤمنين: لم يكتف أعداء الإسلام بهذا الأمر، بل زادوا على ذلك أن سلطوا على المسلمين من أبنائهم أو من غير أبنائهم من يتبنى أفكاراً دخيلة، ومبادئ غربية على أمة الإسلام لكي يتسلطوا بها، ولكي تكون سبباً في نقض ما بقي من وحدة الأمة الصغيرة من بين تلك الأمم المتفككة فيما بينها، فأثاروا النزاعات القبلية، والعصبيات العرقية لكي لا تجتمع أمة واحدة على قلبٍ واحد، وأنتم بهذا تعلمون يا عباد الله! أن أمةً واحدة يجمعها إقليم واحد، وتنتسب إلى بلادٍ واحدة، أو دولةٍ واحدة تقوم فيها العصبيات العرقية والنزاعات القبلية لا شك أنها لا تجتمع على قلبٍ واحد، ولو أرادت أن تجتمع فعليها أن تعود إلى حسابٍ مدين لا بد أن تصفيه في أمورٍ كثيرة، أولها: هذه النزاعات وهذه العصبيات.
معاشر المؤمنين! إنه لا عز ولا سلطان لأمة الإسلام ولا منعة ولا كرامة للمسلمين إلا أن يتحدوا فيما بينهم، ويعملوا بقول الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران:103] لقد كانت أمة العرب طوائف متناحرة، وقبائل متقاتلة، دامت بينهم حروبٌ عظيمة: كداحس والغبراء، وحرب البسوس، أربعين سنة دامت وهم يقتل بعضهم بعضاً، ولم تنته هذه الحرب إلا يوم أن بعث الله النور المبين محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والمرسلين، فجمع قلوبهم، وأزال الضغائن والإحن فيما بينهم، فلا سلطان للمسلمين ولا وحدة لهم إلا أن يوحدوا صفوفهم ويلموا شتاتهم، وأن يجمعوا كلمتهم، وأن يحددوا رايتهم التي من أجلها يعملون وفي سبيلها يستشهدون، لابد لأمة الإسلام من هذا، وبدون ذلك لن تقوم للإسلام قائمة، نسأل الله جل وعلا أن يديم ما بقي من وحدة المسلمين في هذه البلاد خاصة، وفي سائر بلاد المسلمين عامة.
معاشر المؤمنين! روى الإمام مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).
وروى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنةٍ بعامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنةٍ عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال: من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً).
إذاً -أيها الإخوة- نعلم أن أي هدمٍ أو شرخٍ في وحدة أمة الإسلام إنما هو بسبب داخلي فيها وليس لأمر خارجي عنها، لأن الله قد أعطى الأمة ألا يهلكها بسنةٍ بعامة وألا يسلط عليها عدوا ًمن سوى أنفسها حتى لو اجتمع عليها من بين أقطارها أو من في شمالها إلى جنوبها، ومن في غربها إلى شرقها مهما تآلبوا وتسلطوا على أمة الإسلام، لن يستطيعوا أن ينالوا من هذه الأمة شيئاً، لن يستطيعوا أن يدركوا من هذه الأمة منالاً ماداموا مجتمعين، أما إذا تسلط بعضهم على بعضٍ من داخلهم، وإذا ثارت العصبيات فيما بينهم وهم في أرضٍ واحدة، وتحت لواء واحد، فإن هذا نذيرٌ ومهدد بقرب تسلط عدوٍ من الأعداء عليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(208/3)
الخيانة وأثرها على الإسلام
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين! إن أعداء الإسلام في القديم والحديث جربوا ألوان الفتك والاعتداء على المسلمين، لكنهم علموا أن أفشل الأساليب وأقلها نجاحاً هو العدوان العسكري على أمةٍ الإسلام، إذ أن المسلم بطبيعته يوم أن يفاجأ بعدوانٍ ويقابل بقوة ينعكس رد الفعل بالنسبة له وليس انطلاقه انعكاساً لردود فعلٍ، بل هو عقيدةٌ تصقل بهذه المفاجأة، فينطلق من طوره الذي هو فيه أياً كان ذلك الطور؛ طور غفلةٍ أو لهوٍ أو غير ذلك، فتنتبه نفسه لهذا العدو المحيط به، فينطلق شجاعاً باسلاً لكي يرد العدوان عن أرضه وعن بلاده وعن عقيدته وعن المسلمين أجمعين، فمادام الأعداء جربوا هذا الأسلوب وأدركوا فشله طوال حروبٍ صليبيةٍ بلغت ثمان حملات، وطوال سنين طويلة جربوا فيها ألوان الأسلحة الفتاكة وغيرها، ظهر مفكرٌ مجرمٌ من مفكري البريطان وقال: إن المسلمين لا يجدي فيهم هذا الأسلوب إنما ينفع فيهم أسلوب بطيءٌ لكنه مؤكد، أتدرون ما هو؟ إنه أسلوب الغزو الفكري، قتل الغيرة، وإماتة الشيم، وتكسير الحياء، واهتمام كل فردٍ بنفسه، واعتناء كل إنسان بمادته الشخصية بعيداًً عن ملاحظة أمور المسلمين عامة.
إنه أسلوب بطيء، لكنه فعال، ولما اجتمع القس صموئيل زويمر في القاهرة (سنة:1937م) بمجموعة من الرهبان والنصارى وأخذوا يستعرضون جهودهم في تنصير المسلمين كلٌ يعرض جهوده، ثم يقول: لكن مجموعةً منهم عادوا إلى إسلامهم بعد أن تنصروا، وطائفة تقول: إنهم لم يثبتوا على النصرانية مدةً يسيرة، فقال ذلك المجرم: معاشر القسس والرهبان لم تعرفوا حقيقة التنصير أو التبشير، إن حقيقة الأمر أن نخرج المسلمين من دينهم، وليسوا بعد ذلك بأهل أن ينالوا شرف الدخول في النصرانية.
هذا أمر واحد، الأمر الثاني: إنه لا يقطع الشجرة إلا غصنٌ منها، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لا تنفروا جهودكم مبعثرةً هكذا، لكن انتقوا عيناتٍ وأفراداً تلتمسون فيهم النمو والذكاء والحركة والنشاط فنصروهم وغيروا عقائدهم، ثم بعد ذلك دعوهم يعيثون في أرضهم فساداً وهم يكفونكم مؤونة التنصير في بلادهم.
هذا مثلٌ نضربه لكي نبين مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا تكفل لأمته ألا يهلكهم بسنةٍ عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، من خارج أرضهم وبلادهم، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم شديداً فقال: (يا محمد! إني إذا قضيت فضاءً فإنه لا يرد) عند ذلك نعلم أنه إذا قام واحدٌ من صفوف الأمة يتكلم بلسانها، ويلبس ثوبها وهو من بني جلدتها، وقد تبنى فكراً غربياً أو مبدأً شرقياً، أو فتنةً هدامة، فإن أثره يكون أبلغ في إفساد صفوف الأمة، وفي تفريق وحدتها، وفي كسر شتاتها المجتمع.
أيها الإخوة: من هذا المبدأ غزيت أمة الإسلام، يوم أن ظهر أفرادٌ أو فئامٌ يتكلمون بألسنتنا، ويلبسون مثلما نلبس، جلودهم جلود الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، وبين تارةٍ وتارة تخرج فكرةٌ دخيلة، أو مبدأٌ غريبٌ على صفوف المسلمين وبمثل أولئك يدخل الفساد ويدخل الضلال في أمة المسلمين، وصدق ذلك المجرم المبشر: إنه لا يكسر الشجرة إلا غصنٌ من أغصانها.
فالله الله يا عباد الله: اعلموا أن أمم الكفر والضلالة لو اجتمعت على أمتكم فلن تستطيع أن تهلكهم، إن أمة الكفر والضلالة لو أرادوا بكم ما أرادوا لن يستطيعوا أن ينالوا منكم شيئاً، إلا إذا نال بعضنا من بعض، إلا إذا خان بعضنا الأمانة، إلا إذا فرطنا فيما أمر الله به، إلا إذا تسلط بعضنا على بعض، إلا إذا توجه النقد والتجريح البذيء من بعضنا إلى بعض، وتركنا الأعداء يأكلون لحومنا ويفتكون بإخواننا، ويتسلطون على مقدساتنا، ويتقدمون مستوطنين في أراضينا، عند ذلك معاشر المسلمين لا تسألوا عن هلكة الأمة، فكأنما هي عقدٌ قد انقطع نظامه فتتابعت حباته.
معاشر المؤمنين! لولا الخيانة في صف من الصفوف ما دخل الأعداء إلى ذلك الصف، لولا التهاون في ثغرةٍ من الثغور ما تسلط الأعداء على ذلك المجال.
إن سبيل الوحدة والقوة هو أن نجمع القلوب أولاً ما دام إلهنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة، ونصلي كل صلاةٍ خلف إمام واحد، علمنا الإسلام أن نجتمع، علمنا الإسلام الوحدة، فلا بد أن نتحد في جميع أمورنا، نصوم شهراً واحداً، ونقف بعرفة في يومٍ واحد، وفي الحج نلبس زياً واحداً.(208/4)
الإسلام دين الوحدة
إن الإسلام دين الوحدة فلا بد أن نتحد في أفعالنا وأقوالنا، لا بد أن نتحد في توجهاتنا، وعند ذلك لن يصل الأعداء إلى شبرٍ من أراضينا، ولن يدخلوا ثغرةً من مجالات حياة أمتنا
ما يبلغ الأعداء من جاهلٍ ما يبلغ الجاهل من نفسه
إن الإنسان إذا فرط في حق نفسه، دخل عليه التفريط من خارج أمره، أما إذا كان معتنياً بأموره من جميع جوانبها، فوالله ثم والله، ثم والله لن يتسلط عليه أحدٌ إلا بأمر قد كان في نفسه، فاجمعوا قلوبكم -أيها الإخوة- وابذلوا المحبة لسائر إخوانكم، وأزيلوا الضغائن والإحن من قلوبكم، وبروا بآبائكم وأمهاتكم وصلوا أرحامكم، وأظهروا مشاعر الوحدة في مجتمعكم، عند ذلك والله لن يفكر العدو في أن ينال من أدنى مقدرةٍ من مقدرات أمتكم شيئاً، لكن الأعداء إذا وجدوا أمةً متقاتلة، وفئات متناحرة، وقلوباً متباغضة، واتجاهاتٍ متباينة، عند ذلك يرون أن أمةً كهذه هي ألذ لقمة تتجرعها في حلقها وألذ غنيمة تستولي عليها بغفلة أصحابها.
أسأل الله جل وعلا أن يجمع قلوبنا، وأن يوحد صفوفنا، وألا يجعل من بيننا خائناً يخون أمتنا، اللهم اجمع شمل المسلمين، وارحم اللهم المستضعفين، وانصر اللهم جميع المجاهدين في سبيلك، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد رصاصهم، ووحد كلمتهم، واجمع شملهم على كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم لا تسلط علينا ولا عليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ هذه البلاد خاصة، واحفظ سائر بلاد المسلمين عامة، اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضا ًإلا شفيته، ولا حيرن ألا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا غائباً إلا رددته برحمتك ومنك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى واسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، نسألك اللهم أن تحيينا على الإسلام سعداء، اللهم توفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا اللهم في زمرة الأنبياء، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم اجعل خير أيامنا يوم نلقاك، واجعل خير أعمالنا خواتمها، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وجنبنا أسباب سخطك وغضبك يا رب العالمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(208/5)
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
أيها الأحباب: إن الموت حق على كل حيٍ كبيراً كان أو صغيراً، ملكاً كان أو وزيراً، فكل من عاش لابد أن يموت، حتى الأنبياء وهم صفوة الله من خلقه، فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يخيره ربه بين زهرة الحياة الدنيا وما عند ربه؛ فاختار لقاء ربه، وفي هذه المادة تعيشون مع حادثة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض وصاياه عند موته، وأخذ الدروس والعظات من هذه الحادثة المؤلمة على الأمة بأسرها.(209/1)
الموت حقيقة لا مفر منها
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
معاشر المؤمنين: روى الشيخان في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: (إن عبداً خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عند ربه، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا! وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا).
أتعلمون -يا عباد الله- من عبد الله المخير بين ما عند ربه وبين زهرة الدنيا؟ إنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قد اختار لقاء ربه وجواره.
عباد الله: الموت حق على كل حي أياً كان كبيراً أو صغيراً، ملكاً أو وزيراً، فكل من عاش لابد أن يموت، سواء قرب الأجل أم بعد: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] حتى الأنبياء والرسل وهم صفوة الله من خلقه، يقول الله جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35].
وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
عباد الله: إن مفارقة الأجساد للأرواح لا تقع إلا بعد ألمٍ عظيم، وعناءٍ جسيم تذوقه الروح والجسد جميعاً، فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفته، واشتدت ألفتها له وامتزاجها به ودخولها فيه، حتى صار الروح والجسد شيئاً واحداً، فلا يتفارقان إلا بجهدٍ شديد، وألمٍ عظيم، ولن يذوق ابن آدم في حياته ألماً مثله.(209/2)
الحث على الإكثار من ذكر هاذم اللذات
قال الربيع بن خثيم: أكثروا من ذكر هذا الموت، فإنكم لم تذوقوا قبله مثله.
ثم إن الروح المفارقة للجسد لا تدري أين المستقر والمستودع، لا تدري أين القرار والبقاء، هل هو في الجنة أم في النار، فإن كان العبد عاصياً مصراً على المعصية إلى أن أدركه الموت، فإنه قد يغلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار، فتتضاعف بذلك حسرته وألمه، ولا ينفعه عند ذلك ندمه، وربما كشف له مع ذلك عن مقعده من النار، فيراه حين سكراته أو يُبشَّر به، فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره، عياذاً بالله من تلك الحال وسوء المآل.
عباد الله: من تذكر تلك الأحوال والمقامات التي يمر بها العبد إبان خروج روحه؛ أدرك الحكمة من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقوله: (أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت).
وحسبكم من ذكر الموت -يا عباد الله- أن نستعد له قبل نزوله، وأن نقصِّر الآمال، وأن نرضى بالقليل من الرزق، وأن نُقبل على الآخرة، وتهون علينا مصائب الدنيا، فكل مصيبة دون الموت تهون، وإذا عظمت مصيبتنا في وفاة حبيب لنا أو قريب فلنذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عظمت عليه مصيبته، فليذكر مصيبة المسلمين فيَّ).
نعم يا عباد الله: من اشتدت وعظمت وكبرت مصيبته على نفسه، فليذكر أعظم مصيبة فُجعت بها أمة الإسلام، بموت نبيها صلى الله عليه وسلم.
كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح
سيصير المرء يوماً جسداً ما فيه روح
بين عيني كل حي علم الموت يلوح
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن ولو عمِّرت ما عمر نوح
لما أنزل الله جل وعلا قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] علم صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله.
قالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: سبحان الله وبحمده، أستغفره وأتوب إليه).
قالت أم سلمة رضي الله عنها: (كان في آخر عمره صلى الله عليه وسلم لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده، فذكرت ذلك له فقال: إني أمرت بذلك وتلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]).
وما زال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب الناس في حجة الوداع قال لهم: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع.
ولما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس في طريق بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: (أيها الناس: إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، ثم حض على التمسك بكتاب الله وأوصى بأهل بيته خيراً).(209/3)
مرض موته صلى الله عليه وسلم
ولما بدأ به صلى الله عليه وسلم مرض الموت خرج إلى أصحابه في المسجد وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر وقال: (إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة) ثم هبط عن المنبر فما رؤي على المنبر بعد ذلك.
وفي المسند عن أبي مويهبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع وقال: ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم قال: يا أبا مويهبة! إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة، فخيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي والجنة) ثم انصرف وابتدأه وجعه الذي قبض فيه، وكان أول ما ابتدأ به صلى الله عليه وسلم من مرضه وجع الرأس.
وكان صداع الرأس والشقيقة يعتريه كثيراً في حياته، ويتألم منه أياماً، ففي المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرض الذي بُدئ فيه، فقالت عائشة: وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: وددت أن ذلك كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، فهيأتك ودفنتك، قالت عائشة: كأني بك في ذلك اليوم عروساً ببعض نسائك، أي بعد موتي) فاعجبوا لغيرة النساء، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة.
فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا وارأساه، ادعوا لي أباك وأخاك، حتى أكتب لـ أبي بكر كتاباً).
ولم يزل ذلك الصداع وتلك الحمى يشتدان برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استأذن أزواجه ليبقى في بيت عائشة فأذنّ له، وجيء به محمولاً إلى بيتها، ثم إن الحمى اشتدت به صلى الله عليه وسلم في مرضه، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحل أوكيتهن، يتبرد بذلك من شدة الحمى، وكان عليه قطيفة، فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده على النبي صلى الله عليه وسلم من فوقها، فقيل له في ذلك، فقال: (إنَّا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر، وقال: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم).
ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وحصل له ذلك غير مرة، فأغمي عليه مرة وظنوا أن وجعه ذات الجنب، فلما أفاق أنكر ذلك وقال: (إن الله لم يكن ليسلطها علي -يعني: ذات الجنب- ولكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر) أي: من سم الشاة التي أهدتها اليهودية له فأكل منها يومئذ، فكان ذلك يثور عليه أحياناً، فقال في مرض موته: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني؛ فهذا أوان انقطاع أبهري).
وكان ابن مسعود وغيره يقولون: [إنه صلى الله عليه وسلم مات شهيداً من السم] وقالت عائشة رضي الله عنه: [ما رأيت أحداً كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم].
وكان عنده في موته سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفه وقال: (ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه) ثم تصدق بها، فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين، أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من النساء، فقالت قطِّري لنا في مصباحنا من عكة السمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديد الموت.
وكان عند عائشة إزار غليظ مما يصنع في اليمن وكساء، فكانت تقسم بالله أنه صلى الله عليه وسلم قبض فيهما.
فلما احتضر صلى الله عليه وسلم اشتد به الأمر فقالت عائشة: (ما أغبط أحداً يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عنده قدح من ماء يدخل يده صلى الله عليه وسلم في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، يقول: اللهم أعني على سكرات الموت، قالت: وجعل يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات).
ولما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه، فقال لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم).
قالت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير، فلما نزل به الموت ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال: اللهم الرفيق الأعلى، قالت: فعلمت أنه لا يختارنا).
وروي أنه لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً نزل عليه جبريل عليه السلام قال: (يا أحمد! إن الله قد أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً خاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك، فقال: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، ثم أتاه في الثاني والثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت، فقال جبريل: يا أحمد! هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا بعدك، قال: ائذن له: فدخل ملك الموت فوقف بين يديه، فقال: يا رسول الله! أرسلني الله إليك وأمرني أن أطيعك، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال: وتفعل يا ملك الموت، قال: بذلك أمرت أن أطيعك، فقال جبريل: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: فامض يا ملك الموت لما أمرت به، فقال جبريل عليه السلام: عليك السلام يا رسول الله! هذا آخر موطئٍ من الأرض، إنما كنت يا محمد حاجتي من الدنيا).
وفي ذلك اليوم الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم وقبل موته كشف الستر عن أصحابه وهم يصلون صلاة الصبح خلف أبي بكر، فكاد المسلمون أن يفتتنوا من فرحتهم برؤية نبيهم صلى الله عليه وسلم حين نظروا إلى وجهه وظنوا أنه يخرج للصلاة، فأشار إليهم أن مكانكم وأرخى الستر، وتوفي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وظن المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه، لما أصبح يوم الإثنين مفيقاً.
ولما علم المسلمون بوفاته صلى الله عليه وسلم منهم من اندهش ومنهم من خولط، ومنهم من أقعد ولم يستطع نهوضاً، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعاً حتى دخل بيت عائشة، والنبي صلى الله عليه وسلم مسجَّى، فكشف الثوب عن وجهه، وأكب عليه وقبَّل جبهته مراراً وهو يبكي ويقول: [وانبياه واخليلاه واصفياه، إنا لله وإنا إليه راجعون].
ثم قام ودخل المسجد وعمر يكلم الناس وهم مجتمعون، فتكلم أبو بكر وتشهَّد وحمد الله، فأقبل الناس على أبي بكر وتركوا عمر، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(209/4)
الاستعداد للموت وسكراته
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وفارق الدنيا وقد تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله: سمعتم عن وفاة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما تغشاه من الكرب والآلام، وهو أفضل من وطئت قدمه على الأرض قاطبة، ومع ذلك كان يلاقي ويعاني من سكرات الموت، ويضع يده في كوب فيه ماء بارد، ويمسح على وجهه ويقول: (اللهم أعني على سكرات الموت).
فهل بعد ذلك يرجو أحد تخفيفاً فيها إلا من تداركه الله برحمته؟ وهل بعد ذلك يظن أحداً أنه سيكون أهون ألماً في وفاته من وفاة أفضل الأنبياء وسيد المرسلين وأفضل الخلق أجمعين، محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا يكون ذلك أبداً إلا لمن زاده الله كرامة، ولا كرامة لأحد فوق ما أكرم به صلى الله عليه وسلم.
معاشر المؤمنين: استعدوا لما أنتم قادمون إليه، فإن الموت لا يعرف كبيراً ولا صغيراً، إن بعض الناس حين يسمعون الموعظة أو شيئاً عن الموت فإنهم يتوجهون بذلك إلى كبار السن، يظنون بذلك أن الحديث موجه لمن ابيضت لحاهم من الشيب، واشتعلت رءوسهم شيباً، وما علموا:
إن الموت لنا بالمرصد إن لم يفاجئ اليوم فاجأ في غد
كم من رجل دفن أولاده جميعاً وكان أطولهم عمراً، وكما تقول العرب: وكم من ناقة شربت في جلد حوارها، فكم من رجل قد عاش دهراً وولد له بنين وحفدة ودفنهم جميعاً، وعاش بعدهم ثم توفي بعدهم.
عباد الله: إن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، إن الموت لا يعرف عزيزاً أو حقيراً، إنما هي آجال يقسمها الله جل وعلا: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
معاشر الشباب: أعدوا للموت عدته.
يا أبناء الأربعين: كهولاً.
ماذا قدمتم وقد انتصفتم في الأعمار أو جاوزتم الثلثان؟ يا أهل الخمسين: زروع قد دنا حصادها.
يا أهل الستين: أعمار أمة محمد بين الستين والسبعين، هلموا إلى الحساب.
يا أهل السبعين وما بعدها: ماذا قدمتم وماذا أخرتم، تفكروا وانظروا فيما أنتم قادمون عليه، وانظروا فيما ستقبلون عليه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وما بعد الموت من دار إلا الجنة أو النار، فأعدوا لهذا المصير عدته، واستعدوا له أعظم الاستعداد، فإن البشر لا شك منتهون، وإن البشر لا شك يفنون والباقي هو الله وحده لا شريك له.
فاستعدوا لذلك -يا عباد الله- ولا تضيعوا أوقاتكم بالغفلة واللهو، ولا تضيعوا ساعات ليلكم ونهاركم بالغفلة عن مصيركم، وتذكروا واجعلوا الموت أمام أعينكم.
إن الموت قاطع اللذات، وإن الموت ليشخص للإنسان في أعظم لذة، فيكدرها عليه، وشأن الله في هذا عظيم، لكي لا يأنس الإنسان بهذه اللذة وليعلم أنها منقطعة، وإن تلذذ بها سويعات أو أيام معدودة، فإنه يشخص الموت بين عينيه، فيذكر أن الموت لا شك مختطفه، وبعد ذلك يعلم أن اللذة والنعيم في الخلود والنعيم المقيم، فيشتاق إلى نعيم لا ينقطع، يشتاق إلى خلود لا موت فيه، يشتاق إلى صحة لا مرض فيها، يشتاق إلى شباب لا هرم بعده، يشتاق إلى عزة لا ذلة بعدها، يشتاق إلى قوة لا ضعف بعدها، يشتاق إلى كل ذلك ويعلم إنما هو في الدار الآخرة، وليس في الدنيا، لأنها دار كدر ودار نكد.
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
فإذا علم الإنسان ذلك اشتاق واستعد للآخرة، لكي ينال من نعيمها المقيم، ويفوز برضوان ربه في جنات النعيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، والشيوعيين والنصيريين، والفسقة والمجرمين برحمتك يا أرحم الراحمين! وبقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرِّب له من علمت فيه خيراً له، أبعد عنه من علمت فيه شراً له في دينه ودنياه وآخرته، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحد كلمتهم، ولا تفرح الأعداء عليهم، ولا تشمت الحساد بهم، وارفعهم وانصرهم بكتابك وسنة نبيك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع موتى المسلمين، الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد.
اللهم هون علينا سكرات الموت، اللهم هون علينا سكرات الموت، اللهم اجعل خير أيامنا يوم لقائك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، برحمتك يا أرحم الراحمين!(209/5)
وفوق كل ذي علمٍ عليم
ظن موسى عليه السلام أنه أعلم من في الأرض؛ فأعلمه الله بخطئه، مبيناً له أن الخضر أعلم منه، ولكن الخضر أخبر موسى أن كلاً منهما أعلم من الآخر في جانب من الجوانب، تواضعاً منه، وليناً مع تلميذه.
مرافقة موسى للخضر هي الموضوع الأساس لهذه الخطبة، وهي تشمل استغراب موسى من تلك التصرفات، وتبيين الخضر لما لم يفهم منها.
وفي ثناياها طائفة من الفوائد في التعلم والتعليم، وإصلاح الأبناء، وخطورة الكفر وغير ذلك.(210/1)
فوائد من قصة الخضر وموسى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند وعن النظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على نبيه وصفيه من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! قد أنزل الله تعالى في كتابه الذي ضمن حفظه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنزل فيه آياتٍ بينات، وجملة من القصص التي فيها العبر والعظات، ليتدبر المؤمنون ما أودع الله جل وعلا من الأحكام والآيات والزواجر والأوامر والنواهي في هذا الكتاب العظيم، وإن من ذلك ما ذكره الله جل وعلا في أواخر سورة الكهف مما جرى من شأن موسى عليه السلام مع الخضر.
والأصل في ذلك أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قام خطيباً في بني إسرائيل فتكلم وأجاد، وكأنما أعجب بشيء من كلامه فقام فتىً من بني إسرائيل وقال: يا نبي الله! هل على وجه الأرض أحدٌ أعلم منك؟ فقال: لا.
فأوحى الله جل وعلا إليه: إن عبدنا الخضر هو أعلم منك، وعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، فعزم موسى على بذل الهمة في طلب العلم، وسأل ربه الطريق لكي يصل إلى الخضر، ولكي يتعلم منه علماً، فجعل الله جل وعلا لموسى آية وعلامة، أن يحمل حوتاً في مِكْتل ثم يمضي، فإذا فقد الحوت فثم الخضر -أي: يكون هناك- وكلكم تعرفون القصة.
وبيت القصيد وشاهد الكلام منها: أن موسى لما قابل الخضر قال له: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] فقال الخضر: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:67 - 68].(210/2)
أدب طالب العلم مع العالم
في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبيّ بن كعب (أن الخضر قال: يا موسى! أنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا) وفي هذا فوائد: الأولى: أن موسى لما قابل الخضر وقف موقف المتأدب، وموقف السائل الذي يلتمس النفع والعلم، بقوله: هل اتبعك؟ ولم يقل: أريد اتباعك أو لا بد من اتباعي إياك لكي أتعلم؛ فإنما عرض الأمر عليه بصيغة العرض لا بصيغة الأمر.
وفي هذا فائدة عظيمة لكل طلبة العلم حينما يبذلون سؤالاً أو يوجهون اقتراحاً، أو يديرون كلاماً، فعليهم أن يتأدبوا مع مشايخهم، وأن يسلكوا عبارة مناسبة وأسلوباً لطيفاً؛ لأن الإنسان يخاطب من هو أعلم منه، وله في نبي الله موسى عليه السلام أسوة وقدوة، وهو نبيٌ قد آتاه الله الوحي والمعجزة، ومع ذلك يقول لمن هو أعلم منه {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66].
فأين كثيرٌ من طلبة العلم عن أدب سؤال العلماء؟ وأين الذين حينما يسمعون عالماً من العلماء يتكلم جابهوه وصدوا كلامه وعارضوه بقولهم: ولكن فلاناً يقول غير كلامك، ولكن فلاناً يخالفك، ولكن فلاناً يقول مالا تقول؟! بدون أدنى عبارة يكون فيها تلطف! أو يكون فيها أدب الكلام مع العلماء! فما بالكم أيضاً مع من لا يحترمون مجالس العلم، فيجلس أي جلسة لا تليق بمجلسه الذي هو فيه، كأن يمد رجله أمام شيخه، وقد جاء في حديث جبريل المشهور الذي رواه أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام) ففي هذا الحديث فيه أن جبريل عليه السلام جاء يسأل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بيان وفيه هيئة طالب العلم وصفة جلسته أمام مشايخه وعلمائه، فالتفتوا لذلك وتنبهوا إليه يا عباد الله.(210/3)
أدب العالم مع طلابه وعامة الناس
ومن ذلك أيضاً: (أن الخضر قال لموسى: أنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا) فيه تواضع العالم، وفيه خفض الجناح ولين الجانب من العالم، واحترام ما عند الآخرين، حتى ولو كانوا من عامة الناس، فضلاً عمن تعلموا وقرءوا ودرسوا؛ لأن الإنسان مهما بلغ من العلم لا بد أن يكون قد جهل أشياءً عظيمة لقول الله جل وعلا: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] وقديماً قال الشاعر:
فقل لمن يدعي في العلم معرفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
فلا تردن كلاماً جاءك به ولو أحد عامة الناس ظناً منك أن مثل هذا لا يفقه في العلم ولا نصيب له في المعرفة، وما يدريك أن ضالة من حِكَمِ العلم فاتتك سنيناً طويلة لا تجدها إلا عند رجلٍ ممن تراهم من عامة الناس، فألله ألله في لطف الكلام ولين الجانب وخفض الجناح، فإن الاستعلاء والكبر والشموخ والتصعر مما يصد الإنسان ويحرمه كثيراً من ضروب العلم، قال ابن الوردي:
لا تحقر العلم يأتيك الجهول به فالنحل وهو ذبابٌ طائر العسل
فليس عجيباً أن تجد حكمة أو ضالة من أبواب العلم فاتتك تجدها عند هذا الرجل العامي أو هذا الرجل الكبير.(210/4)
مرافقة موسى للخضر
ثم بعد ذلك: لما عاهد موسى الخضر على أن لا يسأله عن شيءٍ حينما يتبعه {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} [الكهف:71] لم يطق موسى ولم يصبر ونسي أنه عاهد الخضر على الصبر وعدم السؤال، فقال: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كانت الأولى من موسى نسياناً) أي: أنه نسي ما عاهد عليه الخضر ألا يسأله عن شيءٍ حتى يحدث له منه ذكراً فقال له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72] قال موسى: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} [الكهف:73 - 74] ولم يطق موسى أيضاً، فقال: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] فأجاب الخضر للمرة الثانية بعبارة أغلظ من الأولى حيث قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75] ولم يقل في الأولى: (ألم أقل لك) بل قال فيها: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72] وأما الثانية فقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75].
ثم بعد ذلك مضيا: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} وكانوا لئاماً {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} فدخلا القرية: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قال موسى: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] لو شئت لأخذت شرطاً ونولاً وأجرة على إصلاحك هذا الجدار، الحاصل أن الخضر قال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] لا أستمر معك في هذه الصحبة، وسأنبئك بما لم تستطع عليه صبراً.(210/5)
تأويل الخضر لخرق السفينة
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79] وفي قراءة لأحد الصحابة في مصحف أحدهم: ((وكان أمامهم ملكٌ ظالمٌ يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)).
فكان فعل الخضر: أن خرق السفينة لما اقتلع لوحاً من ألواحها بالقدوم، وإن كان ظاهر الأمر مصيبة إلا أن باطنه فيه مصلحة لأولئك الغلمان، قيل: كان عددهم عشرة، خمسٌ منهم زمنى -أي: مرضى- لا يستطيعون العمل، والخمسة الآخرون هم القادرون على العمل، فكان فعل الخضر عليه السلام من خرق السفينة لم يكن ذلك لإغراق أهلها، وإنما كان ذلك لصرف الملك، ألا يأخذ سفينتهم؛ لأن السفينة لو وصلت إلى شاطئ الأمان ووجدها ذلك الملك صالحة لصادرها ولأخذها ولاستولى عليها بالكلية، فكان قدر الله جل وعلا على يد الخضر أن خرق هذه السفينة حتى إذا وصلت إلى مكانها يراها أعوان الملك وجلاوزته فاسدة قد خرقت فيدعونها ولا يأخذونها، وتكون من حظ أولئك الغلمان.
إذاً: فظاهر المصيبة -يا عباد الله- قد يكون مراً، قد يكون صعباً، قد يكون عجيباً، لكنه في حقيقته عين الرحمة والعطف، والرأفة، والحكمة والعلم، والله عليمٌ حكيم.(210/6)
تأويل الخضر لقتل الغلام
كذلك: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف:80] كان الغلام الذي قتله الخضر غلاماً فتياً، وكان كافراً، وكان أبواه مؤمنين فعلم الخضر بعلم الله الذي علمه الله إياه، ووحي الله الذي أوحاه إليه أن يقتل هذا الغلام؛ لأن قتل الغلام أهون من الكفر، والفتنة -أي: الكفر- أشد من القتل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] فكان من عين حكمة الله جل وعلا أن قتل الغلام، وهو قتل نفسٍ وإزهاق روحٍ فيه مصلحة عظيمة، أن يدفع الكفر عن الوالدين، عن الأم والأب، ظاهر الأمر مصيبة، ظاهر الأمر داهية، ظاهر الأمر مدلهمة، لكنه في حقيقته عين رحمة الله، وعين لطف الله بهذين الوالدين.
إذاً يا عباد الله! لا نعجب من ظواهر الأمور وما فيها من القضاء والقدر؛ فإن الله جل وعلا يجري على عباده ألواناً من القضاء والقدر وفي ذلك مصالح عدة وفوائد جمة يجهلها كثيرٌ من الناس فيسخطون على قضاء الله وقدره، ويتضجرون من تدبير الله، ويدعون بالويل والهلاك والثبور، وقد جهلوا أن الله الذي قدر لهم هذا هو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، ففي تقدير الله لهم كل رحمةٍ وفضلٍ ولطفٍ.
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما بعده سبب
إن الأمر الذي تكرهه أشد الكراهة قد يكون هو أقرب السبل إلى ما تحبه غاية المحبة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].(210/7)
الصبر عند الصدمة الأولى
إذاً يا عبد الله! إذا نزلت بك المصيبة من أمر الله، والمصائب سنة في العباد: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] لا بد أن تقابل قدر الله بالصبر على البلاء والرضا بالقضاء، فإن ذلك أعظم للأجر، وإلا فإن ما قدر الله واقعٌ لا محالة، فمن رضي فله الرضا والأجر والمثوبة، ومن سخط فعليه السخط.
ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم
أرأيتم الذين يصيحون ويولولون، ويبكون ويتسخطون، ويتذمرون ويتشكون عند أدنى مصيبة من المصائب، ولتكن موت قريب أو حبيب أو أم أو أب، لو قلنا لأحدهم: هذا أبوك أو أمك خذها وضعها عندك، والله ما يطيق البقاء معه ولا معها يوماً واحداً، فالحمد لله الذي شرع الدفن سنة لبني آدم.
(مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي على قبرٍ وقال: يا هذه! اتقي الله واصبري! قالت: إليك عني! وما شأنك وشأني!! فلما ولى النبي صلى الله عليه وسلم، قيل لها: هذا رسول الله أما تعرفينه؟ فقامت تلحقه حتى أتت إلى بيته -ولم تجد عنده بوابين- قالت: يا رسول الله! الآن أصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فيا عباد الله! عودٌ إلى موضوع القصة وهو: أن ظاهر الأمر في القضاء وإن كان مراً؛ إلا أن الله جل وعلا يقدر فيه أعظم المنة وأكرم المنحة، وأجل العطية، وأفضل الهبة، في أمرٍ ترى ظاهره أمراً تكرهه وحقيقته أمرٌ من الأمور التي تحبها، قد يموت قريبٌ لك بحادثٍ في السيارة، فتقول سبحان الله! كيف مات هذه الميتة؟ لا شك أن أجله هو في تلك اللحظة، سواء كان في الطائرة، أو في السيارة، أو على فراشه، لكن الله قدر المصيبة أن تكون في حادثٍ من الحوادث وما يدريك لعله أوشك أن يفضي إلى ربه وقد بقيت في ذمته سيئاتٌ ما تاب منها، فشدد الله عليه البلاء والعقوبة في آخر لحظة من لحظات عمره حتى تكون ممحصة ومزيلة لك الذنوب، فيقدم على ربه طاهراً مطهراً، ونحن في ظاهر الأمر نبكي أو نجزع وهو في حقيقة الأمر عين الرحمة، وعين الرضا، وعين اللطف بهذا العبد الذي توفاه الله جل وعلا.(210/8)
تأويل الخضر لإقامة الجدار
هذه من أجل الأحكام والدروس والعبر التي وردت في قصة موسى مع الخضر عليه السلام {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.(210/9)
كيفية الحفاظ على الأبناء والذرية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة والوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! وما كان من شأن الخضر عليه السلام مع موسى لما أقام الجدار الذي وجده مائلاً، قيل أنه أعاد بناءه، وقيل أنه أماله بيده، فاستقام الجدار صلباً، في هذا فائدة عظيمة في قوله جل وعلا: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فصلاح الآباء يحفظ الأبناء ويحفظ الذرية ويحفظ مستقبلهم، إن التأمينات ليست هي التي تحفظ أولادك من بعدك، إلم يحفظهم الله فقد ضاعوا، ومن ضيعه الله فلا حافظ له، ومن يحفظه الله فلا مضيع له، وكان أبوهما صالحاً، فصلاح الآباء يبلغ الأبناء قيل ولو إلى السابع من الذرية.
جاء في بعض الآثار عن الله جل وعلا: (أنا الله إذا رضيت باركت، وإذا باركت بلغت بركتي السابع من الولد) ولما حضر عمر بن عبد العزيز الوفاة، قيل: لو تركت لأولادك شيئاً يا أمير المؤمنين! يا خليفة المسلمين! يا من بيدك الكنوز! قال: والله لا أترك لهم شيئاً إن كانوا صالحين فلن يضيعهم الله، وإن كانوا غير ذلك فلا أدع لهم مالاً يتقوون به على معصية الله، قال الراوي: فوالله لقد رأيت كل واحدٍ من أبناء عمر بن عبد العزيز قد حمل على مائة بعير في سبيل الله بأحلاسها وأقتابها.
التقوى هي التي تحفظ الأبناء من بعدنا، مراقبة الله جل وعلا، الخوف من الله هو أعظم تأمينٍ على الحياة، وأعظم تأمينٍ على الذرية، وأعظم تأمينٍ على الأموال، وأعظم تأمينٍ على الزوجات والأولاد والبنات، ولذلك لما ذكر الله سبحانه وتعالى في أول سورة النساء شأن اليتامى والتحذير من أكل أموالهم، والزواج من اليتامى، ومعاملتهم بالمعروف، وعدم تسليم الأموال إليهم حتى يبتلوا في تصرفاتهم ومعاملاتهم، قال الله جل وعلا: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] أتخشون أن تتركوا أطفالاً زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ؟ أتخشون أن تتركوا ذرية ضعافاً؟ أتخافون على الأطفال؟ أتخافون على الأولاد والبنات؟ نعم.
والله كلنا نخاف على أولادنا من بعدنا.
كيف نؤمن مستقبلهم؟ نتقي الله جل وعلا فيحفظهم الله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] ما الحل؟ ما الشأن؟ ما الجواب.
؟ {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
فتقوى الله هي خير ما يحفظ الضعاف، وخير ما يحفظ الأيتام، وخير ما يحفظ الصغار من بعدنا.
وجاء في تفسير الآية {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] قيل: كان أباً سابعاً لهما، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] قال العلماء: فيه دلالة على أن الخضر نبيٌ أو رسول لأنه قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] فدل ذلك على أنه وحيٌ وعلمٌ من وحي الله وعلم الله {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
اللهم إنا نسألك الفقه في كتابك، والعلم بسنة نبيك، ونسألك اللهم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ودعاءً مرفوعاً، اللهم ارفعنا وانفعنا بالقرآن العظيم، اللهم انفعنا وارفعنا بكتابك الكريم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمدٍ من بينهم سالمين.
اللهم اهدِ إمام المسلمين، وأصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلاً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا غائباً إلا رددته.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية، ومن كان منهم ميتاً اللهم فجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفرانا، واجمعنا اللهم بهم في دار كرامتك يا رب العالمين! اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم استعملنا في مرضاتك، اللهم حِلْ بيننا وبين أسباب سخطك وموجبات عقوبتك وغضبك يا أرحم الرحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ربنا إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم أغثنا غيثاً تنبت لنا به الزرع، وتدر لنا به الضرع، اللهم إن عظمت ذنوبنا فإن فضلك أعظم، وإن كثرت معاصينا فإن رحمتك أكثر وأكبر، الله اسقنا ولا تجعلنا من القانطين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(210/10)
وقفات تربوية
يقول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فمن تولى أمراً من أمور المسلمين فهو راع ومسئول عن رعيته يوم القيامة، حتى لو كان مدرساً فهو مسئول عن طلابه في فصله وعن ريادته لهم، وكلما كانت الرعية في حال من الضعف كانت المسئولية أعظم، وقد تكلم الشيخ عن ذلك بأمور تفيد المربي في تربيته.(211/1)
ستر الله على عبده
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة الفضلاء، والإخوة النبلاء! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كل يوم لا نعصي الله فيه فهو يوم عيد، وكل يوم نتشرف بلقاء أحبة كرام بررة أمثالكم فهو يوم عيد، إني لشاكر لأخوي ما ذكراه في مقدمتيهما المباركة، مع أنني لا أستحق ما ذكره الأول جزاه الله كل خير مما أحسن به الظن، وأسأل الله أن يستجيب ما دعا به أيضاً.
ومن جمّله الله في الدنيا فإنما جمّله الله بالستر، وكما يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: يا أيها المسكين! إذا رأيت إعجاب الناس بك فاعلم أنما أعجبهم ستر الله عليك؛ لأن العبد إذا كشف الله للخلق كل مساوئه -حتى ولو سيئاته في تعامله مع أولاده وأهله- ربما نفر الخلق منه، ولكن الله سبحانه وتعالى ستير يحب الستر، ويستر على عباده ما يكون منهم، من هفوات أو غلطات أو رعونة أو غضب أو غير ذلك، فلا يرى الناس منا ظاهراً إلا أحسن ما زيننا الله به وهو الستر.
وما يكون بيننا في خاصة أحوالنا وبيوتنا وأولادنا -كل لا يخلو من عيب أو نقص، والكمال لله عز وجل- فذاك جميل لولا بخل فيه، وذاك طيب لولا غضب فيه، وذاك صالح لولا هفوة منه، وذاك وذاك إلى غيرك ذلك.
ومن ثم أحبتي في الله! من سمع ثناء على أحد، فليعلم أن هذا الذي أثُني عليه إنما استحق الثناء بسبب صفة من صفات الله، وهي صفة ستر الله على عباده، إن الله ستير يحب الستر، ولذلك ندب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى من ستره الله أن يمسك ستر الله عليه، وألا يهتك أستار الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون قيل: ومن المجاهر يا رسول الله؟ قال: من يمسي يعصي الله، فيصبح يهتك ستر الله عليه، يقول: فعلت البارحة كذا وكذا).
ومن دلائل هذه الصفة، أن الله ستير يحب الستر: أن الأشعة المقطعية والتحاليل المجهرية والمخبرية لا تستطيع أن تكشف الشخص هل هو بخيل، أم كاذب، أم صادق، أم مخلص، أم منافق، أم جاد، أم هازل، أم غير ذلك؟ أنت تستطيع أن تجد هذا الشخص، وتأخذ عينات من دمه، وعينات من عظمه ولحمه، وتجعل جسمه بالكامل تحت ما يسمى بالكات اسكان -الأشعة المقطعية- ومع ذلك لا تستطيع أن تحكم بعد هذه التحاليل أن تقول: أظهرت التحاليل أن فلاناً بخيل، أو أن فلاناً كريم، أو أن فلاناً سريع الغضب، أو لين العريكة، أو جميل التواضع، أو حسن الخلق، أو نبيل المعاملة، هذا شيء تعلمونه تماماً.
فأسأل الله أن يتم علينا وعليكم ستره، وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته، وأن يصلح أحوالنا جميعاً، وما أحوجنا إلى سؤال الله الثبات، فإن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.
وما سمي الإنسان إلا لنسيه وما القلب إلا لأنه يتقلب
أحبتنا في الله: بعد شكري لإدارة هذا المعهد، ولإخوتي الأساتذة الفضلاء، وأولياء الأمور، وأخص صديقي وحبيبي في الله الأستاذ/ سعود بن ناصر السياري صديق الصبا على ما أكرمني به من هذه الدعوة شاكراً ومقدراً حسن ظن الجميع بي.(211/2)
الإعاقة ليست مانعاً من الإنتاج والبذل والعطاء
أقول أيها الأحبة: لا أظن أن عامّياً في مجال التعليم الخاص مثلي يمكن أن يضيف إلى معارف المختصين والمهتمين شيئاً جديداً، سوى إرشادات وتوجيهات لا تعدوا أن تكون مواعظ، وتأملات مكتوبة، لعلها أن تدفعنا جميعاً إلى مزيد البذل والعناية والرعاية والاهتمام.
ونحن حينما ننطلق في كل أعمالنا إنما ننطلق من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فالحاكم راع ومسئول عن الرعية، ورب البيت راع ومسئول عن أولاده وزوجته وبناته، والمدرس راع ومسئول عن طلابه في فصله، وعن ريادته، والتعليم في شتى مجالاته، وعلى اختلاف مستوياته (الثانوي والجامعي وغيره) كل من تولى فيه مسئولية فهو فيها راع، ومسئول ومحاسب بين يدي الله عز وجل.
ولا تقف المسئولية فقط في هذه الصور التي ذكرنا، بل حتى ضابط المرور راع ومسئول عن هذا الطريق الذي وكل به، ورجل الأمن راع ومسئول عن ذلك، والشرطي والجندي والحارس، وكل من تولى أو أسند إليه أمر، سواءً بتكليف الشرع، أو بتكليف من له الولاية على الناس في الشرع، فإنه راع وهو مسئول أمام الله عز وجل عن ذلك.
والعناية بالذين يحتاجون إلى عناية خاصة وتعليم خاص، لا شك أنه نوع من المسئولية التي نسأل عنها، ونحاسب عليها، سيما من أسندت إليهم هذه الهمة، بحكم اختصاصهم وتعلمهم، وكلما كانت الرعية في حال من الضعف، كلما كانت المسئولية أعظم، ألا ترون أن الطفل السوي يحتاج إلى عناية ورعاية تفوق رعاية الكبير والعناية به، فإذا كان الطفل معوقاً فهذا لا يعفي من المسئولية بل يزيدنا تحملاً.
وإن كان كثيراً من الناس اليوم يظن أن الإعاقة عذر في الإهمال، وعذر في ترك الرعاية، وهذا ليس بصحيح أبداً.
نعم.
إن نوع الإعاقة يتباين من شخص إلى آخر، ويترتب على هذا التباين أحكام عديدة ومختلفة، يتحكم فيها المستوى العقلي والإدراك الذي هو مناط التكليف في الشريعة، فمن إعاقته في بصره يختلف حاله وتعليمه عمن إعاقته في سمعه ونطقه ومن إعاقته في سمعه ونطقه، يختلف تعليمه وحاله عمن إعاقته في ضعف تلقيه، يختلف حاله عمن إعاقته في أطرافه وجوارحه.
فكلها على الاصطلاح الحديث المعاصر تدخل في نوع الإعاقة، لكن تباين أنواع الإعاقة يملي أنواعاً جديدة مختلفة من العناية والاهتمام في الأساليب والوسائل وغير ذلك، فعلى سبيل المثال: المجنون الذي لا يعقل شيئاً غير مكلف في الشرع، حتى ولو كان أقوى من المصارعين بدناً، أو أسرع من العدائين ركضاً، أو أحد من زرقاء اليمامة بصراً.
وما ذاك إلا لغياب العقل، فربما ترى مجنوناً طويلاً عريض القامة مفتول العضلات، قوي الهيئة، ومع ذلك لا يستطيع أن يدبر من حاله شيئاً يسيراً، وربما من نسميه معاقاً يفوقه درجات كثيرة جداً في حاله، وهذا يؤكد أن اختلاف نوع الإعاقة يملي من الأحكام الشرعية، والوسائل التعليمية ونوع المعاملة أشياء كثيرة تختلف باختلاف نوع الإعاقة.
وفي المقابل قد ترى معوقاً في سمعه أو بصره أو طرفاً من أطرافه لكنه يقود أمة من الأمم، ويفزع جيوشاً، ويزعج دولة، على سبيل المثال في عصرنا الحاضر كلكم يسمع بالشيخ أحمد ياسين في فلسطين، مكث زمناً طويلاً في سجون إسرائيل، ودولة اليهود عجزت عن هذا الرجل الذي لا يستطيع أن يرفع الطعام إلى فمه، ولا يستطيع أن يتحرك خطوة بقدمه، ولا يستطيع أن يقلب ورقة عن منضدة أمامه، هذا الرجل يصدق عليه أن إعاقته في الجوارح والأطراف إعاقة رباعية كاملة، إلا أنه يزعج دولة إسرائيل إزعاجاً لا حدود له.
ولولا أنها تخشى من مشكلات تتفجر وتتفاقم ويصعب السيطرة عليها لم تتردد في قتله في السجن، لكنها آثرت أن تخرجه لما تردت حالته الصحية، آثروا أن يخرجوه لعله أن يموت خارج السجن، فكتب الله له العافية والشفاء، وجاء وأخذ جولة في كثير من الدول العربية ثم عاد، ولا يزال غصة وشجاً في حلق اليهود هناك.
إذاً: ليست الإعاقة دالة على عدم الإنتاج، وليست الإعاقة دالة على عدم العطاء أو البذل أو القدرة على التغيير والتأثير، ليس هذا على إطلاقه أبداً، ولا نذهب بعيداً فقبل أحمد ياسين، سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز، هو فاقد للبصر ومع ذلك يقود أمة المبصرين، ويعد عالماً بل شيخ الإسلام في عصره، ولا يستطيع أحد أن ينسب عالماً إلى درجته في علمه وحلمه وكرمه وجاهه، وبذله نفسه وشفاعته، وقضاء حوائج المسلمين ليس فقط في هذه البلاد، بل في العالم أجمع، ولم يمنع سماحته رحمه الله فقده البصر من أن يكون رجلاً عالمياً وشيخ الإسلام في حياته.
إذاً: نحتاج إلى أن نغير النظرة والتصور عن المعوقين، تلك النظرة القاصرة عند كثير من الناس الذين يرون المعوق كتلة من اللحم والعظم البشري لا يمكن أن تستثمر، ولا يمكن أن يستفاد مما فيها من مواهب أو طاقات أو قدرات، بل إن كثيراً من النظريات المعاصرة في هذا المجال تقول: إن نوع الإعاقة قد يقود إلى الإبداع والاختراع، وذلك ربما يشعر الإنسان بأن لديه نقص في جانب، ومن ثم يغطي هذا النقص بقوة التحدي والعناد والإصرار والثبات والدأب والجلد لكي يبدع في جوانب شتى، وهذا أمر ملاحظ.
وحسبنا أن نعلم أن الكثير من المبتكرين والمخترعين لم يكونوا ليبدعوا بكمال الأجسام وحمل الأثقال، وإنما أبدعوا بإعمال العقول، وإطالة التأمل وكثرة التفكير، وتلك عبادة يحث عليها الشرع ويثيب عليها، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191].
فأولوا الألباب الذين أثنى عليهم الله عز وجل في كتابه لم يحدد وزن أجسامهم، ولا طول قاماتهم، ولا قدراتهم البدنية، وإنما أثنى عليهم بكثرة ذكر الله، وبكثرة تفكرهم في خلق الله عز وجل.
وينبغي أن نعلم أن الإنسان لا يوجد معدوماً، ولكنه يكتشف موجوداً، الغرب لم يوجدوا قانوناً اسمه السرعة مع الكتلة يؤدي إلى طيران الحجم المتسارع في كتلة معينة على وضع معين، لا.
هذه قوانين الله سنّها، هذه سنن كونية في الكون، الله عز وجل من سنته الجاذبية، ومن سنته أن هناك أشياء تطفوا على المياه، ومن سنته أن الهواء ينقل الصور والكلمات، من سنن الله في الكون أشياء كثيرة.
فالغربي حينما يجلس في المختبر أو مكان التجارب التطبيقية، والمشاهدات والتحليل وغير ذلك، هو في الحقيقة لا يجلس ليبحث عن شيء معدوم ليوجده، وإنما هو يجرب تجارب عديدة حتى يكتشف شيئاً موجوداً، إذاً هو الذي سخر لكم ما في الأرض جميعاً، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وكل ما ذلله الله وسخر الله تكتشفه العقول بالتفكير، ولم تكن يوماً طول القامات أو ضخامة الأجسام هي السبيل إلى معرفة دقائق الكون.
بل أن الله دعانا لنتأمل، وجعل الإعجاز في هذا التحدي بالتأمل {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} [فصلت:53] وحتى هذا المعوق الذي ربما يظن البعض أنه قد لا يجدي شيئاً، ولا ينتج شيئاً، ربما طول تفكره في إعاقته تكون سبباً لحل مشكلة الأجيال القادمة في مواجهة الإعاقة، فهذا المعوق ربما طول تفكيره في مشكلته هو السبب والمفتاح الذي يقدم للبشرية وللأجيال القادمة البشارة بانتهاء عصر هذا النوع من الإعاقة على يد واحد من المعوقين لما طالت معاناتهم.
ومعلوم أن بعض الأطباء الذين اكتشفوا بعض العقارات والأدوية لمواجهة بعض الأمراض كانوا هم أنفسهم يعانون من نفس المرض، الأمر الذي قادهم إلى التفكير في علاجه طويلاً وكثيراً.
إذاً أيها الأحبة! ينبغي أن ننظر إلى المعوق أنه يمكن أن يستثمر طاقاته العقلية استثماراً متناسباً ومتوائماً ومتوافقاً مع مراحل عمره الزمنية، وأننا نستطيع أن نوجد من هذا الكائن الذي أمامنا إنساناً يفيد نفسه ومجتمعه، والحذر من أن يرى منا المعوق، أو ذلك الذي يحتاج إلى نوع من أنواع التعليم الخاص، أن يرى منا الازدراء أو الهوان، أو أنه لا يبالى به، ولا ينتفع به، ولا يقدم شيئاً أبداً، لا.
فكل واحد يجعل الله فيه خيراً، مادام عنده عقل يفكر به.
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
أيها الأحبة! أذكر ذات مرة أنني دعيت إلى معهد الأمل للصم والبكم لإلقاء محاضرة، وكان عندهم كل يوم إثنين من أول الشهر محاضرة يستضيفون فيها بعض المشايخ، ولهم عالم عجيب وغريب وممتع وجميل لمن يختلط بهم، لأنه ليس هناك إزعاج، ولا تسمع ضجيجاً، لكنهم في الحقيقة في ضجيج من الإشارات والكلمات، حتى إن الأستاذ عبد الرحمن الفهيد -ذكره الله بخير- كان هو الذي يترجم الكلمات إلى إشارات، فأحياناً أريد أن أتأكد هل هؤلاء الذين لا ينطقون ولا يسمعون يفهمون الكلام الذي يترجم بالإشارة، فأعمد إلى سرد بعض القصص المضحكة أو الطرائف الفكاهية، حتى أنظر هل هم فعلاً يفهمون هذه الكلمات حينما تترجم بالإشارة، فأجد أنهم حينما تسرد عليهم قصة مضحكة أو طرفة فكاهية يتساقطون ضحكاً فهم فهموا هذه القصة التي ترجمت لهم بالإشارة فهماً دقيقاً.
ومن الغرائب الجميلة -لا بأس أن نستمتع ببعض القصص معهم- أن أحدهم دعاني ذات مرة لحضور زواجه، فمع الاحتكاك أصبحنا نتعلم منهم بعض الإشارات وبعض الكلمات، فدعوت شخصاً كان حاضراً معنا في الزواج، فقلنا له: أنت متى تتزوج؟ وإشارة الزواج عندهم هي شبك الأصابع هكذا، هذه إشارة فصيحة، وإذا أراد أن يكلمك بالإشارة العامية يحرك لسانه ويفعل هكذا، أي: زغردة.
فناديته وقلت له: متى زواجك؟ فضحكوا كلهم على هذه الإشارة، قالوا: لا.
هذه معناها سحب سيارة، طيب كيف إشارة الزواج؟ إشارة الزواج هكذا، لاحظ دقة الإشارة، وهي تع(211/3)
وقفة مع مدرس التربية الخاصة
هذه وقفة مع مدرس التربية الخاصة أقول فيها: إذا علمت ذلك فتأمل وتأكد أنك كغيرك من المعلمين، لا شك أنك قدوة يتأثر بك من حولك، ويتلقى عنك، فاتق الله واجتهد أن تكون قدوة حسنة صالحة في كل أحوالك، وخاصة أمام طلابك ممن يحتاجون إلى تعليم خاص، أو هذا النوع من التعليم.
لا تظن أن هذا الذي يحتاج إلى مهارات متقدمة في التعليم الخاص معناه أنه قاصر الإدراك، ومن ثم لا يتأثر بأستاذه وبمعلمه، إن البهائم تتأثر وهي البهائم بالاختلاط والمخالطة، فما بالك ببعض الطلاب الذين لديهم نوع قصور في بعض الجوانب، هل نظن أنهم لا يتأثرون؟
الجواب
لا.
الحقيقة أنهم يتأثرون، ومن هنا تتضاعف المسئولية، والأمانة الملقاة على عاتق مدرس ومعلم التربية الخاصة، ليتق الله في هؤلاء.
ثم ليجعل معلم التربية الخاصة أمام عينه أنه معلم يحتسب الأجر في التعليم الذي لا يتقنه كثير من المعلمين.
قد يكون الطالب السوي أمام معلم مهمل في المدارس الابتدائية العادية، لكن هذا الطالب قد يعوض إهمال معلمه بتعليم خصوصي أستاذ خصوصي، دروس خصوصية، أو تعليم في البيت، أو قدرات ذاتية، أو وسائل تلقين وتعليم أخرى، لكن الطالب الذي يحتاج إلى تعليم خاص إذا أهمل معلمه فلا يوجد في البيت متخصص في التعليم الخاص، ولا يوجد في كثير من الوسائل الإعلامية وغيرها ما يعين على تعليم هذا الذي يحتاج إلى هذا النوع.
ولذا تكون المسئولية على معلم التعليم الخاص في الحقيقة أكثر، لكن معلم التربية الخاصة لا يعوض جهده شيء من تعليم أسرة أو قدرة ذاتية، فالطالب الذي يحتاج إلى التعليم الخاص إذا أهمله معلمه أو لم يلتفت له، فقل: عليه السلام.
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعاً لوفاته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته
هنا مسألة مهمة، وهي دور الأسرة في الرعاية والمعاملة لهذا الذي يحتاج إلى هذا النوع الخاص من التعليم.
فبعض الأسر ربما أشعروا ولدهم أنه فرد عادي كسائر أفراد الأسرة، ويعطونه ما يتحمل من المسئوليات، ويخاطبونه بما يفهم من أنواع الخطاب، ويكلفونه بما يطيق من أنواع التكاليف، ومن ثم يشعرونه أنه قريب إلى الأسوياء، إن لم يكن يرى نفسه سوياً كالآخرين، فلا يجد أي عقدة تواجهه في تعامله وسلوكه وتصرفاته.
ولكن في الحقيقة بعض الأسر إما بسبب الإهمال والاحتقار، أو بسبب مزيد من الدلال والخوف، أشعروا ولدهم بواحد من هذين السببين، أو بهما مجتمعين أو متفرقين ربما أشعروه أنه مصيبة نزلت عليهم، وأنه بلوى لا يجدون لها خلاصاً إلا بنقله إلى المقبرة، وأنه حالة عجز لا تقاوم ولا يستفاد منها بأي حال من الأحوال.
ومن هنا فإني أقول لأولياء الأمور: أنتم مسئولون في هذا الجانب، أشعروه بما يستطيعه ويطيقه من تكاليف، ويستوعبه من خطاب أنه سوي إن لم يكن قريباً من السوي، أما أن نعامل البقية معاملة السوي، وهذا الذي عنده نوع نقص معين قلنا عنه: مجنون، ناقص عقل، ودائماً هذه العبارات التي يسمعها منا هي في الحقيقة تجهض كل بدايات تتوجه في عقله نحو الانطلاق والانفتاح والاستيعاب والفهم.
وأذكر ذات مرة أني رأيت فلماً مترجماً فيه امرأة تحكي قصة تعاملها مع ابنتها التي ليست فيها إعاقة واحدة بل عدة إعاقات، لكن هذه البنية لديها قدرات ممتازة، وتفهم الخطاب، وتستجيب، ولديها تفاعل، وعندها هوايات معينة.
ففي هذا اللقاء تسأل المرأة قيل لها: كيف استطعتِ أن تبلغي بهذه البنت هذا المستوى الذي ربما بعض الأطفال الأسوياء لم يبلغوه حتى الآن؟ -مقارنة بالعمر الزمني والعقلي إذا ناسبت بينهما- فتقول: كرست لها أمرين: أعطيت لها من وقتي كل يوم جزءاً، وأعطيت جميع أهل البيت الأوامر الصارمة في احترامها والتعامل معها قدر الإمكان كأنها سوية، ومن ثم استطعنا أن نرتقي بقدراتها.
يا إخوان! البهائم لها تصرف معين، لكنها إذا علّمت بطريقة معينة تعلمت، لا يمكن أن تجدوا -وأجلكم الله- حماراً أو بقرة أو ناقة أو جملاً يشتغل في السقي والحمل وغير ذلك من أول وهلة، هذا لا يقارن ولا ينسب إليه، ومع أنها بهائم وعجماوات تعلم وتعسف، ثم تتقن العمل تماماً، الآن هناك جهود ودراسات لمحاولة التخاطب والتعامل والاستفادة من الدلافين في البحار، ولعلها تكون وسيلة لتوجيه بعض السفن الكبيرة لتفادي الشعب المرجانية في بعض المواقع حتى لا تغرق ولا يحصل لها مشكلات كبيرة.
انظروا إلى درجة عقول الغرب، وهؤلاء كما قال الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] إذا كان هؤلاء يريدون أن يتعاملوا حتى مع البهائم ليستفيدوا من أكبر قدر ممكن من طاقاتها، يوجد -مثلاً- في بعض البلاد كلاب متخصصة لقيادة العميان، تجد شخصاً كفيفاً ومعه كلب يقوده، يقف عند الإشارة ويعرف الإشارة متى تكون خضراء ويقطع به الإشارة، ومتى تكون حمراء، لكنه لا يعرف إذا صارت صفراء أنه يستعجل ويقطع به، لا.
الحاصل أنهم استغلوا حتى البهائم للاستفادة من أعلى قدر ممكن من استيعابها واستجابتها لتوظيف هذه القدرات في خدمة الإنسان، فنحن من باب أولى أن نستفيد من توجيه الإنسان وتنمية طاقاته لكي يفيد نفسه أولاً، ولعل أن يستفيد المجتمع منه ثانياً.
ولأجل ذلك فإني أكرر النصيحة لشريحتين، شريحة المعلمين وشريحة أولياء الأمور أن يلتفتوا إلى هؤلاء الذين يتلقون هذا النوع من التعليم والرعاية، فلا يعاملونهم معاملة النقص والازدراء، وليتقوا الله في سلوكهم وتصرفاتهم أمامهم، ولا يجمل ولا ينبغي بأستاذ أن يدخن سيجارته أمام طلابه إذا كان مبتلاً بالتدخين، فإذا بليتم فاستتروا، وأسأل الله لنا وله الهداية.
أشياء أخرى كثيرة كل ما تراه نقصاً أو عيباً فتجنبه حتى وإن كان هذا ممن تراه ناقصاً في الإدراك، أو تظن أنه لا يستوعب كثيراً، وأظن أن معلمي التعليم الخاص أدرى مني بدقائق هذه الأمور.
يذكر أحد الكتاب يقول: أن ملكاً من الملوك كان له وزير، وهذا الوزير عنده فراسة عجيبة جداً، فأهدي لهذا الملك صقر -طير من الطيور الجارحة التي تصيد- فتقبل الملك هذه الهدية، وسأل الوزير قائلاً له: ما رأيك في هذا الصقر؟ قال: هذا الصقر جيد، حر، لكن هذا الصقر قد تربى مع الدجاج، فعجب الملك وصمت، وأدخل هذا الصقر مع الطيور التي عنده.
وبعد أيام أهدي إلى الملك حصان، فدعا وزيره وقال: ما رأيك في هذا الحصان الذي أهدي إلينا؟ قال: هذا حصان جيد وممتاز ومن سلالة أصيلة، ولكنه تربى مع أبقار.
استغرب الملك، الصقر مترب مع دجاج! والحصان تربى مع أبقار! من أين يأتي بهذا؟ هذا يوحى إليه؟ أم عنده خيال؟ فبعد زمن دعي الملك إلى وليمة، فجيء بالوزير، قال: ما رأيك في هذه الوليمة؟ قال: هذه خراف لذيذة ولا تزال صغيرة، لكنها ترضع من الخنازير، فجن جنون الملك، وأمسك به وبتلابيبه، وقال: تعال، إما أن تخبرني عن قصة هذا الصقر الذي تربى مع دجاج، وهذا الحصان الذي تربى مع بقر، وهذه الخراف التي رضعت من خنازير، أو أنك ساحرٌ أو تدعي النبوة.
قال: لا.
أما الصقر فرأيته منذ أهدي إليك، نظرت إليه في القفص، كل الصقور التي عندك على أوتار، أما هو على الأرض ينقر في الديدان وفي الأرض كما تفعل الدجاج، وهذا يدل على أنه منذ صغره تربى مع دجاج فأخذ طباعها، فانظر كيف تتأثر البهائم ببعضها، والطيور تتأثر ببعضها وتتحول، فلو أتيت بحيوان من فصيلة ما، وجعلته مع حيوانات من فصيلة أخرى، فإنه ينسى كامل صفاته وخصائصه، ويقلد خصائص وصفات وتصرفات الحيوانات التي هي من الفصيلة الأخرى.
قال: حسناً، وقصة الحصان؟ قال: أما الحصان، فنحن نعرف أن الأحصنة تتنظف بأسنانها، أما هذا فيلحس بلسانه يميناً وشمالاً، وليست من عادة الأحصنة أنها تفعل هكذا بالجدران والأجسام وغير ذلك.
قال: وأما الخراف؟ قال: أما الخراف فرأيت اللحم طبقة من شحم وطبقة من لحم، وطبقة من شحم وطبقة من لحم، وهذا لا يكون إلا في الخنازير، فأيقنت أنها قد رضعت منها، فاكتسبت صفاتها.
الشاهد من القصة: إذا كانت البهائم تتأثر بعضها ببعض، فمن باب أولى ألا نظن أن من يحتاج إلى التعليم الخاص، مسكين أبله معتوه لا يفهم ولا يتأثر، لا.
يتأثر في تصرفات وحركات دقيقة من أستاذه ومعلمه، ومن أسرته وبيته ووالديه، هم لا يظنون أنه يتأثر بهم، من هنا فلا بد أن نتفانى في رفع مستوى الأداء للنهوض بالعملية التربوية، بتكاتف جهودنا وتعاوننا، والاهتمام بوقت هؤلاء الذين جعلهم الله عز وجل أمانة في أعناقنا، ولأن الوقت الذي نقضيه في هذا المعهد هو في الحقيقة ملك لهؤلاء، فلا يجوز أن نسلبهم من أوقاتهم شيئاً، وأن يتواصى بعضنا بعضاً، يتواصى المدرسون بعضهم مع بعض، ويتواصى الأولياء والمدرسون جميعاً على العناية بأولادهم.
وأكرر ادفعوهم دائماً بالحب والاحترام والتشجيع، وإياكم والتحقير والاستهزاء ونظرة الازدراء، فإنها تقتل المواهب وتجهض الطاقات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(211/4)
الأسئلة(211/5)
حكم قضاء الفائت من الصلاة
السؤال
لو أن شخصاً تاب ثم صلى مع كل صلاه صلاة إضافية فهل تسقط عنه صلاته التي تركها أيام لهوه؟
الجواب
إن كان أيام سفهه أو عبثه ترك الصلاة جملة، أي: توقف عن الصلاة سراً وعلناً ظاهراً وباطناً، لا يصلي لا في البيت ولا في المسجد ولا مع الجماعة، ترك الصلاة زمناً فهذا في الحقيقة حكمه حكم الكافر، ويعتبر عودته إلى الصلاة كمن دخل في الإسلام من جديد، فلا يلزمه قضاء ما مضى، وإنما عليه التوبة والإكثار من الحسنات والنوافل التي تمحو السيئات، وأما إن كان يصلي فترة ويقطع فترة، فمثل هذا مثل من تهاون ولزمه أن يقضي ما فاته، فعليه أن يقدر، أي: لو قيل له: أنت كم تركت الصلاة؟ ثلاثة أشهر، يقول: لا.
كم تقريباً شهر؟ يقول: والله شهر كنت أضيع بعض الصلوات، يوم أصلي ويوم أجمع ويوم لا أصلي، فنقول له: اجتهد في التقدير، وصل ما استطعت مما تذكره؛ لأن هذا يعتبر قضاء، والقضاء على خلاف بين أهل العلم، هل هو مضيق أو موسع، وبعضهم يذهب إلى أنه موسع، فنقول: صل ما استطعت قضاءً مع كل صلاة صلاتين، أو في أوقات نشاطك أو قدرتك، ومع توبة وإنابة واستغفار عما فعلت فيما مضى.
أما من ترك الصلاة بالكلية، فنقول له: ما مضى كان في عهد كفر؛ لأن (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).(211/6)
حكم زواج المتخلف عقلياً
السؤال
ما رأي فضيلتكم في زواج المتخلف عقلياً، هل هناك شروط لهذا الزواج؟
الجواب
إذا كان متخلف تماماً، وليس عنده أي وعي، وفي حكم المجنون، ففي الحقيقة من الأولى عدم تزويجه، أما إذا كان يعقل فترة ويغيب عقله فترات، فلا بأس أن يزوج هذا ويكون العقد في حال عقله وإدراكه، لأن العقد يحتاج إلى إيجاب وقبول، وإن كان نص أهل العلم على أن الصغير يزوج، ووليه يتولى العقد نيابة عنه، لكن نقول: لمثل هذا لعله أن يكون من نسله وذريته من يعتني به ويحافظ عليه، ويكون -أيضاً- في رجاء عقله ما يحمله المسئولية، أما من كان في منتهى وغاية التخلف العقلي فلا يغش به أحد، ولا يغر به أحد.(211/7)
ضوابط ضرب الطفل المعاق
السؤال
فضيلة الشيخ سلمه الله! هل يجوز ضرب الطفل المعاق إذا أخطأ؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الضرب لا بأس به ولكن بضوابط، أن يكون غير مبرح، وألا يكون في الوجه، وألا يكون مضراً، وألا يكون عادة -أيضاً- وإلا فإن الله عز وجل قد ذكره وذكره النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى في شأن النساء: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] فدل على أن الضرب وسيلة تربوية، حتى للنساء اللائى تزوجن، ولكن ضرب غير مبرح، ضرب يدل على عدم الرضا بالفعل، أو على الغضب من التصرف، ولا يكون ضرباً من باب منازلات المصارعين على حلبات المصارعة.
بعض الناس إذا أراد أن يضرب ولده -نسأل الله السلامة والعافية- كأنما هو جلاد في زنزانة يضرب مجرماً ليجبره على الاعتراف، وهذا لا يجوز أبداً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مقت ذلك وأنكره، قال: (يعمد أحدكم إلى امرأته فيضربها ضرب البعير ولعله يراجعها آخر النهار) هذا لا يليق، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) فالمتخلف عقلياً إذا كان لا يعقل بالتوجيه فكيف يعقل بالضرب، لكن يجتهد الإنسان في العناية به مع الرحمة، و (الراحمون يرحمهم الرحمان).
أنا أظن لو أن إنساناً رأى قطة كسيرة في الشارع، واستطاع أن يعالجها، ما تردد أن يأخذها ليعالجها، ولو رأى بهيمة قد أصيبت بكسر أو شيء من ذلك واستطاع أن يقدم شيئاً لفعل.
فمن باب أولى هذا الطفل الذي يحتاج إلى نوع معين من التربية والمعاملة، والحذر الحذر من الضرب، ومثل هؤلاء لا يضربون ولا ينبغي ضربهم ولا يجوز، وإن كنت أذكر زرت دولة من الدول، وزرت المتخلفين والمعوقين عقلياً بدرجة معينة، فوجدت عجباً من أنواع المعاملة السيئة والأذية والضرب الذي لا يطيقه الأسوياء، فمثل هؤلاء إذا كانوا لا يعقلون فما الفائدة من الضرب؟ لا بد من أساليب معينة ترغبهم وترهبهم من غير ضرب موجع وشيء مضر.(211/8)
العقل مناط التكليف
السؤال
هنا سؤالان قد تكون إجابتهما واحدة: السؤال الأول: ابني لديه إعاقة فكرية متوسطة يطلب مني دائماً اصطحابه لصلاة الجماعة في المسجد، ويصحو عند صلاة الفجر، فهل الصلاة واجبة عليه؟ وهل لي ثواب على دوام اصطحابه للصلاة في الجماعة؟ السؤال الثاني: هل الشخص المتخلف عقلياً شخص محاسب عند الله، وهل المعلم محاسب في تقصيره وعدم جديته في تعليم هذه الفئة أمور الدين؟
الجواب
الذي يعقل فإننا مأمورون أن نكلفه بأوامر الشرع بقدر ما يعقل، من صيام وصلاة وعبادة وكل ما يتعلق بها، ونتبسط معه تماماً، ولله الحمد والمنّة أن هذا الدين هو دين الفطرة، وأن معرفة أساسيات الدين يعرفها الصغير والكبير والعامي والمتعلم والعجوز الهرم والشاب الفتي والمرأة العجوز والفتاة الشابة، فبقدر ما يعقل يلزمنا أن نعلم وأن نأمر وننهى.
أما المتخلف فإن الله عز وجل لا يعذبه لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يعقل، والنائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ) فهذه مسألة مهمة جداً، الذي لا يعقل لا يكلفه الله عز وجل، مناط التكليف هو العقل، أما من يعقل فبقدر ما يعقل ينبغي أن نأمره ويتعود على ذلك، مثل الصلاة يمكن أن يتعود عليها ويمكن أن يألفها، وينبغي لك أن تصحبه معك إلى المسجد مادمت تأمن محافظته على طهارته، وتأمن تلويثه للمسجد، وتأمن عدوانه وأنه لا يعتدي على أحداً ولا يؤذي أحد، بل هو في حالة متوسطة كما ذكرت، فمثل هذا يجب عليك أن تصحبه معك إلى المسجد، ولك أجر في اصطحابه، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ولك في هذا أجر بإذن الله.(211/9)
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها
السؤال
فضيلة الشيخ! لي ابن في هذا المعهد له أكثر من ثلاث سنوات في مرحلة التهيئة لم ينجح، وكلما ناقشت معه المدرسين قالوا: قصور من البيت وليس من المعهد، هل يلحقني من الإثم مع الجهد الذي بذلته مع أنني لست متخصص في ذلك؟
الجواب
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ما دام المدرسون بذلوا جهدهم وأنت تبذل جهدك، الباقي على الله سبحانه وتعالى، ولله حكمة.
الله عز وجل عليم حكيم يا أحباب، هذه المسائل ليست بالأماني ولا بالأهواء ولا بالترجي، لا شك أن كل واحد يتمنى أن ولده أجمل وأذكى وأحسن وأقوى الأولاد، لكنه ابتلاء وامتحان ولله في ذلك حِكَم، فالإنسان يرضى بما قدر الله، لا شك أن الإنسان لا يتمنى البلاء، لكن إذا ابتلي بشيء من ذلك، فليصبر وليحتسب، وليتقرب إلى الله عز وجل بصبره على هذه البلوى.
جاء في الحديث (وهل تنصرون وترحمون وترزقون إلا بضعفائكم) بعض البيوت كان فيها من المتخلفين من لما كان موجوداً بينهم كانت الأرزاق تتدفق عليهم، والخيرات والأنس والشيء الكثير من الرضا، مع وجود هذا المتخلف عندهم، ولما كتب الله لهذا المتخلف أن يموت وفارقهم زال عنهم كثير مما كانوا يأنسونه ويطمئنون به، فلا تعلم أنت ما هي القضية، ولا يقول أحد: والله لا يرزقنا الله إلا بمتخلف، لا.
لكن لله حكم وأسرار، وهنا يظهر سر الإيمان: وهو الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم بما لا نعلمه مما يختص الله بعمله، وهو الحكمة في الخلق والتدبير {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].(211/10)
الحث على الاهتمام بالمعاق من حيث النظافة
السؤال
فضيلة الشيخ: نحن معلمي المعهد نعاني من ضعف اهتمام أولياء الأمور بأبنائهم من حيث النظافة سواء في الملبس أو في الجسم، فهل لك أن تسدي لأولياء الأمور نصيحة حول ذلك؟
الجواب
هذه مسئولية تقع بالدرجة الأولى على أولياء الأمور في العناية بهؤلاء الصغار، وبهذا النوع من الطلاب، فعلى الأب والأم والأولياء في المنازل أن يهتموا بذلك، ولا يكون الغرب أكثر اهتماماً بالكلاب منا بأولادنا، إنك لتعجب يوم أن تدخل المحلات التجارية فتجد أجنحة خاصة فيها ملابس للكلاب، رقاب للكلاب، وطوق عنق للكلاب، وسلاسل مخصصة للكلاب، وحبل تمرين للكلب، وأشياء مثل البيجر اللاسلكي تجعل الكلب إذا أبعد بعيداً يعطى إشارة ويرجع، أصناف ومنتجات متخصصة لهؤلاء، فضلاً عن أدوات تنظيف الكلاب، ووجبات معينة للكلاب، وأشياء كثيرة.
إذا كان هؤلاء يهتمون بالبهائم، والله عز وجل قد أكرم هذا الخلق {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] ونفخ فيه من روحه، فينبغي أن نهتم به ونعتني به وألا نتهاون، وإذا شئت أن يهتم المدرسون بولدك، فعليك أن تعتني بنظافته، تخيل أن المدرس أمامه طالبان، هذا الأول قد اعتني به في رائحة جسمه، وفي تعطيره وتطيبه وملبسه ونظافته، والآخر لا تسل عن رائحته، رائحة ليست زكية، ولا تسل عن وسخ ثيابه، ولا تسل عن قروح بدنه، تأكد أن المدرس يقبل على هذا الطالب النظيف، وعلى هذا الطالب المعطر أكثر من هذا الطالب الآخر.
وإن كان المدرس عليه تقوى الله عز وجل، ولا يكون ظلم أهل هذا المعوق سبباً في أن يظلمه هو الآخر في عدم العناية به، لكن -أيضاً- ينبغي أن يعلم الآباء أن عنايتهم بأبنائهم سبب يعين المدرسين على مزيد من العناية والاهتمام وهذا لا يخفى.(211/11)
شارب الخمر لا تقبل صلاته أربعين يوماً
السؤال
هل صحيح أن شارب الخمر لا تقبل صلاته أربعين يوماً؟
الجواب
ورد في ذلك الحديث من العقوبة، لكن هل يعني ذلك أنه لا يصلي أو يسقط عنه فرض الصلاة؟ لا.
هو يعاقب بعدم القبول مع وجوب العمل، كالذي يصلي في بيته آثم بترك الجماعة مع وجوب الصلاة عليه.(211/12)
الفرق الضالة في صفات الله
السؤال
ما هي الفرق الضالة في صفات الله، وما هي الفرق الضالة في بعض صفات الله؟
الجواب
الذين ضلوا في باب الصفات فرق كثيرة، والضلال في جانب التوحيد ضلالٌ ندر من ضل فيه وهو الضلال في باب الربوبية، لا يعرف من ضل إلا من باب الجحود والعناد والمكابرة، كفرعون والدهرية الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
والذين ضلوا في باب الألوهية طوائف كثيرة عاندت، وكفار قريش وأهل الجاهلية والذين يرون أن صرف العبادة لله وحده يسحب منهم كل ما يتمولون به بدعوى السيادة وخدمة سدانة الأضرحة وغير ذلك، ولذلك نازعوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
وهناك طوائف وهما قسمان: قسم لا يخرج عن الملة، لكنه ضل في هذا ضلالاً بعيداً، وقسم يخرج عن الملة، فالطوائف في هذا كثيرة، وأخبثهم وأشدهم الجهمية، الذين قالوا: بنفي الصفات، والمعطلة بتعطيل الصفات، والذي أنصح به من يعتني بهذه المسائل، أولاً: أن يعتني بمنهج أهل السنة، حتى يعرف الحق، ثم بعد ذلك لا يضره ما هو اسم هذه الفرقة الضالة، المهم أن يعرف أن كل من خالف الحق فهو على الباطل أياً كان اسمه، مسمى جديد أو قديم.
ومن الخطأ أن الإنسان الذي يهتم بدراسة الصفات أن يشغل وقته بدراسة الفرق الضالة في الصفات -مثلاً- وهو لا يعرف الحق من منهج أهل السنة والجماعة في باب الصفات، وخلاصته كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية، ولخصه الشيخ ابن عثيمين حفظه الله بقوله: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وإثبات ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لربه، والثاني: نفي ما نفى الله عن نفسه، ونفي ما نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، والثالث: ما لم يرد فيه نفي ولا إثبات، وهذا هو الذي كثر فيه الكلام والقيل والقال، فـ أهل السنة يتوقفون في لفظه ويفصلون في معناه، فإن كان المعنى يتضمن كمالاً يليق بالله يثبتونه، وإن كان المعنى يتضمن نقصاً ينزه الله عنه ينفونه.
وأوصي لمن أراد أن يقرأ قراءة سريعة ويحصن نفسه ويستفيد، هناك رسالة جميلة للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين بعنوان: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، رسالة جميلة وجليلة ونافعة القدر وقيمة وصغيرة -أيضاً- من اعتنى بها أدرك الطريقة السليمة في باب الصفات، فإذا عرفت الحق عرفت أن ما سواه الباطل، وهذه خذها قاعدة في كل أمور حياتك، الآن المصباح الكهربائي الذي في السقف، لو قلت للطلاب: إن وضع المصباح تحت الكراسي خطأ، صحيح أنه خطأ، وكذلك وضعها على الطاولة، وفي المطبخ، وفي الزبالة، ووضعها على السبورة خطأ، كما تتصورون من حالات وصور الخطأ التي يمكن أن نعرضها في موضع هذا المصباح، لا نهاية من الأشكال والمواضع الخاطئة.
لكن حينما أبدأ وأقول: إن الموضع الصحيح لهذا المصباح وهذه النجفة بين قطبي الإضاءة، فيعرف من الوهلة الأولى أن هذا هو المكان الصواب، وأن ما سواه هو الخطأ، وبهذا تستريح من كثير من الصور، حتى لو لم تبين له أن هذا خطأ أو أن هذا باطل، يكفي أنه عرف الحق، ويعرف أن ما سواه الباطل.
وهناك الأشاعرة وهم فريقان: فريق يؤول كل الصفات، وفريق يؤول في سبع صفات فقط، والكلام يطول وليس هذا مقام تفصيل.(211/13)
حكم استخدام آلات موسيقية للبكم في بداية تعليمهم
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أنا معلم في مجال الإعاقة السمعية، وأقوم أحياناً بتعليم أطفال صغار تتراوح أعمارهم ما بين خمس إلى ست سنوات، عند بداية التحاقهم في معهد الأمل صرفت لهم سماعات، كانوا يرتدوها لأول مرة، فسببت لهم نوعاً من الانزعاج، لأنهم سمعوا الأصوات لأول مرة فكسرت عليهم الصمت الذي كانوا يعيشون به، وخوفاً من ألا يتقبلوا هذه السماعات أحضرت لهم آلة تصدر أصواتاً متدرجة أشبه بالبيانو، وهي تعتمد على النقر بالعصا، فتصدر أصواتاً موسيقية يسمعها الطفل الأصم، فيتعرف أن هناك أصواتاً مختلفة ومتدرجة من حيث الشدة والحدة، ويقوم الأطفال بالتقسيم واللعب على هذه الآلة، مما يجعلهم يتعرفون على الصوت وطبقاته بشكل أوضح، ثم أوقف هذه الطريقة حيثما يتعود الأطفال على لبس السماعة، فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب
إذا كان هذا الطفل سوف يستجيب لأصوات ومقامات البيانو هذا الذي تذكر، فاستجابته لأصوات بني آدم وهو أحوج ما يكون إلى تلقيها واستماعها والتعامل معها لا شك أن هذا أولى، ولا أظن أن هناك مصلحة أو فائدة إلا إذا كانت الحالة تقتضي، أي هو لا يمكن ولا يستفيد طبياً وعلمياً من هذه السماعات، وإنما يحتاج إلى أجهزة لها رنين مغناطيسي أو شيء معين، فتستخدم شيئاً بديلاً عن هذه المادة، حتى لا ينشأ على هذا العزف، وعلى هذا الأسلوب، وهناك الكثير من الأصوات البديلة.
الآن جهاز الجوال فيه سبعة وثلاثين نغمة، فيها نغمات موسيقية ونغمات جرسية عادية ليست بموسيقى، فلماذا تختار هذا الجانب وتدع هذا الجانب؟ والمؤدى واحد والوسيلة مختلفة، مادام عندك خيارات في الوسائل اختر ما هو أجدى وأبعد عن الشبهة.(211/14)
حكم مس المصحف وقراءته بغير وضوء
السؤال
هل يجوز مس المصحف باليد بدون وضوء؟
الجواب
هذه مسألة خلافية والأحوط ألا يمس القرآن إلا متطهر طاهر، لحديث عمرو بن حزم فيما كتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وألا يمس المصحف إلا طاهر) اختلف في ذلك هل المقصود طاهر من الشرك، أم طاهر بمعنى رفع الحدث وتحقيق الوضوء، والأحوط هو ألا يمس القرآن إلا طاهر، ولا يثرب ولا يشدد في ذلك، أما القراءة فالذي أحدث حدثاً أصغر فله أن يقرأ، وأما المحدث حدثاً أكبر أو الجنابة، فلا يجوز أن يقرأ من القرآن شيئاً حتى ولا آية ولا نصف آية، إلا ما كان ضمن كلامه، كقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون وهو لا يقصد الآية، أو بسم الله الرحمن الرحيم وهو لا يقصد الآية، أو حسبنا الله ونعم الوكيل وهو لا يقصد الآية.
أي: ما تلفظ به من جنس لفظ القرآن على غير قصد التلاوة فذلك جائز، أما أن يعمد ويقصد إلى التلاوة وهو جنب فلا، أما الحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن، ويجوز لها أن تجعل المصحف في ملحفة أو أن تلبس قفازاً أو شيئاً يحول بينها وبينه وأن تمسه فلا حرج في ذلك.
وقال العلماء: الفرق بين الحائض والجنب: أن الجنب يملك رفع حدثه ويملك إيقاعه -أي: الرجل يختار أن يكون جنباً، ويملك أن يرفع الجنابة بالغسل- لكن المرأة لا تملك إيقاع الحيض ولا تملك رفعه، ومن ثم جاز للمرأة أن تقرأ وإن كانت في حيض حتى لا تنسى القرآن وتهجره، ولأن حدثها ليس بيدها، بخلاف الجنب فإنه يستطيع أن يوقع الحدث ويستطيع أن يرفعه.(211/15)
وكل شيء عنده بمقدار
لو كانت الشعارات تَرد بلداً مغتصباً لكان العرب هم أول من يسترد فلسطين، مع أن الواقع يقول: إن ما يرفعونه من شعارات باسم الإسلام إنما يحمل في طياته أشرس العداوة على الإسلام وأهله، فهذه عبر من الأحداث، وتسلية للمؤمنين من المصائب والأكدار.(212/1)
العز في كنف العزيز
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وسع علمه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته فالأمر والخلق له وحده، والتصرف في هذا الكون بيده، ولو أجمعت قوى الأرض وكان بعضهم لبعض ظهيراً على أن يقدموا شيئاً أخره الله، أو أن يؤخروا شيئاً قدمه الله، أو أن يعطوا بشراً منعه الله، أو أن يمنعوا بشراً أعطاه الله، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وربنا واحد في ألوهيته، فكل أنواع العبادة له وحده، وواحد في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
معاشر المؤمنين: اسمعوا قول ربكم جل وعلا وهو يقول في محكم كتابه: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] ويقول جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] ويقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] قال ابن كثير: من أراد العزة فليلزم طاعة الله.
أيها الأحبة في الله: عزة كل مسلم في هذا الزمان بيقينه أن الحوادث بالمقادير، وأنه لا قليل ولا كثير إلا بأمرٍ وقدرٍ من الله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وكل قدرٍ أياً كان فإنه لا يخلو من ثلاثة أمور كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والمقادير دائرة على حكمة الله، وعلى تمام عدله، وعلى تمام رحمته.(212/2)
رب مصيبة كفرت خطيئة
عباد الله! اشكروا الله تعالى في كل حال، وهو سبحانه الذي يحمد في السراء والضراء، والله إن من تأمل المقادير علم أنها دائرةٌ على تمام العدل والحكمة والرحمة، إننا نجزع يوم أن يموت قريبٌ لنا في حادث أو نحوه، ولقد نسينا أو جهلنا أن لله حكمة في موت قريبنا هذا، إن الله قد حدد ساعة موته، وله ساعة أجل لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعلم الله أن على هذا المسلم ذنوباً تحتاج إلى مزيد ابتلاء لتكفر قاطبة، فكتب الله أن يكون موته بدلاً من أن يكون على فراشه ليكون في هذا الحادث.
فتعظم مصيبته، ويكون عظم المصيبة عظيماً في محو الذنوب والسيئات، فتمحى ذنوبه كلها، ويقدم على ربه طاهراً مطهراً، ولو لم يصب، ولو لم يمت بهذا الحادث لمات في تلك اللحظة على فراشه لم يتقدمها ولم يتأخرها.
فمن هنا نعلم أن القدر وإن كان على النفوس مراً، إلا أن فيه تمام الرحمة، وفي نفس الوقت قد يكون هذا القدر تأديباً لآخرين من الذين عصوا، أو الذين تجاهلوا أمر الله جل وعلا، فاجتمعت رحمة الله في هذا المتوفى، واجتمع عدله، واجتمعت حكمته في أبسط الأمثلة والمقادير، فما بالكم بأعظم الأمور خطراً، إنها لا تخلو من حكم عظيمة، ومن رحمة عظيمة، ومن عدل تام، وهو سبحانه وتعالى لا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يترك شيئاً سدى، فسبحانه في كل فعله وتدبيره! معاشر المؤمنين: إن ما حل بنا لهو قدر من أقدار الله، لن يخلو من هذه الثلاثة كلها، لن يخلو من رحمة الله، ولن يخلو من حكمة الله، ولن يخلو من عدل الله، واعلموا أن هذا القدر، وأن هذا المصاب الجلل، وإن كان على النفوس مراً لكنه والله يا عباد لله طريق تمكين لأمتنا، وطريق عودة لعزتنا، وطريق رفعة لسؤددنا، ومن سنن الله ألا يتمكن أحد إلا بالبلاء:
من لم يقد فيطير في خيشومه رهج الخميس فلن يقود خميسا
إن الأمم لا تعلو إلا بعد أن تمر بأصعب التجارب، وما يدريكم أن الله جل وعلا اختار لأمتنا هذا القدر بما فيه من العدل والحكمة والرحمة، لكي تنبعث من هذه الأمة قيادة الدنيا وتوجيه الكون أجمع، وليس ذلك على الله بعزيز، ولا تستبعدوا شيئاً مادام المسلم متمسكاً بسنن الله جل وعلا وأمره ونهيه، إذا علمنا أن البلاء طريق التمكين، حينئذٍ لا يزيدنا البلاء في ديننا إلا صلابة، ولا تزيدنا الفتنة إلا ثباتاً، ولا يزيدنا ما يريد بنا الأعداء إلا تجمع شملٍ ووحدة صف، نسأل الله جل وعلا أن يجعل عواقب هذه الأمور لنا ولأمتنا خيراً في الدنيا والآخرة.(212/3)
لا يمكَّن العبد حتى يبتلى
معاشر المؤمنين: إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن وضع سلا الجزور على ظهره، وإن نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو خير من ركب المطية، لم يمكن إلا بعد أن جعل الشوك في طريقه، إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن طرد وأخرج من مكة، وإن نبيكم لم يمكن إلا بعدما ذهب إلى الطائف إلى بني عبد ياليل بن كلال، فصفوا له الصبيان سماطين كما يقول ابن كثير في السيرة: جعلوا الصبيان له صفين، وأخذوا يرمونه بالحجارة ويدمون عقبه، وماذا بعد ذلك؟ عاد صلى الله عليه وسلم حتى آواه السير إلى قرن الثعالب وهو يدعو ربه (اللهم أنت ربي ورب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي) فلنقل هذا الدعاء جميعاً، ولنعلم أن هذا البلاء هو طريقة عودةٍ إلى بلادنا بعزةٍ وتحكيم شريعةٍ ونصرة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا هو مقتضى النصيحة يا عباد الله.
إن كنا أخرجنا من الكويت فقد أخرج صلى الله عليه وسلم من مكة، وقال صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجراً والتفت إليها: (اللهم إنك أحب البقاع إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فلكم في رسول الله عبرة، ولن نكون أفضل حظاً وأحسن حالاً من المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أخرج من مكة، لكن الله جل وعلا جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية.
فآواه الله وأيده ونصره بطائفة من المؤمنين في المدينة، فقامت دولته في المدينة، التي يسميها السياسيون في هذا الزمان حكومات المنفى، إنها حكومة الحق والعدل والصدق والتمكين، فعاد إلى مكة فاتحاً، وقد ناله ما ناله قبل أن يفتح مكة.
جاء صلى الله عليه وسلم معتمراً، فردته قريش وحبسته دون البيت، وسلت السيف مانعة له وصحبه أن يدخلوا مكة فجاءوا إلى صلح الحديبية، فلما وقف النبي مع سهيل بن عمرو مفاوض أهل مكة وكان خطيباً فصيحاً، وكان ذلقاً ملسوناً، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، لا نعرف إلا رحمن اليمامة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسمك اللهم، ثم قال: هذا كتاب من محمد رسول الله) فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: (إذاً أكتب من محمد بن عبد الله).
اسمعوا وتأملوا ما حل لنبيكم، فلكم فيه أعظم الأثر والعبر، فكتب من محمد بن عبد الله هذا كتاب إلى قريش أن من خرج من مكة إلى المدينة فإن محمداً يرده، ومن خرج من المدينة إلى مكة فإن محمداً لا يسترده، فغضب عمر بن الخطاب وسل سيفه، وقال: (يا رسول الله! ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أليسوا بالكافرين؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ أفلا تدعني أخلع ثنية هذا الكافر الذي يفاوض، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر! لعل الله أن يريك من هذا يوماً يعز الله به الإسلام والمسلمين).
وكان أبو بكر يقبض ويمسك بتلابيب عمر، ويقول: أليس هذا رسول الله؟ الزم غرزه، فإن الله لن يضيعه.
وكانت عاقبة حميدة لما وقعت هذه الاتفاقية وعاد المؤمنون وحلوا ولم يعتمروا، عادوا إلى بلدهم، فخرج أبو بصير رضي الله عنه هارباً إلى المدينة، فلحقت به قريش وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد! العهد والميثاق بيننا وبينك، رد إلينا من خرج من صبياننا إليك، فجاء النبي والتفت إليه، وقال: (يا أبا بصير! عد مع القوم فإنا أعطيناهم العهد والميثاق، فقال أبو بصير: يا نبي الله أتدعهم يفتنوني في ديني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جاعل لك مخرجاً).
فعلم ذلك الصحابي بهذه الكلمة التي مُلئت فرجاً وسعة أن الله لن يضيعه، فخرج مع المشركين، وبينما هم في الطريق إذا قال أحدهم وقد سل سيفه يتأمله، قال: والله ليشرب هذا السيف من رقاب محمد وصحبه، فقال أبو بصير: إن سيفك هذا جيد، فأرني إياه، فصدَّق ذلك وأعطاه السيف، فالتفت به أبو بصير فضرب به عنق الأول وهرب الثاني، وجعل الله لـ أبي بصير مخرجاً.
ثم لزم الساحل، ووقف في طريق عير قريش، فما مرت قافلة إلا ونال منها حظاً وخيراً وفيراً، حتى أرسلت قريش مندوباً ومبعوثاً يقول: يا محمد! علك أن تلغي العهد والميثاق بيننا وبينك.
الله أكبر يا عباد الله! يقول الله جل وعلا: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} [التوبة:48] إن كل تقليب وتدويل وعبث ولف وغيره بقضايا المسلمين سواءً في أفغانستان أو في الكويت أو في فلسطين، يقول الله جل وعلا: {وَقَلَّبُوا لَكَ} [التوبة:48] لك أنت، إذاً فتقليب الأمور عائدٌ لنا معاشر المؤمنين: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} [التوبة:48] وإنا لنرجو الله أن يجعل ظهور الحق قريباً.(212/4)
قد تصاب ولكن لا تفقد العزة
عباد الله! أسوق هذه المسألة لأقول: إن المسلم إن أُخرج من بيته، وإن طرد من داره، وإن استبيح ماله، وإن حصل له ما حصل، فإنه لا يزال عزيزاً، العزة لا تفارقنا أينما كنا، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، إن الذي يقول: إن من أُخرج من بيته فقد العزة، فهو يقول عن نبيه: إن نبيه فقد العزة، وهذا لم يقل به أحد، إن نبينا يوم أن كان في مكة ويوم أن طرد منها وذهب إلى المدينة، ويوم أن أقصي وأدميت عقبه طرداً بالحجارة من الطائف كان عزيزاً.
نعم، قد يفقد النصير يوماً، قد يفقد المأوى يوماً، وقد يفقد الطعام والشراب واللباس يوماً، لكنه صلى الله عليه وسلم ما فقد عزته، وأقول لنفسي ولكم معاشر الأحبة: إن أزمة المسلمين في هذا الزمان ليست أزمة السكن أو المطعم والمشرب والملبس، إنما هي أزمة عزة.
الأزمة التي فقدت: العزة، العزة التي ذهبت أدراج الرياح، بغزوٍ وتغريبٍ وحملةٍ صليبية عبر مختلف الوسائل التي سلطها الأعداء على أبناء المسلمين، قد يفقد المسلم بيتاً، وقد يفقد داراً وأهلاً ووطناً، لكن لا يفقد عزةً لا حياة له بدونها، فإن خرجنا من الكويت، فإنا نقول:
خرجنا إلى المجد شم الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
نمر على شفرات السيوف ونأتي المنية من بابها
ونعلم أن القضا واقعٌ وأن المنايا بأسبابها
ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب حناناً بها
فإن نلق حتفاً فيا حبذا المنايا تجيء لخطابها
والله خرجنا أعزاء، وسنعود إليها قريباً أعزاء، بمن الله وفضله وكرمه، فليكن خروجنا إعادة للبناء، وتمحيصاً للصفوف، وترتيباً للجهود، ووحدة لكل ما نبذله لصالح الإسلام والمسلمين، ولأمتنا أعزها الله وأعاد شملها وجمعها.(212/5)
ما عز من عوى ولكن من خاض الوغى
معاشر المؤمنين: ليست العزة بالصياح والعويل، والشعارات الإعلامية الجوفاء الرنانة، إنما العزة بعقيدة صادقة، إنما العزة بيقين وثقة بوعد الله ونصره وتمكينه، إننا فقدنا فلسطين من سنوات طويلة، وطالما سمعت أذني شعارات وأناشيد وطنية فوق التل وتحت التل، وعن يمين وشمال، سنفعل وسنفعل، وكل هذه الشعارات ما ردت لنا فلسطين، بل وما ردت من فلسطين شبراً واحداً.
لو كانت الشعارات ترد بلداً لكان العرب هم أول من يستردوا حقوقهم؛ لأنهم كما يقول القائل:
إذا خسرنا الحرب لا غرابه
لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه
معاشر المؤمنين: هذا المقال يصدق على الأمة في حرب (67م) ونكبات الأمة التي أودعت الهزيمة والضعف والاستسلام، كنا من قبل نطالب بـ فلسطين كلها، ثم أصبحنا نطالب بقرار هيئة الأمم [242] والعودة إلى حدود عام كذا، ثم بعد ذلك أصبحنا نساوم ونهادن ونبيع ونشتري، وحتى الآن لم نجد شبراً فلسطينياً عليه سيادة لأمة مسلمة فلسطينية.
لماذا؟ لأننا أردنا العزة بالشعارات، فأبى الله أن تكون إلا بما سنَّ في كتابه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] العزة في طاعة الله، والعز في تحكيم شريعة الله، العزة أن يقتل القاتل ضربةً مريحةً بالسيف، العزة أن تقطع يد السارق، العزة أن يجلد شارب الخمر، العزة أن يجلد الزاني البكر، العزة أن يرجم الزاني المحصن، العزة أن نجد الإسلام مهيمناً في جميع مجالات حياتنا، وإياكم الخداع مع أنفسكم، إن أغبى القوم من يخادع نفسه وهو يرى الحق في طريق ويحاول أن يلتمس نصراً أو فرجاً من طريق آخر.
مادام الأمر كذلك، وأن العزة ليست بالصيحات ولا بالشعارات، فقد نرى عزيزاً صامتا لا ينطق بكلمة واحدة، ولكن قلبه يتكلم:
قل لمن عاب صمته خلق الحزم أبكما
وأخو الحزم لم تزل يده تسبق الفما
لا تلوموه قد رأى منهج الحق أظلما
وبلاداً أحبها ركنها قد تهدما
وخصوماً ببغيهم ضجت الأرض والسما
فإذا وجدت العزة، وجد الاستعلاء على ركام الدنيا وطواغيت الأرض.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب وتوبوا إليه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.(212/6)
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، التقوى: أن تراقبوا الله في السر والعلانية، وأن تجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: كأني بكل مسلم يهتف ويقول: أين هذه العزة التي تتحدث عنها؟ أين هذه العزة التي جاوزت عنان السحب؟ أين هذه العزة التي بلغت علياء السماء؟ نقول: إن العزة في كتاب الله، إن العزة في دين الله، إن العزة في العودة إلى الله، وإن أبسط مثال جزئي على أمر العزة، حينما تكون عزيزاً في نفسك وعلى نفسك، يوم أن تتزين لك معصية من المعاصي، إن كنت ذليلاً قادتك كلمة خفض صوتها، وقادك منظر مبهرج مزيف، وقادتك شهوة بطن وفرج.
وإن كنت عزيزاً في نفسك، فإنك تعلو وتستعلي على نفسك، وعلى شهوة وفتنة ومعصية تزينت وتزخرفت أمامك، فإن من ملك العزة في نفسه، حري أن يكون مالكاً لها على أي مستوى كان، ومن فقد العزة في نفسه فلن يستطيع أن يمنح أمته عزة، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه، وإنك لا تجني من الشوك العنب.
إن المعاصي أعظم ذل يلبسه الإنسان نفسه، إن الإصرار على المعصية أعظم ذل يلبسه الإنسان نفسه، فإذا لبس الإنسان ثوب الذلة، فكيف يريد أن يعطي أمته عزة.
يقول أبو عبد الله الحسن البصري: [إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه] إن العزة قد تكون في مسلم ثوبه خلق، قد تكون في مسلم لا يملك من متاع الدنيا إلا قليلاً، ولكن:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
فأول مصدر من مصادر العزة: العقيدة الحقة، ويظهر صدق الاعتقاد بهذه العقيدة حينما تعرض على محك الفتن وحرارة الابتلاء، يوم أن هدد شيخ الإسلام ابن تيمية، وأرادوا منه أن يقول ما يريد القوم، قال: ماذا تفعلون بي؟ ظهرت العزة بصدق العقيدة عند حرارة الابتلاء، قال: ماذا تفعلون بي؟ أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة للعبادة، عند ذلك يحير الطواغيت في أعزاء المسلمين، لا يعرفون ماذا يفعلون بهم، يوم أن يروا مسلماً عزيزاً في نفسه، وإن وضع السيف على رقبته، أو سلط الرصاص على صدره، أو جعل اللغم في طريقه، أو وجهت الدبابة إلى وطنه، يوم أن يكون مالكاً للعزة فإنه لا يتردد ولا يتأخر أبداً.(212/7)
عزة نبينا صلى الله عليه وسلم
ومثال ذلك ما سنه نبي العزة صلى الله عليه وسلم، عزيزٌ ذلك النبي بعزة ربه وعزة منهجه وشريعته، جاءت قريش، قالوا: يا أبا طالب! إن ابنك هذا قد سب آلهتنا وسفه أحلامنا وأغرى بنا سفهاءنا، فإن كان يريد مالاً أعطيناه، وإن كان يريد ملكاً سودناه، وإن كان يريد جاهاً ملكناه، وإن كان الذي به رئي من الجن بذلنا له أسباب الطب في العرب، وإن كان يريد جمالاً زوجناه، وإلا فإنا فاعلون به ما نفعل.
فلما ذهبوا وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه، قال عمه: يا ابن أخي إني قائل فاسمع، إن قومك جاءوا يشكون إلي حالهم بما أغريت بهم سفهاءهم، وجرأت عليهم صبيانهم، وسببت وشتمت آلهتهم، وإنهم يعرضون عليك أمراً؛ إن كنت تريد مالاً أو جمالاً أو ملكاً أو جاهاً، فماذا فعل نبي العزة الذي امتحنت عزته بالتغريب والتهريب؟ استعبر صلى الله عليه وسلم وانحدرت من عينه قطرات كاللؤلؤ على خد شريف، وقال: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، والله ما أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو تندق هذه السالفة) فلما رأى عمه هذه العزة فيه بكى واستعبر، وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
هذا النبي المؤمن علم كافراً عزة، إننا يا عباد الله بحاجة إلى العزة، إننا نريد أن نشم روائح العزة، إننا نريد من كل مسلم وإن كان غريباً عن الوطن وبعيداً عن الدار ونائياً عن الأهل، نريده أن يشعر أنه لم يفقد شيئاً واحداً ألا وهي العزة يا عباد الله.(212/8)
عزة علماء الأمة
أتعرفون سيد قطب رحمه الله؟ في سنة من السنين امتحن علماء المسلمين محنة عظيمة، وقضي على هذا العالم بالإعدام شنقاً أمام الجماهير، وجاءت برقيات الالتماس لكي تخفف عنه هذا الحكم، ولكن الطاغية في ذاك الزمان لم يرض أن يخفف شيئاً من هذا، فجاءوا إلى سيد قطب رحمه الله، وقالوا له: إن تكتب اعتذراً لهم فإنهم يخففون عنك أو يعفون عنك.
فقال لهم -وكان نحيلاً قد هده السجن والتعذيب-: إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في كل يوم خمس مرات يرفض أن يكتب حرفاً واحداً يقر به حكم طاغية.
الله أكبر يا عباد الله! مكبلٌ بالحديد، نحيل الجسم من التعذيب، قد أضناه التعذيب وتفننوا فيه، ومع ذلك يجدون عزةً نافست قمم الجبال ارتفاعاً.
فيا معاشر المسلمين! إننا بحاجة إلى العزة في نفوسنا حتى نستعلي على الشهوات والمعاصي والذنوب التي يصر كثير من المسلمين عليها، وما علموا أن المعصية هي التي تورث الذلة، يقول ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها(212/9)
أعظم أبواب العزة الجهاد
اعلموا أن الجهاد في سبيل الله من أعظم أبواب العزة، وحسبكم أنه ذروة سنام الأمر في دين الإسلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة) اشتغلتم بالبيع والشراء وتركتم الجهاد، يقوله النبي لأمته من ذلك الزمان إلى يومنا هذا: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فإذا كانت الذلة بترك الجهاد فلا عزة إلا به، لا عزة إلا بقول الله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] لا عزة إلا بقول الله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14].
فيا معاشر المؤمنين: إن كل أمة من الأمم ليست محرمةً على الذلة إن هي تركت العقيدة والجهاد، أليس أبو عبد الله الصغير آخر ملك من ملوك غرناطة، وصله النصارى حتى بلغوا داره وأخرجوه، وأخذ يبكي على غرناطة، وهو يُخرج منها ويتلفت إليه مودعاً ويقول: وداعاً يا غرناطة! وداعاً لا لقاء بعده، ثم أخذ يبكي، فقالت له أمه:
ابك مثل النساء ملكاً عظيماً لم تحافظ عليه مثل الرجال
وقد كنا في ما مضى بعد أن اشتدت سيوف المسلمين في أجنادين واليرموك وفتوحات الشام، خرج هرقل فاراً بنفسه وهو يبكي، يودع سوريا ويقول: وداعاً يا سوريا! وداعاً لا لقاء بعده.
يوم أن تمسك المسلمون بدينهم، ووثقوا بعقيدتهم، ورفعوا الجهاد في سبيل الله، جعلوا الأعداء يودعون الممالك، ويوم أن تركنا ديننا، تسلط علينا الأعداء، ولكن عوداً حميداً، سنعود بإذن الله جل وعلا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يمكن المسلمين من رقاب أعدائهم، وأن يشفي صدورهم منهم.
معاشر الأحبة: وواقع العزة يظهر في هذا الزمان، جاء مبعوث من أحد الدول العظمى يفاوض قائد المجاهدين عبد رب الرسول سياف، وأبى ذلك القائد أن يقابله؛ لأنه يعرف أنهم إنما جاءوا ليلعبوا بقضيته، بعد أن سفك دم مليون أفغاني، فلا تحفروا شبراً من أرض الجهاد إلا وفيه شلوٌ ممزع أو أنملة أو يد أو قدم أو ساق، ولا تجد وردة أو شجرة إلا وخالط ماءها دم ساعد في إنبات هذه الشجرة.
جاء ذلك المبعوث قال له: يا سياف! أنت رجل دموي، أنت رجل سفاح، أنت تريد استمرار الحرب، لماذا لا ترضى بالحكومة الائتلافية؟ لماذا لا ترضى بالقاعدة العريضة؟ فلما ختم كلامه التفت إليه ذلك القائد، قال له: هل قتلت أمك في أفغانستان؟ قال: لا، قال: هل قتل أبوك في أفغانستان؟ قال: لا، قال: هل انتهك عرض بنتك في أفغانستان؟ قال: لا، قال: هل يتموا أطفالك في أفغانستان؟ قال: لا، وكان هذا اللقاء يحضره ضياء الحق رحمه الله وحميد قلف.
قال: مادام الأمر كذلك، كيف تدعوني أن أرضى بهذه الحكومة المختلفة المؤتلفة، ذات القاعدة العريضة التي تسميها بعد أن مضى من أبنائنا مليون ونصف المليون من الشهداء، وثمانمائة ألف يتيم، وسبعمائة ألف معوق؟ قم عني، ووقف على قديمه ورفع يده يريد أن يصفعه، قال: قم عني، والله لأضربنك ولأصفعنك صفعة حتى يتحدث التاريخ أن مسلماً أفغانياً صفع كافراً، وقام ليضربه فأمسك بيده ضياء الحق وحميد قلف.
وقابلته وسألته، قلت: هل كنت عازماً على ضربه؟ قال: والله لقد عزمت أن أمده على الأرض، وأن أطأ برجلي على صدره، كيف يتجرأ بعد مليون ونصف المليون من الشهداء ومن اليتامى ومن الثكالى والمعوقين أن أبيع قضية الأمة؟ إن نجوت معه فكيف أنجو من دماء ومن حجة هؤلاء بين يدي الله جل وعلا؟ وعادوا إليه مرة أخرى يقدمون مساعدة من القمح، فقال: جزيتم على ما فعلتم مساعدة إنسانية نقبلها، فقال ذلك المندوب: لا، نحن نوزعها في مخيمات اللاجئين والمهاجرين، قال: إن الأفغان لا يرضون أن يقدم أحد لهم شيئاً، قدم ما عندك ونحن نتصرف فيما بيننا، قال: لا بد أن نشرف على توزيع هذا، قال: يا مسكين! إن كنت تظن أنك الزعيم فلان، وتظن أنني علان فذاك أمر آخر، لكن إن لم تقبل هذا، فاخرج أنت وقمحك الآن، وقال له: إننا قد نصبر عن الطعام والشراب، لكننا لا نصبر عن العزة يوماً واحداً.
فيا معاشر المؤمنين: لن يأتي أتوبيس اسمه أتوبيس الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو منظمة العدل، ويقول: هيا إلى بلادنا نعود إليها فاتحين من جديد! لا، نحن لا نسفه أحلام الجهود الدولية، ولن نجيرها أونجعلها هدراً وعبثاً، نقول: نسأل الله أن يبارك في هذه الجهود، ولكن اعلموا أن الجهود الدولية لا تمنعنا من طرح حلنا، إن الجهود الدولية لا تمنع الشباب المسلم أن يطرح الحل الذي به تعود الكويت، ألا وهو الجهاد في سبيل الله.(212/10)
أهمية وجود القادة في عزة الأمة
معاشر المؤمنين: إن من واجب الشباب أن يبحثوا عن قادة الإسلام ودعاة الإسلام، فيلتفوا حولهم ويوحدوا الصفوف، وأن ينطلقوا للجهاد في سبيل الله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} [التوبة:14].
معاشر المؤمنين: لا أقول ليحملن كل واحد رشاشاً ويذهب به منفرداً، فهذا خلاف ما أمر الله، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] وثبات: جمع ثبة وهي الفئات الصغيرة المنظمة، فينبغي ألا يتصرف أحدٌ تصرفاً فردياً، ولكن أين القادة؟ أين قادة العمل الإسلامي في الكويت؟ وأين دعاة الإسلام في الكويت؟ وأين رجال الكويت؟ لقد قابلت منذ ثلاثة أسابيع قلب الدين حكمتيار في مكة المكرمة وقت مجيئه للمؤتمر العالمي الإسلامي، وقلت له: يا قلب الدين! ما ترى ما حل بنا وبإخواننا في الكويت؟ قال: أرسلهم إلي، والله بهذه العبارة، قال: اجعلهم يأتون إلي، وأنا أخبرهم كيف فجرنا الجهاد بمسدس وببنادق صيد وحجارة.
فيا معاشر المؤمنين: عليكم أن تربوا النفوس تربية طيبة، وإن تأخر فتح باب الجهاد ساعة أو شهراً أو زمناً قليلاً، لكن هذا لا يعفي ولا يغني من الإعداد للجهاد: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] إن كنا صادقين للجهاد، فلنعد للجهاد عدة بفقه الجهاد في الكتاب والسنة وسير المجاهدين، وما أعد الله للشهداء، وأنتم يا شباب الكويت! يا دعاة الكويت! إن دوركم لا زال مستمراً في صفوف شبابكم، وحفظ أوقاتهم، وجعلهم يتمسكون بكتاب الله وسنة نبيه، وعلى المرأة المسلمة الكويتية، وعلى الداعية المسلمة دور عظيم في نشر الخير والفضيلة والأدب والحشمة والحياء، ولها دور عظيم في إعداد أبنائها، وتربية شبابها؛ لعلها يوماً ما أن تقدم شهيداً من الشهداء يكون شافعاً لها عند الله يوم القيامة.
فيا معاشر المؤمنين: إن الكويت لا يحررها الفن والطرب، والله لقد أدمى قلبي مقالاً صحفياً في إحدى الجرائد، إن الفنانين يصرون على تحرير الكويت بحناجرهم الذهبية من استوديوهات القاهرة، متى أصبح الفتح على أنغام الموسيقى؟ متى أصبح النصر على أنغام الموسيقى؟ والله ليس هذا بفتح ولا نصر، ولكن:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
شباب الكويت: العودة العودة إلى الله، وتربية النفوس على الجهاد، والدعوة إلى الله في صفوف الشباب.
فإن الشباب والفراغ والجده مفسدةٌ للمرء أي مفسده
إن تركنا أنفسنا لا تتركوا إخوانكم، لا تدعوهم.
لا تتركوهم للضياع فريسةً ترك الشباب أساس كل الداء
إخوانكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء
لا تتركوهم للضياع فريسةً ترك الشباب أساس كل الداء
هي مهمة كل داعية ومسلم ومسلمة، وكل غيور، وكل من في هذه البلاد لذلك الوطن الذي استظللتم بسمائه، وافترشتم أرضه، ونعمتم بخيراته، له حق عليكم أن تجتهدوا في الجهاد والدعوة لكي يعود بإذن الله عوداً منيعاً عزيزاً.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى؛ أن يردنا إلى الكويت رداً قريباً، نسألك اللهم أن ترد الكويت وأفغانستان، وفلسطين وجميع أرض المسلمين أجمعين.
اللهم إنا نتوجه إليك وأنت في عليائك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تهلك الفجرة والمفسدين، اللهم من أراد شباب المسلمين بسوء، وأراد بنسائهم تبرجاً وسفوراً، وأراد بهن اختلاطاً، وأراد بعلماء المسلمين مكيدة، وبولاة أمورنا فتنة، اللهم أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، واجعل سلاحه في صدره، وشتت جمعه، وفرق شمله، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك عليه، اللهم أحيينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم نسألك الشهادة في سبيلك، اللهم نسألك الرضا، اللهم اقبضنا وأنت راضٍ عنا، اللهم توفنا راكعين ساجدين، اللهم لا تقبضنا على المعاصي والفتن وحزايا أو مفتونين، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لغائبٍ حبيباً إلا رددته له، اللهم لا تدع لنا كسيراً إلا جبرته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا مريضاً إلا شفيته وعافيته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(212/11)
وماذا بعد التوبة؟
أيها الأحبة: قفوا وتأملوا حال القلوب المريضة التي تعودت اللهو واللعب وهي تسير في هذه الحياة، تسير إلى حتفها والموت ينتظرها، فماذا أعدت للقاء ربها؟ وبمَ استعدت للسؤال في قبرها ويوم حسابها؟ فهل من توبة إلى الله؟! وهل من إنابة صادقة ومجاهدة حقة للنفس في سبيل الله؛ لتنعم في دار النعيم.(213/1)
أعدوا للموت
الحمد لله، الحمد لله الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله على حلمه بعد علمه، الحمد لله على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو على كل شيء قدير، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل فضلٍ سألناه أعطانا، الحمد لله الذي لا تحصى نعمه، الحمد لله الذي لا تعد مننه، الحمد لله حمد الذاكرين الشاكرين، الفضل لله على ما نحن فيه، الثناء لوجه الله، والفضل لله، وأشهد أن محمداً رسول الله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خير إلا دلنا عليه، ولم يعلم سبيل شر إلا حذرنا منه، كان بأمته شفيقاً رحيماً، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: أعدوا للموت واتقوا الله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: معاشر الموحدين! ما أقسى هذه القلوب التي نحملها في صدورنا! ما أجمد هذه العيون التي هي في رءوسنا! ما أبعد هذه القلوب حال الغفلة عن ذكر ربها وخالقها! عباد الله: قفوا وتأملوا حال هذه النفوس، حال هذه القلوب المريضة التي تعودت اللهو والعبث، والغفلة، وطيب المأكل والمشرب؛ حتى قست وبعدت عن طاعة الله، وبعدت عن ذكر المصير، والاستعداد للقاء الله.
أيها المسلمون: ما منا إلا وغافل، ما فينا إلا وسادر، ما من بيننا إلا وأشغلته شهواته عن الاستعداد للقاء ربه، متى نستيقظ؟ متى نستعد؟ متى نقف للمحاسبة؟ يوم أن نرى ميتاً أمام أعيننا، يوم أن نرى حادثاً يتمزق فيه بدنٌ أمام بصائرنا وأبصارنا، يوم أن نصاب بفقد حبيب، ثم نبكي عليه سويعات حتى نواريه في التراب ثم ننساه، يوم أن يبتلى أحدنا ببلية في ماله أو دنياه يقف لحظة ليتأمل، ثم يعود في لحظات إلى غفلته.
أيها الأحبة: إن في النفوس قنديلاً يضيء، لكن ضوءه ضعيف جداً بما يزاحمه من حجب المعاصي، بما يستر نوره من ألوان الشهوات، ويوم أن نقف وقفة نتأمل فيها مصيبة، أو نتذكر فيها معاداً يبقى أحدنا متردداً بين التوبة والغفلة، يشاور نفسه هل يتوب أم لا يتوب، هل يستقيم أم لا يستقيم، هل يقلع أم لا يقلع، هل يخبت ويخضع أم لا يخضع.
هل تحتاج التوبة إلى مشورة؟ هل تحتاج الأوبة إلى تردد وأخذ رأي؟: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] لا مناص من الاستجابة، ولا محيد عن القبول والانقياد: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ألستم بالمؤمنين؟ ألستم تدعون الإيمان؟ ألسنا ندعي الإيمان، الخطاب لكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
عباد الله: من لم يستجب لله فعلى خطرٍ أن يحال بينه وبين قلبه {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54].(213/2)
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
معاشر المؤمنين: ما منا إلا ويتمنى الاستقامة، وما فينا إلا ويود التوبة، ولكن قفوا هنا قليلاً، إن كثيراً من الناس من الرجال والنساء والشباب والفتيات، والذكور والإناث، والكبار والصغار يظنون أن الهداية والاستقامة والالتزام والتوبة تكون في لحظة على حين غرة، يصبح عاصياً فيمسي تائباً، أو يمسي عاصياً فيصبح تائباً، يظن بعضهم أن هناك لحظة ينقلب فيها الواحد من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن القطيعة إلى الصلة، ومن العقوق إلى البر، يظن البعض أن التوبة بزرار أو جهاز تنقلب حال الشخص حين الضغط عليه، لا والله -يا عباد الله- من كان ينتظر هذا الأمر لكي يتوب فما أبعد توبته! لكن التوبة -يا عباد الله- تكون بالمجاهدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الهداية ثمرة للمجاهدة، والمجاهدة مطلبٌ للصالحين؛ كي يثبتوا على صلاحهم، والمقصرين حتى يلتفتوا إلى تقصيرهم ويقلعوا عنه ويعودوا إلى الله، وللفاسقين حتى يجاهدوا نفوسهم، فيقلعون عن هذا الفسق، وعن هذا الإصرار.
لا بد من المجاهدة حتى تحصل التوبة، حتى تحصل الاستقامة، أتظنون لذة العبادة وحلاوة الطاعة وفخر الاستقامة يكون من دون مجاهدة؟ لا وايم والله، لا بد له من مجاهدة حقيقة، لا بد له من ندم على ما مضى، واستعداد لما بقي، لا بد له من قول الله جل وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] لا بد للتوبة من هذا، نريد أن نتوب من الغناء واللهو من دون أدنى مجاهدة لكف الآذان عن اللهو، لا.
لا بد من مجاهدة، وإذا ابتلي العبد ففي حال الابتلاء يعرض عليه أمران: الأول: أمر محبوبٌ إلى شهوات نفسه، مبغوضٌ مكروهٌ إلى الله ورسوله.
والثاني: مرضيٌ لله ولرسوله صعبٌ يحتاج إلى مجاهدة النفس عليه.
فيقف العبد بين هذين الحالين يدير المذياع، فيسمع غناء، يدير المسجل فيسمع الغناء ثم يبدأ صراع النفس هل يغلق هذا الباطل وينصرف إلى المعروف؟ هل ينصرف عن هذا اللهو ويعود إلى الذكر؟ يبقى لحظات من الصراع يجاهد نفسه، فمن كان صادق التوبة فإن قوة القلب وصدق المجاهدة يضغطان على الجارحة فتتحرك اليد لإقفال المذياع، أو اللهو، أو الباطل، أو المنكر، ثم تنصرف الجارحة إلى ما يرضي الله جل وعلا، فيسمع كلام الله، ويسمع ذكر الله، ويحقق صفة الإيمان في نفسه؛ ليخبت بذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2].
التوبة تحتاج إلى مجاهدة، تسمع منبه سيارة جليس من جلساء السوء وصديق من أصدقاء المعصية، تسمع صوت منبهه وأنت في بيتك وفي قلبك بداية من بدايات التوبة، في قلبك بداية من بدايات الندم، هل أخرج معه أم أنصرف عنه؟ هل أستجيب له أم أستجيب لله؟ هل أعصي الله أم أجلس في طاعة الله؟ هنا تبرز المجاهدة، جاهد نفسك على أن تنصرف عنه إلى ما يرضي ربك، وإذا بلغت مرحلةً أقوى من ذلك أن تفتح الباب وتقول له: إلى متى الغفلة؟ سمعت صوت منبهك إلى أين نذهب: إلى شلة ندير الورق إلى آخر الليل؟ هل تشهد الأنامل بالتسبيح؟ هل يشهد الورق بالسجود؟ هل تشهد الأرض بالذكر؟ هل تشهد السماء بالانحناء والركوع، أم تشهد بالغفلة، والسباب الشتيمة، والقطيعة والبغضاء، واللعنة والعداوة؟ إذا لم يتحقق ذلك، فإنك مهزومٌ في هذه الجولة، إما أن تكسب الجولة وإما أن تخرج مهزوماً، ويعلن الشيطان انتصاراً عليك، وتصفق الشياطين ضاحكةً غارقة في الضحك والسخرية منك يا بن آدم؛ لأن الله كرمك وما رضيت كرامة الله؛ لأن الله دعاك وانصرفت عن دعوة الله، وقال الشيطان: دعوته فاستجاب لي، فأحس الشيطان بنشوة وزهو النصر على هذا العبد الذي جاهد نفسه وخسر الجولة؛ لأن التوبة لم تكن صادقة، قال الشيطان لهذا المسكين: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] ما كبلت يدك بالحديد فأخرجتك إلى جلساء السوء، ما جعلت القيد في عنقك وفي يدك وفي رجلك فجعلتك تسافر إلى الخارج، ما سحبتك بتلابيب جيبك حتى تقعد في اللهو والمعصية، إذاً ماذا فعلت أيها الشيطان بهذا الإنسان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] يقول الشيطان: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] إنما دعوتكم، زينت لكم، أحكمت الصورة في خيالكم، فكانت الاستجابة منكم.(213/3)
ماذا بعد المعصية
ماذا بعد المعصية؟ ألذةٌ دائمةٌ؟ لا والله.
بل ألم المعصية يخالط القلب، ويشغل البال، ويقلق الضمير - كما قال الحسن البصري رحمه الله-: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه].
فيا عباد الله: المجاهدة سبيل إلى الهداية، وليست التوبة سلعة تباع في المتاجر فنشتريها، أو قميصاً نلبسه، أو دابة نركبها، التوبة والهداية ثمرة للمجاهدة، جاهد نفسك بالبديل، إذا جاهدك الشيطان على سماع اللهو والغناء، فجاهد نفسك على سماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وسماع المحاضرات والخطب والفتاوى وحلق الذكر، تأمل كلاماً سماعه يرفعك عند الله درجات وينجيك من الدركات، وابتعد عن كلام يجعلك مع الضالين الظالمين، حتى إن بعض الناس قد بلغت به الغفلة واستحكمت فيه الشهوة وبلغ به العناد إلى درجة أنه أصبح يحب أهل المعصية وأهل اللهو وأهل الغناء، أكثر من محبته لله ولرسوله، ولأهل الله وأهل رسوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة:165] العاقبة في الآخرة: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} [البقرة:165 - 166] أصحاب الشلات ومجالس الغفلات واللهو والباطل يتبرءون من الذين قادوهم إلى ذلك: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:166 - 167] لو أن لنا رجعة، لو أن لنا عودة إلى الدنيا: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].
اسألوا أنفسكم -يا عباد الله- كم مجلساً من مجالس اللهو حضرناه؟ وكم مجلساً من مجالس الغفلة أقمناه؟ وكم مجلساً من مجالس الباطل غشيناه؟ وكم لحظة عن الذكر غفلنا فيها؟ ما أكثرها! سنراها يوم القيامة، سنراها في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، سنراها في مقام توضع فيه الموازين بالقسط، فلا تظلم نفسٌ شيئاً، يقول الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] يا رب هل من غفلة تنسى؟ هل من غمزة تنسى؟ هل من معاكسة تنسى؟ هل من أغنية تنسى؟ هل من صورة امرأة تنسى؟ {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [الأنبياء:47] حتى الهباءة، حتى الخردلة التي ترونها تدخل مع النافذة في شعاع الشمس أو الذرة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14].(213/4)
هيا إلى المقبرة
أيها الأحبة في الله: هيا إلى المقبرة بقلوبكم وعقولكم وتكلموا:
سألت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
يا أيها الملوك الذين دفنوا في هذه المقبرة: هل تستطيعون القيام من لحودكم الآن؟ يا أيها الأثرياء الذين في ظلمات اللحود إن لم يجعلها الله روضة من رياض الجنة! هل تنتقلون يمنةً ويسرة؟ يا أيها الوزراء! يا أيها العظماء! يا أيها الفقراء! يا أيها الصعاليك! هل يستطيع أحدٌ أن يقوم أو يتكلم؟ لو تكلموا فقلنا لهم: ماذا تتمنون؟ لقالوا: نتمنى أن نرد إلى الدنيا، فنقول: لا إله إلا الله، يتمنون كلمة واحدة، يتمنون حسنة واحدة، وأنتم الحسنات أمامكم، أمامكم الجنة قد فتحت أبوابها، فأعرض الكثير عنها.
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضت بأيسر الأثمانِ
(من خاف أدلج) من خاف العاقبة وسوء الخاتمة، من خاف القبر واللحد، والمحشر والمنشر وهول المطلع: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة، ألا وإن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضت بأيسر الأثمانِ
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ(213/5)
الجنة صعبة المنال
عباد الله: الجنة صعبة المنال على الكسالى الذين تعودوا صلاة الفجر قبل الذهاب إلى العمل بربع ساعة، الجنة صعبة المنال على الذين لا يشهدون الجماعة، الجنة صعبة المنال على الذين أكلوا الحلال والحرام، الجنة صعبة المنال على من تاجر باللهو وأشرطته، والفيديو المهدم وأفلامه، والغناء ومعازفه، الجنة صعبة المنال على الذين لا يعرفون إلا دول الخارج، وبعضهم ما حج حتى الآن، وما اعتمر حتى الآن، الجنة صعبة المنال على الذين لا يذكرون الله.
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنانِ
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الخطاب عنك وهم ذوو إيمانِ
أتؤمنون بالموت؟ أتؤمنون بالقبر؟ أتؤمنون باللحد؟ أتؤمنون بمسائلة منكر ونكير؟ أتؤمنون بوقوف الخلائق عند الله يوم القيامة؟ أتؤمنون بالصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف، وعلى جنباته كلاليب جهنم؟ أتؤمنون بأن العباد يمرون عليه كالبرق الخاطف، أو كأجاويد الخيل، أو كمشي الرجال، أو كمن يحبو حبواً؟ أتؤمنون أن من الناس من تدركه كلاليب جهنم فتخطفه إلى النار، فتهوي به إلى مكان سحيق؟ نعم.
نؤمن بهذا كله.
أين الاستعداد له يا عباد الله؟ بكاء ساعة، بكاء لحظة، تأثر لحظات، ثم نعود بعد ذلك لندير المذياع على اللهو، لنفتح الشاشة على صور النساء، لنخرج ذاهبين آيبين لا نفكر هل إلى معصية الله، أم إلى طاعة الله، فهل من عودة يا عباد الله؟ هل من توبة يا عباد الله؟ استعدوا لهذا المطاف، واستعدوا لهذه الخاتمة، فما أسرع ما نقدم على هذه الآخرة! قيل إن نوحاً عليه السلام سئل: يا أطول الأنبياء عمراً-ألف سنة- كيف رأيت هذه الدنيا؟ قال: رأيتها كداخل من باب وخارج من باب آخر.
تأملوا -يا عباد الله- كم مضى من أعماركم ثلاثون سنة! خمسون سنة! عشرون سنة! كيف مرت تلك السنين؟ كيف مرت تلك الأزمان؟ كأنها برق قاصف {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55].
المرء يفرح بالحياة وطول عيش قد يضره
إن منا -يا عباد الله- من الموت خيرٌ له، لأن مزيد الحياة له مزيد في سيئاته ومعاصيه.
المرء يرغب بالحياة وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوؤه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره
كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائلٍ لله دره
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فاستغفروا ربكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.(213/6)
الاستعداد للقاء الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، وراقبوا أنفسكم وحاسبوا، وأحدثوا لكل زلةٍ استغفاراً، ولكل ذنبٍ توبة، وأكثروا من الحسنات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار- عياذاً بالله من ذلك-.
أيها الأحبة في الله: أيها المؤمنون بوعد الله ووعيده! أيها المسلمون! تذكروا يوماً تلقون فيه ربكم، فتكشف فيه الصحائف والسجلات، ويدني الله عبداً من عباده، ثم يسدل عليه ستره، ويسأل الرب عبده -والله جل وعلا أعلم بما فعل العبد- ليسائله الحساب: عبدي أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فإننا -والله- مسئولون عن كل أعمالنا صغيرها وكبيرها.(213/7)
المبادرة إلى التوبة وعاقبة التسويف
عباد الله: توبوا إلى الله توبةً قبل أن يدرككم الموت، توبوا إلى الله توبةً قبل أن تحل مصيبةٌ تحول بين الإنسان وبين التوبة.
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلا يدوم على الإحسانِ إمكانُ
إن من الناس من سوف التوبة وأجلها حتى نقل إلى سرير وقد بلي ببلاءٍ عظيمٍ لا يستطيع معه أن يركع أو يسجد، إن من الناس من سوف التوبة حتى نقل في تابوت من بلاد الخارج إلى بلاده، إن من الناس من سوف التوبة حتى أدركه الموت، وعجز أن ينطق بالشهادة، إن من الناس من بلغ الثلاثين والأربعين والخمسين وما تاب إلى الله حتى الآن، فمتى يا عباد الله؟ خطب الحسن البصري الناس، فقال: [يا معشر الشباب! ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ ويا معشر الشيوخ! إلى متى الغفلة قد أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره؟ والموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً].
هو الموتُ ما منه ملاذٌ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نؤملُ آمالاً ونرجو نتاجها لعل الردى مما نرجيه أقربُ
ونبني القصور المشمخرات في السما وفي علمنا أنا نموت وتخربُ
لدور الموت وابنو للخرابِ
فيا عباد الله: استعدوا للقاء الله، واعملوا صالحاً ينفعكم، اعملوا صالحاً قبل أن تحل عليكم ساعة لا ينفع فيها الندم، ولا ت حين مندم.
اللهم تب علينا، اللهم خذ بقلوبنا إلى طاعتك، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لتتجنب جلساء السوء، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنلحق بركب الأخيار الأبرار، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنقلع عن اللهو والعزف والغناء، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنستلذ بكلام الله وذكره، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم أعنا على جهاد أنفسنا لنكون لك مخبتين طائعين مختارين في ظواهر أنفسنا، وفي بواطنها، اللهم حل بيننا وبين معصيتك، اللهم اعصمنا عما يسخطك، وجنبنا ما يغضبك، ووفقنا إلى ما يرضيك، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً، فجازه اللهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً.
عباد الله: التوبة لا تأتي فجأة، التوبة ليست قميصاً يلبس، جاهدوا أنفسكم على التوبة.
أسأل الله أن نوفق لتوبة صادقة نصوح تجب ما قبلها من الذنوب والسيئات والمعاصي والمنكرات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، واحفظ إمام المسلمين، وأصلح بطانته، واجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين! اللهم خذ بقلوبهم إلى ما يرضيك، اللهم لا تكلهم إلى من حولهم، اللهم كلهم إلى توفيقك وعونك ومنك وكرمك يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي أرتيريا، وأثيوبيا، والفلبين، وفي جميع أراضي المسلمين أجمعين.
اللهم اهد شباب المسلمين، وأصلح نساءهم، واهد فتياتهم، وجنبهن المعاكسات، وجنبهن التبرج والسفور، وأبعد عنهن الاختلاط في الوظائف والتعليم، بمنك وكرمك يا رب العالمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وصلى الله على محمد.(213/8)
وهل نجازي إلا الكفور
لقد خلق الله الإنسان، وجعل فيه من دقيق صنعه ومن جميل خلقه ما يحير أولي الألباب وصفاً، ويعجز عنه أولو العقول إدراكاً، ولقد جعل الله في الإنسان نعماً عظيمة وأسراراً جليلة، ولكنَّ كثيراً من الناس في هذا الزمان كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يعرفون الحكمة الجليلة التي لأجلها خلقوا.(214/1)
كفران النعم
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وحده لا شريك له على نعمه التي لا تحصى وعلى آلائه التي لا تنسى، أحمده سبحانه حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، فهو سبحانه أهل الثناء والمجد، وأصلي وأسلم على نبيه محمد وصفيه من خلقه الداعي بدعوته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم العرض الأكبر على الله، يوم تنظر كل نفس ما قدمت، يوم تتغابن النفوس فيما أسلفت.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى فهي سبيل النجاة في هذه الدنيا، وهي سبيل الأمن في دار البرزخ، وهي سبيل الفوز والفلاح في الآخرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: خلق الله هذه الخليقة بصغير ما فيها وجليل ما عليها لحكمة بالغة وهو العليم الحكيم، تعالى الله أن يخلق عبثاً، وخلق هذا الإنسان وأودع فيه من دقيق صنعه ومن جميل خلقه ما عجزت عنه أولو الألباب وصفاً، وعجزت عنه أولو العقول إدراكاً، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
عباد الله: أودع الله في هذا الإنسان نعماً عظيمة وأسراراً جليلة، في سمعه وفي بصره، وفي عقله، وفي فرجه وأجهزته وحواسه، ولكن كثيراً من الناس في هذا الزمان كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يعرفون حكماً جليلة لأجلها خلقوا، وتطاول بعضهم وانساق وراءه من تطاول ورددوا بمسمع من الملأ:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أو أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري؟
ولماذا لست أدري
لست أدري
كلمات ملؤها الإلحاد والاعتراض والجهالة: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77 - 79].
عباد الله! هذا الإنسان وهذا المخلوق إذا لم يرع نعمة ربه عليه، ويدرك سر وجوده، ويعرف الحكمة من دبيبه على الأرض فإنه ينقلب مصيبة ودماراً، وهلاكاً وفتكاً في نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته.
عباد الله! هذه النفس الإنسانية عجيبة كل العجب، هذه النفس الإنسانية هي مدار كثير من الخلق والأسرار والإبداع والتكوين: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت:53] في الأفلاك، وفي النجوم، وفي المجرات، وفي السموات، وفي هذه البحار السماوية المتلاطمة بالنجوم المسخرة: {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] في هذه النفس الإنسانية؛ لأن فيها من الآيات والإبداع والعبر ما جهله كثير من الناس، واستخدموه لغير ما أوجده الله وخلقه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
أيها الأحبة في الله: في هذا العالم المتلاطم من بحار حكمة الله في خلق هذا الإنسان نقف وقفة متأملة في نعمة الصحة ونعمة العافية، يقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) وشاهدنا: (اغتنم صحتك قبل سقمك).
أيها الأحبة في الله: هذه العيون التي تبصرون بها، وهذه الآذان التي تسمعون بها، وهذه الأيدي التي تبطشون بها، وهذه الأقدام التي تمشون بها، كم لله فيها من عرق ساكن لو تحرك ما تلذذتم بعيش، وكم لله فيها من عرق متحرك لو سكن ما وجدتم لذة طعام ولا شراب ولا منام ولا نكاح.
أيها الأحبة في الله: نعم الإله على العباد كثيرة، نصبح في نعمة ونمسي في مثلها، نصبح في شبع ونمسي في ري، نصبح نرفل في ثياب ونمسي في غيرها، نتقلب في ألوان من الحلل والنعم والمراكب والمساكن والمفارش وقد نسينا نعمة الله علينا فيها، وقل من عباد الله من يصبح ذاكراً لله أو يمسي شاكراً لله، أو يؤدي حق الله فيما أنعم عليه من هذه النعم وهذه الآلاء، يركبون حديداً سخر لهم يتعطف بهم يميناً ويساراً، حيثما شاءوا ولأي جهة أرادوا، وإذا ركبوا لا يقولون: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
يصعد عشرة أدوار أو عشرين دوراً من البنايات الشاهقة، فإذا ركب مصعداً يستحيي أو يتجاهل أن يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، من الذي يشكر؟ من الذي يذكر؟ أتذكر الملوك، أيذكر الأثرياء، أيذكر العظماء؟ لا والله، لا يذكرون قبل الله ولا يذكرون إلا بفضل الله عليهم وعلينا، ونحن جميعاً عباد لله جل وعلا، اذكروا الله في كل ذهاب وإياب، في كل مجيء ونزول وارتحال، اذكروا نعمة الله عليكم يا عباد الله.
أيها الأحبة: وفي هذا الجو المتزاحم من هذه النعم والأمن والطمأنينة ينسى كثير من الناس نعمة ربه، فيدخل بيته على أنغام العزف والطرب والموسيقى والغناء، ويخرج منه على صور النساء المتبرجات في الشاشات والأفلام، ويركب سيارته على دنين وطنين المعازف والآلات الموسيقية، وينزل منها لا يذكر حمداً لله على سلامته ووصوله، إلى أي حد بلغت قسوة هذه القلوب؟!(214/2)
عِظم نعم الله
الله أكبر يا عباد الله! لو سمعتم كلام أحد البشر وهو يتملق وينافق ويداهن أمام ثري من الأثرياء، أو أمام غني من الأغنياء لقليل من المال، لحفنة من التراب يعطي هذا الثناء وهذه المداهنة وهذه المجاملة، وينسى نعم الله عليه، التي لا تحصى بآلاف الملايين من الدولارات والريالات وغيرها.
أيها الأحبة في الله: من منكم يبيع بصره بمائة مليون، من منكم يبيع سمعه بمائة مليون، من منكم يبيع فرجه بمائة مليون، من منكم يبيع يديه بمائة مليون، من منكم يبيع قدميه بمائة مليون؟ لا والله لا يرضى أحدكم أن يبيع جارحة أو حاسة من حواسه بهذه الملايين، إذاً فأنتم تملكون مئات الملايين وعشرات الملايين وآلافها، ولكن الكثير لا يشكرون الله ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وبعضهم عن ذكر ربهم غافلون.
أيها الأحبة: انظروا إلى معهد الأمل للصم والبكم، انظروا كيف يعانون مراحل التعليم، كيف يواجهون ويشقون طريقة الحياة عبر كثير من الوسائل المساعدة والأجهزة التي تساعدهم قليلاً إلى إدراك لغة التخاطب، وإيصال المعلومة المرادة منهم إلى غيرهم.
عباد الله! أتظنون نعمة السمع سهلة، أتظنون نعمة البصر والبصيرة سهلة، لا والله -يا عباد الله- إنها نعمة جليلة ولكن كثيراً من الناس عنها غافلون: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك:23 - 24] وماذا بعد هذا؟ يتحدون ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك:25 - 26] {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] وخلق الإنسان جهولاً، هذا الإنسان الضعيف، هذا الإنسان الذي يخلقه الله من العدم ويربيه وينميه وينشز فيه العظام واللحم والعصب والعروق والدماء في بدنه، فإذا استقام سوياً على قدميه وقف خصيماً مبيناً.
وقف العاص بن وائل، وفي رواية أنه أمية بن خلف وفي يده عظم قد أرم وأخذ يفت هذا العظم ويقول: يزعم محمد أن الله يعيدنا خلقاً آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم يخلقك الله ثم يحشرك إلى جهنم) ونزل قول الله: ((أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ)) من دفقة منوية، من نطفة قذرة يستحي ولا يطيق أن ينظر إليها في يده {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] خصيم: يخاصم ويجادل، مبين: ببيان وفصاحة وبلاغة، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] من الذي يحييها؟ من الذي ينشزها ويعيدها؟ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] أنشأها الله من عدم ثم يعجز عن ردها بعد وجودها؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
أيها الأحبة في الله: تفكروا في نعم الله عليكم، تفكروا في آلاء الله في أنفسكم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] كثير من الناس إذا مرت بجواره سيارة فارهة يقول: لعن الله الفقر، لعن الله القهر، لعن الله الضعف، ويردد عبارات تافهة حقيرة؛ لأنه رأى سيارة مرت أمامه وهي جميلة منمقة ملمعة، ورأى النعم كل النعم في قطع من الحديد والمطاط مجتمعة، ونسي آلاف النعم في بدنه وفي سمعه وفي بصره، مساكين أولئك الذين يرون نعم الله في الحديد والمطاط وينسون نعم الله في أنفسهم وأبدانهم، إن كثيراً من الأثرياء على أتم الاستعداد أن يبذلوا ثلاثة أرباع ملكهم في سبيل إذا جلسوا على مائدة أن يأكلوا ما شاءوا، وإذا أووا إلى فرشهم فعلوا ما يفعل غيرهم، وإذا أرادوا عافية أو ذهاباً أو إياباً وجدوا ذلك في مقدورهم وميسورهم، ومع ذلك رغم أموالهم وثرواتهم قد عجزوا عن كثير من هذا، مسكين ابن آدم مسكين هذا الإنسان.
جاء أحد الوعاظ إلى هارون الرشيد فقال هارون: عظني، قال: يا أمير المؤمنين! لو كنت في فلاة قفر -مفازة من الصحراء- ليس فيها ماء، ثم لم تجد شربة ماء، وأوشكت على الهلاك من العطش ثم بذلت لك شربة ماء بنصف ملكك -بالملك الذي لا تغيب عنه الشمس، بالملك الذي تخاطب فيه السحابة: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك- يا أمير المؤمنين! لو بذلت لك شربة من ماء أتبذل فيها نصف ملكك؟ قال: نعم والله أبذله ولا أتردد، قال: فاشرب هنيئاً مريئاً، ثم قال: يا أمير المؤمنين! فإذا استقرت هذه الشربة في جوفك ثم احتبست -أصابك الحصر لم تستطع أن تجد مسلكاً لهذه الشربة، عجزت عن البول بالعبارة الصريحة- هل تبذل نصف ملكك في سبيل إخراج هذه الشربة؟ قال: نعم.
أبذل نصف ملكي في سبيل أن أجد لهذه الشربة مسلكاً ومخرجاً، فقال: يا أمير المؤمنين! تباً لملك لا يساوي شربة ماء.
بذلت نصفه في شربة ماء، ثم بذلت النصف الآخر في إخراجها، وتأملوا في أنفسكم -يا عباد الله- انظروا أي طعام تشتهونه، انظروا أي شراب تشربونه، في أي بلاد زرع وفي أي بلاد بذر؟ بذر وزرع في بلاد بعيدة، وانتظر عليه أهله شهوراً طويلة ثم جنوه بأيديهم ثم أرسلوه إلى بلادكم، نعم تترا ونحن عنها غافلون، ثم جئنا إلى السوق وجيوبنا متخمة بالمال فاشترينا ما اشترينا مما اشتهينا، ثم جئنا بهذا النبات أو الشراب إلى البيت فأوقدنا النار ووضعنا القدور وطهينا الطعام والشراب، ثم لم نجد لذته إلا على طرف اللسان، ولما جاوز الحلق تساوى لذيذ الطعام مع رديئه، فترة اللذة لحظة بقاء اللقمة على طرف اللسان، فإذا نفذت إلى الجوف بعد ذلك لا تعرف ماذا أكلت، ولو رد لك ما في جوفك لتقززت منه ولتقيأت منه ولكرهته ومججته، أليس ذلك حقاً يا عباد الله؟! بلى والله يا عباد الله! ثم بعد ذلك إذا استقرت اللقيمات والشراب الذي زرع في بلاد كثيرة بعيدة وجني وصدر ووصل واشتريناه وطهيناه وطبخناه ومر على أطراف ألسنتنا لحظة واحدة ماذا بعد ذلك؟ بقي حبيس في الجوف، وتضايقنا وتمرغنا ووجدنا آلاماً عظيمة حتى نخرج هذا الطعام الذي مر بتلك المسافة الطويلة، من الزراعة والجني والتصدير والطبخ والطهي، حتى يسهل الله له مخرجاً، الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لماذا يا عباد الله؟! لكي تعلموا أن لذة الدنيا لحظة، وأن لذة الدنيا دقيقة، ولذة على طرف اللسان، ثم تمضي وتبقى حبيسة الجوف ألماً حتى تخرج، ولكي نشتاق إلى لذات لا تتنغص، ولكي نشتاق إلى نعيم لا يتكدر.
ما أضيق العيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
والله لو بقينا في هذه الدنيا على أطيب عافية وصحة ما ساغ لنا القرار ونحن نعلم أننا سننقل من الدور إلى القبور، ومن الفرش إلى اللحود، ومن السعة إلى الضيق، ومن النور إلى الظلام، أيهنأ إنسان هذا شأن حياته؟! أيها الأحبة في الله: لو أتينا برجل من هذا الباب ودعوناه في هذه الساحة وأنتم وأنا نعلم أننا سنقتله بعد ربع ساعة، وهو لا يعلم المسكين، ثم قلنا: تفضل هذا الطعام وكل هذا الشراب، فأخذ يأكل ويتلذذ وينكس رأسه ويقلب طرفه في هذا النعيم الذي بين يديه، ألسنا وإياكم نضحك؛ لأنه سوف يأكل هذه اللقم والنعم ثم سوف يفارق الدنيا بعدها، نعم نضحك على عقله ونقول: هذا المسكين لا يدري ماذا ينتظره، فلنضحك على أنفسنا لأننا نتناول قليلاً من الطعام والشراب والآخرة تنتظرنا، وظلمة اللحود في انتظارنا، إلا من نور الله عليه قبره بالتوبة الصادقة والعمل الصالح، فما أجهل العقول والقلوب في هذا الزمان، أعدوا لدار ننتقل إليها.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(214/3)
التقوى
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، أتدرون ما التقوى؟ اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، أتدرون ما التقوى؟ أن تعبدوا الله على نور من الله، ترجون ثواب الله، وأن تنزجروا عن معصية الله خوفاً من الله، تخشون عقاب الله، أتدرون ما التقوى؟ الاستعداد للرحيل، والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل، أتدرون ما التقوى؟ شمروا إذا كنتم على طريق ذي شوك فانظروا كيف تجافون الأقدام عن الأشواك، وتتبعون بها سبيلاً سهلة ليس فيها شوك، فكذلك التقوى أن تقودوا نفوسكم وتمسكوا بزمامها وخطامها إلى مرضاة الله، وتسيروا بها مجاهدين هذه النفوس، حتى تودعوا هذه الدنيا؛ دنيا قصيرة ضعيفة:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
كيف تريدون الراحة في الدنيا والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]؟ والله إن أكبر كبير وأصغر صغير ليكابد أمر الدنيا، يظن الفقراء أن الأثرياء في راحة وهم والله في ألوان من الكبد، والفقراء يقاسون ألواناً من الكبد، وكل قد ابتلي إما بفقر وإما بغنى، ولكن السعيد من اتقى:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخر وعند الله للأتقى مزيد(214/4)
زيارة إلى مستشفى النقاهة
عباد الله: أنتقل بكم من هذا المكان لزيارة في الله لإخوان مرضى في مستشفى النقاهة الذي كان يسمى مستشفى العزل، مستشفى الحميات بطريق الخرج، لكي تعرفوا -أيها الإخوة- نعم الله عليكم في عقولكم وأسماعكم وأبصاركم وأبدانكم.
أيها الأحبة: تدخلون مدخلاً فتجدون أمواتاً لكنهم يتكلمون، وبعضهم أموات لا يتكلمون لكن أبصارهم لا زالت تطرف يرون ما يقف على رءوسهم، ولا يستطيع أن يتكلم أو يسمع، فإذا وقفت أمامه ورفعت يديك مشيراً له أنك تدعو الله له بالعافية لم يجد وسيلة للتخاطب معك إلا أن يطلق الدموع غزيرة مدرارة على وجنتيه، يراك واقفاً وهو لا يستطيع الوقوف، يراك تتكلم وهو لا يستطيع الكلام، يراك تسمع وهو لا يستطيع ذلك.
أيها الأحبة في الله: يا من يشكون قسوة القلوب! يا من قست قلوبهم بألوان النعم ومختلف الطعام والشراب! زوروا إخواناً لكم في مستشفى النقاهة وانظروا أحوالهم، طائفة منهم قد أصيبوا بارتجاج في المخ مع خلل في النخاع الشوكي، ونتيجة هذه الإصابة فقدان كثير من الحواس مع شلل نصفي أو ثلاثي أو رباعي، ألوان مختلفة، تزور غرفة فترى فيها مريضاً لا يسمع ولا يبصر اللهم إلا هواءً ونفس يخرج ويدخل، وينتظر ساعته ولله في ذلك حكمة، لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج من الدنيا وما عليه خطيئة، وإن البلاء في الدنيا لأهون من العذاب في البرزخ والآخرة، ولله في ذلك حكمة.
فتزور غرفة أخرى فتجد رجلاً سوياً جميلاً نظراً لكنه لا يتكلم، فقط يسمع ولا يتحرك من سريره، لا يستطيع أن يتكلم، وإذا سبقت له القراءة فكتبت السؤال على ورقة وعرضته أمامه، أشار إليك أن له على هذا السرير، أربع سنوات على ظهره، ويعاني آلاماً عظيمة.
ثم انتقلت إلى غرفة أخرى لتجد أناساً لا يجدون مسلكاً للطعام إلا مع أنوفهم؛ لأن اللسان -أيضاً- قد أصيب بالشلل، والفم أيضاً قد أصيب بالشلل، فلا يستطيع أن يحرك اللقم حتى تمر على المريء ثم إلى الجوف.
ثم تنتقل إلى مكان آخر، فتجد مجموعة قد فتح له في أسفل رقبته فتحة قد تكون مساعدة للتنفس في بعض الحالات.
أيها الأحبة في الله: وماذا بعد ذلك؟! نعم لقد بذل لهم بفضل الله والشكر لله، ثم لهذه الحكومة الطيبة في مداراتها لأولئك، لقد بذل لهم لون من الرعاية منقطع النظير، ولكن ماذا يجدي حتى ولو عاشوا فوق السرير وعلى الحرير، ماذا يجدي ذلك؟ يريدون العافية ولو كانوا يشتغلون ليل نهار، يريدون العافية ولا يخرجون من المساجد، يريدون العافية ولو أمضوا دهرهم صائمين، يريدون العافية ولو بقوا طوال الليالي قائمين، العافية العافية التي أنتم تتقلبون فيها ولكنكم في غفلة من نعم الله عليكم، {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} [المعارج:19 - 20] لو يصاب أحد منا بشوكة أو بأثر أو بوعكة أو بأزمة لوجدته هلوعاً جزعاً خائفاً متضرعاً {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:21] فإذا عاد إلى العافية أصبح يستكثر على الله ما يعمله، ويستكثر على الله ما يبذله، ويستكثر على الله ما ينفقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمصيبة التي بعد ذلك -يا عباد الله- عملية إخراج الطعام من أجوافهم لا تتم كما تتم لأي أحد منكم، بل بعضهم تستمر هذه العملية وكأنها حالة ولادة خمس ساعات وأربع ساعات بمجموع من الأوعية والمحاليل، وألوان من الأدوية تعالج في مؤخرته حتى يسهل الله له فرجاً -يا عباد الله- والله إنها لمعاناة عظيمة، أحدهم يقول: يمر علي في الأسبوع يوم واحد هو اليوم الذي يستطيع أن يخرج فيه، طيلة ستة أيام يظل يعاني آلاماً ويقاسي مصائب في جوفه؛ لأن قضية الإخراج بالنسبة له عملية صعبة جداً، فيحدد له يوم واحد في الأسبوع، ثم يقول لنا: تصور ماذا تعاني زوجتك عند الولادة، والله إنا لنعاني أشد من ذلك في سبيل إخراج ما في بطوننا.
أيها الأحبة في الله! أليست نعم الله عليكم عظيمة
لم تشتكي وتقول إنك معدم والأرض ملكك والسما والأنجم
أليست نعم الله عليكم عظيمة؟! والله نعمة الإسلام أول النعم، ونعمة العافية في كل ذلك عامة شاملة من أكبر النعم أيضاً، فالحمد لله على هذه النعم.
إخواني في الله: إخوانكم في مستشفى النقاهة الذين يعانون ألواناً؛ إما من الصمم، أو من الغيبوبة، أو من الشلل الرباعي والثلاثي، لهم أسر يحتاجون المساعدة ويحتاجون الرعاية، ولما اجتمع بعض الشباب الصالحون فتبرعوا لبعضهم بألوان من العربات المتقدمة التي تسهل عليهم نوع الحركة، وبعضهم لما استطاع الكلام قيل له: نعطيك عربة؟ قال: لا.
أريد البقاء على السرير وأرسلوا قيمة العربة إلى أولادي وأطفالي، إن ورائي ذرية لا أعرف من ينفق عليهم أو يصرف عليهم.
أيضاً أيها الإخوة: لهم من الأسر من يحتاجون النفقة، وكبار السن الذين هم في مثل هذه الحالة لا يعرفون أحداً يزورهم، قد مل أبناؤهم وإخوانهم وذويهم من زيارتهم، يقول مشرف المستشفى: بعضهم نمكث مدة لا نرى أحداً يسأل عنه أو يطمئن عن حاله، لا حول ولا قوة إلا بالله! عباد الله: احمدوا نعمة الله عليكم، أنتم في حرية والسجناء في ضيق، أنتم في عافية والمرضى في بلاء، أنتم في نعم وذوو الصمم والبكم في مصيبة لا يعلمها إلا الله، فاحمدوا الله على هذه النعم، احفظوا أسماعكم قبل أن تصم، ولا تجعلوها وسيلة للهو والعزف والطرب وسماع ذلك كله، اسمعوا بها ذكر الله وكلام الله وحديث رسول الله، احفظوا ألسنتكم واجعلوها ذاكرة لله، احفظوا أبصاركم ولا تجعلوها لأفلام الفيديو والمسلسلات التي فيها من الصور ما لا يرضي الله جل وعلا، احمدوا نعم الله عليكم وبادروا أنفسكم بالأعمال، هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً مدقعاً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟ اللهم عافنا في أبداننا، اللهم عافنا في أسماعنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، وأعنا بها على طاعتك واصرفنا بها عن معصيتك، واجعلها عوناً على الطاعة، وبلاغاً إلى حين.
اللهم توفنا على الإسلام شهداء، اللهم توفنا على الإسلام سعداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.(214/5)
الرؤى والأحلام
تحدث الشيخ عن الرؤى والأحلام من جهة تعلقها بالشرع، وكيف أنها بشرى للمؤمن ونذارة للعاصي، وعن سبب حدوث الرؤيا، مع ذكره العلاج لمن رأى ما يكره، وأن الإنسان لابد أن يحسن الاختيار لمن يفسر له ما رآه.(215/1)
الرؤى والأحلام في ميزان الشرع
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه وعن المثيل وعن النظير ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم، وقد وعدكم بالثواب إن أتيتم بها على نحو ما أراده الله سبحانه وشرع، وقد أمركم بها في مواضع عدة من كتابه حيث قال جلَّ من قائل عليماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
عباد الله إن من عجيب خلق الله وصنعه ما يراه النائم في عالم المنام من الرؤى والأحلام، وذلك مما يقف المؤمن أمامه مندهشاً مما يرى في نومه ويتحقق في يقظته بتأويل دقيق وبفراسة أو علم عميق، وكذلك ما يراه حقيقة بعد نومه من دون تأويل أو تفسير لظهور ووضوح رؤياه وعدم حاجتها إلى التأويل، وإن ذلك كله لما يقوي إيمان المؤمن بالوحي الإلهي والإلهام الرباني من الله جل وعلا لأنبيائه ورسله وأوليائه.(215/2)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤى
والرؤيا -يا عباد الله- من الأمور التي كان يهتم بها النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل أصحابه بين حين وآخر بقوله: من رأى منكم رؤيا؟ ومن له أدنى اطلاع على تعبير الرؤى والمنامات مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فإنه يعرف مدى أهمية الرؤى.
والذي يهم المسلم بالدرجة الأولى في هذا الأمر أن يعلم أن الرؤى حق لا شك فيه، وأنها قد تكون دليلاً على حدوث أمور مستقبلية، خاصة إذا رآها من هو معروف بالاستقامة والصلاح، وعبرها من اشتهر وعرف بالعلم والفراسة، ومن تيقن هذا أدرك كذب وافتراء بعض الذين يدعون أو يسمون النفسانيين في تكذيبهم للرؤيا وعدم المبالاة بها على أي وجه ومن أي صفة وأي إنسان وقعت وكانت.
أيها الأحبة في الله الرؤيا الصالحة لا تخلو من بشارة أو نذارة في أمر دين أو أمر دنيا، وقد تكون مبشرة تحث من رآها على لزوم سبيل الاستقامة والثبات على الحق والدعوة إليه، أو تهديه إلى ما فيه خير له في آجله وعاجله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64] قال أبو الدرداء: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: (ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) وقد تكون الرؤيا نذيراً لمن رآها عن الغفلة عن ربه، والتفريط في جنبه، ومن ثم تحمله وتجره إلى التوبة النصوح، وتبعثه على العمل الصالح، وتحذره مما فيه الشر والخسارة في أمر دينه ودنياه.
وحقيقة الرؤيا تكمن فيما يخلقه الله عز وجل في قلب النائم، فيرى أموراً كما لو كان يراها وهو في حال يقظته، فسبحان الذي يفعل ما يشاء بأفئدة عباده وعقولهم في حال نومهم ويقظتهم!(215/3)
الفرق بين الرؤيا والحلم
روى البخاري ومسلم رحمهما الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان) وفي هذا دليل على ما ذكر، وهو أن الرؤيا من الله كلها خير، فقد تكون بشيراً بخير فيفرح المؤمن به، أو نذيراً عن شر فيتقيه ويبتعد عنه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الحلم من الشيطان) فليس معنى ذلك أن الشيطان يفعل شيئاً، ولكن معناه: أن خلق الرؤيا في قلب الإنسان في تلك الحال قد يكون بحضور شيطان وسروره بها فيما إذا كانت دليلاً على بلاء يحل بمسلم أو شرٍ يقع به.
فالرؤى الصالحة الصادقة هي من الله، وكثيراً ما وقعت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه من بعده ومن تبعهم من الصالحين إلى يومنا هذا، والغالب منها يقع على وفق ما جاء في المنام، وحسبكم -يا عباد الله- من الرؤيا الصالحة فضلاً وشرفاً أنها من أول ما بُدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، فكان لا يرى شيئاً إلا جاء كفلق الصبح، وإنها لمن المبشرات بالخير أو من النذر عن الشر، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ولا يمنع من كون الرؤيا الصالحة جزءاً من النبوة أن يراها الكافر أو الفاسق إذ أنهما تصدق رؤاهم في بعض الأوقات، ولكنها لا تعتبر وحياً ولا تعد من النبوة في ذلك، إذ ليس كل من صدق في حديث بغيب يكون خبره عن ذلك من النبوة.(215/4)
رؤيا الأنبياء وما في حكمها
واعلموا -يا عباد الله- أن الرؤى لا تكون وحياً يعمل به إلا إذا رآها نبي، ودليل ذلك أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل، نفذ الرؤيا وطبقها وعمل بها، ولم يقل: أضغاث أحلام، يرى أنه يذبح فلذة كبده وولده بالشفرة والسكين كما تذبح البهيمة ومع ذلك لم يقل: هذه أضغاث أحلام؟ لأنها رؤيا نبي ورؤى الأنبياء حق، وقد وفّى بها وأراد ذبح ولده فلذة كبده ولكن الله افتداه بكبش سمين.
وتكون الرؤيا وحياً إذا رئُيت على عهد نبي وأقرها وأمر بالعمل بها، ومثال هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم للصلاة، وكيف يجمع الناس لها، فقيل له: خذ راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أعلم بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك وقال: (هو من أمر اليهود.
فذكر له الناقوس فقال صلى الله عليه وسلم: هو من أمر النصارى) فانصرف عبد الله بن زيد رضي الله عنه وهو مهتم لهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُري الأذان في منامه، قال: طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة.
قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر وسرد عليه الأذان إلى آخره إلى أن علمه الأذان، ثم استأخر عنه غير بعيد، ثم قال لـ عبد الله بن زيد: تعود إذا قمت إلى الصلاة تقول: الله أكبر الله أكبر، وعلمه الإقامة، فلما أصبح جاء عبد الله بن زيد وقص رؤياه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: (إنها لرؤيا حق إن شاء الله) وفي رواية قال: (قد سبقك بها الوحي، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك).
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اقترب الزمان -أي: قرب قيام الساعة- لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.(215/5)
ما يفعله من رأى ما يكرهه
والرؤيا ثلاثة أنواع: رؤياً صالحة هي بشرى من الله، ورؤيا تحذير من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه؛ فإن رأى المسلم ما يكره فليقم وليصل ولا يحدث بها الناس، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم الحلم الذي يكره فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله منه فلن يضره).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم -أيضاً-: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله وليتحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره).
فمن جملة هذه الأحاديث نعلم معاشر الأحبة أن الرؤيا من الأمور الممكن تحققها ووقوعها خلافاً لمن نفى ذلك وجحده، ومن جملة تلك الأحاديث ينبغي أن ننتبه إلى أمر مهم جداً، وهو أن بعض الناس يتشاءم من بعض الرؤى التي يراها، وقد تضطرب لها حاله وتشغله في مأكله ومشربه ومجلسه، وهذا من الخطأ البين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا وبين لنا: إن كانت الرؤيا مما يكره العبد فليستعذ بالله، وليتفل عن يساره، وليقم فليصل فإنها لا تضره، وذلك يدفع شرها عنه بإذن لله وقدره، ومن اعتقد أن الرؤيا تضر بحالها أو تنفع بحالها ممن رآه فيها فقد أشرك مع الله عياذاً بالله من الشرك، إذا أن الذي يقدر القضاء على العباد هو الله، ولا يرفعه عنهم إلا هو سبحانه.
عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول -وذكر الحديث الذي سقناه آنفاً- (إذا رأى أحدكم ما يكره فليتعوذ بالله من شرها، وليتفل ثلاثاً عن يساره، ولا يحدث بها فإنها لا تضره).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:4 - 5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم، التواب الرحيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه غفور رحيم.(215/6)
الرؤيا الصادقة وسببها
الحمد لله منشئ السحاب، وهازم الأحزاب، ومنزل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأثني عليه الخير كله، هو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام وقد ضل عنه الكثير، ومنَّ علينا بالتوحيد وقد غفل عنه الكثير، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل ما سألناه أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا لله تعالى حق التقوى، تمسكوا بدين الإسلام في الدقيق والجليل، واعلموا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي به اطمأنت نفوسكم، وأمنتم في أوطانكم، وتدفقت الخيرات إلى بلادكم، وانظروا إلى ما حولكم من الجنوب والشرق والشمال والغرب، يتطاحنون ويتقاتلون بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، جنبوا شرع ربنا واتخذوا قوانين الكفرة والملاحدة؛ فكان أن سلط الله عليهم عدواً من أنفسهم ومن بينهم، يتقاتلون ويتذابحون ويدمرون كل شيء بنوه بأيديهم، فتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ شذ في النار.
معاشر المؤمنين إن من الرؤيا ما يقع أولاً على ظاهره، ومنها ما يحتاج إلى تأويل، فما يحتاج إلى التأويل منها فينبغي أن يعرض على رجل صالح ماهر بتعبير الرؤيا، مفرق بين الأضغاث وغيرها، ويفرق بين طبقات الناس إذ أن فيهم من لا تصح له رؤيا، ومنهم من تصح له وتقع بإذن الله، يقول أحد علماء السلف: الرؤيا اكتشاف لا يحصل إلا بانقشاع الغشاوة عن القلب، فلذلك لا يوثق إلا برؤيا الصالح الصادق، ومن كثر كذبه لم تصدق رؤياه، ومن كثر فساده ومعاصيه أظلم قلبه فكان ما يراه أضغاث أحلام؛ ومن أجل ذلك استحب ألا ينام المسلم إلا متوضئاً طاهراً.
وقال بعض أهل التعبير: لكل أمم أصول لا تتغير، وأقيسة مطردة لا تضطرب إلا تعبير الرؤيا، فإنها تختلف باختلاف أحوال الناس وهيئاتهم وصناعاتهم ومراتبهم ومقاصدهم ومللهم ونحلهم وعاداتهم، فينبغي للمعبر أن يكون فطناً ذكياً ذا فراسة واطلاع.
ومما ينبغي أن يعلمه كل مسلم أنه يحرم الكذب في قص الرؤيا، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) وفي حديث آخر (إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا) فينبغي لمن رأى رؤيا صالحة ألا يحدث بها إلا عند شفيق ناصح يحسن تعبير الرؤيا وتأويلها، فإن رأى الذي ذكرت له الرؤيا خيراً فليقل: خيراً رأيت، ثم يعبرها.
وإن علم من الرؤيا مصيبة أو بلاءً فليقل: خيراً إن شاء الله وليصمت، فإن وجد خيراً ذكره وإن وجد خلاف ذلك قال: خيراً إن شاء الله، وجاء عن السلف الصالح -أيضاً- جملة من ذلك.
ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه على صفته صلى الله عليه وسلم المعروفة فقد رآه حقاً وصدقاً؛ لأن الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك عنه في الحديث (من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي).
ومن الناس من يفزع في منامه لرؤىً يراها، وسبب ذلك قلة ذكر الله وشدة الغفلة في اليقظة، والخوف من الخلق، وما أشد وقوع الكثير منا في هذا، فالكثير في غفلة عن ذكر الله حال دخولهم بيوتهم، وحال خروجهم من دورهم، وحال ركوبهم دوابهم، وحال دخولهم أعمالهم، إن من القليل النادر أن تسمع صوتاً يرتفع بذكر الله جل وعلا، ومن رفع صوته يذكر غيره التفتت إليه أعين الناس، لا ينكرونه، حاشا لله أن ينكر ذكر الله! وإنما قد استغربوا من قلة الذاكرين في هذا الزمان.
فاعلموا -يا عباد الله- أن شدة الغفلة والخوف من الخلائق والبعد عن ذكر الله مما يسبب أموراً مزعجة في المنام، نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا بذكره وطاعته، فينبغي لمن يفزع في منامه أن يحرص على قراءة ورده قبل نومه خاصة فاتحة الكتاب وآية الكرسي والمعوذات، وآخر سورة الحشر، وكذلك الأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يستحب للمسلم أن يقوله عند نومه وبعد استيقاظه، ومن شكا الأرق بعد ذلك -والأرق هو عدم النوم في الليل- فليقل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، ولم يبق إلا وجهك يا حي يا قيوم، اللهم اهد ليلي وأنم عيني، وليتبع ذلك بقراءة الآيات والأحاديث الواردة، وليتأكد أنه لن يقارب تمام هذه الأذكار إلا وقد غشي النوم أجفانه.
عباد الله الرؤى الصادقة كثيرة جداً، فرؤى الأنبياء حق ووحي لا شك فيها، وجاء عن السلف رؤىً وقعت وتحققت، وغيرهم كثير، ولو ذهبنا نستعرض جزءاً من ذلك لطال بنا الوقت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا بالتوبة النصوح، وأن يوفقنا لذكره جل وعلا.(215/7)
أمور تجعل الرؤيا فاسدة
أيها الأحباب إن كثيراً من الشباب الذين شغلوا أنفسهم عن ذكر الله، وتشاغلوا بالمعاصي والملاهي يترددون على العيادات النفسية ومستشفيات الأعصاب وغيرها؛ يشكون قلقاً وجزعاً وضيقاً ونكداً في نفوسهم، وتقلباً في منامهم، وما علموا أن ذلك هو بما اجترحوه في النهار، يلقون بعضاً منه في الليل، ولو عادوا إلى ربهم وآبوا لوجدوا من ذلك خيراً كثيراً.
يحدثني رجل أعرفه، وكان ممن يداوي بالقرآن المرضى الذين يأتونه، قال: جاءني شاب متناثر شعر رأسه، قد شحب وجهه، وقد تغير شكله، وقد رأيت فيه هيئة تفزع من رآه، ثم إن أباه قد أتاني -أيضاً- وقال: إنه يشكو في الليل أموراً كثيرة، وفي النهار يقترف أشياء عديدة، قال: فإنه لما أتاني قلت: ما الذي تشكوه؟ فذكر لي من قلقه وفزعه وغير ذلك في منامه، ونكد وقلق نفسه في النهار، عيشةً يتمنى أن يموت ولا يحيا فيها.
يقول: فقلت له: يا بني هل تصلي؟ فقال: لا.
فقال: عجباً من حالك! كيف تريد أن تطمئن بالنهار وأن تسكن بالليل وأنت لا تصلي؟! أما تعلم أن تارك الصلاة كافر، وما ينفع إن رقيت عليك وقد تكون -ولا حول ولا قوة إلا بالله- على كفر بتركك للصلاة؟ قال: فما تأمرني أن أفعل؟ قال: آمرك أن تستحم من جديد وأن تغتسل وأن تصلي ثم عد إلي من الغد.
قال: ففعل ذلك وعاد إلي وقد هدأ، فقرأت على صدره آيات من الفاتحة وآية الكرسي ومما يسر الله من كتابه الكريم، قال: فتردد علي أيام بذلك حتى نفعه الله جل وعلا بها، واطمأن وعاد وهو الآن من الذين يؤذنون للصلاة في أحد المساجد الكبيرة في الرياض، نسأل الله أن يمن علينا وعليه وأن يثبت الجميع على طاعته.
إذاً فاعلموا -يا عباد الله- أن كل دقيق وصغير يوحش النفوس ويفزع القلوب إنما هو بما كسبت الأيدي واجترحت الجوارح، نسأل الله أن يسخرنا لطاعته، وأن يمن علينا بهدايته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم أعنا في ديننا.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمام المسلمين لما تحبه وترضاه، ووفق اللهم ولي عهده يا أرحم الرحمين! اللهم لا تفرح على أئمتنا عدواً ولا تشمت بهم حاسداً، وقرب منهم بطانة صالحة، ومن علمت فيه شراً لهم فأبعده عنهم.
اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا قلقاً إلا سكنت روعه وهديت قلبه برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(215/8)
الربا [1]
ما حرم الله شيئاً إلا لمصلحة عباده، وإن الناظر في حال متعاملي الربا من الدائن والمدين ليدرك ما يلحقهم من المحق والخسار، والبوار والدمار.
فالربا لا يقتصر فقط على من تعامل به؛ بل يتعدى خطره إلى كل المجتمع ليهلكه ويبيد اقتصاده وأمواله، ولن يجعل الله الحل أبداً فيما حرم على عباده.(216/1)
خطر الربا على المرابي في الآخرة
إن الحمد الله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، لم يعلم طريق خيرٍ إلا دلنا عليه، وما علم من سبيل شرٍ إلا وحذرنا منه، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله بإتيان ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، واتقوا الله جل وعلا في كل وقتٍ وفي كل لحظة، وفي كل فعلٍ وقولٍ وعمل، فإن الله جل وعلا ما خلقكم إلا تعبدوه، وما خلق الخلائق أجمعين ليستعز بهم من ذلة، أو ليستكثر بهم من قلة، فهو الغني الحميد سبحانه لا إله إلا هو وهو على شيءٍ قدير.
معاشر الأحباب: يقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
معاشر الأحباب: إن المتأمل لكتاب الله جل وعلا ليجد أن الله سبحانه وتعالى عَظَّمَ جانب الربا في شأن من يتعامل به، وخطورة مآله وحاله، فإنه خطرٌ عظيم، وشرٌ جسيم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ولذلك فقد جاء في آخر سورة البقرة فصلاً مطولاً في شأن الربا، والله جل وعلا يوم أن قال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] أي: يوم القيامة، أكلة الربا لا يقومون إلا كما يقوم المصروع الذي يتخبطه الجن والشياطين، وذلك بما أثقل نفسه به من المال الحرام، فإنه عند ذلك لا يستطيع النهوض إلى الحشر إلا بمدافعة نارٍ تلحقه، وكما جاء في الأثر: (يوم أن ينفخ في الصور ويحشر العباد وينفرون، فإن أكلة الربا كلما قاموا سقطوا على وجوههم، وصرعوا على جنوبهم) فشأن الربا عظيمٌ وخطره جسيمٌ جداً يا عباد الله! ولعل من عظيم قول الله جل وعلا فيه، ومن عظيم التهديد والوعيد في شأنه أن الله سبحانه لم يجعل له عقوبةً حسيةً معينة، أي: كالحدود والقصاص والرجم وغيرها، وإنما توعد آكله بحربٍ منه، وتوعد متعامله بحربٍ من رسوله، وما شأن مسلمٍ يحاربه الله ورسوله فهل تبقى له قائمة؟! وهل يكون له في الخير نصيب بعد أن حاربه الله ورسوله؟! في الحديث: (إذا بعث الله الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين إلا أهل الربا، كلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم) وذلك يا معاشر المتقين! بما أثقلوا بطونهم به من المال الحرام، ولقد جاء في حديث المعراج: (أنه صلى الله عليه وسلم لما عُرج به رأى رجالاً بطونهم بين أيديهم كالبيوت فيها حيات وعقارب ترى من ظاهر بطونهم، فقال صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هم أكلة الربا).
معاشر المؤمنين: لا شك أن الربا سحرٌ يغري المتعامل به، ويغري صاحب المال أن يقع فيه؛ وذلك لأنه في هذا الزمان تيسرت سبل التعامل به، وتيسر أسباب الربح فيه، إذ أن الكثيرين يرون أن من مصالحهم أن يودعوا أموالهم أو ما يسمونه أرصدتهم في بنكٍ من البنوك التي تدفع فائدة سنوية عليها، فيجد أن ماله يتضاعف، ويجد أن ماله يتكاثر، وهو قابع قاعدٌ في بيته، لا شك أن هذا سحرٌ يغري كثيراً من ضعفاء الإيمان واليقين من الذين لا يرعون أمر الله ونهيه، يغريهم بأن يتعاملوا بأموالهم على هذا الشأن.
ولا شك يا عباد الله! أن أسلوب التعامل بالمال على هذا النحو يوقع المجتمعات في كارثة اقتصادية، إذ أن شأن هذا النوع من التعامل يجعل الأغنياء يتضاعفون غنىً، ويجعل الفقراء يزدادون فقراً إلى فقرهم، ومسكنةً إلى ضعفهم، وحاجةً إلى متربتهم، وبعد ذلك تنشأ الطبقية، وتنشأ الثورات والقلاقل في المجتمع؛ لأن المجتمع حين ذاك ينقسم إلى قسمين أساسين: طبقة أصحاب الأموال وهم الأغنياء، وطبقة الفقراء وهم الكادحون، وكلكم يعرف أن الثورة البلشفية والثورة الفرنسية نشأت وكان من أهم أسبابها آنذاك يوم أن انقسم المجتمع إلى هذه الطبقات الكادحة وتلك الطبقات الغنية.
إذاً: فأمر الربا خطيرٌ جداً في شأن المجتمعات، نسأل الله جل وعلا أن يقينا مصارع أهل الربا وأن يبعدنا عنه، وأن يقينا من التعامل به، إنه على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير.(216/2)
أثر الربا على أموال المرابي
ثم لنتأمل الآية التي تليها في قول الله جل وعلا: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] فأي شيءٍ بعد أن محق الله الربا؟ ولا يغرنكم رؤية أصحاب الربا في قصورٍ فارهة، أو مراكب وثيرة، أو في أماكنٍ عالية، فإن شأنهم إلى الذلة، وإن شأنهم إلى الصغار، وهي سنة الله لا تتبدل ولا تتحول، ولن تجد لسنة الله تبديلاً بقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276].
فالربا يمحق الله سبحانه وتعالى أهله، ويمحق مشاريعهم، ويمحق استثماراتهم، ويمحق كل شيءٍ جعلوا الربا سبيلاً إلى النماء فيه، وإننا لنرى في هذه الأيام كثيراً من الذين غرتهم المادة، وأحبوا أن ينطلقوا بالمال يمنةً ويسرة، فاقترضوا من البنوك -باسم المشاريع- بالربا أموالاً آلت نهايتهم إلى الانكسار، فترى الواحد منهم يعيش أعظم الدَّين وأثقله على كاهله بسبب عمالةٍ لم يدفع رواتبها، وبضاعةٍ تأخر تسديد قيمتها، وبسبب أعمالٍ لم ينجزها، وما ذلك إلا لأنه بدأ من حرام، بدأ من سحت، بدأ من شيءٍ لعنه الله ولعنه رسوله، فكيف يرجى لرجلٍ يريد بنياناً شامخاً أن يعلو بنيانه وهو قد أسسه على شفا جرفٍ هار فانهار به إلى الدمار والهلاك؟! وإن لم يتب فسينهار به إلى نار جهنم عياذاً بالله من ذلك.
كلكم ترون كثيراً من الذين وقعوا نتيجة هذه المصائب والانكسارات المالية، لو دققتم في شأنهم لوجدتم أن كثيراً منهم استدانوا بالفوائد والربا، واستدانوا بما يسمى بنسبة الفائدة، أو بما يسمونه بالتسهيلات، وما هي والله إلا عين الربا الذي لعنه الله ولعنه رسوله، ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، عياذاً بالله من حالٍ ملعونةٍ كهذه.
معاشر المؤمنين: إذاً فلنعلم أن خطورة الربا ليست على الأفراد وحدهم، وإنما هي على المجتمع، ومن ثم تنقلب هذه المشاكل بلاءً ودماراً على الأمة.(216/3)
فتح باب التوبة للمرابي ووعيده إن لم يتب
ثم الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:278] نداءٌ ربانيٌ كريم لطيف بالعباد، {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] فمن كان يدعي الإيمان وينتسب إلى الإسلام فلا حق له أن يقيم على الربا، ولا يجوز له أن يتعامل به، والله جل وعلا يناديهم أولاً بهذا الأسلوب اللطيف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] في ذلك فتحٌ لباب التوبة، ونداءٌ إلى العودة والأوبة {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] وإن لم تنزجروا، وإن لم تتوبوا وتعودوا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
وبعد هذا التهديد ما ظنكم بحرب الله على العباد الذين يتعاملون بالربا؟! أتظنونها حرباً كحرب البشر؟! إنها حربٌ على العبد في ليله ونهاره، إنها حربٌ على العباد في أمنهم وأوطانهم وأبدانهم وأموالهم وذرياتهم وكل شيءٍ يتعاملون به، ولا يغرنكم أن تروا مرابياً يتعامل بالربا وهو يعيش عيشة الأثرياء أو الأغنياء، فإن الله جل وعلا يمهله ثم إذا أخذه أخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، أخذه أخذةً تكون العبرة لغيره، نسأل الله أن يجعلنا من المعتبرين، وألا يجعلنا من الذين يعتبر بهم.
{وَإِنْ تُبْتُمْ} [البقرة:279] عودةٌ إلى فتح باب التوبة، وهي مفتوحةٌ إلى يوم القيامة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، مفتوحةٌ للعبد قبل أن يغرغر وقبل أن تصل روحه حلقومه: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ليس لكم إلا رءوس أموالكم، أما ما تنامى وتضاعف فما هو إلا زَبدٌ وجُفى فإنه ليس لكم، فإنه ليس من مكسبكم، فإنه ليس من مطعمكم.
ثم الله جل وعلا بعد ذلك يقول خطاباً لطيفاً: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فيه ربطٌ بهذه الآيات، وشأن الذين يتعاملون بالربا الذين إذا استدانوا أو أدانوا أحداً من الناس مبلغاً من المال فإذا حل الأجل قالوا له: إما أن توفي وإما أن نربي عليك المال، أي: تتضاعف الفائدة عليك، أي: يتضاعف الربا عليك، فالله جل وعلا نبه المؤمنين ألا يتعاملوا بالربا ابتداءً، وألا يتعاملوا به بعد حلول الأجل، إذ أن من الناس من يكون في بداية أمره سليم النية، يحب أن يوسع على غيره من إخوانه، فيقرضهم مبلغاً من المال، فإذا حل أجله وضاقت المماطلة به نتيجةً لقلة ذات يده، فإنه قد يعرض عليه هذا الأمر، فيقول: أؤجلك أو أنسئك إلى عامٍ قابل بشرط أن يتضاعف المال كذا وكذا، فهذا عين الربا الذي نهى الله جل وعلا عنه، وهو ملعون آكله وملعونٌ موكله وكاتبه وشاهديه.
ثم بعد ذلك حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص هذه الآية، هي أنه صلى الله عليه وسلم جاء عنه: (أنه لعن آكل الربا) أتظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن توجهت لعنته على أكلة الربا، أتظنونهم يسلمون في مآلهم وحالهم؟! لا والله إن لم يتداركهم رب العباد بتوبةٍ صادقةٍ نصوح، وإقلاعٍ عن هذا الأمر.
معاشر المؤمنين: كلكم تعلمون أن خطر الربا عظيم، وأن شره جسيم، وأنه سحت: (وكل جسمٍ نبت من سحت فالنار أولى به) أعيذكم ونفسي بالله من الربا، نعوذ بالله من سخطه، ونعوذ بالله أن نأكل من الربا من قليله أو كثيره، وإن كنا في زمانٍ كما جاء في الحديث: (يأكل الناس الربا، ومن لم يأكله فإنه لن يسلم من غباره) نسأل الله أن يتجاوز عنا، وأن يتوب علينا، وأن يمن على الذين يتعاملون بالربا بالهداية، وأن يعودوا إلى رأس مالهم لا يظلمون الناس ولا يُظلمون.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(216/4)
ضابط حاجة الربا وإنظار المعسر
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، الحمد لله له على إحسانه، والشكر له على تفضله وتوفيقه وامتنانه، الشكر لله على نعمةٍ في أبداننا، وأمنٍ في أوطاننا، وأرزاقٍ في أموالنا، له الحمد سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكل محدثةٌ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
معاشر الأحباب: الزموا جماعة المسلمين، ألا وإن من لزوم جماعة المسلمين أن نشهد وأن نحضر الصلوات معهم في المساجد جماعة.
عباد الله: كلكم سمعتم هذه الآيات البينات التي لو لم يرد في شأن الربا إلا هي لكانت زاجراً، ولكانت شيئاً يكف فاعل الربا أن يتعامل أو يستمر فيه، ولكانت مانعاً لمن سولت له نفسه أو همت أن يقترض بالربا أن تكون زاجراً ومانعاً له من التعامل فيه.
معاشر الأحباب: لا شك أن كثيراً من الناس يؤولون بعض أحوالهم، ويؤولون بعض ظروفهم، فيقولون: إن الحاجة أو أن الضرورات تبيح المحرمات، وعند ذلك يتوجهون إلى أي جهة تقرضهم بالربا، فهذا لا يجوز، وما نوع هذه الحاجة التي يدعونها؟ أهي حاجةٍ حقيقية؟ أتدرون ما هي الحاجة التي تبيح المحرمات؟ إنها مقدار حاجة يسيرة تدفع عطش الموت بشربةٍ ولو كانت من خمر، وتدفع شيئاً من الجوع الذي يؤدي إلى الهلاك بأكلةٍ ولو كانت بشيءٍ قليلٍ جداً من الميتة أو الحرام حتى تندفع الحاجة.
أما الذين يريدون أن يستثمروا أو أن يتمولوا، وبعد ذلك يتوجهون إلى من يقرضهم بالربا، فإنهم ليسوا بحاجة، وإن ادعوا أن مشاريعهم ستسحب منهم، أو أنهم لا بد أن يكسبوا هذه الفرصة، فهذا تحايلٌ وهذا جهلٌ، والله جل وعلا عليمٌ بالسرائر والظواهر.
فالله الله يا معاشر الأحباب! لا يجرنكم هذا الأمر إلى ذلك، وينبغي لمن كان له حقٌ على مدينٍ معسر وهو يعلم إعساره ألا يضطره إلى أن يقترض بالربا؛ لأن ذلك خطرٌ عليك، وقد يكون هو السبب في أنه اضطره إلى أن يقترض بالربا، ومن هنا جاءت الآية: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] لأن كثيراً من الناس إذا حل له شيءٌ من حقه على معسرٍ من المعسرين لا يبالي بأي وادٍ هلك ما دام يمشي، ولا يقنعه أو يريح ضميره إلا أن يودعه داخل السجن، فما يفعل السجن به، هل السجن يعطيه مالاً؟ وهل السجن يصنع له نقداً؟ إن هذا لا يجديه في قليل أو كثير، وإن صاحب الحق إذا أوقف أو أودع غريمه في السجن لا يزداد إلا أن يتأخر ماله، ولو تركه حراً طليقاً يجمع المال من هنا وهنا، ويقسط ما استطاع عليه من المال، فإنه بذلك ينال ثواب أنه أنظره إلى الميسرة، ورحم عسره، ورحم فقره وحاجته، ويكون بذلك قد نال حقه على التراخي وعلى المهلة، ويكون من الذين ينالون الأجر والثواب؛ بأنه أنظره من حال العسرة التي هو فيها.(216/5)
بيع العينة وصور تخرج منه
معاشر المؤمنين: كثيرٌ من الناس حينما تحل عليه الحاجة، أو يتوجه عليه حلول الدَّين فإنه يتوجه إلى مكانٍ يتورقون الناس فيه، ومسألة التورق تعرفونها جيداً، يسميها بعض العامة بالوعدة، أو يسمونها بالدِّينة، وهي مسألة التورق في حقيقتها، ولها صور وأشكال شتى، فينبغي لمن أراد أن يتعامل بهذا النوع منها أن ينتبه لكي لا يقع في الحرام بحيلةٍ من محللٍ دخل طرفاً في هذه العملية، أو بحيلةٍ من صاحب المحل الذي باعه بضاعةً معينة، ثم اشتراها منه في نفس الوقت في نفس الساعة ودفع له قيمةً أقل منها، ألا وإن ذلك هو ربا العينة الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا تبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فينبغي لمن توجه للتعامل بهذا الأمر -لحاجةٍ ماسةٍ به- أن يتعامل به في حدودٍ مشروعة.
ولعل أنقى الصور وأوضحها: أن تشتري بضاعةً إلى أجل، ثم بعد ذلك تحوزها إلى رحلك، ثم تبيعها إلى من شئت من الناس، بسعرها أو بأقل منه أو أكثر، بشرط أن لا يكون هناك حيلة من صاحب المال أن يرسل أحداً يشتريها بقيمةٍ أقل منها، أو أن يكون هناك اتفاقٌ مسبق أن تشترى منك هذه البضاعة بدخول طرفٍ ثالث في هذه العملية.
ولعلَّ من صورها التي يجوز للناس أن يتعاملوا بها: إذا كان الإنسان محتاجاً إلى سيارةٍ معينة، أو محتاجاً إلى مالٍ معين أن يتوجه إلى أحدٍ من الناس، فيقول له: إني بحاجةٍ إلى سيارة، أو بحاجةٍ إلى سلعة، أو بحاجةٍ إلى كذا، فتوجه معي إلى مكانها فاشترها بسعرها، فإذا اشتراها وحازها وامتلكها وكتبت باسمه قال: أنا أشتريها منك بعد ذلك مؤجلةً ولو ازداد شيئاً من المال مقابل نسبة الأجل، فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
أما ما يتعامل به كثيرٌ من الناس، ويتحايلون على الله، والله جل وعلا هو الذي يعلم السرائر والظواهر، فكيف يسلمون من هذا الشر، نسأل الله جل وعلا أن لا يحوجنا إلى ذلك، اللهم لا تحوجنا إلى تورقٍ، أو إلى دينٍ، أو إلى رباً.
ولا حاجة لمسلمٍ في الربا؛ لأنه يعلم أن ما عند الله أحب إليه من ذلك، وأن قَدَرَ الله مهما عظم أرحم به من أن يقع في الربا، وأن فرج الله مهما تأخر فإنه أقرب إليه من أن يتعامل بالحرام.
نسأل الله جل وعلا أن يوفق الجميع إلى ما يحبه ويرضاه.
سمعنا في هذه الخطبة قول الله جل وعلا في آيات الربا، من آخر سورة البقرة، ولقد جاءت آيةٌ في سورة آل عمران تنهى المؤمنين أن يتعاملوا بالربا، وهو الربا المضاعف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] وتوعد من فعل هذا بالعذاب الشديد، نسأل الله جل وعلا أن ينجينا من الربا، وألا يجعل له سبيلاً إلينا في مآكلنا ومشاربنا ومعاملاتنا.
عباد الله: من يتقي الله يجعل له مخرجاً، ما ضاقت على العبد ضائقة فلن يجد فرجها إلا فيما أحل الله له، وإن كثيراً من الناس قد يتعامل بطريقةٍ نزيهة حتى يأتيه من يهون عليه أو يسهل له أمر الربا فيقترض بالفائدة، وبعد ذلك يعود هذا المال القليل نسبةً إلى البوار والهلاك والخسارة في ماله الكثير كله، وبعد ذلك يتوجه الدَّبور عليه في كل أمرٍ من أموره، ولا غرابة فإن الحرام ممحقٌ للبركة، نسأل الله جل وعلا أن ينجينا من الربا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ونسائنا ضلالاً وتبرجاً وسفوراً؛ اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أذهب سمعه وبصره وعقله، واجعله عبرةً للمعتبرين وعظةً للمتعظين بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم بطانةً صالحة، اللهم ارزقهم بطانةً صالحة، اللهم جنبهم بطانة السوء، اللهم ما علمت في أحدٍ خيراً لهم فقربه منهم، وما علمت في بشرٍ شراً لهم فأبعده عنهم، اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم ارفعهم ولا ترفع عليهم، اللهم سخِّر لهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، وقربهم إلى من تحبهم وترضى عنهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً قضيته، ولا مريضاً إلا شفتيه، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا مديناً إلا قضيت دينه، ولا معسراً إلا حللت عسره، يا فرج المكروبين، يا نصير المستضعفين، يا إله الأولين والآخرين، فإن أمرك سبحانك يا حي يا قيوم بين الكاف والنون، وتقلب العسر إلى يسر، وتقلب الضيق إلى فرج، وتقلب الكرب إلى سرورٍ وراحة بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم لا تدم على مسلمٍ ضائقة، اللهم لا تدم على مسلمٍ كربة، اللهم من كان مكروباً في دَين نسألك اللهم يا حي يا قيوم، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا من كان مكروباً في دَين أن تفرج كربته، وأن تفك عسره، وأن ترزقه من واسع فضلك، وأن تغنينا وتغنيه بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، وأغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر نبينا محمدٍ، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه واشكروه على نعمه واشكروه على ما تفضل به عليكم يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(216/6)
الربا [2]
إن المسلم العاقل عندما يسمع عظم الإثم الواقع على من يقع في الربا ليحجم ويقلع ويتوب إلى ربه عز وجل؛ لأن الضرر لاحق به في دنياه وآخرته، ومن لم يقلع عنه فإنه محارب لله ورسوله، ومن ذا يحارب ربه ونبيه ويفلح؟! ومن علم أن الله حرم الربا فلا يغره ما يتحدث به رجال -وإن تصدروا للإفتاء- من القول بجوازه؛ فإنه محاسب على فعله.(217/1)
عظم الإثم الواقع على المرابي
الحمد لله الواحد بلا شريك، والقوي بلا نصير، والعزيز بلا ظهير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا للإسلام، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل ما سألناه أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من اتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
معاشر المؤمنين: مر الحديث بنا في الجمعة الماضية عن الربا، وأن خطره عظيم، وأن شره جسيم، وسمعنا ما ذكره الله جل وعلا في كتابه الكريم من الآيات الواردة في شأن الربا وفي شأن الذين يأكلونه لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذين تتخبطهم الشياطين صرعى من الجنون، وأنهم ممحوقو البركة فيما يأكلون ويشترون ويفعلون بهذا المال الذي هو من الربا، وأنهم مؤذنون بحربٍ من الله ورسوله إن لم يقلعوا عنه.
ولقد جاء في السنة النبوية شيءٌ كثيرٌ وكثيرٌ جداً في شأن هذا الربا، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات -أي: المهلكات- قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) أرأيتم كيف عَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وجعل صاحبه مع أهل الموبقات المهلكات.
وروى النسائي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت الليلة رجلين آتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دم فيه رجلٌ قائم، وعلى شط النهر رجلٌ بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر يسبح فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجرٍ في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت ما هذا الذي رأيت في النهر؟ قالا: آكل الربا).
وروى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) ألا وإن في هذا الحديث لنذيرٌ لمن يتعامل بالربا؛ من قريبٍ أو بعيد، سواء كان مودعاً أو مقترضاً، أو آكلاً أو مستثمراً أو موكلاً أو كاتباً أو شاهداً.
وروى الحاكم وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثٍ وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)، وروى ابن أبي الدنيا والبغوي وغيرهما موقوفاً قال: (الربا اثنان وسبعون حُوباً، أصغرها كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهمٌ من الربا أشد من بضعٍ وثلاثين زنية، قال: ويأذن الله للبر والفاجر بالقيام يوم القيامة إلا آكل الربا فإنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
وروى الإمام أحمد والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)، وروى الطبراني في الصغير والأوسط: (من أعان ظالماً بباطلٍ ليدحض به حقاً، فقد برأ من ذمة الله وذمة رسوله، ومن أكل درهماً من ربا فهو مثل ثلاثٍ وثلاثين زنية، ومن نبت لحمه من سحت فالنار أولى به).
معاشر المؤمنين: الأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ وكثيرةٌ جداً، وحسبكم بهذه المعصية الموبقة شراً وبلاءً أن اليسير منها أعظم عند الله من زِنا الرجل في الإسلام بأمه، والله إنه لأمرٌ عظيم، ولشرٌ عظيم، ولبلاءٌ عظيم.(217/2)
خاتمة أصحاب الكبائر
إن المتأمل لأحوال أكلة الربا، والمتعاطين المتعاملين به، يراهم قلقين مستوحشين، ولو خالطوا الناس بأبدانهم، والكثير منهم تنقلب عليهم أموالهم حسرةً وندامة إذ يعيش بعضهم ثرياً غنياً، لكنه مسلوب الصحة والعافية، أو مسلوب الراحة والاطمئنان، أو بعض الحواس، يرى أمواله من حوله، لا تسعفه ولا تسقيه أو تغنيه من ظمأٍ أو جوع، وهذا أشد العذاب على النفس، وأعظمه وقعاً عليها، ولقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ويسمى هذا الكتاب بـ الداء والدواء، ذكر في شأن مغبة الكبائر وعقوباتها على العبد في الدنيا، والبرزخ والآخرة ما معناه: إن من العصاة من يختم له بسوء الخاتمة بسبب معصيته التي مات مصراً عليها ولم يتب منها، وذكر منهم وأكثر فيهم أكلة الربا بأنهم في الغالب لا يسلمون من سوء المصير، وخطر الخاتمة، وذكر قصة أحدهم لما حضرته الوفاة فجعل مَنْ حوله يلقنونه الشهادة، يقولون: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فجعل يقول: ده ياز ده، هذه كلمةٌ فارسية ومعناها: العشرة بخمسة عشر، حتى مات وهو يقول: ده ياز ده ولم يتلفظ بالشهادتين أو ينطق بهما.
معاشر المؤمنين: اعلموا أنه ليس من شرط سوء الخاتمة لآكل الربا أو المصر على المعاصي أن يموت عاجزاً عن نطق الشهادتين، فأحوال سوء الخاتمة كثيرة جداً، منها: أن يموت بالفجأة، أو بسكتةٍ قلبية، أو بحادثٍ رهيبٍ مدمر؛ كاصطدام أو حريق أو غرق، أو أن يموت سكيراً مخموراً، أو تقبض روحه وهو في أحضان باغية، أو أن يقبض وينتقل إلى الآخرة وهو على معصية، أو بأي سبيلٍ من السبل التي لا يستطيع معها أن يستدرك أو يتوب من معصيته وكبيرته التي وقع فيها إلا حين أن تبلغ الروح الحلقوم، ويجئ الموت على البدن: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [المؤمنون:99] ماذا يقول؟ فيقول هو وكل مجرمٍ مصرٍ على الذنوب حينئذٍ: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] ويا هول ذلك البرزخ، وما أطوله على الكفار والعصاة والمجرمين المُصرين.(217/3)
ما يوقعه الربا بالمجتمعات من فساد
معاشر المسلمين: إن انتشار الربا في المجتمعات وشيوع تعاطيه بين الناس لنذير شرٍ بعذابٍ يحل بمن هم كذلك، كما أفادت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأولها ما سمعتموه وتعلمونه قول الله جل وعلا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: إن لم تقلعوا عن الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ومن ذا يكون حرباً لله ورسوله، وسِلماً للشيطان وأعوانه وأذنابه، ثم يطمع أن يعيش آمناً مطمئناً سليماً منعَّماً، هذا محال، وإن تُصور لبعض الناس في ظواهر أمورهم فإنما هو استدراج وإمهالٌ لا إهمال فيه، وماذا بعد الفشل والخسار والبوار من مصيبةٍ على أناس يتعاملون بالربا، بعد أن محق الله بركة أموالهم وأرزاقهم، وكل شيءٍ جعلوا الربا سبيلاً للوصول إليه، أو إلى النماء فيه.
من الأحاديث التي جاءت في عظم شأن الربا وخطورته على الأمم والمجتمعات: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه الإمام أحمد: (ما من قومٍ يظهر فيهم الربا إلا أُخذوا بالسَّنة، وما من قومٍ يظهر فيهم الرشا -أي الرشاوى- إلا أُخذوا بالرعب والقحط).
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليبيتن أناسٌ من أمتي على أشرٍ وبطرٍ ولهوٍ ولعبٍ فيصبحوا قردةً وخنازير؛ باستحلالهم المحارم، واتخاذهم القينات -أي: المغنيات- وشربهم الخمور، وأكلهم الربا، ولبسهم الحرير).
وروى الإمام أحمد والبيهقي واللفظ له: (يبيت قومٌ من هذه الأمة على طُعمٍ وشربٍ ولهوٍ ولعب فيصبحون قد مسخوا قردةً، وليصيبنهم خسفٌ وقذف حتى يصبح الناس فيقولون: خُسف الليلة ببيت آل فلان، وخسف الليلة بدار فلان، ولترسلن عليهم حجارةٌ من السماء كما أرسلت على قوم لوط، على قبائل منها وعلى دور؛ بشربهم الخمر، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات، وأكلهم الربا، وقطعهم الرحم، ولخصلةٍ نسيها الراوي).
معاشر المؤمنين: هل بعد هذا يبقى في قلب مسلمٍ إصرارٌ على التعامل بالربا؟ هل بعد هذه المصائب والبلاء وبعد هذه المخاطر يتعامل مسلمٌ بالربا أو يبقى مصراً فيه؟! وينبغي لمن وقع في ذلك أن يقلع عنه، ومن كان مديناً لأحدٍ بدينٍ من الربا ألا يرد الفائدة عليه، ألا وإنه ليس لهم إلا رءوس أموالهم لا يظلمون ولا يُظلمون، لا يظلمون ولا يُظلمون، لا يظلمون ولا يُظلمون، شرع الله وهو أحكم الحاكمين، وهو أعدل وأقسط القاسطين، سبحانه جل وعلا، ألا وإن لكل مسلمٍ يريد أن يتوب أن يقلع عن الربا وأن يرد عليه رأس ماله، ألاَّ وإنه إن راد الفائدة لمخطئ ولمجرمٌ ولمذنب، وعليه أن لا يرد شيئاً من هذا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(217/4)
حرم الله الربا ولا عبرة بالمتجرئين على الله
الحمد لله منشئ السحاب، وهازم الأحزاب، ومنزل الكتاب، وخالق الخلق من تراب، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، بيده مقادير كل شيء، وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
معاشر المسلمين: ينبغي أن نعلم حق العلم، وأن نتيقن حق اليقين أن الربا محرمٌ بجميع صوره وأشكاله، سواء ربا العينة، أو ربا النسيئة، أو أي رباً دخلت فيه حيلة محللة، ينبغي أن نعلم أن الربا محرمٌ بجميع أشكاله وصوره.
ولا عبرة بأناس وإن وضعوا العمائم على رءوسهم أو تصدروا مجالس الإفتاء في بلادٍ غير هذه البلاد، إن قالوا: إن ربا الاستثمار جائز، أو إن القروض بالفوائد على المشاريع الإنتاجية أو الاستثمارية أنه جائز، فإن الله جل وعلا حرم الربا بجميع أشكاله، وبجميع صوره، فقال جل من قائلٍ عليماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] اتركوا ما بقي الربا في أيديكم، ولو كان هناك إمكان تهاونٍ أو تساهلٍ في شأنٍ من شئون الربا لترك ما بقي في أيديهم، ولاستأنفوا كل حالٍ جديدٍ بدون تعاملٍ بالربا، ولكن الله جل وعلا تعظيماً لخطر شأن الربا وبلائه على الأنفس والمجتمعات، قال وهو أحكم القائلين: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] فهل بعد هذا يجرؤ قائلٌ، أو يفتي مفتٍ أن الربا في القروض الإنتاجية جائز؟! أو أن يقول قائلٌ: إن الحرام هو ما زاد عن الثلث، وأن الفوائد إذا نقصت عن الثلث فهي حلال؟! هذا اجتراءٌ على الله جل وعلا، واستدراكٌ على شرعه، وإن علموا بحرمة ذلك وأيقنوه، وأفتوا بخلافه، فإنهم على خطرٍ عظيمٍ بالشرك بالله، والمروق من الدين عياذاً بالله من ذلك.
ألا وإن الربا خطرٌ عظيم عليكم معاشر الأفراد، وعلى المجتمعات والدول، ونذيرٌ بالحروب والهلاك، والجوع والقحط والدمار، نسأل الله جل وعلا أن يقينا شر الربا، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه.
اللهم لا تجعل لهذا الحرام سبيلاً في أموالنا.
معاشر المؤمنين: كيف يجترئ مسلمٌ أو يطمئن باله أو يهدأ ضميره وهو يأكل من الحرام أو ينفق من الحرام، وينبت جسمه من حرام، ويعطي زوجته وأولاده أو يتصدق من حرام: (وكل جسمٍ نبت من حرام فالنار أولى به).
إنها لأعجوبة، وإنها لمصيبة، وإنه لأمرٌ غريبٌ أن يصر البعض أو يبقون على الربا، أو يقولون: نحن في ضرورة، أو نحن في حاجة، وإن لم نستدن أو إن لم نستثمر لوقعنا في ضررٍ أو في هلاك، وكما قلنا: إن الضرر هو ما تندفع به الحاجة عن الموت، أن الضرر الذي يعتبر أو يتساهل فيه شرعاً، وتنطبق فيه القاعدة الشرعية: (الضرورات تبيح المحرمات) إنما بقدر ما يدفع الهلاك عن النفس، فهل بقي أحدٌ على وشك الموت فلم يجد لقمةً إلا بالحرام أن يأكلها، عند ذلك لو أكل في مخمصةٍ من ميتةٍ أو غيرها فلا إثم عليه، أو شرب شربة خمر ليدفع الغصة دفعاً للموت فلا إثم عليه، أما أن يدعي بالضرورة لكي يستثمر أو ليحرك مصنعاً أو مشروعاً فهذا بلاءٌ وهذه مصيبةً وليست ضرورة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم من دعا إلى الربا وإلى الفتن وإلى الزلازل والمحن، اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم فاجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أدر عليه دائرة السوء.
اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وبعلمائنا مكيدة، وبشبابنا ضلالاً، وبنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم فاذهب سمعه وبصره وعقله، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، وأسوأ من ذلك يا جبار السماوات والأرض، فإنهم لا يعجزونك.
اللهم اختم بالسعادة آجالنا، اللهم اختم بشهادة أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النيران منقلبنا، ولا فيها مثوانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم خير أئمةٍ لخير رعية، اللهم قرب منهم من علمت فيه صلاحاً لهم، وأبعد عنهم من علمت فيه شراً لهم، اللهم اجمع شملهم ووحد كلمتهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وارفعهم ولا ترفع عليهم، اللهم سخِّر لهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك يا جبار السماوات والأرض يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم لا تدع لمسلمٍ في هذا المكان وغيره ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته.
اللهم يا فرج المكروبين! يا قاضي الدين عن المدينين! يا نصير المستضعفين! يا إله الأولين والآخرين! نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تقضي الدَّين عن المدينين، وألا تحوجهم إلى الربا بحالٍ من الأحوال يا أرحم الراحمين، ولا حاجة لمسلمٍ إلى الربا.
اللهم لا تدع لنا هماً إلا فرجته، اللهم اجعل لنا من كل ذنبٍ مغفرة، ومن كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافيةً، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمةً برحمتك يا أرحم الراحمين.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، نبينا محمدٍ وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(217/5)
الشباب بين الشهوة والشبهة
الشباب هم عماد الأمم؛ فبهم تحيا، وعليهم تقوم، ولما علم أعداء الله ذلك سلطوا على شباب الأمة الإسلامية ألواناً من الفساد في الفكر والعقيدة والشريعة، أو فساد الأخلاق عن طريق المجون واللهو العابث.
ولا خلاص من هذا إلا بالعود عوداً حميداً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهما قارب النجاة لكل غريق، والطريق الموصل إلى كل مرغوب ومحبوب في الآخرة.(218/1)
مقدمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأسأل الله عز وجل بمنه وكرمه وجوده وفضله وأسمائه وصفاته، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب: أن يجمعنا بكم في الجنة كما اجتمعنا في هذا المكان، وأسأله بمنه وكرمه وجوده وأسمائه وصفاته، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب: أن يجمعنا بكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأسأله بمنه وكرمه وفضله وجوده وأسمائه وصفاته، واسمه الأعظم الذي سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب: أن يبسط لنا ولكم في صلاح أعمالنا وإخلاص أفعالنا لوجهه، وصلاح ذرياتنا وسعة أرزاقنا، وعافية أبداننا إنه سميع مجيب.
أيها الأحبة! لو لم يكن في هذه المحاضرات سوى أن نعيش ساعة ونجدد العهد واللقاء ونؤكد الميثاق والولاء لله ورسوله وكتابه لكفى، ولو لم يكن في هذه المحاضرات إلا أن نجتمع على غير أهداف، إلا أن نجتمع على غير مطامع أو مصالح لكفى، ولم يكن في هذه المحاضرات إلا أن يتعلم بعضنا من بعض لكفى، ولو لم يكن أولاً وقبل كل شيء في هذه اللقاءات إلا أن تتنزل علينا السكينة، وتحفنا الملائكة، وتغشانا الرحمة، ويذكرنا الله فيمن عنده لكان ذلك كافياً، فما بالكم إذا اجتمعت هذه المنافع والمصالح في مثل هذه اللقاءات المباركة، وكيف لا يكون فيها من البركات والخيرات والذين يجتمعون في بيوت الله يذكرون الله يذكرهم الله في ملئه الأعلى، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبد بي، وأنا معه ما تحركت بي شفتاه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه).
أيها الأحبة في الله! هل تجدون كرامة أعظم وأجل وأرفع وأكرم من أنكم الآن يا معاشر الحاضرين تذكرون في ملأ الله الأعلى، أليست هذه كرامة؟! أليست هذه منقبة؟! أليست هذه منزلة؟! بلى والله.
فيا حسرة الغافلين عن هذه البركات! ويا هنيئاً للمقتنصين لهذه الفرص المباركات! أيها الأحبة في الله! في مستهل هذا اللقاء أشكر الله على ما مَنَّ به، ثم أشكر إدارة الإرشاد والتوجيه في الحرس الوطني على ما أكرموني به من شرف اللقاء والحديث إليكم والجلوس بين يديكم (فمن دل على هدى فله أجره وأجور من عمل به) كما أخص بالشكر في هذا المكان فضيلة الشيخ: محمد بن سالم الدوسري الذي كان له عناية ومتابعة طيبة في إكرامنا بهذا اللقاء المبارك.(218/2)
رسالة إلى كل غافل
أيها الأحبة في الله! حديثنا اليوم يتعلق بالشباب، وكلكم يعيش فترة الشباب أو ودعها أو يقبل عليها، فهي مرحلة لا بد أن يمر بها كل واحد منا، وفي ثنايا هذا الكلام رسالة إلى كل شاب يعيش سن المراهقة وآلامها أو يوشك أن يودعها، ورسالة إلى كل شاب صالح يسعى لإعفاف نفسه، ويدرك خطورة الشهوات والشبهات على نفسه ودينه وأمته، رسالة إلى كل شاب أطلق العنان لشهوته والزمام لنزوته ويبحث عن المخرج، ورسالة إلى كل شاب غافل لم يستفق بعد، وإلى كل مرب وأب وأم، وإلى كل من يعنيه واقع شباب الأمة، وإلى كل من يدرك أهمية العناية بالشباب، هذه كلمات وأشجان ووقفات أنثرها بين يديكم وأشنف بها أسماعكم.(218/3)
معاول تهدم في كيان الشباب
إن الغالب فيمن ترون أن الواحد منهم ذاك الرجل الذي عايش مرحلة الشباب والقوة والعنفوان والحركة والعمل، والغالب فيمن ترون هو ذاك الرجل الذي مَرَّ بالمراهقة وأدرك ما يعانيه الشباب من صراع الشهوة والشبهة، وقَلَّ أن تجد شاباً إلا وقد اعترك غمار الشهوة وركب عُبابها، فمن شَطَّ في تلك المرحلة فاسأل عنه دور الأحداث والملاحظة، واسأل عنه سجلات جنح الأحداث، واسأل المعلمين والمعلمات، ومراكز الشرط، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تجد خبراء بما يعانيه شبابنا ذكوراً وإناثاً من سعار الشهوة المتلاطم، وموج الفتن المتعالي، ورياح الشبه والمزالق الفكرية العاصفة، سيما ونحن في زمن اشتدت كربته، وعظمت فتنته، وأصبح دعاة الباطل والشهوة والشبه يجلبون بخيلهم ورجلهم على شبابنا وفتياتنا مستخدمين كل وسيلة في سبيل إيقاع الشباب وإضلاله.
من هنا كان لا بد أن نتحدث عن هذا الصدع، وعن معاول الهدم التي تهدد كيان الشباب، فلا بد من تشخيص الداء وبيان الدواء، ومعرفة العلة، وإن سقوط الشباب وانحرافهم لا يمكن أن يقع هكذا فجأة أو بين عشية وضحاها، كلا.
بل هناك أسباب ومقدمات وإرهاصات وأدواء خفية، ومكر بالليل والنهار، ومكر كبار، ومكر تكاد أن تزول منه الجبال؛ من أجل تدمير وتخريب وإفساد الشباب، حتى لا تمتلئ بهم المساجد، حتى لا تضج أصواتهم بالتكبير، حتى يشتغلوا بالفن واللهو والطرب، حتى يهتموا بكل ساقط من القول ورديء من الكلام، حتى لا يكون همهم إلا راقصة ماجنة أو ممثلة خليعة أو قصة درامية، أو سم ما شئت من السهام التي وجهت إلى قلوب شبابنا، فأصبح بعضنا يعزي بعضاً في مصاب جلل وخطب فادح حينما نرى غاية اهتمام الشباب هو فتاة يعاكسها، أو حبيبة يواصلها، أو أغنية يرددها، أو صورة يعلقها أو أو إلى غير ذلك، وقُل ما شئت.(218/4)
انحسار الهمم عند الشباب
إن من أعظم الفجائع على الأمة: أن ترى الشباب انحسرت لديهم الهمم بعد أن كان شباب السلف الصالح أمانيهم عظيمة، أحدهم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ربيعة -صحابي صغير- سلني حاجتك -اطلب ماذا تريد؟ - يقول: وتعطيني يا رسول الله؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: وأعطيك يا ربيعة -سلني- فقال ربيعة: إني أريد أن أكون لك رفيقاً في الجنة).
كانت تلك هي الأماني، كانت الجنة ومجاورة النبي في الجنة، والجلوس في مجلس صدق عند مليك مقتدر، ولقاء الصحابة في الجنة، كانت تلك أعظم الأمنيات، وكانت أرقى الغايات، والآن سل شباب الإسلام عن أمانيهم: أحدهم يتمنى أن تكون الراقصة الفلانية حبيبة أو حضينة أو عشيقة أو زوجة له، والآخر يتمنى أن يصور ولو للقطة أو لحظة مع ذاك الماجن أو ذلك اللاهي، والآخر يتمنى أن يعيش ساعات أو أياماً في مكان العهر والفساد والفجور.
ما الذي غير الأحوال؟ ما الذي قلب الأماني؟ ما الذي فعل بالشباب هكذا؟ هل باتوا أبراراً فأصبحوا فجاراً؟ هل أصبحوا صالحين فأمسوا فاسقين؟ هل كانوا مهتدين وفجأة انقلبوا ضالين؟! لا وألف لا.
إنه كيد ومكر كبار وعمل دءوب، وتلك مشكلة عباد الله الصالحين؛ أن أعمالهم آنية، وردود أفعالهم مخفية، وتصرفاتهم غير مدروسة بخطط مستقبلية من أجل إصلاح واقعهم ومجتمعاتهم ودعوتهم، أما أهل الشر والباطل فيخططون مخططات بعيدة المدى، ربما لعشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة قادمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم إنا نشكو إليك جلد الفاسق وضعف الثقة! أيها الأحبة! إن أمراض الشباب إن تركت دون علاج وقضاء مبرم كان الهلاك كما قال القائل:
وللمنية أسباب من السقم
وإن لم تبين توضح هذه الأمراض وهذه الأخطار والسهام التي تخترق الشباب وتختلف عليهم ذات اليمين وذات الشمال أوشكوا أن يقعوا فيها جاهلين بأنها أمراض معدية وسموم خبيثة مؤذية.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
قضيتان خطيرتان: الشهوة والشبهة هي أس القضايا في شأن الشباب، وهي الداء العضال الفتاك الذي أخذ يسري في شباب الأمة الإسلامية على فترة من الجهل والمغريات، وفترة بدأت فيها غربة الدين تستحكم، والشباب يتأرجح بين الأمرين، وكثير من الصالحين في حيرة وغفلة، وبعضهم انقاد به الأمر إلى التجافي والعزلة، فالشباب إن سلموا من شبهة غامضة لم يسلموا من شهوة جامحة، وبعضهم إن سلم من الفتن الفكرية فلن يسلم من الإغراءات الجنسية العصرية.(218/5)
إعصار من الشبهات يعصف بالشباب
الشباب اليوم بين طامتين وداهيتن: بين رياح عاصفة من الشبه الفكرية، وأمواج من الشهوات المتلاطمة.(218/6)
كيف اخترقت الشبهات صفوف المسلمين
الحق أن أهل الإسلام -ومنهم الشباب على وجه الخصوص- لم يؤتوا ولم تتسور جدرانهم ولم تخترق بيوتهم إلا من طريق استطاع أعداء الله إحسان استعمالها، وهي: ما يورده الأعداء من التشكيك، ومحاولة هز ثقة الشباب بدينه ومعتقده، ومحاولة فتنته عن دينه عقدياً وفكرياً.
وهذه القضية يجيئون عليها بوسائلهم المتعددة، ويسوقونها فتن تلو الفتن وشبهات تلو الشبهات، ويؤمها أذناب الغرب وأذيال الاستعمار من أهل العلمنة والحداثة والتفرنج الذين هم للفساد دعاة.
ولعل هذه الحرب؛ حرب الشبهات الحرب الجهرية تتمحور في الآتي: لاحظوا وتأملوا الكلام الكثير حول الدعوة إلى زمالة الأديان، وتقارب الأديان، وتحاور الأديان، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صفحة من التوراة تغير وجهه وقال: (يا بن الخطاب أومتهوكون فيها وأنا بين أظهركم، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وإن الله عز وجل قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فالذين يكتبون عبر بعض الصحف، أو يتكلمون عبر بعض القنوات، أو يطنطنون في بعض الإذاعات بالمقولة التي أول من أثارها وشب أوارها وأشعل فتيلها طائفة من المستشرقين، وتبعهم بعض الأذناب حول قضية تزامل وتقارب وتجمع الأديان، تلك مصيبة من أعظم المصائب.
كان الناس فيما مضى إذا رأوا كافراً استحضروا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] فيرون نجاسة متحركة، لئن كانت النجاسة يؤنف منها وهي رابضة قابعة منزوية فإن قلوب المسلمين فيما مضى كانت مليئة بالولاء للمؤمنين مليئة بالبراء من الكافرين، فإذا رأوا كافراً رأوه عذرة ونجاسة متحركة إلا من ندر فيمن لم يؤذ مسلماً ولم يخطط لتدميره وإيذائه، فذاك إن عاملوه عومل بنية دعوته، ونية إصلاحه، ونية تأليف قلبه، لا بنية حبه أو الثقة بما عنده.
أما الآن وفي ظل هذه الدعوة التي كما قال الأول: "اكذب الكذبة ثم رددها مائة مرة يصدقها الناس ويرددونها آلاف المرات" في ظل هذه الدعوة الخطرة أصبح كثير من الشباب يسأل ويحاور ويناقش أليس اليهود إخواننا؟ أليس النصارى إخواننا؟ ألسنا جميعاً أهل كتاب؟ لماذا هذه العداوة؟ لماذا هذه الفرقة؟ لماذا هذا الانفصام؟ لماذا لا نعيش في ظل السماء وفوق سطح الأرض على حب ووئام؟ وهكذا يقول من يقول: لم لا يحتضن الهلال الصليب؟ لما لا تمتد الأيادي بالمصافحة؟ لم ولم ولم؟؟!! والله لو قيلت الكلمات البراقة والجمل القشيبة ليل نهار فإننا متمثلون قول الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]، {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:217]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء:89].
مهما قلنا عن تقارب وتزامن وتحاور الأديان فإن مسألة الولاء يجب أن تبقى يقظة حية في النفوس، لأننا إذا أضعفنا المناعة تجاه الكفار، ويقابل ذلك الهوة التي تزداد توسعاً في شأن الولاء مع المؤمنين والمسلمين؛ أصبحنا بذلك لا يهمنا كثيراً ما يحل بالمسلمين، ولا يؤذينا ما يفعله الكافرون، وذلك عين التبلد، ومنتهى الجمود، وغاية ما يتمناه الأعداء.
إن أعداء الإسلام لا يمنعونكم من أن تدفنوا قتلاكم، وتداووا جرحاكم، وتسقوا الظمأى والعطشى، وتطعموا الجياع، وتكسوا العراة، لا بأس أن يكون دوركم يمتد إلى هذه الدرجة، أما أن يكون دوركم ابتدائياً إيجابيا فاعلاً لا رد فاعل؛ فإن ذلك أمر يأباه أعداء الإسلام، فماذا نقول إذاً في شأن أمة الإسلام وفي شأن المسلمين إذا كان مبدأ الولاء أخذ يضعف في ظل الدعوة إلى الزمالة والتقارب وغير ذلك؟! إن هذه القنوات الفضائية التي تُصدِّر كثيراً من هذه الأفكار الخطرة والتي يجهل كثير من الناس خطرها على نفسه وعلى أهل بيته لتصب سماً زعافاً من هذا القبيل فمن الذي يَحذر؟ ومن الذي ينتبه؟ ومن الذي يدرك أن وراء الأكمة ما رواءها؟ البعض يعجبه حوار ورأي ورأي آخر واتجاه معاكس، ولا يعلم أن وراء القضية مخابرات يهودية، ولا يعلم أن وراء القضية من يسعى لصياغة العقل العربي والفكر المسلم حتى يعيش في ظل هذه الحوارات وفي ظل هذه الخيارات لا أن يستقل بنظر مستقل؛ ليس بالضرورة أن يوافق هذا أو يوافق هذا.
إننا نخشى أن نفقد الاستقلال بالرأي، وأن نتحول إلى حرية في ظل خيار محدود، فليست حرية مطلقة بل هي حرية في ظل خيار بين أمرين، أما أن تختار ثالثاً فذلك هو الذي لا يريده لك مقدم هذه القضية، أو الذي يحيلها أو يدير حوارها.(218/7)
ترديد الآراء المذهبية الشاذة
أيها الأحبة! ومن المخاطر التي سلطت على الشباب في باب الشبهات: ترديد الآراء المذهبية الشاذة والمرجوحة في بعض القضايا الخطرة.
بعض المسائل تطرح في حوار، ثم بعد ذلك يأتي شيخ اجتهد فأخطأ، أو رجل قصد له أن يجيء ليعلن قولاً مرجوحاً شاذاً من أجل أن يضلل الأمة، وليقول للناس هذا ليس بصواب، وهذا ليس بحق، وهذا لا ينبغي.
وعلى سبيل المثال: حينما يطرح على مجتمعنا هذا قضية كقضية الحجاب من خلال هذه القنوات الفضائية، ونحن نعرف أن السمت الغالب الظاهر في نساء بلادنا هذه هو تغطية الوجه، ثم يأتي من يطنطن على هذه القضية: لم لا تلبس المرأة حجاباً يكتفي بتغطية الرأس ويبرز الوجه ويكشفه، لم لا نعطي المرأة حقها أن تتنفس الهواء الطلق، لما لا نعطي المرأة حظها في أن ترى الحياة كما هي، غير ملزمين لها أن تلبس نظارة سوداء، لم ولم؟؟ إلى غير ذلك.
ما هي النتيجة؟ إن أخطاراً فادحة تنذر بشؤم مقبل إذا ألقت المرأة حجابها، حتى وإن تكلم من تكلم وقال ذلك رأي فيه خلاف أو مسألة فيها نظر، نحن لسنا بصدد الراجح والمرجوح، ولكن مادمنا الآن نعيش طمأنينة وراحة وستراً وانسجاماً في ظروف حياتنا في ظل هذا الحق، فلم نعيد طرح المسألة بأسلوب الغرض منه هو هدم الإسلام والتشكيك في تعاليمه.
حينما تطرح مثل هذه القضايا ويقال: أميطي الحجاب، ألقي الحجاب، اتركي الحجاب، دعي الحجاب، النتيجة لن تقف عند ذلك، والمراد لا يقف عند ذلك، وإنما أن تزول تلك الحواجز التي أوجدها الإيمان متمثلاً في الحياء والخشية والمراقبة، وتعظيم حرمات الله عز وجل؛ فإذا زال الحجاب اضطربت هذه النفوس، وضعفت هذه الحواجز، وكثر التماس، وحينئذٍ لا تسل عن ضلال الأمة وهلاك المجتمع.(218/8)
شبهه تدار حول وضع المرأة الاجتماعي
إن من أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن تجد أناساً يجدون أنفسهم في منتهى السعادة والطمأنينة والعز والتمكين والرفاهية، ثم يأتي من يتسلط عليهم فيقول: لا.
لا.
أنتم قد حرمتم النصف الآخر في المجتمع حريته في أن يتنفس الهواء الطلق، أنتم منعتموه في أن يرى الحياة كما هي، أنتم أجبرتموه أن يلبس نظارة سوداء.
وكل هذه العبارات التي يراد منها إسقاطاً نفسياً على المرأة لتقول: أنا مظلومة، أنا معقدة، أنا محبوسة، أنا مهلكة، أنا معذبة، أنا تعيسة، لم تمشي هذه المشية وأنا لا بد أن أمشي في العباءة؟ لما تخرج هذه في هذا الوقت وأنا لا بد أن أتقيد بوقت في الدخول والخروج؟ لما تصافح هذه وتكلم وتحدث وتناقش وتحاور من شاءت وأنا لا أحدث إلا ذوي محارمي ولا أتكلم إلا في ظل علاقات محدودة، وإن تكلمت مع غيرهم لا يسمح لي حتى بالضحك أو القهقهة أو اللين أو الخضوع في القول؟ حينئذٍ يتحول ما نرجوه من صحة المريض إلى جرم نرتكبه، ويتحول ما نخشاه على المريض من سقم إلى أمنية ينبغي أن نشجع المريض عليها، هل رأيتم أحداً يقول: لماذا أعيش في هذه الصحة والعافية وأين الطريق إلى المرض والسقم والبلاء والهدم؟! ذلك ضرب من الجنون.
وقس هذه القضية على هذا المثال لتعلم أن الذين يطنطنون حول قضايا المرأة يريدون بها في ظل طرح الشبهات أن تكسر جدار الحياء، وأن تلقي جلباب العفاف، وأن تتحول فيما بعد إلى سلعة رخيصة يصل إليها من أرادها.
إن من الصعب اليوم على كثير من الناس أن يحدث امرأة مباشرة إلا بحجة وبرهان، كأن يكون قريباً أو محرماً أو لسبب شرعي، لكن إذا حرصنا على إزالة مثل هذه الأمور فحينئذٍ يمكن الحديث مع المرأة لأي سبب ولأتفه سبب وبدون سبب، وتلكم يا عباد الله من أعظم الأمور خطراً وضرراً.
ونحن بحمد الله عز وجل في هذه البلاد وما نراه من حرص وعناية من عامة المسلمين فيها وولاة الأمر فيها على ألا يضطرب الأمر، فإننا ينبغي أن نعقد الأكف والخناصر على أن نتواصى على التأكيد على هذه المسألة، أن نكرس الاهتمام والرعاية والعناية لجانب الحجاب حتى لا يلقى الحجاب تحت الأقدام بحجة أنه مسألة تاريخية، وقضية في عصر حجري مضى وانقضى، وقد آن للفتاة أن تخرج بدون ذلك.(218/9)
طرح المسلَّمات للنقاش والحوار
من صور ومحاور تضليل الشباب عبر الشبهات: طرح قضايا العقيدة والمسلمات للحوار والقبول والأخذ والرد.
وتلكم من أعجب العجائب، حينما يأتي أحد ويقول: تعال يا فلان ما اسمك؟ فتقول: اسمي فلان بن فلان بن فلان، أنت على يقين على أنك ولد فلان بن فلان وجدك فلان وأبوك فلان؟ نعم، يقول: نريد أن نضع هذه القضية للبحث، هل فلان ولد شرعي أو ابن زنا؟ هل أبوه لقيط أم دعي أم نسيب؟ هل أمه زانية أم فاجرة أم طاهرة؟ هل يقبل أحد أن يوقف بين الملأ ويقال: تعال يا فلان نسألك عن اسمك وأصلك ونسبك؟ هل أنت ابن زناً أو ابن شرعي؟
الجواب
لا.
أما مسائل العقيدة ومسائل الدين حتى ولو جاءت من الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تطرح للحوار، ما رأيك فيما قاله الله؟ ما رأيك فيما قاله رسول الله؟ هل يجوز لأحد أن يقول رأياً بعد قول الله؟! أو أن يطرح رأياً بعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(218/10)
شبهة عمل المرأة
من محاور الضلال والشبهات التي تطرح من أجل إفساد الشباب والشابات: قضية عمل المرأة ومسألة مشاركتها الرجل في ميدان العمل.
لماذا نحصر العمل للمرأة في إطار زوايا محدودة جداً ولا يمكن أن نوسع مجالات العمل؟ نحن عندنا قواعد وضوابط شرعية، وإن الله الذي خلق المرأة هو أدرى بما ينفعها ويضرها، ولذا جعل في كتابه وسنة نبيه الضوابط التي تكفل تحقيق الاستفادة من جهدها مع الحفاظ لها وعليها.
لسنا نخاف على المرأة فحسب، بل نخاف من بعض النساء، ونخاف على بعض النساء.
فمسألة عمل المرأة إذا كانت المرأة محتاجة لهذا العمل أو احتاج إليها المجتمع، وأمكن أداء ذلك في وضع لا يخدش حياءها، ولا يعرضها للفتنة، ولا يعرض الرجال إلى الفتنة بها، ولا يضيع مسئولياتها وواجباتها التي هي أهم من كل شيء بعد طاعة الله عز وجل، فحينئذٍ لا يقول أحد بمنعها، أما أن ننادي بأن نجعل المرأة مع الغادين والرائحين، وفي وجه الزائرين والمودعين، وأمام الذاهبين والآيبين، فذلك أمر نعلم من خلاله أنه شر يراد بالمرأة.
إذا بني ضرجوني بالدم من يلقى آساد الرجال يكلم
شنشنة نعرفها من أخزم
الذي يقرأ خطط العلمانية في إضلال الشعوب وحرب المجتمعات الحرب المخملية الباردة، وليست حرب كروز ولا حرب الصواريخ ولا الطائرات، بل حرب الوتر والطبلة والحفلة والرقصة والكأس والفجور والعهر والفساد، حينما تجدون مثل ذلك يتوسع فيه أبناء أمة غافلين عما شرع الله وما أمر الله منساقين وراء الشهوات؛ فاعلموا أنهم يعيشون مرحلة من الحرب ذات المحور القائم على الشبهات ولا حول ولا قوة إلا بالله.(218/11)
الحرية الشخصية وآثارها السلبية بين المسلمين
أيها الأحبة! من المحاور التي تقوم عليها حرب الشبهات على الشباب والشابات: قضية: الحرية الشخصية.
هل تعلمون أن منظمات حقوق الإنسان تناقش بلادنا هذه وتقول: إن من حق الإنسان أن يغير دينه، ولا يحق لكم أن تدخلوا في هذه القضية فهي مسألة حرية شخصية لا يجوز لأحد مهما بلغت سلطته أن يتدخل فيها.
وتقف هذه البلاد وقفة محمودة مشكورة من خلال حوارات جادة انتهت إلى الرفض التام المطلق لمثل هذا الطرح، ولكن لا يقف أمر وضع مسألة الحريات عند حد، فإذا كانوا يبحثون مسألة تغيير الدين وأنها قضية حرية شخصية بحتة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) ليقام عليه حد الردة وهم يقولون: لا، ما الذي ينبني على ذلك؟ أن ما دونه من الأحكام قابل أن يكون حرية شخصية، تشرب خمر أو لا تشرب فهي قضية شخصية بحتة ليس لأحد أن يتدخل فيها، تزني أو لا تزني فهذه مسألة حرية شخصية ليس لأحد أن يتدخل فيها، ترابي أو لا ترابي مسألة حرية شخصية أيضاً، تسافر أو لا تسافر فهذه مسألة حرية شخصية.
إنا لله وإنا إليه راجعون، نحن لله عبيد يتصرف فينا، نحن مُلكه ونحن عبيده، وليس للعبيد أن يتصرفوا حتى في أنفسهم إلا وُفق ما يراه مالكهم، ونحن ملك الله وعبيد الله، والله الذي خلقنا، والذي خلقنا شرع لنا ما يسعدنا فأمرنا به وحرم علينا ما يضرنا فنهانا عنه، ثم يأتي من يقول: لا.
نحن لسنا لله ولسنا إليه راجعون، وليس له فينا أمر ولا نهي، قضيتنا مسألة حرية شخصية ليفعل كل بنفسه ما يشاء، تتحجبين أو لا تتحجبين قضية شخصية، تعاكسين أو لا تعاكسين قضية شخصية، تتبرجين أو لا تتبرجين قضية حرية شخصية، بل وعلى العكس من ذلك نجد حتى الذين في بلاد الغرب قالوا بأن هذه المسائل مسائل شخصية.
نعم.
هي مسألة حرية شخصية في التبرج والزنا والخنا والدعارة والعهر والفساد لكن في الحياء والعفاف فليس بحرية شخصية؛ لأن فرنسا والتي انطلقت منها الحملات الصليبية، التي رفعت لواء حرية الإنسان تبيح العُري لمن أراد أن يسير عارياً، وفي أوروبا قانون يبيح للنساء في الصيف إن أرادت إحداهن أن تمشي سافرة الثديين فلا حرج عليها، وما بقي في محل النزاع والحسم لدى أبناء القردة والخنازير إلا قضية: هل يسمح لأحد أن يسير في الشارع مبدياً عورته المغلظة أو لا؟ أما ما فوق فمسألة قد حسمت بأنها حرية شخصية.
وإن أمة الإسلام لعلى خطر، وتجد هناك من يكتوي بنار مثل هذا الطرح، فتيات مغربيات لبسن الحجاب في بعض المدارس -والقصة مشهورة- فقامت قائمة فرنسا، وأصدر مسئول كبير من هناك قراراً وأمراً بفصلهن من المدارس.
أين الحرية؟ حرية التبرج ممكنة وحرية العفاف محرمة، حرية السفور جائزة وحرية الحياء ممنوعة، إذا أخذنا نستلم هذه الحرب دون أن ننبه ونتناصح ونذكر، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21]، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] ونطرح هذه القضايا ونحذر مجتمعنا وإلا فيوشك أن يقع بعض المسلمين وإن كان في قناعات داخلية أو ممارسات علنية يبدونها علانية حينما يودع أحدهم حدود بلاده.
أيها الأحبة! قضية الحرية الشخصية لا يريد أحدهم فيها على نفسه سلطاناً من دين أو عرف أو عادة أو تقليد، تطرح كل هذه الشبهات في حين فترة من أهل العلم، وفي حين إعراض كثير من الشباب عن العلم الشرعي، وهجر للكتاب والسنة، كل ذلك يغلف بأغلفة زاهية براقة ناهيك عن قضايا السياحة والرياضة والفن التي استطاعوا من خلالها التقرب بل الوصول إلى الشباب المسلم من خلال هذه القنوات التي أشعلت في الناس سعير الاهتمام بهذه المسائل.(218/12)
حرب تطحن برحاها المسلمين
(مونديال) القرن المنصرم انظروا كيف نقلته كل وكالات التلفزة الفضائية إلا من رحم الله وقليل ما هم، والقنوات الفضائية تتابعه خطوة خطوة، لحظة لحظة، وجموع المهجرين والمشردين والمجروحين النازفة دماؤهم من كوسوفا لقطات تلو لقطات في بعض الأحيان والمناسبات، (مونديال) القرن لا بد أن يغطى، جنازة ديانا لا بد أن تغطى بالتفاصيل، أما حقيقة ما يفعل الصرب بالمسلمين فإنما تستطيع نقله أو ما تنقله بعض القنوات هو مرحلة ما بعد الاغتصاب وما بعد سحب الهوية ومصادرة الأموال والوثائق، وهي أن تصور لنا طوابير من المهاجرين والمشردين والعجائز والشيوخ والأطفال وأصبح حال المسلمين كما قال القائل:
ضج الأنين من الأنين وطغت تباريح السنين
وازور وجه الحق يخجل من نواح المسلمين
الحقيقة الصريحة تزوار من هول ما يقع بالمسلمين اليوم.
والأم تعصر ثديها ألماً على هذا الجنين
والزوجة ترقرق دمعها دمع الحزين
والشيخ مل الانتظار على طوابير الطحين
جاء المنصر والمبشر لا يمل ولا يلين
ويباع أبناء العقيدة في المزاد بكل حين
من يأخذ هؤلاء الأطفال إلى كندا؟ أرسل سبعون طفلاً وسجلتها المفوضية العليا للاجئين، وكأنها بشارة ونعمة وكرامة أن يطرد من داره بعد أن غصبت أخته وقتلت أمه وقتل أبوه وفعل ما فعل بهم ودمرت داره، ومر بالمسغبة واللأواء والشدة والنصب، كأنها كرامة أن رحل خمسين أو سبعين طفلاً إلى كندا، من يأخذ هؤلاء؟ إلى جوتن بيرج أو السويد؟ من يأخذ هؤلاء إلى لندن؟ وهكذا يباع أبناء الإسلام وأبناء العقيدة في المزاد بكل حين.
ونظل نلهو لا نبالي أن نكون الغافلين
والكافر المشئوم يسعى أن يفوق المشتري
لأن المقصود تهجير المسلمين وتشتيتهم.
نحن على قناعة أن الحرب الدائرة بين كافر وكافر، ونحن يسرنا ما نراه من إيلام وإيذاء وفتك كافر بكافر، ولكنهما يتفقان على تهجير المسلم وضياعه وتشريده، هذه قضية لا يختلف فيها اثنان عاقلان، لقد شرد المسلمون من فلسطين وهم في التيه من (1948) إلى الآن، أكثر من سبعين سنة، ولو شئت أن تقلب حجراً في أي نحو من أنحاء الأرض لوجدت هناك فلسطينياً مشرداً، ليست القضية أن نُؤَمنّ له أكلاً وسكناً وشرباً، القضية أن يعود ليعبد الله بحق وصدق على أرض الله عز وجل، وذلكم الذي لا يريده أعداء الإسلام.
ويباع أبناء العقيدة في المزاد بكل حين
ونظل نلهو لا نبالي أن نكون الغافلين
أموالهم يا أمتي سلبت بلا حق مبين
ودماؤهم يا إخوتي سفكت على حقد دفين
وتودع الأم الجنين إلى بلاد الكافرين
وتُكفكف العبرات حّرّا بين جمع الحاضرين
سأراك أو قد لا تراني بعد موتي والأنين
فإذا رجعت إلى بلادك بعد كرات السنين
فاسأل تجد قبراً ستعلم أنه قبر حزين
والموعد الجنات ميعاد العبيد الصابرين
هذه المأساة مرت بالمسلمين في أفغانستان، والصومال، وطاجكستان، وكشمير، والبوسنة، والشيشان، وتمر بالمسلمين الآن في كوسوفا، ويقول الدكتور مانع الجهني في برنامج (دين ودنيا) في حلقته الأخيرة يقول: والدور القادم على السنجق.
الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي عضو مجلس الشورى لما سأله أحد السائلين: أين أنتم لم تخبرونا عن وضع المسلمين ولم ولم ولم، فرد عليه قائلاً: لقد قلنا مراراً أن مصيبة المسلمين والكارثة سوف تحل بالمسلمين في كوسوفا يا عباد الله! أغيثوهم سلحوهم أعطوهم التفتوا إليهم، فَقَلَّ أن ترى سامعاً ومجيباً، إلى أن جاءت الكارثة {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143].
لما رأينا الموت حالاً بهم، هل عرفنا أن عند المسلمين مشكلة في كوسوفا، يقول الدكتور مانع: والدور القادم على السنجق، لماذا؟ الجواب أقوله: إن الكفر لا يرضى بإقامة دولة مسلمة على أرض أوروبية أبداً، ممكن أن يشرد المسلمون ويبنى لهم مسجد في أي مكان، يفتح لهم أنشطة معينة، لكن كتلة مجتمعة يوشك أن تبث فيها روح العقيدة والدعوة والإيمان لتتحول إلى مجموعة مسلمة تختط نظاماً، إذا كان الغرب يؤمن بقضية الأغلبية فحينئذٍ الخطر أن تكون هناك أغلبية مسلمة تطالب وتشرع دستوراً معيناً في ظل ما تعتقده من كتاب الله وسنة نبيه، ثم يفرض كيف؟! هذا جنون! هذا في أوروبا يحكم دين وكتاب وسنة؟! ما يمكن هذا.
أيها الأحبة! وكل هذه الحروب؛ حروب الشبهات تغلف بأغلفة زاهية براقة من أجل الوصول إلى الشباب، وصدق الله العظيم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].(218/13)
حرب الشهوات واجتياحها لصفوف الشباب
الأمر الثاني من الحرب المسعورة التي يجلد الشباب جلداً بسياطها، هي حرب الشهوات والفتن والمغريات.
وتلك نقطة الضعف، ومحور الخور الذي يتساقط الشباب أمامه، ولئن كان كثير من الشباب ربما يسلموا من فتن الشبهات فغالبية وجل وعظمى الشباب لا يسلمون من الشهوات، ذاك أن الشاب مظنة الشهوة، وموئل العنفوان والنشاط والتحرك الغريزي؛ وإن لم يحاط الشاب بسياج الدين وصمام التقوى -ذكراً كان أو أنثى- كانت الفادحة أكبر؛ لأن الشهوة قنبلة لا بد أن تنفجر، والإسلام لا يدعها تنفجر مدمرة نفسها ومن حولها، بل أوجد لها مصرفاً عن طريق الزواج الحلال، واللقاء المشروع مع المرأة، فإن لم يكن هناك هذا الزواج، فإن الإسلام كفل لها ألا تنفجر عن طريق سد ذرائع الفحشاء وتحريم النظر ومنع الاختلاط، كل ذلك حفاظاً على هذه الطاقة المتأججة والقوة الجامحة.
ومشاكل الشباب لا تعدوا كونها نتيجة حتمية الظهور لهذه الشهوة العارمة في قلب الشباب وجسده، فأنت ترى بسبب الشهوة إهداراً للوقت، وتفاقماً للمشكلات بسبب الشهوة عن طريق الحب والغرام, وعشق الصور والهيام، وفي هذا إهدار لمشاعر الشباب وأحاسيسه، وأنت ترى الشاب والفتاة يستفرغ الواحد منهم وقته وسائر يومه جرياً ولهثاً وراء المرأة والفاحشة، وأنت ترى استفراغ فكره وهمه في التفكير للوصول للمرأة أو الحرام، وهو لا يزال في شقاء ومشقة وألم، والشيطان يسول له حياة الحب واللقاءات.(218/14)
أحوال من اجتاحتهم الشهوة
تقول فتاة في رسالة كتبتها: أنقذوني وأسعفوني! كيف أتخلص من مشكلة المعاكسة أو ما تسميه بالحب الزائف؟ تقول: إنها تقضي أكثر من ثلاثة عشر ساعة في أوقات متفرقة على سماعة الهاتف.
وآخر يقول: لا أستطيع أن أذاكر درساً أو أؤدي واجباً أو أقوم بعمل لأن غالب وقتي مع هذه السماعة، أعاكس هذه وأحدث هذه، وأواعد هذه، إلى غير ذلك.
ويعدون أنفسهم بجنان وقصور من الحب في ظل الهيام والشهوة الجامحة، وصدق الشاعر:
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل وقت مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق
وهذا الذي أشغله الحب -فتى كان أو فتاة- يحمل قلباً لا بد أن يملأه، فإما أن يملأه بحب ومرضاة الله ورسوله، وإما بما يسخط الله ورسوله، وهو خيار الفرد وطريق واحد، فليختر الشاب والفتاة واحداً من الطريقين، وتالله لقد صدق ابن القيم رحمه الله إذ قال:
حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
إذا أردت محبة الله ولذة الإيمان فلن تحصل ذلك حتى تطهر قلبك من محبة ما يسخط الله من العشق الحرام والفكر والهم الحرام، إنك إن تعلقت بغير الله فلن تجد لذة الإيمان وحلاوة الطاعة.
وإني أسائل كل شاب وكل فتاة: من أي الأصناف أنتم؟ هل امتلأت قلوبكم وقلوبنا بحب الله ورسوله، أم امتلأت بما يسخط الله ورسوله؟ نسأل الله أن نكون الأول ولا نكون الثاني.
أيها الأحبة! يقول صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) أتريدون الجنة؟ أتريدون داراً فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري والترمذي: اضمنوا لي اثنين، ما بين الرجلين وما بين الفكين، اللسان والفرج (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
فهل ضمنت لسانك عن اللهو والباطل والغيبة والنميمة والكذب والزور والحرام حتى تضمن لك الجنة؟ وهل حفظت فرجك من الزنا واللواط ومقدماته وما حوله حتى تضمن لك الجنة؟ لو جاءك مسئول كبير أو رتبة عسكرية عالية وعندك موضوع من المواضيع وقال لك اترك الموضوع إلي، دع القضية عندي أنا أضمن لك هذا الموضوع، ويأتيك أحد يريد أن يعطيك شيئاً من السعي، يقول: أنا سأدبر لك هذا، سوف أساعدك، سأفعل لك، تقول: يا حبيبي فلان بن فلان بمنزلته وجلالة قدره وعلو شأنه قد ضمن لي هذا الأمر فلا أحتاج إليك ولا إلى أشكالك، فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم يضمن لك الجنة إذا أنت حفظت ما بين لحييك لسانك، وحفظت ما بين رجليك فرجك.(218/15)
خطر الانسياق وراء الشهوات
وإن الانسياق وراء الشهوة أمر خطير جداً وعاقبته العذاب، فالذين يدعون مع الله إلهاً آخر، والذين يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، والذين يزنون يقول الله تعالى عنهم: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70] ورجع إلى الله عز وجل وأناب واسترجع وصدق في توبته، {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قيل: ثم أي يا رسول الله؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك).
أيها الأحبة! إن الذين ينساقون وراء الشهوات والواحد منهم لا يفكر إلا متى تستوي نبتة شهوته حتى يخطف سعيرها ولا أقول ثمارها، غير سائل وآبه ومبال بما يكتنف ذلك من فضيحة وعار وخزي وسخط، وشهود الله له وملائكته الكرام الكاتبين، والأرض تحدث أخبارها، وظلم المعصية يعلوه، وكل شيء شر يقترفه، وتختلف عليه الأمور، وارجعوا إلى كتاب ابن القيم الداء والدواء، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ذكر أربعاً وسبعين علة وشؤماً وخطراً لمن أمعن وارتكب المعاصي غير نادم ولا تائب ولا مقلع عنها.
أقول: إن الانسياق وراء الشهوات وعدم محاسبة النفس للحد والوقوف والرجوع والإنابة إلى الله عز وجل والإقلاع عن ذلك لسبب الخزي والعار في الدنيا والآخرة، والعذاب المهين يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا على مثل التنور فإذا به لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، فسأل عنهم فقيل: الزناة والزواني) رواه البخاري.
إن الذين ينساقون وراء الشهوات يعاقبون بعقوبات عاجلة وآجلة، فلا تسأل عن الأمراض الجنسية بألوانها وأنواعها، وذاك مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجة والحديث صحيح.
أيها الأحبة! ومصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر فيما نسمع به، عافنا الله وإياكم ويكفيكم من شر سماعه من أمراض جنسية اخترمت الأبدان في بلاد العهر والإباحية من الهربز والإيدز والسيلان والزهري والأمراض النتنة والنجسة، نسأل الله السلامة والعافية.(218/16)
ما تجلبة الشهوات للإنسان من عواقب
إن الذين ينساقون وراء الشهوات ينسون أن الجزاء من جنس العمل، وأن الذي يطلق لنفسه العنان في الشهوات تضعف عنده الغيرة على المحارم والحرمات، فتراه ضعيف الغيرة الأمر الذي ربما جلب لنفسه شراً ينتهي به إلى أن يفعل في داره ما يفعل في دور الناس، أو ألا ينكر ما يفعله من حوله لينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في ما وقع فيه مع محارم الناس، وصدق الشاعر إذ قال:
عفوا تعف نساءكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان القضا من أهل بيتك فاعلم
من يزنِ يزنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
من قد زنى يوماً بألفي درهم في بيته يزنى بغير الدرهم
والله إن شاباً جاء ذات يوم بعد صلاة الفجر وأمسك بي سائلاً يقول: إني في حيرة وشكوك لا أول لها ولا آخر، في شأن زوجتي وجدت غرائب في حقيبتها، ورأيت أموراً لا أقطع بها في الفاحشة ولكنها لا تبرئها من الاتهام، فقلت له: أسألك بالله! هل أنت عفيف عن محارم الناس؟ فأطرق برأسه وقال: لا.
أيها الأحبة! إن مشكلة الشهوات تبدأ بإطلاق اللحظات والعاقل يحفظ نفسه.
قال رجل لأحد أهل البادية: إذا وطيت الجني قل بسم الله قال: لا توطئ الجني ولا تسمي.
يعني: بعض الناس يقول: أنا أتفرج أفلام ومسلسلات وو إلى غير ذلك، ولكن إذا انتهيت فعلت وفعلت وفعلت مما أحاول أن أحافظ به على نفسي، نقول: يا أخي الحبيب! ما كل مرة تسلم الجرة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:24 - 25].
أيها الأحبة! كثير من الشباب قد انتصب كانتصاب الإمام في المحراب أمام الشاشة والتلفاز والقنوات الفضائية متابعاً للأفلام الساقطة، ولكل ما يؤجج الشهوة، مما تعرضه مجلات الخنا والفساد، وأشرطة التكسر والمجون، وكل ذلك يتعامل مع مشاعر ضعيفة، ومع نفس قد استوطنها الشيطان، وتربع الوسواس الخناس في قلب صاحبها، وحجب سمعه وبصره وقلبه ولبه وفكره عن أن يتدبر الحق، وأصبح في هذه الحال من الضلال والانسياق وراء الشهوة؛ بسبب عدم غض البصر وإطلاق اللحظ والنظر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
يضر خاطره ما سر ناظره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
هل كل ما اطلعت عليه استطعت عليه بالحلال؟ كل ما نظرت إليه غالبه لا تستطيع عليه حلالاً ولا حراماً وإن قدرت عليه فبالحرام، أما من أراد الحلال فالطيبون للطيبات والطيبات للطيبين.
وأنا الذي جلب المنية طرفه فأنا المحاسب والقتيل القاتل
أنت تطعن ولكن في صدرك، وأنت ترمي السهم ولكن لفؤادك، وأنت تلوح بالبندقية ولكن في جوفك وبدنك.
فيا مسكين لا تحطم نفسك بنفسك.
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فيا شباب! الله الله في حفظ الأبصار، وإياكم والخلوات الطويلة والفراغ والوحدة.(218/17)
دور الفراغ في تأجيج سعير الشهوات
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
إن الفراغ من أهم البواعث على الفساد، حين يبقى الشاب والفتاة وحيدين خاليين يستسلم أحدهما أو كلامها للخواطر والأفكار، يسعى الشيطان لإمساك الزمام، يقودهم للتفكير حيث الخيالات التي لا تحدها جوازات ولا يفتش عليها جنود أو شرط، خيال محرم في الشهوة واللذة، ثم يبدأ الأمر فتنتقل الفكرة من الخيال إلى الخطرات، ومن الخطرات إلى الخطوات، ومن الخطوات إلى العزائم والأفعال.
ولو لم يكن في ذلك إلا أن ينساق الفتى أو الفتاة وراء عادة بليدة رخيصة رقيعة تسبب بلادة الذهن، وفتور الهمة، وذهاب المروءة، وضياع الجرأة لكان ذلك كافياً، ثم قبل ذلك وبعده هي من التعدي وابتغاء وراء ما شرع الله عز وجل.
ويا أيها الفتى ويا أيتها الفتاة! الصديق الصديق، والجليس الجليس، والرفيق الرفيق، إن الأصدقاء يصلح بعضهم بعضاً، ويفسد بعضهم بعضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) رواه الترمذي.
كم من شاب كان من أهل الروضة؛ روضة المسجد والمحراب خلف الإمام لا تفوته الصلوات الخمس أصبح لا يرد المسجد إلا لماماً ونزراً يسيراً، لماذا؟ الصديق! كم من فتاة كانت لا تدع عند خروجها قفازها وحجابها وقبل ذلك وبعده حياءها، فأصبحت الآن تنافس وتباري وتتباهى بالتبرج والسفور، من الذي غيرها وأفسدها؟ صديقة عرضت لها الفجور والفساد في ثوب كلمات رقيقة، في ظل همسات خبيثة حتى أوقعتها في شهوة نتنة ضالة مضلة.
وهؤلاء سيقول أحدهم أو سيقولون يوم القيامة: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28 - 29].
إن من يخالل أحداً يختار لنفسه أن يحشر معه يوم القيامة، أتحب أن تحشر مع الذين يقومون يوم القيامة كالذي يتخطبه الشيطان من المس فعليك بأهل الربا أحِبهم، من أحب قوماً فهو معهم، أتريد أن تحشر يوم القيامة مع الفجار والفساق خالطهم في الدنيا واجعلهم أحبابك وخاصة جلسائك، واجعلهم ممن تتمنى ألا يغيبوا عن لحظك ومجلسك فترة، ستحشر معهم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يحلق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب يوم القيامة).
وجاء رجل يقول: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت كثير عمل، لكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت يوم القيامة).
فالشاب والفتاة إن شاءوا أن يحشروا مع الأبرار والأخيار والأطهار والصالحين والصالحات فعليهم أن يلزموهم وألا يبرحوا مجالسهم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
أيها الأحبة! لئن كان الإيمان غطاه شيء من الران وصدأة القلوب ببعض الذنوب، وأصبح القلب قاسياً بسبب ألوان المعاصي فإن الله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].(218/18)
دعوة للرجوع إلى الله
التوبة التوبة، الرجوع الرجوع، الإنابة الإنابة، نحن الآن قادرون على الركوع والسجود ودخول المساجد وعمل والصالحات: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
الفرصة متاحة وممكنة وميسورة، بادر:
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان
أيها الأحبة! إنني أقولها نصيحة وإشفاقاً ومحبة لإخواني الشباب، وشفقة ورأفة بأخواتي المسلمات، ألا ننجر وراء الشهوات، وهب أنك تَعُبُّ من الشهوات عَبَّاً، ويصب لك من كأس الشهوة صباً، وتعاقر ما تشتهيه نفسك بالحرام ليلاً ونهاراً، أليست الشهوة منقضية؟ أليست اللذة فانية؟ بلى.
ولكن الإثم باق.
ألست إن جاهدت نفسك على طاعة الله ومرضاته أليس تعب الطاعة ينسى؟ بلى.
والثواب باق.
إن أهنأ عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حلْ
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقُلِ الفصل وجانب من هزلْ
ودع الذكرى لأيام الصبا فلأيام الصبا نجم أفلْ
إن أهنأ عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جللْ
شربنا لعبنا غلطنا غفلنا سهرنا سافرنا، انتهى.
ألا نتوب، ألا نرجع، ألا يكفي ما مضى؟
خلي ادكار الأربع والمعهد المرتبع والضاعن المودع وعد عنه ودع
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا ولم تزل معكتفا على القبيح الشنع
إلامَ تسهو وتني ومعظم العمر فني فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع
أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط ومن يلح وقت الشمط لثوبه فقد نعي
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] النذير الشيب، إذا علا لحيتك أو رأسك أو رأيت شعرات بيض قد بدأت تخالط سواد شعرك فاعلم أن النذير يندب ما بقي من زمنك، وينبئك بالرحيل، ويقول لك: استعد.
الفرصة الممكنة أصبحت أقصر مما مضى، انتبه! التفت!(218/19)
راقب الله تنج من معاصيك
ثم أخي الحبيب! راقب واعلم أن من أسماء الله عز وجل: السميع، البصير، الحفيظ، الرقيب، الخبير، العليم، وكلها تدل على أن الله مطلع وشاهد، وأن الله لا تخفى عليه خافية، فاستحي، استحي، استحي من الله.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:8 - 10].
أيها الأحبة! لنعلم أننا ما عصينا الله إلا بنعمه علينا، المشلول لا يمكن أن يتسور الجدران، السارق يعصي الله بقدميه، المعوق لا يمكن أن يطعن أحداً ظلماً، لأن القاتل يستخدم نعمة اليد في طعنه وعدوانه وبغيه، والأصم الأبكم الذي لا يبصر لا يمكن أن يزور ويختلس أو يشهد زوراً؛ لأن الذي يشهد الزور ويزور ويختلس لا يمكن أن يعصي إلا بنعمة السمع والبصر واللسان، فلنشكر نعم الله عز وجل، ولنعلم أن هذه النعم تنفعنا وتحفظ لنا بإذن الله عز وجل بقدر ما نسخرها في طاعة الله سبحانه وتعالى، ويعفو ربنا عن كثير، ولنعلم أن جوارحنا هذه التي نلذذها ونمتعها بالمعاصي هي شاهدة علينا، ليست لنا بل شاهدة ضدنا، يقول صلى الله عليه وسلم وقد ضحك، فسأل عن سبب ضحكه، فقال: (عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول: يا رب وعدتني ألا تظلمني فيقول الله تعالى: أوليس كفى بي شهيداً وبالملائكة الكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيقول العبد: يا رب إني لا أقبل على نفسي شهيداً إلا من نفسي، فيختم الله على فيه -على فم العبد- وتتكلم أركانه بما كان يعمل؛ فينطق لسانه، وتتكلم يده وفرجه ورجله -كل هذه تتكلم- فيقول العبد: بعداً لكن وسحقاً عنكن كنت أناضل) رواه الإمام مسلم.
أيها الأحبة! هذه الجوارح وهذه النعم التي في أبداننا حقيق بنا أن نجعلها في طاعة الله ومرضاته: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون َ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:20 - 22].
أيها الأحبة! لا يستطيع أحد أن يفعل معصية مستخفياً خلالها عن جوارحه وعن نعم الله في بدنه.(218/20)
أحسن اختيار جليسك
وخاتمة المطاف: الجليس الجليس، فإنه إما أن يقودك إلى خير وإما أن يغويك إلى شر، وعليك بالدعاء، تضرع إلى الله عز وجل، تضرع إلى الله سبحانه وتعالى، وألح على الله كما ألح يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنََّ} [يوسف:33] فاستجاب الله دعوته فصرف عنه السوء، وصرف عنه كيدهن وفحشهن، وأظهر براءته على لسان الملأ ورءوس الأشهاد: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51].
أيها الأحبة! إن الفتى والفتاة إذا تسلطت عليه شهوة عارمة جامحة فاستعاذ بالله وتوضأ وصلى ركعتين وقال: يا رب يا رب إني ضعيف ما لم تحفظني، إني على خطر ما لم تحصني، يا رب اصرف عني هذا الشر، اصرف عني هذا البلاء، اصرف عني هذا الكيد، فإن الله سبحانه وتعالى يحفظه ويعينه على تجاوز هذه المصيبة العظيمة.
أسأل الله بمنه وكرمه وأسمائه وصفاته، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب: أن يجعل للحاضرين والحاضرات من كل هماً فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
اللهم يا حي يا قيوم! لا تدع لنا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته بمنك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم ابسط لنا في صلاح أعمالنا، وإخلاص أفعالنا وأقوالنا، وصلاح ذرياتنا، وسعة أرزاقنا، وعافية أبداننا، واختم لنا بخير خاتمة ترضيك عنا، اللهم حبب إلينا ما يرضيك، وبغض إلى نفوسنا واصرفنا عما يسخطك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المسلمين في كوسوفا، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كوسوفا، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كوسوفا، اللهم عجل نصرهم، اللهم اهلك عدوهم، اللهم عليك بالصرب أجمعين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا على طاعتك، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم أصلح ولي أمرنا، اللهم أصلح ولي أمرنا، وولي عهده وأصلح بطانتهم، وأعنهم على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم من أراد بهم سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، ومن أراد بهم نصيحة وصلاحاً وإخلاصا ونفعاً لأمتهم ورعيتهم فقربه منهم وأعنه على الحق يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وآله وصحبه، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(218/21)
الأسئلة(218/22)
الفتور وأسبابه وعلاجه
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! أنا شاب هداني الله لطريق الالتزام منذ عشر سنوات، ولكن خلال هذه الأيام الأخيرة أحسست بالتقصير في مجال الطاعات مثل صيام التطوع، والسنن الرواتب، وصار الأمر إلى التقصير عن الصلوات المكتوبات.
فما هي نصيحتكم حفظكم الله لي ولأمثالي وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أخي الحبيب! الفتور الذي تتكلم عنه يشكوا منه كثير من الصالحين.
وما أظن ذلك إلا لأسباب أهمها: ضعف التواصل، واللقاء، لما كان الشباب حريصين على التواصل واللقاء والعمل الدعوي الذي يكفل لهم جواً إيمانياً وصلة مستمرة وتعاوناً على البر والتقوى كانت الهمم عالية والنفوس متألقة، فلما ضعف التواصل فيما بينهم، وكثرة القالة، وغلب بعض الشباب سوء الظن بإخوانه، وغاب الإعذار، ولم يعد أحد يلتمس لأخيه عذراً في أي كلمة سمعت عنه؛ أو قيلت عنه امتلأت القلوب بهذا المرض، فانعكس قسوة ظهرت آثارها على الجوارح بالطاعة والعبادة.
والواجب على الشباب أن يصلحوا أحوالهم، إننا ندعو الطيبين والمتدينين وغيرهم أن يلتفتوا لأنفسهم، لأن أمراضاً أهمها مرض القالة والقيل والقال وسوء الظن وغيبة الأعراض وقطع اللحوم وفاكهة الذوات هي التي أحدثت هذه القسوة.
ويا أخي الحبيب! اسأل نفسك ما الذي اقترفته؟ إما أنك تساهلت بإدمان أو بالتساهل في مجالسة عصاة يجتمعون على معصية الله واستمرأت هذا، أو أنك هجرت إخوانك الصالحين وقلة مجالستك لهم، تلك المجالس التي لو قيل لأحدهم بعدها أوتر بأحد عشرة ركعة لأوتر غير متردد، أما لو جلس في مجلس فسق ولهو ثم عاد إلى البيت يريد أن يوتر بركعة واحدة يعجز ويصارع نفسه ويغالبها، وذلك من عاجل دلائل بركات حلق الذكر ومجالس الخير، ومن دلائل عاجل شؤم مجالس اللهو والغفلة.
وإني أقولها وأدعو الشباب أن يجمعوا إخوانهم الذين تشردوا ليس في الخارج لا، تشردوا عن دائرة المحبة والأخوة لسبب أو لرأي أو لموقف أو لحدث أو لقضية، حتى ولو كان هذا الشاب يوماً من الأيام قال قولة أنكرناها ولم نقبلها فإن من واجبنا أن نتلطف به، ألسنا لو جاء الآن بين أيدينا شاب وقلنا: هذا أخونا الآن خرج من سجن انفرادي، زنزانة المخدرات والترويج وتعاطي الهروين.
أقول يا إخوان: الله الله عليه بالرفق واللين واللطف، لا بد أن نحتويه، لا بد أن نبين له المحبة والمودة، ولا بد أن نغض الطرف عن بعض الأمور، وأن نذكره بمناقبه ومحاسنه، وأن نذكره أن أمة الإسلام بحاجة إليه، وأن نخوفه بالله، ونذكره بقلبه الذي فيه لا إله إلا الله.
أخونا المتدين الذي قضى زمناً في التدين والاستقامة ثم زل زلة، أو أخطأ خطأً، أو ارتكب أمراً، خلاص تغسل منه اليدين بالصابون وما عاد فيه أمل يرجع ولا يمكن، حتى إن بعض الشباب لأن فلاناً يرى ذلك الرأي لا يسلم عليه ولا يقابله ولا يستضيفه ولا يقبله ولا يطيقه أبداً، هذا ضيق عطن، وضيق أفق، وعدم فهم لما تحتاجه الدعوة من سعة العلاقة بالخلق أجمعين، وتوظيف طاقتهم لنشر دين رب العالمين.(218/23)
نصيحة لمتابعي برامج تشكك في مسلّمات الشرع
السؤال
أرجو توجيه نصيحة إلى بعض الشباب الذين يعيشون على متابعة البرامج الفضائية المتعلقة بالرأي والرأي الآخر وفي القضايا الشرعية المسلَّم بها للنقاش والحوار كتحريم شرب الخمر وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الذي ينبغي للجميع أن يحفظ سمعه وبصره وعقله ولبه وفؤاده، وإن كان قد تابع أو يتابع شيئاً من ذلك لمصلحة ظاهرة راجحة، فعليه ألا يحضر مجلسه من يسمع الشبهة فتستقر في قلبه ولا يفهم الرد عليها، وربما يكون من مقاصد أصحاب البرامج هذه أن يتفننوا في عرض الشبهات وأن يتقصدوا العجز في إيراد الأجوبة، إما باختيار الطرف العاجز في المقابل، أو بعدم إتاحة الفرصة الكاملة له أن يجيب.
وإني رأيت كثيرا ً من العقلاء وإن كان بعضهم من قبل كان يتحمس بقوة في قضايا الرأي والرأي الآخر والاتجاه المعاكس وإلى غير ذلك، أصبح الكثير منهم يقول: والله ما عدت أخالها أو أظنها إلا دسيسة يهودية.
أساساً يا أخوة الـ (بي بي سي البريطانية) لمن؟ هي يهودية في الأصل، ثم كانت لها مشكلة معينة في بث عربي وفوراً احتووا الموقف وجاءوا بهذه الطريقة عبر قناة من القنوات.
فلا تظن أخي الحبيب أن كل ما يطرح هو لصالحك، ولا تتحمس، قد تسمع حواراً فيه جزئية بسيطة تنتشي طرباً حينما تسمعها لكن لا يسرك أن تجد أحداً ينتصر لجارك وهو في المقابل يريد أن يهدم دارك، فالمسألة فيها كيد ومكر كبار، وهذا مخطط رهيب لاحتواء فكري وجعل الأمة في قوقعة فكرية في ظل خيارات وهمية، كلها خيارات لا تخرج عن الإطار المرسوم في ظل هذه الحوارات.
فكثير من الشباب لا يستطيع أن يستقل برأيه يقول أحدهم: ماذا تشجع في حلبة المصارعة هذا أو هذا، ما بوسعك أن تقول، تقول: أسأل الله أن يهلكهم جميعاً، تستطيع أن تقول هذا الكلام، ليست ملزماً أن تقول: أسأل الله أن ينتصر هذا على هذا، فكذلك في بعض القضايا لست ملزماً أن تؤيد هذا أو تؤيد هذا، لكن هم يجعلونك في جو اختيار ورأي حر، ثم تظن أنك قد اخترت الرأي، وفي كلا الحالين أنت لم تخرج عنه.
مثل الأب البخيل الذي يدخل عياله في محل كل شيء بخمسة ريال يقول: ماذا تريدون يا عيالي اختاروا، أساساً كل شيء بخمسة ريال أين الخيار؟(218/24)
حكم قراءة التوراة والإنجيل بهدف الاطلاع
السؤال
ما حكم قراءة كتب الإنجيل والتوراة بهدف الاطلاع؟
الجواب
ينبغي ألا يطلع عليها إلا من تدعوه دراسته وتخصصه لذلك، أما من باب الاطلاع وغير ذلك فيكفيك حكماً على هذه الكتب ما جاء في كتاب الله، الوقت الذي تصرفه في قراءة الإنجيل أو صحف التوراة اصرفه لقراءة القرآن تزداد يقيناً وثقة واعتقاداً بالله عز وجل وكتابه ورسله وأنبيائه.(218/25)
حكم الدخول على النساء الأجنبيات
السؤال
يتساهل كثير من الناس في الدخول على النساء الأجنبيات، مثل أن يدخل الرجل على زوجة أخيه، بل إنها تكشف وجهها عنده.
فهل من نصيحة لهؤلاء؟
الجواب
نصيحتنا أن يتجنبوا مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء، قيل: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال الحمو الموت) هذا ليس اتهاماً للحمو، لكن لمظنة ما يتساهل به الناس في دعوى الثقة التي تعقب الخلوة، وطول السهاد، وقرب الوساد، وكثرة الإمساس وفقد الإحساس ثم وقوع المشكلة، فلا ينبغي أن يتساهل في ذلك.
إن ديننا الذي علمنا حتى دخول الخلاء ودورة المياه أرشدنا إلى ضوابط في معاملات الناس فلا نظن أن الدين تركنا سدى {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] إن نتمسك بهذا الدين فنحن على خير وهداية بإذن الله عز وجل.(218/26)
الاستمرار على التوبة ولو تكررت المعصية
السؤال
شاب يعصي الله عز وجل ثم يتوب، ولكنه يعود ويعصي، ثم يتوب ثم يعود ويعصي.
فما هي نصيحتكم له؟
الجواب
نصيحتي لهذا الأخ الحبيب أن يتوب إلى الله، ولو فعل ثانية أن يتوب ويندم ويفعل الأعمال الصالحة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ولو فعل ثالثاً يتوب ويرجع ويحرص ألا يجاهر: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) ويحرص ألا يهتك ستر الله عليه، قيل: (من المجاهر؟ قال: من يبيت يستره الله ثم يصبح يهتك ستر الله عليه) أذنبت ذنباً وستر الله عيك اسكت واستر، لا تتحدث تب إلى الله عز وجل، وكما ارتكبت هذا الذنب سراً فاجتهد في عبادات في السر تكون كفارة مع الحرص على العبادات والشعائر الظاهرة، واحرص على أن تجعل نفسك مع الصالحين الذين ترى بقاءك معهم بإذن الله أمان لك من الانزلاق المرات تلو المرات.(218/27)
السفر إلى الخارج للدراسة
السؤال
كثير من الإخوة يرحبون بك في ربوع الإحساء ويتمنون تكرار هذه الزيارة ومنهم هذا الأخ الذي يقول: هو طالب متفوق، ووجد بعثة دراسية إلى أمريكا لعدة سنوات، علماً بأنه يستطيع إتمام دارسته في هذا الوطن، لكن من حوله يشيرون عليه بالذهاب لأنه سوف تكون له مكانة في الوظيفة مستقبلاً فما هي نصيحتكم له؟
الجواب
أخي الحبيب إذا كنت على يقين بأن دراستك هنا تغني وتكفي وتفي بالمصلحة والغرض والحاجة فعليك أن تدرس هنا، أما إذا كانت دراستك هناك سوف تغطي مصلحة وغرضاً وحاجة يحتاج إليها المسلمون أو تحتاجها هذه البلاد وأبناؤها فإنك على خير وذهابك للمصلحة، ولكن نوصيك أن ترتب علاقتك قبل أن تذهب، وأن تعرف ما هي المدينة، وما أقرب مركز إسلامي، ومع من ستعمل، وكيف ستكون برامجك الدعوية وأعمالك الخيرية حتى تشغل نفسك بطاعة الله عز وجل ودراستك، وما سوى ذلك لا وقت للضياع أو للفراغ أو للتسيب.
إذا كان في ذهابك مصلحة ظاهرة راجحة وشيء لا تجده فنعم.
أما لو كان الأمران سيان لا يختلفان فبقاؤك هنا أولى كما جاء في سنن أبي داود قال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا ترآى نارهما) فالمكث بين الكفار فتنة، وأمريكا كما يقال هي البلاد التي ينسى فيها الغريب أهله، فتنة وغربة، أول ما يغترب فيها الإنسان لا يستطيع العودة منها، إلا من كان هم العودة والنفع والمصلحة الجادة للعود إلى بلاده ونفع أمته حاضراً بين عينيه، فلقد رأينا كثيراً ممن تساهلوا بذلك فضل أحدهم بعد أن عجز أن يجد عملاً هناك سحر عجيب وغريب، وإني كلما لقيت بعض الشباب أسألهم ما هي أسباب ذلك؟ فأسمع من الأجوبة الغرائب والأعاجيب.(218/28)
حكم مشاهدة ما يسمى بالمسلسلات الدينية
السؤال
ما حكم مشاهدة المسلسلات التي تسمى دينية والتي تعرض الأحداث التاريخية المهمة، لكن نرى في هذه المسلسلات بعض الموسيقى وغير ذلك من المحرمات؟
الجواب
أخي الحبيب: اختلط الحابل بالنابل وكلاً يدعي وصلاً بليلى، والنصوص التاريخية التي تحول إلى سيناريو وحوار ونص ومسرحية وتمثيلية وغير ذلك ما يعلم الإنسان مدى صدقها وعدم ذلك، لكن لا شك أن هناك بعض الشر أهون من بعض، هذا وارد، لكن هل نطمئن إلى ذلك؟ هل هي مصدر موثوق؟
الجواب
فيه نظر، ولا بد أن ينتبه الإنسان، فمن استطاع أن يملأ وقته وكل ما حوله بما ينفعه نفعاً صرفاً لا شك فيه فهو على خير، لكن إن قال: أنا لا خيار لي ولا حجة ولا سبيل إلا أن أخفف من الشر بمثل هذا، فنقول: إن تخفيف المنكر خير، لكن خير من ذلك بل الحق أن تنصرف النفوس إلى الوحي المعصوم من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
السؤال
ما رأيكم يا فضيلة الشيخ! إذا كان في المسلسلات تبرج النساء والتميع في الكلام مع الموسيقى؟ الجواب: منهي عن ذلك، والنهي واضح وجلي، فالسلامة لا يعدلها شيء.(218/29)
أثر الغيرة في التربية
السؤال
فضيلة الشيخ: لقد تحدثتم بالغيرة لأن كثيراً من الأولياء قليل الغيرة على نسائه بحجة الثقة فيهن؟
الجواب
يخلط كثير من الناس بين التجسس والشك والغيرة.
التجسس افتراض السوء، وسوء الظن، والتربص لانتظار الوقيعة، وأما الغيرة فهي تصرف احتياطي يحول دون سوء الظن، ويمنع الوقوع في الشر، وهو الأمر المطلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عجل الصحابة، لما قال سعد: [لئن وجدت رجلاً يعمل كذا لأخترطن سيفي وأضرب بين رجليه] قال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد والله إني لأغير منه، وإن الله لأغير مني، وإن غيرة الله أن يزني عبده أو تزني أمته).
قضايا الأعراض والقرب والدخول على النساء والاختلاط بالنساء، للأسف يا إخوان هناك ألوان من البلاء وداوهم من المصائب، أصبح بعض الشباب وبعض الرجال وبعض النساء يجلسن جلسات مختلطة وما فيها شيء، من قال لك: أننا نجتمع على زنا، وتدار الشربات والأكلات والمزاح والضحك وإلى غير ذلك، ولا تظن أن أحداً يسلك هذا النفق الخطر المظلم إلا ولا بد أن يناش من عرضه ما يناش بكلام وبنظرات وبغمز وبلمز إلى غير ذلك.
فالعقلاء يحفظون هذه الأعراض.
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد(218/30)
الدعاء ودوره في مواجهة الأعداء
السؤال
أرجو التنبيه إلى أهمية الدعاء لإخواننا المسلمين في الداخل والخارج، والتأكيد على عدم الاستهانة بفائدة الدعاء؛ لأني لاحظت كثيراً منا يكتفي غالباً بترديد ما يسمعه من الإمام، ولكنه لا يعود بالدعاء لنفسه ولا لإخوانه بدون تفكير إلا نادراً، مع أنه ربما يقبل الله دعوة رجل في لحظة ما وتكون سبباً في قصف ظالم والله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء.
الجواب
جزاك الله خيراً أنت نبهت وأوصيت، وفيما قلت الكفاية والتمام، ولكن أود أن أنبه أن المؤمن داعٍ، أي: أنه حينما يدعو الإمام في القنوت أو أحد ويؤمّن السامع فإن السامع الذي يقول: آمين هو أيضاً في نفس الوقت داعٍ، ولذلك قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89] مع أن الذي كان يدعو موسى، والمؤمّن هارون، ومع ذلك قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] فسمى كل واحد منهما داعياً مع أن موسى هو الذي يدعو وهارون هو الذي يؤمن.
فالتأمين على الدعاء دعاء، مع الحرص على ما ذكر السائل في أهمية الدعاء: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77].
يوجد حسابان في شركة الراجحي المصرفية، حساب 22 للزكاة، وحساب 33 للصدقات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وجزاكم الله خيراً.(218/31)
الشباب بين فقه الطيور والجهاد
الشباب أمل الأمة الإسلامية المتوقد في نهضتها ورفعتها وتقدمها في جميع الميادين، ومن هنا كان لا بد من التربية على الجهاد والتضحية والفداء لهذا الدين، والاعتماد على النفس بعد التوكل على الله سبحانه وتعالى، كما ينبغي ترك سفاسف الأمور والترفع عنها والتطلع إلى المعالي، ولا يتحقق هذا إلا بالعزيمة وقوة الإرادة وضبط النفس، وقد جاءت هذه المادة لتعالج مرضاً يعاني منه الكثير من شبابنا، فاقرأ تعرف.(219/1)
تأثير الجلساء والأصحاب على الفرد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الشباب أحييكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولا أود أن أطيل في المقدمة ولكن سأبدأ بثلاثة أسئلة نريد أن نستنتج منها أموراً بسيطة ميسرة.
حينما ترون شاباً يهتم كثيراً بأمور الحمام والدجاج والطيور والأرانب والإوز، وتجدونه ذاهباً آيباً لأجل البيض، وعلى رأسه كرتون مقفص عن اليمين واليسار، هذا الشاب كيف اهتم بالحمام والطيور ونحوها؟ هل هو مولود في صندقة؟ لا.
وتجدون هذا الشاب يعتبر من فقهاء الطيور، أي: فقيه، وأكبر دليل على ذلك، أنني أعرف بعض الشباب ممن يبيعون ويشترون الحمام ضاع وقته مع الحمام ومع التحويم وهلم جرا، فأسأله أقول له: ما هي أنواع الحمام؟ يقول: والله هذا نوع (قطيفي) وهذا نوع كويتي، وهذا نوع (رقيص)، وهذا نوع (مقنبر) وهذا نوع بلجيكي وهذا مصراوي.
فتجده يفقهها فقهاً عجيباً، ولو احتجت أن أدرس دراسة حتى أعرف مستوى معرفته في الطيور ما عرفت سبحان الله! ويزيدك يقول: (القطيفي) في حالات يقلب في السماء ويهوز أحياناً، وأحياناً بعضهم من شدة جودته يقلب في الصندقة، ويقلب في الخيط ثلاث أربع مرات بكل سهولة.
وإذا كان الطير عزيزاً عليك وغالياً، ولا تحب أن يفوت أو يضيع، فيلزمك شيء مهم وهو أنك تضع في الماء الذي يشرب سكر حتى إذا بعته يرجع إليك، طبعاً لا تصنعوا في الماء سكراً.
المهم -يا شباب- أنا أعجب من هذا الشاب، فلديه طاقة وموهبة عقلية، فليس بغبي، ولا تظنون هؤلاء الشباب الذين يذهبون ويرجعون أغبياء! فعندهم عقول، لكن هذا العقل تسخر في ما يتعلق بفقه الحمام والطيور، فأنا أعجب من هذا الشاب كيف اكتسب هذه المعرفة وهذه القدرة؟! هل هو مولود في صندقة أو في قفص؟ إنه مولود في بيته أو في المستشفى بقسم الولادة، شيء طبيعي، لكن من أين اكتسب هذه المعلومات؟ اكتسب هذه المعلومات بالصحبة الذين يخالطهم ويذهب معهم ويأتي معهم، كان اهتمام أصدقائه وأصحابه كله موجه إلى الطيور والحمام وأنواعها وأشكالها وطريقة (الطبة) وما (الطبة) والبيع، وكيف تولد وكيف تبيض، وهلم جرا.
تأتي إلى شاب آخر، فتجد عند هذا الشاب أحكاماً عجيبة جداً جداً في مسألة الكرة، فالكرة فيها كذلك قوانين رياضية معروفة، كم حجم الهواء الموجود في الكرة، كم وزن الكرة، وكم عدد الفريق، ومتى ينزل الاحتياطي ومتى لا ينزل، ومتى يأخذ كرتاً أصفر ومتى يأخذ كرتاً أحمر، ومتى يطرد من الملعب، ومتى يصير فاولاً، ومتى يكون تسللاً، ومتى تكون ضربة جزاء، وما حكم الوقت الضائع، وما عقوبة الغلط على الحكم، وهلم جرا، وتجد هذا الشاب عنده معلومات دقيقة جداً، فقد أجلس بجانبه وكلنا يشاهد مباراة، فهو يعرف أن هذا الهدف تسلل وأنا ما أعلم ما معنى التسلل.
حينما نجد شاباً يهتم بالحمام أو نجد شاباً يهتم بالكرة، فهذا ليس شاباً غبياً، إن هذا عنده عقل، لكن هذا الشاب الذي تفقه في أمور الرياضة وأحكام الرياضيين وما يتعلق بها، هل هو مولود في الملعب أو تربى في الملعب أو بيتهم في البوابة؟ طبعاً لا، وإنما جالس وخالط شباباً كان جل اهتمامهم الكرة والرياضة ولا اهتمام لهم سواها.
وهكذا تجد صنفاً ثالثاً من الشباب، جل اهتمامه في السيارات، فتجده يعرف كل ما يخص بالسيارات، حتى أنك لو أتيته تشكو إليه مشكلة في سيارتك قال: الأمر سهل يا أخي! ودلك على الخلل وكيف يمكن تصليحه، الشاب فقيه جداً في أمور السيارات، فهل هذا مولود في ورشة؟ طبعاً لا، إنما الذي جعله فقيهاً دقيقاً في مسألة السيارات وأصنافها ونحو ذلك أن لديه مجموعة شباب كانت اهتماماتهم الموديلات، والفرق بين الموديل الفلاني والآخر وغير هذا من أمر السيارات.
إذاً أريد أن أخلص من هذا بنتيجة: أن الذي يحدد اهتمامك واتجاهك هم صحبتك وجلساؤك وأصدقاؤك، فإذا كان جلساؤك أهل حمام فأبشر، ستحط على رأسك كرتوناً وقفصاً بجانبه، وإن كان جلساؤك وصحبتك أهل اهتمامات رياضية فستكون من فقهاء الرياضة، وإذا كانت اهتماماتك اهتمامات خاصة بالورش الصناعية فستجد نفس القضية، فإذاً ينبغي أن نعرف: المسألة الأولى: أن شبابنا في المرحلة الثانوية أو المتوسطة أو ما بعدها، أو حتى الشباب الذين يدورون في الأسواق والله ما هم بأغبياء، والله فيهم ذكاء لا يخطر على بالكم، ولكن بدلاً من أن يكون ذكاء الشاب يتعلق بمجالات عديدة، بدلاً من أن ينطلق في الاتجاهات الأربع حصرناه في اتجاه واحد ألا وهو اتجاه الكرة أو الحمام أو الرياضة كمثل من الأمثلة.
هذه مسألة.
المسألة الثانية: قلنا إن الشباب أذكياء، وليس عندهم قلة ذكاء أو قلة عقول، ولكن الصحبة المحيطة بهم بدلاً من أن تجعل عقولهم تنتشر في شتى المجالات، جعلت عقولهم تنحصر في مجال قد لا يكون جديراً بالاهتمام أو لا يكون جديراً بالاهتمام إلى الدرجة والقدر الذي بلغ به أولئك.(219/2)
احتقار الشباب للذات
أيها الشباب! إن الإنسان من هؤلاء السابق ذكرهم تجد مصيبته في أحد أمرين: إما أن يكون متكبراً متغطرساً مغروراً، وإما أن يكون محتقراً لنفسه.
أي أن عندهم مشكلتين والوسط بينهما فضيلة: إما الغرور وإما احتقار الذات، إما أن يكون مغروراً، ولا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر، وإما أن يكون محتقراً ذاته، والذي أود أن أركز عليه مسألة احتقار الذات.
شبابنا فيهم خير كثير، المرحلة الثانوية في مختلف أنحاء المملكة مليئة بالمواهب والعقول الطيبة، ولكن المصيبة أن كثيراً منهم يحتقر نفسه، وربما لو قلت لأحدهم: ما رأيك أن تأتي تدرس برمجة كمبيوتر؟ يقول: أنا لا أنفع في هذه الأمور.
ومن قال لك: إنك لا تنفع؟ ما الذي جعل الطفل الأوروبي أو الأمريكي منذ الصغر وهو يتعلم لغة البيسك والكوبول والبرمجة وما يتعلق بذلك، وأنت بهذا العقل وبهذا الحجم وبهذا المستوى تُحجم وتقول: أنا ما أنفع ولا أصلح لشيء؟ ربما أن التربية التي تلقيناها يوماً ما من بعض الآباء أو الأمهات أو الأقارب جعلتنا نحتقر أنفسنا، تجد الإنسان مثلاً يدخل عند أبيه -وأبوه عنده ضيف- يقول: هذا ولدك فلان؟ يقول: إيه يا رجل! هذا لا ينفع لا في شاردة ولا واردة، هذا ليس بكفء في أي شيء إلخ، فالمصيبة -أيها الإخوة- أن بعض الشباب ربما تلقى إهانات واحتقاراً منذ الصغر إلى درجة أن والده لا يثق به أن يشتري عنزاً، حيث تقول لأبيك: أعطني أربعمائة ريال أشتري خروفاً فلا تجد عنده استعداداً أن يثق في ولده في شراء خروف.
ويقول: أخاف أن يضحكوا عليه؛ لكن هل يعطونه بطة ويقولون له: هذا خروف؟ طبعاً لا.
وليكن أنك أخطأت أو زللت في المرة الأولى وباعوك شيئاً فيه عيب أو مرض أو نقص، فليست بمشكلة، في المرة الثانية تكون أفضل لكن مشكلة بعض الشباب إما أن يتكون لديه عقدة مبكرة في أول فعل أو أول تصرف أو سلوك كان بينه وبين والده؛ فأصبح يعتقد أنه لا يصلح لشيء، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً.
جاء إليَّ شاب يوشك أن يبكي، قلت له: تعال يا أخي! توضأ، فجلسنا في المسجد وصلى معي، قلت له: ما هي قصتك؟ قال: أبي يحتقرني، ما يراني بحجم المسئولية، لست بكفء، لدرجة أني لو أخرج من البيت؛ يخاف علي ويحسبني بنتاً لا يثق بي ولا في قدرتي الرجولية على نفسي، ولا حتى في ثقته بي أني أشتري شيئاً أو أقدم شيئاً أو أقضي حاجة للبيت.
وما زلت مع هذا الشاب في الحديث معه حتى قلت له: انظر، أول مسألة: أريدك أن تفرض لنفسك برنامجاً ونظاماً في البيت، فيعرف أهلك أن لديك نظاماً معيناً تمشي عليه.
قال كيف:؟ قلت: دعهم يعرفون عنك، أنه متى أذن المؤذن، فإنك ولو كنت جالساً تشرب معهم، ستتوضأ وتخرج تصلي.
الأمر الثاني: عودهم على برنامج معين، مثلاً: أنك بعد العصر تجلس معهم نصف ساعة أو أربعين دقيقة أو خمس وأربعين دقيقة، وبعد ذلك تنظر في ساعتك تقول: والله، انتهى الوقت أنا الآن أذهب إلى غرفتي وأبدأ أذاكر دروسي، أي أنك احترمت وقتك وشخصيتك، فحينئذ هم يحترمونك.
مسألة ثالثة: إذا جاءك زملاؤك، فليس كل من ضرب لك (البوري) قمت أخذت (الغترة) وخرجت معه.
لا، اجعل وقتاً معيناً مخصصاً للزملاء، وما سوى ذلك اجعله لقراءتك، لاطلاعك، ولثقافتك ولدروسك، ولمراجعاتك، وأخبر أهلك قائلاً: من هذا الوقت إلى هذا الوقت كل من جاءني، فقولوا له: أنا مشغول.
وكلمة مشغول يستطيع أن يقولها أي واحد منكم كما يقولها مدير دائرة أو مدير قسم.
إلا في حاجة والديك، فلا يجوز أن تعتذر بأي شغل عن حاجتهما.
المهم: حينما تفرض نظاماً، وأهلك يعرفون أنك احترمت نظامك هذا، ثق كل الثقة أنهم سيجعلون منك رجلاً آخر.
والله يا شباب من شهرين تقريباً لما طبق هذا الأمر، وأصبح أهله يرون فيه القدرة والرجولة، وأصبح يدير نفسه إدارة جيدة، تزوج من مدة شهرين، فبلغت منهم الثقة برجولته بعد أن كان كالبنت عندهم، لا يدعونه يخرج لحاله، ويخافون عليه، ولا يدعونه يشتري شيئاً، ولا يثقون به في قضاء حاجة، مجرد أن الرجل فرض إرادته وفرض شخصيته الرجولية، ولم يفرض إرادته في الإتيان بعشرة أفلام فيديو ثم جلس يتفرج عليها، ويا شغالة هات شاي، ويا سواق هات لي (فصفص) لا، إنما فرض رجولته في أعمال وتصرفات وسلوك الرجال.
منذ شهرين عرض عليه أبوه قال: تزوج يا ولدي.
طبعاً هو يريد أن يتزوج، فعمره حوالي ثماني عشرة سنة أو تسع عشرة سنة، طبعاً ضحك واستحى.
المهم أن هذا الشاب جاء إلي وأخبرني قال: الوالد عرض علي الزواج.
ما رأيك؟ قلت: رأيي أن توافق.
قال: لكن من أين أصرف عليها وماذا أعطيها؟ قلت: أنت عندك رغبة في الزواج أو لا؟ أنت رجل أو لست رجلاً، فحل أو لست فحلاً؟ قال: بلى.
أنا رجل وأريد أن أتزوج.
قلنا: إذاً وافق على الزواج وربي يطيل في عمر والدك على طاعته، وتسكن مع والدك في هذا البيت، والآن -ما شاء الله- هو في الثانوية ويخرج لدراسته، ويعود إلى زوجته، ويسلك سلوك الرجال في معاملته.
إذاً هل يفرض علينا فرضاً -يا شباب- ألا نبدأ حياة الرجولة إلا من بعد الثلاثين عاماً وما قبل الثلاثين حياة اللف والدوران ومضيعة الوقت واحتقار الذات وهوان الشخصية؟ لا، نريد أن نعرف أن لنا قدراً منذ أن نبلغ، ولذلك الإسلام جعل حد المعاملة وحد التكليف في البلوغ.
الشاب إذا بلغ عمره خمس عشرة سنة أو ست عشة سنة إذا قتل فإنه يقتل، وما جعل الإسلام حد التكليف بالحصول على الشهادة الجامعية، أو حد التكليف أن الإنسان إذا أثبت نفسه يعتبر مكلفاً.
لا، الإسلام جعل البلوغ هو دليل الرجولة، فما دمت قد بلغت، فلتعرف أنك قد صرت رجلاً مؤاخذاً ومحاسباً، فلو قتلت إنساناً ستقتل به، لا تقل: لا، ما دام أنك أصبحت بالغاً؛ فإنك تقتل لو قتلت، ولو سرقت لقطعت يدك، ولو زنيت -والعياذ بالله- فإنك تجلد.
هذه المنزلة التي جعلها الإسلام للرجل أو للشاب منذ حد البلوغ دليل على أن الإسلام يريد أن ينهض بنا وبكم من وقت مبكر، وإلا أين أعمارنا منذ أن بلغنا؟ أين ضاعت الأعمار؟ يا شباب! والله إننا نعجب أن شباب البعث الذي ينتمون إلى حزب البعث في العراق، والذين ينتمون إلى الأحزاب الاشتراكية في بعض الدول، في عمر الست عشرة سنة يعرف الرجل كيف ينتمي، ويشعر أن له انتماءً عقدياً، تجده يقول عن نفسه: أنا بعثي، وأعرف أن أفكار البعث تقوم على الوحدة والحرية والاشتراكية القومية والمساواة والعلمانية.
تجده يعرف هذه الأفكار ويدرسها منذ المراحل الثانوية، بل ويتدرب حتى على التربية العسكرية في وقت مبكر.
لماذا هذا الشاب البعثي أو الشاب الاشتراكي أو الشاب الشيعي أو الشاب أياً كان اتجاهه يعترف ويعتز بعقيدته في وقت مبكر، ونحن يا شباب الإسلام لا نعتز إلا بقصة الأسد وربطة (رامبو) و (بريك دانس) وهلم جرا؟ تصوروا في ثانويات العراق لا يدخلون الفصول بعد الطابور إلا بعد أن يمسك كل واحد الرشاش ويطلق كذا طلقة في الهواء ثم يدخلون؟ رجولة مبكرة، والآن لو نطلق طلقة كلنا انبطاح على الأرض، يتوقع المسألة فيها حرب.
إننا نريد أن نعترف برجولتنا من وقت مبكر
ويا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا!
والله يا شباب إن فيكم خيراً كثيراً، ولكن هل بحثتم عن منابع هذا الخير؟ هل حاولتم أن تكتشفوا الطاقات؟ انظروا! عندما تأتي ممثلة ساخرة سافرة، أو يأتي ممثل خليع ماجن، ويعملون معه مقابلة في أي برنامج، أول ما يبدءون معه: يا سعادة الممثل! متى بدأت تكتشف مواهبك؟ يقول: والله كان المرحوم بليغ حمدي هو الذي اكتشفني، أو كان محمد عبد الوهاب أو الموسيقار فلان هو الذي اكتشفني.
إذاً ستجد أن هذا الشاب كان طاقة، وجاء من ينقب عن مواهبه حتى اكتشف من بينها أمراً أخرجه وميزه.
فأنتم يا شباب! من تنتظرون أن يكتشفكم؟ نبيل شعيل؟ أو عبد الله الرويشد؟ من يأتي يكتشف مواهبنا يا شباب؟ إذا نحن لم نبحث ونفكر ما هي الجوانب الإيجابية في نفوسنا؟ هل عندنا حب للقتال؟ هل فينا حب للعسكرية؟ هل عندنا جوانب فكرية؟ هل عندنا رغبة في المعادلات والرياضيات المعقدة التي تجعل الإنسان ربما يصل يوماً ما إلى تطوير قانون أو حساب نظرية جديدة؟ أم تبلغ الأعمار خمس عشرة سنة، تسع عشرة، أو خمساً وعشرين، والشاب لا مواهب له ولا اتجاه ولا قدرة؟ أنت إما تكون وإما أن لا تكون، إما أن توجد ويكون لك شأن وتكون لبنة في بناء المجتمع وإما أن تكون تراباً.
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
أي: تكون من بين هذا التراب ولا أحد يعرفك، وربما يدس على رأسك وأنت لا تدري، وإما أن يقال: رحم الله فلاناً منذ صغره.
للأسف تجد من الشباب من يقول: أنا! أنا! أنا! لست بكفء في أي شيء.
حتى وإن جئت تتهمه يقول لك: لا، أنا رجل، لكن بينه وبين نفسه يقطع في أصابعه، أنا لا أصلح لشيء، بعض الشباب الذين انقطعوا عن الدراسة في وسط الثانوية ولا عمل لهم الآن عندما أجلس مع بعضهم، أقول له: يا أخي! لماذا لا تذهب إلى المعهد الملكي؟ يقول: أنا سمكري! لماذا لا تدرس في المعهد المهني؟ لماذا لا تواصل دراستك؟ لماذا لا تدخل دورة كمبيوتر؟ ادخل لك دورة معينة مهنية أو تدريبية.
تجده عنده قاعدة أنه فاشل لا يفهم ولا يعرف شيئاً.
اقتناعك بأنك فاشل، لا يفتح أمامك مجالاً للنجاح والبروز والنبوغ يوماً ما.
بادئ ذي بدء، حتى ولو لم تكن تعرف (أب ت ث ج) و (1+1) قبل أن تعرف هذه، أريد كل واحد منكم أن يعتقد وأن يقتنع أنه شيء ويستطيع أن يحقق شيئاً، وبدون هذا -أيها الشباب- والله لن نستطيع أن نثبت أنفسنا في خضم هذا الواقع، وبدون هذه القناعة بأننا رجال وأننا أكفاء ونقدر على أن نفعل شيئاً، بدون هذا لن نستطيع أن نغير في واقعنا أو نغير في أنفسنا حتى أي شيء.(219/3)
من سير شباب الإسلام(219/4)
شاب تأكله الطيور والسباع بعد استشهاده
قال أحد قادة الإسلام: دعوت الناس إلى الجهاد في صلاة الجمعة ذات يوم -من القرون المتقدمة- فجاءت امرأة وطرقت علي الباب في الليل وقالت: أيها الأمير! دعوت الناس إلى الجهاد ولا مال عندي أتصدق به، فلم أجد إلا ظفيرتي هذه، فحلقت شعري، أريد أن تجعل منها لجاماً لفرسك في سبيل الله.
انظروا! يوم أن كانت الأمة أمة، كانت المرأة تعتقد أنها تصنع شيئاً، فما بالك بالشباب والرجال؟! قال القائد: فدعوت لها وأخذت ظفيرتها وجعلتها لجاماً لفرسي، قال: فلما نزلت المعركة إذ بي أجد فتىً حدثاً يافعاً قال: ووجدت معه قوساً ونبلاً، وما شد وتر القوس إلا سقط النبل في واحد من الروم، يقول: عجبت من هذا الشاب الذي يحسن الرماية وهو في هذا العمر.
ماذا حصل؟ قال: فأشغل الروم أمر هذا الفتى، فقد تسلط عليهم بالسهام وأصبح يقتلهم واحداً بعد الآخر، قال: فلعلهم اجتهدوا في تحديد موقعه أو مكمنه، ثم رموه بسهم سقط في قلبه، فخر الفتى ميتاً، قال: فأهمني أمره وترجلت عن فرسي، وجئت إليه ونزعت السهم من قلبه، ثم حملته شهيداً في المعركة، وتوجهت به ودفنته.
قال: ثم حملته على فرسي وكررت نحو القوم، وعدت متحيزاً -الفارس لا يجوز له أن يهرب، لكن يجوز له أن يتحيز ويلف يميناً ويساراً، ويتقهقر ويتقدم، كر وفر، هذا يجوز- يقول: فعدت متحيزاً، وإذ بي أجد الفتى قد لفظته الأرض -خرج من الأرض- قال: فعجبت لشأنه! قلت: لعلي لم أحسن دفنه أو أن شيئاً من السباع جرت ثيابه، فعدت وحفرت له قبراً مرة أخرى أعمق من الذي قبل ودفنته، قال: ثم حملت على العدو وعدت متحيزاً، فإذ بي أجد الفتى قد لفظته الأرض -خرج مرة أخرى- فقلت: أدفنه مرة ثالثة ولا أعود لدفنه مرة أخرى، المعركة أمامي ولا أستطيع أن أنشغل به أكثر من هذا.
دفنه المرة الثالثة فلما حمل على العدو، وجاء متحيزاً أو كاراً مرة أخرى إذا به يجد السباع والطيور تأكل من لحمه وعظمه وما بقي منها شيء، قال: فعجبت من شأنه، ومعي مزادته وما بقي من قوسه ونباله، يقول القائد: فلما انتهت المعركة أويت إلى داري وسألت الجند: من يعرف هذا الفتى وأين بيته؛ لكي أرسل ما بقي من متاعه ومزادته إلى أهله؟ فدلوني على بيته، وطرقت الباب فإذا بامرأة ترد علي، صوتها صوت تلك المرأة التي جاءت بظفيرتها وجعلتها لجاماً لفرسي، قلت لها: أهذا ولدك؟ قالت: نعم، أسألك بالله هل تقبله الله شهيداً؟ قال: إي والله.
قالت الأم: وهل دفنته أيها الأمير؟ قال: دفنته ولكن لفظته الأرض.
قالت: ثم دفنته؟ قال: ولفظته الأرض.
قالت: ثم دفنته؟ قال: فأكلته السباع والطير، قالت: الحمد لله الذي استجاب دعوته.
ولما همت بالانصراف قال: أسألك بالله يا أمة الله! ما شأن هذا الفتى فقد أعجبني أمره وشغلني شأنه؟ قالت: والله أيها الأمير! إن شأن هذا الفتى عجيب! كان في النهار لا ينفك عن رمي بنبل وسهم، وإذا جن الليل أحسن وضوءه، واجتهد في محرابه وهو يصلي ويقول: اللهم اقتلني شهيداً في سبيلك، واحشرني في حواصل الطير وبطون السباع، اللهم اقتلني شهيداً في سبيلك واحشرني يوم القيامة في حواصل الطير وبطون السباع.
فتلك دعوته، قال: لقد أجاب الله دعوته ورأيت السباع والطير كلٌّ قد نال من لحمه شيئاً.
طبعاً الشهيد لا ينال من آلام الموت كما ينال أحدكم من ألم القرصة حينما يذوقها.(219/5)
أمنية لربيعة بن كعب
انظروا إلى أمنية أخرى من أمنيات شباب الإسلام: فتىً يقال له ربيعة بن كعب، كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فأحبه النبي وأعجب به، فقال له النبي: (يا ربيعة! اسألني حاجتك) أي: ماذا تطلب؟ الآن لو سألت أحدهم: ما حاجتك؟ تجد آماله معلقة بالسيارات وغير ذلك، فالنبي يقول لهذا الشاب: (يا ربيعة! اسألني حاجتك) فأطرق ربيعة ملياً، هل يطلب ناقة أو يطلب جملاً أو يطلب شيئاً من الماعز.
قال: (يا رسول الله! وتعطيني ما أسأل؟ قال: أعطيك يا ربيعة.
قال: حاجتي أريد مرافقتك في الجنة يا رسول الله) انظروا إلى الأماني: شاب صغير يفكر في الجنة، وليس في أي منزلة، يريد الجنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد مرافقتك في الجنة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوغير هذا يا ربيعة؟) قال: (هو ذاك يا رسول الله، لا أريد إلا مرافقتك في الجنة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً أعني على نفسك بكثرة السجود) لأن منزلة النبي في الجنة عالية، فتحتاج إلى كثرة السجود؛ لأنك ما سجدت لله سجدة إلا رفعك الله بها منزلة، ومنازل الأنبياء تحتاج إلى هذه العبادة وإلى مثلها مما يتقبله الله جل وعلا.
الحاصل -أيها الشباب- نريد أن نتذكر أسلافنا وأن نرتبط بهم.
تجد بعض الشباب في سيارته صورة أربعة مطربين، وبعض الشباب تجد في حجرته صورة أربعة نجوم من نجوم الكرة أو من نجوم السينما، هاتوا لنا فريقاً يرد فلسطين؟ فلسطين كم لها من سنة؟ ستين عاماً وفلسطين تحت أيدي اليهود، الاتحاد الدولي لكرة القدم هل يستطيع أن يرجع فلسطين؟ أجمعية الفنانين يرجعون فلسطين؟ أجمعية نجوم السينما يرجعون فلسطين؟ أبطال الأوبرا، رجال الأوسكار، كرنفال جنيف كل هؤلاء لا يرجعون من أرض المسلمين شبراً واحداً.
من هو الذي يرجع فلسطين؟
شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا
وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
هؤلاء الشباب هم العملة النادرة التي تبحث عنها الأمة.(219/6)
شخصية محمد بن القاسم
يا شباب! لعلكم أن تكونوا منهم، يا شباب! ليكن كل واحد منكم محمد بن القاسم:
إن المروءة والسماحة والندى لـ محمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشر حجة
أي: وعمره سبع عشر سنة يقود الجيوش ويفتح السند والهند، وأخيراً يأتي محرفوا التاريخ مثل جورج زيدان وقسطنطين زريق وجورج حبش وغيرهم يقول لك: إن محمد بن القاسم كان يموت في هوى سيتا بنت الملك، ويطلع في بعض الأفلام والمسلسلات -كما ترون- قائد من قادة الإسلام، الله أكبر في المعركة.
وأخيراً هذا القائد الذي كان قبل قليل يصول ويجول، يرجع في المشهد الأخير لكي يتبادل كلمات الغرام مع عشيقته أو مع محبوبته، وهي تقول له: حفظك الله، وتصيح عليه وتخاف عليه أنه يموت وما تتزوجه! هذا من سمت رجال الإسلام؟ يا أحبابنا، يا رجالنا، يا شبابنا! تاريخكم محرف، افهموا جيداً واعرفوا أن فيكم من البطولات والرجولة ما لا يعلمه إلا الله.(219/7)
شباب من أفغانستان
في أفغانستان قابلت شاباً اسمه خالد باشا -من أبناء وشباب الطائف - والله يا شباب إنني رأيته، فرأيت في وجهه الشهادة في سبيل الله، وكان معي أحد المشايخ قلت: يا شيخ! هذا الشاب أظنه يقتل شهيداً في سبيل الله.
وشاب آخر اسمه أبو زيد القمري من الشباب الأحداث، كان في منطقة مكشوفة ليس فيها تلال ولا سهول، أريد أن أبرهن لكم أن فيكم قوة وقدرة وأنتم ما نزلتم إلى ميدان الرجولة وإثبات الذات وتحقيق الشخصية؛ لأنك تعتقد أنك لا تصلح لشيء ولا تنفع في شيء، أمنياتك سيارة أو حاجة بسيطة، أريد أن تكون أمانيكم عالية:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
أبو زيد القمري، هذا شاب من الشباب، والله يا إخواني يقف في منطقة مكشوفة أمام العدو -أمام الشيوعيين والروس في أفغانستان - تصوروا كيف كان يعمل؛ هل كان يختبئ وراء جبل ويضرب الدبابات؟ هل كان يطلق على الراجمات البعيدة سكربيت سكرشل -صقر عشرين وصقر ثلاثين- عشرين كيلو ثلاثين كيلو.
لا، كان يقف على طريق الدبابة، يصنع خندقاً برميلياً عبارة عن حفرة في الأرض بقدر عمق البرميل ويسقط فيها ومعه الآر بي جي -الآر بي جي: سلاح جيد لضرب الدبابات يحمل على الكتف- وقذيفته معه فينزل في هذا الخندق، وبعد يقرأ قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] وما إن يرى الدبابة: باسم الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] أخذ القذيفة وربطها على الآر بي جي وبسم الله، حتى إذا قربت الدبابة؛ خرج من الخندق يقول له الشباب: يا أبا زيد! اجلس في الخندق واضرب وأنت جالس.
قال: لا، الموت ساعة لا تتقدم ولا تتأخر، إن كتب الله أن أموت مت ولو وسط الخندق، وإن كتب الله الحياة في الخندق أو خارج الخندق.
فيقوم فإذا مرت الدبابة؛ صوب القذيفة إلى برج الدبابة.
أحسن ضربة للدبابات في البرج -أعلى الدبابة- وخاصية قذيفة الآر بي جي أن درجة الحرارة فيها قوية جداً، وتدخل في عمق فولاذ الدبابة حوالي 15 سم ثم تنفجر بعد دخولها، وتسبب انشطاراً قوياً وتحرق الدبابة ومن فيها.
تصوروا يا شباب كم أهلك هذا الفتى من الدبابات! وفي يوم من الأيام صعد هذا الشاب وإذ بدبابتين وراء بعض، ضرب الأولى، وهو يحتاج وقت حتى يأخذ القذيفة الثانية ويركبها ويضرب بها، لا يوجد وقت، الدبابة أسرع، فتوجهت الدبابة بالفوهة نحوه ووقف أمامها ووقفت أمامه، والرجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ضربت الدبابة تلك الضربة التي لا يشك أحد أنها ستمزق أشلاءه، فإذ بها تمر بجانبه برداً وسلاماً بعيداً عن المكان! وماذا بعد ذلك يا شباب؟ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] باسم الله والله أكبر، ويضرب الدبابة الثانية ويفجرها.
يا شباب أنتم فيكم قدرة لا تخطر على بال.
شاب من أهل اليمن أعرفه جيداً، والله يا إخوان كان يعمل هنا كهربائياً، وهذا ليس بعيب، لكن انظروا كيف صنع الجهاد رجالاً، فتح الله عليه، وأحب أن ينال أعالي الأمور وذروة سنام الدين، فذهب إلى أفغانستان، ويالله ذهب إلى منطقة كابول جحيم المعمعة، في منطقة اسمها بغمان وهي منطقة مرتفعة تطل على كابول، وكان مساعداً للقائد العام الحاج شير علم، قائد عام منطقة بغمان.
الذي حصل يا شباب أنه بخبرته في الكهرباء صار متخصصاً في تسليك الصواريخ -صواريخ سكربين، صقر عشرين، صقر ثلاثين- توجه وبميل منحني يحدد مواقع معينة لضربها.
هو بنفسه زارني في البيت يقول: والله ضربنا ذات يوم خمسين صاروخاً صقر ثلاثين وصقر عشرين على كابول إلى درجة أن نجيب قائد الحكومة الشيوعية أرسل لنا رسالة يقول فيها: يا حاج شير علم! عندنا ضيوف والأفغان لا يفعلون هكذا بضيوفهم، نرجو أن تكف عن ضرب العاصمة.
فيرسل له الحاج شير علم ذلك مع أعرابي -يعني: راعي غنم- يرسل له وريقة فيها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:38 - 39] يا نجيب أسلم تسلم وإلا فانتظرني بالذبح.
ويرسل له الرسالة! انظروا العزة عادت.
أيام كان هارون الرشيد يقول: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم يهدده ويخوفه، الآن شاب يمني وآخر أفغاني يهددون حاكم دولة اسمه نجيب.
إذاً هؤلاء الشباب قدرة وقوة، لكن لجأ أعداؤنا في تسليط الغزو الفكري حتى أصبحت قدراتنا وأفكارنا موجهة إلى آخر موضة، آخر موديل، آخر مسلسل، آخر أغنية، آخر شريط، آخر مباراة، آخر تقليعة وهلم جرا، شغلنا بهذه الأمور يا شباب، وإلا لو كانت اهتماماتنا اهتمامات الرجال منذ الصغر كان يترجم لكم التاريخ، فلان بن فلان درس في ثانوية الرياض، شهد معركة كذا، دعا إلى الله في كذا، قام بالخطابة في مسجد كذا، فالتاريخ يحفظ أعمالكم وأفعالكم إذا الواحد منكم يقدر ويقرر أن يكون شيئاً.
يا شباب! المجتمع مليء بالبشر لكن من الذي يذكر من البشر؟ خمسة:
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتىً كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمه
وموت الفارس الضرغام هدم فكم شهدت له بالنصر عزمه
وموت العابد القوام ليلاً ينادي ربه في كل ظلمه
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
هل أنتم من الخمسة أم ممن يكونون تخفيف ورحمة إذا ماتوا؟
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الخلق همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمه
يا شباب الإسلام: أنتم قوة، شاب فلسطيني قابلته منذ أيام في فندق المنهل كان قادماً مع الشيخ/ جلال الدين حقاني اسمه أبو الأهوال، طبعاً له اسم آخر لكن اللقب أبو الأهوال، سمي أبو الأهوال لأنه لا يعرف يتفاهم مع روسي أو شيوعي، أربع قنابل، عشر قاذفات، شاجورين، رشاش، ويمشي وكأنه لغم يتحرك.
يا إخوان! هذا الشاب فيه قدرات عجيبة، لاحظوا أن شارع التفحيط أو شارع الموت الذي وراء جنادرين يدل على وجود طاقات ومهارات، ما ظنكم لو أن الشباب هؤلاء نزلوا أفغانستان أو نزلوا إلى الساحة للحرب مع العراق؟ والله يا إخوان الشباب لديهم قدرة وهناك استعداد للتضحيات ولكن كيف ضاعت التضحيات؟ كيف ضاع الاستعداد؟ أين ضاعت الهمم؟ كيف راحت اهتماماتنا في (جيمس البكار) وصارت اهتماماتنا في أشياء بسيطة، بسبب الأفلام والمسلسلات.
لو آتي لأفسق شاباً، وأضع في يديه (كلبشات) الحديد وأضع في رجليه الحديد وأقول: اسمع ممنوع الصلاة هذا اليوم.
ولو كان أفجر شاب، ولو كان لا يصلي، والله يا إخواني يقول: أنت تمنعني من الصلاة، ويبدأ يلعن ويسب ويشتم في أبي وفي خامس جد، ويقطع هذا الحديد ويذهب يصلي عناداً؛ لأنني واجهته، هو يعتقد وجوب الصلاة لكني منعته وقيدته، فعاندني وقطع القيد، وفك هذه الأغلال وذهب ليصلي.
لكن إذا كان هذا الشاب نفسه بجوراه مسجد وفيه بابان، ثم زيدت للمسجد أربعة أبواب، وجعلت ما بينه وبين المسجد إلا خطوات، وكبرت الميكرفونات -مكبرات صوت المسجد- وقلنا له: انظر يا أخي هذا المسجد الآن زدنا أبوابه وكبرنا ميكرفوناته لكي تسمع الأذان والإقامة.
لكن هذا شريط جديد فيلم هندي تحب تنظر فيه، تفضل، فتجد هذا الشاب يضع الشريط في الفيديو، ثم يستمع إليه ولا يجيب منادياً حتى تنتهي صلاة المغرب ثم العشاء، فتذهب صلاة المغرب وصلاة العشاء وهو لا يزال ساهراً، يريد أن يرى نهاية هذا الفيلم: الفيل يلق أمه أو لا.
انظروا إلى الأساليب الفكرية، لا يأتي أعداء الإسلام إليكم يقولون: لا تصلوا.
يقولون: بالعكس.
هذه المساجد، وسعوا الأبواب، لكن تفضل هذه الأفلام، يصدرونها لكم من هوليود ومن جميع الولايات المختلفة، من أجل أن تشغلوا أوقاتكم بها.
فتلاحظ أن الشاب لو أعطيناه كفاً وقلنا له: لا تصل.
لأعطانا كفين وذهب يصلي، لكن لو نعطيه شريطاً، فهو مستعد أن يترك صلاة المغرب وصلاة العشاء من أجل مشاهدة نهاية هذا الفيلم الهندي.
فيا شباب خذوا مثلاً آخر: المرأة المسلمة، لو أن أحداً يأتي إلى فتاة مسلمة متحجبة وينزع الحجاب من رأسها، ويمزق عباءتها.
ماذا تفعل؟ ستعود متسترة ومتحجبة، وتبقى قوية على حجابها، لكن حين تخرج لها دعاية شعر، سليفكرين وواحدة تدور برأسها كذا، وواحدة تدور برأسها كذا.
ما الذي يحصل؟ تقول: الله! ما معنى أن هذه الفتاة شعرها ناعم وأنا شعري ليس بناعم؟ لماذا لا أطلع للتلفزيون مثلها؟ أو دعاية أخرى: فتاة معها ملف وتشتغل سكرتيرة في باريس تجدها تقول: انظر الأناقة! وأنا جالسة هنا أسحب هذا (البشت) وهذه هناك متطورة ومتقدمة! إذاً الأسلوب الجديد في غزو عقولكم وأفكاركم وأفكار بناتكم ونسائكم ليس هو أسلوب سب وشتيمة.
بل أسلوب العرض، لاحظ مثلاً: في المسلسل تجد فتاة في أسرة تلاقي صديقها -مثلاً- في الجامعة: كيف أنت يا فهد؟ أين أنت؟ هيانذهب لنشرب في المكان الفلاني قهوة ونجلس وكذا، لماذا لم تأتِ(219/8)
السبيل إلى إثبات وجود النفس
كيف الطريق أن نوجد أنفسنا بعد هذا الكلام؟ ما هو الدليل؟ أريد أن نثبت وجودنا: أولاً: بأن نشعر أننا ننتمي إلى الإسلام بالدرجة الأولى، وحينما نشعر بهذا الانتماء الذي منح الرجال قديماً وحديثاً القوة والقدرة، فلنعرف ماذا يريد منا هذا الإسلام، يريد منا الصلاة مع الجماعة، يريد منا حسن الخلق، يريد منا الدعوة إلى الله، يريد منا أن نكون مدركين ماذا يدبر أعداؤنا لنا.
يا شباب ينبغي أن ندرك أن الأعداء من الكفار أياً كانت مذاهبهم لا يفرقون بين سعودي وسعودي، لا يفرقون بين يمني وفلسطيني أو مصري وغيره، أعداء الإسلام يمزقون العلاقات بين الشعوب عن طريق الحكومات، لاحظوا هذا الأمر الخطير، مثلاً نسمع في الإذاعات: والله مشكلتنا مع اليمن، ومشكلتنا مع الأردن، ومشكلتنا مع العراق، طيب حينما أجد مسلماً يمنياً أو أردنياً أو فلسطينياً أو غيره هل كون النظام الذي وقع في بعض الجرائم يبرر أن أكون عدواً لأخي اليمني أو أخي الفلسطيني أو أخي الأردني؟ لا، افهموا هذه جيداً، نحن كلنا أمة مسلمة، والعداوة على الإسلام جميعاً لا تفرق بين جنس ولون، الذين دبروا مذابح المسلمين في فلسطين هم الذين دبروا مذابح الكويتيين، لا شك في ذلك، إلا أن الوجه تارة يكون صهيونياً وتارة يكون الوجه بعثياً وهكذا، لكن هل يعني هذا أن علاقتي الإسلامية بأخي المسلم ضائعة؟ لا.
الأمر الآخر: نريد أن نثبت وجودنا، ولا سبيل إلى إثبات الوجود إلا بالالتزام بما يمليه وما يقرره هذا الدين الحنيف، حسن التعاون، السلوك، إشغال الوقت بالأمور النافعة بدلاً من أن يضيع وقتك في سماع عشرين شريطاً لـ شعيل أو الرويشد، اسمع عشر محاضرات، وستجد أن عقلك امتلأ أفكاراً ومعلومات، بدلاً من أن يضيع وقتك في مشاهدة مسلسلات أو مشاهدة أفلام، احضر محاضرات وافهم ماذا يدور، هذا القرآن من ألف وأربعمائة سنة إلى الآن ما تغير وما نقص فيه حرف وما زاد حرفاً، ما سر الإعجاز؟ الكنيسة حرَّفت في الإنجيل الكثير، فما بالكم يا شبابنا بهذا القرآن الذي من ألف وأربعمائة سنة ما تغير! نريد أن ندرك سر هذا الدين، سر العظمة في هذا الدين، سر الإعجاز في هذا الدين، ونكون رجالاً نحمله ونفتخر به، فعوداً إلى الرجولة وعوداً إلى تحقيق الذات.
أسأل الله أن ينصر بكم دينه، وأسأل الله أن يعلي بكم كلمته، وأن يحبب إليكم شرعه، وأن يبغض إلى نفوسكم المعاصي والمحرمات، وأن يبارك لكم في المباحات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(219/9)
الأسئلة(219/10)
ضوابط قوة الإرادة
السؤال
إلى فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فسؤالي هو: قوة الإرادة وضبط النفس لها شروط وأمور معينة نحو عقيدتنا الإسلامية السمحاء فما هي؟ أفيدونا وجزاكم الله خيراً.
الجواب
لاشك أن الإرادة مطلوبة، والقوة في الإرادة مطلوبة، فمن الناس من إرادته لا تستطيع أن تقاوم الوسادة، يسمع المؤذن يؤذن، عنده إرادة أن يصلي، لكن الوسادة الناعمة تهزمه، وإرادته أحقر وأضعف وأقل من أن ينتصر على وسادته، فتجده يفوت الصلاة مع الجماعة.
من الناس من عنده إرادة ألا يقع في منكر أو معصية، أنا أعرف كل واحد منكم الآن، وفيكم خير كثير على ما يحصل من الأخطاء والأغلاط، لكن قد يفكر يقول: توبة وعودة إلى الله، لا أعود أسمع هذا الغناء وهذا اللهو، أريد أن أكون رجلاً، أن يكون غاية اهتمامي الرجولة وما يحفظه التاريخ وتسجله الأمم، فتجد معه شريط محاضرة، ولكن ما زال في الدرج شريط أغاني، وتبدأ الإرادة في اضطراب: أضع هذا الشريط أو لا، أضع هذا الشريط أو لا.
عنده إرادة، لكن هناك شريط ربما هذا الشريط يغلب إرادته، ولذلك يا شباب يقول الله جل وعلا: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:93] في تأديب لنفسك وفي توجيه نفسك نحو الخير لا بد أن تكون إرادتك قوية.
أما أن تكون إرادة ضعيفة فهذا أمر تهزم فيه عند أول مواجهة.
ثانياً: هناك شاب ملتزم ومستقيم وصالح وطيب، ولكن عنده إرادة قوية أكبر من كذا، يعني: هل إرادتك القوية في التزامك وإصلاح نفسك؟ وعندك إرادة -أيضاً- في إصلاح المجتمع، هل يعقل أن تقول: والله أنا ملتزم وعندي إرادة قوية؟ هل أقول: بإرادتي هذه أذهب وأكسر لوحة محل فيديو أو أكسر زجاج فيديو وأقول هذه إرادة؟ لا، أنا من واجبي أن أسعى حتى يزال هذا المحل من المجتمع؛ لأن هذا محل يبيع أفخاذ النساء، صور العاريات، الرقص، مصارعة نساء، وهلم جرا.
طيب هل هذه الأفلام تخرج مجاهدين؟ هل تخرج كمندوز أو مظليين أو برمائيين أو ضفادع بشرية أو كاشفي ألغام؟ لا تخرج شيئاً أبداً، إذاً من واجبي إذا كان عندي إرادة أن أعرف أن هذا المحل محل خطر على المجتمع، لكن هل إرادتي أن أكسره؟ لا، إرادتي أترجمها بعقل، العاطفة حينما توضع في العقل تنتج الحكمة، وحينما توضع العاطفة في الأرجل والجوارح عامة تنتج التهور، فلابد أن أجعل هذه العاطفة في العقل وأجعل الجوارح تطبق الحكمة.
عاطفتي وإرادتي أن أذهب إلى صاحب المحل: أخي العزيز أنت مسلم، وفيك خير عظيم مهما وقعت في المعاصي، وما أظنك ترضى أنك تأتي يوم القيامة وتحمل أوزار الناس جميعاً: (من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به، ومن دعا إلى وزر أو ضلالة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها) أي أنه لو كان عندي محل فيديو وقد بعت عشرة أفلام، وضل بسببها عشرة من الشباب، فأنا يوم القيامة محاسب على هذا الحرام الذي بعته، وأحاسب على الذين ضلوا بسببي؛ لأنني أنا الذي وصلت لهم الشريط وبعته لهم.
فأناقشه بالعقل وأقول له: يا أخي الكريم المجتمع الآن بحاجة إلى صناعات أو بحاجة إلى أفلام؟ المجتمع بحاجة إلى أمور تعين التنمية، وتجعل التنمية تمشي خطوات إلى الأمام أو بحاجة إلى شباب لا يعرفون إلا النوم والكسل والجلوس عند الأفلام؟ فهذه الإرادة تكون منضبطة.(219/11)
حكم الاستهزاء بالدين
السؤال
هذه بعض الأسئلة تسأل عن الاستهزاء بالدين، وبعضها يقول: إنه شاب ملتزم ولله الحمد، ويسعى للسنن كتقصير الثياب وغير ذلك، ولكن بعض الناس يسخرون مني كما رأيت ذلك بنفسي، فما تنصحون من استهزأ بي؟
الجواب
يا شباب! ينبغي أن نعرف أننا جميعاً سواءً من كان منا ثوبه طويل ومسبل -والإسبال لا يجوز (ما أسفل من الكعبين ففي النار) (ثلاثة لا ينظر الله إليهم -وذكر منهم- من جر ثوبه خيلاء) لكن هل يعني أنني حينما أقع في ذنب أن أستهزئ بالملتزم الذي استجاب لأمر الله ورسوله؟ يعني: أنا حينما أخالف أمر الله ورسوله هل يعني أن استهزئ بأمر الله ورسوله؟ لا يجوز، بل ثبت في الأدلة أن الاستهزاء بالدين كفر يخرج من الملة، يقول الله جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66] قد أكون مقصراً، لكن هل خطأي أتمادى فيه إلى درجة الاستهزاء بدلاً من أن أقول: أسأل الله الذي هداه أن يهديني، أسأل الله الذي منَّ عليه أن يمنَّ علي، بدلاً من هذا أبدأ أقول غير هذا؟ لا.
فاعلموا أن الاستهزاء كفر، وواجبك أيها الشاب -أيضاً- أن تكون بمنتهى الحكمة والاتزان، وتبتسم، وتتواضع، وتخفض جناحك، وتلين جانبك، وتقابل إخوانك الشباب والزملاء بمنتهى الرفق والرقة والعذوبة واللين، تهديه شريطاً، تهديه كتيباً، تهديه سبحة، تهديه قلماً، المهم تتودد إلى قلبه، فإذا لان قلبه تجاهك؛ تعطيه شيئاً ينفعه، تنصحه نصيحة؛ فيتقبل منك.
يقول لي أحد الشباب التائبين: كان لنا جار أتمنى أن يهديه الله، وكان مولعاً بالملابس الرياضية: البدلة الرياضية، و (الترنك) و (البوتي) وما يتعلق بها.
المهم يقول: احترت كيف أدعو هذا الشاب إلى الله، أنا أريده أن يهتدي، ويلتزم، لا أريده أن يبقى في سخرية أو في استهزاء لأهل الخير.
ماذا فعل؟ يقول: جئت طرقت عليه -يقول: جارنا هو- قلت له: لو تكرمت أنا لي صديق جسمه قريب من جسمك، وأحب أن أذهب أنا وإياك؛ فأنت تعرف الملابس الرياضية، نذهب إلى أي محل نشتري بدلة محترمة جيدة بحكم أنك تعرفه بكذا.
قال: خذ لك ساعة، تفضل.
فذهبوا واشتروا بدلة جيدة بسبعمائة ريال، يقول: اشترينا بدلة محترمة.
يقول: لما جئنا إلى بيت هذا الشاب قال: والله إن الشاب الذي أحبه وأحرص على هدايته وأتمنى أن يكون معنا في المسجد كل يوم هو أنت وهذه الهدية لك.
يقول: ما مصدق! سبعمائة ريال هدية بدلة! يقول: قبلها وشكرني، وبعد ذلك أصبح رفيقي في المحاضرات والخطب والندوات وسماع الأمور الطيبة والنافعة، وترك كثيراً من المعاصي.
فأيضاً من واجبنا أن نتحمل إخواننا، وأن نصبر عليهم قليلاً؛ حتى يهديهم الله جل وعلا.
المهم ألا نكون من جنود الشيطان، فنقع في الهاويه.(219/12)
أريد أن أتوب ولكن!
السؤال
بعض الأسئلة تقول: أريد أن أتوب وألتزم وحاولت كثيراً، ولكن لم أستطع، فكيف أبدأ ذلك يا فضيلة الشيخ؟
الجواب
يا إخوان! أنتم تعرفون أن هناك أمراضاً معدية، فحينما آتي برجل يتماثل إلى الشفاء وأجعله في وسط معد ناقل للجراثيم والميكروبات وغيرها، لا يمكن أن هذا يصلح:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجرب
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
يعني: الذي يريد أن يلتزم ويتوب، لا يقول: أنا أريد أن ألتزم ويبقى في وسط جلساء السوء! تريد أن تلتزم، اخرج من هذا الوسط الذي فيه جلساء السوء، واصحب أقواماً كراماً طيبين صالحين؛ سواءًَ بالنشاط المدرسي، بالمكتبة الخيرية، بالمركز الصيفي، في جماعة المسجد، المهم أن يكون لك صحبة طيبة.
أما إذا كان جليسك فاسقاً فكيف تريد أن تصلح؟ فالعقول والطباع تتأثر، الصقور لا تأكل الحب والشعير، لا تأكل إلا اللحم، فالصقر دائماً عيونه في السماء، فإذا رأى طيراً، انقض عليه وأمسك به، ونزل يأكل من لحمه، لكن انظروا إلى الصقر! لو جعلناه يتربى مع دجاج، بعد أيام يصبح ينقر كالدجاج ويأكل الشعير، فما دامت البهائم العجماوات تتأثر بمخالطة بعضها بعضاً وإن كانت اختلفت أصنافها، فما بالك برجل مع رجل؟ شاب مع شاب تريد ألا يتأثر به، فإذا جلس مع الصالحين تأثر واستفاد، وإن جلس مع الطالحين اهتم بالذين يهتمون به كالذي يهتم بالرياضة أو بالطيور والحمام أو بالسيارات وهلم جرا؛ لأن المصاحبة والمخالطة هي التي تؤثر.
أسأل الله لي ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.(219/13)
الشباب والمسئولية [2،1]
إن المسئولية الملقاة على عاتق المسلم كبيرة جداً، وأهمها مسئولية الفرد عن نفسه في سمعه وبصره وفكره.
وفي هذا الدرس أماط الشيخ اللثام عن إجابات كثيرة تتعلق بالمسئولية أبرزها: صور المسئولية الجماعية أسباب الهروب من المسئولية ملامح أهل المسئولية وسماتهم عواقب إهمال المسئولية.(220/1)
عظم قدر المسئولية
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون، الحمد لله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله جل وعلا في مستهل هذا اللقاء أن يكتب خطواتكم وأن يجعلها في موازين أعمالكم، فوالله لأنا أعلم بنفسي من الذين اجتمعوا إلي، وكما قال سفيان رحمه الله:
خلت الديار فساد غير مسود ومن الشقاء تفرد بالسؤدد
والله لو أن على الساحة ساداتها ورجالها؛ لما اجتمع الإخوة في هذا المقام كما ترون، ولكنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
أيها الأحبة حديثنا اليوم عن المسئولية.
الشباب والمسئولية موضوع ذو شجون، متعدد المباحث والمسائل، له جوانب شتى.
المسئول هو الذي يطرح عليه السؤال، وينتظر منه الجواب، ويجازى ويعاتب على تفريطه، ويلام على إهماله وتركه ثغرته ومكانه.
وحينما نتكلم عن المسئولية فالحديث أولاً وبادئ ذي بدء يوجه إلى أجدر الذين يحملونها ويقومون بها، وهم الشباب:
شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا
الشباب الذي كان فيهم من قاد الجيش وهو ابن سبع عشرة سنة، والذين فيهم من تولى مسئولية الأمة، والذين انتصبوا للتعليم والإفتاء، الشباب الذين ضربوا أروع الأمثلة في صلاح السيرة والسريرة، واستقامة الظاهر والباطن والسر والعلانية.
واسمحوا لي أن ألج إلى موضوعنا عبر بوابة شريفة، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه واتفق عليه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).
أحبابنا: الأصل أن الإنسان مسئول ومحاسب ومجازى، وأن البعث بعد الموت، وأن نشر الصحف ونصب الموازين والجنة والنار ما هي إلا نتيجة هذه المسئولية، وجزاء من تحمل أمانة فقام بها، فجزاه الله الجزاء الأوفى وضاعف له أعماله، والنار لمن أعرض عن دين الله، وتكبر عن طاعة الله، وجعل كتاب الله وراءه ظهرياً {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
حتى المسئولية في الذرات وفي الخردلة يقول تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] فمسئولية الذرة والخردلة ترى نتيجتها في موازين الحسنات أو في كفة السيئات، وتعالى الله جل وعلا أن يخلق خلقاً ثم يتركهم هملاً، أو يدعهم سداً {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون:115 - 116] لا يليق بالله، وينزه الله، ويسبح الله، ويقدس الله أن يخلق الخلق ثم يدعهم هملاً {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون:115 - 116] يتنزه الله عن ذلك {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:116 - 117].
ويقول جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:36 - 39].
أبعد هذا التطور في مراحل الخلق والتكوين، وأن يخلق على أحسن صورة وأجمل هيئة، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] ويكرم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].
أفيكون هذا كله وليس بعده جزاء أو حساب أو لوم أو عتاب؟ لا والله، بل في آيات أخرى -والآيات في هذا المقام كثيرة- يبين الله جل وعلا أن الإنسان يسأل ويحاسب، فليس الصحيح يحمل من المسئولية كما يتحمل السقيم، وليس الفقير يتحمل من المسئولية كما يتحمل الغني، وليس صاحب الجاه والسلطان يتحمل من المسئولية كما يتحمل من لا جاه له ولا سلطان، وليس القوي أو من ولاه الله أمراً يتحمل من المسئولية كمن لم يتول أمراً، شتان بين هذا وهذا، فكلٌ يحاسب ويسأل ويعاتب بقدر ما أوتي، وبقدر ما بسط الله له، وسخر له بين يديه، لينظر في فعله وسعيه {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41].(220/2)
مسئولية الإنسان الفردية
أيها الأحبة! إن هذه المسئولية بادئ ذي بدء لا نتحدث فيها عن مسئولية الحكام عن الشعوب، أو مسئولية العلماء عن الأمة، أو مسئولية المعلمين عن التلاميذ، أو مسئولية الأم عن أهل بيتها، نعم تلك مسئوليات عظام جسام، ولن تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عنها، ولكن في الدرجة الأولى تكون المسئولية الفردية التي أخاطب بها كل واحد منكم، فهو يتحمل مسئولية فردية تجاه نفسه ولن يتحملها غيره، وأخطاؤك لن يتحملها من سواك: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] لا تحمل نفس إثم نفس أخرى، بل كل نفس تحمل أوزار نفسها، وتحمل آثامها وخطاياها، ولا يلقي أحدٌ اللوم والعتاب على غيره، نعم قد يحاسب من يحاسب بما ولي، فمثال على ذلك يوم أن نرى أسرة من الأسر بسبب فسادٍ في جريدة أو مجلة أو شاشة أو عرض أو فلم أو نحو ذلك، فإن من تسبب في نشر هذا ويسره بين المسلمين، محاسب عند الله جل وعلا بسببه، إذا قدر أن يكف الشر عن المسلمين، ولكن هذا لا يعني أن من تولى مسئولية أسرته وبيته يلقي اللائمة على الإعلام مثلاً، نعم من ولي الإعلام يحاسب يوم القيامة، بما قدم من خير بخير، وما قدم من شر بما يعلم الله جل وعلا، ولكن حساب من تولى ذلك لا يعفيك أنت عن المسئولية يا من توليت مسئولية أهلك وبيتك، وإن لم نفعل ذلك ونفهمه تمام الفهم؛ فإننا سوف نهمل أولادنا، ونقول: الإعلام ومن قام عليه يحاسب عليه يوم القيامة، ونهمل العلم في أبنائنا ونقول: يحاسب المعلمون، ونهمل بناتنا، ونقول: يحاسب من سمح بالتبرج أو الاختلاط ونحو ذلك.
أيها الأحبة! المسئولية تبدأ بمسئولية الإنسان تجاه نفسه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6] ابدأ بنفسك، قِ نفسك، مسئوليتك تتحملها تجاه نفسك بادئ ذي بدء يقول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يغدو) والغدو هو الخروج في الصباح:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
(كلكم يغدو فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها) الناس تغدو وأنت ترى هذه الخطوط وهذه الطرق تزدحم بآلاف البشر، فمنهم من يغدو إلى هلكة نفسه، ومنهم من يغدو إلى عتق نفسه، وقريباً يحصد الزارعون ما زرعوا.
وهناك مسئولية فردية يوم العبور على الصراط: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه).
أيها الإخوة! خذوها صريحة أقر بها على نفسي، واعترفوا بها من أنفسكم: إننا نتفنن في عرض مسئوليات الآخرين تجاه ما تحتهم، ولكننا نحسن ونتقن التهرب من مواجهة أنفسنا بما تحملنا من المسئوليات، ما ألذ الحديث يوم أن نتكلم عن تفريط فلان وعلان، فلان ولي الأمر الفلاني ففرط فيه، وفلان قام بالأمر الفلاني فأهمله وضيعه، وهكذا.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
نحسن ونخرج أمثال الذر من الأخطاء بالمكبرات وغيرها، يوم أن ننظر في أخطاء الآخرين، لكن لو دعونا كل واحد أن يقف في مواجهة نفسه، وأن يكون صادقاً، وأصدق الصدق مع النفس أن تصارح نفسك وأنت أدرى بنفسك، وإن مدحك الناس الليل والنهار، وأنت أدرى بفضلك، وإن ذمك الناس الليل والنهار، قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14].
أنت أدرى يا أخي بعيوب نفسك، وتقصيرك وتفريطك، وزلاتك وهناتك.
والمصيبة -أيها الأحبة- أننا يوم أن نتبصر مسئولياتنا تجاه أنفسنا وننظر ما قدمنا؛ لنعتق هذه النفس من نارٍ وقودها الناس والحجارة، إننا يوم أن نتفكر في صلاتنا لعلنا بعد رحمة الله نرجو بها النجاة، نتذكر صلاةً نقدم إليها متأخرين، وفيها من الوساوس والهواجس ما الله به عليم، ونتذكر صياماً أغلب ساعته في النوم، وقد اختلط بشيء من النظر والسماع، ونتذكر أعمالاً ربما -ونحن أدرى بأنفسنا- داخلها ما داخلها من الشهوة أو الرياء أو السمعة أو حب الثناء، ولكن يوم أن نتذكر السيئات؛ فإن الواحد منا يبصر ذنوبه ويتذكر سيئاته، كما ترون هذه الإضاءة التي تلمع فوق رءوسكم {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14].
إن الذي يدخل الامتحان، قبل أن تقدم له ورقه الأسئلة يقول وهو يصارح نفسه بكلام لا يسمعه إلا هو، وتنبس الشفاه، وتتمتم بألغاز وحروف لا يفقهها إلا صاحبها، ويقول: لو نجوت من الموضوع الفلاني، وسلمت من المادة الفلانية، وسلمت من السؤال الفلاني، فأنا ناجح لا محالة، وكل واحدٍ منا -والله ثم والله- أدرى بنفسه ويقول لنفسه: لو سلمت من تلك، وعوفيت من هاتيك، وعافاني الله من تلك، وغفرت وسترت هاتيك، فأنا بخير.
إذاً أما السيئات فنراها براقة لامعة ونحن أدرى بها، وأما الحسنات فنسأل الله أن يتقبل، وأن يكمل من أعمالنا ما نقص بتفريطنا وتهاوننا.(220/3)
مسئولية الإنسان عن عينه
أيها الأحبة! مسئوليتك مسئولية كل واحد منا تجاه نفسه، فهو مسئول عن عينه التي ركبت في أدق تركيب، بحدقة وشبكة وقرنية، وعروق وعصب بصري وجهاز حساس، فهي ما ركبت في هذا المكان عبثاً، وما أحيطت بعظام تحفظها عبثاً، وما جعل لها جفن يمسحها من الغبار، وما جعل لها دمع ينظفها في كل لحظة من أجل أن تنظر إلى صورة نهى الله أن ينظر إليها، أو من أجل أن تقلب النظر في أمر لا يجوز إليه، وإنما خلقها الله لتنظر في مصير الأولين والآخرين، ولكي تتدبر في خلق الله جل وعلا.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17 - 21].
هذه العين قد أشغلناها بالتوافه، فاشتغلت بهذه التوافه عن العظائم، والواحد ينظر إلى السماء تمد مد الأديم فلا يتفكر فيها {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء:32] ورفعت بغير عمد، ولا يتفكر الواحد في خلقها، وبين كل سماء وسماء ما يعلم الله جل وعلا، وفي سماء من خلق الله سبعون ألف ملك، البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، قد ملئت السماوات والأرض والمخلوقات بالعجائب التي تدعو أصحاب النظر إلى التفكر فيها.
ولكن أعجب إلى شاب يقول: انظر إلى قدم اللاعب الفلاني، كيف حرك رجله بحركة رشيقة خفيفة دقيقة، فأصاب الهدف في زاوية مربعة على حين غرة من حارس، انظر إلى تلك العين كيف تبعت الحذاء، وكيف تبعت القدم وتفكرت في بالون منفوخ، وتلاحق أقدام اللاعبين، ولم تبصر ولم ترتفع لتنظر ما خلق الله في ملكوت السماوات، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} [فصلت:53].
الآفاق هي السماوات الطباق، والنفس البشرية فيها من العجائب ما الله به عليم، لكن مسئولياتنا تجاه أبصارنا قد ضيعت بالتافه، ويقول علماء الأصول والقواعد الفقهية: "الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود" حينما تشغل البصر بالتافه، اشتغلت بالتافه عن العظيم الجليل الذي يليق.(220/4)
مسئولية الإنسان عن سمعه
ولا تسل عما أشغلنا به الأسماع من أخبار لا تهمنا، وأمور لا نقدم فيها كثيراً، وأعجب من هذا! أولئك الذين يشترون الفساد ويجرونه إلى بيوتهم عبر ما يسمى بأجهزة الاستقبال والبث المباشر، أو ما يسمونه بالدش، وإذا سألت أحدهم وهو مسئول عن ذريته ورعيته في بيته، ومسئول عن نفسه: ماذا يصنع وماذا يبصر؟ يقول: إني أسمع الأخبار.
وأي أخبار تقدم فيها أو تؤخر يا مسكين؟ هأنت قد سمعت أن المسلمين ذبحوا في طاجكستان وقتلوا وشردوا، فماذا فعلت يا صاحب الأخبار؟ وهأنت علمت أن فيدير راموس حاكم الفليبين حشر على المسلمين في منديناو خمسين ألف جندي صليبي لحرب إبادة، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرها، وهأنت تعلم ماذا حل بإخوانك في فلسطين، وهأنت تعلم ما يدور في أفغانستان، وهأنت تعلم ما يدور في إريتريا وفي مورو وفي البوسنة والهرسك وفي الأنجوش وفي مواطن كثيرة، فماذا قدمت يا صاحب الأخبار؟ قدمت مزيداً من الأوزار تتحملها بعلم تعلمه.
ولا يقابل العلم تحمل مسئولية أولئك الذين أهملوا مسئولية الأسماع، وأشغلوها بغير المقصود، فأعرضت عن المقصود، والله جل وعلا قد حذرنا من أن نهمل وسائل العلم والمعرفة، أو أن نشغلها في أمر لا يليق، وبين في كتابه أن طائفة اعترفت بأنها تصطلي بالنار؛ لأنها ضيعت أسماعها وأبصارها، ولم تتحمل مسئولية السمع والبصر: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
إنهم يعقلون ولكن يعقلون حجج الباطل، ويعقلون ما يدحضون به الحق وما هم بقادرين عليه، ويسمعون الأقاويل في الدعوة والدعاة والحق والهدى والنور المبين، ومع هذا كله {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك:10 - 11] فعد إهمالهم لأسماعهم وأبصارهم ذنباً {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11].
وأعود أيضاً إلى موضوع إهمال مسئولية الإنسان لسمعه (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيراً أو ليصمت) (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} [المجادلة:9] لا يتناجى اثنان دون الثالث: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً} [المجادلة:10] {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114].
أحاديث المجالس التي اشتغل الناس فيها بالقيل والقال، وأكثر ما يكون من القيل والقال ربما وجده في صحيفة سيئاته، وكما في مسند الإمام أحمد وعند البزار وأبي نعيم قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبدٍ وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) هذا هو الذي ينفعك.
وأما إهمال مسئولية السمع واللسان والبصر وتضييعها وإطلاقها ومتابعة ما قيل وقال، وكان أو يكون، وروي وزعم وذُكر وحُدث، وروى لنا من نثق به، وإذا فتشت عن ثقة، فلا ثقة؛ تلك والله مصيبة إلا ما كان في خير, إلا ما كان في ذكر، إلا ما كان في دعوة، إلا ما كان في أمرٍ بمعروف ونهي عن منكر، أو مكافحة بدعة أو أمر بحق يرضي الله جل وعلا.
أيها الأحبة! الكلام عن المسئولية لا نريد أن نشطح به لنحاسب كل مسئول عما تحته من إدارة أو وزارة، فكل مسئول مسئول ومجزي، والناس شهود له أو عليه، وملائكته شاهدة عليه، ويوم القيامة لن يجوز الصراط حتى يرى ما قدم، ولكن نريد أن نسأل أنفسنا، نريدك أنت أيها الإنسان.
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تبصر
وتحسب أنك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ربما الواحد يقول: وأي مسئولية اتحملها وأي مسئولية أتولاها وأنا ليس في نفسي، وليس بيدي شيء؟ بيدك جوارحك، بين جنباتك حواس وجوارح وقدرات أنت مسئول عنها، فأخبرنا بالله عليك ماذا قدمت لها؟ وماذا سلكت بها؟ وماذا نفعت المسلمين فيها؟(220/5)
مسئولية الإنسان عن فكره وعقله
من مسئولياتك مسئوليتك تجاه فكرك، هل جعلت عقلك زبالة ليضع فيها الآخرون ما أرادوا؟ أم جعلت عقلك إناءً للإيجار لتسمع ما قيل ويقال، وتعجز أن تحقق الأمر بنفسك، ولو بحثت عن الدليل، وسألت عن الحجة لبان لك الطريق، واتضحت عندك المحجة.
ما هي مسئوليتك تجاه بناء منهجك الفكري؟ من واجبنا أن نكون صرحاء في بناء النفس قبل أن نلتفت إلى بناء المجتمع، فإن الكثير بل الآلاف في متابعة جادة للشريط الإسلامي، وهذا جميل جداً، وأصبح الواحد يمتلك في بيته خمسة من الأشرطة، كل شريط ينتظر دوره للسماع، وعلى سيارته عشرات الأشرطة تنتظر السماع، وفي مكتبه أشرطة، وفي ذهابه وإيابه أشرطة، وإذا سألت هل خصصت ساعات لطلب العلم؟ هل خصصت ساعات لكي تبني القرار والرؤيا والفكر بناءً على ما لديك من قناعات ومعلومات.
ربما نعذر طائفةً من الذين لا يستطيعون تصور الأمور كما هي أو يحتاجون إلى السماع، ولكني لا أريد من شبابنا جميعاً أن يبني الواحد أفكاره ومنهجه وطريقته في الدعوة بناء على كل شريط يسمعه، أياً كان صاحب الشريط، فلعلمائنا ودعاتنا مكانة طيبة راقية في نفوسنا، ومع ذلك ما قال واحد من العلماء والدعاة: اطرحوا عقولكم جانباً حين سماع أشرطتنا، وعطلوا أفكاركم يوم أن تسمعوا كلامنا، ما قيل هذا أبداً، لكننا نجد كثيراً من الشباب لو ناقشته في قضية وهو من القادرين على بناء فكره، مستأنساً بالدليل من كلام الله، وكلام رسوله وما تيسر له من سماع بعض الأشرطة، لكني أقول: إن البعض تجده يحاجك: قال فلان في الشريط الفلاني، وقال فلان في الشريط الفلاني، وقال فلان في الشريط الفلاني، وهل تعبدك الله بأشرطة فلان؟!! وماذا عندك من العلم وماذا عندك من الدليل؟ وماذا عندك من الفقه؟ وماذا عندك من الوعي؟ نعم نعذر من لا يستطيع أن يدرك الأمور على حقائقها أو يتصور الأمور على ما هي عليه، نعذره وقد يحال إلى شريط ليفهم منه ما يحتاج إليه، لكن أن تكون الأمة عن بكرة أبيها، لا تبني الفكر إلا عبر الشريط، هذا ضحالة، وهذا تخلف، ولو انقطع الشريط ماذا نفعل؟ إذا كان كل واحد من شبابنا على سبيل المثال يريد أن يجعل رأيه وقوله وحكمه وورده أو مورده ومصدره ناجماً عن هذا الشريط، فإذا انقطع الشريط؛ فمن أين ستبني رأيك؟ ومن أين تستنتج فكرك؟ ومن أين تحكم بحكم أنت تريد الحق فيه؟! إذاً عطلنا العقول، ولأجل ذلك فإني أدعو إخواني وأحبابي حينما يسمعوا شريطاً أن يدعوا لصاحبه، وأن يشكروا الله جل وعلا على أن في الأمة من يبصر ويرشد وينفع، لكن لا يعني هذا أن تسلم العقل أوله وآخره بدون مناقشة، بدون فهم، بدون استيعاب، فإذا أدرت عقلك وفكرت فيما سمعت في هذا الشريط، فوجدته صواباً؛ فصواب على صواب، وأما إذا أدرت العقل والرأي وحركت الفكر، فوجدت أن الأمر فيه زيادة أو نقص، فعفا الله عن صاحبه، وما قال صاحب الشريط: إن كلامه وحيٌ يُوحى وليس فيه من الخطأ شيئاً وإنما قال: هذا ما عندي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي، واستغفر الله.
أيها الأحبة! الذي أردته من هذا ألا يظن البعض أنني أحذر من الأشرطة، أو أقول دعوها، أو أهون من دور الشريط الإسلامي.
إن بقاعاً شتى عجزنا أن نصل إليها، وربما لم نستطع أو يستطيع كثير من الدعاة بلوغها فوصلها الشريط بفضل الله جل وعلا، فللشريط مكانة ودور، لكننا نريد أن يتحمل كل واحد مسئولية فكره، مسئولية عقله، مسئولية فؤاده {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].(220/6)
الحذر من تفريط الإنسان في مسئوليته تجاه نفسه
أيها الأحبة! الحذر الحذر من تفريط الإنسان في مسئوليته تجاه نفسه! وإن الذين يفرطون ثم يعرضون، ثم يَضِلون ويُضلون عن سبيل الله لربما كانوا على خطر عظيم، والله حذرنا من شأن أولئك الذين عطلوا مسئولياتهم فقال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف:179] فبين سبحانه أولئك: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
لا نعطل هذه الحواس، ونتهاون بمسئولياتنا تجاه أنفسنا، وكما يقول القائل: هذا العقل نعتبره كالدور الثاني نؤجره إلى فلان، حتى يضع فيه ما يريد، مع حبي وتقديري وشكري وثنائي لأي فلان كان، ووالله إني لا أقصد أحداً بعينه، إني أعلم أننا في هذه الفترة من فترات الدعوة العصيبة ابتلينا بقول القائلين: يقصد كذا ويريد كذا، فمعاذ الله أن يرمي بعضنا بعضاً بأمر لم نرده، ولكني أحذر أن نعطل هذه المنافذ والحواس، وأن نهمل مسئولياتنا تجاهها.(220/7)
صور المسئولية الجماعية
أيها الأحبة! الشباب والمسئولية بعد أن قدمنا مسئولية كل واحد تجاه نفسه، ربما البعض يقول: وهل كل أمر فيّ أنا مسئول وحدي عنه؟ نقول: المسئولية بادئ ذي بدء تنصب عليك تجاهك:
نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكر والإقداما
إن الجبان لن يضع المسئولية على الجبناء من حوله الذين لم يعلموه الشجاعة.
إن البخيل لا يضع المسئولية على من حوله الذين لم يعلموه الكرم.
إن الكذوب المفتري الذي ينقل الكلام والقيل والقال، لا يحمل المسئولية الصادقين أو من حوله؛ لأنهم سامحوه في كذبه أو لم يعلموه الصدق، فهو مسئول عن نفسه في الدرجة الأولى كما قلت، فلا نحمل مسئولياتنا عالماً أو حاكماً أو صحفياً أو طالب علم أو رجلاً أو امرأة، كل منا يتحمل مسئوليته بالدرجة الأولى تجاه نفسه، ثم بعد ذلك يتحمل كلٌ بحسب ما ولاه الله من مسئولية، وحينما تحين ساعة الموت، وتبلغ الروح التراقي، وتظن بيقين وتعلم بصدق أنه الفراق، وتلتف الساق بالساق؛ حينئذٍ يتمنى من ولي أمراً أنه ما ولي، ومن قام مقاماً في أمر لم يمحض الإخلاص فيه أنه لم يقمه، وكل من جازف بنفسه في أمر يتمنى في تلك الساعة أنه لم يقترب منه ولم يدن، إلا من محض وأخلص وصدق الأمر لله جل وعلا، فالمسئولية فردية والمسئولية أيضاً جماعية.
فمن صور المسئولية الجماعية، قول الله جل وعلا على سبيل المثال في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران:104] هذه أمة أو جماعة أو مجموعة أو طائفة مسئولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
لكن هل مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسئولية لجماعة مخصوصة؟ لا أيضاً.
نحن كأفراد أو بصفتنا أفراداً نتحمل مسئولية عظيمةً جسيمة في هذا الباب قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71].
فمهما رأيت من المنكرات لا تعلق الأمر على صغير أو كبير أو هيئة أو مسئول، ولكن اسأل نفسك بادئ ذي بدء هل وقفت ساعةً من ليل أو نهار فنصحت؟ والله أيها الأحبة ما أسهل أن نجلس مجلساً فنقول: لقد انتشرت محلات الفيديو في مجتمعنا، علب الرذيلة ومحلات تصدير الفساد، والدعارة الموجودة بين أظهرنا ما أكثرها، ما أقبحها وما أشينها! ونقول فيها ما نقول، ولكن هذا المسجد كم فيه الآن من هذه الرءوس التي تسمع وتبصر؟ كم عدد الذين وقفوا بأنفسهم على محلات الفيديو وقدموا نصيحة من منطلق المسئولية الفردية كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71]؟ كما قلت: نحن نتقن أن نحمل الآخرين مسئوليات عديدة.
أما أن تقول للواحد: يا أخي الكريم! أين دورك تجاه هذه القضية؟ تجده إما أن يتذرع بأشغاله أو أعماله أو عجزه أو ضعفه، وسيأتي الكلام عن سبل وأنواع وحيل الإنسان على نفسه في تهربه من المسئولية.
إن من علم آية دعي إلى بلاغها وبيانها: (نضر الله امرءاً، سمع منا مقالة فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) وقبل أن نبلغ مسئولياتنا في التطبيق التي لو طبقنا في كل ما نسمع من خير وحق ثابت متفق فيه، لوجدنا أننا نظفر كما قال الله بفوائد جمة، يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66] لو أننا طبقنا وحولنا المحاضرات إلى برامج عملية، والخطب إلى مشاريع دعوية، والكلام إلى إنتاج تنفيذي عملي هل رأيتم مجلس إدارة شركة من الشركات، يجلس فيه رئيس مجلس الإدارة وجميع الأفراد ثم يجتمعون كل سبت أو إثنين ويخططون وينظمون، ثم يتفرقون ولا يطبقون شيئاً، أي: شركة من الشركات أو مؤسسة من المؤسسات يوم أن يجتمع رئيس مجلس الإدارة فيها مع أعضائه يحددون هدفاً ثم يختارون الأساليب، ثم يوزعون المسئوليات، ثم يكلفون الطاقات العاملة التي تطبق هذا كله، لكن الذي بُلي به جيلنا هذا اليوم الاجتماعات الدورية المتتالية في كثير من المحاضرات والندوات، ولكن لا يعقبها تطبيق ولا تنفيذ، والله جل وعلا يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [النساء:66] الخير جاء نكرة يعم أنواع الخير: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66].
فمن أسباب الثبات على الإسلام، أن نطبق ما علمناه {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68].
لو أننا فعلاً نعقب هذه الاجتماعات واللقاءات بمشاريع تنفيذية وعملية.
الآية الواحدة حينما تصوغها هدفاً ومشروعاً وبرنامجاً ثم تطبقها وتنفذها يكون في هذا خير عظيم، والأمة أيضاً تتحمل مسئولية -كما قلت- كل بحسب علمه.
إن الله جل وعلا قد حمل العلماء مسئولية البلاغ، وحمل الولاة والحكام مسئولية التنفيذ والقيام على شرع الله جل وعلا، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} [آل عمران:187] وإلا ما الفائدة من حمل الكتاب بدون تبيين؟! ما فائدة العلم بالحق بدون أن يبين للناس ويدعى إليه؟! إن الله ذم الذين حملوا العلم ولم يعملوا به، أو أنكروه وجانبوه فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].
لكن الله جل وعلا يبين أن الذين أوتوا الكتاب عليهم ميثاق البيان فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
من تحمل العلم ولم يقم بحقه؛ فعليه من الله إثم عظيم.
والعلم إن كان أقوالاً بلا عمل فليت صاحبه بالجهل منغمر
ويقول الآخر:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
فلم أجن حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما
أأشقى به جمعاً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل أولى وأحزما(220/8)